Translate

السبت، 28 مايو 2022

مجلد 11. و12.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

 

مجلد 11. تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 105 "
شنيعاً وهولاً عظيماً وحذف جواب ) لَوْ ( لدلالة الكلام عليه جائز فصيح ومنه ) وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الآية . وقول الشاعر : وجدّك لو شيء أتانا رسوله
سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
أي لو شيء أتانا رسوله سواك لدفعناه و ) نُرِى ( مضارع معناه الماضي أي : ولو رأيت فإذ باقية على كونها ظرفاً ماضياً معمولاً لترى وأبرز هذا في صورة المضي وإن كان لم يقع بعد إجراء للمحقق المنتظر مجرى الواقع الماضي ، والظاهر أن الرؤية هنا بصرية وجوزوا أن تكون من رؤية القلب والمعنى ولو صرفت فكرك الصحيح إلى تدبر حالهم لازددت يقيناً أنهم يكونون يوم القيامة على أسوإ حال ، فيجتمع للمخاطب في هذه الحالة الخبر الصدق الصريح والنظر الصحيح وهما مدركان من مدارك العلم اليقين والمخاطب ب ) يَرَى ( الرسول أو السامع ، ومعمول ) تَرَى ( محذوف تقديره ) وَلَوْ تَرَى ( حالهم ) إِذْ ( وقفوا . وقيل : ) تَرَى ( باقية على الاستقبال و ) إِذْ ( معناه إذا فهو ظرف مستقبل فتكون ) لَوْ ( هنا استعملت استعمال أن الشرطية ، وألجأ من ذهب إلى هذا أن هذا الأمر لم يقع بعد . وقرأ الجمهور وقفوا مبنياً للمفعول ومعناه عند الجمهور حبسوا على النار . وقال ابن السائب : معناه أجلسوا عليها و ) عَلَىَّ ( بمعنى في أو تكون على بابها ومعنى جلوسهم ، أن جهنم طبقات فإذا كانوا في طبقة كانت النار تحتهم في الطبقة الأخرى . وقال مقاتل : عرضوا عليها ومن عرض على شيء فقد وقف عليه . وقيل : عاينوها ومن عاين شيئاً وقف عليه . وقيل : عرفوا مقدار عذابها كقولهم : وقفت على ما عند فلان أي فهمته وتبينته واختاره الزجاج . وقيل : جعلوا وقفاً عليها كالوقوف المؤبدة على سبلها ذكره الماوردي . وقيل : وقفوا بقربها وفي الحديث : ( أن الناس يوقفون على متن جهنم ) . وقال الطبري : أدخلوها ووقف في هذه القراءة متعدية . وقرأ ابن السميقع وزيد بن علي ) وُقِفُواْ ( مبنياً للفاعل من وقف اللازمة ومصدر هذه الوقوف ومصدر تلك الوقف ، وقد سمع في المتعدية أوقف وهي لغة قليلة ولم يحفظها أبو عمرو بن العلاء قال : لم سمع في شيء من كلام العرب أوقفت فلاناً إلا أني لو لقيت رجلاً واقفاً فقلت له : ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسناً ؛ انتهى . وإنما ذهب أبو عمرو إلى حسن هذا لأنه مقيس في كل فعل لازم أن يعدى بالهمزة ، نحو ضحك زيد وأضحكته .
( فَقَالُواْ يالَيْتَنَا يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( قرأ ابن عامر وحمزة وحفص ) وَلاَ نُكَذّبَ ( ) وَنَكُونَ ( بالنصب فيهما وهذا النصب عند جمهور البصريين هو بإضمار أن بعد الواو فهو ينسبك من أن المضمرة ، والفعل بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم مقدر من الجملة السابقة والتقدير ) يا ليتنا ( يكون لنا رد وانتفاء تكذيب وكون ) رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أن هذه الواو المنصوب بعدها هو على جواب التمني كما قال الزمخشري ) وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ ( بالنصب بإضمار أن على جواب التمني ومعناه إن رددنا لم نكذب ونكن ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( انتهى ، وليس كما ذكر فإن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب ، لأن الواو لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها ولا مما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو الجمع يعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة وهي المعية ، ويميزها من الفاء ، تقدير شرط قبلها أو حال مكانها وشبهة من

" صفحة رقم 106 "
قال : إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب . وقال سيبويه : والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء والواو ومعناها ومعنى الفاء مختلفان ألا ترى . لا تنه عن خلق وتأتي مثله . لو أدخلت الفاء هنا لأفسدت المعنى ، وإنما أراد لا يجتمع النهي والإتيان وتقول : لا تأكل السمك وتشرب اللبن لو أدخلت الفاء فسد المعنى انتهى كلام سيبويه ملخصاً . وبلفظه ويوضح لك أنها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما فيه من معنى الشرط ، إلا إذا نصبت بعد النفي وسقطت الفاء فلا ينجزم وإذا تقرر هذا فالأفعال الثلاثة من حيث المعنى متمناة على سبيل الجمع بينها لا أن كل واحد متمني وحده إذ التقدير كما قلنا يا ليتنا يكون لنا رد مع انتفاء التكذيب وكون من المؤمنين . قال ابن عطية : وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر ) وَلاَ نُكَذّبَ ( بالرفع ) وَنَكُونَ ( بالنصب ويتوجه ذلك على ما تقدم ؛ انتهى . وكان قد قدم أن رفع ) وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ ( في قراءة باقي السبعة على وجهين أحدهما : العطف على ) نُرَدُّ ( فيكونان داخلين في التمني . والثاني الاستئناف والقطع ، فهذان الوجهان يسوغان في رفع ) وَلاَ نُكَذّبَ ( على هذه القراءة وفي مصحف عبد الله فلا نكذب بالفاء وفي قراءة أبي فلا ) نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا أَبَدًا وَنَكُونَ ). وحكى أبو عمرو أن في قراءة أبي ونحن ) نَّكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( وجوزوا في رفع ) وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ ( أن يكون في موضع نصب على الحال فتلخص في الرّفع ثلاثة أوجه .
أحدها : أن يكون معطوفاً على ) نُرَدُّ ( فيكون انتفاء التكذيب والكون من المؤمنين داخلينن في التمني أي وليتنا لا نكذب ، وليتنا نكون من المؤمنينن ، ويكون هذا الرفع مساوياً في هذا الوجه للنصب لأن في كليهما العطف وإن اختلفت جهتاه ، ففي النصب على مصدر من الرد متوهم وفي الرّفع على نفس الفعل . ( فإن قلت ) : التمني إنشاء والإنشاء لا يدخله الصدق والكذب فكيف جاء قوله ) وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( إخباراً من الله أن سجية هؤلاء

" صفحة رقم 107 "
الكفار هي الكذب ، فيكون ذلك حكاية وإخباراً عن حالهم في الدّنيا لا تعلق به بمتعلق التمني . والوجه الثاني : أن هذا التمني قد تضمن معنى الخبر والعدة فإذا كانت سجية الإنسان شيئاً ثم تمنى ما يخالف السجية وما هو بعيد أن يقع منها ، صح أن يكذب على تجوز نحو ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك وأكافئك على صنيعك ، فهذا متمن في معنى الواعد والمخبر فإذا رزقه الله مالاً ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب وكان تمنيه في حكم من قال : إن رزقني الله مالاً كافأتك على إحسانك ، ونحو قول رجل شرير بعيد من أفعال الطاعات : ليتني أحج وأجاهد وأقوم الليل ، فيجوز أن يقال لهذا على تجوز كذبت أي أنت لا تصلح لفعل الخير ولا يصلح لك ، والثاني من وجوه الرّفع أن يكون رفع ) وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ ( على الاستئناف فأخبروا عن أنفسهم بهذا فيكون مندرجاً تحت القول أي قالوا : يا ليتنا نرد وقالوا : نحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فأخبروا أنهم يصدر عنهم ذلك على كل حال . فيصح على هذا تكذيبهم في هذا الإخبار ورجح سيبويه هذا الوجه وشبهه بقوله : دعني ولا أعود ، بمعنى وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني . والثالث من وجوه الرّفع : أن يكون ) وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ ( في موضع نصب على الحال ، التقدير يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين ، فيكون داخلاً قيداً في الرد المتمني وصاحب الحال هو الضمير المستكن في نرد ويجاب عن قوله ) وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( بالوجهين اللذين ذكرا في إعراب ) وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ ( إذا كانا معطوفين على نرد . وحكي أن بعض القراء قرأ ) وَلاَ نُكَذّبَ ( بالنصب ) وَنَكُونَ ( بالرفع فالنصب عطف على مصدر متوهم والرفع في ) وَنَكُونَ ( عطف على ) نُرَدُّ ( أو على الاستئناف أي ونحن نكون وتضعف فيه الحال لأنه مضارع مثبت فلا يكون حالاً بالواو إلا على تأويل مبتدأ محذوف نحو نجوت ، وأرهنهم مالكاً وأنا أرهنهم مالكاً والظاهر أنهم تمنوا الرّد من الآخرة إلى الدنيا . وحكى الطبري تأويلاً في الرّد وهو أنهم تمنوا أن يردوا من عذاب النار إلى الوقوف على النار التي وقفوا عليها فالمعنى : يا ليتنا نوقف هذا الوقوف غير مكذبين بآيات ربنا كائنين من المؤمنين ، قال : ويضعف هذا التأويل من غير وجه يبطله ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولا يصح أيضاً التكذيب في هذا التمني لأنه تمني ما قد مضى ، وإنما يصح التكذيب الذي ذكرناه قبل هذا على تجوز في تمني المستقبلات ؛ انتهى . وأورد بعضهم هنا سؤالاً فقال : فإن قيل كيف يتمنون الرّد مع علمهم بتعذر حصوله ، وأجاب بقوله : قلنا لعلهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل ، والثاني : أن العلم بعدم الرد لا يمنع من الإرادة كقوله : ) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ ( وأن أفيضوا علينا من الماء ). انتهى . ولا يرد هذا السؤال لأن التمني يكون في الممكن والممتنع بخلاف الترجّي فإنه لا يكون إلا في الممكن ، فورد التمني هنا على الممتنع وهو أحد قسمي ما يكون التمني له في لسان العرب ، والأصح أن ) ). انتهى . ولا يرد هذا السؤال لأن التمني يكون في الممكن والممتنع بخلاف الترجّي فإنه لا يكون إلا في الممكن ، فورد التمني هنا على الممتنع وهو أحد قسمي ما يكون التمني له في لسان العرب ، والأصح أن ) يا ( في قوله ) يا ليت ( حرف تنبيه لا حرف نداء والمنادى محذوف لأنّ في هذا حذف جملة النداء وحذف متعلقة رأساً وذلك إجحاف كثير .
الأنعام : ( 28 ) بل بدا لهم . . . . .
( بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ( ) بَلِ ( هنا للإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال لما سبق ، وهكذا يجيء في كتاب الله تعالى إذا كان ما بعدها من إخبار الله تعالى لا على سبيل الحكاية عن قوم ، تكون ) بَلِ ( فيه للإضراب كقوله ) بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ( ومعنى ) بَدَأَ ( ظهر . وقال الزجاج : ) بَلِ ( هنا استدراك وإيجاب نفي كقولهم : ما قام زيد بل قام عمرو ؛ انتهى . ولا أدري ما النفي الذي سبق حتى توجبه ) بَلِ ). وقال غيره : ) بَلِ ( رد لما تمنوه أي ليس الأمر على ما قالوه ؛ لأنهم لم يقولوا ذلك رغبة في الإيمان بل قالوه إشفاقاً من العذاب وطمعاً في الرحمة ؛ انتهى . ولا أدري ما هذا الكلام ،

" صفحة رقم 108 "
والظاهر أن الضمير في ) لَهُمْ ( عائد على من عاد عليه في وقفوا . قال أبو روق : وهم جميع الكافرين يجمعهم الله ويقول ) أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ ( الآية فيقولون ) وَاللَّهِ رَبّنَا ( الآية ، فتنطق جوارحهم وتشهد بأنهم كانوا يشركون في الدنيا وبما كتموا ، فذلك قوله ) بَلْ بَدَا لَهُمْ ( فعلى هذا يكون من قبل راجعاً إلى الآخرة أي من قبل بدوه في الآخرة . وقال قتادة : يظهر ) مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ ( من شركهم . وقال ابن عباس : هم اليهود والنصارى ، وذلك أنهم لو سئلوا في الدّنيا هل تعاقبون على ما أنتم عليه ؟ قالوا : لا ثم ظهر لهم عقوبة شركهم في الآخرة فذلك قوله ) بَلْ بَدَا لَهُمْ ). وقيل : كفار مكة ظهر لهم ما أخفوه من أمر البعث بقولهم : ) مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ ( وقيل : المنافقون كانوا يخفون الكفر فظهر لهم وباله يوم القيامة . وقيل : الكفار الذين كانوا إذا وعظهم الرسول خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعربهم أتباعهم فيظهر ذلك لهم يوم القيامة . وقيل : اليهود والنصارى وسائر الكفار ويكون الذي يخفونه نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأحواله والمعنى بدا لهم صدقك في النبوّة وتحذيرك من عقاب الله ، وهذه الأقوال على أن الضمير في ) لَهُمْ ( و ) يَخَافُونَ ( عائد على جنس واحد . وقيل : الضمير مختلف أي بدا للاتباع ما كان الرؤساء يحفونه عنهم من الفساد ، وروي عن الحسن نحو هذا . وقيل : بدا لمشركي العرب ما كان أهل الكتاب يخفونه عنهم من البعث ، وأمر النار لأنه سبق ذكر أهل الكتاب في قوله ) الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ( يعرفونه . وقيل : ) بَلْ بَدَا لَهُمْ ( أي لبعضهم ما كان يخفيه عنه بعضهم ، فأطلق كلاًّ على بعض مجازاً . وقال الزهراوي : ويصح أن يكون مقصود الآية الإخبار عن هول يوم القيامة فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغيرها ، فكيف الظن على هذا بما كانوا يعلنون به من كفر ونحوه ، وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تعظيم شأن يوم القيامة ) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ). وقال الزمخشري : ) مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ ( من الناس من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وشهادة جوارحهم عليهم ، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجر إلا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا ؛ انتهى .
( وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( أي ) وَلَوْ رُدُّواْ ( إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار وتمنيهم الرد ، لعادوا لما نهوا عنه من الكفر . قال الزمخشري : والمعاصي ؛ انتهى . فأدرج الفساق الذين لم يتوبوا في الموقوفين على النار المتنين الردّ على مذهبه الاعتزالي وهذه الجملة إخبار عن أمر لا يكون كيف كان يؤخذ وهذا النوع مما استأثر الله بعلمه ، فإن أعلم بشيء منه علم وإلا لم يتكلم فيه . قال ابن القشيري : ) لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( من الشرك لعلم الله فيهم وأرادته أن لا يؤمنوا في الدنيا ، وقد عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند . وقال الواحدي : هذه الآية من الأدلة الظاهرة على المعتزلة على فساد قولهم ، وذلك أنه تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك ثم بين أنهم لو شاهدوا النار والعذاب ثم سألوا الرجعة وردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك وذلك للقضاء السابق فيهم ، وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد ؛ انتهى . وأورد هنا سؤال وأظنه للمعتزلة وهو كيف يمكن أن يقال ولو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر بالله وإلى معصيته وقد عرفوا الله بالضروة وشاهدوا أنواع العقاب ؟ وأجاب القاضي : بأن التقدير ولو ردّوا إلى حالة التكليف وإنما يحصل الردّ إلى هذه الحالة لو لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة ومشاهدة الأهوال وعذاب جهنم فهذا

" صفحة رقم 109 "
الشرط يكون مضمراً في الآية لا محالة ، وضعف جواب القاضي بأن المقصود من الآية غلوهم في الإصرار على الكفر وعدم الرغبة في الإيمان ، ولو قدرنا عدم معرفة الله في القيامة وعدم مشاهدة الأهوال يوم القيامة لم يكن في إصرار القوم على كفرهم مزيد تعجب ، لأن إصرارهم على الكفر يجري مجرى إصرار سائر الكفار على الكفر في الدنيا ، فعلمنا أن الشرط الذي ذكره القاضي لا يمكن اعتباره البتة ؛ انتهى . وإنما المعنى ) وَلَوْ رُدُّواْ ( وقد عرفوا الله بالضرورة وعاينوا العذاب وهم مستحضرون ، ذلك ذاكرون له لعادوا لما نهوا عنه من الكفر . وقرأ إبراهيم ويحيى بن وثاب والأعمش ) وَلَوْ رُدُّواْ ( بكسر الراء على نقل حركة الدال من ردد إلى الراء .
( وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( تقدم الكلام على هذه الجملة وهل التكذيب راجع إلى ما تضمنته جملة التمني من الوعد بالإيمان أو ذلك إخبار من الله تعالى عن عادتهم وديدنهم وما هم عليه من الكذب في مخاطبة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيكون ذلك منقطعاً عما قبله من الكلام .
الأنعام : ( 29 ) وقالوا إن هي . . . . .
( وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( قال الزمخشري : ) وَقَالُواْ ( ( عطف على ) ( عطف على ) لَعَادُواْ ( أي لو ردوا لكفروا ولقالوا ) إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة ، ويجوز أن يعطف على قوله ) وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( على معنى وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء ، وهم الذين ) قَالُواْ إِنَّ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( وكفى به دليلاً على كذبهم ؛ انتهى . والقول الأول الذي قدّمه من كونه داخلاً في جواب لو هو قول ابن زيد . وقال ابن عطية : وتوقيف الله لهم في الآية بعدها على البعث والإشارة إليه في قوله ) أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ ( رد على هذا التأويل ؛ انتهى . ولا يرده ما ذكره ابن عطية لاختلاف الموطنين لأن إقرارهم بحقية البعث هو في الآخرة ، وإنكارهم ذلك هو في الدنيا على تقدير عودهم وهو إنكار عناد فإقرارهم به في الآخرة لا ينافي إنكارهم له في الدنيا على تقدير العود ، ألا ترى إلى قوله ) وَجَحَدُواْ بِهَا عَلَى أَنفُسِهِمْ ( وقول أبي جهل . وقد علم أن ما جاء به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حق ما معناه أنه لا يؤمن به أبداً هذا وذلك في موطن واحد وهي الدنيا ، والقول الثاني الذي ذكره الزمخشري هو قول الجمهور وهو أن يكون قوله ) وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( كلاماً منقطعاً عما قبله ، وقالوا : إخبار عن ما صدر منهم في حالة الدنيا . قال مقاتل : لما أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) كفار مكة بالبعث قالوا : هذا ومعنى الآية إنكار الحشر والمعاد وبين في هذه الآية أن الذي كانوا يخفونه هو الحشر ، والمعاد على بعض أقوال المفسرين المتقدمة وإن هنا نافية ولم يكتفوا بالإخبار عن المحصور فيقولوا هي حياتنا الدنيا حتى أتوا بالنفي والحصر ، أي لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا فقط وهي ضمير الحياة وفسره الخبر بعده والتقدير وما الحياة إلا حياتنا الدنيا ، هكذا قال بعض أصحابنا إنه يتقدم الضمير ولا ينوي به التأخير إذا جعل الظاهر خبراً للمبتدأ المضمر وعده مع الضمير المجرور برب نحو ربه رجلاً أكرمت والمرفوع بنعم على مذهب البصريين نحو نعم رجلاً زيد أو بأول المتنازعين على مذهب سيبويه نحو ضرباني وضربت الزيدين ، أو أبدل منه المفسر على مذهب الأخفش نحو مررت به زيد قال : أو جعل خبره ومثله بقوله : ) إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( التقديران الحياة إلا حياتنا الدنيا ، فإظهار الخبر يدل عليها ويبينها ولم يذكر غيره من أصحابنا هذا القسم أو كان ضمير الشأن عند البصريين وضمير المجهول عند الكوفيين نحو هذا زيد قائم خلافا لابن الطراوة في إنكار هذا القسم وتوضيح هذه المضمرات مذكور في كتب النحو والدنيا صفة لقوله : ) حَيَاتُنَا ( ولم يؤت بها على أنها صفة تزيل اشتراكاً عارضاً في معرفة لأنهم لا يقرون بأن ثم حياة غير دنيا ، بل ذلك وصف على سبيل التوكيد إذ لا حياة عندهم إلا هذه الحياة .
( وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( لما دل الكلام على نفي البعث بما تضمنه من الحصر صرحوا بالنفي المحض الدال على عدم البعث بالمنطوق ، وأكدوا ذلك بالباء الداخلة في الخبر على سبيل المبالغة في الإنكار وهذا يدل على أن هذه الآية في مشركي العرب ومن وافقهم في إنكار البعث .
الأنعام : ( 30 ) ولو ترى إذ . . . . .
( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ قَالُواْ بَلَى وَرَبّنَا ( جواب ) لَوْ ( محذوف كما حذف في قوله ) وَلَو

" صفحة رقم 110 "
تَرَى ( أولاً وذلك مجاز عن الحبس والتوبيخ والسؤال كما توقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه وقد تعلق بعض المشبهة بهذه الآية ، وقال : ظاهرها يدل على أن الله في حيز ومكان لأن أهل القيامة يقفون عنده وبالقرب منه ، وذلك يدل على كونه بحيث يحضر في مكان تارة ويغيب عنه أخرى . قال أبو عبد الله الرازي : وهذا خطأ لأن ظاهر الآية يدل على كونهم واقفين على الله كما يقف أحدنا على الأرض ، وذلك يدل على كونه مستعلياً على ذات الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً وأنه باطل بالاتفاق فوجب المصير إلى التأويل ، فيكون المراد إذا وقفوا على ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرين وثواب المؤمنين وعلى ما أخبر به من أمر الآخرة ، أو يكون المراد وقوف المعرفة ؛ انتهى . وهذان التأويلان ذكرهما الزمخشري . وقال ابن عطية : على حكمه وأمره ؛ انتهى . وقيل : على مسألة ربهم إياهم عن أعمالهم . وقيل : المسألة ملائكة ربهم . وقيل : على حساب ربهم قال : ) أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ ( الظاهر أن الفاعل بقال هو الله فيكون السؤال منه تعالى لهم . وقيل : السؤال من الملائكة ، فكأنه عائد على من وقفهم على الله من الملائكة أي قال : من وقفهم من الملائكة . وقال الزمخشري قال : مردود على من قال قائل قال ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه ؟ فقيل : ) أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ ( وهذا تغيير من الله لهم على التكذيب وقولهم لما كانوا يسمعون من حديث البعث والجزاء ما هو بحق وما هو إلا باطل ؛ انتهى . ويحتمل عندي أن تكون الجملة حالية التقدير ) إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبّهِمْ ( قائلاً لهم ) أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ ( والإشارة بهذا إلى البعث ومتعلقاته . وقال أبو الفرج بن الجوزي : أليس هذا العذاب بالحق وكأنه لاحظ قوله قال : ) فَذُوقُواْ الْعَذَابَ ( قالوا : ) بَلَى وَرَبّنَا ( تقدم الكلام على ) يلي ( وأكدوا جوابهم باليمين في قولهم ) بِالْحَقّ وَرَبُّنَا ( وهو إقرار بالإيمان حيث لا ينفع وناسب التوكيد بقولهم ) وَرَبُّنَا ( صدر الآية في ) وُقِفُواْ عَلَى رَبّهِمْ ( وفي ذكر الرب تذكار لهم في أنه كان يربيهم ويصلح حالهم ، إذا كان سيدهم وهم عبيده ، لكنهم عصوه وخالفوا أمره .
( قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ( أي بكفركم بالعذاب والباء سببية فقيل متعلق الكفر البعث أي بكفركم بالبعث . وقيل : متعلقه العذاب أي بكفركم بالعذاب والذوق في العذاب استعارة بليغة والمعنى باشروه مباشرة الذاق إذ هي أشد المباشرات .
الأنعام : ( 31 ) قد خسر الذين . . . . .
( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ( هذا استئناف إخبار من الله تعالى عن أحوال منكري لبعث وخسرانهم أنهم استعاضوا الكفر عن الإيمان فصار ذلك شبيهاً بحالة البائع الذي أخذ وأعطى وكان ما أخذ من الكفر سبباً لهلاكه وما أعطاه من الإيمان سبباً لنجاته ، فأشبه الخاسر في صفقته العادم الربح ورأس ماله ، ومعنى ) بِلِقَاء اللَّهِ ( بلوغ الآخرة وما يكون فيها من الجزاء ورجوعهم إلى أحكام الله فيها وحتى غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم ، لأن الخسران لا غاية له والتكذيب مغياباً لحسرة لأنه لا يزال بهم التكذيب إلى قولهم ) يا حسرتنا ( وقت مجيء الساعة ، وتقدم الكلام على ) فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا ( في قوله : ) حَتَّى إِذَا جَاءوكَ يُجَادِلُونَكَ ( ومعنى ) بِلِقَاء اللَّهِ ( بلقاء جزائه والإضافة تفخيم وتعظيم لشأن الجزاء وهو نظير ) رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ ( ، أي لقي جزاءه ومن أثبت أن الله تعالى في جهة استدل بهذا ، وقال : اللقاء حقيقة و ) السَّاعَةَ ( يوم القيامة سمّى ساعة لسرعة انقضاء الحساب فيها للجزاء لقوله : ) أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ). قال ابن عطية : وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرك لشهرتها واستقرارها في النفوس وذياع ذكرها ، وأيضاً فقد تضمنها قوله ) بِلِقَاء اللَّهِ ( انتهى . ثم غلب استعمال ) السَّاعَةَ ( على يوم القيامة فصارت الألف واللام فيها

" صفحة رقم 111 "
للغلبة كهي في البيت للكعبة والنجم للثريا .
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : إنما يتحسرون عند موتهم ( قلت ) : لما كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدماتها ، جعل من جنس الساعة وسمّي باسمها ولذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من مات فقد قامت قيامته ) . وجعل في مجيء الساعة بعد الموت لسرعته فالواقع بغير فتره ؛ انتهى . وإطلاق ) السَّاعَةَ ( على وقت الموت مجاز ، ويمكن حمل الساعة على الحقيقة وهو يوم القيامة ولا يلزم من تحسرهم وقت الموت أنهم لا يتحسرون يوم القيامة ، بل الظاهر ذلك لقوله : ) وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ( إذ هذا حال من قولهم : ) قَالُواْ يأَبَانَا ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ( وهي حال مقارنة ، وإذا حملنا الساعة على وقت الموت كانت حالاً مقدرة ومجيء القدرة بالنسبة إلى المقارنة قليل ، فيكون التكذيب متصلاً بهم مغياً بالحسرة إلى يوم القيامة إذ مكثهم في البرزخ على اعتقاد أمثلهم طريقة يوم واحد ، كما قال تعالى : ) إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ( فلما جاءتهم الساعة زال التكذيب وشاهدوا ما أخبرتهم به الرسل عياناً فقالوا ) يا حسرتنا ( وجوزوا في انتصاب ) عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً ( أن يكون مصدراً في موضع الحال من ) السَّاعَةَ ( أي باغتة أو من مفعول جاءتهم أي مبغوتين أو مصدراً لجاء من غير لفظه كأنه قيل حتى إذا بغتتهم الساعة بغتة ، أو مصدر الفعل محذوف أي تبغتهم بغتة ونادوا الحسرة وإن كانت لا تجيب على طريق التعظيم . قال سيبويه : وكان الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول : اقربي أو احضري فهذا أوانك وزمنك وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه كان ، ثم سامع وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضاً في نداء الجمادات كقولك يا دار يا ربع وفي نداء ما لا يعقل كقولهم : يا جمل ، و ) فَرَّطْنَا ( فصرنا والتفريط التقصير مع القدرة على تركه ، والضمير في ) فِيهَا ( عائد على ) السَّاعَةَ ( أي في التقدمة لها قاله الحسن ، أو الصفقة التي تضمنها ذكر الخسارة قاله الطبري . وقال الزمخشري : الضمير للحياة الدنيا جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة ، أو الساعة على معنى قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها كما تقول : فرطت في فلان ومنه فرطت في جنب الله ؛ انتهى . وكونه عائداً على الدنيا وهو قول ابن عباس ، ودل العقل على أن موضع التقصير ليس إلا الدنيا فحسن عوده عليها لهذا المعنى وأورد ابن عطية هذا القول احتمالاً فقال : يحتمل أن يعود الضمير على الدنيا ، إذ المعنى يقتضيها وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار ؛ انتهى ، وعوده على ) السَّاعَةَ ( قول الحسن والمعنى في إعداد الزاد والأهبة لها . وقيل : يعود الضمير على ) مَا ( وهي موصول وعاد على لمعنى أي ) يا حسرتنا ( على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها ، وما في الأوجه التي سبقت مصدرية التقدير على تفريطنا في الدنيا أو في الساعة أو في الصفقة على التقدير الذي تقدم ، والظاهر وعوده على الساعة وأبعد من ذهب إلى أنه عائد إلى منازلهم في الجنة إذا رأوا منازلهم فيها لو كانوا آمنوا .
( فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ( الأوزار الخطايا والآثام قاله ابن عباس ، والظاهر أن هذا الحمل حقيقة وهو قول عمير بن هانىء وعمرو بن قيس الملاتي والسدي واختاره الطبري ، وما ذكره محصوله أن عمله يمثل في صورة رجل قبيح الوجه والصورة خبيث الريح فيسأله فيقول : أنا عملك طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك فيركبه ويتخطى به رقاب الناس ويسوقه حتى يدخله النار ، ورواه أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بهذا المعنى واللفظ

" صفحة رقم 112 "
مختلف . وقيل : هو مجاز عبر بحل الوزر عن ما يجده من المشقة والآلام بسبب ذنوبه ، والمعنى أنهم يقاسون عقاب ذنوبهم مقاساة تثقيل عليهم وهذا القول بدأ به ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره قال كقوله : ) فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ( لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور كما ألف الكسب بالأيدي والواو في ) وَهُمْ ( واو الحال وأتت الجملة مصدرة بالضمير لأنه أبلغ في النسبة إذ صار ذو الحال مذكوراً مرتين من حيث المعنى وخص الظهر لأنه غالباً موضع اعتياد الحمل ولأنه يشعر بالمبالغة في ثقل المحمول إذ يطيق من الحمل الثقيل ما لا تطيقه الرأس ولا الكاهل ، كما قال ) فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ( لأن اللمس أغلب ما يكون باليد ولأنها أقوى في الإدراك .
( أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ( ) سَاء ( هنا تحتمل وجوهاً ثلاثة . أحدها : أن تكون المتعدية المتصرفة ووزنها فعل بفتح العين والمعنى ألا ساءهم ما يزرون ، وتحتمل ) مَا ( على هذا الوجه أن تكون موصولة بمعنى الذي ، فتكون فاعلة ويحتمل أن تكون ) مَا ( مصدرية فينسبك منها ما بعدها مصدر هو الفاعل أي ألا ساءهم وزرهم . والوجه الثاني : أنها حوّلت إلى فعل بضم العين وأشربت معنى التعجب والمعنى ألا ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم على الاحتمالين في ما . والثالث : أنها أيضاً حوّلت إلى فعل بضم العين ، وأريد بها المبالغة في الذمّ فتكون مساوية لبئس في المعنى والأحكام ، ويكون إطلاق الذي سبق في ) مَا ( في قوله : ) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ( جارياً فيها هنا ، والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الذي قبله لا يشترط فيه ما يشترط في فاعل بئس من الأحكام ولا هو جملة منعقدة من مبتدإ وخبر ، إنما هو منعقد من فعل وفاعل والفرق بين هذين الوجهين والأوّل أن في الأول الفعل متعد وفي هذين قاصر ، وإن الكلام فيه خبر وهو في هذين إنشاء وجعل الزمخشري من باب بئس فقط فقال : ساء ما يزرون بئس شيئاً يزرون وزرهم كقوله : ) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ ( ، وذكر ابن عطية هذا الوجه احتمالاً أخيراً وبدأ بأن ) سَاء ( متعدية و ) مَا ( فاعل كما تقول ساء في هذا الأمر وإن الكلام خبر مجرد . قال كقول الشاعر : رضيت خطة خسف غير طائلة
فساء هذا رضا يا قيس عيلانا
ولا يتعين ما قال في البيت من أن الكلام فيه خبر مجرد ؛ بل يحتمل قوله : فساء هذا رضا الأوجه الثلاثة وافتتحت هذه الجملة ب ) إِلا ( تنبيهاً وإشارة لسوء مرتكبهم فألا تدل على الإشارة بما يأتي بعدها كقوله : ألا فليبلغ الشاهد الغائب ) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ ( ألا لا يجهلن أحد علينا .
الأنعام : ( 32 ) وما الحياة الدنيا . . . . .
( وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاْخِرَةُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( لما ذكر قولهم وقالوا : ) إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( ذكر مصيرها وإن منتهى أمرها أنها فانية منقضية عن قريب ، فصارت شبيهة باللهو واللعب إذ هما لا يدومان ولا طائل لهما كما أنها لا طائل لها ، فاللهو واللعب اشتغال بما لا غنى به ولا منفعة كذلك هي الدنيا بخلاف الاشتغال بأعمال الآخرة فإنها التي تعقب المنافع والخيرات . وقال الحسن : في الكلام حذف التقدير وما أهل الحياة إلا أهل لعب ولهو . وقيل : التقدير وما أعمال الحياة . وقال ابن عباس : هذه حياة الكافر لأنه يزجيها في غرور وباطل ، وأما حياة المؤمن فتطوى على أعمال صالحة فلا تكون لعباً ولهواً وفي

" صفحة رقم 113 "
الحديث : ( ما أنا من الدد ولا الدد مني ) ، والدد اللعب واللعب واللهو قيل : هما بمعنى واحد وكرر تأكيداً لذم الدنيا . وقال الرماني : اللعب عمل يشغل عما ينتفع به إلى ما لا ينتفع به ، واللهو صرف النفس عن الجدّ إلى الهزل يقال : لهيت عنه أي صرفت نفسي عنه ورد عليه المهدوي ، فقال هذا : فيه ضعف وبعد لأن الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم : لهيان ولام الأول واو ؛ انتهى . وهذا التضعيف ليس بشيء لأن فعل من ذوات الواو تنقلب فيه الواو ياء كما تقول : شقي فلان وهو من الشقوة فكذلك لهي ، أصله لهو من ذوات الواو فانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها فقالوا : لهي كما قالوا : خلى بعيني وهو من الحلو وأما استدلاله بقولهم في التثنية لهيان ففاسد لأن التثنية هي كالفعل تنقلب فيه الواو ياء لأن مبناها على المفرد وهي تنقلب في المفرد في قولهم : له اسم فاعل من لهي كما قالوا : شج وهو من الشجو ، وقالوا في تثنيته : شجيان بالياء وقد تقدم ذكر شيء من هذا في المفردات . وقرأ ابن عامر وحده ولدار الآخرة على الإضافة ، وقالوا : هو كقولهم : مسجد الجامع فقيل هو من إضافة الموصوف إلى صفته . وقال الفراء : هي إضافة الشيء إلى نفسه كقولك : بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين ، وإنما يجوز عند اختلاف اللفظين ؛ انتهى . وقيل : من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أي ولدار الحياة الآخرة ، ويدل عليه وما الحياة الدنيا وهذا قول البصريين ، وحسن ذلك أن هذه الصفة قد استعملت استعمال الأسماء فوليت العوامل كقوله ) وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَالاْولَى ( وقوله ) وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى ). وقرأ باقي السبعة ) وَلَلدَّارُ الاْخِرَةُ ( بتعريف الدار بأل ورفع ) الاْخِرَةَ ( نعتاً لها و ) خَيْرٌ ( هنا أفعل التفضيل وحسن حذف المفضل عليه لوقوعه خبراً والتقدير من الحياة الدنيا ، وقيل : ) خَيْرٌ ( هنا ليست للتفضيل وإنما هي كقوله : ) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( إذ لا اشتراك بين المؤمن والكافر في أصل الخير ، فيزيد المؤمن عليه بل هذا مختص بالمؤمن . والدار الآخرة قال ابن عباس : هي الجنة . وقيل ذلك مجاز عبر به عن الإقامة في النعيم كما قال الشاعر : لله أيام نجد والنعيم بها
قد كان داراً لنا أكرم به دارا
ومعنى ) الَّذِينَ يَتَّقُونَ ( يتقون الشرك لأن المؤمن الفاسق ولو قدرنا دخوله النار فإنه بعد يدخل الجنة فتصير الدار الآخرة خيراً له من دار الدنيا ، وذكر عن ابن عباس خير لمن اتقى الكفر والمعاصي وقال في المنتخب نحوه قال : بين الله تعالى أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان من المتقين المعاصي والكبائر ، فأما الكافرون والفاسقون فلا لأن الدنيا بالنسبة إليهم خير من الآخرة ؛ انتهى ، وهو أشبه بكلام المعتزلة . وقال الزمخشري : وقوله : ) لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ( دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لهو ولعب ، انتهى . وقد أبدى الفخر الرازي الخيرية هنا فقال : خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة ، وبيانه أن خيرات لدنيا ليست إلا قضاء الشهوتين وهو في نهاية الخساسة ، بدليل مشاركة الحيوانات الخسيسة في ذلك وزيادة بعضها على الإنسان في ذلك كالجمل في كثرة الأكل والديك في كثرة الوقاع والذئب في القوة على الفساد ، والتمزيق والعقرب في قوّة الإيلام وبدليل أن الإكثار من ذلك لا يوجب شرفاً بل المكثر من ذلك ممقوت مستقذر مستحقر يوصف بأنه بهيمة ، وبدليل عدم الافتخار بهذه الأحوال بل العقلاء يخفونها ويختفون عند فعالها ويكنون عنها ولا يصرّحون بها إلا عند الشتم بها ، وبأن حقيقة اللذات دفع الالآم وبسرعة انقضائها فثبت بهذه

" صفحة رقم 114 "
الوجوه خساسة هذه اللذات ، وأما السعادات الروحانية فسعادات عالية شريفة باقية مقدسة وذلك أن جميع الخلق إذا تخيلوا في إنسان كثرة العلم وشدّة الانقباض عن اللذات الجسمانية ، فإنهم بالطبع يعظمونه ويخذمونه ويعدّون أنفسهم عبيداً له وأشقياء بالنسبة إليه ، ولو فرضنا تشارك خيرات الدنيا وخيرات الآخرة في التفضيل لكانت خبرات الآخرة أفضل ، لأنن الوصول إليها معلوم قطعاً وخيرات الدنيا ليست معلومة بل ولا مظنونة ، فكم من سلطان قاهر بكرة يوم أمسى تحت التراب آخره ؛ وكم مصبح أميراً عظيماً أمسى أسيراً حقيراً ؟ ولو فرضنا أنه وجد بعد سرور يوم يوماً آخر ، فإنه لا يدري هل ينتفع في ذلك اليوم بما جمع من الأموال والطيبات واللذات ؟ بخلاف موجب السعادات الأخروية فإنه يقطع أنه ينتفع بها في الآخرة وهب أنه انتفع بها ، فليس ذلك الانتفاع خالياً من شوائب المكروهات والمحزنات وهب أنه انتفع في الغد فإنها تنقضي ويحزم عند انقضائها ، كما قال الشاعر : أشدّ الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
فثبت بما ذكر أن خيرات الدنيا موصوفة بهذه العيوب ، وخيرات الآخرة مبرأة عنها فوجب القطع بأن الآخرة أفضل وأكمل وأبقى انتهى ما لخص من كلامه مع اختلاف بعض ألفاظ وهي شبيهة بكلام أهل الفلسفة ، لأن السعادات الأخروية عندهم هي روحانية فقط واعتقاد المسلمين أنها لذات جسمانية وروحانية ، وأيضاً ففي كلامه انتقاد من حيث إن بعض الأوصاف التي حقرها هو جعلها الله في بعض من اصطفاه من خلقه فلا تكون تلك الصفة إلا شريفة لا كما قاله هو من أنها صفة خسيسة . وقرأ نافع وابن عامر وحفص ) أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( بالتاء خطاب مواجهة لمن كان بحضرة الرسول من منكري البعث . وقرأ الباقون بالياء عوداً على ما قبل لأنها أسماء غائبة والمعنى أفلا تعقلون أن الآخرة خير من الدنيا . وقيل : أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدّنيا .
2 (
الأنعام : ( 33 ) قد نعلم إنه . . . . .
( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِأايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الاٌّ رْضِ أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِأايَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( ) ) 2
) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِئَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ( وقال النقاش : نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف فإنه كان يكذب في العلانية ويصدق في السرّ ويقول : نخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس ، وقال غيره : روي أن الأخنس بن شريف قال لأبي جهل . يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرنا فقال له : والله أن محمداً لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت . قد حرف توقع إذا دخلت على مستقبل الزمان كان التوقع من المتكلم كقولك : قد ينزل المطر في شهر كذا وإذا كان ماضياً أو فعل حال بمعنى

" صفحة رقم 115 "
المضي فالتوقع كان عند السامع ، وأما المتكلم فهو موجب ما أخبر به وعبر هنا بالمضارع إذ المراد الاتصاف بالعلم واستمراره ولم يلحظ فيه الزمان ؛ كقولهم : هو يعطي ويمنع . وقال الزمخشري والتبريزي : قد نعلم بمعنى ربما الذي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله : ولكنه قد يهلك المال نائله ؛ انتهى . وما ذكره من أن قد تأتي للتكثير في الفعل والزيادة قول غير مشهور للنحاة وإن كان قد قال بعضهم مستدلاً بقول الشاعر : قد أترك القرن مصفرًّا أنامله
كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفرصاد
وبقوله : أخي ثقةٍ لا يتلف الخمر ماله
ولكنه قد يهلك المال نائله
والذي نقوله : إن التكثير لم يفهم من ) قَدْ ( وإنما يفهم من سياق الكلام لأنه لا يحصل الفخر والمدح بقتل قرن واحد ولا بالكرم مرّة واحدة ، وإنما يحصلان بكثرة وقوع ذلك وعلى تقدير أن قد تكون للتكثير في الفعل وزيادته لا يتصور ذلك ، في قوله : ) قَدْ نَعْلَمُ ( لأن علمه تعالى لا يمكن فيه الزيادة والتكثير ، وقوله : بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته ، والمشهور أن ربّ للتقليل لا للتكثير وما الداخلة عليها هي مهيئة لأن يليها الفعل وما المهيئة لا تزيل الكلمة عن مدلولها ، ألا ترى أنها في كأنما يقوم زيد ولعلما يخرج بكر لم تزل كأنّ عن التشبيه ولا لعل عن الترجّي . قال بعض أصحابنا : فذكر بما في التقليل والصرف إلى معنى المضيّ يعني إذا دخلت على المضارع قال : هذا ظاهر قول سيبويه ، فإن خلت من معنى التقليل خلت غالباً من الصرف إلى معنى المضيّ وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو قوله ) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ( وقوله ) لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ( وقول الشاعر : وقد تدرك الإنسان رحمة ربِّه
ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
وقد تخلو من التقليل وهي صارفة لمعنى المضي نحو قوله : ) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ( انتهى . وقال مكي : ) قَدْ ( هنا وشبهه تأتي لتأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه ونعلم بمعنى علمنا . وقال ابن أبي الفضل في ري الظمآن : كلمة ) قَدْ ( تأتي للتوقع وتأتي للتقريب من الحال وتأتي للتقليل ؛ انتهى ، نحو قولهم : إن الكذوب قد يصدق وإن الجبان قد يشجع والضمير في ) أَنَّهُ ( ضمير الشأن ، والجملة بعده مفسرة له في موضع خبران ولا يقع هنا اسم الفاعل على تقدير رفعه ما بعده على الفاعلية موقع المضارع لما يلزم من وقوع خبر ضمير الشأن مفرداً وذلك لا

" صفحة رقم 116 "
يجوز عند البصريين ، وتقدم الكلام على قراءة من قرأ يحزنك رباعياً وثلاثياً في آخر سورة آل عمران وتوجيه ذلك فاغني عن إعادته هنا والذي يقولون معناه مما ينافي ما أنت عليه . قال الحسن : كانوا يقولون إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون . وقيل : كانوا يصرحون بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه . وقيل : كانوا ينسبونه إلى الكذب والافتعال . وقيل : كان بعض كفار قريش يقول له : رئي من الجن يخبره بما يخبر به . وقرأ علي ونافع والكسائي بتخفيف ) يُكَذّبُونَكَ ). وقرأ باقي السبعة وابن عباس بالتشديد . فقيل : هما بمعنى واحد نحو كثر وأكثر . وقيل : بينهما فرق حكى الكسائي أن العرب تقول : كذبت الرجل إذ نسبت إليه الكذب وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه وتقول العرب أيضاً : أكذبت الرجل إذا وجدته كذاباً كما تقول : أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً فعلى القول بالفرق يكون معنى التخفيف لا يجدونك كاذباً أو لا ينسبون الكذب إليك ، وعلى معنى التشديد يكون إما خبراً محضاً عن عدم تكذيبهم إياه ويكون من نسبة ذلك إلى كلهم على سبيل المجاز والمراد به بعضهم لأنه معلوم قطعاً أن بعضهم كان يكذبه ، ويكذب ما جاء به وإما أن يكون نفي التكذيب لانتفاء ما يترتب عليه من المضار فكأنه قيل ) لاَ يُكَذّبُونَكَ ( تكذيباً يضرك لأنك لست بكاذب فتكذيبهم كلا تكذيب . وقال في المنتخب : لا يراد بقوله : ) لاَ يُكَذّبُونَكَ ( خصوصية تكذيبه هو ، بل المعنى أنهم ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقاً فالمعنى ) لاَ يُكَذّبُونَكَ ( على التعيين بل يكذبون جميع الأننبياء والرسل . وقال قتادة والسدي : ) لاَ يُكَذّبُونَكَ ( بحجة وإنما هو تكذيب عناد وبهت . وقال ناجية بن كعب : لا يقولون إنك كاذب لعلمهم بصدقك ولكن يكذبون ما جئت به . وقال ابن السائب ومقاتل : ) لاَ يُكَذّبُونَكَ ( في السر ، ولكن يكذبونك في العلانية عداوة . وقال : لا يقدرون على أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم كذبت ذكره الزجاج ورجح قراءة على بالتخفيف بعضهم ، ولا ترجيح بين المتواترين . قال الزمخشري : والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله تعالى لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته فانته عن حزنك لنفسك وإنهم كذبوك وأنت صادق ، وليشغلك عن ذلك ما هو أهم وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه ونحوه قول السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني وفي هذه الطريقة قوله تعالى : ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( وعن ابن عباس كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون ، فكان أبو جهل يقول : ما نكذبك وإنك عندنا لمصدق وإنما نكذب ما جئتنا به ؛ انتهى . وفي الكلام حذف تقديره : فلا تحزن فإنهم لا يكذبونك ، وأقيم الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على أنّ علة الجحود هي الظلم وهي مجاوزة الحدّ في الاعتداء ، أي ولكنهم بآيات الله يجحدون .
وآياته قال السدّي : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن السائب : محمد والقرآن . وقال مقاتل : القرآن . وقال ابن عطية : آيات الله علاماته وشواهد نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) والجحود إنكار الشيء بعد معرفته وهو ضد الإقرار ، فإن كانت نزلت في الكافرين مطلقاً فيكون في الجحود تجوز إذ كلهم ليس كفره بعد معرفة ولكنهم لما أنكروا نبوّته وراموا تكذيبه بالدعوى الباطلة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهو الجحد تغليظاً عليهم وتقبيحاً لفعلهم ، إذ معجزاته وآياته نيرة يلزم كل مفطور أن يقربها ويعلمها وإن كانت نزلت في المعاندين ترتب الجحود حقيقة وكفر العناد يدل عليه ظواهر القرآن وهو واقع أيضاً كقصة أبي جهل مع الأخنس بن شريق وقصة أمية بن

" صفحة رقم 117 "
أبي الصلت ، وقوله : ما كنت لأومن بنبي لم يكن من ثقيف ، ومنع بعض المتكلمين جواز كفر العناد ، لأن المعرفة تقتضي الإيمان والجحد يقتضي الكفر ، فامتنع اجتماعهما ، وتأولوا ظواهر القرآن فقالوا : في قوله : ) وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ( أنها في أحكام التوراة التي بدلوها كآية الرجم ونحوها . قال ابن عطية : وكفر العناد من العارف بالله وبالنبوة بعيد ؛ انتهى . والتأويلات في نفي التكذيب إنما هو عن اعتقاداتهم إما بالنسبة إلى أقوالهم فأقوالهم مكذبة إما له وإما لما جاء به .
الأنعام : ( 34 ) ولقد كذبت رسل . . . . .
( وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ( قال الضحاك وابن جريج : عزى الله تعالى نبيه بهذه الآية فعلى قولهما يكون هو ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد كذب وهو مناف لقوله : فإنهم لا يكذبونك وزوال المنافاة بما تقدم من التأويلات كقول الزمخشري وغيره أن قوله : ) لاَ يُكَذّبُونَكَ ( ليس هو من نفي تكذيبه حقيقة . قال : وإنما هو من باب قولك لغلامك : ما أهانوك ولكن أهانوني وجاء قوله : ولقد كذبت رسل من قبلك تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولما سلاه تعالى بأنهم بتكذيبك إنما كذبوا الله تعالى سلاه ثانياً بأن عادة أتباع الرسل قبلك تكذيب رسلهم ، وأن الرسل صبروا فتأسَّ بهم في الصبر ، وما في قوله : ) مَا كُذّبُواْ ( مصدرية أي فصبروا على تكذيبهم والمعنى فتأسّ بهم في الصبر على التكذيب والأذى حتى يأتيك النصر والظفر كما أتاهم . قال ابن عباس : ) فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذّبُواْ ( رجاء ثوابي وأوذوا حتى نشروا بالمناشير وحرقوا بالنار ، حتى أتاهم نصرنا بتعذيب من يكذبهم ؛ انتهى . ويحتمل ) وَأُوذُواْ ( أن يكون معطوفاً على قوله : ) كَذَّبَتْ ( ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله ) فَصَبَرُواْ ( ويبعد أن يكون معطوفاً على ) كَذَّبُواْ ( ويكون التقدير فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم ، وروي عن ابن عامر أنه قرأوا أذوا بعير واو بعد الهمزة جعله ثلاثياً لا رباعياً من أذيت فلاناً لا من آذيت ، وفي قوله : ) نَصْرُنَا ( التفات إذ قبله بآيات الله وبلاغة هذا الالتفات أنه أضاف النصر إلى الضمير المشعر بالعظمة المتنزل فيه الواحد منزلة الجمع والنصر مصدر أضيف إلى الفاعل والمفعول محذوف أي نصرنا إياهم على مكذبيهم ومؤذيهم ، والظاهر أن الغاية هنا الصبر والإيذاء لظاهر عطف ) وَأُوذُواْ ( على ) فَصَبَرُواْ ( وإن كان معطوفاً على ) كَذَّبُواْ ( فتكون الغاية للصبر أو معطوفاً على ) كَذَّبَتْ ( فغاية له وللتكذيب أو للإيذاء فقط .
( وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ( قال ابن عباس : أي لمواعيد الله ولم يذكر الزمخشري غيره قال : لمواعيده من قوله ) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ). وقال الزجاج لما أخبر به وما أمر به والإخبار والأوامر من كلمات الله ، واقتصر ابن عطية على بعض ما قال الزجاج فقال : ولا راد لأوماره . وقيل : المعنى لحكوماته وأقضيته ، كقوله ) وَلَاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( أي وجب ما قضاه عليهم . وقيل : المعنى لا يقدر أحد على تبديل كلمات الله وإن زخرف واجتهد ، لأنه تعالى صانه برصين اللفظ وقويم المعنى أن يخلط بكلام أهل الزيغ . وقيل : اللفظ خبر والمعنى على النهي أي لا يبدل أحد كلمات الله ، فهو كقوله ) لاَ رَيْبَ فِيهِ ( أي لا يرتابون فيه على أحد الأقوال .
( وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ( ( هذا فيه تأكيد تثبيت لما تقدم الإخبار به من تكذيب أتباع الرسل للرّسل وإيذائهم وصبرهم إلى أن جاء النصر لهم

" صفحة رقم 118 "
عليهم والفاعل بجا . قال الفارسي : هو من نبأ ومن زائدة أي ولقد جاءك نبأ المرسلين ، ويضعف هذا لزيادة من في الواجب . وقيل : معرفة وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش ، ولأن المعنى ليس على العموم بل إنما جاء بعض نبئهم لا أنبائهم ، لقوله ) ( هذا فيه تأكيد تثبيت لما تقدم الإخبار به من تكذيب أتباع الرسل للرّسل وإيذائهم وصبرهم إلى أن جاء النصر لهم عليهم والفاعل بجا . قال الفارسي : هو من نبأ ومن زائدة أي ولقد جاءك نبأ المرسلين ، ويضعف هذا لزيادة من في الواجب . وقيل : معرفة وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش ، ولأن المعنى ليس على العموم بل إنما جاء بعض نبئهم لا أنبائهم ، لقوله ) مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ). وقال الرماني : فاعل جاءك مضمر تقديره : ولقد جاءك نبأ . وقال ابن عطية : الصواب عندي أن يقدر جلاء أو بيان ، وتمام هذا القول والذي قبله أن التقدير : ولقد جاء هو من نبإ المرسلين أي نبأ أو بيان ، فيكون الفاعل مضمراً يفسر بنبإ أو بيان لا محذوفاً لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر لي أن الفاعل مضمرتقديره هو ، ويدلّ على ما دلّ عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من تكذيب أتباع الرسل للرسل والصبر والإيذاء إلى أن نصروا ، وأن هذا الإخبار هو بعض نبإ المرسلين الذين يتأسى بهم و ) مِن نَّبَإِ ( في موضع الحال ، وذوا لحال ذلك المضمر والعامل فيها وفيه ) جَاءكَ ( فلا يكون المعنى على هذا ولقد جاءك نبأ أو بيان إلا أن يراد بالنبإ والبيان هذا النبأ السابق أو البيان السابق ، وأما الزمخشري فلم يتعرض لفاعل جاء بل قال : ) لَقَدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ( بعض أنبائهم وقصصهم ، وهو تفسير معنى لا تفسير إعراب لأن من لا تكون فاعله .
الأنعام : ( 35 ) وإن كان كبر . . . . .
( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الاْرْضِ أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَاء فَتَأْتِيَهُمْ بِئَايَةٍ ( ) كَبُرَ ( أي عظم وشق إعراضهم عن الإيمان والتصديق بما جئت به ، وهو ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد كبر عليه إعراضهم لكن جاء الشرط معتبراً فيه التبيين والظهور ، وهو مستقبل ، وعطف عليه الشرط الذي لم يقع ، وهو قوله : ) فَإِن اسْتَطَعْتَ ( وليس مقصوداً وحده بالجواب فمجموع الشرطين بتأويل الأول لم يقع بل المجموع مستقبل ، وإن كان ظاهر أحدهما بانفراده واقع ونظيره إن كان قميصه قد من قبل وإن كان قميصه قد من دبر ومعلوم أنه قد وقع أحدهما ، لكن المعنى أن يتبين ويظهر كونه قدّ من كذا وكذا يتأول ما يجيء من دخول أن الشرطية على صيغة كان على مذهب جمهور النحاة خلافاً لأبي العباس المبرد فإنه زعم إن أن إذا دخلت على كان بقيت على مضيها بلا تأويل والنفق السرب في داخل الأر الذي يتوارى فيه . وقرأ نبيج الغنوي أن تبتغي نافقاً في الأرض والنافقاء ممدود وهو أحد مخارج جحر اليربوع وذلك أن اليربوع يخرج من باطن الأرض إلى وجهها ويرق ما واجه الأرض ويجعل للحجر بابين أحدهما النافقاء والآخر القاصعاء ، فإذا رابه أمر من أحدهما دفع ذلك الوجه الذي أرقه من أحدهما وخرج منه . وقيل : لجحره ثلاثة أبواب ، قال السدي : السلم المصعد . وقال قتادة : الدرج . وقال أبو عبيدة : السبب والمرقاة ، تقول العرب : اتخذني سلماً لحاجتك أي سبباً . ومنه قول كعب بن زهير : ولا لكما منجى من الأرض فابغيا
به نفقاً أو في السموات سلّما
وقال الزجاج : السلم من السلامة وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك ، والسلم الذي يصعد عليه ويرتقى وهو مذكر . وحكى الفراء فيه التأنيث ، قال بعضهم : تأنيثه على معنى المرقاة لا بالوضع كما أنث ، الصوت بمعنى الصيحة والاستغاثة في قوله

" صفحة رقم 119 "
سائل بني أسد ما هذه الصوت . ومعنى الآية قال الزمخشري يعني أنك لا تستطيع ذلك ، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه ، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتي بها رجاء إيمانهم . وقيل : كانوا يقترحون الآيات فكان يود أن يجابوا إليها لتمادي حرصه على إيمانهم ، فقيل له : إن استطعت كذا فافعل دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا لعلهم يؤمنون ؛ انتهى . والظاهر من قوله ) وَإِن كَانَ ( أن الآية هي غير ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء ، وأن المعنى : أن تبتغي نفقاً في الأرض فتدخل فيه أو سلّماً في السماء فتصعد عليه إليها ) وَإِن كَانَ ( غير الدخول في السرب والصعود إلى السماء مما يرجى إيمانهم بسببها أو مما اقترحوه رجاء إيمانهم ، وتلك الآية من إحدى الجهتين . وقال ابن عطية : وقوله تعالى : ) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ( إلزام الحجة للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) وتقسيم الأحوال عليهم حتى يتبين أن لا وجه إلا الصبر والمضيّ لأمر الله تعالى ، والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاء سلم في السماء ، فدونك وشأنك به أي إنك لا تقدر على شيء من هذا ، ولا بد من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله للناظرين المتأملين إذ هو لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى ، وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدي بالنظر فيه قوم بحق ملكه ) فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( أي في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه ؛ انتهى . وأجاز الزمخشري وابن عطية أن تكون الآية التي يأتي بها هي نفس الفعل . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيان بالآية كأنه قيل : لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الترقي في السماء لعلّ ذلك يكون آية لك يؤمنون بها . وقال ابن عطية : ) وَإِن كَانَ ( بعلامة ويريد : إما في فعلك ذلك أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض وارتقائك في السماء وإما في أن تأتيهم بالآية من إحدى الجهتين ؛ انتهى . وما جوزوا من ذلك لا يظهر من دلالة اللفظ إذ لو كان ذلك كما جوزاه لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية وأيضاً فأي آية في دخول سرب في الأرض ، وأما الرقي في السماء فيكون آية . وقيل قوله ) أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الاْرْضِ ( إشارة إلى قولهم ) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( وقوله : ) أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَاء ( إشارة إلى قولهم : ) أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ ( وكان فيها ضمير الشأن ، والجملة المصدرة بكبر عليك إعراضهم في موضع خبر كان وفي ذلك دليل على أن خبر كان وأخواتها يكون ماضياً ولا يحتاج فيه إلى تقدير قد ، لكثرة ما ورد من ذلك في القرآن وكلام العرب خلافاً لمن زعم أنه لا بدّ فيه من قد ظاهرة أو مقدرة وخلافاً لمن حصر ذلك بكان دون أخواتها ، وجوزوا أن يكون اسمها إعراضهم فلا يكون مرفوعاً بكبر كما في القول الأول وكبر فيه ضمير يعود على الإعراض وهو في موضع الخبر وهي مسألة خلاف ، وجواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره فافعل كما تقول : إن شئت تقوم بنا إلى فلان نزوره ، أي فافعل ولذلك جاء فعل الشرط بصيغة الماضي أو

" صفحة رقم 120 "
المضارع المنفيّ بلم لأنه ماض ، ولا يكون بصيغة المضارع إلا في الشعر .
( وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ( أي إما يخلق ذلك في قلوبهم أولاً فلا يضل أحد وإما يخلقه فيهم بعد ضلالهم ، ودلّ هذا التعليق على أنه تعالى ما شاء منهم جميعهم الهدى ، بل أراد إبقاء الكافر على كفره .
قال أبو عبد الله الرازي : ويقرر هذا الظاهر أن قدرة الكافر على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان ، فالقدرة على الكفر مستلزمة له غير صالحة للإيمان فخالق تلك القدرة يكون قد أراد الكفر لا محالة ، وإن كانت صالحة له كما صلحت للكفر استوت نسبة القدرة إليهما فامتنع الترجيح إلا الداعية مرجحة ، وليست من العبد وإلا وقع التسلسل ، فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله وثبت أن مجموع الداعية الصالحة توجب الفعل وثبت أن خالق مجموع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر غير مريد لذلك الإيمان ، فهذا البرهان اليقيني قوي ظاهر هذه الآية ، ولا بيان أقوى من تطابق البرهان مع ظاهر القرآن .
وقال ابن عطية : وهذه الآية تردّ على القدرية المفوّضة الذين يقولون : إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر وأن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق فيه تعالى الله عن قولهم .
وقال الزمخشري : ) وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ( بآية ملجئة ، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة ؛ اتهى ، وهذا قول المعتزلة .
وقال القاضي : والإلجاء أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمان لمنعهم منه ، وحينئذ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان ، وهو تعالى إنما ترك فعل هذا الإلجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم ، فيكون ما وقع منهم كأن لم يقع ، وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا بما يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة به إلى الثواب ، وذلك لا يكون إلا اختياراً ، وأجاب أبو عبد الله الرازي بأنه تعالى أراد منهم الإقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر بالسوية ، أو حال حصول هذا الرجحان ، والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال ، وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع ، والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع ، وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيارات ، فسقط قولهم بالكلية .
( فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( تقدم قول ابن عطية في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله تعالى ، وأمضاه ، وعلم المصلحة فيه .
وقال أيضاً : و ) مِنَ الْجَاهِلِينَ ( يحتمل في أن لا تعلم أن الله ) لَوْ شَاء لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ( ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره الله وأراده ، وتذهب بك نفسك إلى ما لم يقدر الله ، انتهى . وضعف الاحتمال الأول بأنّه ( صلى الله عليه وسلم ) ) مع كمال ذاته وتوفر معلوماته وعظيم اطّلاعه على ما يليق بقدرة الحقّ جلّ جلاله ، واستيلائه على جميع مقدوراته ، لا ينبغي أن يوصف بأنه جاهل بأنه تعالى لو شاء لجمعهم على الهدى ، لأن هذا من قبيل الدين والعقائد ، فلا يجوز أن يكون جاهلاً بها ، وكأن الزمخشري قد فسر قوله : ) وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ( بأن تأتيهم آية ملجئة ، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة فقال في قوله : ) فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه . وأشار بذلك إلى الإتيان بالآية الملجئة إلى الإيمان وتقدم الكلام في الإلجاء .
وقيل : لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم ويكفر بعضهم ، وضعف بأن هذا ليس مما يجهله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقيل لا تكوننّ ممن لا صبر له لأن قلة الصبر

" صفحة رقم 121 "
من أخلاق الجاهلين ، وضعف بأنه تعالى قد أمره بالصبر في آيات كثيرة ومع أمر الله له بالصبر وبيان أنه خير يبعد أن يوصف بعد صبره بقلة الصبر .
وقيل : لا يشتد حزنك لأجل كفرهم فتقارب حال الجاهل بأحكام الله وقدره ، وقد صرح بهذا في قوله : ) فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( وقال قوم : جاز هذا الخطاب لأنه لقربه من الله ومكانته عنده كان ذلك حملاً عليه كما يحمل العاقل على قريبه فوق ما يحمله على الأجانب ، خشية عليه من تخصيص الإذلال .
وقال مكي والمهدوي : الخطاب له والمراد به أمته ، وتمم هذا القول بأنه كان يحزنه إصرار بعضهم على الكفر وحرمانهم ثمرات الإيمان .
قال ابن عطية : وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ ؛ انتهى .
وقيل : الرسول معصوم من الجهل والشك بلا خلاف ، ولكن العصمة لا تمنع الامتحان بالأمر والنهي ، أو لأن ضيق صدره وكثرة حزنه من الجبلات البشرية ، وهي لا ترفعها العصمة بدليل : ( اللهم إني بشر وإني أغضب كما يغضب البشر ) الحديث . وقوله : ( إنما أنا بشر فإذا نسيت فذكروني ) انتهى .
والذي أختاره أن هذا الخطاب ليس للرسول ، وذلك أنه تعالى قال : ) وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ( فهذا إخبار وعقد كلّي أنه لا يقع في الوجوه إلا ما شاء وقوعه ، ولا يختص هذا الإخبار بهذا الخطاب بالرسول بل الرسول عالم بمضمون هذا الإخبار ، فإنما ذلك للسامع فالخطاب والنهي في ) فَلاَ تَكُونَنَّ ( للسامع دون الرسول فكأنه قيل : ولو شاء الله أيها السامع الذي لا يعلم أن ما وقع في الوجود يمشيئة الله جمعهم على الهدى لجمعهم عليه ، فلا تكونن أيها السامع من الجاهلين بأن ما شاء الله إيقاعه وقع ، وأن الكائنات معذوقة بإرادته .
2 ( ) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ ءايَةً وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الاٌّ رْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلاإِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاٌّ يَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِين

" صفحة رقم 122 "
َ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاأَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاأَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } )
الأنعام : ( 36 ) إنما يستجيب الذين . . . . .
التضرّع : تَفَعُّل من الضراعة وهي الذلة ، يقال : ضرع يضرع ضراعة ، قال الشاعر : ليبك يزيدَ ضارع لخصومة
ومختبطٌ مما تطيح الطوائح
أي ذليل ضعيف . صدف عن الشيء أعرض عنه صدفاً وصدوفاً ، وصادفته لقيته عن إعراض عن جهته قال ابن الرقاع : إذا ذكرن حديثاً قلن أحسنه
وهنَّ عن كل سوء يتقى صدف
صدف جمع صدوف ، كصبور وصبر . وقيل : صدف مال مأخوذ من الصدف في البعير ، وهو أن يميل خفه من اليد إلى الرجل من الجانب الوحشيّ ، والصدفة واحدة الصدف وهي المحارة التي يكون فيها الدر . قال الشاعر : وزادها عجباً أن رحت في سمك
وما درت دورانَ الدرِّ في الصَّدف
الخزانة ما يحفظ فيه الشيء مخافة أن ينال ، ومنه فإنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته وهي بفتح الخاء . وقال الشاعر : إذا المرء لم يخزن عليه لسانه
فليس على شيء سواه بخزّان

" صفحة رقم 123 "
الطرد الإبعاد بإهانة والطريد المطرود ، وبنو مطرود وبنو طراد فخذان من إياد .
( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ( إنما يستجيب للإيمان الذين يسمعون سماع قبول وإصغاء كما قال : ) إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( ويستجيب بمعنى يجيب . وفرّق الرماني بين أجاب واستجاب بأن استجاب فيه قبول لما دعي إليه . قال : ) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ( ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ ( وليس كذلك أجاب لأنه قد يجيب بالمخالفة .
قال الزمخشري يعني أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ، وإنما يستجيب من يسمع كقوله ) إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ).
وقال ابن عطية هذا من النمط المتقدم في التسلية ، أي لا تحفل بمن أعرض فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يفهمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول فعبر عن ذلك كله بيسمعون . إذ هو طريق العلم بالنبوة والآيات المعجزة . وهذه لفظة تستعملها الصوفية إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغاً شافياً قالوا استمع ) وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ( الظاهر أن هذه جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، والظاهر أن الموت هنا والبعث حقيقة وذلك إخبار من الله تعالى أن الموتى على العموم من مستجيب وغير مستجيب ، يبعثهم الله فيجازيهم على أعمالهم وجاء لفظ الموتى عاماً لإشعار ما قبله بالعموم في قوله ) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ( إذ الحصر يشعر بالقسم الآخر وهو أن من لا يسمع سماع قبول ، لا يستجيب للإيمان وهم الكفار . وصار في الإخبار عن الجميع بالبعث والرجوع إلى جزاء الله تعالى ، تهديد ووعيد شديد لمن لم يستحب وتظافرت أقوال المفسرين أن قوله والموتى يراد به الكفار . سموا بالموتى كما سموا بالصمِّ والبكم والعمي وتشبيه الكافر بالميت من حيث إنّ الميت جسده خالٍ عن الروح ، فيظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات . وأصلح أحواله دفنه تحت التراب . والكافر روحه خالية عن العقل فيظهر منه جهله بالله تعالى ومخالفاته لأمره وعدم قبوله لمعجزات الرسل ، وإذا كانت روحه خالية من العقل كان مجنوناً فأحسن أحواله أن يقيَّد ويحبس . فالعقل بالنسبة إلى الرّوح كالروح بالنسبة إلى الجسد . وإذا كان المراد بالموتى هنا الكفار فقيل البعث يراد به حقيقته من الحشر يوم القيامة والرجوع هو رجوعهم إلى سطوته وعقابه ، قاله مجاهد وقتادة .
وعلى هذا تكون هذه الجملة متضمنة الوعيد للكفار . وقيل الموت والبعث حقيقة والجملة مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ) ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( للجزاء ، فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان وأنت لا تقدر على ذلك قاله الزمخشري . وقيل الموت والبعث مجازان استعير الموت للكفر والبعث للإيمان .
فقيل الجملة من قوله والموتى يبعثهم الله مبتدأ وخبر أي والموتى بالكفر يحييهم الله بالإيمان .
وقيل ليس جملة بل الموتى معطوف على الذين يسمعون ، ويبعثهم الله جملة حالية . والمعنى إنما يستجيب الذين يسمعون سماع قبول ، فيؤمنون بأول وهلة والكفار حتى يرشدهم الله تعالى ويوفقهم للإيمان ، فلا تتأسف أنت ولا تستعجل ما لم يقدر .
وقرىء ثم إليه يرجعون بفتح الياء من رجع اللازم .

" صفحة رقم 124 "
الأنعام : ( 37 ) وقالوا لولا نزل . . . . .
( وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ ( قال ابن عباس نزلت في رؤساء قريش سألوا الرسول آية تعنتاً منهم ، وإلا فقد جاءهم بآيات كثيرة فيها مقنع انتهى .
والضمير في وقالوا عائد على الكفار ، ولولا تحضيض بمعنى هلا .
( قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزّلٍ ءايَةً ( أي مهما سألتموه من إنزال آية الله قادر على ذلك . كما أنزل الآيات السابقة فلا فرق في تعلق القدرة بالآيات المقترحة على سبيل التعنت والآيات التي لم تقترح وقد اقترحتم آيات كانشقاق القمر فلم تجد عليكم ولا أثرت فيكم ، وقلتم هذا سحر مستمر ولم تعتدوا بما أنزل مع كثرته حتى كأنه لم ينزل شيء من الآيات ، لأن دأبكم العناد في آيات الله .
وقال الزمخشري على أن ينزل آية يضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل على بني إسرائيل أو آية أن يجحدوها جاءهم العذاب .
( وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية وإن صارفاً من الحكمة صرفه عن إنزالها .
وقال ابن عطية لا يعلمون أنها لو أنزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب ، ويحتمل لا يعلمون أن الله تعالى إنما جعل المصلحة في آيات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون انتهى . والذي يظهر لا يعلمون نفى عنهم العلم حيث فرقوا بين تعلق القدرة بالآيات التي نزلت وبين تعلقها بالآيات المقترحة وتعلق القدرة بهما سواء لاجتماع المقترح وغير المقترح في الإمكان ، فمن فرق بين المتماثلات ولم يقنع بما ورد منها فهو لا شك جاهل .
الأنعام : ( 38 ) وما من دابة . . . . .
( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ( قال ابن الأنباري وموضع الاحتجاج من هذه الآية أن الله ركب في المشركين عقولاً وجعل لهم أفهاماً ألزمهم بها أن يتدبروا أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كما جعل للدّواب والطير أفهاماً يعرف بها بعضها إشارة بعض ، وهدى الذَّكر منها لإتيان الأنثى ، وفي ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها .
وقال ابن عطية : المعنى في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته .
وقال الزمخشري : فإن قلت : فما الغرض في ذكر ذلك ؟ قلت : الدلالة على عظم قدرته ولطف علمه وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف ، وهو لما لها وما عليها مهيمنٌ على أحوالها لا يشغله شأن عن شأن ، وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان انتهى .
والذي يظهر أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء قولهم ) لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ ( ولم يعتبروا ما نزل من الآيات وأجيبوا بأن القدرة صالحة لإنزال آية وهي التي اقترحتموها ونبهوا على جهلهم حيث فرقوا بين آية وآية أخبروا أنهم أنفسهم وجميع الحيوان غيرهم متماثلون في تعلق القدرة الإلهية بالجميع ، فلا فرق بين خلق من كُلِّف وما لم يكلَّف في تعلق القدرة بهما وإبرازهما من صرف العدم إلى صرف الوجود ، فكأنه قيل القدرة تعلقت بالآيات كلها مقترحها وغير مقترحها كما تعلقت بخلقكم وخلق سائر الحيوان ، فالإمكان هو الجامع بين كل ذلك ؛ ولذلك قال تعالى : ) إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ( يعني في تعلق القدرة بإيجادها كتعلقها بإيجادكم . وكذلك الآيات . وفي ذلك إشارة إلى أن الآيات الواردة على أيدي الأنبياء عليهم السلام قد تكون باختراع أعيان ، كالماء الذي نبع من بين الأصابع والطعام الذي تكثر من قليل ، كما أن المخلوقات هي أعيان مخترعة لله تعالى ، وكأن النسبة بمماثلة الحيوان للإنسان دون ذكر الجماد ودون ذكر ما يعمها من حيث قوة المماثلة في الشعور بالأشياء والاهتداء إلى كثير من المصالح بخلاف الجماد ، وإن كانت القدرة متعلقة بجميع المخلوقات ودابة تقدّم شرحها ، وهي هنا في سياق النفي مصحوبة بمن التي تفيد استغراق الجنس ، فهي عامّة تشمل كل ما يدبّ فيندرج فيها الطائر ، فذِكْرُ الطائر بعد ذكر الدابة تخصيص بعد تعميم وذكْرُ بعضٍ من كلَ وصار من باب التجريد كقوله : ) وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( بعد ذكر الملائكة

" صفحة رقم 125 "
وإنما جرد الطائر لأن تصرفه في الوجود دون غيره من الحيوان أبلغ في القدرة وأدل على عظمها من تصرف غيره من الحيوان في الأرض ، إذ الأرض جسم كثيف يمكن تصرف الأجرام عليها ، والهواء جسم لطيف لا يمكن عادة تصرف الأجرام الكثيفة فيها إلا بباهر القدرة الإلهية ، ولذلك قال تعالى : ) أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ ( في جو السماء ) مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ ( وجاء قوله في الأرض إشارة إلى تعميم جميع الأماكن لما كان لفظ من دابة وهو المتصرف أتى بالمتصرف فيه عاماً وهو الأرض ، ويشمل الأرض البر والبحر ، ويطير بجناحيه تأكيد لقوله ) وَلاَ طَائِرٍ ( لأنه لا طائر إلا يطير بجناحيه ، وليرفع المجاز الذي كان يحتمله قوله ) وَلاَ طَائِرٍ ( لو اقتصر عليه ، ألا ترى إلى استعارة الطائر للعمل في قوله : ) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ( وقولهم : ( طار لفلان كذا في القسمة ) أي سهمه ، و ( طائر السعد والنحس ) وفيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران واستحضار لمشاهدة هذا الفعل الغريب . وجاء الوصف بلفظ ( يطير ) لأنه مشعر بالديمومة والغلبة ، لأن أكثر أحوال الطائر كونه يطير ، وقلَّ ما يسكن ، حتى إن المحبوس منها يكثر وُلُوعه بالطيران في المكان الذي حبس فيه من قفص وغيره .
وقرأ ابن أبي عبلة ( ولا طائر ) بالرفع ، عطفاً على موضع ( دابة . وجوزوا أن يكون ( في الأرض ) في موضع رفع صفة على موضع دابة ، وكذلك يقتضي أن يكون ( يطير ) ويتعين ذلك في قراءة ابن أبي عبلة ، والباء في ( بجناحيه ) للاستعانة كقوله : ( كتبت بالقلم ) و ( إلا أمم ) هو خبر المبتدأ الذي هو من دابة ولا طائر وجمع الخبر وإن كان المبتدأ مفرداً حملاً على المعنى لأن المفرد هنا للاستغراق والمثلية هنا .
قال الزمخشري أمثالكم مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم انتهى .
وقال ابن عطية مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر .
وقال الطبري وغيره وهو مرويٌّ عن أبي هريرة واختيار الزجاج المماثلة في أنها تجازي بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض ، على ما روي في الأحاديث .
وقال مكيّ في أنها تعرف الله تعالى وتعبده . وهذا قول أبي عبيدة ، قال معناه إلا أجناس يعرفون الله ويعبدونه . ونقله الواحدي عن ابن عباس أن المماثلة حصلت من حيث إنهم يعرفون الله ويوحدونه ويحمدونه ويسبحونه . وإليه ذهبت طائفة من المفسرين محتجين بقوله : ) وَإِن مّن شَىْء لا يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( وبقوله في صفة الحيوان كل قد علم صلاته وتسبيحه وبما به خاطب النمل وخاطب الهدهد .
قال ابن عطية في قول مكي وهذا قول خلف انتهى .
وقال ابن عطية ويحتمل أن تكون المماثلة في كونها أمماً لا غير . كما تريد بقولك : مررت برجل مثلك أي بي إنه رجل . ويصح في غير ذلك من الأوصاف إلا أن الفائدة في هذه أن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمماً .
وقال مجاهد إلا أصناف مصنفة .
وقال أبو صالح عن ابن عباس : المماثلة وقعت بينها وبين بني آدم من قبل أن بعضهم يفقه عن بعض .
وقال ابن عيسى أمثالكم في الحاجة إلى مدبر يدبرهم فيما يحتاجون إليه من قوت يقوتهم وإلى لباس يسترهم ، وإلى سكنَ يواريهم . وروي عن أبي الدرداء أنه قال : أبهمت عقول البهم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء : الإله سبحانه وتعالى وطلب الرزق ، ومعرفة الذكر والأنثى ، وتهيؤ كل واحد منهما لصاحبه .
وقيل المماثلة في كونها جماعات مخلوقة يشبه بعضها بعضاً ، ويأنس بعضها ببعض وتتوالد كالإنس .
وروي أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة أنه قرأ هذه الآية وقال ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم ، فمنهم من يقدم إقدام الأسد

" صفحة رقم 126 "
ومنهم من يعدو عَدْوَ الذئب ، ومنهم من ينبج نباج الكلاب ، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس ، ومنهم من يشره شره الخنزير .
وفي رواية منهم من يشبه الخنزير إذا ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل من رجيعه ولغ فيه . وكذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ منها واحدة . فإن أخطأت واحدة حفظها ولم يجلس مجلساً رواها عنك ) مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْء ( أي ما تركنا وما أغفلنا والكتاب اللوح المحفوظ . والمعنى وما أغفلنا فيه من شيء لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت ، قاله الزمخشري ولم يذكر غيره ، أو القرآن وهو الذي يقتضيه سياق الآية والمعنى . وبدأ به عن ابن عطية وذكر اللوح المحفوظ ، فعلي هذا يكون قوله : من شيء على عمومه ، وعلى القول الأول يكون من العام الذي يراد به الخاص فالمعنى من شيء يدعو إلى معرفة الله وتكاليفه ، وكثيراً ما يستدل بعض الظاهرية بقوله : ) مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْء ( يشير إلى أن الكتاب تضمن الأحكام التكليفية كلها ، والتفريط التقصير فحقه أن يتعدى بفي كقوله ) عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ( وإذا كان كذلك فيكون قد ضمن ما أغفلنا وما تركنا ويكون ) مِن شَىْء ( في موضع المفعول به و ) مِنْ ( زائدة ، والمعنى : ما تركنا وما أغفلنا في الكتاب شيئاً يحتاج إليه من دلائل الإلهية والتكاليف ، ويبعد جعل من هنا تبعيضية وأن يكون التقدير ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المكلف ، وإن قاله بعضهم . وجعل أبو البقاء هنا من شيء واقعاً موقع المصدر ، أي تفريطاً . قال : وعلى هذا التأويل لا يبقى في الآية حجة لمن ظن أنّ الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء تصريحاً ونظير ذلك لا يضركم كيدهم شيئاً أي ضرراً انتهى . وما ذكره من أنه لا يبقى على هذا التأويل حجة لمن ذكر ليس كما ذكر لأنه إذا تسلط النفي على المصدر منفياً على جهة العموم ، ويلزم من نفي هذا العموم نفي أنواع المصدر ونوع مشخصاته ، ونظير ذلك لا قيام فهذا نفي عام فينتفي منه جميع أنواع القيام ومشخاصته كقيام زيد وقيام عمرو وما أشبه ذلك فإذا نفى التفريط على طريقة العموم كان ذلك نفياً لجميع أنواع التفريط ومشخصاته ومتعلقاته ، فيلزم من ذلك أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء . وقرأ الأعرج وعلقمة ) مَّا فَرَّطْنَا ( بتحفيف الراء والمعنى واحد . وقال النقاش : معنى ) فَرَّطْنَا ( مخففة ، أخرنا كما قالوا : فرط الله عنك المرض أي أزاله .
( ثُمَّ إِلَى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ ( الظاهر في الضمير أنه عائد على ما تقدم وهو الأمم كلها من الطير والدواب . وقال قوم : هو عائد على الكفار لا على أمم وما تخلل بينهما كلام معترض وإقامة وحجج ويرجح هذا القول كونه جاء بهم وبالواو التي هي للعقلاء ، ولو كان عائداً على أمم الطير والدواب لكان التركيب ثم إلى ربها تحشر ويجاب عن هذا بأنها لما كانت ممتثلة ما أراد الله منها ، أجريت مجرى العقلاء وأصل الحشر الجمع ومنه فحشر فنادى والظاهر أنه يراد به البعث يوم القيامة وهو قول الجمهور ، فتحشر البهائم والدواب والطير وفي ذلك حدّيث يرويه يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله عز وجل يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول : كوني تراباً فذلك قوله تعالى : ) وَيَقُولُ الْكَافِرُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً ). وقال ابن عباس والحسن في آخرين : حشر الدواب موتها لأن الدواب لا تكليف عليها ولا ترجو

" صفحة رقم 127 "
ثواباً ولا تخاف عقاباً ولا تفهم خطاباً ؛ انتهى . ومن ذهب هذا المذهب تأول حديث أبي هريرة على معنى التمثيل في الحساب والقصاص حتى يفهم كل مكلف أنه لا بد له منه ولا محيص وأنه العدل المحض . قال ابن عطية : والقول في الأحاديث المتضمنة أن الله يقتص للجماء من القرناء ، أنها كناية عن العدل وليست بحقيقة قول مرذول ينحو إلى القول بالرموز ونحوها ؛ انتهى .
وقال ابن فورك : القول بحشرها مع بني آدم أظهر ؛ انتهى . وعلى القول بحشر البهائم مع الناس اختلفوا في المعنى الذي تحشر لأجله ، فذهب أهل السنة أنها لإظهار القدرة على الإعادة وفي ذلك تخجيل لمن أنكر ذلك فقال : من يحيي العظام وهي رميم ؟ وقالت المعتزلة : يحشر الله البهائم والطير لإيصال الإعواض إليها وكذلك قال الزمخشري ، فيعوضهما وينصف بعضها من بعض كما روي أنه يأخذ للجماء من القرناء ؛ انتهى . وطول المعتزلة في إيصال التعويض عن آلام البهائم وضررها وأن ذلك واجب على الله تعالى . وفرعوا فروعاً واختلفوا في العوض أهو منقطع أم دائم ؟ فذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه منقطع فبعد توفية العوض يجعلها تراباً ، وقال أبو القاسم البلخي : يجب كون العوض دائماً . وقيل : تدخل البهائم الجنة وتعوض عن ما نالها من الآلام وكل ما قالته المعتزلة مبناه على أن الله تعالى يجب عليه إيصال الإعواض إلى البهائم عن الآلام التي حصلت لها في الدّنيا ، ومذهب أهل السنة أن الإيجاب على الله تعالى محال .
الأنعام : ( 39 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
( وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِايَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ ( قال النقاش : نزلت في بني عبد الدار ثم انسحبت على سواهم ؛ انتهى . ومناسبة هذه لما قبلها أنه لما تقدم قوله : ) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ( أخبر أن المكذبين بالآيات صم لا يسمعون من ينبههم ، فلا يستجيب أحد منهم ولما كان قوله : ) وَمَا مِن دَابَّةٍ ( الآية منبهاً على عظيم قدرة الله تعالى ولطيف صنعه وبديع خلقه ، ذكر أن المكذب بآياته هو أصم عن سماع الحق أبكم عن النطق به ، والآيات هنا القرآن أو ما ظهر على يدي الرسول من المعجزات أو الدلائل والحجج ثلاثة أقوال والإخبار عنهم بقوله : ) صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ ( الظاهر أنه استعارة عن عدم الانتفاع الذهني بهذه الحواس لا أنهم ) صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ ( حقيقة وجاء قوله : ) فِى الظُّلُمَاتِ ( كناية عن عمي البصيرة ، فهو ينظر كقوله : ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ ( لكن قوله : ) فِى الظُّلُمَاتِ ( أبلغ من قوله : ) عَمِىَ ( إذ جعلت ظرفاً لهم وجمعت لاختلاف جهات الكفر ، كما قيل في قوله : ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( على أحد الأقوال وفي قوله : ) يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ). وقال الجبائي : الإخبار عنهم بأنهم ) صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ ( حقيقة وذلك يوم القيامة يجعلهم صماً وبكماً في الظلمات يضلهم بذلك عن الجنة ويصيرهم إلى النار ، ويعضد هذا التأويل قوله تعالى : ) وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ( الآية . وقال الكعبيّ : ) صُمٌّ وَبُكْمٌ ( محمول على الشتم والإهانة على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة ؛ انتهى . والظلمات ظلمات الكفر أو حجب تضرب على القلب فيظلم وتحول بينه وبين نور الإيمان ، أو ظلمات يوم القيامة ومنه قيل : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً أو الشدائد لأن العرب كانت تعبر عن الشدة بالظلمة يقولون يوم مظلمة إذا لقوا فيه شدة ومنه قوله : بني أسد هل تغلمون بلاءنا
إذا كان يوم ذو كواكب مظلم
أربعة أقوال : رابعها قاله الليث . ) مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ (

" صفحة رقم 128 "
مفعول ) يَشَإِ ( محذوف تقديره من يشأ الله إضلاله ) يُضْلِلْهُ ( ومن يشأ هدايته ) يَجْعَلُهُ ( ولا يجوز في من فيهما أن يكون مفعولاً بيشأ للتعاند الحاصل بين المشيئتين ، ( فإن قلت ) : يكون مفعولاً بيشأ على حذف مضاف تقديره إضلال من يشاء الله وهداية من يشاء الله ، فحذف وأقيم من مقامه ودل فعل الجواب على هذا المفعول . فالجواب : أن ذلك لا يجوز لأن أبا الحسن الأخفش حكى عن العرب أن اسم الشرط غير الظرف والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود على اسم الشرط أو المضاف إليه ، والضمير في ) يُضْلِلْهُ ( إما أن يكون عائداً على إضلال المحذوف أو على من لا جائز أن يعود على إضلال فيكون كقوله ) يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ ( إذ الهاء تعود على ذي المحذوفة من قوله : أو كظلمات إذ التقدير أو كذي ظلمات لأنه يصير التقدير إضلال ) مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ ( أي يضلل الإضلال وهذا لا يصحّ ولا جائز أن يعود على من الشرطية لأنه إذ ذاك تخلوا الجملة الجزائية من ضمير يعود على المضاف إلى اشم الشرط وذلك لا يجوز .
( فإن قلت ) : يكون التقدير من يشأ الله بالإضلال فيكون على هذا مفعولاً مقدماً لأن شاء بمعنى أراد ويقال أراده الله بكذا . قال الشاعر : أرادت عرار بالهوان ومن يرد
عرار العمرى بالهوان فقد ظلم
فالجواب : أنه لا يحفظ من كلام العرب تعدية شاء بالباء لا يحفظ شاء الله بكذا ولا يلزم من كون الشيء في معنى الشيء أن يعدى تعديته ، بل قد يختلف تعدية اللفظ الواحد باختلاف متعلقه ألا ترى أنك تقول : دخلت الدار ودخلت في غمار الناس ، ولا يجوز دخلت غمار الناس فإذا كان هذا وارداً في الفعل الواحد فلأن يكون في الفعلين أحرى ، وإذا تقرّر هذا فإعراب من يحتمل وجهين أحدهما وهو الأولى أن يكون مبتدأ جملة الشرط خبره والثاني أن يكون مفعولاً بفعل محذوف متأخر عنه يفسره فعل الشرط من حيث المعنى ، وتكون المسألة من باب الاشتغال التقدير من يشق الله يشأ إضلاله ومن يسعد يشأ هدايته ) يَجْعَلْهُ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( وظاهر الآية يدل على مذهب أهل السنة في أن الله تعالى هو الهاديّ وهو المضل ، وأن ذلك معذوق بمشيئته لا يسأل عما يفعل وقد تأولت المعتزلة هذه الآية كما تأولوا غيرها فقالوا : معنى ) يُضْلِلْهُ ( يخذله ويخبله وضلاله لم يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف ، ومعنى ) يَجْعَلْهُ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( يلطف به لأن اللطف يجري عليه وهذا على قول الزمخشري . وقال غيره : يضلله عن طريق الجنة و ) يَجْعَلْهُ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( هو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة ، قالوا : وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الضلال إلا لمن يستحق العقوبة كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين .
الأنعام : ( 40 ) قل أرأيتكم إن . . . . .
( قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( هذا ابتداء احتجاج على الكفار الذين يجعلون لله شركاء . قال الكرماني : ) أَرَأَيْتُكُم ( كلمة استفهام ويعجب وليس لها نظير . وقال ابن عطية : والمعنى : أرأيتكم إن خفتم عذاب الله أو خفتم هلاكاً أو خفتم الساعة أتدعون أصنامكم وتلجأون إليها في كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم إنها آلهة بل تدعون الله الخالق الرازق فيكشف ما خفتموه إن شاء وتنسون أصنامكم أي تتركونهم ؟ فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول وإغفال ، فكيف يجعل إلهاً من هذه حاله في الشدائد ؟ و ) أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ ( أتاكم خوفه وأماراته وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض التي يخاف منها الهلاك كالقولنج ويدعو إلى هذا التأويل إنا لو قدرنا إتيان العذاب وحلوله لم يترتب أن يقول بعد ذلك : فيكشف ما تدعون لأن ما قد صح حلوله ومضى لا يصح كشفه ، ويحتمل أن يريد بالساعة في هذه الآية ساعة موت الإنسان ؛

" صفحة رقم 129 "
انتهى . ولا يضطر إلى هذا التأويل الذي ذكره بل إذا حل بالإنسان العذاب واستمر عليه لا يدعو إلا الله وقوله : لأن ما صح حلوله ومضى لا يصح كشفه ليس كما ذكر ، لأن العذاب الذي يحل بالإنسان هو جنس منه ما مرّ وانقضى فذلك لا يصح كشفه ومنه ما هو ملتبس بالإنسان في الحال فيصح كشفه وإزالته بقطع الله ذلك عن الإنسان ، وهذه الآية تنظر إلى قوله تعالى : ) وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا ( لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضرّه مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسه فما انقضى من الضر الذي مسه لا يصح كشفه ، وما هو ملتبس به كشفه الله تعالى فالضر جنس كما أن العذاب هنا جنس . وقال مقاتل : عذاب الله هو العذاب الذي كان يأتي الأمم الخالية . وقال ابن عباس : هو الموت ويعني والله أعلم مقدّماته من الشدائد والجمهور على أن ) السَّاعَةَ ( هي القيامة وأرأيت الهمزة فيها للاستفهام فإن كانت البصرية أو التي لإصابة الرئة أو العلمية الباقية على بابها لم يجز فيها إلا تحقيق الهمزة أو تسهيلها بين بين ولا يجوز حذفها ، وتختلف التاء باختلاف المخاطب ولا يجوز إلحاق الكاف بها وإن كانت العلمية التي هي بمعنى أخبرني جاز أن تحقق الهمزة ، وبه قرأ الجمهور في ) أَرَأَيْتُكُم ( وأرأيتم وأرأيت وجاز أن تسهل بين بين وبه قرأ نافع وروي عنه إبدالها ألفاً محضة ويطول مدّها لسكونها وسكون ما بعدها ، وهذا البدل ضعيف عند النحويين إلا أنه قد سمع من كلام العرب حكاه قطرب وغيره وجاز حذفها وبه قرأ الكسائي وقد جاء ذلك في كلام العرب . قال الراجز :
أريت إن جاءت به أملودا
بل قد زعم الفراء أنها لغة أكثر العرب ، قال الفراء : للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان أحدهما أن تسأل الرجل أرأيت زيداً أي بعينك فهذه مهموزة ، وثانيهما أن تقول : أرأيت وأنت تقول أخبرني فيها هنا تترك الهمزة إن شئت وهو أكثر كلام العرب تومىء إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين ؛ انتهى . وإذا كانت بمعنى أخبرني جاز أن تختلف التاء باختلاف المخاطب وجاز أن تتصل بها الكاف مشعرة باختلاف المخاطب ، وتبقى التاء مفتوحة كحالها للواحد المذكر ومذهب البصريين أن التاء هي الفاعل وما لحقها حرف يدل على اختلاف المخاطب وأغنى اختلافه عن اختلاف التاء ومذهب الكسائي أن الفاعل هو التاء وإن أداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول ، ومذهب الفراء أن التاء هي كهي في أنت وإن أداة الخطاب بعده هي في موضع الفاعل ، استعيرت ضمائر النصب للرفع والكلام على هذه المذاهب إبدالاً وتصحيحاً مذكور في علم النحو ، وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني نص عليه سيبويه والأخفش والفراء والفارسي وابن كيسان وغيرهم . وذلك تفسير معنى لا تفسير إعراب قالوا : فتقول العرب أرأيت زيداً ما صنع فالمفعول الأول ملتزم فيه النصب ، ولا يجوز فيه الرفع على اعتبار تعليق أرأيت وهو جائز في علمت ورأيت الباقية على معنى علمت المجردة من معنى أخبرني لأن أخبرني لا تعلق ، فكذلك ما كان بمعناها والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني . قال سيبويه : وتقول أرأيتك زيداً أبو من هو وأرأيتك عمراً أعندك هو أم عند فلان لا يحسن فيه إلا النصب في زيد ألا ترى أنك لو قلت أرأيت أبو من أنت وأرأيت أزيد ثم أم فلان ، لم يحسن لأن فيه معنى أخبرني عن زيد . ثم قال سيبويه : وصار الاستفهام في موضع المفعول الثاني وقد اعترض كثير من النحاة على سيبويه وخالفوه ، وقالوا : كثيراً ما تعلق أرأيت وفي القرآن من ذلك كثير منه ) قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ (

" صفحة رقم 130 "
) أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى ( أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم . وقال الشاعر : أرأيت إن جاءت به أملودا
مرجّلاً ويلبس البرودا
أقائلن أحضروا الشهودا
وذهب ابن كيسان إلى أن الجملة الاستفهامية في أرأيت زيداً ما صنع بدل من أرأيت ، وزعم أبو الحسن إن أرأيتك إذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي بعده الاستفهام ، لأن أخبرني موافق لمعنى الاستفهام وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها بالكلية وتضمن معنى أما أو تنبه وجعل من ذلك قوله تعالى : قال ) أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ ( وقد أمعنا الكلام على أرأيت ومسائلها في كتابنا المسمى بالتذييل في شرح التسهيل وجمعنا فيه ما لا يوجد مجموعاً في كتاب فيوقف عليه فيه ، ونحن نتكلم على كل مكان تقع فيه أرأيت في القرآن بخصوصيته . فنقول الذي نختاره إنها باقية على حكمها من التعدّي إلى اثنين فالأول منصوب والذي لم نجده بالاستقراء إلا جملة استفهامية أو قسمية ، فإذا تقرر هذا فنقول : المفعول الأول في هذه الآية محذوف والمسألة من باب التنازع تنازع ) أَرَأَيْتُكُم ( والشرط على عذاب الله فأعمل الثاني وهو ) ءاتَاكُمُ ( فارتفع عذاب به ، ولو أعمل الأول لكان التركيب عذاب بالنصب ونظيره اضرب إن جاءك زيد على أعمال جاءك ، ولو نصب لجاز وكان من أعمال الأول وأما المفعول الثاني فهي الجملة الاستفهامية من ) أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ( والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول محذوف تقديره ) أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ( لكشفه والمعنى : قل أرأيتكم عذاب الله إن أتاكم أو الساعة إن أتتكم أغير الله تدعون لكشفه أو كشف نوار لها ، وزعم أبو الحسن أن ) أَرَأَيْتُكُم ( في هذه الآية بمعنى أما .
قال وتكون أبداً بعد الشرط وظروف الزمان والتقدير أما إن أتاكم عذابه والاستفهام جواب أرأيت لا جواب الشرط وهذا إخراج لأرأيت عن مدلولها بالكلية ، وقد ذكرنا تخريجها على ما استقر فيها فلا نحتاج إلى هذا التأويل البعيد ، وعلى ما زعم أبو الحسن لا يكون لأرأيت مفعولان ولا مفعول واحد ، وذهب بعضهم إلى أن مفعول ) أَرَأَيْتُكُم ( محذوف دل عليه الكلام تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم عند مجيء الساعة ؟ ودل عليه قوله : ) أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ). وقال آخرون لا تحتاج هنا إلى جواب مفعول لأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول وهذان القولان ضعيفان ، وأما جواب الشرط فذهب الحوفي إلى أن جوابه ) أَرَأَيْتُكُم ( قدّم لدخول ألف الاستفهام عليه وهذا لا يجوز عندنا ، وإنما يجوز تقديم جواب الشرط عليه في مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد وذهب غيره إلى أنه محذوف فقدره الزمخشري فقال : إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون ؟ وإصلاحه بدخول الفاء أي فمن تدعون ؟ لأن الجملة الاستفهامية إذا وقعت جواباً للشرط فلا بد فيها من الفاء ؟ وقدره غيره إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة دعوتم الله ودل عليه الاستفهام في قوله : ) أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ).
وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق الشرط بقوله : ) أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ( كأنه قيل أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله ؛ انتهى . فلا يجوز أن يتعلق الشرط بقوله : ) أَغَيْرَ اللَّهِ ( لأنه لو تعلق به لكان جواباً للشرط ، فلا يجوز أن يكون جواباً للشرط لأن جواب الشرط إذا كان استفهاماً بالحرف لا يكون إلا بهل مقدماً عليها الفاء نحو أن قام زيد فهل تكرمه ؟ ولا يجوز ذلك في الهمزة لا تتقدم الفاء على الهمزة ولا تتأخر عنها ، فلا يجوز إن قام زيد فأتكرمه ولا أفتكرمه

" صفحة رقم 131 "
ولا أتكرمه ، بل إذا جاء الاستفهام جواباً للشرط لم يكن إلا بما يصح وقوعه بعد الفاء لا قبلها هكذا نقله الأخفش عن العرب ، ولا يجوز أيضاً من وجه آخر لأنا قد قرّرنا إن أرأيتك متعد إلى اثنين أحدهما في هذه الآية محذوف وأنه من باب التنازع والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعة فلو جعلتها جواباً للشرط لبقيت ) أَرَأَيْتُكُم ( متعدّية إلى واحد ، وذلك لا يجوز وأيضاً التزام العرب في الشرط الجائي بعد أرأيت مضى الفعل دليل على أن جواب الشرط محذوف ، لأنه لا يحذف جواب الشرط إلا عند مضيّ فعله قال تعالى : ) قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ ( ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ ( ) قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا ( ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ ( ) أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ( ) أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَم ( إلى غير ذلك من الآيات ، وقال الشاعر :
أرأيت إن جاءت به أملودا
وأيضاً فمجيء الجمل الاستفهامية مصدرة بهمزة الاستفهام دليل على أنها ليست جواب الشرط ، إذ لا يصح وقوعها جواباً للشرط .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : إن علقت الشرطية يعني بقوله : ) غَيْرُ اللَّهِ ( فما تصنع بقوله : ) فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ ( مع قوله : ) أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ ( وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين . ( قلت ) : قد اشترط في الكشف المشيئة وهو قوله : إن شاء إيذاناً بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه ؛ انتهى . وهذا مبني على أنه يجوز أن يتعلق الشرط بقوله ) أَغَيْرَ اللَّهِ ( وقد استدل للفاعل أن ذلك لا يجوز وتلخص في جواب الشرط أقوال : .
أحدها : أنه مذكور وهو ) أَرَأَيْتُكُم ( المتقدّم والآخر أنه مذكور وهو ) أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ).
والثالث : أنه محذوف تقديره من تدعون .
والرابع : أنه محذوف تقديره دعوتم الله ، هذا ما وجدنا منقولاً والذي نذهب إليه غير هذه الأقوال وهو أن يكون محذوفاً لدلالة ) أَرَأَيْتُكُم ( عليه وتقديره ) إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ ( فأخبروني عنه أتدعون غير الله لكشفه ، كما تقول : أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به ؟ التقدير إن جاءك فأخبرني فحذف الجواب لدلالة أخبرني عليه ، ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت التقدير فأنت ظالم فحذف فأنت ظالم وهو جواب الشرط لدلالة ما قبله عليه ، وهذا التقدير الذي قدرناه هو الذي تقتضيه قواعد العربية و ) غَيْرُ اللَّهِ ( عنى به الأصنام التي كانوا يعبدونها ، وتقديم المفعول هنا بعد الهمزة يدل على الإنكار عليهم دعاء الأصنام إذ لا ينكر الدعاء إنما ينكرأن الأصنام تدعي كما تقول : أزيداً تضرب لا تنكر الضرب ولكن تنكر أن يكون محله زيداً . قال الزمخشري : بكتهم بقوله : ) أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ( بمعنى أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ أم تدعون الله دونها ؟ انتهى . وقدره بمعنى أتخصون لأن عنده تقديم المفعول مؤذن بالتخصيص والحصر ، وقد تكلمنا فيما سبق في ذلك وأنه لا يدل على الحصر والتخصيص ، وهذه الآية عند علماء البيان من باب استدراج المخاطب وهو أن يلين الخطاب ويمزجه بنوع من التلطف والتعطف حتى يوقع المخاطب في أمر يعترف به فتقوم الحجة عليه ، والله تعالى خاطب هؤلاء الكفار بلين من القول وذكر لهم أمراً لا ينازعون فيه وهو أنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله لا غيره وجواب ) إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( محذوف تقديره إن كنتم صادقين في دعواكم إن غير الله إله فهل تدعونه لكشف ما يحل بكم من العذاب ؟ .
الأنعام : ( 41 ) بل إياه تدعون . . . . .
( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ

" صفحة رقم 132 "
إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ( ) إِيَّاهُ ( ضمير نصب منفصل وتقدم الكلام عليه في قوله : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( مستوفى . وقال ابن عطية : هنا ) إِيَّاهُ ( اسم مضمر أجري مجرى المظهرات في أنه يضاف أبداً ؛ انتهى ، وهذا مخالف لمذهب سيبويه ، لأن مذهب سيبويه إن ما اتصل ب ( أبا ) من دليل تكلم أو خطاب أو غيبة وهو حرف لا اسم أضيف إليه أياً لأن المضمر عنده لا يضاف لأنه أعرف المعارف ، فلو أضيف لزم من ذلك تنكره حتى يضاف ويصير إذ ذاك معرفة بالإضافة لا يكون مضمراً وهذا فاسد ، ومجيئه هنا مقدماً على فعله دليل على الاعتناء بذكر المفعول وعند الزمخشري إن تقديمه دليل على الحصر والاختصاص ، ولذلك قال : بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة ، والاختصاص عندنا والحصر فهم من سياق الكلام لا من تقديم المفعول على العامل و ) بَلِ ( هنا للإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال لما تضمنه الكلام السابق من معنى النفي لأن معنى الجملة السابقة النفي وتقديرها ما تدّعون أصنامكم لكشف العذاب وهذا كلام حق لا يمكن فيه الإضراب يعني الإبطال ، و ) مَا ( من قوله ) مَا تَدَّعُونَ ( الأظهر أنها موصولة أي فيكشف الذي تدعون . قال ابن عطية : ويصح أن تكون ظرفية ؛ انتهى . ويكون مفعول يكشف محذوفاً أي فيكشف العذاب مدة دعائكم أي ما دمتم داعيه وهذا فيه حذف المفعول وخروج عن الظاهر لغير حاجة ، ويضعفه وصل ) مَا ( الظرفية بالمضارع وهو قليل جدًّا إنما بابها إن توصل بالماضي تقول ألا أكلمك ما طلعت الشمس ولذلك علة ، أما ذكرت في علم النحو ، قال ابن عطية : ويصح أن تكون مصدرية على حذف في الكلام . وقال الزجاج : وهو مثل واسأل القرية ؛ انتهى . ويكون تقدير المحذوف فيكشف موجب دعائكم وهو العذاب ، وهذه دعوى محذوف غير متعين وهو خلاف الظاهر والضمير في ) إِلَيْهِ ( عائد على ) مَا ( الموصولة أي إلى كشفه ودعا بالنسبة إلى متعلق الدعاء يتعدى بإلى قال الله تعالى : ) وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ ( الآية . وقال الشاعر : وإن دعوت إلى جلي ومكرمة
يوماً سراة كرام الناس فادعينا
وتتعدى باللام أيضاً قال الشاعر :
وإن أدع للجلي أكن من حماتها
وقال آخر :
دعوت لما نابني مسوراً
وقال ابن عطية : والضمير في ) إِلَيْهِ ( يحتمل أن يعود إلى الله بتقدير فيكشف ما تدعون فيه إلى الله ؛

" صفحة رقم 133 "
انتهى . وهذا ليس بجيد لأن دعا بالنسبة إلى مجيب الدعاء إنما يتعدّى لمفعول به دون حرف جر قال تعالى : ) ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( ) أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ( ومن كلام العرب دعوت الله بمعنى دعوت الله إلا أنه يمكن أن يصحح كلامه بدعوى التضمين ضمن يدعون معنى يلجأون ، كأنه قيل فيكشف ما يلجأون فيه بالدّعاء إلى الله لكن التضمين ليس بقياس ولا يضار إليه إلا عند الضرورة ، ولا ضرورة عنا تدعو إليه وعلق تعالى الكشف بمشيئته فإن شاء أن يتفضل بالكشف فعل وإن لم يشأ لم يفعل لا يجب عليه شيء . قال الزمخشري : إن شاء إن أراد أن يتفضل عليكم ولم تكن مفسدة ؛ انتهى . وفي قوله : ولم تكن مفسدة دسيسة الاعتزال ، وظاهر قوله : وتنسون ما تشركون النسيان حقيقة والذهول والغفلة عن الأصنام لأن الشخص إذا دهمه ما لا طاقة له بدفعه تجرد خاطره من كل شيء إلا من الله الكاشف لذاك الداهم ، فيكاد يصير الملجأ إلى التعلق بالله والذهول عن من سواه فلا يذكر غير الله القادر على كشف مادهم . وقال الزمخشري : ) وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ( وتكرهون آلهتكم وهذا فيه بعد . وقال ابن عطية : تتركونهم وتقدم قوله هذا وسبقه إليه الزجاج فقال : تتركونهم لعلمكم أنهم في الحقيقة لا يضرون ولا ينفعون . وقال النحاس : هو مثل قوله ) لَقَدِ عَهِدْنَا إِلَى مِن رَّبِّهِ قَبْلُ فَنَسِىَ ). وقيل : يعرضون إعراض الناسي لليأس من النجاة من قبله ، و ) مَا ( موصولة أي وتنسون الذي تشركون . وقيل : ) مَا ( مصدرية أي وتنسون إشراككم ومعنى هذه الجمل بل لا ملجأ لكم إلا الله تعالى وأصنامكم مطرحة منسية قاله ابن عطية .
الأنعام : ( 42 ) ولقد أرسلنا إلى . . . . .
( وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ( هذا تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وإن عادة الأمم مع رسلهم التكذيب والمبالغة في قسوة القلوب حتى هم إذا أخذوا بالبلايا لا يتذللون لله ولا يسألونه كشفها ، وهؤلاء الأمم الذين بعث الله تعالى إليهم الرسل أبلغ انحرافاً وأشد شكيمة وأجلد من الذين بعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذ خاطبهم تعالى بقوله ) قُلْ أَرَأَيْتُكُم ( الآية . وأخبر أنهم عند الأزمات لا يدعون لكشفها إلا الله تعالى ، وفي الكلام حذف التقدير ) وَلَقَدْ أَرْسَلنَا الرُّسُلَ إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ ( فكذبوا فأخذناهم وتقدم تفسير البأساء والضراء والترجي هنا بالنسبة إلى البشر أي لو رأى أحد ما حل بهم لرجا تضرعهم وابتهالهم إلى الله في كشفه ، والأخذ الإمساك بقوة وبطش وقهر وهو هنا مجاز عن متابعة العقوبة والملازمة والمعنى لعاقبناهم في الدنيا .
الأنعام : ( 43 ) فلولا إذ جاءهم . . . . .
( فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ( ) لَوْلاَ ( هنا حرف تحضيض يليها الفعل ظاهراً أو مضمر أو يفصل بينهما بمعمول الفعل من مفعول به وظرف كهذه الآية ، فصل بين ) لَوْلاَ ( و ) تَضَرَّعُواْ ( بإذ وهي معمولة لتضرعوا ، والتخضيض يدل على أنه لم يقع تضرعهم حين جاء البأس فمعناه إظهار معاتبة مذنب غائب وإظهار سوء فعله ليتحسر عليه المخاطب وإسناد المجيء إلى البأس مجاز عن وصوله إليهم والمراد أوائل البأس وعلاماته .
( وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ( أي صلبت وصبرت على ملاقاة العذاب لما أراد الله من كفرهم ، ووقوع ) لَكِنِ ( هنا حسن لأن المعنى انتفاء التذلل عند مجيء البأس ووجود القسوة الدالة على العتو والتعزز فوقعت ) لَكِنِ ( بين ضدين وهما اللين والقسوة ، وكذا إن كانت القسوة عبارة عن الكفر فعبر بالسبب عن المسبب والضراعة عبارة عن الإيمان فعبر بالسبب عن المسبب كانت أيضاً واقعة بين ضدين تقول : قسا قلبه فكفر وآمن فتضرع .

" صفحة رقم 134 "
) وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ ( يحتمل أن تكون الجملة داخلة تحت الاستدراك ويحتمل أن تكون استئناف إخبار ، والظاهر الأول فيكون الحامل على ترك التضرع قسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي كان الشيطان سبباً في تحسينها لهم .
الأنعام : ( 44 ) فلما نسوا ما . . . . .
( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء ( أي فلما تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس استدرجناهم بتيسير مطالبهم الدنيوية وعبر عن ذلك بقوله : ) فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء ( إذ يقتضي شمول الخيرات وبلوغ الطلبات .
( حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ( معنى هذه الجمل معنى قوله ) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( وفي الحديث الصحيح عن عقبة بن عامر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم ثم تلا ) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ ( الآية ، والأبواب استعارة عن الأسباب التي هيأها الله لهم المقتضية لبسط الرزق عليهم والإبهام في هذا العموم لتهويل ما فتح عليهم وتعظيمه وغياً الفتح بفرحهم بما أوتوا وترتب على فرحهم أخذهم بغتة أي إهلاكهم فجأة وهو أشد الإهلاك إذ لم يتقدم شعور به فتتوطن النفس على لقائه ، ابتلاهم أولاً بالبأساء والضراء فلم يتعظوا ثم نقلهم إلى ما أوجب سرورهم من إسباغ النعم عليهم فلم يجد ذلك عندهم ولا قصدوا الشكر ولا أصغوا إلى إنابة بل لم يحصلوا إلا على فرح بما أسبغ عليهم . قال محمد بن النضر الحارثي : أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة .
( فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ( أي باهتون بائسون لا يخبرون جواباً . وقرأ ابن عامر فتحنا بتشديد التاء والتشديد لتكثير الفعل وإذا هي الفجائية وهي حرف على مذهب الكوفيين وظرف مكان ، ونسب إلى سيبويه وظرف زمان وهو مذهب الرياشي والعامل فيها إذا قلنا بظرفيتها هو خبر المبتدإ أي ، ففي ذلك المكان ) هُمْ مُّبْلِسُونَ ( أي مكان إقامتهم وذلك الزمان ) هُمْ مُّبْلِسُونَ ( وأصل الإبلاس الإطراق لحلول نقمة أو زوال نعمة . قال الحسن : مكتئبون . وقال السدي : هالكون . وقال ابن كيسان : وقطرب : خاشعون . وقال ابن عباس : متحيرون . وقال الزجاج : متحسرون . وقال ابن جرير : الساكت عند انقطاع الحجة .
الأنعام : ( 45 ) فقطع دابر القوم . . . . .
( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( عبارة عن استئصالهم بالهلاك والمعنى : فقطع دابرهم ونبه على سبب الاستئصال بذكر الوصف الذي هو الظلم ، وهو هنا الكفر والدابر التابع للشيء من خلفه يقال : دبر الوالد الولد يدبره ، وفلان دبر القوم دبوراً ودبراً إذا كان آخرهم . وقال أمية بن أبي الصلت : فاستؤصلوا بعذاب خص دابرهم
فما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا

" صفحة رقم 135 "
قال أبو عبيدة : ) دَابِرُ الْقَوْمِ ( آخرهم الذي يدبرهم . وقال الأصمعي : الدابر الأصل يقال : قطع الله دابره أي أذهب أصله ، وقرأ عكرمة ) فَقُطِعَ دَابِرُ ( بفتح القاف والطاء والراء أي فقطع الله وهو التفات إذ فيه الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب .
( وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( قال الزمخشري : إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم وأجزل القسم ؛ انتهى . والذي يظهر أنه تعالى لما أرسل إلى هؤلاء الأمم كذبوهم وآذوهم فابتلاهم الله تارة بالبلاء ، وتارة بالرخاء فلم يؤمنوا فأهلكهم واستراح الرسل من شرهم وتكذيبهم وصار ذلك نعمة في حق الرسل إذ أنجز الله وعده على لسانهم بهلاك المكذبين فناسب هذا الفعل كله الختم بالحمد له .
الأنعام : ( 46 ) قل أرأيتم إن . . . . .
( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ( لما ذكر أولاً تهديدهم بإتيان العذاب أو الساعة كان ذلك أعظم من هذا التهديد ، فأكد خطاب الضمير بحرف الخطاب فقيل أرأيتكم ولما كان هذا التهديد أخف من ذلك لم يؤكد به ، بل اكتفى بخطاب الضمير فقيل ) أَرَءيْتُمْ ( وفي تلك وهذه الاستدلال على توحيد الله تعالى وأنه المتصرف في العالم الكاشف للعذاب والراد لما شاء بعد الذهاب ، وأن آلهتهم لا تغني عنهم شيئاً والظاهر من قوله ) أَخَذَ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ ( أنه ذهاب الحاسة السمعية والبصرية فيكون أخذاً حقيقياً . وقيل : هو أخذ معنوي والمراد إذهاب نور البصر بحيث يحصل العمى ، وإذهاب سمع الأذن بحيث يحصل الصمم ، وتقدم الكلام على إفراد السمع وجمع الأبصار وعلى الختم على القلوب في أول البقرة فأغنى عن إعادته . ومفعول ) أَرَءيْتُمْ ( الأول محذوف والتقدير قل أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله ، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية كما تقول : أرأيتك زيداً ما يصنع وقد قررنا أن ذلك من باب الأعمال أعمل الثاني وحذف من الأول وأوضحنا كيفية ذلك في الآية قبل هذه ، والضمير في ) بِهِ ( أفرده إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل تأتيكم بذلك أو يكون التقدير بما أخذ وختم عليه . وقيل : يعود على السمع بالتصريح وتدخل فيه القلوب والأبصار . وقيل : هو عائد على الهدى الذي يدل عليه المعنى لأن أخذ السمع والبصر والختم على القلوب سبب الضلال وسد لطرق الهداية ، و ) مِنْ إِلَهٍ ( استفهام معناه توقيفهم على أنه ليس ثم سواه فالتعلق بغيره لا ينفع . قال الحوفي : وحرف الشرط وما اتصل به في موضع نصب على الحال والعامل في الحال ) أَرَءيْتُمْ ( كقوله : اضربه إن خرج أي خارجاً ، وجواب الشرط ما تقدم مما دخلت عليه همزة الاستفهام ؛ انتهى ، وهذا الإعراب تخليط .
( انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ( روى أبو قرة المسيي عن نافع به ) أَنظُرْ ( بضم الهاء وهي قراءة الأعرج ، وانظر خطاب للسامع وتصريف الآيات قال مقاتل : نخوفهم بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب وبما صنع بالأمم السالفة . وقال ابن فورك : تصريفها مرة تأتي بالنقمة ومرة تأتي بالنعمة ومرة بالترغيب ومرة بالترهيب . وقيل : تتابع لهم الحجج وتضرب لهم الأمثال . وقيل : نوجهها إلى الإنشاء والإفناء والإهلاك . وقيل : الآيات على صحة توحيده وصدق نبيه والصدف والصدوف الإعراض والنفور . قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والسدي : ) يَصْدِفُونَ ( يعرضون ولا يعتبرون . وقرأ بعض

" صفحة رقم 136 "
القراء كيف نصرف من صرف ثلاثياً .
الأنعام : ( 47 ) قل أرأيتكم إن . . . . .
( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ( هذا تهديد ثالث فالأول بأحد أمرين : العذاب والساعة ، والثاني : بالأخذ والختم ، والثالث : بالعذاب فقط . قيل : ) بَغْتَةً ( فجأة لا يتقدم لكم به علم وجهرة تبدو لكم مخايلة ثم ينزل . وقال الحسن : ) بَغْتَةً ( ليلاً وجهرة نهاراً . وقال مجاهد : ) بَغْتَةً ( فجأة آمنين وجهرة وهم ينظرون ، ولما كانت البغتة تضمنت معنى الخفية صح مقابلتها للجهرة وبدىء بها لأنها أردع من الجهرة ، والجملة من قوله ) هَلْ يُهْلَكُ ( معناها النفي أي ما يهلك ) إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ( ولذلك دخلت إلا وهي في موضع المفعول الثاني لا رأيتكم والرابط محذوف أي هل يهلك به ؟ والأول من مفعولي ) أَرَأَيْتُكُم ( محذوف من باب الإعمال لما قررناه ، ولما كان التهديد شديداً جمع فيه بين أداتي الخطاب والخطاب لكفار قريش والعرب وفي ذكر الظلم تنبيه على علة الإهلاك والمعنى هل يهلك إلا أنتم لظلمكم ؟ وقرأ ابن محيصن : ) هَلْ يُهْلَكُ ( مبنياً للفاعل .
الأنعام : ( 48 ) وما نرسل المرسلين . . . . .
( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ ( أي ) مُبَشّرِينَ ( بالثواب ) وَمُنذِرِينَ ( بالعقاب وانتصب ) مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ ( على الحال وفيهما معنى العلية ، أي أرسلناهم للتبشير والإنذار لا لأن تقترح عليهم الآيات بعد وضوح ما جاؤوا به وتبيين صحته .
( فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ ( أي من صدق بقلبه وأصلح في عمله .
الأنعام : ( 49 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
( فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ( جعل ) الْعَذَابَ ( ماساً كأنه ذو حياة يفعل بهم ما شاء من الآلام . وقرأ علقمة : نمسهم العذاب بالنون من أمس وأدغم الأعمش العذاب بما كأبي عمرو . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش ) يَفْسُقُونَ ( بكسر السين .
الأنعام : ( 50 ) قل لا أقول . . . . .
( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ بِالْغَيْبِ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ ( قال الزمخشري : أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله وهي قسمة بين الخلق وأرزاقه وعلم الغيب ، وإني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلقه الله وأفضله وأقربه منزلة منه ، أي لم أدع الألوهية ولا الملكية لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة حتى تستبعدون دعواي وتستنكرونها ، وإنما ادّعيّ ما كان مثله لكثير من البشر وهو النبوة ، انتهى . وما قاله : من أن المعنى إني أقول لكم إني لست بإله فأنصف بصفاته من كينونة خزائنه عندي وعلم الغيب ، وهو قول الطبري ، والأظهر أنه يريد أنه بشر لا شيء عنده من خزائن الله ولا من قدرته ولا يعلم شيئاً مما غاب عنه قاله ابن عطية . وأما قول الزمخشري في الملائكة هم أشرف جنس خلقه الله وأفضله وأقربه منزلة فهو جار على مذهب المعتزلة من أن الملك أفضل خلق الله ، وقد استدل الجبائي بهذه الآية على أن الملائكة أفضل من الأنبياء قال : لأن معنى الآية لا أدّعيّ منزله فوق منزلتي فلولا أن الملك أفضل لم يصح ذلك . قال القاضي : إن كان الغرض مما نفى طريقة التواضع فالأقرب أن يدل على أن الملك أفضل وإن كان نفى قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على كونهم أفضل ؛ انتهى .
وقد تكلمنا على ذلك عند قوله : ) وَلاَ الْمَلَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ). وقال ابن عطية : وتعطى قوة اللفظ في هذه الآية أن الملك فضل من البشر وليس

" صفحة رقم 137 "
ذلك يلازم من هذا الموضع ، وإنما الذي يلزم منه أن الملك أعظم موقعاً في أنفسهم وأقرب إلى الله والتفضيل يعطيه المعنى عطاءً خفياً وهو ظاهر من آيات أخر وهي مسألة خلاف ، و ) مَا يُوحَى ( يريد به القرآن وسائر ما يأتي به الملك أي في ذلك عبر وآيات لمن تأمل ونظر ؛ انتهى . وقال الكلبي : ) خَزَائِنُ اللَّهِ ( مقدوراته من إغناء الفقير وإفقار الغني . وقال مقاتل : الرحمة والعذاب . وقيل : آياته . وقيل : مجموع هذا لقوله ) وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ). قيل : وهذه الثلاث جواب لما سأله المشركون ، فالأول جواب لقولهم : إن كنت رسولاً فاسأل الله حتى يوسع علينا خزائن الدنيا ، والثاني : جواب لقولهم إن كنت رسولاً فأخبرنا بما يقع في المستقبل من المصالح والمضار فنستعد لتحصيل تلك ودفع هذه ، والثالث : جواب قولهم : مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ؟ انتهى .
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : أعلم الغيب ما محله من الإعراب ؟ قلت : النصب عطفاً على محل قوله : ) خَزَائِنُ اللَّهِ ( لأنه من جملة المقول كأنه قال : لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول ؛ انتهى . ولا يتعين ما قاله ، بل الظاهر أنه معطوف على لا أقول لا معمول له فهو أمر أن يخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو قل وغاير في متعلق النفي فنفى قوله : ) عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ ( وقوله : ) إِنّى مَلَكٌ ( ونفى علم الغيب ولم يأت التركيب . ولا أقول : إني أعلم الغيب لأن كونه ليس عنده ) خَزَائِنُ اللَّهِ ( من أرزاق العباد وقسمهم معلوم ذلك للناس كلهم فنفى ادعاءه ذلك وكونه بصورة البشر معلوم أيضاً لمعرفتهم بولادته ونشأته بين أظهرهم ، فنفى أيضاً ادعاءه ذلك ولم ينفهما من أصلهما لأن انتفاء ذلك من أصله معلوم عندهم ، فنفى أن يكابرهم في ادعاء شيء يعلمون خلافه قطعاً . ولما كان علم الغيب أمراً يمكن أن يظهر على لسان البشر بل قد يدعيه كثير من الناس كالكهان وضراب الرمل والمنجمين ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد أخبر بأشياء من المغيبات وطابقت ما أخبر به نفي علم الغيب من أصله فقال : ( ولا أعلم الغيب تنصيصاً على محض العبودية والافتقار ) . وإن ما صدر عنه من إخبار بغيب إنما هو من الوحي الوارد عليه لا من ذات نفسه ، فقال : ) إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ ( كما قال فيما حكى الله عنه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء وكما أثر عنه عليه السلام لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمني ربي ، وجاء هذا النفي على سبيل الترقي فنفى أولاً ما يتعلق به رغبات الناس أجمعين من الأرزاق التي هي قوام الحياة الجسمانية ، ثم نفى ثانياً ما يتعلق به وتتشوف إليه النفوس الفاضلة من معرفة ما يجهلون وتعرّف ما يقع من الكوائن ثم نفى ثالثاً ما هو مختص بذاته من صفة الملائكة التي هي مباينة لصفة البشرية فترقى في النفي من عام إلى خاص إلى أخص ، ثم حصر ما هو عليه في أحواله كلها بقوله : ) إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ ( أي أنا متبع ما أوحى الله غير شارع شيئاً من جهتي ، وظاهره حجة لنفاة القياس .
( قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ ( أي لا يستوي الناظر المفكر في الآيات والمعرض الكافر الذي يهمل النظر . قال ابن عباس : الكافر والمؤمن . وقال ابن جبير : الضال والمهتدي . وقيل : الجاهل والعالم . وقال الزمخشري : مثل للضلاّل والمهتدين ويجوز أن يكون مثلاً لمن اتبع ما يوحى إليه ومن لم يتبع أو لمن ادعى المستقيم ، وهو النبوة والمحال وهو الألوهية والملكية .
( أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ

" صفحة رقم 138 "
هذا عرض وتحضيض معناه الأمر أي ففكروا ولا تكونوا ضالين أشباه العميّ أو فكروا فتعلمون ، أي لا أتبع إلا ما يوحى إليّ أو فتعلمون إني لا أدّعي ما لا يليق بالبشر .
الأنعام : ( 51 ) وأنذر به الذين . . . . .
( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبّهِمْ ( لما أخبر أنه لا يتبع إلا ما يوحى إليه أمره الله تعالى أن ينذر به فقال : ) وَأَنذِرْ بِهِ ( أي بما أوحي إليك . وقيل : يعود على الله أي بعذاب الله . وقيل : يعود على الحشر وهو مأمور بإنذار الخلائق كلهم وإنما خص بالإنذار هنا من خاف الحشر لأنه مظنة الإيمان ، وكأنه قيل : الكفرة المعرضون دعهم ورأيهم وأنذر بالقرآن من يرجى إيمانه . وروى أبو صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في الموالي منهم بلال وصهيب وخباب وعمار ومهجع وسلمان وعامر بن بهيرة وسالم مولى أبي حذيفة ، وظاهر قوله : ) الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبّهِمْ ( عموم من خاف الحشر وآمن بالبعث من مسلم ويهودي ونصراني فلا يتخصص بالمسلمين المقرين بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه لعلهم يتقون ، أي يدخلون في زمرة أهل التقوى ولا بأهل الكتاب ولا بناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا ، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار دون المتمردين منهم و ) يَخَافُونَ ( باق على حقيقته أي يخافون ما يترتب على الحشر من مؤاخذتهم بذنوبهم ، وأما الحشر فمتحقق . وقال الطبري : ) يَخَافُونَ ( هنا يعلمون ومعنى ) إِلَى رَبّهِمُ ( أي إلى جزاء ربهم أي موعوده وقد تعلق بهذه الآية المجسمة بأن الله في حيز ومكان مختص وجهة معينة لأن كلمة إلى الانتهاء الغاية .
( لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ( ، قال الزمخشري : في موضع الحال من ) يُحْشَرُواْ ( بمعنى ) يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ ( غير منصورين ولا مشفوعاً لهم ولا بد من هذه الحال ، لأن كلاًّ محشور فالخوف إنما هو الحشر على هذه الحال . وقال ابن عطية : إن جعلناه داخلاً في الخوف كان في موضع الحال أي ) يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ ( في حال من لا ولي له ولا شفيع فهي مختصة بالمؤمنين المسلمين لأن اليهود والنصارى يزعمون أن لهم شفعاء وأنهم أبناء الله ونحو هذا من الأباطيل وإن جعلناه إخباراً من الله عن صفة الحال يومئذ فهي عامة للمسلمين وأهل الكتاب .
( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ترجئة لحصول تقواهم إذا حصل الإنذار .
الأنعام : ( 52 ) ولا تطرد الذين . . . . .
( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ( قال سعد بن أبي وقاص : نزلت فينا ستة فيّ وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال قالت قريش : إنا لا نرضى أن نكون لهؤلاء تبعاً فاطردهم عنك فنزلت . وقال خباب بن الأرت : فينا نزلت كنا ضعفاء عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) يعلمنا بالغداة والعشي ما ينفعنا ، فقال الأقرع بن حابس وعيينة بن حصين : إنا من أشراف قومنا وإنا نكره أن يرونا معهم فاطردهم إذا جالسناك فنزلت ، فأتيناه وهو يقول : سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته وهذا فيه بعد ، لأن الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم ينذروا إلا بالمدينة . وفي رواية عن خباب فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تعالى ) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ ( الآية . فكان يقعد معنا فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه قمنا وتركناه حتى يقوم . وروى العوفي عن ابن عباس إن ناساً من الأشراف قالوا : نؤمن بك وإذا صلينا خلفك فأخر هؤلاء الذين معك فيصلوا خلفنا فيكون الطرد

" صفحة رقم 139 "
تأخرهم من الصف لا طردهم من المجلس . ورويت هذه الأسباب بزيادة ونقص ومضمونها أن ناساً من أشراف العرب سألوا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) طرد فقراء المؤمنين عنه فنزلت ، ولما أمر تعالى بإنذار غير المتقين ) لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( أردف ذلك بتقريب المتقين وإكرامهم ونهاه عن طردهم ووصفهم بموافقة ظاهرهم لباطنهم من دعاء ربهم وخلوص نياتهم ، والظاهر من قوله تعالى : ) يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ( يسألونه ويلجأون إليه ويقصدونه بالدعاء والرغبة ) بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ ( كناية عن الزمان الدائم ولا يراد بهما خصوص زمانهما كما تقول : الحمد لله بكرة وأصيلاً تريد في كل حال فكنى بالغداة عن النهار وبالعشي عن الليل ، أو خصهما بالذكر لأن الشغل فيهما غالب على الناس ومن كان في هذين الوقتين يغلب عليه ذكر الله ودعاؤه كان في وقت الفراغ أغلب عليه . وقيل : المراد بالدعاء الصلاة المكتوبة . فقال الحسن ومقاتل : هي الصلاة بمكة التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشياً . وقال قتادة ومجاهد : في رواية عنه هي صلاة الصبح والعصر . وقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد في رواية وابراهيم : هي الصلوات الخمس . وقال بعض القصاص : إنه الاجتماع إليهم غدوة وعشياً فأنكر ذلك ابن المسيب وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهما ، وقالوا : إلا الآية في الصلوات في الجماعة . وقال أبو جعفر : هي قراءة القرآن وتعلمه . وقال الضحاك : العبادة . وقال إبراهيم في رواية : ذكر الله . وقال الزجاج : دعاء الله تعالى بالتوحيد والإخلاص وعبادته . وقرأ الجمهور ) بِالْغَدَاةِ ). وقرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن ومالك بن دينار والحسن ونصر بن عاصم وأبو رجاء العطاردي بالغدو . وروي عن أبي عبد الرحمن أيضاً بالغدوّ بغيرها . وقرأ ابن أبي عبلة : بالغدوات والعشيات بالألف فيهما على الجمع ، والمشهور في غدوة أنها معرفة بالعلمية ممنوعة الصرف . قال الفرّاء : سمعت أبا الجرّاح يقول : ما رأيت كغدوة قط يريد غداة يومه ، قال : ألا ترى أن العرب لا تضيفها فكذا لا تدخلها لألف واللام إنما يقولون : جئتك غداة الخميس ؛ انتهى . وحكى سيبويه والخليل أن بعضهم ينكرها فيقول : رأيته غدوة بالتنوين وعلى هذه اللغة قرأ ابن عامر ومن ذكر معه وتكون إذ ذاك كفينة . حكى أبو زيد : لقيته فينة غير مصروف ولقيته الفينة بعد الفينة أي الحين بعد الحين ولما خفيت هذه اللغة على أبي عبيد أساء الظن بمن قرأ هذه القراءة فقال : إنما نرى ابن عامر والسلمي قرآ تلك القراءة اتباعاً للخط وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على القراءة بها ، لأنهم كتبوا الصلاة والزكاة بالواو ولفظهما على تركها وكذلك الغداة على هذا وجدنا العرب ؛ انتهى . وهذا من أبي عبيد جهل بهذه اللغة التي حكاها سيبويه والخليل وقرأ بها هؤلاء الجماعة وكيف يظن بهؤلاء الجماعة القرّاء أنهم إنما قرؤا بها لأنها مكتوبة في المصحف بالواو والقراءة ، إنما هي سنة متبعة وأيضاً فابن عامر عربي صريح كان موجوداً قبل أن يوجد اللحن لأنه قرأ القرآن على عثمان بن عفان ونصر بن عاصم أحد العرب الأئمة في النحو ، وهو ممن أخذ علم النحو عن أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو والحسن البصري من الفصاحة بحيث يستشهد بكلامه فكيف يظن بهؤلاء إنهم لحنوا ؟ انتهى . واغتروا بخط المصحف ولكن أبو عبيدة جهل هذه اللغة وجهل نقل هذه القراءة فتجاسر على ردها عفا الله عنه ، والظاهر أن العشي مرادف للعشية ألا ترى قوله : ) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِى

" صفحة رقم 140 "
ّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ). وقيل : هو جمع عشية ومعنى ) يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ( يخلصون نياتهم له في عبادتهم ويعبر عن ذات الشيء وحقيقته بالوجه . وقال ابن عباس : يطلبون ثواب الله والجملة في موضع الحال وقد استدل بقوله : ) وَجْهَهُ ( من أثبت الأعضاء لله تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً .
( مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء ( قال الحسن والجمهور : الحساب هنا حساب الأعمال . وقيل : حساب الأرزاق أي لا ترزقهم ولا يرزقونك حكاه الطبري . وقال الزمخشري : كقوله : ) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبّى ( وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم فقال : ) مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء ( بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه الله تعالى في أعمالهم وإن كان الأمر كما يقولون عند الله ، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك ، كما إن حسابك عليك لا يتعداك إليهم كقوله ) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( ؛ انتهى . ولا يمكن ما ذكره من الترديد في قوله : وإن كان الأمر إلى آخره لأنه تعالى قد أخبر بأنهم ) يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ( وإخبار الله تعالى هو الصدق الذي لا شك فيه فلا يقال فيهم وإن كان الأمر كما يقولون وإن كان لهم باطن غير مرضي لأنه فرض مخالف لما أخبر الله تعالى به من خلوص بواطنهم ونياتهم له تعالى .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما كفى قوله : ) مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء ( حتى ضم إليه ) مَّا مِن حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء ( ( قلت ) : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصدهما مؤدّي واحد وهو المعنى في قوله ) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه ؛ انتهى . وقوله : كأنه قيل لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه تركيب غير عربي ، لا يجوز عود الضمير هنا غائباً ولا مخاطباً لأنه إن أعيد غائباً فلم يتقدّم له اسم مفرد غائب يعود عليه ، إنما يتقدّم قوله : ولا هم ولا يمكن العود إليه على اعتقاد الاستغناء بالمفرد عن الجمع لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم وإن أعيد مخاطباً فلم يتقدّم له مخاطب يعود عليه إنما تقدم قوله : لا تؤاخذ أنت ، ولا يمكن العود إليه لأنه مخاطب فلا يعود عليه غائباً ولو أبرزته مخاطباً لم يصح التركيب أيضاً وإصلاح هذا التركيب أن يقال : لا يؤاخذ كل واحد منكم ولا منهم بحساب صاحبه أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك ، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم فتغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وزيد تضربان ، والظاهر أن الضمائر كلها عائدة على ) الَّذِينَ يَدْعُونَ ). وقيل : الضمير في ) مِنْ حِسَابِهِم ( وفي ) عَلَيْهِمْ ( عائد على المشركين وتكون الجملتان اعتراضاً بين النهي وجوابه ، قال الزمخشري : والمعنى لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الضمير في ) حِسَابَهُمْ ( و ) عَلَيْهِمْ ( للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين أي ما عليك منهم آمنوا ولا كفروا فتطر هؤلاء رعياً بذلك ، والضمير في تطردهم عائد على الضعفة من المؤمنين ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء أبداً سبب ما قبلها وذلك لا يبين إذا كانت الضمائر كلها للمؤمنين . وحكى الطبري أن الحساب هنا إنما هو في رزق الدنيا أي لا ترزقهم ولا يرزقونك ، قال : فعلى هذا تجيء الضمائر كلها للمؤمنين ؛ انتهى . ومن في ) مِنْ حِسَابِهِم ( وفي ) مِنْ حِسَابِكَ ( مبعضة في موضع نصب على الحال في ) مِنْ حِسَابِهِم ( وذو الحال هو من شيء لأنه

" صفحة رقم 141 "
لو تأخر من حسابهم لكان في موضع النعت لشيء فلما تقدّم انتصب على الحال و ) عَلَيْكَ ( في موضع الخبر لما إن كانت حجازية ، وأجزنا توسط خبرها إذا كانت ظرفاً أو مجروراً وفي موضع خبر المبتدإ إن لم نجز ذلك أو اعتقدنا أن ما تميمية وأما في ) مِنْ حِسَابِكَ ( فقيل : هو في موضع نصب على الحال ويضعف ذلك بأن الحال إذا كان العامل فيها معنى الفعل لم يجز تقديمها عليه خصوصاً إذا تقدمت على العامل وعلى ذي الحال . وقيل : يجوز أن يكون الخبر ) مِنْ حِسَابِكَ ( و ) عَلَيْهِمْ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ ( على هذا تبيينااً لا حالاً ولا خبراً وانظر إلى حسن اعتنائه بنبيه وتشريفه بخطابه حيث بدأ به في الجملتين معاً فقال : ) مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء ( ثم قال : ) وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء ( فقدم خطابه في الجملتين وكان مقتضى التركيب الأول لو لوحظ أن يكون التركيب الثاني ) وَمَا عَلَيْهِمْ مّنْ حِسَابِكَ مِن شَىْء ( لكنه قدم خطاب الرسول وأمره تشريفاً له عليهم واعتناء بمخاطبته وفي هاتين الجملتين رد العجز على الصدر ، ومنه قول الشاعر : وليس الذي حللته بمحلل
وليس الذي حرمته بمحرّم
) فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( الظاهر أن قوله : ) فَتَطْرُدَهُمْ ( جواب لقوله ) مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء ( يكون النصب هنا على أحد معنيي النصب في قولك : ما تأتينا فتحدّثنا لأن أحد معنيي هذا ما تأتينا محدثاً إنما تأتي ولا تحدث ، وهذا المعنى لا يصح في الآية والمعنى الثاني ما تأتينا فكيف تحدثنا ؟ أي لا يقع هذا فكيف يقع هذا وهذا المعنى هو الذي يصح في الآية أن لا يكون حسابهم عليك فيكون وقع الطرد ، وأطلقوا جواب أن يكون ) فَتَطْرُدَهُمْ ( جواباً للنفي ولم يبينوا كيفية وقوعه جواباً والظاهر في قوله : ) فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( أن يكون معطوفاً على ) فَتَطْرُدَهُمْ ( والمعنى الإخبار بانتفاء حسابهم وانتفاء الطرد والظلم المتسبب عن الطرد ، وجوّزوا أن يكون ) فَتَكُونُ ( جواباً للنهي في قوله : ) وَلاَ تَطْرُدِ ( كقوله : ) لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ( وتكون الجملتان وجواب الأولى اعتراضاً بين النهي وجوابه ، ومعنى ) مِنَ الْظَّالِمِينَ ( من الذين يضعون الشيء في غير مواضعه .
2 ( ) وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَاؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الاٌّ يَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّه

" صفحة رقم 142 "
ِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الاٌّ مْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ( )
الأنعام : ( 53 ) وكذلك فتنا بعضهم . . . . .
( وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا ( الكاف للتشبيه في موضع نصب والإشارة بذلك إلى فتون سابق وقد تقدم ذكر أمم رسل وإرسالهم مبشرين ومنذرين ، وتقسيم أممهم إلى مؤمن ومكذب فدل ذلك على أن اتباع الرسل مختلفون وواقع فيهم الفتون لا محالة ؛ كما وقع في هذه الأمة فشبه تعالى ابتلاء هذه الأمة واختبارها بابتلاء الأمم السالفة أي حال هذه الأمّة حال الأمم السابقة في فتون بعضهم ببعض والفتون بالغني والفقر أو بالشرف والوضاعة والقوّة والضعف . قال الزمخشري : ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناس ببعض أي ابتليناهم به وذلك إن المشركين كانوا يقولون للمسلمين ) أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا ( أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بيننا بالخير نحواً أألقي الذكر عليه من بيننا لو كان خيراً ما سبقونا إليه ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك خذلانهم فافتتنوا حتى كان افتتانهم سبباً لهذا القول لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول متقوّل ؛ انتهى . وآخر كلامه على طريقة المعتزلة من تأويل الفتنة التي نسبها تعالى إليه بالخذلان لأن جرياً على عادته . قال ابن عطية : ابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى ، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوماً لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيهم قدراً ومنزلة ، والإشارة بذلك إلى من ذكر من ظلمهم أن تطرد الضعفة ؛ انتهى . ولا ينتظم هذا التشبيه إذ يصير التقدير ومثل ذلك أي طلب الطرد ) فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ( والذي يتبادر إليه الذهن إنك إذا قلت : ضربت مثل ذلك إنما يفهم منه مثل ذلك الضرب لا أنه تقع المماثلة في غيره واللام في ) لّيَقُولواْ ( الظاهر أنها لام كي أي هذا الابتلاء لكي يقولوا : هذه المقالة على سبيل الاستفهام لأنفسهم والمناجاة لها ، ويصير المعنى ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سبباً للنظر لمن هدى ومن أثبت أن اللام تكون للصيرورة ، جوز هنا أن تكون للصيرورة ويكون قولهم على سبيل الاستحقاق ) وَهَؤُلاء ( إشارة إلى المؤمنين ) وَمِنْ اللَّهُ عَلَيْهِمُ ( أي بزعمهم إن دينهم منه تعالى .
( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ( هذا استفهام معناه التقرير والردّ على أولئك القائلين أي الله أعلم بمن يشكر فيضع فيه هدايته دون من يكفر فلا يهديه ، وجاء لفظ الشكر هنا في غاية من الحسن إذ تقدم من قولهم : ) أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم ( أي أنعم عليهم فناسب ذكر الأنعام لفظ الشكر ؟ والمعنى أنه تعالى عالم بهؤلاء المنعم عليهم الشاكرين لنعمائه وتضمن العلم معنى الثواب والجزاء لهم على شكرهم فليسوا موضع استخفافكم ولا استعجابكم . وقيل : بالشاكرين من منّ عليهم بالإيمان دون الرؤساء الذين علم منهم الكفر . وقيل : من يشكر على الإسلام إذا هديته . وقيل : بمن يوفق للإيمان كبلال ومن دونه . وقال الزمشخري : أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق ؛ انتهى . وهو على طريقة الاعتزال .
الأنعام : ( 54 ) وإذا جاءك الذين . . . . .
( وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ (

" صفحة رقم 143 "
الجمهور أنها نزلت في الذين نهى الله عن طردهم فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال : الحمد لله الذي جعل في أمتي من أبدأهم بالسلام . وقيل : الذين صوّبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة . وقال الفضيل بن عياض : قال قوم : قد أصبنا ذنوباً فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت . وقيل : نزلت في عمر حين أشار بإجابة الكفرة ولم يعلم أنها مفسدة ، وعلى هذه الأسباب يكون تفسير ) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ( فإن كان عنى بهم الستة الذين نهى عن طردهم فيكون من باب العام أريد به الخاص ويكون قوله ) سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( أمراً بإكرامهم وتنبيهاً على خصوصية تشريفهم بهذا النوع من الإكرام وإن كان عنى عمر حين اعتذر واستغفر وقال : ما أردت بذلك إلا الخير كان من إطلاق الجمع على الواحد المعظم ، والظاهر أنه يراد به المؤمنون من غير تخصيص لا بالستة ولا بغيرهم وإنها استئناف إخبار من الله تعالى بعد تقصي خبر أولئك الذين نهى عن طردهم ولو كانوا إياهم لكان التركيب الأحسن ، وإذا جاؤك والآيات هنا آيات القرآن وعلامات النبوة . وقال أبو عبد الله الرازي : آيات الله آيات وجوده وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه ووحدانيته وما سوى الله لا نهاية له ، ولا سبيل للعقول إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار ، ولما كان لا نهاية لها فكذلك ، لا نهاية في ترقي العبد في معارج تلك الآيات وهذا مشرع جملي لا نهاية لتفاصيله ، ثم إن العبد إذا كان موصوفاً بهذه الصفات فعندها أمر الله نبيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) بأن يقول لهم بسلام عليكم فيكون هذا التسليم بشارة بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة والنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخافات وموضع التغييرات والتبديلات ، وأما الكرامة بالوصول إلى الباقيات الصالحات المجردات المقدسات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال ؛ انتهى كلامه وهو تكثير لا طائل تحته طافح بإشارات أهل الفلسفة بعيد من مناهج المتشرّعين وعن مناحي كلام العرب ومن غلب عليه شيء حتى في غير مظانه ولله در القائل يغري منصور الموحدين بأهل الفلسفة من قصيدة : وحرق كتبهم شرقاً وغربا
ففيها كامن شرّ العلوم
يدب إلى العقائد من أذاها
سموم والعقائد كالجسوم
وقال المبرد : السلام في اللغة اسم من أسماء الله تعالى وجمعه سلامة ومصدر واسم شجر . وقال الزجاج : مصدر لسلم تسليماً وسلاماً كالسراح من سرّح والأداء من أدى . وقال عكرمة والحسن : أمر بابتداء السلام عليهم تشريفاً لهم . وقال ابن زيد : أمر بإبلاغ السلام عليهم من الله ، وقيل : معنى السلام هنا الدعاء من الآفات . وقال أبو الهيثم : السلام والتحية بمعنى واحد ومعنى السلام عليكم حياكم الله . وقال الزمخشري : إما أن يكون أمر بتبليغ سلام الله إليهم وإما أن يكون أمر بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم ؛ انتهى . وترديده إما وأما الأول قول ابن زيد ، والثاني قول عكرمة . وقال ابن عطية : لفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت ؛ انتهى . والتخصيص الذي يعينه النحاة في النكرة التي يبتدأ بها هو أن يتخصص بالوصف أو العمل أو الإضافة ، وسلام ليس فيه شيء من هذه التخصيصات وقد رام بعض النحويين أن يجعل جواز الابتداء بالنكرة راجعاً إلى التخصيص والتعميم والذي يظهر من كلام ابن عطية أنه يعني بقوله إذ قد تخصصت أي استعملت ، في الدعاء فلم تبق النكرة على مطلق مدلولها الوصفي إذ قد استعملت يراد بها أحد ما تحتمله النكرة

" صفحة رقم 144 "
) كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ( أي أوجبها والبارىء تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً إلا إذا أعلمنا أنه حتم بشيء فذلك الشيء واجب . وقيل : ) كِتَابَ ( وعد والكتب هنا في اللوح المحفوظ . وقيل : في كتاب غيره ، وفي صحيح البخاري إن الله تعالى كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي ، وهذه الجملة مأمور بقولها تبشيراً لهم بسعة رحمة الله وتفريحاً لقلوبهم .
( أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ( السوء : قيل : الشرك . وقيل المعاصي ، وتقدم تفسير عمل السوء بجهالة في قوله : ) إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة 1 فأغنى عن إعادته .
( ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( أي من بعد عمل السوء ) وَأَصْلَحَ ( شرط استدامة الإصلاح في الشيء الذي تاب منه . قرأ عاصم وابن عامر أنه بفتح الهمزتين فالأولى بدل من الرحمة والثانية خبر مبتدأ محذوف تقديره فأمره أنه أي أن الله غفور رحيم له ، ووهم النحاس فزعم أن قوله ) فَإِنَّهُ ( عطف على أنه وتكرير لها لطول الكلام وهذا كما ذكرناه وهم ، لأن ) مِنْ ( مبتدأ سواء كان موصولاً أو شرطاً فإن كان موصولاً بقي بلا خبر وإن كان شرطاً بقي بلا جواب . وقيل : إنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره عليه أنه من عمل . وقيل : فإنه بدل من أنه وليس بشيء لدخول الفاء فيه ولخلو ) مِنْ ( من خبر أو جواب . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والإخوان بكسر الهمزة فيهما الأولى على جهة التفسير للرحمة والثانية في موضع الخبر أو الجواب . وقرأ نافع بفتح الأولى على الوجهين السابقين وكسر الثانية على وجهها أيضاً ، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاها الزهراوي عن الأعرج . وحكى سيبويه عنه مثل قراءة نافع . وقال الداني : قراءة الأعرج ضد قراءة نافع و ) بِجَهَالَةٍ ( في موضع نصب على الحال أي وهو جاهل وما أحسن مساق هذا المقول أمره أولاً أن يقول للمؤمنين سلام عليكم فبدأ أولاً بالسلامة والأمن لمن آمن ثم خاطبهم ثانياً بوجوب الرحمة وأسند الكتابة إلى ربهم أي كتب الناظر لكم في مصالحكم والذي يربيكم ويملككم الرحمة فهذا تبشير بعموم الرحمة ، ثم أبدل منها شيئاً خاصاً وهو غفرانه ورحمته لمن تاب وأصلح ، ولو ذهب ذاهب إلى أن الرحمة مفعول من أجله وإن أنه في موضع نصب لكتب أي لأجل رحمته إياكم لم يبعد ولكن الظاهر أن الرحمة مفعول ) كِتَابَ ( واستدل المعتزلة بقوله : ) كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ( أنه لا يخلق الكفر في الكافر لأن الرحمة تنافي ذلك وتنافي تعذيبه أبد الآباد .
الأنعام : ( 55 ) وكذلك نفصل الآيات . . . . .
( وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاْيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( الكاف للتشبيه وذلك إشارة إلى التفصيل الواقع في هذه السورة أي ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه ومن ترى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده . وقيل : المعنى كما فصلنا في هذه السورة دليل على صحة التوحيد والنبوة والقضاء والقدر نفصل لك دليلنا وحججنا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل . وقيل : إشارة إلى التفصيل للأمم السابقة ومثل ذلك التفصيل لمن كان قبلكم نفصل لكم . وقال التبريزي : معناه كما بينا للشاكرين والكافرين . وقال ابن قتيبة : تفصيلها إتيانها متفرقة شيئاً بعد شيء . وقال تاج الفراء : الفصل بون ما بين الشيئين والتفصيل التبيين بين المعاني الملتبسة . وقال ابن عطية : والإشارة بقوله : ) وَكَذالِكَ ( إلى ما تقدم من النهي عن طرد المؤمنين وبيان فساد منزع المعارضين لذلك ، وتفصيل الآيات تبيينها وشرحها وإظهارها ؛ انتهى . واستبان يكون لازماً ومتعدّياً وتميم وأهل نجد يذكرون السبيل وأهل الحجاز يؤنثونها . وقرأ العربيان وابن كثير وحفص ) وَلِتَسْتَبِينَ ( بالتاء سبيل بالرفع . وقرأ الأخوان وأبو بكر وليستبين بالياء سبيل بالرفع فاستبان

" صفحة رقم 145 "
هنا لازمة أي ولتظهر سبيل المحرمين . وقرأ نافع ) وَلِتَسْتَبِينَ ( بتاء الخطاب سبيل بالنصب فاستبان هنا متعدية . فقيل : هو خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل له ظاهراً والمراد أمته لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان استبانها وخص ) سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( لأنه يلزم من استبانتها استبانة سبيل المؤمنين أو يكون على حذف معطوف لدلالة المعنى عليه التقدير سبيل المجرمين والمؤمنين . وقيل : خص ) سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( لأنهم الذين أثار وأما تقدم من الأقوال وهم أهم في هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم ، وظاهر المجرمين العموم وتأوله ابن زيد على أنه عنى بالمجرمين الآمرون بطرد الضعفة واللام في ) لتستبين ( متعلقة بفعل متأخر أي ) الاْيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( فصلناها لكم أو قبلها علة محذوفة وهو قول الكوفيين التقدير لنبين لكم ولتستبين . وقال الزمخشري : لنستوضح سبيلهم فتعامل كلاًّ منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل .
الأنعام : ( 56 ) قل إني نهيت . . . . .
( قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( أمره تعالى أن يجاهرهم بالتبري من عبادتهم غير الله ، ولما ذكر تعالى تفصيل الآيات لتستبين سبيل المبطل من المحق نهاه عن سلوك سبيلهم ومعنى نهيت زجرت . قال الزمخشري : بما ركب في من أدله العقل وبما أوتيت من أدلة السمع والذين يدعون الأصنام ، عبر عنها بالذين على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل وتدعون . قال ابن عباس : معناه تعبدون . وقيل : تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيداً سميته . وقيل : يدعون في أموركم وحوائجكم وفي قوله : ) تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة ، ولفظة ) نُهِيتُ ( أبلغ من النفي بلا ) أَعْبُدُ ( إذ فيه ورود تكليف .
( قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ ( أي ما تميل إليه أنفسكم من عبادة غير الله ولما كانت أصنامهم مختلفة كان لكل عابد صنم هوى يخصه فلذلك جمع ، وأهواءكم عام وغالب ما يستعمل في غير الخير ويعم عبادة الأصنام وما أمروا به من طرد المؤمنين الضعفاء وغير ذلك مما ليس بحق وهي أعم من الجملة السابقة وأنص على مخالفتهم ، وفي قوله ) أَهْوَاءكُمْ ( تنبيه على السبب الذي حصل منه الضلال وتنبيه لمن أراد اتباع الحق ومجانبة الباطل كما قال ابن دريد : وآفة العقل الهوى فمن علا
على هواه عقله فقد نجا
) قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( المعنى إن اتبعت أهواءكم ضللت وما اهتديت والجملة من قوله : ) وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( مؤكدة لقوله ) قَدْ ضَلَلْتُ ( وجاءت تلك فعلية لتدل على التجدد وهذه اسمية لتدل على الثبوت فحصل نفي تجدد الضلال وثبوته وجاءت رأس آية . وقرأ السلمي وابن وثاب وطلحة ) ضَلَلْتُ ( بكسر فتحة اللام وهي لغة ، وفي التحرير قرأ يحيى وابن أبي ليلى هنا في السجدة في أئذا ضللنا بالصاد غير معجمة ويقال صل اللحم أنتن ويروى ضللنا أي دفنا في الضلة وهي الأرض الصلبة رواه أبو العباس عن مجاهد بن الفرات في كتاب الشواذله .
الأنعام : ( 57 ) قل إني على . . . . .
( قُلْ إِنّى عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَّبّى ( أي على شريعة واضحة وملة صحيحة . وقيل : البينة هي المعجزة التي تبين صدقي وهي القرآن ، قالوا : ويجوز أن تكون التاء في ) بَيّنَةً ( للمبالغة والمعنى على أمر بين لما نفي أن يكون متبعاً للهوى نبه على ما يجب اتباعه وهو الأمر الواضح من الله تعالى .
( وَكَذَّبْتُم بِهِ ( إخبار منه عنهم أنهم كذبوا به والظاهر عود الضمير على الله أي وكذبتم بالله . وقيل : عائد على ) بَيّنَةً ( لأن معناه على أمر بين . وقيل : على البيان الدال عليه بينة . وقيل : على القرآن .

" صفحة رقم 146 "
) مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ( الذي استعجلوا به قيل الآيات المقترحة قاله الزجاج . وقيل : العذاب ورجح بأن الاستعجال لم يأت في القرآن إلا للعذاب لأنهم لم يستعجلوا بالآيات المقترحة وبأن لفظ ) وَكَذَّبْتُم بِهِ ( يتضمن أنكم واقعتم ما أنتم تستحقون به العذاب إلا أن ذلك ليس لي . قال الزمخشري : يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم : فأمطر علينا حجارة من السماء .
( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ( أي الحكم لله على الإطلاق وهو الفصل بين الخصمين المختلفين بإيجاب الثواب والعقاب . وقيل : القضاء بإنزال العذاب وفيه التفويض العام لله تعالى . يقضي الحق هي قراءة العربيين والأخوين أي يقضي القضاء الحق في كل ما يقضى فيه من تأخير أو تعجيل ، وضمن بعضهم يقضي معنى ينفذ فعداه إلى مفعول به . وقيل : يقضي بمعنى يصنع أي كل ما يصنعه فهو حق قال الهذلي : وعليهما مسدودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
أي صنعهما وقيل حذف الباء والأصل بالحق ، ويؤيده قراءة عبد الله وأبي وابن وثاب والنخعي وطلحة والأعمش يقضي بالحق بياء الجر وسقطت الباء خطأ لسقوطها لفظاً لالتقاء الساكنين . وقرأ مجاهد وابن جبير يقضي بالحق .
( وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ( وفي مصحف عبد الله وهو أسرع الفاصلين . وقرأ ابن عباس والحرميان وعاصم ) يَقُصُّ الْحَقَّ ( من قص الحديث كقوله ) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( أو من قص الأثر أي اتبعه . وحكى أن أبا عمرو بن العلاء سئل أهو يقص الحق أو يقضي الحق ؟ فقال : لو كان يقص لقال وهو خير القاصين أقرأ حد بهذا وحيث قال ) وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ( فإنما يكون الفصل في القضاء ؛ انتهى . ولم يبلغ أبا عمرو أنه قرىء بها ويدل على ذلك قوله : أقرأ بها أحد ولا يلزم ما قال ، فقد جاء الفصل في القول قال تعالى : إنه لقول فصل وقال : ) الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ( ، وقال : ) نُفَصّلُ الآيَاتِ ( فلا يلزم من ذكر الفاصلين أن يكون معيناً ليقضي و ) خَيْرٌ ( هنا أفعل التفضيل على بابها . وقيل : ليست على بابها لأن قضاءه تعالى لا يشبه قضاء ولا يفصل كفصله أحد وهذا الاستدلال يدل على أنها بابها .
الأنعام : ( 58 ) قل لو أن . . . . .
( قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الاْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( أي لو كان في قدرتي الوصول إلى ما تستعجلون به من اقتراح الآيات أو من حلول العذاب لبادرت إليه ووقع الانفصال بيني وبينكم . وروي عن عكرمة في ) لَقُضِىَ الاْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( أي لقامت القيامة وما روي عن ابن جريج من أن المعنى لذبح الموت لا يصح ولا له هنا معنى . وقال الزمخشري و ) مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ( من العذاب لأهلكنكم عاجلاً غضباً لربي وامتعاضاً من تكذيبكم به ولتخلصت منكم سريعاً ؛ انتهى . وهو قول ابن عباس لم أمهلكم ساعة ولأهلكنكم . ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ( الظاهر أن المعنى والله أعلم بكم فوضع الظاهر المشعر بوصفهم بالظلم موضع المضمر ومعنى ) أَعْلَمُ ( بهم أي بمجازاتهم ففيه وعيد وتهديد . وقيل : بتوقيت عقابهم وقيل : بما آل أمرهم من هداية بعض واستمرار بعض . وقيل : بمن ينبغي أن يؤخذ وبمن يمهل . وقيل : بما

" صفحة رقم 147 "
تقتضيه الحكمة من عذابهم .
2 ( ) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الاٌّ رْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاٌّ يَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِىءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَلَاكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الاٌّ رْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِىإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( )

" صفحة رقم 148 "
الأنعام : ( 59 ) وعنده مفاتح الغيب . . . . .
السقوط : الوقوع من علو . الورقة : واحدة الورق من النبات والكاغد وهي معروفة . الرطب واليابس معروفان يقال رطب فهو رطب ورطيب ويبس وييبس ، وشذ فيه يبس بحذف الياء وكسر الباء . الكرب الغم يأخذ بالنفس كربت الرجل فهو مكروب . قال الشاعر : ومكروب كشفت الكرب عنه
بطعنة فيصل لما دعاني
الشيعة : الفرقة تتبع الأخرى ويجمع على أشياع ، وشيعت فلاناً اتبعته وتقول : العرب شاعكم السلام أي اتبعكم وأشاعكم الله السلم أي اتبعكم . الإبسال : تسليم المرء نفسه للهلاك ويقال أبسلت ولدي أرهنته ، قال الشاعر : وابسالي بني بغير جرم
بعوناه ولا بدم مراق
بعوناه جنيناه والبعوا الجناية . الحميم : الماء الحار . الحيرة : التردد في الأمر لا يهتدي إلى مخرج منه ومنه تحير الماء في الغيم يقال حار يحار حيرة وحيراً وحيراناً وحيرورة . الصور : جمع صورة والصور القرن بلغة أهل اليمن . قال : نحن نطحناهم غداة الجمعين
بالشامخات في غبار النقعين
نطحاً شديداً لا كنطح الصورين
) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( لما قال تعالى : إن الحكم إلا لله وقال هو أعلم بالظالمين بعد قوله ) مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ( انتقل من خاص إلى عام وهو علم الله بجميع الأمور الغيبية ، واستعارة للقدرة عليها المفاتح لما كانت سبباً للوصول إلى الشيء فاندرج في هذا العام ما استعجلوا وقوعه وغيره . والمفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهي الآية التي يفتح بها ما أغلق . قال الزهراوي : ومفتح أفصح من مفتاح ويحتمل أن يكون جمع مفتاح لأنه يجوز في مثل هذا أن لا يؤتى فيه بالياء قالوا : مصابح ومحارب وقراقر في جميع مصباح وقرقور . وقرأ ابن السميقع : مفاتيح بالياء وروي عن بعضهم مفتاح الغيب على التوحيد . وقيل : جمع مفتح بفتح الميم ويكون للمكان أي أماكن الغيب ومواضعها يفتح عن المغيبات ويؤيده ما روي عن ابن عباس إنها خزائن المطر والنبات ونزول العذاب . وقال السدي : وغيره خزائن الغيب . وروي عن ابن عمر عنه عليه السلام أنه قال : ( مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ) ، ( إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ( إلى آخر السورة . وقيل : ) مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ( الأمور التي يستدلّ بها على الغائب فتعلم حقيقته من قولك : فتحت على الإمام إذا عرّفته ما نسي . وقال أبو مسعود : أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتح الغيب . وروي عن ابن عباس أنها خزائن غيب السموات والأرض من الأقدار

" صفحة رقم 149 "
والأرزاق . وقال عطاء : ما غاب من الثواب والعقاب وما تصير إليه الأمور . وقال الزجاج : الوصلة إلى علم الغيب إذا استعلم . وقيل : عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال . وقيل : ما لم يكن هل يكون أم لا يكون ؟ وما يكون كيف يكون وما لا يكون إن كان كيف يكون ؟ و ) لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( حصر أنه لا يعلم تلك المفاتح ولا يطلع عليها غيره تعالى ، ولقد يظهر من هؤلاء المنتسبة إلى الصوف أشياء من ادعاء علم المغيبات والاطلاع على علم عواقب أتباعهم وأنهم معهم في الجنة مقطوع لهم ولأتباعهم بها يخبرون بذلك على رؤوس المنابر ولا ينكر ذلك أحد هذا مع خلوهم عن العلوم يوهمون أنهم يعلمون الغيب . وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ومن زعم أن محمداً يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول : ) قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ( وقد كثرت هذه الدّعاوي والخرافات في ديار مصر وقام بها ناس صبيان العقول يسمون بالشيوخ عجزوا عن مدارك العقل والنقل وأعياهم طلاب العلوم : فارتموا يدعون أمراً عظيما
لم يكن للخليل لا والكليم
بينما المرء منهم في انسفال
أبصر اللوح ما به من رقوم
فجنى العلم منه غضاً طريا
ودرى ما يكون قبل الهجوم
إن عقلي لفي عقال إذا ما
أنا صدقت بافتراء عظيم
) وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( لما كان ذكره تعالى ) مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ( أمراً معقولاً أخبر تعالى باستئثاره بعلمه واختصاصه به ذكر تعلق علمه بهذا المحسوس على سبيل العموم ثم ذكر علمه بالورقة والحبة والرطب واليابس على سبيل الخصوص ، فتحصل إخباره تعالى بأنه عالم بالكليات والجزئيات مستأثر بعلمه وما نعلمه نحن وقدم البر لكثرة مشاهدتنا لما اشتمل عليه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والحيوان والنبات والمعادن أو على سبيل الترقي إلى ما هو أعجب في الجملة ، لأن ما فيه من أجناس الحيوانات أعجب وطوله وعرضه أعظم والبر مقابل البحر . وقيل : ) الْبَرّ ( القفار ) وَالْبَحْرِ ( المعروف فالمعنى ويعلم ما في البر من نبات ودواب وأحجار وأمدار وغير ذلك ، وما في البحر من حيوان وجواهر وغير ذلك . وقال مجاهد : ) الْبَرّ ( الأرض القفار التي لا يكون فيها الماء ) وَالْبَحْرِ ( كل قرية وموضع فيه الماء . وقيل : لم يرد ظاهر البرّ والبحر وإنما أراد أن علمه تعالى محيط بنا وبما أعد لمصالحنا من منافعهما وخصا بالذكر لأنهما أعظم مخلوق يجاوزنا .
( وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ( ) مِنْ ( زائدة لاستغراق جنس الورقة و ) يَعْلَمُهَا ( مطلقاً قبل السقوط ومعه وبعده . قال الزجاج : ) يَعْلَمُهَا ( ساقطة وثابتة كما تقول : ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه ليس تأويله في حال مجيئه فقط . وقيل : يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء . وقيل : يعلمها كيف انقلبت ظهراً لبطن إلى أن وقعت على الأرض ، ( يَعْلَمُهَا ( في موضع الحال من ) وَرَقَةٍ ( وهي حال من النكرة . كما تقول : ما جاء أحد إلا راكباً .
( وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الاْرْضِ ( قيل : تحت الأرض السابعة . وقيل : تحت التراب . وقيل : الحب الذي يزرع يخفيها الزرّاع تحت الأرض . وقيل : تحت الصخرة في أسفل الأرضين . وقيل : ولا حبة إلا يعلم متى تنبت ؟ ومن يأكلها ؟ ، وانظر إلى حسن ترتيب هذه

" صفحة رقم 150 "
المعلومات بدأ أولاً بأمر معقول لا ندركه نحن بالحس وهو قوله : ) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ( ثم ثانياً بأمر ندرك كثيراً منه بالحس وهو ) يَعْلَمُ مَا فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( وفيه عموم ثم ثالثاً بجزءين لطيفين أحدهما علوي وهو سقوط ورقة من علوّ إلى أسفل ، والثاني سفلي وهو اختفاء حبة في بطن الأرض . ودلت هذه الجمل على أنه تعالى عالم بالكليات والجزئيات وفيها ردّ على الفلاسفة في زعمهم أن الله لا يعلم الجزئيات ومنهم من يزعم أنه تعالى لا يعلم الكليات ولا الجزئيات حتى هو لا يعلم ذاته تعالى الله عن ذلك .
( وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( الرطب واليابس وصفان معروفان والمراد العموم في المتصف بهما ، وقد مثل المفسرون ذلك بمثل . فقيل : ما ينبت وما لا ينبت . وقيل : لسان المؤمن ولسان الكافر . وقيل : العين لباكية من خشية الله والعين الجامدة للقسوة ، وأما ما حكاخ النقاش عن جعفر الصادق أن الورقة هي السقط من أولاد بني آدم والحبة يراد بها الذي ليس بسقط ، والرّطب المراد به الحيّ واليابس يراد به الميت فلا يصح عن جعفر وهو من تفسير الباطنية لعنهم الله . وقال مقاتل في كتاب مبين : هو اللوح المحفوظ . وقال الزجاج : كناية عن علم الله المتيقن وهذا الاستثناء جار مجرى التوكيد لأن قوله : ولا حبة ) وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ ( معطوف على قوله ) مِن وَرَقَةٍ ( والاستثناء الأول منسحب عليها كما تقول : ما جاءني من رجل إلا أكرمته ولا امرأة ، فالمعنى إلا أكرمتها ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد وحسنه كونه فاصلة رأس آية . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن السميقع ) وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ ( بالرفع فيهما والأولى أن يكونا معطوفين على موضع ) مِن وَرَقَةٍ ( ويحتمل الرفع على الابتداء وخبره ) إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ).
الأنعام : ( 60 ) وهو الذي يتوفاكم . . . . .
( وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لّيَقْضِيَ أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر استثاره بالعلم التام للكليات والجزئيات ذكر استئثاره بالقدرة التامّة تنبيهاً على ما تختص به الإلهية وذكر شيئاً محسوساً قاهراً للأنام وهو التوفي بالليل والبعث بالنهار وكلاهما ليس للإنسان فيه قدرة ، بل هو أمر يوقعه الله تعالى بالإنسان والتوفي عبارة في العرف عن الموت وهنا المعنى به النوم على سبيل المجاز للعلاقة التي بينه وبين الموت وهي زوال إحساسه ومعرفته وفكره . ولما كان التوفي المراد به النوم سبباً للراحة أسنده تعالى إليه وما كان بمعنى الموت مؤلماً قال : ) قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( ) جَاءتْ رُسُلُنَا ( ) نُنَزّلُ الْمَلَائِكَةَ ( ، والظاهر أن الخطاب عام لكل سامع . وقال الزمخشري : الخطاب للكفرة وخص الليل بالنوم والبعث بالنهار وإن كان قد ينام بالنهار ويبعث بالليل حملاً على الغالب ، ومعنى ) جَرَحْتُم ( كسبتم ومنه جوارح الطير أي كواسبها واجترحوا السيئات اكتسبوها والمراد منها أعمال الجوارح ومنه قيل للأعضاء جوارح . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من الجرح كأن الذنب جرح في الدين والعرب تقول : وجرح اللسان كجرح اليد . وقال مكي : أصل الاجتراح عمل الرجل بجارحة من جوارحه يده أو رجله ثم كثر حتى قيل لكل مكتسب مجترح وجارح ، وظاهر قوله : ) مَا جَرَحْتُم ( العموم في المكتسب خيراً كان أو شراً . وقال الزمخشري : ما كسبتم من الآثام ؛ انتهى ،

" صفحة رقم 151 "
وهو قول ابن عباس .
وقال قتادة : ما عملتم . وقال مجاهد : ما كسبتم والبعث هنا هو التنبه من النوم والضمير في ) فِيهِ ( عائد على ) النَّهَارَ ( قاله مجاهد وقتادة والسدي ، عاد عليه لفظاً والمعنى في يوم آخر كما تقول : عندي درهم ونصفه وقال عبد الله بن كثير يعود على التوفي أي يوقظكم في التوفي أي في خلاله وتضاعيفه . وقيل : يعود على الليل . وقال الزمخشري : ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ، ومن أجله ، كقولك : فيم دعوتني فتقول : في أمر كذا ؛ انتهى . وحمله على البعث من القبور ينبو عنه قوله : ) لّيَقْضِيَ أَجَلٍ مُّسَمًّى ( لأن المعنى والله أعلم أنه تعالى يحييهم في هاتين الحالتين من النوم واليقظة ليستوفوا ما قدر لهم من الآجال والأعمال المكتوبة ، وقضاء الأجل فصل مدّة العمر من غيرها ومسمى في علم الله أو في اللوح المحفوظ أو عند تكامل الخلق ونفخ الروح ، ففي الصحيح أن الملك يقول عند كمال ذلك . فما الرزق فما الأجل . وقال الزمخشري : هو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم ) ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ( هو المرجع إلى موقف الحساب ) ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( في ليلكم ونهاركم ؛ انتهى . وقال غيره : كابن جبير : مرجعكم بالموت الحقيقي . ولما ذكر تعالى النوم واليقظة كان ذلك تنبيهاً على الموت والبعث وإن حكمهما بالنسبة إليه تعالى واحد فكما أنام وأيقظ يميت ويحيي . وقرأ طلحة وأبو رجاء ليقضي أجلاً مسمى بني الفعل للفاعل ونصب أجلاً أي ليتم الله آجالهم كقوله : ) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ ( وفي قراءة الجمهور ، ويحتمل أن يكون الفاعل المحذوف ضميره أو ضميرهم .
الأنعام : ( 61 ) وهو القاهر فوق . . . . .
( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً ( تقدم الكلام في تفسير وهو القاهر فوق عباده . قال هنا ابن عطية : ) الْقَاهِرُ ( إن أخذ صفة فعل أي مظهر القهر بالصواعق والرياح والعذاب ، فيصح أن تجعل دفوق ( ظرفية للجهة لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها للعباد من فوقهم وإن أخذ ) ( ظرفية للجهة لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها للعباد من فوقهم وإن أخذ ) الْقَاهِرُ ( صفة ذات بمعنى القدرة والاستيلاء ففوق لا يجوز أن يكون للجهة وإنما هو لعلو القدر والشأن ، كما تقول : الياقوت فوق الحديد ؛ انتهى . وظاهر ) وَيُرْسِلُ ( أن يكون معطوفاً على ) وَهُوَ الْقَاهِرُ ( عطف جملة فعلية على جملة اسمية وهي من آثار القهر . وجوز أبو البقاء أن تكون معطوفة على قوله : ) يَتَوَفَّاكُم ( وما بعده من الأفعال وأن يكون معطوفاً على ) الْقَاهِرُ ( التقدير وهو الذي يقهر ويرسل ، وأن يكون حالاً على إضمار مبتدإ أي وهو يرسل وذو الحال إما الضمير في ) الْقَاهِرُ ( وإما الضمير في الظرف وهذا أضعف هذه الأعاريب ، ( وَعَلَيْكُمْ ( ظاهره أنه متعلق بيرسل كقوله : ) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ ( ولفظة على مشعرة بالعلو والاستعلاء لتمكنهم منا جعلوا كان ذلك علينا ويحتمل أن يكون متعلقاً بحفظة أي ويرسل حفظة عليكم أي يحفظون عليكم أعمالكم ، كما قال : وإن عليكم لحافظين كما تقول : حفظت عليك ما تعمل . وجوّزوا أن يكون حالاً لأنه لو يتأخر لكان صفة أي حفظه كائنة عليكم أي مستولين عليكم و ) حَفَظَةً ( جمع حافظ

" صفحة رقم 152 "
وهو جمع منقاس لفاعل وصفاً مذكراً صحيح اللام عاقلاً وقل فيما لا يعقل . قال الزمخشري : أي ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون ؛ انتهى . وقال ابن عطية : المراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب الأعمال ؛ انتهى . وما قالاه هو قول ابن عباس وظاهر الجمع أنه مقابل الجمع ولم تتعرض الآية لعدد ما على كل واحد ولا لما يحفظون عليه . وعن ابن عباس : ملكان مع كل إنسان أحدهما عن يمينه للحسنات ، والآخر عن شماله للسيئات وإذا عمل سيئة قال : من على اليمين انتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتبت عليه . وقيل : ملكان بالليل وملكان بالنهار أحدهما يكتب الخير والآخر يكتب الشر ، فإذا مشى كان أحدهما بين يديه والآخر وراءه وإذا جلس فأحدهما عن يمينه والآخر عن شماله . وقيل : خمسة من الملائكة اثنان بالليل واثنان بالنهار ، وواحد لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً والمكتوب الحسنة والسيئة . وقيل : الطاعات والمعاصي والمباحات . وقيل : لا يطلعون إلا على القول والفعل لقوله : ) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ولقوله : ) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( وأما أعمال القلوب فعلمه لله تعالى . وقيل : يطلعون عليها على الإجمال لا على التفصيل فإذا عقد سيئة خرجت من فيه ريح خبيثة أو حسنة خرجت ريح طيبة .
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : الله غني بعلمه عن كتب الكتبة فما فائدتها ؟ ( قلت ) : فيها لطف للعباد لأنهم إذا علموا إن الله رقيب عليهم ، والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة ، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد من السوء ؛ انتهى . وقوله : ) وَالْمَلَئِكَةُ الَّذِينَ هُمْ تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الاْرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً ( إن ذلك الحفظ بالكتابة كما فسروا بل قد قيل : هم الملائكة الذي قال فيهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( تتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ) قاله قتادة والسدّي . وقيل : يحفظون الإنسان من كل شيء حتى يأتي أجله .
( حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ( أي أسباب الموت ) تَوَفَّتْهُ ( قبضت روحه ) رُسُلُنَا ( جاء جمعاً . فقيل : عنى به ملك الموت عليه السلام وأطلق عليه الجمع تعظيماً . وقيل : ملك الموت وأعوانه والأكثرون على أن رسلنا عين الحفظة يحفظونهم مدة الحياة ، وعند مجيء أسباب الموت يتوفونهم ولا تعارض بين قوله : ) اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( وبين قوله : ) قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( وبين قوله : ) تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ( لأن نسبة ذلك إلى الله تعالى بالحقيقة ولغيره بالمباشرة ، ولملك الموت لأنه هو الآمر لأعوانه وله ولهم بكونهم هم المتولون قبض الأرواح . وعن مجاهد جعلت الأرض له كالطست يتناول منه من يتناوله وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين . وقرأ حمزة : توفاه بألف ممالة وظاهره أنه فعل ماض كتوفته إلا أنه ذكر على معنى الجمع ، ومن قرأ توفته أنث على معنى الجماعة ويحتمل أن يكون مضارعاً وأصله تتوفاه فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في تعيين المحذوفة . وقرأ الأعمش يتوفاه بزيادة ياء المضارعة على التذكير

" صفحة رقم 153 "
) وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ( جملة حالية والعامل فيها توفته أو استئنافية أخبر عنهم بأنهم لا يفرطون في شيء مما أمروا به من الحفظ والتوفي ومعناه : لا يقصرون . وقرأ الأعرج وعمرو بن عبيد ) لاَ يُفَرّطُونَ ( بالتخفيف أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به . قال الزمخشري : فالتفريط التولي والتأخر عن الحد والإفراط مجاوزة الحد أي لا ينقصون مما أمروا به ولا ي
زيدون فيه ؛ انتهى ، وهو معنى كلام ابن جني . وقال ابن بحر : ) يُفَرّطُونَ ( لا يدعون أحداً يفرط عنهم أي يسبقهم ويفوتهم . وقيل : يجوز أن تكون قراءة التخفيف معناها لا يتقدّمون على أمر الله وهذا لا يصح إلا إذا نقل إن أفرط بمعنى فرط أي تقدم . وقال الحسن : إذا احتضر الميت احتضره خمسمائة ملك يقبضون روحه فيعرجون بها .
الأنعام : ( 62 ) ثم ردوا إلى . . . . .
( ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الظاهر عود الضمير على العباد ، وجاء عليكم على سبيل الالتفات لما في الخطاب من تقريب الموعظة من السامعين ، ويحتمل أن يعود الضمير في ) رُدُّواْ ( على أحدكم على المعنى لأنه لا يريد ب ) أَحَدَكُمُ ( ظاهره من الإفراد إنما معناه الجمع وكأنه قيل : حتى إذا جاءكم الموت ، وقرىء ) رُدُّواْ ( بكسر الراء نقل حركة الدال التي أدغمت إلى الراء والراد المحذر من الله أو بالبعث في الآخرة أو الملائكة ردّتهم بالموت إلى الله . وقيل : الضمير يعود على ) رُسُلُنَا ( أي الملائكة يموتون كما يموت بنو آدم ويردّون إلى الله تعالى وعوده على العباد أظهر و ) مَوْلَاهُمُ ( لفظ عام لأنواع الولاية التي تكون بين الله وبين عبيده من الملك والنصرة والرزق والمحاسبة وغير ذلك ، وفي الإضافة إشعار برحمته لهم وظاهر الإخبار بالرد إلى الله أنه يراد به البعث والرجوع إلى حكم الله وجزائه يوم القيامة ويدل عليه آخر الآية . وقال أبو عبد الله الرازي : صريح الآية يدل على حصول الموت للعبد ورده إلى الله والميت مع كونه ميتاً لا يمكن أن يرد إلى الله بل المردود هو النفس والروح وهنا موت وحياة ، فالموت نصيب البدن والحياة نصيب النفس والروح فثبت أن الإنسان ليس إلا النفس والروح وليس عبارة عن مجرد هذه البنية وفي قوله : ) رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ ( إشعار بكون الروح موجودة قبل البدن لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون إذا كانت موجودة قبل التعلق بالبدن ونظيره ) ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ ( إلى الله مرجعكم جميعاً وجاء في الحديث : ( خلقت الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ) . وحجة الفلاسفة على كون النفوس غير موجودة قبل وجود البدن ضعيفة وبينا ضعفها في الكتب العقلية ؛ انتهى . كلامه وفيه بعض تلخيص . وقال أيضاً : ) إِلَى اللَّهِ ( يشعر بالجهة وهو باطل فوجب حمله على أنهم ردّوا إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه ؛ انتهى . والظاهر أن هذا الرد هو بالبعث يوم القيامة إلا ما أراده الرازي ووصفه تعالى بالحق معناه العدل الذي ليس بباطل ولا مجاز . وقال أبو عبد الله الرازي : كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب كما قال تعالى : ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( فلما مات تخلص من تصرفات الموالي الباطلة وانتقل إلى تصرف المولى الحق انتهى كلامه . وتفسيره خارج عن مناحي كلام العرب ومقاصدها وهو في أكثره شيبة بكلام الذين يسمون أنفسهم حكماء . وقرأ الحسن والأعمش ) لَحَقُّ ( بالنصب والظاهر أنه صفة قطعت فانتصبت على المدح وجوز نصبه على المصدر تقديره الرد الحق .
( أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ ( تنبيه منه تعالى عباده بأن جميع أنواع التصرفات له . وقال الزمخشري : ) أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ ( يومئذ لا حكم فيه لغيره .
( وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ( تقدم الكلام في سرعة حسابه تعالى في قوله : ) وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ).

" صفحة رقم 154 "
الأنعام : ( 63 ) قل من ينجيكم . . . . .
( قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( لما تقدم ذكره دلائل على ألوهيته تعالى من العلم التام والقدرة الكاملة ذكر نوعاً من أثرهما وهو الإنجاء من الشدائد وهو استفهام يراد به التقرير والإنكار والتوبيخ والتوقيف على سوء معتقدهم عند عبادة الأصنام وترك الذي ينجي من الشدائد ويلجأ إليه في كشفها . قيل : وأريد حقيقة الظلمة وجمعت باعتبار موادها ففي البر والبحر ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الصواعق ، وفي البر أيضاً ظلمة الغبار وظلمة الغيم وظلمة الريح ، وفي البحر أيضاً ظلمة الأمواج ويكون ذلك على حذف مضاف التقدير مهالك ظلمة البر والبحر ومخاوفها وأكثر المفسرين على أن الظلمات مجاز عن شدائد البر والبحر ومخاوفهما وأهوالهما ، والعرب تقول : يوم سود ويوم مظلم ويوم ذو كواكب كأنه لإظلامه وغيبوبة شمسه بدت فيه الكواكب ويعنون به أن ذلك اليوم شديد عليهم . قال قتادة والزجاج : من كرب البر والبحر . وحكى الطبري : ضلال الطريق في الظلمات . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ما يشفون عليه من الخسف في البر والغرق في البحر بذنوبهم فإذا دعوا وتضرعوا كشف الله عنهم الخسف والغرق فنجوا من ظلماتها ؛ انتهى .
( تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ( أي تنادونه مظهري الحاجة إليه ومخفيها والتضرع وصف باد على الإنسان والخفية الإخفاء . وقال الحسن : تضرعاً وعلانية خفية أي نية وانتصبا على المصدر ، و ) تَدْعُونَهُ ( حال ويقال : خفية بضم الخاء وهي قراءة الجمهور وبكسرها وهي قراءة أبي بكر . وقرأ الأعمش ) وَخُفْيَةً ( من الخوف . وقرأ الكوفيون ) مَن يُنَجّيكُمْ قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُمْ ( بالتشديد فيهما ، وحميد بن قيس ويعقوب وعلي بن نصر عن أبي عمرو بالتخفيف فيهما والحرميان والعربيان بالتشديد في ) مَن يُنَجّيكُمْ ( والتخفيف في ) قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُمْ ( جمعوا بين التعدية بالهمزة والتضعيف ، كقوله : فمهل الكافرين أمهلهم .
( لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( هذه إشارة إلى الظلمات والمعنى قائلين لئن أنجينا لما دعوه ، أقسموا أنهم يشكرونه على كشف هذه الشدائد ودل ذلك على أنهم لم يكونوا قبل الوقوع في هذه الشدائد شاكرين لأنعمه . وقرأ الكوفيون ) لَّئِنْ أَنجَانَا ( على الغائب وأماله الاخوان . وقرأ باقي السبعة على الخطاب .
الأنعام : ( 64 ) قل الله ينجيكم . . . . .
( قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ( الضمير في ) مِنْهَا ( عائد على ما أشير إليه بقوله ) مِنْ هَاذِهِ ( ومن كل معطوف على الضمير المجرور أعيد معه الخافض وأمره تعالى بالمسابقة إلى الجواب ليكون هو ( صلى الله عليه وسلم ) ) أسبق إلى الخير وإلى الاعتراف بالحق ثم ذكر أنه تعالى ينجي من هذه الشدائد التي حضرتهم ومن كل كرب فعم بعد التخصيص ثم ذكر قبيح ما يأتون بعد ذلك وبعد إقرارهم بالدعاء والتضرع ووعدهم إياه بالشكر من إشراكهم معه في العبادة . قال ابن عطية : وعطف ب ) ثُمَّ ( للمهلة التي

" صفحة رقم 155 "
تبين قبح فعلهم أي ثم بعد معرفتكم بهذا كله وتحققه أنتم تشركون ؛ انتهى . وقيل : معنى ) يُشْرِكُونَ ( تعودون إلى ما كنتم عليه من الإشراك وعبادة الأصنام ولا يخفى ما في هذه الجملة الإسمية من التقبيح عليهم إذ ووجهوا بقوله : ) ثُمَّ أَنتُمْ ( كقوله : ) ثُمَّ أَنتُمْ ( هؤلاء بعد قوله ) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ ( وإذا كان الخبر ) تُشْرِكُونَ ( بصيغة المضارع المشعر بالاستمرار والتجدد في المستقبل كما كانوا عليه فيما مضى .
الأنعام : ( 65 ) قل هو القادر . . . . .
( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ( هذا إخبار يتضمن الوعيد ، والأظهر من نسق الآيات أنه خطاب للكفار وهو مذهب الطبري . وقال أبي وأبو العالية وجماعة : هي خطاب للمؤمنين . قال أبي : هنّ أربع : عذاب قبل يوم القيامة مضت اثنتان قبل وفاة الرسول بخمس وعشرين سنة لبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض ، وثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم . وقال الحسن : بعضها للكفار بعث العذاب من فوق ومن تحت وسائرها للمؤمنين ، انتهى . وحين نزلت استعاذ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقال في الثالثة : ( هذه أهون أو هذه أيسر ) ؛ واحتج بهذا من قال هي للمؤمنين . وقال الطبري : لا يمتنع أن يكون عليه لسلام تعوذ لأمته مما وعد به الكفار وهون الثالثة لأنها في المعنى هي التي دعا فيها فمنع كما في حديث الموطأ وغيره . والظاهر ) مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ( الحقيقة كالصواعق وكما أمطر على قوم لوط وأصحاب الفيل الحجارة وأرسل على قوم نوح الطوفان ، كقوله : ) فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ( وكالزلازل ونبع الماء المهلك وكما خسف بقارون . وقال السدي عن أبي مالك وابن جبير : الرجم والخسف . وقال ابن عباس : ) مّن فَوْقِكُمْ ( ولاة الجور و ) مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ( سفلة السوء وخدمته . وقيل : حبس المطر والنبات . وقيل : ) مّن فَوْقِكُمْ ( خذلان السمع والبصر والآذان واللسان و ) مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ( خذلان الفرح والرجل إلى المعاصي ؛ انتهى ، وهذا والذي قبله مجاز بعيد .
( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ( أي يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى كلّ فرقة منكم مشايعة لإمام ومعنى خلطهم انشاب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال كقول الشاعر : وكتيبة لبستها بكتيبة
حتى إذا التبست نفضت لها يدي فتركتهم تقص الرماح ظهورهمما بين منعفر وآخر مسند
قال ابن عباس ومجاهد : تثبت فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقاً . وقيل : المعنى يقوي عدوكم حتى يخالطوكم . وقرأ أبو عبد الله المدني ) يَلْبِسَكُمْ ( بضمّ الياء من اللبس استعارة من اللباس فعلى فتح الياء يكون شيعاً حالاً . وقيل : مصدر والعامل فيه ) يَلْبِسَكُمْ ( من غير لفظه ؛ انتهى . ويحتاج في كونه مصدراً إلى نقل من اللغة وعلى ضم الياء يحتمل أن يكون التقدير أو يلبسكم الفتنة شيعاً ويكون شيعاً حالاً ، وحذف المفعول الثاني ويحتمل أن يكون المفعول الثاني شيعاً كان الناس يلبس بعضهم بعضاً كما قال الشاعر

" صفحة رقم 156 "
لبست أناساً فأفنيتهم
وغادرت بعد أناس أناسا
وهي عبارة عن الخلطة والمعايشة .
( وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ( البأس الشدة من قتل وغيره والإذاقة والإنالة والإصابة هي من أقوى حواس الاختبار وكثر استعمالها في كلام العرب وفي القرآن قال تعالى : ) ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ). وقال الشاعر : أذقناهم كؤوس الموت صرفا
وذاقوا من أسنتنا كؤوسا
وقرأ الأعمش : ونذيق بالنون وهي نون عظمة الواحد وهي التفات فأئدته نسبة ذلك إلى الله على سبيل العظمة والقدرة القاهرة .
( انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ( هذا استرجاع لهم ولفظة تعجب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمعني إنا نسألك في مجيء الآيات أنواعاً رجاء أن يفقهوا ويفهموا عن الله تعالى ، لأن في اختلاف الآيات ما يقتضي الفهم إن غربت آية لم تعزب أخرى .
الأنعام : ( 66 ) وكذب به قومك . . . . .
( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ( قال السديّ : ) بِهِ ( عائد على القرآن الذي فيه جاء تصريف الآيات . وقال الزمخشري : ) بِهِ ( راجع إلى العذاب وهو الحق أي لا بد أن ينزل بهم . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعود على الوعيد الذي تضمنته الآية ونحا إليه الطبري . وقيل : يعود على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهذا لقرب مخاطبته بعد ذلك بالكاف ؛ انتهى . وقرأ ابن أبي عبلة : وكذبت به قومك بالتاء ، كما قال : كذبت قوم نوح والظاهر أن قوله : ) وَهُوَ الْحَقُّ ( جملة استئناف لا حال .
( قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ( أي لست بقائم عليكم لإكراهكم على التوحيد . وقيل : ) بِوَكِيلٍ ( بمسلط وقيل : لا أقدر على منعكم من التكذيب إجباراً إنما أنا منذر . قال ابن عطية : وهذا كان قبل نزول الجهاد والأمر بالقتال ثم نسخ . وقيل : لا نسخ في هذا إذ هو خبر والنسخ فيه متوجه لأن اللازم من اللفظ لست الآن وليس فيه أنه لا يكون في المستقبل .
الأنعام : ( 67 ) لكل نبإ مستقر . . . . .
( لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ( أي لكل أجل شيء ينبأ به يعني من أنبائه بأنهم يعذبون وإبعادهم به وقت استقرار وحصول لا بد منه . وقيل : لكل عمل جزاء وليس هذا بالظاهر . وقال السدي : استقر نبأ القرآن بما كان يعدهم من العذاب يوم بدر . وقال مقاتل : منه في الدنيا يوم بدر وفي الآخرة جهنم . ) وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( مبالغة في التهديد والوعيد فيجوز أن يكون تهديد بعذاب الآخرة ، ويجوز أن يكون تهديداً بالحرب وأخذهم

" صفحة رقم 157 "
بالإيمان على سبيل القهر والاستيلاء .
الأنعام : ( 68 ) وإذا رأيت الذين . . . . .
( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِىءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ ( هذا خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويدخل فيه المؤمنون لأن علة النهي وهو سماع الخوض في آيات الله يشمله وإياهم . وقيل : هو خاص بتوحيده لأن قيامه عنهم كان يشق عليهم وفراقه على مغاضبه والمؤمنون عندهم ليسوا كهو . وقيل : خطاب للسامع والذين يخوضون المشركون أو اليهود أو أصحاب الأهواء ثلاثة أقوال ، ورأيت هنا بصرية ولذلك تعدت إلى واحد ولا بد من تقدير حال محذوفة أي ) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِىءايَاتِنَا ( وهم خائضون فيها أي وإذا رأيتهم ملتبسين بهذه الحالة . وقيل : ) رَأَيْتُ ( علمية لأن الخوض في الآيات ليس مما يدرك بحاسة البصر وهذا فيه بعد لأنه يلزم من ذلك حذف المفعول الثاني من باب علمت فيكون التقدير ) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِىءايَاتِنَا ( خائضين فيها وحذفه اقتصاراً لا يجوز وحذفه اختصاراً عزيز جداً حتى أن بعض النحويين منعه والخوض في الآيات كناية عن الاستهزاء بها والطعن فيها . وكانت قريش في أنديتها تفعل ذلك ) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ( أي لا تجالسهم وقم عنهم وليس إعراضاً بالقلب وحده بينه وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم ، وقد تقدم من قول المفسرين في هذه الآية أن قوله : وقد نزل عليكم في الكتاب : أن الذي نزل في الكتاب هو قوله : ) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ( الآية و ) حَتَّى يَخُوضُواْ ( غاية الإعراض عنهم أي فلا بأس أن تجالسهم والضمير في ) غَيْرُهُ ( قال الحوفي عائد إلى الخوض كما قال الشاعر : إذ نهى السفيه جرى إليه
وخالف والسفيه إلى خلاف
أي جرى إلى السفه . وقال أبو البقاء : إنما ذكر الهاء لأنه أعادها على معنى الآيات ولأنها حديث وقول :
) وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( أي إن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم فلا تقعد معهم بعد الذكرى أي ذكرك النهي . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى أي بعد إن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم ؛ انتهى . وهو خلاف ظاهر الشرط لأنه قد نهي عن القعود معهم قبل ثم عطف على الشرط السابق هذا الشرط فكله مستقبل وما أحسن مجيء الشرط الأول بإذا التي هي للمحقق لأن كونهم يخوضون في الآيات محقق ومجيء الشرط الثاني ب ( أن ) لأن إن لغير المحقق وجاء ) مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( تنبيهاً على علة الخوض في الآيات والطعن فيها وأن سبب ذلك ظلمهم وهو مجاوزة الحد ووضع الأشياء غير مواضعها . قال ابن عطية : وأما شرط ويلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقد لا تلزم كما قال الشاعر :
أما يصبك عدو في مناوأة
إلى غير ذلك من الأمثلة ؛ انتهى . وهذه المسألة فيها خلاف ، ذهب بعض النحويين إلى أنها إذا زيدت بعد إن ما لزمت نون التوكيد ولا يجوز حذفها إلا ضرورة وذهب بعضهم إلى أنها لا تلزم وإنه يجوز في الكلام وتقييده الثقيلة ليس بجيد بل الصواب النون المؤكدة سواء كانت ثقيلة أم خفيفة وكأنه نظر إلى مواردها في القرآن وكونها لم تجيء فيها بعد أما إلا الثقيلة . وقرأ ابن عامر ) يُنسِيَنَّكَ ( مشدّداً عداه بالتضعيف وعداه الجمهور بالهمزة . وقال ابن عطية

" صفحة رقم 158 "
وقد ذكر القراءتين إلا أن التشديد أكثر مبالغة ؛ انتهى . وليس كما ذكر لا فرق بين تضعيف التعدية والهمزة ومفعول ) يُنسِيَنَّكَ ( الثاني محذوف تقديره ) وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ( نهينا إياك عن القعود معهم والذكرى مصدر ذكر جاء على فعلى وألفه للتأنيث ولم يجيء مصدر على فعلى غيره .
الأنعام : ( 69 ) وما على الذين . . . . .
( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء ( ) الَّذِينَ يَتَّقُونَ ( هم المؤمنون والضمير في ) حِسَابَهُمْ ( عائد على المستهزئين الخائضين في الآيات . وروي أن المؤمنين قالوا : لما نزلت فلا تقعدوا معهم لا يمكننا طواف ولا عبادة في الحرم فنزلت ) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء ( فأبيح لهم قدر ما يحتاج إليه من التصرف بينهم في العبادة ونحوها ، والظاهر أن حكم الرسول موافق لحكم غيره لاندراجه في قوله : ) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ ( أمر هو ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالإعراض عنهم حتى إن عرض نسيان وذكر فلا تقعد معهم . وقيل : للمتقين وهو رأسهم أي ما عليكم من حسابهم من شيء .
( وَلَاكِن ذِكْرَى ( أي ولكن عليكم أن تذكروهم ذكرى إذا سمعتموهم يخوضون بأن تقوموا عنهم وتظهروا كراهة فعلهم وتعظوهم .
( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( أي لعلهم يجتنبون الخوض في الآيات حياء منكم ورغبة في مجالستكم قاله مقاتل ، أو ) لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( الوعيد بتذكيركم إياهم . وقيل : المعنى لا تقعدوا معهم ولا تقربوهم حتى لا تسمعوا استهزاءهم وخوضهم ، وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيئاً من حسابهم وإنما هو ذكرى لكم لعلكم تتقون أي تثبتون على تقواكم وتزدادونها ، فالضمير في ) لَعَلَّهُمْ ( عائد على ) الَّذِينَ يَتَّقُونَ ( ومن قال الخطاب في وإذا رأيت خاص بالرسول قال ) الَّذِينَ يَتَّقُونَ ( للمؤمنين دونه ومعناها الإباحة لهم دونه كأنه قال : يا محمد لا تقعد معهم وأما المؤمنون فلا شيء عليهم من حسابهم فإن قعدوا فليذكروهم ) لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( الله في ترك ما هم عليه . وقال هذا القائل : هذه الإباحة التي اقتضتها هذه الآية نسختها آية النساء وذكرى يحتمل أن تكون في موضع نصب أي ولكن تذكرونهم ، ومن قال الإباحة كانت بسبب العبادات قال نسخ ذلك آية النساء أو ذكروهم وفي موضع رفع أي ولكن عليهم ذكرى وقدّره بعضهم ولكن هو ذكرى أي الواجب ذكرى . وقيل : هذا ذكرى أي النهي ذكرى . قال الزمخشري : ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل من شيء كقولك : ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله : ) مِنْ حِسَابِهِم ( يأبى ذلك ؛ انتهى . كأنه تخيل إن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو من حسابهم لأنه قيد في شيء فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفاً على ) مِن شَىْء ( على الموضع لأنه يصير التقدير عنده و ) لَكِنِ ذِكْرِى ( من حسابهم وليس المعنى على هذا وهذا الذي تخيله ليس بشيء لا يلزم في العطف ( ولكن ) ما ذكر تقول : ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش ، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل فعلى هذا الذي قررناه يجوز أن يكون من قبيل عطف الجمل كما تقدم ، ويجوز أن يكون من عطف المفردات والعطف إنما هو للواو ودخلت ) لَكِنِ ( للاستدراك . قال ابن عطية : وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية الملحدين وأهل الجدل والخوض فيه . وحكى الطبري عن أبي جعفر أنه قال : لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله تعالى .
الأنعام : ( 70 ) وذر الذين اتخذوا . . . . .
( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً ( هذا أمر بتركهم وكان ذلك لقلة أتباع الإسلام حينئذ . قال قتادة : ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال . وقال مجاهد : إنما هو أمر تهديد ووعيد كقوله تعالى : ) ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ( ولا نسخ فيها لأنها متضمنة خبراً وهو التهديد ودينهم ما كانوا

" صفحة رقم 159 "
عليه من البحائر والسوائب والجوامي والوصائل وعبادة الأصنام والطواف حول البيت عراة يصفرون ويصفقون أو الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام ) لَعِباً وَلَهْواً ( حيث سخروا به واستهزؤوا ، أو عبادتهم لأنهم كانوا مستغرقين في اللهو واللعب وشرب الخمر والعزف والرقص لم تكن لهم عبادة إلا ذلك أقوال ثلاثة وانتصب ) لَعِباً وَلَهْواً ( على المفعول الثاني لاتخذوا . وقال أبو عبد الله الرازي : الأقرب إن المحقق في ) الدّينِ ( هو الذي ينصر الدّين لأجل أنه قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب ، وأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرئاسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدّين للدنيا وقد حكم الله على الدّنيا في سائر الآيات بأنها لعب ولهو ، فالآية إشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه وأكثر الخلق موصوفون بهذه الصفة ؛ انتهى ، وفيه بعض تلخيص وظاهر تفسيره يقتضي أن ) اتَّخَذُواْ ( هنا متعدّية إلى واحد وإن انتصاب ) لَعِباً وَلَهْواً ( على المفعول من أجله فيصير المعنى اكتسبوا دينهم وعملوه وأظهروا اللعب واللهو أي للدّنيا واكتسابها ويظهر من بعض كلام الزمخشري وابن عطية أن ) لَعِباً وَلَهْواً ( هو المفعول الأول لاتخذوا و ) دِينَهُمُ ( هو المفعول الثاني . قال الزمخشري : أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به ) لَعِباً وَلَهْواً ( وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك من باب اللعب واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة ، ومن جنس الهزل دون الجدّ واتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم واتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه هو دين الإسلام ) لَعِباً وَلَهْواً ( حيث سخروا به واستهزؤوا ؛ انتهى . فظاهر تقديره الثاني هو ما ذكرناه عنه . وقال ابن عطية : وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللهو واللعب ديناً ويحتمل أن يكون المعنى ) اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ ( الذي كان ينبغي لهم ) لَعِباً وَلَهْواً ( ؛ انتهى . فتفسيره الأول هو ما ذكرناه عنه . قال الزمخشري : وقيل : جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين ، وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم ) لَعِباً وَلَهْواً ( غير المسلمين فإنهم اتخذوا دينهم عيدهم كما شرعه الله ومعنى ذرهم أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم ؛ انتهى .
( وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا ( يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة وأن يكون استئناف إخبار أي خدعتهم الغرور وهي الأطماع فيما لا يتحصل فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله إياهم . وقيل : غرّتهم بتكذيبهم بالبعث . وقال أبو عبد الله الرازي : لأجل استيلاء حب الدنيا أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوصلوا بها إلى حطام الدنيا ؛ انتهى . وقيل : ) غرتهم ( من الغرّ بفتح الغين أي ملأت أفواههم وأشبعتهم . ومنه قول الشاعر :

" صفحة رقم 160 "
ولما التقينا بالحليبة غرّني
بمعروفه حتى خرجت أفوق
ومنه غر الطائر فرخه .
( الدُّنْيَا وَذَكّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ( الضمير في ) بِهِ ( عائد على القرآن أو على ) الدّينِ ( أو على ) حِسَابَهُمْ ( ثلاثة أقوال : أولاها الأوّل كقوله : ) فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( وتبسل ، قال ابن عباس : تفضح . وقال الحسن وعكرمة : تسلم . وقال قتادة : تحبس وترتهن . وقال الكلبي وابن زيد والأخفش : تجزي . وقال الضحاك : تحرق . وقال ابن زيد أيضاً : يؤخذ . وقال مؤرخ : تعذب . وقيل يحرم عليها النجاة ودخول الجنة . وقال أبو بكر : استحسن بعض شيوخنا قول من قال : تسلم بعملها لا تقدر على التخلص لأنه يقال : استبسل للموت أي رأى ما لا يقدر على دفعه واتفقوا على أن ) تُبْسَلَ ( في موضع المفعول من أجله وقدروا كراهة ) أَن تُبْسَلَ ( ومخافة ) أَن تُبْسَلَ ( ولئلا ) تُبْسَلَ ( ويجوز عندي أن يكون في موضع جر على البدل من الضمير ، والضمير مفسر بالبدل وأضمر الإبسال لما في الإضمار من التفخيم كما أضمر الأمر والشأن وفسر بالبدل وهو الإبسال فالتقدير وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما قالوا : اللهم صل عليه الرؤوف الرحيم وقد أجاز ذلك سيبويه قال : فإن قلت ضربت وضربوني قومك نصبت إلا في قول من قال : أكلوني البراغيث أو يحمله على البدل من المضمر وقال أيضاً : فإن قلت ضربني وضربتهم قومك رفعت على التقديم والتأخير إلا أن تجعل هاهنا البدل كما جعلته في الرفع ؛ وقد روي قوله :
تنخل فاستاكت به عود أسحل
بجر عود على أنه بدل من الضمير والمعنى ) أَن تُبْسَلَ ( نفس تاركة للإيمان بما كسبت من الكفر أو بكسبها السوء . ) لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ ( أي من دون عذاب الله .
( وَلِيُّ ( فينصرها .
( وَلاَ شَفِيعٍ ( فيدفع عنها بمسألته وهذه الجملة صفة أو حال أو مستأنفة إخبار وهو الأظهر و ) مِنْ ( لابتداء الغاية . وقال ابن عطية : ويجوز أن تكون زائدة ؛ انتهى ، وهو ضعيف .
( وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ( أي وإن تفد كل فداء والعدل الفدية لأن الفادي يعدل الفاء بمثله ، ونقل عن أبي عبيدة أن المعنى بالعدل هنا ضدّ الجور وهو القسط أي وإن تقسط كل قسط بالتوحيد والانقياد بعد العناد وضعف هذا القول الطبري بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة ، ولا يلزم هذا لأنه إخبار عن حالة يوم القيامة وهي حال معاينة وإلجاء لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، قالوا : وانتصب ) كُلَّ عَدْلٍ ( على المصدر ويؤخذ الضمير فيه عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام ولا يعود على

" صفحة رقم 161 "
المصدر لأنه لا يسند إليه الأخذ وأما في ) لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ( عدل فمعنى المفدى به فيصح إسناده إليه ويجوز أن ينتصب كل عدل على المفعول به أي ) وَإِن تَعْدِلْ ( بذاتها ) كُلٌّ ( أي كل ما تفدى به ) لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ( ويكون الضمير على هذا عائداً على ) كُلَّ عَدْلٍ ( وهذه الجملة الشرطية على سبيل الفرض والتقدير لا على سبيل إمكان وقوعها .
( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ ( الظاهر أنه يعود على ) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ ( وقاله الحوفي وتبعه الزمخشري . وقال ابن عطية : ) أُوْلَائِكَ ( إشارة إلى الجنس المدلول عليه بقوله : ) أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ ).
) لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ( الأظهر أنها جملة استئناف إخبار ويحتمل أن تكون حالاً وشراب فعال بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم ولا ينقاس فعال بمعنى مفعول ، لا يقال : ضراب ولا قتال بمعنى مضروب ولا مقتول .
الأنعام : ( 71 ) قل أندعو من . . . . .
( قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ ( أي من دون الله النافع الضار المبدع للأشياء القادر ما لا يقدر على أن ينفع ولا يضر إذ هي أصنام خشب وحجارة وغير ذلك ) وَنُرَدُّ ( إلى الشرك ) عَلَى أَعْقَابِنَا ( أي رد القهقرى إلى وراء وهي المشية الدنية بعد هداية الله إيانا إلى طريق الحق وإلى المشية السجح الرفيعة ) وَنُرَدُّ ( معطوف على ) أَنَدْعُواْ ( أي أيكون هذا وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي لا يقع شيء من هذا وجوز أبو البقاء أن تكون الواو فيه للحال أي ونحن نرد أي أيكون هذا الأمر في هذه الحال وهذا فيه ضعف لإضمار المبتدأ ولأنها تكون حالاً مؤكدة ، واستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر . قال الطبري وغيره : الردّ على العقب يستعمل فيمن أمّل أمراً فخاب .
( كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الاْرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ( قال الزمخشري : ) كَالَّذِى ( ذهب به مردة الجن والغيلان في الأرض في المهمة حيران تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع له أي لهذا المستهوى أصحاب رفقة يدعونه إلى الهدى أي إلى أن يهدوه الطريق المستوي ، أو سمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له : ائتنا وقد اعتسف المهمة تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجنّ تستهوي الإنسان والغيلان تستولي عليه كقوله : ) كَالَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ ( فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم ؛ انتهى . وأصل كلامه مأخوذ من قول ابن عباس ولكنه طوله وجوده . قال ابن عباس : مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه فيصبح وقد ألقته في مهمة ومهلكة فهو حائر في تلك المهامة وحمل الزمخشري ) اسْتَهْوَتْهُ ( على أنه من الهوى الذي هو المودة والميل كأنه قيل كالذي أمالته الشياطين عن الطريق الواضح إلى المهمة القفر وحمله غيره كأبي علي على أنه من الهوي أي ألقته في هوة ، ويكون استفعل بمعنى افعل نحو استزل وأزل تقول العرب : هوى الرجل وأهواه غيره واستهواه طلب منه أن يهوي هوى ويهوي شيئاً والهوي السقوط من علو إلى سفل . قال الشاعر : هوى ابني من ذرى شرف
فزلت رجله ويده
ويستعمل الهوي أيضاً في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء ومنه واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم . وقال :

" صفحة رقم 162 "
تهوي إلى مكة تبغي الهدى
ما مؤمنوا الجن ككفارها
وقال أبو عبد الله الرازي : هذا المثل في غاية الحسن وذلك أن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه ، لأن الحجر كان حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة وذلك يوجب كمال التردد والتحير ، فعند نزوله من الأعلى إلى الأسفل لا يعرف أنه يسقط على وضع يزداد بلاؤه وبسبب سقوطه عليه أو يقل ، ولا تجد للحائر الخائف أكمل ولا أحسن من هذا المثل ؛ انتهى . وهو كلام تكثير لا طائل تحته وجعل الزمخشري قوله : ) لَهُ أَصْحَابٌ ( أي له رفقة وجعل مقابلهم في صورة التشبيه المسلمين يدعونه إلى الهدى فلا يلتفت إليهم وهو تأويل ابن عباس ومجاهد ، وجعلهم غيره ) لَهُ أَصْحَابٌ ( من الشياطين الدعاة أو لا يدعونه إلى الهدى بزعمهم وبما يوهمونه فشبه بالأصحاب هنا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على الارتداد . وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضاً وحكى مكي وغيره أن المراد بالذي استهوته الشياطين هو عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وبالأصحاب أبوه وأمه ، وذكر أهل السير أنه فيه نزلت هذه الآية دعا أياه أبا بكر إلى عبادة الأوثان وكان أكبر ولد أبي بكر وشقيق عائشة أمهما أم رومان بنت الحارث بن غنم الكنانية وشهد بدراً وأحداً مع قومه كافراً ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه أبو بكر رضي الله عنه ليبارزه فذكر أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( متعني بنفسك ) ثم أسلم وحسن إسلامه وصحب الرسول عليه السلام في هدنة الحديبية وكان اسمه عبد الكعبة فسماه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) عبد الرحمن ، وفي الصحيح أن عائشة سمعت قول من قال : إن قوله : ) وَالَّذِى قَالَ لِوالِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا ( أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت : كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي .
قال الزمخشري ( فإن قلت ) : إذا كان هذا وارداً في شأن أبي بكر فكيف قيل للرسول : ) قُلْ أَنَدْعُواْ ). قلت : للاتحاد الذي كان بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمؤمنين وخصوصاً بينه وبن الصديق رضي الله عنه ؛ انتهى . وهذا السؤال إنما يرد إذا صح أنها نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن ولن يصح ، وموضع ) كَالَّذِى ( نصب قيل : على أنه نعت لمصدر محذوف أي رداً مثل رد الذي والأحسن أن يكون حالاً أي كائنين كالذي والذي ظاهره أنه مفرد ويجوز أن يراد به معنى الجمع أي كالفريق الذي وقرأ حمزة استهواه بألف ممالة . وقرأ السلمي والأعمش وطلحة : ) اسْتَهْوَتْهُ ( الشيطان بالتاء وأفراد الشيطان . وقال الكسائي : أنها كذلك في مصحف ابن مسعود ؛ انتهى . والذي نقلوا لنا القراءة عن ابن مسعود إنما نقلوه الشياطين جمعاً . وقرأ الحسن : الشياطون وتقدم نظيره وقد لحن في ذلك . وقد قيل : هو شاذ قبيح وظاهر قوله ) فِى الاْرْضِ ( أن يكون متعلقاً باستهوته . وقيل : حال من مفعول ) اسْتَهْوَتْهُ ( أي كائناً في الأرض . وقيل : من ) حَيْرَانَ ). وقيل : من ضمير ) حَيْرَانَ ( و ) حَيْرَانَ ( لا ينصرف ومؤنثه حيرى و ) حَيْرَانَ ( حال من مفعول ) اسْتَهْوَتْهُ ). وقيل : حال من الذي والعامل فيه الرد المقدر والجملة من قوله ) لَهُ أَصْحَابٌ ( حالية أو صفة لحيران أو مستأنفة و ) إِلَى الْهَدْىِ ( متعلق بيدعونه وأتنا من الإتيان . وفي مصحف عبد الله أتينا فعلاً ماضياً لا أمراً فإلى الهدى متعلق به .
( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ( من قال : ) إِنَّ لَهُ أَصْحَابُ ( يعني به الشياطين وإن قوله ) إِلَى الْهُدَى ( بزعمهم كانت هذه الجملة رداً عليهم أي ليس ما زعمتم هدى بل هو كفر وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان ومن قال : إن قوله ) أَصْحَابُ ( مثل للمؤمنين الداعين إلى الهدى الذي هو الإيمان ، كانت إخباراً بأن الهدى هدى الله من شاء لا إنه يلزم من دعائهم إلى الهدى وقوع الهداية بل ذلك بيد الله

" صفحة رقم 163 "
من هداه اهتدى .
( وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( الظاهر أن اللام لام كي ومفعول ) أَمْرُنَا ( الثاني محذوف وقدروه ) وَأُمِرْنَا ( بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم ) لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( والجملة داخلة في المقول معطوفة على ) إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهَدْىِ ). وقال الزمخشري : هو تعليل للأمر فمعنى ) أَمْرُنَا ( قيل لنا : اسلموا لأجل أن نسلم . وقال ابن عطية : ومذهب سيبويه أن ) لِنُسْلِمَ ( في موضع المفعول وإن قولك : أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر : أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لي ليلى بكل سبيل
إلى غير ذلك من الأمثلة ؛ انتهى . فعلى ظاهر كلامه تكون اللام زائدة ويكون أن نسلم هو متعلق ) أَمْرُنَا ( على جهة أنه مفعول ثان بعد إسقاط حرف الجر . وقيل : اللام بمعنى الباء كأنه قيل ) وَأُمِرْنَا ( بأن نسلم ومجيء اللام بمعنى الباء قول غريب ، وما ذكره ابن عطية عن سيبويه ليس كما ذكر بل ذلك مذهب الكسائي والفراء زعما أن لام كي تقع في موضع أن في أردت وأمرت ، قال تعالى : ) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ ( ) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ ( أي أن يطفئوا ) إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ ( أريد لأنسى ذكرها ورد ذلك عليهما أبو إسحاق ، وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا تتعلق بمحذوف وأن الفعل قبلها يراد به المصدر والمعنى الإرادة للبيان والأمر للإسلام فهما مبتدأ وخبر فتحصل في هذه اللام أقوال : أحدها إنها زائدة ، والثاني أنها بمعنى كي للتعليل إما لنفس الفعل وإما لنفس المصدر المسبوك من الفعل ، والثالث أنها لام كي أجريت مجرى أن ، والرابع أنها بمعنى الباء وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب التكميل وجاء لرب العالمين تنبيهاً على أنه مالك العالم كله معبودهم من الأصنام وغيرها .
الأنعام : ( 72 ) وأن أقيموا الصلاة . . . . .
( وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواةَ وَاتَّقُوهُ ( أن هنا مصدرية واختلف في ما عطف عليه ، قال الزجاج هو معطوف على قوله : لنسلم تقديره لأن نسلم و ) أَنْ أَقِيمُواْ ). قال ابن عطية : واللفظ يمانعه لأنّ ) نسلم ( معرب و ) أَنْ أَقِيمُواْ ( مبني وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل انتهى ، وما ذكره من أنه لا يعطف المبني على المعرب وأنّ ذلك لا يجوز ليس كما ذكر ، بل ذلك جائز نحو قام زيد وهذا ، وقال تعالى : ) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ( غاية ما في هذا أن العامل إذا وجد المعرب أثر فيه وإذا وجد المبني لم يؤثر فيه ويجوز إن قام زيد ويقصدني أحسن إليه ، بجزم يقصدني فإنْ لم تؤثر في قام لأنه مبني وأثرت في يقصدني لأنه معرب ، ثم قال ابن عطية : اللهم إلا أن يجعل العطف في إن وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن يقدر قوله : ) أَنْ أَقِيمُواْ ( بمعنى وليقم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك

" صفحة رقم 164 "
من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن نلغي حكم اللفظ ونعوّل على المعنى ، ويشبه هذا من جهة ما حكاه يونس عن العرب : أدخلوا الأول فالأول وإلا فليس يجوز إلا ادخلوا الأول فالأول بالنصب انتهى ، وهذا الذي استدركه ابن عطية بقوله اللهم إلا أن إلى آخره هو الذي أراده الزجاج بعينه وهو أنّ ) أَنْ أَقِيمُواْ ( معطوف على أن نسلم وأنّ كليهما علة للمأمور به المحذوف وإنما قلق عند ابن عطية لأنه أراد بقاء أن أقيموا على معناها من موضوع الأمر وليس كذلك لأن أن إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر ، وإذا انسبك منهما مصدر زال منها معنى الأمر ، وقد أجاز النحويون سيبويه وغيره أن توصل أن المصدرية الناصبة للمضارع بالماضي وبالأمر ، قال سيبويه : وتقول : كتبت إليه بأن قم ، أي بالقيام فإذا كان الحكم كذا كان قوله : لنسلم وأن أقيموا في تقدير للإسلام ، ولإقامة الصلاة وأما تشبيه ابن عطية بقوله : ادخلوا الأول فالأول بالرفع فليس يشبهه لأن ادخلوا لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلط على ما بعده ، بخلاف أن فإنها توصل بالأمر فإذاً لا شبه بينهما . وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : كلام عطف قوله : ) وَأَنْ أَقِيمُواْ ( ( قلت ) : على موضع ) لِنُسْلِمَ ( كأنه قيل وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا انتهى وظاهر هذا التقدير أنّ ) ءانٍ ( في موضع المفعول الثاني لقوله : وأمرنا وعطف عليه وأن أقيموا فتكون اللام على هذا زائدة ، وكان قد قدّم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه لأن ما يكون علة يستحيل أن يكون مفعولاً ويدل على أنه أراد بقوله ) ءانٍ ( أنه في موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك ، ويجوز أن يكون التقدير وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإسلام ولإقامة الصلاة انتهى ، وهذا قول الزجاج فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأول : لاتحد قولاه وذلك خلف ، وقال الزجاج : ويحتمل أن يكون ) الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ ( معطوفاً على ) أَتَانَا ). وقيل : معطوف على قوله : ) إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ( والتقدير قل أن أقيموا وهذان القولان ضعيفان جدًّا ، ولا يقتضيهما نظم الكلام ، قال ابن عطية : يتجه أن يكون بتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدّر في أمرنا ؛ انتهى . وكان قد قدّر : وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان لأن نسلم وهذا قول لا بأس به وهو أقرب من القولين قبلة إذ لا بد من تقدير المفعول الثاني لأمرنا ويجوز حذف المعطوف عليه لفهم المعنى تقول : أضربت زيداً فتجيب نعم وعمراً التقدير ضربته وعمراً وقد أجاز الفراء جاءني الذي وزيد قائمان التقدير جاءني الذي هو وزيد قائمان فحذف هو لدلالة المعنى عليه والضمير المنصوب في ) وَاتَّقَوْاْ ( عائد على رب العالمين .
( وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( جملة خبرية تتضمن التنبيه والتخويف لمن ترك امتثال ما أمر به من الإسلام والصلاة واتقاء الله ، وإنما تظهر ثمرات فعل هذه الأعمال وحسرات تركها يوم الحشر والقيامة .
الأنعام : ( 73 ) وهو الذي خلق . . . . .
( وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ ( لما ذكر تعالى أنه إلى جزائه يحشر العالم وهو منتهى ما يؤول إليه أمرهم ذكر مبتدأ وجود العالم واختراعه له بالحق أي بما هو حق لا عبث فيه ولا هو باطل أي لم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً بل صدراً عن حكمة وصواب وليستدل بهما على وجود الصانع إذ هذه المخلوقات العظيمة الظاهر عليها سمات الحدوث لا بد لها من محدث واحد عالم قادر مريد سبحانه وعلا . وقيل : معنى بالحق بكلامه في قوله للمخلوقات ) كُنَّ ( وفي قوله : ) ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ( والمراد في هذا ونحوه إنما هو إظهار انفعال ما يريد تعالى أن يفعله وإبرازه للوجود بسرعة وتنزيله منزلة ما يؤمر فيمتثل .
( وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ ( جوزوا في ) يَوْمٍ ( أن يكون معمولاً لمفعول فعل محذوف وقد روه واذكر الإعادة يوم يقول : كن أي يوم يقول للأجساد كن معادة ويتم الكلام عند قوله : كن ، ثم أخبر بأنه يكون قوله : الحق الذي كان في الدنيا إخباراً بالإعادة فيكون قوله فاعلاً بفيكون أو يتم الكلام عند قوله : كن فيكون ويكون ) قَوْلُهُ الْحَقُّ ( مبتدأ وخبراً . وقال الزجاج ) يَوْمَ يَقُولُ ( معطوف على الضمير من قوله ) وَاتَّقُوهُ (

" صفحة رقم 165 "
أي واتقوا عقابه والشدائد ويوم فيكون انتصابه على أنه مفعول به لا ظرف . وقيل : ) وَيَوْمَ ( معطوف على ) السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( والعامل فيه خلق ، وقيل : العامل اذكر أو معطوفاً على قوله بالحق إذ هو في موضع نصب ويكون ) يِقُولُ ( بمعنى الماضي كأنه قال وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم قال لها كن ويتم الكلام عند قوله فيكون ، ويكون ) قَوْلُهُ الْحَقُّ ( مبتدأً وخبراً أو يتم عند ) كُنَّ ( ويبتدىء ) فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ ( أي يظهر ما يظهر وفاعل يكون ) قَوْلُهُ ( و ) الْحَقّ ( صفة و ) يَكُونَ ( تامة وهذه الأعاريب كلها بعيدة ينبو عنها التركيب وأقرب ما قيل ما قاله الزمخشري وهو أن قوله الحق مبتدأ والحق صفة له و ) يَوْمَ يَقُولُ ( خبر المبتدأ فيتعلق بمسْتقر كما تقول يوم الجمعة القتال واليوم بمعنى الحين والمعنى أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحق والحكمة وحين يقول للشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة أي لا يكون شيء من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب ، وجوز الزمخشري وجهاً آخر وهو أن يكون قوله الحق فاعلاً بقوله فيكون فانتصاب يوم بمحذوف دل عليه قوله بالحق كأنه قيل : كن يوم بالحق وهذا إعراب متكلف .
( وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ ( قيل ) يَوْمٍ ( بدل من قوله ) وَيَوْمَ يَقُولُ ( ، وقيل : منصوب بالملك وتخصيصه بذلك اليوم كتخصيصه بقوله : ) لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ( وبقوله : ) وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( وفائدته الإخبار بانفراده بالملك حين لا يمكن أن يدعي فيه ملك ، وقيل هو في موضع نصب على الحال وذو الحال الملك والعامل له ، وقيل هو في موضع الخبر لقوله : ) قَوْلُهُ الْحَقُّ ( أي يوم ينفخ في الصور ، وقيل ظرف لقوله ) تُحْشَرُونَ ( أو ) ليقول ( أو ) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ). وقرأ الحسن في الصور وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض ويؤيد تأويل من تأوله أن الصور جمع صورة كثومة وثوم والظاهر أن ثم نفخاً حقيقة ، وقيل : هو عبارة عن قيام الساعة ونفاد الدنيا واستعارة . وروي عن عبد الوارث عن أبي عمرو ننفخ بنون العظمة .
( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ( أي هو عالم أو مبتدأ على تقدير من النافخ أو فاعل بيقول أو بينفخ محذوفة يدل عليه ينفخ نحو رجال بعد قوله : ) يُسَبّحُ ( بفتح الباء وشركاؤهم بعد ) زُيّنَ ( مبنياً للمفعول ورفع قتل ونحو ضارع لخصومة بعد ليبك يزيد التقدير يسبح له رجال وزينه شركاؤهم ويبكيه ضارع أو نعت للذي أقوال أجودها الأول والغيب والشهادة يعمان جميع الموجودات ، وقرأ الأعمش عالم بالخفض ووجه على أنه بدل من الضمير في له أو من رب العالمين أو نعت للضمير في له ، والأجود الأول لبعد المبدل منه في الثاني وكون الضمير الغائب يوصف وليس مذهب الجمهور إنما أجازه الكسائي وحده .
( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( لما ذكر خلق الخلق وسرعة إيجاده لما يشاء وتضمن البعث إفناءهم قبل ذلك ناسب ذكر الوصف بالحكيم ولما ذكر أنه عالم الغيب والشهادة ناسب ذكر الوصف بالخبير إذ هي صفة تدل على علم ما لطف إدراكه من الأشياء .
2 ( ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاًّبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً إِنِّىأَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِىإِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَبا

" صفحة رقم 166 "
قَالَ هَاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاأُحِبُّ الاٌّ فِلِينَ فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لاّكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَاذَا رَبِّى هَاذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقَوْمِ إِنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْئاً وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالاٌّ مْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَائِكَ لَهُمُ الاٌّ مْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَاؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَىإِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو
e

" صفحة رقم 167 "
1764 اْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } )
الأنعام : ( 74 ) وإذ قال إبراهيم . . . . .
آزر اسم أعجمي علم ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية . الصنم الوثن يقال إنه معرب شمر والصنم : خبث الرائحة والصنم : العبد القوي وصنم صور وصوّر بنو فلان نوقهم اعزروها . جن عليه الليل وأجن أظلم هذا تفسير المعنى وهو بمعنى ستر متعدياً ، قال الشاعر : وماء وردت قبيل الكرى
وقد جنه السدف الأدهم
والاختيار جن الليل وأجنه ومصدر جن جنون وجنان وجن الكوكب والكوكبة النجم وهو مشترك بين معان كثيرة ويقال كوكب توقد ، وقال الصاغاني : حق لفظ كوكب أن يذكر في تركيب و ك ب عند حذاق النحويين فإنها صدرت بكاف زائدة عندهم إلا أن الجوهري أوردها في تركيب ك و ب ولعله تبع فيه الليث فإنه ذكره في الرباعي ذاهباً إلى أن الواو أصلية انتهى . وليت شعري من حذاق النحويين الذين تكون الكاف عندهم من حروف الزيادة فضلاً عن زيادتها في أول كلمة ، فأما قولهم هندي وهند كي في معنى واحد وهو المنسوب إلى الهند قال الشاعر : ومقرونة دهم وكمت كأنها
طماطم يوفون الوفاز هنادك
فخرجه أصحابنا على أن الكاف ليست زائدة لأنه لم تثبت زيادتها في موضع من المواضع فيحمل هذا عليه وإنما هو من باب سبط وسبطر ، والذي أخرجه عليه أن من تكلم بهذا من العرب إن كان تكلم به فإنما سرى إليه من لغة الحبش لقرب العرب من الحبش ودخول كثير من لغة بعضهم في لغة بعض ، والحبشة إذا نسبت ألحقت آخر ما تنسب إليه كافاً مكسورة مشوبة بعدها ياء يقولون في النسب إلى قندي قندكي وإلى شواء : شوكي وإلى الفرس : الفرسكي وربما أبدلت تاء مكسورة قالوا في النسب إلى جبري : جبرتي ، وقد تكلمت على كيفية نسبة الحبش في كتابنا المترجم عن هذه اللغة المسمى بجلاء الغبش عن لسان الحبش ، وكثيراً ما تتوافق اللغتان لغة العرب ولغة الحبش في ألفاظ وفي قواعد من التراكيب نحوية كحروف المضارعة وتاء التأنيث وهمزة التعدية . أفل يأفل أفولاً غاب . وقيل : ذهب وهذا اختلاف في عبارة . وقال ذو الرمة : مصابيح ليست باللواتي يقودها
نجوم ولا بالآفلات الدوالك

" صفحة رقم 168 "
القمر معروف يسمى بذلك لبياضه والأقمر الأبيض وليلة قمراء مضيئة قاله ابن قتيبة .
البزوغ أول الطلوع بزغ يبزغ . اقتدى به اتبعه وجعله قدوة له أي متبعاً . الغمرة الشدة المذهلة وأصلها في غمرة الماء وهي ما يغطي الشيء . قال الشاعر : ولا ينجي من الغمرات إلا
براكاء القتال أو الفرار
ويجمع على فعل كنوبة ونوب قال الشاعر :
وحان لتالك الغمر انحسار
فرادى : الألف فيه للتأنيث ومعناها فرداً فرداً ، ويقال فيه فراد منوناً على وزن فعال وهي لغة تميم وفراد غير مصروف كآحاد وثلاث وحكاه أبو معاذ ، قال أبو البقاء : من صرفه جعل جمعاً مثل تؤام ورخال وهو جمع قليل ، قيل : وفرادى جمع فرد بفتح الراء . وقيل : بسكونها ، قال الشاعر : يرى النعرات الزرق تحت لبانه
فرادى ومثنى أصعقتها صواهله
وقيل : جمع فريد كرديف وردا في ويقال رجل أفردوا امرأة فردى إذا لم يكن لها أخ وفرد الرجل يفرد فروداً إذا انفرد فهو فارد . خوله : أعطاه وملكه وأصله تمليك الخول كما تقول مولته ملكته المال . البين : الفراق . قيل : وينطلق على الوصل فيكون مشتركاً . قال الشاعر : فوالله لولا البين لم يكن الهوى
ولولا الهوى ما حن للبين آلفه
) وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَةً إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ).
لما ذكر قوله تعالى : ) قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا ( ناسب ذكر هذه الآية هنا وكان التذكار بقصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه أنسب لرجوع العرب إليه إذ هو جدّهم الأعلى فذكروا بأن إنكار هذا النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) عليكم عبادة الأصنام هو مثل إنكار جدّكم إبراهيم على أبيه وقومه عبادتها وفي ذلك التنبيه على اقتفاء من سلف من صالحي الآباء والأجداد وهم وسائر الطوائف معظمون لإبراهيم عليه السلام ، والظاهر أن آزر اسم أبيه قاله ابن عباس والحسن والسدّي وابن إسحاق وغيرهم ، وفي كتب التواريخ أن اسمه بالسريانية تارخ والأقرب أن وزنه فاعل مثل تارخ وعابر ولازب وشالح وفالغ وعلى هذا يكون له اسمان كيعقوب وإسرائيل وهو عطف بيان

" صفحة رقم 169 "
أو بدل ، وقال مجاهد : هو اسم صنم فيكون أطلق على أبي إبراهيم لملازمته عبادته كما أطلق على عبيد الله بن قيس الرقيات لحبه نساء اسم كل واحدة منهنّ رقية . فقيل ابن قيس الرقيات ، وكما قال بعض المحدّثين : أدعى بأسماء تترى في قبائلها
كأن أسماء أضحت بعض أسمائي
ويكون إذ ذاك عطف بيان أو يكون على حذف مضاف أي عابد آزر حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو يكون منصوباً بفعل مضمر أي تتخذ آزر ، وقيل : إن آزر عم إبراهيم وليس اسم أبيه وهو قول الشيعة يزعمون أن آباء الأنبياء لا يكونون كفاراً وظواهر القرآن ترد عليهم ولا سيما محاورة إبراهيم مع أبيه في غير ما آية ، وقال مقاتل : هو لقب لأبي إبراهيم وليس اسماً له وامتنع آزر من الصرف للعلمية والعجمة ، وقيل هو صفة ، قال الفراء بمعنى المعوجّ . وقال الزجاج : بمعنى المخطىء ، وقال الضحاك : الشيخ الهمّ بالفارسية ، وإذا كان صفة أشكل منع صرفه ووصف المعرفة به وهو نكرة ووجهه الزجاج بأن تزاد فيه أل وينصب على الذمّ كأنه قيل : أذمّ المخطىء ، وقيل : انتصب على الحال وهو في حال عوج أو خطأ ، وقرأ الجمهور آزر بفتح الراء وأبيّ وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضم الراء على النداء وكونه علماً ولا يصح أن يكون صفة لحذف حرف النداء وهو لا يحذف من الصفة إلا شذوذاً ، وفي مصحف أبيّ يا آزر بحرف النداء اتخذت أصناماً بالفعل الماضي فيحتمل العلمية والصفة ، وقرآ ابن عباس أيضاً أزراً تتخذ بهمزة استفهام وفتح الهمزة بعدها وسكون الزاي ونصب الراء منوّنة وحذف همزة الاستفهام من أتتخذ ، قال ابن عطية : المعنى أعضدا وقوّة ومظاهرة على الله تتخذ وهو قوله : ) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى ). وقال الزمخشري : هو اسم صنم ومعناه أتعبد أزراً على الإنكار ثم قال : أتتخذ أصناماً آلهة تبييناً لذلك وتقريراً وهو داخل في حكم الإنكار لأنه كالبيان له ، وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو اسماعيل الشامي أإزراً بكسر الهمزة بعد همزة الاستفهام تتخذ ، قال ابن عطية : ومعناها إنها مبدلة من واو كوسادة وإسادة كأنه قال : أوزراً أو مأثماً تتخذ أصناماً ونصبه على هذا بفعل مضمر ، وقال الزمخشري : هو اسم صنم ووجهه على ما وجه عليه أأزراً بفتح الهمزة ، وقرأ الأعمش إزراً تتخذ بكسر الهمزة وسكون الزاي ونصب الراء وتنوينها وبغير همزة استفهام في تتخذ والهمزة في أتتخذ للإنكار وفيه دليل على الإنكار على من أمر الإنسان بإكرامه إذا لم يكن على طريقة مستقيمة وعلى البداءة بمن يقرب من الإنسان كما قال : ) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( وفي ذكره أصناماً آلهة الجمع تقبيح عظيم لفعلهم واتخاذهم جمعاً آلهة وذكروا أن إبراهيم كان نجاراً منجماً مهندساً وكان نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم فحظى عنده بذلك وكان من قرية تسمى كوثا من سواد الكوفة ، قاله مجاهد قيل وبها ولد إبراهيم ، وقيل : كان آزر من أهل حرّان وهو تارخ بن ناجور بن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وأراك يحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية ، والظاهر أن تتخذ يتعدّى إلى مفعولين وجوزوا أن يكون بمعنى أتعمل وتصنع لأنه كان

" صفحة رقم 170 "
ينحتها ويعملها ولما أنكر على أبيه أخبر أنه وقومه في ضلال وجعلهم مظروفين للضلال أبلغ من وصفهم بالضلال كأن الضلال صار ظرفاً لهم ومبين واضح ظاهر من أبان اللازمة ، قال ابن عطية : ليس بالفعل المتعدّي المنقول من بان يبين انتهى ، ولا يمتنع ذلك يوضح كفركم بموجدكم من حيث اتخذتم دونه آلهة وهذا الإنكار من إبراهيم على أبيه والإخبار أنه وقومه في ضلال مبين أدل دليل على هداية إبراهيم وعصمته من سبق ما يوهم ظاهر قوله : هذا ربي من نسبة ذلك إليه على أنه أخبر عن نفسه وإنما ذلك على سبيل التنزل مع الخصم وتقرير ما يبنى عليه من استحالة أن يكون متصفاً بصفات الحدوث من الجسمانية وقبوله التغيرات من البزوع والأفول ونحوها .
الأنعام : ( 75 ) وكذلك نري إبراهيم . . . . .
( وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( هذه جملة اعتراض بين قوله : ) وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ ( منكراً على أبيه عبادة الأصنام وبين جملة الاستدلال عليهم بإفراد المعبود ، وكونه لا يشبه المخلوقين وهي قوله : ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ ( ) وَنُرِىَ ( بمعنى أريناه وهي حكاية حال وهي متعدية إلى اثنين ، فالظاهر أنها بصرية . قال ابن عطية وإما من أرى التي بمعنى عرف انتهى ، ويحتاج كون رأي بمعنى عرف ثم تعدّى بالهمزة إلى مفعولين إلى نقل ذلك عن العرب والذي نقل النحويون إن رأى إذا كانت بصرية تعدّت إلى مفعول واحد وإذا كانت بمعنى علم الناصبة لمفعولين تعدت إلى مفعولين ، وعلى كونها بصرية فقال سلمان الفارسي وابن جبير ومجاهد : فرجت له السموات والأرض فرأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل ورأى مقامه في الجنة ، قال ابن عطية : فإن صح هذا النقل ففيه تخصيص لابراهيم بما لم يدركه غيره قبله ولا بعده ؛ انتهى . وروي عن علي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : كشف الله له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين وإذا كانت أبصاراً فليس المعنى مجرد الإبصار ولكن وقع له معها من الاعتبار والعلم ما لم يقع لأحد من أهل زمانه الذين بعث إليهم ، قاله ابن عباس وغيره . وفي ذلك تخصيص له على جهة التقييد بأهل زمانه وكونها من رؤية القلب ، وجوز ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره ، قال ابن عطية : رأى بها ملكوت السموات والأرض بفكرته ونظره وذلك لا بد متركب على ما تقدّم من رؤيته ببصره وإدراكه في الجملة بحواسه ، وقال الزمخشري : ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرّف إبراهيم ونبصره ملكوت السموات والأرض يعني الربوبية والإلهية ونوقفه لمعرفتهما ونرشده بما شرحنا صدره وسدّدنا نظره لطريق الاستدلال ونرى حكاية حال ماضية انتهى ، والإشارة بذلك إلى الهداية أو ومثل هدايته إلى توحيد الله تعالى ودعاء أبيه وقومه إلى عبادة الله تعالى ورفض الأصنام أشهدناه ملكوت السموات والأرض ، وحكى المهدوي أن المعنى وكما هديناك يا محمد أرينا إبراهيم وهذا بعيد من دلالة اللفظ ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أي وكذلك الإنكار والدعاء إلى الله زمان ادعاء غير الله الربوبية أشهدناه ملكوت السموات والأرض فصار له بذلك اختصاص ، قال ابن عباس : جلائل الأمور سرها وعلانيتها ، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما رأى ذلك جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله : إنك لا تستطيع هذا فرده لا يرى أعمالهم انتهى ، قال الزجاج وغيره : الملكوت الملك كالرغبوت والرهبوت والجبروت وهو بناء مبالغة ومن كلامهم : له ملكوت اليمن والعراق ، قال مجاهد : ويعني به آيات السموات والأرض ، وقال قتادة : ملكوت السموات : الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض

" صفحة رقم 171 "
الجبال والشجر والبحار ، وقيل : عبادة الملائكة وعصيان بني آدم ، وقرأ أبو السمال : ملكوت بسكون اللام وهي لغة بمعنى الملك ، وقرأ عكرمة ملكوت بالثاء المثلثة وقال : ملكوثاً باليونانية أو القبطية ، وقال النخعي : هي ملكوثاً بالعبرانية وقرىء وكذلك ترى ، بالتاء من فوق ، ( إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ ( ، برفع التاء ، أي تبصره دلائل الربوبية .
( وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( أي أريناه الملكوت ، وقيل : ثم علة محذوفة عطفت هذه عليها وقدرت ليقيم الحجة على قومه ، وقال قوم : ليستدل بها على الصانع ، وقيل : الواو زائدة ومتعلق الموقنين قيل : بوحدانية الله وقدرته ، وقيل : بنبوته وبرسالته . وقيل : عياناً كما أيقن بياناً انتقل من علم اليقين إلى عين اليقين كما سأل في قوله : ) وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ ( والإتقان تقدم تفسيره أول البقرة ، وقال أبو عبد الله الرازي : اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا لا يوصف علم الله بكونه يقيناً لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل ، وإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سبباً لحصول اليقين إذ يحصل بكل واحد منها نوع تأثير وقوة فتتزايد حتى يجزم .
الأنعام : ( 76 ) فلما جن عليه . . . . .
( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبّى ).
هذه الجملة معطوفة على قوله : ) وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ ( على قول من جعل ) وَكَذَلِكَ نُرِى ( اعتراضاً وهو قول الزمخشري . قال ابن عطية : الفاء في قوله ) فَلَمَّا ( رابطة جملة ما بعدها بما قبلهاوهي ترجح أن المراد بالملكوت هو هذا التفصيل الذي في هذه الآية ، وقال الزمخشري : كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدٍ إلى أن شيئاً منها لا يصح أن يكون إلهاً لقيام دليل الحدوث فيها وأن وراءها محدثاً أحدثها وصانعاً صنعها ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها والكواكب الزهرة ، قاله ابن عباس وقتادة ، أو المشتري ، قاله مجاهد والسدي وهو رباعي والواو فيه أصل وتكررت فيه الفاء فوزنه فعفل نحو قوقل وهو تركيب قليل ، والظاهر أن جواب ) لَّمّاً رَأَى كَوْكَباً ( وعلى هذا جوزوا في ) قَالَ هَاذَا رَبّى ( أن يكون نعتاً للكوكب وهو مشكل أو مستأنفاً وهو الظاهر ويجوز أن يكون الجواب ) قَالَ هَاذَا رَبّى ( و ) رَأَى كَوْكَباً ( حال أي جن عليه الليل رائياً كوكباً وهذا ربي الظاهر أنها جملة خبرية ، وقيل هي استفهامية على جهة الإنكار حذف منها الهمزة كقوله :
بسبع رمين الجمر أم بثمان
قال ابن الأنباري : وهذا شاذ لأنه لا يجوز أن يحذف الحرف إلا إذا كان ثم فارق بين الأخبار والاستخبار وإذا كانت خبرية فيستحيل عليه أن يكون هذا الإخبار على سبيل الإعتقاد والتصميم لعصمة الأنبياء من المعاصي ، فضلاً عن الشرك بالله ، وما روي عن ابن عباس أن ذلك وقع له في حال صباه وقبل بلوغه وأنه عبده حتى غاب وعبد القمر حتى غاب وعبد الشمس حتى غابت فلعله لا يصح ، وما حكي عن قوم أن ذلك بعد البلوغ والتكليف ليس بشيء وما حكوا من أن أمه أخفته في غار وقت ولادته خوفاً من نمروذ أنه أخبره المنجمون أنه يولد ولد في سنة كذا

" صفحة رقم 172 "
يخرب ملكه على يديه ، وأنه تقدّم إلى أنه من ولد من أنثى تركت ومن ذكر ذبحه إلى أن صار ابن عشرة أعوام ، وقيل : خمسة عشر وأنه نظر أول ما عقل من الغار فرأى الكوكب فحكاية يدفعها مساق الآية ، وقوله : ) إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ ( وقوله : ) تِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ( وتأول بعضهم ذلك على إضمار القول وكثيراً ما يضمر تقديره قال : يقولون هذا ربي على حكاية قولهم وتوضيح فساده مما يظهر عليه من سمات الحدوث ولا يحتاج هذا إلى الإضمار بل يصح أن يكون هذا كقوله تعالى : ) أَيْنَ شُرَكَائِىَ ( أي على زعمكم ، وقال الزمخشري : ) هَاذَا رَبّى ( قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه ، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة انتهى ، فيكون هذا القول منه استدراجاً لإظهار الحجة وتوسلاً إليها كما توسل إلى كسر الأصنام بقوله : ) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ ( فوافقهم ظاهراً على النظر في النجوم وأوهمهم أن قوله إني سقيم ناشىء عن نظره فيها .
( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( أي لا أحب عبادة الآفلين المتغيرين عن حال إلى حال المنتقلين من مكان إلى مكان المحتجبين بستر فإن ذلك من صفات الأجرام وإنما احتج بالأفول دون البزوغ ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال ، لأن الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب ، وجاء بلفظ الآفلين ليدل على أن ثم آفلين كثيرين ساواهم هذا الكوكب في الأفول فلا مزية له عليهم في أن يعبد للاشتراك في الصفة الدالة على الحدوث .
الأنعام : ( 77 ) فلما رأى القمر . . . . .
( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَاذَا رَبّى ( لم يأت في الكواكب رأى كوكباً بازغاً لأنه أولاً ما ارتقب حتى بزغ الكوكب لأنه بإظلام الليل تظهر الكواكب بخلاف حاله مع القمر والشمس فإنه لما أوضح لهم أن هذا النير وهو الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون رباً ارتقب ما هو أنور منه وأضوأ على سبيل إلحاقه بالكوكب ، والاستدلال على أنه لا يصلح للعبادة فرآه أول طلوعه وهو البزوغ ، ثم عمل كذلك في الشمس ارتقبها إذ كانت أنور من القمر وأضوأ وأكبر جرماً وأهم نفعاً ومنها يستمد القمر على ما قيل فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم وبين أنها مساوية للقمر والكواكب في صفة الحدوث .
( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ ( القوم الضالون هنا عبدة المخلوقات كالأصنام وغيرها واستدل بهذا من زعم أن قوله : ) هَاذَا رَبّى ( على ظاهره وأن النازلة كانت في حال الصغر ، وقال الزمخشري ) لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى ( تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلهاً وهو نظير الكوكب في الأفول فهو ضال فإن الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه .
الأنعام : ( 78 ) فلما رأى الشمس . . . . .
( فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَاذَا رَبّى هَاذَا أَكْبَرُ ( المشهور في الشمس أنها مؤنثة . وقيل : تذكر وتؤنث فأنثت أولاً على المشهور وذكرت في الإشارة على اللغة القليلة مراعاة ومناسبة للخبر ، فرجحت لغة التذكير التي هي أقل على لغة التأنيث وأما من لم ير فيها إلا التأنيث . فقال ابن عطية : ذكر أي هذا المرئي أو النير وقدره الأخفش ، هذا الطالع ، وقيل : الشمس بمعنى الضياء قال تعالى : ) جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء ( فأشار إلى الضياء والضياء مذكر ، وقال الزمخشري : جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم : ما جاءت حاجتك وما كانت أمك ، ولم تكن فتنتعم إلا أن قالوا وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله : علام ولم يقولوا علامة ، وإن كان علامة أبلغ احترازاً من علامة التأنيث انتهى ، ويمكن أن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث ، ولا علامة عندهم للتأنيث بل المذكر والمؤنث سواء في ذلك عندهم فلذلك أشار إلى المؤنث عندنا حين حكى كلام إبراهيم بما يشار به إلى المذكر ، بل لو كان

" صفحة رقم 173 "
المؤنّث بفرج لم يكن لهم علامة تدل عليه في كلامهم وحين أخبر تعالى عنها بقوله ) بَازِغَةً ( و ) أَفَلَتْ ( أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية .
( فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ ياقَوْمِ قَوْمٌ إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ ( أي من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها ، ولما أفلت الشمس لم يبق لهم شيء يمثل لهم به وظهرت حجته وقوي بذلك على منابذتهم تبرأ من إشراكهم ، وقال الماتريدي : الاختيار أن يقال : استدل على عدم صلاحيتها للإلهية لغلبة نور القمر نور الزهرة ونور الشمس لنوره وقهرتيك بذاك وهذا بتلك ، والرب لا يقهر والظلام غلب نور الشمس وقهره انتهى ملخصاً . قال ابن أبي الفضل : ما جاء الظلام إلا بعد ذهاب الشمس فلم يجتمع معها حتى يقال قهرها وقهر نورها انتهى ، وقال غيره من المفسرين : إنه استدل بما ظهر عليها من شأن الحدوث والانتقال من حال إلى حال وذلك من صفات الأجسام فكأنه يقول : إذا بان في هذه النيرات الرفيعة أنها لا تصلح للربوبية فأصنامكم التي من خشب وحجارة أحرى أن يتبين ذلك فيها ومثل لهم بهذه النيرات لأنهم كانوا أصحاب نظر في الأفلاك وتعلق بالنجوم وأجمع المفسرون على أن رؤية هذه النيرات كانت في ليلة واحدة ، رأى الكوكب الزهرة أو المشتري على الخلاف السابق جانحاً للغروب فلما أفل بزغ القمر فهو أول طلوعه فسرى الليل أجمع فلما بزغت الشمس زال ضوء القمر قبلها لانتشار الصباح وخفى نوره ودنا أيضاً من مغربه ، فسمي ذلك أفولاً لقربه من الأفول التام على تجوز في التسمية ثم بزغت الشمس على ذلك ، قال ابن عطية : وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشر من الشهر إلى ليلة عشرين ، وليس يترتب في ليلة واحدة كما أجمع أهل التفسير إلا في هذه الليالي وبذلك التجوز في أفول القمر ؛ انتهى ، والظاهر والذي عليه المفسرون أن المراد من الكوكب والقمر والشمس هو ما وضعته له العرب من إطلاقها على هذه النيرات ، وحكي عن بعض العرب ولعله لا يصح عنه أن الرؤية رؤية قلب ، وعبر بالكوكب عن النفس الحيوانية التي لكل كوكب وبالقمر عن النفس الناطقة التي لكل فلك ، وبالشمس عن العقل المجرد الذي لكل فلك وكان ابن سينا يفسر الأفول بالإمكان فزعم الغزالي أن المراد بأفولها إمكانها لذاتها ، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود ، ومن الناس من حمل الكوكب على الحس والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل ، والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية القوة ، ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها ؛ انتهى ، وهذان التفسيران شبيهان بتفسير الباطنية لعنهم الله إذ هما لغز ورمز ينزه كتاب الله عنهما ولولا أن أبا عبد الله الرازي وغيره قد نقلهما في التفسير ، لأضربت عن نقلهما صفحاً إذ هما مما نجزم ببطلانه ومن تفسير الباطنية الإمامية ونسبوه إلى عليّ أن الكوكب هو المأذون ، وهو الداعي والقمر اللاحق وهو فوق المأذون بمنزلة الوزير من الإمام والشمس الإمام وابراهيم في درجة المستجيب ، فقال للمأذون : هذا ربي عنى رب التربية للعلم فإنه يربي المستجيب بالعلم ويدعوه إليه ، فلما أفل فنى ما عند المأذون من العلم رغب عنه ولزم اللاحق فلما فنى ما عنده رغب عنه وتوجه إلى التالي وهو الصامت الذي يقبل العلم من الرسول الذي يسمى الناطق لأنه ينطق بجميع ما ينطق به الرسول فلما فنى ما عنده ارتقى إلى الناطق وهو الرسول وهو المصور للشرائع عندهم ؛ انتهى هذا التخليط ، واللغز الذي لا تدل عليه الآية بوجه من وجوه الدلالات والتفسير أن قبل هذا شبيهان بهذا التفسير المستحيل وللمنسوبين إلى الصوف في تفسير كتاب الله تعالى أنواع من هذه التفاسير . قال القشيري : لما جنّ عليه الليل أحاط به سجوف الطلب ولم يتجل له بعد صباح الوجود فطلع له نجم العقول فشاهد الحق بسره بنور البرهان فقال : هذا ربي ثم زيد في ضيائه فطلع قمر العلم وطالعه بسر البيان ، فقال : ) هَاذَا رَبّى ( ثم أسفر الصبح ومتع النهار وطلعت شمس العرفان من برج شرفها فلم يبق للطلب مكان ولا للتجويز حكم ولا للتهمة قرار ، فقال : ) إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ ( إذ ليس بعد البعث ريب ولا بعد الظهور ستر انتهى ، والعجب كل العجب من قوم يزعمون أن هؤلاء المنسوبين إلى الصوف هم خواص الله تعالى وكلامهم في كتاب الله تعالى هذا الكلام .
الأنعام : ( 79 ) إني وجهت وجهي . . . . .
( إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ حَنِيفاً ( أي أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني وغير ذلك مما يعمه المعنى المعبر عنه

" صفحة رقم 174 "
ب وجهي للذي ابتدع العالم محل هذه النيرات المحدثات وغيرها ، واكتفى بالظرف عن المظروف لعمومه إذ هذه النيرات مظروف السموات ولما كانت الأصنام التي يعبدها قومه النيرات ومن خشب وحجارة وذكر ظرف النيرات عطف عليه الأرض التي هي ظرف الخشب والحجارة ، و ) حَنِيفاً ( مائلاً عن كل دين إلى دين الحق وهو عبادة الله تعالى مسلماً أي منقاداً إليه مستسلماً له .
( وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ولما أنكر على أبيه عبادة الأصنام وضلله وقومه ، ثم استدل على ضلالهم بقضايا العقول إذ لا يذعنون للدليل السمعي لتوقفه في الثبوت على مقدمات كثيرة وأبدى تلك القضايا منوطة بالحس الصادق تبرأ من عبادتهم وأكد ذلك بأن ثم أخبر أنه وجه عبادته لمبدع العالم التي هذه النيرات المستدل بها ، بعضه ثم نفى عن نفسه أن يكون من المشركين مبالغة في التبريء منهم .
الأنعام : ( 80 ) وحاجه قومه قال . . . . .
( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى ( المحاجة مفاعلة من اثنين مختلفين في حكمين يدلي كل منهما بحجته على صحة دعواه ، والمعنى وحاجه قومه في توحيد الله ونفى الشركاء عنه منكرين لذلك ومحاجة مثل هؤلاء إنما هي بالتمسك باقتفاء آبائهم تقليداً وبالتخويف من ما يعبدونه من الأصنام كقول : قوم هود ) إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء ( فأجابهم بأن الله قد هداه بالبرهان القاطع على توحيده ورفض ما سواه وأنه لا يخاف من آلهتهم ، وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام ) أَتُحَاجُّونّى ( بتخفيف النون وأصله بنونين الأولى علامة الرفع والثانية نون الوقاية والخلاف في المحذوف منهما مذكور في علم النحو ، وقد لحن بعض النحويين من قرأ بالتخفيف وأخطأ في ذلك ، وقال مكي : الحذف بعيد في العربية قبيح مكروه وإنما يجوز في الشعر للوزن والقرآن لا يحتمل ذلك فيه إذ لا ضرورة تدعو إليه وقول مكي ليس بالمرتضى ، وقيل : التخفيف لغة لغطفان ، وقرأ باقي السبعة بتشديد النون أصله أتحاجونني فأدغم هروباً من استثقال المثلين متحركين فخفف بالإدغام ولم يقرأ هناك بالفك وإن كان هو الأصل ويجوز في الكلام ، و ) فِى اللَّهِ ( متعلق بأتحاجوني لا بقوله وحاجة قومه والمسألة من باب الإعمال إعمال الثاني فلو كان متعلقاً بالأول لأضمر في الثاني ونظير ) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ ( والجملة من قوله ) وَقَدْ هَدَانَا ( حالية أنكر عليهم أن تقع منهم محاجة له وقد حصلت من الله له الهداية لتوحيده فمحاجتهم لا تجدي لأنها داحضة .
( وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً ( حكي أن الكفار قالوا لإبراهيم عليه السلام : أما خفت أن تصيبك آلهتنا ببرص أو داء لإذايتك لها وتنقيصك فقال لهم : لست أخاف الذي تشركون به لأنه لا قدرة له ولا غنى عنده و ) مَا ( بمعنى الذي والضمير في ( به ) عائد عليه رأي الذي تشركون به الله تعالى ويجوز ى ن يعود على الله أي : الذي تشركونه بالله في الربوبية ) وَإِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى ( قال ابن عطية استثناء ليس من الأول ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئة ربه تعالى في أن يريد بضر انتهى ، فيكون استنثاءً منقطعاً وبه قال الحوفي فيصير المعنى لكن مشيئة الله إياي بضر أخاف وقال الزمخشري إلا أن يشاء ربي إلا وقت مشيئة ربي شيئاً يخاف فحذف الوقت يعني لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر ولا على مضرة إلا أن يشاء ربي أن يصيبني بمخوف من جهتها إن أصبت ذنباً أستوجب به إنزال المكروه مثل أن يرجمني بكوكب أو بشقة من الشمس والقمر ، أو يجعلها قادرة على مضرتي انتهى ، فيكون استثناءً متصلاً من عموم الأزمان الذي تضمنه النفي وجوز أبو البقاء أن يكون متصلاً ومنقطعاً إلا أنه جعله متصلاً مستثنى من الأحوال وقدره إلا في حال مشيئة ربي أي لا أخافها في كل حال إلا في هذه الحال ، وانتصب شيئاً على المصدر أي مشيئة أو على المفعول به .
( وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً ( ذكر عقيب الاستثناء سعة علم الله في تعلقه بجميع الكوائن فقد لا يستبعد أن يتعلق علمه بإنزال المخوف بي إما من جهتها إن كان استثناءً متصلاً أو مطلقاً إن كان منقطعاً وانتصب علماً على التمييز المحول

" صفحة رقم 175 "
من الفاعل ، أصله وسع علم ربي كل شيء .
( أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( تنبيه لهم على غفلتهم حيث عبدوا ما لا يضر ولا ينفع ، وأشركوا بالله وعلى ما حاجهم به من إظهار الدلائل التي أقامها على عدم صلاحية هذه الأصنام للربوبية . وقال الزمخشري : ) أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز ، وقيل : أفلا تتعظون بما أقول لكم ، وقال عبد الله الرازي : ) أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( أن نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله لا يوجب حلول العذاب ونزول العقاب .
الأنعام : ( 81 ) وكيف أخاف ما . . . . .
( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً ( استفهام معناه التعجب والإنكار كأنه تعجب من فساد عقولهم حيث خوفوه خشباً وحجارة لا تضر ولا تنفع ، وهم لا يخافون عقبي شركهم بالله وهو الذي بيده النفع والضر والأمر كله ) وَلاَ تَخَافُونَ ( معطوف على ) أَخَافُ ( فهو داخل في التعجب والإنكار واختلف متعلق الخوف فبالنسبة إلى إبراهيم علق الخوف بالأصنام وبالنسبة إليهم علقه بإشراكهم بالله تعالى تركاً للمقابلة ، ولئلا يكون الله عديل أصنامهم لو كان التركيب ولا تخافون الله تعالى وأتى بلفظ ) مَا ( الموضوعة لما لا يعقل لأن الأصنام لا تعقل إذ هي حجارة وخشب وكواكب ، والسلطان الحجة والإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة وكأنه لما أقام الدليل العقلي على بطلان الشركاء وربوبيتهم ، نفى أيضاً أن يكون على ذلك دليل سمعي فالمعنى أن ذلك ممتنع عقلاً وسمعاً فوجب اطراحه ، وقرىء سلطاناً بضم اللام والخلاف هل ذلك لغة فيثبت به بناء فعلان بضم الفاء والعين أو هو اتباع فلا يثبت به .
( فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالاْمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( لما خوفوه في مكان الأمن ولم يخافوا في مكان الخوف أبرز الاستفهام في صورة الاحتمال وإن كان قد علم قطعاً أنه هو الآمن لاهم كما قال الشاعر : فلئن لقيتك خاليين لتعلمن
أني وايك فارس الأحزاب
أي أينا ومعلوم عنده أنه هو فارس الأحزاب لا المخاطب وأضاف أيا إلى الفريقين ، ويعني فريق المشركين وفريق الموحدين وعدل عن أينا أحق بالأمن أنا أم أنتم احترازاً من تجريد نفسه فيكون ذلك تزكية لها ، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم من ذوي العلم والاستبصار فأخبروني أي هذين الفريقين أحق بالأمن .
الأنعام : ( 82 ) الذين آمنوا ولم . . . . .
( الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ( الظاهر أنه من كلام إبراهيم لما استفهمهم استفهام عالم بمن هو الآمن وأبرزه في صورة السائل الذي لا يعلم استأنف الجواب عن السؤال ، وصرح بذلك المحتمل فقال : الفريق الذي هو أحق بالأمن هم الذين آمنوا ، وقيل : هو من كلام قوم إبراهيم أجابوا بما هو حجة عليهم ، وقيل : هو من كلام الله أمر إبراهيم أن يقوله لقومه أو قاله على جهة فصل القضاء بين خلقه وبين من حاجه قومه ، واللبس الخلط والذين آمنوا : إبراهيم وأصحابه وليست في هذه الأمة قاله علي وعنه إبراهيم خاصة أو من هاجر إلى المدينة ، قاله عكرمة أو عامة قاله بعضهم وهو الظاهر ، والظلم هنا الشرك قاله ابن مسعود وأبيّ ، وعن جماعة من الصحابة أنه لما نزلت أشفق الصحابة وقالوا : أينا لم يظلم نفسه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إنما ذلك كما قال لقمان : ) إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( ) ولما قرأها عمر عظمت عليه فسأل أبياً فقال : إنه الشرك يا أمير المؤمنين فسرى عنه وجرى لزيد بن صوحان مع سلمان نحو مما جرى لعمر مع أبيّ ، وقرأ مجاهد : ) وَلَمْ يَلْبِسُوا

" صفحة رقم 176 "
إِيمَانَهُمْ ( بشرك ولعل ذلك تفسير معنى إذ هي قراءة تخالف السواد ، وقال الزمخشري : أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس انتهى ، وهذه دفينة اعتزال أي إن الفاسق ، ليس له الأمن إذا مات مصراً على الكبيرة ، وقوله : وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس هذا رد على من فسر الظلم بالكفر ، والشرك وهم الجمهور وقد فسره الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالشرك فوجب قبوله ولعل الزمخشري لم يصح له ذلك عن الرسول ، وإنما جعله يأباه لفظ اللبس لأن اللبس هو الخلط فيمكن أن يكون الشخص في وقت واحد مؤمناً عاصياً معصية تفسقه ، ولا يمكن أن يكون مؤمناً مشركاً في وقت واحد ) وَلَمْ يَلْبِسُواْ ( يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة ويحتمل أن يكون حالاً دخلت واو الحال على الجملة المنفية بلم كقوله تعالى : ) أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ ( وما ذهب إليه ابن عصفور من أن وقوع الجملة المنفية بلم قليل جداً وابن خروف من وجوب الواو فيها وإن كان فيها ضمير يعود على ذي الحال خطأ بل ذلك قليل وبغير الواو كثير على ذلك لسان العرب ، وكلام الله ، وقرأ عكرمة : ) وَلَمْ يَلْبِسُواْ ( بضم الياء ويجوز في ) الَّذِينَ ( أن يكون خبر مبتدأ محذوف وأن يكون خبره المبتدأ والخبر الذي هو ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الاْمْنُ ( وأبعد من جعل لهم الأمن خبر الذين وجعل أولئك فاصلة وهو النحاس والحوفي .
الأنعام : ( 83 ) وتلك حجتنا آتيناها . . . . .
( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ( الإشارة بتلك إلى ما وقع به الاحتجاج من قوله ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ ( إلى قوله ) وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ( وهذا الظاهر ، وأضافها إليه تعالى على سبيل التشريف وكان المضاف إليه بنون العظمة لإيتاء المتكلم و ) ءاتَيْنَاهَا ( أي أحضرناها بباله وخلقناها في نفسه إذ هي من الحجج العقلية ، أو ) ءاتَيْنَاهَا ( بوحي منا ولقناه إياها وإن أعربت وتلك مبتدأ وحجتنا بدلاً ) وآتيناها ( خيرا ل ( تلك ) لم يخبر أن يتعلق ( على قومه ) ب ( حجتنا ) كذا ابدأ ( وتلك حجتنا ) مبتدأ وخبر ) وآتيناها ( حال العامل فيها اسم الإشارة لأن الحجة ليست مصدراً وإنما هو الكلام المؤلف للاستدلال على الشيء ولو جعلناه مصدراً مجازاً لم يجز ذلك أيضاً لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه ، وأجاز الحوفي أن يكون ) حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا ( في موضع النعت لحجتنا والنية فيها الانفصال والتقدير : وتلك حجة لنا آتيناها انتهى ، وهذا بعيد جداً . وقال الحوفي : وهاء مفعول أول وإبراهيم مفعول ثان وهذا قد قدمنا أنه مذهب السهيلي ، وأما مذهب الجمهور فالهاء مفعول ثان وابراهيم مفعول أول ، وقال الحوفي وابن عطية ) عَلَى قَوْمِهِ ( متعلق ) بآتيناها ). قال ابن عطية أظهرناها لإبراهيم على قومه ، وقال أبو البقاء : بمحذوف تقديره حجة على قومه ودليلاً ، وقال الزمخشري : ) ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى ( أرشدناه إليها ووفقناه لها وهذا تفسير معنى ، ويجوز أن يكون في موضع الحال وحذف مضاف أي ) إِبْراهِيمَ عَلَى ( مستعلية على حجج قومه قاهرة لها .
( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ( أي مراتب ومنزلة من نشاء وأصل الدرجات في المكان ورفعها بالمعرفة أو بالرسالة أو بحسن الخلق أو بخلوص العمل في الآخرة أو بالنبوة والحكمة في الدنيا أو بالثواب والجنة في الآخرة ، أو بالحجة والبيان ، أقوال أقر بها الأخير لسياق الآية ونوّن درجات الكوفيون وأضافها الباقون ونصبوا المنون على الظرف أو على أنه مفعول ثان ، ويحتاج هذا القول إلى تضمين نرفع معنى ما يعدّي إلى اثنين أي نعطي من نشاء درجات .
( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( أي ) حَكِيمٌ ( في تدبير عباده ) عَلِيمٌ ( بأفعالهم أو حكيم في تقسيم عباده إلى عابد صنم وعابد الله ) عَلِيمٌ ( بما يصدر بينهم من الاحتجاج ، ويحتمل أن يكون الخطاب في ) إِنَّ رَبَّكَ ( للرسول ويحتمل أن يكون المراد به إبراهيم فيكون من باب الالتفات والخروج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب على سبيل التشريف بالخطاب .
الأنعام : ( 84 ) ووهبنا له إسحاق . . . . .
( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ( ) إِسْحَاقَ ( ابنه لصلبه من سارة و ) يَعْقُوبَ ( ابن إسحاق كما قال تعالى

" صفحة رقم 177 "
) فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ( ، وعدد تعالى نعمه على إبراهيم فذكر إيتاءه الحجة على قومه ، وأشار إلى رفع درجاته وذكر ما منّ به عليه من هبته له هذا النبي الذي تفرعت منه أنبياء بني إسرائيل ، ومن أعظم المنن أن يكون من نسل الرجل الأنبياء والرسل ولم يذكر إسماعيل مع إسحاق . قيل : لأن المقصود بالذكر هنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب ولم يخرج من صلب إسماعيل نبي إلا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولم يذكره في هذا المقام لأنه أمره عليه السلام أن يحتج على العرب في نفي الشرك بالله بأن جدّهم إبراهيم لما كان موحداً لله متبرئاً من الشرك رزقه الله أولاً ملوكاً وأنبياء ، والجملة من قوله : ) وَوَهَبْنَا ( معطوفة على قوله : ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ( عطف فعلية على اسمية ، وقال ابن عطية : ) وَوَهَبْنَا ( عطف على ) ءاتَيْنَاهَا ( انتهى . ولا يصح هذا لأن ) ءاتَيْنَاهُمُ ( لها موضع من الإعراب إما خبر . وإما حال ولا يصح في ) وَوَهَبْنَا ( شيء منهما .
( كُلاًّ هَدَيْنَا ( أي كل واحد من إسحاق ويعقوب هدينا .
( وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ( لما ذكر شرف أبناء إبراهيم ذكر شرف آبائه فذكر نوحاً الذي هو آدم الثاني وقال : ) مِن قَبْلُ ( تشبيهاً على قدمه وفي ذكره لطيفة وهي أن نوحاً عليه السلام عبدت الأصنام في زمانه ، وقومه أول قوم عبدوا الأصنام ووحد هو الله تعالى ودعا إلى عبادته ورفض تلك الأصنام وحكى الله عنه مناجاته لربه في قومه حيث قالوا : لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًّا ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ( وكان إبراهيم عبدت الأصنام في زمانه ووحد هو الله تعالى ودعا إلى رفضها فذكر الله تعالى نوحاً وأنه هداه كما هدى إبراهيم .
( ( وكان إبراهيم عبدت الأصنام في زمانه ووحد هو الله تعالى ودعا إلى رفضها فذكر الله تعالى نوحاً وأنه هداه كما هدى إبراهيم .
( وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ ( قيل : ومن ذرية نوح عاد الضمير عليه لأنه أقرب مذكور ولأن في جملتهم لوطاً وهو ابن أخي إبراهيم فهو من ذرية نوح لا من ذرية إبراهيم ، وقيل : ومن ذرية إبراهيم عاد الضمير عليه لأنه المقصود بالذكر ، قال ابن عباس : هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان فيهم من لا يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب ، لأن لوطاً ابن أخي إبراهيم والعرب تجعل العمّ أباً ، وقال أبو سليمان الدمشقي : ووهبنا له لوطاً في المعاضدة والنصرة انتهى . قالوا : والمعنى وهدينا أو ووهبنا ) مِنْ ذُرّيَّتَهُ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ ( وقرنهما لأنهما أب وابن ولأنهما ملكان نبيان وقدم داود لتقدمه في الزمان ولكونه صاحب كتاب ولكونه أصلاً لسليمان وهو فرعه .
( وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ( قرنهما لاشتراكهما في الامتحان أيوب بالبلاء في جسده ونبذ قومه له ويوسف بالبلاء بالسجن ولغربته عن أهله ، وفي مآلهما بالسلامة والعافية ، وقدم أيوب لأنه أعظم في الامتحان .
( وَمُوسَى وَهَارُونَ ( قرنهما لاشتراكهما في الأخوة وقدّم موسى لأنه كليم الله .
( وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ ( أي مثل ذلك الجزاء من إيتاء الحجة وهبة الأولاد الخيرين نجزي من كان محسناً في عبادتنا مراقباً في أعماله لنا .
الأنعام : ( 85 ) وزكريا ويحيى وعيسى . . . . .
( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ( قرن بينهم لاشتراكهم في الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا وبدأ بزكريا ويحيى لسبقهما عيسى في الزمان وقدّم زكريا لأنه والد يحيى فهو أصل ، ويحيى فرع وقرن عيسى وإلياس لاشتراكهما في كونهما لم يموتا بعد وقدّم عيسى لأنه صاحب كتاب ودائرة متسعة ، وتقدّم ذكر أنساب هؤلاء الأنبياء إلا إلياس وهو إلياس بن بشير بن فنخاص بن العيزار بن هارون بن عمران ، وروي عن ابن مسعود أن ادريس هو الياس ورد ذلك بأن إدريس هو جد نوح عليهما السلام تظافرت بذلك الروايات ، وقيل : الياس هو الخضر وتقدّم خلاف القرّاء في زكريا مداً وقصراً ، وقرأ ابن عباس باختلاف عنه والحسن وقتادة بتسهيل همزة إلياس وفي ذكر عيسى هنا دليل على أن ابن البنت داخل في الذرية وبهذه الآية استدل على دخوله في الوقف على الذرية ، وسواء كان الضمير في ) وَمِن ذُرّيَّتِهِ ( عائداً على نوح أو على إبراهيم فنقول : الحسن والحسين ابنا فاطمة رضي الله عنهم هما

" صفحة رقم 178 "
من ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وبهذه الآية استدل أبو جعفر الباقر ويحيى بن يعمر على ذلك ، وكان الحجاج بن يوسف طلب منهما الدليل على ذلك إذ كان هو ينكر ذلك فسكت في قصتين جرتا لهما معه .
( كُلٌّ مّنَ الصَّالِحِينَ ( لا يختص كل بهؤلاء الأربعة ، بل يعم جميع من سبق ذكره من الأربعة عشر نبياً .
الأنعام : ( 86 ) وإسماعيل واليسع ويونس . . . . .
( وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً ( المشهور أن إسماعيل هو ابن إبراهيم من هاجر وهو أكبر ولده ، وقيل : هو نبي من بني إسرائيل كان زمان طالوت وهو المعنى بقوله إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله ، واليسع قال زيد بن أسلم : هو يوشع بن نون ، وقال غيره : هو اليسع بن أخطوب بن العجوز ، وقرأ الجمهور واليسع كأن أل أدخلت على مضارع وسع ، وقرأ الأخوان والليسع على وزن فيعل نحو الضيغم واختلف فيه أهو عربي أم عجمي ، فأما على قراءة الجمهور وقول من قال : إنه عربي فقال : هو مضارع سمي به ولا ضمير فيه فأعرب ثم نكر وعرف بأل ، وقيل سمي بالفعل كيزيد ثم أدخلت فيه أل زائدة شذوذاً كاليزيد في قوله :
رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً
ولزمت كما لزمت في الآن ، ومن قال : إنه أعجمي فقال : زيدت فيه أل ولزمت شذوذاً ، وممن نص على زيادة أل في اليسع أبو عليّ الفارسي وأما على قراءة الأخوين فزعم أبو عليّ أن أل فهي كهي في الحارث والعباس ، لأنهما من أبنية الصفات لكن دخول أل فيه شذوذ عن ما عليه الأسماء الأعجمية إذ لم يجيء فيها شيء على هذا الوزن كما لم يجيء فيها شيء فيه أل للتعريف ، وقال أبو عبد الله بن مالك الجياني ، ما قارنت أل نقله كالمسمى بالنضر أو بالنعمان أو ارتجاله كاليسع والسموأل ، فإن الأغلب ثبوت أل فيه وقد يجوز أن يحذف فعلى هذا لا تكون أل فيه لازمة واتضح من قوله : إن اليسع ليس منقولاً من فعل كما قال بعضهم ، وتقدّم أنه قال : يونس بضم النون وفتحها وكسرها وكذلك يوسف وبفتح النون وسين يوسف قرأ الحسن وطلحة ويحيى والأعمش وعيسى بن عمر في جميع القرآن وإنما جمع هؤلاء الأربعة لأنهم لم يبق لهم من الخلق أتباع ولا أشياع فهذه مراتب ست : مرتبة الملك والقدرة ذكر فيها داود وسليمان ، ومرتبة البلاء الشديد ، ذكر فيها أيوب ، ومرتبة الجمع بين البلاء والوصول إلى الملك ذكر فيها يوسف ، ومرتبة قوة البراهين والمعجزات والقتال والصولة ذكر فيها موسى وهارون ، ومرتبة الزهد الشديد والانقطاع عن الناس للعبادة ذكر فيها زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، ومرتبة عدم الاتباع ذكر فيها إسماعيل واليسع ويونس ولوطاً ، وهذه الأسماء أعجمية لا تجر بالكسرة ولا تنون إلا اليسع فإنه يجر بها ولا ينون وإلا لوطاً فإنه مصروف لخفة بنائه بسكون وسطه ، وكونه مذكراً وإن كان فيه ما في إخوته من مانع الصرف وهو العلمية والعجمة الشخصية وقد تحاشى المسلمون هذا الاسم الشريف ، فقلّ من تسمى به منهم كأبي مخنف لوط بن يحيى ، ولوط النبي هو لوط بن هارون بن آزر وهو نارخ وتقدّم رفع نسبه .
( وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( فيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الأولياء خلافاً لبعض من ينتمي إلى الصوف في زعمهم أن الولي أفضل من النبي كمحمد بن العربي الحاتمي صاحب كتاب الفتوح المكية وعنقاء مغرب وغيرهما من كتب الضلال ، وفيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة لعموم العالمين وهم الموجودون سوى الله تعالى فيندرج في العموم الملائكة . قال ابن عطية : معناه عالمي زمانهم .
الأنعام : ( 87 ) ومن آبائهم وذرياتهم . . . . .
( وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِم

" صفحة رقم 179 "
وَإِخْوانِهِمْ ( المجرور في موضع نصب . فقال الزمخشري : عطفاً على ) كَلاَّ ( بمعنى وفضلنا بعض آبائهم ، وقال ابن عطية : وهدينا ) مِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ ( جماعات فمن للتبعيض والمراد من آمن نبياً كان أو غير نبي ويدخل عيسى في ضمير قوله : ) وَمِنْ ءابَائِهِمْ ( ولهذا قال محمد بن كعب : الخال والخالة انتهى ، ( وَمِنْ ءابَائِهِمْ ( كآدم وإدريس ونوح وهود وصالح ) وَذُرّيَّاتِهِمْ ( كذرية نوح عليه السلام المؤمنين ) وَإِخْوانِهِمْ ( كإخوة يوسف ذكر الأصول والفروع والحواشي .
( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( الظاهر عطف ) وَاجْتَبَيْنَاهُمْ ( على ) فَضَّلْنَا ( أي اصطفيناهم وكرر الهداية على سبيل التوضيح للهداية السابقة ، وأنها هداية إلى طريق الحق المستقيم القويم الذي لا عوج فيه وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الشرك .
الأنعام : ( 88 ) ذلك هدى الله . . . . .
( ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ( أي ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هو هدى الله ، وقال ابن عطية : ذلك إشارة إلى النعمة في قوله ) وَاجْتَبَيْنَاهُمْ ( انتهى ، وفي الآية دليل على أن الهدى بمشيئة الله تعالى .
( وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( أي ) وَلَوْ أَشْرَكُواْ ( مع فضلهم وتقدّمهم وما رفع لهم من الدرجات لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم كما قال تعالى : ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( وفي قوله : ) وَلَوْ أَشْرَكُواْ ( دلالة على أن الهدى السابق هو التوحيد ونفي الشرك .
الأنعام : ( 89 ) أولئك الذين آتيناهم . . . . .
( أُوْلَائكَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ( لما ذكر أنه تعالى فضلهم واجتباهم وهداهم ذكر ما فضلوا به ، والكتاب : جنس للكتب الإلهية كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل ، والحكم : الحكمة أو الحكم بين الخصوم أو ما شرعوه أو فهم الكتاب أو الفقه في دين الله أقوال ، وقال أبو عبد الله الرازي : ) الْكِتَابَ مِن ( هي رتبة العلم يحكمون بها على بواطن الناس وأرواحهم و ) لِحُكْمِ ( مرتبة نفوذ الحكم بحسب الظاهر و ) النُّبُوَّةَ ( المرتبة الثالثة وهي التي يتفرع على حصولها حصول المرتبتين فالحكام على الخلق ثلاث طوائف . انتهى ملخصاً .
( فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( الظاهر أن الضمير في ) بِهَا ( عائد إلى النبوة لأنها أقرب مذكور ، وقال الزمخشري : ) بِهَا ( بالكتاب والحكم والنبوة فجعل الضمير عائداً على الثلاثة وهو أيضاً له ظهور ، والإشارة بهؤلاء إلى كفار قريش وكل كافر في ذلك العصر ، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي وغيرهم ، وقال الزمخشري : ) هَؤُلاء ( يعني أهل مكة انتهى وقال السدّي ، وقال الحسن : أمّة الرسول ومعنى ) وَكَّلْنَا ( أرصدنا للإيمان بها والتوكيل هنا استعارة للتوفيق للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عله ، والقوم الموكلون بها هنا هم الملائكة قاله أبو رجاء ، أو مؤمنوا أهل المدينة قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي ، وقال الزمخشري : ) قَوْماً ( هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ( انتهى . وهو قول الحسن وقتادة أيضاً قالا : المراد بالقوم من تقدّم ذكره من الأنبياء والمؤمنين ، وقيل : الأنبياء الثمانية عشر المتقدم ذكرهم واختاره الزجاج وابن جرير لقوله بعد ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ). وقيل : المهاجرون والأنصار ، وقيل : كل من آمن بالرسول ، وقال مجاهدهم الفرس والآية وإن كان قد فسر بها مخصوصون فمعناها عام في الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة .
الأنعام : ( 90 ) أولئك الذين هدى . . . . .
( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الإشارة بأولئك إلى المشار إليهم بأولئك الأولى وهم الأنبياء السابق ذكرهم وأمره تعالى أن يقتدى بهداهم ، والهداية السابقة هي توحيد الله تعالى وتقديسه عن الشريك ، فالمعنى فبطريقتهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون

" صفحة رقم 180 "
الشرائع ، فإنها مختلفة فلا يمكن أن يؤمر بالاقتداء بالمختلفة وهي هدى ما لم تنسخ فإذا نسخت لم تبق هدى بخلاف أصول الدين فإنها كلها هدى أبداً . وقال تعالى : ) لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ). وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون الإشارة بأولئك إلى ) وقوما ( وذلك يترتب على بعض التأويلات في المراد بالقوم على بعضها انتهى ، ويعني أنه إذا فسر القوم بالأنبياء المذكورين أو بالملائكة فيمكن أن تكون الإشارة إلى قوم وإن فسروا بغير ذلك فلا يصح ، وقيل : الاقتداء في الصبر كما صبر من قبله ، وقيل : يحمل على كل هداهم إلا ما خصه الدليل ، وقيل : في الأخلاق الحميدة من الصبر على الأذى والعفو ، وقال : في ريّ الظمآن أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية بمكارم الأخلاق فأمر بتوبة آدم وشكر نوح ووفاء إبراهيم وصدق وعد إسماعيل وحلم إسحاق وحسن ظنّ يعقوب ؟ واحتمال يوسف وصبر أيوب وإثابة داود وتواضع سليمان وإخلاص موسى وعبادة زكريا وعصمة يحيى وزهد عيسى ، وهذه المكارم التي في جميع الأنبياء اجتمعت في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعليهم أجمعين ولذلك وصفه تعالى بقوله : ) مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ). وقال الزمخشري : ) فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( فاختص هداهم بالاقتداء ولا يقتدى إلا بهم ، وهذا بمعنى تقديم المفعول وهذا على طريقته في أن تقديم المفعول يوجب الاختصاص وقد رددنا عليه ذلك في الكلام على ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ). وقرأ الحرميان وأهل حرميهما وأبو عمرو اقتده بالهاء ساكنة وصلاً ووقفاً وهي هاء السكت أجر وهاء وصلاً مجراها وقفاً ، وقرأ الأخوان بحذفها وصلاً وإثباتها وقفاً وهذا هو القياس ، وقرأ هشام اقتده باختلاس الكسرة في الهاء وصلاً وسكونها وقفاً ، وقرأ ابن ذكوان بكسرها ووصلها بياء وصلاً وسكونها وقفاً ويؤول على أنها ضمير المصدر لا هاء السكت ، وتغليظ ابن مجاهد قراءة الكسر غلط منه وتأويلها على أنهاها ، السكت ضعيف .
( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( أي على الدعاء إلى القرآن وهو الهدى والصراط المستقيم . ) أَجْراً ( أي أجرة أتكثر بها وأخص بها إن القرآن إلا ذكرى موعظة لجميع العالمين .
الأنعام : ( 91 ) وما قدروا الله . . . . .
( وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَىْء ( نزلت في اليهود قاله ابن عباس ومحمد بن كعب ، أو في مالك بن الصيف اليهودي إذ قال له الرسول : ( أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين ) ؟ قال : نعم . قال : ( فأنت الحبر السمين ) فغضب ثم قال : ما أنزل الله على بشر من شيء قاله ابن عباس وابن جبير وعكرمة ، أو في فنحاص بن عازورا منهم قاله السدي ، أو في اليهود والنصارى قاله قتادة ، أو في مشركي العرب قاله مجاهد ، وغيره ، وبعضهم خصة عنه بمشركي قريش وهي رواية ابن أبي نجيح عنه ، وفي رواية ابن كثير عن مجاهد أن من أولها إلى ) مِن شَىْء ( في مشركي قريش وقوله : ) أَنزَلَ الْكِتَابَ ( في اليهود ولما ذكر تعالى عن إبراهيم دليل التوحيد وتسفيه ، رأى أهل الشرك وذكر تعالى ما منّ به على إبراهيم من جعل النبوة في بنيه وأن نوحاً عليه السلام جدّه الأعلى كأن الله تعالى قد هداه وكان مرسلاً إلى قومه وأمر تعالى الرسول بالاقتداء بهدى الأنبياء أخذ في تقرير النبوّة والردّ على منكريّ الوحي فقال تعالى : ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( وأصل القدر معرفة الكمية يقال : قدر الشيء إذا حزره وسبره وأراد أن يعلم مقدار يقدره بالضم قدراً وقدراً ومنه فإن غم عليكم فاقدروا له أي فاطلبوا أن تعرفوه ، ثم توسع فيه حتى قيل : لكل من عرف شيئاً هو يقدر قدره

" صفحة رقم 181 "
ولا يقدر قدره إذا لم يعرفه بصفاته ، قال ابن عباس والحسن واختاره الفراء وثعلب والزُّجاج معناه ما عظموا الله حق تعظيمه ، وقال أبو عبيدة والأخفش : ما عرفوه حق معرفته ، قال الماتريدي : ومن الذي يعظم الله حق عظمته أو يعرفه حق معرفته ؟ قالت الملائكة : ما عبدناك حق عبادتك والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقول : ( لا أحصي ثناءً عليك ) وينفصل عن هذا أن يكون المعنى : ما عظموه العظمة التي في وسعهم وفي مقدورهم وما عرفوه كذلك ، وقال أبو العالية : واختاره الخليل بن أحمد معناه : ما وصفوه حق صفته فيما وجب له واستحال عليه وجاز ، وقال ابن عباس أيضاً : ما آمنوا بالله حق إيمانه وعلموا أن الله على كل شيء قدير ، وقال أبو عبيدة أيضاً : ما عبدوه حق عبادته ، وقيل : ما أجلُّوه حق إجلاله حكاه ابن أبي الفضل في ريّ الظمآن وهو بمعنى التعظيم ، وقال ابن عطية : من توفية القدر فهي عامّة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك غير أن تعليله بقولهم : ) أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ ( يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا الله حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثة الرسل ، وقال الزمخشري : ما عرفوا الله حق معرفته في الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم ، وذلك من أعظم رحمته وأجل نعمته ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ ( أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدة بطشه بهم ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة ، والقائلون هم اليهود بدليل قراءة من قرأ ) تَجْعَلُونَهُ ( بالتاء وكذلك ) تُبْدُونَهَا ( و ) تَخَافُونَ ( وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى . انتهى ، والضمير في ) وَمَا قَدَرُواْ ( عائد على من أنزلت الآية بسببه على الخلاف السابق ويلزم من قال : إنها في بني إسرائيل أن تكون مدنية ولذا حكى النقاش أنها مدنية ، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي ) مَا قَدَرُواْ ( بالتشديد ) حَقَّ قَدْرِهِ ( بفتح الدال وانتصب ) حَقَّ قَدْرِهِ ( على المصدر وهو في الأصل وصف أي قدره الحق ووصف المصدر إذا أضيف إليه انتصب نصب المصدر ، والعامل في إذ قدروا وفي كلام ابن عطية ما يشعر أن إذ تعليلاً .
( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لّلنَّاسِ ( إن كان المنكرون بني إسرائيل فالاحتجاج عليهم واضح لأنهم ملتزمون نزول الكتاب على موسى وإن كانوا العرب فوجه الاحتجاج عليهم أن إنزال الكتاب على موسى أمر مشهور منقول ، نقل قوم لم تكن العرب مكذبة لهم وكانوا يقولون : لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ، وقال أبو حامد الغزالي : هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وذلك لأن حاصله يرجع إلى أن موسى عليه السلام أنزل عليه شيء واحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئاً ينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر ، وهذا خلف محال وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة ، فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة وهي قولهم : ) مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَىْء ( فوجب القول بكونها كاذبة فتمت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف ، انتهى كلامه . وفي الآية دليل على أن النقض يقدح في صحة الكلام وذلك أنه نقض قولهم : ) أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ ( بقوله : ) قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ ( فلو لم يكن النقض دليلاً على فساد الكلام لما كانت حجة مفيدة لهذا المطلوب ، والكتاب هنا التوراة وانتصب نوراً وهدى على الحال والعامل أنزل أو جاء .
( تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ( التاء قراءة الجمهور في الثلاثة ، وظاهره أنه لبني إسرائيل والمعنى : ) تَجْعَلُونَهُ ( ذا ) قَراطِيسَ ( ، أي أوراقاً وبطائق ، ( وَتُخْفُونَ كَثِيراً ( كإخفائهم الآيات الدالة على بعثة

" صفحة رقم 182 "
الرسول وغير ذلك من الآيات التي أخفوها ، وأدرج تعالى تحت الإلزام توبيخهم وإن نعى عليهم سوء حملهم لكتابهم وتحريفهم وإبداء بعض وإخفاء بعض ، فقيل : جاء به موسى وهو نور وهدى للناس فغيرتموه وجعلتموه قراطيس وورقات لتستمكنوا مما رمتم من الإبداء والإخفاء ، وتتناسق قراءة التاء مع قوله : ) عَلِمْتُمُ ( ومن قال : إن المنكرين العرب أو كفار قريش لم يمكن جعل الخطاب لهم ، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال : خلال السؤال والجواب : تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل قراطيس ومثل هذا يبعد وقوعه لأن فيه تفكيكاً لنظم الآية وتركيبها ، حيث جعل الكلام أولاً خطاباً مع الكفار وآخراً خطاباً مع اليهود وقد أجيب بأن الجميع لما اشتركوا في إنكار نبوة الرسول ، جاء بعض الكلام خطاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الثلاثة .
( وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ ( ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل مقصود به الامتنان عليهم وعلى آبائهم ، بأن علموا من دين الله وهداياته ما لم يكونوا عالمين به لأن آباءهم كانوا علموا أيضاً وعلم بعضهم وليس كذلك آباء العرب ، أو مقصود به ذمهم حيث لم ينتفعوا به لإعراضهم وضلالهم ، وقيل : الخطاب للعرب ، قاله مجاهد ذكر الله منته عليهم أي علمتم يا معشر العرب من الهدايات والتوحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين ) وَلاَ ءابَاؤُكُمْ ( وقيل : الخطاب لمن آمن من اليهود ، وقيل : لمن آمن من قريش وتفسير ) مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ ( يتخرج على حسب المخاطبين التوراة أو دين الإسلام وشرائعه أو هما أو القرآن ، قال الزمخشري : الخطاب لليهود أي علمتم على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) مما أوحي إليه ) مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ ( وأنتم حملة التوراة ولم يعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ، وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش ) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ ( انتهى .
( قُلِ اللَّهُ ( أمره بالمبادرة إلى الجواب أي قل الله أنزله فإنهم لا يقدرون أن يناكروك ، لأن الكتاب الموصوف بالنور والهدى الآتي به من أيد بالمعجزات بلغت دلالته من الوضوح إلى حيث يجب أن يعترف بأن منزله هو الله سواء أقرّ الخصم بها أم لم يقر ، ونظيره : ) قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ ). قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى فإن جهلوا أو تحيروا أو سألوا ونحو هذا فقل الله انتهى ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير لأن الكلام مستغن عنه .
( ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ ( حال من مفعول ذرهم أي من ضمير ) لّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ ( و ) فِى خَوْضِهِمْ ( متعلق ب ) ذَرْهُمْ ( أو ب ) يَلْعَبُونَ ( أو حال من ) يَلْعَبُونَ ( وظاهر الأمر أنه موادعة فيكون منسوخاً بآيات القتال وإن جعل تهديداً أو وعيداً خالياً من موادعة فلا نسخ .
الأنعام : ( 92 ) وهذا كتاب أنزلناه . . . . .
( وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ( أي وهذا القرآن لما ذكر وقرر أن إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً وحاجهم بما لا يقدرون على إنكاره أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على الرسول مبارك كثير النفع والفائدة ، ولما كان الإنكار إنما وقع على الإنزال فقالوا : ) أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ ( ، وقيل : ) قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ ( كان تقديم وصفه بالإنزال أكد من وصفه بكونه مباركاً ولأن ما أنزل الله تعالى فهو مبارك قطعاً فصارت الصفة بكونه مباركاً ، كأنها صفة مؤكدة إذ تضمنها ما قبلها ، فأما قوله : ) وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ( فلم يرد في معرض إنكار أن ينزل الله شيئاً بل جاء عقب قوله تعالى : ) وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرَى لّلْمُتَّقِينَ ( ذكر أن الذي آتاه الرسول هو ذكر مبارك ولما كان الإنزال يتجدد عبر بالوصف الذي هو فعل ، ولما كان وصفه بالبركة وصفاً لا يفارق عبر بالاسم الدال على الثبوت .
( مُّصَدّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ ( أي من كتب الله المنزلة ، وقيل التوراة ، وقيل البعث ، قال ابن عطية : وهذا غير صحيح لأن القرآن هو

" صفحة رقم 183 "
بين يدي القيامة .
( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ( أم القرى مكة وسميت بذلك لأنها منشأ الدين ودحو الأرض منها ولأنها وسط الأرض ولكونها قبلة وموضع الحج ومكان أول بيت وضع للناس ، والمعنى : ) وَلِتُنذِرَ ( أهل ) أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ( وهم سائر أهل الأرض قاله ابن عباس ، وقيل : العرب وقد استدل بقوله : ) أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ( طائفة من اليهود زعموا أنه رسول إلى العرب فقط ، قالوا : ) وَمَنْ حَوْلَهَا ( هي القرى المحيطة بها وهي جزيرة العرب ، وأجيب بأن ) وَمَنْ حَوْلَهَا ( عام في جميع الأرض ولو فرضنا الخصوص لم يكن في ذكر جزيرة العرب دليل على انتفاء الحكم عن ما سواها إلا بالمفهوم وهو ضعيف ، وحذف أهل الدلالة المعنى عليه لأن الأبنية لا تنذر كقوله : ) وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ ( لأن القرية لا نسأل ولم تحذف من فيعطف ) حَوْلَهَا ( على ) أُمَّ الْقُرَى ( وإن كان من حيث المعنى كان يصح لأن حول ظرف لا يتصرف فلو عطف على أم القرى لزم أن يكون مفعولاً به لعطفه على المفعول به وذلك لا يجوز لأن في استعماله مفعولاً به خروجاً عن الظرفية وذلك لا يجوز فيه لأنه كما قلنا لم تستعمله العرب إلاّ لازم الظرفية غير متصرف فيه بغيرها ، وقرأ أبو بكر لينذر أي القرآن بمواعظه وأوامره ، وقرأ الجمهور ) وَلِتُنذِرَ ( خطاباً للرسول والمعنى ) وَلِتُنذِرَ ( به أنزلناه فاللام تتعلق بمتأخر محذوف دل عليه ما قبله ، وقال الزمخشري : ) وَلِتُنذِرَ ( معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل : أنزلنا للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار .
( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ( الظاهر أن الضمير في ) بِهِ ( عائد على الكتاب أي الذين يصدقون بأن لهم حشراً ونشراً وجزافء تؤمنون بهذا الكتاب لما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيد والتبشير والتهديد ، إذ ليس فيه كتاب من الكتب الإلهية ولا في شريعة من الشرائع ما في هذا الكتاب ولا ما في هذه الشريعة من تقدير يوم القيامة والبعث ، والمعنى : يؤمنون به الإيمان المعتضد بالحجة الصحيحة وإلا فأهل الكتاب يؤمنون بالبعث ولا يؤمنون بالقرآن واكتفى بذكر الإيمان بالبعث وهو أحد الأركان الستة التي هي واجب الوجود والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر لأن الإيمان به يستلزم الإيمان بباقيها ولإسماع كفار العرب وغيرهم ممن لا يؤمن بالبعث ، أن من آمن بالبعث آمن بهذا الكتاب وأصل الدين خوف العاقبة فمن خالفها لم يزل به الخوف حتى يؤمن ، وقيل : يعود الضمير على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
( وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( خص الصلاة لأنها عماد الدين ومن حافظ عليها كان محافظاً على أخواتها ومعنى المحافظة المواظبة على أدائها في أوقاتها على أحسن ما توقع عليه والصلاة أشرف العبادات بعد الإيمان بالله ولذلك لم يوقع اسم الإيمان على شيء من العبادات إلا عليها قال تعالى : ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( أي صلاتكم ولم يقع الكفر على شيء من المعاصي إلا على تركها . روي : ( من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ) ، وقرأ الجمهور ) عَلَى صَلاَتِهِمْ ( التوحيد والمراد به الجنس وروى خلف عن يحيى عن أبي بكر صلواتهم بالجمع ذكر ذلك أبو علي الحسن بن محمد بن إبراهيم البغدادي في كتاب الروضة من تأليفه وقال تفرد بذلك عن جميع الناس .
الأنعام : ( 93 ) ومن أظلم ممن . . . . .
( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ ( ذكر الزهراوي والمهدوي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث قيل : وفي المستهزئين معه لأنه عارض القرآن بقوله : والزارعات زرعاً والخابزات خبزاً والطابخات طبخاً والطاحنات طحناً واللاقمات لقماً إلى غير ذلك من السخافات ، وقال قتادة وغيره : المراد بها مسيلمة الحنفي والأسود العنسي وذكروا رؤية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) للسوارين ، وقال الزمخشري : وهو مسيلمة الحنفي أو كذاب صنعاء الأسود العنسي . وقال السدي : المراد بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أخو عثمان من الرضاعة كتب آية ) قَدْ أَفْلَحَ ( بين يدي

" صفحة رقم 184 "
الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فلما أملى عليه ) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ( عجب من تفصيل خلق الإنسان فقال : فتبارك الله أحسن الخالقين فقال الرسول : ( اكتبها فهكذا أنزلت ) فتوهم عبد الله ولحق بمكة مرتداً وقال : أنا أنزل مثل ما أنزل الله ، وقال عكرمة : أولها في مسيلمة وآخرها في ابن أبي سرح وروي عنه أنه كان إذا أملي عليه ) سَمِيعاً عَلِيماً ( كتب هو عليماً حكيماً وإذا قال : عليماً حكيماً كتب هو غفوراً رحيماً ، وقال شرحبيل بن سعد : نزلت في ابن أبي سرح ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ارتد ودخل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) مكة عام الفتح فغيبه عثمان وكان أخاه من الرضاعة حتى اطمأن أهل مكة ثم أتى به الرسول فاستأمن له الرسول فمنه . انتهى ، وقد ولاه عثمان بن عفان في أيامه وفتحت على يديه الأمصار ففتح أفريقية سنة إحدى وثلاثين وغزا الأساود من أرض النوبة وهو الذي هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم وغزا الصواري من أرض الروم وكان قد حسن إسلامه ولم يظهر عليه شيء ينكر عليه وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش وفارس بني عامر بن لؤي وأقام بعسقلان ، قيل : أو الرملة فاراً من الفتنة حين قتل عثمان ومات بها سنة ست ، قيل : أو سبع وثلاثين ودعا ربه فقال : اللهم اجعل خاتمة عملي صلاة الصبح ، فقبض آخر الصبح وقد سلم عن يمينه وذهب يسلم عن يساره وذلك قبل أن يجتمع الناس على معاوية .
ولما ذكر القرآن وأنه كتاب منزل من عنده مبارك أعقبه بوعيد من ادعى النبوة والرسالة على سبيل الافتراء ، وتقدم الكلام على ) وَمَنْ أَظْلَمُ ( وفسروه بأنه استفهام معناه النفي أي لا أحد أظلم وبدأ أولاً بالعام وهو افتراء الكذب على الله وهو أعم من أن يكون ذلك الافتراء بادعاء وحي أو غيره ثم ثانياً بالخاص وهو افتراء منسوب إلى وحي من الله تعالى ) وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء ( جملة حالية أو غير موحى إليه لأن من قال أوحي إليّ وهو موحى إليه هو صادق ثم ثانياً بأخص مما قبله ، لأن الوحي قد يكون بإنزال قرآن وبغيره وقصة ابن أبي سرح هي دعواه أنه سينزل قرآناً مثل ما أنزل الله وقوله : ) مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ ( لبس معتقده أن الله أنزل شيئاً وإنما المعنى ) مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ ( على زعمكم وإعادة من تدل على تغاير مدلوله لمدلول من المتقدمة فالذي قال ) سَأُنزِلُ ( غير من افترى أو قال : أوحى وإن كان ينطلق عليه ما قبله انظلاق العام على الخاص وقوله : ) سَأُنزِلُ ( وعد كاذب وتسميته إنزالاً مجاز وإنما المعنى سأنظم كلاماً يماثل ما ادعيتم إن الله أنزله ، وقرأ أبو حيوة ما نزل بالتشديد وهذه الآية وإن كان سبب نزولها في مخصوصين فهي شاملة لكل من ادعى مثل دعواهم كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد الثقفي وسجاح وغيرهم ، وقد ادعى النبوة عالم كثيرون كان ممن عاصرناه إبراهيم الغازازي الفقير ادعى ذلك بمدينة مالقة وقتله السلطان أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر الخزرجي ملك الأندلس بغرناطة وصلبة ، وبارقطاش بن قسيم النيلي الشاعر تنبأ بمدينة النيل من أرض العراق وله قرآن صنعه ولم يقتل ، لأنه كان يضحك منه ويضعف في عقله .
( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ( الظالمون عام اندرج فيه اليهود والمتنبئة وغيرهم . وقيل : أل للعهد أي من اليهود ومن تنبأ وهم الذين تقدم ذكرهم .
( وَالْمَلَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ ( قال ابن عباس : بالضرب أي ملائكة قبض الروح يضربون وجوههم وأدبارهم عند قبضه وقاله الفراء وليس المراد مجرد بسط اليد لاشتراك المؤمنين والكافرين في ذلك وهذا أوائل العذاب وأمارته ، وقال ابن عباس أيضاً يوم القيامة ، وقال الحسن والضحاك : بالعذاب ، وقال الحسن أيضاً : هذا يكون في النار .

" صفحة رقم 185 "
) أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ( قال الزمخشري : يبسطون إليهم أيديهم يقولون : هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف في السياق والإلحاح الشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط ببسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له أخرج إليّ ما لي عليك الساعة وإلا أديم مكاني حتى أنزعه من أصدقائك ومن قال : إن بسط الأيدي هو في النار فالمعنى أخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن وخلصوها إن كان ما زعمتموه حقاً في الدنيا وفي ذلك توقيف وتوبيخ على سالف فعلهم القبيح ، وقيل هو أمر على سبيل الإهانة والإرعاب وإنهم يمنزلة من تولي إزهاق نفسه .
( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ( أي الهوان ، وقرأ عبد الله وعكرمة ) عَذَابِ ( بالألف وفتح الهاء واليوم من قال : إن هذا في الدنيا كان عبارة عن وقت الإماتة والعذاب ما عذبوا به من شدة النزع أو الوقت الممتد المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ ، ومن قال : إن هذا في القيامة كان عبارة عن يوم القيامة أو عن وقت خطابهم في النار ، وأضاف العذاب إلى الهون لتمكنه فيه لأن التنكيل قد يكون على سبيل الزجر والتأديب ، ولا هوان فيه وقد يكون على سبيل الهوان .
( الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ ( القول على الله غير الحق يشمل كل نوع من الكفر ويدخل فيه دخولاً أولوياً من تقدم ذكره من المفترين على الله الكذب .
( وَكُنتُمْ عَنْ ءايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( أي عن الأيمان بآياته وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراً عظيماً ولرأيت عجباً وحذفه أبلغ من ذكره وترى بمعنى رأيت لعمله في الظرف الماضي وهو ) إِذْ وَالْمَلَئِكَةُ بَاسِطُواْ ( جملة حالية و ) أَخْرِجُواْ ( معمول لحال محذوفة أي قائلين أخرجوا وما في بما مصدرية .
الأنعام : ( 94 ) ولقد جئتمونا فرادى . . . . .
( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ( قال عكرمة قال : النضر بن الحارث سوف تشفع في اللات والعزى فنزلت : ولما قال ) الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ( وقفهم على أنهم يقدمون يوم القيامة منفردين لا ناظر لهم محتاجين إليه بعد أن كانوا ذوي خول وشفعاء في الدنيا ويظهر أن هذا الكلام هو من خطاب الملائكة الموكلين بعقابهم ، وقيل : هو كلام الله لهم وهذا مبني على أن الله تعالى يكلم الكفار ، وهو ظاهر من قوله : ) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ( ومن قوله : ) فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ ( و ) جِئْتُمُونَا ( من الماضي الذي أريد به المستقبل ، وقيل : هو ماض على حقيقته محكي فيقال لهم : حالة الوقوف بين يدي الله للجزاء والحساب ، قال ابن عباس : ) فُرَادَى ( من الأهل والمال والولد ، وقال الحسن : كل واحد على حدته بلا أعوان ولا شفعاء ، وقال مقاتل : ليس معكم شيء من الدنيا تفتخرون به ، وقال الزجاج : كل واحد مفرد عن شريكه وشفيعه ، وقال ابن كيسان : ) فُرَادَى ( من المعبود ، وقيل : أعدناكم بلا معين ولا ناصر وهذه الأقوال متقاربة لما كانوا في الدنيا جهدوا في تحصيل الجاه والمال والشفعاء جاؤوا في الآخرة منفردين عن كل ما حصلوه في الدنيا ، وقرىء فراد غير مصروف ، وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة فراداً بالتنوين وأبو عمرو ونافع في حكاية خارجة عنهما فردى مثل سكارى كقوله : ) وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ( وأنث على معنى الجماعة والكاف في كما في موضع نصب ، قيل : بدل من فرادى ، وقيل : نعت لمصدر محذوف أي مجيئا ) كَمَا خَلَقْنَاكُمْ ( يريد كمجيئكم يوم خلقناكم وهو شبيه بالانفراد الأول وقت الخلقة فهو تقييد لحالة الانفراد تشبيه بحالة الخلق لأن الإنسان يحلق أقشر لا مال له ولا ولد ولا حشم ، وقيل : عراة غرلاً ومن قال : على الهيئة التي ولدت عليها في الانفراد يشمل هذين القولين وانتصب أول مرة على الظرف أي أول زمان ولا

" صفحة رقم 186 "
يتقدر أول خلق الله لأن أول خلق يستدي خلقاً ثانياً ولا يخلق ثانياً إنما ذلك إعادة لا خلق .
( وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ( أي ما تفضلنا به عليكم في الدنيا لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيراً ولا قدمتموه لأنفسكم وأشار بقوله : ) وَرَاء ظُهُورِكُمْ ( إلى الدنيا لأنهم يتركون ما خولوه موجوداً .
( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء ( وقفهم على الخطأ في عبادتهم الأصنام وتعظيمها وقال مقاتل : كانوا يعتقدون شفاعة الملائكة ويقولون : ) مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( ، و ) فيكُمْ ( متعلق بشركاء والمعنى في استعبادكم لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها فقد جعلوا لله شركاء فيهم وفي استعبادهم ، وقيل : جعلوهم شركاء لله باعتبار أنهم يشفعون فيهم عنده فهم شركاء بهذا الاعتبار ويمكن أن يكون المعنى شركاء لله في تخليصكم من العذاب أن عبادتهم تنفعكم كما تنفعكم عبادته ، وقيل : فيكم بمعنى عندكم ، وقال ابن قتيبة إنهم لي في خلقكم شركاء ، وقيل : متحملون عنكم نصيباً من العذاب .
( لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( قرأ جمهور السبعة ) بَيْنِكُمْ ( بالرفع على أنه اتسع في الظرف وأسند الفعل إليه فصار اسماً كما استعملوه اسماً في قوله : ) وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( وكما حكى سيبويه هو أحمر بين العينين ورجحه الفارسي أو على أنه أريد بالبين الوصل أي لقد تقطع وصلكم قاله أبو الفتح والزهراوي والمهدوي وقطع فيه ابن عطية وزعم أنه لم يسمع من العرب البين بمعنى الوصل وإنما انتزع ذلك من هذه الآية أو على أنه أريد بالبين الافتراق وذلك مجاز عن الأمر البعيد ، والمعنى : لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلك بالبين ، وقرأ نافع والكسائي وحفص ) بَيْنِكُمْ ( بفتح النون وخرجه الأخفش على أنه فاعل ولكنه مبني على الفتح حملاً على أكثر أحوال هذا الظرف وقد يقال لإضافته إلى مبني كقوله : ) يَفْعَلْ ذالِكَ ( وخرجه غيره على أن منصوب على الظرف وفاعل تقطع التقطع ، قال الزمخشري : وقع التقطع بينكم كما تقول : جمع بين الشيئين تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل انتهى . وظاهره ليس بجيد وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه لأنه إن أسنده إلى صريح المصدر ، فهو محذوف فلا يجوز حذف الفاعل وهو مع هذا التقدير فليس بصحيح لأن شرط الإسناد مفقود فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه ، ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام ، وقيل : الفاعل مضمر يعود على الاتصال الدال عليه قوله : ) شُرَكَاء ( ولا يقدر الفاعل صريح المصدر كما قاله ابن عطية قال : ويكون الفعل مستنداً إلى شيء محذوف تقديره : لقد تقطع الاتصال والارتباط بينكم أو نحو هذا وهذا وجه واضح وعليه فسره الناس مجاهد والسدّي وغيرهما انتهى ، وقوله إلى شيء محذوف ليس بصحيح لأن الفاعل لا يحذف ، وأجاز أبو البقاء أن يكون بينكم صفة لفاعل محذوف أي لقد تقطع شيء بينكم أو وصل وليس بصحيح أيضاً لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر لي أن المسألة من باب الإعمال تسلط على ) مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( تقطع وضل فأعمل الثاني وهو ضل وأضمر في تقطع ضمير ما هم الأصنام فالمعنى ) لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( وضلوا عنكم كما قال تعالى : ) وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاْسْبَابُ ( أي لم يبق اتصال بينكم وبين ) مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( أنهم شركاء فعبدتموهم وهذا إعراب سهل لم يتنبه له أحد ، وقرأ عبد الله ومجاهد والأعمش ) مَا بَيْنِكُمْ ( والمعنى تلف وذهب ما ) بَيْنِكُمْ ( وبين ) مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( ومفعولاً ) تَزْعُمُونَ ( محذوفان التقدير تزعمونهم شفعاء حذفاً للدلالة عليهما كما قال الشاعر :

" صفحة رقم 187 "
و ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب
أي وتحسبه عاراً ، ولأبي عبد الله الرازي في هذه الآية كلام يشبه آراء الفلاسفة قال في آخره وإليه الإشارة بقوله تعالى : ) لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ( والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد انقطعت ولا سبيل إلى تحصيلها مرة أخرى انتهى . وليس هذا مفهوماً من الآية .
2 ( ) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ذالِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِىأَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِىأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذالِكُمْ لاٌّ يَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ لاَّ تُدْرِكُهُ الاٌّ بْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاٌّ بْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَكَذالِكَ نُصَرِّفُ الاٌّ يَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُن

" صفحة رقم 188 "
َّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الاٌّ يَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( )
الأنعام : ( 95 ) إن الله فالق . . . . .
فلق الشيء شقه . النواة معروفة والنوى اسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث . النجم معروف سمي بذلك لطلوعه يقال نجم النبت إذا طلع . الإنشاء الإيجاد لا يفيد الابتداء بل على وجه النمو كما يقال في النبات أنشأه بمعنى النمو والزيادة إلى وقت الانتهاء . مستودع مستفعل من الوديعة يكون مصدراً وزماناً ومكاناً ، والوديعة معروفة . الخضر الغض وهو الرطب من البقول وغيرها ، قال الزجاج الخضر بمعنى الأخضر اخضرّ فهو أخضر وخضر كاعورّ فهو أعور وعور ، وقال غيره الخضر النضارة ولا مدخل للون فيه ومنه الدنيا خضرة حلوة والأخضر يغلب في اللون وهو في النضارة تجوز ، وقال الليث الخضر في كتاب الله الزرع وفي الكلام كل نبات من الخضرة . تراكب الشيء ركب بعضه بعضاً . الطلع أوّل ما يخرج من النخلة في أكمامه أطلعت النخلة أخرجت طلعها ، قال أبو عبيد وطلعها كعراها قبل أن ينشق عن الإغريض والإغريض يسمى طلعاً ويقال طلع يطلع طلوعاً . القنو بكسر القاف وضمها العذق بكسر العين وهو الكباسة وهو عنقود النخلة ، وقيل الجمار حكاه القرطبي وجمعه في القلة أقناء وفي الكثرة قنوان بكسر القاف في لغة الحجاز وضمها في لغة قيس وبالياء بدل الواو في لغة ربيعة وتميم بكسر القاف وضمها ويجتمعون في المفرد على قنو ، وقنو بالواو ولا يقولون فيه قنى ولا قنى . الزيتون شجر معروف ووزنه فيعول كقيصوم لقولهم أرض زتنة ولعدم فعلول أو قلته فمادّته مغايرة لمادّة الزيت . الرمّان فعال كالحماض والعناب وليس بفعلان لقولهم أرض رمنة . الينع مصدر ينع بفتح الياء في لغة الحجاز وبضمها في لغة بعض نجد وكذا اللينع بضم الياء والنون والينوع بواو بعد الضمتين يقال ينعت الثمرة إذا أدركت ونضجت وأينعت أيضاً ومنه قول الحجاج : أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها ، قال الفراء ينع الثمر واحمرّ ومنه في حديث الملاعنة أن ولدته أحمر مثل الينعة وهي خرزة حمراء يقال أنها العقيق أو نوع منه ، وقيل الينع جمع يانع كتاجر وتجر وصاحب وصحب . خرق وخرّق اختلق وافترى . اللطيف قال ابن أعرابي هو الذي يوصل إليك أربك في رفق ومنه لطف الله بك ، وقال الأزهريّ اللطيف من أسمائه تعالى الرفيق بعباده ، وقيل اللطيف ضد الكثيف . السب الشتم . الفؤاد القلب .
( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى ( الظاهر أن المعنى أنه تعالى ) فَالِقُ الْحَبّ ( شاقه فمخرج منه ) الْحَبّ وَالنَّوَى ( فمخرج منه الشجر ، والحب والنوى عامّان أي كل حبة وكل نواة وبه قال قتادة والضحاك والسدي وغيرهم قالوا : هذه إشارة إلى فعل الله في أن يشق جميع الحب عن جميع النبات الذي يكون منه ويشق النوى عن جميع الأشجار الكائنة عنه ؛ وقال ابن عباس والضحاك أيضاً ) فَالِقُ ( بمعنى خالق ؛ قيل ولا يعرف ذلك في اللغة ، وقال تاج القراء : فطر وخلق وفلق بمعنى واحد ، وقال مجاهد وأبو مالك : إشارة في الشق الذي في حبة البرّ ونواة التمر ، وقال اسماعيل الضرير : المعنى فالق ما فيه الحب من السنبل وما فيه النوى من التمر وأما أشبهه ، وقال الماتريدي وخصهما بالذكر لأن جميع ما في الدنيا من الإبدال منهما فأضاف ذلك إلى نفسه كما أضاف خلق جميع البشر إلى نفس واحدة لأنهم منها في قوله ) خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ ( فكأنه قال : خالق الإبدال كلها انتهى ،

" صفحة رقم 189 "
ولما كان قد تقدم ذكر البعث نبه على قدرته تعالى الباهرة في شق النواة مع صلابتها وإخراجه منها نبتاً أخضر ليناً إلى ما بعد ذلك مما فيه إشارة إلى القدرة التامة والبعث والنشر بعد الموت ، وقرأ عبد الله ) فَالِقُ الْحَبّ ( جعله فعلاً ماضياً .
( يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَىّ ( تقدم تفسير هذا في أوائل آل عمران وعطف قوله : ) وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ ( على قوله : ) فَالِقُ الْحَبّ ( اسم فاعل على اسم فاعل ولم يعطفه على يخرج لأن قوله : ) فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى ( من جنس إخراج الحيّ من الميت لأن النامي في حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله : ) تُحْىِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( فوقع قوله : ) يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ ( من قوله : ) فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى ( موقع الجملة المبينة فلذلك عطف اسم الفاعل لا على الفعل ولما كان هذا مفقوداً في آل عمران وتقدم قبل ذلك جملتان فعليتان وهما ) يُولِجُ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى ( كان العطف بالفعل على أنه يجوز أن يكون معطوفاً وهو اسم فاعل على المضارع لأنه في معناه كما قال الشاعر : بات يغشيها بعضب باتر
يقصد في أسوقها وجائر
) ذالِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( أي ذلكم المتصف بالقدرة الباهرة فأني تصرفون عن عبادته وتوحيده والإيمان بالبعث إلى عبادة غيره واتخاذ شريك معه وإنكار البعث .
الأنعام : ( 96 ) فالق الإصباح وجعل . . . . .
( فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( مصدر سمي به الصبح ، قال الشاعر : ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
( فإن قلت ) : الظلمة هي التي تنفلق عن الصبح كما قال الشاعر :
تفرّي ليل عن بياض نهار .
فالجواب من وجوه : أحدها : أن يكون ذلك على حذف مضاف أي فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش الذي يلي الصبح أو يكون على ظاهره ومعناه فالقه عن بياض النار . وقالوا : انصدع الفجر وانشق عمود الفجر ، قال الشاعر : فانشق عنها عمود الصبح جافلة
عدو النحوص تخاف القانص اللحيا
وسموا الفجر فلقاً بمعنى مفلوق أو يكون المعنى مظهر الإصباح إلا أنه لما كان الفلق مقتضياً لذلك الإظهار أطلق على الإظهارفلقاً والمراد المسبب وهو الإظهار ، وقيل : ) فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( خالق ، وقال مجاهد : الإصباح إضاءة الفجر ، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن ) الإِصْبَاحِ ( ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل ، وقال الليث والفراء والزجاج : الصبح والصباح والإصباح أول النهار قال : أفنى رياحاً وبني رياح
تناسخ الإمساء والإصباح
يريد المساء والصباح ويروى

" صفحة رقم 190 "
بفتح الهمزة جمع مسي وصبح ، وقال ابن عباس أيضاً : معناه خالق النهار والليل ، وقال الكرماني : شاق عمود الصبح عن الظلمة وكاشفه ، وقرأ الحسن وعيسى أبو رجاء الأصباح بفتح الهمزة جمع صبح وقرأت فرقة بنصب الأصباح وحذف تنوين فالق وسيبويه إنما يجوز هذا في الشعر نحو قوله :
ولا ذاكر اللَّه إلا قليلاً
حذف التنوين لالتقاء الساكنين والمبرد يجوّزه في الكلام ، وقرأ النخعي وابن وثاب وأبو حيوة فلق الإصباح فعلاً ماضياً .
( وَجَاعِلُ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً ( لما استدل على باهر حكمته وقدرته بدلالة أحوال النيات والحيوان وذلك من الأحوال الأرضية استدل أيضاً على ذلك بالأحوال الفلكية لأن قوله فلق الصبح أعظم من فلق الحب والنوى ، لأن الأحوال الفلكية أعظم وقعاً في النفوس من الأحوال الأرضية ، والسكن فعل بمعنى مفعول أي مسكون إليه وهو من تستأنس به وتطمئن إليه ومنه قيل للنار لأنه يستأنس بها ولذلك يسمونها المؤنسة ، ومعنى أن الليل سكن لأن الإنسان يتعب نهاره ويسكن في الليل ولذلك قال تعالى : ) لّلْعَالَمِينَ فِيهِ ). والحسبان جمع حساب كشهاب وشهبان قاله الأخفش أو مصدر حسب الشيء والحساب الاسم قاله يعقوب ، قال ابن عباس : يعني بها عدد الأيام والشهور والسنين ، وقال قتادة : حسباناً ضياء انتهى . قيل : وتسمى النار حسباناً وفي صحيح البخاري . قال مجاهد : المراد حسبان كحسبان الرحى وهو الدولاب والعود الذي عليه دورانه ، وقال تاج القرّاء : حسباناً أي بحساب قال تعالى : ) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( والمعنى أنه جعل سيرهما بحساب ومقدار لأن الشمس تقطع البروج كلها في ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم وتعود إلى مكانها والقمر يقطعها في ثمانية وعشرين يوماً ، وبدورانهما يعرف الناس حساب الأيام والشهور والأعوام ، وقيل : يجريان بحساب وعدد لبلوغ نهاية آجالهما ، وقال الزمخشري : جعلهما على حساب لأن حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما ، وقرأ الكوفيون ) وَجَعَلَ الَّيْلَ ( فعلاً ماضياً لما كان فالق بمعنى المضي حسن عطف ) وَجَعَلَ ( عليه وانتصب ) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ( عطفاً على ) فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( ، وقرأ باقي السبعة ) وَجَاعِلُ ( باسم الفاعل مضافاً إلى الليل والظاهر أنه اسم فاعل ماض ولا يعمل عند البصريين فانتصاب ) سَكَناً ( على إضمار فعل أي يجعله سكناً لا باسم الفاعل هذا مذهب أبي علي فيما انتصب مفعولاً ثانياً بعد اسم فاعل ماض وذهب السيرافي إلى أنه ينتصب باسم الفاعل وإن كان ماضياً لأنه لما وجبت إضافته إلى الأول لم تكن أن يضاف إلى الثاني فعمل فيه النصب وإن كان ماضياً وهذه مسألة تذكر في علم النحو وأما من أجاز إعمال اسم الفاعل الماضي وهو الكسائي وهشام فسكناً منصوب به ، وقرأ يعقوب ساكناً ، قال الداني : ولا يصح عنه ، وقرأ أبو حيوة بجر ) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ( حسباناً عطفاً على الليل سكناً وأما قراءة النصب وهي قراءة الجمهور فعلى قراءة ) جَاعِلِ الَّيْلَ ( ينتصبان على إضمار فعل أي وجعل الشمس والقمر حسباناً ، قال الزمخشري : أو يعطفان على محل الليل ، ( فإن قلت ) : كيف يكون لليل محل ؟ والإضافة حقيقة لأن اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضي ولا تقول زيد ضارب عمراً أمس ( قلت ) : ما هو في معنى الماضي وإنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة انتهى ، وملخصه أنه ليس اسم فاعل ماضياً فلا يلزم أن يكون عاملاً فيكون للمضاف إليه موضع من الإعراب ، وهذا على مذهب البصريين أن اسم الفاعل الماضي لا يعمل وأما قوله إنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة يعني فيكون إذ ذاك عاملاً ويكون للمجرور بعده موضع من الإعراب فيعطف عليه ) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ( وهذا ليس بصحيح إذا كان لا يتقيد بزمان خاص وإنما هو للاستمرار فلا يجوز له أن يعمل ولا لمجروره محل وقد نصوا على ذلك وأنشدوا :

" صفحة رقم 191 "
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فليس الكاسب هنا مقيداً بزمان وإذا تقيد بزمان فإما أن يكون ماضياً دون أل فلا يعمل إذ ذاك عند البصريين أو بأل أو حالاً أو مستقبلاً فيجوز إعماله ، والإضافة إليه على ما أحكم في علم النحو وفصل وعلى تسليم أن يكون حالاً على الاستمرار في الأزمنة وتعمل فلا يجوز العطف على محل مجروره بل لو كان حالاً أو مستقبلاً لم يجز ذلك على القول الصحيح وهو مذهب سيبويه ، فلو قلت : زيد ضارب عمرو الآن أو غداً أو خالداً لم يجز أن تعطف وخالداً . على موضع عمرو وعلى مذهب سيبويه بل تقدره وتضرب خالداً لأن شرط العطف على الموضع مفقود فيه وهو أن يكون الموضع محرزاً لا يتغير ، وهذا موضح في علم النحو وقرىء شاذاً ) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ( برفعهما على الابتداء والخبر محذوف تقديره مجعولان حسباناً أو محسوبان حسباناً .
( ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( أي ذلك الجعل أو ذلك الفلق والجعل أو ذلك إشارة إلى جميع الأخبار من قوله : ) فَالِقُ الْحَبّ ( إلى آخرها تقدير العزيز الغالب الذي كل شيء من هذه في تسخيره وقهره العليم الذي لا يعزب عنه شيء من هذه الأحوال ولا من غيرها وفي جعل ذلك كله بتقدير دلالة على أنه هو المختص الفاعل المختار لا أن ذلك فيها بالطبع ولا بالخاصية .
الأنعام : ( 97 ) وهو الذي جعل . . . . .
( وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( نبه على أعظم فوائد خلقها وهي الهداية للطرق والمسالك والجهات التي تقصد والقبلة إذ حركات الكواكب في الليل يستدل بها على القبلة كما يستدل بحركة الشمس في النهار عليها ، والخطاب عام لكل الناس و ) لِتَهْتَدُواْ ( متعلق بجعل مضمرة لأنها بدل من لكم أي جعل ذلك لاهتدائكم وجعل معناها خلق فهي تتعدى إلى واحد ، قال ابن عطية : وقد يمكن أن تكون بمعنى صير ويقدر المفعول الثاني من ) لِتَهْتَدُواْ ( أي جعل لكم النجوم هداية انتهى ، وهو ضعيف لندور حذف أحد مفعولي باب ظن وأخواتها والظاهر أن الظلمات هنا على ظاهرها وأبعد من قال : يصح أن تكون الظلمات هنا الشدائد في المواضع التي يتفق أن يهتدى فيها بها ، وأضاف الظلمات إلى البر والبحر لملابستها لهما أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات وذكر تعالى النجوم في كتابه للزينة والرحم والهداية فما سوى ذلك اختلاق على الله وافتراء .
( قَدْ فَصَّلْنَا الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( أي بينا وقسمنا وخص من يعلم لأنهم الذين ينتفعون بتفصيلها وأما غيرهم فمعرضون عن الآيات وعن الاستدلال بها .
الأنعام : ( 98 ) وهو الذي أنشأكم . . . . .
( وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ ( وهي آدم عليه السلام .
( فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ( قرأ الجمهور بفتح القاف جعلوه مكاناً أي موضع استقرار وموضع استيداع أو مصدراً أي فاستقرار واستيداع ولا يكون مستقر اسم مفعول لأنه لا يتعدّى فعله فيبنى منه اسم مفعول ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف اسم فاعل وعلى هذه القراءة يكون ) مستودع ( بفتح الدال اسم مفعول لما ذكر إنشاءهم ذكر انقسامهم إلى مستقر ) فَمُسْتَقَرّ

" صفحة رقم 192 "
ٌ وَمُسْتَوْدَعٌ ( أي فمنكم مستقر ) وَمُسْتَوْدَعٌ ( ، وروى هارون الأعور عن أبي عمرو ) وَمُسْتَوْدَعٌ ( بكسر الدال اسم فاعل ، قال ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء والنخعي والضحاك وقتادة والسدّي وابن زيد : مستقر في الرّحم ) وَمُسْتَوْدَعٌ ( في الصلب ، وقال ابن بحر : عكسه قال والمعنى فذكر وأنث عبر عن الذكر بالمستقر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه وعبر عن الأنثى بالمستودع لأن رحمها مستودع للنطفة ، وقال ابن مسعود : إن المستقر في الرّحم والمستودع في القبر ، وروي عن ابن عباس المستقر في الأرض والمستودع في الأصلاب وعنه كلاهما في الرّحم ، وعنه المستقر حيث يأوي والمستودع حيث يموت وعنه المستقر من خلق والمستودع من لم يخلق ، وقال مجاهد : المستقر في الدّنيا والمستودع عند الله ، وقيل : كلاهما في الدّنيا ، وقيل : المستقر الجنة والمستودع النار . وقيل : مستقر في الآخرة بعمله ) وَمُسْتَوْدَعٌ ( في أصله ينتقل من حال إلى حال ومن وقت إلى وقت إلى انتهاء أجله انتهى ، والذي يقتضيه النظر أن الاستقرار والاستيداع حالان يعتوران على الإنسان من الظهر إلى الرحم إلى الدنيا إلى القبر إلى الشحر إلى الجنة أو إلى النار ، وفي كل رتبة يحصل له استقرار واستيداع استقرار بالإضافة إلى ما قبلها واستيداع بالإضافة إلى ما بعدها ولفظ الوديعة يقتضي الانتقال .
( وَقَدْ فَصَّلْنَا الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ( لما كان الاهتداء بالنجوم واضحاً ختمه بقوله : ) يَعْلَمُونَ ( أي من له أدنى إدراك ينتفع بالنظر في النجوم وفائدتها ، ولما كان الإنشاء من نفس واحدة والتصريف في أحوال كثيرة يحتاج إلى فكر وتدقيق نظر ختمه بقوله : ) يَفْقَهُونَ ( إذ الفقه هو استعمال فطنة ودقة نظر وفكر فناسب ختم كل جملة بما يناسب ما صدّر به الكلام .
الأنعام : ( 99 ) وهو الذي أنزل . . . . .
( وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْء ( لما ذكر إنعامه تعالى بخلقنا ذكر إنعامه علينا بما يقوم به أودنا ومصالحنا والسماء هنا السحاب ، والظاهر أن المعنى بنبات كل شيء ما يسمى نباتاً في اللغة وهو ما ينمو من الحبوب والفواكه والبقول والحشائش والشجر ومعنى ) كُلّ شَىْء ( مما ينبت وأشار إلى أن السبب واحد والمسببات كثيرة كما قال تعالى : ) تَسْقِى بِمَاء واحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاْكُلِ ). وقال الطبري : ) نَبَاتَ كُلّ شَىْء ( جميع ما ينمو من الحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك ، لأن ذلك كله يتغذى وينمو بنزول الماء من السماء ، وقال الفراء : معناه رزق كل شيء أي ما يصلح غذاءً لكل شيء فيكون كل شيء مخصوصاً بالمتغذي ويكون إضافة النبات إليه إضافة بيانية بالكلية ، وعلى الوجهين السابقين تكون الإضافة راجعة في المعنى إلى إضافة ما يشبه الصفة إلى الموصوف إذ يصير المعنى : فأخرجنا به كل شيء منبت وفي قوله : ) فَأَخْرَجْنَا ( التفات من غيبة إلى تكلم بنون العظمة .
( فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً ( أي من النبات غضاً ناضراً طرياً وفأخرجنا معطوف على ) فَأَخْرَجْنَا ( وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً من ) فَأَخْرَجْنَا ).
) نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً ( أي من الخضر كالقمح والشعير وسائر القطاني ومن الثمار كالرمان والصنوبر وغيرهما مما تراكب حبه وركب بعضه بعضاً و ) كَذالِكَ نُخْرِجُ ( جملة في موضع الصفة لخضر أو يجوز أن يكون استئناف إخبار ، وقرأ الأعمش وابن محيصن يخرج منه حب متراكب على أنه مرفوع بيخرج ومتراكب صفة في نصبه ورفعه .
( وَمِنْ النَّحْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوانٌ دَانِيَةٌ ( أي قريبة من المتناول لقصرها ولصوق عروقها بالأرض قاله ابن عباس والبراء والضحاك وحسنه الزمخشري فقال : سهلة المجتنى معرضة للقاطف كالشيء الداني القريب المتناول ولأن النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتي بالثمر ، وقال الحسن : قريب بعضها من

" صفحة رقم 193 "
بعض ، وقيل ) دَانِيَةٌ ( مائلة ، قيل : وذكر الدانية دون ذكر السحوق لأن النعمة بها أظهر أو حذف السحوق لدلالة الدانية عليها كقوله : ) سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( أي والبرد . وقرأ الجمهور ) قِنْوانٌ ( بكسر القاف وقرأ الأعمش والخفاف عن أبي عمر والأعرج في رواية بضمها ورواه السلمي عن علي بن أبي طالب ، وقرأ الأعرج في رواية وهارون عن أبي عمرو ) قِنْوانٌ ( بفتح القاف وخرجه أبو الفتح على أنه اسم جمع على فعلان لأن فعلانا ليس من أبنية جمع التكسير ، وفي كتاب ابن عطية وروي عن الأعرج ضم القاف على أنه جمع قنو بضم القاف ، وقال الفراء : وهي لغة قيس وأهل الحجاز والكسر أشهر في العرب وقنو على ) قِنْوانٌ ( انتهى ، وهو مخالف لما نقلناه في المفردات من أن لغة الحجاز ) قِنْوانٌ ( بكسر القاف وهذه الجملة مبتدأ وخبر و ) مِن طَلْعِهَا ( بدل من ) وَمِنَ النَّخْلِ ( والتقدير ز ) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ( كائنة من طلع ) النَّخْلِ ( وأفرد ذكر القنوان وجرد من قوله : ) نَبَاتَ كُلّ شَىْء ( نخرج منه خضراً لما في تجريدها من عظيم المنة والنعمة ، إذ كانت أعظم أو من أعظم قوت العرب وأبرزت في صورة المبتدأ والخبر ليدل على الثبوت والاستقرار وأن ذلك مفروغ منه ، وقال ابن عطية : ) وَمِنَ النَّخْلِ ( تقديره نخرج من النخل ومن طلعها ) قِنْوانٌ ( ابتداء خبره مقدم والجملة في موضع المفعول بتخرج انتهى . وهذا خطأ لأن ما يتعدى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله إلا إذا كان الفعل مما يعلق وكانت الجملة فيها مانع من أن يعمل في شيء من مفرداتها الفعل من الموانع المشروحة في علم النحو و ) نُخْرِجُ ( ليست مما يعلق وليس في الجملة ما يمنع من عمل الفعل في شيء من مفرداتها إذ لو كان الفعل هنا مقدّراً لتسلط على ما بعده ولكان التركيب والتقدير ونخرج ) مِنْ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا ( قنواناً دانية بالنصب ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة ) أَخْرَجْنَا ( عليه تقديره ومخرجة من طلع النخل قنوان انتهى ، ولا حاجة إلى هذا التقدير إذ الجملة مستقلة في الإخبار بدونه ، وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون ) قِنْوانٌ ( مبتدأ والخبر ) مِن طَلْعِهَا ( وفي ) مِنْ النَّخْلِ ( ضمير تقديره وينبت من النخل شيء أو ثمر فيكون من طلعها بدلاً منه ، ويجوز أن يرتفع ) قِنْوانٌ ( على أنه فاعل من طلعها فيكون في ) مِنْ النَّخْلِ ( ضمير يفسره ) قِنْوانٌ ( وإن رفعت ) قِنْوانٌ ( بقوله : ) مِنْ النَّخْلِ ( على قول من أعمل أول الفعلين جاز وكان في ) مِن طَلْعِهَا ( ضمير مرفوع انتهى ، وهو إعراب فيه تخليط لا يسوغ في القرآن ومن قرأ ) يَخْرُجُ مِنْهَا حُبَّ ( جاز أن يكون قوله : ) مِنْ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوانٌ دَانِيَةٌ ( معطوفاً عليه كما تقول يضرب في الدار زيد ، وفي السوق عمرو وجاز أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه .
( وَجَنَّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ ( قراءة الجمهور بكسر التاء عطفاً على قوله نبات وهو من عطف الخاص على العام لشرفه ولما جرد النخل جردت ) جَنَّاتُ ( الأعناب لشرفهما ، كما قال : ) يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ( وقرأ محمد بن أبي ليلى والأعمش وأبو بكر في رواية عنه عن عاصم ) وَجَنَّاتٍ ( بالرفع وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة حتى قال أبو حاتم : هي محال لأن الجنات من الأعناب لا تكون من النخل ولا يسوغ إنكار هذه القراءة ولها التوجيه الجيد في العربية وجهت على أنه مبتدأ محذوف الخبر فقدره النحاس ولهم جنات وقدره ابن عطية ، ولكم جنات وقدره أبو البقاء ومن الكرم جنات وقدره ومن الكرم لقوله : ) وَمِنَ النَّخْلِ ( وقدره الزمخشري وثم جنات أي مع النخل ونظيره قراءة من قرأ ) وَحُورٌ عِينٌ ( بالرفع بعد قوله : ) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ ( الآية وتقديره ولهم حور وأجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء ومثله كثير وقدر الخبر أيضاً مؤخراً تقديره ) وَجَنَّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ ( أخرجناها ودل على تقديره قوله قبل : ) فَأَخْرَجْنَا ( كما تقول : أكرمت عبد الله وأخوه التقدير

" صفحة رقم 194 "
وأخوه أكرمته فحذف أكرمته لدلالة أكرمت عليه ، ووجهها الطبري على أن ) وَجَنَّاتٍ ( عطف على ) قِنْوانٌ ( ، قال ابن عطية : وقوله ضعيف ، وقال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون معطوفاً على ) قِنْوانٌ ( لأن العنب لا يخرج من النخل ، وقال الزمخشري : وقد ذكر أن في رفعه وجهين أحدهما أن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره وثم جنات وتقدّم ذكر هذا التقدير عنه ، قال : والثاني أن يعطف على ) قِنْوانٌ ( على معنى وحاصله أو ومخرجه من النخل قنوان ) وَجَنَّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ ( أي من نبات أعناب انتهى ، وهذا العطف هو على أن لا يلاحظ فيه قيد من النخل فكأنه قال ) مِنْ النَّخْلِ قِنْوانٌ دَانِيَةٌ ( ) جَنَّاتٍ مّن أَعْنَابٍ ( حاصلة كما تقول من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش منطلقان .
( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ( قرىء بالنصب إجماعاً . قال ابن عطية : عطفاً على حباً . وقيل : عطفاً على نبات ، وقال الزمخشري : وقرىء وجنات بالنصب عطفاً على نبات كل شيء أي وأخرجنا به ) جَنَّاتٍ مّن أَعْنَابٍ ( وكذلك قوله : ) وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ). انتهى فظاهره أنه معطوف على نبات كما أن ) وَجَنَّاتٍ ( معطوف عليه ، قال الزمخشري : والأحسن أن ينتصب على الاختصاص كقوله : ) وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواةَ ( لفضل هذين الصنفين انتهى ، قال قتادة : يتشابه في الورق ويتباين في الثمر وتشابه الورق في الحجم وفي اشتماله على جميع الغصن ، وقال ابن جريج : متشابهاً في النظر وغير متشابه في الطعم مثل الرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف ، وقال الطبري : جائز أن يتشابه في الثمر يتباين في الطعم ويحتمل أن يريد تشابه الطعم وتباين النظر ، وهذه الأحوال موجودة في الاعتبار في أنواع الثمرات ، وقال الزمخشري : بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللون والطعم وذلك دليل على أن التعمد دون الإهمال انتهى ، وقرأ الجمهور : مشتبهاً وقرىء شاذاً متشابهاً وهما بمعنى واحد كاختصم وتخاصم واشترك واستوى وتساوى ونحوها مما اشترك فيه باب الافتعال والتفاعل ، وانتصب مشتبهاً على أنه حال من الرمان لقربه وحذفت الحال من الأول أو حال من الأول لسبقه فالتقدير ) وَالزَّيْتُونِ ( مشتبهاً وغير متشابه ) وَالرُّمَّانَ ( كذلك هكذا قدره الزمخشري وقال كقوله : كنت منه ووالدي بريئاً . انتهى .
فعلى تقديره يكون تقدير البيت كنت منه بريئاً ووالدي كذلك أي بريئاً والبيت لا يتعين فيه ما ذكر لأن بريئاً على وزن فعيل كصديق ورفيق ، فيصح أن يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع فيحتمل أن يكون بريئاً خبر كان على اشتراك الضمير ، والظاهر المعطوف عليه فيه إذ يجوز أن يكون خبراً عنهما ولا يجوز أن يكون حالاً منهما وإن كان قد أجازه بعضهم إذ لو كان حالاً منهما لكان التركيب متشابهين وغيره متشابهين ، وقال الزجاج : قرن الزيتون بالرمان لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره ، قال الشاعر : بورك الميت الغريب كما بو
رك نضج الرمان والزيتون

" صفحة رقم 195 "
) انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرَةٍ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ( النظر نظر رؤية العين ولذلك عداه بإلى لكن يترتب عليه الفكر والاعتبار والاستبصار والاستدلال على قدرة باهرة تنقله من حال إلى حال ، ونبه على حالين الابتداء وهو وقت ابتداء الأثمار والانتهاء وهو وقت نضجه أي كيف يخرجه ضئيلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به وكيف يعود نضيجاً مشتملاً على منافع ؟ ونبه على هاتين الحالتين وإن كان بينهما أحوال يقع بها الاعتبار والاستبصار لأنهما أغرب في الوقوع وأظهر في الاستدلال ، وقرأ ابن وثاب ومجاهد وحمزة والكسائي ) إِلَى ثَمَرَةٍ ( بضم الثاء والميم . قال ابن وثاب : ومجاهد وهي أصناف الأموال يعني الأموال التي تتحصل منه ، قال أبو علي : والأحسن أن يكون جمع ثمرة كخشبة وخشب وأكمّة وأكم ونظيره في المعتل لابة ولوب وناقة ونوق وساحة وسوح وقرأت فرقة بضم الثاء وإسكان الميم طلباً للخفة كما تقول في الكتب كتب ، وقرأ باقي السبعة ) ثَمَرَةٍ ( بفتح الثاء والميم وهو اسم جنس كشجرة وشجر والثمر حتى الشجر وما يطلع وإن سمى الشجرثماً فمجاز والعامل في إذا ) انْظُرُواْ ( وقرأ الجمهور وينعه بفتح الياء وسكون النون ، وقرأ قتادة والضحاك وابن محيصن بضم الياء وسكون النون ، وقرأ ابن أبي عبلة واليماني ويانعة اسم فاعل من ينع ونسبها الزمخشري إلى ابن محيصن ، وقال المروزي : ) إِذَا أَثْمَرَ ( عند لا ظل له دائم فلا ينضج ولا شمس دائمة فتحرق أرسل على كل فاكهة ريحين مختلفين ريح تحرك الورق فيبدو الثمر فتقرعه الشمس وريح أخرى تحرك الورق وتظل الثمر فلا يحترق .
( إِنَّ فِى ذالِكُمْ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( الإشارة بذلكم إلى جميع ما سبق ذكره من فلق الحب والنوى إلى آخر ما خلق تعالى وما امتن به ، والآيات العلامات الدالة على كمال قدرته وإحكام صنعته وتفرده بالخلق دون غيره ، وظهور الآيات لا ينفع إلا لمن قدر الله له الإيمان فأما من سبق قدر الله له بالكفر فإنه لا ينتفع بهذه الآيات . فنبه بتخصيص الإيمان على هذا المعنى وانظر إلى حسن مساق هذا الترتيب لما تقدم ) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى ( جاء الترتيب بعد ذلك تابعاً لهذا الترتيب فحين ذكر أنه أخرج نبات كل شيء ذكر الزرع وهو المراد بقوله : ) خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً ( وابتدأ به كما ابتدأ به في قوله : ) فَالِقُ الْحَبّ ( ثم ثنى بما له نوى فقال : ) مِنْ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوانٌ دَانِيَةٌ ( إلى آخره كما ثنى به في قوله : ) وَالنَّوَى ( وقدم الزرع على الشجر لأنه غذاء والثمر فاكهة ، والغذاء مقدم على الفاكهة ، وقدم النخل على سائر الفواكه لأنه يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب ، وقدم العنب لأنه أشرف الفواكه وهو في جميع أطواره منتفع به حنوط ثم حصرم ثم عنب ثم إن عصر كان منه خل ودبس وإن جفف كان منه زبيب ، وقدم الزيتون لأنه كثير المنفعة في الأكل وفيما يعصر منه من الدهن العظيم النفع في الأكل والاستصباح وغيرهما ، وذكر الرمان لعجب حاله وغرابته فإنه مركب من قشر وشحم وعجم وماء ، فالثلاثة باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات ، وماؤه بالضد ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى حيز الاعتدال وفيه تقوية للمزاج الضعيف غذاء من وجه ودواء من وجه ، فجمع تعالى فيه بين المتضادين المتعاندين فما أبهر قدرته وأعجب ما خلق .
الأنعام : ( 100 ) وجعلوا لله شركاء . . . . .
( وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ( لما ذكر تعالى ما اختص به من باهر قدرته ومتقن صنعته وامتنانه على عالم الإنسان بما أوجد له مما يحتاج إليه في قوام حياته ، وبين ذلك ) لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يَعْلَمُونَ ( ) لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ( ) لاَ يُؤْمِنُونَ ( ذكر ما عاملوا به منشئهم من العدم وموجد أرزاقهم من إشراك غيره له في عبادته ، ونسبه ما هو مستحيل عليه من وصفه بسمات الحدوث من البنين والبنات ، وقال الكلبي : نزلت في الزنادقة قالوا إن الله خالق الناس والدواب وإبليس خالق الحيات والعقارب والسباع ويقرب من هذا

" صفحة رقم 196 "
قول المجوس قالوا : للعالم صانعان إله قديم ، والثاني : شيطان حادث من فكرة الإله القديم ، وكذلك الحائطية من المعتزلة من أصحاب أحمد بن حائط زعموا أن للعالم صانعين الإله القديم والآخر محدث خلقه الله أولاً ثم فوض إليه تدبير العالم ، وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة والضمير في ) وَجَعَلُواْ ( عائد على الكفار لأنهم مشركون وأهل كتاب ، وقيل : هو عائد على عبدة الأوثان والنصارى قالت : المسيح ابن الله واليهود قالوا : عزير ابن الله وطوائف من العرب جعلوا لله تعالى بنات الملائكة وبنو مدلج زعموا أن الله تعالى صاهر الجن فولدت له الملائكة ، وقد قيل : إن من الملائكة طائفة يسمون الجن وإبليس ومنهم وهم خدم الجنة ، وقال الحسن : هذه الطوائف كلها أطاعوا الشيطان في عبادة الأوثان واعتقدوا الإلهية فيمن ليست له ، فجعلوهم شركاء لله في العبادة وظاهر الكلام أنهم جعلوا لله شركاء الجن أنفسهم ، وما قاله الحسن مخالف لهذا الظاهر ، إذ ظاهر كلامه أن الشركاء هي الأوثان وأنه جعلت طاعة الشيطان تشريكاً له مع الله تعالى إذ كان التشريك ناشئاً عن أمره وإغوائه وكذا قال إسماعيل الضرير : أراد بالجن إبليس أمرهم فأطاعوه ، وظاهر لفظ الجن أنهم الذين يتبادر إليهم الذهن من أنهم قسيم الإنس في قوله تعالى : ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ ( وأنهم ليسوا الملائكة لقوله : ) ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( قالوا : سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن ، فالآية مشيرة إلى الذين جعلوا الجن شركاء لله في عبادتهم إياهم وأنهم يعلمون الغيب ، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها ، والجمهور على نصب ) الْجِنَّ ( وأعربه الزمخشري وابن عطية مفعولاً أولاً بجعلوا ) وَجَعَلُواْ ( بمعنى صيروا ) وشركاء ( مفعول ثان ولله متعلق بشركاء ، قال الزمخشري ( فإن قلت ) : فما فائدة التقديم ( قلت ) : فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك ، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء انتهى ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء فيه أن يكون الجن بدلاً من ) للَّهِ شُرَكَاء ( و ) لِلَّهِ ( في موضع المفعول الثاني و ) شُرَكَاء ( هو المفعول الأول وما أجازاه لا يجوز ، لأنه يصح للبدل أن يحل محل المبدل منه فيكون الكلام منتظماً لو قلت وجعلوا لله الجن لم يصح وشرط البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول : وهذا لا يصح هنا البتة كما ذكرنا وأجاز الحوفي أن يكون شركاء المفعول الأول والجن المفعول الثاني كما هو ترتيب النظم ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ) للَّهِ شُرَكَاء ( حالاً وكان لو تأخر للشركاء وأحسن مما أعربوه ما سمعت من أستاذنا العلامة أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يقول فيه قال انتصب الجن على إضمار فعل جواب سؤال مقدّر كأنه قيل من ) جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء ( قيل : الجن أي جعلوا الجن ويؤيد هذا المعنى قراءة أبي حيوة ويزيد بن قطيب الجن بالرفع على تقديرهم الجن جواباً لمن قال : من الذي جعلوه شريكاً فقيل له : هم الجن ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والانتقاص لمن جعلوه شريكاً لله . وقرأ شعيب بن أبي حمزة : الجن بخفض النون ورويت هذه عن أبي حيوة وابن قطيب أيضاً ، قال الزمخشري : وقرىء على الإضافة التي للتبيين والمعنى أشركوهم في عبادته لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله انتهى ، ولا يتضح معنى هذه القراءة إذ التقدير : وجعلوا شركاء الجن لله ، وهذا معنى لا يظهر والضمير في ) وَخَلَقَهُمْ ( عائد على الجاعلين إذ هم المحدث عنهم وهي جملة حالية أي وقد خلقهم وانفرد بإيجادهم

" صفحة رقم 197 "
دون من اتخذه شريكاً له وهم الجن فجعلوا من لم يخلقهم شريكاً لخالقهم وهذه غاية الجهالة ، وقيل الضمير يعود على الجن أي والله خلق من اتخذوه شريكاً له فهم متساوون في أن الجاعل والمجعول مخلوقون لله فكيف يناسب أن يجعل بعض المخلوق شريكاً لله تعالى ؟ وقرأ يحيى بن يعمر ) وَخَلَقَهُمْ ( بإسكان اللام وكذا في مصحف عبد الله ، والظاهر أنه عطف على الجن أي وجعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصناماً شركاء لله كما قال تعالى : ) أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ( فالخلق هنا واقع على المعمول المصنوع بمعنى المخلوق ، قال : هنا معناه ابن عطية ، وقال الزمخشري : وقرىء ) وَخَلَقَهُمْ ( أي اختلاقهم الإفك يعني وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم والله أمرنا بها انتهى ، فالخلق هنا مصدر بمعنى الاختلاق .
( وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( أي اختلقوا وافتروا ، ويقال خرق الإفك وخلقه واختلقه واخترقه واقتلعه وافتراه وخرصه إذ كذب فيه قاله الفراء ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له بنين وبنات ، وقال قتادة ومجاهد وابن زيد وابن جريج : ) خرقوا ( كذبوا وأشار بقوله : ) كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ ( إلى أهل الكتابين في المسيح وعزير ، ( وَبَنَاتُ ( إلى قريش في الملائكة ، وقرأ نافع ) وَخَرَقُواْ ( بتشديد الراء وباقي السبعة بتخفيفها ، وقرأ ابن عمر وابن عباس وحرفوا بالحاء المهملة والفاء وشدد ابن عمر الراء وخففها ابن عباس بمعنى وزورا له أولاداً لأن المزوّر محرف مغير للحق إلى الباطل ، ومعنى ) بِغَيْرِ عِلْمٍ ( من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطاب وصواب ، ولكن رمياً بقول عن عمي وجهالة من غير فكر وروية وفيه نص على قبح تقحمهم المجهلة وافترائهم الباطل .
( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ( نزه ذاته عن تجويز المستحيلات عليه والتعالى هنا هو الارتفاع المجازي ومعناه أنه متقدّس في ذاته عن هذه الصفات قيل : وبين ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ( فرق من جهة أن سبحان مضاف إليه تعالى فهو من حيث المعنى منزه وتعالى فيه إسناد التعالي إليه على جهة الفاعلية فهو راجع إلى صفات الذات سواء سبحه أحد أم لم يسبحه .
الأنعام : ( 101 ) بديع السماوات والأرض . . . . .
( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( تقدّم تفسيره في البقرة .
( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ ( أي كيف يكون له ولد ؟ وهذه حاله أي إن الولد إنما يكون من الزوجة وهو لا زوجة له ولا ولد ، وقرأ النخعي : ولم يكن بالياء ووجه على أن فيه ضميراً يعود على الله أو على أن فيه ضمير الشأن ، والجملة في هذين الوجهين في موضع خبر ) تَكُنْ ( أو على ارتفاع ) صَاحِبَةٌ ( بتكن وذكر للفصل بين الفعل والفاعل كقوله :
لقد ولد الأخيطل أم سوء
وحضر للقاضي امرأة .
وقال ابن عطية : وتدكيرها وأخواتها مع تأنيث اسمها أسهل من ذلك في سائر الأفعال . انتهى ، ولا أعرف هذا عن النحويين ، ولم يفرقوا بين كان وغيرها والظاهر ارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ أي هو بديع فيكون الكلام جملة واستقلال الجملة بعدها ، وجوزوا أن يكون بديع مبتدأ والجملة بعده خبره فيكون انتفاء الولدية من حيث المعنى بجهتين : إحداهما : انتفاء الصاحبة ، والأخرى : كونه بديعاً أي عديم المثل ومبدعاً لما

" صفحة رقم 198 "
خلق ومن كان بهذه الصفة لا يمكن أن يكون له ولد لأن تقدير الولدية وتقدير الإبداع ينافي الولدية ، وهذه الآية رد على الكفار بقياس الغائب على الشاهد ، وقرأ المنصور : بديع بالجر رداً على قوله : ) جَعَلُواْ للَّهِ ( أو على ) سُبْحَانَهُ ). وقرأ صالح الشامي : بديع بالنصب على المدح .
( وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء ( قيل : هذا عموم معناه الخصوص أي وخلق العالم فلا تدخل فيه صفاته ولا ذاته كقوله : ) وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء ( ولا تسع إبليس ولا من مات كافراً وتدمر كل شيء ولم تدمر السموات والأرض ، قال ابن عطية : ليس هو عموماً مخصصاً على ما ذهب إليه قوم لأن العموم المخصص هو أن يتناول العموم شيئاً ثم يخرجه بالتخصيص ، وهذا لم يتناول قط هذا الذي ذكرناه وإنما هو بمنزلة قول الإنسان : قتلت كل فارس وأفحمت كل خصم فلم يدخل القاتل قط في هذا العموم الظاهر من لفظه ، قال الزمخشري : وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه : أحدها : أن مبتدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة ، لأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون والداً ، والثاني : إن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد ، وهو تعالى متعال عن مجانس فلم يصح أن تكون له صاحبة فلم تصح الولادة ، والثالث : أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج .
( وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عظِيمٌ ( قال ابن عطية : هذا عموم على الإطلاق لأن الله تعالى يعلم كل شيء ، وقال التبريري : ) بِكُلّ شَىْء ( من الواجب والممكن والممتنع .
الأنعام : ( 102 ) ذلكم الله ربكم . . . . .
( ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَىْء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء وَكِيلٌ ( أي ) ذالِكُمْ ( الموصوف بتلك الأوصاف السابقة من كونه بديعاً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً خالق الموجودات عالماً بكل شيء هو الله بدأ بالاسم العلم ثم قال : ) رَبُّكُمْ ( أي مالككم والناظر في مصالحكم ، ثم حصر الألوهية فيه ثم كرر وصف خلقه ) كُلّ شَىْء ( ثم أمر بعبادته لأن من استجمعت فيه هذه الصفات كان جديراً بالعبادة وأن يفرد بها فلا يتخذ معه شريك ، ثم أخبر أنه مع تلك الصفات السابقة التي منها خلق كل شيء وهو المالك لكل شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال .
الأنعام : ( 103 ) لا تدركه الأبصار . . . . .
( لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ ( الإدراك قيل معناه الإحاطة بالشيء وبذلك فسره هنا ابن عباس وقتادة وعطية العوفي وابن المسيب والزجاج ، قال ابن المسيب لا تحيط به الأبصار ، وقال الزجاج : لا تحيط بحقيقته والإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته أو كنى بالإبصار عن الأشخاص لأن بها تدرك الأشخاص الأشياء ، وكان المعنى لا تدركه الخلق وهو يدركهم أو يكون المعنى إبصار القلب أي لا تدركه علوم الخلق وهو يدرك علومهم وذواتهم ، لأنه غير محاط به وهو على هذا مستحيل على الله عند المسلمين ولا تنافي الرؤية انتفاء الإدراك ، وقيل : الإدراك هنا الرؤية وهي مختلف فيها بين المسلمين فالمعتزلة يحيلونها وأهل السنة يجوزونها عقلاً ويقولون : هي واقعة سمعاً وهذه مسألة يبحث عنها في علم أصول الدين وفيه ذكر دلائل الفريقين مستوفاة وقد رأيت فيها لأبي جعفر الطوسي وهو من عقلاء الإمامية سفراً كبيراً ينصر فيه مقالة أصحابه نفاة الرؤية وقد استدل نفاة الرؤية بهذه الآية لمذهبهم وأجيبوا بأن الإدراك غير الرؤية ، وعلى تسليم أن الإدراك هو الرؤية فالإبصار مخصوصة أي أبصار الكفار الذين سبق ذكرهم أو لا تدركه في الدنيا ، قال الماتريدي : والبصر هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله تعالى في حاسة النظر به تدرك المبصرات وفي قوله : ) وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ ( دلالة على أن الإدراك لا يراد به هنا مجرد الرؤية إذ لو كان مجرد الرؤية لم يكن له تعالى بذلك اختصاص ولا تمدح ، لأنا نحن نرى الأبصار فدل على أن معنى الإدراك الإحاطة بحقيقة الشيء فهو تعالى لا تحيط بحقيقته الأبصار وهو محيط بحقيقتها ، وقال

" صفحة رقم 199 "
الزمخشري : والمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه ، لأنه متعال أن يكون مبصراً في ذاته لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلاً أو تابعاً كالأجسام والهيئات ) وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ ( وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك .
( وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( يلطف عن أن تدركه الأبصار الخبير بكل لطيف ) وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ ( لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللف انتهى ، وهو على مذهبه الاعتزالي وتظافرت الأخبار عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) برؤية المؤمنين الله في الآخرة ، وقد اختلفوا هل رآه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الدنيا ببصره ليلة المعراج ؟ فذهب جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين إلى إنكار ذلك ، وقالت عائشة وابن مسعود وأبو هريرة على خلاف عنهما بذلك ، وذهب ابن عباس وكعب والحسن وعكرمة وأحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري وجماعة من الصحابة إلى أنه رآه ببصره وعيني رأسه ، وروي هذا عن ابن مسعود وأبي هريرة والأول عن ابن مسعود أشهر ، وقيل : ) وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ ( معناه لا يخفى عليه شيء وخص الأبصار لتجنيس الكلام يعني المقابلة ، وقال الزجاج : في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر الذي صار به الإنسان مبصراً من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه : ) وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( قال أبو العالية : لطيف باستخراج الأشياء خبير بأماكنها .
الأنعام : ( 104 ) قد جاءكم بصائر . . . . .
( قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ ( هذا وارد على لسان الرسول لقوله آخره ) وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( والبصيرة نور القلب الذي يستبصر به كما أن البصر نور العين الذي به تبصرأي جاءكم من الوحي والتنبيه بما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية : البصيرة هي ما ينقب عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها بالاعتبار فكأنه قال : قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق والمعينة عليه والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين ، وقال الحوفي : البصيرة الحجة البينة الظاهرة كما قال تعالى : ) ادْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ( ) بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( ، وقال الكلبي : البصائر آيات القرآن التي فيها الإيضاح والبينات والتنبيه على ما يجوز عليه وعلى ما يستحيل وإسناد المجيء إلى البصائر مجاز لتفخيم شأنها إذا كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره كما يقال جاءت العافية .
( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ( أي فالإبصار لنفسه أي نفعه وثمرته .
( وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا ( أي فالعمى عليها أي فجدوى العمى عائد على نفسه والإبصار والعمى كنايتان عن الهدى والضلال ، والمعنى أن ثمرة الهدى والضلال إنما هي للمهتدي والضال لأنه تعالى غني عن خلقه ، وهي من الكنايات الحسنة لما ذكر البصائر أعقبها تعالى بالإبصار والعمى وهذه مطابقة ، وقدره الزمخشري ) فَمَنْ أَبْصَرَ ( الحق وآمن ) فَلِنَفْسِهِ ( أبصر وإيّاها نفع ) وَمَنْ عَمِىَ ( عنه فعلى نفسه عمي والذي قدرناه من المصدر أولى وهو فالإبصار والعمى لوجهين : أحدهما : أن المحذوف يكون مفرداً لا جملة ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة ، وفي تقديره هو المحذوف جملة والجار والمجرور فضلة ، والثاني : وهو أقوى وذلك أنه لو كان التقدير فعلاً لم تدخل الفاء سواء كانت من شرطاً أم موصولة مشبهة بالشرط لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دعاء ولا جامداً ووقع جواب شرط أو خبر مبتدأ مشبه باسم الشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ولا في خبر المبتدأ ، لو قلت : من جاءني فأكرمته لم يجز بخلاف تقديرنا فإنه لا بد فيه من الفاء ولا يجوز حذفها إلا في الشعر وقال أبو عبد الله الرازي : البصيرة اسم الإدراك التام الحاصل في القلب والآيات المتقدمة ليست في أنفسها

" صفحة رقم 200 "
بصائر إلا أنها لقوتها وجلائها توجب البصائر لمن عرفها ، فلما كانت أسباباً لحصول البصائر سميت بصائر .
( وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( أي برقيب أحصر أعمالكم أو بوكيل آخذكم بالإيمان أو بحافظكم من عذاب الله أو برب أجازيكم أو بشاهد أقوال رابعها للحسن وخامسها للزجاج ، وقال الزمخشري : ) بِحَفِيظٍ ( أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم . انتهى ، وهو بسط قول الحسن ، وقال ابن عطية : كان قبل ظهور الإسلام ثم بعد ذلك كان حفيظاً على العالم آخذاً لهم بالإسلام والسيف .
الأنعام : ( 105 ) وكذلك نصرف الآيات . . . . .
( وَكَذالِكَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ ( أي ومثل ما بينا تلك الآيات التي هي بصائر وصرفناها نصرف الآيات ونرددها على وجوه كثيرة .
( وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ( يعني أهل مكة حين يقرأ عليهم القرآن ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست أي دارست يا محمد غيرك في هذه الأشياء أي قارأته وناظرته إشارة منهم إلى سلمان وغيره من الأعاجم واليهود ، وقرأ ابن عامر وجماعة من غير السبعة ) دَرَسْتَ ( مبنياً للفاعل مضمراً فيه أي درست الآيات أي ترددت على أسماعهم حتى بليت وقدمت في نفوسهم وأمحت ، وقرأ باقي السبعة ) دَرَسْتَ ( يا محمد في الكتب القديمة ما تجيئنا به كما قالوا : ) أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا ( ، وقال الضحاك : ) دَرَسْتَ ( قرأت وتعلمت من أبي فكيهة وجبر ويسار ، وقرىء ) دَرَسْتَ ( بالتشديد والخطاب أي درست الكتب القديمة ، وقرىء درّست مشدداً مبنياً للمفعول المخاطب ، وقرىء دورست بالتخفيف والواو مبنياً للمفعول والواو مبدلة من الألف في دارست ، وقرأت فرقة دارست أي دارستك الجماعة الذين تتعلم منهم وجاز الإضمار ، لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم ، ويجوز أن يكون الفعل للآيات وهو لأهلها أي دارس أهل الآيات ، وقرأت فرقة ) دَرَسْتَ ( بضم الرّاء مسنداً إلى غائب مبالغة في درست أي اشتد دروسها وبلاها ، وقرأ قتادة والحسن وزيد بن عليّ ) دَرَسْتَ ( مبنياً للمفعول وفيه ضمير الآيات غائباً وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه ، قال أبو الفتح : ويحتمل أن يراد عفيت أو تليت وكذا قال الزمخشري : قال بمعنى قرئت أو عفيت أما بمعنى قرئت فظاهر لأن درس بمعنى كرّر القراء متعد وأما درس بمعنى بلى وأمحى فلا أحفظه متعدياً ، وما وجدناه في أشعار من وقفنا على شعره من العرب إلا لازماً ، وقرأ أبيّ درس أي محمد أو الكتاب وهي مصحف عبد الله ، وروي عن الحسن درسن مبنياً للفاعل مسنداً إلى النون أي درس الآيات وكذا هي في بعض مصاحف عبد الله ، وقرأت فرقة درسن بتشديد الراء مبالغة في درسن ، وقرىء دراسات أي هي قديمات أو ذات درس كعيشة راضية فهذه ثلاث عشر قراءة في هذه الكلمة ، وقرأت طائفة ) وَلِيَقُولُواْ ( بسكون اللام على جهة الأمر المتضمن للتوبيخ والوعيد ، وقرأ الجمهور بكسرها وقالوا : هذه اللام هي التي تضمر أن بعدها والفعل منصوب بأن المضمرة . قال ابن عطية : على أنها لام كي وهي على هذا لام الصيرورة كقوله : ) فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( أي لما صار أمرهم إلى ذلك ، وقال الزمخشري : و ) لّيَقُولواْ ( جوابه محذوف تقديره وليقولوا دارست تصرفها ( فإن قلت ) : أي فرق بين اللامين في ) لّيَقُولواْ ( و ) لنبينه ( ( قلت ) : الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة وذلك أن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا دارست ولكنه لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين شبه

" صفحة رقم 201 "
به فسيق مساقه ، وقيل ) بِبَعْضٍ لّيَقُولواْ ( كما قيل : ) لنبينه ( انتهى ، وتسميته ما يتعلق به قوله ليقولوا جواباً اصطلاح غريب ومثل هذا لا يسمى جواباً لا تقول : في جئت من قولك : جئت لتقوم أنه جواب وهذا الذي ذكره الزمخشري من تخريج ) بِبَعْضٍ لّيَقُولواْ ( عليه هو الذي ذهب إليه من أنكر لام الصيرورة وهي التي تسمى أيضاً لام العاقبة والمآل وهو أنه لما ترتب على التقاطه كونه صار لهم عدواً وحزناً جعل كأنه علة لالتقاطه فهو علة مجازية ، وقال أبو عليّ الفارسي : واللام في ) لّيَقُولواْ ( على قراءة ابن عامر ومن وافقه بمعنى لئلا يقولوا أي صرف الآيات وأحكمت لئلا يقولوا هذه أساطير الأوّلين قديمة قد تليت وتكرّرت على الأسماع واللام على سائر القراءآت لام الصيرورة ، وما أجازه أبو عليّ من إضمار لا بعد اللام المضمر بعدها أن هو مذهب لبعض الكوفيين ، وتقدير الكلام لئلا يقولوا كما أضمروها بعد أن المظهرة في قوله : أن تضلوا ولا يجيز البصريون إضمار لا إلا في القسم على ما تبين فيه ، وقد حمله بعضهم على أن اللام لام كي حقيقة فقال : المعنى تصريف هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزدادوا كفراً على كفر وتنبيه لبعضهم فيزدادوا إيماناً على إيمان ولنظيره ) يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيرًا ( ) وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( ولا يتعين ما ذكره المعرّبون والمفسرون من أن اللام في ) وَلِيَقُولُواْ ( لام كي أو لام الصيرورة بل الظاهر أنها لام الأمر ، والفعل مجزوم بها لا منصوب بإضمار أن ويؤيده قراءة من سكن اللام والمعنى عليه متمكن كأنه قيل : ومثل ذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون من كونك درستها وتعلمتها أو درست هي أي بليت وقدمت فإنه لا يحفل بهم ولا يلتفت إلى قولهم ، وهو أمر معناه الوعيد بالتهديد وعدم الاكتراث بهم وبما يقولون في الآيات أي نصرفها ليدّعوا فيها ما شاؤوا فلا اكتراث بدعواهم .
( وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( أي نصرف الآيات وأعاد الضمير مفرداً قالوا على معنى الآيات لأنها القرآن كأنه قال : وكذلك نصرف القرآن أو على القرآن ودل عليه الآيات أو درست أو على المصدر المفهوم من ) وَلِنُبَيّنَهُ ( أي ولنبين التبيين كما تقول : ضربته زيداً إذا أردت ضربت الضرب زيداً أو على المصدر المفهوم من نصرف ، قال ابن عباس : ) لِقَوْمٍ ( يريد أولياء الذين هداهم إلى سبيل الرشاد .
الأنعام : ( 106 ) اتبع ما أوحي . . . . .
( اتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ( أمره تعالى بأن يتبع ما أوحي إليه وبأن يعرض عن من أشرك والأمر بالإعراض عنهم كان قبل نسخه بالقتال والسوق إلى الدّين طوعاً أو كرهاً ، والجملة بين الأمرين اعتراض أكدّ به وجوب اتباع الموحى أو في موضع الحال المؤكدة .
الأنعام : ( 107 ) ولو شاء الله . . . . .
( وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ ( أي إن إشراكهم ليس في الحقيقة بمشيئتهم وإنما هو بمشيئة الله تعالى ، وظاهر الآية يرد على المعتزلة ويتأوّلونها على مشيئة القسر والإلجاء .
( وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ( أي رقيباً تحفظهم من الإشراك .
( وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( أي بمسلط عليهم والجملتان متقاربتان في المعنى إلا أن الأولى فيها نفي جعل الحفظ منه تعالى له عليهم . والثانية فيها نفي الوكالة عليهم والمعنى إنّا لم نسلطك ولا أنت في ذاتك بمسلط فناسب أن تعرض عنهم إذ لست مأموراً منا بأن تكون حفيظاً عليهم ولا أنت وكيل عليهم من تلقائك .
الأنعام : ( 108 ) ولا تسبوا الذين . . . . .
( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( قال ابن عباس : سببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب : إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه فنزلت ، وقيل : قالوا ذلك عند نزول قوله : ) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( وقيل : كان المسلمون يسبون آلهتهم فنهوا لئلا يكون سبهم سبباً لسب الله تعالى ، وحكم هذه الآية باق في هذه الأمة فإذا كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول أو الله فلا يحل لمسلم ذم دين الكافر ولا صنمه ولا

" صفحة رقم 202 "
صليبه ولا يتعرض إلى ما يؤدّي إلى ذلك ، ولما أمر تعالى باتباع ما أوحي إليه وبموادعة المشركين عدل عن خطابه إلى خطاب المؤمنين ، فنهوا عن سب أصنام المشركين ولم يواجه هو ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالخطاب وإن كان هو الذي سبت الأصنام على لسانه وأصحابه تابعون له في ذلك لما في مواجهته وحده بالنهي من خلاف ما كان عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الأخلاق الكريمة ، إذ لم يكن عليه السلام فحّاشاً ولا صخّاباً ولا سبّاباً فلذلك جاء الخطاب للمؤمنين فقيل : ) وَلاَ تَسُبُّواْ ( ولم يكن التركيب ولا تسب كما جاء ) وَأَعْرِض ( وإذا كانت الطاعة تؤدّي إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها كما ينهى عن المعصية و ) الَّذِينَ يَدْعُونَ ( هم الأصنام أي يدعونهم المشركون وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل بالذين كما يعبر عن العاقل على معاملة مالا يعقل معاملة من يعقل ، إذ كانوا ينزلونهم منزلة من يعقل في عبادتهم واعتقادهم فيهم أنهم شفعاء لهم عند الله تعالى ، وقيل : يحتمل أن يراد ب ) الَّذِينَ يَدْعُونَ ( الكفار وظاهر قوله : ) فَيَسُبُّواْ اللَّهَ ( أنهم يقدمون على سب الله إذا سب آلهتهم وإن كانوا معترفين بالله تعالى ، لكن يحملهم على ذلك انتصارهم لآلهتهم وشدة غيظهم لأجلها فيخرجون عن الاعتدال إلى ما ينافي العقل كما يقع من بعض المسلمين إذا اشتد غضبه وانحرف فإنه قد يلفظ بما يؤدّي إلى الكفر نعوذ بالله من ذلك ، وقال أبو عبد الله الرازي : ربما كان بعضهم قائلاً بالدهر ونفى الصانع فكان يأتي بهذا النوع من الشناعة أو كان المسلمون يسبون الأصنام وهم كانوا يسبون الرسول فأجرى سب الرسول مجرى سب الله تعالى كما قال : ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( وكما قال : ) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( أو كان بعض الكفرة يعتقد أن شيطاناً يحمل الرسول على ادعاء النبوّة والرسالة وكانوا بجهلهم يشتمون ذلك الشيطان بأنه إله محمد ، انتهى . وهذه احتمالات مخالفة للظاهر وإنما أوردها لأنه ذكر أن المعترفين بوجود الصانع لا يجسرون أن يقدموا على سبه تعالى ، وقد ذكرنا ما يحمل على حمل الكلام على ظاهره ، وقال بعض الصوفية : بمعنى خاطبوهم بلسان الحجة وإلزام الدليل ولا تكلموهم على نوازع النفس والعادة وفيسبوا منصوب على جواب النهي ، وقيل : هو مجزوم على العطف كقولك : لا تمددها فتشققها ، وعدواً مصدر عدا وكذا عدو وعدوان بمعنى اعتدى أي ظلم ، وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله بن يزيد بضم العين والدال وتشديد الواو وهو مصدر لعدا كما ذكرناه ، وجوّزوا فيهما انتصابهما على المصدر في موضع الحال أو على المصدر من غير لفظ الفعل لأن سب الله عدوان أو على المفعول له ، وقال ابن عطية : وقرأ بعض المكيين وعينه الزمخشري فقال عن ابن كثير : بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو أي أعداء وهو منصوب على الحال المؤكدة وعدو يخبر به عن الجمع كما قال : هم العدوّ ، ومعنى ) بِغَيْرِ عِلْمٍ ( على جهالة بما يجب لله تعالى أن يذكر به وهو بيان لمعنى الاعتداء .
( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ( أي مثل تزيين عبادة الأصنام للمشركين ) زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ ( وظاهر ) لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ( لعموم في الأمم وفي العمل فيه فيدخل فيه المؤمنون والكافرون وتزيينه هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير أو الشر والاتباع لطرقه ، وتزيين الشيطان هو ما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء ، وخص الزمخشري ) لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ( فقال : من أمم الكفار سوء عملهم أي خليناهم وشأنهم ولم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم ، وأمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زيناه في زعمهم وقولهم : إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا انتهى ، وهو على طريقته الاعتزالية ، وقال الحسن : أي ) زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ ( العمل الذي أوجبناه عليهم فجعل ) زَيَّنَّا ( بمعنى شرعنا ) وَلِكُلّ أُمَّةٍ ( عام والعمل خاص بما أوجبه الله تعالى ، وأنكر هذا الزجاج وقال : هو بمعنى طبع الله على قلوبهم والدليل عليه : ) فَمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء (

" صفحة رقم 203 "
انتهى . وما فسر به الحسن قد أوضحه بعض المعتزلة فقال : المراد بتزيين العمل تزيين المأمور به لا المنهى عنه ويحمل على الخصوص وإن كان عاماً لئلا يؤدّي إلى تناقض النصوص لأنه نص على تزيين الله للإيمان وتكريهه للكفر في قوله : ) حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ( فلو دخل تزيين الكفر في هذه الآية في المراد لوجب التناقض بين الآيتين ولذلك أضاف التزيين إلى الشيطان بقوله : ) زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ( فلا يكون الله مزيناً ما زينه الشيطان فنقول : الله يزين ما يأمر به والشيطان يزين ما ينهى عنه حتى يكون ذلك عملاً بجميع النصوص انتهى ، وأجيب بأن لا تناقض لاختلاف التزيين تزيين الله بالخلق للشهوات وتزيين الشيطان بالدعاء إلى المعاصي فالآية على عمومها في كل أمّة وفي عملهم .
( ثُمَّ إِلَى رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( أي أمرهم مفوّض إلى الله وهو عالم بأحوالهم مطلع على ضمائرهم ومنقلبهم يوم القيامة إليه فيجازي كل بمقتضى عمله وفي ذلك وعد جميل للمحسن ووعيد للمسيء .
الأنعام : ( 109 ) وأقسموا بالله جهد . . . . .
( وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ( أي آية من اقتراحهم نحو قولهم حتى تنزل ) إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء ءايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( أنزلها علينا حتى نؤمن بها فقال المسلمون يا رسول الله أنزلها عليهم فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس أو نحو قولهم يجعل الصفا ذهباً حتى ذكروا معجزة موسى في الحجر وعيسى في إحياء الموتى وصالح في الناقة فقام الرسول يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال له : إن شئت صبح الصفا ذهباً فإن لم يؤمنوا هلكوا عن آخرهم معاجلة كما فعل بالأمم الماضية ، إذ لم يؤمنوا بالآيات المقترحة وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال : ( بل حتى يتوب تائبهم ، وإنما اقترحوا آية معينة لأنهم شكوا في القرآن ولهذا قالوا : دارست أي العلماء وباحثت أهل التوراة والإنجيل وكابر أكثرهم وعاند ، والمعنى أنهم حلفوا غاية حلفهم وسمي الحلف قسماً لأنه يكون عند انقسام الناس إلى التصديق والتكذيب فكأنه يقوي القسم الذي يختاره ، قال التبريزي : الإقسام إفعال من القسم الذي هو بمعنى النصيب والقسمة ، وكان إقسامهم بالله غاية في الحلف وكانوا يقسمون بآبائهم وآلهتهم فإذا كان الأمر عظيماً أقسموا بالله تعالى ، والجهد : بفتح الجيم المشقة وبضمها الطاقة ومنهم من يجعلهما بمعنى واحد وانتصب جهد على المصدر المنصوب بأقسموا أي أقسموا جهد إقساماتهم والأيمان بمعنى الإقسامات كما تقول : ضربته أشد الضربات ، وقال الحوفي : مصدر في موضع الحال من الضمير في ) أَقْسَمُواْ ( أي مجتهدين في أيمانهم ، وقال المبرد : مصدر منصوب بفعل من لفظه وقد تقدم الكلام على ) جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ( في المائدة ، ولئن جاءتهم أخبار عنهم لا حكاية لقولهم إذ لو حكي قولهم لكان لئن جاءتنا آية وتعامل الإخبار عن القسم معاملة حكاية القسم بلفظ ما نطق به المقسم ، وأنه لا يراد بها مطلق آية إذ قد جاءتهم آيات كثيرة ولكنهم أرادوا آية مقترحة كما ذكرناه ، وقرأ طلحة بن مصرّف ) لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ( مبنياً للمفعول وبالنون الخفيفة .
( قُلْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ( هذا أمر بالردّ عليهم وأن مجيء الآيات ليس لي إنما ذلك لله تعالى وهو القادر عليها ينزلها على وجه المصلحة كيف شاء لحكمته وليست عندي فتقترح علي .
( وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( استفهامية ويعود عليها ضمير الفاعل في ) يُشْعِرُكُمْ ( ، وقرأ قوم بسكون ضمة الراء ، وقرىء باختلاسها وأما الخطاب فقال مجاهد وابن زيد : هو للكفار ، وقال الفراء وغيره : المخاطب بها المؤمنون ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والعليمي والأعشى عن أبي بكر ، وقال ابن عطية ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية داود الإيادي أنها بكسر الهمزة ، وقرأ باقي السبعة بفتحها ، وقرأ ابن عامر وحمزة لا تؤمنون بتاء الخطاب ، وقرأ باقي السبعة بياء الغيبة فترتبت أربع قراءات الأولى كسر الهمزة والياء وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر بخلاف عنه في كسر الهمزة وهذه قراءة واضحة ، أخبر تعالى أنهم

" صفحة رقم 204 "
) لاَ يُؤْمِنُونَ ( البته على تقدير مجيء الآية وتم الكلام عند قوله : ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( ومتعلق ) يُشْعِرُكُمْ ( محذوف أي ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( ما يكون فإن كان الخطاب للكفار كان التقدير ) وَمَا ( ما يكون منكم ثم أخبر على جهة الالتفات بما علمه من حالهم لو جاءتهم الآيات وإن كان الخطاب للمؤمنين كان التقدير ) اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( أيها المؤمنون ما يكون منهم ، ثم أخبر المؤمنين بعلمه فيهم ، القراءة الثانية كسر الهمزة والتاء وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم ، والمناسب أن يكون الخطاب للكفار في هذه القراءة كأنه قيل : وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها ويبعد جداً أن يكون الخطاب في ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( للمؤمنين وفي لا تؤمنون للكفار ، القراءة الثالثة فتح الهمزة والتاء وهي قراءة نافع والكسائي وحفص ، فالظاهر أن الخطاب للمؤمنين والمعنى وما يدريكم أيها المؤمنون أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بها يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون وأنتم لا تدرون بذلك ، وكان المؤمنون يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ، ويتمنون مجيئها فقال : وما يدريكم أنهم لا يؤمنون على معنى أنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون ألا ترى إلى قوله ) كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ( ويبعد جداً أن يكون الخطاب في ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( للكفار وأن في هذه القراءة مصدرية ولا على معناها من النفي ، وجعل بعض المفسرين أن هنا بمعنى لعل وحكي من كلامهم ذلك قالوا : إيت السوق إنك تشتري لحماير بدون لعلك ، وقال امرؤ القيس : عوجاً على الطلل المحيل لأننا
نبكي الديار كما بكى ابن حرام
وذكر ذلك أبو عبيدة وغيره ولعل تأتي كثيراً في مثل هذا الموضع قال تعالى : ) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ( ) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ( وفي مصحف أبي وما أدراكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وضعف أبو علي هذا القول بأن التوقع الذي يدل عليه لعل لا يناسب قراءة الكسر ، لأنها تدل على حكمه تعالى عليهم بأنهم لا يؤمنون لكنه لم يجعل أنها معمولة ) ليشعركم ( بل جعلها علة على حذف لامها والتقدير عنده ) بِهَا قُلْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ( لأنها إذا جاءت لا يؤمنون فهو لا يأتي بها لإصرارهم على كفرهم فيكون نظير وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون أي بالآيات المقترحة انتهى ، ويكون ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( اعتراضاً بين المعلول وعلته إذ صار المعنى : ) قُلْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ( أي المقترحة لا يأتي بها لانتفاء أيمانهم وإصرارهم على ضلالهم وجعل بعضهم لا زائدة فيكون المعنى وما يدريكم بإيمانهم كما قالوا : إذا جاءت وإنما جعلها زائدة لأنها لو بقيت على النفي لكان الكلام عذراً للكفار وفسد المراد بالآية قاله ابن عطية ، قال وضعف الزجاج وغيره زيادة لا ، انتهى . قول ابن عطية والقائل بزيادة لا هو الكسائي والفراء ، وقال الزجاج : زعم سيبويه أن معناها لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وهي قراءة أهل المدينة ، قال : وهذا الوجه أقوى في العربية والذي ذكر أن لا لغو غالط لأن ما كان لغواً لا يكون غير لغو ومن قرأ بالكسر فالإجماع على أن لا غير لغو فليس يجوز أن يكون المعنى مرة إيجاباً ومرة غير ذلك في سياق كلام واحد ، وتأول بعض المفسرين الآية على حذف معطوف يخرج لا عن الزيادة وتقديره ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( أو يؤمنون أي ما يدريكم بانتفاء الإيمان أو وقوعه ، ذكره النحاس وغيره ، ولا يحتاج الكلام إلى زيادة لا ولا إلى هذا الإضمار ولا لا يكون أن بمعنى لعل وهذا كله خروج عن الظاهر لفرضه بل حمله على الظاهر أولى وهو واضح سائغ كما بحثناه أولاً أي ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( ويدريكم بمعرفة

" صفحة رقم 205 "
انتفاء إيمانهم لا سبيل لكم إلى الشعور بها ، القراءة الرابعة : فتح الهمزة والتاء وهي قراءة ابن عامر وحمزة ، والظاهر أنه خطاب للكفار ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة لا أي وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت كما أقسمتم عليه ، وعلى تأويل أن بمعنى لعل وكون لا نفياً أي وما يدريكم بحالهم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون بها وكذلك يصح المعنى على تقدير حذف المعطوف أي وما يدريكم بانتفاء إيمانكم إذا جاءت أو وقوعه لأن مآل أمركم مغيب عنكم فكيف تقسمون على الإيمان إذا جاءتكم الآية ، وكذلك يصح معناها على تقدير أي على أن تكون أنها علة أي ) قُلْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ( فلا يأتيكم بها لأنها ) إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( وما يشعركم بأنكم تؤمنون وأما على إقرار أن ) أَنَّهَا ( معمولة ) ليشعركم ( وبقاء ) لِفَتَاهُ لا ( على النفي فيشكل معنى هذه القراءة لأنه يكون المعنى ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( أيها الكفار بانتفاء إيمانكم إذا جاءتكم الآية المقترحة ، والذي يناسب صدر الآية ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( بوقوع الإيمان منكم إذا جاءت ، وقد يصح أن يكون التقدير : وأيّ شيء يشعركم بانتفاء الإيمان إذا جاءت ، أي لا يقع ذلك في خواطركم بل أنتم مصممون على الإيمان إذا جاءت ، وأنا أعلم أنكم لا تؤمنون إذا جاءت لأنكم مطبوع على قلوبكم . وكم آية جاءتكم فلم تؤمنوا . وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن ما في قوله ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( نافية والفاعل بيشعركم ضمير يعود على الله ، ويتكلف معنى الآية على جعلها نافية ، سواء فتحت أن أم كسرت . ومتعلق ) لاَ يُؤْمِنُونَ ( محذوف وحسن حذفه كون ما يتعلق به وقع فاصلة ، وتقديره ) لاَ يُؤْمِنُونَ ( بها وقد اتضح من ترتيب هذه القراءات الأربع أنه لا يصلح أن يكون الخطاب للمؤمنين على الإطلاق ولا للكفار على الإطلاق ، بل الخطاب يكون على ما يصح به المعنى الذي للقراءة .
الأنعام : ( 110 ) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم . . . . .
( وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( الظاهر أن قوله : ) وَنُقَلّبُ ( جملة استئنافية أخبر تعالى أنه يفعل بهم ذلك وهي إشارة إلى الحيرة والتردد وصرف الشيء عن وجهه . والمعنى أنه تعالى يحولهم عن الهدى ويتركهم في الضلال والكفر . وكما للتعليل أي يفعل بهم ذلك لكونهم لم يؤمنوا به أول وقت جاءهم هدى الله كما قال تعالى : ) وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ويؤكد هذا المعنى آخر الآية ) وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( أي ونتركهم في تغمطهم في الشرِّ والإفراط فيه يتحيرون ، وهذا كله إخبار من الله تعالى بفعله بهم في الدنيا . وقالت فرقة : هذا الإخبار هو على تقدير : أنه لو جاءت الآية التي اقترحوها صنعنا بهم ذلك . ولذلك قال الزمخشري ) وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ ( ) وَنَذَرُهُمْ ( عطف على ) لاَ يُؤْمِنُونَ ( داخل في حكم ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( بمعنى وما يشعركم أنهم لا يؤمنون ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( إنا ) وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ( أي فنطبع على أبصارهم وقلوبهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق كما كانوا عند نزول آياتنا أولاً لا يؤمنون بها ، لكونهم ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( إنا ) وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ( أي نخليهم وشأنهم لا نكفهم ونصرفهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه انتهى .
وهذا معنى ما قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد قالوا : لو أتيناهم بآية كما سألوا لقلبنا أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان بها ، وحلتا بينهم وبين الهدى فلم يؤمنوا كما لم يؤمنوا بما رأوا قبلها ، عقوبة لهم على ذلك . والفرق بين هذا القول والذي بدأنا به أولاً أن ذلك استئناف إخبار بما يفعل بهم تعالى في الدنيا . وهذا إخبار على تقدير مجيء الآية المقترحة فذلك واقع وهذا غير واقع ، لأن الآية المقترحة لم تقع فلم يقع ما رتب عليها .
وقال مقاتل : نقلب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان وعن الآيات كما لم يؤمن أوائلهم من الأمم الخالية بما رأوا من الآيات .
وقيل : تقليبها بإزعاج نفوسهم همّاً وغمّاً .
وقال الكرماني : مغناه أنّا نحيط علماً بذات الصدور وخائنة الأعين منهم انتهى .
ولا يستقيم هذا التفسير لقوله : ) كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ( لا على التعليل ولا على التشبيه إلا أن جعل متعلقاً بقوله ) أَنَّهَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( أي ) كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ( فيصح على بعد في تفسير التقليب

" صفحة رقم 206 "
بإحاطة العلم .
وقال الكعبي : المراد أنا لا نفعل بهم ما نفعل بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن الهداية بسبب الكفر انتهى .
وهو على طريقة الاعتزالي ومعنى تقليب القلب والبصر ما ينشأ عن القلب والبصر من الدواعي إلى الحيرة والضلال ، لأن القلب والبصر يتقلبان بأنفسهما فنسبة التقليب إليهما مجاز . وقدمت الأفئدة لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر إليه شاء أم أبى ، وإذا حصلت الصوارف في القلب انصرف البصر عنه وإن كان تحدق النظر إليه ظاهراً وهذه التفاسير على أن ذلك في الدنيا .
وقالت فرقة : إن ذلك إخبار من الله تعالى يفعل بهم ذلك في الآخرة .
فروي عن ابن عباس أنه جواب لسؤالهم في الآخرة الرجوع إلى الدنيا . والمعنى لو ردّوا لحلنا بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا انتهى . وهذا ينبو عنه تركيب الكلام .
وقيل : تقليبها في النار في جهنم على لهيبها وجمرها ليعذبوا ) كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ( يعني في الدنيا وقاله الجبائي .
وقال أبو الهذيل : تقليب أفئدتهم بلوغها الحناجر كما قال تعالى : ) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الاْزِفَةِ ).
وقيل : تقليب أبصارهم إلى الزرقة وحمل ذلك على أنه في الآخرة ضعيف قلق النظم ، لأن التقليب في الآخرة وتركهم في الطغيان في الدنيا ، فيختلف الظرفان من غير دليل على اختلافهما ، بل الظاهر أن ذلك إخبار مستأنف كما قررناه أولاً ، والكاف في كما ذكرنا أنها للتعليل ، وهو واضح فيها وإن كان استعمالها فيه قليلاً . وقالت فرقة كما : هي بمعنى المجازاة أي لما ) لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ( نجاريهم بأن ) وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ ( عن الهدى ونطيع على قلوبهم . فكأنه قال : ونحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم جزاء لما ) لَمْ يُؤْمِنُواْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ( بما دعوا إليه من الشرع . قاله ابن عطية ، وهو معنى التعليل الذي ذكرناه إلا أنّ تسمية ذلك بمعنى المجازاة غريبة ، لا يعهد في كلام النحويين أنّ الكاف للمجازاة . قيل : للتشبه
وقيل : وفي الكلام حذف تقديره فلا يؤمنون به ثاني مرة ) كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ).
وقيل : الكاف نعت لمصدر محذوف أي تقليباً لكفرهم ، أي عقوبة مساوية لمعصيتهم ، قاله أبو البقاء .
وقال الحوفي : نعت لمصدر محذوف والتقدير : لا يؤمنون به إيماناً ثانياً ) كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ( انتهى . والضمير عائد على الله أو القرآن أو الرسول ، أقوال وأبعد من ذهب إلى أنه يعود على القليب ، وانتصب أول مرة على أنه ظرف زمان .
وقرأ النخعي ويقلب ويذرهم بالياء فيهما والفاعل ضمير الله .
وقرأ أيضاً فيما روى عنه مغيرة وتقلب أفئدتهم وأبصارهم ، بالرفع فيهما على البناء للمفعول ، ويذرهم بالياء وسكون الراء . وافقه على ويذرهم الأعمش والهمداني .
وقال الزمخشري : وقرأ الأعمش وتقلب أفئدتهم وأبصارهم على البناء للمفعول .
2 ( ) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَىإِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِىأَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّت

" صفحة رقم 207 "
ْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاٌّ رْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَهَاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } )
الأنعام : ( 111 ) ولو أننا نزلنا . . . . .
قبل : جمع قبيل كرغيف ورغف ، ومعناه جماعة أو كقبل أو مفرد بمعنى قبل ، أي مواجهة ومقابلة ويكون قبل ظرف أيضاً .
الزخرف الزينة ، قاله الزجاج .
وقال أبو عبيدة : كل ما حسنته وزينته وهو باطل فهو زخرف انتهى . والزخرف الذهب . صغوت وصغيت وصغيت بكسر الغين فمصدر الأول صغوا والثاني صغاً ، والثالث صغاً ، ومضارعها يصغي بفتح الغين ، وهي لازمة ، وأصغى مثلها لازم ويأتي متعدّياً بكون الهمزة فيه للنقل ، قال الشاعر في اللازم : ترى السفيه به عن كل محكمة
زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء

" صفحة رقم 208 "
وقال في المتعدّي : أصاخ من نبأة أصغى لها أذنا
صماخها بدسيس الذوق مستور
وأصله الميل يقال : صغت النجوم : مالت للغروب . وفي الحديث : ( فأصغى لها الإناء ) .
قال أبو زيد : ويقال : صغوه معك وصغوه وصغاه . ويقال : أكرموا فلاناً في صاغيته أي في قرابته الذين يميلون إليه ويطلبون ما عنده .
اقترف اكتسب وأكثر ما يكون في الشر والذنوب . ويقال : خرج يقترف لأهله : أي يكتسب لهم ، وقارف فلان الأمر : أي واقعه وقرفه بكذا رماه بريبة ، واقترف كذباً وأصله اقتطاع قطعة من الشيء .
خرص حزر وقال بغير تيقن ولا علم ومنه خرص بمعنى كذب وافتى خرصاً وخروصاً .
وقال الأزهري : وأصله التظني فيما لا يستيقن .
الشرح البسط والتوسعة .
قال الليث يقال : شرح الله صدره فانشرح .
وقال ابن الأعرابي : الشرح الفتح .
وقال ابن قتيبة : ومنه شرحت لك الأمر وشرحت اللحم فتحته .
الضيق فيعل من ضاق الشيء انضمت أجزاؤه إذا كان مجوفاً .
الحرج : اسم فاعل من حرج إذا اشتد ضيقه ، وبالفتح المصدر ، قاله الزجاج وأبو علي .
وقال الفراء : هما بمنزلة الواحد والوحد والفرد ، والفرد والدنف والدنف يعني أنهما وصفان انتهى . وأصله من الحرجة وهي شجرة تحف بها الأشجار حتى تمنع الداعي أن يصل إليها .
وقال أبو الهيثم : الحراج غياض من شجر السلم ملتفة واحدها حرجة لا يقدر أحد أن يدخل فيها أو ينفذ .
( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( أي لو أتيناهم بالآيات التي اقترحوها من إنزال الملائكة في قولهم ) لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( وتكليم الموتى إياه في قولهم ) فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا ( وفي قولهم أخي قصي بن كلاب وجدعان بن عمرو ، وهما أمينا العرب ، والوسطان فيهم . وحشر كل شيء عليهم من السباع والدواب والطيور وشهادتهم بصدق الرسول .
وقال الزمخشري : ) وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء ( قالوا : ) أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ قَبِيلاً ).
وقرأ نافع وابن عامر قبلاً بكسر القاف وفتح الباء ، ومعناه مقابلة أي عياناً ومشاهدة . قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد ، ونصبه على الحال .
وقال المبرد : معناه ناحية كما تقول : زيد قبلك ، ولي قبل فلان دين ، فانتصابه على الظرف وفيه بعد .
وقرأ باقي السبعة قبلاً بضم القاف والباء . فقال مجاهد وابن زيد وعبد الله بن يزيد : جمع قبيل وهو النوع ، أي نوعاً نوعاً وصنفاً صنفاً .
وقال الفراء والزجاج : جمع قبيل بمعنى كفيل أي : كفلاً بصدق محمد . يقال قبلت الرجل أقبله قبالة ، أي كفلت به والقبيل والكفيل والزعيم والأدين والحميل والضمين بمعنى واحد . وقيل قبلاً بمعنى قبلاً أي مقابلة ومواجهة . ومنه أتيتك قبلاً لا دبراً . أي من قبل وجهك . وقال تعالى : ) إِن كَانَ قَمِيصُهُ مِن قَبْلُ ( وقرىء لقبل عدتهن : أي لاستقبالها ومواجهتها . وهذا القول عندي أحسن لاتفاق القراءتين .
وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة ، قبلاً بضم القاف وسكون الباء على جهة التخفيف من الضم .
وقرأ أبيّ والأعمش قبيلاً بفتح القاف وكسر الباء وياء بعدها ، وانتصابه في هذه القراءة على الحال .
وقرأ ابن مصرّف بفتح القاف وسكون الباء وجواب ) لَوْ ( ) مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ( وقدره الحوفي لما كانوا قال : وحذفت اللام وهي مراده ، ولبس قوله بجيد لأن المنفي بما إذا وقع جواباً للوفا لأكثر في

" صفحة رقم 209 "
لسان العرب ، أن لا تدخل اللام على ما وقل دخولها على ما ، فلا تقول إن اللام حذفت منه بل إنما أدخلوها على ما تشبيهاً للمنفى بما بالموجب ، ألا ترى أنه إذا كان النفي بلم لم تدخل اللام على لم فدل على أن أصل المنفي أن لا تدخل عليه اللام و ) مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ( أبلغ في النفي من لم يؤمنوا لأن فيه نفي التأهل والصلاحية للإيمان ، ولذلك جاءت لام الجحود في الخبر وإلا أن يشاء الله استثناء متصل من محذوف هو علة . وسبب التقدير ) مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ( لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله . وقدره بعضهم في كل حال إلا في حال مشيئة الله ومن ذهب إلى أنه استثناء منقطع كالكرماني وأبي البقاء والحوفي . فقوله فيه بعد إذ هو ظاهر الاتصال أو علق إيمانهم بمشيئة الله دليل على ما يذهب إليه أهل السنة من أن إيمان العبد واقع بمشيئة الله ، وحمل ذلك المعتزلة على مشيئة الإلجاء والقهر . ولذلك قال الزمخشري : مشيئة إكراه واضطرار ، والظاهر أن الضمير في ) أَكْثَرُهُمْ ( عائد على ما عادت عليه الضمائر قيل من الكفار أي يجهلون الحق ، أو يجهلون أنه لا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة ، أو يجهلون أن كلاًّ من الإيمان والكفر هو بمشيئة الله وقدره .
وقال الزمخشري يجهلون فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات . قال أو لكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة .
وقال غيره من المعتزلة يجهلون أنهم يبقون كفاراً عند ظهور الآيات التي اقترحوها .
وقال الجبائي ) إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( يدل على حدوث مشيئة الله إذ لو كانت قديمة لم يجز أن يعلق عليها الحادث لأنها شرط ويلزم من حصول المشروط حصول الشرط والحسن دل على حدوث الإيمان فوجب كون الشرط حادثاً وهو المشيئة .
وأجاب أبو عبد الله الرازي بأن المشيئة وإن كانت قديمة تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحالة إضافة حادثة انتهى . وهذه الآية مؤيسة من إيمان هؤلاء الذين اقترحوا الآيات إلا من شاء الله منهم . ولذلك جاء قوله : ) إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( وهم من ختم له بالسعادة فآمن منهم .
الأنعام : ( 112 ) وكذلك جعلنا لكل . . . . .
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ( المعنى مثل ما جعل هؤلاء الكفار المقترحين الآيات وغيرهم أعداء لك جعلنا لم قبلك من الأنبياء أعداء شياطين الإنس والجن أي متمردي الصنفين ) يُوحَى ( يلقى في خفية بعضهم إلى بعض ، أي بعض الصنف الجني إلى بعض الصنف الإنسي ، أو يوحى شياطين الجن إلى شياطين الإنس زخرف القول ، أي محسنه ومزينه ، وثمرة هذا الجعل الامتحان فيظهر الصبر على ما منوا به ممن يعاديهم فيعظم الثواب والأجر وفي هذا تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتأس بمن تقدمه من الأنبياء وأنك لست منفرداً بعداوة من عاصرك ، بل هذه سنة من قبلك من الأنبياء . وعدو كما قلنا قبل في معنى أعداء . وقال تعالى : ) وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ). وقال الشاعر : إذ أنا لم أنفع صديقي بودّه
فإن عدوّي لن يضرهم بغضي
وأعرب الجوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء هنا كإعرابهم ) وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ ( وجوّزوا في شياطين البدلية من عدواً ، كما جوّزوا هناك بدلية الجن من شركاء وقد رددناه عليهم . والظاهر أن قوله شياطين الإنس والجن هو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي الإنس والجن الشياطين فيلزم أن يكون من الإنس شياطين ومن الجن شياطين ، والشيطان هو المتمرّد من الصنفين كما شرحناه . وهذا قول قتادة ومجاهد والحسن ، وكذا فهم أبو ذر من قول الرسول له : ( هل تعوّذت من شياطين الجن والإنس ) قلت : يا رسول الله وهل

" صفحة رقم 210 "
للإنس من شياطين ؟ قال : ( نعم وهم شر من شياطين الجن ) .
وقال مالك بن دينار شيطان الإنس عليّ أشد من شيطان الجن لأني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن ، وشيطان الإنس بجيئني ويجرني إلى المعاصي عياناً .
وقال عطاء : أما أعداء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من شياطين الإنس : فالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأبو جهل بن هشام والعاصي بن عمرو ، وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث والأسود بن عبد الأسد وعتبة وشيبة ابن ربيعة وعتبة بن أبي معيط والوليد بن عتبة وأبيّ وأمية ابنا خلف ، ونبيه ومنبه ابن الحجاج ، وعتبة بن عبد العزى ، ومعتب بن عبد العزى . وفي الحديث : ( ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا إلا أن الله عافاني وأعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير ) .
وقيل : الإضافة ليست من باب إضافة الصفة للموصوف بل هي من باب غلام زيد أي شياطين الإنس والجن ، أي متمردين مغوين لهم . وعلى هذا فسره عكرمة والضحاك والسدّي والكلبي قالوا : ليس من الإنس شياطين والمعنى شياطين الإنس التي مع الإنس ، وشياطين الجن التي مع الجن ، قسم إبليس جنده فريقاً إلى الإنس وفريقاً إلى الجنّ ، يتلاقون فيأمر بعض بعضاً أن يضل صاحبه بما أضل هو به صاحبه ، ورجحت هذه الإضافة الإضافة المغايرة بين المضاف والمضاف إليه ، ورجحت الإضافة السابقة بأن المقصود التسلّي والائتسا بمن سبق من الأنبياء ، إذ كان في أممهم من يعاديهم كما في أمّة محمد من كان يعاديه ، وهم شياطين الإنس والظاهر في جعلنا أنه تعالى هو مصيرهم أعداء للأنبياء والعداوة للأنبياء معصية وكفر ، فاقتضى أنه خالق ذلك وتأول المعتزلة هذا الظاهر .
فقال الزمخشري وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم ، لم يمنعهم من العداوة انتهى .
وهذا قول الكعبي قال : خلي بينه وبينه .
وقال الجبائي : الجعل هنا الحكم والبيان يقال كفره حكم بكفره وعدله أخبر عن عدالته . ولما بين للرسول كونهم أعداء لهم قال جعلهم أعداء لهم .
وقال أبو بكر الأصم لما أرسله الله إلى العالمين وخصه بالمعجزات حسدوه وصار الجسد مبيناً للعداوة القوية ، فلهذا التأويل قال جعلهم له أعداء كما قال الشاعر :
فأنت صيرتهم لي حسداً
وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء ، وانتصب غروراً على أنه مفعول له وجوّزوا أن يكون مصدراً ليوحي لأنه بمعنى يغرّ بعضهم بعضاً أو مصدراً في موضع الحال أي غارّين .
( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ( أي ما فعلوا العداوة أو الوحي أو الزخرف ، أو القول أو الغرور أوجه ذكروها .
( فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( أي اتركهم وما يفترون من تكذيبك ويتضمن الوعيد والتهديد .
قال ابن عباس يريد ما زين لهم إبليس وما غرّهم به انتهى . وظاهر الأمر الموادعة وهي منسوخة بآيات القتال .
وقال قتادة كل ذر في كتاب الله فهو منسوخ بالقتال وما بمعنى الذي أو موصوفة أو مصدرية .
الأنعام : ( 113 ) ولتصغى إليه أفئدة . . . . .
( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( أي ولتميل إليه الضمير يعود على ما عاد عليه في فعلوه ، وليرضوه وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الآثام . واللام لام كي وهي معطوفة على قوله غروراً لما كان معناه للغرور ، فهي متعلقة

" صفحة رقم 211 "
ب يوحي ونصب غرور الاجتماع شروط النصب فيه ، وعدى يوحى إلى هذا باللام لفوت شرط صريح المصدرية واختلاف الفاعل لأن فاعل يوحي هو بعضهم وفاعل تصغى هو أفئدة ، وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة لأنه أولاً يكون الخداع فيكون الميل فيكون الرضا فيكون الفعل فكأن كل واحد مسبب عما قبله .
وقال الزمخشري : ) ولتصغي ( جوابه محذوف تقديره ، وليكون ذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً على أن اللام لام الصيرورة ، والضمير في ) ءاوَى إِلَيْهِ ( راجع إلى ما يرجع إليه الضمير في فعلوه أي ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أفئدة الكفار انتهى . وتسمية ما تتعلق به اللام جواباً اصطلاح غريب ، وما قاله هو قول الزجاج ، قال : تقديره ) ءاوَى إِلَيْهِ ( فعلوا ذلك فهي لام صيرورة . وذهب الأخفش إلى أن لام ) ولتصغي ( هي لام كي وهي جواب لقسم محذوف تقديره . والله ) يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى ( موضع ولتصغين فصار جواب القسم من قبيل المفرد فتقول والله ليقوم زيد التقدير أقسم بالله لقيام زيد واستدل على ذلك بقول الشاعر : إذا قلت قدني قال الله حلفة
لتغني عني ذا أنائك أجمعا
وبقوله : ) وَلِتَصْغَى ( والرد عليه مذكور في كتب النحو .
وقرأ النخعي والجراح بن عبد الله ) ولنصغى ( من أصغى رباعياً .
وقرأ الحسن بسكون اللام في الثلاثة .
وقيل عنه في ليرضوه وليقترفوا بالكسر في ) يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى ).
وقال أبو عمرو الداني قراءة الحسن ، إنما هي ) وَلِتَصْغَى ( بكسر الغين انتهى ، وخمرج سكون اللام في الثلاثة على أنه شذوذ في لام كي وهي لام كي في الثلاثة . وهي معطوفة على غرور أو سكون لام كي في نحو هذا شاذ في السماع قوي في القياس قاله أبو الفتح .
وقال غيره : هي لام الأمر في الثلاثة ويبعد ذلك في ) ولتصغي ( بإثبات الياء وإن كان قد جاء ذلك في قليل من الكلام .
قرأ قنبل أنه من يتقي ويصبر على أنه يحتمل التأويل .
وقيل هي في ) يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى ( لام كي سكنت شذوذاً ، وفي ) وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ ( لام الأمر مضمناً التهديد والوعيد ، كقوله : ) اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ( وفي قوله : ) مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( أنها تفيد التعظيم والتشبيع لما يعملون ، كقوله تعالى : ) فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ ).
الأنعام : ( 114 ) أفغير الله أبتغي . . . . .
( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ( قال مشركو قريش للرسول : اجعل بيننا وبينك حكماً من أحبار اليهود ، وإن شئت من أساقفة النصارى ، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت . ووجه نظمها بما قبلها أنه لما حكى حلف الكفار وأجاب بأنه لا فائدة في إظهار الآيات المقترحة لهم أنهم لا يبقون مصرين على الكفر بين الدليل على نبوته بإنزال القرآن عليه ، وقد عجز الخلق عن معارضته وحكم فيه بنبوته ، وباشتمال التوراة والإنجيل على أنه رسول حق ، وأن القرآن كتاب من عند الله حق . ووجه آخر وهو أنه لما ذكر العداوة وتهددهم قالوا ما ذكرناه في سبب النزول . وكان من عادتهم إذا التبس عليهم أمر واختلفوا فيه جعلوا بينهم كاهناً حكماً فأمره الله أن يقول : ) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً ( وهذا استفهام معناه النفي أي لا أبتغي حكماً غير الله . قال الكرماني : والحكم أبلغ من الحاكم لأنه من عرف منه الحكم مرة بعد أخرى ، والحاكم اسم فاعل يصدق على المرة الواحدة . وقال إسماعيل : الضرير الفرق بينهما أن الحكم لا يحكم إلا بالحق والحاكم يحكم بالحق وبغير الحق . وقال ابن عطية نحوه . قال الحكم : أبلغ من الحاكم إذ هي صيغة للعدل من الحكام ، والحاكم جار على الفعل وقد يقال للجائر ؛ انتهى . وكأنه إشارة إلى حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم كل الآيات ، أو حكمه بأن جعل للأنبياء أعداء وحكماً أي فاصلاً بين الحق والباطل ، وجوزوا في إعراب غير أن

" صفحة رقم 212 "
يكون مفعولاً بأبتغي وحكماً حال وعكسه وأجاز الحوفي وابن عطية أن ينتصب على التمييز عن غيرهم كقولهم : إن لنا غيرها إبلاً وهو متجه . وحكاه أبو البقاء فالكتاب القرآن ومفصلاً موضحاً مزال الإشكال أو مفضلاً بالوعد والوعيد أو مفصلاً مفرقاً على حسب المصالح أي لم ينزله مجموعاً أو مفصلاً فيه الأحكام من النهي والأمر والحلال والحرام والواجب والمندوب والضلال والهدى ، أو مفصلاً مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء أقوال خمسة وبهذه الآية خاصمت الخوارج علياً في تكفيره بالتحكيم وهذه الجملة حالية .
( وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِالْحَقّ ( أي والذين أعطيناهم علم التوراة والإنجيل والزبور والصحف ، والمراد علماء أهل الكتاب فهو عام بمعنى الخصوص وهذه الجملة تكون استئنافاً وتتضمن الاستشهاد بمؤمني أهل الكتاب والطعن على مشركيهم وحسدتهم ، والعضد في الدلالة بأن القرآن حق يعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه كتبهم وموافقته لها .
( فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ). قيل : الخطاب للرسول خطاب لأمته . وقيل : لكل سامع أي إذا ظهرت الدلالة فلا ينبغي أن يمتري فيه . وقيل : هو من باب التهييج والإلهاب كقوله : ) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ). وقيل : ) فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ولا يريبك جحوداً أكثرهم وكفرهم . وقرأ ابن عباس وحفص ) مُنَزَّلٌ ( بالتشديد والباقون بالتخفيف .
الأنعام : ( 115 ) وتمت كلمة ربك . . . . .
( وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ( لما تقدّم من أول السورة إلى هنا دلائل التوحيد والنبوة والبعث والطعن على مخالفي ذلك وكان من هنا إلى آخر السورة أحكام وقصص ، ناسب ذكر هذه الآيات هنا أي تمت أقضيته وأقداره قاله ابن عباس . وقال قتادة : كلماته هو القرآن ، وقال الزمخشري : كل ما أخبر به وأمر ونهى ووعد وأوعد . وقال الحسن : صدقاً في الوعد وعدلاً في الوعيد . وقيل : في ما تضمن من خبر وحكم أو فيما كان وما يكون ، أو فيما أمر وما نهى أو في الترغيب والترهيب أو فيما قال : هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار أو في الثواب والعقاب أو في نصرة أوليائه وخذلان أعدائه ، أو في نصرة الرسول ببدر وإهلاك أعدائه أو في الإرشاد والإضلال أو في الغفران والتعذيب ، أو في الفضل والمنع أو في توسيع الرزق وتقتيره أو في إعطائه وبلائه وهذه الأقوال أول القول فسر به الصدق والمعطوف فسر به العدل ، وأعرب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء ) صِدْقاً وَعَدْلاً ( مصدرين في موضع الحال والطبري تمييزاً وجوزه أبو البقاء . وقال ابن عطية : هو غير صواب وزاد أبو البقاء مفعولاً من أجله وليس المعنى في ) تَمُتْ ( أنها كان بها نقص فكملت وإنما المعنى استمرت وصحت كما جاء في الحديث : ( وتم حمزة على إسلامه ) . وكقوله تعالى : ) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ ( أي استمرت وهي عبارة عن نفوذ أقضيته . وقرأ الكوفيون هنا كلمة بالإفراد ونافع جميع ذلك ) كَلِمَاتُ ( بالجمع تابعه أبو عمرو وابن كثير هنا .
( لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ ( أي لا مغير لأقضيته ولا مبدل لكلمات القرآن فلا يلحقها تغيير ، لا في المعنى ولا في اللفظ وفي حرف أبي لا مبدل لكلمات الله .
( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( أي السميع لأقوالكم العليم بالضمائر .
الأنعام : ( 116 ) وإن تطع أكثر . . . . .
( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( أي وإن توافق فيما هم عليه من عبادة غير الله وشرع ما شرعوه بغير إذن الله أكثر لأن الأكثر إذ ذاك كانوا كفاراً ، والأرض هنا الدنيا قاله ابن عباس . وقيل : أكثر من في الأرض رؤساء مكة والأرض خاص بأرض مكة وكثيراً ما ذم الأكثر في كتابه والغالب أنه لا يقال الأكثر إلا للذين يتبعون أهواءهم .
( إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( أي ليسوا راجعين في عقائدهم إلى علم ولا فيما شرعوه إلى حكم الله .
( وَإِنْ هُمْ لا ( أي يقدرون ويحزرون وهذا تأكيد لما قبله . ومن المفسرين من خص هذه الطاعة واتباعهم الظن وتخرصهم بأمر الذبائح ، وحكي أن سبب النزول

" صفحة رقم 213 "
مجادلة المشركين الرسول في أمر الذبائح وقولهم : نأكل ما تقتل ولا نأكل ما قتل الله فنزلت مخبرة أنهم يقدرون بظنونهم وبخرصهم .
الأنعام : ( 117 ) إن ربك هو . . . . .
( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( لما ذكر تعالى يضلوك عن سبيل الله أخبر أنه أعلم العالمين بالضال والمهتدي ، والمعنى أنه أعلم بهم وبك فإنهم الضالون وأنت المهتدي و ) مِنْ ( قيل في موضع جر على إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله ، وهذا ليس بجيد لأن مثل هذا لا يجوز إلا في الشعر نحو زيد أضرب السيف أي بالسيف . وقال أبو الفتح : في موضع نصب بأعلم بعد حذف حر الجر وهذا ليس بجيد ، لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به ، وقال أبو علي : في موضع نصب بفعل محذوف أي يعلم من يضل ودل على حذفه أعلم ومثله ما أنشده أبو زيد .
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
أي تضرب القوانس وهي إذ ذاك موصولة وصلتها ) يُضِلَّ ( وجوز أبو البقاء أن تكون موصوفة بالفعل . وقال الكسائي والمبرد والزجاج ومكي في موضع رفع وهي استفهامية مبتدأ والخبر ) يُضِلَّ ( والجملة في موضع نصب بأعلم أي أعلم أي الناس يضل كقوله ) لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ ( وهذا ضعيف لأن التعليق فرع عن جواز العمل وأفعل التفضيل لا يعمل في المفعول به فلا يعلق عنه ، والكوفيون يجيزون إعمال أفعل التفضيل في المفعول به والرد عليهم في كتب النحو . وقرأ الحسن وأحمد أبي شريح ) يُضِلَّ ( بضم الياء وفاعل ) يُضِلَّ ( ضمير من ومفعوله محذوف أي من يضل الناس أو ضمير الله على معنى يجده ضالاً أو يخلق فيه الضلال ، وهذه الجملة خبرية تتضمن الوعيد والوعد لأن كونه تعالى عالماً بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما .
الأنعام : ( 118 ) فكلوا مما ذكر . . . . .
( فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ( ذكر أن السبب في نزولها أنهم قالوا للرسول : من قتل الشاة التي ماتت ؟ قال الله : قالوا فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك وما قتله الصقر والكلب حلال وما قتله الله حرام . وقال عكرمة : لما أنزل تحريم الميتة كتب مجوس فارس إلى مشركي قريش فكانوا أولياءهم في الجاهلية وبينهم مكاتبة أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يبتعون أمر الله ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله فهو حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين ، فأنزل الله : ) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا ( ولما تضمنت الآية التي قبلها الإنكار على اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال وكانوا يسمون في كثير مما يذكرونه اسم آلهتهم أمر المؤمنين بأكل ما سمي على ذكاته اسم الله لا غيره من آلهتهم أمر إباحة وما ذكر اسم الله عليه فهو المذكى لإمامات حتف أنفه . وقال الزمخشري : ) فَكُلُواْ ( متسبب عن إنكار اتباع المضلين وعلق أكل ما سمي الله على ذكاته بالإيمان كما تقول : أطعني إن كنت ابني أي أنتم مؤمنون فلا تخالفوا أمر الله وهو حث على أكل ما أحل وترك ما حرم .
الأنعام : ( 119 ) وما لكم ألا . . . . .
( وَمَا لَكُمْ أَن لا تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ( أي وأي غرض لكم في الامتناع من أكل ما ذكر اسم الله عليه ؟ وهو استفهام يتضمن الأنكار على من امتنع من ذلك أي لا شيء يمنع من ذلك ) وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم ( في هذه السورة لأنها على ما نقل مكية ، ونزلت في مرة واحدة فلا يناسب أن تكون ) وَقَدْ فَصَّلَ ( راجعاً إلى تفصيل البقرة والمائدة لتأخيرهما في النزول عن هذه السورة . وقال الزمخشري : ) قَدْ فَصَّلْنَا لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ( مما لم يحرم عليكم وهو قوله : ) حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ( انتهى . وذكرنا أن تفصيل التحريم بما في البقرة والمائدة لا يناسب ودعوى زيادة لا هنا لا حاجة إليها والمعنى على كونها نافية صحيح واضح ، و ) أَن لا تَأْكُلُواْ ( أصله في أن لا تأكلوا فحذف في المتعلقة بما تعلق به لكم الواقع خبراً لما الاستفهامية ونفى ) أَن لا تَأْكُلُواْ ( على

" صفحة رقم 214 "
الخلاف أهو منصوب أو مجرور ومن ذهب إلى ) أَن لا تَأْكُلُواْ ( في موضع الحال أي تاركين الأكل فقوله : ضعيف لأن أن ومعمولها لا يقع حالاً وهذا منصوص عليه من سيبويه ، ولا نعلم مخالفاً له ممن يعتبر وله علة مذكورة في النحو والجملة من قوله : ) وَقَدْ فَصَّلَ ( في موضع الحال . وقرأ العربيان وابن كثير ) فَصْلٌ ( و ) حَرَّمَ ( مبنياً للمفعول ونافع وحفص ) فَصْلٌ ( و ) حَرَّمَ ( على بنائهما للفاعل والأخزان وأبو بكر ) فَصْلٌ ( مبنياً للفاعل و ) حَرَّمَ ( مبنياً للمفعول وعطية كذلك إلا أنه خفف الصاد ومعنى ) إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ( من ) مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ( في حالة الاختيار فإنه حلال لكم في حالة الاضطرار . قال ابن عطية : وما يريد بها جميع ما حرم كالميتة وغيرها قال هو والحوفي ، وهي في موضع نصب بالاستثناء أو الاستثناء منقطع . وقال أبو البقاء : ) مَا ( في موضع نصب على الاستثناء من الجنس من طريق المعنى كأنه وبخهم بترك الأكل مما سمي عليه وذلك يتضمن إباحة الأكل مطلقاً .
( وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ ( أي وإن كثيراً من الكفار المجادلين في المطاعم وغيرها ليضلون بالتحريم والتحليل وبأهوائهم وشهواتهم بغير علم ، أي بغير شرع من الله بل بمجرد أهوائهم كعمرو بن لحي ومن دونه من المشركين كأبي الأحوص بن مالك الجشمي وبديل بن ورقاء الخزاعي وحليس بن يزيد القرشي الذين اتخذوا البحائر والسوائب . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ) لَّيُضِلُّونَ ( بفتح الياء هنا وفي يونس ) رَبَّنَا ( وفي إبراهيم ) للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ ( وفي الحج ) ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ ( وفي لقمان ) لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( وفي لقمان ) لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( وفي الزمر ) أَندَاداً ( وضمها الكوفيون في الستة وافقهم الصاحبان إلا في يونس وهنا ففتح .
( عِلْمٍ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( أي بالمجاوزين الحد في الاعتداء فيحللون ويحرمون من غير إذن الله وهذا إخبار يتضمن الوعيد الشديد لمن اعتدى أي فيجازيهم على اعتدائهم .
الأنعام : ( 120 ) وذروا ظاهر الإثم . . . . .
( وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ( ) الإِثْمِ ( عام في جميع المعاصي لما عتب عليهم في ترك أكل ما سمي الله عليه أمروا بترك ) الإِثْمِ ( ما فعل ظاهراً وما فعل في خفية فكأنه قال : اتركوا المعاصي ظاهرها وباطنها قاله أبو العالية ومجاهد وقتادة وعطاء وابن الأنباري والزجاج . وقال ابن عباس : ظاهره الزنا . وقال السدي : الزنا الشهير الذي كانت العرب تفعله وباطنه اتخاذ الأخدان . وقال ابن جبير : ظاهره ما نص الله على تحريمه بقوله : ) حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ( الآية ) وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء ( الآية ، والباطن الزنا . وقال ابن زيد : ظاهره نزع أثوابهم إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة وباطنه الزنا . وقيل : ظاهره عمل الجوارح وباطنه عمل القلب من الكبر والحسد والعجب وسوء الإعتقاد وغير ذلك من معاصي القلب . وقيل : ظاهره الخمر وباطنه النبيذ ، وقال مجاهد أيضاً : ظاهره الزنا وباطنه ما نواه . وقال الماتريدي : الأليق أن يحمل ظاهر ) الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ( على أكل الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه ، وقال مقاتل : ) الإِثْمِ ( هنا الشرك وقال غيره جميع الذنوب سوى الشرك ، وكل هذه الأقوال تخصصات لا دليل عليها والظاهر العموم في المعاصي كلها من الشرك وغيره ، ظاهرها وخفيها ويدخل في هذا العموم كل ما ذكروه .
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ( أي يكسبون الإثم في الدنيا سيجزون في الآخرة وهذا وعيد وتهديد للعصاة .
الأنعام : ( 121 ) ولا تأكلوا مما . . . . .
( وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ( قال السخاوي قال مكحول : وروي عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت مثل ذلك وأجاز ذبائح أهل الكتاب وإن لم يذكر اسم الله عليها ، وذهب جماعة إلى أن الآية محكمة ولا يجوز لنا أن نأكل من ذبائحهم إلا ما ذكر عليه اسم الله ، وروي ذلك عن علي وعائشة وابن عمر ؛ انتهى . ولا يسمى هذا نسخاً بل هو تخصيص ولما أمر بأكل ما سمى الله عليه وكان مفهومه أنه لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه أكد هذا المفهوم بالنص عليه ، والظاهر تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه عمداً كان ترك التسمية أو نسياناً وبه قال ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن يزيد الخطيمي وابن سيرين والشعبي ونافع وأبو ثور وداود في رواية . وقال أبو هريرة وابن

" صفحة رقم 215 "
عباس أيضاً في رواية وأبو عياض وأبو رافع وعطاء وابن المسيب والحسن وجابر وعكرمة وطاووس والنخعي وقتادة وابن زيد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وربيعة ومالك في رواية ، والشافعي والأصم : يحل أكل متروك التسمية عمداً كان الترك أو نسياناً . وقال مجاهد وطاووس أيضاً وابن شهاب وابن جبير وعطاء في رواية وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حيي والحسن بن صالح وإسحاق ومالك في رواية ، وأحمد في رواية وابن أبي القاسم وعيسى وأصبغ : يؤكل إن كان الترك ناسياً وإن كان عمداً لم يؤكل واختاره النحاس وقال : لا يسمى فاسقاً إذا كان ناسياً وروي عن علي وابن عباس جواز أكل ذبيحة الناسي للتسمية ، وقال ابن عطية : وهذا قول الجمهور ، وقال أشهب والطبري : تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمداً إلا أن يكون مستخفاً . وقال أبو بكر الآيذي : يكره أكل ذبيحة تارك التسمية عمداً وتحتاج هذه التخصيصات إلى دلائل . والظاهر أن المراد بقوله : ) مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ( ظاهره لعموم الآية وهو متروك التسمية . وقال ابن عباس في رواية : إنه الميتة وعنه أنه الميتة والمنخنقة إلى وما ذبح على النصب ، وقال عطاء : ذبائح للأوثان كانت العرب تفعل ذلك ، وقال ابن بحر : صيد المشركين لأنهم لا يسمون عند إرسال السهم ولا هم من أهل التسمية . قال الحسن : لفسق لكفر ، قال الكرماني : يريد مع الاستحلال وقال غيره لفسق المعصية والضمير في ) وَأَنَّهُ ( عائد إلى المصدر الدال عليه تأكلوا أي وإن الأكل قاله الزمخشري ، واقتصر عليه وجوز معه الحوفي في أن يعود على ما من قوله : ) مّمَّا لَهُ يُذْكَرِ ( وجوز معه ابن عطية أن يعود على الذكر الذي تضمنه قوله ) لَمْ يُذْكَرِ ( ، انتهى . ومعنى إنه عائد على المصدر المنفي كأنه قيل : وإن ترك الذكر لفسق وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب وتضمنت معنى التعليل فكأنه قيل لفسقه .
( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ( أي وإن شياطين الجن قاله ابن عباس وعبد الله بن كثير . وقال عكرمة : مردة الإنس من مجوس فارس وتقدم ذكر كتابتهم إلى قريش أي ليوسوسون إلى كفار قريش بإلهامهم تلك الحجة في أمر الذبائح التي تقدّم ذكرها ، أو على ألسنة الكهان في زمانهم ليجادلوكم . قال الزمخشري بقولهم : ولا تأكلون ما قتله الله ، وبهذا ترجح تأويل من تأول بالميتة ؛ انتهى . والأحسن حمل الآية على عدم التخصيص بما ذكروه بل هذا إخبار أن ما صدر من جدال الكفار للمؤمنين ومنازعتهم فإنما هو من الشياطين يوسوسون لهم بذلك ولذلك ختم بقوله :
) وَأَنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( أي وإن أطعتم أولياء الشياطين إنكم لمشركون لأن طاعتهم طاعة للشياطين وذلك إشراك ولا يكون مشركاً حقيقة حتى يطيعه في الإعتقاد ، وأما إذا أطاعه في الفعل وهو سليم الإعتقاد فهو فاسق وهذه الجملة إخبار يتضمن الوعيد وأصعب ما على المؤمن أن يشبه المشرك فضلاً أن يحكم عليه بالشرك . وحكي عن ابن عباس أن الذين جادلوا بتلك الحجة قوم من اليهود وضعف بأن اليهود لا تأكل الميتة اللهم إلا أن قالوا ذلك على سبيل المغالطة وإجابتهم عن العرب فيمكن وجواب الشرط . زعم الحوفي أنه ) إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( على حذف الفاء أي فإنكم وهذا الحذف من الضرائر فلا يكون في القرآن وإنما الجواب محذوف و ) إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( جواب قسم محذوف التقدير والله ) ءانٍ أَطَعْتُمُوهُمْ ( لقوله :

" صفحة رقم 216 "
وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن وقوله : ) وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ ( وأكثر ما يستعمل هذا التركيب بتقدير اللام المؤذنة بالقسم المحذوف على إن الشرطية ، كقوله : ) لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ( وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه .
الأنعام : ( 122 ) أو من كان . . . . .
( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا ( قال ابن عباس : نزلت في حمزة وأبي جهل رمي الرسول بفرث فأخبر بذلك حمزة حين رجع من قنصه وبيده قوس ، وكان لم يسلم فغضب فعلاً بها أبا جهل وهو يتضرع إليه ويقول : سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا ، فقال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله وأسلم . وعن ابن عباس أيضاً أنها نزلت في عمار وأبي جهل . وقال زيد بن أسلم : في عمر وأبي جهل لما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين مثل تعالى بأن شبه المؤمن بعد أن كان كافراً بالحي المجعول له نور يتصرف به كيف سلك ، والكافر بالمختلط في الظلمات المستقر فيها دائماً ليظهر الفرق بين الفريقين والموت والحياة والنور والظلمة مجاز فالظلمة مجاز عن الكفر والنور مجاز عن الإيمان والموت مجاز عن الكفر . وقال الماتريدي : الموت مجاز عن كونه في ظلمة البطن لا يبصر ولا يعقل شيئاً ثم أخرج فأبصر وعقل ، نقول : لا يستوي من أخرج من الظلمات ومن ترك فيها فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق ويعمل به ، والكافر الذي لا يبصر ونحو منه قول ابن بحر قال : أو من كان نطفة أو علقة أو مضغة فصورناه ونفخنا فيه الروح ، انتهى ؛ وأما النور فهو نور الحكمة أو نور الدين أو القرآن أقوال . وقال أبو عبد الله الرازي : الحياة الاستعداد لقبول المعارف فتحصل له علوم كلية أولية وهي المسماة بالعقل والنور ما توصل إليه تركيب تلك البديهيات من المجهولات النظرية ومشيه في الناس كونه صار محضراً للمعارف القدسية والجلايا الروحانية ناظراً إليها ، ويمكن أن يقال : الحياة الاستعداد القائم بجوهر الروح والنور اتصال نور الوحي والتنزيل به فالبصيرة لا بد فيها من أمرين : سلامة حاسة العقل ، وطلوع نور الوحي كما أن البصر لا بد فيه من أمرين : سلامة الحاسة وطلوع الشمس ؛ انتهى ، ملخصاً . وهو بعيد من مناحي كلام العرب ومفهوماتها ولما ذكر صفة الإحسان إلى العبد المؤمن نسب ذلك إليه فقال : ) فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا ( وفي صفة الكافر لم ينسبها إلى نفسه بل قال : ) كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ( ولما كانت أنواع الكفر متعددة قال ) فِى الظُّلُمَاتِ ( ولما ذكر جعل النور للميت قال : يمشي به في الناس أي يصحبه كيف تقلب ، وقال : في الناس إشارة إلى تنويره على نفسه وعلى غيره من الناس فذكر أن منفعة المؤمن ليست مقتصرة على نفسه وقابل تصرفه بالنور وملازمة النور له باستقرار الكافر ) فِى الظُّلُمَاتِ ( وكونه لا يفارقها ، وأكد ذلك بدخول الباء في خبر ليس ويبعد قول من قال : إن النور والظلمة هما يوم القيامة إشارة إلى قوله : يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ( وإلى ظلمة جهنم وتقدم الكلام على مثل في قوله ) ( وإلى ظلمة جهنم وتقدم الكلام على مثل في قوله ) كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً ( وقرأ طلحة أفمن الفاء بدل الواو .
( كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الإشارة بذلك إلى إحياء المؤمن أو إلى كون الكافر في الظلمات أي كما أحيينا المؤمن زين للكافر أو ككينونة الكافر في الظلمات ، زين للكافرين والفاعل محذوف . قال الحسن : هو الشيطان ، وقال غيره : الله تعالى وجوز الوجهين الزمخشري ، وتقدم الكلام في التزيين وقيل : المزين الأكابر الأصاغر .
الأنعام : ( 123 ) وكذلك جعلنا في . . . . .
( وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ( أي كما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية ، وتضمن ذلك فساد حال الكفرة المعاصرين للرسول إذ حالهم حال من تقدمهم من نظرائهم الكفار . وقال عكرمة : نزلت في المستهزئين يعني أن التمثيل لهم وقيل : هو معطوف على ) كَذَلِكَ زُيّنَ ( فتكون الإشارة فيه إلى ما أشير

" صفحة رقم 217 "
إليه بقوله : ) كَذَلِكَ زُيّنَ ( و ) جَعَلْنَا ( بمعنى صيرنا ومفعولها الأول ) أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ( وفي كل قرية المفعول الثاني و ) أَكَابِرَ ( على هذا مضاف إلى ) مُجْرِمِيهَا ( ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ) مُجْرِمِيهَا ( بدلاً من ) أَكَابِرَ ( وأجاز ابن عطية أن يكون ) مُجْرِمِيهَا ( المفعول الأول و ) أَكَابِرَ ( المفعول الثاني والتقدير مجرميها أكابر ، وما أجازاه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهو أن أفعل التفضيل إذا كان بمن ملفوظاً بها أو مقدرة أو مضافة إلى نكرة كان مفرداً مذكراً دائماً سواء كان لمذكر أو مؤنث ، مفرد أو مثنى أو مجموع ، فإذا أنث أو ثنى أو جمع طابق ما هو له في ذلك ولزمه أحد أمرين : إما الألف واللام أو الإضافة إلى معرفة ، وإذا تقرر هذا فالقول بأن ) مُجْرِمِيهَا ( بدل من ) أَكَابِرَ ( أو أن ) مُجْرِمِيهَا ( مفعول أول خطأ لالتزامه أن يبقى ) أَكَابِرَ ( مجموعاً وليس فيه ألف ولام ولا هو مضاف إلى معرفة وذلك لا يجوز ، وقد تنبه الكرماني لهذه القاعدة فقال : أضاف الأكابر إلى مجرميها لأن أفعل لا يجمع إلا مع الألف واللام أو مع الإضافة ؛ انتهى . وكان ينبغي أن يقيد فيقول : أو مع الإضافة إلى معرفة وقدر بعضهم المفعول الثاني محذوفاً أي فساقاً ) لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ( وهو ضعيف جداً لا يجوز أن يحمل القرآن عليه ، وقال ابن عطية : ويقال أكابرة كما قالوا أحمر وأحامرة ومنه قول الشاعر : إن الأحامرة الثلاثة أهلكت
مالي وكنت بهنّ قدماً مولعا
انتهى ، ولا أعلم أحداً أجاز في الأفاضل أن يقال الأفاضلة بل الذي ذكره النحويون أن أفعل التفضيل يجمع للمذكر على الأفضلين أو الأفاضل ، وخص الأكابر لأنهم أقدر على الفساد والتحيل والمكر لرئاستهم وسعة أرزاقهم واستتباعهم الضعفاء والمحاويج . قال البغوي : سنة الله أنه جعل أتباع الرسل الضعفاء كما قال : ) وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( وجعل فساقهم أكابرهم ، وكان قد جلس على طريق مكة أربعة ليصرفوا الناس عن الإيمان بالرسول يقولون لكل من يقدم إياك وهذا الرجل فإنه ساحر كاهن كذاب وهذه الآية تسلية للرسول إذ حاله في أن كان رؤساء قومه يعادونه كما كان في قرية قرية من يعاند الأنبياء ، وقرأ ابن مسلم أكبر مجرميها وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة وكان لمثنى أو مجموع أو مؤنث جاز أن يطابق وجاز أن يفرد كقوله : ) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواةٍ ( وتحرير هذا وتفصيله وخلافه مذكور في علم النحو ، ولام ) لِيَمْكُرُواْ ( لام

" صفحة رقم 218 "
كي . وقيل : لام العاقبة والصيرورة .
( وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( أي وباله يحيق بهم كما قال ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله ) وَمَا يَشْعُرُونَ ( يحيق ذلك بهم ولا يعني شعورهم على الإطلاق وهو مبالغة في نفي العلم إذ نفى عنهم الشعور الذي يكون للبهائم .
الأنعام : ( 124 ) وإذا جاءتهم آية . . . . .
( وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ ( قال مقاتل : روي أن الوليد بن المغيرة قال : لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً . روي أن أبا جهل قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت ونحوه ، بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة والآية العلامة على صدق الرسول والضمير في ) جَاءتْهُمْ ( عائد على الأكابر قاله الزجاج . وقال غيره : يعود على المجادلين في أكل الميتة وتغيية إيمانهم بقوله : ) حَتَّى ( دليل على تمحلهم في دعواهم واستبعاد منهم أن الإيمان لا يقع منهم البتة إذ علقوه بمستحيل عندهم ، وقولهم : ) أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ ( ليس فيه إقرار بالرسل من الله وإنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء ، ولو كانوا موقنين وغير معاندين لاتبعوا رسل الله والمثلية كونهم يجري على أيديهم المعجزات فتحيى لهم الأموات ويفلق لهم البحر ونحو ذلك ، كما جرت على أيدي الرسل أو النبوّة أو جبريل والملائكة أو انشقاق القمر أو الدخان أو آية من القرآن تأمرهم بالإيمان أقوال آخرها للحسن وابن عباس ، وفيه تأمرهم باتباع الرسول وأولاها النبوّة والرسالة لقوله : ) اللَّهُ أَعْلَمُ ( حيث يجعل رسالاته فظاهره يدل على أنه المثلية هي في الرسالة . وقال الماتريدي : أخبر عن غاية سفههم وأنهم ينكرون رسالته عن علم بها ولولا ذلك ما تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي انتهى ؛ ولم يتمنوا ذلك إنما أخبروا أنهم لا يؤمنون حتى يؤتوا مثل ما أوتي الرسل فعلقوا ذلك على ممتنع وقصدوا بذلك أنهم لا يؤمنون البتة .
( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ ( هذا استئناف إنكارعليهم وأنه تعالى لا يصطفي للرسالة إلا من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالجهة التي يضعها فيها وقد وضعها فيمن اختاره لها وهو رسول الله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) دون أكابر مكة كأبي جهل والوليد بن المغيرة ونحوهما . وقيل : الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل البعث مطاعين في قومهم لأنهم إن كانوا مطاعين قبل اتبعوا لأجل الطاعة السابقة وقالوا : حيث لا يمكن إقرارها على الظرفية هنا . قال الحوفي : لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان فإذا لم تكن ظرفاً كانت مفعولاً على السعة والمفعول على السعة لا يعمل فيه أعلم لأنه لا يعمل في المفعولات فيكون العامل فيه فعل دل عليه أعلم . وقال أبو البقاء : والتقدير يعلم موضع رسالاته وليس ظرفاً لأنه يصير التقدير يعلم في هذا المكان كذا وليس المعنى عليه ، وكذا قدره ابن عطية . وقال التبريزي : ) السَّاحِرُ حَيْثُ ( هنا اسم لا ظرف انتصب انتصاب المفعول كما في قول الشماخ : وحلأها عن ذي الأراكة عامر
أخو الخضر يرمي حيث تكوى النواحر
فجعل مفعولاً به لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئاً حيث تكوى النواحر ، إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع ؛ انتهى . وما قاله من أنه مفعول به على السعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو ، لأن النحاة نصوا على أن ) حَيْثُ ( من الظروف التي لا تتصرف وشذ إضافة لدى إليها وجرها بالياء ونصوا على أن الظرف الذي يتوسع فيه لا يكون إلا متصرفاً وإذا كان الأمر كذلك امتنع نصب ) حَيْثُ ( على المفعول به لا على السعة ولا على غيرها ، والذي يظهر لي يجعل رسالته

" صفحة رقم 219 "
إقرار ) حَيْثُ ( على الظرفية المجازية على أن تضمن ) أَعْلَمُ ( معنى ما يتعدى إلى الظرف فيكون التقدير الله أنفذ علماً ) حَيْثُ يَجْعَلُ ( أي هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالته ، والظرفية هنا مجاز كما قلنا وروى ) السَّاحِرُ حَيْثُ ( بالفتح . فقيل : حركة بناء . وقيل : حركة إعراب ويكون ذلك على لغة بني فقعس فإنهم يعربون ) حَيْثُ ( حكاها الكسائي . وقرأ ابن كثير وحفص رسالته بالتوحيد وباقي السبعة على الجمع .
( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ( هذا وعيد شديد وعلق الإصابة بمن أجرم ليعم الأكابر وغيرهم ، والصغار الذل والهوان يقال : منه صغر يصغر وصغر يصغر صغراً وصغاراً واسم الفاعل صاغر وصغير وأرض مصغر لم يطل نبتها ، عن ابن السكيت وقابل الأكبرية بالصغار والعذاب الشديد من الأسر والقتل في الدنيا والنار في الآخرة وإصابة ذلك لهم بسبب مكرهم في قوله : ) لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ( وقوله : ) وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ ( وقدّم الصغار على العذاب لأنهم تمرّدوا عن اتباع الرسول وتكبروا طلباً للعز والكرامة فقوبلوا أوّلاً بالهوان والذل ، ولما كانت الطاعة ينشأ عنها التعظيم ثم الثواب عليها نشأ عن المعصية الإهانة ثم العقاب عليها ومعنى ) عَندَ اللَّهِ ( قال الزجاج : في عرصة قضاء الآخرة . وقال الفراء : في حكم الله كما يقول عند الشافعي أي في حكمه . وقيل : في سابق علمه . وقيل : إن الجزية توضع عليهم لا محالة وأن حكم الله بذلك مثبت عنده بأنه سيكون ذلك فيهم . وقال إسماعيل الضرير : في الكلام تقديم وتأخير أي صغار ) وَعَذَابٌ شَدِيدٌ ( عند الله في الآخرة ، وانتصب عند ) سَيُصِيبُ ( أو بلفظ ) صَغَارٌ ( لأنه مصدر فيعمل أو على أنه صفة لصغار فيتعلق بمحذوف ، وقدّره الزجاج ثابت عند الله و ) مَا ( الظاهر أنها مصدرية أي بكونهم ) يَمْكُرُونَ ). وقيل : موصولة بمعنى الذي .
الأنعام : ( 125 ) فمن يرد الله . . . . .
( فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ( قال مقاتل : نزلت في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وفي أبي جهل ، والهداية هنا مقابلة الضلالة والشرح كناية عن جعله قابلاً للإسلام متوسعاً لقبول تكاليفه ، ونسبة ذلك إلى صدره مجاز عن ذات الشخص ولذلك قالوا : فلان واسع الصدر إذا كان الشخص محتملاً ما يرد عليه من المشاق والتكاليف ، ونسبة إرادة الهدى والضلال إلى الله إسناد حقيقي لأنه تعالى هو الخالق ذلك والموجد له والمريد له وشرح الصدر تسهيل قبول الإيمان عليه وتحسينه وإعداده لقبوله : وضمير فاعل الهدى عائد على الله أي يشرح الله صدره . وقيل : يعود على الهدى المنسبك من ) أَن يَهْدِيَهُ ( أي يشرح الهدى صدره . قال ابن عطية : ويتركب عليه مذهب القدرية في خلق الأعمال ؛ انتهى . وفي الحديث السؤال عن كيفية هذا الشرح وأنه إذا وقع النور في القلب انشرح الصدر وأمارته الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الفوت والضيق والحرج كناية عن ضد الشرح واستعارة لعدم قبول الإيمان والحرج الشديد الضيق ، والضمير في ) يَجْعَلْ ( عائد على ) اللَّهِ ( ومعنى يجعل يصير لأن الإنسان يخلق أوّلاً على الفطرة وهي كونه مهيأ لما يلقى إليه ولما يجعل فيه فإذا أراد الله إضلاله أضله وجعله لا يقبل الإيمان ويحتمل أن يكون ) يَجْعَلْ ( بمعنى يخلق وينتصب ) ضَيّقاً حَرَجاً ( على الحال أي يخلقه على هذه الهيئة فلا يسمع الإيمان ولا يقبله ولاعتزال أبي عليّ الفارسي ذهب إلى أن يجعل هنا بمعنى يسمى قال كقوله : ) وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( قال : أي سموهم أو بمعنى يحكم له بالضيق كما تقول : هذا يجعل البصرة مصراً أي يحكم لها بحكمها فراراً من نسبة خلق ذلك إلى الله تعالى ، أو تصييره وجوباً على مذهبه الاعتزالي ونحو منه في خروج اللفظ عن ظاهره . قول الزمخشري ) أَن يَهْدِيَهُ ( أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف بشرح صدره للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب

" صفحة رقم 220 "
الدخول فيه ، ( وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ ( أن يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له ) يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً ( يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان ؛ انتهى . وهذا كله إخراج اللفظ عن ظاهره وتأويل على مذهب المعتزلة والجملة التشبيهية معناها أنه كما يزاول أمراً غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يبعد ويمتنع من الاستطاعة ويضيق عليه عند المقدرة قاله الزمخشري . وهو قريب من تأويل ابن جريج وعطاء الخراساني والسدي قالوا : أي كان هذا الضيق الصدر الحرج يحاول الصعود في السماء حتى حاول الإيمان أو فكر فيه ويجد صعوبته عليه كصعوبة الصعود في السماء ؛ انتهى . ولامتناع ذلك عندهم حكى الله عنهم أنهم اقترحوا قولهم أو ترقى في السماء . وقال ابن جبير : المعنى لا تجد مسلكاً إلا صعداً من شدة التضايق ، يريد ضاقت عليه الأرض فظل مصعداً إلى السماء . وقيل : المعنى أنه عازب الرأي طائر القلب في الهواء كما يطير الشيء الخفيف عند عصف الرّياح . وقرأ ابن كثير : ) ضَيّقاً ( هنا وفي الفرقان فاحتمل أن يكون مخففاً من ضيق كما قالوا لين . وقال الكسائي : الضيق بالتشديد في الإجرام وبالتخفيف في المعاني ، واحتمل أن يكون مصدراً قالوا في مصدر ضاق ضيق بفتح الضاد وكسرها بمعنى واحد فإما ينسب إلى الصدر على المبالغة أو على معنى الإضافة ، أي ذا ضيق أو على جعله مجازاً عن اسم الفاعل وهذا على الأوجه الثلاثة المقولة في نعت الإجرام بالمصادر . وقرأ نافع وأبو بكر ) حَرَجاً ( بفتح الراء وهو مصدر أي ذاحرج جأو جعل نفس الحرج ، أو بمعنى حرج بكسر الراء ورويت عن عمر وقرأها له ثمة بعض الصحابة بالكسر . فقال : ابغوني رجلاً من كنانة راعياً ولكن من بني مدلج فلما جاءه قال : يا فتى ما الحرجة عندكم ؟ قال : الشجرة تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعية ولا وحشية ، فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير ؛ انتهى . وهذا تنبيه والله أعلم على جهة اشتقاق الفعل من نفس العين كقولهم : استحجر واستنوق . وقرأ ابن كثير ) يَصْعَدُ ( مضارع صعد . وقرأ أبو بكر يصاعد أصله يتصاعد فأدغم . وقرأ باقي السبعة ) يَصْعَدُ ( بتشديد الصاد والعين وأصله يتصعد ، وبها قرأ عبد الله وابن مصرف والأعمش . وقال أبو علي : ) كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ ( من سفل إلى علو ولم يرد السماء المظلة بعينها كما قال سيبويه والقيدود الطويل في غير سماء أي في غير ارتفاع . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كؤود كأنه يصعد بها في الهواء ، ويصعد معناه يعلو ويصعد معناه يتكلف من ذلك ما يشق عليه ومنه قول عمر بن الخطاب : ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح وروي ما تصعدني خطبة .
( كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( أي مثل ذلك الجعل جعله الصدر ) ضَيّقاً حَرَجاً ( ويبعد ما قاله الزجاج : أي مثل ما قصصنا عليك ) يَجْعَلْ ( ومعنى يجعل الله الرجس يلقى الله أو يصير الله العذاب والرجس بمعنى العذاب قاله أهل اللغة . وتعدية ) يَجْعَلْ ( بعلى يحتمل أن يكون معناه نلقي كما تقول : جعلت متاعك بعضه على بعض وأن تكون بمعنى يصير وعلى في موضع المفعول الثاني . وقال الزمخشري : ) يَجْعَلْ ( الله يعني الخذلان ومنع التوفيق وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب أو أراد الفعل المؤدّي إلى الرجس وهو العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب ؛ انتهى . وهو على طريقة الاعتزالي ونقيض الطيب النتن الرائحة الكريهة ، والرجس والنجس بمعنى واحد قاله بعض أهل الكوفة . وقال مجاهد : الرجس كل ما لا خير فيه . وقال عطاء وابن زيد وأبو عبيدة : الرجس العذاب في الدنيا والآخرة . وقال الزجاج : اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وقيل : الرجس السخط . وقال إسماعيل الضرير : الرجس التعذيب وأصله النتن النجس وهو رجاسة الكفر .
الأنعام : ( 126 ) وهذا صراط ربك . . . . .
( وَهَاذَا صِراطُ رَبّكَ مُسْتَقِيماً ( الإشارة بقوله : ) وَهَاذَا ( إلى القرآن والشرع الذي جاء به الرسول

" صفحة رقم 221 "
قاله ابن عباس ، أو القرآن قاله ابن مسعود ، أو التوحيد قاله بعضهم ، أو ما قرره في الآيات المتقدّمة في هذه الآية وفي غيرها من سبل الهدى وسبل الضلالة . وقال الزمخشري : ) وَهَاذَا صِراطُ رَبّكَ ( طريقه الذي اقتضته الحكمة وعادته في التوفيق والخذلان ونحو منه قول إسماعيل الضرير يعني هذا صنع ربك وهذا إشارة إلى الهدى والضلال ، وأضيف الصراط إلى الرب على جهة أنه من عنده وبأمره ) مُّسْتَقِيماً ( لا عوج فيه وانتصب ) مُّسْتَقِيماً ( على أنه حال مؤكدة .
( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ ( أي بيناها ولم نترك فيها إجمالاً ولا التباساً .
( لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( يتدبرون بعقولهم وكأن الآيات كانت شيئاً غائباً عنهم لم يذكروها فلما فصلت تذكروها .
2 ( ) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِىأَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَكَذالِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاٌّ نْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاّ

" صفحة رقم 222 "
يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ وَهُوَ الَّذِىأَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( )
الأنعام : ( 127 ) لهم دار السلام . . . . .
( لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( أي لهم الجنة و ) السَّلَامُ ( اسم من أسماء الله تعالى كما قيل في الكعبة بيت الله قاله ابن عباس وقتادة وأضيفت إليه تشريفاً أو دار السلامة من كل آفة والسلام والسلامة بمعنى كاللذاد واللذاذة والضلال والضلالة قاله الزجاج ، أو ) دَارُ السَّلَامِ ( بمعنى التحية لأن تحية أهلها فيها سلام قاله أبو سليمان الدمشقي ، ومعنى ) عِندَ رَبّهِمْ ( في نزله وضيافته كما تقول : نحن اليوم عند فلان أي في كرامته وضيافته قاله قوم ، أو في الآخرة بعد الحشر قاله ابن عطية ، أو في ضمانه كما تقول فلان : عليّ حق لا ينسى أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها لقوله : ) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ( قاله قوم منهم الزمخشري أو على حذف مضاف ، أو عند لقاء ربهم قاله قوم أوفي جواره كما جاء في جوار الرحمن في جنة عدن على الظرفية المجازية الدالة على شرف الرتبة والمنزلة ، كما قاله في صفة الملائكة ) وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( ، وكما قال ) فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( وكما قال ابن ) لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ ( وهو وليهم أي مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم أو متوليهم بالجزاء على أعمالهم .
الأنعام : ( 128 ) ويوم يحشرهم جميعا . . . . .
( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ( جميعاً ) جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مّنَ الإنْسِ ( الظاهر العموم في الثقلين لتقدم ذكر الشياطين وهم الجنّ والكفرة أولياؤهم والمؤمنون الذين ) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ ( قال معناه الزمخشري وابن عطية ، قال ابن عطية : ويدل عليه التأكيد العام بقوله : ) جَمِيعاً ). وقال التبريزي : وهذا النداء يدل على أن الضمير في يحشرهم دخل فيه الجنّ حين حشرهم ثم ناداهم ، أما الثقلان فحسب أو هما وغيرهما من الخلائق ؛ انتهى . ومن جعل ويوم معطوفاً على ) بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ويوم نحشرهم فالعامل في الظرف وليهم وكان الضمير خاصاً بالمؤمنين وهو بعيد ، والأولى أن يكون الظرف معمولاً لفعل القول المحكى به النداء أي ) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ نَّقُولُ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ( وهو أولى مما أجاز بعضهم من نصبه باذكر مفعولاً به بخروجه عن الظرفية ومما أجاز الزمخشري من نصبه بفعل مضمر غير فعل القول واذكر تقديره عنده ) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ( وقلنا ) كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ( كان ما لا يوصف لفظاعته لاستلزامه حذف جملتين من الكلام جملة وقلنا وجملة العامل ، وقدر الزجاج فعل القول المحذوف مبنياً للمفعول التقدير فيقال لهم لأنه يبعد أن يكلمهم الله شفاها بدليل قوله ) وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ ( ونداؤهم نداء شهرة وتوبيخ على رؤوس الأشهاد والمعشر الجماعة ويجمع على المعاشر كما جاء نحن معاشر الأنبياء لا نورث . وقال الأفوه :

" صفحة رقم 223 "
فينا معاشر لن يبنوا لقومهم
وإن بنى قومهم ما أفسدوا وعادوا
ومعنى الاستكثار هنا إضلالهم منهم كثيراً وجعلهم أتباعهم كما تقول : استكثر فلان من الجنود واستكثر فلان من الأشياع . وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : أفرطتم في إضلالهم وإغوائهم . وقرأ حفص يحشرهم بالياء وباقي السبعة بالنون .
( وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا ( وقال : أولياء الجن أي الكفار من الإنس ) رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ ( انتفع ) بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ( فانتفاع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى التوصلات إليها ، وانتفاع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم في إغوائهم روي هذا المعنى عن ابن عباس وبه قال محمد بن كعب والزجاج . وقال ابن عباس أيضاً ومقاتل : استمتاع الإنس بالجن قول بعضهم : أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله إذا بات بالوادي في سفره ، واستمتاع الجن بالإنس افتخارهم على قومهم وقولهم : قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا . قال الكرماني : كانوا يعتقدون أن الأرض مملوءة جناً وأن من لم يدخله جني في جواره خبله الآخرون ، وكذلك كانوا إذا قتلوا صيد استعاذوا بهم لأنهم يعتقدون أن هذه البهائم للجن منها مراكبهم . وقيل : في كون عظامهم طعاماً للجن وأرواث دوايهم علفاً واستمتاع الإنس بالجن استعانتهم بهم على مقاصدهم حين يستخدمونهم بالعزائم ، أو يلقون إليهم بالمودة ؛ انتهى . ووجوه الاستمتاع كثيرة تدخل هذه الأقوال كلها تحتها فينبغي أن يعتقد في هذه الأقوال إنها تمثيل في الاستمتاع لا حصر في واحد منها ، وظاهر قوله : ) اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ( أي بعض الإنس بالجن وبعض الجن بالإنس . وقيل : المعنى استمتع بعض الإنس ببعضه وبعض الجن ببعضه ، جعل الاستمتاع لبعض الصنف لبعض والقول السابق بعض الصنفين ببعض الصنفين والأجل الذي بلغوه الموت قاله الجمهور وابن عباس والسدي وغيرهما . وقيل : البعث والحشر ولم يذكر الزمخشري غيره . وقيل : هو الغاية التي انتهى إليها جميعهم من الاستمتاع وهذا القول منهم اعتذار عن الجن في كونهم استكثروا منهم وإشارة إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل واعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام وتحسر على حالهم . وقرىء آجالنا على الجمع الذي على التذكير والإفراد . قال أبو علي : هو جنس أوقع الذي موقع التي ؛ انتهى . وإعرابه عندي بدل كأنه قيل : الوقت الذي وحينئذ يكون جنساً ولا يكون إعرابه نعتاً لعدم المطابقة وفي قوله : ) وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا ( دليل على المعتزلة في قولهم : بالأجلين لأنهم أقروا بذلك وفيهم المعقول وغيره .
( قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ( أي مكان نوائكم أي إقامتكم قال الزجاج وقال أبو علي : هو عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي خالدين والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملاً والتقدير النار ذات ثوائكم ؛ انتهى . ويصح قول الزجاج على إضمار يدل عليه ) مَثْوَاكُمْ ( أي يثوون ) خَالِدِينَ فِيهَا ( والظاهر أن هذا الاستثناء من الجملة التي يليها الاستثناء . وقال أبو مسلم : هو من قوله : ) وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا ( أي إلا من أهلكته واخترمته . قيل : الأجل الذي سميته لكفره وضلاله وهذا ليس بجيد ، لأنه لو كان على ما زعم لكان التركيب إلا ما شئت ، ولأن القول بالأجلين أجل الاخترام والأجل الذي سماه الله باطل والفصل بين المستثنى منه والمستثنى بقوله : ) قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا ( وفي ذلك تنافر التركيب ، والظاهر أن هذا الاستثناء مراد حقيقة

" صفحة رقم 224 "
وليس بمجاز . وقال الزمخشري : أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يخرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عنه خناقه أهلكني الله إن نفّست عنك إلا إذا شئت ، وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع ؛ انتهى ، وإذا كان استثناء حقيقة فاختلفوا في الذي استثنى ما هو ؟ فقال قوم : هو استثناء أشخاص من المخاطبين وهم من آمن في الدنيا بعذاب كان من هؤلاء الكفرة ، ولما كان هؤلاء صنفاً ساغ في العبارة عنهم ما فصار كقوله : ) فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( حيث وقعت ما على نوع من يعقل وهذا القول بعد لأن هذا خطاب للكفار يوم القيامة فكيف يصح الاستثناء فيمن آمن منهم في الدنيا وشرط من أخرج بالاستثناء اتحاد زمانه وزمان المخرج منه . فإذا قلت : قام القوم إلا زيداً فمعناه إلا زيداً فإنه ما قام ، ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيداً فإنه ما يقوم في المستقبل وكذلك سأضرب القوم إلا زيداً معناه إلا زيداً فإني لا أضربه في المستقبل ، ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيداً فإني ضربته أمس إلا إن كان الاستثناء منقطعاً فإنه يسوغ ، كقوله تعالى : ) لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاْولَى ( أي لكن الموتة الأولى في الدنيا فإنهم ذاقوها . وقال قوم : المستثنى هم العصاة الذين يدخلون النار من أهل التوحيد أي إلا النوع الذي دخلها من العصاة فإنهم لا يخلدون في النار . وقال قوم : الاستثناء من الأزمان أي ) خَالِدِينَ فِيهَا ( أبداً إلا الزمان الذي شاء الله أن لا يخلدون فيه ، واختلف هؤلاء في تعيين الزمان . فقال الطبري : هي المدّة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار وساغ هذا من حيث العبارة بقوله : ) النَّارُ مَثْوَاكُمْ ( لا يخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره . وقال الزمخشري : إلا ما شاء الله أي يخلدون في عذاب الأبد كله إلا ما شاء الله أي الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير ، فقد روي أنهم يدخلون وادياً من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم . وقال الحسن : إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب وهذا راجع إلى الزمان أي إلا الزمان الذي كانوا فيه في الدنيا بغير عذاب ، ويرد على هذا القول ما يرد على من جعله استثناء من الأشخاص الذين آمنوا في الدنيا . وقال الفراء : إلا بمعنى سواء والمعنى سواء ما يشاء من زيادة في العذاب ويجيء إلى هذا الزجاج . وقال غيره : إلا ما شاء الله من النكال والزيادة على العذاب وهذا راجع إلى الاستثناء من المصدر يدل عليه معنى الكلام ، إذ المعنى تعذبون بالنار ) خَالِدِينَ فِيهَا ( إلا ما شاء من العذاب الزائد على النار فإنه يعذبكم به ويكون إذ ذاك استثناء منقطعاً إذ العذاب الزائد على عذاب النار لم يندرج تحت عذاب النار ، والظاهر أن هذا الاستثناء هو من تمام كلام الله للمخاطبين وعليه جاءت تفاسير الاستثناء . وقال ابن عطية : ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمته ، وليس مما يقال يوم القيامة والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله كأنه لما أخبرهم أنه يقال للكفار ) مَثْوَاكُمْ ( استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يومئذ كافراً ويقع ما على صفة من يعقل ، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله : ) إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( أي من يمكن أن يؤمن منهم ؛ انتهى ، وهو تأويل حسن . وروي عن ابن عباس أنه قال : هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار . قيل : ومعنى ذلك أنها توجب الوقف فيمن لم يمت إذ قد يسلم وروي عنه أيضاً أنه قال : جعل أمرهم في مبلغ عذابهم ومدّته إلى مشيئته حتى لا يحكم الله في خلقه ، وعنه أيضاً أنه قال في هذه الآية : أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا ناراً . قال ابن عطية : الإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ولا يصح هذا عن ابن عباس

" صفحة رقم 225 "
انتهى . وقد تعلق قوم بظاهر هذا الاستثناء فزعموا أن الله يخرج من النار كل بر وفاجر ومسلم وكافر وأن النار تخلو وتخرب ، وقد ذكر هذا عن بعض الصحابة ولا يصح ولا يعتبر خلاف هؤلاء ولا يلتفت إليه . ) إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( قال الزمخشري : لا يفعل شيئاً إلا بموجب الحكمة عليهم بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد ؛ انتهى . وهذا على مذهبه الاعتزالي . وقال ابن عطية : صفتان مناسبتان بهذه الآية لأن تخليد هؤلاء الكفرة في النار صادر عن حكمة ، وقال التبريزي : ) حَكِيمٌ ( في تدبير المبدإ والمعاد ) عَلِيمٌ ( بما يؤول إليه أمر العبادة . وقال إسماعيل الضرير : ) حَكِيمٌ ( حكم عليهم الخلود ) عَلِيمٌ ( بهم وبعقوبتهم . وقال البغوي : ) عَلِيمٌ ( بالذي استثناه وبما في قلوبهم من البر والتقوى . وقال القرطبي : ) حَكِيمٌ ( في عقوبتهم عليم ( بمقدار مجازاتهم .
( ( بمقدار مجازاتهم .
الأنعام : ( 129 ) وكذلك نولي بعض . . . . .
( وَكَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( لما ذكر تعالى أنه ولى المؤمنين بمعنى أنه يحفظهم وينصرهم على أن الكافرين بعضهم أولياء بعض في الظلم والخزي . قال قتادة : يجعل بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم ، يريد ما تقدّم من ذكر الجنّ والإنس واستمتاع بعضهم ببعض . وقال قتادة أيضاً : يتبع بعضهم بعضاً في دخول النار أي يجعل بعضهم يلي بعضاً في الدخول . وقال ابن زيد : معناه نسلط ) بَعْضَ الظَّالِمِينَ ( على بعض ونجعلهم أولياء النقمة منهم ، وهذا تأويل بعيد وحين قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد الأشدق قال عبد الله بن الزبير : وصعد المنبران فم الذئاب قتل لطيم الشيطان وتلا ) وَكَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ ( الآية . وقال ابن عباس : تفسيرها أن الله إذا أراد بقوم شراً ولى عليهم شرارهم أو خيراً ولى عليهم خيارهم ، وفي بعض الكتب المنزلة أفنى أعدائي بأعدائي ثم أفنيهم بأوليائي . وقال إسماعيل الضرير : نترك المشركين إلى بعضهم في النصرة والمعونة والحاجة . وقال الزمخشري : نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضاً كما فعل الشياطين وغواة الإنس ، أو يجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم كما كانوا في الدنيا ) بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( من الكفر والمعاصي ؛ انتهى . وقوله : نخليهم هو على طريقة الاعتزالي .
الأنعام : ( 130 ) يا معشر الجن . . . . .
( َيَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا ( هذا النداء أيضاً يوم القيامة والاستفهام للتوبيخ والتقريع ، حيث أعذر الله إليهم بإرسال الرسل فلم يقبلوا منهم ، والظاهر أن من الجنّ رسلاً إليهم كما أن من الإنس رسلاً لهم . فقيل : بعث الله رسولاً واحداً من الجنّ إليهم اسمه يوسف . وقيل : رسل الجنّ هم رسل الإنس فهم رسل الله بواسطة إذ هم رسل رسله ، ويؤيده قوله : ) وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ( قاله ابن عباس والضحاك . وروي أن قوماً من الجنّ استمعوا إلى الأنبياء ثم عادوا إلى قومهم فأخبروهم كما جرى لهم مع الرسول ، فيقال لهم رسل الله وإن لم يكونوا رسله حقيقة وعلى هذين التولين يكون الضمير عائداً على ) الْجِنَّ وَالإِنسَ ( وقد تعلق قوم بهذا الظاهر فزعموا أن الله تعالى بعث إلى الجنّ رسلاً منهم ولم يفرقوا بين مكلفين ومكلفين أن يبعث إليهم رسول من جنسهم لأنهم به آنس وآلف . وقال مجاهد والضحاك وابن جريج والجمهور : والرسل من الإنس دون الجن ولكن لما كان النداء لهما والتوبيخ معاً جرى الخطاب عليهما على سبيل التجوز المعهود في كلام العرب تغليباً للإنس لشرفهم ، وتأوّله الفراء على حذف مضاف أي من أحدكم كقوله : ) نُخْرِجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( أي من أحدهما وهو الملح وكقوله : ) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ( أي في إحداهن

" صفحة رقم 226 "
وهي سماء الدنيا ) وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ( أراد بالذكر التكبير وبالأيام المعلومات العشر أي في أحد أيام وهو يوم النحر . وقال الكلبي : كان الرسل يبعثون إلى الإنس وبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى الجن والإنس . وروي هذا أيضاً عن ابن عباس ومعنى قصص الآيات الإخبار بما أوحى إليهم من التنبيه على مواضع الحج والتعريف بأدلة التوحيد والامتثال لأوامره والاجتناب بمناهيه ، والإنذار الإعلام بالمخوف و ) لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا ( أي يوم القيامة والإنذار بما يكون فيه من الأهوال والمخاوف وصيرورة الكفار المكذبين إلى العذاب الأبدي . وقرأ الأعرج ألم تأتكم على تأنيث لفظ الرسل بالتاء .
( قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا ( الظاهر أن هذه حكاية لتصديقهم وإلجائهم قوله : ) أَلَمْ يَأْتِكُمْ ( لأن الهمزة الداخلة على نفي إتيان الرسل للإنكار فكان تقريراً لهم والمعنى قالوا : شهدنا على أنفسنا بإتيان الرسل إلينا وإنذارهم إيانا هذا اليوم ، وهذه الجملة نابت مناب بلى هنا وقد صرح بها في قوله : ) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ ( قالوا : بلى أقروا بأن حجة الله لازمة لهم وأنهم محجوجون بها . وقال ابن عطية : وقوله : ) شَهِدْنَا ( إقرار منهم بالكفر واعتراف أي ) شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا ( بالتقصير ؛ انتهى . والظاهر في ) شَهِدْنَا ( شهادة كل واحد على نفسه . وقيل : شهد بعضنا على بعض بإنذار الرسل .
( وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا ( هذا إخبار عنهم من الله تعالى وتنبيه على السبب الموجب لكفرهم وإفصاح لهم بأذم الوجود الذي هو الخداع . وقيل : يحتمل أن يكون من غر الطائر فرخه أي أطعمهم وأشبعهم والتوسيع في الرزق والبسط سبب للبغي ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض .
( وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ( ظاهره شهادة كل واحد على نفسه بالكفر . وقيل : شهد بعضهم على بعض . وقيل : شهدت جوارحهم عليهم بعد إنكارهم والختم على أفواههم وهو بعيد من سياق الآية ، وتنافى بين قوله : ) شَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( وبين الآيات التي تدل على الإنكار لاحتمال أن يكون ذلك من طوائف طائفة تشهد وطائفة تنكر ، أو من طائفة واحدة لاختلاف الأحوال ومواطن القيامة في ذلك المتطاول فيقرون في بعض ويجحدون في بعض . وقال التبريزي : ) وَشَهِدُواْ ( أقروا على أنفسهم اضطراراً لا اختياراً ولو أرادوا أن يقولوا غيره ما طاوعتهم أنفسهم . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم ؟ ( قلت ) : الأولى حكاية لقولهم : كيف يقولون ويعترفون ، والثانية ذمّ لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة ، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستنجاز عذابه ، وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين مثل حالهم ؛ انتهى . ونقول لم تتكرر الشهادة لاختلاف المخبر ومتعلقها فالأولى إخبارهم عن أنفسهم والثانية : إخباره تعالى عنهم أنهم شهدوا على أنفسهم بالكفر فهذه الشهادة غير الأولى .
الأنعام : ( 131 ) ذلك أن لم . . . . .
( ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور دل عليه الكلام وهو إتيان الرسل قاصين الآيات ومنذرين بالحشر والحساب والجزاء بسبب انتفاء إهلاك القرى بظلم وأهلها لم ينتهوا ببعثة الرسل إليهم والإعذار إليهم والتقدم بالأخبار بما يحل بهم ، إذا لم يتبعوا الرسل وفي الحديث : ( ليس أحد أحب إليه العذر من الله ) . فمن أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل . وقال الزجاج قريباً من هذا أي ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وأمر عذاب من كذب لأنه لم يكن كذا أي لا يهلكهم حتى يبعث إليهم رسولاً . وقيل : الإشارة بذلك إلى السؤال وهو ) أَلَمْ يَأْتِكُمْ ( أن لم يكن أي لبيان أن لم يكن حكاه التبريزي . وقال الماتريدي : الإشارة إلى ما وجد منهم من التكذيب والمعاصي ويحتمل أن يشار به إلى الهلاك الذي كان بالأمم الخالية ؛ انتهى . ولا يستقيم هذان القولان مع قوله

" صفحة رقم 227 "
) أَن لَّمْ يَكُنْ ( لأن المعاصي أو الإهلاك ليس معللاً بأن لم يكون وجوّزوا في ذلك الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي ذلك الأمر ، وخبر محذوف المبتدإ أي الأمر ذلك والنصب على فعلنا ذلك وإن لم يكن تعليل ويحتمل أن تكون أن الناصبة للمضارع والمخففة من الثقيلة أي لأن الشأن لم يكن ربك وأجاز الزمخشري أن لا يكون ) أَن لَّمْ يَكُنْ ( تعليلاً فأجاز فيه أن يكون بدلاً من ذلك كقوله : ) وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ ( فإذا كان تعليلاً فهو على إسقاط حرف العلة على الخلاف أموضعه نصب أو جر وإن كان بدلاً فهو في موضع رفع ، لأن الزمخشري لم يذكر في ذلك إلا أنه مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وبظلم يحتمل أن يكون مضافاً إلى الله أي ظالماً لهم كقوله : ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ( ومعنى ) وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( أي دون أن يتقدم إليهم بالنذارة ) وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( ويحتمل أن يكون مضافاً إلى القرى أي ظالمة دون أن ينذرهم وهذا معنى قول القشيري أي لا يهلكهم بذنوبهم ما لم يبعث إليهم الرسل وهذا الوجه أليق لأن الأول يوهم أنه تعالى لو آخذهم قبل بعثة الرسل كان ظالماً وليس الأمر كذلك عندنا لأنه تعالى يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد ، وعند المعتزلة لو أهلكهم وهم غافلون لم ينتهوا بكتاب ولا رسول لكان ظالماً وهو متعال عن الظلم وعن كل قبيح . وقيل : ) بِظُلْمٍ ( بشرك من أشرك منهم فهو مثل ) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ). وقال الماتريدي : أي لم يكن يهلكهم بظلم أنفسهم إهلاك استئصال وتعذيب لا بعد تقدم وعيد أو سؤالهم العذاب ، ولا يهلكهم مع الغفلة عن الظلم والعصيان لأنه يجوز له ذلك بل سنته هكذا لئلا يقولوا : لولا أرسلت إلينا وكل ذلك فضل منه ورحمة . وقال مجاهد : لا يهلكهم بظلم بعضهم بعضاً وقيل : بظلم واحد منهم . وقيل : بتجينس الظلم حتى يرتكبوا مع الظلم غيره مما لا يرضاه الله من سائر القبائح ذكره التبريري . ومعنى ) وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( أي لا يبين لهم كيفية الحال ولا يزيل عددهم وليس المعنى أنهم غافلون عما يوعظون به .
الأنعام : ( 132 ) ولكل درجات مما . . . . .
( وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ ( أي ولكل من المكلفين مؤمنهم وكافرهم درجات متفاوتة من جزاء أعمالهم وتفاوتها بنسبة بعضهم إلى بعض أو بنسبة عمل كل عامل فيكون هو في درجة فيترقى إلى أخرى كاملة ثم إلى أكمل ، والظاهر اندراج الجن في العموم في الجزاء كما اندرجوا في التكليف وفي إرسال الرسل إليهم . قال الضحاك : مؤمنو الجن في الجنة كمؤمني الإنس . وقيل : لا يدخلون الجنة ولا النار يقال لهم كونوا تراباً فيصيرون تراباً كالبهائم . وقال ابن عباس : جزاء مؤمني الجن إجارتهم من النار . وقال أبو حنيفة : ليس للجن ثواب لأن الثواب فضل من الله فلا يقال : به لهم إلا ببيان من الله ولم يذكر الله في حقهم إلا عقوبة عاصيهم لا ثواب طائعهم وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا : لهم ثواب على الطاعات وعقاب على المعاصي ودليلهما عموم الكتاب والسنة . وقيل : ولكل من المؤمنين خاصة . وقال الماتريدي : ولكل من الكفار خاصة درجات دركات ومراتب من العقاب مما عملوا من الكفر والمعاصي ، لأنه جاء عقيب خطاب الكفار فيكون راجعاً عليهم .
( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( أي ليس بساه بخفيّ عليه مقادير الأعمال وما يترتب عليها من الأجور وفي ذلك تهديد ووعيد . وقرأ ابن عامر : تعملون بالتاء على الخطاب .
الأنعام : ( 133 ) وربك الغني ذو . . . . .
( وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ ( لما ذكر تعالى من أطاع ومن عصى والثواب والعقاب ذكر أنه هو الغني من جميع الجهات لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية ، ومع كونه غنياً هو ذو الرحمة أي التفضل التام . قال ابن عباس : ) ذُو الرَّحْمَةِ ( بأوليائه وأهل طاعته . وقيل : بكل خلقه ومن رحمته تأخير الانتقام من العصاة . وقيل : ) ذُو

" صفحة رقم 228 "
الرَّحْمَةِ ( جاعل نفع الخلائق بعضهم ببعض . وقال الزمخشري : ) ذُو الرَّحْمَةِ ( يترحم عليهم بالتكليف ليعرضهم للمنافع الدائمة .
( وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُمْ ( هذا فيه إظهار القدرة التامة والغنى المطلق والخطاب عام للخلق كلهم ، كما قال : ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ( أيها الناس ويأت بآخرين فالمعنى إن يشأ إفناء هذا العالم واستخلاف ما يشاء من الخلق غيرهم فعل ، والإذهاب هنا الإهلاك إهلاك الاستئصال لا الإماتة ناساً بعد ناس لأن ذلك واقع فلا يعلق الواقع على أن يشأ . وقيل : الخطاب لأهل مكة . وقال عطاء : يعني الأنصار والتابعين . وقيل : ) يُذْهِبْكُمْ ( أيها العصاة ) وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء ( من النوع الطائع و ) كَمَا أَنشَأَكُمْ ( في موضع مصدر على غير الصدر لقوله : ) وَيَسْتَخْلِفُ ( لأن معناه وينشىء والمعنى إن يشأ الإذهاب والاستخلاف يذهبكم ويستخلف فكل من الإذهاب والاستخلاف معذوق بمشيئته و ) مِنْ ( لابتداء الغاية . وقال ابن عطية : للتبعيض . وقال الطبري : وتبعه مكي هي بمعنى أخذت من ثوبي ديناراً بمعنى عنه وعوضه ؛ انتهى ، يعني إنها بدلية والمعنى من أولاد قوم متقدّمين أصلهم آدم عليه السلام . وقال الزمخشري : من أولاد ) قَوْمٍ ءاخَرِينَ ( لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح ؛ انتهى . ويعني أنكم ) مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ( صالحين فلو شاء أذهبكم أيها العصاة ويستخلف بعدكم طائعين ، كما أنكم عصاة أنشأكم من قوم طائعين وما في قوله : ) مَا يَشَاء ( قيل بمعنى من والأولى إن كان المقدار استخلافه من غير العاقل فهي واقعة موقعها وإن كان عاقلاً فيكون قد أريد بها النوع . وقرأ زيد بن ثابت ) ذُرّيَّةِ ( بفتح الذال وكذا في آل عمران وأبان بن عثمان ) ذُرّيَّةِ ( بفتح الذال وتخفيف الراء المكسورة وعند ) ذُرّيَّةِ ( على وزن ضربة وتضمنت هذه الآية التحذير من بطش الله في التعجيل بذلك .
الأنعام : ( 134 ) إن ما توعدون . . . . .
( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ ( ظاهر ما العموم في كل ما يوعد به . وقال الحسن : من مجيء الساعة لأنهم كانوا يكذبون بها . وقيل : من الوعد والوعيد . وقيل : من النصر للرسول لكائن . وقيل : من العذاب ) الآتي ( يوم القيامة . وقيل : من الوعد يوم القيامة لقرينة ) لأَتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ( والإشارة إلى هذا الوعيد المتقدّم خصوصاً وإما أن يكون للعموم مطلقاً فذلك يتضمن إنفاذ الوعيد والعقائد تردد ذلك ؛ انتهى . وقال أبو عبد الله الرازي : الوعد مخصوص بالإخبار عن الثواب فهو آت لا محالة ، فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعيد ليس كذلك ويقوي هذا الوجه أنه قال : ) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ( أي لا تخرجون عن قدرتنا وحكمتنا فلما ذكر الوعد جزم ، ولما ذكر الوعيد ما زاد على ) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ( وذلك يدل على أن جانب الرحمة غالب فتلخص في قوله : ) مَّا تُوعَدُونَ ( العموم ويخرج منه ما خرج بالدليل أو يراد به الخصوص من الحشر أو النصر أو الوعيد أو الوعد أي بلازمهما من الثواب أو العقاب أو مجموعهما ستة أقوال . وكتبت أن مفصولة من ما وما بمعنى الذي وفي هذه الجملة إشعار بقصر الأمل وقرب الأجل والمجازاة على العمل .
( وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ( أي فائتين أعجزني الشيء : فاتني أي لا يفوتنا عن ما أردنا بكم . قال ابن عطية : معناه بناجين وهنا تفسير باللازم .
الأنعام : ( 135 ) قل يا قوم . . . . .
( قُلْ ياأَهْلَ قَوْمٌ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( قرأ أبو بكر على مكاناتكم على الجمع حيث وقع فمن جمع قابل جمع المخاطبين بالجمع ومن أفرد فعلى الجنس والمكانة ، مصدر مكن فالميم أصلية وبمعنى المكان ويقال : المكان والمكانة مفعل ومفعلة من الكون فالميم زائدة فيحتمل أن يكون المعنى على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، قال معناه الزجاج ، ويحتمل أن يكون المعنى على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، يقال : على مكانتك يا فلان إذا أمرته أن يثبت على حاله أي

" صفحة رقم 229 "
اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه . وقال ابن عباس : على ناحيتكم والمعنى ما تنحون أي ما تقصدون من صالح وطالح . وقال ابن زيد : على حالكم . وقال يمان : على مذاهبكم . وقال إسماعيل الضرير : على دينكم في منازلكم لهلاكي خطاباً لكفار مكة ) إِنّى عَامِلٌ ( لهلاككم ؛ انتهى . وهي ألفاظ متقاربة وهذا الأمر أمر تهديد ووعيد كقوله : ) اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ( وهي التخلية والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه ، ومعنى ) إِنّى عَامِلٌ ( أي على مكانتي التي أنا عليها . قال الزمخشر : اثبتوا على كفركم وعداوتكم فيّ فإني ثابت على الاسلام وعلى مصابرتكم ؛ انتهى .
والظاهر أن ) مِنْ ( مفعول ) يتعلمون ( وأجازوا أن يكون مبتدأ اسم استفهام وخبره ) يَوْمَ تَكُونُ ( والفعل معلق والجملة في موضع المفعول إن كان يعلمون معدّى إلى واحد أو في موضع المفعولين إن كان يتعدّى إلى مفعولين ، و ) عَاقِبَةُ الدَّارِ ( مآلها وما تنتهي إليه والدار يظهر منه أنها دار الآخرة . قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد مآل الدنيا بالنصر والظهور ففي الآية إعلام بغيب . وقال الزمخشري : العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف في المقال وأدب حسن مع تضمن شدّة الوعيد والوثوق بأن المنذر محق وأن المنذر مبطل . وقيل : معنى ) مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ( أي من له النصرة في دار الإسلام ومن له الدار الآخرة أي الجنة وفي قوله : ) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( من التهديد والوعيد ما لا يخفى كقوله : ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ ءايَةً الثَّقَلاَنِ ( ) مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ ( وقال الشاعر : إذا ما التقينا والتقى الرسل بيننا
فسوف ترى يا عمر وما الله صانع
وقال آخر : ستعلم ليلى أي دين تداينت
وأي غريم للتقاضي غريمها
) إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( أي لا يفوزون قاله الضحاك . وقال عكرمة : لا يبقون . وقال عطاء : لا يسعد من كفر نعمتي . وقيل : لا يأمنون ولا ينجون من العذاب وفيه إشعار بأنهم هم الظالمون الذين لا يفلحون ، وفي قوله : ) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ( ترديد بينه عليه السلام وبينهم ، ومعلوم أن هذا التهديد والوعيد مختص بهم وأن عاقبة الدار الحسنى هي له عليه السلام ولكنه أجرى مجرى قوله : فشركما لخيركما الفداء . وقوله : فأيّي ما وأيك كان شرا
فسيق إلى المقادة في هوان
وقد علم ما هو شر وما هو خير ولكنه أبرز في صورة الترديد إظهاراً لصورة الإنصاف ورمياً بالكلام على جهة الاشتراك اتكالاً على فهم المعنى . وقرأ حمزة والكسائي من يكون بالياء على التذكير وكذا في القصص .
الأنعام : ( 136 ) وجعلوا لله مما . . . . .
( وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاْنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ ( روي عن ابن عباس ومجاهد والسدّي أن العرب كانت تجعل من غلاتها وزروعها وأثمارها وأنعامها جزءاً تسميه لله وجزءاً تسميه لأصنامها وكانت عادتها تبالغ وتجتهد في إخراج نصيب الأصنام أكثر

" صفحة رقم 230 "
منها في نصيب الله ، إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر وليس ذلك بالله فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت من الذي لله إلى الذي لشركائهم تركوه ولم يردوه إلى نصيب الله ويفعلون عكس هذا ، وإذا تفجر من سقي ما جعلوه لله في نصيب شركائهم تركوه وبالعكس سدوه وإذا لم ينجح شيء من نصيب آلهتهم جعلوا نصيب الله لها ، وكذا في الأنعام . وإذا أجدبوا أكلوا نصيب الله وتركوا نصيبها لما ذكر تعالى قبح طريقة مشركي العرب في إنكارهم البعث ذكر أنواعاً من جهالاتهم تنبيهاً على ضعف عقولهم وفي قوله تعالى : ) مِمَّا ذَرَأَ ( أنه تعالى كان أولى أن يجعل له الأحسن والأجود وأن يكون جانبه تعالى هو الأرجح ، إذ كان تعالى هو الموجد لما جعلوا له منه نصيباً والقادر على تنميته دون أصنامهم العاجزة عن ما يحل بها فضلاً عن أن تخلق شيئاً أو تنميه وفي قوله ) مّمَّا ( بمن التبعيضية دليل على قسم ثالث وهو ما بقي لهم من غير النصيبين ، وفي الكلام حذف دل عليه التقسيم أي ونصيباً ) لِشُرَكَائِهِمْ ( ألا ترى إلى قولهم ) هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَائِنَا ( و ) الْحَرْثِ ( قيل هنا : الزرع . وقيل : الزرع والأشجار وما يكون من الأرض ، ( وَالاْنْعَامُ ( الإبل والبقر والغنم يتقربون بذبح ذلك . وقيل : إنه البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي . وقيل : النصيب من الأنعام هو النفقة عليها وفي قوله : ) فَقَالُواْ ( تأكيد للفعل الذي هو الجعل بالقول ليتطابق ويتظافر الفعل بالقول ، ثم إنهم أخلفوا ذلك واعترض أثناء الكلام قوله : ) يزعمهم ( وجاء أثر قولهم : ) فَقَالُواْ هَاذَا لِلَّهِ ( لأنه إخبار كذب حيث أخلف ما جعلوه وأكدوه بالقول ولم يأت ذلك إثر قولهم : ) وَهَاذَا لِشُرَكَائِنَا ( لتحقيق ما لشركائهم أنه لهم والزعم في أكثر كلام العرب أقرب إلى غير اليقين والحق نبه على أنهم فعلوا ذلك من غير أن يأمرهم الله بذلك ولا أن يشرعه لهم ، وذلك جرى على عادتهم في شرع أحكام لم يأذن فيها ولم يشرعها . وقرأ الكسائي : ) بِزَعْمِهِمْ ( فيهما بضم الزاي وهي لغة بني أسد والفتح لغة الحجاز وبه قرأ باقي السبعة وهما مصدران . وقيل : الفتح في المصدر والضم في الاسم . وقرأ ابن أبي عبلة : بفتح الزاي والعين فيهما والسكر لغة لبعض قيس وتميم ، ولم يقرأ به ويتعلق ) بِزَعْمِهِمْ ( بقالوا . وقيل : بما تعلق به ) لِلَّهِ ( من الاستقرار وشركاؤهم آلهتهم والشركاء من الشرك والإضافة إضافة تخصيص أي : الشركاء الذين أشركوا بينهم وبين الله في القربة وليس معناه الإضافة إلى فاعل ولا مفعول . وقيل : سموا شركاء لأنهم نزلوها منزلة الشركاء في أموالهم فتكون إضافة إما إلى الفاعل فالتقدير وهذا لأصنامنا التي تشركنا في أموالنا ، وإما إلى المفعول فالتقدير التي شركناها في أموالنا . وقال ابن عطية : سموهم شركاء على معتقدهم فيهم أنهم يساهمونهم في الخير والشر ، ومعنى ) فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ( أي لا يقع موقع ما يصرف في وجوه البر من الصدقة على المساكين وزوّار بيت الله ونحوها ، ولو فعلوا ذلك لم ينفع لأنهم أشركوا أو لا يصل ألبتة إلى تلك الوجوه المقصود بها التقرب إلى الله . وقال الحسن : كانوا إذا هلك الذي لأوثانهم أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك لله . وقيل : كانوا يصرفون مما جعلوه لله إلى سدنة الأصنام ولا يتصدّقون بشيء مما جعلوه للأوثان ، ومعنى ) فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ( بإنفاق عليها بذبح نسائك عندها والآخر للنفقة على سدنتها . وقال ابن عطية : جمهور المتأوّلين إن المراد بقوله : ) فَلاَ يَصِلُ ( وقوله : ) يَصِلُ ( ما قدمنا ذكره من حمايتهم نصيب آلهتهم في هبوب الريح وغير ذلك . وقال ابن زيد : إنما ذلك في أنهم كانوا إذا ذبحوا لله وذكروا آلهتهم على ذلك الذبح ، وإذا ذبحوا لآلهتهم لم يذكروا الله قال : ) فَلاَ يَضِلُّ ( إلى ذكر وقال : ) فَهُوَ يَصِلُ ( إلى ذكر الله ؛ انتهى . وظاهر الآية يدل على أن ما جعلوه نصيباً لشركائهم فلا يصرف منه شيء في وجوه البر الذي يقتضيها وجهه ، وما جعلوه نصيباً لله أنفق في مصاريف آلهتهم ) سَاء مَا يَحْكُمُونَ ( هذه ذمّ بالغ عام لأحكامهم فيندرج فيه حكمهم هذا السابق وغيره . وقال الزمخشري : في إيثارهم آلهتهم على الله وعملهم ما لم يشرع لهم . وقال الماتريدي : أي بئس الحكم حكمهم حيث قرنوا حقي بحق الأصنام وبخسوني . وقيل : ) سَاء مَا يَحْكُمُونَ (

" صفحة رقم 231 "
لأنفسهم ، والظاهر أن ) سَاء ( هنا مجراة مجرى بئس في الذمّ كقوله : ) قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم ( والخلاف الجاري في ) بِئْسَمَا ( وإعراب ما جاريا هنا وتقدم ذلك مستوفى في قوله : ) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ( في البقرة وعلى أن حكمهما حكم ) بِئْسَمَا ( فسرها الماتريدي فقال : بئس الحكم حكمهم وأعربها الحوفي وجعل ما موصولة بمعنى الذي قال والتقدير ساء الذي يحكمون حكمهم ، فيكون حكمهم رفعاً بالابتداء وما قبله الخبر وحذف لدلالة يحكمون عليه . ويجوز أن يكون ما تمييزاً على مذهب من يجيز ذلك في ) بِئْسَمَا ( فيكون في موضع نصب التقدير ) سَاء ( حكماً حكمهم ولا يكون ) يَحْكُمُونَ ( صفة لما لأن الغرض الإبهام ولكن في الكلام حذف بدل ما عليه والتقدير سا ما ) مَا يَحْكُمُونَ ). وقال ابن عطية : و ) مَا ( في موضع رفع كأنه قال : ساء الذي يحكمون ولا يتجه عندي أن تجري هنا ) سَاء ( مجرى نعم وبئس لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النجاة ، وإنما اتجه أن يجري مجرى بئس في قوله : ) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ ( لأن المفسر ظاهر في الكلام ؛ انتهى . وهذا قول من شدا يسير من العربية ولم يرسخ قدمه فيها بل إذا جرى ساء مجرى نعم وبئس كان حكمها حكمها سواء لا يختلف في شيء البتة من فاعل مضمر أو ظاهر وتمييز ، ولا خلاف في جواز حذف المخصوص بالمدح والذمّ والتمييز فيها لدلالة الكلام عليه فقوله : لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق النحاة إلى آخره كلام ساقط ودعواه الاتفاق مع أن الاتفاق على خلاف ما ذكر عجب عجاب .
الأنعام : ( 137 ) وكذلك زين لكثير . . . . .
( وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ( أي ومثل تزيين قسمة القربان بين الله وآلهتهم وجعلهم آلهتهم شركاء لله في ذلك . قال الزمخشري : أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي علم من الشياطين وقال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون ) وَكَذالِكَ ( مستأنفاً غير مشار به إلى ما قبله فيكون المعنى وهكذا زين ؛ انتهى . و ) كَثِيرٍ ( يراد به من كان من مشركي العرب . قال مجاهد : ) شُرَكَاؤُهُمْ ( شياطينهم أمروهم أن يدفنوا بناتهم أحياء خشية العيلة . وقال الكلبي : ) شُرَكَاؤُهُمْ ( سدنتهم وخزنتهم التي لآلهتهم كانوا يزينون لهم دفن البنات أحياء . وقيل : رؤساؤهم كانوا يقتلون الإناث تكبراً والذكور خوف الفقر . وقال الزمخشري : ) قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ ( بالوأد أو بنحرهم للآلهة ، وكان الرجل يحلف في الجاهلية لئن ولد لي كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب . وقرأ الجمهور : ) زُيّنَ ( مبنياً للفاعل ونصب ) قَتْلَ ( مضافاً إلى ) أَوْلَادُهُمْ ( ورفع ) شُرَكَاؤُهُمْ ( فاعلاً بزين وإعراب هذه القراءة واضح ، وقرأت فرقة منهم السلمي والحسن وأبو عبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر ) زُيّنَ ( مبنياً للمفعول ) قَتْلَ ( مرفوعاً مضافاً إلى ) أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ( مرفوعاً على إضمار فعل أي زينه شركاؤهم هكذا خرجه سيبويه ، أو فاعلاً بالمصدر أي ) قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ( كما تقول : حبب لي ركوب الفرس زيد هكذا خرجه قطرب ، فعلى توجيه سيبويه الشركاء مزينون لا قاتلون كما ذلك في القراءة الأولى ، وعلى توجيه قطرب الشركاء قاتلون . ومجازه أنهم لما كانوا مزينين القتل جعلوا هم القاتلين وإن لم يكونوا مباشري القتل ، وقرأت فرقة كذلك إلا أنهم خفضوا شركائهم وعلى هذا الشركاء هم الموعودون لأنهم شركاء في النسب والمواريث ، أو لأنهم قسيموا أنفسهم وأبعاض منها . وقرأ ابن عامر : ) كَذالِكَ ( إلا أنه نصب ) أَوْلَادُهُمْ ( وجر شركائهم فصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول وهي مسألة مختلف في جوازها ، فجمهور البصريين يمنعونها متقدموهم ومتأخر وهم ولا يجيزون ذلك إلا في ضرورة الشعر ، وبعض النحويين أجازها وهو الصحيح لوجودها في هذه القراءة المتواترة المنسوبة إلى العربي الصريح المحض ابن عامر الآخذ القرآن عن عثمان بن عفان قبل أن يظهر اللحن في لسان العرب ، ولوجودها أيضاً في لسان العرب في عذة أبيات قد ذكرناها في كتاب

" صفحة رقم 232 "
منهج السالك من تأليفنا ولا التفات إلى قول ابن عطية وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب ، وذلك أنه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو لشركاء ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر كقوله : كما خط الكتاب بكف يوما
يهودي يقارب أو يزيل
فكيف بالمفعول في أفصح كلام ولكن وجهها على ضعفها أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش : فزججته بمزجة
زج القلوص أبي مزادة
وفي بيت الطرماح وهو قوله : يطفن بجوزي المراتع لم يرع
بواديه من قرع القسيّ الكنائن
انتهى كلام ابن عطية ، ولا التفات أيضاً إلى قول الزمخشري : إن الفصل بينهما يعني بين المضاف والمضاف إليه فشا لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر أكان سمجاً مردوداً فكيف به في القرآن المعجز لحسن نظمه وجزالته ؟ والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء ، ولو قرأ بجر ) الأولاد ( والشركاء لأن ) أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ( في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب ؛ انتهى ما قاله . وأعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة موجود نظيرها في لسان العرب في غير ما بيت وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقاً وغرباً ، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم ولا التفات أيضاً لقول أبي علي الفارسي : هذا قبيح قليل في الاستعمال ولو عدل عنها يعني ابن عامر كان أولى لأنهم لم يجزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظرف وإنما أجازوه في الشعر ؛ انتهى . وإذا كانوا قد فصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالجملة في قول بعض العرب هو غلام إن شاء الله أخيك فالفصل بالمفرد أسهل ، وقد جاء الفصل في اسم الفاعل في الاختيار . قرأ بعض السلف : مخلف وعده رسله بنصب وعده وخفض رسله وقد استعمل أبو الطيب الفصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول اتباعاً لما ورد عن العرب فقال : بعثت إليه من لساني حديقة
سقاها الحيا سقي الرياض السحائب
وقال أبو الفتح : إذا اتفق كل شيء من ذلك نظر في حال العربي وما جاء به فإن كان فصيحاً وكان ما أورده يقبله

" صفحة رقم 233 "
القياس فالأولى أن يحسن به الظن ، لأنه يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها . وقال أبو عمرو بن العلاء : ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير ونحوه ما روى ابن سيرين عن عمر بن الخطاب أنه حفظ أقل ذلك وذهب عنهم كثيره يعني الشعر في حكاية فيها طول . وقال أبو الفتح : فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح إذا سمع منه ما يخالف الجمهور بالخطا ؛ انتهى ، ملخصاً مقتصراً على بعض ما قاله . وقرأ بعض أهل الشام ورويت عن ابن عامر ) زُيّنَ ( بكسر الزاي وسكون الياء على القراءة المتقدمة من الفصل بالمفعول ، ومعنى ) لِيُرْدُوهُمْ ( ليهلكوهم من الردى وهو الهلاك ) وَلِيَلْبِسُواْ ( ليخلطوا و ) دِينَهُمُ ( ما كانوا عليه من دين إسماعيل حتى زلوا عنه إلى الشرك . وقيل ) دِينَهُمُ ( الذي وجب أن يكونوا عليه . وقيل : معناه وليوقعوهم في دين ملتبس . وقرأ النخعي ) وَلِيَلْبِسُواْ ( بفتح الياء . قال أبو الفتح : استعارة من اللباس عبارة عن شدة المخالطة واللام متعلقة ب ) زُيّنَ ). وقال الزمخشري : إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل ، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة .
( وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ( الظاهر عود الضمير على القتل لأنه المصرّح به والمحدّث عنه والواو في ) فَعَلُوهُ ( عائد على الكثير . وقيل : الهاء للتزيين والواو للشركاء . وقيل : الهاء للبس وهذا بعيد . وقيل : لجميع ذلك إن جعلت الضمير جار مجرى الإشارة وهذه الجملة ردّ على من زعم أنه يخلق أفعاله . وقال الزمخشري : ) وَلَوْ شَاء اللَّهُ ( مشيئة قسر ؛ انتهى ، وهو على مذهبه الاعتزالي .
( فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( أي ما يختلفون من الإفك على الله والأحكام التي يشرعونها وهو أمر تهديد ووعيد .
الأنعام : ( 138 ) وقالوا هذه أنعام . . . . .
( وَقَالُواْ هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِمْ ( أعلم تعالى بأشياء مما شرعوها وتقسيمات ابتدعوها والتزموها على جهة الفرية والكذب منهم على الله ، أفردوا من أنعامهم وزروعهم وثمارهم شيئاً وقالوا : هذا حجر أي حرام ممنوع . وقرأ أبان بن عثمان : نعم على الإفراد . وقرأ باقي السبعة بكسر الحاء وسكون الجيم والحجر بمعى المحجور كالذبح والطحن يستوي في الوصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات قاله الزمخشر . وقرأ الحسن وقتادة والأعرج بضم الحاء وسكون الجيم . وقال القرطبي : قرأ الحسن وقتادة بفتح الحاء وإسكان الجيم ، وعن الحسن أيضاً ) حِجْرٍ ( بضم الحاء . وقرأ أبان بن عثمان وعيسى بن عمر بضم الحاء والجيم ، وقال هارون : كان الحسن يضم الحاء من ) حِجْرٍ ( حيث وقع وقع إلا وحجراً محجوراً فيكسرها وقرأ أبيّ وعبد الله وابن عباس وابن الزبير وعكرمة وعمرو بن دينار والأعمش حرج بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم وسكونها ، وخرج على القلب فمعناه معنى ) حِجْرٍ ( أو من الحرج وهو التضييق لا يطعمها لا يأكلها إلا من نشاء وهم الرجال دون النساء ، أو سدنة الأصنام ) بِزَعْمِهِمْ ( أي بتقولهم الذي هو أقرب إلى الباطل منه إلى الحق .
( وَأَنْعَامٌ حُرّمَتْ ظُهُورُهَا ( هي البحائر والسوائب والحوامي وتقدّم تفسيرها في المائدة .
( وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ( أي عند الذبح . وقال أبو وائل : وجماعة لا يحجون عليها ولا يلبون كانت تركب في كل وجه إلا في الحج .
( افْتِرَاء عَلَيْهِ ( اختلاقاً وكذباً على الله حيث قسموا هذه الأنعام هذا التقسيم ونسبوا ذلك إلى الله وانتصب ) افْتِرَاء ( على أنه مفعول من أجله أو مصدر على إضمار فعل ، أي يفترون أو مصدر على معنى وقالوا : لأنه في معنى افتروا أو مصدر في موضع الحال .
( سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( تهديد شديد ووعيد .
الأنعام : ( 139 ) وقالوا ما في . . . . .
( وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الانْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْواجِنَا ( الذي في بطونها هو الأجنة قاله السدّي . وقال الزمخشري : كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب ما ولد منها حياً فهو خالص لذكورنا ولا تأكل منه الإناث ،

" صفحة رقم 234 "
وما ولد ميتاً اشترك فيه الذكور والإناث . وقال ابن عباس وقتادة والشعبي : الذي في بطونها هو اللبن . وقال الطبري : اللفظ يعم الأجنة واللبن ؛ انتهى . والظاهر الأجنة لأنها التي في البطن حقيقة ، وأما اللبن : ففي الضرع لا في البطن إلا بمجاز بعيد . وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك وابن أبي عبلة : خالص بالرفع بغير تاء وهو خبر ما و ) لِّذُكُورِنَا ( متعلق به . وقرأ ابن جبير فيما ذكر ابن جني خالصاً بالنصب بغير تاء ، وانتصب على الحال من الضمير الذي تضمنته الصلة أو على الحال من ما على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها ؛ انتهى ملخصاً . ويعني بقوله : على الحال من ) مَا ( أي من ضمير ) مَا ( الذي تضمنه خبر ) مَا ( وهو ) لِّذُكُورِنَا ( ويعني بقوله : في إجازته إلى آخره على العامل فيها إذا كان ظرفاً أو مجروراً نحو زيد قائماً في الدار ، وخبر ) مَا ( على هذه القراءة هو ) لِّذُكُورِنَا ). وقرأ ابن عباس والأعرج وقتادة وابن جبير أيضاً ) خَالِصَةٌ ( بالنصب وإعرابها كإعراب خالصاً بالنصب وخرّج ذلك الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعافية . وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو رزين وعكرمة وابن يعمر وأبو حيوة والزهري ) خَالِصَةٌ ( على الإضافة وهو بدل من ) مَا ( أو مبتدأ خبره ) لِّذُكُورِنَا ( والجملة خبر ما . وقرأ الجمهور ) خَالِصَةٌ ( بالرفع وبالتاء وهل التاء للمبالغة كراوية أو حملاً على معنى ما لأنها أجنة والعام أو هو مصدر يبنى على فاعلة كالعافية والعافية أي ذو خلوص ؟ أقوال : وكان قد سبق لنا إن شيخنا علم الدين العراقي رحمه الله ذكر أنه لم يوجد في القرآن حمل على المعنى أولاً ثم حمل على اللفظ بعده إلا في هذه الآية ، ووعدنا أن نحرر ذلك في مكان وما ذكره قاله مكي ، قال : الآية في قراءة الجماعة أتت على خلاف نظائرها في القرآن لأن كل ما يحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة إنما يبتدأ أولاً بالحمل على اللفظ ، ثم يليه الحمل على معنى نحو ) مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ ( ثم قال : ) فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ( هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب . وهذه الآية تقدم فيها الحمل على المعنى فقال : ) خَالِصَةٌ ( ثم حمل على اللفظ فقال : و ) مُحَرَّمٌ ( ومثله كل ذلك كان سيئة في قراءة نافع ومن تابعه فأنث على معنى كل لأنها اسم لجميع ما تقدّم مما نهي عنه من الخطايا ، ثم قال : ) عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا ( فذكر على لفظ كل ، وكذلك ) مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ( حملاً على ما ، ووحد الهاء حملاً على لفظ ما . وحكي عن العرب هذا الجراد قد ذهب فأراحنا من أنفسه جمع الأنفس ووحد الهاء وذكرها انتهى وفيه بعض تلخيص . ومن ذهب إلى أن الهاء للمبالغة أو التي في المصدر كالعافية فلا يكون التأنيث حملاً على معنى ما ، وعلى تسليم أنه حمل على المعنى فلا يتعين أن يكون بدأ أولاً بالحمل على المعنى ثم بالجمل على اللفظ لأن صلة ما متعلقة بفعل محذوف وذلك الفعل مسند إلى ضمير ما ولا يتعين أن يكون وقالوا : ما استقرت في بطون الإنعام ، بل الظاهر أن يكون التقدير ما استقر فيكون حمل أولاً على التذكير ثم ثانياً على التأنيث ، وإذا احتمل هذا الوجه وهو الراجح لم يكن دليلاً على أنه بدأ بالحمل على التأنيث أولاً ثم بالحمل على اللفظ وقول مكي هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب ، أما القرآن فكذلك هو ، وأما كلام العرب فجاء فيه الحمل على اللفظ أولاً ثم على المعنى وهو الأكثر وجاء الحمل على المعنى أولاً ثم على اللفظ ، وأما قوله : ومثله كل ذلك كان سيئة فليس مثله ، بل حمل أولاً على اللفظ في قوله : كان ألا ترى أنه أعاد الضمير مذكراً ثم على المعنى فقال : سيئة وأما قوله : وكذلك ما تركبون فليس مثله ، لأنه يحتمل أن يكون التقدير ما تركبونه فيكون قد حمل أولاً على اللفظ ثم على المعنى في قوله : ظهوره ثم على اللفظ في إفراد الضمير ، وأما هذا الجراد قد ذهب فقد حمل أولاً على إفراد الضمير على اللفظ ثم جمع على المعنى ثم على اللفظ في إفراد الضمير ، ومعنى لأزواجنا : لنسائنا أي معدّة أن تكون أزواجاً قاله مجاهد . وقال ابن زيد : لبناتنا .
( وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء ( كانوا إذا خرج الجنين ميتاً اشترك في أكله الرجال والنساء ، وكذلك ما مات من الأنعام

" صفحة رقم 235 "
الموقوفة نفسها . وقرأ أبو بكر : وإن تكن بتاء التأنيث ) مَيْتَةً ( بالنصب أي وإن تكن الأجنة التي تخرج ميتة . وقرأ ابن كثير : وإن يكن ) مَيْتَةً ( بالتذكير وبالرفع على كان التامة وأجاز الأخفش أن تكون الناقصة وجعل الخبر محذوفاً التقدير وإن تكن في بطونها ميتة وفيه بعد . وقال الزمخشري : وقرأ أهل مكة وإن تكن ) مَيْتَةً ( بالتأنيث والرفع ؛ انتهى . فإن عنى ابن كثير فهو وهم وإن عنى غيره من أهل مكة فيمكن أن يكون نقلاً صحيحاً وهذه القراءة التي عزاها الزمخشري لأهل مكة هي قراءة ابن عامر . وقرأ باقي السبعة ) وَإِن يَكُنْ ( التذكير ) مَيْتَةً ( بالنصب على تقدير وإن يكن ما في بطونها ميتة . قال أبو عمرو بن العلاء : ويقوي هذه القراءة قوله : ) فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء ( ولم يقل فيها ؛ انتهى .
وهذا ليس بجيد لأن الميتة لكل ميت ذكراً كان أو أنثى فكأنه قيل : وإن يكن ميتاً ) فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء ). وقرأ يزيد : ) مَيْتَةً ( بالتشديد . وقرأ عبد الله ) فَهُمْ فِيهِ ( سواء .
( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ( أي جزا ) وَصْفَهُمْ ( الكذب على الله في التحليل والتحريم من قوله ) ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام .
( إنه حكيم عليم ( أي ) حَكِيمٌ ( في عذابهم ) عَلِيمٌ ( بأحوالهم .
الأنعام : ( 140 ) قد خسر الذين . . . . .
( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاء عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ ( كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم وكان بعض ربيعة ومضر يئدونهنّ وهو دفنهن أحياء ، فبعضهم يئد خوف العيلة والإقتار وبعضهم خوف السبي فنزلت هذه الآية . في ذلك إخباراً بخسران فاعل ذلك ولما تقدّم تزيين قتل الأولاد وتحريم ما حرموه في قولهم ) هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ( جاء هنا تقديم قتل الأولاد وتلاه التحريم وفي قوله : ) يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( إشارة إلى خفة عقولهم وجهلهم بأن الله هو الرزاق والمقدّر السبي وغيره ، ما رزقهم الله إظهار لإباحته لهم فقابلوا إباحة الله بتحريمهم هم وما رزقهم الله يعم السوائب والبحائر والزروع ، وترتب على قتلهم أولادهم الخسران معللاً بالسفه والجهل وعلى تحريم ) مَا رَزَقَهُمُ ( الخسران معللاً بالافتراء ثم الإخبار بالضلال وانتفاء الهداية ؛ وكل واحدة من هذه السبعة سبب تام في حصول الذم فأما الخسران فلأن الولد نعمة عظيمة من الله فإذا سعى في إبطال تلك النعمة والهبة فقد خسر واستحق الذم في الدنيا بقولهم : قتل ولده خوف أن يأكل معه وفي الآخرة العقاب لأن ثمرة الولد المحبة ، ومع حصولها ألحق به أعظم المضار وهو القتل كان أعظم الذنوب فيستحق أعظم العقاب ، وأما السفه وهي الخفة المذمومة فقتل الولد لخوف الفقر وإن كان ضرراً فالقتل أعظم منه ؛ وأيضاً فالقتل ناجز والفقر موهوم ، وأما الجهل فيتولد عنه السفاهة والجهل أعظم القبائح ، وأما تحريم ما أحل الله فهو من أعظم الجنايات وأما الافتراء فجراءة على الله وهو من أعظم الذنوب ، وأما الضلال فهو أن لا يرشدوا في مصالح الدنيا ولا الآخرة ، وأما انتفاء الهداية فتنبيه على أنهم لم يكونوا قط فيما سلكوه من ذلك ذوي هداية . وقرأ الحسن والسلمي وأهل مكة والشام ومنهما ابن كثير وابن عامر : ) قَاتِلُواْ ( بالتشديد . وقرأ اليمني سفهاء على الجمع .
2 ( ) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا

" صفحة رقم 236 "
كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَاذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَآؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍ كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَاذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مِّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } )

" صفحة رقم 237 "
الأنعام : ( 141 ) وهو الذي أنشأ . . . . .
الزرع : الحب المقتات : الحصاد : بفتح الحاء وكسرها كالجذاذ بالفتح والكسر وهو مصدر حصد ومصدره أيضاً حصد وهو القياس . وقال سيبويه : جاؤوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على فعال وربما قالوا فيه فعال . وقال الفراء : الكسر للحجاز والفتح لنجد وتميم . الحمولة : الإبل التي تحمل الأحمال على ظهورها قاله أبو الهيثم ، ولا يدخل فيها البغال ولا الحمير وأدخل بعضهم فيها البقر إذ من عادة بعض الناس الحمل عليها . الفرش : الغنم . وقال الزجاج : أجمع أهل اللغة على أن الفرش صغار الإبل وأنشد الشاعر : أورثني حمولة وفرشا
أمشها في كل يوم مشا
وقال آخر : وحوينا الفرش من أنعامكم
والحمولات وربات الحجل
والفرش : مشترك بين صغار الإبل . قال أبو زيد : ويحتمل إن سميت بالمصدر وهي المفروش من متاع البيت والزرع إذا فرش والفضاء الواسع واتساع خف البعير قليلاً والأرض الملساء ، عن أبي عمرو وفرش النعل وفراش الطائر ونبت يلتصق بالأرض . قال الشاعر :
كمشفر الناب يلوك الفرسا
ويأتي ذكر الاختلاف في الحمولة والفرش إن شاء الله . الإبل الجمال للواحد والجمع ، ويجمع على آبال وتأبل الرجل اتخذ إبلاً وقولهم : ما آبل الرجل في التعجب شاذاً . الضأن : معروف بسكون الهمزة وفتحها ويقال : ضئين وكلاهما اسم جمع لضائنة وضائن . المعز : معروف بسكون العين وفتحها ويقال : معيز ومعزى وأمعوز وهي أسماء جموع لماعزة وماعز . السفح : الصب مصدر سفح يسفح والسفح موضع . الظفر : معروف وهو بضم الطاء والفاء وبسكون الفاء وبكسرهما وبسكون الفاء ، وأظفور وجمع الثلاثي أظفار وجمع أظفور أظافير وأظافر ورجل أظفر طويل الأظفار . الشحم : معروف . الحوايا : إن قدر وزنها فواعل فجمع حاوية كراوية وروايا أو جمع حاوياء كقاصعا وقواصع ، وإن قدر وزنها فعائل فجمع حوية كمطية ومطايا وتقرير صيرورة ذلك إلى حوايا مذكور في علم التصريف وهي الدوّارة التي تكون في بطون الشياه ويأتي خلاف المفسرين فيها إن شاء الله تعالى . هلمّ : لغة الحجاز إنها لا تلحقها الضمائر بل تكون هكذا للمفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث فهي عند النحويين اسم فعل ولغة بني تميم لحاق الضمائر على حدّ لحوقها للفعل ، فهي عند معظم النحويين فعل لا تتصرف والتزمت العرب فتح الميم في اللغة الحجازية وإذا كان أمراً للواحد المذكر في اللغة التميمية فلا يجوز فيها ما جاز في ردّ ، ومذهب البصريين أنها مركبة من ها التي للتنبيه ومن الميم ومذهب الفراء من هل وأمّ وتقول للمؤنثات هلممن . وحكى الفراء هلمين وتكون متعدّية بمعنى أخضر ولازمة بمعنى أقبل . الإملاق : الفقر قاله ابن عباس وغيره ، يقال : أملق الرجل إذا افتقر ويشبه أن يكون كأرمل أي لم يبق له شيء إلا الملق وهي الحجارة السود وهي الملقة ولم يبق له إلا الرمل والتراب . وقال مؤرج : هو الجوع بلغة لخم . وقال منذر بن سعيد : هو الإنفاق أملق ماله أي

" صفحة رقم 238 "
أنفقه . وقال محمد بن نعيم الترمذي : هو الإسراف في الإنفاق . الكيل : مصدر كال وكال معروف ، ثم يطلق على الآلة التي يكالبها كالمكيال . الميزان : مفعال من الوزن وهو آلة الوزن كالمنقاش والمضراب والمصباح ، وتختلف أشكاله باختلاف الأقاليم كالمكيال .
( وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أخبر عنهم أنه حرموا أشياء مما رزقهم الله ، أخذ يذكر تعالى ما امتنّ به عليهم من الرزق الذي تصرّفوا فيه بغير إذنه تعالى افتراء منهم عليه واختلافاً فذكر نوعي الرزق النباتي والحيواني فبدأ بالنباتي كما بدأ به في الآية المشبهة لهذا ، واستطرد منه إلى الحيواني إذ كانوا قد حرّموا أشياء من النوعين و ) مَّعْرُوشَاتٍ ( اسم مفعول يقال : عرّشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكاً ينعطف عليه القضبان . وهل المعروشات ما غرسه الناس وعرّشوه وغيرها ما نبت في الصحاري والبراري ؟ وهو قول ابن عباس ، أو كل شجر ذيي ساق كالنخل والكرم وكل ما نجم غير ذي ساق كالزرع أو ما يثمر وما لا يثمر أو الكرم قسمت إلى ما عرش فارتفع وإلى ما كان منها منبسطاً على الأرض ؟ قاله ابن عباس ، أو ما حوله حائط وما لا حائط حوله وما انبسط على وجه الأرض وانتشر كالكرم والقرع والبطيخ ، وما قام على ساق كالنخل والزرع والأشجار قاله ابن عباس ، أو الكرم الذي عرش عنبه وسائر الشجر الذي لا يعرش أو ما يرتفع بعض أغصانه على بعض وما لا يحتاج إلى ذلك ، أو ما عادته أن يعرش كالكرم وما يجري مجراه وما لا يعرش كالنخل وما أشبهه ؟ تسعة أقوال : والظاهر أن المعروش ما جعل له عرش كرماً كان أو غيره ، وغير المعروش ما لم يجعل له ذلك ، ولما كانت هذه الآية واردة في معنى ذكر المنة والإحسان قدم ما حاجة العرب إليه أشد وما هو أكثر فيه ، كما قال تعالى : ) بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ ( وهو غالب قوتهم ، فقل : ) وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ ( ولما كانت تلك الآية جاءت عقب إنكار الكفار التوحيد وجعلهم معه آلهة ، استطرد من ذلك إلى المعاد الأخروي واستدل عليه بقوله : ) وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْء ( فاندرج فيه ) النَّخْلِ وَالزَّرْعَ ( كان الابتداء في التقسيم بذكر الزرع لصغر حبه وهو أدل على التوحيد ، والقدرة التامّة وأبلغ في الاعتبار وأسرع في الانتفاع من ما هو فوقه في الجرم ، والظاهر دخول ) وَالنَّخْلَ ( وما بعده في قوله : ) جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ( فاندرج في ) جَنَّاتُ ( وخص بالذكر وجرد تعظيماً لمنفعته والامتنان به ، ومن خص الجنات بقسمها بالكرم قال : ذكر النخل وما بعده ذكر أنواع أخبر تعالى بأنه أنشأها واختلاف أكله وهو المأكول ، هو بأن كل نوع من أنواع النخل والزرع طعماً ولوناً وحجماً ورائحة يخالف به النوع الآخر والمعنى مختلفاً أكل ثمره وانتصب مختلفاً على أنه حال مقدرة ، لأنه لم يكن وقت الإنشاء مختلفاً . وقيل : هي حال مقارنة وذلك بتقدير حذف مضاف قبله تقديره وثمر النخل وحب الزرع والضمير في ) أَكَلَهُ ( عائد على ) النَّخْلِ وَالزَّرْعَ ( وأفرد لدخوله في حكمه بالعطفية قال معناه الزمخشري : وليس بجيد لأن العطف بالواو لا يجوز إفراد ضمير المتعاطفين . وقال الحوفي : والهاء في ) أَكَلَهُ ( عائدة على ما تقدّم من ذكر هذه الأشياء المنشآت ؛ انتهى . وعلى هذا لا يكون ذو الحال ) النَّخْلِ وَالزَّرْعَ ( فقط بل جميع ما أنشأ لاشتراكها كلها في اختلاف المأكول ، ولو كان كما زعم لكان التركيب مختلفاً أكلها إلا إن أخذ ذلك على حذف مضاف أي ثمر جنات وروعي هذا المحذوف فقيل : ) أَكَلَهُ ( بالإفراد على مراعاته فيكون ذلك نحو قوله : ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ ( يغشاه موج أو كذي ظلمات ، ولذلك أعاد الضمير في ) يَغْشَاهُ ( عليه ، والظاهر عوده على أقرب مذكور وهو ) الزَّرْعَ ( ويكون قد حذفت حال ) النَّخْلِ ( لدلالة هذه الحال عليها ، التقدير ) وَالنَّخْلَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ ( والزرع مختلفاً أكله كما تأول بعضهم في قولهم : زيد وعمرو قائم أي زيد قائم وعمرو قائم ، ويحتمل أن يكون الحال مختصة بالزرع لأن أنواعه

" صفحة رقم 239 "
مختلفة الشكل جدّاً كالقمح والشعير والذرة والقطينة والسلت والعدس والجلبان والأرز وغير ذلك ، بخلاف النخل فإن الثمر لا يختلف شكله إلا بالصغر والكبر ، وتقدّم الكلام على قوله : ) وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ( فأغني عن إعادته .
( كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ( لما كان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته والشحر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم وإبراز الجسد وتكوينه من العظم الرميم وهو عجب الذنب ، قال : انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إشارة إلى الإيجاد أولاً وإلى غايته وهنا لما كان معرض الغاية الامتنان وإظهار الإحسان بما خلق لنا قال : ) كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ ( فحصل بمجموعهما الحياة الأبدية السرمدية والحياة الدنيوية السريعة الانقضاء ، وتقدّم النظر وهو الفكر على الأكل لهذا السبب وهذا أمر بإباحة الأكل ويستدل به على أن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق وقيده بقوله : ) إِذَا أَثْمَرَ ( وإن كان من المعلوم إنه إذا لم يثمر فلا أكل تنبيهاً على أنه لا ينتظر به محل إدراكه واستوائه ، بل متى أمكن الأكل منه فعل .
( وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ ( والذي يظهر عود الضمير على ما عاد عليه من ثمره وهو جميع ما تقدّم ذكره مما يمكن أن يؤكل إذا أثمر . وقيل : يعود على ) النَّخْلِ ( لأنه ليس في الآية ما يجب أن يؤتى حقه عند جذاذه إلا النخل . وقيل : يعود على ) وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ( لأنهما أقرب مذكور . وأفرد الضمير للوجوه التي ذكرناها في قوله ) مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ ( ) وَأْتُواْ ( أمر على الوجوب وتقدّم الأمر بالأكل على الأمر بالصدقة ، لأن تقديم منفعة الإنسان بما يملكه في خاصة نفسه مترجحة على منفعة غيره كما قال تعالى : ) وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ( وأحسن كما أحسن الله إليك وابدأ بنفسك ثم بمن تعول ، إنما الصدقة عن ظهر غنى . والحق هنا محمل واختلف فيه أهو الزكاة أم غيرها ؟ فقال ابن عباس وأنس بن مالك والحسن وطاوس وجابر بن زيد وابن المسيب وقتادة ومحمد بن الحنفية وابن طاوس والضحاك وزيد بن أسم وابنه ومالك بن أنس : هو الزكاة واعترض هذا القول بأن السورة مكية وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة . وحكى الزجاج : أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة . وقال محمد بن علي بن الحسين وهو الباقر وعطاء وحماد ومجاهد وإبراهيم وابن جبير ومحمد بن كعب والربيع بن أنس ويزيد بن الأصم والحكم : هو حق غير الزكاة . وقال مجاهد : إذا حضر المساكين فاطرح لهم عند الجذاذ وعند التكديس وعند الدرس وعند التصفية ، وعنه أيضاً كانوا يعلقون العذق عند الصرام فيأكل منه من مس . وعن إبراهيم هو الضغث يطرحه للمساكين ولفظ ما يسقط منك من السنبل لا يمنعهم منه . وروي عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم والحسن وعطية العوفي والسدّي : أنها منسوخة نسخها العشر ونصف العشر . قال سفيان : قلت للسدّي نسخها عن من قال عن العلماء . وقال أبو جعفر النحاس ما ملخصه : هل أريد بها الزكاة أو نسخت بالزكاة المفروضة أو بالعشر ونصف العشر أو هي محكمة يراد بها غير الزكاة أو ذلك على الندب ؟ خمسة أقوال : وإذا كان معنياً به الزكاة فالظاهر إخراجه من كل ما سبق ذكره ، فيعم جميع ما أخرجته الأرض وبه قال أبو حنيفة وزفر إلا الحطب والقصب والحشيش . وقال أبو يوسف ومحمد : لا شيء فيما أخرجته الأرض إلا ما كان له ثمرة باقية . وقال مالك : الزكاة في الثمار والحبوب فمن الثمار العنب والزيتون ومن الحب القمح والشعير والسلت والذرة والدخن والحمص والعدس واللوبيا والجلبان والأرز وما أشبه ذلك إذا كان خمسة أوسق . وقال الشافعي وأبو ثور : يجب في يابس مقتات مدخر لا في زيتون لأنه إدام . وقال الثوري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المبارك ويحيى بن آدم : لا يجب إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب . وعن أحمد أقوال : أظهرها : كمذهب أبي حنيفة إذا كان يوثق فأوجبها في اللوز لأنه مكيل ولم يوجبها في الجوز لأنه معدود . وروي عن جماعة من السلف منهم عمرو بن دينار لا صدقة في الخضر . وعن ابن عباس : كان يأخذ من دساتيج الكراث العشر بالبصرة . وعن إبراهيم في كل ما أخرجت الأرض حتى في كل عشر دساتيج من بقل واحد . وقال

" صفحة رقم 240 "
الزهري والحسن : يزكى اثنان الخضر والفواكه إذا أينعت وبلغ ثمنها مائتي درهم ، وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه . وأما مقدار ما يجب فيه الزكاة فقال أبو حنيفة : في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره . وقال مالك والليث وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد والشافعي : لا يخرج حتى يبلغ خمسة أوسق إذا كان مكيلاً فإن كان غير مكيل ، فعن أبي يوسف ومحمد : اختلاف فيما يعتبر وذكروا هنا فروعاً قالوا : لا زكاة عند أصحاب مالك في الجوز واللوز والحلوز وما أشبهها وإن كان مدّخراً ، كما لا زكاة عندهم في الإجاص والتفاح والكمثري والمشمش ونحوه مما ييبس ولا يدخر ، وعدّ مالك التين في الفواكه . وقال ابن حبيب : فيه الزكاة وإليه ذهب جماعة من أتباع مالك إسماعيل بن إسحاق وأبو بكر الأبهري وغيرهم . وقال مالك : لا زكاة في الزيتون . وقال هو والشافعي ولا في الرمان . وقال الزهري والأوزاعي والثوري والليث : تجب الزكاة في الزيتون . وعن مالك لا يخرص الزيتون ولكن يؤخذ العشر من زيته إذا بلغ مكيله خمسة أوسق . وأبو حنيفة في هذه كلها على أصله وما خصصوه به من عموم الآية يحتاج إلى دليل ، والأدلة مذكورة في كتب الفقهاء . والظاهر أن ) يَوْمَ حَصَادِهِ ( معمول لقوله : ) وَأْتُواْ ( والمعنى واقصدوا الإيتاء واهتموا به وقت الحصاد فلا يؤخر عن وقت إمكان الإيتاء فيه . ويجوز أن يكون معمولاً لقوله : ) حَقَّهُ ( أي ) وَأْتُواْ ( ما استحق ) يَوْمَ حَصَادِهِ ( فيكون الاستحقاق بإيتاء يوم الحصاد والأداء بعد التصفية ولذلك قال بعضهم في الكلام : محذوف تقديره ) وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ ( إلى تصفيته قال : فيكون الحصاد سبباً للوجوب الموسع والتصفية سبب للأداء ، والظاهر وجوب إخراج الحق منه كله ما أكل صاحبه وأهله منه وما تركوه وبه قال أبو حنيفة ومالك . وقال جماعة : لا يدخل ما أكل هو وأهله منه في الحق ، والظاهر أنه أمر بأن يؤتى ) حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ( فلا يخرص عليه . قال النخعي : الخرص اليوم بدعة . وقال الثوري : الخرص غير مستعمل ولا يجوز بحال وإنما على رب الحائط أن يؤدّي عشر ما يصل في يده للمساكين إذا بلغ خمسة أوسق . وقرأ العربيان وعاصم : حصاده بفتح الحاء . وقرأ باقي السبعة بكسرها .
( وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( لما أمر تعالى بالأكل من ثماره وبإيتاء حقه ، نهى عن مجاوزة الحد فقال : ) لا تُسْرِفُواْ ( وهذا النهي يتضمن إفراد الإسراف فيدخل فيه الإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى منها شيء للزكاة ، والإسراف في الصدقة بها حتى لا يبقى لنفسه ولا لعياله شيئاً وقيده أبو العالية وابن جريج بالصدقة بجميع المال فيبقى هو وعياله كلاًّ على الناس . وقال ابن جريج : أيضاً : هو نهي في الأكل فيأكل حتى لا يبقى ما تجب فيه . وقال الزهري : هو نهي عن النفقة في المعصية . وقيل : في صرف الصدقة إلى غير الجهة التي افترضت ، كما صرف المشركون إلى جهة أصنامهم . وقيل : نهي للعاملين على الصدقة عن أخذ الزائد . وروي عن ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس جذ خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئاً فنزلت ) وَلاَ تُسْرِفُواْ ( أي لا تعطوا كله ، وعن ابن جريج جذ معاذ بن جبل فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منها شيئاً فنزلت ) لا تُسْرِفُواْ شَيْئاً ). وقال أبو العالية : كانوا يعطون شيئاً عند الجذاذ فتماروا فيه فأسرفوا فنزلت . وقال مجاهد : لو كان أبو قبيس لرجل ذهباً فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفاً ولو أنفق درهماً واحداً في معصية الله كان مسرفاً . وقال إياس بن معاوية : كل ما جاوزت فيه أمر الله فهو سرف .

" صفحة رقم 241 "
الأنعام : ( 142 ) ومن الأنعام حمولة . . . . .
( وَمِنَ الانْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ( هذا معطوف على ) جَنَّاتُ ( أي وأنشأ ) مّنَ الاْنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ( وهل الحمولة ما قاله ابن عباس ما حمل عليه من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير والفرش الغنم ؟ أو ما قاله أيضاً ما انتفع به من ظهورها والفرش الراعية ؟ أو ما قاله ابن مسعود والحسن ومجاهد وابن قتيبة : ما حمل من الإبل والفرش صغارها ؟ أو ما قاله الحسن أيضاً : الإبل والفرش الغنم ؟ أو ما قاله ابن زيد : ما يركب والفرش ما يؤكل لحمه ويجلب من الغنم والفصلان والعجاجيل ؟ أو ما قاله الماتريدي : مراكب النساء والفرش ما يكون للنساء أو ما قاله أيضاً : كل شيء من الحيوان وغيره يقال له فرش ؟ تقول العرب : أفرشه الله كذا أي جعله له أو ما قاله بعضهم : ما كان معدّاً للحمل من الحيوانات ، والفرش : ما خلق لهم من أصوافها وجلودها التي يفترشونها ويجلسون عليها ، أو ما يحمل الأثقال . والفرش : ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش . أو ما قاله الضحاك : واختاره النحاس الإبل والبقر والفرش الغنم ورجح هذا بإبدال ثمانية أزواج منه عشرة أقوال ، وقدّم الحمولة على الفرش لأنها أعظم في الانتفاع إذ ينتفع بها في الحمل والأكل .
( كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ( أي مما أحله الله لكم ولا تحرموا كفعل الجاهلية وهذا نص في الإجابة وإزالة لما سنه الكفار من البحيرة والسائبة .
( وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ( أي في التحليل والتحريم من عند أنفسكم وتعلقت بها المعتزلة في أن الحرام ليس برزق وتقدّم تفسير ) وَلاَ تَتَّبِعُواْ ( إلى آخره في البقرة .
الأنعام : ( 143 ) ثمانية أزواج من . . . . .
( ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانْثَيَيْنِ ( تقدّم تفسير المشركين فيما أحلوا وما حرموا ونسبتهم ذلك إلى الله ، فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكان خطيبهم مالك بن عوف بن أبي الأحوص الجشمي فقال : يا محمد بلغنا أنك تحل أشياء فقال له : ( إنكم قد حرمتم أشياء على غير أصل ، وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها فمن أين جاء هذا التحريم أمن قبل الذكر أم من قبل الأنثى . فسكت مالك بن عوف وتحير ؛ فلو علل بالذكورة وجب أن يحرم الذكر أو بالأنوثة فكذلك أو باشتمال الرحم وجب أن يحرما لاشتمالها عليهما ، فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو السابع أو ببعض دون بعض فمن أين ؟ وروي أنه قال لمالك : ( ما لك لا تتكلم ) . فقال له مالك : بل تكلم وأسمع منك والزوج ما كان مع آخر من جنسه وهما زوجان قال : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى فإن كان وحده فهو فرد ويعني باثنين ذكراً وأنثى أي كبشاً ونعجة وتيساً وعنزاً وهذا الاستفهام هو استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع ، حيث نسبوا ما حرموه إلى الله تعالى وكانوا مرة يحرمون الذكور ومرة الإناث ومرة أولادها ذكوراً أو إناثاً أو مختلطة ، فبين تعالى أن هذا التقسيم هو من قبل أنفسهم لا من قبله تعالى وانتصب ) ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ ( على البدل في قول الأكثرين من قوله : ) حَمُولَةً وَفَرْشًا ( وهو الظاهر . وأجازوا نصبه ب ) كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ( وهو قول عليّ بن سليمان وقدره كلوا لحم ثمانية وب ( أنشأ ) مضمرة قاله الكسائي ، وعلى البدل من موضع ما من قوله : ) مِمَّا رَزَقَكُمُ ( وب ) كُلُواْ ( مضمرة وعلى أنها حال أي مختلفة متعددة . وقرأ طلحة بن مصرّف والحسن وعيسى بن عمر : ) مّنَ الضَّأْنِ ( بفتح الهمزة . وقرأ الابنان وأبو عمرو : ) وَمِنَ الْمَعْزِ ( بفتح العين . وقرأ أبي ومن المعزى . وقرأ أبان بن عثمان : اثنان بالرفع على الابتداء والخبر المقدم وتقديم المفعول وتأخير الفعل دل على وقوع تحريمهم الذكور تارة والإناث أخرى ، وما اشتملت عليه الرحم أخرى ، فأنكر تعالى ذلك عليهم حيث نسبوه إليه تعالى فقال : ) حَرَّمَ ( أي حرم الله أي لم يحرم تعالى شيئاً من ذلك لا ذكورها ولا إناثها ولا مما تحمله أرحام إناثهما ، وقدم في التقسيم الفرش على الحمولة لقرب الذكر وهما طريقان للعرب تارة يراعون القرب وتارة يراعون التقديم ، ولأنهما أيسر

" صفحة رقم 242 "
ما يتملكه ويقتنيه الفقير والغني كما قال الشاعر :
ألا إن لا تكن إبل فمعزى
وقدّم الضأن على المعز لغلاء ثمنه وطيب لحمه وعظم الانتفاع بصوفه .
( نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( أي ) إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( في نسبة ذلك التحريم إلى الله ، فأخبروني عن الله بعلم لا بافتراء ولا بتخرص وأنتم لا علم لكم بذلك إذ لم يأتكم بذلك وحي من الله تعالى ، فلا يمكن منكم تنبئة تذلك وفصل بهذه الجملة المعترضة بين المتعاطفين على سبيل التقريع لهم والتوبيخ حيث لم يستندوا في تحريمهم إلا إلى الكذب البحت والافتراء .
الأنعام : ( 144 ) ومن الإبل اثنين . . . . .
( وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثَيَيْنِ ( انتقل من توبيخهم في نفي علمهم بذلك إلى توبيخهم في نفي شهادتهم ذلك وقت توصية الله إياهم بذلك ، لأن مدرك الأشياء المعقول والمحسوس فإذا انتفيا فكيف يحكم بتحليل أو بتحريم ؟ وكيفية انتفاء الشهادة منهم واضحة وكيفية انتفاء العلم بالعقل إن ذلك مستند إلى الوحي وكانوا لا يصدّقون بالرسل ، ومع انتفاء هذين كانوا يقولون : إن الله حرم كذا افتراء عليه . قال الزمخشري : فتهكم بهم في قوله : ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء ( على معنى أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل ؛ انتهى . وقدم الإبل على البقر لأنها أغلى ثمناً وأغنى نفعاً في الرحلة ، وحمل الأثقال عليها وأصبر على الجوع والعطش وأطوع وأكثر انقياداً في الإناخة والإثارة .
( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( أي لا أحد ) أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ( فنسب إليه تحريم ما لم يحرمه الله تعالى ، فلم يقتصر على افتراء الكذب في حق نفسه وضلالها حتى قصد بذلك ضلال غيره فسنّ هذه السنة الشنعاء وغايته بها إضلال الناس فعليه وزرها ووزر من عمل بها .
( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( نفي هداية من وجد منه الظلم وكان من فيه الأظلمية أولى بأن لا يهديه وهذا عموم في الظاهر ، وقد تبين تخصيصه من ما يقتضيه الشرع .
الأنعام : ( 145 ) قل لا أجد . . . . .
( قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ ( لما ذكر أنهم حرموا ما حرموا افتراء على الله ، أمره تعالى أن يخبرهم بأن مدرك التحريم إنما هو بالوحي من الله تعالى وبشرعه لا بما تهوي الأنفس وما تختلقه على الله تعالى ، وجاء الترتيب هنا كالترتيب الذي في البقرة والمائدة وجاء هنا هذه المحرمات منكرة والدم موصوف بقوله : ) مَّسْفُوحًا ( والفسق موصوفاً بقوله : ) أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ( وفي تينك السورتين معرفاً لأن هذه السورة مكية فعلق بالتنكير ، وتانك السورتان مدنيتان فجاءت تلك الأسماء معارف بالعهد حوالة على ما سبق تنزيله في هذه السورة . وروي عن ابن عامر ) فِيمَا أُوحِىَ ( بفتح الهمزة والحاء جعله فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل و ) مُحَرَّمًا ( صفة لمحذوف تقديره مطعوماً ودل عليه قوله ) عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ( ويطعمه صفة لطاعم . وقرأ الباقر ) بطعمه ( بتشديد الطاء وكسر العين والأصل يطتعمه أبدلت تاؤه طاء وأدغمت فيها فاء الكلمة . وقرأت عائشة وأصحاب عبد الله ومحمد بن الحنفية تطعمه بفعل ماض وإلا أن يكون استثناء منقطع لأنه كون وما قبله عين ، ويجوز أن يكون نصبه بدلاً على لغة تميم ونصباً على الاستثناء على لغة الحجاز . وقرأ الابنان وحمزة إلا أن تكون بالتاء وابن كثير وحمزة ) يَكُونَ مَيْتَةً ( بالنصب واسم ) يَكُونَ ( مضمر يعود على قوله : ) مُحَرَّمًا ( وأنث لتأنيث الخبر . وقرأ ابن عامر ) مَيْتَةً ( بالرفع جعل كان تامة . وقرأ الباقون بالياء ونصب ) مَيْتَةً ( واسم كان ضمير مذكر يعود على ) مُحَرَّمًا ( أي ) إِلا أَن يَكُونَ ( المحرم ) مَيْتَةً ( وعلى قراءة ابن عامر وهي قراءة أبي جعفر فيما ذكر مكي يكون قوله : ) أَوْ وَمَا ( معطوفاً على موضع ) أَن يَكُونَ ( وعلى قراءة غيره ، يكون معطوفاً على قوله : ) مَيْتَةً ( ومعنى ) مَّسْفُوحًا ( مصبوباً سائلاً كالدم في العروق لا كالطحال والككبد ، وقد رخص في دم العروق بعد الذبح . وقيل لأبي مجلز : القدر تعلوها الحمرة من الدم . فقال : إنما حرم الله تعالى المسفوح وقالت : نحوه عائشة وعليه إجماع العلماء . وقيل : الدم حرام لأنه إذا زايل فقد سفح . والظاهر أن الضمير في ) فَإِنَّهُ ( عائد على ) لَحْمَ خِنزِيرٍ ( وزعم أبو

" صفحة رقم 243 "
محمد بن حزم أنه عائد على ) خِنزِيرٍ ( فإنه أقرب مذكور ، وإذا احتمل الضمير العود على شيئين كان عوده على الأقرب أرجح وعورض بأن المحدث عنه إنما هو اللحم ، وجاء ذكر ) الْخِنزِيرِ ( على سبيل الإضافة إليه لا أنه هو المحدث عنه المعطوف ، ويمكن أن يقال : ذكر اللحم تنبيهاً على أنه أعظم ما ينتفع به من الخنزير وإن كان سائره مشاركاً له في التحريم بالتنصيص على العلة من كونه رجساً أو لإطلاق الأكثر على كله أو الأصل على التابع لأن الشحم وغيره تابع للحم . واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة ؟ وهو قول الشعبي وابن جبير فعلى هذا لا شيء محرم من الحيوان إلا فيها وليس هذا مذهب الجمهور . وقيل : هي منسوخة بآية المائدة ، وينبغي أن يفهم هذا النسخ بأنه نسخ للحصر فقط . وقيل : جميع ما حرم داخل في الاستثناء سواء كان بنص قرآن أو حديث عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالاشتراك في العلة التي هي الرجسية والذي نقوله : إن الآية مكية وجاءت عقيب قوله : ) ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ ( وكان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي من هذه الثمانية ، فالآية محكمة وأخبر فيها أنه لم يجد فيما أوحي إليه إذ ذاك من القرآن سوى ما ذكر ولذلك أتت صلة ) مَا ( جملة مصدرة بالفعل الماضي فجميع ما حرّم بالمدينة لم يكن إذ ذاك سبق منه وحي فيه بمكة فلا تعارض بين ما حرم بالمدينة وبين ما أخبر أنه أوحي إليه بمكة تحريمه ، وذكر ) الْخِنزِيرِ ( وإن لم يكن من ثمانية الأزواج لأن من الناس من كان يأكله إذ ذاك ولأنه أشبه شيء بثمانية الأزواج في كونه ليس سبعاً مفترساً يأكل اللحوم ويتعذى بها ، وإنما هو من نمط الثمانية في كونه يعيش بالنبات ويرعى كما ترعى الثمانية . وذكر المفسرون هنا أشياء مما اختلف أهل العلم فيه ونلخص من ذلك شيئاً ، فنقول : أما الحمر الأهلية : مذهب الشعبي : وابن جبير إلى انه يجوز أكلها وتحريم رسول الله لها إنما كان لعلة واما لحوم الخيل فاختلف فيها السلف وأباحها الشافعي وابن حنبل وأبو يوسف ومحمد بن الحسن ، وعن أبي حنيفة الكراهة . فقيل : كراهة تنزيه . وقيل : كراهة تحريم وهو قول مالك والأوزاعي والحكم بن عيينة وأبي عبيد وأبي بكر الأصم وقال به من التابعين مجاهد ومن الصحابة ابن عباس ، وروى عنه خلافه وقد صنف في حكم لحوم الخيل جزءاً أقاضي القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي رحمه الله قرأناه عليه وأجمعوا على تحريم البغال ، وأما الحمار الوحشي إذا تأنس فذهب أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والشافعي إلى جواز أكله وروى ابن القاسم عن مالك أنه إذا دجن وصار يعمل عليه كما يعمل على الأهلي أنه لا يؤكل . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد : لا يحل أكل ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير . وقال مالك : لا يؤكل سباع الوحش ولا البر وحشياً كان أو أهلياً ولا الثعلب ولا الضبع ولا بأس بأكل سباع الطير الرخم والعقاب والنسور وغيرها ما أكل الجيفة وما لم يأكل . وقال الأوزاعي : الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم . وقال الشافعي : ما عدا على الناس من ذي الناب كالأسد والذئب والنمر وعلى الطيور من ذي المخلب كالنسر والبازي لا يؤكل ، ويؤكل الثعلب والضبع وكره أبو حنيفة الغراب الأبقع لا الغراب الزرعي والخلاف في الحدأة كالخلاف في العقاب والنسر وكره أبو حنيفة الضب . وقال مالك والشافعي : لا بأس به والجمهور على أنه لا يؤكل الهر الإنسي وعن مالك جواز أكله إنسياً كان أو وحشياً وعن بعض السلف جواز أكل إنسية . وقال ابن أبي ليلى : لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت . وقال الليث : لا بأس بأكل القنفذ وفراخ النحل ودود الجبن ودود التمر ونحوه وكذا قال ابن القاسم عن مالك في القنفذ . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تؤكل الفأرة . وقال أبو حنيفة : لا يؤكل اليربوع . وقال الشافعي : يؤكل وعن مالك في الفأر التحريم والكراهة والإباحة ، وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما إلى كراهة أكل الجلالة . وقال مالك والليث : لا بأس بأكلها . وقال صاحب التحرير والتحبير : وأما المخدرات كالبنج والسيكران واللفاح وورق القنب المسمى بالحشيشة فلم

" صفحة رقم 244 "
يصرح فيها أهل العلم بالتحريم وهي عندي إلى التحريم أقرب ، لأنها إن كانت مسكرة فهي محرّمة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) . وبقوله : ( كل مسكر حرام ) وإن كانت غير مسكرة فإدخال الضرر على الجسم حرام . وقد نقل ابن بخنتيشوع في كتابه : إن ورق القنب يحدث في الجسم سبعين داءً وذكر منها أنه يصفر الجلد ويسوّد الأسنان ويجعل فيها الحفر ويثقب الكبد ويحميها ويفسد العقل ويضعف البصر ويحدث الغم ويذهب الشجاعة والبنج ، والسيكران كالورق في الضرر وأما المرقدات كالزعفران والمازريون فالقدر المضر منها حرام ، وقال جمهور الأطباء : إذا استعمل من الزعفران كثير قتل فرحاً ؛ انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وقال أبو بكر الرازي في قوله : ) عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ( دلالة على أن المحرّم من الميتة ما يتأتى فيه الأكل منها وإن لم يتناول الجلد المدبوغ ولا القرن ولا العظم ولا الظلف ولا الريش ونحوها ، وفي قوله : ) أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا ( دلالة على أن دم البق والبراغيث والذباب ليس بنجس ؛ انتهى ) أَوْ فِسْقًا ( الظاهر أنه معطوف على المنصوب قبله سمى ما أهلّ لغير الله به فسقاً لتوغله في باب الفسق ومنه ) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ( وأنه لفسق وأهل صفة له منصوبة المحل وأجاز الزمخشري أن ينتصب فسقاً على أنه مفعول من أجله مقدم على العامل فيه وهو أهلّ لقوله .
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب
وفصل به بين أو وأهل بالمفعول له ويكون أو أهل معطوفاً على ) يَكُونَ ( والضمير في ) بِهِ ( يعود على ما عاد عليه في ) يَكُونَ ( وهذا إعراب متكلف جداً وتركيب على هذا الإعراب خارج عن الفصاحة وغير جائز في قراءة من قرأ ) إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً ( بالرفع فيبقى الضمير في ) بِهِ ( ليس له ما يعود عليه ، ولا يجوز أن يتكلف محذوف حتى يعود الضمير عليه فيكون التقدير أو شيء ) أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ( لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر .
( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( تقدّم تفسير مثل هذا ولما كان صدر الآية مفتتحاً بخطابه تعالى بقوله : ) قُل لا أَجِدُ ( اختتم الآية بالخطاب فقال : فإن ربك ودلّ على اعتنائه به تعال بتشريف خطابه افتتاحاً واختتاماً .
الأنعام : ( 146 ) وعلى الذين هادوا . . . . .
( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ ( مناسبة هذه لما قبلها أنه لما بين أن التحريم إنما يستند للوحي الإلهي أخبر أنه حرّم على بعض الأمم السابقة أشياء ، كما حرّم على أهل هذه الملة أشياء مما ذكرها في الآية قبل فالتحريم إنما هو راجع إلى الله تعالى في الأمم جميعها وفي قوله : ) حَرَّمْنَا ( تكذيب اليهود في قولهم : إن الله لم يحرم علينا شيئاً وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه . قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والسدّي : هي ذوات الظلف كالإبل والنعام وما ليس بذي أصابع منفرجة كالبط والإوز ونحوهما ، واختاره الزجاج . وقال ابن زيد : هي الإبل خاصة

" صفحة رقم 245 "
وضعف هذا التخصيص . وقال الضحاك : هي النعامة وحمار الوحش وهو ضعيف لتخصيصه . وقال الكلبي : كل ذي مخلب من الطير وذي حافر من الدواب وذي ناب من السباع . وقال القتبي : الظفر هنا بمنزلة الحافر يدخل فيه كل ذي حافر من الدواب سمى الحافر ظفر استعارة . وقال ثعلب : كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر وما يصيد فهو ذو مخلب . قال النقاش : هذا غير مطرد لأن الأسد ذو ظفر . وقال الزمخشري : ما له أصبع من دابة أو طائر ، وكان بعض ذوات الظفر حلالاً لهم فلما ظلموا حرم ذلك عليهم فعم التحريم كل ذي ظفر بدليل قوله : ) فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ). وقال أبو عبد الله الرازي : حمل الظفر على الحافر ضعيف لأن الحافر لا يكاد يسمى ظفراً ولأنه لو كان كذلك لقيل : حرم عليهم كل حيوان له حافر وذلك باطل لدلالة الآية على إباحة البقر والغنم مع أنها لها حافر ، فوجب حمل الظفر على المخالب والبراثن لأن المخالب آلات لجوارح الصيد في الاصطياد فيدخل فيه أنواع السباع والكلاب والسنانير والطيور التي تصطاد ويكون هذا مختصاً باليهود لدلالة ) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ ( على الحصر فيختص التحريم باليهود ولا تكون محرمة على المسلمين وما روي من تحريم ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير ضعيف ، لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله فلا يقبل ويقوي مذهب مالك ؛ انتهى ، ملخصاً وفيه منوع . أحدها : لا نسلم تخصيص ذي الظفر بما قاله . الثاني : لا نسلم الحصر الذي ادّعاه . الثالث : لا نسلم الاختصاص . الرابع : لا نسلم إن خبر الواحد في تحريم ذي الناب وذي المخلب على خلاف كتاب الله وكل من فسر الظفر بما فسره من ذوي الأقوال السابقة بذاهب إلى تحريم لحم ما فسره وشحمه وكل شيء منه . وذهب بعض المفسرين إلى أن ذلك على حذف مضاف وليس المحرم ذا الظفر وإنما المراد ما صاده ذو الظفر أي ذو المخلب الذي لم يعلم وهذا خلاف الظاهر . وقرأ أبي الحسن والأعرج ) ظُفُرٍ ( بسكون الفاء والحسن أيضاً وأبو السمال قعنب بسكونها وكسر الطاء .
( وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ( أي شحوم الجنسين ويتعلق من بحرمنا المتأخرة ولا يجب تقدمها على العامل ، فلو كان التركيب وحرمنا عليهم من البقر والغنم شحومها لكان تركيباً غريباً ، كما تقول : من زيد أخذت ماله ويجوز أخذت من زيد ماله ، والإضافة تدل على تأكيد التخصيص والربط إذ لو أتى في الكلام من البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم لكان كافياً في الدلالة على أنه لا يراد إلا شحوم البقر والغنم ، ويحتمل أن يكون ) ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ( معطوفاً على ) كُلَّ ذِى ظُفُرٍ ( فيتعلق من بحرمنا الأولى ثم جاءت الجملة الثانية مفسرة ما أبهم في من التبيعيضة من المحرم فقال : ) حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ). وقال أبو البقاء : لا يجوز أن يكون ) مِنْ الْبَقَرِ ( متعلقاً بحرمنا الثانية بل ذلك معطوف على كل ) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ( تبيين للمحرّم من البقر والغنم وكأنه يوهم أن عود الضمير مانع من التعلق إذ رتبة المجرور بمن التأخير ، لكن عن ماذا أما عن الفعل فمسلم وأما عن المفعول فغير مسلم وإن سلمنا أن رتبته التأخير عن الفعل والمفعول ليس بممنوع ، بل يجوز ذلك كما جاز ضرب غلام المرأة أبوها وغلام المرأة ضرب أبوها وإن كانت رتبة المفعول التأخير ، لكنه وجب هنا تقديمه لعود الضمير الذي في الفاعل الذي رتبته التقديم عليه فكيف بالمفعول الذي هو والمجرور في رتبة واحدة أعني في كونهما فضلة فلا يبالي فيهما بتقديم أيهما شئت على الآخر . وقال الشاعر :

" صفحة رقم 246 "
وقد ركدت وسط السماء نجومها
فقدّم الظرف وجوباً لعود الضمير الذي اتصل بالفاعل على المجرور بالظرف واختلف في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائح اليهود ، فعن مالك منع أكل الشحم من ذبائحهم وروي عنه الكراهة ، وأباح ذلك بعض الناس من ذبائحهم ومن ذبحهم ما هو عليهم حرام إذا أمرهم بذلك مسلم . وقال ابن حبيب : ما كان معلوماً تحريمه عليهم من كتابنا فلا يحل لنا من ذبائحهم ، وما لم نعلمه إلا من أقوالهم فهو غير محرم علينا من ذبائحهم ؛ انتهى . فظاهر قوله : ) وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ( إن الشحم الذي هو من ذبائحهم لا يحل لنا أنه ليس من طعامهم فلا يدخل تحت عموم ) وَطَعَامُ الَّذِينَ ( وحمل قوله : ) وَطَعَامُ الَّذِينَ ( على الذبائح فيه بعد وهو خلاف الظاهر .
( إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ( أي إلا الشحم الذي حملته ظهورهما البقر والغنم . قال ابن عباس : هو مما علق بالظهر من الشحم وبالجنب من داخل بطونهما . وقيل : سمين الظهر وهي الشرائح التي على الظهر من الشحم فإن ذلك لم يحرم عليهم . وقال السديّ وأبو صالح : الاليات مما حملت ظهورهما .
( أَوِ الْحَوَايَا ( هو معطوف على ) ظُهُورُهُمَا ( قاله الكسائي ، وهو الظاهر أي والشحم الذي حملته ) الْحَوَايَا ). قال ابن عباس وابن جبير والحسن وقتادة ومجاهد والسدّي وابن زيد : هي المباعر . وقال علي بن عيسى : هو كل ما تحويه البطن فاجتمع واستدار . وقال ابن زيد أيضاً : هي بنات اللبن . وقيل : الأمعاء والمصارين التي عليها الشحم .
( أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ( هو معطوف على ) مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ( بعظم هو شحم الإلية لأنه على العصعص قاله السدّي وابن جريج ، أو شحم الجنب أو كل شحم في القوائم والجنب والرأس والعينين والأذنين قاله ابن جريج أيضاً ، أو مخ العظم والظاهر أن هذه الثلاثة مستثناة من الشحم فهي حلال لهم . قيل : بالمحرم أذب شحم الثرب والكلى . وقيل : أو الحوايا أو ما اختلط بعظم معطوف على قوله ) شُحُومَهُمَا ( فتكون داخلة في المحرم أي حرمنا عليهم شحومهما ) أَوِ الْحَوَايَا ( أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما وتكون أو كهي في قوله ) وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً ( يراد بها نفي ما يدخل عليه بطريق الانفراد ، كما تقول : هؤلاء أهل أن يعصوا فاعص هذا أو هذا فالمعنى حرم عليهم هذا وهذا . قال الزمخشري : وأو بمنزلتها في قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين ؛ انتهى . وقال النحويون : أو في هذا المثال للإباحة فيجوز له أن يجالسهما معاً وأن يجالس أحدهما ، والأحسن في الآية إذا قلنا إن ذلك معطوف على شحومهما أن تكون أوفية للتفصيل فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم . وقال ابن عطية : وقال بعض الناس ) أَوِ الْحَوَايَا ( معطوف على الشحوم . قال : وعلى هذا يدخل الحويا في التحريم وهذا قول لا يعضده اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه ؛ انتهى . ولم يبين دفع اللفظ والمعنى لهذا القول .
( ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ ( قال ابن عطية : ) ذالِكَ ( في موضع رفع وقال الحوفي : ) ذالِكَ ( في موضع رفع على إضمار مبتدإ تقديره الأمر ذلك ، ويجوز أن يكون نصب ب ) جَزَيْنَاهُم ( لأنه يتعدّى إلى مفعولين والتقدير جزيناهم ذلك . وقال أبو البقاء : ) ذالِكَ ( في موضع نصب ب ) جَزَيْنَاهُم ( لأنه يتعدّى إلى مفعولين والتقدير جزيناهم ذلك . وقال أبو البقاء : ) ذالِكَ ( في موضع نصب ب ) جَزَيْنَاهُم ( ولم يبين على أيّ شيء انتصب هل على المصدر أو على المفعول بإذ ؟ وقيل : مبتدأ والتقدير جزيناهموه ؛ انتهى ، وهذا ضعيف لضعف

" صفحة رقم 247 "
زيد ضربت . وقال الزمخشري : ذلك الجزاء ) جَزَيْنَاهُم ( وهو تحريم الطيبات ؛ انتهى . وظاهره أنه منتصب انتصاب المصدر ، وزعم ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشاراً به إلى المصدر إلا واتبع بالمصدر فتقول : قمت هذا القيام وقعدت ذلك العقود ، ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذلك ، فعلى هذا لا يصح انتصاب ذلك على أنه إشارة إلى المصدر ، والبغي هنا الظلم . وقال الحسن : الكفر . وقال أبو عبد الله الرازي : هو قتلهم الأنبياء بغير حق وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل ، ونظيره ) فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا ( وهذا يقتضي أن هذا التحريم كان عقوبة لهم على ذنوبهم واستعصائهم على الأنبياء . قال القاضي : نفس التحريم لا يكون عقوبة على جرم صدر منهم ، لأن التكليف تعريض للثواب والتعريض للثواب إحسان . والجواب : أن المنع من الانتفاع يمكن لمن يرى استحقاق الثواب ، ويمكن أن يكون للجرم المتقدم وكل واحد منهما غير مستبعد .
( وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ( في الإخبار عما ) حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ). وقال ابن عطية : إخبار يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم : ما حرم الله علينا وإنما اقتدينا بإسرائيل فيما حرم على نفسه ، ويتضمن إدحاض قولهم ورده عليهم . وقال التبريزي : في اتمام جزائهم في الآخرة الذي سبق الوعيد فيكون التحريم من الجزاء لمعجل لهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم وقال الزمخشري ) وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ( ) وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ( فيما أوعدنا به العصاة لا نخلفه كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة ، فلما عصوا وبغوا ألحقنا بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب ؛ انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
الأنعام : ( 147 ) فإن كذبوك فقل . . . . .
( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ( الظاهر عود الضمير على أقرب مذكور وهم اليهود وقاله مجاهد والسدّي أي ) فَإِن كَذَّبُوكَ ( فيما أخبرت به أنه تعالى حرمه عليهم وقالوا : لم يحرمه الله وإنما حرمه إسرائيل قبل متعجباً من قولهم : ومعظماً لافترائهم مع علمهم بما قلت : ) فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ( حيث لم يعاجلكم بالعقوبة مع شدّة هذا الجرم كما تقول عند رؤية معصية عظيمة . ما أحلم االله وأنت تريد لإمهاله العاصي . وقيل : الضمير للمشركين الذين كان الكلام معهم في قوله : ( نبئوني ( وقوله : ) ( نبئوني ( وقوله : ) ( وقوله : ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء ( أي ) فَإِن كَذَّبُوكَ ( في النبوة والرسالة وتبليغ أحكام الله . وقال الزمخشري : ) فَإِن كَذَّبُوكَ ( في ذلك وزعموا أن الله واسع المغفرة وأنه لا يؤاخذنا بالبغي ويخلف الوعيد جوداً وكرماً ) فَقُل لَّهُمْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ( لأهل طاعته ) وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ ( مع سعة رحمته ) عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ( فلا تغترّ برجاء رحمته عن خوف نقمته ؛ انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال و ) الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ( عام يندرج فيه مكذبو الرسل وغيرهم من لمجرمين ، ويحتمل أن يكون من وقوع الظاهرموقع المضمر أي ) وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ ( عنكم وجاء معمول ) قُلْ ( الأول جملة اسمية لأنها أبلغ في الإخبار من الجملة الفعلية ، فناسبت الأبلغية في الله تعالى بالرحمة الواسعة وجاءت الجملة الثانية فعلية ولم تأت اسمية فيكون التركيب وذو بأس لئلا يتعادل الإخبار عن الوصفين وباب الرحمة واسع فلا تعادل . وقال الماتريدي : ) فَإِن كَذَّبُوكَ ( فيما تدعوهم إليه من التصديق والتوحيد ) فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ( إذا رجعتم عن التكذيب ؛ انتهى . وقيل : ) ذُو رَحْمَةٍ ( لا يهلك أحداً وقت المعصية ولكن يؤخر ) وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ ( إذا نزل .
الأنعام : ( 148 ) سيقول الذين أشركوا . . . . .
( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء ( هذا إخبار بمستقبل ، وقد وقع وفيه إخبار بمغيب معجزة للرسول فكان كما أخبر به تعالى وهذا القول منهم ورد حين بطل احتجاجهم وثبت الرد عليهم فعدلوا إلى أمر حق وهو أنه لو أراد الله أن لا يقع من ذلك شيء ، وأوردوا ذلك على سبيل الحوالة على المشيئة والمقادير مغالطة وحيدة عن الحق وإلحاداً لا اعتقاداً صحيحاً وقالوا : ذلك اعتقاداً صحيحاً حين قارفوا تلك الأشياء استمساكاً بأن ما شاء الله هو الكائن

" صفحة رقم 248 "
كما يقول : الواقع في معصية إذا بين له وجهها : هذا قدر الله لا مهرب ولا مفر من قدر الله أو قالوا ذلك وهو حق على سبيل الاحتجاج على تلك الأشياء ، أي لو لم يرد الله ما نحن عليه لم يقع ولحال بيننا وبينه . وقال الزمخشري : يعنون بكفرهم وتمردهم أن شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحل الله بمشيئة الله وإرادته ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك كمذهب المجبرة بعينه ؛ انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وقال الماتريدي : يحتمل أن تكون المشيئة بمعنى الرضا أو بمعنى الأمر والدعاء لأنهم قالوا : إن الله أمرنا بذلك ، ويحتمل أن قالوه استهزاء وسخرية انتهى . ولا تعلق للمعتزلة بذلك مع هذه الاحتمالات . قال ابن عطية : وتعلقت المعتزلة بهذه الآية فقالوا : إن الله قد ذم لهم هذه المقالة وإنما ذمها لأن كفرهم ليس بمشيئة الله بل هو خلق لهم قال : وليس الأمر على ما قالوا ، وإنما ذم الله ظنّ المشركين إن ما شاء الله لا يقع عليه عقاب وأما أنه ذم قولهم : لولا المشيئة لم تكفر فلا ؛ انتهى . و ) الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( مشركو قريش أو مشركو العرب قولان ، ( وَلاَ ىَابَاؤُنَا ( معطوف على الضمير المرفوع وأغني الفصل بلا بين حرف العطف والمعطوف على الفصل بين المتعاطفين بضمير منفصل يلي الضمير المتصل أو بغيره . وعلى هذا مذهب البصريين لا يجيزون ذلك بغير فصل إلا في الشعر ومذهب الكوفيين جواز ذلك وهو عندهم فصيح في الكلام . وجاء في سورة النحل ) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ ( فقال : من دونه مرتين وقال : نحن فأكد الضمير لأن لفظ العبادة يصح أن ينسب إلى إفراد الله بها وهذا ليس بمستنكر ، بل المستنكر عبادة شيء غير الله أو شيء مع الله فناسب هنا ذكر من دونه مع العبادة ، وأما لفظ ) مَا أَشْرَكْنَا ( فالإشراك يدل على إثبات شريك فلا يتركب مع هذا الفعل لفظ من دونه لو كان التركيب في غير القرآن ) مَا أَشْرَكْنَا ( من دونه لم يصح معناه ، وأما من دونه الثانية فالإشراك يدل على تحريم أشياء وتحليل أشياء ، فلم يحتج إلى لفظ من دونه وأما لفظ العبادة فلا يدل على تحريم شيء كما دل عليه لفظ أشرك فقيد بقوله : من دونه ولما حذف من دونه هنا ناسب أن يحذف نحن ليطرد التركيب في التخفيف .
( كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا ( أي مثل ذلك التكذيب المشار إليه في قوله : ) فَإِن كَذَّبُوكَ ( فقد كذبت الأمم السالفة ، فمتعلق التكذيب هو غير قولهم : ) فَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ( الآية أي بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك الله لهم دليل على رضاه بحالهم وحتى ذاقوا بأسنا غاية لامتداد التكذيب إلى وقت العذاب ، لأنه إذا حلّ العذاب لم يبق تكذيب وجعلت المعتزلة التكذيب راجعاً إلى قوله ) وَلَوْ شَاء اللَّهُ ( الجملة التي هي محكية بالقول وقالوا : كذبهم الله في قولهم ويؤيده قراءة بعض الشواذ كذب . وقال الزمخشري : أي جاؤوا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وجل ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها والرسل أخبرت بذلك ، فمن علق وجوه القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله وكتبه ورسله ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره ؛ انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
( قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ( استفهام على معنى التهكم بهم وهو إنكار ، أي ليس عدكم من علم تحتجون به فتظهرونه لنا ما تتبعون في دعاواكم إلا الظنّ الكاذب الفاسد ، وما أنتم إلا تكذبون أو تقدرون وتحزرون . وقرأ النخعيّ وابن وثاب : إن يتبعون بالياء . قال ابن عطية : وهذه قراءة شاذة يضعفها قوله ) وَإِنْ أَنتُمْ ( لأنه يكون من باب الالتفات .
الأنعام : ( 149 ) قل فلله الحجة . . . . .
( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( بين ) قُلْ ( والفاء محذوف قدره الزمخشري فإن كان الأمر كما زعمتم إن ما أنتم عليه بمشيئة الله فللّه الحجة

" صفحة رقم 249 "
البالغة عليكم وعلى ردّ مذهبكم ، ( لَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( منكم ومن مخالفيكم فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضي أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضاً بمشيئته فتوالوهم ولا تعادوهم وتوقروهم ولا تخالفوهم ، لأن المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه ؛ انتهى . وهذا تفسير للآية على ما تقرر قبل في الآيات السابقة من مذهب الاعتزال والذي قدّره الزمخشري من شرط محذوف و ) فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ( في جوابه بعيد والأولى تقديره أنتم لا حجة لكم أي على إشراككم ولا على تحريمكم من قبل أنفسكم غير مستندين إلى وحي ولا على افترائكم على الله إنه حرم ما حرمتم ، ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ( في الاحتجاج الغالبة كل حجة حيث خلق عقولاً يفكر بها وأسماعاً يسمع بها وأبصاراً يبصر بها وكل هذه مدارك للتوحيد ولاتباع ما جاءت به الرسل عن الله . قال أبو نصر القشيري : ) الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ( تبيين للتوحيد وإيداء الرسل بالمعجزات فألزم أمره كل مكلف ، فأما علمه وإرادته فغيب لا يطلع عليه العبد ويكفي في التكليف أن يكون العبد لو أراد أن يفعل ما أمر به مكنه ، وخلاف المعلوم مقدور فلا يلتحق بما يكون محالاً في نفسه ؛ انتهى ، وفي آخر كلامه نظر . قال الكرماني : ) فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ ( هداية إلجاء واضطرار ؛ انتهى ، وهذه نزعة اعتزالية . وقال أبو نصر بن القشيري : هذا تصريح بأن الكفر واقع بمشئة الله تعالى . وقال البغوي : هذا يدل إنه لم يشأ إيمان الكافر .
الأنعام : ( 150 ) قل هلم شهداءكم . . . . .
( قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَاذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ ( بين تعالى كذبهم على الله وافتراءهم في تحريم ما حرموا منسوباً إلى الله تعالى فقال : ) أُنزِلِ بِعِلْمِ ( وقال : ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء ( ولما انتفى هذان الوجهان انتقل إلى وجه ليس بهذين الوجهين وهو أن يستدعي منهم من يشهد لهم بتحريم الله ما حرموا ، و ) هَلُمَّ ( هنا على لغة الحجاز وهي متعدية ولذلك انتصب المفعول به بعدها أي أحضروا شهداءكم وقربوهم وإضافة الشهداء إليهم تذل على أنهم غيرهم وهذا أمر على سبيل التعجيز ، أي لا يوجد من يشهد بذلك شهادة حق لأنها دعوى كاذبة ولهذا قال : ) فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ ( أي فإن فرض أنهم يشهدون فلا تشهد معهم أي لا توافقهم لأنهم كذبة في شهادتهم كما أن الشهود لهم كذبة في دعواهم ، وأضاف الشهداء إليهم أي الذين أعددتموهم شهوداً لكم بما تشتهي أنفسكم ولذلك وصف ب ) الَّذِينَ يَشْهَدُونَ ( أي هم مؤمنون بالشهادة لهم وبنصرة دعاواهم الكاذبة ، ولو قيل : ) هَلُمَّ ( شهداء بالتنكير لفات المعنى الذي اقتضته الإضافة والوصف بالموصوف إذا كان المعنى هلم أناساً يشهدون بتحريم ذلك فكان الظاهر طلب شهداء بالحق وذلك ينافي معنى الآية . وقال الحسن : أحضروا شهداءكم من أنفسكم ، قال ولا تجدون ولو حضروا لم تقبل شهداتهم لأنها كاذبة . وقال ابن عطية : فإن افترى أحد وزوّر شهادة أو خبر عن نبوة فتجنب أنت ذلك ولا تشهد معهم ، وفي قوله : ) فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ ( قوة وصف شهادتهم بنهاية الزور . وقال أبو نصر القشيري : فإن شهد بعضهم لبعض فلا يصدق إذ الشهادة من كتاب أو على لسان نبي وليس معهم شيء من ذلك . قال الزمخشري : أمرهم باستحضارهم وهم شهداء بالباطل ليلزمهم الحجة ويلقمهم الحجر ويظهر للمشهود لهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء لتساوي أقدام الشاهدين ، والمشهود لهم في أنهم يرجعون إلى ما يصح التمسك به وقوله : ) فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ ( فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم ، لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم فكان واحداً منهم ؛ انتهى ، وهو تكثير .
( وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ ( الظاهر في العطف أنه يدل على مغايرة الذوات و ) الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( يعم جميع من كذب الرسول وإن كان مقراباً بالآخرة كأهل الكتاب . ) وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ ( قسم من المكذبين بالآيات وهم عبدة الأوثان والجاعلون لربهم عديلاً وهو المثل عدلوا به الأصنام في العبادة والإلهية ، ويحتمل أن يكون العطف

" صفحة رقم 250 "
من تغاير الصفات والموصوف واحد وهو قول أكثر الناس ، ويظهر أنه اختيار الزمخشري لأنه قال : ) لاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ( من وضع الظاهر موضع المضمر لدلالته على إن من كذب بآيات الله وعدل به غيره فهو متبع للهوى لا غير ، لأنه لو تبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحد الله . وقال النقاش : نزلت في الدهرية من الزنادقة .
الأنعام : ( 151 ) قل تعالوا أتل . . . . .
( قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ( لما ذكر تعالى ما حرّموه افتراء عليه ثم ذكر ما أباحه تعالى لهم من الحبوب والفواكه والحيوان ، ذكر ما حرمه تعالى عليهم من أشياء نهاهم عنها وما أوجب عليهم من أشياء أمرهم بها وتقدم شرح ) تَعَالَوْاْ ( في قوله تعالى : ) إِلَى كَلِمَةٍ ( والخطاب في قل للرسول وفي تعالوا قيل للمشركين . وقيل : لمن بحضرة الرسول من مؤمن وكتابي ومشرك وسياق الآيات يدل على أنه للمشركين ، وإن كان حكم غيرهم في ذلك حكمهم أمره تعالى أن دعو جميع الخلق إلى سماع ما حرم الله بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر ، وأتل أسرد وأقص من التلاوة وهي اتباع بعض الحروف بعضاً . وقال كعب الأحبار : هذه الآيات مفتتح التوراة بسم الله الرحمن الرحيم ) قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ( إلى آخر الآية . وقال ابن عباس : هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله في سورة آل عمران أجمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة . وقد قيل : إنها العشر كلمات المنزلة على موسى عليه السلام و ) مَا ( بمعنى الذي وهي مفعولة باتل أي اقرأ الذي حرمه ربكم عليك . وقيل : مصدرية أي تحريم ربكم . وقيل : استفهامية منصوبة بحرّم أي أي شيء حرم ربكم ، ويكون قد علق أتل وهذا ضعيف لأن أتل ليس من أفعال القلوب فلا تعلق و ) عَلَيْكُمْ ( متعلق ب حرم لا بأتل فهو من أعمال الثاني . وقال ابن الشجري : إن علقته باتل فهو جيد لأنه أسبق وهو اختيار الكوفيين فالتقدير اتل عليكم الذي حرّم ربكم .
( أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الظاهر أن ) ءانٍ ( تفسيرية و ) لا ( ناهية لأن ) اتْلُ ( فعل بمعنى القول وما بعد ) ءانٍ ( جملة فاجتمع في أن شرطا التفسيرية وهي أن يتقدمها معنى لقول وأن يكون بعدها جملة وذلك بخلاف أي فإنها حرف تفسير يكون قبلها مفرد وجملة يكون فيها معنى القول وغيرها ، وبعدها مفرد وجملة وجعلها تفسيرية هو اختيار الزمخشري فإن قلت : إذا جعلت أن مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما ) حَرَّمَ رَبُّكُمْ ( وجب أن يكون ما بعده منهياً عنه محرماً كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي فما يصنع بالأوامر ؟ قلت : لما وردت هذه الأوامر مع النواهي وتقدّمهن جميعاً فعل التحريم واشتركن في الدخول تحت حكمه ، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإشارة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله ؛ انتهى . وكون هذه الأشياء اشتركت في الدخول تحت حكم التحريم وكون التحريم راجعاً إلى أضداد الأوامر بعيد جداً وألغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ، وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين : أحدهما : أنها معطوفة على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز أن التفسيرية بل هي معطوفة على قوله : ) تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ ( أمرهم أولاً بأمر يترتب عليه ذكر مناه ثم أمرهم ثانياً بأوامر وهذا معنى واضح ، ( إِلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَاذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ( ما نهاكم ربكم عنه فالمعنى ) قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ ( ما نهاكم ربكم عنه ، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون أن تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول : أمرتك أن لا تكرم جاهلاً وأكرم عالماً إذ يجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر كما قال امرؤ القيس :

" صفحة رقم 251 "
يقولون لا تهلك أسًى وتجمل وهذا لا نعلم فيه خلافاً بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافاً وقد جوزوا في أن ) ءانٍ ( تكون مصدرية لا تفسيرية في موضع رفع وفي موضع نصب . فأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ دل عليه المعنى أو التقدير المتلو ) أَن لا تُشْرِكُواْ ). وأما النصب فمن وجوه . أحدها : أن يكون منصوباً بقوله : ) عَلَيْكُمْ ( ويكون من باب الإغراء وتم الكلام عند قوله : ) أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ( أي التزموا انتفاء الإشراك وهذا بعيد لتفكيك الكلام عن ظاهره . الثاني : أم يكون مفعولاً من أجله أي ) أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ( ) أَن لا تُشْرِكُواْ ( وهذا بعيد لأن ما جاء بعده أمر معطوف بالواو ومناه هي معطوفة بالواو فلا يناسب أن يكون تبييناً لما حرم ، أما الأوامر فمن حيث المعنى وأما المناهي فمن حيث العطف . الثالث : أن يكون مفعولاً بفعل محذوف تقديره أوصيكم أن لا تشركوا لأن قوله : ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( محمول على أوصيكم ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( وهذا بعيد لأن الإضمار على خلاف الأصل : وهذه الأوجه الثلاثة لا فيها باقية على أصل وضعها من النفي وهو مراد . الرابع : أن يكون في موضع نصب على البدل من ) مَا حَرَّمَ ( أو من الضمير المحذوف من ) مَا حَرَّمَ ( إذ تقديره ما حرمه وهذان الوجهان لا فيهما زائدة كهي في قوله : ) مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ( وهذا ضعيف لانحصار عموم المحرم في الإشراك إذ ما بعده من الأمر ليس داخلاً من المحرم ولا بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادّعاء زيادة لا فيه لظهور أن لا فيها للنهي .
وقال الزمخشري : فإن قلت هلا قلت هي التي تنصب الفعل وجعلت ) أَن لا تُشْرِكُواْ ( بدلاً من ) مَا حَرَّمَ ( قلت : وجب أن يكون لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي لانعطاف الأوامر عليها وهي قوله : ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( لأن التقدير وأحسنوا ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( وأوفوا وإذا قلتم فاعدلوا وبعهد الله أوفوا ؛ انتهى . ولا يتعين أن تكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا لأنا بينا جواز عطف ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( على ) تَعَالَوْاْ ( وما بعده معطوف عليه ، ولا يكون قوله : ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( معطوفاً على ) ءانٍ ( و ) أَن لا تُشْرِكُواْ ( شامل لمن أشرك بالله الأصنام كقوم إبراهيم ومن أشرك بالله الجن ومن أشرك بنين وبنات . وقال ابن الجوزي : قيل ادعاء شريك لله . وقيل : طاعة غير الله في معصية الله وتقدم تفسير ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( في سورة البقرة .
( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ( ) مِنْ ( هنا سببية أي من فقر لقوله ) خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ( وقتل الولد حرام إلا بحقه وإنما ذكر هذا السبب لأنه كان العلة في قتل الولد عندهم ، وبين تعالى أنه هو الرازق لهم ولأولادهم وإذا كان هو الرازق فكما لا تقتل نفسك كذلك لا تقتل ولدك . ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين نهى عن الإساءة إلى الأولاد ونبه على أعظم الإساءة للأولاد هو إعدام حياتهم بالقتل خوف الفقر كما قال في الحديث وقد سئل عن أكبر الكبائر فذكر الشرك بالله وهو قوله : ( أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك ) ثم قال : ( وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ) وقال : ( وأن تزاني حليلة جارك ) وجاء هذا الحديث منتزعاً من هذه الآية وجاء التركيب هنا ) نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ( ، وفي الإسراء ) نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ( فيمكن أن يكون ذلك من التفنن في الكلام ويمكن أن يقال في هذه الآية جاء ) مّنْ إمْلَاقٍ ( فظاهره حصول الإملاق للوالد لا توقعه ، وخشيتة وإن كان واجداً للمال فبدأ أولاً بقوله : ) نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ ( خطاباً للآباء وتبشيراً لهم بزوال الإملاق وإحالة الرزق على الخلاق الرزاق ، ثم عطف عليهم الأولاد . وأما في الإسراء فظاهر التركيب أنهم موسرون وإن قتلهم إياهم إنما هو لتوقع حصول الإملاق والخشية منه فبدىء فيه بقوله : ) نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ (

" صفحة رقم 252 "
إخباراً بتكفله تعلى برزقهم فلستم أنتم رازقيهم وعطف عليهم الآباء وصارت الآيتان مفيدتان معنيين . أحدهما : أن الآباء نُهوا عن قتل الأولاد مع وجود إملاقهم . والآخر : أنهم نُهوا عن قتلهم وإن كانوا موسرين لتوقع الإملاق وخشية وحمل الآيتين على ما يفيد معنيين أولى من التأكيد .
( وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ( المنقول فيما ) ظَاهِرَ وَمَا بَطَنَ ( كالمنقول في ) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ( وتقدّم فأغنى عن إعادته .
( وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ( هذا مندرج تحت عموم الفواحش إذ الأجود أن لا يخص الفواحش بنوع مّا ، وإنما جرد منها قتل النفس تعظيماً لهذه الفاحشة واستهوالاً لوقوعها ولأنه لا يتأتى الاستثناء بقوله : ) إِلاَّ بِالْحَقّ ( إلا من القتل لا من عموم الفواحش ، وقوله : ) الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ ( حوالة على سبق العهد في تحريمها فلذلك وصفت بالتي ، والنفس المحرمة هي المؤمنة والذمّية والمعاهدة و ) بِالْحَقّ ( بالسبب الموجب لقتلها كالرّدة والقصاص والزنا بعد الإحصان والمحاربة .
( ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( أشار إلى جميع ما تقدّم وفي لفظ ) وَصَّاكُمُ ( من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإحسان ، ولما كان العقل مناط التكليف قال تعالى : ) لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( أي فوائد هذا التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا والوصاة الأمر المؤكد المقرر . وقال الأعشى : أجدك لم تسمع وصاة محمد
نبي الإله حين أوصى وأشهدا
الأنعام : ( 152 ) ولا تقربوا مال . . . . .
( وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ( هذا نهي عن القرب الذي يعم جميع وجوه التصرف ، وفيه سد الذريعة .
( إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( أي بالخصلة التي هي أحسن في حق اليتيم ولم يأت إلا بالتي هي حسنة ، بل جاء بأفعل التفضيل مراعاة لمال اليتيم وأنه لا يكفي فيه الحالة الحسنة بل الخصلة الحسنى وأموال الناس ممنوع من قربانها ، ونص على ) الْيَتِيمَ ( لأن الطمع فيه أكثر لضعفه وقلة مراعاته . قال ابن عباس وابن زيد ) الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( التجارة فمن كان من الناظرين له مال يعيش به فالأحسن إذ أثمر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرها ، ومن كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه أنفق من ربح نظره . وقيل : الانتفاع بدوابه واستخدام جواريه لئلا يخرج الأولياء بالمخالطة ذكره المروزي . وقيل لا يأكل منه إلا قرضاً وهذا بعيد وأي أحسنية في هذا .
( حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ( هذه غاية من حيث المعنى لا من حيث هذا التركيب اللفظي ، ومعناه احفظوا على اليتيم ماله إلى بلوغ أشده فادفعوه إليه . وبلوغ الأشد هنا لليتيم هو بلوغ الحلم قاله الشعبي وزيد بن أسلم ويحيى بن يعمر وربيعة ومالك . وحكى ابن عطية عن الشعبي وربيعة ومالك وأبي حنيفة إنه البلوغ مع أنه لا يثبت فسقه وقد نقل في تفسير الأشد أقوال لا يمكن أن تجيء هنا وكأنها نقلت في قوله ) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ( فعن ابن عباس ما بين يماني عشرة إلى ثلاثين وعنه ثلاث وثلاثون ، وعن ابن جبير ومقاتل ثماني عشرة وعن السدي ثلاثون وعن الثوري أربع وثلاثون ، وعن عكرمة خمس وعشرون وعن عائشة أربعون وعن أبي العالية عقلة واجتماع قوته ، وعن بعضهم من خمسة عشر إلى ثلاثين وعن بعضهم ستون سنة ذكره البغوي . وأشد جمع شدة أو شد أو شد أو جمع لا واحد له من لفظه أو مفرد لا جمع له أقوال خمسة ، اختار ابن الأنباري في آخرين الأخير وليس بمختار لفقدان أفعل في المفردات وضعاً وأشد مشتق من الشدة وهي القوة والجلادة . وقيل : أصله الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع . قال عنترة :

" صفحة رقم 253 "
عهدي به شد النهار كأنما
خضب اللبان ورأسه بالعظلم
) وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ( أي بالعدل والتسوية . وقيل : القسط هنا أدنى زيادة ليخرج بها عن العهدة بيقين لما روي ( إذا وزنتم فأرجحوا ) .
( لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( أي إلا ما يسعها ولا تعجز عنه ، ولما كانت مراعاة الحد من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان يجري فيها الحرج ذكر بلوغ الوسع وإن ما وراءه معفو عنه ، فالواجب في إيفاء الكيل والميزان هو القدر الممكن وأما التحقيق فغير واجب قال معناه الطبري . وقيل : المعنى لا نكلف ما فيه تلفه وإن جاز كقوله : ) أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( فعلى هذا لا يكون راجعاً إلى إيفاء الكيل والميزان ، ولذلك قال ابن عطية : يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز لا أنه مطالب بغاية العدل في نفس الشيء المتصرف فيه .
( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ( أي ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة للقائل فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص ، ويدخل في ذي القربى نفس القائل ووالداه وأقربوه فهو ينظر إلى قوله : ) وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( أو الوالدين والأقربين ، وعنى بالقول هنا ما لا يطلع عليه إلا بالقول من أمر وحكم وشهادة زجر ووساطة بين الناس وغير ذلك لكونها منوطة بالقول ، وتخصيصه بالحكم أو بالأمر أو بالشهادة أقوال لا دليل عليها على التخصيص .
( وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ( ويحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي بما عهدكم الله عليه أوفوا وأن يكون مضافاً إلى المفعول أي بما عهدتم الله عليه . وقيل : يحتمل أن يراد به العهد بين الإنسانين وتكون إضافته إلى الله تعالى من حيث أمر بحفظه والوفاء به . قال الماتريدي : أمره ونهيه في التحليل والتحريم . وقال التبريزي بعهده يوم الميثاق . وقال ابن الجوزي : يشمل ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره .
( ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ولما كانت الخمسة المذكورة قبل هذا من الأمور الظاهرة الجلية وجب تعلقها وتفهمها فختمت بقوله : ) لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( وهذه الأربعة خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والذكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله : ) لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ). وقرأ حفص والأخوان ) تَذَكَّرُونَ ( حيث وقع بتخفيف الذال حذفت التاء إذ أصله تتذكرون ، وفي المحذوف خلاف أهي تاء المضارعة أو تاء تفعل . وقرأ باقي السبعة ) تَذَكَّرُونَ ( بتشديده أدغم تاء تفعل في الذال .
2 ( ) وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِىأَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِى

" صفحة رقم 254 "
الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِىإِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىإِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّىإِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاٌّ رْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( )
الأنعام : ( 153 ) وأن هذا صراطي . . . . .
وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ( قرأ الأخوان ) ( قرأ الأخوان ) وَأَنَّ هَاذَا ( بكسر الهمزة وتشديد النون على الاستئناف ، ( فَاتَّبَعُوهُ ( جملة معطوفة على الجملة المستأنفة . وقرأ الباقون بفتحها وخفف ابن عامر النون وشدّدها الباقون . وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق ) وَأَنْ ( كقراءة ابن عمر ، فأما تخفيف النون فعلى أنه خذف اسم أن وهو ضمير الشأن وخرجت قراءة فتح الهمزة على وجوه : أحدها : أن يكون تعليلاً حذف منها اللام تقديره ولأن هذا ) صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ( كقوله : ) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً ( وقد صرّح باللام في قوله ) لإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ ( ) فَلْيَعْبُدُواْ ). قال الفارسي : قياس قول سيبويه في فتح الهمزة أن تكون الفاء زائدة بمنزلتها في زيد فقام . الوجه الثاني : أن تكون معطوفة على ) أَن لا تُشْرِكُواْ ( أي أتل عليكم نفي الإشراك والتوحيد وأتل عليكم أن هذا صراطي وهذا على تقدير أن ) ءانٍ ( في ) أَن لا تُشْرِكُواْ ( مصدرية قاله الحوفي هكذا قرروا هذا الوجه فجعلوه معطوفاً على البدل مما حرم وهو أن لا تشركوا . وقال أبو البقاء : أنه معطوف على المبدل منه أي أتل الذي حرم وأتل أن هذا ) صِراطِي مُسْتَقِيمًا ( وهو تخريج سائغ في الكلام ، وعلى هذا فالصراط مضاف للمتكلم وهو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وصراطه هو صراط الله . الوجه الثالث : أن يكون في موضع جر عطفاً على الضمير في به قاله الفراء ، أي وصاكم به وبأن حذفت الباء لطول أن بالصلة . قال الحوفي : وهي مرادة ولا يكون في هذا عطف مظهر على مضمر لإرادتها . وقال أبو البقاء : هذا فاسد لوجهين . أحدهما : عطف المظهر على المضمر من غير إعادة الجار والثاني أنه يصير المعنى وصاكم باستقامة الصراط . وقرأ الأعمش : و ) هَاذَا صِراطِي ( وكذا في مصحف عبد الله ولما فصل في الآيتين قبل أجمل في هذه إجمالاً يدخل فيه جميع ما تقدم وجميع شريعته ، والإشارة بهذا إلى الإسلام أو القرآن أو ما ورد في هذه السورة لأنها كلها في التوحيد وأدلة النبوّة وإثبات الدين وإلى هذه الآيات التي اعقبتها هذه الآية لأنها المحكمات التي لم تنسخ في ملة من الملل أقوال أربعة . ) فَاتَّبَعُوهُ ( أمر باتباعه كله والمعنى : فاعملوا بمقتضاه من تحريم وتحليل وأمر ونهي وإباحة .
( وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ( قال ابن عباس : هي الضلالات ، قال مجاهد : البدع والأهواء والشبهات . وقال مقاتل : ما حرموا على أنفسهم من الأنعام والحرث . وقيل : سبل الكفر كاليهودية والنصرانية والمجوسية وما يجزي مجراهم في الكفر والشرك وفي مسند الدارمي عن ابن مسعود قال : خط لنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يوماً خطأ ثم قال : ( هذا سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه ويساره ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ) . ثم قرأ هذه الآية وعن جابر نحو منه في سنن ابن ماجة وانتصب فتفرق لأجل النهي جواباً له أي فتفرق فحذف التاء . وقرىء ) فَتَفَرَّقَ ( بتشديد التاء .
( ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( كرر التوصية على سبيل التوكيد ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر تعالى باتباعه ونهى عن بنيات الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاد

" صفحة رقم 255 "
النار ، إذ من اتبع صراطه نجاه النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية . قال ابن عطية : ومن حيث كانت المحرمات الأول لا يقع فيها عاقل قد نظر بعقله جاءت العبادة ) لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( والمحرمات الأخر شهوات وقد يقع فيها من العقلاء من لم يتذكر وركوب الجادة الكاملة تتضمن فعل الفضائل وتلك درجة التقوى .
الأنعام : ( 154 ) ثم آتينا موسى . . . . .
( ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( ) ثُمَّ ( تقتضي المهلة في الزمان هذا أصل وضعها ثم تأتي للمهلة في الإخبار . فقال الزجاج : هو معطوف على أتل تقديره أتل ما حرم ثم أتل ) ءاتَيْنَا ). وقيل : معطوف على ) قُلْ ( على إضمار قل أي ثم قال ) ءاتَيْنَا ). وقيل : التقدير ثم إني أخبركم إنا آتينا . وقال الحوفي : رتبتم التلاوة أي تلونا عليكم قصة محمد ثم نتلو عليكم قصة موسى . وقال ابن عطية : مهلتها في ترتيب القول الذي أمر به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) كأنه قال : ثم مما وصينا ) أَنَاْ مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا ( ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه السلام متقدم بالزمان على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن القشيري : في الكلام محذوف تقديره ثم كنا قد ) مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا ( قبل إنزالنا القرآن على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الزمخشري عطف على ) وَصَّاكُمْ بِهِ ( ( فإن قلت ) : كيف صح عطفه عليه بثم والإيتاء قبل التوصية بدهر طويل ؟ ( قلت ) : هذه التوصية قديمة لم تزل تواصاها كل أمة على لسان نبيها كما قال ابن عباس : محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب فكأنه قيل : ) ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ( يا بني آدم قديماً وحديثاً ثم أعظم من ذلك ) أَنَاْ مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا ( وأنزلنا هذا الكتاب المبارك ؟ وقيل : هو معطوف على ما تقدّم قبل شطر السورة من قوله : ) وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ( ؛ انتهى . وهذه الأقوال كلها متكلفة والذي ينبغي أن يذهب إليه أنها استعملت للعطف كالواو من غير اعتبار مهلة ، وقد ذهب إلى ذلك بعض النحاة و ) الْكِتَابِ ( هنا التوراة بلا خلاف وانتصب تماماً على المفعول له أو على المصدر أتممناه تماماً مصدر على حذف الزوائد أو على الحال إما من الفاعل والمفعول وكل قد قيل . وقيل : معنى ) بِمَا مَرَّ ( أي دفعة واحدة لم نفرق إنزاله كما فرقنا إنزال القرآن قاله أبو سليمان الدمشقي . والذي أحسن جنس أي على من كان محسناً من أهل ملته قاله مجاهد أي إتماماً للنعمة عندهم . وقيل : المراد بالذي أحسن مخصوص . فقال الماوردي : إبراهيم كانت نبوة موسى نعمة على إبراهيم لأنه من ولده والإحسان للأبناء إحسان للآباء . وقيل : موسى عليه السلام تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به ، والذي في هذه التأويلات واقعة على من يعقل . وقال ابن الأنباري : ) تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ ( موسى من العلم وكتب الله القديمة ونحو منه قول ابن قتيبة ، قال : معنى الآية ) تَمَامًا ( على ما كان أحسن من العلم والحكمة من العلم والحكمة من قولهم : فلان يحسن كذا أي يعلمه . وقال الزمخشري في هذا التأويل : ) تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ ( موسى من العلم والشرائع من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته أي زيادة على علمه على وجه التتميم ؛ انتهى . وقال ابن عطية : على ما أحسن هو من عبادة ربه والاضطلاع بأمور نبوته يريد موسى عليه السلام هذا تأويل الربيع وقتادة ؛ انتهى . والذي في هذا التأويل واقعة على غير العاقل . وقيل : ) الَّذِى ( وهو قول كوفي وفي ) هُمْ أَحْسَنُ ( ضمير موسى أي تماماً على إحسان موسى بطاعتنا وقيامه بأمرنا ونهينا ، ويكون في على إشعار بالعلية كما تقول : أحسنت إليك على إحسانك إليّ . وقيل : الضمير في ) أَحْسَنُ ( يعود على الله تعالى وهذا قول ابن زيد ، ومتعلق الإحسان إلى أنبيائه أو إلى موسى قولان : وأحسن ما في هذه الأقوال كلها فعل . وقال بعض نحاة الكوفة : يصح أن يكون ) أَحْسَنُ ( اسماً وهو أفعل التفضيل وهو مجرور صفة للذي وإن كان نكرة من حيث

" صفحة رقم 256 "
قارب المعرفة إذ لا يدخله أل كما تقول العرب : مررت بالذي خير منك ، ولا يجوز مررت بالذي عالم ؛ انتهى . وهذا سائغ على مذهب الكوفيين في الكلام وهو خطأ عند البصريين . وقرأ يحيى بن معمرو ابن أبي إسحاق ) أَحْسَنُ ( برفع النون وخرج على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أحسن و ) أَحْسَنُ ( خبر صلة كقراءة من قرأ مثلاً مّا بعوضة أي تماماً على الذي هو أحسن دين وأرضاه أو تامّاً كاملاً على أحسن ما تكون عليه الكتب ، أي على الوجه والطريق الذي هو أحسن ما تكون عليه الكتب ، أي على الوجه والطريق الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي : أتم له الكتاب على أحسنه . وقال التبريزي : ) الَّذِى ( هنا بمعنى الجمع وأحسن صلة فعل ماض حذف منه الضمير وهو الواو فبقي أحسن أي على الذين أحسنوا ، وحذف هذا الضمير والاجتزاء بالضمة تفعله العرب . قال الشاعر :
فلو أن الأطباء كان حولي
وقال آخر : إذا شاؤوا أضروا من أرادوا
ولا يألوهم أحد ضرارا
وقال آخر :
شبوا على المجد شابوا واكتهل
يريدوا كتهلوا فحذف الواو ثم حذف الضمير للوقف ؛ انتهى . وهذا خصه أصحابنا بالضرورة فلا يحمل كتاب الله عليه ) وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( أي لعلهم بالبعث يؤمنون ، فالإيمان به هو نهاية التصديق إذ لا يجب بالعقل لكنه يجوز في العقل وأوجبه السمع وانتصاب ) تَفْصِيلاً ( وما بعده كانتصاب ) تَمَامًا ).
الأنعام : ( 155 ) وهذا كتاب أنزلناه . . . . .
( وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( هذا إشارة إلى القرآن و ) أَنزَلْنَاهُ ( و ) مُّبَارَكٌ ( صفتان لكتاب أو خبران عن هذا على مذهب من يجيز تعداد الأخبار ، وإن لم يكن في معنى خبر واحد وكان الوصف بالإنزال آكد من الوصف بالبركة فقدم لأن الكلام مع من ينكر رسالة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وينكر إنزال الكتب الإلهية وكونه مباركاً عليهم هو وصف حاصل لهم منه متراخ عن الإنزال فلذلك تأخر الوصف بالبركة ، وتقدم الوصف بالإنزال وكان الوصف بالفعل المسند إلى نون العظمة أولى من الوصف بالاسم لما يدل الإسناد إلى الله تعالى من التعظيم والتشريف ، وليس ذلك في الاسم لو كان التركيب منزل أو منزل منا وبركة القرآن بما يترتب عليه من النفع والنماء بجمع كلمة العرب به والمواعظ والحكم والإعلام بأخبار الأمم السالفة والأجور التالية والشفاء من الأدواء . والشفاعة لقارئه وعده من أهل الله وكونه مع المكرمين من الملائكة وغير ذلك من البركات التي لا تحصى ، ثم أمر الله تعالى باتباعه وهو العمل بما فيه والانتهاء إلى ما تضمنه والرجوع إليه عند المشكلات ، والظاهر في قوله : ) وَاتَّقَوْاْ ( أنه أمر بالتقوى العامة في جميع الأشياء . وقيل : ) وَاتَّقَوْاْ ( مخالفته لرجاء الرحمة وقال التبريزي اتقوا غيره فانه منسوخ وقال التبريزي في كلام اشارة وهو وصف الله التوراة بالتمام والتمام يؤذن بالانصرام . قال الشاعر : إذا تم أمر بدا نقصه
توقع زوالاً إذا قيل تم

" صفحة رقم 257 "
فنسخها الله بالقرآن ودينها بالإسلام ووصف القرآن بأنه مبارك في مواضع كثيرة ، والمبارك هو الثابت الدائم في ازدياد وذلك مشعر ببقائه ودوامه .
الأنعام : ( 156 ) أن تقولوا إنما . . . . .
( أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ( ) أَن تَقُولُواْ ( مفعول من أجله فقدره الكوفيون لئلا تقولوا ولأجل أن لا تقولوا وقدره البصريون كراهة ) أَن تَقُولُواْ ( والعامل في كلا المذهبين ) أَنزَلْنَاهُ ( محذوفة يدل عليها قوله قبل ) أَنزَلْنَا ( ، ولا يجوز أن يكون العامل ) أَنزَلْنَاهُ ( هذه الملفوظة بها للفاصل بينهما وهو مبارك الذي هو وصف لكتاب أو خبر عن هذا فهو أجنبي من العامل والمعمول . وظاهر كلام ابن عطية أن العامل فيه ) أَنزَلْنَاهُ ( الملفوظ بها . وقيل : ) أَن تَقُولُواْ ( مفعول والعامل فيه ) وَاتَّقَوْاْ ( أي ) وَاتَّقَوْاْ أَن تَقُولُواْ ( لأنه لا حجة لكم فيه والكتاب هنا جنس والطائفتان هما أهل التوراة والإنجيل اليهود والنصارى بلا خلاف ، والخطاب متوجه إلى كفار قريش بإثبات الحجة عليهم بإنزال هذا الكتاب لئلا يحتجوا هم وكفار العرب بأنهم لم يكن لهم كتاب فكأنه قيل : وهذا القرآن يا معشر العرب أنزل حجة عليكم لئلا تقولوا : إنما أنزلت التوراة والإنجيل بغير لساننا على غيرنا ونحن لم نعرف ذلك فهذا كتاب بلسانكم مع رجل منكم . وقرأ ابن محيصن : أن يقولوا بياء الغيبة ويعني كفار قريش . وقال الماتريدي : المعنى إنما ظهر نزول الكتاب عند الخلق على طائفتين من قبلنا ولم يكونوا وقت نزل التوراة والإنجيل يهوداً ولا نصارى ، وإنما حدث لهما هذان الاسمان لما حدث منهما و ) دِرَاسَتِهِمْ ( قراءتهم ودرسهم والمعنى عن مثل ) دِرَاسَتِهِمْ ( وأعاد الضمير جمعاً لأن كل طائفة منهم جمع كما أعاده في قوله : ) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( وإن هنا هي المخففة من الثقيلة . وقال الكوفيون : إن نافية واللام بمعنى إلا والتقدير وما كنا عن دراستهم إلا غافلين . وقال قطرب : في مثل هذا التركيب إن بمعنى قد واللام زائدة وليس هذا الخلاف مقصوراً عل ما في هذه الآية ، بل هو جار في شخصيات هذا التركيب وتقريره في علم النحو . وقال الزمخشري : ) وَإِن كُنَّا ( هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والأصل ) وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ ( غافلين على أن الهاء ضمير ؛ انتهى . وما ذهب إليه من أن أصله ) وَإِن كُنَّا ( والهاء ضمير الشأن يلزم منه أن إن المخففة من الثقيلة عاملة في مضمر محذوف حالة التخفيف كما قال النحويون في أن المخففة من الثقيلة والذي نص عليه أن إن المخففة من الثقيلة إذا لزمت اللام في أحد الجزءين بعدها أو في أحد معمولي الفعل الناسخ الذي يليها ، إنها مهملة لا تعمل في ظاهر ولا مضمر لا مثبت ولا محذوف فهذا الذي ذهب إليه مخالف للنصوص وليست إذا وليها الناسخ داخلة في الأصل على ضمير شأن البتة . و ) عَن دِرَاسَتِهِمْ ( متعلق بقوله : ) الْغَافِلِينَ ( وهذا يدل على بطلان مذهب الكوفيين في دعواهم أن اللام بمعنى إلا ولا يجوز أن يعمل ما بعد إلا فيما قبلها ، وكذلك اللام التي بمعناها ولهم أن يجعلوا عنها متعلقاً بمحذوف ويدل أيضاً على أن اللام لام ابتداء لزمت للفرق ، فجاز أن يتقدم معمولها عليها لما وقعت في غير ما هو لها أصل كما جاز ذلك في أن زيداً طعامك لآكل حيث وقعت في غير ما هو لها أصل ولم يجز ذلك فيها إذا وقعت فيما هو لها أصل وهو دخولها على المبتدأ .
الأنعام : ( 157 ) أو تقولوا لو . . . . .
( أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ ( انتقال من الأخبار لحصر إنزال الكتاب على غيرهم وأنه لم ينزل عليهم إلى الأخبار بحكم على تقدير والكتاب يجوز أن يراد به الكتاب السابق ذكره ، ويجوز أن يراد الكتاب الذي تمنوا أن ينزل على هم ومعنى ) أَهْدَى مِنْهُمْ ( أرشد وأسرع اهتداء لكونه نزل علينا بلساننا فنحن نتفهمه ونتدبره وندرك ما تضمنه من غير إكداد فكر ولا تعلم لسان بخلاف الكتاب الذي أنزل على الطائفتين ، فإنه بغير لساننا فنحن لا نعرفه ولا نغفل عن دراسته أو ) أَهْدَى مِنْهُمْ ( لكون اليهود والنصارى قد افترقت فرقاً متباينة فلا نعرف الحق من الباطل .
( فَقَدْ جَاءكُمْ

" صفحة رقم 258 "
بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ( هذا قطع لاعتذارهم بانحصار إنزال الكتاب على الطائفتين وبكونهم لم ينزل عليهم كتاب ، ولو نزل لكانوا أهدى من الطائفتين . والظاهر أن البينة هي القرآن وهو الحجة الواضحة الدالة النيرة حيث نزل عليهم بلسانهم وألزم العالم أحكامه وشريعته وإن الهدى والنور من صفات القرآن . وقيل : البينة الرسول قاله ابن عباس ) بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ ( أي حجة وهو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) والقرآن . وقيل : آيات الله التي أظهرها في كتابه وعلى لسان رسوله . وقيل : دين الله والهدى والنور على هذه الأقوال من صفات ما فسرت البينة به والفاء في قوله : ) فَقَدْ جَاءكُمُ ( على ما قدره الزمخشري وغيره جواب شرط محذوف . قال الزمخشري : والمعنى إن صدقتم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم ) فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ ( فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف ؛ انتهى . وقدره غيره إن كنتم كما تزعمون إذا نزل عليكم كتاب تكونون أهدى من اليهود والنصارى ، ( فَقَدْ جَاءكُمُ ( وأطبق المفسرون على أن الغرض بهذه الجملة إقامة الحجة على مشركي العرب وقطع احتجاجهم .
( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا ( أي بعد مجيء البينة والهدى والنور لا يكون أحد أشد ظلماً من المكذب بالأمر الواضح النير الذي لا شبهة فيه والمعرض عنه بعدما لاحت له صحته وصدقه وعرفه أو تمكن من معرفته ، وتأخر الإعراض لأنه ناشىء عن التكذيب والإعراض عن الشيء هو بعد رؤيته وظهوره . وقيل : قبل الفاء شرط محذوف تقديره فإن كذبتم فلا أحد أظلم منكم وآيات الله يحتمل أن يراد بها القرآن والرسول والأولى أن يحمل على العموم ، ( وَصَدَفَ ( لازم بمعنى أعرض وقد شرحناه على هذا المعنى ومتعدّ أي صدف عنها غيره بمعنى صده وفيه مبالغة في الذمّ حيث ) كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ ( وجعل غيره يعرض عنها ويكذب بها . وقرأ ابن وثاب وابن أبي عبلة ) مِمَّن كَذَّبَ ( بتخفيف الذال .
( سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوء الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ( علق الجزاء على الصدوف لأنه هو ناشىء عن التكذيب ، و ) سُوء الْعَذَابِ ( شديده كقوله ؛ ) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ( وقرأت فرقة ) يَصْدِفُونَ ( بضم الدال .
الأنعام : ( 158 ) هل ينظرون إلا . . . . .
( هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءايَاتِ رَبّكَ ( الضمير في ) يُنظَرُونَ ( عائد على الذين قيل لهم ) فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ ( وهم العادلون بربهم من العرب الذين مضى أكثر السورة في جدالهم أي ما ينتظرون ) إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ ( إلى قبض أرواحهم وتعذيبها وهو وقت لا تنفع فيه توبتهم وهو قول مجاهد وقتادة وابن جريج . وقيل : ) أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ ( الذين ينصرفون يوم القيامة يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين . وقيل : ذلك إشارة إلى قولهم : أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً أي رسلاً من الله إليهم كما تمنوا ، أو يأتي أمر ربك فيهم بالقتل أو غيره قاله ابن عباس . وقال مجاهد ) أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ ( بعلمه وقدرته بلا أين ولا كيف لفصل القضاء بين خلقه في الموقف يوم القيامة . وقال الزجاج : أو أتي إهلاك ربك إياهم . قال ابن عطية : وعلى كل تأويل فإنما هو بحذف مضاف تقديره أمر ربك وبطش وحساب ربك ، وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل في حق الله تعالى ألا ترى أن الله تعالى يقول : ) فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ( فهذا إتيان قد وقع وهو على المجاز وحذف المضاف . وقال الزمخشري : ) أَوْ يَأْتِىَ ( كل آيات ربك بدليل قوله : ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ ( يريد آيات القيامة والهلاك الكلي و ) بَعْضُ ءايَاتِ رَبّكَ ( أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها وغيرها ؛ انتهى . وقال ابن مسعود وابن عمر ومجاهد وقتادة والسدي : إنه طلوع الشمس من مغربها ورواه أبو سعيد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وفي الصحيحين عنه عليه السلام ( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من

" صفحة رقم 259 "
مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمن من عليها فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ) . وقال ابن مسعود فيما روى عنه مسروق : طلوع الشمس والقمر من مغربهما . وقيل : إحدى الآيات الثلاث طلوع الشمس من مغربها والدابة وفتح يأجوج ومأجوج رواه القاسم عن ابن مسعود . وقال أبو هريرة : طلوعها والدجال والدابة وفتح يأجوج ومأجوج . وقيل : العشر الآيات التي في حديث البراء طلوع الشمس من مغربها والدجال والدابة وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ، ونزول عيسى وفتح يأجوج ومأجوج ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر . والظاهر أنهم توعدوا بالشيء العظيم من أشراط الساعة ليذهب الفكر في ذلك كل مذهب لكن أتى بعد ذلك الإخبار عنه عن هذا البعض بعدم قبول التوبة فيه إذا أتى ، وتصريح الرسول بأن طلوع الشمس من مغربها وقت لا تنفع فيه التوبة فيظهر أنه هذا البعض ويحتمل أن يكون هذا البعض غرغرة الإنسان عند الموت فإنها تكون في وقت لا تنفع فيه التوبة . قال تعالى : ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ إِنّى تُبْتُ الاْنَ ( وفي الحديث أن توبة العبد تقبل ما لم يغرغر ويحتمل أن يكون قوله : ) يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَاتِ رَبّكَ ( غير قوله : ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ ( فيكون هذا عبارة عن ما يقطع بوقوعه من أشراط الساعة ويكون قوله ) وَيَوْمَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن ( فيه وصف محذوف يدل عليه المعنى تقديره ) يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَاتِ رَبّكَ ( التي يرتفع معها التوبة . وثبت بالحديث الصحيح أن طلوع الشمس من مغربها وقت لا تقبل فيه التوبة ويدل على التغاير إعادة آيات ربك إذ لو كانت هذه تلك لكان التركيب يوم يأتي بعضها أي بعض آيات ربك .
( يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَاتِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا ( منطوق الآية أنه إذا أتى هذا البعض ) لاَ يَنفَعُ نَفْسًا ( كافرة إيمانها الذي أوقعته إذ ذاك و ) لاَ يَنفَعُ نَفْسًا ( سبق إيمانها وما كسبت فيه خيراً فعلق نفي الإيمان بأحد وصفين : إمّا نفي سبق الإيمان فقط وإمّا سبقه مع نفي كسب الخير ، ومفهومه أنه ينفع الإيمان السابق وحده أو السابق ومعه الخير ومفهوم الصفة قوي فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة من أن الإيمان لا يشترط في صحته العمل . وقال الزمخشري : ) مِن قَبْلُ أَوْ ( صفة لقوله : ) نَفْساً ( وقوله : ) أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا ( عطف على ) ءامَنتُ ( والمعنى أن أشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة مضطرة ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات أو مقدمة إيمانها غير كاسبة خيراً في إيمانها ، فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان وبين النفس التي آمنت في وقتها ولم تكسب خيراً ليعلم أن قوله : ) الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( جمع بين قرينتين لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى حتى يفوز صاحبها ويسعد وإلا فالشقاوة والهلال ؛ انتهى . وهو جار على مذهبه الاعتزالي . وقرأ الأخوان : إلا أن يأتيهم بالياء . وقرأ ابن عمرو وابن سيرين وأبو العالية يوم تأتي بعض بالتاء مثل تلتقطه بعض السيارة وابن سيرين لا تنفع نفساً . قال أبو حاتم : ذكروا أنها غلط منه . وقال النحاس : في هذا شيء دقيق ذكره سيبويه وذلك إن الإيمان والنفس كل منهما مشتمل على الآخر فأنث الإيمان إذ هو منن النفس وبها وأنشد سيبويه رحمه الله : مشين كما اهتزت رماح تسفهت
أعاليها مرّ الرياح النواسم

" صفحة رقم 260 "
انتهى .
وقال الزمخشري : وقرأ ابن سيرين لا تنفع بالتاء لكون الإيمان مضافاً إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه لقوله : ذهبت بعض أصابعه ؛ انهى . وهو غلط لأن الإيمان ليس بعضاً للنفس ويحتمل أن يكون أنث على معنى الإيمان وهو المعرفة أو العقيدة ، فكان مثل جاءته كتابي فاحتقرها على معنى الصحيفة ونصب يوم تأتي بقوله : ) لاَّ ينفَعُ ( وفيه دليل على تقدّم معمول الفعل المنفي بلا على لا خلافاً لمن منع . وقرأ زهي القروي ) يَوْمَ يَأْتِى ( بالرفع والخبر ) لاَّ ينفَعُ ( والعائد محذوف أي لا ينفع فيه وإن لم يكن صفة وجاز الفصل بالفاعل بين الموصوف وصفته لأنه ليس بأجنبي إذ قد اشترك الموصوف الذي هو المفعول والفاعل في العامل ، فعلى هذا يجوز ضرب هنداً غلامها التميمية ومن جعل الجملة حالاً أبعد ومن جعلها مستأنفة فهو أبعد .
( قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ( أي انتظروا ما تنتظرون ) إِنَّا مُنتَظِرُونَ ( ما يحل بكم وهو أمر تهديد ووعيد من قال : إنه أمر بالكف عن القتال فهو منسوخ عنده بآية السيف .
الأنعام : ( 159 ) إن الذين فرقوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ( لما ذكر تعالى أن صراطه مستقيم ونهى عن اتباع السبل وذكر موسى عليه السلام وما أنزل عليه وذكر القرآن وأمر باتباعه وذكر ما ينتظر الكفار مما هو كائن بهم ، انتقل إلى ذكر من اتبع السبل فتفرّقت به عن سبيل الله لينبه المؤمنين على الائتلاف على الدين القويم ، ولئلا يختلفوا كما اختلف من قبلهم من الأمم بعد أن كانوا متفقين على الشرائع التي بعث أنبياؤهم بها والذين فرّقوا دينهم الحرورية أو أهل الضلالة من هذه الأمّة أو أصحاب البدع أو الأهواء منهم ، وهو قول الأحوص وأمّ سلمة أو اليهود أو هم والنصارى وهو قول ابن عباس والضحاك وقتادة ، أي فرّقوا قوادين إبراهيم الحنيف أو هم مشركو العرب أو الكفار وأهل البدع أقوال ستة . وافتراق النصارى إلى ملكية ويعقوبية ونسطورية وتشعبوا إلى اثنين وسبعين فرقة وافتراق اليهود إلى موسوية وهارونية وداودية وسامرية وتشعبوا إلى اثنين وسبعين فرقة ، وافتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا من كان على ما عليه الرسول وأصحابه . وقيل : معنى ) فَرَّقُواْ دِينَهُمْ ( آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وأضاف الدين إليهم من حيث كان ينبغي أن يلتزموه إذ هو دين الله الذي ألزمه العباد فهو دين جميع الناس بهذا الوجه . وقرأ عليّ والأخوان فارقوا هنا وفي الروم بألف ومعناها قريب من قراءة باقي السبعة بالتشديد تقول ضاعف وضعف . وقيل : تركوه وباينوه ، ومن فرق دينه فآمن ببعض وكفر ببعض فقد فارق دينه المطلوب منه . وقرأ إبراهيم والأعمش وأبو صالح ) فَرَّقُواْ ( بتخفيف الراء ) وَكَانُواْ شِيَعاً ( أي أحزاباً كل منهم تابع لشخص لا يتعداه ) لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء ( أي لست من تفريق دينهم أو من عقابهم أو من قتالهم ، أو هو إخبار عن المباينة التامّة والمباعدة كقول النابغة : إذا حاولت في أسد فجورا
فإني لست منك ولست مني
احتمالات أربعة . وقال ابن عطية : أي لا تشفع لهم ولا لهم بك تعلق وهذا على الإطلاق في الكفار وعلى جهة المبالغة في العصاة والمتنطعين في الشرع إذ لهم حظ من تفريق الدين ، ولما نفى كونه منهم في شيء حصر مرجع أمرهم من هلاك أو واستقامة إليه تعالى وأخبر أنه مجازيهم بأفعالهم وذلك وعيد شديد لهم . وقال السدّي : هذه آية لم يؤمر فيها بقتال وهي منسوخة بالقتال . قال ابن عطية : وهذا كلام غير متقن فإن الآية خبر لا يدخله نسخ ولكنها تضمنت بالمعنى أمراً بموادعة فيشبه أن يقال : إن النسخ وقع في ذلك المعنى الذي قد تقرر في آيات أخر .

" صفحة رقم 261 "
الأنعام : ( 160 ) من جاء بالحسنة . . . . .
( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( روى الخدري وابن عمر أنها نزلت في الأعراب الذين آمنوا بعد الهجرة ضوعفت لهم الحسنة بعشر وضوعف للمهاجرين تسعمائة ذكره ابن عطية . وقال : يحتاج إلى إسناد يقطع العذر ؛ انتهى . ولما ذكر أنه ينبئهم بفعلهم ذكر كيفية المجازاة ولما كان قوله : ) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ ( مشعراً بقسيمة ممن ثبت على دينه قسم المجازين إلى جاء بحسنة وجاء بسيئة ، وفسرت الحسنة بالإيمان وعشر أمثالها تضعيف أجوره أي ثواب عشر أمثالها في الجنة ، وفسرت السيئة بالكفر ومثلها النار وهذا مروي عن الخدري وابن عمر . وقال ابن مسعود ومجاهد والقسم بن أبيّ بزة وغيرهم : الحسنة هنا لا إله إلا الله والسيئة الكفر ، والظاهر أن العدد مراد . وقال الماتريدي : ليس على التحديد حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه بل على التعظيم لذلك إذ هذا العدد له خطر عند الناس أو على التمثيل كقوله : ) كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاْرْضِ ). وقال : ) مَن جَاء ( ولم يقل من عمل ليعلم أن النظر إلى ما ختم به وقبض عليه دون ما وجد منه من العمل فكأنه قال : من ختم له بالحسنة وكذلك السيئة ؛ انتهى . وأنث عشراً وإن كان مضافاً إلى جمع مفرد مثل وهو مذكر رعياً للموصوف المحذوف ، إذ مفرده مؤنث والتقدير فله عشر حسنات أمثالها ونظيره في التذكير مررت بثلاثة نسابات راعى الموصوف المحذوف أي بثلاثة رجال نسابات . وقيل : أنث عشراً وإن كان مضافاً إلى ما مفرده مذكر لإضافة أمثال إلى مؤنث وهو ضمير الحسنة كقوله : ) يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ( قاله أبو عليّ وغيره . وقيل : الحسنة والسيئة عامان وهو الظاهر وليسا مخصوصين بالكفر والإيمان ويكون ) وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ ( مخصوصاً بمن أراد الله تعالى وقضى بمجازاته عليها ، ولم يقض أن يغفر له وكونه له عشر أمثالها لا يدل على أنه يزاد إن كان مفهوم العدد قوياً في الدلالة إذ تكون العشر هي الجزاء على الحسنة وما زاد فهو فضل من الله كما قال والله يضاعف لمن يشاء . وقرأ الحسن وابن جبير وعيسى بن عمر والأعمش ويعقوب والقزاز عن عبد الوارث عشر بالتنوين أمثالها بالرفع على الصفة لعشر ولا يلزم من المثلية أن يكون في النوع بل يكتفي أن يكون في قدر مشترك ، إذ النعيم السرمدي والعذاب المؤبد ليسا مشتركين في نوع ما كان مثلاً لهما لكن النعيم مشترك مع الحسنة في كونهما حسنتين والعذاب مشترك مع

" صفحة رقم 262 "
السيئة في كونهما يسوءان ، وظاهر من جاء العموم . وقيل : يختص بالأعراب الذين أسلموا كما ذكر في سبب النزول . وقيل : بمن آمن من الذين فرقوا دينهم . وقيل : بهذه الأمة وهي أدنى المضاعفة . وقيل : العشر على بعض الأعمال والسبعون على بعضها ) وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( لا ينقص من ثوابهم ولا يزاد في عقابهم .
الأنعام : ( 161 ) قل إنني هداني . . . . .
( قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( أمره تعالى بالإعلان بالشريعة ونبذ ما سواها ووصفها بأنها طريق مستقيم لا عوج فيها وهو إشارة إلى قوله : ) وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ( ولما تقدم ذكر الفرق أمره أن يخبر أنه ليس من تلك الفرق بل هو على الصراط المستقيم وأسند الهداية إلى ربه ليدل على اختصاصه بعبادته إياه كأنه قيل : هداني معبودي لا معبودكم من الأصنام ومعنى ) هَدَانِى ( خلق فيّ الهداية . وقال بعض المعتزلة : دلني . قال الماتريدي : وهذا باطل إذ لا فائدة في تخصيصه لأن الناس كلهم كذلك .
( دِينًا قِيَمًا ( بالحق والبرهان .
( مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( أذكرهم أن هذا الدين الذي هو عليه هو ملة إبراهيم وهو النبيّ الذي يعظمه أهل الشرائع والديانات وتزعم كفار قريش أنهم على دينه ، فرد تعالى عليهم بقوله : ) وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( وانتصب ) دِينًا ( على إضمار عرفني لدلالة هداني عليه أو بإضمار هداني أو بإضمار اتبعوا وألزموا ، أو على أنه مصدر لهداني على المعنى كأنه قال : اهتداء أو على البدل من إلى صراط على الموضع لأنه يقال : هديت القوم الطريق . قال الله تعالى : ) وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ). وقرأ الكوفيون وابن عامر قيماً وتقدم توجيهه في أوائل سورة النساء . وقرأ باقي السبعة قيماً كسيد وملة بدل من قوله : ) دِينًا ( و ) حَنِيفاً ( تقدم إعرابه في قوله : ) بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( في سورة البقرة . وقال ابن عطية : و ) حَنِيفاً ( نصب على الحال من إبراهيم .
الأنعام : ( 162 ) قل إن صلاتي . . . . .
( قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الظاهر أن الصلاة هي التي فرضت عليه . وقيل : صلاة الليل . وقيل : صلاة العيد لمناسبة النسك . وقيل : الدعاء والتذلل والنسك يطلق على الصلاة أيضاً وعلى العبادة وعلى الذبيحة ، وأما في الآية فقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد وابن قتيبة : هي الذبائح التي تذبح لله وجمع بينهما كما قال : فصلّ لربك وانحر ويؤيد ذلك أنها نازلة قد تقدّم ذكرها ، والجدال فيها في السورة . وقال الحسن : الدين والمذهب . وقيل : العبادة الخالصة ومعنى ) وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ ( أنه لا يملكهما إلى الله أو حياتي لطاعته ومماتي رجوعي إلى جزائه أو ما آتيه في حياتي من العمل الصالح وما أموت عليه من الإيمان لله ثلاثة أقوال . وقال أبو عبد الله الرازي : معنى كونهما لله لخلق الله وهذا يدل على أن طاعة العبد مخلوقة لله انتهى . وقال ابن عطية : أمره تعالى أن يعلن أن مقصده في صلاته وطاعاته من ذبيحة وغيرها وتصرفه مدّة حياته وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله عز وجل وإرادة وجهه وطلبه رضاه ، وفي إعلان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به حتى يلزموا في جميع أعمالهم قصد وجهه عز وجل وله تصرفه في جميع ذلك كيف شاء . وقرأ الحسن وأبو حيوة ) وَنُسُكِى ( بإسكان السين وما روي عن نافع من سكون ياء المتكلم في ) محياي ( هو جمع بين ساكنين أجرى الوصل فيه مجرى الوقف والأحسن في العربية الفتح . قال أبو علي : هي شاذة في القياس لأنها جمعت بين ساكنين وشاذة في الاستعمال ووجهها أنه قد سمع من العرب التقت حلقتا البطان ولفلان بيتا المال ، وروى أبو خالد عن نافع ) وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ ( بكسر الياء . وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري ومحيي على لغة هذيل كقول أبي ذؤيب .
سبقوا هويّ

" صفحة رقم 263 "
وقرأ عيسى بن عمر ) صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى ( بفتح الياء وروي ذلك عن عاصم من سكون ياء المتكلم .
الأنعام : ( 163 ) لا شريك له . . . . .
( لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( الظاهر نفي كل شريك فهو عام في كل شريك فتخصيص ذلك بما قيل من أنه لا شريك له في العالم أو لا شريك له فيما أتقرب به من العبادة أو لا شريك له في الخلق والتدبير أو لا شريك فيما شاء من أفعاله الأولى بها أن تكون على جهة التمثيل لا على التخصيص حقيقة ، والإشارة بذلك إلى ما بعد الأمرين ) قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى ( ) قُلْ إِنَّ صَلاَتِى ( وما بعدها أو إلى قوله : ) لاَ شَرِيكَ لَهُ ( فقط أقوال ثلاثة أظهرها الأول ، والألف واللام في المسلمين للعهد ويعني به هذه الأمة لأن إسلام كل نبي سابق على إسلام أمته لأنهم منه يأخذون شريعته قاله قتادة . وقيل : من العرب . وقيل : من أهل مكة . وقال الكلبي : أولهم في هذا الزمان . وقيل : أولهم في المزية والرتبة والتقدّم يوم القيامة . وقيل : مذ كنت نبياً كنت مسلماً كنت نبياً وآدم بين الماء والطين . وقال أبو عبد الله الرازي : معناه من المسلمين لقضاء الله وقدره إذ من المعلوم أنه ليس أولاً لكل مسلم ؛ انتهى . وفيه إلغاء لفظ أول ولا تلغى الأسماء والأحسن من هذه الأقوال القول الأول .
الأنعام : ( 164 ) قل أغير الله . . . . .
( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبّا وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْء ( حكى النقاش أنه روي أنّ الكفار قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ارجع يا محمد إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفّل لك بكل ما تريد في دنياك وآخرتك فنزلت هذه الآية والهمزة للاستفهام ومعناه الإنكار والتوبيخ وهو رد عليهم إذ دعوه إلى آلهتهم والمعنى أنه كيف يجتمع لي دعوة غير الله رباً وغيره مربوب له . ) وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ( أي ولا تكسب كل نفس شيئاً يكون عاقبته على أحد إلا عليها . ) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( أي لا تذنب نفس مذنبة ذنب نفس أخرى والمعنى لا تئاخذ بغيروزرها فهو تأكيد للجملة قبله وهو جواب لقولهم اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم .
( ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( أي مرجعكم إليه يوم القيامة والتنبئة عبارة عن الجزاء والذي اختلفوا فيه هو من الأديان والمذاهب يجازيكم بما ترتب عليها من الثواب والعقاب وسياق هذه الجمل سياق الخبر والمعنى على الوعيد والتهديد ، وقيل : بما كنتم فيه تختلفون في أمري من قول بعضكم هو شاعر ساحر وقول بعضك افتراه وبعضكم اكتتبه ونحو هذا .
الأنعام : ( 165 ) وهو الذي جعلكم . . . . .
( وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاْرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَاكُمُ ). أذكرهم تعالى بنعمته عليهم إذ كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) المبعث وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) خاتم النبيين فأمّته خلفت سائر الأمم ولا يجيء بعدها أمّة تخلفها إذ عليهم تقوم الساعة ، وقال الحسن : إن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال ( توفون سبعين أمّة أنتم خيرها وأكرمها على الله ) ، وروى ( أنتم آخرها وأكرمها على الله ) ورفع الدّرجات هو بالشرف في المراتب الدنيوية والعلم وسعة الرزق وليبلوكم متعلق بقوله ورفع فيما آتاكم من ذلك جاهاً ومالاً وعلماً وكيف تكونون في ذلك ، وقيل : الخطاب لبني آدم خلفوا في الأرض عن الجن أو عن الملائكة ، وقيل : يخلف بعضهم بعضاً ، وقيل : خلفاء الأرض تملكونها وتتصرفون فيها . ) إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( لما كان الابتلاء يظهر به المسيء والمحسن والطائع والعاصي ذكر هذين الوصفين وختم بهما ولما كان الغالب على فواصل الآي قبلها هو التهديد بدأ بقوله سريع العقاب يعني لمن كفر ما أعطاه الله تعالى وسرعة عقابه إن كان في الدّنيا فالسّرعة ظاهرة ، وإن كان في الآخرة فوصف بالسّرعة لتحققه إذ كل ما هو آت آت ولما كانت جهة الرحمة أرجى أكد ذلك بدخول اللام في الخبر ويكون الوصفين بنيا بناءً مبالغة ولم يأتِ في جهة العقاب بوصفه بذلك فلم يأتِ إنّ ربك معاقب وسريع العقاب من باب الصفة المشبهة .

" صفحة رقم 264 "
( سورة الأعراف )
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ إِلاَ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الاٌّ رْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ وَيَاأادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُو

" صفحة رقم 265 "
ٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الاٌّ رْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ يَابَنِىآدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَابَنِىآدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( )
الأعراف : ( 1 - 2 ) المص
كم اسم بسيط لا مركّب من كاف التشبيه وما الاستفهامية حذف ألفها لدخول حرف الجرّ عليها وسكنت كما قالوا لم تركيباً لا ينفكّ كما ركبت في كأين مع أي وتأتي استفهاميّة وخبريّة وكثيراً ما جاءت الخبرية في القرآن ولم يأتِ تمييزها في القرآن إلا مجروراً بمن وأحكامها في نوعيها مذكورة في كتب النحو . القيلولة نوم نصف النهار وهي القائلة قاله الليث ، وقال الأزهري الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحرّ ولم يكن نوم ، وقال الفرّاء : قال : يقيل قيلولة وقيلاً وقائلة ومقيلاً استراح وسط النهار . العيش الحياة عاش يعيش عيشاً ومعاشاً وعيشةً ومعيشة ومعيشاً . قال رؤبة : إليك أشكو شدّة المعيش
وجهد أيام نتفن ريشي
غوى يغوي غيّاً وغوايةً فسد عليه أمره وفسد هو في نفسه ومنه غوى الفصيل أكثر من شرب لبن أمّه حتى فسد جوفه وأشرف على الهلاك ، وقيل أصله الهلاك ومنه ) فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ).
الشمائل جمع وهو جمع تكسير وجمعه في القلة على أشمل قال الشاعر :
يأتي لها من أيمن وأشمل
وشمال يطلق على اليد اليسرى وعلى ناحيتها ، والشمائل أيضاً جمع شمال وهي الريح والشمائل أيضاً الأخلاق يقال هو حسن الشمائل . ذأمه عابه يذأمه ذأماً بسكون الهمزة ويجوز إبدالها ألفاً قال الشاعر : صحبتك إذ عيني عليها غشاوة
فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها
وفي المثل لن يعدم الحسناء ذأماً . وقيل : أردت أن تديمه فمدحته ، وقال الليث ذأمته حقرته ، وقال ابن

" صفحة رقم 266 "
قتيبة وابن الأنباري : ذأمه وذمّه ، دحره أبعده وأقصاه دحوراً قال الشاعر : دحرت بني الحصيب إلى قديد
وقد كانوا ذوي أشَر وفخر
وسوس تكلم كلاماً خفياً يكرّره والوسواس صوت الحلي شبه الهمس به وهو فعل لا يتعدّى إلى منصوب نحو ولولت ووعوع . قال ابن الأعرابي : رجل موسوس ، بكسر الواو ، ولا يقال : موسوَس بفتحها . وقال غيره : يقال موسوس له وموسوس إليه . وقال رؤبة يصف صياداً : وسوس يدعو مخلصاً ربَّ الفلق
لمّا دنا الصيد دنا من الوهق
يقول لما أحس بالصيد وأراد رميه وسوس في نفسه أيخطىء أم يصيب . قال الأزهري : وسوس وورور معناهما واحد ، نصح بذل المجهود في تبيين الخير وهو ضد غش ويتعدى بنفسه وباللام نصحْتُ زيداً ونصحتُ لزيد ويبعد أن يكون يتعدى لواحد بنفسه ولآخر بحرف الجرّ وأصله نصحت لزيد ، من قولهم نصحت لزيد الثوب بمعنى خطته خلافاً لمن ذهب إلى ذلك . ذاق الشيء يذوقه ذوقاً مسه بلسانه أو بفمه ويطلق على الأكل . طفق ، بكسر الفاء وفتحها ، ويقال : طبق بالباء وهي بمعنى أخذ من أفعال المقاربة . خصف الفعل وضع جلداً على جلد وجمع بينهما بسير والخصف الخرز . الريش معروف وهو للطائر ويستعمل في معان يأتي ذكرها في تفسير المركبات واشتقوا منه قالوا راشه يريشه ، وقيل الريش مصدر راش . النزع الإزالة والجذب بقوة ) المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( هذه السورة مكية كلها قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد والضحاك وغيرهم ، وقال مقاتل إلا قوله ) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ ( إلى قوله : ) مِن ظُهُورِهِمْ ( فإن ذلك مدني وروي هذا أيضاً عن ابن عباس . وقيل إلى قوله : ) الْمُصْلِحِينَ وَإِذ نَتَقْنَا ( واعتلاق هذه السورة بما قبلها هو أنه لما ذكر تعالى قوله ) وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ ( واستطرد منه لما بعده وإلى قوله آخر السورة ) وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاْرْضِ ( وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعيّة ذكر ما يكون به التكاليف وهو الكتاب الإلهي وذكر الأمر باتباعه كما أمر في قوله ) وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ ( وتقدّم الكلام على هذه الحروف المقطّعة أوائل السورة في أول البقرة وذكر ما حدسه الناس فيها ولم يقم دليل على شيء من تفسيرهم يعين ما قالوا وزادوا هنا لأجل الصاد أنّ معناه أنا الله أعلم وأفصّل رواه أبو الضحى عن ابن عباس أو المصور قاله السدي : أو الله الملك النصير قاله بعضهم أو أنا الله المصير إليّ ، حكاه الماوردي

" صفحة رقم 267 "
أو المصير كتاب فحذف الياء والراء ترخيماً وعبّر عن المصير بالمص قاله التبريزي . وقيل عنه : أنا الله الصادق . وقيل معناه ) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( قاله الكرماني قال : واكتفى ببعض الكلام وهذه الأقوال في الحروف المقطعة لولا أن المفسرين شحنوا بها كتبهم خلفاً عن سلف لضربنا عن ذكرها صفحاً فإن ذكرها يدل على ما لا ينبغي ذكره من تأويلات الباطنية وأصحاب الألغاز والرموز ونهيه تعالى أن يكون في صدره حرج منه أيّ من سببه لما تضمنه من أعباء الرسالة وتبليغها لمن لم يؤمن بكتاب ولا اعتقد صحة رسالة وتكليف الناس أحكامها وهذه أمور صعبة ومعانيها يشق عليه ذلك وأسند النهي إلى الحرج ومعناه نهي المخاطب عن التعرض للحرج ، وكان أبلغ من نهي المخاطب لما فيه من أنّ الحرج لو كان مما ينهى لنهيناه عنك فانتهِ أنت عنه بعدم التعرّض له ولأن فيه تنزيه نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بأن ينهاه فيأتي التركيب فلا تخرج منه لأنّ ما أنزله الله تعالى إليه يناسب أن يسرّ به وينشرح لما فيه من تخصيصه بذلك وتشريفه حيث أهّله لإنزال كتابه عليه وجعله سفيراً بينه وبين خلقه فلهذه الفوائد عدل عن أن ينهاه ونهي الحرج وفسر الحرج هنا بالشك وهو تفسير قلق وسمّى الشكّ حرجاً لأن الشاكّ ضيّق الصدر كما أنّ المتيقن منشرح الصدر وإن صحّ هذا عن ابن عباس فيكون مما توجه فيه الخطاب إليه لفظاً وهو لأمته معنى أي فلا يشكوا أنه من عند الله . وقال الحسن : الحرج هنا الضيق أي لا يضيق صدرك من تبليغ ما أرسلت به خوفاً من أن لا تقوم بحقّه . وقال الفرّاء : معناه لا يضيق صدرك بأن يكذّبوك كما قال تعالى : ) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ( وقيل : الحرج هنا الخوف أي لا تخف منهم وإن كذبوك وتمالؤوا عليك قالوا : ويحتمل أن يكون الخطاب له ولأمته ، والظاهر أنّ الضمير في ) مِنْهُ ( عائد على الكتاب ، وقيل على التبليغ الذي تضمنه المعنى . وقيل على التكذيب الذي دلّ عليه المعنى ، وقيل على الإنزال ، وقيل على الإنذار . قال ابن عطية : وهذا التخصيص كله لا وجه له إذ اللفظ يعمّ جميع الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرّض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك ) فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ ( اعتراض في أثناء الكلام ، ولذلك قال بعض الناس إن فيه تقديماً وتأخيراً ) وَلِتُنذِرَ ( متعلق بأنزل انتهى . وكذا قال الحوفي والزمخشري أنّ اللام متعلقة بقوله ) أَنَزلَ ( وقاله قبلهم الفرّاء ولزم من قولهم أن يكون قوله : فلا يكن ) فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ ( اعتراضاً بين العامل والمعمول . وقال ابن الأنباري : التقدير فلا يكن في صدرك حرج منه كي تنذر به فجعله متعلقاً بما تعلّق به في صدرك وكذا علقه به صاحب النظم فعلى هذا لا تكون الجملة معترضة وجوّز الزمخشري وأبو البقاء الوجهين إلا أنّ الزمخشري قال : ( فإن قلت ) : بم يتعلق قوله : ) لّتُنذِرَ ( ( قلت ) : بأنزل أي أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهي لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم ولذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجّعه اليقين على الإنذار لأنّ صاحب اليقين جَسور متوكّل على عصمته انتهى . فقوله أو بالنهي ظاهره أنه يتعلق بالنّهي فيكون متعلقاً بقوله فلا يكن كان عندهم في تعليق المجرور والعمل في الظرف فيه خلاف ومبناه على أنه هل تدلّ كان الناقصة على الحدث أم لا فمن قال إنها تدلّ على الحدث جوّز فيها ذلك ، ومن قال إنها لا تدلّ عليه لم يجوّز ذلك ، وأعرب الفرّاء وغيره ) المص ( مبتدأ و ) كِتَابٌ ( خبره وأعرب أيضاً ) كِتَابٌ ( خبر

" صفحة رقم 268 "
مبتدأ محذوف أي هذا كتاب و ) ذِكْرِى ( هو مصدر ذكر بتخفيف الكاف وجوّزوا فيه أن يكون مرفوعاً عطف على كتاب أو خبر مبتدأ محذوف أي وهو ذكرى ، والنصب على المصدر على إضمار فعل معطوف على ) لّتُنذِرَ ( أي وتذكر ذكرى أو على موضع لتنذر لأن موضعه نصب فيكون إذ ذاك معطوفاً على المعنى كما عطفت الحال على موضع المجرور في قوله دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً ويكون مفعولاً من أجله وكما تقول جئتك للإحسان وشوقاً إليك ، والجرّ على موضع الناصبة ) لّتُنذِرَ ( المنسبك منها ومن الفعل مصدر التقدير لإنذارك به وذكرى . وقال قوم : هو معطوف على الضمير من به وهو مذهب كوفيّ وتعاور النصب والجرّ هو على معنى وتذكير مصدر ذكر المشدّد . وقال أبو عبد الله الرازي : النفوس قسمان جاهلة غريقة في طلب اللّذات الجسمانية وشريفة مشرقة بالأنوار الإلهية ، مستشعرة بالحوادث الروحانيّة فبعثت الأنبياء والرّسل في حقّ القسم الأول للإنذار والتخويف لما غرقوا في بحر الغفلة ورقدة الجاهلية احتاجوا إلى موقظٍ ومنبه ، وفي حقّ القسم الثاني لتذكير وتنبيه لأنّ هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية مستشعرةً بالانجذاب إلى عالم القدس والاتصال بالحضرة الصمديّة إلا أنه ربما غشيها من غواشي عالم الحسّ فيعرض نوع ذهول فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتّصل بها أرواح رسل الله تذكرت مركزها وأبصرت منشأها واشتاقت إلى ما حصل هناك من الروح والراحة والريحان . فثبت أنه تعالى إنما أنزل الكتاب على رسوله ليكون إنذار في حق طائفة ، وذكرى في حق أخرى وهو كلام فلسفي خارج عن كلام المتشرّعين وهكذا . كلام هذا الرجل أعاذنا الله منه .
الأعراف : ( 3 ) اتبعوا ما أنزل . . . . .
( اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ( لما ذكر تعالى أن هذا الكتاب أنزل إلى الرسول أمر الأمة باتّباعه وما أنزل إليكم يشمل القرآن والسنة لقوله ) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى ( ونهاهم عن ابتغاء أولياء من دون الله كالأصنام والرّهبان والكهّان والأحبار والنار والكواكب وغير ذلك والظاهر أن الضمير في ) مِن دُونِهِ ( عائد على ) رَبُّكُمْ ). وقيل على ما وقيل على الكتاب والمعنى لا تعدلوا عنه إلى الكتب المنسوخة . وقيل أراد بالأولياء الشياطين شياطين الجنّ والإنس وإنهم الذين يحملون على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ويضلّون عن دين الله . وقرأ الجحدري : ابتغوا من الإبتغاء . وقرأ مجاهد ومالك بن دينار . ولا تبتغوا من الابتغاء أيضاً والظاهر أنّ الخطاب هو لجميع الناس . وقال الطبري وحكاه : التقدير ) قُلْ اتَّبَعُواْ ( فحذف القول لدلالة الإنذار المتقدّم الذكر عليه وانتصب ) قَلِيلاً ( على أنه نعت لمصدر محذوف و ) مَا ( زائدة أي يتذكرون تذكراً قليلاً أي حيث يتركون دين الله ويتّبعون غيره وأجاز الحوفي أن يكون نعتاً لمصدر محذوف والناصب له ولا تتّبعوا أي اتّباعاً قليلاً . وحكى ابن عطيّة عن الفارسيّ : إن ) مَا ( موصولة بالفعل وهي مصدرية انتهى . وتمّم غيره هذا الإعراب بأنّ نصب قليلاً على أنه نعت لظرف محذوف أي زماناً قليلاً نذكّركم أخبر أنهم لا يدّعون الذكر إنما يعرض لهم في زمان قليل وما يذكرون في موضع رفع على أنه مبتدأ والظرف قبله في موضع الخبر وأبعد من ذهب إلى أن ) مَا ( نافية . وقرأ حفص والإخوان ) تَذَكَّرُونَ ( بتاء واحدة وتخفيف الذال ، وقرأ ابن عامر ) يَتَذَكَّرُونَ ( بالياء والتاء وتخفيف الذال ، وقرأ باقي السبعة بتاء الخطاب وتشديد الذال وقرأ أبو الدرداء وابن عباس وابن عامر في رواية بتاءين ، وقرأ مجاهد بياء وتشديد الذال .
الأعراف : ( 4 ) وكم من قرية . . . . .
( وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( ) كَمْ ( هنا خبرية التقدير وكثير من القرى أهلكناها وأعاد الضمير في أهلكناها على معنى كم وهي في موضع رفع بالابتداء وأهلكناها جملة في موضع الخبر وأجازوا أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل يفسّره أهلكناها تقديره وكم من قرية أهلكناها ولا بدّ في الآية من تقدير محذوف مضاف لقوله أو هم قائلون فمنهم من قدّره وكم من أهل قرية ومنهم من قدّره أهلكنا أهلها وينبغي أن يقدّر عند قوله ) فَجَاءهَا ( أي فجاء أهلها لمجيء الحال من أهلها بدليل أو هم قائلون لأنه يمكن إهلاك القرى بالخسف والهدم وغير ذلك فلا ضرورة تدعو إلى حذف

" صفحة رقم 269 "
المضاف قبل قوله ) فَجَاءهَا ). وقرأ ابن أبي عبلة ) وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهُمْ ( فيقدّر المضاف وكم من أهل قرية ولا بد من تقديره صفة للقرية محذوفة أي من قرية عاصية ويعقّب مجيء البأس وقوع الإهلاك لا يتصوّر فلا بدّ من تجوّز إما في الفعل بأن يراد به أردنا إهلاكها أو حكمنا بإهلاكها ) أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا ( وأما أن يحتلف المدلولان بأن يكون المعنى أهلكناها بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك وإما أن يكون التجوّز في الفاء بأن تكون بمعنى الواو وهو ضعيف أو تكون لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس . وقال الفرّاء : إنّ الإهلاك هو مجيء البأس ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبالِ أيّهما قدّم في الرتبة ، كما تقول شتمني فأساء وأساء فشتمني لأن الإساءة والشتم شيء واحد . وقيل : الفاء ليست للتعقيب وإنما هي للتفسير ، كقوله : توضّأ فغسل كذا ثم كذا وانتصب بياناً على الحال وهو مصدر أي ) فَجَاءهَا بَأْسُنَا ( بائتين أو قائلين وأو هنا للتنويع أي جاء مرة ليلاً كقوم لوط ومرة وقت القيلولة كقوم شعيب وهذا فيه نشر لما لفّ في قوله ) فَجَاءهَا ( وخصّ مجيء البأس بهذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والدّعة والاستراحة فمجيء العذاب فيهما أقطع وأشقّ ولأنه يكون المجيء فيه على غفلة من المهلكين ، فهو كالمجيء بغتةً وقوله ) أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( جملة في موضع الحال ونصّ أصحابنا أنه إذ دخل على جملة الحال واو العطف فإنه لا يجوز دخول واو الحال عليها فلا يجوّز جاء زيد ماشياً وهو راكب . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لا يقال جاء زيد هو فارس بغير واو فما بال قوله تعالى : ) أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( ( قلت ) : قدّر بعض النحويين الواو محذوفة ورده الزّجاج . وقال : لو قلت جاءني زيد راجلاً أو هو فارس أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج فيه إلى واو لأنّ الذكر قد عاد إلى الأول والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حُذفت الواو استثقالاً لاجتماع حر في عطف لأنّ واو الحال هي واو العطف استُعيرت للوصل فقولك جاء زيد راجلاً أو هو فارس كلام فصيح وارد على حدّة وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث انتهى . فأما بعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفرّاء ، وأما قول الزّجاج في التمثيلين لم يحتج فيه إلى الواو لأنّ الذكر قد عاد إلى الأول ففيه إبهام وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الأول ويجوز أن يدخل في المثال الثاني فانتفاء الاحتياج ليس على حدّ سواء لأنه في الأول لامتناع الدخول وفي الثاني لكثرة الدخول لا لامتناعه ، وأما قول الزمخشري والصحيح إلى آخرها فتعليله ليس بصحيح لأنّ واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حر في عطف لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالاً حتى يعطف حالاً على حال فمجيئها في ما لا يمكن أن يكون حالاً دليل على أنها ليست واو عطف ولا لحظ فيها معنى واو عطف تقول جاء زيد والشمس طالعة فجاء زيد ليس بحال فيعطف عليه جملة حالية وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال وهي قسم من أقسام الواو كما تأتي للقسم وليست فيه للعطف إذا قلت والله ليخرجنّ وأما قوله : فخبيث فليس بخبيث وذلك أنه بناه على أن الجملة الإسمية إذا كان فيها ضمير ذي الحال فإنّ حذف الواو منها شاذ وتبع في ذلك الفرّاء وليس بشاذ بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب نثرها ونظمها وهو أكثر من رمل بيرين ومها فلسطين وقد ذكرنا كثرة مجيء

" صفحة رقم 270 "
ذلك في شرح التسهيل وقد رجع عن هذا المذهب الزمخشري إلى مذهب الجماعة .
الأعراف : ( 5 ) فما كان دعواهم . . . . .
( فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( قال ابن عباس : دعواهم تضرّعهم إلا إقرارهم بالشرك . وقيل دعواهم دعاؤهم . قال الخليل : يقول اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين ومنه فما زالت تلك دعواهم . وقيل : ادعاؤهم أي ادعوا معاذير تحسّن حالهم وتقيّم حجتهم في زعمهم . قال ابن عطية : وتحتمل الآية أن يكون المعنى فما آلت دعاويهم التي كانت في حال كفرهم إلى اعتراف ومنه قول الشاعر : وقد شهّدت قيس فما كان نصرها
قتيبة إلا عضّها بالأباهم
وقال الزمخشري : ويجوز فما كان استغاثتهم إلاّ قولهم هذا لأنه لا مستغاث من الله بغيره من قولهم ) دَعْوَاهُمْ ( بالكعب قالوا ودعواهم اسم كان وإلا أن قالوا الخبر وأجازوا العكس والأول هو الذي يقتضي نصوص المتأخّرين أن لا يجوز إلا هو فيكون ) دَعْوَاهُمْ ( الإسم و ) إِلاَّ أَن قَالُواْ ( الخبر لأنه إذا لم تكن قرينة لفظية ولا معنوية تبين الفاعل من المفعول وجب تقديم الفاعل وتأخير المفعول نحو : ضرب موسى عيسى وكان وأخواتها مشبّهة في عملها بالفعل الذي يتعدّى إلى واحد ، فكما وجب ذلك فيه وجب ذلك في المشبّه به وهو كان ودعواهم وإلا أن قالوا لا يظهر فيهما لفظ يبين الإسم من الخبر ولا معنى فوجب أن يكون السابق هو الإسم واللاحق الخبر .
الأعراف : ( 6 ) فلنسألن الذين أرسل . . . . .
( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( أي نسأل الأمم المرسل إليهم عن أعمالهم وعن ما بلّغه إليهم الرّسل لقوله و ) يَوْمٍ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ، ويسأل الرسل عما أجاب به من أرسلوا إليه كقوله ، ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ( وسؤال الأمم تقرير وتوبيخ يعقب الكفار والعصاة عذاباً وسؤال الرسل تأنيس يعقب الأنبياء ثواباً وكرامة . وقد جاء السؤال منفيّاً ومثبتاً بحسب المواطن أو بحسب الكيفيّات كسؤال التوبيخ والتأنيس وسؤال الاستعلام البحث منفيّ عن الله تعالى إذ أحاط بكل شيء علماً . وقيل المرسل إليهم الأنبياء والمرسلون الملائكة وهذا بعيد .
الأعراف : ( 7 ) فلنقصن عليهم بعلم . . . . .
( فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ( أي نسرد عليهم أعمالهم قصّة قصّة ) بِعِلْمِ ( منّا لذلك واطّلاع عليه ) وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ( عن شيء منه بل علمنا محيط بجميع أعمالهم ، ظاهرها وباطنها ، وهذا من أعظم التوبيخ والتقريع حيث يقرّون بالظلم وتشهد عليهم أنبياؤهم ويقصّ الله عليهم أعمالهم . قال وهب : يقال للرجل منهم أتذكر يوم فعلت كذا أتذكر حين قلت كذا حتى يأتي على آخر ما فعله وقاله في دنياه وفي قوله ) بِعِلْمِ ( دليل على إثبات هذه الصفة لله تعالى وإبطال لقول من قال لا علم الله .
الأعراف : ( 8 - 9 ) والوزن يومئذ الحق . . . . .
( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ( اختلفوا هل ثم وزن وميزان حقيقة أم ذلك عبارة عن إظهار العدل التام والقضاء السويّ والحساب المحرّر فذهبت المعتزلة إلى إنكار الميزان وتقدّمهم إلى هذا مجاهد والضحّاك والأعمش وغيرهم ، وعبّر بالثقل عن كثرة الحسنات وبالخفة عن قلّتها ، وقال جمهور الأمّة بالأول وأنّ الميزان له عمود وكفّتان ولسان وهو الذي دل عليه ظاهر القرآن والسنّة ينظر إليه الخلائق تأكيداً للحجة وإظهاراً للنصفة وقطعاً للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم وتشهد عليهم بها أيديهم وأرجلهم وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد ، وأما الثقل والخفة فمن صفات

" صفحة رقم 271 "
الأجسام وقد ورد أنّ الموزون هي الصّحائف التي أثبتت فيها الأعمال ، فيُحدث الله تعالى فيها ثقلاً وخفةً وما ورد في هيئته وطوله وأحواله لم يصحَّ إسناده وجمعت الموازين باعتبار الموزونات والميزان واحد ، هذا قول الجمهور . وقال الحسن لكل أحد يوم القيامة ميزان على حدة وقد يعبّر عن الحسنات بالموازين فيكون ذلك على حذف مضاف أي من ثقلت كفّه موازينه أي موزوناته فيكون موازين جميع موزون لا جمع ميزان ، وكذلك ومن خفّت كفّة حسناته و ) الْوَزْنَ ( مبتدأ وخبره ظرف الزمان والتقدير والوزن كائن يوم أن نسألهم ونقّص عليهم وهو يوم القيامة و ) الْحَقّ ( صفة للوزون ويجوز أن يكون ) يَوْمَئِذٍ ( ظرفاً للوزن معمولاً له و ) الْحَقّ ( خبر ويتعلّق ) بِئَايَاتِنَا ( بقوله ) يَظْلِمُونَ ( لتضمّنه معنى يكذّبون أو لأنها بمعنى يجحدون وجحد تعدّى بالباء قال : ) وَجَحَدُواْ بِهَا ( والظاهر أنّ هذا التقسيم هو بالنسبة للمؤمنين من أطاع ومن عصى وللكفّار فتوزن أعمال الكفار . وقال قوم : لا ينصب لهم ميزان ولا يحاسبون لقوله ) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( وإنما توزن أعمال المؤمن طائعهم وعاصيهم .
الأعراف : ( 10 ) ولقد مكناكم في . . . . .
( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( تقدّم معنى ) مَكَّنَّاكُمْ ( في قوله في أول الأنعام ) مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ ( والخطاب راجع للذين خوطبوا بقوله تعالى ) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ ( وما بينهما أورد مورد الاعتبار والإيقاظ بذكر ما آل إليه أمرهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة والمعائش جمع معيشة ويحتمل أن يكون وزنها مفعلة ومفعلة بكسر العين وضمّها قالهما سيبويه . وقال الفرّاء : معيشة بفتح عين الكلمة والمعيشة ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما مما يتوصّل به إلى ذلك وهي في الأصل مصدر تنزّل منزلة الآلات . وقيل على حذف مضاف التقدير أسباب معايش كالزرع والحصد والتجارة وما يجري مجرى ذلك وسمّاها معايش لأنها وصلة إلى ما يعاش به ، وقيل المعائش وجوه المنافع وهي إمّا يحدثه الله ابتداءً كالثمار أو ما يحدثه بطريق اكتساب من العدو وكلاهما يوجب الشكر ، وقرأ الجمهور : ) مَعَايِشَ ( وهو القياس لأنّ الياء في المفرد هي أصل لا زائدة فتهمز وإنما تهمز الزائدة نحو : صحائف في صحيفة ، وقرأ الأعرج وزيد بن عليّ والأعمش وخارجة عن نافع وابن عامر في رواية : معائش بالهمزة وليس بالقياس لكنّهم رووه وهم ثقات فوجب قبوله وشذّ هذا الهمز ، كما شذ في منابر جمع منارة وأصلها منورة وفي مصائب جمع مصيبة وأصلها مصوبة وكان القياس مناور ومصاوب . وقد قالوا مصاوب على الأصل كما قالوا في جمع مقامة مقاوم ومعونة معاون ، وقال الزّجاج : جميع نحاة البصرة تزعم أن همزها خطأ ولا أعلم لها وجهاً إلا التشبيه بصحيفة وصحائف ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة . وقال المازنيّ : أصل أخذ هذه القراءة عن نافع ولم يكن يدري ما العربية وكلام العرب التصحيح في نحو هذا انتهى . ولسنا متعبّدين بأقوال نحاة البصرة . وقال الفرّاء : ربما همزت العرب هذا وشبهه يتوهّمون أنها فعلية فيشبّهون مفعلة بفعيلة انتهى . فهذا نقل من الفرّاء عن العرب أنهم ربما يهمزون هذا وشبهه وجاء به نقل القراءة الثقات ابن عامر وهو عربيّ صراح وقد أخذ القرآن عن عثمان قبل ظهور اللحن والأعرج وهو من كبار قرّاء التابعين وزيد بن عليّ وهو من الفصاحة والعلم بالمكان الذي قلّ أن يدانيه في ذلك أحد ، والأعمش وهو من الضبط والإتقان والحفظ والثقة بمكان ، ونافع وهو قد قرأ على سبعين من التابعين وهم من الفصاحة والضبط والثقة بالمحلّ الذي لا يجهل ، فوجب قبول ما نقلوه إلينا ولا مبالاة بمخالفة نحاة البصرة في مثل هذا ، وأما قول المازنيّ أصل أخذ هذه القراءة عن نافع فليس بصحيح لأنها نقلت عن ابن عامر وعن الأعرج وزيد بن عليّ والأعمش وأما قوله إنّ نافعاً لم يكن يدري ما العربية فشهادة على النفي ولو فرضنا أنه لا يدري ما العربية وهي هذه الصناعة التي يتوصل بها إلى التكلم بلسان العرب فهو لا يلزمه ذلك إذ هو فصيح

" صفحة رقم 272 "
متكلم بالعربية ناقل للقراءة عن العرب الفصحاء وكثير من هؤلاء النحاة يسيئون الظنّ بالقرّاء ولا يجوز لهم وإعراب ) مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( كإعراب ) قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (
الأعراف : ( 11 ) ولقد خلقناكم ثم . . . . .
( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ السَّاجِدِينَ ( لمّا تقدّم ما يدلّ على تقسيم المكلفين إلى طائع وعاصٍ فالطائع ممتثل ما أمر الله به مجتنب ما نهى عنه والعاصي بضدّه أخذ ينبّه على أنّ هذا التقسيم كان في البدء الأول من أمر الله للملائكة بالسجود فامتثل من امتثل وامتنع من امتنع ، وأنه أمر تعالى آدم ونهى فحكى عنه ما يأتي خبره فنبّه أولاً على موضع الاعتبار وإبراز الشيء من العدم الصّرف إلى الوجود والتصوير في هذه الصورة الغريبة الشكل المتمكّنة من بدائع الصانع والظاهر أنّ الخطاب عام لجميع بني آدم ويكون على قوله ثم قلنا ما أن تكون فيه ثم بمعنى الواو فلم ترتّب ويكون الترتيب بين الخلق والتصوير أو تكون ) ثُمَّ ( في ) ثُمَّ قُلْنَا ( للترتيب في الإخبار لا في الزمان وهذا أسهل محمل في الآية ومنهم من جعل ) ثُمَّ ( للترتيب في الزمان واختلفوا في المخاطب ، فقيل المراد به آدم وهو من إطلاق الجمع على الواحد ، وقيل المراد به بنوه فعلى القول الأول يكون الخطاب في الجملتين لآدم لأنّ العرب تخاطب العظيم الواحد بخطاب الجمع ، وقيل الخطاب في الأولى لآدم وفي االثانية لذرّيته فتحصل المهلة بينهما ) وثم ( الثالثة لترتيب الأخبار ، وروى هذا العوفي عن ابن عباس . وقيل : خلقناكم لآدم ثم صوّرناكم لبنيه يعني في صلبه عند أخذ الميثاق ثم قلنا فيكون الترتيب واقعاً على بابه وعلى القول الثاني وهو أنّ الخطاب لبني آدم ، فقيل : الخطاب على ظاهره وإن اختلف محل الخلق والتصوير فروي الحارث عن ابن عباس خلقناكم في ظهر آدم ثم صوّرناكم في الأرحام ، وقال ابن جبير عنه خلقناكم في أصلاب الرجل ثم صوّرناكم في أرحام النساء ، وقاله عكرمة وقتادة والضحّاك والأعمش ، وقال ابن السائب خلقناكم نطفاً في أصلاب الرجال وترائب النساء ثم صوّرناكم عند اجتماع النطف في الأرحام ، وقال معمّر بن راشد حاكياً عن بعض أهل العلم خلقناكم في بطون أمهاتكم وصوّرناكم فيها بعد الخلق شقّ السّمع والبصر ) وثم ( على هذه الأقوال في قوله ) صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا ( للترتيب في الأخبار ، وقيل الخطاب لبني آدم إلا أنه على حذف مضاف التقدير ولقد خلقنا أرواحكم ثم صوّرنا أجسامكم حكاه القاضي أبو يعلى في المعتمد ويكون ) ثُمَّ ( في ) ثُمَّ قُلْنَا ( لترتيب الأخبار ، وقيل التقدير ولقد خلقنا أباكم ثم صوّرنا أباكم ثم قلنا فثم على هذا للترتيب الزماني والمهلة على أصل وضعها ، وقيل هو من تلوين الخطاب يخاطب العين ويراد به الغير فيكون الخطاب لبني آدم والمراد آدم كقوله ) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ ( ) فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( هو خطاب لمن كان بحضرة الرسول من بني إسرائيل والمراد أسلافهم . ومنه قول الشاعر : إذا افتخرت يوماً تميم بقوسها
وزادت على ما وطّدت من مناقب فأنتم بذي قارٍ أمالت سيوفكم عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
وهذه الوقعة كانت لآبائهم وتقدّم تفسير ) قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ( في سورة البقرة فأغنى عن إعادته وقوله ) لَمْ يَكُن مّنَ السَّاجِدِينَ ( جملة لا موضع لها من الإعراب مؤكدة

" صفحة رقم 273 "
لمعنى ما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس كقوله ) أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ( بعد قوله ) إِلاَّ إِبْلِيسَ ( في البقرة .
الأعراف : ( 12 ) قال ما منعك . . . . .
( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ( الظاهر أنّ لا زائدة تفيد التوكيد والتحقيق كهي في قوله لئلا يعلم أي لأن يعلم وكأنه قيل ليتحقّق علم أهل الكتاب وما منعك أن تحقّق السجود وتلزمه نفسك إذ أمرتك ويدلّ على زيادتها قوله تعالى ) مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ ( وسقوطها في هذا دليل على زيادتها في ) أَلاَّ تَسْجُدَ ( والمعنى أنه وبّخه وقرّعه على امتناعه من السجود وإن كان تعالى عالماً بما منعه من السجود وما استفهامية تدلّ على التوبيخ كما قلنا وأنشدوا على زيادة لا قول الشاعر : أفعنك لا برق كأنّ وميضه
غاب تسقمه ضرام مثقب
وقول الآخر : أبي جوده لا البخل واستعجلت به
نعم من فتى لا يمنع الجود قائله
وأقول لا حجّة في البيت الأول إذ يحتمل أن لا تكون فيه لا زائدة لاحتمال أن تكون عاطفة وحذف المعطوف والتقدير أفعنك لا عن غيرك وأما البيت الثاني فقال الزّجاج لا مفعولة والبخل بدل منها ، وقال أبو عمرو بنُ العلاء : الرواية فيه لا البخل بخفض اللام جعلها مضافة إلى البخل لأنّ لا قد ينطق بها ولا تكون للبخل انتهى . وقد خرّجته أنا تخريجاً آخر وهو أن ينتصب البخل على أنه مفعول من أجله ولا مفعولة ، وقال قوم : لا في أن لا تسجد ليست زائدة واختلفوا ، فقيل يقدّر محذوف يصحّ معه المعنى وهو ما منعك فأحوجك أن لا تسجد ، وقيل يحمل قوله ما منعك يصحّ معه النفي ، فقيل معنى ما منعك من أمرك ومن قال لك أن لا تسجد .
( قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( هذا ليس بجواب مطابق للسؤال لكنه يتضمن الجواب إذ معناه منعني فضلي عليه لشرف عنصري على عنصره وهذا يقتضي عنده أنّ النار خير من الطين وإذا كان كذلك فالناشىء من الأفضل لا يسجد للمفضول ، قالوا : وذلك أنّ النار جسم مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السّموات ملاصق لها ، والطين مظلم كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السموات ، والنار قويّة التأثير والفعل والطين ليس له إلا القبول والانفعال ، والفعل أشرف من الانفعال والنار مناسبة للحرارة الغريزيّة وهي مادة الحياة والطين ببرده ويبسه مناسب للموت وإذا تقرّر هذا فالمخلوق من الأفضل أفضل فلا يؤمر الأفضل بخدمة المفضول ألا ترى أنه لو أمر مثلاً مالك وأبو حنيفة بخدمة من هو دونهما في العلم لكان ذلك قبيحاً في العقل ثم قالوا أخطأ إبليس من حيث فضل النار على الطين وهما في درجة واحدة من حيث هما جماد مخلوق والطين أفضل من النار وجوه ، أحدها أنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والأناة والحلم والحياء والصبر وذلك هو

" صفحة رقم 274 "
الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له في التوبة والتواضع والتضرع فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت إلى الاستكبار والإصرار فأورثه الهلاك واللعنة والعذاب قاله القفال ، ثم ذكروا وجوهاً عشرة يظهر بها فضل التراب على النار ثم قالوا : لا يدل من كانت مادته أفضل على أنه تكون صورته أفضل إذ الفضيلة عطية من الله تعالى ، ألا تراه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر وأن الحبشيّ المؤمن خير من القرشيّ الكافر وإذا كانت المقدّمة غير مسلمة لم ينتج والمقدمتان أن تقول إبليس ناري المادة وكلّ ناريّ المادة أفضل من ترابي المادة فإبليس أفضل من ترابي المادة والمقدمة الثانية ممنوعة فلا تنتج . وقال ابن عباس والحسن وابن سيرين أول من قاس إبليس ، قال ابن عباس فأخطأ فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس ، وقالا : وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس . وقال بعض العلماء : أخطأ قياسه وذهب علمه أنّ الرّوح الذي نفخ في آدم ليس من طين واستدلّ نفاة القياس على إبطاله بقصّه إبليس ولا حجّة فيها لأنه قياس في مورد النص فهو فاسد فلا يدلّ على بطلان القياس حيث لا نصّ واستدلّ بقوله ) إِذْ أَمَرْتُكَ ( على أنّ مطلق الأمر يدلّ على الوجوب ويدلّ على الفور لذمّ إبليس على امتناعه من السجود في الحال ولو لم يدلّ على الوجوب ولا على الفور لم يستوجب الذمّ في الحال ولا مطلقاً .
الأعراف : ( 13 ) قال فاهبط منها . . . . .
( قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ). لما كان امتناعه من السجود لسبب ظهور شفوقه على آدم عند نفسه قابلة الله بالهبوط المشعر بالنزول من علوّ إلى أسفل والضمير في منها لم يتقدّم له مفسر يعود عليه ، فقيل : يعود على الجنة وكان إبليس من سكانها ، وقال ابن عباس : كانوا في جنة عدن لا في جنة الخلد وخلق آدم من جنة عدن ، وقال ابن عطية : أهبط أولاً وأخرج من الجنة وصار في السماء لأنّ الأخبار تظافرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة ثم أمر آخراً بالهبوط من السماء مع آدم وحواء والحية وهذا كله بحسب ألفاظ القصة والله أعلم انتهى ، وقيل : يعود على السماء ، قال الزمخشري : فاهبط منها من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقرّ العاصين المتكبرين من الثقلين ، وقيل : يعود على الأرض فكأنه كان له ملكها أمره أن يهبط منها إلى جزائر البحار فسلطانه فيها فلا يدخل الأرض إلا كهيئة السارق يخاف فيها حتى يخرج منها وهذا يحتاج إلى صحة نقل ، وقيل : يعود على صورته التي كان فيها لأنه افتخر أنه من النار فشوّهت صورته بالإظلام وزوال إشراقه قاله أبو روق ، وقيل : عائد على المدينة التي كان فيها ذكره الكرماني ويحتاج إلى تصحيح نقل ، وقيل يعود على المنزلة والرّتبة الشريفة التي كان فيها في محل الاصطفاء والتقريب إلى محل الطّرد والتعذيب ومعنى فما يكون لك لا يصح لك أو لا يتم أو لا ينبغي بل التكبّر منهيّ عنه في كل موضع ، وقيل : هو على حذف معطوف دلّ عليه المعنى التقدير فيها ولا في غيرها ، وقيل المعنى ما للمتكبر أن يكون فيها وكرّر معنى الهبوط بقوله فاخرج لأنّ الهبوط منها خروج ولكنه أخبر بصغاره وذلّته وهو أنه جزاء على تكبّره قوبل بالضدّ مما اتّصف به وهو الصغار هو ضدّ التكبر والتكبر تفعل منه لأنه خلق كبيراً عظيماً ولكنه هو الذي تعاطى الكبر ومن كلام عمر ومن تكبّر وعدا طوره رهصه الله إلى الأرض .
الأعراف : ( 14 - 15 ) قال أنظرني إلى . . . . .
( قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ( هذا يدلّ على إقراره بالبعث وعلمه بأن آدم سيكون له ذرية ونسل يعمّرون الأرض ثم يموتون وإن منهم من ينظر فيكون طلبه الإنظار بأن يغويهم ويوسوس إليهم فالضمير في يبعثون عائد على ما دلّ عليه المعنى إذ ليس في اللفظ ما يعود عليه وحكمة استنظاره وإن كان ذلك سبب للغواية والفتنة إنّ في ذلك ابتلاء تالعباد بمخالفته وطواعيته وما يترتب على ذلك من إعظام الثّواب بالمخالفة وإدامة العقاب

" صفحة رقم 275 "
بالطواعيّة وأجابه تعالى بأنه من المنظرين أي من المؤخرين ولم يأتِ هنا بغاية للانتظار وجاء مغياً في الحجر وفي ص بقوله ) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( ويأتي تفسيره في الحجر إن شاء الله ، ومعنى من المنظرين من الطائفة التي تأخّرت أعمارها كثيراً حتى جاءت آجالها على اختلاف أوقاتها فقد شمل تلك الطائفة انظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر ، وقيل من المنظرين جمع كثير مثل قوم يونس .
الأعراف : ( 16 ) قال فبما أغويتني . . . . .
( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( الظاهر أن الباء للقسم وما مصدرية ولذلك تلقيت الالية بقوله : لأقعدن ، قال الزمخشري وإنما أقسم بالإغواء لأنّه كان تكليفاً من أحسن أفعال الله لكونه تعريضاً لسعادة الأبد ، فكان جديراً أن يقسم به انتهى ، وقيل : الباء للسبب أي بسبب إغوائك إياي وعبر ابن عطية عنها بأن يراد بها معنى المجازاة قال : كما تقول فبإكرامك لي يا زيد لأكرمنك قال وهذا أليق بالقصة ، قال الزمخشري ، ( فإن قلت ) : بم تعلقت الباء فإن تعليقها بلأقعدن تصد عنه لام القسم لا تقول والله بزيد لأمرن ( قلتلله تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره ) فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى ( أقسم بالله ) لاقْعُدَنَّ ( أي بسبب إغوائك أقسم انتهى ، وما ذكره من أن اللام تصدّ عن تعلّق الباء بلأقعدن ليس حكماً مجمعاً عليه بل في ذلك خلاف ، وقيل : ما استفهامية كأنه استفهم عن السبب الذي أغواه وقال بأي شيء أغويتني ثم ابتدأه مقسماً فقال : لأقعدنّ لهم وضعف بإثبات الألف في ما الاستفهامية ، وذلك شاذّ أو ضرورة نحو قولهم عما تسأل فهذا شاذّ والضرورة كقوله :
على ما قام يشتني لئيم
ومعنى ) أَغْوَيْتَنِى ( أضللتني قاله ابن عباس والأكثرون أو لعنتني قاله الحسن أو أهلكتني قاله ابن الأنباري ، أو خيبتني قاله بعضهم ، وقيل : أليقيتني غاوياً ، وقيل : سميتني غاوياً لتكبّري عن السجود لمن أنا خير منه ، وقيل : جعلتني في الغيّ وهو العذاب ، وقيل : قضيت على من الأفعال الذّميمة ، وقيل : أدخلت على داء الكبر ، وقال الزمخشري : فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغيّ كما ثبتت الملائكة مع كونهم أفضل منه ومن آدم نفساً ومناصب وعن الأصم أمرتني بالسجود فحملني الأنف على معصيتك والمعنى فبسبب وقوعي في الغيّ لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم انتهى ، وهو والأصمّ فُسّرا على مذهب الاعتزال في نفي نسبة الإغواء حقيقة وهو الإضلال إلى الله وكذلك من فسر ) أَغْوَيْتَنِى ( معنى ألفيتني غاوياً وهو فرار من ذلك وقوله في الملائكة إنهم أفضل من آدم نفساً ومناصب هو مذهب المعتزلة ، وقال

" صفحة رقم 276 "
محمد بن كعب القرظي : قاتل الله القدريّة لإبليس أعلم بالله منهم يريد في أنه علم أن الله يهدي ويضلّ وجاء رجل من كبار الفقهاء يرمي بالقدر فجلس إلى طاووس في المسجد الحرام فقال له طاووس : تقوم أو تقام فقام الرّجل فقيل له : أتقول هذا الرجل فقيه ، فقال : إبليس أفقه منه قال : ربّ بما أغويتني ، وهذا يقول أنا أغوي نفسي وجعل الزمخشري هذه الحكاية من تكاذيب المجبرة وذكرها ثم قال كلاماً قبيحاً يوقف عليه في كتابه وعبر بالقعود عن الثبوت في المكان والثابت فيه قالوا : وانتصب صراطك على إسقاط على قاله الزجاج ، وشبه بقول العرب ضرب زيد الظهر والبطن أي على الظهر والبطن وإسقاط حرف الجرّ لا ينقاس في مثل هذا لا يقال قعدت الخشبة تريد قعدت على الخشبة قالوا أي على الظرف كما قال الشّاعر فيه ، كما عسل الطريق الثعلب ، وهذا أيضاً تخريج فيه ضعف لأنّ صراطك ظرف مكان مختص وكذلك الطريق فلا يتعدّى إليه الفعل إلا بواسطة في ، وما جاء خلاف ذلك شاذّ أو ضرورة وعلى الضرورة أنشدوا :
كما عسل الطريق الثعلب وما ذهب إليه أبو الحسين بن الذرّاوة من أنّ الصراط والطريق الطرف مبهم لا مختص ردّه عليه أهل العربية ، والأولى أن يُضمّن لأقعدنّ معنى ما يتعدّى بنفسه فينتصب الصّراط على أنه مفعول به والتقدير لألزمنّ بقعودي صراطك المستقيم وهذا الصّراط هو دين الإسلام وهو الموصل إلى الجنة ، ويضعف ما روي عن ابن مسعود وعون بن عبد الله أنه طريق مكة خصوصاً على العقبة المعروفة بعقبة الشيطان يضلّ الناس عن الحج ومعنى قعوده أنه يعترض لهم على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة وفي==

12.  تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 277 "
الحديث أن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه نهاه عن الإسلام وقال أتترك دين آبائك فعصاه وأسلم فنهاه عن الهجرة ، وقال : تدع أهلك وبلدك فعصاه فهاجر فنهاه عن الجهاد وقال : تقتل وتترك ولدك فعصاه فجاهد فله الجنة .
الأعراف : ( 17 ) ثم لآتينهم من . . . . .
( ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ). الظاهر أنّ إتيانه من هذه الجهات الأربع كناية عن وسوسته وإغوائه له والجدّ في إضلاله من كل وجه يمكن ولما كانت هذه الجهات يأتي منها العدوّ غالباً ذكرها لا أنه يأتي من الجهات الأربع حقيقة ، وقال ابن عباس : ) مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الاْخِرَةَ ( أشككهم فيها وأنه لا بعث ) وَمِنْ خَلْفِهِمْ ( الدّنيا أرغبهم فيها وزيّنها لهم وعنه أيضاً وعن النخعي والحكم بن عتبة عكس هذا ، وعنه و ) عَنْ أَيْمَانِهِمْ ( الحقّ وعن ) شَمَائِلِهِمْ ( الباطل وعنه أيضاً : و ) عَنْ أَيْمَانِهِمْ ( الحسنات وعن ) شَمَائِلِهِمْ ( السيئات ، وقال مجاهد : الأوّلان حيث ينصرون والآخران حيث لا ينصرون ، وقال أبو صالح الأوّلان الحقّ والباطل والآخران الآخرة والدنيا ، وقيل : الأولان بفسحة الأمل وبنسيان الأجل والآخران فيما تيسر وفيما تعسر ، وقيل الأولان فيما بقي من أعمارهم فلا يطيعون وفيما مضى منها فلا يندمون على معصية والآخران فيما ملكته أيمانهم فلا ينفقونه في معروف ومن قبل فقرهم فلا يمتنعون عن محظور ، وقال أبو عبد الله الرازي حاكياً عن من سماه هو حكماء الإسلام من بين أيديهم القوة الخياليّة وهي تجمع مثل المحسوسات وصورها وهي موضوعة في البطن المقدّم من الدماغ ومن خلفهم القوة الوهميّة وهي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات وهي موضوعة في البطن المؤخر من الدماغ وعن أيمانهم قوة الشهوة وهي موضوعة في البطن الأيمن من القلب وعن شمائلهم قوة الغضب وهي موضوعة في البطن الأيسر من القلب فهذه القوى الأربعة هي التي يتولد عنها أحوال توجب زوال السعادة الروحانية والشياطين الخارجة ما لم تشعر بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة فهذا هو السبب في تعيين هذه الجهات الأربع وهو وجه تحقيق انتهى ، وهو بعيد من مناحي كلام العرب والمتشرّعين قال : وعلى هذا لم يحتج إلى ذكر العلوّ والسّفل لأن هاتين الجهتين ليستا بمقرّ شيء من القوى المفسدة لمصالح السعادة الروحانية انتهى ، وقال ابن عباس : لم يقل من فوقهم لأن رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان من تحتهم فيه توحش ، وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف قيل ) مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ( ومن خلفهم بحرف الابتداء و ) عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ( بحرف المجاوزة ، ( قلت ) : المفعول فيه عدى إليه الفعل تعديته إلى المفعول به كما اختلفت حروف التعدية في ذلك اختلفت في هذا وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه وعن شماله وعلى شماله قلنا معنى على يمينه أنه يمكن من جهة اليمين تمكن المستعلى من المستعلي عليه ومعنى عن يمينه أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير

" صفحة رقم 278 "
ملاصق له ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره كما ذكرنا في فعال ونحوه من المفعول به قولهم رميت عن القوس وعلى القوس ومن القوس لأنّ السّهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدىء الرمي منها فكذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول جئته من الليل تريد بعض الليل انتهى ، وهو كلام لا بأس به ، وأقول إنما خصّ بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإتيان لأنهما أغلب ما يجيء العدو وبسالته في مواجهة قرنه غير خائف منه والخلف من جهة غدر ومخاتلة وجهالة القرن بمن يغتاله ويتطلب غرّته وغفلته وخصّ الأيمان والشمائل الحرف الذي يدل على المجاوزة لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدوّ وإنما يتجاوز إتيانه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك وقدمت الأيمان على الشمائل لأنها الجهة التي هي القوية في ملاقاة العدوّ ، وبالأيمان البطش والدفع فالقرن الذي يأتي من جهتها أبسل وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع والشمائل جهة ليست في القوة والدفع كالأيمان ، وقال ابن عباس شاكرين موحدين وعنه وعن غيره مؤمنين لأنّ ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن ، وقال مقاتل شاكرين لنعمتك ، وقال الحسن : ثابتين على طاعتك ولا يشكرك إلا القليل منهم وهذه الجملة المنفية يحتمل أن تكون داخلة في خبر القسم معطوفة على جوابه ويحتمل أن تكون استئناف إخبار لي مقسماً عليه أخبر أنّ سعايته وإتيانه إيّاهم من جميع الوجوه يفعل ذلك وهل هذا الإخبار منه كان على سبيل التظني لقوله ) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ( أو على سبيل العلم قولان وسبيل العلم إما رؤيته ذلك في اللوح المحفوظ أو استفادته من قوله ) وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ ( أو من الملائكة بإخبار الله لهم أو بقولهم ) أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ( أو بإغواء آدم وذريته أضعف منه أو يكون قوى ابن آدم تسعة عشر قوة وهي خمس حواس ظاهرة وخمس باطنة والشهوة والغضب ، وسبع سابقة وهي الجاذبة والممسكة والهاضمة والدّافعة والقاذفة والنامية والمولدة وكلها تدعو إلى عالم الجسم إلى اللذات البدنية ، والعقل قوة واحدة تدعو إلى عبادة الله وتلك في أول الخلق والعقل إذ ذاك ضعيف أقوال ستة .
الأعراف : ( 18 ) قال اخرج منها . . . . .
( قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ( الجمهور على أنّ الضمير عائد على الجنة والخلاف فيه كالخلاف في ) فَاهْبِطْ مِنْهَا ( وهذه ثلاث أوامر أمر بالهبوط مطلقاً ، وأمر بالخروج مخبراً أنه ذو صغار ، وأمر بالخروج مقيداً بالذمّ والطرد ، وقال قتادة : ) مذؤوماً ( لعيناً ، وقال الكلبي : ملوماً ، وقال مجاهد : منفيّاً ، وقيل : ممقوتاً و ) مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ( مبعداً من رحمة الله أو من الخير أو من الجنة أو من التوفيق أو من خواصّ المؤمنين أقوال متقاربة ، وقرأ الزهري وأبو جعفر والأعمش : مذوماً بضم الذال من غير همز فتحتمل هذه القراءة وجهين أحدهما ، وهو الأظهر ، أن تكون من ذأم المهموز سهل الهمزة وحذفها وألقى حركتها على الذّال والثاني أن يكون من ذام غير المهموز يذيم كباع يبيع فأبدل الواو بياء كما قالوا في مكيل مكول ، وانتصب ) مَّدْحُورًا ( على أنه حال ثانية على من جوّز ذلك أو حال من الضمير في مذؤوماً أو صفة لقوله ) مذؤوماً ).
) مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ( قرأ الجمهور ) لِمَنْ ( بفتح اللام الابتداء ومن موصولة ) ولأملأنّ ( جواب قسم محذوف بعد من تبعك وذلك القسم المحذوف وجوابه في موضع خبر من الموصولة ، وقرأ الجحدري وعصمة عن أبي بكر عن عاصم لمن تبعك منهم بكسر اللام واختلفوا في تخريجها ، فقال ابن عطية : المعنى لأجل من تبعك منهم ) رَبّكَ لاَمْلاَنَّ ( انتهى ، فظاهر

" صفحة رقم 279 "
هذا التقدير أنّ اللام تتعلق بلأملأن ويمتنع ذلك على قول الجمهور أن ما بعد لام القسم لا يعمل فيما قبله ، وقال الزمخشري بمعنى لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله ) لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ( على أنّ ) لاَمْلاَنَّ ( في محل الابتداء ولمن تبعك خبره انتهى فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأ على مذهب البصريين لأنّ قوله ) لاَمْلاَنَّ ( جملة هي جواب قسم محذوف فمن حيث كونها جملة فقط لا يجوز أن تكون مبتدأة ومن حيث كونها جواباً للقسم يمتنع أيضاً لأنها إذ ذاك من هذه الحيثية لا موضع لها من الإعراب ومن حيث كونها مبتدأة لها موضع من الإعراب ولا يجوز أن تكون الجملة لها موضع ولا موضع لها بحال لأنه يلزم أن تكون في موضع رفع لا في موضع رفع داخلاً عليها عامل غير داخل وذلك لا يتصور ، وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي : اللام متعلقة من الذأم والدّحر ومعناه أخرج بهاتين الصفتين لأجل أتباعك ذكر ذلك في كتاب اللوامح في شواذ القراءات ومعنى ) مّنكُمْ ( منك وممن تبعك فغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وإخوتك أكرمكم .
الأعراف : ( 19 ) ويا آدم اسكن . . . . .
( وَيَئَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ). أي وقلنا يا آدم وتقدّم تفسير هذه الآية في البقرة . إلا أن هنا فكلا من حيث شئتما وفي البقرة وكلا منها رغداً حيث شئتما ، قالوا : وجاءت على أحد محاملها وهو أن يكون الثاني بعد الأول وحذف رغداً هنا على سبيل الاختصار وأثبت هناك لأنّ تلك مدنية وهذه مكية فوُفّي المعنى هناك باللفظ .
الأعراف : ( 20 ) فوسوس لهما الشيطان . . . . .
( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( أي فعل الوسوسة لأجلهما وأما قوله ) فَوَسْوَسَ ( إليه فمعناه ألقى الوسوسة إليه ، قال الحسن : وصلت وسوسته لهما في الجنة وهو في الأرض بالقوة التي خلقها الله له ، قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف يردّه لفظ القرآن ، وقيل : كان في السماء وكانا يخرجان إليه ، وقيل : من باب الجنة وهما بها ، وقيل : كان يدخل إليهما في فم الحية ، وقال الكرماني : ألهمهما ، وقال ابن القشيري : أورد عليهما الخواطر المزيّنة وهذان القولان يخالفان ظاهر القرآن لأن ظاهره يدلّ على قول ومحاورة وقسم والظاهر أنّ اللام لام كي قصد إبداء سوءاتهما وتنحطّ مرتبتهما بذلك ويسوءهما بكشف ما ينبغي ستره ولا يجتنبان نهى الله فيكونن هو وهما سواء في المخالفة هو أمر بالسجود فأبى ، وهما نهيا فلم ينتهيا ، وقال قوم : إنها لام الصيرورة لأنه لم يكن له علم بهذه العقوبة المخصوصة فيقصدها ، قال الزمخشري : وفيه دليل على أنّ كشف العورة من عظائم الأمور وأنه لم يزل مستهجناً في الطّباع مستقبحاً في العقول انتهى ، وهو على مذهبه الاعتزالي في أنّ العقل يقبح ويحسن ، والظاهر أنه يراد مدلول سوآتهما نفسهما وهما الفرْج والدّبر قيل : وكانا لا يريانهما قبل أكل الشجرة فلما أكلا بدتا لهما ، وقيل : لم يكن كل واحد يرى سوأة صاحبه ، وقال قتادة كنى سوءاتهما عن جميع بدنهما وذكر السوأة لأنها أقبح ما يظهر من بني آدم ، وقرأ الجمهور ) وُورِيَ ( ، وقرأ عبد الله أوري بإبدال الواو همزة وهو بدل جائز ، وقرأ ابن وثاب ما وري بواو مضمومة من غير واو بعدها على وزن كسى ، وقرأ مجاهد والحسن من سوّتهما بالإفراد وتسهيل الهمزة بإبدالها واواً وإدغام الواو فيها ، وقرأ الحسن أيضاً وأبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصّاح من سوّاتهما بتسيهل الهمزة وتشديد الواو ، وقرىء من سواتهما بواو واحدة وحذف الهمزة ووجهه أنه حذفها وألقى حركتها على الواو فمن قرأ بالجمع فهو من وضع الجمع موضع التثنية كراهة اجتماع مثلين ومن قرأ بالإفراد فمن وضعه موضع التثنية ويحتمل أن يكون الجمع على أصل وضعه باعتبار أنّ كل عورة هي الدّبر والفرْج وذلك أربعة : فهي جمع وإلا أن تكونا ملكين استثناء مفرّغ من المفعول من أجله أي ما نهاكما ربّكما لشيء

" صفحة رقم 280 "
إلا كراهة أن تكونا ملكين ويقدره الكوفيّون إلا أن تكونا وإضمار الاسم وهو كراهة أحسن من إضمار الحرف وهو لا ، وقال الزمخشري : وفيه دليل على أنّ الملائكة بالمنظر الأعلى وأن البشريّة تلمح مرتبتها انتهى . وقال ابن فورك : لا حجة في هذه الآية على أنّ الملائكة أفضل من البشر لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا يكون لهما شهوة في طعام انتهى ، وقرأ ابن عباس والحسن بن علي والضحّاك ويحيى بن كثير والزهري وابن حكيم عن ابن كثير ملكين بكسر اللام ، ويدلّ لهذه القراءة ) هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى ( ومن الخالدين من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين .
الأعراف : ( 21 ) وقاسمهما إني لكما . . . . .
( وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( لم يكتف إبليس بالوسوسة وهو الإلقاء في خفية سرًّا ولا بالقول حتى أقسم على أنه ناصح لهما والمقاسمة مفاعلة تقتضي المشاركة في الفعل فتقسم لصاحبك ويقسم لك تقول قاسمت فلاناً خالفته وتقاسما تحالفاً وأما هنا فمعنى وقاسمهما أقسم لهما لأنّ اليمين لم يشاركاه فيها . وهو كقول الشاعر : وقاسمهما بالله جهداً لأنتم
ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها
وفاعل قد يأتي بمعنى أفعل نحو باعدت الشيء وأبعدته ، وقال ابن عطية وقاسمهما أي حلف لهما وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره وإن كان بادي الرأي يعني أنها من واحد ، وقال الزمخشري : كأنه قال لهما أقسم لكما أني لمن الناصحين وقالا له أتقسم بالله إنك لمن الناصحين ، فجعل ذلك مقاسمة بينهم أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها أو أخرج قسم إبليس على وزن المفاعلة لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم انتهى ، وقرىء وقاسمهما بالله و ) لَّكُمَا ( متعلّق بمحذوف تقديره ناصح لكما أو أعني أو بالناصحين على أنّ أل موصولة وتسومح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غيرهما أو على أنّ أل لتعريف الجنس لا موصولة أوجه مقولة .
الأعراف : ( 22 ) فدلاهما بغرور فلما . . . . .
( فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ( أي استنزلهما إلى الأكل من الشجرة بغروره أي بخداعه إياهما وإظهار النّصح وإبطان الغش وإطماعهما أن يكونا ملكين أو خالدين وبإقسامه أنه ناصح لهما جعل من يغترّ بالكلام حتى يصدق فيقع في مصيبة بالذي يدلي من علو إلى أسفل بحبل ضعيف فينقطع به فيهلك ، وقال الأزهري : لهذه الكلمة أصلان أحدهما أنّ الرجل يدلي دلوه في البئر ليأخذ المائ فلا يجد فيها ماء ، وضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه فيقال : دلاّه أي أطمعه الثاني جرأهما على أكل الشجرة والأصل فيه دللهما من الدّال والدّلالة وهما الجراءة انتهى ، فأبدل من المضاعف الأخير حرف علة ، كما قالوا : تظنيت وأصله تظننت ومن كلام بعض العلماء : خدع الشيطان آدم فانخدع ونحن من خدعنا بالله عزّ وجل انخدعنا له وروى نحوه عن قتادة وعن ابن عمر . ) فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا ( أي وجدا طعمها آكلين منها كما قال تعالى فأكلا منها وتطايرت عنهما ملابس الجنة فظهرت لهما عوراتهما وتقدّم أنهما كانا قبل ذلك لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر ، وقال ابن عباس وقتادة وابن جبير : كان عليهما ظفر كاس فلما أكلا تبلس عنهما فبدت

" صفحة رقم 281 "
سوءاتهما وبقي منه على الأصابع قدر ما يتذكران به المخالفة فيجددان النّدم ، وقال وهب بن منبه : كان عليهما نور يسترة عورة كلّ واحد منهما فانقشع بالأكل ذلك النور وقيل كان عليهما نور فنقص وتجسّد منه شيء في أظفار اليدين والرجلين تذكرة لهما ليستغفروا في كلّ وقت وأبناؤهما بعدهما كما جرى لأويس القرني حين أذهب الله عنه البرص إلا لمعة أبقاها ليتذكر نعمه فيشكر . وقال قوم : لم يقصد بالسوأة العورة والمعنى انكشف لهما معايشهما وما يسؤهما وهذا القول ينبو عنه دلالة اللفظ ويخالف قول الجمهور ، وقيل : أكلت حواء أوّل فلم يصبها شيء ثم آدم فكان البدو .
( سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ( أي جعلا يلصقان ورقة على ورقة ويلصقانهما بعدما كانت كساهما حلل الجنة ظلا يستتران بالورق كما قيل : لله درّهم من فتية بكروا
مثل الملوك وراحوا كالمساكين
والأولى أن يعود الضمير في ) عَلَيْهِمَا ( على عورتيهما كأنه قيل ) يَخْصِفَانِ ( على سوآتهما من ورق الجنة ، وعاد بضمير الاثنين لأن الجمع يراد به اثنان ولا يجوز أن يعود الضمير على آدم وحواء لأنه تقرر في علم العربية أنه لا يتعدى فعل الظاهر والمضمر المتصل إلى المضمر المتصل المنصوب لفظاً أو محلاًّ في غير باب ظنّ وفقد وعلم ووجد لا يجوز زيد ضربه ولا ضربه زيد ولا زيد مر به زيد فلو جعلنا الضمير في ) عَلَيْهِمَا ( عائداً على آدم وحواء للزم من ذلك تعدّى يخصف إلى الضمير المنصوب محلاً وقد رفع الضمير المتصل وهو الألف في يخصفان فإن أخذ ذلك على حذف مضاف مراد جاز ذلك وتقديره يخصفان على بدنيهما ، قال ابن عباس : الورق الذي خصفا منه ورق الزيتون ، وقيل : ورق شجر التين ، وقيل : ورق الموز ولم يثبت تعيينها لا في القرآن ولا في حديث صحيح ، وقرأ أبو السّمال ) وَطَفِقَا ( بفتح الفاء ، وقرأ الزهري ) يَخْصِفَانِ ( من أخصف فيحتمل أن يكون أفعل بمعنى فعل ويحتمل أن تكون الهمزة للتعدية من خصف أي يخصفان أنفسهما ، وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب ) يَخْصِفَانِ ( بفتح الياء وكسر الخاء والصاد وشدّها ، وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب كذلك إلا أنه فتح الخاء ، ورويت عن ابن بريدة وعن يعقوب ، وقرىء ) يَخْصِفَانِ ( بالتشديد من خصف على وزن فعل ، وقرأ عبد الله بن يزيد يخصفان بضمّ الياء والخاء وتشديد الصاد وكسرها وتقرير هذه القراآت في علم العربية .
( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( لما كان وقت النداء شرّف بالتصريح باسمه في النداء فقيل ويا آدم اسكن وحين كان وقت العتاب أخبر أنه ناداه ولم يصرّح باسمه والظاهر أنه تعالى كلمهما بلا واسطة ويدلّ على أن الله كلم آدم ما في تاريخ ابن أبي خيثمة أنه عليه السلام سئل عن آدم فقال : نبيّ مكلم ، وقال الجمهور : إنّ النداء كان بواسطة الوحي ويؤيده أنّ موسى عليه السلام هو الذي خصّ من بين العالم بالكلام وفي حديث الشفاعة أنهم يقولون له أنت الذي خصّك الله بكلامه وقد يقال : إنه خصه بكلامه وهو في الأرض وأما آدم فكان ذلك له في الجنة وقد تقدّم لنا في قوله منهم من كلم الله إنّ منهم محمداً كلّمه الله ليلة الإسراء ولم يكلمه في الأرض فيكون موسى مختصّاً بكلامه في الأرض ، وقيل : النداء لآدم على الحقيقة ولم يرو قط أنّ الله كلم حواء والنداء هو دعاء الشّخص باسمه العلم أو بنوعه أو بوصفه ولم يصرّح هنا بشيء من ذلك والجملة معمولة لقول محذوف أي قائلاً : ألم أنهكما وهو استفهام معناه العتاب على ما صدر منهما والتنبيه على موضع الغفلة في قوله ) تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ ( إشارة لطيفة حيث كان مباحاً له الأكل قاراً ساكناً أشير

" صفحة رقم 282 "
إلى الشجرة باللفظ الدّال على القرب والتمكّن من الأشجار فقيل : ) وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ ( وحيث كان تعاطى مخالفة النهي وقرب إخراجه من الجنة واضطراب حاله فيها وفرّ على وجهه فيها قيل : ألم أنهكما عن تلكما فأشير إلى الشجرة باللفظ الدّال على البعد والإنذار بالخروج منها ) وَأَقُل لَّكُمَا ( إشارة إلى قوله تعالى : ) فَقُلْنَا يائَادَمُ أَن لاَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ( وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من يحمل النسيان على بابه ). قال ابن عباس بين العداوة حيث أبي السّجود وقال ) ). قال ابن عباس بين العداوة حيث أبي السّجود وقال ) لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( روى أنه تعالى قال لآدم : ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة فقال بلى وعزّتك ولكن ما ظننت أن أحداً من خلقك يحلف كاذباً قال فوعزّتي لأهبطنّك إلى الأرض ثم لا تنال إلا كدّاً فاهبط وعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد ودرس وذرّى وعجن وخبز ، وقرأ أبيّ ألم تنهيا عن تلكما الشجرة وقيل لكما .
الأعراف : ( 23 ) قالا ربنا ظلمنا . . . . .
( قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( قال الزمخشري وسمّيا ذنبهما وإن كان صغيراً مغفوراً ظلماً وقالا ) لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( على عادة الأولياء والصالحين في استعظامهم الصغير من السيئات ، وقال ابن عطية اعتراف من آدم وحوّاء عليهما السلام وطلب للتوبة والسّتر والتغمّد بالرّحمة فطلب آدم هذا وطلب إبليس النظرة ولم يطلب التوبة فوكل إلى رأيه ، قال الضحاك : هذه الآية هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه ، وقيل : سعد آدم بخمسة أشياء اعترف بالمخالفة وندم عليها ، ولام نفسه وسارع إلى التوبة ولم يقنط من الرحمة ، وشقي إبليس بخمسة أشياء لم يقرّ بالذنب ، ولم يندم ، ولم يسلم نفسه بل أضاف إلى ربّه الغواية ، وقنط من الرحمة ، و ) لَنَكُونَنَّ ( جواب قسم محذوف قبل ) ءانٍ ( كقوله و ) إِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ( التقدير والله إن لم يغفر لنا وأكثر ما تأتي إنّ هذه ولام التوطئة قبلها كقوله ) لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ( ثم قال : لنغرينّك بهم .
الأعراف : ( 24 ) قال اهبطوا بعضكم . . . . .
( قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الاْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( تقدّم تفسير هذا في البقرة .
الأعراف : ( 25 ) قال فيها تحيون . . . . .
( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ). هذا كالتفسير لقوله ) وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( أي بالحياة إلى حين الموت ولذلك جاء قال بغير واو العطف إذ الأكثر في لسان العرب إذا لم تكن الجملة تفسيرية أو كالتفسيرية أن تعطف على الجملة قبلها فتقول قال فلان كذا ، وقال كذا وتقول زيد قائم وعمرو قاعد ويقل في كلامهم قال فلان كذا قال كذا وكذلك يقل زيد قائم عمرو قاعد وهنا جاء ) قَالَ اهْبِطُواْ ( الآية ) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ ( لما كانت كالتفسير لما قبلها وتمم هنا المقصود بالتنبيه علي البعث والنشور بقوله ) وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( أي إلى المجازاة بالثواب والعقاب وهذا كقوله ) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ). وقرأ الأخوان وابن ذكوان تخرجون مبنياً للفاعل هنا وعن ابن ذكوان في أوّل الروم خلاف ، وقرأ باقي السّبعة مبنياً للمفعول .
الأعراف : ( 26 ) يا بني آدم . . . . .
( يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قصة آدم وفيها ستر السوءات وجعل له في الأرض مستقرّاً ومتاعاً ذكر ما امتنّ به على بنيه وما أنعم به عليهم من اللّباس الذي يواري السوءآت والرّياش الذي يمكن به استقرارهم في الأرض واستمتاعهم بما خولهم ، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية والثلاث بعدها فيمن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت وذكر النقاش أنها كانت عادة ثقيف وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج والحرث وعامر ابني عبد مناة نسائهم ورجالهم وأنزلنا قيل على حقيقته من الانحطاط من علو إلى سفل فأنزل مع آدم وحواء شيئاً من اللباس مثالاً لغيره ثم توسع بنوهما في الصّنعة استنباطاً من ذلك المثال أو أنزل من السماء أصل كل شيء عند إهباطهما أو أنزل معه الحديد فاتخذ منه آلات الصنائع أو أنزل الملك فعلم آدم النسج أربعة أقوال ، وقيل : الإنزال مجاز من إطلاق السّبب على مسببه فأنزل المطر وهو سبب ما يتهيأ منه اللباس أو بمعنى خلق كقوله ) وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ (

" صفحة رقم 283 "
أو بمعنى الهم ، وقال الزمخشري جعل ما في الأرض منزلاً من السماء لأنه قضى ثم وكتب ومنه وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ، وقال ابن عطية : أنزلنا يحتمل أن يريد بالتدريج أي لما أنزل المطر فكان عنه جميع ما يلبس قال عن اللباس ) أَنزَلْنَا ( وهذا نحو قول الشاعر يصف مطراً : أقبل في المشين من سحابة
أسنمة الآبال في ربابه
أي بالمال ويحتمل أن يريد خلقنا فجاءت العبارة بأنزلنا كقوله ) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( وقوله ) وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ( وأيضاً فخلق الله وأفعاله إنما هي من علو في القدر والمنزلة انتهى واللباس يعم جميع ما يلبس ويستر والرّيش عبارة عن سعة الرزق ورفاهية العيش ووجود اللبس والتمتع وأكثر أهل اللغة على أنّ الريش ما يستر من لباس أو معيشة ، وقال قوم : الإناث ، وقال ابن عباس والسدّي ومجاهد : المال ، وقال ابن زيد : الجمال ، وقال الزمخشري : لباس الزينة استعير من ريش الطائر لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوءاتكم ولباساً يزيّنكم لأنّ الزينة غرض صحيح كما قال تعالى : ) لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ( انتهى . وعطف ) الريش ( على ) الَّيْلَ لِبَاساً ( يقتضي المغايرة وأنه قسيم للباس لا قسم منه ، وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن حبيش وعاصم في رواية وأبو عمرو في رواية ورياشا ، فقيل : هما مصدران بمعنى واحد راشه الله يريشه ريشاً ورياشاً أنعم عليه ، وقال الزمخشري : جمع ريش كشعب وشعاب ، وقال الزّجاج : هما اللباس ، وقال الفرّاء : هما ما يستر من ثياب ومال كما يقال لبس ولباس ، وقال معبد الجهني : الرياش المعاش ، وقال ابن الأعرابي : الريش الأكل والشرب والرياش المال المستفاد ، وقيل : الريش ما بطن والرياش ما ظهر ، وقرأ الصاحبان والكسائي : ) وَلِبَاسُ التَّقْوَى ( بالنصب عطفاً على المنصوب قبله ، وقرأ باقي السّبعة بالرفع ، فقيل هو على إضمار مبتدأ محذوف أي وهو لباس التقوى قاله الزّجاج ) وَذَلِكَ خَيْرٌ ( على هذا مبتدأ وخبر وأجاز أبو البقاء أن يكون ) وَلِبَاسُ ( مبتدأ وخبره محذوف تقديره ولباس التّقوى ساتر عوراتكم ، وهذا ليس بشيء والظاهر أنه مبتدأ ثانٍ ) وَخَيْرٌ ( والجملة خبر عن ) وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ( والرابط اسم الإشارة وهو أحد الروابط الخمس المتفق عليها في ربط الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ إذا لم يكن إياه ، وقيل : ذلك بدل من لباس ، وقيل : عطف بيان ، وقيل : صفة وخبر ) وَلِبَاسُ ( هو ) خَيْرٌ ( ، وقال الحوفي : وأنا أرى أن لا يكون ذلك نعتاً للباس التقوى لأنّ الأسماء المبهمة أعرف مما فيه الألف واللام وما أضيف إلى الألف واللام وسبيل النعت أن يكون مساوياً للمنعوت أو أقلّ منه تعريفاً فإن كان قد تقدّم قول أحدٍ به فهو سهو وأجاز الحوفي أن يكون ذلك فصلاً لا موضع له من الإعراب ويكون ) خَيْرٌ ( خبراً لقوله ) وَلِبَاسُ التَّقْوَى ( فجعل اسم الإشارة فصلاً كالمضمر ولا أعلم أحداً قال بهذا وأما قوله فإن كان قد تقدّم قول أحد به فهو سهو فقد ذكره ابن عطية وقال : هو أنبل الأقوال ذكره أبو علي في الحجة انتهى ؛ وأجازه أيضاً أبو البقاء وما ذكره الحوفي هو الصواب على أشهر الأقوال في ترتيب المعارف ، وقرأ عبد الله وأبيّ ولباس التقوى خير

" صفحة رقم 284 "
بإسقاط ذلك فهو مبتدأ وخبر والظاهر حمله على اللباس حقيقة ، فقال ابن زيد هو ستر العورة وهذا فيه تكرار لأنه قد قال ) لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ ( ، وقال زيد بن علي : الدّرع والمغفر والساعدان لأنه يتقي بها في الحرب . وقيل : الصّوف ولبس الخشن ، وروي اخشوشنوا وكلوا الطعام الخشن ، وقيل ما يقي من الحرّ والبرد ، وقال عثمان بن عطاء : لباس المتقين في الآخرة ، وقيل لباس التقوى مجاز ، وقال ابن عباس : العمل الصالح ، وقال أيضاً : العفة ، وقال عثمان بن عفّان وابن عباس أيضاً : السّمت الحسن في الوجه ، وقال معبد الجهني : الحياء ، وقال الحسن : الورع والسّمت الحسن ، وقال عروة بن الزبير : خشية الله ، وقال ابن جريج : الإيمان ، وقيل ما يظهر من السكينة والإخبات ، وقال يحيى بن يحيى : الخشوع والأحسن أن يجعل عاماً فكلّ ما يحصل به الاتقاء المشروع فهو من لباس التقوى والإشارة بقوله ذلك من آيات الله إلى ما تقدّم من إنزال اللباس والرّياش ولباس التقوى والمعنى من آيات الله الدالّة على فضله ورحمته على عباده ، وقيل : من موجب آيات الله ، وقيل : الإشارة إلى ) لِبَاسَ التَّقْوَى ( أي هو في العبر آية أي علامة وأمارة من الله أنه قد رضي عنه ورحمه لعلهم يذكرون هذه النعم فيشكرون الله عليها .
الأعراف : ( 27 ) يا بني آدم . . . . .
( يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا ). أي لا يستهوينّكم ويغلب عليكم وهو نهي للشيطان والمعنى نهيهم أنفسهم عن الإصغاء إليه والطواعية لأمره كما قالوا لا أرينك هنا ومعناه النهي عن الإقامة بحيث يراه ، وكما في موضع نصب أي فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم ويجوز أن يكون المعنى لا يخرجنّكم عن الدين بفتنته إخراجاً مثل إخراجه أبويكم ، وقرأ يحيى وإبراهيم : ) لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ( بضمّ الياء من أفتن ، وقرأ زيد بن علي : لا يفتنكم بغير نون توكيد والظاهر أنّ لباسهما هو الذي كان عليهما في الجنة ، وقال مجاهد هو لباس التقوى ) وسوءاتهما ( هو ما يسوءهما من المعصية وينزع حال من الضمير في ) كَمَا أَخْرَجَ ( أو من ) أَبَوَيْكُم ( لأنّ الجملة فيها ضمير الشيطان وضمير الأبوين فلو كان بدل ينزع نازعاً تعين الأول لأنه إذ ذاك لوجوز الثاني لكان وصفاً جرى على غير من هوله فكان يجب إبراز الضمير وذلك على مذهب البصريين وينزع حكاية أمر قد وقع لأنّ نزع اللباس عنهما كان قبل الإخراج ونسب النزع إلى الشيطان لما كان متسبباً فيه . ) إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ( أي إنّ الشيطان وهو إبليس يبصركم هو وجنوده ونوعه وذريته من الجهة التي لا تبصرونه منها وهم أجسام لطيفة معلوم من هذه الشريعة وجودهم ، كما أنّ الملائكة أيضاً معلوم وجودهم من هذه

" صفحة رقم 285 "
الشريعة ولا يستنكر وجود أجسام لطيفة جدّاً لا نراها نحن ألا ترى أنّ الهواء جسم لطيف لا ندركه نحن وقد قام البرهان العقلي القاطع على وجوده وقد صحّ تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهم في تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريرة حين جعل يحفظ تمرّ الصدقة والعفريت الذي رآه الرسول وقال فيه : ( لولا دعوة أخي سليمان لربطته إلى سارية من سواري المسجد ) ، وكحديث خالد بن الوليد حين سير لكسر ذي الخلصة ، وكحديث سواد بن قارب مع رئية من الجنّ إلا أنّ رؤيتهم في الصور نادرة كما أنّ الملائكة تبدو في صور كحديث جبريل وحديث الملك الذي أتى الأعمى والأقرع والأبرص وهذا أمر قد استفاض في الشريعة فلا يمكن ردّه أعني تصورهم في بعض الأحيان في الصّور الكثيفة ، وقال الزمخشري : وفيه دليل بيّن على أنّ الجن لا يُرون ولا يظهرون للإنس وأنّ إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم وأنّ زعم من يدّعي رؤيتهم زور ومخرفة انتهى ، ولا دليل في الآية على ما ذكر لأنه تعالى أثبت أنهم يروننا من جهة لا نراهم نحن فيها وهي الجهة التي يكونون فيها على أصل خلقتهم من الأجسام اللطيفة ولو أراد نفي رؤيتنا على العموم لم يتقيّد بهذه الحيثية وكان يكون التركيب أنه يراكم هو وقبيله وأنتم لا ترونهم وأيضاً فلو فرضنا أنّ في الآية دلالة لكان من العام المخصوص بالحديث النبوي المستفيض فيكونون مرئيين في بعض الصور لبعض الناس في بعض الأحيان وفي كتب التحرير أنكر جماعة من الحكماء تكرّر الجن والشياطين وتصوّرهم على أي جهة شاؤوا وقوله ) إِنَّهُ يَرَاكُمْ ( تعليل للنهي وتحذير من فتنته فإنه بمنزلة العدوّ المداجي يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون وفي الحديث أنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم إشارة إلى أنه لا يفارقه وأنه يرصد غفلاته فيتسلط عليه والظاهر أن الضمير في ) أَنَّهُ ( عائد على الشيطان ، وقال الزمخشري : والضمير في ) أَنَّهُ ( ضمير الشأن والحديث انتهى ، ولا ضرورة تدعو إلى هذا ) وَقَبِيلُهُ ( معطوف على الضمير المستكن في ) يَرَاكُمْ ( ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أو معطوفاً على موضع اسم إن على مذهب من يجيز ذلك ، وقرأ اليزيدي ) وَقَبِيلُهُ ( بنصب اللام عطفا على اسم إنّ إن كان الضمير يعود على الشيطان ) وَقَبِيلُهُ ( مفعول معه أي مع قبيله ، وقرىء شاذاً من حيث لا ترونه بإفراد الضمير فيحتمل أن يكون عائداً على الشيطان ) وَقَبِيلُهُ ( إجراء له مجرى اسم الإشارة فيكون كقوله : فيها خطوط من سواد وبلق
كأنه في الجلد توليع البهق
أي كان ذلك ويحتمل أن يكون عاد الضمير على الشيطان وحده لكونه رأسهم وكبيرهم وهم له تبع وهو المفرد بالنّهي أولاً .
( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( أي صيّرنا الشياطين ناصريهم وعاضديهم في الباطل ، وقال الزجاج : سلطناهم عليهم يزيدن في غيّهم فيتابعونهم على ذلك فصاروا أولياءهم ، وقيل : جعلناهم قرناء لهم ، وحكى الزهراوي أنّ جعل هنا بمعنى وصف وهي نزغة اعتزالية ، وقال الزمخشري :

" صفحة رقم 286 "
خلّينا بينهم وبينهم لم نكفهم عنهم حتى نولوهم وأطاعوهم فيما سولوا لهم من الكفر والمعاصي وهذا تحذير آخر أبلغ من الأوّل ، انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
2 ( ) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( ) ) 2
الأعراف : ( 28 ) وإذا فعلوا فاحشة . . . . .
( وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ( أي إذا فعلوا ما تفاحش من الذموب اعتذروا والتقدير وطلبوا بحجة على ارتكابها قالوا : آباؤنا كانوا يفعلونها فنحن نقتدي بهم والله أمرنا بها ، كانوا يقولون لو كره الله منّا ما نفعله لنقلنا عنه والإخبار الأوّل يتضمّن التقليد لآبائهم والتقليد باطل إذ ليس طريقاً للعلم ، والإخبار الثاني افتراء على الله تعالى ، قال ابن عطية والفاحشة وإن كان اللفظ عاماً هي كشف العورة في الطواف ، فقد رُوي عن الزهري أنه قال : في ذلك نزلت هذه الآيات ، وقاله ابن عباس ومجاهد انتهى ، وبه قال زيد بن أسلم والسّدي ، وقال الحسن وعطاء والزجاج : الفاحشة هنا الشرك ، وقيل : البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، وقيل : الكبائر والظاهر من قوله ) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً ( أنه إخبار مستأنف عن هؤلاء الكفار بما كانوا يقولون إذا ارتكبوا الفواحش ، وقال ابن عطية : وإذا فعلوا وما بعده داخل في صلة ) الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ليقع التوبيخ بصفة قوم قد جعلوا أمثالاً للمؤمنين إذا شبّه فعلهم فعل الممثل بهم ، وقال الزمخشري : وعن الحسن أنّ الله تعالى بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى العرب وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله تعالى وتصديقه قول الله عز وجل ) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً ( ، انتهت حكايته عن الحسن ولعلها لا تصحّ عن الحسن وانظر إلى دسيسة الزمخشري في قوله وهم قدرية فإنّ أهل السنة يجعلون المعتزلة هم القدرية فعكس هو عليهم وجعلهم هم القدرية حتى أن ما جاء من الذّم للقدرية يكون لهم وهذه النسبة من حيث العربية هي أليق بمن أثبت القدر لا بمن نفاه ، وقول أهل السنة في المعتزلة أنهم قدرية معناه أنهم ينفون القدر ويزعمون أنّ الأمر آنف وذلك شبيه بما يقول بعضهم في داود الظاهري أنه القياسي ومعناه نافي القياس .
( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ( أي بفعل الفحشاء وإنما لم يرد التقليد لظهور بطلانه لكلّ أحد للزومه الأخذ بالمتناقضات وأبطل تعالى دعواهم أنّ الله أمر بها إذ مدرك ذلك إنما هو الوحي على لسان الرسل والأبياء ولم يقع ذلك ، وقال الزمخشري : لأن فعل القبيح مستحيل عليه لعدم الداعي ووجود الصارف فكيف يأمر بفعله . ) أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( إنكار لإضافتهم القبيح إليه وشهادة على أنّ مبني أمرهم على الجهل المفرط انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة ، وقال ابن عطية : وبّخهم على كذبهم ووقفهم على ما لا علم لهم به ولا رواية لهم فيه بل هي دعوى واختلاق .

" صفحة رقم 287 "
2 ( ) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ يَابَنِىءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِىأَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ يَابَنِىآدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِى فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِأايَاتِهِ أُوْلَائِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ قَالَ ادْخُلُواْ فِىأُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاٍّ ولَاهُمْ رَبَّنَا هَاؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَأاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لاٌّ خْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاٌّ نْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلاأَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَنَادَىأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّن

" صفحة رقم 288 "
َ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالاٌّ خِرَةِ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الاٌّ عْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى أَصْحَابُ الاٌّ عْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَاذَا وَمَا كَانُواْ بِأايَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاٌّ مْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } )
الأعراف : ( 29 ) قل أمر ربي . . . . .
بدأ الشيء أنشأه واخترعه ، الجمل الحيوان المعروف وجمعه جمال وأجمل ولا يسمّى جملاً حتى يبلغ أربع سنين والجمل حبل السفينة ولغاته تأتي في المركبات . سمّ الخياط ثقبه وتضم سين سم وتفتح وتكسر ، وكل ثقب في أنف أو أذن أو غير ذلك ، فالعرب تسميه سماً والخياط وهما آلتان كإزار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع . الغل الحقد والإحنة الخفية في النفس وجمعها غلال ومنه الغلول أخذ في خفاء . نعم حرف يكون تصديقاً لإثبات محض أو لما تضمّنه استفهام وكسر عينها لغة لقريش وإبدال عينها بالحاء لغة ووقوعها جواباً بعد نفي يراد به التقرير نادر . الأعراف جمع عرف وهو المرتفع من الأرض . قال الشاعر : كل كناز لحمه يناف
كالجبل الموفى على الأعراف
وقال الشماخ :

" صفحة رقم 289 "
فظلت بأعراف تعادي كأنها
رماح نحاها وجهة الرمح راكز
ومنه عرف الفرس وعرف الديك لعلوّهما . الستة رتبة من العدد معروفة وأصلها سدسة فأبدلوا من السين تاء ولزم الإبدال ثم أدغموا الدّال في التاء بعد إبدال الدّال بالتاء ولزم الإدغام وتصغيره سديس وسديسة . الحثّ الإعجال حثثت فلاناً فأحثثت قاله الليث وقال : فهو حثيث ومحثوث .
( قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ ). قال ابن عباس القسط هنا لا إله إلا الله لأن أسباب الخير كلها تنشأ عنها ، وقال عطاء والسدّي : العدل وما يظهر في القول كونه حسناً صواباً ، وقيل الصدق والحق . ) وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ). وأقيموا معطوف على ما ينحل إليه المصدر الذي هو القسط أي بأن أقسطوا وأقيموا وكما ينحل المصدر ل ( أن ) والفعل الماضي نحو عجبت من قيام زيد وخرج أي من أن قام وخرج وأن والمضارع نحو :
للبس عباءة وتقرّ عيني
أي لأن ألبس عباءة وتقر عيني كذلك ينحل لأن وفعل الأمر ألا ترى أنّ أن توصل بفعل الأمر نحو كتبت إليه بأن فم كما توصل بالماضي والمضارع بخلاف ما المصدرية فإنها لا توصل بفعل الأمر وبخلاف كي إذا لم تكن حرفاً وكانت مصدرية فإنها توصل بالمضارع فقط ولما أشكل هذا التخريج جعل الزمخشري ) وَأَقِيمُواْ ( على تقدير وقل فقال : أقيموا فيحتمل قوله وقل أقيموا أن يكون ) أَقِيمُواْ ( معمولاً لهذا الفعل الملفوظ به ، ويحتمل أن يكون قوله ) وَأَقِيمُواْ ( معطوفاً على ) أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ ( فيكون معمولاً لقل الملفوظ بها أولاً وقدّرها ليبيّن أنها معطوفة عليها وعلى ما خرّجناه نحن يكون في خبر معمول أمر ، وقيل : ) وَأَقِيمُواْ ( معطوف على أمر محذوف تقديره فأقبلوا وأقيموا ، وقال ابن عباس والضحّاك واختاره ابن قتيبة : المعنى إذا حضرت الصلاة فصلوا في كل مسجد ولا يقل أحدكم أصلي في مسجدي ، وقال مجاهد والسدّي وابن زيد : معناه توجّهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة ، وقال الرّبيع : اجعلوا سجودكم خالصاً لله دون غيره ، وقيل : معناه اقصدوا المسجد في وقت كلّ صلاة أمراً بالجماعة ذكره الماوردي ، وقيل : معناه إذا كان في جواركم مسجد فأقيموا الجماعة فيه ولا تتجاوزوا إلى غيره ذكره التبريزي ، وقيل هو أمر بإحضار النيّة لله في كل صلاة والقصد نحوه كما تقول ) وَجَّهْتُ وَجْهِىَ ( الآية قاله الربيع أيضاً ، وقيل معناه إباحة الصّلاة في كل موضع من الأرض أي حيثما كنتم فهو مسجد لكم يلزمكم عنده الصّلاة وإقامة وجوهكم فيه لله وفي الحديث : ( جعلت لي الأرض مسجداً فأيّما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث كان ) . وقال الزمخشري : أي اقصدوا عبادته مستقيمين إليه غير عادلين إلى غيرها عند كل مسجد في وقت كل سجود وفي كل مكان سجود وهو الصلاة وادعوه

" صفحة رقم 290 "
مخلصين له الدين . قيل : الدعاء على بابه أمر به مقروناً بالإخلاص لأنّ دعاء من لا يخلص الدين لله لا يجاب ، وقيل : معناه اعبدوا ، وقيل : قولوا لا إله إلا الله .
( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ). قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة هو إعلام بالبعث أي كما أوجدكم واخترعكم كذلك يعيدكم بعد الموت ولم يذكر الزمخشري غير هذا القول . قال : كما أنشأكم ابتداء يعيدكم احتجّ عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق والمعنى أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة انتهى ، وهذا قول الزّجاج قال : كما أحياكم في الدّنيا يحييكم في الآخرة وليس بعثكم بأشد من ابتداء إنشائكم وهذا احتجاج عليهم في إنكارهم البعث انتهى ، وقال ابن عباس أيضاً وجابر بن عبد الله وأبو العالية ومحمد بن كعب وابن جبير والسدّي ومجاهد أيضاً والفرّاء ، وروى معناه عن الرّسول أنه إعلام بأنّ من كتب عليه أنه من أهل الشقاوة والكفر في الدّنيا هم أهل ذلك في الآخرة وكذلك من كتب له السعادة والإيمان في الدنيا هم أهل ذلك في الآخرة لا يتبدّل شيء مما أحكمه ودبّره تعالى ويؤيد هذا المعنى قراءة أبيّ ) تَعُودُونَ ( فريقين ) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ( وعلى هذا المعنى يكون الوقف على ) تَعُودُونَ ( غير حسن لأنّ ) فَرِيقاً ( نصب على الحال وفريقاً عطف عليه
الأعراف : ( 30 ) فريقا هدى وفريقا . . . . .
والجملة من ) هُدًى ( ومن ) حَقّ ( في موضع الصفة لما قبله وقد حذف الضمير من جملة الصفة أي هداهم ، وجوّز أبو البقاء أن يكون ) فَرِيقاً ( مفعول ) هُدًى ( ) وَفَرِيقًا ( مفعول أضل مضمرة والجملتان الفعليتان حال ، وهدى على إضمار قد أي تعودون قد هدى فريقاً وأضلّ فريقاً ، وعلى المعنى الأوّل يحسن الوقف على ) تَعُودُونَ ( ويكون ) فَرِيقاً ( مفعولاً بهدى ويكون ) وَفَرِيقًا ( منصوباً بإضمار فعل يفسّر قوله ) حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ( ، وقال الزمخشري : ) فَرِيقًا هَدَى ( وهم الذين أسلموا أي وفّقهم للإيمان وفريقاً حقّ عليهم الضلالة أي كلمة الضلالة وعلم الله تعالى أنهم يضلون ولا يهتدون وانتصاب قوله تعالى ) وَفَرِيقًا ( بفعل يفسره ما بعده كأنه قيل وخذل فريقاً حقّ عليهم الضلالة انتهى ؛ وهي تقادير على مذهب الاعتزال ، وقيل المعنى تعودون لا ناصر لكم ولا معين لقوله ) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ( ، وقال الحسن : كما بدأكم من التراب يعيدكم إلى التراب ، وقيل : معناه كما خلقكم عراة تبعثون عراة ومعنى ) حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ( أي حقّ عليهم من الله أو حقّ عليهم عقوبة الضّلالة هكذا قدّره بعضهم ، وجاء إسناد الهدى إلى الله ولم يجيء مقابله وفريقاً أضلّ لأنّ المساق مساق من نهى عن أن يفتنه الشيطان وإخبار أنّ الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وأنّ الله لا يأمر بالفشحاء وأمر بالقسط وإقامة الصلاة فناسب هذا المساق أن لا يسند إليه تعالى الضّلال ، وإن كان تعالى هو الهادي وفاعل الضلالة فكذلك عدل إلى قوله ) حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ).
) إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (

" صفحة رقم 291 "
أي إنّ الفريق الضالّ ) اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء ( أنصار وأعواناً يتولونهم وينتصرون بهم كقول بعضهم أعل هبل أعل هبل والظاهر أن المراد حقيقة الشياطين فهم يعينونهم على كفرهم والضالّون يتولونهم بانقيادهم إلى وسوستهم ، وقيل : الشياطين أحبارهم وكبراؤهم ، قال الطبري : وهذه الآية دليل على خطأ قول من زعم أنّ الله تعالى لا يعذّب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلاّ أن يأتيها على علم منه بموضع الصّواب انتهى ، ووجه الدلالة قوله ) وَيَحْسَبُونَ ( والمحسبة الظنّ لا العلم ، وقرأ العباس بن الفضل وسهل بن شعيب وعيسى بن عمر ) إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا ( بفتح الهمزة وهو تعليل لحقّ الضلالة عليهم والعكس يحتمل التعليل من حيث المعنى ، وقال الزمخشري : أي تولّوهم بالطاعة فيما أمروهم به وهذا دليل على أنّ علم الله تعالى لا أثر له في ضلالهم وأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين دون الله تعالى انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
الأعراف : ( 31 ) يا بني آدم . . . . .
( يَابَنِىءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ ( كان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت عراة وكانوا لا يأكلون في أيام حجهم دسماً ولا ينالون من الطعام إلاّ قوتاً تعظيماً لحجهم فنزلت ، وقيل : كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها ، وقيل : تفاؤلاً ليتعرُّوا من الذنوب كما تعروا من الثياب . والزينة فعلة من التزين وهو اسم ما يُتجمل به من ثياب وغيرها كقوله وازّينت أي بالنبات والزينة هنا المأمور بأخذها هو ما يستر العورة في الصلاة قاله مجاهد والسدّي والزجاج ، وقال طاووس الشملة من الزّينة ، وقال مجاهد : ما وارى عورتك ولو عباءة فهو زينة . وقيل ما يستر العورة في الطّواف ، وفي صحيح مسلم عن عروة أنّ العرب كانت تطوف عراة إلا الخمس وهم قريش إلاّ أن تعطيهم الخمس ثياباً فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء وفي غير مسلم : من لم يكن له صديق بمكة يعيره ثوباً طاف عرياناً أو في ثيابه وألقاها بعد فلا يمسّها أحد ويسمّى اللقاء . وقال بعضهم : كفى زحزناً كرى عليه كأنه
لقي بين أيدي الطائفين حريم
وكانت المرأة تنشد وهي تطوف عريانة : اليوم يبدو بعضه أو كله
وما بدا منه فلا أحلّه
فلما بعث الله رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأنزل عليه ) يَابَنِىءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ ( أذّن مؤذّن الرسول ألاّ لا يحجّ البيت بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، وكان النداء بمكة سنة تسع ، وقال عطاء وأبو روق : تسريح اللحى وتنويرها بالمشط والترجيل ، وقيل : التزين بأجمل اللباس في الجمع والأعياد ذكره الماوردي ، وقيل : رفع اليدين في تكبيرة الإحرام والرّكوع والرفع منه ، وقيل إقامة الصلاة في الجماعة بالمساجد وكان ذلك

" صفحة رقم 292 "
زينة لهم لما في الصلاة من حسن الهيئة ومشابهة صفوف الملائكة ولما فيها من إظهار الإلفة وإقامة شعائر الدين ، وقيل : ليس النّعال في الصلاة وفيه حديث عن أبي هريرة ، وقال ابن عطيّة : وما أحسبه يصحّ ، وقال أيضاً : الزّينة هنا الثّياب الساترة ويدخل فيها ما كان من الطيّب للجمعة والسّواك وبدل الثياب وكل ما أوجد استحسانه في الشّريعة ولم يقصد به الخيلاء وعند كل مسجد يريد عند كل موضع سجود ، فهو إشارة إلى الصّلوات وستر العورة فيها هو مهم الأمر ويدخل في الصّلاة مواطن الخير كلها ومع ستر العورة ما ذكرنا من الطيب للجمعة انتهى ، وقال الزمخشري : ) خُذُواْ زِينَتَكُمْ ( أي ريشكم ولباس زينتكم ) عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ( كلما صلّيتم وكانوا يطوفون عراة انتهى ، والذي يظهر أنّ الزّينة هو ما يتجمل به ويتزين عند الصلاة ولا يدخل فيه ما يستر العورة لأنّ ذلك مأمور به مطلقاً ولا يختصّ بأن يكون ذلك عند كلّ مسجد ، ولفظة ) كُلّ مَسْجِدٍ ( تأتي أن يكون أيضاً ما يستر العورة في الطّواف لعمومه والطّواف إنما هو الخاص وهو المسجد الحرام وليس بظاهر حمل العموم على كل بقعة منه وأيضاً فيا بني آدم عام وتقييد الأمر بما يستر العورة في الطّواف مفض إلى تخصيصه بمن يطوف بالبيت ، وقال أبو بكر الرازي في الآية دليل على فرض ستر العورة في الصلاة وهو قول أبي يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد والشافعي لقوله : ) عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ( علق الأمر بد فدل على أنه الستر للصلاة ، وقال : مالك والليث : كشف العورة حرام ويوجبان الإعادة في الوقت استحباباً إن صلّى مكشوفها ، وقال الأبهري : هي فرض في الجملة وعلى الإنسان أن يسترها في الصلاة وغيرها وهو الصحيح لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) للمسور ابن مخرمة : ( ارجع إلى قومك ولا تمشوا عراة ) ، أخرجه مسلم ) وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( ، قال الكلبي : معناه كلوا من اللحم والدّسم واشربوا من الألبان وكانوا يحرمون جميع ذلك في الإحرام ، وقال السدّي : كلوا من البحيرة وأخواتها والظاهر أنه أمر بإباحة الأكل والشرب من كل ما يمكن أن يؤكل أو يشرب مما يحظر أكله وشربه في الشريعة وإن كان النزول على سبب خاص كما ذكروا من امتناع المشركين من أكل اللحم والدّسم أيام إحرامهم أو بني عامر دون سائر العرب من ذلك وقول المسلمين بذلك والنهي عن الإسراف يدلّ على التحريم لقوله ) إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( ، قال ابن عباس : الإسراف الخروج عن حد الاستواء ، وقال أيضاً ) لا تُسْرِفُواْ ( في تحريم ما أحل لكم ، وقال أيضاً : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة ، وقال ابن زيد : الإسراف أكل الحرام ، وقال الزجاج الإسراف الأكل من الحلال فوق الحاجة ، وقال مقاتل : الإسراف الإشراك ، وقيل : الإسراف مخالفة أمر الله في طوافهم عراة يصفقون ويصفرون ، وقال ابن عباس أيضاً : ليس في الحلال سرف إنما السّرف في ارتكاب المعاصي ، قال ابن عطية : يريد في الحلال القصد واللفظة تقتضي النهي عن السّرف مطلقاً فيمن تلبس بفعل حرام فتأوّل تلبسه به حصل من المسرفين وتوجه النهي عليه ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضاً من المسرفين وتوجه النهي عليه ، مثال ذلك أن يفرط في شراء ثياب أو نحوها ويستنفد في ذلك حلّ ماله أو يعطي ماله أجمع ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك أو نحوه فالله عزّ وجل لا يحبّ شيئاً من هذا وقد نهت الشريعة عنه انتهى ، وحكى المفسّرون هنا أن نصرانياً طبيباً للرشيد أنكر أن يكون في القرآن أو في حديث الرسول شيء من الطبّ فأجيب بقوله ) وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ( بقوله ( المعدة بيت الداء والحميّة رأس كل دواء

" صفحة رقم 293 "
وأعطِ كلّ بدن ما عودته ) فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّاً .
الأعراف : ( 32 ) قل من حرم . . . . .
( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ( ) زِينَةَ اللَّهِ ( ما حسنته الشريعة وقررته مما يتجمل به من الثياب وغيرها وأضيفت إلى الله لأنه هو الذي أباحها والطيّبات هي المستلذات من المأكول والمشروب بطريقة وهو الحل ، وقيل : الطيبات المحلّلات ومعنى الاستفهام إنكار تحريم هذه الأشياء وتوبيخ محرميها وقد كانوا يحرمون أشياء من لحوم الطّيبات وألبانها والاستفهام إذا تضمّن الإنكار لا جواب له وتوهم مكي هنا أن له جواباً هنا وهو قوله ) قُلْ هِى ( توهم فاسد ومعنى ) أَخْرَجَ ( أبرزها وأظهرها ، وقيل فصل حلالها من حرامها .
( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ( قرأ قتادة ) قُلْ هِى ( لمن آمن ، وقرأ نافع ) خَالِصَةٌ ( بالرفع ، وقرأ باقي السبعة بالنصب فأما النصب فعلى الحال والتقدير ) قُلْ هِى ( مستقرّة ) لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ( في حال خلوصها لهم يوم القيامة وهي حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبراً لهي ) وَفِى الْحَيَواةَ ( متعلق بآمنوا ويصير المعنى قل هي خالصة يوم القيامة لمن آمن في الدّنيا ولا يعني بيوم القيامة وقت الحساب وخلوصها كونهم لا يعاقبون عليها وإلى هذا المعنى يشير تفسير ابن جبير ، وجوّزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر والخبر الأوّل هو ) لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ( ) وَفِى قَالُواْ لَن ( متعلق بما تعلق به للذين وهو الكون المطلق أي قل هي كائنة في الحياة الدنيا للمؤمنين وإن كان يشركهم فيها في الحياة الدّنيا الكفّار ) وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( ويراد بيوم القيامة استمرار الكون في الجنة وهذا المعنى من أنها لهم ولغيرهم في الدّنيا خالصة لهم يوم القيامة هو قول ابن عباس والضحّاك وقتادة والحسن وابن جريج وابن زيد وعلى هذا المعنى فسر الزمخشري ، ( فإن قلت ) : إذا كان معنى الآية أنها لهم في الدنيا على الشركة بينهم وبين الكفار فكيف جاء ) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ( ، ( فالجواب ) : من وجوه ، أحدها : إنّ في الكلام حذفاً تقديره قل هي للمؤمنين والكافرين في الدنيا خالصة للمؤمنين في القيامة لا يشاركون فيها قاله الكرماني ، الثاني : إنّ ما تعلق به ) لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ( ليس كوناً مطلقاً بل كوناه مقيّداً يدلّ على حذفه مقابله وهو ) خَالِصَةٌ ( تقديره قل هي غير خالصة للذين آمنوا قاله الزمخشري قال : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة لهم لأنّ المشركين شركاؤهم فيها خالصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد ثم قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هلا قيل للذين آمنوا ولغيرهم ، ( قلت ) : النية على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة وأنّ الكفرة تبع لهم كقوله تعالى ) وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ ( انتهى وجواب الزمخشري هو للتبريزي رحمه الله ، قال التبريزي معنى الآية أنها للمؤمنين خالصة في الآخرة لا يشركهم الكفّار فيها هذا وإن كان مفهومه الشركة بين الذين آمنوا والذين أشركوا وهو كذلك لأنّ الدّنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر إلا أنه أضاف إلى المؤمنين ولم يذكر الشّركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدنيا تنبيهاً على أنه إنما خلقها للذين آمنوا بطريق الأصالة والكفّار تبع لهم فيها في الدنيا ولذلك خاطب الله المؤمنين بقوله تعالى : ) هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( انتهى ، وقال أبو عليّ في الحجة ويصح أن يعلق قوله ) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ( بقوله ) حَرَّمَ ( ولا يصح أن يتعلق بقوله ) أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ( ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله ) قُلْ مَنْ حَرَّمَ ( لأنّ ذلك كلام يشدّ القصة وليس بأجنبي منها جدّاً كما جاز ذلك في قوله ) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ( فقوله : ) وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ( معطوف على كسبوا

" صفحة رقم 294 "
داخل في الصلاة والتعلّق بأخرج هو قول الأخفش ، ويصحّ أن يتعلق بقوله ) وَالطَّيّبَاتُ ( ويصح أن يتعلق بقوله ) مِنَ الرّزْقِ ( انتهى . وتقادير أبي عليّ والأخفش فيها تفكيك للكلام وسلوك به غير ما تقتضيه الفصاحة ، وهي تقادير أعجمية بعيدة عن البلاغة لا تناسب في كتاب الله بل لو قدّرت في شعر الشنفري ما ناسب والنحاة الصّرف غير الأدباء بمعزل عن إدراك الفصاحة وأما تشبيه ذلك بقوله ) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ ( فليس ما قاله بمتعيّن فيه بل ولا ظاهر بل قوله ) جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا ( هو خبر عن النهي أي جزاء سيئة منهم بمثلها وحذف منهم لدلالة المعنى عليه كما حذف من قولهم السّمن منوان درهم أي منوان منه وقوله ) وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ( معطوف على ) جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا ( وسيأتي توضيح هذا بأكثر في موضعه إن شاء الله تعالى . ) كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( أي مثل تفصيلنا وتقسيمنا السابق ) نقسم ( في المستقبل ) سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ( لهم علم وإدراك لأنه لا ينتفع بذلك إلا من علم لقوله : ) وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ).
الأعراف : ( 33 ) قل إنما حرم . . . . .
( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ ( قال الكلبي لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت عيّرهم المشركون بذلك وقالوا استحلوا الحرم فنزلت ، وتقدّم تفسير ) الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ( في أواخر الأنعام وزيد هنا أقوال ، أحدها : ) مَا ظَهَرَ مِنْهَا ( طواف الرّجل بالنهار عرياناً ) وَمَا بَطَنَ ( طوافها بالليل عارية قاله التبريزي ، وقال مجاهد : ) مَا ظَهَرَ ( طواف الجاهلية عراة ) وَمَا بَطَنَ ( الزنا ، وقيل : ) مَا ظَهَرَ ( الظلم ) وَمَا بَطَنَ ( السّرقة ، وقال ابن عباس ومجاهد في رواية : ) مَا ظَهَرَ ( ما كانت تفعله الجاهلية من نكاح الأباء نساء الآباء والجمع بين الأختين وأن ينكح المرأة على عمتها وخالتها ) وَمَا بَطَنَ ( الزّنا ) وَالإِثْمَ ( عام يشمل الأقوال والأفعال التي يترتب عليها الإثم ، هذا قول الجمهور ، وقيل هو صغار الذنوب ، وقيل : الخمر ، وهذا قول لا يصح هنا لأن السّورة مكية ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد وجماعة من الصحابة اصطبحوها يوم أحد وماتوا شهداء وهي في أجوافهم وأما تسمية الخمر إثماً فقيل هو من قول الشاعر :

" صفحة رقم 295 "
شربت الإثم حتى زلّ عقلي
وهو بيت مصنوع مختلَق وإن صحّ فهو على حذف مضاف أي موجب الإثم ولا يذلّ قول ابن عباس والحسن ) الإِثْمِ ( الخمر على أنه من أسمائها إذ يكون ذلك من إطلاق المسبب على السبب وأنكر أبو العباس أن يكون ) الإِثْمِ ( من أسماء الخمر وقال الفضل : ) الإِثْمِ ( الخمر ، وأنشد : نهانا رسول الله أن نقرب الخنا
وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا
وأنشد الأصمعي أيضاً : ورحت حزيناً ذاهل العقل بعدهم
كأني شربت الإثم أو مسّني خبل
قال : وقد تسمّى الخمر إثماً وأنشد :
شربت الإثم حتى زلّ عقلي
وقال ابن عباس والفراء : ) الْبَغْىُ ( الاستطالة ، وقال الحسن : السّكر من كل شراب ، وقال ثعلب : تكلم الرّجل في الرجل بغير الحقّ إلا أن ينتصر منه بحق ، وقيل : الظّلم والكبر ، قاله الزمخشري ، وقال وأفردوه بالذكر كما قال تعالى : ) وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى ). وقال ابن عطية : ) الْبَغْىُ ( التعدّي وتجاوز الحدّ مبتدئاً كان أو منتصراً وقوله ) بِغَيْرِ الْحَقّ ( زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق لأن ما كان بحقّ لا يسمى بغياً وتقدّم تفسير ) مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً ( في الأنعام ، وقال الزمخشري فيه تهكّم لأنه لا يجوز أن ينزل برهاناً بأن يشرك به غيره ما لا تعلمون من تحريم البحائر وغيرها ، وقال ابن عباس أراد بذلك أنّ الملائكة بنات الله ، وقيل قولهم أنه حرّم عليهم مآكل وملابس ومشارب في الإحرام من قبل أنفسهم .
الأعراف : ( 34 ) ولكل أمة أجل . . . . .
( وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( هذا وعيد لأهل مكّة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم أي أجل مؤثت لمجيء العذاب إذا خالفوا أمر ربهم فأنتم أيتها الأمّة كذلك ، وقيل : الأجل هنا أجل الدّنيا التقدير : كلّها أجل أي يقدّمون فيه على ما قدموا من عمل ، وقيل : الأجل مدّة العمر والتقدير ولكل واحد من الأمة عمر ينتهي إليه بقاؤه في الدّنيا وإذا مات علم ما كان عليه من حقّ أو باطل ، وقال ابن عطية : أي فرقة وجماعة وهي لفظة تستعمل في الكثير من الناس ، وقال غيره : والأمة الجماعة قلّوا أو كثروا وقد يطلق على الواحد كقوله في قس بن ساعدة يبعث يوم القيامة أمّة وحده وأفرد الأجل لأنه اسم جنس أو لتقارب أعمال أهل كل عصر أو لكون التقدير لكل واحد من أمة ، وقرأ الحسن وابن سيرين فإذا جاء آجالهم بالجمع وقال ساعة لأنها أقلّ الأوقات في استعمال الناس يقول المستعجل لصاحبه في ساعة يريد في أقصر وقت وأقربه قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية لفظ عنى به الجزء القليل من الزمان والمراد جمع أجزائه انتهى ، والمضارع المنفي بلا إذا وقع في الظاهر جواباً لإذا يجوز أن يتلقى بفاء الجزاء ويجوز أن لا يتلقى بها وينبغي أن يعتقد أنّ بين الفاء والفعل مبتدأ محذوفاً وتكون الجملة إذ ذاك إسميّة والجملة الإسمية إذا وقعت جواباً لإذا فلا بد فيها من الفاء أو إذا الفجائية ، قال بعضهم : ودخلت الفاء على إذا حيث وقع إلا في يونس لأنها عطفت جملة على جملة بينهما اتصال وتعقيب فكان الموضع موضع الفاء وما في يونس يأتي في موضعه إن شاء الله انتهى ، وقال الحوفي ) وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( معطوف على ) لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ( انتهى ، وهذا لا يمكن لأنّ إذا شرطيّة فالذي يترتب عليها إنما هو مستقبل ولا يترتب على مجيء الأجل في المستقبل إلا مستقبل وذلك يتصور في انتفاء الاستئخار لا في انتفاء الاستقدام لأنّ الاستقدام سابق على مجيء الأجل في الاستقبال فيصير نظير قولك إذا قمت في المستقبل لم يتقدّم قيامك في الماضي ومعلوم أنه إذا قام في المستقبل لم يتقدّم قيامه هذا في الماضي وهذا شبيه بقول زهير : بدا لي أني لست مدرك ما مضى
ولا سابقاً شيئاً إذا كان جائيا
ومعلوم أن لشيء اذا كان جاثيا إليه لا يسبقه والذي تخرج عليه الآية أن قوله ) وَلاَ ( منقطع من الجواب على سبيل استئناف إخبار أي لا يستقدمون الأجل أي لا يسبقونه وصار معنى الآية
أنهم لا يسبقون

" صفحة رقم 296 "
الأجل ولا يتأخرون عنه .
الأعراف : ( 35 ) يا بني آدم . . . . .
( يَسْتَقْدِمُونَ يَابَنِى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءايَاتِى فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ). هذا الخطاب لبني آدم . قيل : هو في الأول ، وقيل : هو مراعى به وقت الإنزال وجاء بصورة الاستقبال لتقوى الإشارة بصحّة النبوة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) وَمَا ( في إمّا تأكيد ، قال ابن عطية وإذا لم يكن ما لم يجز دخول النون الثقيلة انتهى ، وبعض النحويين يجيز ذلك وجواب الشرط ) فَمَنِ اتَّقَى ( فيحتمل أن تكون من شرطيّة وجوابه ) فَلاَ خَوْفٌ ( وتكون هذه الجملة الشرطية مستقلة بجواب الشرط الأوّل من جهة اللفظ ويحتمل أن تكون من موصولة فتكون هذه الجملة والتي بعدها من قوله ) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ ( مجموعهما هو جواب الشرط وكأنه قصد بالكلام التقسيم وجعل القسمان جواباً للشّرط أي ) إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ( فالمتّقون لا خوف عليهم والمكذبون أصحاب النار فثمرة إتيان الرّسل وفائدته هذا وتضمن قوله ) فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ ( سبق الإيمان إذ التقوى والإصلاح هما ناشئان عنه وجاء في قسمه ) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ ( والتكذيب هو بدوّ الشقاوة إذ لا ينشأ عنه إلا الانهماك والإفساد وقال بل الإصلاح بالاستكبار لأنّ إصلاح العمل من نتيجة التقوى والاستكبار من نتيجة التكذيب وهو التعاظم فلم يكونوا ليتّبعوا الرسل فيما جاؤوا به ولا يقتدوا بما أمروا به لأنّ من كذب بالشيء نأي بنفسه عن اتباعه ، وقال ابن عطية : هاتان حالتان تعمّ جميع من يصدّ عن رسالة الرسول إما أن يكذب بحسب اعتقاده أنه كذب وإما أن يستكبر فيكذب وإن كان غير مصمّم في اعتقاده على التكذيب وهذا نحو الكفر عناد انتهى ، وتضمّنت الجملتان حذف رابط وتقديره ) فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ ( منكم ، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ ( منكم وتقدّم تفسير ) فَلاَ خَوْفٌ ( و ) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ( الجملتان ، وقرأ أبي والأعرج إما تأتينكم بالتاء على تأنيث الجماعة ) ويقصّون ( محمول على المعنى إذ ذاك إذ لو حمل على اللفظ لكان تقصّ .
الأعراف : ( 36 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِئَايَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ ( لما ذكر المكذّبين ذكر أسوأ حالاً منهم وهو من يفتري الكذب على الله وذكر أيضاً من كذّب بآياته ، قال ابن عباس وابن جبير ومجاهد : ما كتب لهم من السعادة والشقاوة ولا يناسب هذا التفسير الجملة التي بعد هذا ، وقال الحسن : ما كتب لهم من العذاب ، وقال الربيع ومحمد بن كعب وابن زيد : ما سبق لهم في أمّ الكتاب ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد أيضاً وقتادة : ما كتب الحفظة في صحائف الناس من الخير والشرّ فيقال : هذا نصيبهم من ذلك وهو الكفر والمعاصي وقال الحكم وأبو صالح ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والخير والشر في الدنيا . وقال الضحاك : ما كتب لهم من الثّواب والعقاب ، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك أيضاً ومجاهد ما كتب لهم من الكفر والمعاصي ، وقال الحسن أيضاً : ما كتب لهم من الضلالة والهدى ، وقال ابن عباس أيضاً : ما كتب لهم من الأعمال . وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك : ) مّنَ الْكِتَابِ ( يراد به من القرآن وحظّهم فيه سواد وجوههم يوم القيامة ، وقيل : ما أوجب من حفظ عهودهم إذا أعطوا الجزية . وقال الحسن والسدّي وأبو صالح : من المقرّر في اللوح المحفوظ وقد تقرر في الشّرع أنّ حظّهم فيه العذاب والسّخط والذي يظهر أن الذي كتب لهم في الدنيا من رزق وأجل وغيرهما ينالهم فيها ولذلك جاءت التغيية بعد هذا بحتى وإلى هذا المعنى نحا الزمخشري ، قال : أي ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال .
الأعراف : ( 37 ) فمن أظلم ممن . . . . .
( حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ). تقدّم الكلام على ) حَتَّى إِذَا ( في الأوائل الأنعام ، ووقع في التحرير ) حَتَّى ( هنا ليس بغاية بل هي ابتداء وجر والجملة بعدها في موضع جرّ وهذا وهم بل معناها هنا الغاية والخلاف

" صفحة رقم 297 "
فيها إذا كانت حرف ابتداء أهي حرف جر والجملة بعدها في موضع جرّ وتتعلق بما قبلها كما تتعلق حروف الجرّ أم ليست حرف جر ولا تتعلق بما قبلها تعلّق حروف الجر من حيث المعنى لا من حيث الإعراب قولان : الأوّل لابن درستويه والزّجاج ، والثاني للجمهور وإذا كانت حرف ابتداء فهي للغاية ألا تراها في قول الشاعر : سريت بهم حتى تكلّ مطيهم
وحتى الجياد ما يقدن بارسان
وقول الآخر : فما زالت القتلى تمجّ دماءها
بدجلة حتى ماء دجلة أشكل )
تفيد الغاية لأن المعنى أنه مد همهم في السير إلى كلال المطي والجياد ومجت الدماء إلى تغيير ماء دجلة . قال الزمخشري : وهي حتى التي يبتدأ بعدها الكلام انتهى ، وقال الحوفي وحتى غاية متعلقة ينالهم فيحتمل قوله أن يريد التعلق الصّناعي وأن يريد التعلق المعنوي والمعنى أنهم ينالهم حظهم مما كتب لهم إلى أن يأتيهم رسل الموت يقبضون أرواحهم فيسألونهم سؤال توبيخ وتقرير أين معبوداتكم من دون الله ؟ فيجيبون بأنهم حادوا عنا وأخذوا طريقاً غير طريقنا أو ضلوا عنا هلكوا واضمحلّوا والرّسل ملك الموت وأعوانه ، ( ويتوفونهم ( في موضع الحال وكتبت ) فَتِيلاً أَيْنَمَا ( متّصلة وكان قياسه كتابتها بالانفصال لأن ما موصولة كهي في ) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ ( إذ التقدير أين الآلهة التي كنتم تعبدون ؟ وقيل : معنى ) تَدْعُونَ ( أي تستغيثونهم لقضاء حوائجكم وما ذكرناه من أنّ هذه المحاورة بين الملائكة وهؤلاء تكون وقت الموت وأنّ التوفي هو بقبض الأرواح هو قول المفسرين ، وقالت فرقة منهم الحسن : ) الرُّسُلَ ( ملائكة العذاب يوم القيامة والمحاورة في ذلك اليوم ومعنى ) يَتَوَفَّوْنَهُمْ ( يستوفونهم عدداً في السّوق إلى جهنم ونيل النصيب على هذا إنما هو في الآخرة إذ لو كان في الدّنيا لما تحققت الغاية لانقطاع النّيل قبلها بمدد كثيرة ويحتمل ) وَشَهِدُواْ ( أن يكون مقطوعاً على ) قَالُواْ ( فيكون من جملة جواب السؤال ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بإقرارهم على أنفسهم بالكفر ولا تعارض بين هذا وبين قوله ) وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( لاحتمال ذلك من طوائف مختلفة أو في أوقات وجواب سؤالهم ليس مطابقاً من جهة اللفظ لأنه سؤال عن مكان ، وأجيب بفعل وهو مطابق من جهة المعنى إذ تقدير السؤال ما فعل معبودوكم من دون الله معكم ) قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا ).
الأعراف : ( 38 ) قال ادخلوا في . . . . .
( قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّن الْجِنّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ ). أي يقول الله لهم أي لكفار العرب وهم المفترون الكذب والمكذبون بالآيات وذلك يوم القيامة وعبر بالماضي لتحقّق وقوعه وقوله ذلك على لسان الملائكة ويتعلق ) فِى أُمَمٍ ( في الظاهر بادخلوا والمعنى في جملة أمم ويحتمل أن يتعلق بمحذوف فيكون في موضع الحال و ) قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ ( أي تقدّمتكم في الحياة الدنيا أو تقدّمتكم أي تقدّم ذخولها في النار وقدّم الجنّ لأنهم الأصل في الإغواء والإضلال ودلّ ذلك على أنّ عصاة الجنّ يدخلون النار ، وفي النار متعلق بخلت على أنّ المعنى تقدّم دخولها أو بمحذوف وهو صفة لأمم أي في أمم سابقة في الزمان كائنة من الجنّ والإنس كائنة في النار أو بادخلوا على تقدير أن تكون في بمعنى مع وقد قاله بعض المفسرين

" صفحة رقم 298 "
فاختلف مدلول في إذ الأولى تفيد الصحبة والثانية تفيد الظّرفية وإذا اختلف مدلول الحرف جاز أن يتعلق اللفظان بفعل واحد ويكون إذ ذاك ) أَدْخِلُواْ ( قد تعدّى إلى الظرف المختص بفي وهو الأصل وإن كان قد تعدّى في موضع آخر بنفسه لا بوساطة في كقوله ) وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ ( ) ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ ( ويجوز أن تكون في باقية على مدلولها من الظرفية و ) فِى النَّارِ ( كذلك ويتعلّقان بلفظ ) أَدْخِلُواْ ( وذلك على أن يكون ) فِى النَّارِ ( بدل اشتمال كقوله قتل أصحاب الأخدود النار ويجوز أن يتعدّى الفعل إلى حرفي جرّ بمعنى واحد على طريقة البدل . ) كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ( ) كُلَّمَا ( للتّكرار ولا يستوي ذلك في الأمة الأولى فاللاحقة تلعن السابقة أو يلعن بعض الأمة الدّاخلة بعضها ومعنى ) أُخْتَهَا ( أي في الدين والمعنى كلما دخلت أمة من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان وغيرهم من الكفار ، وقال الزمخشري : ) أُخْتَهَا ( التي ضلّت بالاقتداء بها انتهى ، والمعنى أنّ أهل النار يلعن بعضهم بعضاً ويعادي بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم ببعض ، كما جاء في آيات أخر .
( حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاْولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النَّارِ ( ) حَتَّى ( غاية لما قبلها والمعنى أنهم يدخلون فوجاً ففوجاً لاعناً بعضهم بعضاً إلى انتهاء تداركهم وتلاحقهم في النار واجتماعهم فيها وأصل ) ادَّارَكُواْ ( تداركوا أدغمت التاء في الدّال فاجتلبت همزة الوصل ، قال ابن عطية ، وقرأ أبو عمرو ) وادّاركوا ( بقطع ألف الوصل ، قال أبو الفتح : هذا مشكل ولا يسوغ أن يقطعها ارتجالاً فذلك إنما يجيء شاذّاً في ضرورة الشّعر في الاسم أيضاً لكنّه وقف مثل وقفة المستنكر ثم ابتدأ فقطع ، وقرأ مجاهد بقطع الألف وسكون الدّال وفتح الراء بمعنى أدرك بعضهم بعضاً ، وقرأ حميد أدركوا بضمّ الهمزة وكسر الرّاء أي ادخلوا في إدْراكها ، وقال مكي في قراءة مجاهد : إنها ادّركوا بشدّ الدال المفتوحة وفتح الرّاء قال وأصلها ادتركوا وزنها افتعلوا ، وقرأ ابن مسعود والأعمش تداركوا ورويت عن أبي عمر انتهى ، وقال أبو البقاء ، وقرىء إذا ) إِذَا ادَّارَكُواْ ( بألف واحدة ساكنة والدّال بعدها مشدّدة وهو جمع بين ساكنين وجاز في المنفصل كما جاز في المتصل ، وقد قال : بعضهم اثنا عشر بإثبات الألف وسكون العين انتهى ويعني بقوله كما جاز في المتصل نحو الضالين وجان و ) أُخْرَاهُمْ ( الأمّة الأخيرة في الزمان التي وجدت ضلالات مقررة مستعملة ) لاْولَاهُمْ ( التي شرعت ذلك وافترت وسلكت سبيل الضّلال ابتداء أو ) أُخْرَاهُمْ ( منزلة ورتبة وهم الأتباع والسفلة ) لاْولَاهُمْ ( منزلة ورتبة وهم القادة المتبوعون ، أو ) أُخْرَاهُمْ ( في الدّخول إلى النار وهم ) الأتباع ( ) أُخْرَاهُمْ لاْولَاهُمْ ( دخولاً وهم القادة أقوال آخرها لمقاتل ، وقال ابن عباس : آخر أمة لأول أمة وأخرى هنا بمعنى آخرة مؤنّث آخر فمقابل أوّل لا مؤنث له آخر بمعنى غير لقوله ) وِزْرَ أُخْرَى ( واللام في ) لاْولَاهُمْ ( لام السبب أي لأجل أولاهم لأنّ خطابهم مع الله لا

" صفحة رقم 299 "
معهم ) أَضَلُّونَا ( شرعوا لنا الضلال أو جعلونا نضلّ وحملونا عليه ضعفاً زائداً على عذابنا إذ هم كافرون ومسببو كفرنا .
( قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ( أي لكلّ من الأخرى والأولى عذاب وللأولى عذاب متضاعف زائد إلى غير نهاية وذلك أنّ العذاب مؤبّد فكل ألم يعقبه آخر ، وقرأ الجمهور بالتاء على الخطاب للسائلين أي ) لاَ تَعْلَمُونَ ( ما لكلّ فريق من العذاب أو لا تعلمون ما لكلّ فريق من العذاب أو لا تعلمون المقادير وصور العذاب قيل أو خطاب لأهل الدّنيا أي ولكن يا أهل الدّنيا لا تعلمون مقدار ذلك ، وقرأ أبو بكر والمفضّل عن عاصم بالياء فيحتمل أن يكون إخباراً عن الأمة ويكون الضمير في ) لاَّ يَعْلَمُونَ ( عائداً على الأمة الأخيرة التي طلبت أن يضعف العذاب على أولاها ويحتمل أن يكون خبراً عن الطائفتين أي لا يعلم كل فريق قدر ما أعدّ له من العذاب أو قدر ما أعدّ للفريق الآخر من العذاب وروي عن ابن مسعود أن الضّعف هنا الأفاعي والحيّات وهذه الجملة ردّ على أولئك السّائلين وعدم إسعاف لما طلبوا .
الأعراف : ( 39 ) وقالت أولاهم لأخراهم . . . . .
( وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لاِخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ). أي قالت الطائفة المتبوعة للطائفة المتبعة واللام في ) لاِخْرَاهُمْ ( لام التبليغ نحو قلت لك اصنع كذا لأن الخطاب هو مع أخراهم بخلاف اللام أي في ) لاْولَاهُمْ ( فإنها كما ذكرنا لام السبب لأنّ الخطاب هناك مع الله تعالى والمعنى أنتم لا فضل لكم علينا ولم تزدجروا حين جاءتكم الرّسل والنذر بل دمتم في كفركم وتركتم النّظر فاستوت حالنا وحالكم قال الزمخشري : أي قد ثبت أن لا فضل لكم علينا وأنا متساوون في استحقاق الضّعف ، وقال مجاهد : معنى ) مِن فَضْلِ ( من التخفيف لما قال الله ) لِكُلّ ضِعْفٌ ( قالت الأولى للأخرى لم تبلغوا أملاً بأنّ عذابكم أخفّ من عذابنا ولا فضلتم بالإسعاف انتهى ، والفاء في ) فَمَا ( قال الزمخشري : عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسّلفة ) لِكُلّ ضِعْفٌ ( والذي يظهر أنّ المعنى انتفاء كون فضل عليهم من السّفلة في الدّنيا بسبب اتباعهم إياهم وموافقتهم لهم في الكفر أي اتباعكم إيانا وعدم اتباعكم سواء لأنكم كنتم في الدّنيا أقل عندنا من أن يكون لكم علينا فضل باتباعكم بل كفرتم اختياراً لا إنّا حملناكم على ذلك إجباراً وأنّ قوله ) فَمَا ( معطوف على جملة محذوفة بعد القول دلّ عليها ما سبق من الكلام والتقدير ) قَالَتْ أُولَاهُمْ لاِخْرَاهُمْ ( ما دعاؤكم الله بأنّا أضللناكم وسؤالكم ما سألتم فما كان لكم علينا من فضل بضلالكم وأن قوله ) فَذُوقُواْ الْعَذَابَ ( من كلام الأولى خطاباً للأخرى على سبيل التشفي منهم وأنّ ذوق العذاب هو بما كسبت من الآثام لا بسبب دعواكم أنا أضللناكم ، وقيل : ) فَذُوقُواْ ( من خطاب الله لجميعهم .
الأعراف : ( 40 ) إن الذين كذبوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء ( قال ابن عباس ) لاَ تُفَتَّحُ ( لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لما يريدون به طاعة الله تعالى أي لا يصعد لهم صالح فتفتح أبواب السماء له وهذا منتزع من قوله ) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( ه ومن قوله إن كتاب الأبرار لفي عليين ، وقال السدي وغيره : ) لاَ تُفَتَّحُ ( لأرواحهم وذكروا في صعود الرّوحين إلى السماء الإذن لروح المؤمن وردّ روح الكافر أحاديث وذلك عند موتهما ، وقيل : المعنى ) لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء ( في القيامة ليدخلوا منها إلى الجنة أي لا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ، وقيل : لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون ، وقرأ أبو عمرو ) لاَ تُفَتَّحُ ( بتاء التأنيث والتخفيف ، وقرأ الأخوان بالياء والتخفيف ، وقرأ باقي السّبعة بالتاء من أعلى والتشديد . وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم بالثاء من أعلى مفتوحة والتشديد .
( وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ ( هذا نفي مغيا بمستحيل والولوج التقحّم في الشيء وذكر الجمل لأنه أعظم الحيوان المزاول للإنسان جنّة فلا يلج إلا في باب واسع كما قال ،

" صفحة رقم 300 "
لقد عظم البعير بغير لبّ ، وقال : جسم الجمال وأحلام العصافير ، وذكر ) سَمّ الْخِيَاطِ ( لأنه يضرب به المثل في ضيق المسلك يقال : أضيق من خرت الإبرة ، وقيل : للدليل خريت لاهتدائه في المضايق تشبيهاً بإخرات الإبرة والمعنى أنّهم لا يدخلون الجنة أبداً ، وقرأ ابن عباس فيما روى عنه شهره بن حوشب ومجاهد وابن يعمر وأبو مجلز والشعبي ومالك بن الشخير وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وإبان عن عاصم الجمل بضم الجيم وفتح الميم مشدّدة وفسّر بالفلس الغليظ وهو حبل السفينة تجمع حبال وتفتل وتصير حبلاً واحداً ، وقيل : هو الحبل الغليظ من القنب ، وقيل : الحبل الذي يصعد به في النخل ، وروي عن ابن عباس ولعله لا يصحّ أن الله أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل يعني أنه لا يناسب والحبل يناسب الخيط الذي يسلك به في خرم الإبرة ، وعن الكسائي أن الذي روى ) الْجَمَلُ ( عن ابن عباس كان أعجمياً فشدّد الجيم لعجمته ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف لكثرة أصحاب ابن عباس على القراءة المذكورة انتهى ، ولكثرة القرّاء بها غير ابن عباس ، وقرأ ابن عباس أيضاً في رواية مجاهد وابن جبير وقتادة وسالم الأفطي بضمّ الجيم وفتح الميم مخففة ، وقرأ ابن عباس في رواية عطاء والضحّاك والجحدري بضمّ الجيم والميم مخففة ، وقرأ عكرمة وابن جبير في رواية بضم الجيم وسكون الميم الجمل ، وقرأ المتوكِّل وأبو الجوزاء بفتح الجيم وسكون الميم ومعناه في هذه القراءات الفلس الغليظ وهو حبل السفينة وقراءة الجمهور ) الْجَمَلُ ( بفتح الجيم والميم أوقع لأنّ سم الإبرة يضرب بها المثل في الضّيق والجمل وهو هذا الحيوان المعروف يضرب به المثل في عظم الجثة كما ذكرنا ، وسئل ابن مسعود عن الحمل فقال روح الناقة وذلك منه استجهال للسائل ومنع منه أن يتكلف له معنى آخر ، وقرأ عبد الله وقتادة وأبو رزين وابن مصرف وطلحة بضم سين ) سَمّ ( ، وقرأ أبو عمران الحوفي وأبو نهيك والأصمعي عن نافع بكسر السين ) سَمّ ( ، وقرأ عبد الله وأبور رزين وأبو مجلز المخيط بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء ، وقرأ طلحة بفتح الميم . ) وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ ( أي مثل ذلك الجزاء ) نُجْزِى ( أهل الجرائم ، وقال الزمخشري ليؤذن أن الإجرام هو السبب الموصل وأن كل من أجرم عوقب ثم كرره تعال فقال ) وَكَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ ( لأن كل مجرم ظالم لنفسه انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .
الأعراف : ( 41 ) لهم من جهنم . . . . .
( لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ ( هذه استعارة لما يحيط بهم من النار من كل جانب كما قال لهم ) مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ( والغواشي جميع غاشية ، قال ابن عباس والقرظي وابن زيد : هي اللحف ، وقال عكرمة : يغشاهم الدّخان من فوقهم ، وقال الزّجاج : غاشية من النار ، وقال الضحاك : المهاد الفرش والغواشي اللحف والتنوين في ) غَوَاشٍ ( تنوين صرف أو تنوين عوض قولان وتنوين عوض من الياء أو من الحركة قولان كل ذلك مقرّر في علم النحو ، وقرىء ) غَوَاشٍ ( بالرفع كقراءة عبد الله ) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ ).
الأعراف : ( 42 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
( وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاّ

" صفحة رقم 301 "
َ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( لما أخبر بوعيد الكفار أخبر بوعد المؤمنين وخبر و ) الَّذِينَ ( الجملة من ) لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا ( منهم أو الجملة من ) أُوْلَائِكَ ( وما بعده وتكون جملة ) لاَ نُكَلّفُ ( اعتراضاً بين المبتدأ والخبر ، وفائدته أنه لما ذكر قوله و ) عَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( نبه على أن ذلك العمل وسعهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أنّ الجنة مع عظم مجالها يوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة ، وقال القاضي أبو بكر بن الطيّب : لم يكلف أحداً في نفقات الزوجات إلا ما وجد وتمكن منه دون ما لا تناله يده ولم يرد إثبات الاستطاعة قبل الفعل ، ونظيره ) لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا ( انتهى ، وليس السياق يقتضي ما ذكر ، وقال الزمخشري : جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد مع العظيم بما هو من الواسع وهو الإمكان الواسع غير الضّيق من الإيمان والعمل الصالح انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال ، وقرأ الأعمش لا تكلف نفس .
الأعراف : ( 43 ) ونزعنا ما في . . . . .
( وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ ( أي أذهبنا في الجنة ما انطوت عليه صدورهم من الحقود . وقيل نزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضاً في تفاضل منازلهم ، وقال الحسن : غلّ الجاهلية ، وقال سهل بن عبد الله الأهواء والبدع ، وروي عن عليّ كرم الله وجهه فينا والله أهل بدر نزلت وعنه إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قيل فيهم ونزعنا الآية ، والذي يظهر أنّ النزع للغلّ كناية عن خلقهم في الآخرة سالمي القلوب طاهريها متوادّين متعاطفين ، كما قال إخواناً على سرر متقابلين وتجري حال قاله الحوفي قال : والعمل فيه نزعنا ، وقال أبو البقاء : حال والعامل فيها معنى الإضافة وكلا القولين لا يصح لأن تجري ليس من صفات الفاعل الذي هو ضمير نزعنا ولا صفات المفعول الذي هو ما في صدورهم ولأن معنى الإضافة لا يعمل إلا إذا كانت إضافة يمكن للمضاف أن يعمل إذا جرّد من الإضافة رفعاً أو نصباً فيما بعده والظاهر أنه خبر مستأنف عن صفة حالهم .
( وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا ( أي وفّقنا لتحصيل هذا النعيم الذي صرنا إليه بالإيمان والعمل الصالح إذ هو نعمة عظيمة يجب عليهم بها حمده والثناء عليه تعالى ، وقيل : الهداية هنا هو الإرشاد إلى طريق الجنة ومنازلهم فيها وفي الحديث ( أنّ أحدهم أهدى إلى منزله في الجنة من منزله في الدنيا ) ، وقيل : الإشارة بهذا إلى العمل الصالح الذي هذا جزاؤه ، وقيل إلى الإيمان الذي تأهّلوا به لهذا النعيم المقيم ، وقال الزمخشري : أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح انتهى ، وفي لفظه واجب والعمل الصالح دسيسة الاعتزال ، وقال أبو عبد الله الرازي معنى ) هَدَانَا ( الله أعطانا القدرة وضمّ إليها الدّاعية الجازمة ، وصير مجموعهما لحصول تلك الفضيلة وقالت المعتزلة التّحميد إنما وقع على أنه تعالى خلق العقل ووضع الدلائل وأزال الموانع انتهى ، وفي صحيح مسلم ( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ أنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً ) ، وأنّ لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وأنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبداً وأنّ لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً فلذلك قالوا : ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا ). ) وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ( أي وما كانت توجد منا أنفسنا وجدها الهداية لولا أن الله هدانا وهذه الجملة توضح أن الله خالق الهداية فيهم وأنهم لو خلوا وأنفسهم لم تكن منهم هداية ، وقال الزمخشري : وما كان يستقيم أن نكون مهتدين

" صفحة رقم 302 "
لولا هداية الله تعالى وتوفيقه ، وقال أبو البقاء : و الواو للحال ويجوز أن تكون مستأنفة انتهى ، والثاني : أظهر . وقرأ ابن عامر ) مَا كُنَّا ( بغير واو وكذا هي في مصاحف أهل الشام وهي على هذا جملة موضحة للأولى ومن أجاز فيها الحال مع الواو ينبغي أن يجيزها دونها ، والذي تقتضيه أصول العربية أنّ جواب ) لَوْلاَ ( محذوف لدلالة ما قبله عليه أي ) لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ( ما كنا لنهتدي أو لضللنا لأنّ ) لَوْلاَ ( للتعليق فهي في ذلك كأدوات الشرط على أنّ بعض الناس خرج قوله لولا أن رأى برهان ربّه على أنه جواب تقدم وهو قوله ) وَهَمَّ بِهَا ( وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ، وهذا على مذهب جمهور البصريين في منع تقديم جواب الشرط .
( لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ ( أي بالموعود الذي وعدنا في الدنيا قضوا بأنّ ذلك حقّ قضاء مشاهدة بالحسّ وكانوا في الدنيا يقضون بذلك بالاستدلال ، وقال الكرماني : وقع الموعود به على ما سبق به الوعد ، وقال الزمخشري فكان لنا لطفاً وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا يقولون : ذلك سروراً واغتباطاً بما نالوا وتلذّذا بالتكلم به لا تقرباً وتعبداً كما ترى من رزق خيراً في الدنيا يتكلّم بنحو ذلك ولا يتمالك أن يقوله للفرح لا للقربة . ) وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( يحتمل أن يكون النداء من الله وهو أسرّ لقلوبهم وأرفع لقدرهم ويحتمل أن يكون من الملائكة وأن يحتمل أن تكون المخففة من الثقيلة أي ) وَنُودُواْ ( بأنه ) تِلْكُمُ الْجَنَّةُ ( واسمها ضمير الشأن يحذف إذا خفّفت ويحتمل أن تكون ) ءانٍ ( مفسرة لوجود شرطها وهما أن يكون قبلها جملة في معنى القول وبعدها جملة وكأنه قيل : ) تِلْكُمُ الْجَنَّةُ ). قال ابن عطية ) تِلْكُمُ ( إشارة إلى غائبة فإما لأنهم كانوا وعدوا بها في الدنيا فالإشارة إلى تلك أي ) تِلْكُمُ ( هذه ) الْجَنَّةِ ( وحذفت هذه وإما قبل أن يدخلوها وإما بعد الدخول وهم مجتمعون في موضع منها فكل غائب عن منزله انتهى ، وفي كتاب التحرير و ) تِلْكُمُ ( إشارة إلى غائب وإنما قال هنا ) تِلْكُمُ ( لأنهم وعدوا بها في الدنيا فلأجل الوعد جرى الخطاب بكلمة العهد قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) للصديق في الاستخبار عن عائشة ( كيف تيكم للعهد السابق ) انتهى ، ( والجنة ( جوّزوا فيها أن تكون خبراً لتلكم ) وأورثتموها ( حال كقوله ) أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً ). قال أبو البقاء : حال من ) الْجَنَّةِ ( والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ولا يجوز أن تكون حالاً من تلك للفصل بينهما بالخبر ولكون المبتدأ لا يعمل في الحال انتهى ، وفي العامل في الحال في مثل هذا زيد قائماً خلاف في النحو وأن يكون نعتاً وبدلاً ) وأورثتموها ( الخبر أدغم النحويان وحمزة وهشام الثاء في التاء وأظهرها باقي السبعة ومعنى ) الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا ( صيرت لكم كالإرث وأبعد من ذهب إلى أنّ المعنى أورثتموها عن آبائكم لأنها كانت منازلهم لو آمنوا فحرموها بكفرهم وبعده إنّ ذلك عامّ في جميع المؤمنين ولم تكن آباؤهم كلهم كفاراً والباء في ) بِمَا ( للسبب المجازي والأعمال أمارة من الله ودليل على قوة الرجاء ودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمة الله والقسم فيها على قدر العمل ولفظ ) أُورِثْتُمُوهَا ( مشير إلى الأقسام وليس ذلك واجباً على الله تعالى ، وقال الزمخشري : ) أُورِثْتُمُوهَا ( بما كنتم تعملون بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقول المبطلة انتهى ، وهذا مذهب المعتزلة ، وفي صحيح مسلم لن يدخل الجنة أحد بعمله قالوا : ( ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل ) .
الأعراف : ( 44 - 45 ) ونادى أصحاب الجنة . . . . .
( وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا قَالُواْ ). عبر بالماضي عن المستقبل لتحقّق وقوعه وهذا النداء فيه تقريع وتوبيخ وتوقيف على مآل الفريقين وزيادة في كرب أهل النار بأن شرفوا عليهم وبخلق إدراك أهل النار لذلك النداء في أسماعهم ، قال

" صفحة رقم 303 "
الزمخشري : وإنما قالوا لهم ذلك اعتباطاً بحالهم وشماتة بأهل النار وزيادة في غمّهم وليكون حكايته لطفاً لمن سمعها وكذلك قول المؤذّن بينهم أن لعنة الله على الظالمين وهو ملك يأمره الله تعالى فينادي بينهم يسمع أهل الجنة وأهل النار وأتى في إخبار أهل الجنة ) مَّا وَعَدَنَا ( بذكر المفعول وفي قصة أهل النار ما وعد ولم يذكر مفعول ) وَعْدُ ( لأنّ أهل الجنة مستبشرون بحصول موعودهم فذكروا ما وعدهم الله مضافاً إليهم ولم يذكروا حين سألوا أهل الجنة متعلق ) وَعْدُ ( باسم الخطاب فيقولوا : ) مَا وَعَدَكُمُ ( ليشمل كل موعود من عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة وتكون إجابتهم بنعم تصديقاً لجميع ما وعد الله بوقوعه في الآخرة للصفين ويكون ذلك اعترافاً منهم بحصول موعود المؤمنين ليتحسّروا على ما فاتهم من نعيمهم إذ نعيم أهل الجنة مما يخزيهم ويزيد في عذابهم ويحتمل أن يكون حذف المفعول الذي للخطاب لدلالة ما قبله عليه وتقديره ) فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ ( ، وقرأ ابن وثاب والأعمش والكسائي ) نِعْمَ ( بكسر العين ، ويحتمل أن تكون تفسيريّة وأن تكون مصدرية مخففة من أن الثقيلة وإذا ولى المخففة فعل متصرف غير دعاء فصل بينهما بقد في الأجود كقوله : ) أَن قَدْ وَجَدْنَا ).
) فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالاْخِرَةِ كَافِرُونَ ( أي فأعلم معلم ، قيل : هو إسرافيل صاحب الصور ، وقيل : جبريل يسمع الفريقين تفريحاً وتبريحاً ، وقيل : ملك غيره معين ودخل طاووس على هشام بن عبد الملك فقال له : إحذر يوم الأذان فقال : وما يوم الأذان قال : يوم ) فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ ( الآية فصعق هشام فقال : طاووس هذا ذلّ الصفة فكيف ذلّ المعاينة وبينهم يحتمل أن يكون معمولاً لأذّن ويحتمل أن يكون صفة لمؤذن فالعامل فيه محذوف ، وقرأ الأخوان وابن عامر والبزي ) أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ ( بتثقيل ) ءانٍ ( ونصب ) لَّعْنَةُ ( وعصمة عن الأعمش إنّ بكسر الهمزة والتثقيل ونصب ) لَّعْنَةُ ( على إضمار القول أو إجراء أذن مجرى قال ، وقرأ باق السبعة أن يفتح الهمزة خفيفة النون ورفع ) لَّعْنَةُ ( على الابتداء وأن مخففة من الثقيلة أو مفسرة و ) يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ( تقدّم تفسير مثله وهذا الوصف بالموصول هو حكاية عن قولهم السابق والمعنى الذين كانوا يصدون عن سبيل الله لأنهم وقت الأذان لم يكونوا متصفين بهذا الوصف ، والمعنى بالظلم الكفار ويدفع قول من قال : إنه عام في الكافر والفاسق قوله أخيراً ) وَهُم بِالاْخِرَةِ كَافِرُونَ ( لأنّ الفاسق ليس كافراً بالآخرة بل مؤمن مصدّق بها .
الأعراف : ( 46 ) وبينهما حجاب وعلى . . . . .
( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ( أي بين الفريقين لأنهم المحدّث عنهم وهو الظاهر ، وقيل : بين الجنة والنار وبهذا بدأ الزمخشري وابن عطية وفسر الحجاب بأنه المعنى بقوله فضرب بينهم بسور وقاله ابن عباس : ويقوي أنه بين الفريقين لفظ بينهم إذ هو ضمير العقلاء ولا يحيل ضرب السّور بعدما بين الجنة والنار وإن كانت تلك في السماء والنار أسفل السافلين . ) وَعَلَى الاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ( أي وعلى أعراف الحجاب وهو السّور المضروب ) رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ ( من فريقي الجنة والنار بعلامتهم التي ميّزهم الله بها من ابيضاض وجوه واسوداد وجوه أو بغير ذلك من العلامات أو بعلامتهم التي يلهمهم الله معرفتها و ) الاْعْرَافِ ( تل بين الجنة والنار ، قاله ابن عباس ، وقال مجاهد : حجاب بين الجنة والنار ، وقيل : هو أحد ممثل بين الجنة والنارروي هذا في حديث وفي آخر ( أنّ أحداً على ركن من أركان الجنة ) ، وقيل : أعالي السّور الذي ضرب بين الجنة والنار قاله الزمخشري ، والرجال قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم وقفوا هنالك ما

" صفحة رقم 304 "
شاء الله ، لم تبلغ حسناتهم بهم دخول الجنة ولا سيئاتهم دخول النار ، وروي في مسند ابن أبي خيثمة عن جابر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حديث فيه قيل يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته قال : ( أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ) ، وقاله ابن مسعود وابن عباس وحذيفة وأبو هريرة ، قال حذيفة بن اليمان أيضاً هم قوم أبطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس ، وقيل غزاة جاهدوا من غير إذن والديهم فقتلوا في المعركة وهذا مرويّ عن الرسول أنهم حبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم وأعتقهم الله من النار لأنهم قتلوا في سبيله ، وقيل : قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم أو بالعكس ، وقيل : هم أولاد الزنا ، وقيل : أولاد المشركين ، وقيل : الذين كانوا في الأسر ولم يبدّلوا دينهم ، وقيل : علماء شكوا في أرزاقهم ، وقال الزمخشري : رجال من المسلمين من آخرهم دخولاً في الجنة لقصور أعمالهم كأنهم المرجئون لأمر الله يحبسون بين الجنة والنار إلى أن يأذن الله لهم في دخول الجنة ، وقال ابن عطية : واللازم من الآية أنّ على أعراف ذلك السور أو على مواضع مرتفعة عن الفريقين حيث شاء الله رجالاً من أهل الجنة يتأخر دخولهم ويقع لهم ما وصف من الاعتبار في الفريقين ) فَاقِرَةٌ كَلاَّ ( بعلامتهم وهي بياض الوجوه وحسنها في أهل الجنة وسوادها وقبحها في أهل النار انتهى ، والأقوال السابقة تحتاج إلى دليل واضح في التخصيص والجيّد منها هو الأوّل لحديث جابر ولتفسير جماعة من الصحابة وهذه الأقوال هي على قول من قال إنّ ) الاْعْرَافِ ( هو بين الجنة والنار ، وفي شعر أمية بن الصّلت : وآخرون على الأعراف قد طمعوا
في جنّة حفّها الرمّان والخضر
وقال قوم : إنه الصراط ، وقيل : موضع على الصراط ، وقال قوم : هو جبل في وسط الجنة أو أعلاها واختلف هؤلاء في تفسير رجال ، وقال أبو مجلز : ملائكة في صور رجال ذكور وسمّوا رجالاً لقوله : ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( وقال مجاهد والحسن هم فضلاء المؤمنين وعلماؤهم ، وقيل : هم الشهداء وقاله الكرماني : واختاره النحّاس ، وقال هو أحسن ما قيل فيه ، وقيل : حمزة والعبّاس وعلي وجعفر الطيّار ، وروي هذا عن ابن عباس ، وقيل : هم الأنبياء .
( وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ). الظاهر أن الضمير في ونادوا إلى آخر الآية عائد على الرّجال الذين على الأعراف وعلى هذا لا يمكن أن تكون تلك الضمائر للأنبياء ولا لشيء مما فسر به أنهم على جبل في وسط الجنة أو أعلى الجنة وفي غاية البعد ما تؤول من ذلك ليصح شيء من تلك الأقوال أنهم أجلسوا على تلك الأماكن المرتفعة ليشاهدوا أحوال الفريقين فيلحقهم السرّور بتلك الأحوال ثم إذا استقر الفريقان نقلوا إلى أمكنتم التي أعدّت لهم في الجنة فمعنى ) لَمْ يَدْخُلُوهَا ( لم يدخلوا منازلهم المعدّة لهم فيها ومعنى ) وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( يتيقّنون ما أعدّ الله لهم من الزلفى وقد جاء الطمع بمعنى اليقين قال ) وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى

" صفحة رقم 305 "
خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( وطمع إبراهيم عليه السلام يقين . وقال الشاعر : وإني لأطمع أنّ الإله
قدير بحسن يقيني يقيني
وأما قول من قال : إنّ الأعراف جبل بين الجنة والنار فقد طعن فيه القاضي والجبائي وقالا : هو فاسد لأنّ قوله ) بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( يدلّ على أنّ كل من دخل الجنة لا بد أن يكون مستحقاً لدخولها وذلك يمنع من القول بوجود أقوام لا يستحقّون الجنة ولا النار ثم يدخلون الجنة بمحض الفضل لا بسبب الاستحقاق ولأن كونهم من أهل الأعراف يدّل على ميزهم من جميع أهل القيامة فإنّ إجلاسهم على الأماكن المرتفعة العالية على أهل الجنة والنار تشريف عظيم لا يليق إلا بالأشراف ومن تساوت حسناته وسيئاته درجته قاصرة لا يليق بهم ذلك التشريف ، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ونودوا خطاب مع أقوام معينين فلا يلزم أن تكون أهل الجنة والنار و ) أَن سَلَامٌ ( يحتمل أن ) ءانٍ ( تكون تفسرية ومخففة من الثقيلة ولم يدخلوها حال من المفعول أي ناداهم وهم في هذه الحال يعني أهل الجنة وهم يطمعون جملة خبريّة لا موضع لها من الإعراب أي نادوا أهل الجنة غير داخليها ثم أخبر أنهم طامعون في دخولها قال معناه أبو البقاء ، وقيل : المعنى ونادى أصحاب الأعراب أصحاب الجنة بالسلام وهم قد دخلوا الجنة وأهل الأعراف لم يدخلوها فيكون قوله ) لَمْ يَدْخُلُوهَا ( حالاً من ضمير ونادوا العائد على أهل الأعراف فقط وهذا تأويل ابن مسعود وقتادة والسدّي وغيرهم ، وقال ابن مسعود : والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لخير أراده بهم وهذا هو الأظهر والأليق بمساق الآية ، وقال ابن مسعود أيضاً : إنما طمع أصحاب الأعراف لأنّ النور الذي كان في أيديهم لم يطفأ حين طفىء نور ما بأيدي المنافقين ، وقيل : ) وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( حال من ضمير الفاعل في ) يَدْخُلُوهَا ( والمعنى لم يدخلوها في حال طمع لها بل كانوا في حال يأس وخوف لكن عمّهم عفو الله .
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما محل قوله ) لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( قلت : لا محلّ له لأنه استئناف كأنّ سائلاً سأل عن أصحاب الأعراف فقيل له ) لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( يعني أنّ دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة فلم يدخلوها لكونهم محبوسين وهم يطمعون لم ييأسوا ويجوز أن يكون له محل بأن يقع صفة انتهى ، وهذا توجيه ضعيف للفصل بين الموصوف وصفته بجملة ونادوا وليست جملة اعتراض وقرأ ابن النحوي وهم طامعون ، وقرأ إياد بن لقيط وهم ساخطون ،
الأعراف : ( 47 ) وإذا صرفت أبصارهم . . . . .
وقرأ الأعمش وإذا قلبت ) أَبْصَارَهُمْ ( والضمير في أبصارهم عائد على رجال الأعراف يسلّمون على أهل الجنّة وإذا نظروا إلى أهل النّار دعوا الله في التخلّص منها قاله ابن عباس وجماعة ، وقال أبو مجلز : الضمير لأهل الجنة وهم لم يدخلوها بعد وفي قوله ) صُرِفَتْ ( دليل أنّ أكثر أحوالهم النظر إلى تلقاء أصحاب الجنة وأن نظرهم إلى أصحاب النار هو بكونهم صرفت أبصارهم تلقاءهم فليس الصّرف من قبلهم بل هم محمولون عليه مفعول بهم ذلك لأنّ ذلك المطلع مخوف من سماعه فضلاً عن رؤيته فضلاً عن التلبيس به والمعنى أنهم إذا حملوا على صرف أبصارهم ورأوا ما هم عليه من العذاب استغاثوا بربّهم من أن يجعلهم معهم ولفظه ) رَبَّنَا ( مشعرة بوصفه تعالى بأنه مصلحهم وسيدهم وهم عبيد فبالدعاء به طلب رحمته واستعطاف كرمه .
الأعراف : ( 48 ) ونادى أصحاب الأعراف . . . . .
( وَنَادَى أَصْحَابُ الاْعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ( يحتمل أن يكون هذا النداء وأولئك الرجال في النار ومعرفتهم إياهم في الدنيا

" صفحة رقم 306 "
بعلامات ويحتمل أن يكون وهم يحملون إلى النار وسيماهم تسويد الوجه وتشويه الخلق ، وقال أبو مجلز : الملائكة تنادي رجالاً في النار وهذا على تفسيره أنّ الأعراف هم ملائكة والجمهور على أنهم آدميون ولفظ ) رِجَالاً ( يدل على أنهم غير معينين ، وقال ابن القشيري : ينادي أصحاب الأعراف رؤساء المشركين قبل امتحاء صورهم بالنار يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا عاصي بن وائل يا عتبة بن أبي معيط يا أمية بن خلف يا أبي بن خلف يا سائر رؤساء الكفّار ) مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ ( في الدنيا المال والولد والأجناد والحجاب والجيوش ) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ( عن الإيمان انتهى ، ( وَمَا أُغْنِى ( استفهام توبيخ وتقريع ، وقيل : نافية و ) مَا ( في و ) مَّا كُنتُمْ ( مصدريّة أي وكونكم تستكبرون وقرأت فرقة تستكثرون بالثاء مثلثة من الكثرة .
الأعراف : ( 49 ) أهؤلاء الذين أقسمتم . . . . .
( أَهَاؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ( الظاهر أنّ هذا من جملة مقول أهل الأعراف وتكون الإشارة إلى أهل الجنة الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحقّرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم في الدنيا وكانوا يقسمون بالله تعالى لا يدخلهم الجنة قاله الزمخشري ، وذكره ابن عطية عن بعض المتأوّلين ، قال : الإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة والمخاطبون هم أهل الأعراف والذين خوطبوا أهل النار والمعنى ) أَهَاؤُلاء ( الضعفاء في الدنيا الذين حلفتهم أن الله لا يعبأ بهم قبل لهم ادخلوا الجنة ، وقال ابن عباس : ) أَهَاؤُلاء ( من كلام ملك بأمر الله إشارة إلى أهل الأعراف ومخاطبة لأهل النار ، قال النقاش لما وبخوهم بقولهم ) مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ ( أقسم أهل النار أنّ أهل الأعراف داخلون النار معهم فنادتهم الملائكة ) أَهَاؤُلاء ( ثم نادى أهل الأعراف ادخلوا الجنة ، وقيل : الإشارة بهؤلاء إلى أهل الأعراف والقائلون هم أصحاب الأعراف ثم يرجعون إلى مخاطبة أنفسهم فيقول بعضهم لبعض ) ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ ( قاله الحسن ، وقيل : الإشارة إلى المؤمنين الذين كان الكفار يحلفون أنهم لا يدخلون الجنة والقائل إما الله وإما الملائكة ، وقيل : المشار بهؤلاء أصحاب الأعراف والقائل مالك خازن النار يأمر الله تعالى ، وقال أبو مجلز : أهل الأعراف هم الملائكة وهم القائلون ) أَهَاؤُلاء ( إشارة إلى أهل الجنة ، وكذلك مجيء قول من قال أهل الأعراف أنبياء وشهداء ، وقرأ الحسن وابن هرمز : أدخلوا من أدخل أي أدخلوا أنفسكم أو يكون خطاباً للملائكة ثم خاطب بعد البشر .
وقرأ عكرمة دخلوا إخباراً بفعل ماض ، وقرأ طلحة وابن وثاب والنخعي ) أَدْخِلُواْ ( خيراً مبنيّاً للمفعول وعلى هاتين القراءتين يكون قوله ) لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ( على تقدير مقولاً لهم لا خوف عليكم ، قال الزمخشري : يقال لأهل الأعراف ادخلوا الجنة بعد أن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويعرفوهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون وفائدة ذلك بيان أنّ الجزاء على قدر الأعمال وأنّ التقدّم والتأخر على حسبها وأنّ أحداً لا يسبق عند الله تعالى إلا بسبقه من العمل ولا يتخلّفه إلا بتخلّفه وليرغب السامعون في حال السابقين ويحصروا على إحراز قصبهم وأنّ كلاًّ يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشرّ فيرتدع المسيء عن إساءته ويزيد المحسن في إحسانه وليعلم أن العصاة يوبخهم كلّ أحد حتى أقصر الناس عملاً انتهى ، وهو تكثير من باب الخطابة لا طائل تحته وفيه دسيسة الاعتزال ، وعن حذيفة أنّ أهل الأعراف يرغبون في الشفاعة فيأتون آدم فيدفعهم إلى نوح ثم يتدافعهم الأنبياء حتى يأتوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيشفع لهم فيشفع فيدخلون الجنة فيلقون في نهر الحياة فيبيضون ويسمون مساكين الجنة ، قال سالم مولى أبي حذيفة : ليت أني من أهل الأعراف .
الأعراف : ( 50 ) ونادى أصحاب النار . . . . .
( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ( وهذا يقتضي سماع كل من الفريقين كلام الآخر وهذا جائز عقلاً على بعد المسافة بينهما من العلو والسّفل وجائز أن يكون ذلك مع رؤية واطّلاع من الله وذلك أخزى وأنكى للكفّار ، وجائز أن يكون ذلك وبينهم الحجاب والسّور ، وعن ابن عباس أنه لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرح بعد اليأس فقالوا : يا رب

" صفحة رقم 307 "
لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فينظرون إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقاً آخر فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وأخبروهم بقراباتهم فينادي الرجل أخوه فيقول يا أخي قد احترقت فأغثني فيقول : إنّ الله حرّمهما على الكافرين ويحتمل أن تكون مصدرية ومفسّرة ، وكلام ابن عباس يدل على أنّ هذه النداء كان عن رجاء وطمع حصول ذلك ، وقال القاضي هو مع اليأس لأنهم قد علموا دوام عقابهم وأنهم لا يفتر عنهم ولكن اليائس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثل الغريق يتعلق بالزّبد وإن علم أنه لا يغنيه انتهى ، و ) أَفِيضُواْ ( أمكن من اسقونا لأنها تقتضي التوسعة كما يقال أفاض الله عليه نعمه أي وسعها وسؤالهم الماء لشدّة التهابهم واحتراقهم ولأنّ من عادته إطفاء النار أو مما رزقكم الله لأنّ البنية البشرية لا تستغني عن الطعام إذ هو مقوّيها أو لرجائهم الرّحمة بأكل طعام و ) أَوْ ( على بابها من كونهم سألوا أحد الشيئين وأتى ) أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ( عاماً والعطف بأو يدل على أنّ الأول لا يندرج في العموم ، وقيل : أو بمعنى الواو لقولهم إنّ الله حرمهما ، وقيل المعنى حرم كلاًّ منهما فأو على بابها وما رزقكم الله عام فيدخل فيه الطعام والفاكهة والأشربة غير الماء وتخصيصه بالثمرة أو بالطعام أو غير الماء من الأشربة أقوال ثانيها للسدّي وثالثها للزمخشري قال : ) أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ( من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة فقال : ويجوز أن يراد وألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله : علفتها تبناً وماء باردا وإنما يطلبون ذلك مع يأسهم من الإجابة إليه حيرة في أمرهم كما يفعله المضطر الممتحن انتهى وقوله وإنما يطلبون إلى آخره هو كلام القاضي وقد قدّمناه ويجوز أن يراد وألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون ) أَفِيضُواْ ( ضمن معنى ألقوا ) عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ( فيصحّ العطف ويحتمل وهو الظاهر من كلامه أن يكون أضمر فعلاً بعد ) أَوْ ( يصل إلى ) مِمَّا رَزَقَكُمُ ( وهو ألقوا وهما مذهبان للنحاة فيما عطف على شيء بحرف عطف والفعل لا يصل إليه والصحيح منهما التضمين لا الإضمار على ما قرّرناه في علم العربية ومعنى التحريم هنا المنع كما قال :
حرام على عينيّ أن تطعما الكرى وإخبارهم بذلك هو عن أمر الله .
الأعراف : ( 51 ) الذين اتخذوا دينهم . . . . .
( الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا ( تقدّم تفسير مثل هذا في الأنعام .
( فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا وَمَا كَانُواْ بِئَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( هذا إخبار من الله عما يفعل بهم ، قال ابن عباس وجماعة يتركهم في العذاب كما تركوا النظر للقاء هذا اليوم ، وقال قتادة : ) نَسُواْ ( من الخير ولم ينسوا من

" صفحة رقم 308 "
الشر ، وقال الزمخشري : يفعل بهم فعل الناسين الذين ينسون عبيدهم من الخير لا يذكرونهم به ) كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا ( كما فعلوا بلقائه فعل الناسين فلم يخطروه ببالهم ولم يهتمّوا به ، وقال الحسن والسدّي أيضاً والأكثرون تتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم انتهى ، وإن قدر النسيان بمعنى الذهول من الكفرة فهو في جهة الله بتسمية العقوبة باسم الذنب ) وَمَا كَانُواْ ( معطوف على ما نسوا وما فيهما مصدرية ويظهر أنّ الكاف في ) كَمَا ( للتعليل .
الأعراف : ( 52 ) ولقد جئناهم بكتاب . . . . .
( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( الضمير في ) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ ( عائد على من تقدم ذكره ويكون الكتاب على هذا جنساً أي ) بِكِتَابٍ ( إلهي إذ الضمير عام في الكفار ، وقال يحيى بن سلام الضمير لمكذبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو ابتداء كلام وتمّ الكلام عند قوله ) يَجْحَدُونَ ( والكتاب هو القرآن و ) فَصَّلْنَاهُ ( عالمين كيفية تفصيله من أحكام ومواعظ وقصص وسائر معانيه ، وقيل : ) فَصَّلْنَاهُ ( بإيضاح الحق من الباطل ، وقيل : نزلناه في فصول مختلفة . وقرأ ابن محيصن والجحدري فضلناه بالضاد المنقوطة والمعنى فضلناه على جميع الكتب عالمين بأنه أهل للتفضيل عليها وفي التحرير أنه فضل على سائر الكتب المنزلة بثلاثين خصلة لم تكن في غيره و ) فَصَّلْنَاهُ ( صفة لكتاب وعلى علم الظاهر أنه حال من فاعل ) فَصَّلْنَاهُ ( وقيل التقدير مشتملاً على علم فيكون حالاً من المفعول وانتصب ) هُدًى وَرَحْمَةً ( على الحال ، وقيل مفعول من أجله ، وقرىء بالرفع أي هو ) هُدًى وَرَحْمَةً ( ، وقرأ زيد بن عليّ هدى ورحمة بالخفض على البدل من كتاب أو النعت وعلى النعت لكتاب خرّجه الكسائي والفرّاء رحمهما الله .
الأعراف : ( 53 ) هل ينظرون إلا . . . . .
( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ( أي مآل أمره وعاقبته قاله قتادة ومجاهد وغيرهما ، قال ابن عباس مآله يوم القيامة . وقال السدّي في الدنيا كوقعة بدر ويوم القيامة أيضاً ، وقال الزمخشري ما يؤول إليه من تبيين صدقه وظهور صحته ما نطق به من الوعد الوعيد والتأويل مادته همزة وواو ولام من آل يؤول ، وقال الخطابي : أوّلت الشيء رددته إلى أوّله فاللفظة مأخوذة من الأول انتهى وهو خطأ لاختلاف المادتين .
( يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا ( أي يظهر عاقبة ما أخبر به من الوعد والوعيد وذلك يوم القيامة يسأل تاركوا أتباع الرسول هل لنا من شفعاء سؤالاً عن وجه الخلاص في وقت أن لا خلاص وفي الكلام حذف أي لقد جاءت رسل ربّنا بالحق ولم نصدقهم أو ولم نتبعهم ) فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء ( والرّسل هنا الأنبياء أخبروا يوم القيامة أنّ الذي جاءتهم به رسلهم هو الحق . وقيل : ملائكة العذاب عند المعاينة ما أنذروا به ، وقرأ الجمهور ) أَوْ نُرَدُّ ( برفع الدّال فنعمل بنصب اللام عطف جملة فعلية على جملة اسمية وتقدّمهما استفهام فانتصب الجوابان أي هل شفعاء لنا فيشفعوا لنا في الخلاص من العذاب أو هل نرد إلى الدّنيا فنعمل عملاً صالحاً ، وقرأ الحسن : فيما نقل الزمخشري بنصب الدال ورفع اللام ، وقرأ الحسن فيما نقل ابن عطية وغيره برفعهما عطف ) فَنَعْمَلَ ( على ) نُرَدُّ ( ، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة بنصبهما فنصب ) أَوْ نُرَدُّ ( عطفاً على ) فَيَشْفَعُواْ لَنَا ( جواباً على جواب فيكون الشفعاء في أحد أمرين إما في الخلاص من العذاب وإما من الرّد إلى الدنيا لاستئناف العمل الصالح وتكون الشفاعة قد انسحبت على الردّ أو الخلاص و ) فَنَعْمَلَ ( عطف على فنرد

" صفحة رقم 309 "
ويحتمل أن يكون ) أَوْ نُرَدُّ ( من باب لألزمنك أو تقضيني حقي على تقدير من قدّر ذلك حتى تقضيني حقي أو كي تقضيني حقي فجعل اللزوم مغياً بقضاء حقه أو معلولاً له لقضاء حقه وتكون الشفاعة إذ ذاك في الرد فقط وأما على تقدير سيبويه ألا إني لألزمنك إلا أن تقضيني فليس يظهر أنّ معنى ) أَوْ ( معنى إلا هنا إذ يصير المعنى هل تشفع لنا شفعاء إلا أن نرد وهذا استثناء غير ظاهر وقولهم هذا هل هو مع الرّجاء أو مع اليأس فيه الخلاف الذي في ندائهم ) أَنْ أَفِيضُواْ ( ، قال القاضي وهي تدل على حكمين على أنهم كانوا قادرين على الإيمان والتوبة ولذلك سألوا الردّ الثاني إن أهل الآخرة غير مكلفين خلافاً للمجبرة والنجار لأنها لو كانت كذلك ما سألوا الردّ بل كانوا يتوبون ويؤمنون .
( قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( أي خسروا في تجارة أنفسهم حيث ابتاعوا الخسيس الفاني من الدّنيا بالنفيس الباقي من الآخرة وبطل عنهم افتراؤهم على الله ما لم يقله ولا أمرهم به وكذّبهم في اتخاذ آلهة من دون الله .
الأعراف : ( 54 ) إن ربكم الله . . . . .
( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ( لما ذكر تعالى أشياء من مبدأ خلق الإنسان وأمر نبيّه وانقسام إلى مؤمن وكافر وذكر معادهم وحشرهم إلى جنة ونار ذكر مبدأ العالم واختراعه والتنبيه على الدلائل الدالّة على التوحيد وكما القدرة والعلم والقضاء ثم بعد إلى النبوة والرسالة إذ مدار القرآن على تقدير المسائل الأربع التوحيد والقدرة والمعاد والنبوة ، وربّكم خطاب عام للمؤمن والكافر ، وروى بكار بن ) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ ( بنصب الهاء عطف بيان والظاهر أنه ) خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ( وعلى هذا الظاهر فسّر معظم الناس وبدأ بالخلق يوم الأحد وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : أخذ بيدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : ( خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة فيما بعد العصر إلى الليل ) ، وقال عدي بن زيد العبادي : قضى لستة أيام خليقته ، وكان آخر يوم صوّر الرّجلا ، وهو اختيار محمد بن إسحاق ، قال ابن الأنباري هذا إجماع أهل العلم .
وقال عبد الله بن سلام وكعب والضحّاك ومجاهد واختاره الطبري بدأ بالخلق يوم الأحد وبه يقول أهل التوراة ، وقيل يوم الإثنين وبه يقول أهل الإنجيل ، قال ابن عباس وكعب ومجاهد والضحّاك مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة ولا فرق بين خلقه تعالى ذلك في لحظة واحدة أو في مدد متوالية بالنسبة إلى قدرته تعالى وإبداء معان لذلك كما زعمه بعض المفسرين قول بلا برهان فلا نسوّد كتابنا بذكره وهو تعالى المنفرد بعلم ذلك ، وذهب بعض المفسرين إلى أنّ التقدير في قوله ) فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ( في مقدار ستة أيام فليست ستة الأيام أنفسها وقع فيها الخلق وهذا كقوله ) وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ( والمراد مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا ليل في الجنة ولا نهار وإنما ذهب الذاهب إلى هذا لأنه إنما يمتاز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها قبل خلق الشمس والقمر كيف يعقل خلق الأيام والذي أقول : إنه متى أمكن حمل الشيء على ظاهره أو على قريب من ظاهره كان أولى من حمله على ما لا يشمله العقل أو على ما يخالف الظاهر جملة وذلك بأن يجعل قوله ) فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ( ظرفاً لخلق الأرض لا ظرفاً لخلق السموات والأرض فيكون ) فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ( مدة لخلق الأرض

" صفحة رقم 310 "
بتربتها وجبالها وشجرها ومكروهها ونورها ودوابها وآدم عليه السلام وهذا يطابق الحديث الثابت في الصحيح وتبقى ستة أيام على ظاهرها من العددية ومن كونها أياماً باعتبار امتياز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها وأما استواؤه على العرش فحمله على ظاهره من الاستقرار بذاته على العرش قوم والجمهور من السّلف السفيانان ومالك والأوزاعي والليث وابن المبارك وغيرهم في أحاديث الصفات على الإيمان بها وإمرارها على ما أراد الله تعالى من غير تعيين مراد وقوم تأوّلوا ذلك على عدّة تأويلات . وقال سفيان الثوري فعل فعلاً في العرش سماه استواء وعن أبي الفضل بن النحوي أنه قال ) الْعَرْشِ ( مصدر عرش يعرش عرشاً والمراد بالعرش في قوله ) ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ( هذا وهذا ينبو عنه ما تقرر في الشريعة من أنه جسم مخلوق معين ومسألة الاستواء مذكورة في علم أصول الدين وقد أمعن في تقرير ما يمكن تقريره فيها القفال وأبو عبد الله الرازي وذكر ذلك في التحرير فيطالع هناك ولفظة ) الْعَرْشِ ( مشتركة بين معان كثيرة فالعرش سرير الملك ومنه ورفع أبويه على العرش نكروا لها عرشها و ) الْعَرْشِ ( السّقف وكل ما علا وأظل فهو عرش و ) الْعَرْشِ ( الملك والسلطان والعزّ ، وقال زهير : تداركتما عبساً وقد ثل عرشها
وذبيان إذ زلّت بأقدامها النعل
وقال آخر : إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم
بعتيبة بن الحارث بن شهاب
والعرش الخشب الذي يطوى به البئر بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة والعرش أربعة كواكب صغار أسفل من العواء يقال لها : عجز الأسد ويسمّى عرش السّماك والعرش ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع واستوى أيضاً يستعمل بمعنى استقرّ وبمعنى علا وبمعنى قصد وبمعنى ساوى وبمعنى تساوى وقيل بمعنى استولى وأنشدوا : هما استويا بفضلهما جميعا
على عرش الملوك بغير زور
وقال ابن الأعرابي لا نعرف استوى بمعنى استولى والضمير في قوله ) ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ( يحتمل أن يعود على المصدر الذي دلّ عليه خلق ثم استوى خلقه على العرش وكذلك في قوله ) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( لا يتعين حمل الضمير في قوله استوى على الرحمن إذ يحتمل أن يكون الرحمن خبر مبتدأ محذوف والضمير في ) اسْتَوَى ( عائد على الخلق المفهوم من قوله ) تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الاْرْضَ وَالسَّمَاواتِ الْعُلَى ( أي هو الرحمن استوى خلقه على العرش لأنه تعالى لما ذكر خلق السموات والأرض ذكر خلق ما هو أكبر وأعظم وأوسع من السموات والأرض ومع الاحتمال في العرش وفي استوى وفي الضمير العائد لا يتعيّن حمل الآية على ظاهرها هذا مع الدلائل العقلية التي أقاموها على استحالة ذلك . وقال الحسن استوى أمره وسأل مالك بن أنس رجل عن هذه

" صفحة رقم 311 "
الآية فقال : كيف استوى فأطرق رأسه مليّاً وعلّته الرخصاء ثم قال : الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أظنك إلا ضالاً ثم أمر به فأخرج .
( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ ( التغشية التغطية والمعنى أنه يذهب الليل نور النهار ليتم قوام الحياة في الدنيا بمجيء الليل والنهار فالليل للسكون والنهار للحركة وفحوى الكلام يدلّ على أنّ النهار يغشيه الله الليل وهما مفعولان لأنّ التضعيف والهمزة معدّيان ، وقرأ بالتضعيف الأخوان وأبو بكر وبإسكان الغين باقي السبعة وبفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام حميد بن قيس كذا قال عنه أبو عمرو الداني ، وقال أبو الفتح عثمان بن جني عن حميد بنصب ) الَّيْلَ ( ورفع ) النَّهَارَ ( ، قال ابن عطية وأبو الفتح أثبت انتهى وهذا الذي قاله من أنّ أبا الفتح أثبت كلام لا يصح إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أثمة القراءات فضلاً عن النحاة الذين ليسوا مقرئي ولا رووا القرآن عن أحد ولا روي عنهم القرآن هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النّقل وعدم التجاسر ووفور الخط من العربية فقد رأيت له كتاباً في كلا وكتاباً في إدغام أبي عمرو الكبير دلاًّ على إطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أثمة النحاة ولا المقرئين إلى سائر تصانيفه رحمه الله والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى لأنّ ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ الليل في قراءتهم وإن كان منصوباً هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل أو التضعيف صيره مفعولاً ولا يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً من حيث المعنى لأن المنصوبين تعدّى إليهما الفعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في ملكت زيداً عمراً إذ رتبة التقديم هي الموضّحة أنه الفاعل من حيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى والجملة من يطلبه حال من الفاعل من حيث المعنى وهو الليل إذ هو المحدث عنه قبل التعدية وتقديره حاثاً ويجوز أن يكون حالاً من النهار وتقديره محثوثاً ويجوز أن ينتصب نعتاً لمصدر محذوف أي طلباً حثيثاً أي حثاً أو محثاً ونسبة الطلب إلى الليل مجازية وهو عبارة عن تعاقبه اللازم فكأنه طالب له لا يدركه بل هو في إثره بحيث يكاد يدركه وقدّم الليل هنا كما قدمه في ) يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ ( وفي ) وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ( وفي ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( ، وقال أبو عبد الله الرازي وصف هذه الحركة بالسرعة والشدة لأنّ تعاقب الليل والنهار يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة وأكملها شدّة حتى إنّ الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا : الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل قبل أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل ولهذا قال : ) يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ( ونظيره ) لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا ( الآية شبه ذلك المسير وتلك الحركة بالسباحة في الماء والمقصود التنبيه على السرعة والسهولة وكمال الاتصال انتهى وفيه بعض تلخيص .
( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ( انتصب ) مُسَخَّراتٍ ( على الحال من المجموع أي وخلق الشمس ، وقرأ ابن عامر بالرفع في الأربعة على الابتداء والخبر ، وقرأ أبلان بن ثعلب برفع ) وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ ( فقط على الابتداء والخبر ومعنى ) بِأَمْرِهِ ( بمشيئته وتصريفه وهو متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره وكما يريد أن يصرفها سمي ذلك أمراً على التشبيه كأنّهن مأمورات بذلك ، وقال أبو عبد الله الرازي الشمس لها نوعان من الحركة أحدهما بحسب ذاتها وذلك يتم في سنة كاملة وبسبب ذلك تحصل السّنة ، والثاني حركتها بحسب حركة الفلك الأعظم ويتم في اليوم بليلته فتقول الليل والنهار لا يحصلان بحركة الشمس وإنما يحصلان بحركة السماء الأقصى الذي يقال له العرش فلهذا السبب لما دل على العرش بقوله ) ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ( وربط بقوله ) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ( تنبيهاً على أنّ الفلك الأعظم وهو العرش يحرك الأفلاك والكواكب على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب وأنه تعالى أودع في جرم الشمس قوة قاهرة باعتبارها قويت على قهر جميع الأفلاك

" صفحة رقم 312 "
والكواكب وتحريكها على خلاف مقتضى طبائعها فهذه أبحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند الله ، انتهى .
وتكلم في قوله ) مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ( كلاماً كثيراً هو من علم الهيئة وهو علم لم ننظر فيه قال : أربابه وهو علم شريف يطلع فيه على جزئيات غريبة من صنعة الله تعالى يزداد بها إيمان المؤمن إذ المعرفة بجزئيات الأشياء وتفاصيلها ليست كالمعرفة بجمليتها ، وقيل ) بِأَمْرِهِ ( أي بنفاذ إرادته إذ المقصود تبيين عظيم قدرته لقوله ) ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ( وقوله ) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء ). وقيل الأمر هو الكلام .
( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( لما تقدّم ذكر خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم وأمره فيها قال ذلك أي له الإيجاد والاختراع وجرى ما خلق واخترع على ما يريده ويأمر به لا أحد يشركه في ذلك ولا في شيء منه ، وقيل : الخلق بمعنى المخلوق والأمر مصدر من أمر أي المخلوقات كلها له وملكه واختراعه وعلى هذا قال النقاش وغيره : الآية ردّ على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه انتهى ، وهو استدلال ضعيف إذ لا يتعيّن حمل اللفظ على ما ذكر بل الأظهر خلافه ، وقال الشعبي : الخلق عبارة عن الدنيا والأمر عبارة عن الآخرة .
( تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( أي علا وعظم ولما تقدّم ) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ ( صدر الآية جاء آخرها فتبارك الله رب العالمين وجاء ) الْعَالَمِينَ ( أعمّ من ربكم لأنه ذكر خلق تلك الأشياء البديعة وهي عوالم كثيرة فجاء العالمين جمعاً لجميع العوالم واندرج فيه المخاطبون بربكم وغيرهم .
2 ( ) ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاٌّ رْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ( ) ) 2
الأعراف : ( 55 ) ادعوا ربكم تضرعا . . . . .
( ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ( الظاهر أنّ الدعاء هو مناجاة الله بندائه لطلب أشياء ولدفع أشياء ، وقال الزّجاج : المعنى اعبدوا وانتصب ) تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ( على الحال أي متضرّعين ومخفين أو ذوي تضرّع واختفاء في دعائكم وفي الحديث الصحيح ( إنكم لستم تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً ) وكان الصحابة حين أخبرهم الرسول بذلك قد جهروا بالذكر أمر تعالى بالدعاء مقروناً بالتذلل والاستكانة والاختفاء إذ ذاك ادّعى للإجابة وأبعد عن الرياء والدعاء خفية أفضل من الجهر ولذلك أثنى الله على زكريا عليه السلام فقال : ) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً ( وفي الحديث ( خير الذّكر الخفي ) وقواعد الشريعة مقررة أن السرّ فيما لم يفترض من أعمال البر أعظم أجراً من الجهر . قال الحسن : أدركنا أقواماً ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سراً فيكون جهراً أبداً ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم انتهى ولو عاش الحسن إلى هذا الزمان العجيب الذي ظهر فيه ناس يتسمون بالمشايخ يلبسون ثياب شهرة عند العامة بالصّلاح ويتركون الاكتساب ويرتبون لهم إذكاراً لم ترد في الشريعة يجهرون بها في المساجد ويجمعون لهم خداماً يجلبون الناس إليهم لاستخدامهم ونتش أموالهم ويذيعون عنهم كرامات ويرون لهم منامات يدوّنونها في أسفار ويحضون على ترك

" صفحة رقم 313 "
العلم والاشتغال بالسنّة ويرون الوصول إلى الله بأمور يقررونها من خلوات وأذكار لم يأت بها كتاب منزل ولا نبي مرسل ويتعاظمون على الناس بالانفراد على سجادة ونصب أيديهم للتقبيل وقلّة الكلام وإطراق الرؤوس وتعيين خادم يقول الشيخ مشغول في الخلوة رسم الشيخ قال الشيخ رأى الشيخ الشيخ نظر إليك الشيخ كان البارحة يذكرك إلى نحو من هذه الألفاظ التي يخشون بها على العامة ويجلبون بها عقول الجهلة هذا إن سلم الشيخ وخادمه من الإعتقاد الذي غلب الآن على متصوفة هذا الزمان من القول بالحلول أو القول بالوحدة فإذ ذاك يكون منسلخاً عن شريعة الإسلام بالكليّة والتعجب لمثل هؤلاء كيف ترتب لهم الرّواتب وتبنى لهم الربط وتوقف عليها الأوقاف ويخدمهم الناس في عروهم عن سائر الفضائل ولكن الناس أقرب إلى أشباههم منهم إلى غير أشباههم وقد أطلنا في هذا رجاء أن يقف عليه مسلم فينتفع به ، وقرأ أبو بكر بكسر ضمة الخاء وهما لغتان ويظهر ذلك من كلام أبي علي ولا يتأتى إلا على ادعاء القلب وهو خلاف الأصل ونقل ابن سيده في المحكم أنّ فرقة قرأت ) وَخِيفَةً ( من الخوف أي ادعوه باستكانة وخوف . وقال أبو حاتم قرأها الأعمش فيما زعموا .
( إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( وقرأ ابن أبي عبلة إن الله جعل مكان المضمر المظهر وهذا اللفظ عام يدخل فيه أوّلاً الدعاء على غير هذين الوجهين من عدم التضرّع وعدم الخفية بأن يدعوه وهو ملتبس بالكبر والزهو أو أن ذلك دأبه في المواعيد والمدارس فصار ذلك له صنعة وعادة فلا يلحقه تضرّع ولا تذلل وبأن يدعوه بالجهر البليغ والصياح كدعاء الناس عند الاجتماع في المشاهد والمزارات ، وقال العلماء الاعتداء في الدعاء على وجوه منها الجهر الكثير والصّياح وأن يدعو أن يكون له منزلة نبي وأن يدعو بمحال ونحوه من الشّطط وأن يدعو طالب معصية ، وقال ابن جريج والكلبي الاعتداء رفع الصوت بالدعاء وعنه الصّياح في الدعاء مكروه وبدعة وقيل هو الإسهاب في الدعاء قال القرطبي وقد ذكر وجوهاً من الاعتداء في الدعاء قال : ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب العزيز ولا في السّنة فيتخير ألفاظاً مقفاة وكلمات مسجعة وقد وجدها في كراريس لهؤلاء يعني المشايخ لا معوّل عليها في فيجعلها شعاره يترك ما دعا به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكل هذا يمنع من استجابة الدّاء ، وقال ابن جبير : الاعتداء في الدّعاء أن يدعو على المؤمنين بالخزي والشّرك واللعنة ، وفي سنن ابن ماجة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال : أي بني سل الله الجنة وعُذْ به من النار فإنّي سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقول : ( سيكون قوم يعتدون في الدعاء ) زاد ابن عطية والزمخشري في هذا الحديث ( وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ) ثم قرأ ) إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ).
الأعراف : ( 56 ) ولا تفسدوا في . . . . .
( وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ). هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض وإدخال ماهيته في الوجود فيتعلق بجميع أنواعه من إيقاع الفساد في الأرض وإدخال ماهيته في الوجود فيتعلق بجميع أنواعه من إفساد النفوس والأنساب والأموال والعقول والأديان ومعنى ) بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ( بعد أنْ أصلح الله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين وما روي عن المفسّرين من تعيين نوع الإفساد والإصلاح ينبغي أن يحمل ذلك على التمثيل إذا ادّعاءه تخصيص شيء من ذلك لا دليل عليه كالظلم بعد العدل أو الكفر بعد الإيمان أو المعصية بعد الطاعة أو بالمعصية فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بعد إصلاحها بالمطر والخصب أو يقتل المؤمن بعد بقائه أو بتكذيب الرّسل بعد الوحي أو بتغوير الماء المعين وقطع الشجر والثمر ضراراً أو يقطع الدنانير والدراهم أو بتجارة الحكام أو بالإشراك بالله بعد بعثة الرسل وتقرير الشرائع وإيضاح الملة .
( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ( لما كان الدّعاء من الله بمكان كرره فقال أولاً ) ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ( وهاتان الحالتان من الأوصاف الظاهرة لأن الخشوع والاستكانة وإخفاء الصوت ليست من الأفعال القلبية أي وجلين مشفقين وراجين مؤملين فبدأ أوّلاً بأفعال الجوارح ثم ثانياً بأفعال القلوب وانتصب ) خَوْفًا وَطَمَعًا ( على أنهما مصدران في موضع الحال أو انتصاب المفعول له وعطف أحدهما على

" صفحة رقم 314 "
الآخر يقتضي أن يكون الخوف والرجاء متساويين ليكونا للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة فإن انفرد أحدهما هلك الإنسان وقد قال كثير من العلماء : ينبغي أن يغلب الخوف الرّجاء طول الحياة فإذا جاء الموت غلب الرّجاء ورأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب ومنه تمنى الحسن البصري أن يكون الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة وتمنّى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف لأنّ مذهبه أنهم مذنبون وسالم هذا من رتبة الدّين والفضل بحيث قال عمر بن الخطاب كلاماً معناه لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته الخلافة وأبعد من ذهب إلى أن المعنى خوفاً من الردّ وطمعاً في الإجابة .
( وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ( قال الزمخشري : كقوله : ) وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ( ، انتهى . يعني أنّ الرحمة مختصة بالمحسن وهو من تاب وآمن وعمل صالحاً وهذا كله حمل القرآن وإنما على مذهبه من الاعتزال والرحمة مؤنثة فقياسها أن يخبر عنها إخبار المؤنّث فيقال قريبة ، فقيل : ذكر على المعنى لأنّ الرحمة بمعنى الرحم والترحّم ، وقيل : ذكر لأنّ الرحمة بمعنى الغفران والعفو قاله النضر بن شميل واختاره الزّجاج ، وقيل بمعنى المطر قاله الأخفش أو الثواب قاله ابن جبير فالرحمة في هذه الأقوال بدل عن مذكر . وقيل : التذكير على طريق النسب أي ذات قرب ، وقيل : قريب نعت لمذكر محذوف أي شيء قريب ، وقيل : قريب مشبّه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول نحو خصيب وجريح كما شبه فعيل به فقيل شيئاً من أحكامه فقيل في جمعه فعلاء كأسير وأسراء وقتيل وقتلاء كما قالوا : رحيم ورحماء وعليم وعلماء ، وقيل : هو مصدر جاء على فعيل كالضغيث وهو صوت الأرنب والنقيق وإذا كان مصدر أصح أن يخبر به عن المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع بلفظ المصدر ، وقيل لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي قاله الجوهري ، وهذا ليس بجيد إلاّ مع تقديم الفعل أما إذا تأخر فلا يجوز إلا التأنيث تقول الشمس طالعة ولا يجوز طالع إلا في ضرورة الشعر بخلاف التقديم فيجوز أطالعة الشمس وأطالع الشمس كما يجوز طلعت الشمس وطلع الشمس ولا يجوز طلع إلا في الشّعر ، وقيل : فعيل هنا بمعنى المفعول أي مقربة فيصير من باب كفّ خضيب وعين كحيل قاله الكرماني ، وليس بجيد لأن ما ورد من ذلك إنما هو من الثلاثي غير المزيد وهذا بمعنى مقربة فهو من الثلاثي المزيد ومع ذلك فهو لا ينقاس ، وقال الفرّاء إذا استعمل في النسب والقرابة فهو مع المؤنث بتاء ولا بدّ تقول هذه قريبة فلان وإن استعملت في قرب المسافة أو الزمن فقد تجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء تقول دارك مني قريب وفلانة منا قريب ، ومنه هذا وقول الشاعر : عشية لا عفراء منك قريبة
فتدنو ولا عفراء منك بعيد
فجمع في هذا البيت بين الوجهين ، قال ابن عطية : هذا قول الفرّاء في كتابه وقد مرّ في كتب بعض المفسرين مغيراً انتهى ، وردّ الزّجاج وقال هذا على الفراء هذا خطأ لأنّ سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما وقال من احتج له هذا كلام العرب ، قال تعالى : ) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ). وقال الشاعر : له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم
قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا

" صفحة رقم 315 "
وقال أبو عبيدة ) قَرِيبٌ ( في الآية ليس بصفة للرحمة وإنما هو ظرف لها وموضع فتجيء هكذا في المؤنث والاثنين والجمع وكذلك بعيد فإن جعلوها صفة بمعنى مقتربة قالوا قريبة وقريبتان وقريبات . قال علي بن

" صفحة رقم 316 "
سليمان وهذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوباً كما تقول إنّ زيداً قريباً منك انتهى وليس بخطأ لأنه يكون قد اتسع في الظرف فاستعمله غير ظرف كما تقول هند خلفك وفاطمة أمامك بالرّفع إذا اتسعت في الخلف والأمام وإنما يلزم النصب إذا بقيتا على الظّرفية ولم يتسع فيهما وقد أجازوا أنّ قريباً منك زيد على أن يكون قريباً اسم إنّ وزيد الخبر فاتسع في قريب واستعمل اسما لا منصوباً على الظّرف والظاهر عدم تقييد قرب الرحمة من المحسن بزمان بل هي قريب منه مطلقاً وذكر الطبري أنه وقت مفارقة الأرواح للأجساد تنالهم الرحمة .
2 ( ) وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذالِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنِّىأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ ءَالآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِىأَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا

" صفحة رقم 317 "
وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِىأَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ ءَالآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاٌّ رْضِ مُفْسِدِينَ قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِىءَامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَاحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاٌّ رْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } )
الأعراف : ( 57 ) وهو الذي يرسل . . . . .
أقلّ الشيء حمله ورفعه من غير مشقة ومنه إقلال البطن عن الفخذ في الركوع والسجود ومنه القلّة لأنّ البعير يحملها من غير مشقة وأصله من القلة فكان المقلّ يرى ما يرفعه قليلاً واستقل به أقله ، السّوق حمل الشيء بعنف . النّكد العسر القليل . قال الشاعر : لا تنجز الوعد إن وعدت وإن
أعطيت أعطيت قافها نكدا

" صفحة رقم 318 "
ونكد الرجل سئل إلحافاً وأخجل . قال الشاعر : وأعطِ ما أعطيته طيبا
لا خير في المنكود والناكدً
الآلاء النعم واحدها إلى كمعى . أنشد الزجاج :
أبيض لا يرهب الهزال ولا
يقطع رحمي ولا يخون إلىً
وإلى بمعنى الوقت أو إلى كقفا وإلى كحسى أو إلى كجرو ، وقع قال النضر بن شميل قرع وصدر كوقوع الميقعة وقال غيره : نزل والواقعة النازلة من الشدائد والوقائع الحروب والميقعة المطرقة . قال بعض أدبائنا :
ذو الفضل كالتبر طوراً تحت ميقعة
وتارة في ذرى تاج على ملكً
ثمود اسم قبيلة سميت باسم أبيها ويأتي ذكره في التفسير إن شاء الله . النّاقة الأنثى من الجمال وألفهامنقلبة عن الواو وجمعها في القلة أنوق وأنيق وفيه القلب والإبدال وفي الكثرة نياق ونوق واستنوق الجمل إذا صار يشبه الناقة . السّهل ما لان من الأرض وانخفض وهو ضدّ الحزن . القصر الدار التي قصرت على بقعة من الأرض مخصوصة بخلاف بيوت العمود سمي بذلك لقصور الناس عن ارتقائه أو لقصور عامّتهم عن بنائه . النّحت النجر والنّشر في الشيء الصلب كالحجر والخشب . قال الشاعر : أما النهار ففي قيد وسلسلة
والليل في بطن منحوت من السّاج
عقرت الناقة قتلتها فهي معقورة وعقير ومنه من عقر جواده قاله ابن قتيبة . وقال الأزهري العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ، ولما كان سبباً للنحر أطلق العقر على النحر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وإن لم يكن هناك قطع للعرقوب . قال امرؤ القيس : ويوم عقرت للعذارى مطيّتي
فيا عجباً من كورها المتحمّل
وقال غيره والعقر بمعنى الجرح . قال : تقول وقد مال الغبيط بنا معا
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

" صفحة رقم 319 "
عتا يعتو عتوّاً استكبر . الرجفة الطامّة التي يرجف لها الإنسان أي يتزعزع ويضطرب ويرتعد ومنه ترجف بوادره وأصل الرّجف الاضطراب ، رجفت الأرض والبحر رجاف لاضطرابه ، وأرجف الناس بالشر خاضوا فيه واضطربوا ، ومنه الأراجيف ورجف بهم الجبل . قال الشاعر : ولما رأيت الحج قد حان وقته
وظلت جمال القوم بالحي ترجف
الجثوم اللصوق بالأرض على الصدر مع قبض السّاقين كما يرقد الأرنب والطير . غبر بقي . قال أبو ذؤيب : فغبرت بعدهم بعيش ناضب
وإخال أني لاحق مستبقع
هذا المشهور في اللغة ومنه غبر الحيض . قال أبو بكر الهذلي : ومبرّأ من كل غبر حيضة
وفساد مرضعة وداء معضل
وغبر اللبن في الضّرع بقيته وحكى أهل اللغة غبر بمعنى مضى ، قال الأعشى : غض بما ألقى المواسي له
من أمّه في الزمن الغابر
وبمعنى غاب ومنه عبر عنا زماناً أي غاب قاله الزجاج ، وقال أبو عبيدة غبر عمر دهراً طويلاً حتى هرم ، المطر معروف ، وقال أبو عبيد يقال في الرّحمة مطر وفي العذاب أمطر وهذا معارض بقوله ) هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ( فإنهم لم يريدوا إلا الرّحمة وكلاهما متعدّ يقال مطرتهم السماء وأمطرتهم ، شعيب اسم نبيّ وسيأتي ذكر نسبه في التفسير إن شاء الله .
( وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ ( لما ذكر تعالى الدلائل على كمال إلهيته وقدرته وعلمه من العالم العلوي أتبعهما بالدلائل من العالم السفلي وهي محصورة في آثار العالم العلوي ومنها الرّيح والسحاب والمطر وفي المعدن والنبات والحيوان ويترتب على نزول المطر أحوال النبات وذلك هو المذكور في الآية وانجرّ مع ذلك الدلالة على صحة الحشر والنشر البعث والقيامة وانتظمت هاتان الآيتان محصلتين المبدأ والمعاد وجعل الخبر موصولاً في أنّ ربكم الله الذي وفى ) وَهُوَ الَّذِى ( دلالة على كون ذلك معهوداً عند السامع مفروغاً من تحقّق النسبة فيه والعلم به ولم يأتِ التركيب إنّ ربكم خلق ولا وهو يرسل الرياح ، وقرأ الرّياح نشراً جمعين وبضم الشين جمع ناشر على النسب أي ذات نشر من الطي كلابن وتامر وقالوا نازل ونزل وشارف وشرف وهو جمع نادر في فاعل أو نشور من الحياة أو جمع نشور كصبور وصبر وهو جمع مقيس لا جمع نشور بمعنى منشور خلافاً لمن أجاز ذلك لأنّ فعولاً كركوب بمعنى مركوب لا ينقاس ومع كونه لا ينقاس لا يجمع على فعل الحسن والسلمي وأبو رجاء واختلف عنهم

" صفحة رقم 320 "
والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى بن عمر وأبو يحيى وأبو نوفل الأعرابيان ونافع وأبو عمرو ، وقرأ كذلك جمعاً إلا أنهم سكّنوا الشين تخفيفاً من الضم كرسل عبد الله وابن عباس وزر وابن وثاب والنخعي وطلحة بن مصرف والأعمش ومسروق وابن عامر ، وقرأ نشراً بفتح النون والشين مسروق فيما حكى عنه أبو الفتح وهو اسم جمع كغيب ونشىء في غائبة وناشئة ، وقرأ ابن كثير الرّيح مفرداً نشراً بالنون وضمّها وضمّ الشين فاحتمل نشراً أن يكون جمعاً حالاً من المفرد لأنه أريد به الجنس كقولهم : العرب هم البيض واحتمل أن يكون مفرداً كناقة سرح ، وقرأ حمزة والكسائي نشراً بفتح النون وسكون الشين مصدراً كنشر خلاف طوى أو كنشر بمعنى حيي من قولهم أنشر الله الموتى فنشروا أي حيوا . قال الشاعر : حتى يقول الناس مما رأوا
يا عجباً للميت الناشر
وقرأ ) الرّيَاحِ ( جمعاً ابن عباس والسّلمي وابن أبي عبلة ) بَشَرًا ( بضم الباء والشين ورويت عن عاصم وهو جمع بشيرةٍ كنذيرة ونذر ، وقرأ عاصم كذلك إلا أنه سكن الشين تخفيفاً من الضم ، وقرأ السلمي أيضاً ) بَشَرًا ( بفتح الباء وسكون الشين وهو مصدر بشر المخفف ورويت عن عاصم ، وقرأ ابن السميقع وابن قطيب بشرى بألف مقصورة كرجعى وهو مصدر فهذه ثماني قراءات أربعة في النون وأربع في الباء فمن قرأ بالباء جمعاً أو مصدراً بألف التأنيث ففي موضع الحال من المفعول أو مصدراً بغير ألف التأنيث فيحتمل ذلك ويحتمل أن يكون حالاً من الفاعل ومن قرأ بالنون جمعاً أو اسم جمع فحال من المفعول أو مصدراً فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل وأن كون حالاً من المفعول أو مصدراً ليرسل من المعنى لأنّ إرسالها هو إطلاقها وهو بمعنى النّشر فكأنه قيل بنشر الرياح نشراً ووصف الريح بالنشر بأحد معنيين بخلاف الطي وبالحياة ، قال أبو عبيدة : في النشر أنها المتفرقة في الوجوه ، وقال الشاعر في وصف الرّيح بالإحياء والموت : وهبّت له ريح الجنوب وأحييت
له ريدة يحيي المياه نسيمها
والرّيدة والمريد أنه الرّيح . وقال الآخر : إني لأرجو أن تموت الرّيح
فأقعد اليوم وأستريح
ومعنى ) بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ ( أما نعمته وهو المطر الذي هو من أجلّ النعم وأحسنها أثراً والتعيين عن إمام الرحمة بقوله ) بَيْنَ يَدَىِ ( من مجاز الاستعارة إذ الحقيقة هو ما بين يدي الإنسان من الإحرام وقال الكرماني : قال هنا ) يُرْسِلُ ( لأنّ قبل ذلك ) وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ( فهماً في المستقبل فناسبه المستقبل وفي الفرقان وفاطر ) أُرْسِلَ ( لأن قبله ) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ ( وبعده ) وَهُوَ الَّذِى ( وكذا في الروم ) الْكَافِرِينَ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ( ليوافق ما قبله من المستقبل وفي فاطر قبله ) الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ ( وذلك ماضٍ فناسبه الماضي انتهى ملخصاً .
( حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ ). هذه غاية لإرسال الرّياح والمعنى أنه تعالى يرسل الرّياح مبشرات أو مبشرات إلى سوق السّحاب وقت إقلاله إلى بلد ميت والسحاب اسم جنس بينه وبين مفرده تاء

" صفحة رقم 321 "
التأنيث فيذكر كقوله ) وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ ( كقوله ) يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ( ويؤنث ويوصف ويخبر عنه بالجمع كقوله ) وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ ( وكقوله ) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ( وثقله بالماء الذي فيه ونسب السّوق إليه تعالى بنون العظمة التفافاً لما فيه من عظيم المنة وذكر الضمير في ) سُقْنَاهُ ( رعياً للفظ كما قلنا إنه يذكر . وقال السدّي يرسل تعالى الرياح فتأتي السحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض حيث يلتقيان فيخرجه من ثم ثم ينتشر ويبسطه في السماء وتفتح أبواب السماء ويسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك قال وهذا التفصيل لم يثبت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) انتهى . ومذهب أهل الحق أن الله تعالى هو الذي يسخّر الرّياح ويصرفها حيث أراد بمشيئته وتقديره لا مشارك له في ذلك وللفلاسفة كيفية في حصول الرياح ذكرها أبو عبد الله الرازي وأبطلها من وجوه أربعة يوقف عليها في كلامه وللمنجمين أيضاً كلام في ذلك أبطله ، وقال في آخره فثبت بهذا البرهان أنّ محرّك الرّياح هو الله تعالى وثبت بالدليل العقلي صحّة قوله ) وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ ).
وعن ابن عمران الرّياح ثمان أربع منها عذاب هي : القاصف والعاصف والصّرصر والعقيم وأربع منها رحمة : الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات واللام في ) لِبَلَدٍ ( عندي لام التبليغ كقولك قلت لك ، وقال الزمخشري : لأجل بلد فجعل اللام لام العلة ولا يظهر فرق بين قولك سقت لك مالاً وسقت لأجلك مالاً فإنّ الأوّل معناه أوصلته لك وأبلغتكه والثاني لا يلزم منه وصوله إليه بل قد يكون الذي وصل له الماء غير الذي علّل به السوق ألا ترى إلى صحة قول القائل لأجل زيد سقت لك مالك . ووصف البلد بالموت استعارة حسنة لجدبه وعدم نباته كأنه من حيث عد الانتفاع به كالجسد الذي لا روح فيه ولما كان ذلك موضع قرب رحمة الله وإظهار إحسانه ذكر أخص الأرض وهو البلد حيث مجتمع الناس ومكان استقرارهم ولما كان في سورة يس المقصد إظهار الآيات العظيمة الدالة على البعث جاء التركيب باللفظ العام وهو قوله ) وَءايَةٌ لَّهُمُ الاْرْضُ الْمَيْتَةُ ( وبعده ) وَءايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ ( وسكن باء الميت عاصم وأبو عمرو والأعمش .
( فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء ( الظاهر أنّ الباء ظرفية والضمير عائد على بلد ميت أي فأنزلنا فيه الماء وهو أقرب مذكور ويحسن عوده إليه فلا يجعل لأبعد مذكور ، وقيل الباء سببيّة والضمير عائد على السحاب . وقيل عائد على المصدر المفهوم من سقناه فالتقدير بالسّحاب أو بالسّوق والثالث ضعيف لأنه عائد على غير مذكور مع وجود المذكور وصلاحيته للعود عليه . وقيل : عائد على السحاب والباء بمعنى من أي فأنزلنا منه الماء كقوله ) يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( أي منها وهذا ليس بجيد لأنه تضمين من الحروف .
( فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثَّمَراتِ ( الخلاف في ) بِهِ ( كالخلاف السابق في به . وقيل : الأول عائد على السحاب والثاني على البلد عدل عن كناية إلى كناية من غير فاصل كقوله : ) الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ( وفاعل أملى لهم الله تعالى .
( كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( أي مثل هذا الإخراج ) نُخْرِجُ الْموْتَى ( من قبورهم أحياء إلى الحشر ) لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( بإخراج الثمرات وإنشائها خروجكم للبعث إذ الإخراجات سواء فهذا الإخراج المشاهد نظير الإخراج الموعود به خرج البيهقي وغيره عن رزين العقيلي قال قلت : يا رسول الله كيف يعيد الله الخلق وما آية ذلك في خلقه ؟ قال ( أما مررت بوادي قومك جدياً ثم مررت به خضراً قال : نعم قال : ( فتلك آية الله في خلقه ) انتهى ، وهل التشبيه في مطلق الإخراج ودلالة إخراج الثمرات على القدرة في إخراج الأموات أم في كيفيّة الإخراج وأنه ينزل مطر عليهم فيحيون كما ينزل المطر على البلد الميّت فيحيا نباته احتمالان ، وقد روي عن أبي هريرة أنه يمطر عليهم من ماء تحت

" صفحة رقم 322 "
العرش يقال له ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع فإذا كملت أجسامهم نفخ فيها الرّوح ثم يلقي عليهم نومة فينامون فإذا نفخ في الصّور الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم فيقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادي هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون .
الأعراف : ( 58 ) والبلد الطيب يخرج . . . . .
( وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا ( ) الطَّيّبِ ( الجيّد الترب الكريم الأرض ، ( وَالَّذِى خَبُثَ ( المكان السبخ الذي لا ينبت ما ينتفع به وهو الرديء من الأرض ، ولما قال ) فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثَّمَراتِ ( تمم هذا المعنى بكيفية ما يخرج من النبات من الأرض الكريمة والأرض السّبخة وتلك عادة الله في إنبات الأرضين وفي الكلام حال محذوفة أي يخرج نباته وافياً حسناً وحذفت لفهم المعنى ولدلالة ) وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ ( عليها ولمقابلتها بقوله ) إِلاَّ نَكِدًا ( ولدلالة ) بِإِذْنِ رَبّهِ ( لأنّ ما أذن الله في إخراجه لا يكون إلا على أحسن حال و ) بِإِذْنِ رَبّهِ ( في موضع الحال وخصّ خروج نبات الطيّب بقوله ) بِإِذْنِ رَبّهِ ( على سبيل المدح له والتشريف ونسبة الإسناد الشريفة الطبية إليه تعالى وإن كان كلا النباتين يخرج بإذنه تعالى ومعنى ) بِإِذْنِ رَبّهِ ( بتيسيره وحذف من الجملة الثانية الموصوف أيضاً والتقدير والبلد الذي خبث لدلالة ) وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ ( عليه فكلّ من الجملتين فيه حذف وغاير بين الموصولين فصاحة وتفنّناً ففي الأولى قال : ) الطَّيّبِ ( وفي الثانية قال : ) الَّذِى خَبُثَ ( وكان إبراز الصّلة هنا فعلاً بخلاف الأوّل لتعادل اللفظ يكون ذلك كلمتين الكلمتين في قوله ) وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ ( والطيب والخبيث متقابلان في القرآن كثيراً ) قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ ( و ) يَحِلَّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( ) أَنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ( إلى غير ذلك والفاعل في ) لاَ يَخْرُجُ ( عائد على ) الَّذِى خَبُثَ ( وقد قلنا إنه صفة لموصوف محذوف والبلد لا يخرج فيكون على حذف مضاف إما من الأوّل أي ونبات الذي خبث أو من الثاني أي لا يخرج نباته فلما حذف استكنّ الضمير الذي كان مجروراً لأنه فاعل ، وقيل هاتان الجملتان قصد بهما التمثيل ، فقال ابن عباس وقتادة مثال لروح المؤمن يرجع إلى جسده سهلاً طيّباً كما خرج إذا مات ولروح الكافر لا يرجع إلاّ بالنّكد كما خرج إذ مات انتهى ، فيكون هذا راجعاً من حيث المعنى إلى قوله ) كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى ( أي على هذين الوصفين .
وقال السدّي مثال للقلوب لما نزل القرآن كنزول المطر على الأرض فقلب المؤمن كالأرض الطيبة يقبل الماء وانتفع بما يخرج ، وقلب الكافر كالسّبخة لا ينتفع بما يقبل من الماء ، وقال النحاس : هو مثال للفهيم والبليد ، وقال الزمخشري : وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك وعن مجاهد ذرّية آدم خبيث وطيّب وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر المطر وإنزله بالبلد الميت وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد انتهى ، والأظهر ما قدّمناه من أنّ المقصود التعريف بعبادة الله تعالى في إخراج النبات في الأرض الطيبة والأرض الخبيثة دون قصد إلى التمثيل بشيء مما ذكروا ، وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر ) يَخْرُجُ نَبَاتُهُ ( مبنيّاً للمفعول ، وقرأ ابن القعقاع ) نَكِدًا ( بفتح الكاف ، قال الزّجاج : وهي قراءة أهل المدينة ، وقرأ ابن مصرّف بسكونها وهما مصدران أي ذا نكد وكون نبات الذي خبث محصوراً خروجه على حالة النكد مبالغة شديدة في كونه لا يكون إلا هكذا ولا يمكن أن يوجد ) إِلاَّ نَكِدًا ( وهي إشارة إلى من استقر فيه وصف الخبيث يبعدعنه النزوع إلى الخير .
( كَذالِكَ نُصَرّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( أي مثل هذا التصريف

" صفحة رقم 323 "
والترديد والتنويع ننوّع الآيات ونردّدها وهي الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة التامة والفعل بالاختيار ولما كان ما سبق ذكره من إرسال الرّياح منتشرات ومبشرات سبباً لإيجاد النّبات الذي هو سبب وجود الحياة وديمومتها كان ذلك أكبر نعمة الله على الخلق فقال ) لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( أي ) بِإِذْنِ رَبّهِ ).
الأعراف : ( 59 ) لقد أرسلنا نوحا . . . . .
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( لما ذكر في هذه السورة مبدأ الخلق الإنساني وهو آدم عليه السلام وقصّ من أخباره ما قصّ واستطرد من ذلك إلى المعاد ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاوة إلى النار وأمره تعالى بترك الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وكان من بعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أولاً غير مستجيبين له ولا مصدّقين لما جاء به عن الله قصّ تعالى عليه أحوال الرّسل الذين كانوا قبله وأحوال من بعثوا إليه على سبيل التّسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) ) والتأسي بهم ، فبدأ بنوح إذ هو آدم الأصغر وأول رسول بعث إلى من في الأرض وأمته أدوم تكذيباً له وأقلّ استجابة وتقدم رفع نسبه إلى آدم وكان نجّاراً بعثه الله إلى قومه وهو ابن أربعين سنة قاله ابن عباس ، وقيل : ابن خمسين ، وقال مقاتل ابن مائة ، وقيل : ابن مائتين وخمسين ، وقيل : ابن ثلاثمائة . وقال عون بن شداد : ابن ثلاثمائة وخمسين ، وقال وهب : ابن أربعمائة وهذا اضطراب كثير من أربعين إلى أربعمائة فما بينهما وروي أنّ الطوفان كان سنة ألف وستمائة من عمره وهو أوّل الرّسل بعد آدم بتحريم البنات والأخوات والعمّات والخالات وجميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام وعن الزهري أنّ العرب وفارساً والروم وأهل الشام واليمن من ذرية سام بن نوح والهند والسّند والزنج والحبشة والزّط والنوبة وكلّ جلد أسود من ولد حام بن نوح والتّرك والبربر ووراء الصين وياجوج وماجوج والصقالبة من ولد يافث بن نوح ، ولقد أرسلنا استئناف كلام دون واو وفي هود والمؤمنون ولقد بواو العطف ، قال الكرماني لما تقدّم ذكر الرسول مرات في هود وتقدّم ذكر نوح ضمنا في قوله وعلى الفلك لأنه أول من صنعها عطف في السورتين انتهى واللام جواب قسم محذوف أكّد تعالى هذا الإخبار بالقسم ، قال الزمخشري : فإن قلت : ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلاّ مع قد وقل عنهم قوله : حلفت لها بالله خلفة فاجر لناموا قلت : إنما كان ذلك لأنّ الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنّة لمعنى التوقّع الذي هو معنى قد عند استماع المخاطب كلمة القسم انتهى ، وبعض أصحابنا يقول إذا أقسم على جملة مصدرة بماضٍ مثبت متصرف وكان قريباً من زمان الحال أثبت مع اللام بقد الدالّة على التقريب من زمن الحال ولم تأتِ بقد بل باللام وحدها إن لم يرد التقريب ، قال ابن عباس : ) أَرْسَلْنَا ( بعثنا وقال غيره حملناه رسالة يؤدّيها فعلى هذا تكون الرسالة متضمنة للبعث وهنا فقال بفاء العطف وكذا في المؤمنون في قصّة عاد وصالح وشعيب هنا قال بغير فاء والأصل الفاء وحذفت في القصتين توسّعاً . واكتفاءً بالرّبط المعنوي وفي قصة

" صفحة رقم 324 "
نوح في هود ) إِنِّي لَكُمْ ( على إضمار القول أي فقال إني وفي ندائه قومه تنبيه لهم لما يلقيه إليهم واستعطاف وتذكير بأنهم قومه فالمناسب أن لا يخالفوه ومعمول القول جملة الأمر بعبادة الله وحده ورفض آلهتهم المسمّاة ودّاً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً وغيرها والجملة المنبهة على الوصف الدّاعي إلى عبادة الله وهو انفراده بالألوهية المرجو إحسانه المحذور انتقامه دون آلهتهم ولم تأتِ بحرف عطف لأنها بيان وتفسير لعلّة اختصاصه تعالى بأن يعبد ، وقرأ ابن وثاب الأعمش وأبو جعفر والكسائي غيره بالجرّ على لفظ ) إِلَهٍ ( بدلاً أو نعتاً ، وقرأ باقي السّبعة غيره بالرفع عطفاً على موضع ) مِنْ إِلَهٍ ( لأنّ من زائدة بدلاً أو نعتاً ، وقرأ عيسى بن عمر غيره بالنصب على الاستثناء والجرّ والرفع أفصح ) وَمِنْ إِلَهٍ ( مبتدأ و ) لَكُمْ ( في موضع الخبر ، وقيل : الخبر محذوف أي في الوجود و ) لَكُمْ ( تبيين وتخصيص ، و ) أَخَافُ ( قيل : بمعنى أتيقن وأجزم لأنه عالم أن العذاب بنزل بهم إن لم يؤمنوا ، وقيل : الخوف على بابه بمعنى الحذر لأنه جوّز أن يؤمنوا وأن يستمروا على كفرهم و ) يَوْمٍ عَظِيمٍ ( هو يوم القيامة أو يوم حلول العذاب بهم في الدنيا وهو الطوفان وفي هذه الجملة إظهار الشّفقة والحنوّ عليهم .
الأعراف : ( 60 ) قال الملأ من . . . . .
( قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( قال ابن عطية قرأ ابن عامر الملو بالواو وكذلك هي في مصاحف أهل الشام انتهى وليس مشهوراً عن ابن عامر بل قراءته كقراءة باقي السبعة بهمزة ولم يجبه من قومه إلا أشرافهم وسادتهم وهم الذين يتعاصون على الرّسل لانغمار عقولهم بالدنيا وطلب الرئاسة والعلوّ فيهما . ونراك الأظهر أنها من رؤية القلب ، وقيل : من رؤية العين ومعنى ) فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( أي في ذهاب عن طريق الصواب وجهالة بما تسلك بينة واضحة وجاءت جملة الجواب مؤكدة بأن وباللام وفي للوعاء فكان الضلال جاء ظرفاً له وهو فيه ولم يأتِ ضالاً ولا ذا ضلال .
الأعراف : ( 61 - 62 ) قال يا قوم . . . . .
( قَالَ يَا قَوْمٌ لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( لم يرد النفي منه على لفظ ما قالوه فلم يأتِ التركيب لست في ضلال مبين بل جاء في غاية الحسن من نفي أن يلتبس به ويختلط ضلالة ما واحدة فأنى يكون في ضلال فهذا أبلغ من الانتفاء من الضلال إذ لم يعتلق به ولا ضلالة واحدة وفي ندائه لهم ثانياً والإعراض عن جفائهم ما يدلّ على سعة صدره والتلطّف بهم .
ولما نفى عنهم التباس ضلالة ما به دلّ على أنه على الصراط المستقيم فصحّ أن يستدرك كما تقول ما زيد بضالّ ولكنه مهتد فلكن واقعة بين نقيضين لأنّ الإنسان لا يخلو من أحد الشيئين : الضّلال والهدى ولا تجامع ضلالة الرسالة وفي قوله : ) مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ ( تنبيه على أنه ربهم لأنهم من جملة العالم أي من ربّكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولاً يدعوكم إلى إفراده بالعبادة و ) أُبَلّغُكُمْ ( استئناف على سبيل البيان بكونه رسولاً أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظاً فيه كونه خبراً لضمير متكلم كما تقول أنه رجل آمر معروف فتراعي لفظ أنا ويجوز يأمر بالمعروف فيراعى لفظ رجل والأكثر مراعاة ضمير المتكلم والمخاطب فيعود الضمير ضمير متكلم أو مخاطب قال تعالى : ) بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ( بالتاء ولو قرىء بالياء لكان عربيّاً مراعاة للفظ ) قَوْمٌ ( لأنه غائب ، وقرأ أبو عمرو ) أُبَلّغُكُمْ ( هنا في الموضعين وفي الأحقاف بالتخفيف وباقي

" صفحة رقم 325 "
السبعة بالتشديد والهمزة والتضعيف للتعدية فيه وجمع ) رِسَالاتِ ( باعتبار ما أوحي إليه في الأزمان المتطاولة أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي والزّجر والوعظ والتبشير والإنذار أو باعتبار ما أوحي إليه وإلى من قبله ، قيل : في صحف إدريس وهي ثلاثون صحيفة وفي صحف شيث وهي خمسون صحيفة وتقدم الكلام في نصح وتعديتها ، وقال الزمخشري : وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت للمنصوح له مقصوداً به جانبه لا غير فربّ نصيحة ينتفع بها الناصح بقصد النفعين جميعاً ولا نصيحة أنفع من نصيحة الله تعالى ورسله ، وقال الفراء : لا تكاد العرب تقول نصحتك إنما نصحت لك ، وقال النابغة : نصحت بني عوف فلم يتقبلوا وفي قوله ) مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( إبهام عليهم وهو عامّ ولكن ساق ذلك مساق المعلومات التي يخاف عليهم ولم يسمعوا قطّ بأمه عُذِّبت فتضمّن التهديد والوعيد فيحتمل أن ) يُرِيدُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( من صفات الله وقدرته وشدة بطشه على من اتخذ إلهاً معه أو ) يُرِيدُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( مما أوحي إلي ، قال ابن عطية : ولا بدّ أنّ نوماً عليه السلام وكل نبيّ مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة بخرق العادة فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم يعرف وما أحسن سياق هذه الأفعال قال أولاً ) أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى ( وهذا مبدأ أمره معهم وهو التبليغ ، كما قال : إنْ عليك إلا البلاغ ثم قال ) وَأَنصَحُ لَكُمْ ( أي أخلص لكم في تبيين الرّشد والسلامة في العاقبة إذا عبدتم الله وحده ثم قال وأعلم من الله ) مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( من بطشه بكم وهو مآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة فنبّه على مبدأ أمره ومنتهاه معهم .
الأعراف : ( 63 ) أوعجبتم أن جاءكم . . . . .
أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( يتضمّن قولهم ) إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( استبعادهم واستمحالهم ما أخبرهم به من خوف العذاب عليهم وأنه بعثه الله إليهم بعبادته وحده ورفض آلهتهم وتعجبوا من ذلك ، وقال أبو عبد الله الرازي سبب استبعادهم إرسال نوح والهمزة للإنكار والتوبيخ أي هذا مما لا يعجب منه إذ له تعالى ، التصرّف التام بإرسال من يشاء لمن يشاء ، قال الزمخشري : الواو للعطف والمعطوف محذوف كأنه قيل أو كذبتم وعجبتم أن جاءكم انتهى ، وهو كلام مخالف لكلام سيبويه والنّحاة لأنّهم يقولون : إنّ الواو لعطف ما بعدها على ما قبلها من الكلام ولا حذف هناك وكأنّ الأصل وأعجبتم لكنه اعنى بهمزة الاستفهام فقدّمت على حروف العطف لأنّ الاستفهام له صدر الكلام وقد تقدّم الكلام معه في نظير هذه المسألة وقد رجع هو عن هذا إلى قول الجماعة والذكر الوعظ أو الوحي أو المعجز أو كتاب معجز أو البيان أقوال والأولى أن يكون قوله ) عَلَى رَجُلٍ ( فيه إضمار أي على لسان رجل كما قال ) مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ( ، وقيل : ) عَلَى ( بمعنى مع ، وقيل : لا حذف ولا تضمين في الحرف بل قوله ) عَلَى رَجُلٍ ( هو على ظاهره لأن ) جَاءكُمْ ( بمعنى نزل إليكم كانوا يتعجبون من نبوّة نوح ويقولون ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين يعنون إرسال البشر ) وَلَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ مَلَائِكَةً ( وذكر عليه المجيء وهو الإعلام بالمخوف والتحذير من سوء عاقبة الكفر ووجود التقوى منهم ورجاء الرّحمة وكأنها علة مترتبة فجاءكم الذكر للإنذار بالمخوف والإنذار بالمخوف لأجل وجود التقوى منهم ووجود التقوى لرجاء الرحمة وحصولها فعلل المجيء بجميع هذه العلل المترتبة لأنّ المترتب على السبب سبب .
الأعراف : ( 64 ) فكذبوه فأنجيناه والذين . . . . .
( فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ ). أخبر تعالى أنهم كذبوه هذا مع حسن ملاطفته لهم ومراجعته لهم وشفقته عليهم فلم يكن نتيجة هذا إلاّ التكذيب له فيما جاء به عن الله ) وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ( هم من آمن به وصدّقه

" صفحة رقم 326 "
وكانوا أربعين رجلاً ، وقيل ثمانين رجلاً وأربعين امرأة قاله الكلبي وإليهم تنسب القرية التي ينسب إليها الثمانون وهي بالموصل ، وقيل : عشرة فيهم أولاده الثلاثة ، وقيل : تسعة منهم بنوه الثلاثة وفي قوله ) وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ ( إعلام بعلّة الغرق وهو التكذيب و ) بِئَايَاتِنَا ( يقتضي أنّ نوحاً كانت له آيات ومعجزات تدل على إرساله ويتعلق ) فِى الْفُلْكِ ( بما يتعلّق به الظّرف الواقع صلة أي والذين استقروا معه في الفلك ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه أي أنجيناهم في السّفينة من الطّوفان وعلى هذا يحتمل أن تكون في ) سببية ( أي بالفلك كقوله ( دخلت النار في هرة ) أي بسبب هرة و ) قَوْماً عَمِينَ ( من عمي القلب أي غير مستبصرين ويدل على ثبوت هذا الوصف كونه جاء على وزن فعل ولو قصد الحذف لجاء على فاعل كما جاء ضائق في ضيق وثاقل في ثقيل إذا قصد به حدوث الضّيق والثقل ، قال ابن عباس عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد ، وقال معاذ النحوي : رجل عم في أمره لا يبصره وأعمى في البصر . قال : ما في غد عم ولكنني عن علم وقد يكون العمى والأعمى كالخضر والأخضر ، وقال الليث : رجل عم إذا كان أعمى القلب .
الأعراف : ( 65 ) وإلى عاد أخاهم . . . . .
( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ( عاد اسم الحي ولذلك صرفه وبعضهم جعله اسماً للقبيلة فمنعه الصرف قال الشاعر :
لو شهدت عاد في زمان عاد
لانتزها مبارك الجلاد
سميت القبيلة باسم أبيهم وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وهود قال شيخنا أبو الحسن الآبدي النحوي : المعروف أنّ هوداً عربي والذي يظهر من كلام سيبويه لما عده مع نوح ولوط وهما عجميان أنه عجمي عنده انتهى ، وذكر الشريف النسّابة أبو البركات الجواني أنّ يَعرُب بن قحطان بن هود هو الذي زعمت يمن أنه أول من تكلم بالعربية ونزل أرض اليمن فهو أبو اليمن كلها وأنّ العرب إنما سميت عرباً به انتهى فعلى هذا لا يكون هود عربيّاً وهود هو ابن عابر بن شالح بن ارفخشد بن سام بن نوح و ) أَخَاهُمْ ( معطوف على نوحاً ومعناه واحداً منهم وليس هود من بني عاد كما ذكرنا وهذا كما تقول أيا أخا العرب للواحد منهم ، وقيل : هو من عاد وهو هود بن عبد الله بن رياح بن الجلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح فعلى هذا يكون من عاد واسم أمه مرجانة وكان رجلاً تاجراً أشبه خلق الله بآدم عليهما السلام ، روي أنّ عاداً كانت له ثلاث عشرة قبيلة ينزلون رمال عالج وهي عاد الأولى وكانوا أصحاب بساتين وزروع وعمارة وبلادهم أخصب بلاد فسخط الله عليهم فجعلها مفاوز وكانت بنواحي عمان إلى حضرموت إلى اليمن وكانوا يعبدون الأصنام ولما هلكوا لحق هود ومن آمن معه بمكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا ولم يأتِ فقال بالفاء لأنه جواب سؤال مقدّر أي فما قال لهم ) عَلَيْهِ قَوْمٌ ( وكذا ) قَالَ الْمَلاَ ( وفي قوله ) أَفَلاَ تَتَّقُونَ ( استعطاف وتحضيض على

" صفحة رقم 327 "
تحصيل التقوى ولما كان ما حلّ بقوم نوح من أمر الطوفان واقعة لم يظهر في العالم مثلها قال ) إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( وواقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح وعهد الناس قريب بها اكتفى هود بقوله ) أَفَلاَ تَتَّقُونَ ( والمعنى تعرفون أنّ قوم نوح لما لم يتقوا الله وعبدوا اغيره حلّ بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا فقوله ) أَفَلاَ تَتَّقُونَ ( إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المشهورة .
الأعراف : ( 66 ) قال الملأ الذين . . . . .
( قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( أتى بوصف ) الْمَلاَ ( بالذين كفروا ولم يأتِ بهذا الوصف في قوم نوح لأنّ قوم هود كان في أشرافهم من آمن به منهم مرثد بن سعد بن عفير ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن ألا ترى إلى قولهم ) وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ( وقولهم ) أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( ويحتمل أن يكون وصفاً جاء للذم لم يقصد به الفرق ولنراك يحتمل أن يكون من رؤية العين ومن رؤية القلب كما تقدم القول في قصة نوح و ) فِي سَفَاهَةٍ ( أي في خفة حلم وسخافة عقل حيث تترك دين قومك إلى دين غيره وفي سفاهة يقتضي أنه فيها قد احتوت عليه كالظرف المحتوي على الشيء ولما كان كلام نوح لقومه أشد منكلام هود تقوية لقوله ) إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( كان جوابهم أغلظ وهو ) إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( وكان كلام هود ألطف لقوله ) أَفَلاَ تَتَّقُونَ ( فكان جوابهم له ألطف من جواب قوم نوح لنوح بقولهم ) إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ ( ثم أتبعوا ذلك بقولهم ) وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( فدل ذلك على أنه أخبرهم بما يحل بهم من العذاب إن لم يتقوا الله أو علّقوا الظن بقوله ) مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ( أي إنّ لنا آلهة فحصرها في واحد كذب . وقيل : الظن هنا بمعنى اليقين أو بمعنى ترجيح أحد الجائزين قولان للمفسرين والثاني للحسن والزّجاج ، وقال الكرماني : خوّف نوح الكفار بالطوفان العام واشتغل بعمل السفينة فقالوا ) إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( حيث تتعب نفسك في إصلاح سفينة كبيرة في مفازة ليس فيها ماء ولم يظهر ما يدل على ذلك وهو رديف عبادة الأوثان ونسب قومه في السفاهة فقابلوه بمثل ذلك .
الأعراف : ( 67 - 68 ) قال يا قوم . . . . .
( قَالَ يَا قَوْمٌ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( تقدّمت كيفية هذا النفي في قوله ) لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ ( وهناك جاء ) وَأَنصَحُ لَكُمْ ( وهنا جاء ) وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( لما كان آخر جوابهم جملة اسمية جاء قوله كذلك فقالوا هم ) وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( قال هو ) وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( وجاء بوصف الأمانة وهي الوصف العظيم الذي حمله الإنسان ولا أمانة أعظم من أمانة الرسالة وإيصال أعبائها إلى المكلفين والمعنى أني عُرفت فيكم بالنصح فلا يحق لكم أن تتهموني وبالأمانة فيما أقول فلا ينبغي أن أكذب ، قال ابن عطية : وقوله ) أَمِينٌ ( يحتمل أن يريد على الوحي والذكر النازل من قبل الله ويحتمل أنه أمين عليهم وعلى غيبهم وعلى إرادة الخير بهم والعرب تقول فلان لفلان ناصح الجيب أمين الغيب ويحتمل أن يريد به من الأمن أي جهتي ذات أمن لكم من الكذب والغش ، قال القشيري : شتّان ما بين من دفع عنه ربه بقوله ) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( و ) مَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ( ومن دفع عن نفسه بقوله : ) لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ ( ) لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ ( ، قال الزمخشري : وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من نسبهم إلى الضلالة والسفاهة بما أجابوهم من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأنّ خصومهم أصل السفاهين وأسفلهم أدب حسن وخلق عظيم وحكاية الله عز وجل عنهم ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم .
الأعراف : ( 69 ) أوعجبتم أن جاءكم . . . . .
( أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذالِكَ مِنْ رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ ( أتى هنا بعلة واحدة وهي الإنذار وهو التخويف بالعذاب واختصر ما يترتب على الإنذار من التقوى ورجاء الرحمة .
( وَذَكَرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ( أي سكان الأرض بعدهم قاله السدّي وابن إسحاق ، أو

" صفحة رقم 328 "
جعلكم ملوكاً في الأرض استخلفكم فيها قاله الزمخشري ، وتذكير هود بذلك يدلّ على قرب زمانهم من زمان نوح لقوله ) مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ( و ) إِذْ ( ظرف في قول الحوفي فيكون مفعول ) اذْكُرُواْ ( محذوفاً أي واذكروا آلاء الله عليكم وقت كذا والعامل في ) إِذْ ( ما تضمنه النعم من الفعل وفي قول الزمخشري ) إِذْ ( مفعول به وهو منصوب باذكروا أي اذكروا وقت جعلكم .
( وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَةً ( ظاهر التواريخ أنّ البسطة الامتداد والطول والجمال في الصور والأشكال فيحتمل إذ ذاك أن يكون الخلق بمعنى المخلوقين ويحتمل أن يكون مصدراً أي وزادكم في خلقكم بسطة أي مد وطول حسن خلقكم قيل : كان أقصرهم ستين ذراعاً وأطولهم مائة ذراع قاله الكلبي والسدّي ، وقال أبو حمزة اليماني : سبعون ذراعاً . وقال ابن عباس ثمانون ذراعاً . وقال مقاتل : اثنا عشر ذراعاً . وقال وهب : كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة وعينه تفرخ فيها الضباع وكذلك منخره وإذا كان الخلق بمعنى المخلوقين فالخلق قوم نوح أو أهل زمانهم أو الناس كلهم أقوال ، وقيل : الزيادة في الإجرام وهي ما تصل إليه يد الإنسان إذا رفعها ، وقيل الزيادة هي في القوة والجلادة لا في الإجرام . وقيل : زيادة البسطة كونهم من قبيلة واحدة مشاركين في القوة متناصرين يحبّ بعضهم بعضاً ويحتمل أن يكون المعنى ) وَزَادَكُمْ بَسْطَةً ( أي اقتداراً في المخلوقين واستيلاء .
( فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ( ذكرهم أولاً بإنعامه عليهم حيث جعلهم خلفاء وزادهم بسطة وذكرهم ثانياً بنعمه عليهم مطلقاً لا بتقييد زمان الجعل واذكروا الظاهر أنه من الذكر وهو أن لا يتناسوا نعمه بل تكون نعمه على ذكر منكم رجاء أن تفلحوا وتعليق رجاء الفلاح على مجرّد الذّكر لا يظهر فيحتاج إلى تقدير محذوف بترتب عليه رجاء الفلاح وتقديره والله أعلم ) فاذكروا آلاء الله ( وإفراده بالعبادة ألا ترى إلى قوله ) أجئتنا لنعبد الله وحده ( وفي ذكرهم ) آلاء الله ( ذكر المنعم عليهم المستحقّ لإفراده بالعبادة ونبذه ما سواه ، وقيل : اذكروا هنا بمعنى اشكروا .
الأعراف : ( 70 ) قالوا أجئتنا لنعبد . . . . .
( قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصّادقين ( الظاهر أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا الله بالعبادة مع اعترافهم بالله حبّاً لما نشؤوا عليه وتآلفاً لما وجدوا آباءهم عليه ويحتمل أن يكونوا منكرين لله ويكون قولهم ) لنعبد الله وحده ( أي على قولك يا هود ودعواك قاله ابن عطية ، وقال التأويل الأوّل أظهر فيهم وفي عباد الأوثان ولا يجحد ربوبية الله من الكفرة إلا من ادّعاها لنفسه كفرعون ونمرود انتهى ، وكان في قول هود لقومه ) فاذكروا آلاء الله ( دليل قاطع على أنه لا يعبد إلا المنعم وأصنامهم جمادات لا قدرة على شيء البتة والعبادة هي نهاية التعظيم فلا يليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام ولما نبّه على هذه الحجة ولم يكن لهم أن يجيبوا عنها عدلوا إلى التقليد البحت فقالوا ) أجئتنا لنعبد الله وحده ( والمجيء هنا يحتمل أن يكون حقيقة بكونه متغيباً عن قومه منفرداً بعبادة ربه ثم أرسله الله إليهم فجاءهم من مكان متغيبه ويحتمل أن يكون قولهم ذلك على سبيل الاستهزاء لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله لا يرسل إلا الملائكة فكأنهم

" صفحة رقم 329 "
قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك ولا يريدون حقيقة المجيء ولكن التعرّض والقصد كما يقال ذهب يشتمني لا يريدون حقيقة الذهاب كأنهم قالوا أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرضت لنا بتكاليف ذلك وفي قولهم ) فائتنا بما تعدنا ( دليل على أنه كان يعدهم بعذاب الله إن داموا على الكفر وقولهم ذلك يدلّ على تصميمهم على تكذيبه واحتقارهم لأمر النبوّة واستعجال العقوبة إذ هي عندهم لا تقع أصلاً وقد تقدّم قوله ) إنا لنراك في سفاهة ( و ) إنا لنظنّك من الكاذبين ( فلما كانوا يعتقدون كونه كاذباً قالوا ) فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( أي في نبوّتك وإرسالك أو في العذاب نازل بنا .
الأعراف : ( 71 ) قال قد وقع . . . . .
( قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ( أي حلّ بكم وتحتّم عليكم قال زيد بن أسلم والأكثرون : الرّجس هنا العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب . وقال ابن عباس : السخط . وقال أبو عبد الله الرازي : لا يكون العذاب لأنه لم يكن حاصلاً في ذلك الوقت ، وقال القفال : يجوز أن يكون الازدياد في الكفر بالرين على القلوب أي لتماديهم على الكفر ) وقع عليكم ( من الله رين على قلوبكم كقوله ) فزادتهم رجساً إلى رجسهم ( فإنّ الرجس السخط أو الرين فقوله ) قد وقع ( على حقيقته من المضي وإن كان العذاب فيكون من جعل الماضي موضع المستقبل لتحقّق وقوعه .
( أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ( هذا إنكار منه لمخاصمتهم له فيما لا ينبغي فيه الخصام وهو ذكر ألفاظ ليس تحتها مدلول يستحقّ العبادة فصارت المنازعة باطلة بذلك ومعنى ) سميتموها ( سميتم بها أنتم وآباؤكم أي أحدثتموها قريباً أنتم وآباؤكم وهي صمود وصداء والهباء وقد ذكرها مرثد بن سعد في شعره فقال : عصت عاد رسولهم فأضحوا
عطاشاً ما تبلّهم السماء
لهم صنم يقال له صمود
يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد
فأبصرنا الهدى وجلى العماء
وإنّ إله هود هو إلهي
على الله التوكّل والرجاء
فالجدال إذ ذاك يكون في الألفاظ لا مدلولاتها ويحتمل أن يكون الجدال وقع في المسمّيات وهي الأصنام فيكون أطلق الأسماء وأراد بها المسميات وكان ذلك على حذف مضاف أي ) أتجادلونني ( في ذوات أسماء ويكون المعنى ) سميتموها ( آلهة وعبدتموها من دون الله ، قيل : سموا كل صنم باسم على ما اشتهوا وزعموا أنّ بعضهم يسقيهم المطر وبعضهم يشفيهم من المرض وبعضهم يصحبهم في السّفر وبعضهم يأتيهم بالرزق .
( ما نزل الله بها من سلطان ( والجملة من قوله ) ما نزل ( في موضع الصفة والمعنى أنه ليس لكم بذلك حجة ولا برهان وجاء هنا ) نزل ( وفي المكان غيره أنزل وكلاهما فصيح والتعدية بالتضعيف والهمزة سواء .
( فانتظروا إني معكم من المنتظرين ( وهذا غاية في التهديد والوعيد أي ) فانتظروا ( عاقبة أمركم في عبادة غير الله وفي تكذيب رسوله وهذا غاية في الوثوق بما يحل بهم وإنه كائن لا محالة .
الأعراف : ( 72 ) فأنجيناه والذين معه . . . . .
( فأنجيناه والذين معه برحمة منا ( يعني من آمن معه ) برحمة ( سابقة لهم من الله وفضل عليهم حيث جعلهم آمنوا فكان ذلك سبباً لنجاتهم مما أصاب قومهم من العذاب .
( وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ( كناية عن استئصالهم بالهلاك بالعذاب وتقدّم الكلام في ) دابر ( في قوله ) فقطع دابر القوم الذين ظلموا ( وفي قوله ) الذين كذبوا ( تنبيه على علة قطع دابرهم وفي قوله ) بآياتنا ( دليل على أنه كانت لهود معجزات ولكن لم تذكر لنا بتعيينها .
( وما كانوا مؤمنين ( جملة مؤكدة لقوله ) كذبوا بآياتنا ( ويحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى أنهم ممن علم الله تعالى أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أي ما كانوا ممن يقبل إيماناً البتة ولو علم الله

" صفحة رقم 330 "
تعالى أنهم يؤمنون لأبقاهم وذلك أنّ المكذّب بالآيات قد يؤمن بها بعد ذلك ويحسن حاله فأما من حتم الله عليه بالكفر فلا يؤمن أبداً وفي ذلك تعريض بمن آمن منهم كمرثد بن سعد ومن نجا مع هود عليه السلام كأنه قال ) وقطعنا دابر القوم الذين كذّبوا ( منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم ليؤذن أنّ الهلاك خصّ المكذبين ونجّى الله المؤمنين قاله الزمخشري : وذكر المفسرون هنا قصة هلاك عاد وذكروا فيها أشياء لا تعلق لها بلفظ القرآن ولا صحّت عن الرسول فضربت عن ذكرها صفحاً وأما ما له تعلق بلفظ القرآن فيأتي في مواضعه إن شاء الله تعالى .
الأعراف : ( 73 ) وإلى ثمود أخاهم . . . . .
( وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ( ثمود اسم القبيلة سميت باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود أخو جديس وهما ابنا جاثر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام وإلى وادي القرى . وقيل سميت ثمود لقلة ما بها من الثمد وهو الماء القليل . قال الشاعر : أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت
إلى حمام شراع وارد الثمد
وكانت ثمود عرباً في سعة من العيش فخالفوا أمر الله وعبدوا غيره وأفسدوا فبعث الله لهم صالحاً نبياً من أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً فدعاهم إلى الله حتى شمط ولا يتبعه منهم إلا القليل ، قاله وهب : بعثه الله حين راهق الحلم فلما هلك قومه ارتحل بمن معه إلى مكة فأقاموا معه حتى ماتوا فقبورهم بين دار الندوة والحجر ، وصالح هو صالح بن آسف بن كاشح بن أروم بن ثمود بن جاثر بن إرم بن سام بن نوح هكذا نسبه الشريف النسّابة الجواني وهو المنتهى إليه في علم النسب . ووقع في بعض التفاسير بين صالح وآسف زيادة أب وهو عبيد فقالوا صالح بن عبيد بن آسف ونقص في الأجداد وتصحيف جاثر بقولهم عابر ، قال الشريف الجواني في المقدمة الفاضلية والعقب من جاثر بن إرم بن سام بن نوح وجديس والعقب من ثمود بن جاثر فالخ وهيلع وتنوق وأروم من ولده صالح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بن آسف بن كاشح بن أروم بن ثمود .
وقرأ ابن وثاب والأعمش : ) وإلى ثمود ( بكسر الدال والتنوين مصروفاً في جميع القرآن جعله اسم الحي والجمهور منعوه الصرف جعلوه اسم القبيلة والأخوة هنا في القرابة ، لأنّ نسبه ونسبهم راجع إلى ثمود بن جاثر وكل واحد من هؤلاء الأنبياء نوح وهود وصالح تواردوا على الأمر بعبادة الله والتنبيه على أنه لا إله غيره إذ كان قومهم عابدي أصنام ومتخذي آلهة مع الله كما كانت قريش والعرب ففي هذه القصص توبيخهوم وتهديدهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك من الهلاك المستأصل من العذاب وكانت قصة نوح مشهورة طبقت الآفاق وقصة هود وصالح مشهورة عند العرب وغيرهم بحيث ذكرها قدماء الشعراء في الجاهلية وشبهوا مفسدي قومهم بمفسدي قوم هود وصالح قال بعض قدمائهم في الجاهلية : فينا معاشر لن يبغوا لقومهم
وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا
أضحوا كقيل بن عنز في عشيرته
إذا أهلكت بالذي سدّى لها عاد
أو بعده كقدار حين تابعه
على الغواية أقوام فقد بادوا
وقيل ابن عنز هو من قوم هود وسيأتي ذكر خبره عند ذكر إرسال الريح على قوم هود إن شاء الله وقدار

" صفحة رقم 331 "
هو ابن سالف عاقر ناقة صالح ويأتي خبره إن شاء الله .
( قد جاءتكم بيّنة من ربكم ( أي آية ظاهرة جلية وشاهد على صحة نبوتي وكثر استعمال هذه الصفة استعمال الأسماء في القرآن فولّيت العوامل كقوله حتى جاءتهم البيّنة وقوله ) بالبينات والزبر ( والمعنى الآية البينة وبالآيات البينات فقارب أن تكون كالأبطح والأبرق إذ لا يكاد يصرح بالموصول معها وقوله ) قد جاءتكم بينة من ربكم ( كأنه جواب لقولهم ) ائتنا ببينة ( تدلّ على صدقك وأنك مرسل إلينا و ) من ربكم ( متعلق بجاءتكم أو في موضع الصفة لآية على تقدير محذوف أي من آيات ربكم .
( هذه ناقة الله لكم آية ( لما أبهم في قوله ) قد جاءتكم بينة من ربكم ( بيّن ما الآية فكأنه قيل له ما البينة قال ) هذه ناقة الله ( وأضافها إلى الله تشريفاً وتخصيصاً نحو بيت الله وروح الله ولكونه خلقها بغير واسطة ذكر وأنثى ولأنه لا مالك لها غيره ولأنها حجة على القوم ولما أودع فيها من الآيات ذكرها في قصة قوم صالح و ) لكم ( بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان وهم ثمود لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها كأنه قال ) لكم ( خصوصاً وانتصب ) آية ( على الحال والعامل فيها ها بما فيها من معنى التنبيه أو اسم الإشارة بما فيه من معنى الإشارة أو فعل مضمر تدلّ عليه الجملة كأنه قيل انظر إليها في حال كونها آية أقوال ثلاثة ذكرت في علم النحو ، وقال الحسن هي ناقة اعترضها من إبلهم ولم تكن تحلب ، وقال الزّجاج : قيل إنه أخذ ناقة من سائر النوق وجعل الله لها شرباً يوماً ولهم شرب يوم وكانت الآية في شربها وحلبها ، قيل : وجاء بها من تلقاء نفسه ، وقال الجمهور : هي آية مقترحة لما حذرهم وأنذرهم سألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السّنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا قل صالح نعم فخرج معهم فدعوا أوثانهم وسألوها الإجابة فلم تجبهم ثم قال سيدهم جندع بن عمرو بن جواس وأشار إلى صخرة منفردة من ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء وعشراء ، والمخترجة ما شاكلت البحت من الإبل فأخذ صالح عليه السلام مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن قالوا : نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحرّكت فانصدعت عن ناقة كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله عظماً وهم ينظرون ثم نتجت سقباً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحبا أوثانهم وريّان ابن كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود وهذه الناقة وسقبها مشهور قصتهما عند جاهلية العرب وقد ذكروا السّقب في أشعارهم . قال بعضهم يصف ناساً قتلوا بمعركة حرب بأجمعهم : كأنهم صابت عليهم سحابة
صواعقها كالطير هن دبيب
رغى فوقهم سقب السماء فداحض
بشكته لم يستلب وسليب
قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت صدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً .
( فذروها تأكل في أرض الله ( لما أضاف الناقة إلى الله أضاف محل رعيها إلى الله إذ الأرض وما أنبت فيها ملكه تعالى لا ملككم ولا إنباتكم وفي هذا الكلام إشارة إلى أن هذه الناقة نعمة من الله ينال خيرها من غير مشقّة تكلف علف ولا طعمة وهو شأن الإبل كما جاء في الحديث قال فضالة الإبل ، قال مالك : ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربّها و ) تأكل ( جزم على جواب الأمر ، وقرأ أبو جعفر في رواية ) تأكل ( بالرفع وموضعه حال كانت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء ترد غباً فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها ثم تفجج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون .
( ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ( نهاهم عن مسّها بشيء من الأذى وهذا تنبيه بالأدنى على الأعلى إذا كان قد نهاهم عن مسّها بسوء إكراماً لآية الله فنهيه

" صفحة رقم 332 "
عن نحرها وعقرها ومنعها عن الماء والكلأ أولى وأحرى والمسّ والأخذ هنا استعارة وهذا وعيد شديد لمن مسّها بسوء والعذاب الأليم هو ما حلّ بهم إذ عقروها وما أعد لهم في الآخرة .
الأعراف : ( 74 ) واذكروا إذ جعلكم . . . . .
( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ذكر صالح قومه بما ذكر به هود قومه فذكر أولاً نعماً خاصة وهي جعلهم خلفاء بعد الأمة التي سبقتهم وذكر هود لقومه ما اختصوا به من زيادة البسطة في الخلق وذكر صالح لقومه ما اختصوا به من اتخاذ القصور من السهول ونحت الجبال بيوتاً ثم ذكرا نعماً عامة بقولهما ) فاذكروا آلاء الله ( ومعنى ) وبوّأكم في الأرض ( أنزلكم بها وأسكنكم إياها والمباءة المنزل في الأرض وهو من باء أي رجع وتقدم ذكره و ) الأرض ( فلا موضع ما بين الحجاز والشام و ) تتخذون ( حال أو تفسير لقوله ) وبوّأكم في الأرض ( فلا موضع له من الإعراب والظاهر أن بعض السهول اتخذوه قصوراً أي بنوا فيه قصوراً وأنشؤوها فيه ولم يستوعبوا جميع سهولها بالقصور وقال الزمخشري : ) من سهولها قصوراً ( أي يبنونها من سهولة الأرض بما يعملون منها الرهض واللبن والآجر يعني أن القصور التي بنوها أجزاؤها متخذة من لين الأرض كالجيار والآجر والجصّ كقوله ) واتخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلاً ( يعني أنّ الصورة كانت مادّتها من الحلي كما أن القصور مادتها من سهول الأرض والأجزاء التي صنعت منها وظاهر الاتخاذ هنا العمل فيتعدّى ) تتخذون ( إلى مفعول واحد ، وقيل : يتعدى إلى اثنين والمجرور هو الثاني ، وقرأ الحسن ) وتنحَتون ( بفتح الحاء ، وزاد الزمخشري : أنه قرأ وتنحاتون بإشباع الفتحة قال كقوله : ينباع من دفري أسيل حرّه انتهى . وقرأ ابن مصرف بالياء من أسفل وكسر الحاء وقرأ أبو مالك بالباء من أسفل وفتح الحاء ومن نقرأ بالياء فهو التفات وانتصب ) بيوتاً ( على أنها حال مقدّرة إذ لم تكن الجبال وقت النحت بيوتاً كقولك إبرِ لي هذه اليراعة قلماً وخَّط لي هذا قباء ، وقيل : مفعول ثانٍ على تضمين ) وتنحتون ( معنى و ) تتخذون ( ، وقيل : مفعول بتنحتون و ) الجبال ( نصب على إسقاط من أي من الجبال ، وقرأ الأعمش ) تعثوا ( بكسر التاء لقولهم أنت تعلم وهي لغة و ) مفسدين ( حال مؤكدة ، قال ابن عباس : القصور لمصيفهم والبيوت في الجبال لمشتاهم ، وقيل : نحتوا الجبال لطول أعمارهم كانت القصور تخرب قبل موتهم ، قال وهب : كان الرجل يبني البنيان فتمرّ عليه مائة سنة فيخرب ثم يجدده فتمر عليه مائة سنة فيخرب ثم يجدده فتمر عليه مائة سنة فيخرب فأضجرهم ذلك فاتخذوا الجبال بيوتاً .
الأعراف : ( 75 ) قال الملأ الذين . . . . .
( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أنّ صالحاً مرسل من ربّه ( قرأ ابن عامر ) وقال الملأ ( بواو عطف والجمهور قال بغير واو و ) الذين استكبروا ( وصف للملأ إما للتخصيص الأنّ من أشرافهم من آمن مثل جندع بن عمرو وإما للذم و ) استكبروا ( وطلبوا الهيبة لأنفسهم وهو من الكبر فيكون استفعل للطلب وهو بابها أو تكون استفعل بمعنى فعل أي كبروا لكثرة المال والجاه فيكون مثل عجب واستعجب والذين ) استضعفوا ( أي استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم وهم العامة وهم أتباع الرّسل و ) لمن ( بدل من الذين استضعفوا والضمير في ) منهم ( إن عاد على

" صفحة رقم 333 "
المستضعفين كان بدل بعض من كلّ ويكون الذين استضعفوا قسمين مؤمنين وكافرين وإن عاد على ) قومه ( كان بدل كل من كلّ وكان الاستضعاف مقصوراً على المؤمنين وكان الذين استضعفوا قسماً واحداً ومن آمن مفسراً للمستضعفين من قومه واللام في ) للذين ( للتبليغ والجملة المقولة استفهام على جهة الاستهزاء والاستخفاف وفي قولهم ) من ربه ( اختصاص بصالح ولم يقولوا من ربنا ولا من ربكم .
( قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون ( جواب للمستضعفين وعدولهم عن قولهم هو مرسل إلى قولهم ) إنا بما أرسل به مؤمنون ( في غاية الحسن إذ أمر رسالته معلوم واضح مسلم لا يدخله ريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق العظيم فلا يحتاج أن يسأل عن رسالته ولا أن يستفهم عن العلم بإرساله فأخبروا بأنهم مؤمنون بما أرسل به لأنه لا يلزم بعد وضوح رسالته إلاّ التصديق بما جاء به وتضمن كلامهم العلم بأنه مرسل من الله تعالى .
الأعراف : ( 76 ) قال الذين استكبروا . . . . .
( قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون ( فالذي آمنتم به هو من حيث المعنى بما أرسل به لكنه من حيث اللفظ أعمّ قصدوا الردّ لما جعله المؤمنون معلوماً وأخذوه مسلماً .
الأعراف : ( 77 ) فعقروا الناقة وعتوا . . . . .
( فعقروا النّاقة ( نسب العقر إلى الجميع وإن كان صادراً عن بعضهم لما كان عقرها عن تمالىء واتفاق حتى روي أنّ قداراً لم يعقرها إلا عن مشاورة الرّجال والنساء والصبيان فأجمعوا على ذلك وسبب عقرها أنها كانت إذا وقع الحر نصبت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه وإذا وقع البرد تلبث ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشقّ ذلك عليهم وكانت تستوفي ماءهم شرباً ويحلبونها ما شاء الله حتى ملوها وقالوا ما نصنع باللبن الماء أحبّ إلينا منه وقال لهم صالح يوماً إنّ هذا الشهر يولد فيه مولود يكون هلاككم على يديه فولد لعشرة نفر فذبح التّسعة أولادهم وبقي العاشر وهو سالف بن قدار وكان قدار أحمر أزرق قصيراً ولذلك قال بعض شعراء الجاهلية : فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
قال الشّراح غلط وإنما هو أحمر ثمود وهو قدار وكان يشبّ في اليوم شباب غيره في السّنة وكان التسعة إذا رأوه قالوا : لو عاش بنونا كانوا مثل هذا فأحفظهم أن قتلوا أولادهم بكلام صالح فأجمعوا على قتله فكمنوا له في غار ليبيتوه ، ويأتي خبر التبييت وما جرى لهم في سورة النمل إن شاء الله ، وروي أنّ السبب في عقرها أن امرأتين من ثمود من أعداء صالح وهما عنيزة بنت غنم أم مجلز زوجة ذؤاب بن عمرو وتكنّى أم غنم عجوز ذات بنات حسان ومال من إبل وبقر وغنم وصدوف بنت المحيّا جميلة غنية ذات مواش كثيرة فدعت عنيزة على عقرها قداراً على أن تعطيه أيّ بناتها شاء وكان عزيزاً منيعاً في قومه ودعت صدوف رجلاً من ثمود يقال له الحباب إلى ذلك وعرضت نفسها عليه إن فعل فأبى فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا لذلك وجعلت له نفسها فأجاب قدار ومصدع واستغويا سبعة نفر فكانوا تسعة رهط فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وكمن قدار في أصل صخرة ومصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم عنيزة بابنتها وكانت من أحسن النساء فسفرت لقدار ثم مرت الناقة به فشدّ عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فطعن في لبّتها ونحرها وخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها وطبخوه وذكروا لسبقها حكاية الله أعلم بصحتها ، وقيل سبب عقرها أنّ قداراً شرب الخمر وطلبوا ماء لمزجها فلم يجدوه لشرب الناقة فعزموا على عقرها وكمن لها فرماها بالحرية ثم سقطت فعقرها ، وقال بعض شعراء العرب وقد ذكر قصة الناقة : فأتاها أحيمر كأخي السه
م بعضب فقال كوني عقيرا
) وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ ( أي استكبروا عن امتثال أمر ربهم وهو ما أمر به تعالى على لسان صالح من قوله ) فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ ( ولا تمسّوها بسوء ومن اتباع أمر الله وهو دينه وشرعه ويجوز أن يكون المعنى صدر عتوهم

" صفحة رقم 334 "
عن أمر ربهم كأنّ أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوّهم ونحو عن هذه ما في قوله ) وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ).
) وَقَالُواْ يأَيُّهَا صَالِحٌ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( أي من العذاب لأنه كان سبق منه ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم فاستعجلوا ما وعدهم به من ذلك إذ كانوا مكذبين له في الإخبار بذلك الوعيد وبغيره ولذلك علقوه بما هم به كافرون وهو كونه من المرسلين ، وقرأ ورش والأعمش ) أَن قَالُواْ ائْتِنَا ( وأبو عمرو إذا أدرج بإبدال همزة فاء ) ائْتِنَا ( واو الضمة جاء صالح ، وقرأ باقي السبعة بإسكانها وفي كتاب ابن عطية قال أبو حاتم : قرأ عيسى وعاصم أوتنا بهمز وإشباع ضمّ انتهى ، فلعله عاصم الجحدري لا عاصم بن أبي النجود أحد قراء السبعة .
الأعراف : ( 78 ) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا . . . . .
( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( روي أن السّقب لما عقروا الناقة رغا ثلاثاً فقال صالح لكلّ رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام فقالوا هازئين به متى ذلك وما آية ذلك فقال تصبحون غداة مؤنس مصفرة وجوهكم وغداة العروبة محمريها ويوم شيار مسوديها ثم يصبحكم العذاب يوم أول يوم وهو يوم الأحد فرام التسعة عاقرو الناقة قتله وبيتوه فدمغتهم الملائكة بالحجارة فقالوا له أنت قتلتهم وهمّوا بقتله فحمته عشيرته وقالوا : وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلاث فإن صدق لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضباً وإن كذّب فأنتم من وراء ما تريدون فأصبحوا يوم الخميس مصفرّي الوجوه كأنها طليت بالخلوق فطلبوه ليقتلوه فهرب إلى بطن من ثمود يقال له بنو غنم فنزل على سيدهم أبي هدب لقيل وهو مشرك فغيبه ولم يقدروا عليه فعذّبوا أصحاب صالح فقال : منهم مبدع بن هدم يا نبي الله عذّبونا لندلّهم عليك أفندلّهم قال : نعم فدلّهم عليه فأتوا أبا هدب فقال لهم : عندي صالح ولا سبيل لكم عليه فأعرضوا عنه وشغلهم ما نزل بهم فأصبحوا في الثاني محمّري الوجوه كأنها خضبت بالدّم وفي الثالث مسوديها كأنها طليت بالقار ولية الأحد خرج صالح ومن أسلم معه إلى أن نزل رملة فلسطين من الشام فأصبحوا متكفنين متحنطين ملقين أنفسهم بالأرض يقلبون أبصارهم لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كلّ صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض فقطعت قلوبهم وهلكوا كلهم إلا امرأة مقعدة كافرة اسمها دريعة بنت سلف عندما عاينت العذاب خرجت أسرع ما يرى حتى أتت وادي القرى فأخبرت بما أصاب ثمود واستسقت فشربت وماتت ، وقيل : خرج صالح ومن معه من قومه وهم أربعة آلاف إلى حضرموت فلما دخلوها مات صالح فسمي المكان حضرموت ، وقيل مات بمكة ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة .
قال مجاهد والسدّي : ) الرَّجْفَةُ ( الصيحة ، وقال أبو مسلم : الزلزلة الشديدة ، قال الزمخشري : ) جَاثِمِينَ ( هامدين لا يتحركون موتى يقال : الناس جثوم أي قعود لا حراك بهم ولا ينسبون بنسبة ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى انتهى ، وقيل : معناه حمماً محترقين كالرّماد الجاثم ذهب هذا القائل إلى أنّ الصيحة اقترن بها صواعق محرقة ، قال الكرماني : حيث ذكر الرّجفة وهي الزلزلة وحدّ الدار وحيث ذكر الصيحة جمع لأن الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فاتصل كل واحد منهما بما هو لائق به ، وقيل في دارهم أي في بلدهم كنى بالدار عن البلد ، وقيل : وحدّ والمراد به الجنس والفاء في ) فَأَخَذَتْهُمُ ( للتعقيب فيمكن العطف بها على قولهم ) فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( على تقدير قرب زمان الهلاك من زمان طلب

" صفحة رقم 335 "
الإتيان بالوعد ولقرب ذلك كان العطف بالفاء ويمكن أن يقدر ما يصحّ العطف بالفاء عليه أي فواعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت ) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ( ولا منافاة بين ) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ( وبين ) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ( وبين ) فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ ( كما ظنّ قوم من الملاحدة لأنّ الرجفة ناشئة عن الصّيحة صيح بهم فرجفوا فناسب أن يسند الأخذ لكل واحد منهما وأما فأهلكوا بالطاغية فالباء فيه للسببية أي أهلكوا بالفعلة الطاغية وهي الكفر أو عقر الناقة والطاغية من طغى إذا تجاوز الحدّ وغلب ومنه تسمية الملك والعاتي بالطاغية وقوله ) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء ( وقال تعالى : ) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ( أي بسبب طغيانها حصل تكذيبهم ويمكن أن يراد بالطاغية الرّجفة أو الصّيحة لتجاوز كل منهما الحدّ .
الأعراف : ( 79 ) فتولى عنهم وقال . . . . .
( فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( ظاهر العطف بالفاء أنّ هذا التولي كان بعد هلاكهم ومشاهدة ما جرى عليهم فيكون الخطاب على سبيل التفجّع عليهم والتحسّر لكونهم لم يؤمنوا فهلكوا والاغتمام لهم وليسمع ذلك من كان معه من المسلمين فيزدادوا إيماناً وانتفاء عن معصية الله واقتضاء لما جاء به نبيه عن الله ويكون معنى قوله ولكن ) لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( ولكن كنتم لا تحبون الناصحين فتكون حكاية حال ماضية وقد خاطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أهل قليب بدر وروي أنه خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفاً وخمسمائة دار ، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم ، وقيل : كان توليه عنهم وقت عقر الناقة وقولهم ) ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( وذلك قبل نزول العذاب وهو الذي يقتضيه ظاهر مخاطبته لهم وقوله ) وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( وهو الذي في قصصهم من أنه رحل عنهم ليلة أن أخذتهم الرّجفة صبحتها ، وبعد ظهور أمارات الهلاك التي وعد بها قال الطبري : وقيل لهم تهلك أمة ونبيها فيها ، وروي أنه اترحل بمن معه حتى جاء مكة فأقام بها حتى مات ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في هلاكهم وخطابه هذا كخطابهم نوح وهود عليهما السلام في قولهما ) أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى ( وذكر النصح بعد ذلك لكنه لما كان قوله ) أَبْلَغْتُكُمْ ( ماضياً عطف عليه ماضياً فقال : ) وَنَصَحْتُ ( ، وقوله : ) لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( أي من نصح لك من رسول أو غيره أي ديدنكم ذلك لغلبة شهواتكم على عقولكم . وجاء لفظ ) النَّاصِحِينَ ( عامّاً أي أيّ شخص نصح لكم لم تقبلوا في أي شيء نصح لكم وذلك مبالغة في ذمّهم .
وروي عن ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من مائها ولا يستقوا منها فقالوا : يا رسول الله قد طبخنا وعجنّا ، فأمرهم أن يطرحوا ذلك الطبيخ والعجين ويهرقوا ذلك الماء وأمرهم أن يستقوا من الماء الذي كانت ترده ناقة صالح وإلى الأخذ بهذا الحديث ، أخذ أبو محمد بن حزم في ذهابه إلى أنه لا يجوز الوضوء بماء أرض ثمود إلا إن كان من العين التي كانت تردها الناقة ، وعن جابر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : ( لا يدخل أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم ) وفي الحديث أنه مر بقبر فقال ) فَيَقُولُ مَا هَاذَا ( ؟ قالوا لا قال ( هذا قبر أبي رغال الذي هو أبو ثقيف كان من ثمود فأصاب قومه البلاء وهو بالحرم فسلّم فلما خرج من الحرم أصابه فدفن هنا وجعل معه غصن من ذهب ) قال فابتدر القوم بأسيافهم فحفروا حتى أخرجوا الغصن .
الأعراف : ( 80 ) ولوطا إذ قال . . . . .
( وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ ( هو لوط بن هارون أخي إبراهيم عليه السلام وناحور وهم بنو تارح بن ناحور وتقدّم رفع نسبه وقوله هم أهل سدوم وسائر القرى المؤتفكة بعثه الله تعالى إليهم ، وقال ابن عطية بعثه الله إلى أمّة تسمى

" صفحة رقم 336 "
سدوم وانتصب ) لُوطاً ( بإضمار وأرسلنا عطفاً على الأنبياء قبله و ) إِذْ ( معمولة ) لأرسلنا ( وجوّز الزمخشري وابن عطية : نصبه بواذكر مضمرة زاد الزمخشري أنّ ) الْمُرْسَلِينَ إِذْ ( بدل من لوط أي واذكر وقت قال لقومه ، وقد تقدم الكلام على كون إذ تكون مفعولاً بها صريحاً لأذكر وأنّ ذلك تصرف فيها والاستفهام هو على جهة الإنكار والتوبيخ والتشنيع والتوقيف على هذا الفعل القبيح و ) الْفَاحِشَةُ ( هنا إتيان ذكران الآدميين في الادبار ولما كان هذا بالفعل معهوداً قبحه ومركوزاً في العقول فحشه أتى معرّفاً بالألف واللام أن تكون أل فيه للجنس على سبيل المبالغة كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش ولبعد العرب عن ذلك البعد التام وذلك بخلاف الزنا فإنه قال فيه : ) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ( فأتى به منكراً أي فاحشة من الفواحش وكان كثير من العرب يفعله ولا يستنكرون من فعله ولا ذكره في أشعارهم والجملة المنفية تدلّ على أنهم هم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وأنهم مبتكروها والمبالغة في ) مّنْ أَحَدٍ ( حيث زيدت لتأكيد نفي الجنس وفي الإتيان بعموم العالمين جمعاً .
قال عمر بن دينار : ما رئي ذكر على ذكر قبل قوم لوط روي أنهم كان يأتي بعضهم بعضاً ، وقال الحسن : كانوا يتون الغرباء كانت بلادهم الأردن تؤتى من كل جانب لخصبها فقال لهم إبليس هو في صورة غلام إن أردتم دفع الغرباء فافعلوا بهم هكذا فمكنهم من نفسه تعليماً ثم فشا واستحلوا ما استحلوا وأبعد من ذهب إلى أنّ المراد من عالمي زمانهم ومن ذهب إلى أن المعنى ) مَا سَبَقَكُمْ ( إلى لزومها ويشهدها وفي تسمية هذا الفعل بالفاحشة دليل على أنه يجري مجرى الزنا يرجم من أحصن ويجلد من لم يحصن وفعله عبد الله بن الزبير أتى بسبعة منهم فرجم ربعة أحصنوا وجلد ثلاثة وعنده ابن عمر وابن عباس ولم ينكروا وبه قال الشافعي ، وقال مالك : يرجم أحصن أو لم يحصن وكذا المفعول به إن كان محتلماً وعنده يرجم المحصن ويؤدّب ويحبس غير المحصن وهو مذهب عطية وابن المسيب والنخعي وغيرهم وعن مالك أيضاً يعزر أو لم يحصن وهو مذهب أبي حنيفة وحرق خالد بن الوليد رجلاً يقال له الفجاء عمل ذلك العمل وذلك برأي أبي بكر وعليّ وأنّ أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أجمع رأيهم عليه وفيهم عليّ بن أبي طالب ، وروي أنّ ابن الزبير أحرقهم في زمانه وخالد القشيري بالعراق وهشام .
( وَمَا سَبَقَكُمْ ( جملة حالية من الفاعل أو من ) الْفَاحِشَةُ ( لأنّ في ) سَبَقَكُمْ بِهَا ( ضميرهم وضميرها ، وقال الزمخشري : هي جملة مستأنفة أنكر عليهم أولاً بقوله ) أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ( ثم وبّخهم عليها فقال : أنتم أول من عملها أو على أنه جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا لم لا نأتيها فقال : ) مَا سَبَقَكُمْ بِهَا أَحَدٌ ( فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به ، وقال الزمخشري : والباء للتعدية من قولك سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله ومنه قوله عليه السلام ( سبقك بها عكاشة ) انتهى ، ومعنى التعدية هنا قلق جداً لأنّ الباء المعدية في الفعل المتعدي إلى واحد هي بجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة وبيان ذلك أنك إذا قلت صككت الحجر بالحجر فمعناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر وكذلك دفعت زيداً بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيداً عمراً عن خالد أي جعلت زيداً يدفع عمراً عن خالد فللمفعول الأوّل تأثير في الثاني ولا يتأتّى هذا المعنى هنا إذ

" صفحة رقم 337 "
لا يصحّ أن يقدّر أسبقت زيداً الكرة أي جعلت زيداً يسبق الكرة إلا بمجاز متكلّف وهو أن تجعل ضربك للكرة أول جعل ضربة قد سبقها أي تقدّمها في الزمان فلم يجتمعا .
الأعراف : ( 81 ) إنكم لتأتون الرجال . . . . .
( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ( هذا بيان لقوله ) أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ( وأتى هنا من قوله أتى المرأة غشيها وهو استفهام على جهة التوبيخ والإنكار ، وقرأ نافع وحفص ) إِنَّكُمْ ( على الخبر المستأنف و ) شَهْوَةً ( مصدر في موضع الحال قاله الحوفي وابن عطية ، وجوّزه الزمخشري وأبو البقاء أي مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين لقبحها أو مفعول من أجله قاله الزمخشري ، وبدأ به البقاء أي للاشتهاء لا حامل لكم على ذلك إلا مجرد الشهوة ولا ذم أعظم منه لأنه وصف لهم باليهيمة وأنهم لا داعي لهم من جهة العقل كطلب النسل ونحوه و ) مّن دُونِ النّسَاء ( في موضع الحال أي منفردين عن النساء ، وقال الحوفي : ) مّن دُونِ النّسَاء ( متعلّق بشهوة و ) بَلِ ( هنا للخروج من قصة إلى قصة تنبىء بأنهم متجاوزو الحد في الاعتداء ، وقيل إضراب عن تقريرهم وتوبيخهم والإنكار أو عن الإخبار عنهم بهذه المعصية الشنيعة إلى الحكم عليهم بالحال التي تنشأ عنها القبائح وتدعوا إلى اتّباع الشهوات وهي الإسراف وهو الزيادة المفسدة لما كانت عادتهم الإسراف أسرفوا حتى في باب قضاء الشهوة وتجاوزوا المعتاد إلى غيره ونحوه ) بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ( ، وقيل إضراب عن محذوف تقديره ما عدلتم بل أنتم ، وقال الكرماني بل ردّ لجواب زعموا أن يكون لهم عذر أي لا عذر لكم ولا حجّة ) بَلْ أَنتُمْ ( وجاء هنا ) مُّسْرِفُونَ ( باسم الفاعل ليدلّ على الثبوت ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأسماء وجاء في النمل ) تَجْهَلُونَ ( بالمضارع لتجدد الجهل فيهم ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأفعال .
الأعراف : ( 82 ) وما كان جواب . . . . .
( وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ ( الضمير في ) أَخْرِجُوهُم ( عائد على لوط ومن آمن به ولما تأخر نزول هذه السورة عن سورة النمل أضمر ما فسره الظاهر في النمل من قوله ) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ ( وآل لوط ابنتاه وهما رغواء وريفاء ومن تبعه من المؤمنين ، وقيل : لم يكن معه إلا ابنتاه كما قال تعالى : ) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ ( وقال ابن عطية : والضمير عائد على آل لوط وأهله وإن كان لم يجر لهم ذكر فإن المعنى يقتضيهم ، وقرأ الحسن ) جَوَابَ ( بالرفع انتهى وهنا جاء العطف بالواو والمراد بها أحد محاملها الثلاث من التعقيب المعني في النمل في قوله ) تَجْهَلُونَ ( فما وفي العنكبوت ) وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ( فما وكان التعقيب مبالغة في الرد حيث لم يمهلوا في الجواب زماناً بل أعجلوه بالجواب سرعة وعدم البراءة بما يجاوبون به ولم يطابق الجواب قوله لأنه لما أنكر عليهم الفاحشة وعظم أمرها ونسبهم إلى الإسراف بادروا بشيء لا تعلّق له بكلامه وهو الأمر بالإخراج ونظيره جواب قوم إبراهيم بأن قالوا ) حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ ( حتى قبح عليهم بقوله ) أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( فأتوا بجواب لا يطابق كلامه والقرية هي سدوم سميت باسم سدوم بن باقيم الذي يضرب المثل في الحكومات هاجر لوط مع عمه إبراهيم من أرض بابل فنزل إبراهيم أرض فلسطين وأنزل لوطاً الأردن .
( إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( قال ابن عباس ومجاهد يتقذّرون عن إتيان أدبار الرجال والنساء ، وقيل يأتون النساء في الأطهار ، وقال ابن بحر : يرتقبون أطهار النساء فيجامعونهنّ فيها ، وقيل : يتنزهون عن فعلتا وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد ، وقيل : يغتسلون من الجنابة ويتطهرون بالماء عيروهم بذلك ويسمى هذا النوع في

" صفحة رقم 338 "
علم البيان التعريض بما يوهم الذمّ وهو مدح كقوله : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهنّ فلول من قراع الكتائب
ولذلك قال ابن عباس : عابوهم بما يمدح به ، والظاهر أن قوله ) أَنَّهُمْ ( تعليل للإخراج أي لأنهم لا يوافقوننا على ما نحن عليه ومن لا يوافقنا وجب أن نخرجه ، وقال الزمخشري : وقولهم ) إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشيطان من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهّد .
الأعراف : ( 83 ) فأنجيناه وأهله إلا . . . . .
( فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( أي ) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ( من العذاب الذي حل بقومه ) وَأَهْلَهُ ( هم المؤمنون معه أو ابنتاه على الخلاف الذي سبق واستثنى من أهله امرأته فلم تنجُ واسمها واهلة كانت منافقة تسرّ الكفر موالية لأهل سدوم ومعنى ) مِنَ الْغَابِرِينَ ( من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا وعلى هذا يكون قوله ) كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( تفسيراً وتوكيداً لما تضمنه الاستثناء من كونها لم ينجها الله تعالى . وقال أبو عبيدة : ) إِلاَّ امْرَأَتَهُ ( اكتفى به في أنها لم تنجُ ثم ابتدأ وصفها بعد ذلك بصفة لا تتعلق بها النجاة ولا الهلكة وهي أنها كانت ممن أسن وبقي من عصره إلى عصر غيره فكانت غابرة أي متقدّمة في السن كما قال : إلا عجوزاً في الغابرين إلى أن هلكت مع قومها انتهى ، وجاء ) مِنَ الْغَابِرِينَ ( تغليباً للذكور على الإناث ، وقال الزّجاج : من الغائبين عن النجاة فيكون توكيداً لما تضمنه الاستثناء انتهى ، و ) كَانَتْ ( بمعنى صارت أو كانت في علم الله أو باقية على ظاهرها من تقييد غبورها بالزمان الماضي أقوال .
الأعراف : ( 84 ) وأمطرنا عليهم مطرا . . . . .
( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا ( ضمن ) أمطرنا ( معنى أرسلنا فلذلك عداه بعلى كقوله فأمطرنا عليهم حجارة من السماء والمطر هنا هي حجارة وقد ذكرت في غير آية خسف بهم وأمطرت عليهم الحجارة ، وقيل : كانت المؤتفكة خمس مدائن ، وقيل : ست ، وقيل : أربع اقتلعها جبريل بجناحه فرفعها حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير وصياح الديكة ثم عكسها فرد أعلاها أسفلها وأرسلها إلى الأرض ، وتبعتهم الحجارة مع هذا فأهلكت من كان منهم في سفر أو خارجاً عن البقاع وقالت امرأة لوط حين سمعت الرجّة واقوماه والتفتت فأصابتها صخرة فقتلتها ، والظاهر أن الأمطار شملهم كلهم ، وقيل : خسف بأهل المدن وأمطرت الحجارة على المسافرين منهم ، وسئل مجاهد هل سلم منهم أحد قال لا إلا رجلاً كان بمكة تاجراً وقف الحجر له أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فأصابه فمات وكان عددهم مائة ألف .
( مَّطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( خطاب للرسول أو للسامع قصتهم كيف كان مآل من أجرم وفيه إيقاظ وازدجار أن تسلك هذه الأمة هذا المسلك و ) الْمُجْرِمِينَ ( عام في قوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم وهو من نظر التفكر أو من نظر البصر فيمن بقيت له آثار منازل ومساكن كثمود وقوم لوط كما قال تعالى ) وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مَّسَاكِنِهِمْ ).
الأعراف : ( 85 ) وإلى مدين أخاهم . . . . .
( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ). قال الفرّاء ) مَدْيَنَ ( اسم بلد وقطر وأنشد : رهبان مدين لو زأوك تنزلوا فعلى هذا التقدير وإلى أهل مدين ، وقيل : اسم قبيلة سميت باسم أبيها مدين بن إبراهيم قاله مقاتل وأبو سليمان الدمشقي ، وشعيب قيل : هو ابن بنت لوط ، وقيل زوج بنته وهذه مناسبة بين قصته

" صفحة رقم 339 "
وقصة لوط وشعيب اسم عربي تصغير شعب أو شعب والجمهور على أنّ مدين أعجمي فإن كان عربياً احتمل أن يكون فعيلاً من مدين بالمكان أقام به وهو بناء نادر ، وقيل : مهمل أو مفعلاً من دان فتصحيحه شاذ كمريم ومكورة ومطيبة وهو ممنوع الصّرف على كل حال سواء كان اسم أرض أو اسم قبيلة أعجمياً أم عربياً واختلفوا في نسب شعيب ، فقال عطاء وابن إسحاق وغيرهما : هو شعيب بن ميكيل بن سجن بن مدين بن إبراهيم واسمه بالسّريانية بيروت ، وقال الشرقي بن القطامي : شعيب بن عنقاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم ، وقال أبو القاسم اسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي الطلحيّ الأصبهاني في كتاب الإيضاح في التفسير من تأليفه : هو شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيم ، وقيل : شعيب بن جذي بن سجن بن اللام بن يعقوب ، وكذا قال ابن سمعان إلا أنه جعل مكان اللام لاوي ولا يعرف في أولاد يعقوب اللام فلعله تصحيف من لاوي ، وقيل : شعيب بن صفوان بن عنقاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم ، وقال الشريف النسابة الجوّاني : وهو المنتهى إليه في هذا العلم هو شعيب بن حبيش بن وائل بن مالك بن حرام بن جذام واسمه عامر أخو نجم وهما ولدا الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر هود عليه السلام فبينه وبين هود في هذا النسب الأخير ثمانية عشر أباً وبينهما في بعض النسب المذكور سبعة آباء لأنه ذكر فيه أنه شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيم وإبراهيم هو ابن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أزغو بن فالغ بن عابر وهو هود عليه السلام وكان يقال لشعيب : خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه ، قال قتادة : أرسل مرتين مرّة إلى مدين ومرة إلى أصحاب الأيكة وتعلّق إلى مدين وانتصب ) أَخَاهُمْ ( بأرسلنا وهذا يقوي قول من نصب لوطاً بأرسلنا وجعله معطوفاً على الأنبياء قبله .
( قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ ( قرأ الحسن آية من ربكم وهذا دليل على أنه جاء بالمعجزة إذ كان نبيّ لا بدّ له من معجزة تدلّ على صدقه لكنه لم يعين هنا ما المعجزة ولا من أي نوع هي كما أنه لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) معجزات كثيرة جدّاً لم تعين في القرآن وقال قوم : كان شعيب نبيّاً ولم تكن له بينة والبينة هنا الموعظة وأنكر الزجاج هذا القول وقال : لا تقبل نبوة بغير معجزة ومن معجزاته أنه دفع إلى موسى عصاه وتلك العصا صارت تنيناً ، وقال الزمخشري : ومن معجزات شعيب ما روي من محاربة عصا موسى التنين حين دفع إليه غنمة وولادة الغنم الدّرع خاصة حين وعده أن يكون له الدّرع من أولادها ووقوع عصا آدم على يده في المرّات السبع وغير ذلك من الآيات لأنّ هذه كلها كانت قبل أن ينبأ موسى عليه السلام فكانت معجزات لشعيب ، وقال الزجاج : وأيضاً قال لموسى عليه السلام هذه الأغنام تلد أولاداً فيها سواد وبياض وقد وهبتها لك فكان الأمر كما أخبر عنه وهذه الأحوال كلها كانت معجزة لشعيب عليه السلام لأنّ موسى عليه السلام في ذلك الوقت ما ادّعى الرسالة انتهى ، وما قاله الزمخشري متّبعاً فيه الزجاج هو قول المعتزلة وذلك أن الإرهاص وهو ظهور المعجزة على يد من سيصير نبيّاً ورسولاً بعد ذلك مختلف في جوازه فالمعتزلة تقول : هو غير جائز فلذلك جعلوا هذه المعجزات لشعيب وأهل السنّة يقولون بجوازه فهي إرهاص لموسى بالنبوة قبل الوحي إليه والحجج للمذهبين مذكورة في أصول الدين .
( فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ ( أمرهم أولاً بشيء خاص وهو إيفاء الكيل والميزان ثم نهاهم عن شيء عام وهو قوله ) أَشْيَاءهُمْ ( و ) الْكَيْلَ ( مصدر كنى به عن الآلة التي يكال بها كقوله في هود ) الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ( فطابق قوله ) وَالْمِيزَانَ ( أو هو باق على المصدرية وأريد بالميزان المصدر كالميعاد لا الآلة فتطابقا أو أخذ الميزان على حذف مضاف أي ووزن الميزان والكيل على إرادة المكيال فتطابقا والبخس تقدّم شرحه في قوله ) وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ( و ) أَشْيَاءهُمْ ( عام في كل شيء لهم ، وقيل : أموالهم ، وقال التبريزي : حقوقهم وفي إضافة الأشياء إلى الناس دليل على ملكهم إياها خلافاً للإباحيّة الزنادقة كانوا يبخسون الناس في مبايعاتهم وكانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه ومنه قيل للمكس البخس وروي أنهم كانوا إذا دخل الغريب

" صفحة رقم 340 "
بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطعاً ثم أخذوها بنقصان ظاهر وأعطوه بدلها زيوفاً وكانت هذه المعصية قد فشت فيهم في ذلك الزمان مع كفرهم الذي نالتهم الرّجفة بسببه .
( وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ( تقدّم تفسير هذه الجملة قريباً في هذه السورة .
( ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( الإشارة إلى إيفاء الكيل والميزان وترك البخس والإفساد وخير أفعل التفضيل أي من التطفيف والبخس والإفساد لأنّ خيرية هذه لكم عاجلة جداً منقضية عن قريب منكم إذ يقطع الناس معاملتكم ويحذرونكم فإذا أوفيتم وتركتم البخس والإفساد جملت سيرتكم وحسنت الأحدوثة عنكم وقصدكم الناس بالتجارات والمكاسب فيكون ذلك أخير مما كنتم تفعلون لديمومة التجارة والأرباح بالعدل في المعاملات والتحلي بالأمانات ، وقيل : ) ذالِكُمْ ( إشارة إلى الإيمان الذي تضمنه قوله ) اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ( وإلى ترك البخس في الكيل والميزان ، وقيل : ) خَيْرٌ ( هنا ليست على بابها من التفضيل ولذلك فسّره ابن عطية بقوله أي ذاك نافع عند الله مكسب فوزه ورضوانه وظاهر قوله ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( أنهم كانوا كافرين وعلى ذلك يدل صدر الآية وآخر القصة فمعنى ذلك أنه لا يكون ذلك لكم خيراً ونافعاً عند الله إلا بشرط الإيمان والتوحيد وإلا فلا ينفع عمل دون إيمان ، وقال الزمخشري ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( إن كنتم مصدقين لي في قولي ) ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ).
2 ( ) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ ءامَنُواْ بِالَّذِىأُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( ) ) 2
الأعراف : ( 86 ) ولا تقعدوا بكل . . . . .
( وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ( الظاهر النهي عن القعود بكل طريق لهم عن ما كانوا يفعلونه من إيعاد الناس وصدّهم عن طريق الدّين ، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدّي : كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون : إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت تفعله قريش مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقال السدّي : هذا نهي العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل ، وقال أبو هيريرة : هو نهي عن ا لسّلب وقطع الطريق وكان ذلك من فعلهم وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبريل فقال هذا مثل لقوم من أمّتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا ) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ تُوعِدُونَ ( وفي هذا القول والقول الذي قبله مناسبة لقوله ) وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ ( لكن لا تظهر مناسبة لهما بقوله ) وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ ( بل ذلك يناسب القول الأول قال القرطبي : قال علماؤنا ومثلهم اليوم هؤلاء المكاسون الذين يأخذون من الناس ما لا يلزمهم شرعاً من الوظائف

" صفحة رقم 341 "
الماليّة بالقهر والجبر وضمنوا ما لا يجوز ضمان أصله من الزكاة والمواريث والملاهي والمترتّبون في الطرق إلى غير ذلك مما قد كثر في الوجود وعمل به في سائر البلاد وهو من أعظم الذنوب وأكبرها وأفحشها فإنه غضب وظلم وعسف على الناس وإذاعة للمنكر وعمل به ودوام عليه وإقرار له وأعظمه تضمين الشرع والحكم للقضاء فإنا لله وإنا إليه راجعون ، لم يبق من الإسلام إلا رسمه ولا من الدّين إلا اسمه انتهى كلامه . وقد قرن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الأموال والأعراض بالدماء في قوله في حجة الوداع : ( ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حراماً ) وما أكثر ما تساهل الناس في أخذ الأموال وفي الغيبة ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) والعجب إطباق من يتظاهر بالصلاح والدين والعلم على عدم إنكار هذه المكوس والضمانات وادعاء بعضهم أنه له تصرف في الوجود ودلال على الله تعالى بحيث إنه يدعو فيستجاب له فيما أراد ويضمن لمن كان من أصحابه وأتباعه الجنة وهو مع ذلك يتردّد لأصحاب المكوس ويتذلل إليهم في نزع شيء حقير وأخذه من المكس الذي حصّلوه وهذه وقاحة لا تصدر ممن شمّ رائحة الإيمان ولا تعلق بشيء من الإسلام ، وقال بعض الشعراء : تساوى الكلّ منا في المساوي
فأفضلنا فتيلاً ما يساوي
وعلى الأقوال السابقة يكون القعود بكل صراط حقيقة وحمل القعود والصراط الزمخشري على المجاز ، فقال ولا تقتدوا بالشيطان في قوله ) لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدّين والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله ) وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( ، فإن قلت : صراط الحقّ واحد ) وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ( فكيف قيل بكل صراط ، قلت : صراط الحقّ واحد ولكنه يتشعّب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة فكانوا إذا رأوا واحداً يشرع في شيء منه منعوه وصدّوه انتهى . ولا تظهر الدلالة على أن المراد بالصراط سبيل الحق من قوله ) وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( كما ذكر بل الظاهر التغاير لعموم كل صراط وخصوص سبيل الله فيكون ) بِكُلّ صِراطٍ ( حقيقة في الطرق ، و ) سَبِيلِ اللَّهِ ( مجاز عن دين الله والباء في ) بِكُلّ صِراطٍ ( ظرفية نحو زيد بالبصرة أي في كل صراط وفي البصرة والجمل من قوله ) تُوعَدُونَ ( ) وَتَصُدُّونَ ( ) وَتَبْغُونَهَا ( أحوال أي موعدين وصادّين وباغين والإيعاد ذكر إنزال المضار بالموعد ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس فيه كل مذهب من الشرّ لأن أوعد لا يكون إلا في الشر وإذا ذكر تعدى الفعل إليه بالباء .
قال أبو منصور الجواليقي : إذا أرادوا أن يذكروا ما يهددوا به مع أوعدت جاؤوا بالباء فقالوا : أوعدته بالضرب ولا يقولون أعدته الضرب والصدّ يمكن أن يكون حقيقة في عدم التمكين من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه ويمكن أن يكون مجازاً عن الإيعاد من الصادّ بوجه ما أوعن وعد المصدود بالمنافع على تركه و ) مَنْ ءامَنَ ( مفعول بتصدون على إعمال الثاني ومفعول ) تُوعَدُونَ ( ضمير محذوف والضمير في ) بِهِ ( الظاهر أنه على ) سَبِيلِ اللَّهِ ( وذكره لأن السبيل تذكر وتؤنث ، وقيل عائد على الله ، وقال الزمخشري : فإن قلت : إلام يرجع الضمير في آمن به ، قلت : إلى كلّ صراط تقديره توعدون من آمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم دلالة على عظم ما يصدّون عنه انتهى وهذا تعسّف في الإعراب لا يليق بأن يحمل القرآن عليه لما فيه من التقديم والتأخير ووضع الظاهر موضع المضمر من غير حاجة إلى ذلك وعود الضمير على أبعد مذكور مع إمكان عوده على أقرب مذكور الإمكان السائغ الحسن الراجح وجعل ) مَنْ ءامَنَ ( منصوباً بتوعدون فيصير من إعمال

" صفحة رقم 342 "
الأوّل وهو قليل .
وقد قال النحاة أنه لم يرد في القرآن لقلته ولو كان من إعمال الأول للزم ذكر الضمير في الفعل الثاني وكان يكون التركيب ) وتصدونه ( أو وتصدونهم إذ هذا الضمير لا يجوز حذفه على قول الأكثرين إلا ضرورة على قول بعض النحاة يحذف في قليل من الكلام ويدلّ على ) وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءامَنَ ( منصوب بتصدون الآية الأخرى وهي قوله : ) قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ ( ولا يحذف مثل هذا الضمير إلا في شعر وأجاز بعضهم حذفه على قلة مع هذه التكليفات المضافة إلى ذلك فكان جديراً بالمنع لما في ذلك من التعقيد البعيد عن الفصاحة وأجاز ابن عطية أن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطريق للرد عن شعيب وهذا بعيد لأن القائل ) وَلاَ تَقْعُدُواْ ( وهو شعيب فكان يكون التركيب من آمن بي ولا يسوغ هنا أن يكون التفافاً لو قلت : يا هند أنا أقول لك لا تهيني من أكرمه تريد من أكرمني لم يصحّ وتقدم تفسير مثل قوله ) وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ( في آل عمران .
( وَاذْكُرُواْ إِذَا كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ( قال الزمخشري ) إِذْ ( مفعول به غير ظرف أي ) وَاذْكُرُواْ ( على جهة الشكر وقت كونكم ) قَلِيلاً ( عددكم ) فَكَثَّرَكُمْ ( الله ووفر عددكم انتهى ؛ وذكر غيره أنه منصوب على الظرف فلا يمكن أن يعمل فيه ) وَاذْكُرُواْ ( لاستقبال اذكروا وكون ) إِذْ ( ظرفاً لما مضى والقلّة والتكثير هنا بالنسبة إلى الأشخاص أو إلى الفقر والغنى أو إلى قصر الأعمار وطولها أقوال ثلاثة أظهرها الأول . قيل : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا ، وقال الزمخشري : إذ كنتم أقلة أذلّة فأعزّكم بكثرة العدد والعدد انتهى ولا ضرورة تدعو إلى حذف صفة وهي أذلّة ولا إلى تحميل قوله ) فَكَثَّرَكُمْ ( معنى بالعدد ألا ترى أنّ القلة لا تستلزم الذلّة ولا الكثرة تستلزم العزّ ، وقال الشاعر : تعيّرنا أنّا قليل عديدنا
فقلت لها إنّ الكرام قليل
وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
وقيل : المراد مجموع الأقوال الأربعة فإنه تعالى كثّر عددهم وأرزاقهم وطوّل أعمارهم وأعزّهم بعد أن كانوا على مقابلاتها . ) وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( هذا تهديد لهم وتذكير بعاقبة من أفسد قبلهم وتمثيل لهم بمن جلّ به العذاب من قوم نوح وهود وصالح ولوط وكانوا قريبي عهد بما أجاب المؤتفكة .
الأعراف : ( 87 ) وإن كان طائفة . . . . .
( وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( هذا الكلام من أحسن ما تلطف به في المحاورة إذ برز المتحقق في صورة المشكوك فيه وذلك أنه قد آمن به طائفة بدليل قول المستكبرين عن الإيمان لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك وهو أيضاً من بارع التقسيم إذ لا يخلو قومه من القسمين والذي أرسل به هنا ما أمرهم به من إفراد الله تعالى بالعبادة وإيفاء الكيل والميزان ونهاهم عنه من البخس والإفساد والقعود المذكور ومتعلق ) لَمْ يُؤْمِنُواْ ( محذوف دلّ عليه ما قبله وتقديره لم يؤمنوا به والخطاب بقوله ) مّنكُمْ ( لقومه وينبغي أن يكون قوله ) فَاصْبِرُواْ ( خطاباً لفريقي قومه من آمن ومن لم يؤمن ) بَيْنِنَا ( أي بين الجميع فيكون ذلك وعداً للمؤمنين بالنصر الاذي هو نتيجة الصّبر فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا وعيداً للكافرين بالعقوبة والخسار ، وقال ابن عطية : المعنى وإن كنتم يا قوم قد اختلفتم علي وشعبتم بكفركم أمري فآمنت طائفة وكفرت طائفة فاصبروا أيها الكفرة حتى يأتي حكم الله بيني وبينكم ففي قوله فاصبروا قوة التهديد والوعيد هذا ظاهر الكلام وأنّ المخاطبة بجميع الآية للكفار ، قال النقاش وقال مقاتل بن سليمان : المعنى ) فَاصْبِرُواْ ( يا معشر الكفار قال : وهذا قول الجماعة انتهى ، وهذا القول بدأ به

" صفحة رقم 343 "
الزمخشري ، فقال ) فَاصْبِرُواْ ( فتربصوا وانتظروا ) حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ( أي بين الفريقينن بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله تعالى منهم لقوله تعالى ) فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ ( انتهى . قال ابن عطية : وحكى منذر بن سعيد عن أبي سعيد أنّ الخطاب بقوله فاصبروا للمؤمنين على معنى الوعد لهم وقاله مقاتل بن حيان انتهى وثنى به الزمخشري فقال أو هو موعظة للمؤمنين وحثّ على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم انتهى ، والذي قدمناه أولاً من أنه خطاب للفريقين هو قول أبي علي وأتى به الزمخشري ثالثاً فقال : ويجوز أن يكون خطاباً للفريقين ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيّب انتهى ، وهو جار على عادته من ذكر تجويزات في الكلام توهّم أنها من قوله وهي أفعال للعلماء المتقدمين ) وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( لأنّ حكمه عدل لا يخشى أن يكون يه حيف وجور .
2 ( ) قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ إِلاَ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالاٌّ رْضِ وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لاًّكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِأايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَقَالَ مُوسَى يافِرْعَوْنُ إِنَّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِىإِسْرَاءِيلَ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِأايَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( )

" صفحة رقم 344 "
الأعراف : ( 88 ) قال الملأ الذين . . . . .
عاد رجع إلى ما كان عليه وتأتي بمعنى صار . قال : تعد فيكم جزر الجزور رماحنا
ويرجعن بالأسياف منكسرات
ضحى ظرف متصرّف إن كان نكرة وغير متصرّف إذا كان من يوم بعينه وهو وقت ارتفاع الشمس إذا طلعت وهو مؤنث وشذّوا في تصغيره فقالوا : ضحى بغير تاء التأنيث وتقول أتيته ضحى وضحاء إذا فتحت الضّاد مددت ، الثعبان ذكر الحيّات العظيم أخذ من ثعبت بالمكان فجرته بالماء والمثعب موضع انفجار الماء لأن الثعبان يجري كالماء عند الانفجار . الإرجاء التأخير ، المدينة معروفة مشتقة من مدن فهي فعيلة ومن ذهب إلى أنها مفعلة من دان فقوله ضعيف لإجماع العرب على الهمز في جمعها قالوا مدائن بالهمزة ولا يحفظ فيه مداين بالياء ولا ضرورة تدعو إلى أنها مفعلة ويقطع بأنها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا مدن كما قالوا صحف في صحيفة .
( قَالَ الْمَلاَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ شُعَيْبٌ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ( أي الكفار ) الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ ( عن الإيمان أقسموا على أحد الأمرين إخراج شعيب وأتباعه أو عودتهم في ملته والقسم يكون على فعل المقسم وفعل غيره سوّوا بين نفيه ونفي أتباعه وبين العود في الملّة وهذا يدلّ على صعوبة مفارقة الوطن إذ قرنوا ذلك بالعود إلى الكفر وفي الإخراج والعود طباق معنوي وعاد كما

" صفحة رقم 345 "
تقدّم لها استعمالان أحدهما أن تكون بمعنى صار والثاني بمعنى رجع إلى ما كان عليه فعلى الأوّل لا إشكال في قوله أو لتعودن إذ صار فعلاً مسنداً إلى شعيب وأتباعه ولا يدلّ على أن شعيباً كان في ملتهم وعلى المعنى الثاني يشكل لأنّ شعيباً لم يكن في ملتهم قط لكن أتباعهم كانوا فيها ، وأجيب عن هذا بوجوه ، أحدها : أن يراد بعود شعيب في الملة حال سكوته عنهم قبل أن يبعث لإحالة الضلال فإنه كان يخفي دينه إلى أن أوحى الله إليه ، الثاني : أن يكون من باب تغليب حكم الجماعة على الواحد لما عطفوا أتباعه على ضميره في الإخراج سحبوا عليه حكمهم في العود وإن كان شعيب بريئاً مما كان عليه أتباعه قبل الإيمان ، الثالث : أن رؤساءهم قالوا ذلك على سبيل التلبيس على العامّة والإيهام أنه كان منهم ) قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ( أي أيقع منكم أحد هذين الأمرين على كل حال حتى في حال كراهيتنا لذلك والاستفهام للتوقيف على شنعة المعصية بما أقسموا عليه من الإخراج عن مواطنهم ظلماً أو الإقرار بالعود في ملتهم ، قال الزمخشري الهمزة للاستفهام والواو واو الحال تقديره أتعيدوننا في ملّتكم في حال كراهتنا أو مع كوننا كارهين انتهى ، فجعل الاستفهام خاصاً بالعود في ملتهم وليس كذلك بل الاستفهام هو عن أحد الأمرين الإخراج أو العود وجعل الواو واو الحال وقدره أتعيدوننا في حال كراهتنا وليست واو الحال التي يعبّر عنها النحويون بواو الحال بل هي واو العطف عطفت على حال محذوفة كقوله ) رُدُّواْ السَّائِلَ وَلَوْ ( ليس المعنى ردّوه في حال الصدفة عليه بظلف محرق بل المعنى ردّوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلف مخرق تقدم لنا إشباع القول في نحو هذا .
الأعراف : ( 89 ) قد افترينا على . . . . .
( قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ( هذا إخباره مقيّد من حيث المعنى بالشرط وجواب الشرط محذوف من حيث الصناعة وتقديره ) إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ ( فقد افترينا وليس قوله ) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ( هو جواب الشرط إلا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط على الشرط فيمكن أن يخرج هذا عليه وجوّزوا في هذه الجملة وجهين أحدهما أن يكون إخباراً مستأنفاً ، قال الزمخشري : فيه معنى التعجّب كأنهم قالوا ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأنّ المرتدّ أبلغ في الافتراء من الكافر يعني الأصلي لأن الكافر مفتر على الله الكذب حيث يزعم أن لله ندًّا ولا ندّ له والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد بيّن له ما خفي عليه من التمييز ما بين الحق والباطل . وقال ابن عطية : الظاهر أنه خبر أي قد كنا نواقع أمراً عظيماً في الرجوع إلى الكفر ، والوجه الثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام أي والله لقد افترينا ذكره الزمخشري وأورده ابن عطية احتمالاً قال : ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدّعاء مثل قول الشاعر : بقيت وفري وانحرفت عن العلا
ولقيت أضيافي بوجه عبوس
وكما تقول افتريت على الله أن كلمت فلاناً ولم ينشد ابن عطية البيت الذي يقيّد قوله بقيت وما بعده بالشرط وهو قوله :

" صفحة رقم 346 "
إن لم أشن على ابن هند غارة
لم تخلُ يوماً من نهاب نفوس
ولما كان أمر الدّين هو الأعظم عند المؤمن والمؤثر على أمر الدنيا لم يلتفتوا إلى الإخراج وإن كان أحد الأمرين هو الأعظم عند المؤمن والمؤثر على الكذب أقسم على وقوعه الكفار فقالوا قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملّتكم وتقدّم تفسير العود بالصيرورة وتأويله إن كان في معنى الرجوع إلى ما كان الإنسان فيه بالنسبة إلى النبي المعصوم من الكبائر والصغائر . ) وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّنَا ( أي وما ينبغي ولا يتهيّأ لنا أن نعود في ملّتكم إلا أن يشاء الله ربّنا فنعود فيها وهذا الاستثناء على سبيل عذق جميع الأمور بمشيئة الله وإرادته وتجويز العود من المؤمنين إلى ملتهم دون شعيب لعصمته بالنبوّة فجرى الاستثناء على سبيل تغليب حكم الجمع على الواحد وإن لم يكن ذلك الواحد داخلاً في حكم الجمع ، وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبّد الله به المؤمنين مما تفعله الكفرة من القربات فلما قال لهم إنا لا نعود في ملّتكم ثم خشي أن يتعبّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك ويقول هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبّد به انتهى ، وهذا الاحتمال لا يصحّ لأن قوله ) بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ( إنما يعني النجاة من الكفرة والمعاصي لا من أعمال البرّ ، وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول لا أفعل ذلك حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط وقد علم امتناع ذلك فهي إحالة على مستحيل وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه انتهى ، وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة مذهبهم أنّ الكفر والإيمان ليس بمشيئة من الله تعالى ، وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : وما معنى قوله ) وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ ( والله تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم في الكفر ، ( قلت ) : معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الإلطاف لعلمه تعالى أنها لا تنفع فينا ويكون عبثاً والعبث قبيح لا يفعله الحكيم والدليل عليه قوله ) وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا ( أي هو عالم بكل شيء مما كان ويكون وهو تعالى يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل قلوبهم وكيف تنقلب وكيف تقسو بعد الرّقة وتمرض بعد الصحة وترجع إلى الكفر بعد الإيمان ويجوز أن يكون قوله ) إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( حسماً لطمعهم في العود لأن مشيئة الله تعالى بعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة انتهى وهذان التأويلان على مذهب المعتزلة ، وقيل : هذا الاستثناء إنما هو تسليم وتأدّب ، قال ابن عطية : وتعلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان الكلام إن شاء قوى هذا التأويل انتهى وليس يقوي هذا التأويل لا فرق بين إلا أن يشاء وبين إلا أن شاء لأنّ انّ تخلص الماضي للاستقبال كما تخلص أنْ المضارع للاستقبال وكلا الفعلين مستقبل وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في ) فِيهَا ( يعود على القرية لا على الملح . ) وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا ( تقدم تفسير نظيرها في الأنعام في قصة إبراهيم عليه السلام . ) عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ( أي في دفع ما توعدتمونا به وفي حمايتنا من الضلال وفي ذلك استسلام الله وتمسّك بلطفه وذلك يؤيد التأويل الأوّل في إلا أن يشاء الله ، وقال الزمخشري : يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان . ) رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( أي احكم والفاتح والفتاح القاضي بلغة حمير وقيل بلغة مراد ، وقال بعضهم : ألا أبلغ بني عصم رسولا
فإني عن فتاحتكم غني

" صفحة رقم 347 "
وقال ابن عباس : ما كنت أعرف معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها تعال أفاتحْك أي أحاكمك ، وقال الفرّاء أهل عمان يسمون القاضي الفاتح ، وقال السدّي وابن بحر : احكم بيننا ، قال أبو إسحاق وجائز أن يكون المعنى أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف ذلك وذلك بأن ينزل بعدوّهم من العذاب ما يظهر به أنّ الحق معهم ، قال ابن عباس : كان كثير الصلاة ولما طال تمادى قومه في كفرهم ويئس من صلاحهم دعا عليهم فاستجاب دعاءه وأهلكهم بالرّجفة ، وقال الحسن : إنّ كل نبي أراد هلاك قومه أمره بالدعاء عليهم ثم استجاب له فأهلكهم .
الأعراف : ( 90 ) وقال الملأ الذين . . . . .
( وَقَالَ الْمَلاَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ( أي قال بعضهم لبعض أي كبراؤهم لاتباعهم تثبيطاً عن الإيمان : ) لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا ( فيما أمركم به ونهاكم عنه ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما جواب القسم الذي وطأته اللام في ) لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ ( وجواب الشرط ( قلت ) : قوله ) إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ( سادّ مسدّ الجوابين انتهى ، والذي تقول النحويون إنّ جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ولذلك وجب مضي فعل الشرط فإن عنى الزمخشري بقوله سادّ مسدّ الجوابين إنه اجتزىء به عن ذكر جواب الشرط فهو قريب وإن عنى به أنه من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم لأن الجملة يمتنع أن تكون لا موضع لها من الإعراب وأن يكون لها موضع من الإعراب ) وَإِذَا ( هنا معناها التوكيد وهي الحرف الذي هو جواب ويكون معه الجزاء وقد لا يكون وزعم بعض النحويين أنها في هذا الموضع ظرف العامل فيه ) لَّخَاسِرُونَ ( والنون عوض من المحذوف والتقدير أنكم إذا اتبعتموه ) لَّخَاسِرُونَ ( فلما حذف ما أضيف إليه عوض من ذلك النون فصادفت الألف فالتقى ساكنان فحذف الألف لالتقائهما والتعويض فيه مثل التعويض في يومئذ وحينئذ ونحوه وما ذهب إليه هذا الزاعم ليس بشيء لأنه لم يثبت التعويض والحذف في ) إِذَا ( التي للاستقبال في موضع فيحمل هذا عليه ، ( لَّخَاسِرُونَ ( قال ابن عباس : مغبونون ، وقال عطاء : جاهلون ، وقال الضحاك : عجزة ، وقال الزمخشري : لخاسرون لاستبدالكم الضلالة بالهدى لقوله ) أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ). وقيل تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنه ويحملكم على الإيفاء والتسوية انتهى .
الأعراف : ( 91 ) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا . . . . .
( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، قال ابن عباس وغيره : لما دعى عليهم فتح عليهم باب من جهنم بحرَ شديد أخذ بأنفاسهم فلم ينفعهم ظلّ ولا ماء فإذا دخلوا الأسراب ليتبرّدوا وجدوها أشدّ حرًّا من الظاهر فخرجوا هرباً إلى البرية فأظلتهم سحابة فيها ريح طيبة فتنادوا عليكم الظلة فاجتمعوا تحتها كلهم فانطبقت عليهم وألهبها الله ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلو فصاروا رماداً . وروي أن الريح حبست عنهم سبعة أيام ثم سلّط عليهم الحر ، وقال يزيد الجريري : سلط عليهم الرّيح سبعة أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم ، وقال قتادة : أرسل شعيب إلى أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلّة وإلى أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحةً فهلكوا جميعاً وقال ابن عطية : ويحتمل أنّ فرقة من قوم شعيب هلكت

" صفحة رقم 348 "
بالرّجفة وفرقة هلكت بالظلّة ، وقال الطبري بلغني أنّ رجلاً منه يقال له عمرو بن جلّها لما رأى الظلة . قال الشاعر : يا قوم إن شعيباً مرسل فذروا
عنكم سميراً وعمران بن شدّاد إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت تدعو بصوت على صمانة الواد وإنه لن تروا فيها صحاء غدإلا الرّقيم تمشي بين أنجاد
سمير وعمران كاهناهم والرّقيم كلبهم ، وعن أبي عبد الله البجلي : أبو جاد وهوّز وحطى وكلمن وسعفص وقرشت أسماء كملوك مدين وكان كلمن ملكهم يوم نزول العذاب بهم زمان شعيب عليه السلام فلما هلك قالت ابنته تبكيه : كلمن قد هدّ ركني
هلكه وسط المحله
سيّد القوم أتاه
حتف نار وسط ظله
جُعلت نار عليهم
دارهم كالمضمحله
الأعراف : ( 92 ) الذين كذبوا شعيبا . . . . .
( الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ( أي كأن لم يقيموا ناعمي البال رخيي العيش في دارهم وفيها قوة الإخبار عن هلاكهم وحلول المكروه بهم والتنبيه على الاعتبار بهم كقوله تعالى : ) فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالاْمْسِ ( وكقول الشاعر : كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وقال ابن عطية : وغنيت بالمكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش رخي هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة وأنشد على ذلك عدّة أبيان ثم قال وأما قول الشاعر : غنينا زماناً بالتصعلك والغنى
فكلاًّ سقانا بكاسيهما الدهر
فمعناه استغنينا ورضينا مع أنّ هذه اللفظه ليست مقترنة بمكان انتهى ، وقال ابن عباس : كأن لم يعمروا ، وقال قتادة : كأن لم ينعموا ، وقال الأخفش : كأن لم يعيشوا ، وقال أيضاً قتادة وابن زيد ومقاتل : كأن لم يكونوا ، وقال الزجاج : كأن لم ينزلوا ، وقال ابن قتيبة : كأن لم يقيموا و ) الَّذِينَ ( مبتدأ والجملة التشبيهية خبره ، قال الزمخشري : وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل ) الَّذِينَ كَذَبُواْ ( شعيباً المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في دارهم لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى انتهى ، وجوّز أبو البقاء أن يكون الخبر ) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا ( كانوا هم الخاسرين و ) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ ( حال من الضمير في ) كَذَّبُواْ (

" صفحة رقم 349 "
وجوّز أيضاً أن يكون الذين كذبوا صفة لقول الذين كفروا من قومه وأن يكون بدلاً منه وعلى هذين الوجهين يكون ) كَانَ ( حالاً انتهى ، وهذه أوجه متكلفة والظاهر أنها جمل مستقلة لا تعلق بما قبلها من جهة الإعراب . ) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ ( هذا أيضاً مبتدأ وخبره ، وقال الزمخشري : وفيه معنى الاختصاص أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون اتباعه فإنهم هم الرابحون وفي هذا الاستئناف لهذا الابتداء وهذا التكرير مبالغة في ردّ مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم انتهى ، وهاتان الجملتان منبئتان عن ما فعل الله بهم في مقالتهم قالوا ) لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ شُعَيْبٌ ( فجاء الإخبار بإخراجهم بالهلاك وأي إخراج أعظم من إخراجهم وقالوا : ) لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ( فحكم تعالى عليهم هم بالخسران وأجاز أبو البقاء في إعراب ) الَّذِينَ ( هنا أن يكون بدلاً من الضمير في ) يُغْنُواْ ( أو منصوباً بإضمار أعني والابتداء الذي ذكرناه أقوى وأجزل .
الأعراف : ( 93 ) فتولى عنهم وقال . . . . .
( فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ ( تقدّم تفسير نظيره في قصة صالح عليه السلام . ) فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ( أي فكيف أحزن على من لا يستحق أن يحزن عليه ونبّه على العلة التي لا تبعث على الحزن وهي الكفر إذ هو أعظم ما يعادى به المؤمن إذ هما نقضيان كما جاء لا تتراءى ناراً هما وكأنه وجد في نفسه رقّة عليهم حيث كان أمله فيهم أن يؤمنوا فلم يقدر فسرى ذلك عن نفسه باستحضار سبب التسلي عنهم والقسوة فذكر أشنع ما ارتكبوه معه من الوصف الذي هو الكفر بالله الباعث على تكذيب الرّسل وعلى المناوأة الشديدة حتى لا يساكنواه وتوعدوه بالإخراج وبأشد منه وهو عودهم إلى ملتهم ، قال مكي : وسار شعيب بمن تبعه إلى مكة فسكنوها وقرأ ابن وثاب وابن مصرّف والأعمش إيسي بكسر الهمزة وهي لغة تقدّم ذكرها في الفاتحة .
الأعراف : ( 94 ) وما أرسلنا في . . . . .
( وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ( لما ذكر تعالى ما حلّ بالأمم السالفة من بأسه وسطوته عليهم آخر أمرهم حين لا تجدي فيهم الموعظة ذكر تعالى أن تلك عادته في أتباع الأنبياء إذا أصرّوا على تكذيبهم وجاء بعد إلا فعل ماض وهو ) أَخَذْنَا ( ولا يليها فعل ماض إلا أن تقدم فعل أو أصحب بقد فمثال ما تقدّمه فعل هذه الآية ومثال ما أصحب قد قولك ما زيد إلا قد قام والجملة من قوله ) أَخَذْنَا ( حاليّة أي إلا آخذين أهلها وهو استثناء مفرّغ من الأحوال وتقدّم تفسير نظير قوله ) إِلا أَخَذْنَا ( إلى آخره .
الأعراف : ( 95 ) ثم بدلنا مكان . . . . .
( ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيّئَةِ الْحَسَنَةَ ( أي مكان الحال السيئة من البأساء والضراء الحال الحسنة من السّرّاء والنعمة ، قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة مكان الشدّة الرخاء ، وقيل مكان الشرّ الخير ومكان و ) الْحَسَنَةَ ( مفعولاً بدل و ) مَّكَانَ ( هو محل الباء أي بمكان السيئة وفي لفظ ) مَّكَانَ ( إشعار بتمكن البأساء منهم كأنه صار للشدة عندهم مكان وأعرب بعضهم ) مَّكَانَ ( ظرفاً أي في مكان ) حَتَّى عَفَواْ ( أي كثروا وتناسلوا ، وقال مجاهد : كثرت أموالهم وأولادهم ، وقال ابن بحر حتى أعرضوا من عفا عن ذنبه أي أعرض عنه ، وقال الحسن : سمنوا ، وقال قتادة سرّوا بكثرتهم وذلك استدراج منه لهم لأنه أخذهم بالشدة ليتعظوا ويزدجروتا فلم يفعلوا ثم أخذهم بالرخاء ليشكروا . ) وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء ( أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا هذه عادة الدّهر ضرّاء وسرّاء وقد أصاب آباءنا مثل ذلك لا بابتلاء وقصد بل ذلك بالاتفاق لا على ما تخبر الأنبياء جعلوا أسلافهم وما أصابهم مثلاً لهم ولما يصيبهم فلا ينبغي أن ننكر هذه العادة من أفعال الدهر . ) فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( تقدّم الكلام على مثل هذه الآية لما أفسدوا على التقديرين

" صفحة رقم 350 "
أخذوا هذا الأخذ .
الأعراف : ( 96 ) ولو أن أهل . . . . .
( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( أي لو كانوا ممن سبق في علم الله أنهم يتلبسون بالإيمان بما جاءت به الأنبياء وبالطاعات التي هي ثمرة الإيمان ليتيسر لهم من بركات السماء ولكن كانوا ممن سبق في علمه أنهم يكذّبون الأنبياء فيؤخذون باجترامهم وكل من الإيمان والتكذيب والثواب والعقاب سبق به القدر وأضيف الإيمان والتكذيب إلى العبد كسباً والموجد لهما هو الله تعالى لا يسأل عما يفعل ، وقال الزمخشري : اللام في القرى إشارة إلى ) الْقُرَى ( التي دلّ عليها قوله تعالى ) وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ ( كأنه قال ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا آمنوا بدل كفرهم واتقوا المعاصي مكان ارتكابها ) لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( لآتيناهم بالخير من كل وجه ، وقيل : أراد المطر والنبات ) وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ ( بسوء كسبهم ويجوز أن تكون اللام في ) الْقُرَى ( للجنس انتهى ، وفي قوله واتقوا المعاصي نزغة الاعتزال رتب تعالى على الإيمان والتقوى فتح البركات ورتب على التكذيب وحده وهو المقابل للإيمان الهلاك ولم يذكر مقابل التقوى لأنّ التكذيب لم ينفع معه الخير بخلاف الإيمان فإنه ينفع وإن لم يكن معه فعل الطاعات والظاهر أن قوله ) بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( لا يرتاد بها معين ولذلك جاءت نكرة ، وقيل : بركات السماء المطر وبركات الأرض الثمار ، وقال السدّي : المعنى لفتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق ، وقيل بركات السماء إجابة الدعاء ، وبركات الأرض تيسيرالحاجات ، وقيل : بركات السماء المطر وبركات الأرض المواشي والأنعام وحصول السلامة والأمن ، وقيل : البركات النمو والزيادات فمن السماء بجهة المطر والريح والشمس ومن الأرض بجهة النبات والحفظ لما نبت هذا الذي تدركه فطر البشر ولله خدام غير ذلك لا يحصى عددهم وما علم الله أكثر وذلك أنّ السماء تجري مجرى الأب والأرض مجرى الأم ومنهما تحصل جميع الخيرات يخلق الله وتدبيره والأخذ أخذ إهلاك بالذنوب ، وقرأ ابن عامر : وعيسى الثقفي وأبو عبد الرحمن ) لَفَتَحْنَا ( بتشديد التاء ومعنى الفتح هنا التيسير عليهم كما تيسر على الأبواب المستغلقة بفتحها ومنه فتحت على القارىء إذا يسرت عليه بتلقينك إياه ما تعذّر عليه حفظه من القرآن إذا أراد القراءة .
الأعراف : ( 97 ) أفأمن أهل القرى . . . . .
( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ ( الهمزة دخلت على أمن للاستفهام على جهة التوقيف والتوبيخ والإنكار والوعيد للكافرين المعاصرين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها ، وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما المعطوف عليه ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو ، ( قلت ) : المعطوف عليه قوله ) فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ( وقوله ) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى إِلَى يَكْسِبُونَ ( وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنما عطفت بالفاء لأنّ المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن ) أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً ( وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى انتهى . وهذا الذي ذكره الزمخشري من أن حرف العطف الذي بعد همزة الاستفهام وهو عاطف ما بعدها على ما قبل الهمزة من الجمل رجوع إلى مذهب الجماعة في ذلك وتخريج لهذه الآية على خلاف ما قرّر هو من مذهبه في غير آية أنه يقدر محذوف بين الهمزة وحرف العطف يصحّ بتقديره عطف ما بعد الحرف عليه وأنّ الهمزة وحرف العطف واقعان في موضعهما من غير اعتبار تقديم حرف العطف على

" صفحة رقم 351 "
الهمزة في التقدير وأنه قدّم الاستفهام اعتناء لأنه له صدر الكلام وقد تقدّم كلامنا معه على هذه المسألة وبأسنا عذابنا وبياتاً ليلاً وتقدم تفسيره أول السورة ، ونصبه على الظرف أي وقت مبيتهم أو الحال وذلك وقت الغفلة والنوم فمجيء العذاب في ذلك الوقت وهو وقت الراحة والاجتماع في غاية الصعوبة إذ أتى وقت المأمن ،
الأعراف : ( 98 ) أو أمن أهل . . . . .
( أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( أي في حال الغفلة والإعراض والاشتغال بما لا يجدي كأنهم يلعبون ) وضحى ( منصوب على الظرف أي صحوة ويقيد كل ظرف بما يناسبة من الحال فيقيد البيات بالنوم والضحى باللعب وجاء ) وَهُمْ نَائِمُونَ ( باسم الفاعل لأنها حالة ثبوت واستقرار للبائنين وجاء ) يَلْعَبُونَ ( بالمضارع لأنهم مشتغلون بأفعال متجدّدة شيئاً فشيئاً في ذلك الوقت ، وقرأ نافع والابنان ) أَوَ أَمِنَ ( بسكون الواو جعل أو عاطفة ومعناها التنويع لا أنّ معناها الإباحة أو التخيير خلافاً لمن ذهب إلى ذلك وحذف ورش همزة أمن ونقل حركتها إلى الواو الساكنة والباقون بهمزة الاستفهام بعدها واو العطف وتكرر لفظ ) أَهْلَ الْقُرَى ( لما في ذلك من التسميع والإبلاغ والتهديد والوعيد بالسامع ما لا يكون في الضمير لو جاء أو أمنوا فإنه متى قصد التفخيم والتعظيم والتهويل جيء بالاسم الظاهر .
الأعراف : ( 99 ) أفأمنوا مكر الله . . . . .
( أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ( جاء العطف بالفاء وإسناد الفعل إلى الضمير لأن الجملة المعطوفة تكرير لقوله ) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى ( ) أَوَ أَمِنَ ( وتأكيد لمضمون ذلك فناسب إعادة الجملة مصحوبة بالفاء ومكر مصدر أضيف إلى الفاعل وهو استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ، قال ابن عطية : ) وَمَكَرَ اللَّهُ ( هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول ناقة الله وبيت الله والمراد فعل معاقب به مكر الكفرة وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمى العقوبة على أي جهة كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة وهذا نص في قوله ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( انتهى ، وقال عطية العوفي : ) مَكْرَ اللَّهِ ( عذابه وجزاؤه على مكرهم ، وقيل مكره استدراجه بالنعمة والصحة وأخذه على غرّة وكرّر المكر مضافاً إلى الله تحقيقاً لوقوع جزاء المكر بهم .
الأعراف : ( 100 ) أولم يهد للذين . . . . .
( أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ( قال ابن عباس ' ومجاهد ' و ' ابن زيد ' يهد يبين . وهذا كقوله ) وأما ثمود فهدبناهم ( أي : بينا لهم طريق الهدى والفاعل بيهد يحتمل أحدها ، أن يعود على الله ويؤيده قراءة نحو من قرأ نهد بالنون . والثاني أن يكون ضميرا عائدا على ما يفهم من سياق الكلام السابق : أي أو لم يهد ما جرى للأمم السالفة أهل القرى وغيرهم ' وعلى هذين الوجهين : يكون أن لو نشاء وما بعده في موضع المفعول بيهد أي لم يبين الله ، أو ما سبق من قصص القرى وما آل أمرهم للوارثين إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك . أي : علمهم بإصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم ، والمعنى

" صفحة رقم 352 "
) أَصَبْنَاهُمْ ( ولم يأتِ باللام وإن كان الفعل مثتباً إذ حذفها جائز فيصحّ كقوله ) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ( والأكثر الإتيان باللام كقوله ) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ( ) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ( والذين يرثون الأرض أي يحلفون فيها من بعد هلاك أهلها وظاهره التسميع لمن كان في عصر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من مشركي قريش وغيرهم ، وقال ابن عباس يريد أهل مكة ، ( وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( الظاهر أنها جملة مستأنفة أي ونحن ) نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( والمعنى أنّ من أوضح الله له سبل الهدى وذكر له أمثالاً ممن أهلكه الله تعالى بذنوبهم وهو مع ذلك دائم على غيّه لا يرعوي يطبع الله على قلبه فينبو سمعه عن سماع الحق ، وقال ابن الأنباري يجوز أن يكون معطوفاً على أصبنا إذا كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستعمال كما قال تعالى ) تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذالِكَ ( أي إن يشأ يدل عليه قوله ) وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ( انتهى فجعل ) لَوْ ( شرطية بمعنى أن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره ولذلك جعل أصبنا بمعنى نصيب ومثال وقوع لو موقع أن قول الشاعر : لا يلفك الراجيك إلاّ مظهرا
خلق الكرام ولو تكون عديما
وهذا الذي قاله ابن الأنباري ردّه الزمخشري من جهة المعنى لكن بتقدير أن يكون ) وَنَطْبَعُ ( بمعنى طبعنا فيكون قد عطف المضارع على الماضي الذي هو جواب ) لَّوْ نَشَاء ( فجعله بمعنى نصيب فتأوّل المعطوف عليه وهو الجواب وردّه إلى المستقبل والزمخشري تأوّل المعطوف وردّه إلى المضي وأنتج ردّ الزمخشري أنّ كلا التقديرين لا يصحّ ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هل يجوز أن يكون ) وَنَطْبَعُ ( بمعنى طبعنا كما كان لو نشاء بمعنى لو شئنا ويعطف على ) أَصَبْنَاهُمْ ( ، ( قلت ) : لا يساعد هذا المعنى لأنّ القوم كان مطبوعاً على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وهذا التفسير يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لاتصفوا بها انتهى هذا الردّ ظاهره الصحة وملخصة أنّ المعطوف على الجواب جواب سواء تأوّلنا المعطوف عليه أم المعطوف وجواب لو لم يقع بعد سواء كانت حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى إن الشرطية والإصابة لم تقع والطبع على القلوب واقع فلا تصحّ أن يعطف على الجواب فإن تأوّل ) وَنَطْبَعُ ( على معنى ونستمر على الطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأنّ الاتسقرار لم يقع بعد وإن كان الطبع قد وقع ، وقال أبو عبد الله الرازي : تقرير صاحب الكشاف على أقوى الوجوه هو ضعيف لأنّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لم يكن منافياً لصحة العطف وكان قد قرّر أن المعنى أو لم يبين للذين نبقيهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها أن تهلكهم بعدهم وهو معنى قوله ) أَن لَّوْ نَشَاء ( أصبناهم أي بعقاب ذنوبهم ) وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( أي لم نهلكهم بالعذاب ) نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( أي لا يقبلون ولا يتّعظون ولا ينزجرون وإنما قلنا إن المراد إما الإهلاك وإما الطّبع على القلب لأن

" صفحة رقم 353 "
الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإنه إذا أهلكه يستحيل أن يطبع على قلبه انتهى ، والعطف في ) وَنَطْبَعُ ( بالواو بمنع ما ذكره لأن جعل المعنى على أنه إما الإهلاك وإما الطبع وظاهر العطف بالواو وينبو عن الدلالة على هذا المعنى فإن جعلت الواو بمعنى أو أمكن ذلك وكذلك ينبو عن قوله إن لم نهلكهم بالعذاب ونطبع على قلوبهم العطف بالواو وأورد أبو عبد الله الرازي من أقوال المفسّرين ما يدلّ على أنّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لا ينافي صحة العطف فقال أبو علي ويعني به والله أعلم الجبائي الطّبع سمة في القلب من نكتة سوداء إن صاحبها لا يفلح وقال الأصم : أي يلزمهم ما هم عليه فلا يتوبون إلا عند المعاينة فلا تقبل توبتهم ، وقال أبو مسلم : الطبع الخذلان إنه يخذل الكافر فيرى الآية فلا يؤمن بها ويختار ما اعتاد وألف وهذه الأقوال لا يمكن معها العطف إلا على تأويل أن تكون الواو بمعنى أو وأجاز الزمخشري في عطف ) وَنَطْبَعُ ( وجهين آخرين أحدهما ضعيف والآخر خطأ ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم يتعلق قوله تعالى ) وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( ، ( قلت ) : فيه أوجه أو يكون معطوفاً على ما دلّ عليه معنى أو ) لَّمْ يَهْدِنِى لَهُمْ ( كأنه قيل يغفلون عن الهداية ) وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( أو على ) يَرِثُونَ الارْضَ ( انتهى فقوله أنه معطوف على مقدر وهو يغفلون عن الهداية ضعيف لأنه إضمار لا يحتاج إليه إذ قد صحّ أن يكون على الاستئناف من باب العطف في الجمل فهو معطوف على مجموع الجملة المصدرة بأداة الاستفهام وقد قاله الزمخشري وغيره ، وقوله أنه معطوف علي ) يَرِثُونَ ( خطأ لأنه إذا كان معطوفاً على يرثون كان صلة للذين لأنّ المعطوف على الصلة صلة ويكون قد فصل بين أبعاض الصلة بأجنبي من الصلة وهو قوله ) أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُمْ ( بذنوبهم سواء قدرنا ) أَن لَّوْ نَشَاء ( في موضع الفاعل ليهدأوا في موضع المفعول فهو معمول ليهد لا تعلق له بشيء من صلة ) الَّذِينَ ( وهو لا يجوز ومعنى قوله ) أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ( بعقاب ذنوبهم أو يضمن ) أَصَبْنَاهُمْ ( معنى أهلكناهم فهو من مجاز الإضمار أو التضمين ونفي السماع والمعنى نفي القبول والاتعاظ المترتب على وجود السماع جعل انتفاء فائدته انتفاء له .
الأعراف : ( 101 ) تلك القرى نقص . . . . .
( تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ( الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) والقرى ( هي بلاد قوم نوح وهود وصالح وشعيب بلا خلاف بين المفسرين وجاءت الإشارة بتلك إشارة إلى بعد هلاكها وتقادمه وحصل الرّبط بين هذه وبين قوله و ) لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ( ) وَنَقْصٍ ( يحتمل إبقاؤه على حاله من الاستقبال والمعنى قد قصصنا عليك ) مِنْ أَنبَائِهَا ( ونحن نقصّ عليك أيضاً منها مفرقاً في السّور ويجوز أن يكون عبر بالمضارع عن الماضي أي ) تِلْكَ الْقُرَى ( قصصنا والأنباء هنا إخبارهم مع أنبيائهم ومآل عصيانهم ، و ) تِلْكَ ( مبتدأ ) والقرى ( خبر ) وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ ( جملة حالية نحو قوله فتلك بيوتهم خاوية وفي الإخبار بالقرى معنى التعظيم لمهلكها ، كما قيل في قوله تعالى ) ذالِكَ الْكِتَابُ ( وفي قوله عليه السلام أولئك الملأ من قريش وكقول أمية ، تلك المكارم لا قعبان من لبن ، ولما كان الخبر مقيّداً بالحال أفاد كالتقييد بالصفة في قولك هو الرجل الكريم وأجازوا أن يكون ) نَقُصُّ ( خبراً بعد خبر وأن يكون خبراً ) والقرى ( صفة ومعنى ) صَلَحَ مِنْ ( التبعيض فدلّ على أنّ لها أنباء أخر لم تقصّ عليه وإنما قصّ ما فيه عظة وازدجار وادكار بما جرى على من خالف الرّسل ليتّعظ بذلك السامع من هذه الأمة .
( وَلَقَد

" صفحة رقم 354 "
ْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ ( قال أبي بن كعب ليؤمنوا اليوم بما كذبوا من قبل يوم الميثاق ، وقال ابن عباس ما كانوا ليخالفوا علم الله فيهم ، وقال يمان بن رئاب بما كذبوا أسلافهم من الأمم الخالية لقوله ) مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( فالفعل في ) لِيُؤْمِنُواْ ( لقوم وفي ) بِمَا كَذَّبُواْ ( لقوم آخرين . وقيل ) جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم ( بالمعجزات التي اقترحوها ) فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ( بعد المعجزات ) بِمَا كَذَّبُواْ ( به قبلها كما قال قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ، وقال الكرماني : ) مِن قَبْلُ ( يعود على الرسل تقديره من قبل مجيء الرسل لم يسلب عنهم اسم الكفر والتكذيب بل بقوا كافرين مكذبين كما كانوا قبل الرسل ، قال الزمخشري : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات الله قبل مجيء الرسل أو مما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولاً حتى جاءتهم الرسل أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن باتوا مصرّين لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرار المواعظ عليهم وتتابع الآيات وقال ابن عطية : يحتمل أربعة وجوه من التأويل ، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذّبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصّرامة عليه ويؤيد هذا التأويل قوله كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا من قبل فكان تكذيبهم سبباً لأن يمنعوا الإيمان بعد ، والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر بل كفر كلهم ومشى بعضهم على سنن بعض في الكفر أشار إلى هذا القول النقاش ، فكان الضمير في قوله ) كَانُواْ ( يختص بالآخرين والضمير في قوله ) كَذَّبُواْ ( يختص بالقدماء منهم ، والثالث من الوجوه يحتمل أن يريد فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم لو ردّوا إلى الدنيا ومكنوا من العودة ليؤمنوا بما قد كذبوا به في حال حياتهم ودعا الرسول لهم قاله مجاهد وقرّبه بقوله تعالى ) وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( وهذه أيضاً صفة بليغة في اللحاج والثبوت على الكفر بل هي غاية في ذلك ، والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى بأنهم مكذبون به فحمل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لا سيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرّسل وذكر هذا القول المفسرون وقربوه بأن الله تعالى حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق وهو قول أبي بن كعب انتهى كلام ابن عطية : والذي يظهر أنّ الضمير في كانوا وفي ليؤمنوا عائد على أهل القرى وأن الباء في بما ليست سببية فالمعنى أنهم انتفت عنهم قابلية الإيمان وقت مجيء الرسل بالمعجزات بما كذبوا به قبل مجيء الرسل بالمعجزات بل حالهم واحد قبل ظهور المعجزات وبعد ظهورها لم تجد عنهم شيئاً وفي الإتيان بلام الجحود في ليؤمنوا مبالغة في نفي القابلية والوقوع وهو أبلغ من تسلّط النفي على الفعل بغير لام وما في بما كذبوا موصولة والعائد منصوب محذوف أي بما كذبوه وجوّز أن تكون مصدرية ، قال الكرماني : وجاء هنا بما كذبوا فحذف متعلق التكذيب لما حذف المتعلق في ولو أنّ أهل القرى آمنوا وقوله ولكن كذبوا وفي يونس أبرزه فقال بما كذبوا به من قبل لما كان قد أبرز في فكذبوه فنجيناه ثم كذّبوا بآياتنا فوافق الختم في كل منهما بما يناسب ما قبله انتهى ، ملخصاً .
( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ( أي مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى حين انتفت عنهم قابلية الإيمان وتساوي أمرهم في الكفر قبل المعجزات وبعدها يطبع الله على قلوب الكافرين ممن أتى بعدهم ، قال الكرماني تقدم ذكر الله بالصريح وبالكناية فجمع بينهما فقال ) وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( وختم بالصريح فقال ) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ ( ، وفي يونس بني على ما قبله بنون العظمة في قوله ) فَنَجَّيْنَاهُ وَجَعَلْنَاهُمْ ثُمَّ بَعَثْنَا ( فناسب لطبع

" صفحة رقم 355 "
بالنون .
الأعراف : ( 102 ) وما وجدنا لأكثرهم . . . . .
( وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ ( أي لأكثر الناس أو أهل القرى أو الأمم الماضية احتمالات ثلاثة قاله التبريزي والعهد هنا هو الذي عوهدوا عليه في صلب آدم قاله أبيّ وابن عباس أو الإيمان قاله ابن مسعود ويدلّ عليه الأمن اتخذ عند الله عهداً وهو لا إله إلا الله فالمعنى من إيفاء أو التزام عهد ، وقيل العهد هو وضع الأدلة على صحة التوحيد والنبوة إذ ذلك عهد في رقاب العقلاء كالعقود فعبر عن صرف عقولهم إلى النظر في ذلك بانتفاء وجدان العهد و ) مِنْ ( في ) مَّنْ عَاهَدَ ( زائدة تدلّ على الاستغراق لجنس العهد . ) وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ( إنْ هنا هي المخففة من الثقيلة ووجد بمعنى علم ومفعول ) وَجَدْنَا ( الأولى ) لاِكْثَرِهِم ( ومفعول الثانية ) لَفَاسِقِينَ ( واللام للفرق بين إن المخففة من الثقيلة وإن النافية وتقدّم الكلام على ذلك في قوله ) وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ( ودعوى بعض الكوفيين أنّ إن في نحو هذا التركيب هي النافية واللام بمعنى إلا ، وقال الزمخشري : وإنّ الشأن والحديث وجدنا انتهى ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير وكان الزمخشري يزعم أنّ إن إذا خففت كان محذوفاً منها الاسم وهو الشأن والحديث إبقاءً لها على الاختصاص بالدخول على الأسماء وقد تقدّ لنا تقدير نظير ذلك ورددنا عليه .
الأعراف : ( 103 ) ثم بعثنا من . . . . .
( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِئَايَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( لما قصّ الله تعالى على نبيه أخبار نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما آل إليه أمر قومهم وكان هؤلاء لم يبقَ منهم أحد أتبع بقصص موسى وفرعون وبني إسرائيل إذ كانت معجزاته من أعظم المعجزات وأمته من أكثر الأمم تكذيباً وتعنتاً واقتراحاً وجهلاً وكان قد بقي من اتباعه عالم وهم اليهود فقصّ الله علينا قصصهم لنعتبر ونتعظ وننزجر عن أن نتشبه بهم ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ بين موسى وشعيب عليهما السلام مصاهرة كما حكى الله في كتابه ونسب لكونهما من نسل إبراهيم ولما استفتح قصة نوح ) بأرسلنا ( بنون العظمة اتبع ذلك قصة موسى فقال : ) الْمُنْذَرِينَ ثُمَّ بَعَثْنَا ( والضمير في ) مّن بَعْدِهِمْ ( عائد على الرسل من قوله و ) لَقَدِ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ ( أو للأمم السابقة والآيات الحجج التي آتاه الله على قومه أو الآيات التسع أو التوراة أقوال وتعدية فظلموا بالباء إما على سبيل التضمين بمعنى كفروا بها ألا ترى إلى قوله ) إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( وإما أن تكون الباء سببية أي ظلموا أنفسهم بسببها أو الناس حيث صدوهم عن الإيمان أو الرسول فقالوا سحر وتمويه أقوال ، وقال الأصم : ظلموا تلك النعم التي آتاهم الله بأن استعانوا بها على معصية الله تعالى فانظرو أيها السامع ما آل إليه أمر المفسدين الظالمين جعلهم مثالاً توعد به كفرة عصر الرسول عليه السلام .
الأعراف : ( 104 - 105 ) وقال موسى يا . . . . .
( وَقَالَ مُوسَى يافِرْعَوْنُ فِرْعَونُ إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْراءيلَ ( هذه محاورة من موسى عليه السلام لفرعون وخطاب له بأحسن ما يدعى به وأحبّها إليه إذ كان من ملك مصر يقال له فرعون كنمرود في يونان ، وقيصر في الروم ، وكسرى في فارس ، والنجاشي في الحبشة وعلى هذا لا يكون فرعون وأمثاله علماً شخصيّاً بل يكون علم جنس كأسامة وثعالة ولما كان فرعون قد ادعى الرّبوبية فاتحه موسى بقوله : ) إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ ( لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطل لا محق ولما كان قوله ) حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ ( أردفها بما يدلّ على صحتها وهو قوله ) قَدْ جِئْتُكُم ( ولما قرر رسالته فرع عليها تبليغ الحكم وهو قوله ) فَأَرْسِلْ ( ولم ينازعه فرعون في هذه السورة في شيء مما ذكره موسى إلا أنه طلب المعجزة ودلّ

" صفحة رقم 356 "
ذلك على موافقته لموسى وأنّ الرسالة ممكنة لإمكان المعجزة إذ لم يدفع إمكانها بل قال : ) قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ ( ويأتي الكلام على هذا الطلب من فرعون للمعجزة ، وقرأ نافع ) عَلَىَّ أَنْ لا أَقُولَ ( بتشديد الياء جعل ) عَلَى ( داخلة على ياء المتكلم ومعنى ) حَقِيقٌ ( جدير وخليق وارتفاعه على أنه صفة لرسول أو خبر بعد خبر و ) أَن لا أَقُولَ ( الأحسن فيه إن يكون فاعلاً بحقيق كأنه قيل يحقّ على كذا ويجب ويجوز أن يكون ) أَن لا أَقُولَ ( مبتدأ و ) حَقِيقٌ ( خبره ، وقال قوم : ثمّ الكلام عند قوله ) حَقِيقٌ ( و ) عَلَى أَن لا أَقُولَ ( مبتدأ وخبره ، وقرأ باقي السبعة على بجرها ) أَن لا أَقُولَ ( أي ) حَقِيقٌ ( على قول الحق ، فقال قوم : ضمن ) حَقِيقٌ ( معنى حريص ، وقال أبو الحسن والفرّاء والفارسي : على بمعنى الباء كما أنّ الباء بمعنى على في قوله و ) لا تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ ( أي على كل صراط فكأنه قيل : ) حَقِيقٌ ( بأن لا أقول كما تقول فلان حقيق بهذا الأمر وخليق به ويشهد لهذا التوجيه قراة أبيّ بأن لا أقول وضع مكان على الباء ، قال الأخفش : وليس ذلك بالمطرد لو قلت ذهبت على زيد تريد بزيد لم يجز ، وقال الزمخشري : وفي المشهورة إشكال ولا يخلو من وجوه ، أحدها : أن يكون مما يقلب من الكلام لا من الإلباس كقوله :
وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر
ومعناه وتشقى الضياطرة بالرماح انتهى ، هذا الوجه وأصحابنا يخصُّون القلب بالشعر ولا يجيزونه في فصيح الكلام فينبغي أن ينزه القراءة عنه ، وعلى هذا يصير معنى هذه القراءة معنى قراءة نافع ، قال الزمخشري : والثاني أن ما لزمك لزمته فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحقّ أي لازماً له ، قال الزمخشري : والثالث أن يضمن ) حَقِيقٌ ( معنى حريص تضمين هيجني معنى ذكرني في بيت الكتاب انتهى يعني بالكتاب كتاب سيبويه والبيت : إذا تغنى الحمام الورق هيجني
ولو تسليت عنها أم عمار
قال الزمخشري : والرابع وهو الأوجه وإلا دخل في نكت القرآن أن يغرق موسى عليه السلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روى أنّ عدوّ الله فرعون قال لما قال ) إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ ( كذبت فيقول أنا حقيق على قول الحقّ أي واجب على قول الحق أنْ أكون أنا قائلة والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به انتهى ولا يتّضح هذا الوجه إلا إن عنى أنه يكون ) عَلَى أَن لا أَقُولَ ( صفة كما تقول أنا على قول الحقّ أي طريقي وعادتي قول الحق ، وقال ابن مقسم ) حَقِيقٌ ( من نعت الرسول أي رسول حقيق من ربّ العالمين أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق وهذا معنى صحيح واضح وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق ) عَلَى (

" صفحة رقم 357 "
برسول ولم يخطر لهم تعليقه إلا بقوله ) حَقِيقٌ ( انتهى . وكلامه فيه تناقض في الظاهر لأنه قدّر أولاً العامل في ) عَلَى ( ) أَرْسَلْتَ ( ، وقال آخر : إنهم غفلوا عن تعليق ) عَلَى ( برسول فأما هذا الآخر فلا يجوز على مذهب البصريين لأنّ رسولاً قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز وأما التقدير الأوّل وهو إضمار أرسلت ويفسره لفظ رسول فهو تقدير سائغ وتناول كلام ابن مقسم أخيراً في قوله عن تعليق على برسول أي بما دلّ عليه رسول ، وقرأ عبد الله والأعمش حقيق أن لا أقول بإسقاط على فاحتمل أن يكون على إضمار على كقراءة من قرأ بها واحتمل أن يكون على إضمار الباء كقراءة أبيّ وعلى الاحتمالين يكون التعلّق بحقيق .
ولما ذكر أنه رسول من عند الله وأنه لا يقول على الله إلا الحق أخذ يذكر المعجزة والخارق الذي يدلّ على صدق رسالته والخطاب في ) جِئْتُكُم ( لفرعون وملائه الحاضرين معه ومعنى ) بَيّنَةً ( بآية بينة واضحة الدلالة على ما أذكره والبينة قيل : التسع الآيات المذكورة في قوله ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء ( ، قال بعض العلماء وسياق الآية يقتضي أن البينة هي العصا واليد البيضاء بدليل ما بعده من قوله ) فَأَلْقَى عَصَاهُ ( ، وقال ابن عباس والأكثرون هي العصا وفي قوله ) مّن رَّبّكُمْ ( تعريض أن فرعون ليس ربّاً لهم بل ربهم هو الذي جاء موسى بالبينة من عنده ) فَأَرْسِلْ ( أي فخل والإرسال ضد الإمساك ) مَعِىَ بَنِى إِسْراءيلَ ( أي حتى يذهبوا إلى أوطانهم ومولد آبائهم الأرض المقدسة وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرض الأسباط غلب فرعون على نسلهم واستعبدهم في الأعمال الشاقة وكانوا يؤدّون إليه الجزاء فاستنقذهم الله بموسى عليه السلام وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخل فيه موسى أربعمائة عام والظاهر أن موسى لم يطلب من فرعون في هذه الآية إلا إرسال بني إسرائيل معه وفي غير هذه الآية دعاؤه إياه إلى الإقرار بربوبية الله تعالى وتوحيده قال تعالى ) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى ( وكل نبي داع إلى توحيد الله تعالى ، وقال تعالى حكاية عن فرعون ) أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ( فهذا ونظائره دليل على أنه طلب منه الإيمان خلافاً لمن قال إنّ موسى لم يدعه إلى الإيمان ولا إلى التزام شرعه وليس بنو إسرائيل من قوم فرعون والقبط ألا ترى أن بقية القبط وهم الأكثر لم يرجع إليهم موسى .
الأعراف : ( 106 ) قال إن كنت . . . . .
( قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( لما عرض موسى عليه السلام رسالته على فرعون وذكر الدليل على صدقه وهو مجيئه بالبينة والخارق المعجز استدعى فرعون منه خرق العادة الدالّ على الصدق وهذا الاستدعاء يحتمل أن يكون على سبيل الاختبار وتحويزه ذلك ويحتمل أن يكون على سبيل التعجيز لما تقرّر في ذهن فرعون أن موسى لا يقدر على الإتيان ببينة والمعنى إن كنت جئت بآية من ربك فاحضرها عندي لتصحّ دعواك ويثبت صدقك .
الأعراف : ( 107 ) فألقى عصاه فإذا . . . . .
( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ( بدأ بالعصا دون سائر المعجزات لأنها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة قالوا منها أنه ضرب بها باب فرعون ففزع من قرعها فشاب رأسه فخضب بالسواد فهو أول من خضب بالسواد وانقلابها ثعباناً وانقلاب خشبة لحماً ودماً قائماً به الحياة من أعظم الإعجاز ويحصل من انقلابها ثعباناً من التهويل ما لا يحصل في غيره وضربه بها الحجر فينفجر عيوناً وضربه بها فتنبت قاله ابن عباس ومحاربته بها اللصوص والسباع القاصدة غنمه واشتعالها في الليل كاشتعال الشمعة وصيرورتها كالرشا لينزح بها الماء من البئر العميقة وتلقفها الحبال والعصيّ التي للسحرة وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم والإلقاء حقيقة هو في الاجرام ومجاز في المعاني نحو ألقى المسألة .
قال ابن عباس والسدّي : صارت العصا حية عظيمة شعراء فاغرة فاها ما بين لحييها ثمانون ذراعاً ، وقيل : أربعون ذكره مكي عن فرقد

" صفحة رقم 358 "
واضعة أحد لحييها بالأرض والآخر على سور القصر وذكروا من اضطراب فرعون وفزعه وهربه ووعده موسى بالإيمان إن عادت إلى حالها وكثرة من مات من قوم فرعون فزعاً أشياء لم تتعرّض إليها الآية ولا تثبت في حديث صحيح فالله أعلم بها ومعنى ) مُّبِينٌ ( ظاهر لا تخييل فيه بل هو ثعبان حقيقة ، قال ابن عطية ) وَإِذَا ( ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرّد من حيث كانت خبراً عن جثة والصحيح الذي عليه شيوخنا أنها ظرف مكان كما قاله المبرد وهو المنسوب إلى سيبويه وقوله من حيث كانت خبراً عن جثة ليست في هذا المكان خبراً عن جثة بل خبر هي قوله ) ثُعْبَانٌ ( ولو قلت ) فَإِذَا هِىَ ( لم يكن كلاماً وينبغي أن يحمل كلامه من حيث كانت خبراً عن جثة على مثل خرجت فإذا السبع على تأويل من جعلها ظرف مكان وما ذكره من أن الصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان هو مذهب الرّياشي ونسب أيضاً إلى سيبويه ومذهب الكوفيين أن إذا الفجائية حرف لا اسم .
الأعراف : ( 108 ) ونزع يده فإذا . . . . .
( وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ( أي جذب ) يَدَهُ ( قيل من جيبه وهو الظاهر لقوله ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ ( ، وقيل من كمّه و ) لِلنَّاظِرِينَ ( أي للنظار وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض لها للنظار إلا إذا كان بياضها عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس إليه كما يجتمع النظّار للعجائب ، قال مجاهد : ) بَيْضَاء ( كاللبن أو أشدّ بياضاً ، وروي أنها كانت تظهر منيرة شفافة كالشمس ثم يردّها فترجع إلى لون موسى وكان آدم عليه السلام شديد الأدمة ، وقال ابن عباس صارت نوراً ساطعاً يضيء له ما بين السماء والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخرّوا على وجوههم ، وقال الكلبي : بلغنا أن موسى عليه السلام قال يا فرعون ما هذه بيدي قال : هي عصا فألقاها موسى فإذا هي ثعبان ، وروي أن فرعون رأى يد موسى فقال لفرعون ما هذه فقال : يدك ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعها شعاع الشمس وما أعجب أمر هذين الخارقين أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء ، والأخر في غير نفسه وهي العصا وجمع بذينك تبدّل الذرات وتبدل الاعراض فكانا دالين على جواز الأمرين وإنهما كلاهما ممكن الوقوع ، قال أبو محمد بن عطية : هاتان الآيتان عرضهما موسى عليه السلام للمعارضة ودعا إلى الله بهما وخرق العادة بهما وتحدّى الناس إلى الدين بهما فإذا جعلنا التحدّي الدّعاء إلى الدين مطلقاً فبهما تحدى وإذا جعلنا التحدّي الدعاء بعد العجز عن معارضة المعجزة وظهور ذلك فتنفرد حينئذ العصا بذلك لأنّ المعارضة والمعجز فيها وقعا ويقال : التحدّي هو الدعاء ألى الإتيان بمثل المعجزة فهذه نحو ثالث وعليه يكون تحدّي موسى بالآيتين جميعاً لأنّ الظاهر من أمره أنه عرضهما معاً وإن كان لم ينص على الدعاء إلى الإتيان بمثلهما انتهى ، وهو كلام فيه تثبيج .
الأعراف : ( 109 ) قال الملأ من . . . . .
( قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ). وفي الشعراء ) قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( والجمع بينهما أن فرعون وهم قالوا هذا الكلام فحكى هنا قولهم وهناك قوله أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ فقالوه لأعقابهم أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ كما تفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصّة ثم تبلغه الخاصة العامة والدليل عليه أ نهم أجابوه في قوله ) أَرْجِهْ ( وكان السحر إذ ذاك في أعلى المراتب فلما رأوا انقلاب العصا ثعباناً والأدماء بيضاء وأنكروا النبوة ودافعوه عنها قصدوا ذمه بوصفه بالسحر وحطّ قدره إذ لم يمكنهم في ظهور ما ظهر على يده نسبة شيء إليه غير السحر وبالغوا في وصفه بأن قالوا : ) عَلِيمٌ ( أي بالغ الغاية في علم السّحر وخدعه وخيالاته وفنونه وأكثر استعمال لفظ هذا إذا كان من كلام الكفار في التنقص والاستغراب كما قال ) أَهَاذَا الَّذِى يَذْكُرُ الِهَتَكُمْ ( ، ( أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ( ، إنْ هذا إلا أساطير الأولين ) مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( ) إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ ( ) إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ( يعدلون عن لفظ اسم ذلك الشيء إلى لفظ الإشارة وأكدّوا نسبة السحر إليه بدخول إن واللام .
الأعراف : ( 110 ) يريد أن يخرجكم . . . . .
( يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( استشعرت نفوسهم ما صار إليه أمرهم

" صفحة رقم 359 "
من إخراجهم من أرضهم وخلوّ مواطنهم منهم وخراب بيوتهم فبادروا إلى الإخبار بذلك وكان الأمر كما استشعروا إذ غرّق الله فرعون وآله وأخلى منازلهم منهم ونبّهوا على هذا الوصف الصعب الذي هو معادل لفتل الأنفس كما قال ) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ ( وأراد به إحراجهم إما بكونه يحكم فيكم بإرسال خدمكم وعمار أرضكم معه حيث يسير فيفضي ذلك إلى خراب دياركم وأما بكونهم خافوا منه أن يقاتلهم بمن يجتمع إليه من بني إسرائيل ويغلب على ملكهم قال النقاش كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجاً كالجزية فرأوا أنّ ملكهم يذهب بزوال ذلك وجاء في سورة الشعراء ) بِسِحْرِهِ ( وهنا حذفت لأنّ الآية الأولى هنا بنيت على الاختصار فناسبت الحذف ولأن لفظ ساحر يدل على السحر و ) فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( من قول فرعون أو من قول الملأ إمّا لفرعون وأصحابه وإما له وحده كما يخاطب أفراد العظماء بلفظ الجمع وهو من الأمر ، وقال ابن عباس : معناه تشيرون به ، قال الزمخشري : من أمرته فأمرني بكذا أي شاورته فأشار عليك برأي ، وقرأ الجمهور ) تَأْمُرُونَ ( بفتح النون هنا وفي الشعراء وروى كردم عن نافع بكسر النون فيهما وماذا يحتمل أن تكون كلها استفهاماً وتكون مفعولاً ثانياً لتأمرون على سبيل التوسّع فيه بأن حذف منه حرف الجر كما قال أمرتك الخير ويكون المفعول الأول محذوفاً لفهم المعنى أي أيّ شيء تأمرونني وأصله بأي شيء ويجوز أن تكون ما استفهاماً مبتدأ وذا بمعنى الذي خبر عنه و ) تَأْمُرُونَ ( صلة ذا ويكون قد حذف منه مفعولي ) تَأْمُرُونَ ( الأوّل وهو ضمير المتكلم والثاني وهو الضمير العائد على الموصول والتقدير فأي شيء الذي تأمروننيه أي تأمرنني به وكلا الإعرابين في ماذا جائز في قراءة من كسر النون إلا أنه حذف ياء المتكلم وأبقى الكسرة دلالة عليها وقدر ابن عطية الضمير العائد على ذا إذا كانت موصولة مقرونة بحرف الجر فقال وفي ) تَأْمُرُونَ ( ضمير عائد على ) الَّذِى ( تقديره تأمرون به انتهى ، وهذا ليس بجيّد لفوات شرط جواز حذف الضمير إذا كان مجروراً بحرف الجر وذلك الشرط هو أن لا يكون الضمير في موضع رفع وأن يجرّ ذلك الحرف الموصول أو الموصوف به أو المضاف إليه ويتحد المتعلق به الحرفان لفظاً ومعنى ويتّحد معنى الحرف أيضاً لابن عطية أنه قدره على الأصل ثم اتسع فيه فتعدى إليه الفعل بغير واسطة الحروف ثم حذف بعد الاتساع .
الأعراف : ( 111 - 112 ) قالوا أرجه وأخاه . . . . .
( قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ( أي قال من حضر مناظرة موسى من عقلاء ملأ فرعون وأشرافه قيل : ولم يكن يجالس فرعون ولد غية وإنما كانوا أشرافاً ولذلك أشاروا عليه بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا : إنْ قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن أغلبه بالحجة وقرىء بالهمز وبغير همز فقيل هما بمعنى واحد ، وقيل المعنى احبسه ، وقيل ) أَرْجِهْ ( بغير همز أطمعه جعله من رجوت أدخل عليه همزة الفعل أي أطمعه ) وَأَخَاهُ ( ولا تقتلهما حتى يظهر كذبهما فإنك إن قتلتهما ظنّ أنهما صدقا ولم يجر لهارون ذكر في صدر القصة وقد تبيَّن من غير آبة أنهما ذهبا معاً وأرسلا إلى فرعون ولما كان موافقاً له في دعواه ومؤازراً أشاروا بإرجائهما ، وقرأ ابن كثير وهشام أرجئهو بالهمز وضم الهاء ووصلها بواو ، وأبو عمرو كذلك إلا أنه لم يصل ، وروي هذا عن هشام وعن يحيى عن أبي بكر ، وقرأ ورش والكسائي أرجهي بغير همز وبكسر الهاء ووصلها بياء ، وقرأ عاصم وحمزة بغير همز وسكنا الهاء وقرأ قالون بغير همز ومختلس كسرة الهاء ، وقرأ ابن ذكوان في رواية كقراءة ورش والكسائي وفي المشهور عنه أرجئه بالهمز وكسر الهاء من غير صلة ، وقد قيل عنه أنه يصلها بياء ، قال ابن عطية وقرأ ابن عامر أرجئه بكسر الهاء بهمزة قبلها ، قال الفارسي : وهذا غلط انتهى ، ونسبة ابن عطية هذه القراءة لابن عامر ليس بجيّد لأن الذي روى ذلك إنما هو ابن ذكوان لا هشام فكان ينبغي أن يقيد فيقول وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وقال بعضهم : قال أبو علي ضمّ الهاء مع الهمز لا يجوز غيره قال : ورواية ابن ذكوان عن ابن عامر غلط وقال ابن مجاهد بعده وهذا لا يجوز لأنّ الهاء لا تكسر إلا إذا وقع قبلها كسرة أو ياء ساكنة ، وقال الحوفي : ومن القراء من يكسر مع الهمز وليس بجيد ، وقال أبو البقاء : ويقرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف لأنّ

" صفحة رقم 360 "
الهمز حرف صحيح ساكن فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر ، ووجهه أنه أتبع الهاء كسرة الجيم والحاجز غير حصين ويخرج أيضاً على توهّم إبدال الهمز ياء أو على أن الهمز لما كان كثيراً ما يبدل بحرف العلة أجري مجرى حرف العلة في كسر ما بعده وما ذهب إليه الفارسي وغيره من غلط هذه القراءة ، وأنها لا تجوز قول فاسد لأنها قراءة ثابتة متواترة روتها الأكابر عن الأئمة وتلقتها الأمة بالقبول ولها توجيه في العربية وليست الهمزة كغيرها من الحروف الصحيحة لأنها قابلة للتغيير بالإبدال والحرف بالنقل وغيره فلا وجه لإنكار هذه القراءة .
( وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ( ) الْمَدَائِنِ ( مدائن مصر وقراها والحاشرون ، قال ابن عباس هم أصحاب الشرط ، وقال محمد بن إسحاق لما رأى فرعون من آيات الله عز وجل ما رأى قال : لن نغالب موسى إلا بمن هو منه فاتخذ غلماناً من بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية . قال البغوي : ' هي الفرما يعلمونهم السحر كما يعلمون الصبيان في المكتب ، فعلموهم سحراً كثيراً ، وواعد فرعون موسى موعداً ، ثم دعاهم وسألهم ، فقال : ماذا صنعتم ؟ قالوا علمناهم من السحر ما لا يقاومهم به أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به ، وقرأ الأخوان ( بكل الأسحار ) هنا وفي يونس . والباقون ( ساحر ) وفي الشعراء أجمعوا على ( سحار ) . وتناسب ) سحار ( [ الشعراء : 37 ] ( عليم ) لكونهما من ألفاظ المبالغة . ولما كان قد تقدم ( إن هذا لساحر عليم ) ناسب هنا أن يقابل بقوله ( بكل ساحر عليم ) )
الأعراف : ( 113 ) وجاء السحرة فرعون . . . . .
وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ( في الكلام حذف يقتضيه المعنى . وتقديره : ' فأرسل حاشرين ، وجمعوا السحرة ، وأمرهم بالمجيء ' واضطرب الناقلون للأخبار في عددهم اضطراباً متناقضاً يعجب العاقل من تسطيره في الكتب . فمن قائل : ' تسعمائة ألف ساحر ' . وقائل : ' سبعين ساحراً ' فما بينهما من الأعداد المعينة المتناقضة . وجاء ( قالوا ) بغير حرف عطف . لأنه على تقدير جواب سائل سأل . ما قالوه ؟ إذ جاء ( قالوا إن لنا لأجراً ) أي : جعلاً ، وقال الحوفي : ( قالوا ) في موضع الحال من السحرة والعامل ( جاء ) . وقرأ الحرميان وحفص ( إن ) على وجه الخبر واشتراط الأجر وإيجابه على تقدير الغلبة ، ولا يريدون مطلق الأجر بل المعنى ' لأجراً عظيماً ' . ولهذا قال الزمخشري : ' والتنكير للتعظيم ، كقول العرب : ' إن له لإبلا ' و ' إن له لغنماً ' يقصدون الكثرة . وجوز أبو علي : أن تكون ( إن ) استفهاماً حذفت منه الهمزة . كقراءة الباقين الذين أثبتوها ، وهم : الأخوان و ' ابن عامر ' و ' أبو بكر ' و ' أبو عمرو ' فمنهم من حققهما ، ومنهم من سهل الثانية ، ومنهم من أدخل بينهما ألفاً ، والخلاف في كتب القراءات . وفي خطاب السحرة بذلك لفرعون دليل على استطالتهم عليه باحتياجه إليهم ، وبما يحصل للعالم بالشيء من الترفع على من يحتاج إليه وعلى من لا يعلم مثله علمه . و ( نحن ) إما تأكيد للضمير وإما فصل . وجواب الشرط محذوف ، وقال الحوفي . ' في جوابه ما تقدم )
الأعراف : ( 114 ) قال نعم وإنكم . . . . .
قال نعم وإنكم لمن المقربين ( أي : نعم : إن لكم لأجراً ( وإنكم ) فعطف هذه الجملة على الجملة المحذوفة بعد نعم التي هي نائبة عنها . والمعنى : ' لمن المقربين مني ' . أي : لا أقتصر لكم على الجعل والثواب على غلبة موسى بل أزيدكم أن تكونوا من المقربين ، فتحوزون إلى الأجر الكرامة ، والرفعة ، والجاه ، والمنزلة . والمثاب إنما يتهنى ويغتبط به إذا حاز على ذلك الإكرام . وفي مبادرة فرعون لهم بالوعد والتقريب منه دليل على شدة اضطراره لهم ، وأنهم كانوا عالمين بأنه عاجز . ولذلك احتاج إلى السحرة في دفع موسى - عليه السلام - )
الأعراف : ( 115 ) قالوا يا موسى . . . . .
قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ( قال الزمخشري : ' تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال ، والمتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع ' . انتهى . وقال القرطبي : ' تأدبوا مع موسى - عليه السلام - بقولهم ( إما أن تلقي ) فكان ذلك سبب إيمانهم ' . والذي يظهر أن تخييرهم إياه ليس من باب الأدب بل

" صفحة رقم 361 "
ذلك من باب الإدلال لما يعلمونه من السحر ، وإيهام الغلبة ، والثقة بأنفسهم ، وعدم الاكتراث والابتهال بأمر موسى . كما قال الفراء لسيبويه حين جمع الرشيد بين سيبويه والكسائي أتسأل فأجيب ؟ أم أبتدئ وتجيب ؟ فهذا جاء التخيير فيه على سبيل الإدلال بنفسه ، والملاءة بما عنده ، وعدم الاكتراث بمناظرته ، والوثوق بأنه هو الغالب . قال الزمخشري : ' وقولهم ( وإما أن نكون نحن الملقين ) فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل ، وتعريف الخبر ، وإقحام الفصل ' . انتهى . وأجازوا في ( أن تلقي ) وفي ( أن نكون ) النصب . أي : اختر وافعل إما إلقاءك ' وإما القاءنا ' . والمعنى فيه البداءة والدفع . أي : إما إلقاؤك مبدوء به ، وإما القاؤنا . فيكون مبتدأ . أو ' إما أمرك الإلقاء ' . أي : البداءة به ، أو ' إما أمرنا الإلقاء ' . فيكون خبر مبتدأ محذوف . ودخلت ( أن ) لنه لا يكون الفعل وحده مفعولاً ولا مبتدأ . بخلاف قوله ) وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ( [ التوبة : 106 ] فالفعل بعد إما هنا خبر ثان لقوله ( وآخرون ) أو صفة . فليس من مواضع ( أن ) ومفعول ( تلقى ) محذوف . أي : إما أن تلقي عصاك . وكذلك مفعول الملقين . أي : ' الملقين العصي والحبال ' . )
الأعراف : ( 116 ) قال ألقوا فلما . . . . .
قال ألقوا ( أعطاهم موسى - عليه السلام - التقدم وثوقاً بالحق ، وعلماً أنه تعالى يبطله ، كما حكى الله عنه ) قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله ( [ يونس : 81 ] ، قال الزمخشري : ' وقد سوغ لهم موسى - عليه السلام - ما تراغبوا فيه . ازدراء لشأنهم ، وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي ، وأن المعجزة لم يغلبها سحر أبداً ' . انتهى . والمعنى : ألقوا حبالكم وعصيكم . والظاهر : أنه أمر بالإلقاء ، وقيل : ' هو تهديد ' . أي : فسترون ما يحل بكم من الافتضاح . ) فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم ( أي : ' أروا العيون بالحيل والتخيلات ما لا حقيقة له ' . كما قال تعالى ) يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ( [ طه : 66 ] ، وفي قوله ( سحروا أعين الناس ) دلالة على أن السحر لا يقلب عيناً وإنما هو من باب التخيل ( واسترهبوهم ) أي : أرهبوهم . و ( استفعل ) هنا بمعنى ( أفعل ) ك ( أبل ) واستبل . و ( الرهبة ) الخوف والفزع . وقال الزمخشري : ( واسترهبوهم ) وأرهبوهم إرهاباً شديداً . كأنهم استدعوا رهبتهم ' . انتهى . وقال ابن عطية ' ( واسترهبوهم ) بمعنى وأرهبوهم ، فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس ' . انتهى . ولا يظهر ما قالا ، لأن الاستدعاء والطلب لا يلزم منه وقوع المستدعى والمطلوب . والظاهر هنا : حصول الرهبة ، فلذلك قلنا : إن ' استفعل ' فيه موافق ' أفعل ' وصرح أبو البقاء بأن معنى ( استرهبوهم ) طلبوا منهم الرهبة . ووصف السحر ( بعظيم ) لقوة ما خيل أو لكثرة آلاته من الحبال والعصي . روي أنهم جاؤوا بحبال من أدم ، وأخشاب مجوفة ، مملوءة زئبقاً ، وأوقدوا في الوادي ناراً ، فحميت بالنار من تحت ، وبالشمس من فوق ، فتحركت ، وركب بعضها بعضاً . وهذا من باب الشعبذة ، والدك . وروي غير هذا من حيلهم . وفي الكلام حذف تقديره : ' قالوا ألقوا : فألقوا ( فلما ألقوا ) والفاء عاطفة على هذا المحذوف . وقال ' الحوفي ' : ' الفاء جواب الأمر ' . انتهى ، وهو لا يعقل ما قال . ونقول : وصف ( بعظيم ) لما ظهر من تأثيره في الأعضاء الظاهرة التي هي الأعين بما لحقها من تخييل العصي والحبال حيات ، وفي الأعضاء الباطنة التي هي القلوب بما لحقها من الفزع والخوف ، ولما كانت الرهبة ناشئة عن رؤية الأعين وتأخرت الجملة الدالة عليها .
( وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون ، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ، وألقي السحرة ساجدين ، قالوا آمنا

" صفحة رقم 362 "
برب العالمين ، رب موسى وهارون ، قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون 2 ( ) لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُو ( صلى الله عليه وسلم ) إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَ أَنْ ءَامَنَّا بِأايَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَقَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاٌّ رْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُو ( صلى الله عليه وسلم ) إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُو ( صلى الله عليه وسلم ) اْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الاٌّ رْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا ( صلى الله عليه وسلم ) إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى ( صلى الله عليه وسلم ) إِسْرَاءِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاٌّ رْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى ( صلى الله عليه وسلم ) إِسْرءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ وَجَاوَزْنَا بِبَنِى ( صلى الله عليه وسلم ) إِسْرءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يامُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَاؤُلا ( صلى الله عليه وسلم ) ءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( )

" صفحة رقم 363 "
الأعراف : ( 117 ) وأوحينا إلى موسى . . . . .
لقف الشيء لقفاً ولقفاناً أخذه بسرعة فأكله أو ابتلعه ورجل ثقف لقف سريع الأخذ ولقيف ثقيف بين الثقافة واللقافة ولقم ولهم ولقف بمعنى ومنه التقفته وتلقفته تلقيفاً . مهما اسم خلافاً للسهيلي إذ زعم أنها قد تأتي حرفاً وهي أداة شرط وندر الاستفهام بها في قوله : مهما لي الليلة مهماليه
أودي بنعلي وسرباليه
وزعم بعضهم أنها إذا كانت اسم شرط قد تأتي ظرف زمان وفي بساطتها وتركيبها من ماما أو من مه ما خلاف ذكر في النحو وينبغي أن يحمل قول الشاعر : أما ويّ مه من يستمع في صديقه
أقاويل هذا الناس ما وي يندم
على أنه لا تركيب فيها بل مه بمعنى أكفف ومن هي اسم الشرط ، الجراد معروف واحده جرادة بالتاء للذكر والأنثى ويميز بينهما الوصف وذكر التصريفيون أنه مشتقّ من الجراد قالوا والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جداً . القمل قال أبو عبيدة : هو الحمنان واحده حمنانة وهو ضرب من القردان وستأتي أقوال المفسرين فيه . الضفدع هو الحيوان المعروف وتكسر داله وتفتح وهو مؤنث وشذّ جمعهم له بالألف والتاء قالوا : ضفدعات . النكث النقض . اليم البحر . قال ذو الرمة : داوية ودجى ليل كأنهما
يم تراطن في حافاته الروم
وتقدّمت هذه المادة في فتيمموا إلا أن ابن قتيبة قال : اليم البحر بالسّريانية . وقيل بالعبرانية . التدمير الإهلاك وإخراب البناء . التتبير الإهلاك ومنه التبر لتهالك الناس عليه . وقال ابن عطية والكرماني : التتبير الإهلاك وسوء العقبى وأصله الكسر ومنه تبر الذهب لأنه كساره .
( عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ). الظاهر أنه وحيُ إعلام كما روي أن جبريل عليه السلام أتاه وقال له أنّ الحق يأمرك أن تلقى عصاك وكونه وحي إعلام فيه تثبيت للجأش وتبشير بالنصر ، وقال قوم : هو وحي إلهام ألقى ذلك في روعه وأن يحتمل أن تكون المفسّرة وأن تكون الناصبة أي بأن ألق ، وفي الكلام حذف قبل الجملة الفجائية أي فألقاها ) فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ ( وتكون الجملة الفجائية إخباراً بما ترتب على الإلقاء ولا يكون موحى بها في الذكر ومن يذهب إلى أنّ الفاء في نحو خرجت فإذا الأسد زائدة يحتمل على قوله أن تكون هذه الجملة موحى بها في الذكر إلا أنه يقدر المحذوف بعدها أي فألقاها فلقفته ، وقرأ حفص ) تَلْقَفْ ( بسكون اللام من لقف ، وقرأ باقي السبعة ) تَلْقَفْ ( مضارع لقف حذفت إحدى تاءيه إذ الأصل تتلقف ، وقرأ البزي بإدغام المضارعة في التاء في الأصل ، وقرأ ابن جبير تلقم بالميم أي تبلع كاللقمة ) وَمَا ( موصولة أي ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه قالوا أو مصدرية أي تلقف إفكهم تسمية للمفعول بالمصدر . روي أن موسى عليه السلام لما كان

" صفحة رقم 364 "
يوم الجمع خرج متوكئاً على عصاه ويده في يد أخيه وقد صفّ له السحرة في عدد عظيم فلما ألقوا واسترهبوا أوحى الله إليه فألقى فإذا هي ثعبان عظيم حتى كان كالجبل ، وقيل : طال حتى جاز النيل ، وقيل : طال حتى جاز بذنبه بحر القلزم ، وقيل كان الجمع باسكندرية وطال حتى جاز مدينة البحيرة ، وروي أنهم جعلوا يرقون وحبالهم وعصيهم تعظم وعصا موسى تعظم حتى سدّت الأفق وابتلعت الكل ورجعت بعد عصا وأعدم الله العصيّ والحبال ومدّ موسى يده في الثعبان فعاد عصا كما كان فعلم السحرة حينئذ أن ذلك ليس من عند البشر فخروا سجّداً مؤمنين بالله ورسوله ، قال الزمخشري : أعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة وقالت السّحرة لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا .
الأعراف : ( 118 ) فوقع الحق وبطل . . . . .
( فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( قال ابن عباس والحسن ظهر واستبان ، وقال أرباب المعاني الوقوع ظهور الشيء بوجوده نازلاً إلى مستقره ، قال القاضي : فوقع الحقّ يفيد قوة الظهور والثبوت بحيث لا يصحّ فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير إلا واقعاً ومع ثبوت الحقّ بطلب وزالت تلك الأعيان التي أتوا بها وهي الحبال والعصي ، قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير فوقع في قلوبهم أي فأثر فيها من قولهم فاس وقيع أي مجرد انتهى ، و ) مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( يعم سحر السحرة وسعى فرعون وشيعته .
الأعراف : ( 119 ) فغلبوا هنالك وانقلبوا . . . . .
( فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ( أي غلب جميعهم في مكان اجتماعهم أو ذلك الوقت ) وَانقَلَبُواْ ( أذلاّء وذلك أنّ الانقلاب إن كان قبل إيمان السحرة فهم شركاؤهم في ضمير ) انقَلَبُواْ ( وإن كان بعد الإيمان فليسوا داخلين في الضمير ولا لحقّهم صغار يصفهم الله به لأنهم آمنوا واستشهدوا وهذا إذا كان الانقلاب حقيقة أما إذا لوحظ فيه معنى الصيرورة فالضمير في ) وَانقَلَبُواْ ( شامل للسحرة وغيرهم ولذلك فسّره الزمخشري بقوله وصاروا أذلاّء بهوتين .
الأعراف : ( 120 ) وألقي السحرة ساجدين
) وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ( لما كان الضمير قبل مشتركاً جرد المؤمنون وأفردوا بالذكر والمعنى خرُّوا سجداً كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم ، وقيل : لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا وسجودهم كان لله تعالى لما رأوا من قدرة الله تعالى فتيقنوا نبوّة موسى عليه السلام واستعظموا هذا النوع من قدرة الله تعالى ، وقيل : ألقاهم الله سجداً سبب لهم من الهدى ما وقعوا به ساجدين ، وقيل سجدوا موافقة لموسى وهارون فإنهم سجدا لله شكراً على وقوع الحقّ فوافقوهما إذ عرفوا الحقّ فكأنما ألقياهم ، قال قتادة : كانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة ، وقال الحسن : تراه ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا وهؤلاء كفار نشأوا في الكفر بذلوا أنفسهم لله تعالى .
الأعراف : ( 121 - 122 ) قالوا آمنا برب . . . . .
( قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ ( أي ساجدين قائلين فقالوا في موضع الحال من الضمير في ) سَاجِدِينَ ( أو من السحرة وعلى التقديرين فهم ملتبسون بالسجود لله شكراً على المعرفة والإيمان والقول المنبىء عن التصديق الذي محله القلوب ولما كان السجود أعظم القرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد بادروا به متلبسين بالقول الذي لا بد منه عند القادر عليه إذ الدخول في الإيمان إنما يدل عليه القول وقالوا رب العالمين وفاقاً لقول موسى إني رسول من ربّ العالمين ولما كان قد يوهم هذا اللفظ غير الله تعالى كقول فرعون أنا ربكم الأعلى نصّوا بالبدل على أنّ ربّ العالمين ) رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ ( وأنهم فارقوا فرعون وكفروا بربوبيته والظاهر أن قائل ذلك جميع السحرة ، وقيل : بل قاله رؤساؤهم وسمى ابن إسحاق منهم الرؤساء فقال هم سابور وعازور وخطخط ومصفى وحكاه ابن ماكولا أيضاً ، وقال مقاتل : أكبرهم شمعون وبدأوا بموسى قبل هارون وإن كان أكبر سناً من موسى قيل بثلاث سنين لأنّ موسى

" صفحة رقم 365 "
هو الذي ناظر فرعون وظهرت المعجزتان في يده وعصاه ولأن قوله ) وَهَارُونَ ( فاصلة وجاء في طه ) رَبّ هَارُونَ مُوسَى ( لأنّ موسى فيها فاصلة ويحتمل وقوع كل منهما مرتّباً من طائفة وطائفة فنسب فعل بعض إلى المجموع في سورة وبعض إلى المجموع في شورة أخرى ، قال المتكلمون : وفي الآية دلالة على فضيلة العلم العلم لأنهم لما كانوا كاملين في علم السحر علموا أنّ ما جاء به موسى حقّ خارج عن جنس السحر ولولا العلم لتوهّموا أنه سحر وأنه أسحر منهم .
الأعراف : ( 123 ) قال فرعون آمنتم . . . . .
( قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ ( قرأ حفص ) أَمِنتُمْ ( على الخبر في كل القرآن أي فعلتم هذا الفعل الشنيع وبّخهم بذلك وقرعهم ، وقرأ العربيان ونافع والبزي بهمزة استفهام ومدة بعدها مطولة في تقدير ألفين إلا ورشاً فإنه يسهل الثانية ولم يدخل أحد ألفاً بين المحققة والملينة وكذلك في طه والشعراء ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر فيهن بالاستفهام وحققا الهمزة وبعدها ألف وقرأ قنبل هنا بإبدال همزة الاستفهام واواً الضمة نون فرعون وتحقيق الهمزة بعدها أو تسهيلها أو إبدالها أو إسكانها أربعة أوجه وقرأ في طه مثل حفص وفي الشعراء مثل البزي هذا الاستفهام معناه الإنكار والاستبعاد والضمير في ) بِهِ ( عائد على الله تعالى لقولهم ) قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ ( ، وقيل يحتمل أن يعود على موسى وفي طه والشعراء يعود في قوله له على موسى لقوله ) إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ( ، وقيل آمنت به وآمنت له واحد في قوله ) قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ ( دليل على وهن أمره لأنه إنما جعل ذنبهم بمفارقة الإذن ولم يجعله نفس الإيمان إلا بشرط .
( إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا ( أي صنيعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء وتواطأتم على ذلك لغرض لكم وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوا بني إسرائيل قال هذا تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان روي عن ابن مسعود وابن عباس أن موسى عليه السلام اجتمع مع رئيس السحرة شمعون فقال له موسى أرأيت إن غلبتكم أتؤمنون بي فقال له نعم فعلم بذلك فرعون فقال ما قال انتهى ، ولما خاف فرعون أن يكون إيمان السحرة حجة قومه ألقى في الحال نوعين من الشبه أحدهما إنّ هذا تواطؤ منهم لا أنّ ما جاء به حق والثاني ) إِنَّ ذالِكَ ).
) لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( تهديد ووعيد ومفعول ) تَعْلَمُونَ ( محذوف أي ما يحلّ بكم أبهم في متعلق ) تَعْلَمُونَ ( ثم عين ما يفعل بهم فقال مقسماً :
الأعراف : ( 124 ) لأقطعن أيديكم وأرجلكم . . . . .
( لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ( لما ظهرت الحجة عاد إلى عادة ملوك السوء إذا غلبوا من تعذيب من ناوأهم وإن كان محقّاً ومعنى ) مّنْ خِلَافٍ ( أي يد يمنى ورجل يسرى والعكس ، قيل هو أول من فعل هذا ، وقيل المعنى من أجل الخلاف الذي ظهر منكم والصلب التعليق على الخشب وهذا التوعد الذي توعده فرعون السحرة ليس في القرآن نص على أنه أنفذه وأوقعه بهم ولكن روي في القصص أنه قطع بعضاً وصلب بعضاً وتقدم قول قتادة ، وروي عن ابن عباس أنهم أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء ، وقرأ مجاهد وحميد المكي وابن محيصن ) لاقَطّعَنَّ ( مضارع قطع الثلاثي ) لاَصَلّبَنَّكُمْ ( مضارع صلب الثلاثي بضم لام ) لاَصَلّبَنَّكُمْ ( وروي بكسرها وجاء هنا ) ثُمَّ ( وفي السورتين ) وَلاَصَلّبَنَّكُمْ ( بالواو فدل على أن الواو أريد بها معنى ثم من كون الصلب بعد القطع والتعدية قد يكون معها مهلة وقد لا يكون .
الأعراف : ( 125 ) قالوا إنا إلى . . . . .
( قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ ( هذا تسليم واتّكال على الله تعالى وثقه بما عنده والمعنى أنا نرجع إلى ثواب ربنا يوم الجزاء على ما نلقاه من الشدائد أو أنا ننقلب إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك أو أنا ميتون منقلبون إلى الله فلا نبالي بالموت إذ لا تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بدّ لنا منه فالانقلاب الأول يكون المراد به يوم الجزاء وهذان الانقلابان المراد بهما في الدنيا ويبعد أن يراد بقوله ) وَأَنَا ( ضمير أنفسهم وفرعون أي ننقلب إلى الله جميعاً فيحكم بيننا لقوله ) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا ( فإنّ هذا الضمير يخصُّ مؤمني السحرة والأولى اتحاد الضمائر والذي أجاز هذا الوجه هو الزمخشري : وفي قولهم ) إِلَى رَبّنَا (

" صفحة رقم 366 "
تبرؤ من فرعون ومن ربوبيته وفي الشعراء لا ضير لأن هذه السورة اختصرت فيها القصة واتسعت في الشعراء ذكر فيها أحوال فرعون من أوّلها إلى آخرها فبدأ بقوله ) أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً ( وختم بقوله ) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاْخَرِينَ ( فوقع فيها زوائد لم تقع في هذه السورة ولا في طه قاله الكرماني .
الأعراف : ( 126 ) وما تنقم منا . . . . .
( وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِئَايَاتِ رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا ( قال الضحاك : وما تطعن علينا ، وقال غيره : وما تكره منا ، وقال الزمخشري : وما تعيب منا ، وقال ابن عطية : وما تعد علينا ذنباً وتؤاخذنا به وعلى هذه التأويلات يكون قوله ) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ ( في موضع المفعول ويكون من الاستثناء المفرّغ من المفعول وجاء هذا التركيب في القرآن كقوله ) قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا ( ) وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ ( وهذا الفعل في لسان العرب يتعدّى بعلى تقول نقمت على الرجل أنقم إذا غلب عليه والذي يظهر من تعديته بمن أنّ المعنى وما تنقم منا أي ما تنال منا كقوله فينتقم الله منه أي يناله بمكروه ويكون فعل وافتعل فيه بمعنى واحد كقدر واقتدر وعلى هذا يكون قوله ) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ ( مفعولاً من أجله واستثناء مفرّغاً أي ما تنال منا وتعذّبنا لشيء من الأشياء إلا لأن آمنا بآيات ربنا وعلى هذا المعنى يدل تفسير عطاء ، قال عطاء : أي ما لنا عندك ذنب تعذّبنا عليه إلا أنّا آمنا ، والآيات المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام ومن جعل لما ظرفاً جعل العامل فيها ) مِنَّا إِلاَّ ( ومن جعلها حرفاً جعل جوابها محذوفاً لدلالة ما قبله عليه أي لما جاءتنا آمنا وفي كلامهم هذا تكذيب لفرعون في ادعائه الرّبوبية وانسلاخ منهم عن اعتقادهم ذلك فيه والإيمان بالله هو أصل المفاخر والمناقب وهذا الاستثناء شبيه بقوله : ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم
بهنّ فلول من قراع الكتائب
وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو اليسر هاشم وابن أبي عبلة ) وَمَا تَنقِمُ ( بفتح القاف مضارع نقم بكسرها وهما لغتان والأفصح قراءة الجمهور .
( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ( لما أوعدهم بالقطع والصلب سألوا الله تعالى أن يرزقهم الصبر على ما يحلّ بهم إن حل وليس في هذا السؤال ما يدل على وقوع هذا الموعد بهم خلافاً لمن قال يدلّ على ذلك ولا في قوله وتوفّنا مسلمين دليل على أنه لم يحلَّ بهم الموعود خلافاً لمن قال يدلّ على ذلك لأنهم سألوا الله أن يكون توفيهم من جهته لا بهذا القطع والقتل وتقدّم الكلام على جملة ) رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ( سألوا الموت على الإسلام وهو الانقياد إلى دين الله وما أمر به .
الأعراف : ( 127 ) وقال الملأ من . . . . .
( وَقَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ ). قال ابن عباس : لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل ، قال مقاتل : ومكث موسى بمصر بعد إيمان السحرة عاماً أو نحوه يريهم الآيات وتضمن قول ) الْمَلاَ ( إغراء فرعون بموسى وقومه وتحريضه على قتلهم وتعذيبهم حتى لا يكون لهم خروج عن دين فرعون ويعني بقومه من اتبعه من بني إسرائيل فيكون الاستفهام على هذا استفهام إنكار وتعجّب ، وقيل : هو استخبار والغرض به أن يعلموا ما في قلب فرعون من موسى ومن آمن به ، قال مقاتل : والإفساد هو خوف أن يقتلوا أبناء القبط ويستحيوا نساءهم على سبيل المقاصّة منهم كما فعلوا هي ببني إسرائيل ، وقيل الإفساد دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته .
وقرأ الجمهور ) وَيَذَرَكَ ( بالياء وفتح الراء عطفاً على ) لِيُفْسِدُواْ ( أي للإفساد ولتركك وترك آلهتك وكان التّرك هو لذلك

" صفحة رقم 367 "
وبدؤوا أوّلاً بالعلة العامة وهي الإفساد ثم اتبعوه بالخاصة ليدلّوا على أن ذلك الترك من فرعون لموسى وقومه هو أيضاً يؤول إلى شيء يختصّ بفرعون قدحوا بذلك زند تغيظه على موسى وقومه ليكون ذلك أبقى عليهم إذ هم الأشراف وبترك موسى وقومه بمصر يذهب ملكهم وشرفهم ، ويجوز أن يكون النصب على جواب الاستفهام والمعنى أنى يكون الجمع بين تركك موسى وقومه للإفساد وبين تركهم إياك وعبادة آلهتك أي إنّ هذا مما لا يمكن وقوعه ، وقرأ نعيم بن ميسرة والحسن بخلاف عنه ) وَيَذَرَكَ ( بالرفع عطفاً على ) أَتَذَرُ ( بمعنى أتذره ويذرك أي أتطلق له ذلك أو على الاستئناف أو على الحال على تقدير وهو يذرك ، وقرأ الأشهب العقيلي والحسن بخلاف عنه ) وَيَذَرَكَ ( بالجزم عطفاً على التوهّم كأنه توهم النطق يفسدوا جزماً على جواب الاستفهام كما قال ) فَأَصَّدَّقَ وَنَبِيّا مّنَ الصَّالِحِينَ ( أو على التخفيف من ) وَيَذَرَكَ ( ، وقرأ أنس بن مالك ونذرك بالنون ورفع الراء توعدوه بتركه وترك آلهته أو على معنى الإخبار أي إنّ الأمر يؤول إلى هذا ، وقرأ أبيّ وعبد الله ) فِى الاْرْضِ ( وقد تركوك أن يعبدوك ) وَءالِهَتَكَ ( ، وقرأ الأعمش وقد تركك وآلهتك .
وقرأ الجمهور ) وَءالِهَتَكَ ( على الجمع والظاهر أنّ فرعون كان له آلهة يعبدها ، وقال سليمان التيمي : بلغني أنه كان يعبد البقر ، وقيل : كان يعبد حجراً يعلقه في صدره كياقوتة أو نحوها ، وقيل : الإضافة هي على معنى أنه شرع لهم عبادة آلهة من بقر وأصنام وغير ذلك وجعل نفسه الإله الأعلى فقوله على هذا ) أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( إنما هو بمناسبة بينه وبين سواه من المعبودات ، قيل : كانوا قبطاً يعبدون الكواكب ويزعمون أنها تستجيب دعاء من دعاها وفرعون كان يدعي أن الشمس استجابت له وملَّكته عليهم ، وقرأ ابن مسعود وعليّ وابن عباس وأنس وجماعة غيرهم وإلهتك وفسروا ذلك بأمرين أحدهما أنّ المعنى وعبادتك فيكون إذ ذاك مصدراً ، قال ابن عباس : كان فرعون يعبد ولا يعبد ، والثاني أن المعنى ومعبودك وهي الشمس التي كان يعبدها والشمس تمسى إلهة علماً عليها ممنوعة الصرف .
( قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ( وإنما لم يعاجل موسى وقومه بالقتال لأنه كان مليء من موسى رعباً والمعنى أنه قال سعيد عليهم ما كنا فعلنا بهم قبل من قتل أبنائهم ليقل رهطه الذين يقع الإفساد بواسطتهم والفوقية هنا بالمنزلة والتمكّن في الدنيا و ) قَاهِرُونَ ( يقتضي تحقيرهم أي قاهرون لهم قهراً قلّ من أن نهتم به فنحن على ما كنا عليه من الغلبة أو أنّ غلبة موسى لا أثر لها في ملكنا واستيلائنا ولئلا يتوهم العامة أن المولود الذي تحدّث المنجمون عنه والكهنة بذهاب ملكنا على يده فيثبطهم ذلك عن طاعتنا ويدعوهم إلى اتباعه وإنه منتظر بعد وشدّد ) سَنُقَتّلُ ( ويقتلون الكوفيون والعربيان وخففهما نافع وخفف ابن كثير ) سَنُقَتّلُ ( وشدد ويقتلون .
الأعراف : ( 128 ) قال موسى لقومه . . . . .
( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ ( لما توعّدهم فرعون جزعوا وتضجّروا فسكنهم موسى عليه السلام وأمرهم بالاستعانة بالله وبالصبر وسلاهم ووعدهم النصر وذكرهم ما وعد الله بني إسرائيل من إهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم .
( إِنَّ الارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ). أي أرض مصر وأل فيه للعهد وهي ) الاْرْضِ ( التي كانوا فيها ، وقيل : ) الاْرْضِ ( أرض الدّنيا فهي على العموم ، وقيل : المراد أرض الجنة لقوله ) وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء ( وتعدّى ) اسْتَعِينُواْ ( هنا بالباء وفي ) وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( بنفسه وجاء اللهم إنا نستعينك .
( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( قيل : النصر والظفر ، وقيل : الدار الآخرة ، وقي : السعادة والشهادة ، وقيل : الجنة ، وقال الزمخشري : الخاتمة المحمودة ) لّلْمُتَّقِينَ ( منهم ومن القبط وإنّ المشيئة متناولة لهم انتهى ، وقرأت فرقة ) يُورِثُهَا ( بفتح الراء ، وقرأ الحسن ) يُورِثُهَا ( بتشديد الراء على المبالغة ورويت عن حفص ، وقرأ ابن مسعود وأبيّ ) وَالْعَاقِبَةُ ( بالنصب عطفاً على ) إِنّ

" صفحة رقم 368 "
َ الارْضَ ( وفي وعد موسى تبشير لقومه بالنصر وحسن الخاتمة ونتيجة طلب الإعانة توريث الأرض لهم ونتيجة الصبر العاقبة المحمودة والنصر على من عاداهم فلذلك كان الأمر بشيئين ينتج عنهما شيئان . قال الزمخشري : فإن قلت : لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على الذي قبلها ؟ قلت : هي جملة مبتدأة مستأنفة وأما ) وَقَالَ الْمَلاَ ( فمعطوفة على ما سبقها من قوله ) قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ ( انتهى .
الأعراف : ( 129 ) قالوا أوذينا من . . . . .
( قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ( أي بابتلائنا بذبح أبنائنا مخافة ما كان يتوقع فرعون من هلاك ملكه على يد المولود الذي يولد منا ) مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا ( ، قال الزمخشري : من قبل مولد موسى إلى أن استنبأ ) وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ( إعادة ذلك عليهم قاله ابن عباس وزاد الزمخشري : وما كانوا يستعبدون ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن ويمسّون به من العذاب انتهى ، وقال ابن عطية : والذي من بعد مجيئه يعنون به وعيد فرعون وسائر ما كان خلال تلك المدة من الإخافة لهم ، وقال الحسن : بأخذ الجزية منهم قبل بعث موسى إليهم وبعد بعثه ما زاد على ذلك ، وقال الكلبي : كانوا يضربون له اللبن ويعطيهم التّبن فلما جاء موسى غرمهم التبن وكان النساء يغزلن له الكتان وينسجنه ، وقال جرير : استسخرهم من قبل إتيان موسى في أوّل النهار إلى نصف النهار فما جاء موسى استسخرهم النهار كله بلا طعام ولا شراب ، وقال علي بن عيسى ) مِن قَبْلُ ( بالاستعباد وقتل الأولاد ) وَمِن بَعْدِ ( بالتهديد والإبعاد ، وروي مثله عن عكرمة ، وقيل من ) قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا ( بعهد الله بالخلاص ) وَمِنْ بَعْدَمَا جِئْتَنَا ( به قالوه في معرض الشكوى من فرعون واستعانة عليه بموسى ، وقال ابن عباس والسدّي : قالوا ذلك حين اتبعهم واضطرّهم إلى البحر فضاقت صدورهم ورأوا بحراً أمامهم وعدوّاً كثيفاً وراءهم لما أسرى بهم موسى حتى هجموا على البحر التفتوا فإذا هم برهج دواب فرعون فقالوا هذه المقالة وقالوا هذا البحر أمامنا وهذا فرعون وراءنا قد رهقنا بمن معه انتهى . وهذا القول فيه بعد وسياق الآيات يدلّ على الترتيب وقد جاء بعد هذه ) وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ ( ، قال ابن عطية : وهو كلام يجري على المعهود من بني إسرائيل من اضطرابهم على أنبيائهم وقلة يقينهم وصبرهم على الدّين انتهى ، قيل ولا يدلّ قولهم ذلك على كراهة مجيء موسى لأن ذلك يؤدي إلى الكفر وإنما قالوه لأنه كان وعدهم بزوال المضار فظنوا أنها نزول على الفور فقولهم ذلك استعطاف لا نفرة .
( قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( هذا رجاء من نبي الله موسى عليه السلام ومثله من الأنبياء يقوي قلوب أتباعهم فيصبرون إلى وقوع متعلق الرّجاء ولا تنافي بين هذا الرجاء وبين قوله ) وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( من حيث إن الرجاء غير مقطوع بحصول متعلّقة والأخبار بأنّ العاقبة للمتقين واقع لا محالة لأن العاقبة إن كانت في الآخرة فظاهر جدّاً عدم التنافي وإن كانت في الدنيا فليس فيها تصريح بعاقبة هؤلاء القوم المخصوصين فسلك موسى طريق الأدب مع الله وساق الكلام مساق الرجاء ، وقال التبريزي يحتمل أن يكون قد أوحى بذلك إلى موسى فعسى للتحقيق أو لم يوح فيكون على الترجي منه ، قال الزمخشري : تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل وكشف عنه وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر ، وقال ابن عطية واستعطاف موسى لهم بقوله ) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ( ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض يدلّ على أنه يستدعي نفوساً نافرة ويقوي هذا الظن في جهة بني إسرائيل وسلوكهم هذا السبيل في غير قصة والأرض هنا أرض مصر قاله ابن عباس وقد حقّق الله هذا الرجاء بوقوع متعلقة فأغرق فرعون وملكهم مصر ومات داود وسليمان ، وقيل : أرض الشام فقد فتحوا بيت المقدس مع يوشع وملكوا الشام ومات داود وسليمان ومعنى ) فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( أي في استخلافكم من الإصلاح والإفساد وهي جملة تجري مجرى البعث والتحريض

" صفحة رقم 369 "
على طاعة الله تعالى وفي الحديث ( أن الدنيا حلوة خضرة وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ) ، وقال الزمخشري : فيرى الكائن منكم من العمل حسنة وقبيحة وشكر النعمة وكفرانها ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم انتهى ، وفيه تلويح الاعتزال ودخل عمرو بن عبيد وهو أحد كبار المعتزلة وزهادهم على المنصور ثاني خلفاء بني العباس قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان وطلب زيادة لعمرو فلم توجد فقرأ عمرو هذه الآية ، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال قد بقي ) فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ).
الأعراف : ( 130 ) ولقد أخذنا آل . . . . .
( وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( الأخذ التناول باليد ومعناه هنا الابتلاء في المدّة التي كان أقام بينهم موسى يدعوهم إلى الله ومعنى بالسنين بالقحوط والجدوب والسنة تطلق على الحول وتطلق على الجدب ضد الخصب وبهذا المعنى تكون من الأسماء الغالبة كالنجم والدّبران وقد اشتقوا منها بهذا المعنى فقالوا أسنت القوم إذا أجدبوا ومنه قوله :
ورجال مكة مسنتوون عجاف
وقال حاتم : فإنا نهين المال من غير ضنّة
ولا يستكينا في السنين ضريرها
وفي سنين لغتان أشهرهما إعرابها بالواو ورفعا والياء جرًّا ونصباً وقد تكلف النحاة علة لكونها جمعت هذا الجمع والأخرى جعل الإعراب في النون والتزام الياء في الأحوال الثلاثة نقلها أبو زيد والفراء ، وقال الفراء : هي في هذه اللغة مصروفة عند بني عامر وغير مصروفة عند غيرهم والكلام على ذلك أمعن في كتب النحو وكان هذا الجدب سبع سنين ، قال ابن عباس وقتادة : أما السّنون فكانت لباديتهم ومواشيهم وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم وهذه سيرة الله في الأمم يبتليها بالنقم ليزدجروا ويتذكروا بذلك ما كانوا فيه من النعم فإنّ الشدة تجلب الإنابة والخشية ورقة القلب والرجوع إلى طلب لطف الله وإحسانه وكذا فعل بقريش حين دعا عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف وروي أنه يبس لهم كل شيء حتى نيل مصر ونقصوا من الثمرات حتى كانت النخلة تحمل الثمرة الواحدة ومعنى ) لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( رجاء لتذكرهم وتنبههم على أن ذلك الابتلاء إنما هو لإصرارهم على الكفر وتكذيبهم بآيات الله فيزدجروا .
الأعراف : ( 131 ) فإذا جاءتهم الحسنة . . . . .
( فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ( ابتلوا بالجدب ونقص الثمرات رجاء التذكير فلم يقع المرجو وصاروا إذا أخصبوا وصحّوا

" صفحة رقم 370 "
قالوا : نحن أحقاء بذلك وإذا أصابهم ما يسوءهم تشاءموا بموسى وزعموا أن ذلك بسببه واللام في ) لَنَا ( قيل للاستحقاق كما تقول السّرج للفرس وتشاؤمهم بموسى ومن معه معناه أنه لولا كونهم فينا لم يصبنا كما قال الكفار للرسول عليه السلام هذه من عندك في قوله ) وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ ( وأتى الشرط بإذا في مجيء الحسنة وهي لما تيقن وجوده لأنّ إحسان الله هو المعهود الواسع العام لخلقه بحيث أنّ إحسانه لخلقه عام حتى في حال الابتلاء وأتى الشرط بأن في إصابة السيئة وهي للممكن إبراز أن إصابة السيئة مما قد يقع وقد لا يقع وجهه رحمة الله أوسع ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف قيل ) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ ( بإذا وتعريف الحسنة ) وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ ( بأن وتنكير السيئة ( قلت ) : لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا يسير منها ومنه قول بعضهم وقد عددت أيام البلاء فهلا عددت أيام الرجاء انتهى ، وقرأ عيسى بن عمرو طلحة بن مصرّف تطيروا بالتاء وتخفيف الطاء فعلاً ماضياً وهو جواب ) وَإِن تُصِبْهُمْ ( وهذا عند سيبويه مخصوص بالشعر أعني أن يكون فعل الشرط مضارعاً وفعل الجزاء ماضي اللفظ نحو قول الشاعر : من يكدني بسيىء كنت منه
كالشجى بين حلقه والوريد
وبعض النحويين يجوزه في الكلام وما روي من أن مجاهداً قرأ تشاءموا مكان تطيروا فينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف . ) أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( قال ابن عباس ) طَائِرُهُمْ ( ما يصيبهم أي ما طار لهم في القدر مما هم لا قوة وهو مأخوذ من زجر الطير سمى ما عند الله من القدر للإنسان طائراً لما كان يعتقد أن كل ما يصيبه إنما هو بحسب ما يراه في الطائر فهي لفظة مستعارة قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري : أي سبب خيرهم وشرّهم عند الله تعالى وهو حكمه ومشيئته والله تعالى هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسيئة وليس شؤم أحدهم ولا يمنه بسبب فيه كقوله تعالى ) قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللَّهِ ( ويجوز أن يكون معناه ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده يجري عليهم ما يسوءهم لأجله ويعاقبون له بعد موتهم بما وعدهم الله تعالى في قوله ) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ( الآية ولا طائر أشأم من هذا ، وقرأ الحسن ألا إنما طيرهم وحكم بنفي العلم عن أكثرهم لأنّ القليل منهم علم كمؤمن آل فرعون وآسية امرأة فرعون ، وقال ابن عطية : ويحتمل أن كون الضمير في ) طَائِرُهُمْ ( لضمير العالم ويجيء تخصيص الأكثر على ظاهره ويحتمل أن يريد و ) لَكِنِ أَكْثَرُهُمْ ( ليس قريباً أن يعلم لانعمارهم في الجهل وعلى هذا فيهم قليل معدّ لأن يعلم لو وفقه الله انتهى ، وهما احتمالان بعيدان وأبعد منه قوله وإمّا أن يراد الجمع وتجوّز في العبارة .
الأعراف : ( 132 ) وقالوا مهما تأتنا . . . . .
( وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ( الضمير في ) وَقَالُواْ ( عائد على آل فرعون لم يزدهم الأخذ بالجذوب ونقص الثمرات إلا طغياناً وتشدّداً في كفرهم وتكذيبهم ولم يكتفوا بنسبة ما يصيبهم من السيئات إلا أن ذلك بسبب موسى ومن معه حتى واجهوه بهذا القول الدالّ على أنه لو أتى بما أتى من الآيات فإنهم لا يؤمنون بها وأتوا بمهما التي تقتضي العموم ثم فسّروا بآية على سبيل الاستهزاء في تسميتهم ذلك آية كما قالوا في قوله ) إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَم

" صفحة رقم 371 "
َ رَسُولَ اللَّهِ ( وتسميه لها بآية أي على زعمك ولذلك علّلوا الإتيان بقولهم ) لّتَسْحَرَنَا بِهَا ( وبالغوا في انتفاء الإيمان بأن صدّروا الجملة بنحن وأدخلوا الباء في ) بِمُؤْمِنِينَ ( أي أنّ إيماننا لك لا يكون أبداً ) ومهما ( مرتفع بالابتداء أو منتصب بإضمار فعل يفسره فعل الشرط فيكون من باب الاشتغال أي أيّ شيء يحضر تأتنا به والمضير في ) تُحَرّكْ بِهِ ( عائد على ) مَهْمَا ( وفي ) بِهَا ( عائد أيضاً على معنى مهما لأنّ المراد به أية آية كما عاد على ما في قوله ) مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا ( ، وكما قال زهير : ومهما تكن عند امرىء من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تُعلم
فأنث على المعنى ، قال الزمخشري : وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد له في علم العربية فيضعها غير موضعها ويحسب مهما بمعنى متى ما ويقول مهما جئتني أعطيتك وهذا من وضعه وليس من كلام واضع العربية في شيء ثم يذهب فيفسر مهما تأتنا به من آية بمعنى الوقت فيلحد في آيات الله تعالى وهو لا يشعر وهذا وأمثاله مما يجوب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه انتهى ، وهذا الذي أنكره الزمخشري من أن مهما لا تأتي ظرف زمان وقد ذهب إليه ابن مالك ذكره في التسهيل وغيره من تصانيفه إلا أنه لم يقصر مدلولها على أنها ظرف زمان بل قال وقد ترد ما ومهما ظرفي زمان وقال في أرجوزته الطويلة المسماة بالشافية الكافية : وقد أتت مهما وما ظرفين في
شواهد من يعتضد بها كفى
وقال في شرح هذا البيت جميع النحويين يجعلون ما ومهما مثل من في لزوم التجرّد عن الظرف مع أنّ استعمالها ظرفين ثابت في استعمال الفصحاء من العرب وأنشد أبياتاً عن العرب زعم منها أنّ ما ومهما ظرفا زمان وكفانا الرّد عليه فيها ابنه الشيخ بدر الدين محمد وقد تأوّلنا نحن بعضها وذكرنا ذلك في كتاب التكميل لشرح التسهيل من تأليفنا وكفاه ردّاً نقله عن جميع النحويين خلاف ما قاله لكن من يعاني علماً يحتاج إلى مثوله بين يدي الشيوخ وأما من فسّر مهما في الآية بأنها ظرف زمان فهو كما قال الزمخشري ملحد في آيات الله وأما قول الزمخشري وهذا وأمثاله إلى آخر كلامه فهو يدلّ على أنه جثا بين يدي الناظر في كتاب سيبويه وذلك صحيح رحل من خوارزم في شيبته إلى مكة شرفها الله تعالى لقراءة كتاب سيبويه على رجل من أصحابنا من أهل جزيرة الأندلس كان مجاوراً بمكة وهو الشيخ الإمام العلاّمة المشاور أبو بكر عبد الله بن طلحة بن محمد بن عبد الله الأندلسي من أهل بابرة من بلاد جزيرة الأندلس فقرأ عليه الزمخشري جميع كتاب سيبويه وأخبره به قراءة عن الإمام الحافظ أبي علي الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الجياني قال قرأته على أبي مروان عبد الملك بن سراج بن عبد الله بن سراج القرطبي قال قرأته على أبي القاسم بن الإفليلي عن أبي عبد الله محمد بن عاصم العاصمي عن الرباحي بسنده ، وللزمخشري قصيد يمدح به سيبويه وكتابه وهذا يدلّ على أنه ناظر في كتاب سيبويه بخلاف ما كان يعتقد فيه بعض أصحابنا من أنه إنما نظر في نتف من كلام

" صفحة رقم 372 "
أبي علي الفارسي وابن جني وقد صنف أبو الحجاج يوسف بن معزوز كتاباً في الردّ على الزمخشري في كتاب المفصل والتنبيه على أغلاطه التي خالف فيها إمام الصناعة أبا بشر عمرو بن عثمان سيبويه رحم الله جميعهم .
الأعراف : ( 133 ) فأرسلنا عليهم الطوفان . . . . .
( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ( قال الأخفش الطوفان جمع طوفانة عند البصريين وهو عند الكوفيين مصدر كالرجحان ، وحكى أبو زيد في مصدر طاف طوفاً وطوافاً ولم يحك طوفاناً وعلى تقدير كونه مصدراً فلا يراد به هنا المصدر ، قال ابن عباس هو الماء المغرق ، وقال قتادة والضحاك وابن جبير وأبو مالك ومقاتل هو المطر أرسل عليهم دائماً الليل والنهار ثمانية أيام واختاره الفراء وابن قتيبة ، وقيل ذلك مع ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره . وقيل أمطروا حتى كادوا يهلكون وبيوت القبط وبني إسرائيل مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا فيه إلى تراقيهم فمن جلس غرق ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة وفاض الماء على وجه أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والبناء والتصرّف ودام عليهم سبعة أيام ، وقيل طم فيض النيل عليهم حتى ملأ الأرض سهلاً وجبلاً . وقال ابن عطية : هو عام في كل شيء يطوف إلا أن استعمال العرب له أكثر في الماء والمطر الشديد . ومنه قول الشاعر : غير الجدّة من عرفانه
خرق الرّيح وطوفان المطر
ومد طوفان مبيد مددا
شهراً شآبيب وشهراً بردا
وقال مجاهد وعطاء ووهب وابن كثير هو هنا الموت الجارف وروته عائشة عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولو صحّ وجب المصير إليه ونقل عن مجاهد ووهب أنه الطاعون بلغة اليمن ، وقال أبو قلابة هو الجدري وهو أول عذاب وقع فيهم فبقي في الأرض . وقيل هو عذاب نزل من السماء فطاف بهم ، وروي عن ابن عباس أنه معمى عنى به شيء أطافه الله بهم فقالوا لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك فدعا فرفع عنهم فما آمنوا فنبت لهم في تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهد مثله فأقاموا شهرباً فبعث الله تعالى عليهم الجراد فأكلت عامة زرعهم وثمارهم ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة فكشف عنهم سبعة أيام وخرج موسى عليه السلام إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى النواحي التي جئن منها وقالوا ما نحن بتاركي ديننا فأقاموا شهراً وسلّط عليهم القمل ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطاء : هو الدّبا وهو صغار الجراد قبل أن

" صفحة رقم 373 "
تنبت له أجنحة ولا يطير ، وقال ابن جبير عن ابن عباس : هو السّوس الذي يقع في الحنطة ، وقال الحسن وابن جبير : دواب سود صغار ، وقال حبيب بن أبي : ثابت هو الجعلان ، وقال أبو عبيدة : هو الحمنان وهو ضرب من القردان ، وقال عطاء الخراساني وزيد بن أسلم : هو القمل المعروف وهو لغة فيه ويؤيده قراءة الحسن بفتح القاف وسكون الميم ، وقيل هو البراغيث حكاه ابن زيد وروي أنّ موسى مشى إلى كثيب أهيل فضربه بعصاه فانتشر كله قملاً بمصر فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين جلد القبطيّ وقميصه ويمتلىء الطعام ليلاً ويطحن أحدهم عشرة أجربة فلا يرد منها إلا يسيراً وسعى في أبشارهم وشعورهم وأهداب عيونهم ولزمت جلودهم فضجوا وفزعوا إلى موسى عليه السلام فرفع عنهم فقالوا قد تحققنا الآن أنك ساحر وعزّة فرعون لا نصدقك أبداً ، فأرسل الله عليهم بعد شهر الضفادع فملأت آنيتهم وأطعماتهم ومضاجعهم ورمت بأنفسها في القدور وهي تغلي وفي التنانير وهي تفور وإذا تكلم أحدهم وثبت إلى فيه ، قال ابن جبير : وكان أحدهم يجلس في الضفادع إلى ذقنه فقالوا لموسى ارحمنا هذه المرة ونحن نتوب التوبة النصوح ولا نعود فأخذ عليهم العهود فكشف عنهم فنقضوا العهد فأرسل الله عليهم الدم ، قال الجمهور : صار ماؤهم دماً حتى أنّ الإسرائيلي ليضع الماء في القبطي فيصير في فيه دماً وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك فكان يمصّ الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها الطيّب ملحاً أجاجاً ، وقال سعيد بن المسيب : سال عليهم النيل دماً ، وقال زيد بن أسلم : الدّم هو الرعاف سلطه الله عليهم ومعنى تفصيل الآيات تبيينها وإزالة أشكالها والتفصيل في الإجرام هو التفريق وفي المعاني يراد به أنه فرق بينها فاستبانت وامتاز بعضها من بعض فلا يشكل على العاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره وأنها عبرة لهم ونقمة على كفرهم ، وقال ابن قتيبة سماها مفصلات لأن بين الآية والآية فصلاً من الزمان ، قيل كانت الآية تمكث من السبت إلى السبت ثم يبقون عقيب رفعها شهراً في عافية ، وقيل ثمانية أيام ثم تأتي الآية الأخرى ، وقال وهب : كان بن كل آيتين أربعون يوماً ، وقال نوف البكالي مكث موسى عليه السلام في آل فرعون بعد إيمان السحرة عشرين سنة يريهم الآيات وحكمة التفصيل بالزمان أنه يمتحن فيه أحوالهم أيفون بما عاهدوا أم ينكثون فتقوم عليهم الحجة وانتصب ) مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ ( على الحال والذي دلّت عليه الآية أنه أرسل عليهم ما ذكر فيها وأما كيفية الإرسال ومكث ما أرسل عليهم من الأزمان والهيئات فمرجعه إلى النّقل عن الأخبار الإسرائيليات إذ لم ب ( ثبت ) من ذلك في الحديث النبوي شيء ومع إرسال جنس الآيات استكبروا عن الإيمان وعن قبول أمر الله تعالى ، و ) كَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ( إخبار منه تعالى عنهم باجترامهم على الله وعلى عباده .
الأعراف : ( 134 ) ولما وقع عليهم . . . . .
( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ قَالُواْ يامُوسَى مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْراءيلَ ( الظاهر أنّ الرجز هنا هو ما كان أرسل عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فإن كان أريد الظاهر كان سؤالهم موسى بعد وقوع جميعها لا بعد وقوع نوع منها ويحتمل أن يكون المعنى ) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ( نوع من ) الرّجْزَ ( فيكون سؤالهم قد تخلّل بين نوع ونوع ومعنى ) وَقَعَ عَلَيْهِمُ ( نزل عليهم وثبت وقال قوم :

" صفحة رقم 374 "
) الرّجْزَ ( الطاعون نزل بهم مات منهم في ليلة سبعون ألف قبطي وفي قولهم ) ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ( وإضافة الرب إلى موسى عدم إقرار بأنه ربهم حيث لم يقولوا ادعُ لنا ربنا ومعنى ) بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ( بما اختصك به فنبأك أو بما وصّاك أن تدعو به ليجيبك كما أجابك في الآيات أو بما استودعك من العلم والظاهر تعلق ) بِمَا عَاهَدَ ( بأدع لنا ربك ومتعلق الدعاء محذوف تقديره ) ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ( في كشف هذا الرّجز ) وَلَئِنِ كَاشِفَاتُ ( جواب لقسم محذوف في موضع الحال من قالوا أي قالوا ذلك مقسمين ) لَئِن كَشَفْتَ ( أو لقسم محذوف معطوف أي وأقسموا لئن كشفت وجوز الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن تكون الباء في ) بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ( باء القسم أي قالوا ) ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ( في كشف الرجز مقسمين ) بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ ( أو وأقسموا ) بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ ( والمعنى ) لَئِن كَشَفْتَ ( بدعائك وفي قولهم لنؤمنن لك دلالة على أنه طلب منهم الإيمان كما أنه طلب منهم إرسال بني إسرائيل وقدّموا الإيمان لأنه المقصود الأعظم الناشىء منه الطواعية وفي إسناد الكشف إلى موسى حيدة عن إسناده إلى الله تعالى لعدم إقرارهم بذلك .
الأعراف : ( 135 ) فلما كشفنا عنهم . . . . .
( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ( في الكلام حذف دل عليه المعنى وهو فدعا موسى فكشف عنهم الرجز وأسند تعالى الكشف إليه لأنه هو الكاشف حقيقة فلما كان من قولهم أسندوه إلى موسى وهو إسناد مجازي ولما كان إخباراً من الله أسنده تعالى إليه لأنه إسناد حقيقي ولما كان الرجز من جملة أخرى غير مقولة لهم حسن إظهاره دون ضميره وكان جائزاً أن يكون التركيب في غير القرآن ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ( ومعنى ) إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ ( إلى حد من الزمان هم بالغوه لا محالة فيعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدّم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية : يريد به غاية كل واحد منهم بما يخصّه من الهلاك والموت هذا اللازم من اللفظ كما تقول أخرت كذا إلى وقت كذا وأنت لا تريد وقتاً بعينه ، وقال يحيى بن سلام : الأجل هاهنا الغرق قال وإنما قال هذا القول لأنه رأى جمهور هذه الطائفة قد اتفق أن هلكت غرقاً فاعتقد أنّ الإشارة هاهنا إنما هي في الغرق وهذا ليس بلازم لأنه لا بد أنه مات منهم قبل الغرق عالم ومنهم من أخر وكشف العذاب عنهم إلى أجل بلغه انتهى وفي التحرير إلى أجل إلى انقضاء مدة إمهالهم وهي المدة المضروبة لإيمانهم ، وقيل : الغرق ، وقيل : الموت وإذا فسر الأجل بالموت أو بالغرق فلا يصحّ كشف العذاب إلى ذلك الوقت أي وقت حصول الموت أو الغرق لأنه قد تخلل بين الكشف والغرق أو الموت زمان وهو زمان النكث فينبغي أن يكون التقدير على هذا إلى أقرب أجل هم بالغوه أما إذا كان الأجل هو المدة المضروبة لإيمانهم وإرسالهم بني إسرائيل فلا يحتاج إلى حذف مضاف و ) إِلَى أَجَلٍ ( قالوا متعلق ) بكشفنا ( ولا يمكن حمله على التعلق به لأن ما دخلت عليه لما ترتب جوابه على ابتداء وقوعه والغاية تنافي التعليق على ابتداء الوقوع فلا بدّ من تعقل الابتداء والاستمرار حتى تتحقق الغاية ولذلك لا تصحّ الغاية في الفعل عن المتطاول لا تقول لما قتلت زيداً إلى يوم الخميس جرى كذا ولا لما وثبت إلى يوم الجمعة اتفق كذا وجعل بعضهم إلى أجل من تمام الرجز أي الرّجز كائناً إلى أجل والمعنى أنّ العذاب كان مؤجلاً ويقوي هذا التأويل كون جواب لما جاء بإذا الفجائية أي فلما كشفنا عنهم العذاب المقرر عليهم ) أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ ( فاجأوا بالنكث وعلى معنى تعيينه الكشف بالأجل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلى على تأويل الكشف بالاستمرار المغيا ، فتكون المفاجأة بالنكث إذ ذاك ممكنة ، وقال الزمخشري : ) إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ( جواب لما يغيا فلما كشفا عنهم فاجأوا النكث وبادروه ولم يؤخّروه ولكن لما

" صفحة رقم 375 "
كشف عنهم نكثوا انتهى ، ولا يمكن التغيية مع ظاهر هذا التقدير وهم بالغوه جملة في موضع الصفة لأجل وهي أفخم من الوصف بالمفرد لتكرر الضمير فليس في حسن التركيب كالمفرد لو قيل في غير القرآن إلى أجل بالغيه ومجيء إذا الفجائية جواباً للما مما يدل على أن لما حرف وجوب لوجوب كما يقول سيبويه لا ظرف كما زعم بعضهم لافتقاره إلى عامل فيه والكلام تام لا يحتمل إضماراً ولا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، وقرأ أبو هاشم وأبو حيوة ) يَنكُثُونَ ( بكسر الكاف .
الأعراف : ( 136 ) فانتقمنا منهم فأغرقناهم . . . . .
( فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ( أي أحللنا بهم النقمة وهي ضدّ النعمة فإن كان الانتقام هو الإغراق فتكون الفاء تفسيرية وذلك على رأي من أثبت هذا المعنى للفاء وإلا كان المعنى فأردنا الانتقام منهم والباء في ) بِأَنَّهُمْ ( سببية والآيات هي المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام والظاهر عود الضمير في ) عَنْهَا ( إلى الآيات أي غفلوا عما تضمنته الآيات من الهدى والنجاة وما فكروا فيها وتلك الغفلة هي سبب التكذيب ، وقيل يعود الضمير على النقمة الدالّ عليها ) فَانتَقَمْنَا ( أي كانوا عن النقمة وحلولها بهم غافلين والغفلة في القول الأول عنى به الإعراض عن الشيء لأنّ الغفلة عنه والتكذيب لا يجتمعان من حيث أن الغفلة تستدعي عدم الشعور بالشيء والتكذيب به يستدعي معرفته ولأنه لو أريد صفة الغفلة لكانوا معذورين لأنّ تلك ليست باختيار العبد .
الأعراف : ( 137 ) وأورثنا القوم الذين . . . . .
( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا ( لما قال موسى عليه السلام ) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الاْرْضِ ( كان كما ترجى موسى فأغرق أعداءهم في اليم واستخلف بني إسرائيل في الأرض ) وَالَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ ( هم بنو إسرائيل كان فرعون يستعبدهم ويستخدمهم والاستضعاف طلب الضعيف بالقهر كثر استعماله حتى قيل استضعفه أي وجده ضعيفاً ) مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا ( قالت فرقة : هي الأرض كلها ، قال ابن عطية ذلك على سبيل المجاز لأنه تعالى ملكهم بلاداً كثيرة وأما على الحقيقة فإنه ملك ذريّتهم وهو سليمان بن داود ، وقال الحسن أيضاً : ) مَشَارِقَ الاْرْضِ ( الشام ) وَمَغَارِبَهَا ( ديار مصر ملكهم الله إياها بإهلاك الفراعنة والعمالقة وقاله الزمخشري قال : وتصرفوا فيها كيف شاؤوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية ، وقال الحسن أيضاً وقتادة وغيرهما : هي أرض الشام ، وفي كتاب النقاش عن الحسن : أرض مصر والبركة فيها بالماء والشجر قاله ابن عباس وذيله غيره فقال بالخصب والأنهار وكثرة الأشجار وطيب الثمار ، وقيل : البركة بإقدام الأنبياء وكثرة مقامهم بها ودفنهم فيها وهذا يتخرج على من قال أرض الشام ، وقيل : ) بَارَكْنَا ( جعلنا الخير فيها دائماً ثابتاً وهذا يشير إلى أنها مصر . وقال الليث هي مصر بارك الله فيها بما يحدث عن نيلها من الخيرات وكثرة الحبوب والثمرات وعن عمر رضي الله عنه أن نيل مصر سيّد الأنهار في حديث طويل وروي أنه كانت الجنات بحافتي هذا النيل من أوله إلى آخره في البرين جميعاً ما بين أسوان إلى رشيد وكانت الأشجار متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء ، وقال أبو بصرة الغفاري : مصر خزائن الأرض كلها ، ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام ) اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ ( ويروي أن عيسى عليه السلام أقام بها اثنتي عشرة سنة وذلك أن الله أوحى إلى مريم أن الحقي بمصر وأرضها وذكر أنها الرّبوة التي قال تعالى : ) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً وَءاوَيْنَاهُمَا ). وقال ابن عمر : البركات عشر ففي مصر تسع وفي الأرض كلها واحدة ، وانتصاب مشارق على أنه مفعول ثان لأورثنا و ) الَّتِى بَارَكْنَا ( نعت لمشارق الأرض ومغاربها وقول الفرّاء إنّ انتصاب ) مَشَارِقَ ( والمعطوف عليها على الظرفية والعامل فيهما هو ) يُسْتَضْعَفُونَ ( و ) الَّتِى بَارَكْنَا ( هو المفعول الثاني أي الأرض التي باركنا فيها تكلف وخروج عن الظاهر بغير دليل ومن أجاز أن تكون ) الَّتِى ( نعتاً للأرض فقوله ضعيف للفصل بالعطف بين المنعوت ونعته .
( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرءيلَ بِمَا صَبَرُواْ ). أي مضت

" صفحة رقم 376 "
واستمرت من قولهم تمّ على الأمر إذا مضى عليه ، قال مجاهد : المعنى ما سبق لهم في علمه وكلامه في الأزل من النجاة من عدوهم والظهور عليه ، وقال المهدوي وتبعه الزمخشري : الكلمة قوله تعالى ) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْرْضِ إِلَى قَوْلُهُ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ ). وقيل : ) هِىَ قَوْلُهُ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ( الآية ، وقيل : الكلمة النعمة والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة للكلمة وكانت الحسنى لأنها وعد بمحبوب قاله الكرماني والمعنى على من بقي من مؤمني بني إسرائيل ) بِمَا صَبَرُواْ ( أي بصبرهم ، وقرأ الحسن كلمات على الجمع ورويت عن عاصم وأبي عمرو ، قال الزمخشري : ونظيره ) لَقَدْ رَأَى مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى ( انتهى ، يعني نظير وصف الجمع بالمفرد المؤنث ولا يتعيّن ما قاله من أن الكبرى نعت لآيات ربه إذ يحتمل أن يكون مفعولاً لقوله رأى أيّ الآية الكبرى فيكون في الأصل نعتاً لمفرد مؤنث لا يجمع وهو أبلغ في الوصف .
( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ ( أي خربنا قصورهم وأبنيتهم بالهلاك والتدمير الإهلاك وإخراب الأبنية ، وقيل : ما كان يصنع من التدبير في أمر موسى عليه السلام وإخماد كلمته . وقيل : المراد إهلاك أهل القصور والمواضع المنيعة وإذا هلك الساكن هلك المسكون ) وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ( أي يرفعون من الأبنية المشيدة كصرح هامان وغيره ، وقال الحسن : المراد عرش الكروم ومنه ) وَجَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ ( ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بضم الراء وباقي السبعة والحسن ومجاهد وأبو رجاء بكسر الراء هنا وفي النحل وهي لغة الحجاز ، وقال اليزيدي : هي أفصح ، وقرأ ابن أبي عبلة يعرشون بضم الياء وفتح العين وتشديد الراء وانتزع الحسن من هذه الآية أنه ينبغي أنه لا يخرج على ملوك السماء وإنما ينبغي أن نصبر لهم وعليهم فإنّ الله يدمّرهم ، وروي عنه وعن غيره إذا قابل الناس البلاء بمثله وكلهم الله إليه وإذا قابلوه بالصبر وانتظار الفرج أتى الفرج ، قال الزمخشري : وبلغني أنه قرأ بعض الناس يغرسون من غرس الأشجار وما أحسبه إلا تصحيفاً وهذا آخر ما اقتصّ الله تعالى من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعارضته ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من مملكة فرعون ، واستعباده ، ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر ، وطلب رؤية الله جهرة ، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصف ظلوم كفار جهول كفور إلاّ من عصمه الله تعالى و ) قَلِيلٌ مّنْهُمْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ ( وليسلي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مما رأى من بني إسرائيل بالمدينة .
الأعراف : ( 138 ) وجاوزنا ببني إسرائيل . . . . .
( وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ ( لما بين أنواع نعمه تعالى على بني إسرائيل بإهلاك عدوّهم اتبع بالنعمة العظمى من إراءتهم هذه الآية العظيمة وقطعهم البحر مع السلامة والبحر بحر القلزم ، وأخطأ من قال إنه نيل مصر ومعنى ) جاوزنا ( قطعنا بهم البحر يقال جاوز الوادي إذا قطعه والباء للتعدية يقال جاوز الوادي إذا قطعه ، وجاوز بغيره البحر عبر به فكأنه قال وجزنا ببني إسرائيل أي أجزناهم البحر وفاعل بمعنى فعل المجرد يقال جاوز وجاز بمعى واحد ، وقرأ الحسن وابراهيم وأبو رجاء ويعقوب وجوزنا وهو مما جاء فيه فعل بمعنى فعل المجرد نحو قدّر وقدر وليس التضعيف للتعدية روي أنه عبر بهم موسى عليه السلام يوم عاشوراء بعدما أهلك الله فرعون وقومه فصاموا شكراً لله وأعطى موسى التوراة يوم النحر فبيّن الأمرين أحد عشر شهراً . ) الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ ( قال قتادة وأبو عمرو الجوني : هم من لخم وجذام كانوا يسكنون الرّيف ، وقيل : كانوا نزولاً بالرقة رقة مصر وهي قرية بريف مصر تعرف بساحل البحر يتوصل منها إلى الفيّوم

" صفحة رقم 377 "
وقيل : هم الكنعانيون الذين أمر موسى بقتالهم ومعنى ) فَاتُواْ ( فمروا يقال أتت عليه سنون ، ومعنى ) يَعْكُفُونَ ( يقيمون ويواظبون على عبادة أصنام ، وقرأ الأخوان وأبو عمر وفي رواية عبد الوارث بكسر الكاف وباقي السبعة بضمها وهما فصيحتان والأصنام قيل : بقر حقيقة . وقال ابن جريج كانت تماثيل بقر من حجارة وعيدان ونحوه وذلك كان أول فتنة العجل . ) قَالُواْ يأَبَانَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَا إِلَاهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ ( الظاهر أن طلب مثل هذا كفر وارتداد وعناد جروا في ذلك على عادتهم في تعنتهم على أنبيائهم وطلبهم ما لا ينبغي وقد تقدّم من كلامهم ) لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ( وغير ذلك مما هو كفر ، وقال ابن عطية : الظاهر أنهم استحسنوا ما رأوا من آلهة أولئك القوم فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقرّب به إلى الله تعالى وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى ) اجْعَلْ لَّنَا إِلَاهًا ( نفرده بالعبادة انتهى وفي الحديث مروا في غزوة حنين على روح سدرة خضراء عظيمة فقيل يا رسول الله إجعل لنا ذات أنواط وكانت ذات أنواط سرحة لبعض المشركين يعلقون بها أسحلتهم ولها يوم يجتمعون إليها فأراد قائل ذلك أن يشرع الرسول ذلك في الإسلام ورأى الرسول عليه السلام ذلك ذريعة إلى عبادة تلك السرحة فأنكره وقال ) اللَّهِ أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَاللَّهُ كَمَا قَالَ بَنِى إِسْراءيلَ ( ) اجْعَلْ لَّنَا إِلَاهًا ( خالقاً مدبراً لأن الذي يجعله موسى لا يمكن أن يجعله خالقاً للعالم ومدبّراً فالأقرب أنهم طلبوا أن يعين لهم تماثيل وصوراً يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى وقد حكى عن عبادة الأوثان قولهم ) مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( وأجمع كلّ الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله كفر سواء اعتقد كونه إلهاً للعالم أو أن عبادته تقرب إلى الله انتهى ، ويظهر أن ذلك لم يصدر من جميعهم فإنه كان فيهم السبعون المختارون ومن لا يصدر منه هذا السؤال الباطل لكنه نسب ذلك إلى بني إسرائيل لما وقع من بعضهم على عادة العرب في ذلك وما في ) كَمَا ( قال الزمخشري كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها وقال غيره موصولة حرفية أي كما ثبت لهم آلهة فتكون قد حذف صلتها على حدّ ما قال ابن مالك في أنه إذا حذفت صلة ما فلا بد من إبقاء معمولها كقولهم لا أكلمك ما إن في السماء نجماً أي ما ثبت أن في السماء نجماً ويكون ) ءالِهَةً ( فاعلاً يثبت المحذوفة ، وقيل : موصولة اسمية ولهم صلتها والضمير عائد عليها مستكن في المجرور والتقدير كالذي لهم وآلهة بدل من ذلك الضمير المستكنّ . ) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( تعجب موسى عليه السلام من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ووصفهم بالجهل المطلق وأكده بأن لانه لا جهل أعظم من هذه المقالة ولا أشنع وأتى بلفظ ) تَجْهَلُونَ ( ولم يقل جهلتم إشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة لا ينتقلون عنه في ماض ومستقبل .
الأعراف : ( 139 ) إن هؤلاء متبر . . . . .
( إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الإشارة بهؤلاء إلى العاكفين على عبادة الأصنام ومعنى متبرّ مهلك مدمر مكسر وأصله الكسر ، وقال الكلبي : مبطل ، وقال أبو اليسع : مضلل ، وقال السدّي وابن زيد : مدمر رديء سيىء العاقبة وما هم فيه يعمّ جميع أحوالهم وبطل عملهم هو اضمحلاله بحيث لا ينتفع به وإن كان مقصوداً به التقرّب إلى الله تعالى ) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( ، قال الزمخشري : وفي إيقاع ) هَؤُلاء ( إسماً ل ( إن ) وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها واسم لعباده بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازم ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض لهم فيما أحبوا انتهى ولا يتعيّن ما قاله من أنه قد جزم خبر المبتدأ من الجملة

" صفحة رقم 378 "
الواقعة خبراً لأنّ لأن الأحسن في إعراب مثل هذا أن يكون خبر ) ءانٍ ( ) مُتَبَّرٌ ( وما بعده مرفوع على أنه مفعول لم يسمِّ فاعله وكذلك ما ) كَانُواْ ( هو فاعل بقوله ) وَبَاطِلٌ ( فيكون إذ ذاك قد أخبر عن اسم إنّ بمفرد لا جملة وهو نظير أن زيداً مضروب غلامه فالأحسن في الإعراب أن يكون غلامه مرفوعاً على أنه لم يسمّ فاعله ومضروب خبر أن والوجه الآخر وهو أن كون مبتدأ ومضروب خبره جائز مرجوح .
2 ( ) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَاهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لاًّخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ( ) ) 2
الأعراف : ( 140 ) قال أغير الله . . . . .
( قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَاهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ما أحسن ما خاطبهم موسى عليه السلام بدأهم أولاً بنسبتهم إلى الجهل ثم ثانياً أخبرهم بأن عبّاد الأصنام ليسوا على شيء بل مآل أمرهم إلى الهلاك وبطلان العمل وثالثاً أنكر وتعجب أن يقع هو عليه السلام في أن يبغي لهم غير الله إلهاً أي ) أَغَيْرَ ( المستحق للعبادة والألوهية أطلب لكم معبوداً وهو الذي شرفكم واختصكم بالنعم التي لم يعطها من سلف من الأمم لا غيره فكيف أبغي لكم إلهاً غيره ومعنى ) عَلَى الْعَالَمِينَ ( على عالمي زمانهم أو بكثرة الأنبياء فيهم ، قال ابن القشيري : بإهلاك عدوهم وبما خصّهم من الآيات وانتصب ) غَيْرِ ( مفعولاً بأبغيكم أي أبغي لكم غير الله ، ( وإلهاً ( تمييز عن ) مَّاء غَيْرِ ( أو حال أو على الحال ) وإلهاً ( المفعول والتقدير أبغي لكم إلهاً غير الله فكان غير صفة فلما تقدم انتصب حالاً ، وقال ابن عطية : وغير منصوبة بفعل مضمر هذا هو الظاهر ويحتمل أن ينتصب على الحال انتهى ، ولا يظهر نصبه بفعل مضمر لأن أبغي مفرّغ له أو لقوله إلهاً فإن تخيّل أنه منصوب بأبغي مضمرة يفسرها هذا الظاهر فلا يصحّ لأنّ الجملة المفسرة لا رابط فيها لا من ضمير ولا من ملابس يربطها بغير فلو كان التركيب أغير الله أبغيكموه لصحّ ويحتمل وهو فضلكم أن يكون حالاً وأن كون مستأنفاً .
الأعراف : ( 141 ) وإذ أنجيناكم من . . . . .
( وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مّنْ ءالِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلاء مّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ ( وقرأ الجمهور ) أَنْجَيْنَاكُمْ ( وفرقة نجّيناكم مشدداً وابن عامر أنجاكم فعلى أنجاكم يكون جارياً على قوله ) وَهُوَ فَضَّلَكُمْ ( خاطب بها موسى قومه وفي قراءة النون خاطبهم الله تعالى بذلك ، وقال الطبري : الخطاب لمن كان على عهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) تقريعاً لهم بما فعل أوائلهم وبما جاؤوا به وتقدّم تفسير نظير هذه الآية في أوائل البقرة ، وقرأ نافع ) يَقْتُلُونَ ( من قتل والجمهور من قتل مشدداً .
الأعراف : ( 142 ) وواعدنا موسى ثلاثين . . . . .
( وَواعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ( روي أنّ موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى ربه تعالى لكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتمّ الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك ، فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك ، وقيل أوحى الله إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك فأمره أن يزيد عليه عشرة أيام من ذي الحجة لذلك ، وقيل أمره الله بأن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها بما يقربه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها وأجمل ذكر

" صفحة رقم 379 "
الأربعين في البقرة وفصل هنا ، وقال الكلبي : لما قطع موسى البحر ببني إسرائيل وغرق فرعون قالت بنو إسرائيل لموسى : ائتنا بكتاب من ربنا كما وعدتنا وزعمت أنك تأتينا به إلى شهر فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً لينطلقوا معه فلما تجهّزوا قال الله تعالى لموسى أخبر قومك أنك لن تأتيهم أربعين ليلة وذلك حين أتمت بعشر فلما خرج موسى بالسبعين أمرهم أن ينتظروه أسفل الجبل وصعد موسى الجبل وكلمه الله أربعين يوماً وأربعين ليلة وكتب له الألواح ثم إنّ بني إسرائيل عدوا عشرين ليلة وعشرين يوماً وقالوا قد أخلفنا موسى الوعد وجعل لهم السّامري العجل فعبدوه ، وقيل زيدت العشر بعد الشهر للمناجاة ، وقيل : التفت في طريقه فزيدها ، وقيل : زيدت عقوبة لقومه على عبادة العجل ، وقيل : أعلم موسى بمغيبه ثلاثين ليلة فلما زاده العشر في مغيبه لم يعلموا بذلك ووجست نفوسهم للزيادة على ما أخبرهم فقال السامري هلك موسى وليس براجع وأضلّهم بالعجل فاتبعوه ، قاله ابن جريج وفائدة التفصيل قالوا : إنّ الثلاثين للتهيؤ للمناجاة والعشر لإنزال التوراة وتكليمه ، وقال أبو مسلم : بادر إلى ميقات ربه قبل قومه لقوله ) وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى مُوسَى ( الآية فجائز أن يكون أتى الطور عند تمام الثلاثية فلما أعلم بخبر قومه مع السامري رجع إلى قومه قبل تمام مدة الوعد ثم عاد إلى الميقات في عشر أخر ، قيل : لا يمتنع أن يكون وعدان أول حضره موسى وثان حضره المختارون ليسمعوا كلام الله فاختلف الوعد لاختلاف الحاضرين والثلاثون هي شهر ذي القعدة والعشر من ذي الحجة قاله ابن عباس ومسروق ومجاهد وتقدّم الخلاف في قراءة ووعدنا وقالوا انتصب ) ثَلَاثِينَ ( على أنه مفعول ثان على حذف مضاف فقدره أبو البقاء إتيان ثلاثين أو تمام ثلاثين ، وقال ابن عطية ) وثلاثين ( نصب على تقدير جلناه أو مناجاة ثلاثين وليست منتصبة على الظرف والهاء في ) لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا ( عائدة على المواعدة المفهومة من ) واعَدْنَا ( ، وقال الحوفي الهاء والألف نصب باتممناها وهما راجعتان إلى ) ثَلَاثِينَ ( ولا يظهر لأنّ الثلاثين لم تكن ناقصة فتممت بعشر وحذف مميز عشر أي عشر ليال لدلالة ما قبله عليه وفي مصحف أبي وتممناها مشدّداً والميقات ما وقت له من الوقت وضربه له وجاء بلفظ ربه ولم يأتِ على ) واعَدْنَا ( فكان يكون للتركيب قتمّ ميقاتنا لأن لفظ ) رَبَّهُ ( دالّ على أنه مصلحة وناظر في أمره ومالكه والمتصرف فيه ، قيل : والفرق بين الميقات والوقت أنّ الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت الشيء وانتصب ) أَرْبَعِينَ ( على الحال قاله الزمخشري ، الحال فيه فقال أتى ب ( تم ) بالغاً هذا العدد فعلى هذا لا يكون الحال ) أَرْبَعِينَ ( بل الحال هذا المحذوف فينا في قوله ) وأربعين ( ليلة نصب على الحال وقال ابن عطية أيضاً ويصح أن يكون أربعين ظرفاً من حيث هي عدد أزمنة ، وقيل ) وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ ( مفعول به بتمّ لأن معناه بلغ والذي يظهر أنه تمييز محول من الفاعل وأصله فتم أربعون ميقات ربه أي كملت ثم أسند التمام لميقات وانتصب أربعون على التمييز والذي يظهر أن هذه الجملة تأكيد وإيضاح ، وقيل : فائدتها إزالة توهم العشر من الثلاثين لأنه يحتمل إتمامها بعشر من الثلاثين ، وقيل : إزالة توهم أن تكون عشر ساعات أي أتممناها بعشر ساعات .
( وَقَالَ مُوسَى لاِخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ( وقرء شاذاً ) هَارُونَ ( بالضم على النداء أي يا هارون أمره حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها أن يكون خليفته في قومه وأن يصلح في نفسه أو ما يجب أن يصلح من أمر قومه ونهاه أن يتبع سبيل من أفسد وفي النهي دليل على وجود المفسدين ولذلك نهاه عن اتباع سبيلهم وأمره إياه بالصلاح ونهيه عن اتباع سبيل المفسدين هو على سبيل التأكيد لا لتوهّم أنه يقع منه خلاف الإصلاح واتباع تلك السبيل لأن منصب النبوّة منزّه عن ذلك ومعنى

" صفحة رقم 380 "
) اخْلُفْنِى ( استبد بالأمر وذلك في حياته إذ راح إلى مناجاة ربه وليس المعنى أنك تكون خليفتي بعد موتي ألا ترى أن هارون عليه السلام مات قبل موسى عليهما السلام ، وليس في قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لعليّ ( أنت مني كهارون من موسى ) دليل على أنه خليفته بعد موته إذ لم يكن هارون خليفة بعد موت موسى وإنما استخلف الرسول عليًّا على أهل بيته إذ سافر الرسول عليه السلام في بعض مغازيه كما استخلف ابن أم مكتوم على المدينة فلم يكن في ذلك دليل على أنه يكون خليفة بعد موت الرسول . ) وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلِمَةُ رَبَّهُ ( أي للوقت الذي ضربه له أي لتمام الأربعين كما تقول أتيته لعشر خلون من الشهر ومعنى اللام الاختصاص والجمهور على أنه وحده خصّ بالتكليم إذ جاء للميقات ، وقال القاضي : سمع هو والسبعون كلام الله ، قال ابن عطية : خلق له إدراكاً سمع به الكلام القائم بالذات القديمة الذي هو صفة ذات ، وقال ابن عباس وابن جبير : أدنى الله تعالى موسى حتى سمع صريف الأقلام في اللوح المحفوظ وقال الزمخشري : ) وَكَلِمَةُ رَبَّهُ ( من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أنْ يخلق الكلام منظوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظاً في اللوح وروي أن موسى كان يسمع الكلام في كل جهة ، وعن ابن عباس كلمة أربعين يوماً وأربعين ليلة وكتب له الألواح ، وقيل : إنما كلمة في أول الأربعين انتهى ، وقال وهب كلمه في ألف مقام وعلى أثر كل مقام يرى نور على وجهه ثلاثة أيام ولم يقرب النساء مذ كلّمه الله وقد أوردوا هنا الخلاف الذي في كلام الله وهو مذكور ودلائل المختلفين مذكور في كتب أصول الدين وكلّمه معطوف على جاء ، وقيل حال وعدل عن قوله وكلمناه إلى قوله ) وَكَلَّمَهُ ( ربه للمعنى الذي عدل إلى قوله ) فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ ( وفلما تجلّى ربه . ) قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ). قال السدّي وأبو بكر الهذلي : لما كلمه وخصّه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشوّف إلى ذلك فسأل ربه أن يريه نفسه . قال الزجاج : شوّقه الكلام فعيل صبره فحمله على سؤال الرؤية ، وقال الرّبيع : لم يعهد إليه في الرؤية فظن أن السؤال في هذا الوقت جائز ، وقال السدي : غار الشيطان في الأرض فخرج بين يديه فقال إنما يكلمك شيطان فسأل الرؤية ولو لم تجز الرؤية ما سألها ؟ قال ابن عطية : ورؤية الله عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلاً لأنه من حيث هو موجود تصحّ رؤيته وقررت الشريعة رؤية الله في الآخرة ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر الشرع فموسى عليه السلام لم يسأل محالاً وإنما سأل جائزاً وقوله ) لَن تَرَانِى وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ( الآية ليس بجواب من سأل محالاً وقد قال تعالى لنوح عليه السلام : ) فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( فلو سأل موسى محالاً لكان في الجواب زجر ما وتيئيس ، وقال الكرماني وغيره : في الكلام محذوف تقديره لن تراني في الدنيا ، وقيل لن تقدر أن تراني ، وقيل لن تراني بسؤالك ، وقيل لن تراني ولكن ستراني حين أتجلى للجبل ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف طلب موسى عليه السلام ذلك وهو من أعلم الناس بالله تعالى وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز وبتعاليه عن الصفة التي هي إدراك ببعض الحواس وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة ومنع المجبرة إحالته في العقول غير لازم لأنه ليس بأول مكابرتهم وارتكابهم وكيف يكون طالبه وقد قال حين أخذتهم الرّجفة الذين ) قَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا ( إلى قوله ) تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء ( فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالاً ، ( قلت ) : ما كان طلبه الرؤية إلا ليسكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء

" صفحة رقم 381 "
وضلالاً وتبرأ من فعلهم وليلقمهم الحجة وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحق فلجّوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا لا بدّ ولن نؤمن لك حتى نراه فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله لن تراني ليتيقنوا وينزاح عنهم ما كان داخلهم من الشبهة فلذلك قال ) رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ( ( فإن قلت ) : فهلا قال أرهم ينظرون إليك ( قلت ) : لأنّ الله سبحانه إنما كلم موسى وهم يسمعون فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه كما أسمعه كلامه فسمعوه معه إرادة مبنية على قياس فاسد فلذلك قال موسى أرني ) أَنظُرْ إِلَيْكَ ( ولأنه إذا زجر عما طلب وأنكر عليه مع نبوته واختصاصه وزلفته عند الله وقيل له لن يكون ذلك كان غيره أولى بالإنكار ولأن الرسول إمام أمته فكان ما يخاطب به أو يخاطب راجعاً إليهم وقوله أنظر إليك وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم دليل على أنه ترجمة على مقترحهم وحكاية لقولهم وجلّ صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه مقابلاً بحاسة النظر فكيف بمن هو أعرق في معرفة الله من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبي الهذيل والشيخين وجميع المسلمين ، وثاني مفعول أرني محذوف أي ) أَرِنِى ( نفسك اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك انتهى . ) قَالَ لَن تَرَانِى ). قال ابن عطية نصّ على منعه الرؤية في الدنيا ولن تنفي المستقبل فلو بقينا على هذا النفي بمجرّده لتضمن أنّ موسى لا يراه أبداً ولا في الآخرة لكن ورد من جهة أخرى الحديث المتواتر أن أهل الإيمان يرون الله تعالى يوم القيامة فموسى عليه السلام أحرى برؤيته ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى ) لَنْ ( ، ( قلت ) : تأكيد النفي الذي تعطيه لا وذلك أن لا تنفي المستقبل تقول لا أفعل غداً فإذا أكدت نفيها قلت لن أفعل غداً والمعنى أن فعله ينافي حال كقوله ) لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ ( وقوله ) لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( نفي للرؤية فيما يستقبل ولن تراني تأكيد وبيان ( فإن قلت ) : كيف قال لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ لقوله ) أَنظُرْ إِلَيْكَ ( ، ( قلت ) : لما قال ) أَرِنِى ( بمعنى اجعلني متمكناً من الرؤية التي هي الإدراك علم أنّ الطلبة هي الرؤية لا النظر الذي لا إدراك معه فقيل لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ .
( وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى ( قال مجاهد وغيره : ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشدّ فإن استقرّ وأطاق الصبر لهيبتي فسيمكنك أنت رؤيتي ، قال ابن عطية : فعلى هذا إنما جعل الله له الجبل مثالاً ، وقالت فرقة : إنما المعنى سأبتدىء لك على الجبل فإن استقرّ لعظمتي فسوف تراني انتهى ، وتعليق الرؤية على تقدير الاستقرار مؤذن بعدمها إن لم يستقر ونبّه بذلك على أنّ الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقرّ وهذا تسكين لقلب موسى وتخفيف عنه من ثقل أعباء المنع . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف اتصل الاستدراك في قوله تعالى ) وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ( بما قبله ، ( قلت ) : تصل به على معنى أنّ النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلب الرؤية لأجلهم كيف أفعل به وكيف أجعله دكًّا بسبب طلبك للرؤية لتستعظم ما أقدمت عيه بما أريك من عظيم أثره كأنه عز وعلا حقّق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله تعالى ) وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً ( ) فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ( كما كان مستقراً ثابتاً ذاهباً في جهانه ) فَسَوْفَ تَرَانِى ( تعريض لوجود الرؤية لوجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حتى يدكّه دكًّا ويسوّيه بالأرض وهذا كلام مدمج بعضه في بعض وأولاد على أسلوب عجيب ونظم بديع ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة

" صفحة رقم 382 "
الاستدراك ثم كيف ثنّى بالوعيد بالرّجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية أعني قوله ) فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى ( انتهى وهو على طريقة المعتزلة في نفي رؤية الله تعالى ، ولهم في ذلك أقاويل أربعة : أحدها : ما رووا عن الحسن وغيره أن موسى ما عرف أن الرؤية غير جائزة وهو عارف بعدله وبربه وبتوحيده فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفاً على السماع ورد ذلك وبأنه يلزم أن تكون معرفته بالله أقل درجة من معرفة أرذال المعتزلة وذلك باطل بالإجماع ، الثاني : قال الجبائي وابنه أبو هاشم : سأل الرؤية على لسان قومه فقد كانوا مكثرين للمسألة عنها لا لنفسه فلما منع ظهر أن لا سبيل إليها وردّ بأنه لو كان كذلك لقال أرهم ينظروا إليك ولقيل لن تروني وأيضاً لو كان محالاً لمنعهم عنه كما منعهم عن جعل الآلهة لهم بقوله إنكم قوم تجهلون ، وقال الكعبي سأله الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوس عن معرفته كما تقول في معرفة أهل الآخرة ، وردّ ذلك بأنه يقتضي حذف مضاف وسياق الكلام يأبى ذلك فقد أراه من الآيات ما لا غاية بعدها كالعصا وغيرها ، وقال الأصمّ المقصود أن يذكر من الدلائل السمعية ما يدل على امتناع الرؤية حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي وأل في الجبل للعهد وهو أعظم جبل بمدين يقال له ارريين قال ابن عباس تطاولت الجبال للتجلي وتواضع ارريين فتجلّى له .
2 ( ) وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِىأَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ يامُوسَى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَآ ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاٌّ لْوَاحِ مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَىْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَلِقَآءِ الاٌّ خِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فَىأَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِىأَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى

" صفحة رقم 383 "
فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الْحَيواةِ الدُّنْيَا وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الاٌّ لْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ( )
الأعراف : ( 143 ) ولما جاء موسى . . . . .
التجلي الظهور . الدّك مصدر دككت الشيء فتتة وسحقته مصدر في معنى المفعول والدّك والدقّ بمعنى واحد وقال يزدكاً مستوياً مع الأرض . الخرور السقوط . أفاق ثاب إليه حسّه وعقله . اللوح معروف وهو يعد للكتابة وغيرها وأصله اللمع تلمع وتلوح فيه الأشياء المكتوبة . الحلى معروف وهو ما يتزين به النساء من فضة وذهب وجوهر وغير ذلك من الحجر النفيس . الخوار صوت البقرة . الأسف الحزن يقال أسف يأسف . الجرّ الجذب . الإشمات السرور بما ينال الشخص من المكروه . السكوت والسكات الصمت .
( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ( ترتب على التجلي أمران أحدهما تفتت الجبل وتفرّق أجزائه ، والثاني خرور موسى مغشياً عليه . قاله ابن زيد وجماعة المفسرين ، وقال السدّي ميتاً ويبعده لفظه أفاق والتجلّي بمعنى الظّهور الجسماني مستحيل على الله تعالى ، قال ابن عباس وقوم لما وقع نوره عليه تدكدك ، وقال المبرد : المعنى ظهر للجبل من ملكوت الله ما يدكدك به ، وقيل ظهر جزء من العرش للجبل فتصرّع من هيبته ، وقيل : ظهر أمره تعالى ، وقيل : ) تَجَلَّى ( لأهل الجبل يريد موسى والسبعين الذين معه ، وقال الضحاك : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر الثور ، وقال عبد الله بن سلام : وكعب الأحبار ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط ، وقال الزمخشري : فلما ظهر له اقتداره وتصدّى له أمره وإرادته انتهى ، وقال المتأولون المتكلمون كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره : إن الله خلق للجبل حياة وحسًّا وإدراكاً يرى به ثم تجل له أي ظهر وبدا فاندك الجبل لشدة المطلع فلما رأى موسى ما بالجبل صعق وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، والظاهر نسبة التجلي إليه تعالى على ما يليق به من غير انتقال ولا وصف يدلّ على الجسمية ، قال ابن عباس صار تراباً . وقال مقاتل قطعاً متفرقة ، وقيل صار ستة أجبل ثلاثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ، وثلاثة بمكة ثور وثبير وحرا ، رواه أنس عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقيل ذهب أعلاه وبقي أسفله ، وقيل صار غباراً تذروه الرياح ، وقال سفيان : روى أنه انساح في الأرض وأفضى إلى البحر الذي تحت الأرضين ، قال ابن الكلبي : فهو يهوي فيه إلى يوم القيامة ، وقال الجمهور ) دَكّاً ( أي مدكوكاً أو ذا دك وقرأ حمزة والكسائي دكاء على وزن حمراء والدكاء الناقة التي لا سنام لها والمعنى جعله أرضاً دكاء تشبيهاً بالناقة الدكاء ، وقال الربيع بن خيثم : ابسط يدك دكاء أي مدّها مستوية ، وقال الزمخشري والدكاء اسم للرابية الناشرة من الأرض كالدكة

" صفحة رقم 384 "
انتهى ، وهذا يناسب قول من قال إنه لم يذهب بجملته وإنما ذهب أعلاه وبقي أكثر ، وقرأ يحيى بن وثاب ) دَكّاً ( أي قطعاً جمع دكاء نحو غز جمع غزاء ، وانتصب على أنه مفعول ثان لجعله ويضعف قول الأخفش إن نصبه من باب قعدت جلوساً ) وصعقاً ( حال مقارنة ، ويقال صعقة فصعق وهو من الأفعال التي تعذّب بالحركة نحو شتر الله عينه فشترت ، والظاهر أن موسى والجبل لم يطيقا رؤية الله تعالى حين تجلى فلذلك اندكّ الجبل وصعق موسى عليه السلام ، وحكى عياض بن موسى عن القاضي أبي بكر بن الطيّب : أن موسى اليه السلام رأى الله فلذلك خرّ صعقاً وأن الجبل رأى ربه فلذلك صار دكًّا بإدراك كلفة الله له وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى ( صلى الله عليه وسلم ) ) فكلم موسى مرتين ورآه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) مرتين وذكر المفسرون من رؤيته ملائكة السموات السبع وحملة العرش وهيئاتهم وإعدادهم ما الله أعلم بصحته .
( صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ). أي من مسألة الرؤية في الدنيا قاله مجاهد أو ومن سؤالها قبل الاستئدان أو عن صغائري حكاه الكرماني ، أو قال ذاك على سبيل الإنابة إلى الله تعالى والرجوع إليه عند ظهور الآيات على ما جرت به عادة المؤمن عند رؤية العظائم وليست توبة عن شيء معين أشار إليه ابن عطية ، وقال الزمخشري ) قَالَ سُبْحَانَكَ ( أنزّهك عن ما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها ) تُبْتُ إِلَيْكَ ( من طلب الرؤية ، ( فإن قلت ) : فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته فمم تاب ، ( قلت ) : عن إجرائه تلك المقالة العظيمة وإن كان لغرض صحيح على لسانه من غير إذن فيه من الله تعالى فانظر إلى إعظام الله تعالى أمر الرؤية في هذه الآية وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكًّا وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان ذلك مبالغة في إعظام الأمر وكيف سبّح ربه ملتجئاً إليه وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه وقال ) أَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ( ، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام بالمتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً ولا يغرّنك تستّرهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم والقول ما قاله بعض العدلية فيهم : لجماعة سموا هواهم سنة
وجماعة حمر لعمري مؤكفه
قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا
شنع الورى فتستّروا بالبلكفه
وهو تفسير على طريقة المعتزلة وسبّ لأهل السنة والجماعة على عادته وقد نظم بعض علماء السنة على وزن هذين البيتين وبحرهما أنشدنا الأستاذ العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بغرناطة إجازة إن لم يكن سماعاً ونقلته من خطّه ، قال أنشدنا القاضي الأديب العالم أبو الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني بقراءتي عليه عن أخيه القاضي أبي بكر من نظمه : شبهت جهلاً صدر أمة محمد
وذوي البصائر بالحمير المؤكفه
وزعمت أن قد شبّهوا معبودهم
وتخوّفوا فتستروا بالبلكفه
ورميتهم عن نبعة سويتها
رمْي الوليد غدا يمزق مصحفه
وجب الخسار عليك فانظر منصفا
في آية الأعراف فهي المنصفه
أترى الكليم أتى بجهل ما أتى
وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه
وبآية الأعراف ويك خذلتم
فوقفتم دون المراقي المزلفه
لو صحّ في الإسلام عقدك لم تقل
بالمذهب المهجور من نفي الصفه
إن الوجوه إليه ناظرة بذا
جاء الكتاب فقلتم هذا السّفه

" صفحة رقم 385 "
فالنقي مختص بدار بعدها
لك لا أبا لك موعداً لن تخلفه
وأنشدنا قاضي القضاة أبو القاسم عبد الرحمن بن قاضي القضاة أبي محمد بن عبد الوهاب بن خلف العلامي بالقاهرة لنفسه : قالوا يريد ولا يكون مراده
عدلوا ولكن عن طريق المعرفه
) وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ( قال ابن عباس ومجاهد : من مؤمني بني إسرائيل ، وقيل : من أهل زمانه إن كان الكفر قد طبق الآفاق ، وقال أبو العالية بأنك لا ترى في الدنيا ، وقال الزمخشري : بأنك لست بمرئيّ ولا مدرك بشيء من الحواس ، وقال أيضاً بعظمتك وجلالك وأن شيئاً لا يقوم لبطشك وبأسك انتهى ، وتفسيره الأول على طريقة المعتزلة وقد ذكر متكلمو أهل السنة دلائل على رؤية الله تعالى سمعية وعقلية يوقف عليها وعلى حجج الخصوم في كتب أصول الدين .
الأعراف : ( 144 ) قال يا موسى . . . . .
( قَالَ يَاء مُوسَى إِنّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ ( لما طلب موسى عليه السلام الرؤية ومنعها عدد عليه تعالى وجوه ونعمة العظيمة عليه وأمره أن يشتغل بشكرها وهذه تسلية منه تعالى له والاصطفاء تقدّم شرحه وعلى الناس لفظ عام ومعناه الخصوص أي على أهل زمانك أو يبقى على عمومه ويعني في مجموع الدّرجتين الرسالة والكلام قاله ابن عطية وينبغي أن يحمل ذلك على وقوع الكلام في الأرض إذ ثبت أن آدم نبي مكلم وتؤوّل على أن ذلك في الجنة ورسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويظهر من حديث الإسراء أنه كلمه الله تعالى ويدلّ قوله ) وَبِكَلَامِي ( على أنه سمع الكلام من الله لا من غيره لأن الملائكة تنزل على الرسل بكلام الله وقدّم ) بِرِسَالَاتِي ( وعلي ) وَبِكَلَامِي ( لأن الرسالة أسبق في الزمان أو لأنه انتقل من شريف إلى أشرف ، وقرأ الحرميان برسالتي على الإفراد وهو مراد به المصدر أي بإرسالي أو يكون على حذف مضاف أي بتبليغ رسالتي لأن مدلول الرسالة غير مدلول المصدر ، وقرأ باقي السبعة بالجمع لأنّ الذي أرسل به ضروب وأنواع ، وقرأ الجمهور ) وَبِكَلَامِي ( فاحتمل أن يكونن مصدراً أي وبتكليمي أو يكون على حذف مضاف أي وبسماع كلامي ، وقرأ أبو رجاء برسالتي وبكلمي جمع كلمة أي وبسماع كلمي ، وقرأ الأعمش برسالاتي وتكلمي ، وحكى عنه المهدوي وتكليمي على وزن تفعيلي وأمره تعالى أن يأخذ ما آتاه من النبوّة لأنّ في الأمر بالأخذ مزيد تأكيد وحصول أجر بالامتثال والمعني خذ ما آتيتك باجتهاد في تبليغه وجدّ في النفع به ) وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ ( على ما آتيناك وفي ذلك إشارة إلى القنع والرضا بما أعطاه الله والشكر عليه .
الأعراف : ( 145 ) وكتبنا له في . . . . .
( وَكَتَبْنَا فِى الاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْء ( قيل : إنّ موسى عليه السلام صعق يوم الجمعة يوم عرفة وأفاق فيه وأعطى التوراة يوم النحر وظاهر قوله ) وَكَتَبْنَا ( نسبة الكتابة إليه . فقيل كتب بيده وأهل السماء يسمعون صرير القلم في اللوح ، وقيل : أظهرها وخلقها في الألواح ، وقيل : أمر القلم أن يخطَّ لموسى في الألواح ، وقيل : كتبها جبريل عليه السلام بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النّور ففي هذين القولين أسند ذلك إلى نفسه تشريف إذ ذاك صادر عن أمره ، وقيل : معنى ) كَتَبْنَا ( فرضنا كقوله تعالى ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( والضمير في ) لَهُ ( عائد على موسى ) والألواح ( جمع قلة وأل فيها لتعريف الماهيّة فإن كان هو الذي قطعها وشققها فتكون أل فيها للعهد ، وقال ابن عطية : عوض من الضمير الذي يقدر وصلة بين الألواح وموسى عليه السلام تقديره في

" صفحة رقم 386 "
ألواحه وهذا كقوله تعالى ) الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى ( أي مأواه انتهى وكون أل عوضاً من الضمير ليس مذهب البصريين ولا يتعين أن يكون عوضاً من الضمير وليس ذلك كقوله فإن الجنة هي المأوى لأنّ الجملة خبر عن من فاحتاجت الجملة إلى رابط ، فقال الكوفيون : أل عوض من الضمير كأنه قيل مأواه ، وقال البصريون : الرابط محذوف أي هي المأوى له وظاهر الألواح الجمع ، فقيل كانت سبعة وروى ذلك عن ابن عباس ، وقيل ثمانية ذكره الكرماني ، وقيل : تسعة قاله مقاتل : وقيل : عشرة قاله وهب بن منبه ، وقيل اثنان وروي عن ابن عباس أيضاً واختاره الفرّاء ، وهذا ضعيف لأنّ الدلالة بالجمع على اثنين قياساً له شرط مذكور في النحو هو مفقود هنا ، وقال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي وقر سبعين بعيراً يقرأ الجزء منها في سنة ولم يقرأها سوى أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى ، وقد اختلفوا من أي شيء هي فعن ابن عباس وأبي العالية زبرجد ، وعن ابن جبير من ياقوت أحمر ، وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد من زمرد أخضر ، وعن أبي العالية أيضاً من برد ، وعن مقاتل من زمرد وياقوت ، وعن الحسن من خشب طولها عشرة أذرع ، وعن وهب من صخرة صماء أمر بقطعها ولانت له فقطعها بيده وشققها بأصابعه ، وقيل : من نور حكاه الكرماني ، والمعنى من كل شيء محتاج إليه في شريعتهم ) مَّوْعِظَةٌ ( للازدجار والاعتبار ) وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء ( من التكاليف الحلال والحرام والأمر والنهي والقصص والعقائد والإخبار والمغيبات ، وقال ابن جبير ومجاهد : لكل شيء مما أمروا به ونهوا عنه ، وقال السدّي الحلال والحرام ، وقال مقاتل كان مكتوباً في الألواح إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبل ولا تحلفوا باسمي كاذبين فإن من حلف باسمي كاذباً فلا أزكيه ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين والظاهر أن مفعول ) كَتَبْنَا ( أي كتبنا فيها ) مَّوْعِظَةٌ ( ) مِن كُلّ شَىْء ( ) وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء ( قاله الحوفي قال نصب ) مَّوْعِظَةٌ ( بكتبنا ) وَتَفْصِيلاً ( عطف على ) مَّوْعِظَةٌ ( ) لّكُلّ شَىْء ( متعلق بتفصيلاً انتهى ، وقال الزمخشري : ) مِن كُلّ شَىْء ( في محل النصب مفعول ) وَكَتَبْنَا ( ) وَمَوْعِظَةً ( ، ( وَتَفْصِيلاً ( بدل منه والمعنى كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل يحتاجون إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام انتهى ، ويحتمل عندي وجه ثالث وهو أن يكون مفعول ) كَتَبْنَا ( موضع المجرور كما تقول أكلت ) مِنْ ( الرّغيف ، ومن للتبعيض أي كتبنا له أشياء من كل شيء وانتصب ) مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً ( على المفعول من أجله أي كتبنا له تلك الأشياء للاتعاظ والتفصيل لأحكامهم .
( فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ( أي فقلنا خذها عطفاً على ) كَتَبْنَا ( ويجوز أن يكون ) فَخُذْهَا ( بدلاً من قوله ) فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ ( ، والضمير في ) فَخُذْهَا ( عائد على ما على معنى ما لا على لفظها وأما إذا كان على إضمار فقلنا فيكون عائداً على ) الاْلْوَاحِ ( أي الألواح أو على ) كُلّ شَىْء ( لأنه في معنى الأشياء أو على التوراة أو على الرسالات وهذه احتمالات مقوّلة أظهرها الأول ، ومعنى ) بِقُوَّةٍ ( قال ابن عباس بجدّ واجتهاد فعل أولي العزم ، وقال أبو العالية والربيع بن أنس : بطاعة ، وقال جويبر : بشكر ، وقال ابن عيسى : بعزيمة وقوة قلب لأنه إذا أخذها بضعف النية أدّاه إلى الفتور ، وهذا القول راجع لقول ابن عباس : أمر موسى أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه وقوله ) بِأَحْسَنِهَا ( ظاهره أنه أفعل التفضيل وفيها الحسن والأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر ، وقيل : أحسنها الفرائض والنوافل وحسنها المباح ، وقيل : أحسنها الناسخ وحسنها المنسوخ ولا يتصور أن يكون المنسوخ حسناً إلا باعتبار ما كان عليه قبل النسخ أما بعد النسخ فلا يوصف بأنه حسن لأنه ليس مشروعاً ، وقيل الأحسن المأمور به دون المنهي عنه ، قال الزمخشري : على قوله الصيف أحرّ من الشتاء انتهى ، وذلك على تخيّل أن في الشتاء حرّاً ويمكن الاشتراك فيهما في الحسن بالنسبة إلى الملاذ وشهوات

" صفحة رقم 387 "
النفس فيكون المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه ويكون المنهي عنه حسناً باعتبار الملاذ والشهوة فيكون بينهما قدر مشترك في الحسن وإن اختلف متعلقه ، وقيل أحسنها هو أشبه ما تحتمله الكلمة من المعاني إذا كان لها احتمالات فتحمل على أولاها بالحق وأقربها إليه ، وقيل أحسن هنا ليست أفعل التفضيل بل المعنى بحسنها كما قال : بيتاً دعائمه أعز وأطول أي عزيزة طويلة قاله قطرب وابن الأنباري فعلى هذا أمروا بأن يأخذوا بحسنها وهو ما يترتب عليه الثواب دون المناهي التي يترتب على فعلها العقاب ، وقيل أحسن هنا صلة والمعنى يأخذوا بها وهذا ضعيف لأنّ الأسماء لا تزاد وانجزم ) يَأْخُذُواْ ( على جواب الأمر وينبغي تأويل ) وَأْمُرْ قَوْمَكَ ( لأنه لا يلزم من أمر قومه بأخذ أحسنها أن ) يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ( فلا ينتظم منه شرط وجزاء ) وبأحسنها ( متعلّق بيأخذوا وذلك على إعمال الثاني لأن ) يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ( مقتضى لقوله ) وَأَمَرُّ ( ولقوله ) يَأْخُذُواْ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ ( مجزوماً على إضمار لام الأمر أي ليأخذوا لأنّ معنى ) وَأْمُرْ قَوْمَكَ ( قل لقومك وذلك على مذهب الكسائي ومفعول ) يَأْخُذُواْ ( محذوف لفهم المعنى أي ) يَأْخُذُواْ ( أنفسهم ) بِأَحْسَنِهَا ( ويحتمل أن تكون الباء زائدة أي يأخذوا أحسنها كقوله لا يقرأن بالسور ، والوجه الأوّل أحسن وانظر إلى اختلاف متعلق الأمرين أمر موسى بأخذ جميعها ، فقيل : ) فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ( وأكّد الأخذ بقوله ) بِقُوَّةٍ ( وأمروا هم أن ) يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ( ولم يؤكد ليعلم أن رتبة النبوة أشقّ في التكليف من رتبة التابع ولذلك فرض على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قيام الليل وغير ذلك من التكاليف المختصة به والإراءة هنا من رؤية العين ولذلك تعدَّت إلى اثنين و ) دَارَ الْفَاسِقِينَ ( مصر قاله عليّ وقتادة ومقاتل وعطية العوفي والفاسقون فرعون وقومه .
قال الزمخشري كيف أقفرت منهم ودمّروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكّل بكم مثل نكالهم انتهى ، وقيل المعنى : وقيل المعنى : سأريكم مصارع الكفار وذلك أنه لما أغرق فرعون وقومه أوحى إلى البحر أن اقذف أجسادهم إلى الساحل ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم مصارع الفاسقين ، وقال الكلبي : ما مرّوا عليه إذا سافروا من مصارع عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا ، وقال قتادة أيضاً الشام والمراد العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم ، وقال مجاهد والحسن : ) دَارَ الْفَاسِقِينَ ( جهنم والمراد الكفرة بموسى وغيره ، وقال ابن زيد : ) سأريكم ( من رؤية القلب أي سأعلمكم سير الأولين وما حلّ بهم من النكال ، وقيل ) سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ( أي ما دار إليه أمرهم وهذا لا يدرك إلا بالأخبار التي يحدّث عنها العلم وهذا قريب من قول ابن زيد ، وقال ابن عطية : ولو كان من رؤية القلب لتعدّى بالهمزة إلى ثلاثة ولو قال قائل المفعول الثالث يتضمنه المعنى فهو مقدّر أي مدمرة أو خربة أو مسعرة على قول من قال إنها جهنم قيل له : لا يجوز حذف هذا المفعول ولا الاقتصاد دونه لأنها

" صفحة رقم 388 "
داخلة على الابتداء والخبر ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله تعالى انتهى ، وحذف المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنى عليه جائز فيجوز في جواب هل أعلمت زيداً عمراً منطلقاً أعلمت زيداً عمراً ويحذف منطلقاً لدلالة الكلام السابق عليه وأما تعليله لأنها داخلة على الابتداء والخبر لا يدل على المنع لأن خبر المبتدأ يجوز حذفه اختصاراً والثاني والثالث في بام أعلم يجوز حذف كل واحد منهما اختصاراً وفي قوله لأنها أي ) سأريكم ( داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوز ويعني أنها قبل النقل بالهمزة فكانت داخلة على المبتدأ والخبر ، وقرأ الحسن : ) عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ( بواو ساكنة بعد الهمزة على ما يقتضيه رسم المصحف ووجّهت هذه القراءة بوجهين ، أحدهما : ما ذكره أبو الفتح وهو أنه أشبع الضمة ومطّلها فنشأ عنها الواو قال : ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه انتهى ، فيكون كقوله أدنو فانظر رأى فانظر ، وهذا التوجيه ضعيف لأن الاشباع بابه ضرورة الشعر ، والثاني : ما ذكره الزمخشري قال وقرأ الحسن ) سَأُوْرِيكُمْ ( وهي لغة فاشية بالحجاز يقال : أورني كذا وأوريته فوجهه أن يكون من أوريت الزند كأن المعنى بينه لي وأثره لأستبينه انتهى ، وهي أيضاً في لغة أهل الأندلس كأنهم تلقفوها من لغة الحجاز وبقيت في لسانهم إلى الآن وينبغي أن ينظر في تحقق هذه اللغة أهي في لغة الحجاز أم لا ، وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير سأورثكم ، قال الزمخشري وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى ) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ ).
الأعراف : ( 146 ) سأصرف عن آياتي . . . . .
( سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ ( لما ذكر ) سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ( ذكر ما يفعل بهم تعالى من صرفه إياهم عن آياته لفسقهم وخروجهم عن طورهم إلى وصف ليس لهم ثم ذكر تعالى من أحوالهم ما استحقّوا به اسم الفسق ، قال ابن جبير سأصرفهم عن الاعتبار والاستدلال بالدلائل والآيات على هذه المعجزات وبدائع المخلوقات ، وقال قتادة : سأصدّهم عن الإعراض والطّعن والتحريف والتبديل والتغيير فالآيات القرآن فإنه مختص بصونه عن ذلك ، وقال سفيان بن عيينة سأمنعهم من تدبرها ونظرها النظر الصحيح المؤدّي إلى الحقّ ، وقال الزجاج : أجعل جزاءهم سأصرفهم عن دفع الانتقام أي إذا أصابتهم عقوبة لم يدفعها عنهم فالآيات على هذا ما حلّ بهم من المثلات التي صاروا بها مثلة وعبرة وعلى هذه الأقوال يكون ) الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ ( عام أي كل من قام به هذا الوصف ، وقيل : هذا من تمام خطاب موسى ، والآيات هي التسع التي أعطيها والمتكبرون هم فرعون وقومه صرف الله قلوبهم عن الاعتبار بها بما انهمكوا فيه من لذّات الدنيا وأخذ الزمخشري بعض أقوال المفسرين فقال ) سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي ( بالطبع على قلوب المتكبّرين وخذلانهم فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها غفلة وانهماكاً فيما يشغلهم عنها من شهواتهم وفيه إنذار المخاطبين من عاقبة والذين يصرفون عن الآيات لتكبّرهم وكفرهم بها لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم انتهى ، و ) الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ ( عن الإيمان قال ابن عطيّة : هم الكفرة والمعنى في هذه الآية سأجعل الصّرف عن الآيات عقوبة المتكبّرين على تكبّرهم انتهى ، وقيل هم الذين يحتقرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم ، وفي الحديث الصحيح إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس ويتعلق بغير الحق بيتكبرون أي بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم وقد يكون التكبّر بالحقّ كتكبّر المحقّ على المبطل لقوله تعالى : ) اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( ويجوز أن يكون في موض الحال فيتعلق بمحذوف أي ملتبسين بغير الحقّ والمعنى غير مستحقّين لأنّ التكبر بالحق لله وحده لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد .
( وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ( وصفهم هذا الوصف الذّميم وهو التكبّر عن الإيمان حتى لو عرضت عليهم كل آية لم يروها آية فيؤمنوا بها وهذا ختم منه تعالى على الطائفة التي قدر أن لا يؤمنوا . وقرأ مالك بن دينار : وإن ) يَرَوْاْ ( بضم الياء .
( وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَىّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ). أُراهم الله السبيلين فرأوهما فآثروا الغيّ على الرشد كقوله ) فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى

" صفحة رقم 389 "
الْهُدَى ). وقرأ الأخوان ) الرُّشْدِ ( وباقي السبعة ) الرُّشْدِ ( ، وعن ابن عامر في رواية اتباع الشين ضمة الراء وأبو عبد الرحمن الرّشاد وهي مصادر كالسقم والسقم والسقام ، وقال أبو عمرو بن العلاء : ) الرُّشْدِ ( الصّلاح في النظر وبفتحهما الدين ، وقرأ ابن أبي عبلة لا يتخذوها ويتخذوها على تأنيث السبيل والسبيل تذكر وتؤنث ، قال تعالى : ) قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى ( ولما نفى عنهم الإيمان وهو من أفعال القلب استعار للرّشد والغي سبيلين فذكر أنهم تاركو سبيل الرشد سالكو سبيل الغي وناسب تقديم جملة الشرط المتضمنة سبيل الرشد على مقابلتها لأنها قبلها .
( وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ( فذكر موجب الإيمان وهو الآيات وترتّب نقيضه عليه وأتبع ذلك بموجب الرشد وترتب نقيضه عليه ثم جاءت الجملة بعدها مصرّحة بسلوكهم سبيل الغي ومؤكدة لمفهوم الجملة الشرطية قبلها لأنه يلزم من ترك سبيل الرّشد سلوك سبيل الغي لأنهما إما هدى أو ضلال فهما نقيضان إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر .
( ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ). أي ذلك الصرف عن الآيات هو سبب تكذيبهم بها وغفلتهم عن النظر فيها والتفكر في دلالتها والمعنى أنهم استمرّ كذبهم وصار لهم ذلك ديدناً حتى صارت تلك الآيات لا تخطر لهم ببال فحصلت الغفلة عنها والنسيان لها حتى كانوا لا يذكرونها ولا شيئاً منها والظاهر أنّ الصرف سببه التكذيب والغفلة ممن جميعهم ويُحتمل أن الصرف سببه التكذيب ويكون قوله : ) وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ( استئناف إخبار منه تعالى عنهم أي من شأنهم أنهم كانوا غافلين عن الأيات وتدبرها فأورثنهم الغفلة التكذيب بها والظاهر أن ذلك مبتدأ وخبره بأنهم أي ذلك الصرف كائن بأنهم كذبوا وجوّزوا أن يكون منصوباً فقدّره ابن عطية فعلنا ذلك ، وقدّره الزمخشري صرفهم الله ذلك الصّرف بعينه وفي قوله تعالى : ) سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ ( إشعار بأنّ الصرف سببه هذا التكبّر وفي قوله ) ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ ( إعلام بأن ذلك الصّرف سببه التكذيب والجمع بينهما أن التكبر سبب أول نشأ عنه التكذيب فنسبه الصّرف إلى السبب الأول وإلى ما تسبب عنه .
الأعراف : ( 147 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
( وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَلِقَاء الاْخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ذكر تعالى ما يؤول إليه في الآخرة أمر المكذبين فذكر أنه يحبط أعمالهم أي لا يعبأ بها وأصل الحبْط أن يكون فيما تقدم صلاحه فاستعمل الحبوط هنا إذا كانت أعمالهم في معتقداتهم جارية على طريق صالح فكان الحبط فيها بحسب معتقداتهم إذ المكذّب بالآيات قد يكون له عمل فيه إحسان للناس وصفح وعفو عمن جنى عليه وكلّ ذلك لا يجازى عليه في الآخرة فشمل حبط الأعمال من له عمل برّ ومن عمله من أوّل مرة فاسد ونبّه بلقاء الآخرة على محلّ افتضاحهم وجزائهم وتهديداً لهم ووعيداً بها وأنها كائنة لا محالة وإضافة ) لِقَاء ( إلى ) الاْخِرَةَ ( إضافة المصدر إلى المفعول أي ولقائهم الآخرة . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها ومن إضافة المصدر إلى الظرف لأنّ الظرف هو على تقدير في والإضافة عندهم إنما هي على تقدير اللام أو تقدير من على ما بين في علم النحو فإنّ اتسع في العامل جاز أن ينصب الظرف نصب المفعول به وجاز إذ ذاك أن يُضاف مصدره إلى ذلك الظرف المتسع في عامله وأجاز بعض النحويين أن تكون الإضافة على تقدير في كما يفهمه ظاهر كلام الزمخشري ، وهو مذهب مردود في علم النحو . و ) هَلْ يُجْزَوْنَ ( استفهام بمعنى التقدير أي يستوجبون بسوء فعلهم العقوبة ، قال ابن عطية : والظاهر أنه استفهام بمعنى النفي ولذلك دخلت ) إِلا ( والاستفهام الذي هو بمعنى التقرير هو موجب من حيث المعنى فيبعد دخول إلا ولعله لا يجوز .
الأعراف : ( 148 ) واتخذ قوم موسى . . . . .
( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ ). إن كان الاتخاذ بمعنى اتخاذه إلهاً معبوداً فصح نسبته إلى القوم وذكر أنهم كلهم عبدوه غير هارون ولذلك ) قَالَ

" صفحة رقم 390 "
رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى ( ، وقيل إنما عبده قوم منهم لا جميعهم لقوله : ) وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ ( وإن كان بمعنى العمل كقوله ) كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ( أي عملت وصنعت فالمتخذ إنما هو السامري واسمه موسى بن ظفر من قرية تسمى سامرة ونسب ذلك إلى قوم موسى مجازاً كما قالوا بنو تميم قتلوا فلاناً وإنما قتله واحد منهم ولكونهم راضين بذلك ومعنى ) مِن بَعْدِهِ ( من بعد مضيه للمناجاة ومن حليّهم متعلق باتخذ وبها يتعلق من بعده وإن كانا حر في جرّ بلفظ واحد وجاز ذلك لاختلاف مدلوليهما لأنّ من الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض وأجاز أبو البقاء أن يكون ) مِنْ حُلِيّهِمْ ( في موضع الحال فيتعلق بمحذوف لأنه لو تأخر لكان صفة أي ) عِجْلاً ( كائناً من حليهم . وقرأ الأخوان من ) حُلِيّهِمْ ( بكسر الحاء اتباعاً لحركة اللام كما قالوا : عصى ، وهي قراءة أصحاب عبد الله ويحيى بن وثاب وطلحة والأعمش ، وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بضم الحاء وهو جمع حلى نحو ثدي وثدى ووزنه فعول اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لتصحّ الياء ، وقرأ يعقوب ) مِنْ حُلِيّهِمْ ( بفتح الحاء وسكون اللام وهو مفرد يراد به الجنس أو اسم جنس مفرده حلية كتمر وتمره ، وإضافة الحلى إليهم إما لكونهم ملكوه من ما كان على قوم فرعون حين غرقوا ولفظهم البحرفكان كالغنيمة ولذلك أمر هارون بجمعه حتى ينظر موسى إذا رجع في أمره أو ملكوه إذ كان من أموالهم التي اغتصبها القبط بالجزية التي كانوا وضعوها عليهم فتحيل بنو إسرائيل عل استرجاعها إليهم بالعارية وإما لكونهم لم يملكوه لكن تصرفت أيديهم فيه بالعارية فصحت الإضافة إليهم لأنها تكون بأدنى ملابسة . روى يحيى بن سلام عن الحسن : أنهم استعاروا الحلى من القبط لعرس ، وقيل : اليوم زينة ولما هلك فرعون وقومه بقي الحلى معهم وكان حراماً عليهم وأخذ بنو إسرائيل في بيعه وتمحيقه ، فقال السامريّ لهارون : إنه عارية وليس لنا فأمر هارون منادياً بردّ العارية ليرى فيها موسى رأيه إذا جاء فجمعه وأودعه هارون عند السامري وكان صائغاً فصاغ لهم صورة عجل من الحلى ، وقيل : منعهم من ردّ العارية خوفهم أن يطلع القبط على سُراهم إذ كان تعالى أمر موسى أن يسري بهم ، والعجل ولد البقرة القريب الولادة ومعنى جسداً جثة جماداً ، وقيل : بدناً بلا رأس ذهباً مصمتاً ، وقيل : صنعه مجوفاً ، قال الزمشخري : جسداً بدناً ذا لحم ودم كسائر الأجساد ، قال الحسن : إنّ السامريّ قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر فقذفه في في العجل فكان عجلاً له خوار انتهى . وهذا ضعيف أعني كونه لحماً ودماً لأنّ الآثار وردت بأن موسى برده بالمبارد وألقاه في البحر ولا يبرد اللحم بل كان يقتل ويقطع ، وقال ابن الأنباري : ذكر الجسد دلالة على عدم الروح فيه انتهى ، وظاهر قوله له خوار يدلّ على أنه فيه روح لأنه لا يخور إلا ما فيه روح ، وقيل : لما صنعه أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهبّ الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر صوت يشبه الخوار ، وقيل : جعل تحته من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به فيسمع صوت من جوفه كالخوار ، وقال الكرماني : جعل في بطن العجل بيتاً يفتح ويغلق فإذا أراد أن يخور أدخله غلاماً يخور بعلامة بينهما إذا أراد ، وقيل : يحتمل أن يكونن الله أخاره ليفتن بني إسرائيل وخواره ، قيل : مرة واحدة ولم يثنِ رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وقيل : مراراً فإذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا رؤوسهم ، وقاله ابن عباس وأكثر المفسرين ، وقرأ علي وأبو السّمأل وفرقة جوار : بالجيم والهمز من جأر إذا صاح بشدّة صوت وانتصب ) جَسَداً ( ، قال الزمخشري على البدل ، وقال الحوفي على النعت وأجازهما أبو

" صفحة رقم 391 "
البقاء وأن يكون عطف بيان وإنما قال : ) جَسَداً ( لأنه يمكن أن يتخذ مخطوطاً أو مرقوماً في حائط أو حجر أو غير ذلك كالتماثيل المصوّرة بالرقم والخط والدّهان والنقش فبين تعالى أنه ذو جسد .
( أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ( ، إن كان اتخذ معناه عمل وصنع فلا بدّ من تقدير محذوف يترتب عليه هذا الإنكار وهو فعبدوه وجعلوه إلهاً لهم وإن كان المحذوف إلهاً أي اتخذوا ) عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ ( إلهاً فلا يحتاج إلى حذف جملة ، وهذا استفهام إنكار حيث عبدوا جماداً أو حيواناً عاجزاً عليه آثار الصّنعة لا يمكن أن يتكلم ولا يهدي وقد ركز في العقول أن من كان بهذه المثابة استحال أن يكون إلهاً وهذا نوع من أنواع البلاغة يسمّى الاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي والظاهر أن يروا بمعنى يعلموا وسلب تعالى عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإلهية لأنّ انتفاء القدرة وانتفاء هذين الوصفين وهما العلم والقدرة يستلزمان باقي الأوصاف فلذلك حضّ هذان الوصفان بانتفائهما .
( اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ ( أي أقدموا على ما أقدموا عليه من هذا الأمر الشنيع وكانوا واضعين الشيء في غير موضعه أي من شأنهم الظلم فليسوا مبتكرين وضع الشيء في غيره موضعه وليس عبادة العجل بأول ما أحدثوه من المناكر ، قال ابن عطية ويحتمل أن تكون الواو واو الحال انتهى يعني في ) وَكَانُواْ ( والوجه الأول أبلغ في الذمّ وهو الإخبار عن وصفهم بالظلم وإنّ شأنهم ذلك فلا يتقيد ظلمهم بهذه الفعلة الفاضحة .
الأعراف : ( 149 ) ولما سقط في . . . . .
( وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ). ذكر بعض النحويين أن قول العرب سقط في يده فعل لا يتصرف فلا يستعمل منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مفعول وكان أصله متصرّفاً تقول سقط الشيء إذا وقع من علو فهو في الأصل متصرّف لازم ، وقال الجرجاني : سقط في يده مما دثر استعماله مثل ما دثر استعمال قوله تعالى : ) فَضَرَبْنَا عَلَىءاذَانِهِمْ ( قال ابن عطية : وفي هذا الكلام ضعف والسّقاط في كلام العرب كثرة الخطأ والندم عليه ومنه قول ابن أبي كاهل : كيف يرجون سقاطي بعدما
بقع الرأس مشيب وصلع
وحكي عن أبي مروان بن سراج أحد أئمة اللغة بالأندلس أنه كان يقول : قول العرب سقط في يده مما أعياني معناه ، وقال أبو عبيدة : يقال لمن ندم على أمر وعجز عنه سقط في يده ، وقال الزجاج : معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم ، كما يقال حصل في أيديهم مكروه وإن كان محالاً أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين ، وقال ابن عطيّة : العرب تقول لمن كان ساعياً لوجه أو طالباً غاية فعرض له ما صده عن وجهه ووقفه موقف العجز وتيقن أنه عاجز سقط في يد فلان وقد يعرض له الندم وقد لا يعرض ، قال : والوجه الذي يصل بين هذه الألفاظ وبين المعنى الذي ذكرناه هو أن السعي أو الصّرف أو الدفاع سقط في يد المشار إليه فصار في يده لا يجاوزها ولا يكون له في الخارج أثر ، وقال الزمخشري لما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل لأنّ من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعضّ يده غمًّا فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه قد وقع فيها وسقط مسند إلى ) فَى أَيْدِيهِمْ ( وهو من باب الكناية انتهى ، والصواب وسقط مسند إلى ما ) فَى أَيْدِيهِمْ ( وحكى الواحدي عن بعضهم أنه مأخوذ من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغذوات شبه الثلج يقال : منه سقطت الأرض كما يقال : من الثلج ثلجت الأرض وثلجنا أي أصابنا الثلج ومعنى سقط في يده والسّقيط والسقط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى ومن وقع في يده السّقيط لم يحصل منه على شيء فصار مثلاً لكل من خسر

" صفحة رقم 392 "
في عاقبته ولم يحصل من بغيته على طائل وكانت الندامة آخر أمره ، وقيل : من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضع ذقنه على يده معتمداً عليها ويصبر على هيئتة لو نزعت يده لسقط على وجهه كان اليد مسقوطاً فيها ومعنى ) فِى ( على أي سقط على يده ومعنى ) فَى أَيْدِيهِمْ ( أي على أيديهم كقوله ) وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ ( انتهى . وكان متعلق سقط قوله في أيديهم لأنّ اليد هي الآلة التي يؤخذ بها ويضبط ) وسقط ( مبني للمفعول والذي أوقع موضع الفاعل هو الجار والمجرور كما تقول : جلس في الدار وصحك من زيد ، وقيل : سقط تتضمن مفعولاً وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط كما يقال : ذهب بزيد انتهى ، وصوابه وهو هنا ضمير المصدر الذي هو السقوط لأنّ سقط ليس مصدره الإسقاط وليس نفس المصدر هو المفعول الذي لم يسمّ فاعله بل هو ضميره وقرأت فرقة منهم ابن السميقع ) وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ ( مبنياً للفاعل ، قال الزمخشري أي وقع الغضّ فيها ، وقال الزجاج : سقط الندم في أيديهم ، قال ابن عطية : ويحتمل أنّ الخسران والخيبة سقط في أيديهم ، وقرأ ابن أبي عبلة : أسقط في أيديهم رباعيًّا مبنياً للمفعول ورأوا أي علموا ) أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ ( ، قال القاضي : يجب أن يكون المؤخر مقدّماً لأنّ الندم والتحسر إنما يقعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : ولما رأوا أنهم قد ضلوا وسقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة انتهى ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير بل يمكن تقدّم النّدم على تبين الضلال لأنّ الإنسان إذا شكّ في العمل الذي أقدم عليه أهو صواب أو خطأ حصل له الندم ثم بعد يتكامل النظر والفكر فيعلم أن ذلك خطأ ، قالوا : ) لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا ( انقطاع إلى الله تعالى واعتراف بعظيم ما أقدموا عليه وهذا كما قال : آدم وحواء ) وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا ( ولما كان هذا الذنب وهو اتخاذ غير الله إلهاً أعظم الذنوب بدأوا بالرحمة التي وسعت كل شيء ومن نتاجها غفران الذنب وأما في قصة آدم فإنه جرت محاورة بينه تعالى وبينهما وعتاب على ما صدر منهما من أكل ثمر الشجرة بعد نهيه إياهما عن قربانها فضلاً عن أكل ثمرها فبادرا إلى الغفران وأتباه بالرحمة إذ غفران ما وقع العتاب عليه أكد ما يطلب أولاً ، وقرأ الأخوان والشعبي وابن وثاب والجحدري وابن مصرف والأعمش وأيوب بالخطاب في ترحّمنا وتغفر ونداء ربنا ، وقرأ باقي السبعة ومجاهد والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة بن نصاح وغيرهم : ) يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا ( بالياء فيهما ورفع ربنا وفي مصحف أبي قالوا : ربنا لئن ترحمنا وتغفر لنا ، بتقديم المنادى وهو ربّنا ويحتمل أن يكون القولان صدراً منهم جميعهم على التعاقب أو هذا من طائفة وهذا من طائفة فمن غلب عليه الخوف وقوي على المواجهة خاطب مستقيلاً من ذنبه العظيم ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامه مخرج المستحيي من الخطاب فأسند الفعل إلى الغائب وفي قولهم : ) رَبَّنَا ( استعطاف حسن إذ الربّ هو المالك الناظر في أمر عبيده والمصلح منهم ما فسد .
الأعراف : ( 150 ) ولما رجع موسى . . . . .
( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ ( ، أي رجع من المناجاة يروي أنه لما قرب من محلة بني إسرائيل سمع أصواتهم فقال هذه أصوات قوم لاهين فلما تحقق عكوفهم على عبادة العجل داخلة الغضب والأسف وألقى الألواح . وقال الطبري أخبره تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل فلذلك رجع وهو غاضب ويدلّ على هذا القول قوله ) إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ ( الآية وغضبان من صفات المبالغة والغضب غليان القلب بسبب حصول ما يؤلم وذكروا أنه عليه السلام كان من أسرع الناس غضباً وكان سريع الفيئة ، قال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول كان إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته وأسفاً من أسف فهو أسف كما تقول فرق فهو فرْق يدلّ على ثبوت الوصف ولو ذهب به مذهب الزمان لكان على فاعل فيقال : آسف والآسف الحزين قاله ابن عباس

" صفحة رقم 393 "
والحسن والسدي أو الجزع قاله مجاهد أو المتلهف أو الشديد الغضب قاله الزمخشري وابن عطية قال : وأكثر ما يكون بمعنى الحزين أو المغضب قاله ابن قتيبة أو النادم قاله القتبي أيضاً ، أو متقاربان قاله الواحدي قال : فإذا أتاك ما تكره ممن دونك غضبت أو ممن فوقك حزنت فأغضبه عبادتهم العجل وأحزنه فتنة الله إياهم وكان قد أخبره بذلك بقوله إنا قد فتنا قومك من بعدك وتقدّم الكلام على بئسما في أوائل البقرة والخطاب إما للسامري وعباد العجل أي بئسما قمتم مقامي حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله تعالى وأما لوجوه بني إسرائيل هارون والمؤمنين حيث لم يكفوا من عبد غير الله وخلفتموني يدلّ على البعدية في الزمان والمعنى هنا من بعد ما رأيتم مني توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه وإخلاص العبادة له أو من بعدما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأكفهم عن ما طمحت إليه أبصارهم من عبادة البقر ومن حق الخلف أن يسير سيرة المستخلف ولا يخالفه ويقال خلفه بخير أو شرّ إذا فعله عن ترك من بعده . أعجلتم استفهام إنكار قال الزمخشري يقال : عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ويضمن معنى سبق فيعدّى تعديته ، فيقال : عجلت الأمر والمعنى أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ، ولم أرجع إليكم فحدّثتم أنفسكم بموتي فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم ، وروي أن السامري قال لهم أحين أخرج إليهم العجل هذا إلهكم وإله موسى أن موسى لن يرجع وأنه قد مات انتهى . وقال ابن عطية : معناه أسابقتم قضاء ربكم واستعجلتم إتياني من قبل الوقت الذي قدّرته انتهى ، وقال يعقوب : يقال عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل استعجلته أي حملته على العجلة انتهى ، وقيل : معناه أعجلتم ميعاد ربكم أربعين ليلة ، وقيل : أعجلتم سخط ربكم ، وقيل : أعجلتم بعبادة العجل ، وقيل : العجلة التقدّم بالشيء في غير وقته ، قيل : وهي مذمومة ويضعفه قوله وعجلت إليك ربّ لترضى والسرعة المبادرة بالشيء في غير وقته وهي محمودة .
( وَأَلْقَى الالْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ( أي الألواح التوراة وكان حاملاً لها فوضعها بالأرض غضباً على ما فعله قومه من عبادة العجل وحمية لدين الله وكان كما تقدم شديد الغضب وقالوا كان هارون ألين منه خلقاً ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل منه . وقيل : ألقاها دهشاً لما دهمه من أمرهم ، وعن ابن عباس : أن موسى عليه السلام لما ألقاها تكسرت فرفع أكثرها الذي فيه تفصيل كل شيء وبقي الذي في نسخته الهدى والرحمة وهو الذي أخذ بعد ذلك ، وروى أنه رفع ستة أسباعها وبقي سبع قاله جماعة من المفسرين ، وقال أبو الفرج بن الجوزيّ لا يصحّ أنه رماها رمي كاسر انتهى ، والظاهر أنه ألقاها من يديه لأنهما كانتا مشغولتين بها وأراد إمساك أخيه وجرّه ولا يتأتى ذلك إلا بفراغ يديه لجرّه وفي قوله ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح دليل على أنها لم تتكسر ودليل على أنه لم يرفع منها شيء والظاهر أنه أخذ برأسه أي أمسك رأسه جاره إليه ، وقيل : بشعر رأسه ، وقيل : بذوائبه ولحيته ، وقيل : بلحيته ، وقيل : بأذنه ، وقيل : لم يأخذ حقيقة وإنما كان ذلك إشارة فخشي هارون أن يتوّهم الناظر إليهما أنه لغضب فلذلك نهاه ورغب إليه والظاهر أن سبب هذا الأخذ هو غضبه على أخيه وكيف عبدوا العجل وهو قد استخلفه فيهم وأمره بالإصلاح وأن لا يتبع سبيل من أفسد وكيف لم يزجرهم ويكفهم عن ذلك ويدلّ على هذا الظاهر قوله : ولما سكت عن موسى الغضب وقوله : لا

" صفحة رقم 394 "
تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ، قال الزمخشري : أي بشعر رأسه يجره إليه بذوائبه وذلك لشدة ما ورده عليه من الأمر الذي استفزّه وذهب بفطنته وظنًّا بأخيه أن فرط في الكفّ ، وقيل : ذلك الأخذ والجر كان ليسر إليه أنه نزل عليه الألواح في مناجاته وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل فنهاه هارون لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله وقيل : ضمه ليعلم ما لديه فكره ذلك هارون لئلا يظنوا أهانته وبيّن له أخوه أنهم استضعفوه ، وقيل : كان ذلك على سبيل الإكرام لا على سبيل الإهانة كما تفعل العرب من قبض الرجل على لحية أخيه .
( قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ناداه نداء استضعاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأمّ كما قال : يا ابن أمي ويا شقيق نفسي وقال آخر :
يا ابن أمي فدتك نفسي ومالي وأيضاً فكانت أمهما مؤمنة قالوا : وكان أبوه مقطوعاً عن القرابة بالكفر كما قال تعالى لنوح عليه السلام : ) إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ( وأيضاً لما كان حقها أعظم لمقاساتها الشدائد في حمله وتربيته والشفقة عليه ذكره بحقها ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحفص : ) ابْنَ أُمَّ ( بفتح الميم ، فقال الكوفيون : أصله يا ابن أماه فحذفت الألف تخفيفاً كما حذفت في يا غلام وأصله يا غلاماً وسقطت هاء السكت لأنه درج فعلى هذا الاسم معرب إذ الألف منقلبة عن ياء المتكلم فهو مضاف إليه ابن ، وقال سيبويه : هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد كخمسة عشر ونحوه فعلى قوله ليس مضافاً إليه ابن والحركة حركة بناء ، وقرأ باقي السبعة بكسر الميم فقياس قول الكوفييّن أنه معرب وحذفت ياء المتكلم واجتزىء بالكسرة عنها كما اجتزؤوا بالفتحة عن الألف المنقلبة عن ياء المتكلم ، وقال سيبويه هو مبنيّ أضيف إلى ياء المتكلم كما قالوا يا أحد عشر أقبلوا وحذفت الياء واجتزؤوا بالكسرة عنها كما اجتزؤوا في ) عَلَيْهِ قَوْمٌ ( ولو كانا باقيين على الإضافة لم يجز حذف الياء لأنّ الاسم ليس بمنادى ولكنه مضاف إليه المنادى فلا يجوز حذف الياء منه ، وقرىء بإثبات ياء الإضافة وأجود اللغات الاجتزاء بالكسرة عن ياء الإضافة ثم قلب الياء ألفاً والكسرة قبلها فتحة ثم حذف التاء وفتح الميم ثم إثبات التاء مفتوحة أو ساكنة وهذه اللغات جائزة في ابنة أمي وفي ابن عمي وابنة عمي ، وقرىء يا ابن أمي بإثبات الياء وابن إمّ بكسر الهمزة والميم ومعمول القول المنادى والجملة بعده المقصود بها تخفيف ما أدرك موسى من الغضب والاستعذار له بأنه لم يقصّر في كفهّم من الوعظ والإنذار وما بلغته طاقته ولكنهم استضعفوه فلم يلتفتوا إلى وعظه بل قاربوا أن يقتلوه ودلّ هذا على أنه بالغ في الإنكار عليهم حتى همّوا بقتله ومعنى ) اسْتَضْعَفُونِى ( وجدوني فهي بمعنى إلفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه أي اعتقدوني ضعيفاً ، وتقدّم ذلك في قوله ) لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ ( ولما أبدى له ما كان منهم من الاستضعاف له ومقاربة قتلهم إياه سأله ترك ما يسرهم بفعله فقال ) فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعْدَاء ( أي لا تسرّهم بما تفعل بي فأكون ملوماً منهم ومنك ، وقال الشاعر :

" صفحة رقم 395 "
والموت دون شماتة الأعداء وقرأ ابن محيصن ) تُشْمِتْ ( بفتح التاء وكسر الميم ونصب ) الاعْدَاء ( ومجاهد كذلك إلا أنه فتح الميم وشمت متعدّية كأشمت وخرّج أبو الفتح قراءة مجاهد على أن تكون لازمة والمعنى فلا تشمت أنت يا ربّ وجاز هذا ، كما قال الله يستهزىء بهم ونحو ذلك ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء كقراءة الجماعة انتهى ، وهذا خروج عن الظاهر وتكلّف في الإعراب وقد روي تعدّى شمت لغة فلا يتكلّف أنها لازمة مع نصب الأعداء وأيضاً قوله : ) اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( إنما ذلك على سبيل المقابلة لقولهم ) إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ( فقال : ) اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( وكقوله ) وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ( ولا يجوز ذلك ابتداءً من غير مقابلة وعن مجاهد ) فَلاَ تُشْمِتْ ( بفتح التاء والميم ورفع ) الاعْدَاء ( ، وعن حميد بن قيس كذلك إلا أنه كسر الميم جعلاه فعلاً لازماً فارتفع به الأعداء فظاهره أنه نهى الأعداء عن الشماتة به وهو من باب لا أرينك هنا والمراد نهيه أخاه أي لا تحلّ بي مكروهاً فيشمتوا بي وبدأ أوّلاً بسؤال أخيه أن لا يشمت به الأعداء لأنّ ما يوجب الشماتة هو فعل مكروه ظاهر لهم فيشمتوا به فبدأ بالأوكد ثم سأله أن لا يجعله ولا يعتقده واحداً من الظالمين إذ جعله معهم واعتقاده من جملتهم هو فعل قلبي وليس ظاهراً لبني إسرائيل أو يكون المعنى ) وَلاَ تَجْعَلْنِى ( في موجدتك عليّ قريناً لهم مصاحباً لهم . .
الأعراف : ( 151 ) قال رب اغفر . . . . .
( قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ ). لما اعتذر إليه أخوه استغفر لنفسه وله قالوا واستغفاره لنفسه بسبب فعلته مع أخيه وعجلته في إلقاء الألواح واستغفاره لأخيه من فعلته في الصبر لبني إسرائيل قالوا : ويمكن أن يكون الاستغفار مما لا يعلمه والله أعلم ، وقال الزمخشري لما اعتذر إليه أخوه وذكر شماته الأعداء ، ( قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى ( ليرضي أخاه ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه فلا يتمّ لهم شماتتهم واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه ولأخيه أن عسى فرّط في حين الخلافة وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته ولا تزال متضمنة لهما في الدنيا والآخرة انتهى ، وقوله ولأخيه أن عسى فرط إن كانت أن بفتح الهمزة فتكون المخففة من الثقيلة ويقرب معناه ، وإن كانت بكسر الهمزة فتكون للشرط ولا يصح إذ ذاك دخولها على عسى لأنّ أدوات الشرط لا تدخل على الفعل الجامد .
الأعراف : ( 152 ) إن الذين اتخذوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الْحَيواةِ الدُّنْيَا وَكَذالِكَ تَجْزِى الْمُفْتَرِينَ ). الظاهر أنه من كلام الله تعالى إخباراً عما ينال عباد العجل ومخاطبةً لموسى بما ينالهم . وقيل : هو من بقية كلام موسى إلى قوله ) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ( وأصدقه الله تعالى بقوله : ) وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ ( والأول الظاهر لقوله ) وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ ( في نسق واحد مع الكلام قبله والمعنى اتخذوه إلهاً لقوله ) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَاذَا إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى ( ، قيل : والغضب في الأخرة والذلّة في الدنيا وهم فرقة من اليهود أُشربوا حبّ العجل فلم يتوبوا ، وقيل : هم من مات منهم قبل رجوع موسى من الميقات ، وقال أبو العالية وتبعه الزمخشري : هو ما أمروا به من قتل أنفسهم ، وقال الزمخشري والذلّة خروجهم من ديارهم لأن ذلّ الغربة مثلٌ مضروب انتهى ، وينبغي أن يقول استمرار انقطاعهم عن ديارهم لأنّ خروجهم كان سبق على عبادة العجل ، وقال عطية العوفيّ : هو في قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير لأنهم تولوا متخذي العجل ، وقيل : ما نال أولادهم على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من السبي والجلاء والجزية وغيرها ، وجمع هذين القولين الزمخشري فقال

" صفحة رقم 396 "
هو ما نال أبناءهم وهم بنو قريضة والنضير من غضب الله تعالى بالقتل والجلاء ومن الذلة بضرب الجزية انتهى ، والغضب إن أخذ بمعنى الإرادة فهو صفة ذات أو بمعنى العقوبة فهو صفة فعل والظاهر أن قوله ) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ( متعلق بقوله ) سَيَنَالُهُمْ ( ، وكذلك أي مثل ذلك النيل من الغضب والذلّة نجزي من افترى الكذب على الله وأي افتراء أعظم من قولهم ) هَاذَا إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى ( و ) الْمُفْتَرِينَ ( عامّ في كل مفتر ، وقال أبو قلابة ومالك وسفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة أو فرية ذليل واستدلّوا على ذلك بالآية .
الأعراف : ( 153 ) والذين عملوا السيئات . . . . .
( وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءامَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ) السَّيّئَاتِ ( هي الكفر والمعاصي غيره ) ثُمَّ تَابُواْ ( أي رجعوا إلى الله ) مِن بَعْدِهَا ( أي من بعد عمل السيئات ) وَءامَنُواْ ( داموا على إيمانهم وأخلصوا فيه أو تكون الواو حالية أي وقد آمنوا أنّ ربك من بعدها أي من بعد عمل السيئات هذا هو الظاهر ، ويحتمل أن يكون الضمير في ) مِن بَعْدِهَا ( عائداً على التوبة أي ) إِنَّ رَبَّكَ ( من بعد توبتهم فيعود على المصدر المفهوم من قوله ) ثُمَّ تَابُواْ ( وهذا عندي أولى لأنك إذا جعلت الضمير عائداً على ) السَّيّئَاتِ ( ، احتجت إلى حذف مضاف وحذف معطوف إذ يصير التقدير من بعد عمل السيئات والتوبة منها وخبر ) الَّذِينَ ( قوله ) إِنَّ رَبَّكَ ( وما بعده والرابط محذوف أي ) لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( لهم . قال الزمخشري : ) لَغَفُورٌ ( لستور عليهم محاء لما كان منهم ) رَّحِيمٌ ( منعم عليهم بالجنة وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم عظم جنايتهم أوّلاً ثم أردفها بعظم رحمته ليعلم أنّ الذنوب وإن جلت وإن عظمت فإن عفوه تعالى وكرمه أعظم وأجلّ ولكن لا بد من حفظ الشريطة وهي وجوب التوبة والإنابة وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردة لا يلتفت إليها حازم انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
الأعراف : ( 154 ) ولما سكت عن . . . . .
( وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الاْلْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ ). سكوت غضبه كان والله أعلم بسبب اعتذار أخيه وكونه لم يقصر في نهي بني إسرائيل عن عبادة العجل ووعد الله إياه بالانتقام منهم وسكوت الغضب استعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكوته . قال يونس بن حبيب : تقول العرب سال الوادي ثم سكت ، وقال الزجاج : مصدر ) سَكَتَ ( الغضب سكت ومصدر سكت الرجل سكوت وهذا يقتضي أنه فعل على حدّه وليس من سكوت الناس ، وقيل هو من باب القلب أي ولمّا سكت موسى عن الغضب نحو أدخلت في فيّ الحجر ، وأدخلت القلنسوة في رأسي انتهى ، ولا ينبغي هذا لأنه من القلب وهو لم يقع إلاّ في قليل من الكلام والصحيح أنه لا ينقاس ، وقال الزمخشري وهذا مثل كأنّ الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك وترك الإغراء ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبيل شعب البلاغة ، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة ولما سكن عن موسى الغضب لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهزة وطرفاً من تلك الروعة ، وقرىء أسكت رباعيّاً مبنيّاً للمفعول ، وكذا هو في مصحف حفصة والمنوي عند الله أو أخوه باعتذاره إليه أو تنصله أي أسكت الله أو هارون ، وفي مصحف عبد الله ولما صبر ، وفي مصحف أبي ولما انشق والمعنى ولما طفى غضبه أخذ ألواح التوراة التي كان ألقاها من يده ، روي عن ابن عباس أنه ألقاها فتكسرت فصام أربعين يوماً فردّت إليه في لوحين ولم يفقد منها شيئاً وفي نسختها أي فيما نسخ من الألواح المكسرة أو فيما نسخ فيها أو فيما بقي منها بعد المرفوع وهو سبعها والأظهر أنّ المعنى وفيما نقل وحوّل منها واللام في ) لِرَبّهِمُ ( تقوية لوصول الفعل إلى مفعوله المتقدم ، وقال الكوفيّون : هي زائدة ، وقال الأخفش : هي لام المفعول له أي لأجل ربهم ) يَرْهَبُونَ ( لا رياء ولا سمعة ، وقال المبرد : هي متعلقة بمصدر المعنى الذين هم رهبتهم لربهم وهذا على طريقة البصريين لا يتمشّى لأنّ فيه حذف المصدر وإبقاء معموله وهو لا يجوز عندهم إلا في الشعر وأيضاً فهذا التقدير يخرج الكلام عن الفصاحة .

" صفحة رقم 397 "
2 ( ) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاٌّ خِرَةِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِىأُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَالَّذِينَ هُم بِأايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ( ) ) 2
الأعراف : ( 155 ) واختار موسى قومه . . . . .
( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا ). ) اختار ( افتعل من الخير وهو التخير والانتقاء ) يَرْهَبُونَ وَاخْتَارَ ( من الأفعال التي تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بوساطة حرف الجر وهي مقصورة على السماع وهي اختار واستغفر وأمر وكنّى ودعا وزوج وصدق ، ثم يحذف حرف الجر ويتعدّى إليه الفعل فيقول اخترت زيداً من الرجال واخترت زيداً الرجال . قال الشاعر : اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم
واعتل من كل يرجى عنده السّول
أي اخترتك من الناس و ) سَبْعِينَ ( هو المفعول الأوّل ، و ) قَوْمِهِ ( هو المفعول الثاني وتقديره ) مِن قَوْمِهِ ( ومن أعرب ) قَوْمِهِ ( مفعولاً أوّل و ) سَبْعِينَ ( بدلاً منه بدل بعض من كلّ وحذف الضمير أي ) سَبْعِينَ رَجُلاً ( منهم احتاج إلى تقدير مفعول ثان وهو المختار منه فإعرابه فيه بعد وتكلف حذف في رابط البدل وفي المختار منه واختلفوا في هذا الميقات أهو ميقات

" صفحة رقم 398 "
المناجاة ونزول التوراة أو غيره ، فقال نوف البكالي ورواه أبو صالح عن ابن عباس : وهو الأوّل بيّن فيه بعض ما جرى من أحواله وأنه اختار من كل سبط ستة رجال فكانوا اثنين وسبعين ، فقال ليتخلف اثنان فإنما أمرت بسبعين فتشاحوا ، فقال : من قعد فله أجر من حضر فقعد كالب بن يوقنا ويوشع بن نون واستصحب السبعين بعد أن أمرهم أن يصوموا ويتطهّروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربه وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم : ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجّداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم فقالوا : ) قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ).
قال الزمخشري : فقال ) رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ( يريد أن يسمعوا الردّ والإنكار من جهته ، فأجيب : بلن تراني ورجف الجبل بهم وصعقوا انتهى ، وقيل : هو ميقات آخر غير ميقات المناجاة ونزول التوراة ، فقال وهب بن منبه : قال بنو إسرائيل لموسى إن طائفةً تزعم أنّ الله لا يكلمك فخذ منا من يذهب معك ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فأوحى الله تعالى إليه أن يختار من قومه سبعين من خيارهم ثم ارتقِ بهم الجبل أنت وهارون واستخلف يوشع ، ففعل فلما سمعوا كلامه سألوا موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الرجفة ، وقال السدّي : هو ميقات وقته الله تعالى لموسى يلقاه في ناس من بني إسرائيل ليعتذروا إليه من عبادة العجل ، وقال ابن عباس فيما روى عنه عليّ بن طلحة هو ميقات وقته الله لموسى وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً ليدعوا ربهم فدعوا فقالوا يا الله أعطنا ما لم تعطِ أحداً قبلنا ولا أحداً بعدنا فكره الله ذلك فأخذتهم الرّجفة ، وعن علي رضي الله عنه فيما روى ابن أبي شيبة أن موسى وهارون وابناه شبّر وشبير انطلقوا حتى انتهوا إلى جبل فيه سرير فقام عليه هارون فقبض روحه فرجع موسى إلى قومه فقالوا : أنت قتلته وحسدتنا على خلقه ولينه ، فقال : كيف أقتله ومعي ابناه ، قال : فاختاروا من شئتم فاختير سبعون فانتهوا إليه فقالوا من قتلك يا هارون قال ما قتلني أحد ولكنّ الله توفاني ، قالوا : يا موسى ما نعصي بعد فأخذتهم الرّجفة فجعلوا يتردّون يميناً وشمالاً انتهى ، ولفظ ) لّمِيقَاتِنَا ( في هذا القول الذي روي عن عليّ لأنه يقتضي أنه كان عن توقيت من الله تعالى ، وقال ابن السائب : كان موسى لا يأتي ربه إلا بإذن منه والذي يظهر أن هذا الميقات غير ميقات موسى الذي قيل طفيه : ) وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ( لظاهر تغاير القصتين وما جرى فيهما إذ في تلك أن موسى كلمه الله وسأله الرؤية وأحاله في الرؤية على تجليه للجبل وثبوته فلم يثبت وصار دكّاً وصعق موسى وفي هذه اختير السبعون لميقات الله وأخذتهم الرّجفة ولم تأخذ موسى ، وللفصل الكثير الذي بين أجزاء الكلام لو كانت قصة واحدة .
( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ ). سبب الرجفة مختلف فيه وهو مرتب على تفسير الميقات فهل الرّجفة عقوبة على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل أو عقوبة على سؤالهم الرؤية أو عقوبة لتشططهم في الدعاء المذكور أو سببه سماع كلام هارون وهو ميت أقوال . وقال السدّي : عقوبة على عبادة هؤلاء السبعين باختيارهم العجل وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله وأخذ الرّجفة يحتمل أن نشأ عنه الموت ويحتمل أن نشأ عنه الغشي وهما قولان ، وقال السدّي قال موسى : كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم فماذا أقول وكيف يأمنونني على أحد فأحياهم الله ، وقيل أخذتهم الرّعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنتقض ظهورهم وخاف موسى الموت فعند ذلك بكى ودعا فكشف عنهم ، قال الزمخشري : وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية كما يقال النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبّة لو شاء الله لأهلكني قبل هذا انتهى . فمعنى قوله ) مِن قَبْلُ ( سؤال الرّؤية وهذا بناء من الزمخشري على أنّ هذا الميقات هو ميقات المناجاة وطلب الرؤية وقد ذكرنا أنّ الأظهر خلافه ، وقال ابن عطية لما رأى موسى ذلك أسف عليهم وعلم أن أمر بني إسرائيل يتشعّب إن لم يأتِ بالقوم فجعل يستعطف ربه أن يا رب لو شئت أهلكتهم قبل هذه الحال وإياي لكان أخفّ عليّ وهذا وقت هلاكهم فيه مفسدة عليّ مؤذٍ لي انتهى ، ومفعول ) شِئْتَ ( محذوف تقديره لو شئت إهلاكنا وجواب ) لَوْ أَهْلَكْتَهُم ( وأتى دون لام وهو فصيح لكنه باللام أكثر كما قال ) لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ ( ) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ ( ، ولا يحفظ جاء بغير لام في القرآن ألا هذا وقوله ) أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُمْ ( و ) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ( والمحذوف في ) مِن قَبْلُ ( أي من قبل الختيار وأخذ الرّجفة وذلك زمان إغضائهم على عبادة العجل أو عبادتهم هم أياه وقوله ) وَإِيَّاىَ ( أي وقت قتلي القبطي فأنت قد سترت وغفرت حينئذ فكيف الآن إذ رجوعي

" صفحة رقم 399 "
دونهم فساد لبني إسرائيل قال أكثره ابن عطية وعطف وإياي على الضمير المنصوب في أهلكتهم وعطف الضمير مما يوجب فصله وبدأ بضميرهم لأنّهم الذين أخذتهم الرجفة فماتوا أو أغمي عليهم ولم يمت هو ولا أغمي عليه ولم يكتفِ بقوله أهلكتهم من قبل حتى أشرك نفسه فيهم وإن كان لم يشركهم في مقتضى الإهلاك تسليماً منه لمشيئة الله تعالى وقدرته وأنه لو شاء إهلاك العاصي والطائع لم يمنعه من ذلك مانع .
( أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا ( قيل : هذا استفهام على سبيل الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف وتذلّل والضمير المنصوب في أتهلكنا له وللسبعين وبما فعل السفهاء فيه الخلاف مرتّباً على سبب أخذ الرّجفة من طلب الرؤية أو عبادة العجل أو قولهم قتلت هارون أو تشططهم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل ، وقيل : الضمير في أتهلكنا له ولبني إسرائيل وبما فعل السفهاء أي بالتفرّق والكفر والعصيان يكون هلاكهم ، وقال الزمخشري يعني نفسه وإياهم لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء وهم طلبوها سفهاً وجهلاً والذي يظهر لي أنه استفهام استعلام اتبع إهلاك المختارين وهم خير بني إسرائيل بما فعل غيرهم إذ من الجائز في العقل ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى : ) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً ( وقوله عليه السلام ، وقد قيل له : أنهلك وفينا الصالحون قال : ( نعم إذا كثر الخبث ) . وكما ورد أن قوماً يخسف بهم قيل : وفيهم الصالحون فقيل : يبعثون على نيّاتهم أو كلاماً هذا معناه وروي عن عليّ أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم .
( إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء ( أي إن فتنتهم إلا فتنتك والضمير في هي يفسره سياق الكلام أي أنت هو الذي فتنتهم قالت فرقة لما أعلمه الله أنّ السبعين عبدوا العجل تعجب وقال إن هي إلا فتنتك ، وقيل لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال : يا ربّ ومن أخاره قال : أنا قال : لّموسى فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك ، قال ابن عطية : ويحتمل أن يشير به إلى قولهم أرنا الله جهرة إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرّجفة وفي هذه الآية ردّ على المعتزلة ، وقال الزمخشري أي محنتك وبلاؤك حين كلمتني وسمعت كلامك فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالاً فاسداً حتى افتتنوا وضلوا تضلّ بها الجاهلين غير الثابتين في معرفتك وتهدي العالمين الثابتين بالقول الثابت ، وجعل ذلك إضلالاً من الله تعالى وهدى منه لأنّ محنته إنما كانت سبباً لأن ضلّوا واهتدوا فكأنه أضلّهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام انتهى وهو على طريقة المعتزلة في نفيهم الإضلال عن الله تعالى .
( أَنتَ وَلِيُّنَا ( القائم بأمرنا ) فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ). سأل الغفران له ولهم والرحمة لما كان قد اندرج قومه في قوله أنت وليّنا وفي سؤال المغفرة والرحمة له ولهم وكان قومه أصحاب ذنوب أكد استعطاف ربه تعالى في غفران تلك الذنوب فأكد ذلك ونبه بقوله وأنت خير الغافرين ولما كان هو وأخوه هارون عليه السلام من المعصومين من الذنوب فحين سأل المغفرة له ولأخيه وسأل الرحمة لم يؤكد الرحمة بل قال : وأنت أرحم الراحمين فنبه على أنه تعالى أرحم الراحمين ، ألا ترى إلى قوله : ) وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء ( وكان تعالى خير الغافرين لأنّ غيره يتجاوز عن الذنب طلباً للثناء أو الثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة عن القلب وهي صفة الحقد والباري سبحانه وتعالى منزّه عن أن يكون غفرانه لشيء من ذلك .
الأعراف : ( 156 ) واكتب لنا في . . . . .
( وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاْخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ). أي وأثبت لنا عاقبةً وحياة طيبة أو عملاً صالحاً يستعقب ثناء حسناً في الدنيا وفي الآخرة الجنة والرؤية والثواب على حسنة الدنيا والأجود حمل الحسنة على ما يحسن من نعمة وطاعة وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها وإنا هدنا تعليل لطلب الغفران والحسنة وكتب الحسنة أي تبنا إليك قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وأبو العالية وقتادة والضحاك والسدّي : من هاد يهود ، وقال ابن بحر : تقرّ بالتوبة ، وقيل : ملنا . ومنه قول الشاعر :

" صفحة رقم 400 "
قد علمت سلمى وجاراتها
أني من الله لها هائد
أي مائل ، وقرأ زيد بن علي وأبو وجزة هدنا بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك أي حرّكنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك فيكون الضمير فاعلاً ويحتمل أن يكون مفعولاً لم يسمَّ فاعله أي حركنا إليك وأملنا والضم في هدنا يحتملهما وتضمنت هذه الجمل كونه تعالى هو ربهم ووليهم وأنهم تائبون عبيد له خاضعون فناسب عزّ الرّبوبية أن يستعطف للعبيد التائبين الخاضعين بسؤال المغفرة والرّحمة والكتب .
( قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء ). الظاهر أنه استئناف إخبار عن عذابه ورحمته ويندرج في قوله : أصيب به من أشاء أصحاب الرّجفة ، وقيل العذاب هنا هو الرّجفة ومن أشاء أصحابها والمعنى أنه لا اعتراض عليه أي من أشاء عذابه ، وقيل : من أشاء أن لا أعفو عنه ، وقيل : من أشاء من خلقي كما أصبت به قومك ، وقيل : من أشاء من الكفار ، وقيل المشيئة راجعة إلى التعجيل والإمهال لا إلى الترك والإهمال ، وقال الزمخشري : ممن أشاء من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة ، وقال ابن عباس أصيب من أشاء على الذنب اليسير ، وقال أيضاً وسعت كل شيء من ذنوب المؤمنين ، وقال أبو روق هي التعاطف بين الخلائق ، وقال ابن زيد : هي التوبة على العموم ، وقال الحسن : هي في الدنيا بالرزق عامة وفي الآخرة بالمؤمنين خاصة ، وقال الزمخشري : وأما رحمتي فمن حالها وصفتها أنها واسعة كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي انتهى ، وهو بسط قول الحسن : هي في الدنيا بالرزق عامة ، وقرأ زيد بن علي والحسن وطاووس وعمرو بن فائد من أساء من الإساءة ، وقال أبو عمرو والدّاني : لا تصحّ هذه القراءة عن الحسن وطاووس وعمرو بن فائد رجل سوء ، وقرأ بها سفيان بن عيينة مرّة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقري وصاح به وأسمعه فقال سفيان : لم أدرِ ولم أفطن لما يقول أهل البدع وللمعتزلة تعلّق بهذه القراءة من جهة إنفاذ الوعيد ومن جهة خلق المرء أفعاله وإن أساء لا فعل فيه الله تعالى والانفصال عن هذا كالانفصال عن سائر الظواهر .
( وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا ). أي أقضيها وأقدّرها والضمير عائد على الرحمة لأنها أقرب مذكور ويحتمل عندي أن يعود على حسنة في قوله واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة أي فسأكتب الحسنة وقاله ابن عباس ونوف البكالي وقتادة وابن جريج والمعنى متقارب لما سمع إبليس ورحمتي وسعت كل شيء تطاول لها إبليس فلما سمع فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة يئس ، وبقيت اليهود والنصارى فلما تمادت الصفة تبين أنّ المراد أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويئس النصارى واليهود من الآية ، وقال أهل التفسير : عرض الله هذه الخِلال على قوم موسى فلم يتحملوها ولما انطلق وفد بني إسرائيل إلى الميقات قيل : لهم خطت لكم الأرض مسجداً وطهوراً إلا عند مرحاض أو قبر أو حمام وجعلت السّكينة في قلوبهم فقالوا : لا نستطيع فاجعل السكينة في التابوت والصلاة في الكنيسة ولا نقرأ التوراة إلا عن نظر ولا نصلي إلا في الكنيسة فقال الله تعالى : فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقال نوف البكالي : إن موسى عليه السلام قال : يا رب جعلت وفادتي لأمة محمد ، قال نوف فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم ومعنى

" صفحة رقم 401 "
يتّقون قال ابن عباس : وفرقة الشّرك ، وقالت فرقة المعاصي فمن قال الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة ويردّ عليه من الآية شرط الإعمال بقوله ويؤتون الزكاة ، ومن قال : المعاصي ولا بدّ خرج إلى قول المعتزلة ، قال ابن عطية : والصواب أن تكون اللفظة عامة ولكن لا نقول لا بدّ من اتقاء المعاصي بل نقول مواقع المعاصي في المشيئة ومعنى يتّقون يجعلون بينهم وبين المتقي حجاباً ووقاية ، فذكر تعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها انتهى ، ويؤتون الزكاة الظاهر أنها زكاة المال وبه قال ابن عباس وروي عنه : ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم ، وقال الحسن : تزكية الأعمال بالإخلاص انتهى ، ولما كانت التكاليف ترجع إلى قسمين تروك وأفعال والأفعال قسمان راجعة إلى المال وراجعة إلى نفس الإنسان وهذان قسمان علم وعمل فالعلم المعرفة والعمل إقرار باللسان ، وعمل بالأركان فأشار بالاتقاء إلى التروك وبالفعل الراجح إلى المال بالزكاة وأشار إلى ما بقي بقوله : ) وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ( وهذه شبيهة بقوله ) هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( الآية وفهم المفسرون من قوله الذين يتقون إلى آخر الأوصاف إنّ المتصفين بذلك هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويحتمل أن يكون من باب التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون قوله للذين يتّقون ويؤتون الزكاة لمن فعل ذلك قبل الرسول ويكون قوله والذين هم بآياتنا يؤمنون من فعل ذلك بعد البعثة وفسّر الآيات هنا بأنها القرآن وهو الكتاب المعجز .
( ) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاٌّ غْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِىأُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ

" صفحة رقم 402 "
يَظْلِمُونَ وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَالِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( )
الأعراف : ( 157 ) الذين يتبعون الرسول . . . . .
التعزير قال يونس بن حبيب التعزير هو الثناء والمدح . الانبجاس العرق . قال أبو عمرو بن العلاء : انبجست عرقت وانفجرت سالت ، وقال الواحدي الانبجاس الانفجار يقال : نجس وانبجس ، الحوت معروف يجمع في القلة على أخوات وفي الكثرة على حيتان وهو قياس مطّرد في فعل واوي العين نحو عود وأعواد وعيدان .
( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ). هذا من بقية خطابه تعالى لموسى عليه السلام وفيه تبشير له ببعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وذكر لصفاته وإعلام له أيضاً أنه ينزل كتاباً يسمى الإنجيل ومعنى الاتباع الاقتداء فيما جاء به اعتقاداً وقولاً وفعلاً وجمع هنا بين الرسالة والنبوة لأن الرسالة في بني آدم أعظم شرفاً من النبوة أو لأنها بالنسبة إلى الآدمي والملك أعم فبُدىء به والأميّ الذي هو على صفة أمة العرب إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب فأكثر العرب لا يكتب ولا يقرأ قاله الزجاج ، وكونه أمّياً من جملة المعجز ، وقيل : نسبة إلى أم القرى وهي مكة ، وروي عن يعقوب وغيره أنه قرأ الأميّ بفتح الهمزة وخرج على أنه من تغيير النسب والأصل الضّم كما قيل في النسب إلى أميّة أموي بالفتح أو على أنه نسب إلى المصدر من أم ومعناه المقصود أي لأنّ هذا النبي مقصد للناس وموضع أم ، وقال أبو الفضل الرازي : وذلك مكة فهو منسوب إليه لكنها ذكرت إرادة للحرم أو الموضع ومعنى يجدونه أي يجدون وصفه ونعته ، قال التبريزي : في التوراة أي سأقيم له نبيًّا من إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فيه ويقول لهم كلما أوصيته وفيها وأما النبي فقد باركت عليه جدًّا جدًّا وسأدخره لأمة عظيمة وفي الإنجيل يعطيكم الفارقليط آخر يعطيكم معلم الدهر كله ، وقال المسيح : أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه ويمدحني ويشهد لي ويحتمل أن يكون بأمرهم بالمعروف إلى آخره متعلقاً بيجدونه فيكون في موضع الحال على سبيل التجوّز فيكون حالاً مقدرة ويحتمل أن يكون من وصف النبي كأنه قيل : الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وكذا وكذا ، وقال أبو عليّ يأمرهم : تفسير لما كتب من ذكره كقوله : خلقه من تراب ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في يجدونه لأن الضمير للذكر والاسم والاسم والذكر لا يأمران ، قال ابن عباس وعطاء : يأمرهم بالمعروف أي بخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام ، وقال مقاتل : الإيمان ، وقيل : الحق ، وقال الزجاج : كل ما عرف بالشّرع والمنكر ، قال ابن عباس : عبادة الأوثان وقطع الأرحام ، وقال مقاتل : الشّرك ، وقيل : الباطل ، وقيل : الفساد ومبادىء الأخلاق ، وقيل : القول في صفات الله بغير علم والكفر بما أنزل وقطع الرحم والعقوق .
( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ( تقدّم ذكر الخلاف في الطيّبات في قوله كلوا من طيبات أهي الحلال أو المستلذّ وكلاهما قيل هنا ، وقال الزمخشريّ : ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها أو ما طاب في الشريعة واللحم مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح وما خلا كسبه من السحت انتهى ، وقيل : ما كانت العرب تحرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام واستبعد أبو عبد الله الرازي قول من قال : إنها المحلّلات لتقديره ويحلّ لهم المحللات قال وهذا محض التكذيب ، ولخروج

" صفحة رقم 403 "
الكلام عن الفائدة لأنا لا ندري ما أحلّ لنا وكم هو قال : بل الواجب أن يراد المستطابة بحسب الطبع لأن تناولها يفيد اللذة والأصل في المنافع الحلّ فدلت الآية على أن كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع حلال إلا ما خرج بدليل منفصل .
( وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( قيل : المحرمات ، وقيل : ما تستخبثه العرب كالعقرب والحية والحشرات ، وقيل : الدم والميتة والحم الخنزير ، وعن ابن عباس ما في سورة المائدة إلى قوله ذلكم فسق .
( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ). قرأ طلحة ويذهب عنهم إصرهم وتقدم تفسير الإصر في آخر سورة البقرة ، وفسره هنا قتادة وابن جبير ومجاهد والضحاك والحسن وغيرهم بالثقل ، وقرأ ابن عامر : آصارهم جمع إصر ، وقرىء أصرهم بفتح الهمزة وبضمها فمن جمع فباعتبار متعلّقات الإصر إذ هي كثيرة ومن وحد فلأنه اسم جنس ، والأغلال مثل لما كلفوا من الأمور الصعبة كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم والقصاص حتماً من القاتل عمداً كان أو خطأ وترك الاشتغال يوم السبت وتحريم العروق في اللحم وعن عطاء : أنّ بني إسرائيل كانوا إذا قاموا إلى الصلاة لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة ، وروي أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلاً يحمل قصباً فضرب عنقه وهذا المثل كما قالوا جعلت هذا طوقاً في عنقك وقالوا طوقها طوق الحمامة ، وقال الهذلي : وليس كهذا الدار يا أمّ مالك
ولكن أحاطب بالرّقاب السلاسل
فصار الفتى كالكهل ليس بقابل
سوى العدل شيئاً واستراح العواذل
وليس ثمّ سلاسل وإنما أراد أنّ الإسلام ألزمه أموراً لم يكن ملتزماً لها قبل ذلك كما قال الإيمان قيد الفتك ، وقال ابن زيداً الأغلال يريد في قوله غلت أيديهم فمن آمن زالت عنه الدعوة وتغليلها .
( فَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). وعزّروه أثنوا عليه ومدحوه . قال الزمخشري : منعوه حتى لا يقوى عليه عدوّ ، وقرأ الجحدري وقتادة وسليمان التيمي وعيسى بالتخفيف ، وقرأ جعفر بن محمد وعزّزوه بزايين والنور القرآن قاله قتادة ، وقال ابن عطية : هو كناية عن جملة الشريعة . وقيل مع بمعنى عليه أي الذي أنزل عليه . وقيل هو على حذف مضاف أي أنزل مع نبوته لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به وعلى هذين القولين يكون العامل في الظرف أنزل ويجوز عندي أن كون معه ظرفاً في موضع الحال فالعامل فيه محذوف تقديره أنزل كائناً معه وهي حال مقدّرة كقوله مررت برجل معه صقر صائداً به غدا فحالة الإنزال لم يكن معه لكنه صار معه بعد كما إنّ الصيد لم يكن وقت المرور ، وقال الزمخشر : ويجوز أن يعلّق باتبعوا أي واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) والعمل بسنته وبما أمر به أي واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه وفي قوله فالذين آمنوا به إلى آخره إشارة إلى من آمن من أعيان بني إسرائيل بالرسول كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين .
الأعراف : ( 158 ) قل يا أيها . . . . .
( قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ ). لما ذكر تعالى لموسى عليه السلام صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأخبر أن من أدركه وآمن به أفلح أمر تعالى نبيه بإشهار دعوته ورسالته إلى الناس كافة والدعاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكلماته واتباعه ودعوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عامّة للإنس والجنّ قاله الحسن ، وتقتضيه الأحاديث والذي في موضع نصب على المدح أو رفع

" صفحة رقم 404 "
وأجاز الزمخشري أن يكون مجروراً صفة لله قال وإنْ حيل بين الصفة والموصوف بقوله إليكم ، وقال أبو البقاء : ويبعد أن يكون صفةً لله أو بدلاً منه لما فيه من الفصل بينهما بإليكم وبالحال وإليكم متعلّق برسول وجميعاً حال من ضمير إليكم وهذا الوصف يقتضي الإذعان والانقياد لمن أرسله إذ له الملك فهو المتصرف بما يريد وفي حصر الإلهية له نفي الشركة لأن من كان له ملك هذا العالم لا يمكن أن يشركه أحد فهو المختص بالإلهية وذكر الإحياء والإماتة إذ هما وصفان لا يقدر عليهما إلا الله وهما إشارة إلى الإيجاد لكلّ شيء يريده الإعدام والأحسن أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإعراب وإن كانت متعلقاً بعضها ببعض من حيث المعنى . وقال الزمخشري : لا إله إلا هو بدل من الصلة التي هي له ملك السموات والأرض وكذلك يحيي ويميت وفي لا إله إلا هو بيان للجملة قبلها لأن من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة وفي يحيي ويميت بيان لاختصاصه بالإلهية لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره انتهى ، وإبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا نعرفه ، وقال الحوفي : يحيي ويميت في موضع الخبر لأن لا إله في موضع رفع بالابتداء وإلا هو بدل على الموضع قال : والجملة أيضاً في موضع الحال من اسم الله تعالى انتهى ، يعني من ضمير اسم الله وهذا إعراب متكلف .
( قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ ). لما ذكر أنه رسول الله أمرهم بالإيمان بالله وبه عدل عن ضمير المتكلم إلى الظاهر وهو الالتفات لما في ذلك من البلاغة بأنه هو النبي السابق ذكره في قوله الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ وأنه هو المأمور باتباعه الموجود بالأوصاف السابقة والظاهر أن كلماته هي الكتب الإلهية التي أنزلت على من تقدمه وعليه ولما كان الإيمان بالله هو الأصل يتفرع عنه الإيمان بالرسول والنبي بدأ به ثم أتبعه بالإيمان بالرسول ثم أتبع ذلك بالإشارة إلى المعجز الدّال على نبوّته وهو كونه أمّيّاً وظهر عنه من المعجزات في ذاته ما ظهر من القرآن الجامع لعلوم الأوّلين والآخرين مع نشأته في بلد عار من أهل العلم لم يقرأ كتاباً ولم يخطّ ولم يصحب عالماً ولا غاب عن مكة غيبة تقتضي تعلماً . وقيل : وكلماته المعجزات التي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وهي تسمى بكلمات الله لما كانت أموراً خارقة غريبة كما سمّي عيسى عليه السلام لما كان حدوثه أمراً غريباً خارقاً كلمة ، وقرأ مجاهد وعيسى : وكلمة وحد وأراد به الجمع نحو أصدق كلمة قالتها العرب قول لبيد وقد يقولون للقصيدة كلمة وكلمة فلان ، وقال مجاهد والسدّي : المراد بكلماته وكلمته أي بعيسى لقوله : وكلمته ألقاها إلى مريم ، وقيل : كلمة كن التي تكون بها عيسى وسائر الموجودات ، وقرأ الأعمش : الذي يؤمن بالله وآياته بدل كلماته ولما أمروا بالإيمان بالله ورسوله وذلك هو الإعتقاد أمروا بالاتباع له فيما جاء به وهو لفظ يدخل تحته جميع التزامات الشريعة وعلق رجاء الهداية باتباعه .
الأعراف : ( 159 ) ومن قوم موسى . . . . .
( وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( لما أمر بالإيمان بالله ورسوله وأمر باتباعه ذكر أنّ من قوم موسى من وفق للهداية وعدل ولم يجر ولم تكن له هداية إلا باتباع شريعة موسى قبل مبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وباتباع شريعة رسول الله بعد مبعثه فهذا إخبار عن من كان من قوم موسى بهذه الأوصاف فكان المعنى أنهم كلهم لم يكونوا ضلالاً بل كان منهم مهتدون ، قال السائب : هو قوم من أهل الكتاب آمنوا بنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ) كعبد الله بن سلام وأصحابه وقال قوم : هم أمة من بني إسرائيل تمسكوا بشرع موسى قبل نسخه ولم يبدّلوا ولم يقتلوا الأنبياء ، وقال الزمخشري هم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل لما ذكر الذين نزلوا منهم ذكر أمة مؤمنين تائبين يهدون الناس بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم وبالحق يعدلون بينهم في الحكم ولا يجورون أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وآمن به من أعقابهم انتهى ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يريد به الجماعة التي آمنت بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم ويحتمل أن يريد به

" صفحة رقم 405 "
وصف المؤمنين التائبين من بني إسرائيل ومن اهتدى واتقى وعدل انتهى ، وما روي عن ابن عباس والسدي وابن جريج أنهم قوم اغتربوا من بني إسرائيل ودخلوا سرباً مشوا فيه سنة ونصفاً تحت الأرض حتى خرجوا وراء الصين فهم هناك يقيمون الشرع في حكايات طويلة ذكرها الزمخشري وصاحب التحرير والتحبير يوقف عليها هناك لعله لا يصح وفي قوله : ومن قوم موسى إشارة إلى التقليل وأنّ معظمعم لا يهدي بالحق ولا يعدل به وهم إلى الآن ، كذلك دخل في الإسلام من النصارى عالم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى وأما اليهود فقليل من آمن منهم .
الأعراف : ( 160 ) وقطعناهم اثنتي عشرة . . . . .
( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ( أي وقطعنا قوم موسى ومعناه فرّقناهم وميّزناهم وفي ذلك رجوع أمر كل سبط إلى رئيسة ليخفّ أمرهم على موسى ولئلا يتحاسدوا فيقع الهرج ولهذا فجّر لهم اثنتي عشرة عيناً لئلا يتنازعوا ويقتتلوا على الماء ولهذا جعل لكلّ سبط نقيباً ليرجع بأمرهم إليه وتقدّم تفسير الأسباط ، وقرأ إبان بن تغلب عن عاصم بتخفيف الطاء وابن وثاب والأعمش وطلحة بن سليمان عشرة بكسر الشين ، وعنهم الفتح أيضاً وأبو حيوة وطلحة بن مصرف بالكسر وهي لغة تميم والجمهور بالإسكان وهي لغة الحجاز واثنتي عشرة حال وأجاز أبو البقاء أن يكون قطعنا بمعنى صيرنا وأن ينتصب اثنتي عشرة على أنه مفعول ثان لقطعناهم ولم يعد النحويون قطعنا في باب ظننت وجزم به الحوفي فقال اثنتي عشرة مفعول لقطعناهم أي جعلنا اثنتي عشرة وتمييز اثنتي عشرة محذوف لفهم المعنى تقديره اثنتي عشرة فرقة وأسباطاً بدل من اثنتي عشرة وأمماً . قال أبو البقاء نعت لأسباطاً أو بدل بعد بدل ولا يجوز أن يكون أسباطاً تمييزاً لأنه جمع وتمييز هذا النوع لا يكون إلا مفرداً وذهب الزمخشري إلى أن أسباطاً تمييز قال : ( فإن قلت ) : مميز ما بعد العشرة مفرد فما وجه مجيئه مجموعاً وهلا قيل : اثنتي عشر سبطاً ، ( قلت ) : لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأنّ المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة وكلّ قبيلة أسباط لا سبط فوضع أسباطاً موضع قبيلة ونظيره ، بين رماحي مالك ونهشل ، وأمماً بدل من اثنتي عشرة بمعنى وقطعناهم أمماً لأنّ كل أسباط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد وكل واحدة تؤمّ خلاف ما تؤمّه الأخرى لا تكاد تأتلف انتهى ، وما ذهب إليه من أن كل قبيلة أسباط خلاف ما ذكر الناس ذكروا أنّ الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب وقالوا : الأسباط جمع سبط وهم الفرق والأسباط من ولد إسحاق بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل ويكون على زعمه قوله تعالى : ) وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ ( معناه القبيلة وقوله ونظيره : بين رماحي مالك ونهشل ليس نظيره لأنّ هذا من تثنية الجمع وهو لا يجوز إلا في الضرورة وكأنه يشير إلى أنه لو لم يلحظ في الجمع كونه أريد به نوع من الرماح لم يصحّ تثنيته كذلك هنا لحظ هنا الأسباط وإن كان جمعاً معنى القبيلة فميز به كما يميز بالمفرد ، وقال الحوفي : يجوز أن يكون على الحذف والتقدير اثنتي عشرة فرقة ويكون أسباطاً نعتاً لفرقة ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وأمماً نعت لأسباط وأنث العدد وهو واقع على الأسباط وهو مذكر لأنه بمعنى الفرقة أو الأمة كما قال : ثلاثة أنفس يعني رجالاً وعشر أبطن بالنظر إلى القبيلة انتهى ونظير وصف التمييز المفرد بالجمع مراعاة للمعنى . قول الشاعر :

" صفحة رقم 406 "
فيها اثنتان وأربعون حلوبة
سوداً كحافته الغراب الأسحم
ولم يقل سوداء . وقيل : جعل كل واحدة من اثنتي عشرة أسباطاً كما تقول لزيد دراهم ولفلان دراهم ولعمر دراهم فهذه عشرون دراهم ، وقيل : التقدير وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة فلا يحتاج إلى تمييز ، وقال البغوي : في الكلام تأخير وتقديم تقديره وقطعناهم أسباطاً أمماً اثنتي عشرة وهذه كلها تقادير متكلّفة والأجرى على قواعد العرب القول الذي بدأنا به .
( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ). تقدم تفسير نظير هذه الجمل في البقرة وانبجست : إن كان معناه ما قال أبو عمرو بن العلاء فقيل : كان يظهر على كلّ موضع من الحجر فضربه موسى مثل ثدي المرأة فيعرق أولاً ثم يسيل وإن كان مرادفاً لانفجرت فلا فرق ، وقال الزمخشري : هنا الأناس اسم جمع غير تكسير نحو رخاء وثناء وثؤام وأخوات لها ويجوز أن يقال : إنّ الأصل الكسر والتكسير والضمة بدل من الكسر كما أبدلت في نحو سكارى وغيارى من لفتحة انتهى ولا يجوز ما قال لوجهين ، أحدهما : أنه لم ينطلق بإناس بكسر الهمزة فيكون جمع تكسير حتى تكون الضمة بدلاً من الكسرة بخلاف سكارى وغيار فإنّ القياس فيه فَعالى بفتح فاء الكلمة وهو مسموع فيهما ، ( والثاني ) : أنّ سكارى وغيارى وعجالى وما ورد من نحوها ليست الضمة فيه بدلاً من الفتحة بل نصّ سيبويه في كتابه على أنه جمع تكسير أصل كما أن فعالى جمع تكسير أصل وإن كان لا ينقاس الضمّ كما ينقاس الفتح ، قال سيبويه في حدّ تكسير الصفات : وقد يكسرون بعض هذا على فعالى ، وذلك قول بعضهم سكارى وعجالى ، وقال سيبويه في الأبنية أيضاً : ويكون فعالى في الاسم نحو حبارى وسماني ولبادي ولا يكون وصفاً إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع نحو عجالى وكسالى وسمانى فهذان نصّان من سيبويه على أنه جمع تكسير وإذا كان جمع تكسير أصلاً لم يسغ أن يدّعي أن أصله فعالى وأنه أُبدلت الحركة فيه وذهب المُبرّد إلى أنه اسم جامع أعني فعالى بضم الفاء وليس بجمع تكسير فالزمخشري لم يذهب إلى ما ذهب إليه سيبويه ولا إلى ما ذهب إليه المبرد لأنه عند المبرّد اسم جمع فالضمة في فائه أصل ليست بدلاً من الفتحة بل أحدث قولاً ثالثاً . وقرأ عيسى الهمداني من طيبات ما رزقتكم موحّداً للضمير .
الأعراف : ( 161 - 162 ) وإذ قيل لهم . . . . .
( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ ( تقدّمت هذه القصة وتفسيرها في البقرة وكأن هذه مختصرة من تلك إلا أنّ هناك وإذ قلنا ادخلوا وإذ قيل لهم اسكنوا وهناك رغداً وسقط هنا وهناك وسنزيد وهنا سنزيد وهناك فأنزلنا على الذين ظلموا وهنا فأرسلنا عليهم وبينهما تغاير في بعض الألفاظ لا تناقض فيه فقوله : وإذ قيل لهم وهناك وإذ قلنا فهنا حذف الفاعل للعلم به وهو الله تعالى ، وهناك ادخلوا وهنا اسكنوا السّكنى ضرورة تتعقب الدخول فأمروا هناك بمبدأ الشيء وهنا بما تسبّب عن الدخول وهناك فكلوا بالفاء وهنا بالواو فجاءت الواو على أحد محتملاتها من كون ما بعدها وقع بعدما قبلها ، وقيل الدخول حالة مقتضية فحسن ذكر فاء التعقيب بعده والسكنى حالة مستمرة فحسن الأمر بالأكل معه لا عقيبة

" صفحة رقم 407 "
فحسنت الواو الجامعة للأمرين في الزمن الواحد وهو أحد محاملها ويزعم بعض النحويين أنه أولى بحاملها وأكثر . وقيل ثبت رغداً بعد الأمر بالدخول لأنها حالة قدوم فالأكل فيها ألذ وأتم وهم إليه أحوج بخلاف السكنى فإنها حالة استقرار واطمئنان فليس الأكل فيها ألذّ ولا هم أحوج . وأما التقديم والتأخير في وقولوا وادخلوا ، فقال الزمخشريّ : سواء قدّموا الحطة على دخول الباب وأخروها فهم جامعون في الإيجاد بينهما انتهى ، وقوله سواء قدّموا وأخّروها تركيب غير عربي وإصلاحه سواء أقدموا أم أخروها كما قال تعالى : ) سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا ( ويمكن أن يقال : ناسب تقديم الأمر بدخول الباب سجّداً مع تركيب ادخلوا هذه القرية لأنه فعل دالّ على الخضوع والذلة وحطة قول والفعل أقوى في إظهار الخضوع من القول فناسب أن يذكر مع مبدأ الشيء وهو الدخول ولأنّ قبله ادخلوا فناسب الأمر بالدخول للقرية الأمر بدخول بابها على هيئة الخضوع ولأنّ دخول القرية لا يمكن إلا بدخول بابها فصار باب القرية كأنه بدل من القرية أعيد معه العامل بخلاف الأمر بالسّكنى وأما سنزيد هنا فقال الزمخشري موعد بشيئين بالغفران والزيادة وطرح الواو لا يخلّ بذلك لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل وماذا بعد الغفران فقيل له : سنزيد المحسنين وزيادة منهم بيان وأرسلنا وأنزلنا ويظلمون ويفسقون من واد واحد ، وقرأ الحسن : حطة بالنصب على المصدر أي حطّة ذنوبنا حطة ويجوز أن ينتصب بقولوا : على حذف التقدير وقولوا قولاً حطّة أي ذا حطة فحذف ذا وصار حطّة وصفاً للمصدر المحذوف كما تقول : قلت حسناً وقلت حقّاً أي قولاً حسنا وقولاً حقًّا ، وقرأ الكوفيون وابن كثير والحسن والأعمش نغفر بالنون لكم خطيئاتكم جمع سلامة إلا أن الحسن خفّف الهمزة وأدغم الياء فيها ، وقرأ أبو عمرو نغفر بالنون لكم خطاياكم على وزن قضاياكم ، وقرأ نافع ومحبوب عن أبي عمرو تغفر بالتاء مبنيًّا للمفعول لكم خطيئاتكم جمع سلامة ، وقرأ ابن عامر تغفر بتاء مضمومة مبنيًّا للمفعول لكم خطيئتكم على التوحيد مهموزاً . وقرأ ابن هرمز تغفر بتاء مفتوحة على معنى أنّ الحطّة تغفر إذ هي سبب الغفران ، قال ابن عطية : وبدل غير اللفظ دون أن يذهب بجميعه وأبدل إذا ذهب به وجاء بلفظ آخر انتهى ، وهذه التفرقة ليست بشيء وقد جاء في القراءات بدل وأبدل بمعنى واحد قرىء : ) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَواةً ( و ) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْواجاً ( ) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مّنْهَا ( بالتخفيف والتشديد والمعنى واحد وهو إذهاب الشيء والإتيان بغيره بدلاً منه ثم التشديد قد جاء حيث يذهب الشيء كله قال تعالى : ) فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( و ) بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ( ثم ) بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيّئَةِ الْحَسَنَةَ ( وعلى هذا كلام العرب نثرها ونظمها .
الأعراف : ( 163 ) واسألهم عن القرية . . . . .
( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ ). الضمير في واسألهم عائد على من يحضره الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من اليهود وذكر أن بعض اليهود المعارضين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قالوا له لم يكن من بني إسرائيل عصيان ولا معاندة لما أمروا به فنزلت هذه الآية موبّخة لهم ومقررة كذبهم ومعلمة ما جرى على أسلافهم من الإهلاك والمسخ وكانت اليهود تكتم هذه القصة فهي مما لا يعلم إلا بكتاب أو وحي فإذا أعلمهم بها من لم يقرأ كتابهم علم أنه من جهة الوحي ، وقوله عن القرية فيه حذف أي عن أهل لقرية والقرية إيلة قاله ابن مسعود وأبو صالح عن ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة والسدّي وعكرمة وعبد الله بن كثير والثوري ، أو مدين ورواه عكرمة عن ابن عباس أو ساحل مدين ، وروي عن قتادة وقال هي مقّنى بالقاف ساكنة ، وقال ابن زيد : هي مقناة ساحل مدين ، ويقال : لها معنى بالعين مفتوحة ونون مشدّدة أو طبرية قاله الزهري أو أريحا أو بيت المقدس

" صفحة رقم 408 "
وهو بعيد لقوله حاضرة البحر أو قرية بالشام لم تسمَّ بعينها وروي عن الحسن : ومعنى انتهى حاضرة البحر بقرب البحر مبنية بشاطئه ويحتمل أن يريد معنى الحاضرة على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في قرى البحر فالتقدير حاضرة قرى البحر أي يحضر أهل قرى البحر إليها لبيعهم وشرائهم وحاجتهم إذ يعدون في السبت أي يجاوزون أمر الله في العمل يوم السبت وقد تقدم منه تعالى النهي عن العمل فيه والاشتغال بصيد أو غيره إلا أنه في هذه النازلة كان عصيانهم ، وقرىء يعدّون من الإعداد وكانوا يعدّون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك يعَدّون بفتح العين وتشديد الدال وأصله يعتدون فأدغمت التاء في الدال كقراءة من قرأ لا تعدوا في السبت إذ ظرف والعالم فيه . قال الحوفي : إذ متعلقة بسلهم انتهى ، ولا يتصور لأن إذ ظرف لما مضى وسلهم مستقبل ولو كان ظرفاً مستقبلاً لم يصحّ المعنى لأن العادين وهم أهل القرية مفقودون فلا يمكن سؤالهم والمسؤول عن أهل القرية العادين ، وقال الزمخشري : إذ يعدون بدل من القرية والمراد بالقرية أهلها كأنه قيل وسلهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت وهو من بدل الاشتمال انتهى ، وهذا لا يجوز لأن إذ من الظروف التي لا تتصرف ولا يدخل عليها حرف جر وجعلها بدلاً يجوز دخول عن عليها لأن البدل هو على نيّة تكرار العامل ولو أدخلت عن عليها لم يجز وإنما تصرف فيها بأن أضيف إليها بعض الظروف الزمانية نحو يوم إذ كان كذا وأما قول من ذهب إلى أنها يتصرّف فيها بأن تكون مفعولة باذكر فهو قول من عجز عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً ، وقال أبو البقاء عن القرية : أي عن خبر القرية وهذا المحذوف هو الناصب للظرف الذي هو إذ يعدون ، وقيل هو ظرف للحاضرة وجوّز ذلك أنها كانت موجودة في ذلك الوقت ثم خربت انتهى ، والظاهر أن قوله في السبت ويوم سبتهم المراد به اليوم ومعنى اعتدوا فيه أي بعصيانهم وخلافهم كما قدمنا ، وقال الزمخشري : السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبّد فمعناه يعدون في تعظيم هذا اليوم وكذلك قوله تعالى يوم سبتهم يوم تعظيمهم ويدل عليه قوله ) وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ وَإِذْ تَأْتِيَهُمُ ( العامل في إذ يعدون أي إذ عدوا في السبت إذ أتتهم لأنّ إذ ظرف لما مضى يصرف المضارع للمضي . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون بدلاً بعد بدل انتهى ، يعني بدلاً من القرية بعد بدل إذ يعدون وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز وأضاف السبت إليهم لأنهم مخصوصون بأحكام فيه ، وقرأ عمر بن عبد العزيز : حيتانهم يوم أسباتهم ، قال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح وقد ذكر هذه القراءة عن عمر بن عبد العزيز : وهو مصدر من أسبت الرجل إذا دخل في السبت ، وقرأ عيسى بن عمر وعاصم بخلاف لا يسبتون بضمّ كسرة الباء في قراءة الجمهور ، وقرأ علي والحسن وعاصم بخلاف يسبتون بضم ياء المضارعة من أسبت دخل في السبت ، قال الزمخشري : وعن الحسن لا يسبتون بضم الياء على البناء للمفعول أي لا يدار عليهم السبت ولا يؤمرون بأن يسبتوا والعامل في يوم قوله لا تأتيهم وفيه دليل على أنّ ما بعد لا للنفي يعمل فيما قبلها وفيه ثلاثة مذاهب الجواز مطلقاً والمنع مطلقاً والتفصيل بين أن يكون لا جواب قسم فيمتنع أو غير ذلك فيجوز وهو الصحيح كذلك أي مثل ذلك البلاء بأمر الحوت نبلوهم أي بلوناهم وامتحناهم ، وقيل كذلك متعلق بما قبله أي ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك أي لا تأتيهم إتياناً مثل ذلك الإتيان وهو أن تأتي شرّعاً ظاهرة كثيرة بل يأتي ما أتى منها وهو قليل فعلى القول الأول في كذلك ينتفي إتيان الحوت مطلقاً ، كما روي في القصص

" صفحة رقم 409 "
أنه كان يغيب بجملته وعلى القول الثاني كان يغيب أكثره ولا يبقى منه إلاّ القليل الذي يتعب بصيده قاله قتادة : وهذا الإتيان من الحوت قد يكون بإرسال من الله كإرسال السُّحاب أو بوحي إلهام كما أوحى إلى النحل أو بإشعار في ذلك اليوم على نحو ما يشعرالله الدّواب يوم الجمعة بأمر الساعة حسبما جاء وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حتى تطلع الشمس فرقاً من الساعة ويحتمل أن يكون ذلك من الحوت شعوراً بالسلامة ومعنى شرّعاً مقبلة إليهم مصطفّة ، كما تقول أشرعت الرّمح نحوه أي أقبلت به إليه ، وقال الزمخشري : شرّعاً ظاهرة على وجه الماء ، وعن الحسن : تشرّع على أبوابهم كأنها الكباش السّمن يقال : شرع علينا فلان إذا دنا منه وأشرف علينا وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا ، وقال رواة القصص : يقرب حتى يمكن أخذه باليد فساءهم ذلك وتطرّقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليها ماء البحر على أخدود فإذا جاء الحوت يوم السبت وحصل في الحفرة ألقوا في الأخدود حجراً فمنعوه الخروج إلى البحر فإذا كان الأحد أخذوه فكان هذا أول التطريق ، وقال ابن رومان : كانوا يأخذ الرجل منهم خيطاً ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت وفي الطرف الآخر من الخيط وتدٌ مضروب وتركه كذلك إلى أن يأخذه في الأحد ثم تطرق الناس حين رأوا من يصنع هذا لا يبتلي حتى كثر صيد الحوت ومشى به في الأسواق وأعلن الفسقة بصيده وقالوا ذهبت حرمة السبت .
( وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ).
الأعراف : ( 164 ) وإذ قالت أمة . . . . .
أي جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين جرّبوا الوعظ فيهم فلم يروه يجدي والظاهر أن القائل غير المقول لهم لم تعظون قوماً فيكون ثلاث فرق اعتدوا وفرقة وعظت ونهت وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعتد وهذه الطائفة غير القائلة للواعظة لم تعظون ، وروي أنهم كانوا فرقتين فرقة عصت وفرقة نهت ووعظت وأن جماعة من العاصية قالت للواعظة على سبيل الاستهزاء لم تعظون قوماً قد علمتم أنتم أنّ الله مهلكهم أو معذبهم . قال ابن عطية : والقول الأوّل أصوب ويؤيده الضمائر في قوله معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فهذه المخاطبة تقتضي مخاطباً انتهى ويعني أنه لو كانت العاصية هي القائلة لقالت الواعظة معذرة إلى ربهم ولعلهم أو بالخطاب معذرة إلى ربكم ولعلكم تتقون ومعنى مهلكهم مخترمهم ومطهّر الأرض منهم أو معذبهم عذاباً شديداً لتماديهم في العصيان ويحتمل أن يكون العذاب في الدنيا ويحتمل أن يكون في الآخرة وإن كانوا ثلاث فرق فالقائلة : إنما قالت ذلك حيث علموا أن الوعظ لا ينفع فيهم لكثرة تكرره عليهم وعدم قبولهم له ويحتمل أن يكونا فرقتين عاصية وطائعة وإنّ الطائعة قال بعضهم لبعض لما رأوا أنّ العاصية لا يجدي فيها الوعظ ولا يؤثر شيئاً : لم تعظون ؟ وقرأ الجمهور معذرة بالرفع أي موعظتنا إقامة عذر إلى الله ولئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى بعض التفريط ولطمعنا في أن يتقوا المعاصي ، وقرأ زيد بن علي وعاصم في بعض ما روى عنه وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف معذرة بالنصب أي وعظناهم معذرة ، قال سيبويه : لو قال رجل لرجل معذرة إلى الله وإليك من كذا لنصب انتهى ، ويختار هنا سيبويه الرفع قال لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً ولكنهم قيل : لهم لم تعظون ؟ قالوا :

" صفحة رقم 410 "
موعظتنا معذرة ، وقال أبو البقاء : من نصب فعلى المفعول له أي وعظنا للمعذرة ، وقيل : هو مصدر أي نعتذر معذرة وقالهما الزمخشري .
الأعراف : ( 165 ) فلما نسوا ما . . . . .
( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوء وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ( الضمير في نسوا للمنهيين أي تركوا ما ذكرهم به الصالحون وجعل الترك نسياناً مبالغة إذ أقوى أحوال الترك أن ينسى المتروك وما موصولة بمعنى الذي . قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد به الذكر نفسه ويحتمل أن يراد به ما كان في الذكر انتهى ، ولا يظهر لي هذان الاحتمالان والسوء عام في المعاصي وبحسب القصص يختص هنا بصيد الحوت والذين ظلموا هم العاصون نبّه على العلة في أخذهم وهي الظلم . قال مجاهد : بئيس شديد موجع ، وقال الأخفش : مهلك ، وقرأ أهل المدينة نافع وأبو جعفر وشيبة وغيرهما بيس على وزن جيد ، وابن عامر كذلك إلا أنه همز كبئر ووجهتا على أنه فعل سمّي به كما جاء أنهاكم عن قيل وقال ويحتمل أن يكون وضع وصفاً على وزن فعل كحلف فلا يكون أصله فعلاً ، وخرّجه الكسائي على وجه آخر وهو أنّ الأصل بيئس فخفف الهمزة فالتفت ياءآن فحذفت إحداهما وكسر أوله كما يقال رغيف وشهيد ، وخرّجه غيره على أن يكون على وزن فعل فكسر أوله اتباعاً ثم حذفت الكسرة كما قالوا فخذ ثم خففوا الهمزة وقرأ الحسن بئيس بهمز وبغير همز عن نافع وأبي بكر مثله إلا أنه بغير همز عن نافع كما تقول بيس الرجل ، وضعفها أبو حاتم وقال : لا وجه لها قال لأنه لا يقال مررت برجل بيس حتى يقال بيس الرجل أو بيس رجلاً ، قال النحاس : هذا مردود من كلام أبي حاتم حكى النحويون إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت يريدون ونعمت الخصلة والتقدير بيس العذاب ، وقرىء بئس على وزن شهد حكاها يعقوب القارىء وعزاها أبو الفضل الرازي إلى عيسى . ( سقط : بن عمر إلى صفحة 412 سطر 12 اختصار )
وقال أبو سليمان الدمشقي أعلم أنبياء بني إسرائيل ) لَيَبْعَثَنَّ ( ليرسلن وليسلطن لقوله ) بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا ( والضمير في ) عَلَيْهِمْ ( عائد على اليهود قاله الجمهور أو ) عَلَيْهِمْ ( وعلى النصارى قاله مجاهد ، وقيل : نسل الممسوخين والذين بقوا منهم وقيل : يهود خيبر وقريظة والنضير وعلى هذا ترتب الخلاف في من ) يَسُومُهُمْ ( ، فقيل : بختصر ومن أذلهم بعده إلى يوم القيامة ، وقيل المجوس كانت اليهود تؤدي الجزية إليهم إلى أن بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) فضربها عليهم فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر ، وقيل : العرب كانوا يجبون الخراج من اليهود قاله ابن جبير ، وقال السّدّي بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم ، وقال ابن عباس المبعوث عليهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمته ولم يجب الخراج بني قط إلا موسى جباه ثلاث سنة ثم أمسك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، و ) سُوء الْعَذَابِ ( الجزية أو الجزية والمسكنة وكلاهما عن ابن عباس أو القتال حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وقيل : الإخراج والإبعاد عن الوطن وذلك على قول من قال إن الضمير في ) عَلَيْهِمْ ( عائد على أهل خيبر وقريظة والنضير وهذه الآية تدلّ على أن لا دولة لليهود ولا عزّ وأن الذلّ والصغار فيهم لا يفارقهم ولما كان خبراً في زمان الرسول عليه السلام وشاهدنا الأمر كذلك كان خبراً عن مغيب صدقاً فكان معجزاً وأما ما جاء في أتباع الدّجال أنهم هم اليهود فتسمية بما كانوا عليه ذ هم في ذلك الوقت دانوا بإلهية الدجال فلا تعارض بين هذا الخبر إن صح والآية ، وفي كتاب ابن عطية : ولقد حدثت أن طائفة من الروم أملقت في صقعها فباعت اليهود المجاورة لهم وتملكوهم .
( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ). إخبار يتضمن سرعة إيقاع العذاب بهم .
( وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ). ترجية لمن آمن منهم ومن غيرهم ووعد لمن تاب وأصلح ) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الاْرْضِ أُمَمًا مّنْهُمُ الصَّالِحُونَ بن عمر وزيد بن علي ، وقرأ جرية بن عائد ونصر بن عاصم في رواية ( بأس ) على وزن ' ضرب ' فعلاً ماضياً . وعن الأعمش ومالك بن دينار ( بأس ) أصله ( بأس ) فسكن الهمزة جعله فعلاً لا يتصرف . وقرأت فرقة ( بيس ) بفتح الباء والياء والسين . وحكى الزهراوي عن ابن كثير وأهل مكة ( بئس ) بكسر الباء والهمز همزاً خفيفاً ولم يبين هل الهمزة مكسورة أو ساكنة ؟ وقرأت فرقة ( باس بفتح الباء وسكون الألف . وقرأ خارجة عن نافع وطلحة ( بيس ) على وزن كيل لفظاً . وكان أصله ' فيعل ' مهموزاً إلا أنه خفف الهمزة بإبدالها ياء وأدغم ثم حذف كميت . وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه ( بأس ) على وزن ' جبل ' . وأبو عبد الرحمن بن مصرف ( بئس ) على وزن كبد وحذرز وقال أبو عبد الله بن قيس الرقيات : ليتني ألقى رقية في
خلوة من غبر ما بئس
وقرأ ابن عباس وأبو بكر عن عاصم والأعمش ( بيأس ) على وزن ضيغم ، وقال امرؤ القيس بن عابس الكندي

" صفحة رقم 411 "
كلاهما كان رئيساً بيأساً
يضرب في يوم الهياج القونسا
وقرأ عيسى بن عمر الأعمش بخلاف عنه ( بيئس ) على وزن ' صقيل ' اسم امرأة بكسر الهمزة وبكسر القاف وهما شاذان ، لأنه من بناء مختص بالمعتل كسيد وميت . وقرأ نصر بن عاصم في رواية ( بيس ) على وزن ميت وخرج على أنه من البؤس ولا أصل له في الهمز ، وخرج أيضاً على أنه خفف الهمزة بإبدالها ياء ثم أدغمت وعنه أيضاً بئس القلب الياء همزة وادغامها في الهمزة ورويت هذه عن الأعمش . وقرأت فرقة ( بأس ) بفتح الثلاثة والهمزة مشددة ، وقرأ باقي السبعة ونافع وفي رواية أبي قرة وعاصم في رواية حفص وأبو عبد الرحمن ومجاهد والأعرج والأعمش في رواية وأهل الحجاز ( بئيس ) على وزن رئيس . وخرج على أنه وصف على وزن ' فعيل ' للمبالغة من بائسة على وزن فاعل ، وهي قراءة أبي رجاء عن علي ، أو على أنه مصدر وصف به كالنكير والقدير ، وقال أبو الأصبع العدواني : حنقاً علي ولا أرى
لي منهما شراً بئيساً
وقرأ أهل مكة كذلك إلا أنهم كسروا الباء ، وهي لغة تميم في ' فعيل ' حلقي العين يكسرون أوله ، وسواء كان اسماً أم صفة . وقرأ الحسن والأعمش فيما زعم عصمة ( بيئس ) على وزن طريم وحزيم . فهذه اثنتان وعشرون قراءة وضبطها بالتلخيص أنها قرئت ثلاثية اللفظ ورباعيته فالثلاثي اسماً بئس وبيس وبيس وبأس وبيس وفعلاً بيس وبئس وبئس وبأس وبأس وبئس والرباعية اسماً بيأس وبيئس وبيئس وبييس وبئيس وبائس وفعلاً باءس . )
الأعراف : ( 166 ) فلما عتوا عن . . . . .
فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين (
أي : استعصوا . والعتو : الاستعصاء والتأبي في الشيء . وباقي الآية تقدم تفسيره في البقرة ، والظاهر : أن العذاب ، والمسخ ، والهلاك ، إنما وقع بالمعتدين في السبت . والأمة القائلة لم تعظون قوماً : هم من فريق الناهين الناجين . وإنما سألوا إخوانهم عن علة وعظهم وهو لا يجدي فيهم شيئاً البتة ، إذ الله مهلكهم أو معذبهم ، فيصير الوعظ إذ ذاك كالعبث كوعظ المكاسين ، فإنهم يسخرون بمن يعظهم وكثير ما يؤدي إلى تنكيل الواعظ . وعلى قوم من زعم أن الأمة القائلة لم تعظون هم العصاة ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء ، أي : تزعمون أن الله مهلكهم أو معذبهم . تكون هذه الأمة من الهالكين الممسوخين والظاهر من قوله ( فلما عتوا ) أنهم أولاً أخذوا بالعذاب حين نسوا ما ذكروا به ، ثم لما عتوا مسخوا . وقيل ' ( فلما عتوا ) تكرير لقوله ( فلما نسوا ) والعذاب البئيس هو المسخ .
( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ، وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ، فخلف من بعدهم

" صفحة رقم 412 "
خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ، والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين ) ) 2 )
الأعراف : ( 167 ) وإذ تأذن ربك . . . . .
( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ( لما ذكر تعالى قبح أفعالهم واستعصائهم . أخبر تعالى أنه حكيم عليهم بالذال والصغار إلى يوم القيامة ( تأذن ) أعلم من الأذان ، وهو الإعلام . قاله الحسن وابن قتيبة واختاره الزجاج أبو علي ، وقال عطاء : ( تأذن ) حتم ، وقال قطرب : ' وعد ' ، وقال أبو عبيدة : أخبر وهو راجع لمعنى أعلم ' . وقال مجاهد : ' أمر وعنه قال : وفيل : ' أقسم وروي عن الزجاج ، قال الزمخشري : ' تأذن عزم ربك وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام ، لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه ويؤذنها بفعله ، وأجرى مجرى فعل القسم ك ( علم ) الله ، وشهد الله ، ولذلك أجيب بما يجاب به المقسم ، وهو قوله ( ليبعثن ) والمعنى : إذ ختم ربك وكتب على نفسه ' . وقال ابن عطية : بنية ( تأذن ) هي التي تقتضي التكسب من أذن . أي : علم ومكن ، فإذا كان مسنداً إلى غير الله لحقه معنى التكسب الذي يلحق المحدثين ، وإلى الله كان بمعنى علم صفة لا مكتسبة بل قائمة بالذات . فالمعنى : وإذا علم الله ليبعثن . ويقتضي قوة الكلام أن ذلك العلم منه مقترن بإنفاذ وإمضاء كما تقول في أمر قد عزمت عليه غاية العزم . ' علم الله لأبعثن كذا ' نحا إليه أبو علي الفارسي ، وقال الطبري وغيره ' ( تأذن ) معناه ' أعلم ' وهو قلق من جهة التصريف ، إذ نسبة ( تأذن ) إلى الفاعل غير نسبة ' أعلم ' وبين ذلك فرق في التعدي وغيره ' . انتهى . وفيه بعض اختصار ، وقال أبو سليمان الدمشقي : أعلم أنبياء بني إسرائيل ليبعثن ليرسلن وليسلطن لقوله ) بعثنا عليكم عبادا لنا ( والضمير في عليهم عائد على اليهود قاله الجمهور أو عليهم وعلى النصارى . قاله مجاهد / وقيلب : نسل الممسوخين : والذين بقوا منهم / وقيل اليهود خيبر وبني قريظة والنضير / وعلة هذا ترتب الخلاف في من يسمونهم فقيل بخنتصر من أذلهم بعده إلى يوم القيامة وقيل المجوس كانت اليهود تؤدي الجزية ويقتلونهم / ، إلى أن بعث الله محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) فضربها عليهم / فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر وقيل العرب كانوا يجبون الخراج من اليهود قال ابن جبير وقال السدي : ' بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم وقال ابن عباس المبعوث عليهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته ولم يجب الخراج نبي قط إلا موسى جباه ثلاث عشرة سنة ثم أمسك لنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسوء العذاب الجزية أو الجزية والمسكنة وكلاهما عن ابن عباس أو القتال حتى يسلموا أو يودوا الجزية عن يد ةوهم صاغرون وقيل الإخراج والإبعاد عن الوطن وذلك على قول من قال : / إن الضميرفي عليهم عائد على أهل خيبر وقريظه والنضير وهذه الآية تدل على أن لا دولة ولا عز وأن الذل والصغار فيهم لا يفاقهم ولما كان خيرا في زمان الرسول عليه السلام وشاهدنا الأمر كذلك كان خبررا عن مغيب صدقا فكان فلا تعارض بين هذا الخبر إن إن صح والآية وفي كتاب ابن عطية ولقد ح ثت أن طائفة من الروم أملقت في صفعها فباعت اليهود المجاورة لهم وتملكوهم ( إن ربك لسريع العقاب ) إخبار يتضمن سرعة إيفاع العذاب بهم ( وإنه لغفور رحيم ) ترجية لمن آمن منهم ومن غيرهم ووعد لمن تاب وأصلح
الأعراف : ( 168 ) وقطعناهم في الأرض . . . . .
( وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون

" صفحة رقم 413 "
وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ ). أي فرقاً متباينين في أقطار الأرض فقل أرض لا يكون منهم فيها شرذمة وهذا حالهم في كل مكان تحت الصغار والذلّة سواء كان أهل تلك الأرض مسلمين أم كفاراً وأمماً حال ، وقال الحوفي مفعول ثان وتقدم قوله هذا في قطعناهم اثنتي عشرة والصالحون من آمن منهم بعيسى ومحمد عليهما السلام أو من آمن بالمدينة ومنهم منحطون عن الصالحين وهم الكفرة وذلك إشارة إلى الصلاح أي ومنهم دون أهل الصلاح لأنه لا يعتدل التقسيم إلا على هذا التقدير من حذف مضاف أو يكون ذلك المعنى به أولئك فكأنه قال ومنهم قوم دون أولئك ، وقد ذكر النحويون أنّ اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع فيكون ذلك بمعنى أولئك على هذه اللغة ويعتدل التقسيم والصالحون ودون ذلك ألفاظ محتملة فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك يُراد به الكفار وإن أريد بالصلاح العبادة والخير وتوابع الإيمان كان دون ذلك في مؤمنين لم يبلغوا رتبة الصلاح الذي لأولئك ، والظاهر الاحتمال الأول لقوله لعلهم يرجعون إذ ظاهر قوله وبلوناهم إنهم القوم الذين هم دون أولئك وهو من ثبت على اليهودية وخرج من الإيمان ودون ذلك ظرف أصله للمكان ثم يستعمل للانحطاط في المرتبة ، وقال ابن عطية : فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك بمعنى غير يراد به الكفرة انتهى ، فإن أراد أنّ دون ترادف غيراً فهذا ليس بصحيح وإن أراد أنه يلزم ممن كان دون شيء أن يكون غيراً فصحيح ودون ظرف في موضع رفع نعت لمنعوت محذوف ويجوز في التفصيل بمن حذف الموصوف وإقامة صفته مقامة نحو هذا ومنه قولهم منا ظعن ومنا أقام .
( وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ ). أي بالصحة والرخاء والسعة والسيئات مقابلاتها . ) لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( إلى الطاعة ويتوبون عن المعصية
الأعراف : ( 169 ) فخلف من بعدهم . . . . .
( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَاذَا الاْدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ). أي حدث من بعد المذكورين خلف ، قال الزجاج : يقال للقرن الذي يجيء بعد القرن خلف ، وقال الفراء : الخلف القرن والخلف من استخلفه ، وقال ثعلب : الناس كلهم يقولون خلف صدق للصالح وخلف سوء للطالح . ومنه قول الشاعر : ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
والمثل : سكت ألفاً ونطق خلفاً أي سكت طويلاً ثم تكلّم بكلام فاسد ، وعن الفرّاء : الخلف يذهب به إلى الذمّ والخلف خلف صالح . وقال الشاعر : خلفت خلفاً ولم تدع خلفا
كنت بهم كان لا بك التلفا
وقد يكون في الرّدى خلف وعليه قوله :
ألا ذلك الخلف الأعور
وفي الصالح خلف وعلى هذا بيت حسان : لنا القدم الأولى عليهم وخلفنا
لأوّلنا في طاعة الله تابع

" صفحة رقم 414 "
وقال ابن السّكيت : يقال هذا خلف صدق وهذا خلف سوء ويجوز هؤلاء خلف صدق وهؤلاء خلف سوء واحدة وجمعه سواء ، وقال الشاعر : إنا وحدنا خلفاً بئس الخلف
عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف
وقد جمع في الردى بين اللغتين في هذا البيت ، وقال النضر بن شميل : التحريك والإسكان معاً في القرآن الردى وأما الصالح فبالتحريك لا غير وأكثر أهل اللغة على هذا إلا الفرّاء وأبا عبيدة فإنهما أجازا الإسكان في الصالح والخلف أما مصدر خلف ولذلك لا يثنّي ولا يجمع ولا يؤنث وإن ثنى وجمع وأنّث ما قبله وإما جمع خالف كراكب وركب وشارب وشرب قاله ابن الأنباري ، وليس بشيء لجريانه على المفرد واسم الجمع لا يجري على المفرد ، قال ابن عباس وابن زيد : هنا هم اليهود ، قال الزمخشري : وهم الذين كانوا في زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ورثوا الكتاب التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرأونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحريم والتحليل ولا يعملون بها ، وقال الطبري هم أبناء اليهود وعن مجاهد أنهم النصار وعنه أنهم هؤلاء الأمة ، وقرأ الحسن : ورثوا بضم الواو وتشديد الراء وعلى الأقوال يتخرّج الكتاب أهو التوراة أو الإنجيل والقرآن وعرض هذا الأدنى هو ما يأخذونه من الرِّشا والمكاسب الخبيثة والعرض ما يعرض ولا يثبت وفي قوله : عرض هذا الأدنى تخسيس لما يأخذونه وتحقير له وأنهم مع علمهم بما في كتابهم من الوعيد على المعاصي يقدّمون لأجل العامة على تبديل الكتاب وتحريفه كما قال تعالى : ) ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ( والأدنى من الدنو وهو القرب لأن ذلك قريب منقضٍ زائل ، قال الزمخشري : وإما من دنو الحال وسقوطها وقلّتها ، ويقولون سيغفر لنا قطع على الله بغفران معاصيهم أي لا يؤاخدنا الله بذلك والمناسب إذ ورثوا الكتاب أن يعملوا بما فيه وأنه إن قضي عليهم بالمعصية أن لا يجزموا بالمغفرة وهم مصرون على ارتكابها ، ولنا في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله ، وقيل ضمير مصدر يأخذون أي سيغفر هو أي الأخذ لنا .
( وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ). الظاهر أن هذا استئناف إخبار عنهم بأنهماكهم في المعاصي وإن أمكنهم الرّشا والمكاسب الخبيثة لم يتوقفوا عن أخذها ثانية ، ودائماً فهم مصرُّون على المعاصي غير مكترثين بالوعيد كما جاء والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله والعرض بفتح الراء متاع الدنيا قاله أبو عبيدة ، يقال : إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البرّ والفاجر ، والعرض بسكون الراء الدراهم والدنانير التي هي رؤوس الأموال وقيم المتلفات ، قال السدّي : كانوا يعيرون القاضي فإذا ولّى المعير ارتشى ، وقيل كانوا لو أتاهم من الخصم الأجر رشوة أخذوها ونقضوا بالرشكوة الثانية ما قضوا بالرشوة الأولى . وقال الشاعر : إذا ما صبّ في القنديل زيت
تحوّلت القضية للمقندل
وقال آخر : لم يفتح الناس أبواباً ولا عرفوا
أجدى وأنجح في الحاجات من طبق
إذا تعمم بالمنديل في طبق
لم يخش نبوة بواب ولا غلق

" صفحة رقم 415 "
ولهذه الأمة من هذه الآية نصيب وافر . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لتسلكنّ سنن من قبلكم ) ومن اختبر حال علمائها وقضاتها ومفتيها شاهد بالعيان ما أخبر به الصادق ، وقال الزمخشري : الواو للحال يعني في وإن يأتهم أي يرجون المغفرة وهم مصرّون عائدون إلى مثل قولهم غير ناسين وغفران الذنوب لا يصحّ إلا بالتوبة والمصرّ لا غفران له انتهى ، وجمله على جعل الواو للحال لا للعطف مذهب الاعتزال والظاهر ما قدّمناه ولا يردّ عليه بأن جملة الشرط لا تقع حالاً لأنّ ذلك جائز .
( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ ). هذا توبيخ وتقرير لما تضمنه الكتاب من أخذ الميثاق لا يكذبون على الله . قال ابن زيد : كان يأتيهم المحقّ برشوة فيخرجون له كتاب الله ويحكمون له به فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له وأضيف الميثاق إلى الكتاب لأنه ذكر فيه أن لا يقولوا على الله إلا الحقّ ، وقال بعضهم : هو قولهم سيغفر لنا ولا يتعين ذلك بل هو أعم من هذا القول وغيره فيندرج فيه الجزم بالغفران وغيره وأن لا يقولوا في موضع رفع على البدل من ميثاق الكتاب ، وقال الزمخشري : هو عطف بيان لميثاق الكتاب ومعناه الميثاق المذكور في الكتاب وفيه إنّ إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله تعالى وتقول ما ليس بحق عليه وإن فسّر ميثاق الكتاب بما تقدم ذكره كان أن لا يقولوا مفعولاً له ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أن تكون مفسّرة ولا يقولوا إنهيا ، كأنه قيل ألم يقل لكم لا تقولوا على الله إلا الحق ، وقال أيضاً : قبل ذلك ميثاق الكتاب يعني قوله في التوراة من ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة ودرسوا ما فيه أي ما في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب والذي عليه هوى المجبر هو مذهب اليهود بعينه كما ترى ، وقال مالك بن دينار رحمه الله : يأتي على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به قالوا : سيغفر لنا لن نشرك بالله شيئاً كل أمرهم على الطمع خيارهم فيه المداهنة فهؤلاء من هذه الأمة أشباه الذين ذكرهم الله تعالى وتلا الآية انتهى ، وهو على الطمع خيارهم فيه المداهنة فهؤلاء من هذه الأمة أشباه الذين ذكرهم الله تعالى وتلا الآية انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة وقوله : إلا الحقّ دليل على أنهم كانوا يقولون الباطل على تناولهم عرض الدنيا ودرسوا معطوف على قوله ألم يؤخذو وفي ذلك أعظم توبيخ وتقريع وهو أنهم كرّروا على ما في الكتاب وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله وهذا العطف على التقرير لأنّ معناه قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه كقوله ألم نر بك فينا وليداً وليثبت معناه قد ربّيناك ولبثت ، وقال الطبري : وغيره هو معطوف على قوله ورثوا الكتاب وفيه بعد ، وقيل هو على إضمار قد أي وقد درسوا ما فيه وكونه معطوفاً على التقرير هو الظاهر لأن فيه معنى إقامة الحجة عليهم في أخذ ميثاق الكتاب بكونهم حفظوا لفظه وكرّروه وما نسوه وفهموا معناه وهم مع ذلك لا يقولون إلا الباطل ، وقرأ الجحدري أن لا تقولوا بتاء الخطاب ، وقرأ علي والسلمي : وادّارسوا وأصله وتدارسوا كقوله فادارأتم أي تدارأتم وقد مر تقريره في العربية ، وهذه القراءة نوضح أن معنى ودرسوا ما فيه هو التكرار لقراءته والوقوف عليه وأنّ تأويل من تأوّل ودرسوا ما فيه أن معناه ومحوه بترك العمل والفهم له من قولهم درست بالريح الآثار إذا محتها فيه بعد ولو كان كما قيل لقيل ربع مدروس وخط مدروس ، وإنما قالوا : ربع دارس وخط دارس بمعنى دائر .
( وَالدَّارُ الاْخِرَةُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ ). أي ولثواب دار الآخرة خير من تلك الرشوة الخبيثة الخسيسة المعقبة خزي الدنيا والآخرة ومعنى يتقون محارم الله تعالى وقرأ أبو عمرو وأهل مكة يعقلون بالياء جرياً على الغيبة في الضمائر السابقة ، وقرأ الجمهور بالخطاب على طريقة الالتفات إليهم أو على طريق خطاب هذه الأمة كأنه قيل أفلا تعقلون حال هؤلاء وما هم عليه من سوء العمل ويتعجبون من تجارتهم على ذلك .
الأعراف : ( 170 ) والذين يمسكون بالكتاب . . . . .
( وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْر

" صفحة رقم 416 "
الْمُصْلِحِينَ ). الظاهر أنّ الكتاب هو السابق ذكره في ورثوا الكتاب فيجيء الخلاف فيه كالخلاف في ذلك وهو مبني على المراد في قوله خلف ورثوا ، وقيل : الكتاب هنا للجنس أي الكتب الإلهية والتمسّك بالكتاب يستلزم إقامة الصلاة لكنها أفردت بالذكر تعظيماً لشأنها لأنها عماد الدين بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة ، وقرأ عمر وأبو العالية وأبو بكر عن عاصم يمسكون من أمسك والجمهور يمسكون مشدّداً من مسك وهما لغتان جمع بينهما كعب بن زهير فقال : فتما تمسّك بالعهد الذي زعمت
إلا كما يمسك الماء الغرابيل
وأمسك متعدّ قال : ) وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الاْرْضِ ( فالمفعول هنا محذوف أي يمسكون أعمالهم أي يضبطونها والباء على هذا تحتمل الحالية والآلة ومسك مشدد بمعنى تمسّك والباء معها للآلة وفعل تأتّى بمعنى تفعل نصّ عليه التصريفيون ، وقرأ عبد الله والأعم 5 : استمسكوا وفي حرف أبي تمسكوا بالكتاب والظاهر أن قوله والذين استئناف إخبار لما ذكر حال من لم يتمسك بالكتاب ذكر حال من استمسك به فيكونن والذين على هذا مرفوعاً بالابتداء وخبره الجملة بعده كقوله ) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ( إذا جعلنا الرابط هو في من أحسن عملاً وهو العموم كذلك هذا يكون الرابط هو العموم في المصلحين ، وقال الحوفي وأبو البقاء : الرابط محذوف تقديره أجر المصلحين اعتراض والتقدير مأجورون أو نأجرهم انتهى ، ولا ضرورة إلى ادعاء الحذف وأجاز أبو البقاء أن يكون الرّابط هو المصلحين وضعه موضع المضمر أي لا نضيع أجرهم انتهى ، وهذا على مذهب الأخفش حيث أجاز الرابط بالظاهر إذا كان هو المبتدأ فأجاز زيد قام أبو عمرو إذا كان أبو عمرو وكنية زيد كأنه قال : زيد قام أي هو وأجاز الزمخشري أن يكون والذين في موضع جرّ عطفاً على الذين يتّقون ولم يذكر ابن عطية غيره والاستئناف هو الظاهر كما قلنا . ( سقط : الآية وإذ نتقنا الجبل إلى الصفحة التالية وآخر الآية )

" صفحة رقم 417 "
الأعراف : ( 171 ) وإذ نتقنا الجبل . . . . .
النّتق الجذب بشدة وفسّره بعضهم بغايته وهو القلع وتقول العرب نتقت الزبدة من فم القربة والناق الرّحم التي تقلع الولد من الرجل . وقال النابغة : لم يحرموا حسن الفداء وأمّهم
طفحت عليك بناتق مذكار
وفي الحديث عليكم بزواج الأبكار فإنهن انتق أرحاماً وأطيب أفواهاً وأرضى باليسير . الانسلاخ : التعري من الشيء حتى لا يعلق به منه شيء ومنه انسلخت الحية من جلدها . الكلب حيوان معروف ويجمع في القلة على أكلب وفي الكثرة على كلاب وشذوا في هذا الجمع فجمعوه بالألف والتاء فقالوا كلابات ، وتقدّمت هذه المادة في مكلبين وكرّرناها لزيادة فائدة ، لهث الكلب يلهث بفتح الهاءين ماضياً ومضارعاً والمصدر لهثاً ولهثاً بالضم أخرج لسانه وهي حالة له في التعب والراحة والعطش والريّ بخلاف غيره من الحيوان فإنه لا يلهث إلا من إعياء وعط 5 ، لحد وألحد لغتان قيل بمعنى واحد هو العدول عن الحقّ والإدخال فيه ما ليس منه قاله ابن السكيت ، وقال غيره : العدول عن الاستقامة والرّباعي أشهر في الاستعمال من الثلاثي وقال الشاعر :
ليس الأمير بالشحيح الملحد
ومنه لحد القبر وهو الميل إلى أحد شقيه ومن كلامهم ما فعل الواحد قالوا : لحده اللاحد ، وقيل ألحد

" صفحة رقم 418 "
بمعنى مال وانحرف ولحد بمعنى ركن وانضوى قاله الكسائي ، متن متانة اشتدّ وقوي ، أيان ظرف زمان مبني لا يتصرف وأكثر استعماله في الاستفهام ويليه الاسم مرفوعاً بالابتداء والفعل المضارع لا الماضي بخلاف متى فإنهما يليانه قال تعالى : ) أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ( و ) أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( قال الشاعر : أيان تقضي حاجتي أيانا
أما ترى لفعلها إبانا
وتستعمل في الجزاء فتجزم المضارعين وذلك قليل فيها ولم يحفظ سيبويه لكن حفظه غيره وأنشدوا قول الشاعر : إذا النعجة العجفاء باتت بقفرة
فأيّان ما تعدل بها الريح تنزل
وقال غيره : أيان نؤمنك تأمن غيرنا وإذا
لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا
وكسر فتحة همزتها لغة سليم وهي عندي حرف بسيط لا مركب وجامد لا مشتق وذكر صاحب كتاب اللوامح أن أيّان في الأصل كان أيّ أوان فلما كثر دوره حذفت الهمزة على غير قياس ولا عوض وقلبت الواو ياء فاجتمعت ثلاث ياءات فحذفت إحداها فصارت على ما رأيت انتهى ، وزعم أبو الفتح أنه فعلان وفعلال مشتق من أي ومعناه أي وقت وأي فعل من أويت إليه لأنّ البعض آو إلى الكل متساند إليه وامتنع أن يكون فعالاً وفعالاً من أين لأن أيّان ظرف زمان وأين ظرف مكان فأوجب ذلك أن يكون من لفظ أي لزيادة النون ولأن أيان استفهام كما أن أياً كذلك والأصل عدم التركيب وفي أسماء الاستفهام والشرط الجمود كمتى وحيثما وأنى وإذا ، رسا يرسو ثبت . الحفي المستقصي للشيء المحتفل به المعتني ، وفلان حفي بي بارّ معتن . وقال الشاعر : فلما التقينا بين السيف بيننا
لسائلة عنا حفيّ سؤالها
وقال آخر : سؤال حفي عن أخيه كأنه
بذكرته وسنان أو متواسن
والإحفاء الاستقصاء ومنه احفاء الشارب والحافي أي حفيت قدميه للاستقصاء في السّير والحفاوة البر واللطف .
( وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ( أي جذبنا الجبل بشدة وفوقهم حال مقدرة والعامل فيها محذوف تقديره كائناً فوقهم إذ كانت حالة النتق لم تقارن الفوقية لكنه صار فوقهم ، وقال الحوفي وأبو البقاء : فوقهم ظرف لنتقنا ولا يمكن ذلك إلا أن ضمن نتقنا معنى فعل يمكن أن يعمل في فوقهم أي رفعنا بالنتق الجبل فوقهم فيكون كقوله ورفعنا فوقهم الطور والجملة من قوله كأنه ظلة في موضع الحال والمعنى كأنه عليهم ظلّة والظلّة ما أظلّ من سقيفة أو سحاب وينبغي أن يحمل التشبيه على أنه

" صفحة رقم 419 "
بظلة مخصوصة لأنه إذا كان كلّ ما أظل يسمى ظلة فالجبل فوقهم صار ظلة وإذا صار ظلّة فكيف يشبه بظلة فالمعنى والله أعلم كأنه حالة ارتفاعه عليهم ظلة من الغمام وهي الظلة التي ليست تحتها عمد بل إمساكها بالقدرة الإلهية وإن كانت أجراماً بخلاف الظلّة الأرضية فإنها لا تكون إلا على عمد فلما دانت هذه الظلمة الأرضية فوقهم بلا عمد شبهت بظلة الغمام التي ليست بلا عمد ، وقيل : اعتاد البشر هذه الأجرام الأرضية ظللاً إذ كانت على عمد فلما كان الجبل مرتفعاً على غير عمد قيل : كأنه ظله أي كأنه على عمد وقرىء طلة بالطاء من أطل عليه إذ أشرف وظنوا هنا باقية على بابها من ترجيح أحد الجائزين ، وقال المفسّرون : معناه أيقنوا ، وقال الزمخشري : علموا وليس كذلك بل هو غلبة ظن مع بقاء الرّجاء إلا أن قيد ذلك بقيد أن لا يعقلوا التوراة ، فإنه يكون بمعنى الإتقان ، وتقدّم ذكر سبب رفع الجبل فوقهم في تفسير قوله ورفعنا فوقكم الطور في البقرة فأغنى عن إعادته وقد كرره المفسرون هنا الزمخشري وابن عطية وغيرهما وذكر الزمخشري : هنا عند ذكر السبب أنه لما نشر موسى عليه السلام الألواح وفيها كتاب الله تعالى لم يبقَ شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهوديًّا يقرأ التوراة إلاّ اهتز وأنغض لها رأسه انتهى ، وقد سرت هذه النزعة إلى أولاد المسلمين فيما رأيت بديار مصر تراهم في المكتب إذا قرأوا القرآن يهتزون ويحركون رؤوسهم وأما في بلادنا بالأندلس والغرب فلو تحرّك صغير عند قراءة القرآن أدبه مؤدّب المكتب وقال له لا تتحرك فتشبه اليهود في الدراسة .
( خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ). قرأ الأعمش واذكروا بالتشديد من الإذكار ، وقرأ ابن مسعود وتذكروا وقرىء وتذكروا بالتشديد بمعنى وتذكّروا وتقدّم تفسير هذه الجمل في البقرة .
الأعراف : ( 172 ) وإذ أخذ ربك . . . . .
( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِىءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( روي في الحديث من طرق أخذ من ظهر آدم ذرّيته وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره فأقروا بذلك والتزموه واختلفوا في كيفية الإخراج وهيئة المخرج والمكان والزمان وتقرير هذه الأشياء محلها ذلك الحديث والكلام عليه وظاهر هذه الآية ينافي ظاهر ذلك الحديث ولا تلتئم ألفاظه مع لفظ الآية وقد رام الجمع بين الآية والحديث جماعة بما هو متكلف في التأويل وأحسن ما تكلم به على هذه الآية ما فسره به الزمخشري قال من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته وواحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه سبحانه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال ألست بربكم وكأنهم قالوا بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي كلام العرب ونظيره قول الله عز وجل ) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ). ) فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ). وقول الشاعر : إذا قالت الانساع للبطن الحقي
تقول له ريح الصّبا قرقار
ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى وأن تقولوا مفعول له أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول كراهة أن تقولوا يوم القيامة وتقديره إنا كنا عن هذا غافلين لم ننبه عليه أو كراهة

" صفحة رقم 420 "
أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لأنّ نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم ، ( فإن قلت ) : بنو آدم وذرياتهم من هم ، قلت : عني ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا : عزير ابن الله وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أخلافهم المقتدين بآبائهم والدليل على أنها في المشركين وأولادهم قوله تعالى : ) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ ( والدليل على أنها في اليهود الآيات التي عطفت عليها هي والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها وذلك على قوله واسألهم عن القرية وإذ قالت أمة منهم وإذ تأذن ربّك وإذ نتقنا الجبل فوقهم واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا انتهى كلام الزمخشري وهو بسط كلام من تقدمه ، قال ابن عطية : قال قوم الآية مشيرة إلى هذا التأويل الذي في الدنيا وأخذ بمعنى أوجد وأن الاشهادين عند بلوغ المكلّف وهو قد أعطى الفهم ونصبت له الصفة الدالة على الصانع ونحالها الزجاج وهو معنى تحتمله الألفاظ انتهى ، والقول بظاهر الحديث يطرق إلى القول بالتناسخ فيجب تأويله ومفعول أخذ ذرياتهم قاله الحوفي ويحتمل في قراءة الجميع أن يكون مفعول أخذ محذوفاً لفهم المعنى وذرّياتهم بدل من ضمير ظهورهم كما أنّ من ظهورهم بدل من قوله بني آدم والمفعول المحذوف هو الميثاق كما قال : ) وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً ( ) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ ( وتقدير الكلام : وإذ أخذ ربك من ظهور ذرّيات بني آدم ميثاق التوحيد لله وإفراده بالعبادة واستعار أن يكون أخذ الميثاق من الظهر كان الميثاق لصعوبته وللارتباط به والوقوف عنده شيء ثقيل يحمل على الظهر وهذا من تمثيل المعنى بالجزم وأشهدهم على أنفسهم بما نصب لهم من الأدلة قائلاً ألست بربكم قالوا بلى ، وقرأ العربيان ونافع : ذرياتهم بالجمع وتقدّم إعرابه ، وقرأ باقي السبعة ذرّيتهم مفرداً بفتح التاء ويتعيّن أن يكون مفعولاً بأخذ وهو على حذف مضاف أي ميثاق ذرياتهم وإنما كان أخذ الميثاق من ذرية بني آدم لأنّ بني آدم لصلبه لم يكن فيهم مشرك وإنما حدث الإشراك في ذريتهم .
( شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ ). أي قال الله شهدنا عليكم أو قال الله والملائكة قاله السدّي ، أو قالت الملائكة أو شهد بعضهم على بعض أقوال ومعنى عن هذا عن هذا الميثاق والإقرار بالربوبيّة .
الأعراف : ( 173 ) أو تقولوا إنما . . . . .
( أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ ). المعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان إحداهما : كنا غافلين والأخرى : كنا أتباعاً لأسلافنا فكيف نهلك والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلّنا فوقعت الشهادة لتنقطع عنهم الحجج ، وقرأ أبو عمرو إن يقولوا بالياء على الغيبة وباقي السبعة بالتاء على الخطاب .
( أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ). هذا من تمام القول الثاني أي كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتقدمهم فيه وتركه سنة لنا والمعنى أنه تعالى أزال عنهم الاحتجاج بتركيب العقول فيهم وتذكيرهم ببعثة الرسل إليهم فقطع بذلك أعذارهم .
الأعراف : ( 174 ) وكذلك نفصل الآيات . . . . .
( وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاْيَاتِ ( أي مثل هذا التفصيل الذي فصّلنا فيه الآيات السابقة نفصل الآيات اللاحقة فالكل على نمط واحد في التفصيل والتوضيح لأدلّة التوحيد وبراهينه . ) وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( عن شركهم وعبادة غير الله إلى توحيده وعبادته بذلك التفصيل والتوضيح وقرأت فرقة يفصل بالياء أي يفصل هو أي الله تعالى .
الأعراف : ( 175 ) واتل عليهم نبأ . . . . .
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِىءاتَيْنَاهُ ءايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ( أي واتلُ على من كان حاضراً من كفار اليهود وغيرهم ولما كان تعالى قد ذكر أخذ الميثاق على توحيده تعالى وتقرير ربوبيته وذكر إقرارهم بذلك

" صفحة رقم 421 "
وإشهادهم على أنفسهم ذكر حال من آمن به ، ثم بعد ذلك كفر كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما أطلعوا عليه من كتب الله المنزلة وتبشيرها به ، وذكر صفاته فلما بعث كفروا به فذكروا أن ما صدر منهم هو طريقة لأسلافهم اتبعوها واختلف المفسرون في هذا الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فقال عكرمة : هو كل من انسلخ من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنصارى والحنفاء ، وقال عبادة بن الصامت : هم قريش أتتهم أوامر الله ونواهيه والمعجزات فانسلخوا من الآيات ولم يقبلوها فعلى هذين القولين يكون الذي مفرداً أريد به الجمع ، وقال الجمهور : هو شخص معين ، فقيل : هو بلعم ، وقيل : هو بلعام وهو رجل من الكنعانيين أوتي بعض كتب الله ، وقيل : كان يعلم اسم الله الأعظم واختلف في اسم أبيه . وقال ابن مسعود : هو أبره . وقال ابن عباس باعوراء ، وقال مجاهد والسدّي : باعرويه روى أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى وقال : كيف أدعو على من معه الملائكة فألحوا عليه حتى فعل وقد طول المفسرون في قصته وذكروا ما الله أعلم به ، وقيل هو رجل من علماء بني إسرائيل ، وقال ابن مسعود : بعثه موسى عليه السلام نحو مدين داعياً إلى الله وإلى شريعته وعلم من آيات الله ما يدعونه فكان مجاب الدعوة فلما فارق دين موسى سلخ الله منه الآيات ، وقيل : اسمه ناعم كان في زمن موسى وكان بحبت اسم بلد كان إذا نظر رأى العرش وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين يكتبون عنه وهو أوّل من صنف كتاباً إنه ليس للعالم صانع ، وقيل هو رجل من بني إسرائيل أعطى ثلاث دعوات مستجابة يدعو بها في مصالح العباد فجعلها كلها لامرأته وكانت قبيحة فسألته فدعا الله فجعلها جميلة فمالت إلى غيره فدعا الله عليها فصارت كلبة نباحة وكان لها منها بنون فتضرّعوا إليه فدعا الله فصارت إلى حالتها الأولى ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وابن المسيّب وزيد بن أسلم وأبو روق : وهو أميّة بن أبي الصلت الثقفي قرأ الكتب وعلم أنه سيبعث نبي من العرب ورجا أن يكون إياه وكان ينظم الشعر في الحكم والأمثال فلما بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) حسده ووفد على بعض الملوك وروي أنه جاء يريد الإسلام فوصل إلى بدر بعد الوقعة بيوم أو نحوه فقال من قتل هؤلاء فقيل : محمد فقال : لا حاجة لي بدين من قتل هؤلاء فارتد ورجع وقال : الآن حلت لي الخمر وكان قد حرم الخمر على نفسه فلحق بقوم من ملوك حمير فنادمهم حتى مات وقدّمت أخته فارعة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) واستنشدها من شعره فأنشدته عدّة قصائد فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : آمن شعره وكفر قلبه وهو الذي قال فيه تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، وقال سعيد بن المسيب أيضاً : هو أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب سماه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : الفاسق وكان ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح وهو الذي بني له المنافقون مسجد الضرار جرت بينه وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) محاورة فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريداً وحيداً وأرسل إلى المنافقين أنِ استعدوا بالقوة والسلاح ثم أتى قيصر واستجاشه ليخرج محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه من المدينة فمات بالشام طريداً شريداً وحيداً ، وقيل : غير هذا والأولى في مثل هذا إذا ورد عن المفسرين أن تحمل أقاويلهم على التمثيل لا على الحصر في معين فإنه يؤدي إلى الاضطراب والتناقض والخلاف في آتيناه آياتنا مترتب على من عنى الذي آتيناه أذلك اسم الله الأعظم أو الآيات من كتب الله أو حجج التوحيد أو من آيات موسى أو العلم بمجيء الرسول والانسلاخ من الآيات مبالغة في التبري منها والبعد أي لم يعمل بما اقتضته نعمتنا عليه من إتيانه آياتنا جعل كأنه كان ملتبساً بها كالثوب فانسلخ منها وهذا من إجراء المعنى مجرى الجزم وقول من قال : إنه من المقلوب أي إلا انسلخت الآيات عنه لا ضرورة تدعو إليه ، وقال سفيان : إن الرجل ليذنب ذنباً فينسى باباً من العلم ، وقرأ الجمهور : فأتبعه الشيطان من أتبع رباعياً أي لحقه وصار معه وهي مبالغة في حقه إذ جعل كأنه هو إمام للشيطان يتبعه وكذلك فأتبعه شهاب ثاقب أي عدا وراءه ، قال القتبي تبعه من خلفه واتبعه أدركه ولحقه كقوله : فاتبعوهم مشرقين أي أدركوهم فعلى هذا يكون متعدياً إلى واحد وقد يكون اتبع متعدّياً إلى اثنين كما قال تعالى : وأتبعناهم ذرّياتهم

" صفحة رقم 422 "
بإيمان فيقدر هذا فأتبعه الشيطان خطواته أي جعله الشيطان يتبع خطواته فتكون الهمزة فيه للتعدي إذ أصله تبع هو خطوات الشيطان ، وقرأ طلحة بخلاف والحسن فيما روى عنه هارون فاتبعه مشدّداً بمعنى تبعه ، قال صاحب كتاب اللوامح : بينهما فرق وهو أن تبعه إذا مشى في أثره واتبعه إذا واراه مشياً فأما فأتبعه بقطع الهمزة فمما يتعدّى إلى مفعولين لأنه منقول من تبعه وقد حذف في العامة أحد المفعولين ، وقيل فأتبعه بمعنى استتبعه أي جعله له تابعاً فصار له مطيعاً سامعاً ، وقيل معناه : تبعه شياطين الإنس أهل الكفر والضلال ، فكان من الغاوين يحتمل أن تكون كان باقية الدلالة على مضمون الجملة واقعاً في الزمان الماضي ويحتمل أن تكون كان بمعنى صار أي صار من الضالين الكافرين ، قال مقاتل : من الضالين ، وقال الزجاج : من الهالكين الفاسدين .
الأعراف : ( 176 ) ولو شئنا لرفعناه . . . . .
( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ). أي ولو أردنا أن نشرفه ونرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعلنا ولكنه أخلد إلى الأرض أي ترامى إلى شهوات الدنيا ورغب فيها واتبع ما هو ناشىء عن الهوى وجاء الاستدراك هنا تنبيهاً على السبب الذي لأجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ممن أوتي الهدى فآثره وأتبعه وأخلد معناه رمى بنفسه إلى الأرض أي إلى ما فيها من الملاذ والشهوات قال معناه ابن عباس ومجاهد والسدّي ، ويحتمل أن يريد بقوله أخلد إلى الأرض أي مال إلى السفاهة والرذالة كما يقال : فلان في الحضيض عبارة عن انحطاط قدره بانسلاخه من الآيات قال معناه الكرماني . قال أبو روق : غلب على عقله هواه فاختار دنياه على آخرته ، وقال قوم : معناه لرفعناه بها لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك والضمير في بها عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدىء وصف حاله بقوله ولكنه أخلد ، وقال ابن أبي نجيح لرفعناه لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها والضمير للآيات ثم ابتدىء وصف حاله والتفسير الأول أظهر وهو مرويّ عن ابن عباس وجماعة ولم يذكر الزمخشري غيره وهو الذي يقتضيه الاستدراك لأنه على قول الإهلاك بالمعصية أو التوفي قبل الوقوع فيها لا يصحّ معنى الاستدراك والضمير في لرفعناه في هذه الأقوال عائد على الذي أوتي الآيات وإن اختلفوا في الضمير في بها على ما يعود وقال قوم الضمير في لرفعناه على الكفر المفهوم مما سبق وفي بها عائد على الآيات أي ولو شئنا لرفعنا الكفر بالآيات وهذا المعنى روي عن مجاهد وفيه بعد وتكلّف ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع ، ( قلت ) : المعنى ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل ولو لزمها لرفعناه بها ألا ترى إلى قوله ولكنه أخلد إلى الأرض فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون ولو شئنا في معنى ما هو فعله ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال : ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ( أي فصفته إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يحملها كصفة الكلب إن كان مطروداً لهث وإن كان رابضاً لهث قاله ابن عباس ، وقيل : شبه المتهالك على الدنيا في قلقه واضطرابه على تحصيلها ولزومه ذلك بالكلب في حالته هذه التي هي ملازمة له حالة تهييجه وتركه وهي كونه لا يزال لا هنا وهي أخس أحواله وأرذلها كما أن المتهالك على الدنيا لا يزال تعباً قلقاً في تحصيلها قال الحسن هو مثل المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أو لم يدع أعطي أو لم يعط كالكلب يلهث طرداً وتركاً انتهى ، وفي كتاب الحيوان دلت الآية على أن الكلب أخس الحيوان وأذله لضرب الخسة في المثل به في أخسّ أحواله ولو كان في جنس الحيوان ما هو أخس من الكلب ما ضرب المثل إلا به ، قال ابن عطية : وقال الجمهور إنما شبه في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات

" صفحة رقم 423 "
ثم أوتيها أيضاً ضالاً لم تنفعه فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه أو تركه دون حمل عليه ، وقال السدّي وغيره هذا الرجل خرج لسانه على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب ، وقال الزمخشري : وكان حق الكلام أن يقال ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته فوقع قوله : فمثله كمثل الكلب موقع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخسّ أحواله وأرذلها في معنى ذلك انتهى وفي قوله وكان حق الكلام إلى آخره سوء أدب على كلام الله تعالى وأما قوله فوقع قوله فمثله إلى آخره فليس واقعاً موقع ما ذكر لكن قوله ولكنه أخلد إلى الأرض وقع موقع فحططناه إلا أنه لما ذكر الإحسان إليه أسند ذلك إلى ذاته الشريفة فقال آتيناه آياتنا ولو شئنا لرفعناه بها ولما ذكر ما هو في حق الشخص إساءة أسنده إليه فقال فانسلخ منها وقال : ولكنه أخلد إلى الأرض والله تعالى في الحقيقة هو الذي سلخه من الآيات وأخلده إلى الأرض فجاء على حد قوله فأردت أن أعيبها وقوله : فأراد ربك أن يبلغا في نسبة ما كان حسناً إلى الله ونسبة ما كان بخلافه إلى الشخص وهذه الجملة الشرطية في موضع الحال أي لاهثاً في الحالتين قاله الزمخشري وأبو البقاء ، وقال بعض شراح كتاب المصباح : وأما الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضع الحال فلا يقال جاءني زيد إن يسأل يعظ على الحال بل لو أريد ذلك لجعلت الجملة الشرطية خبراً عن ضمير ما أريد الحال عنه نحو جاء زيد هو وإن يسأل يعط فيكون الواقع موقع الحال هو الجملة الإسمية لا الشرطية ، نعم قد أوقعوا الجمل المصدرة بحرف الشرط موقع الحال ولكن بعد ما أخرجوها عن حقيقة الشرط وتلك الجملة لم تخلُ من أن يُعطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف والأول ترك الواو مستمرّ فيه نحو أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني إذ لا يخفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط بل يتحولان إلى معنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله أأنذرتهم أم لم تنذرهم وأما الثاني فلا بدّ من الواو نحو أتيتك وإن لم تأتني ولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة انتهى فقوله ) إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ( من قبيل الأول لأن الحمل عليه والترك نقيضان .
( ذالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِايَاتِنَا ( أي ذلك الوصف وصف الذين كذبوا بآياتنا صفته كصفة الكلب لاهثاً في الحالتين فكما شبّه وصف المؤتى الآيات المنسلخ منها بالكلب في أخسّ حالاته كذلك شبّه به المكذبون بالآيات حيث أوتوها وجاءتهم واضحات تقتضي التصديق بها فقابلوها بالتكذيب وانسلخوا منها واحتمل ذلك أن يكون إشارة لمثل المنسلخ وأن يكون إشارة لوصف الكلب واحتمل أن تكون أداة التشبيه محذوفة من ذلك أي صفة ذلك صفة الذين كذبوا واحتمل أن تكون محذوفة من مثل القوم أي ذلك الوصف وصف المنسلخ أو وصف الكلب كمثل الذين كذبوا بآياتنا ويكون أبلغ في ذمّ المكذبين حيث جعلوا أصلاً وشبه بهم ، قال ابن عطية : أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالّين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالهم ولم ينتفعوا بذلك فمثلهم كمثل الكلب ، وقال الزمخشري : كذبوا بآياتنا من اليهود بعدما قرأوا بعثة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا بستفتحون به ، وقال ابن عباس : يريد كفار مكة لأنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهم إلى طاعة الله ثم جاءهم من لايشك في صدقه وديانته ونبوته فكذبوه فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل الكلب الذي يلهث على كل حال انتهى ، وتلخص أهؤلاء القوم المكذبون بالآيات عامّ أم خاص باليهود أم بكفار مكة أقوال ثلاثة

" صفحة رقم 424 "
والأظهر العموم .
( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ). أي فاسرد أخبار القرون الماضية كخبر بلعام أو من فسّر به المنسلخ إذ هو من القصص الذي لا يعلمه إلا من درس الكتب إذ هو من خفي أخبارهم ففي إخبارك بذلك أعظم معجز لعلهم يتفكرون فيما جرى على المكذبين فيكون ذلك عبرة لهم ورادعاً عن التكذيب وأن يكونوا أخباراً شنيعة تقصّ كما قصّ خبر ذلك المنسلخ .
الأعراف : ( 177 ) ساء مثلا القوم . . . . .
( سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( ساء بمعنى بئس وتقدم لنا أن أصلها التعدّي تقول : ساءني لشيء يسوءني ثم لما استعملت استعمال بئس بنيت على فعل وجرت عليها أحكام بئس ومثلاً تمييز للضمير المستكنّ في ساء فاعلاً وهو مفسر بهذا التمييز وهو من الضمائر التي يفسرها ما بعدها ولا يثنّي ولا يجمع على مذهب البصريين وعن الكوفيين خلاف مذكور في النحو ولا بد أن يكون المخصوص بالذمّ من جنس التمييز فاحتيج إلى تقدير حذف أما في التمييز أي ساء أصحاب مثل القوم وأما في المخصوص أي ساء مثلاً مثل القوم وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة ، وقال أبو عبد الله الرازي ظاهره يقتضي أن يكون ذلك المثل موصوفاً بالسوء وذلك غير جائز لأن هذا المثل ذكره الله تعالى فكيف يكون موصوفاً بالسوء فوجب أن يكون الموصوف بالسوء ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها حتى صاروا في التمثيل لذلك بمنزلة الكلب اللاهث انتهى وليس كما ذكر ليس هنا ضرب مثل والمثل لفظ مشترك بين الوصف وبين ما يضرب مثلاً والمراد هنا الوصف فمعنى مثله كمثل الكلب أي وصفه وصف الكلب وليس هذا من ضرب المثل بل كما قال مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً أي صفتهم كصفة الذي استوقد وكقوله مثل الجنة التي وعد المتقون أي صفتها وإذا تقرر هذا فقوله ساء مثلاً معناه بئس وصفاً فليس من ضرب المثل في شيء ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش : ساء مثل بالرفع ) الْقَوْمَ ( بالخفض واختلف على الجحدري فقيل : كقراءة الأعمش ، وقيل : بكسر الميم وسكون الثاء وضم اللام مضافاً إلى ) الْقَوْمَ ( والأحسن في قراءة المثل بالرفع أن يكتفى به ويجعل من باب التعجب نحو لقضو الرجل أي ما أسوأ مثل القوم ويجوز أن يكون كبئس على حذف التمييز على مذهب من يجيزه التقدير ساء مثل القوم أو على أن يكون المخصوص ) الَّذِينَ كَذَبُواْ ( على حذف مضاف أي بئس مثل القوم مثل ) الَّذِينَ ( كذبوا لتكون الذين مرفوعاً إذ قام مقام مثل المحذوف لا مجروراً صفة للقوم على تقدير حذف التمييز .
( وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ( يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة ويحتمل ن يكون استئناف إخبار عنهم بأنهم كانوا يظلمون أنفسهم والزمخشري على طريقته في أنّ تقديم المفعول يدلّ على الحصر فقدره وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب ، قال : وتقديم المفعول به لاختصاص كأنه قيل وخصُّوا أنفسهم بالظلم ولم يتعدّ إلى غيرها .
الأعراف : ( 178 ) من يهد الله . . . . .
( مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( لما تقدم ذكر المهتدين والضالين حبر تعالى : أنه هو المتصرف فيهم بما شاء من هداية وضلال وتقرّر من مذهب أهل السنة أنه تعالى هو خالق الهداية والضلال في العبد وللمعتزلة في هذا ونظائره تأويلات ، قال الجبائي : وهو اختيار القاضي ) مَن يَهْدِ اللَّهُ ( إلى الجنة والثواب في الآخرة ) فَهُوَ الْمُهْتَدِى ( في الدنيا السالك طريق الرشد فيما كلف فبين أنه لا يهدي إلى الثواب في الآخرة إلا من هذا وصفه ومن يضلله عن طريق الجنة ) فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ، وقال بعضهم : في الكلام حذف أي ) مَن يَهْدِ اللَّهُ ( فيقبل ويهتدي بهداه ) فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ ( بأن لم يقبل فهو الخاسر ، وقال بعضهم : المراد من وصفه الله بأنه مهتدٍ ) فَهُوَ الْمُهْتَدِى ( لأنّ ذلك مدح ومدح الله لا يحصل إلا في حق من كان موصوفاً بذلك ) وَمَن يُضْلِلِ ( أي ومن يصفه بكونه ضالاًّ فهو الخاسر ، وقال بعضهم : من آتيناه الألطاف وزيادة الهدى ) فَهُوَ الْمُهْتَدِى ( ) وَمَن يُضْلِلِ ( عن ذلك لما تقدم منه بسوء اختياره فأخرج لهذا السبب تلك الألطاف من أن تؤثر فيه فهو الخاسر وهذه التأويلات كلها متكلفة بعيدة وظاهر الآية يرد على القدرية والمعتزلة و ) فَهُوَ الْمُهْتَدِى ( حمل على لفظ من و ) فَأُوْلَئِكَ هُمُ

" صفحة رقم 425 "
الْخَاسِرُونَ ( حمل على معنى من وحسنه كونه فاصلة رأس آية .
الأعراف : ( 179 ) ولقد ذرأنا لجهنم . . . . .
( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ ). هذا إخبار منه تعالى بأنه خلق لجهنم كثيراً من الصنفين ، ومناسبة هذا لما قبله أنه لما ذكر أنه هو الهادي وهو المضلّ أعقبه بذكر من خلق للخسران والنار وذكر أوصافهم فيما ذكر وفي ضمنه وعيد الكفار والمعنى لعذاب جهنم واللام للصيرورة على قول من أثبت لها هذا المعنى أو لما كان مآلهم إليها جعل ذلك سبباً على جهة المجاز فقد رد ابن عطية قول من زعم أنها للصيرورة ، فقال : وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنما يتصور إذا كان فعل الفاعل لم يقصد به ما يصير الأمر إليه ، وأما هنا فالفعل قصد به ما يصير الأمر إليه من سكناهم لجهنم انتهى ، وإنما ذهب إلى أنها لام العاقبة والصيرورة لأنه تعالى قال ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( فإثبات كونها للعلة ينافي قوله ) إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( وأنشدوا دليلاً على إثبات معنى الصيرورة للام قول الشاعر : ألا كل مولود فللموت يولد
ولست أرى حيّاً لحي يخلد
وقول الآخر : فللموت تغدو الوالدات سخالها
كما لخراب الدّر تبنى المساكن
ودعوى القلب فيه وإنّ تقديره ولقد ذرأنا جهنم لكثير غير سديد لأنّ القلب لا يكون إلا في الشعر على الصحيح ولفظة كثير لا تشعر بالأكثر ولكن ثبت في الحديث أن بعث النار أكثر لقول الله لآدم أخرج بعث النار من ذريتك فأخرج من كل ألف تسعة وتسعين وتسعمائة وهؤلاء المخلوقون لجهنم هم الذين طبع الله على قلوبهم فلا يتأتى منهم إيمان البتة وتفسير ابن جبير : انهم أولاد الزنا ليس بجيد .
( لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ). لما كانوا لا يتدبرون شيئاً من الآيات ولا ينظرون إليها نظر اعتبار ولا يسمعونها سماع تفكر جعلوا كأنهم فقدوا الفقه بالقلوب والإبصار بالعيون والسماع بالآذان وليس المراد نفي هذه الإدراكات عن هذه الحواس وإنما المراد نفي الانتفاع بها فيما طلب منهم من الإيمان . وقال مسكين الدرامي : أعمى إذا ما جارتي خرجت
حتى يواري جارتي الستر
وأصمّ عن ما كان بينهما
عمداً وما بالسمع لي وقر
وفسّر مجاهد هذا فقال : ) لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ( شيئاً من أمور الآخرة ) وَلاَ يُبْصِرُونَ بِهَا ( الهدى ) وَلاَ يَسْمَعُونَ بِهَا ( الحق انتهى ، وفي قوله ) لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ( دليل على أن القلب آلة للفقه والعلم كما أن العين آلة للإبصار والأذن آلة للسماع ، وقال الزمخشري : وجعلهم لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وإنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغّلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار ، ومنه كتاب عمر إلى خالد بن الوليد : بلغني أن أهل الشام اتخذوا لك دلوكاً عجن بخمر وإني لأظنكم يا آل المغيرة ذرء النار . ويقال لمن كان غريقاً في بعض الأمور ما خلق فلان إلا للنار والمراد وصف أحوالهم في عظم ما أقدموا عليه في تكذيب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) )

" صفحة رقم 426 "
مع علمهم أنه النبي الموعود وأنهم من جملة الكثير الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم كأنهم خلقوا للنار انتهى ، وهو تكثير في الشرح .
( أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ ( أي في عدم الفقه في العواقب والنظر للاعتبار والسماع للتفكر ولا يهتمون بغير الأكل والشرب .
( بَلْ هُمْ أَضَلُّ ( قال الزمخشري : ) بَلْ هُمْ أَضَلُّ ( سبيلاً من الأنعام عن الفقه والاعتبار والتدبّر ، وقيل الأنعام تبصر منافعها من مضارها فتلزم بعض ما تبصره وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار ، وقال ابن عطية : حكم عليهم بأنهم أضل لأن الأنعام ركب في بنيتها وخلقتها أن لا تفكر في شيء وهؤلاء هم معدُّون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطوا طرفاً من النظر فهم يغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضلّ على هذا انتهى ، وقيل ) هُمْ أَضَلُّ ( لأنهم يعصون والأنعام لا تعصي ، وقيل الأنعام تعرف ربها وتسبح له والكفار لا يعرفونه ولا يدعونه وروي : كل شيء أطوع لله من ابن آدم ، وقال أبو عبد الله الرازي : الإنسان وسائر الحيوان يشاركه في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة وفي منافع الحواس الخمس الظاهرة والباطنة وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر وإنما يحصل الامتياز بين الإنسان وغيره بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فلما أعرض الكفار من أغراض أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام ، ثم قال : ) بَلْ هُمْ أَضَلُّ ( لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل الفضائل والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها ومن أعرض عن اكتساب الفضئل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أحسن حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز فلهذا قال : ) بَلْ هُمْ أَضَلُّ ( انتهى .
وقيل : الأنعام تفرّ إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها والكافر يهرب عن ربه الذي أنعمه عليه لا تحصي ، وقيل : الأنعام تضل إذا لم يكن معها مرشد وقلما تضلّ إذا كان معها وهؤلاء قد جاءتهم الرسل وأنزلت عليهم الكتب وهم يزدادون في الضلال انتهى ، وأقول هذا الإضراب ليس على جهة الإبطال للخبر السابق من تشبيههم بالأنعام ولا يجوز أن تكون جهة المبالغة في الضلال هي جهة التشبيه لأنه يؤدي إلى كذب أحد الخبرين وذلك مستحيل في حق الله تعالى وكلام من تقدم من المفسرين يدل على أنه تعالى شبّههم بالأنعام فيما ذكر وأنهم أضل من الأنعام فيما وقع التشبيه فيه وهو لا يجوز لما ذكرناه فالمعوّل عليه أن جهة التشبيه مخالفة لجهة المبالغة في الضلال وأن هذا الإضراب ليس على سبيل الإبطال بمدلول الجملة السابقة ) بَلْ هُمْ أَضَلُّ ( إضراب دال على الانتقال من إخبار إلى إخبار فالجملة الأولى شبههم بالأنعام في انتفاء منافع الإدراكات المؤدية إلى امتثال ما جاءت به الرسل والجملة الثانية أثبتت لهم المبالغة في ضلال طريقهم التي يسلكونها فالموصوف بالمبالغة في الضلال طريقهم وحذف التمييز وتقديره : ) بَلْ هُمْ أَضَلُّ ( طريقاً منهم ويبين هذا قوله تعالى : ) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاْنْعَامِ ( أي في انتفاء السمع للتدبر والعقل ) بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ( أي بل سبيلهم أضلّ فالمحكوم عليه أوّلاً غير المحكوم عليه آجراً والمحكوم به أيضاً مختلف .
( أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( هذه الجملة بيّن تعالى بها سبب كونهم أضلّ من الأنعام وهو الغفلة . وقال عطاء : عن ما أعدّ الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب .
الأعراف : ( 180 ) ولله الأسماء الحسنى . . . . .
( وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( قال مقاتل : دعا رجل الله تعالى في صلاته ومرة دعا الرحمن ، فقال أبو جهل : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربّاً واحداً فما بال هذا يدعو اثنين فنزلت ، ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه ذرأ كثيراً من الجنّ والإنس للنار ذكر نوعاً منهم وهم ) الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ ( وهم أشدّ الكفار عتباً أبو جهل وأضرابه وأيضاً لما نبه على أن دخولهم جهنم هو للغفلة عن ذكر الله والمخلص من العذاب هو ذكر الله أمر بذكر الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا والقلب إذا غفل عن ذكر الله وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في

" صفحة رقم 427 "
الحرص ، وانتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة ، وقد وجدنا ذلك بالذوق حتى إن أحدهم ليصلي الصلوات كلها قضاء في وقت واحد فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله تعالى تخلص من آفات الغفلة وامتثل ما آمره الله به واجتنب ما نهى عنه .
قال الزمخشري : التي هي أحسن الأسماء لأنها لا تدل على معان حسنة من تحميد وتقديس وغير ذلك انتهى ، فالحسنى هي تأنيث الأحسن ووصف الجمع الذي لا يعقل بما يوصف به الواحدة كقوله ) وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى ( وهو فصيح ولو جاء على المطابقة للجمع لكان التركيب الحسن على وزن الأخر كقوله ) فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه ويوصف بجمع المؤنثات وإن كان المفرد مذكّراً ، وقيل : ) الْحُسْنَى ( مصدر وصف به ، قال ابن عطية : و ) الاْسْمَاء ( هاهنا : بمعنى التسميات إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره انتهى . ولا تحرير فيما قال لأنّ التسمية مصدر والمراد هنا الألفاظ التي تطلق على الله تعالى وهي الأوصاف الدالة على تغاير الصفات لا تغاير الموصوف كما تقول جاء زيد الفقيه الشجاع الكريم وكون الاسم الذي أمر تعالى أن يدعى به حسناً هو ما قرره الشرع ونص عليه في إطلاقه على الله ومعنى ) فَادْعُوهُ بِهَا ( أي نادوه بها كقولك : يا الله يا رحمن يا مالك وما أشبه ذلك ، وقال الزمخشري : فسمّوه بتلك الأسماء جعله من باب دعوت ابني عبد الله أي سميته بهذا الاسم واختلف في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ولا تتعلق به شبهة ولا اشتراك إلا أنه لم يرد منصوصاً هل يطلق ويسمى الله تعالى به فنصّ القاضي أبو بكر الباقلاني على الجواز ونصّ أبو الحسن والأشعري على المنع ، وبه قال الفقهاء والجمهور وهو الصواب واختلف أيضاً في الأفعال التي في القرآن كقوله تعالى : ) اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( و ) يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ( هل يطلق عيه منه تعالى اسم فاعل مقيد بمتعلقه فيقال الله مستهزىء بالكافرين وماكر بالذين يمكرون فجوّز ذلك فرقة ومنعت منه فرقة وهو الصواب وأما إطلاق اسم الفاعل بغير قيده فالإجماع على منعه ، وروى الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة النص على تسعة وتسعين اسماً مسرودة اسماً اسماً ، قال ابن عطية : وفي بعضها شذوذ وذلك الحديث ليس بالمتواتر وإن كان قد قال فيه أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من طريق حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث وإنما المتواتر منه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة ) . ومعنى أحصاها عدّها وحفظها وتضمّن ذلك الإيمان بها والتعظيم لها والعبرة في معانيها وهذا حديث البخاري انتهى ، وتسمية هذا الحديث متواتراً ليس على اصطلاح المحدثين في المتواتر وإنما هو خبر آحاد .
وفي بعض دعاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( يا حنان يا منان ) ولم يردا في جامع الترمذي وقد صنّف العلماء في شرح أسماء الله الحسنى كأبي حامد الغزالي وابن الحكم بن برجان وأبي عبد الله الرازي وأبي بكر بن العربي وغيرهم ، قال الزمخشري : ويجوز أن يراد ولله الأوصاف الحسنى وهي الوصف بالعدل والخير والإحسان وانتفاء شبه الخلق وصفوه بها ) وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ ( في صفاته فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر وبما يدخل في التشبيه كالرؤية ونحوها ، وقيل : معنى قوله ) وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ ( اتركوهم ولا تحاجّوهم ولا تعرضوا لهم قاله ابن زيد فتكون الآية على هذا منسوخة بالقتال ، وقيل : معناه الوعيد كقوله ) ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ( وقوله ) ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ ( وقال الزمخشري واتركوا تسمية الذيني يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه كما سمعنا البدو بجهلهم يقولون : يا أبا المكارم يا أبيض الوجه يا سخيّ ، أو أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى نحو أن يقولوا : يا الله ولا يقولوا : يا رحمن ، وقيل : معنى الإلحاد في أسمائه تسميتهم أوثانهم اللات نظراً إلى اسم الله تعالى والعزى نظراً إلى العزيز قاله مجاهد ، ويسمون الله أبا وأوثانهم أرباباً ونحو هذا ، وقال ابن عباس : معنى ) يُلْحِدُونَ ( يكذّبون ، وقال قتادة :

" صفحة رقم 428 "
يشركون ، وقال الخطابي : الغلط في أسمائه والزّيغ عنها إلحاد ، وقرأ حمزة : ) يُلْحِدُونَ ( بفتح الياء والحاء وكذا في النحل والسجدة وهي قراءة ابن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى ، وقرأ باقي السبعة بضم اياء وكسر الحاء فيهنّ و ) سَيُجْزَوْنَ ( وعيد شديد واندرج تحت قوله ) مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الإلحاد في أسمائه وسائر أفعالهم القبيحة .
الأعراف : ( 181 ) وممن خلقنا أمة . . . . .
( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( لما ذكر من ذرأ للنار ذكر مقابلهم وفي لفظة ) وَمِمَّن ( دلالة على التبعيض وأن المعظم من المخلوقين ليسوا هداة إلى الحق ولا عادلين به ، قيل : هم العلماء والدعاء إلى الدين ، وقيل : هم مؤمنو أهل الكتاب قاله ابن الكلبي وروي عن قتادة وابن جريج ، وقيل : هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان ، وقال ابن عباس : هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعليه أكثر المفسرين وروي في ذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان إذا قرأها قال : ( هذه لكم ، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ) ) وَمِن قَوْمِ مُوسَى ( الآية وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن من أمتي قوماً على الحقّ حتى ينزل عيسى ابن مريم ) والظاهر أن هذه الجملة أخبر فيها أن ممن خلق أمة موصوفون بكذا فلا يدل على تعيين لا في أشخاص ولا في أزمان وصلحت لكل هاد بالحقّ من هذه الأمة وغيرهم وفي زمان الرسول وغيره ، كما أنّ مقابلها في قوله ) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ( لا يدلّ على تعيين أشخاص ولا زمان وإنما هذا تقسيم للمخلوق للنار والمخلوق للجنة ولذلك قيل : إنّ في الكلام محذوفاً تقديره ) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا ( يدلّ عليه إثبات مقابله في قوله ) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ).
وقال الجبائي : هذه الآية تدل على أن لا يخلو زمان البتة ممن يقوم بالحق ويعمل به ويهذي إليه وأنهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل انتهى ، والآية لا تدل على ما زعم الجبائي وما قاله مخالف لما روي من أنه لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ولا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله ولا تقوم الساعة حتى يسري على كتاب الله فلا يبقي منه حرف أو كما قال :
الأعراف : ( 182 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
( وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ). قال الخليل بن أحمد : سنطوي أعمارهم في اغترار منهم ، وقال أبو عبيدة : الاستدراج أن تدرج إلى الشيء في خفية قليلاً قليلاً ولا تهجم عليه وأصله من الدرجة وذلك أنّ الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة ومنه درج الكتاب طواه شيئاً بعد شيء ودرج القوم ماتوا بعضهم في أثر بعض ، وقال ابن قتيبة : هو أن يذيقهم من بأسه قليلاً قليلاً من حيث لا يعلمون ولا يتابعهم به ولا يجاهرهم ، وقال الأزهري سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون وذلك أن الله تعالى يفتح باباً من النعة يغتبطون به ويركنون إليه ثم يأخذهم على غرّتهم أغفل ما يكون انتهى ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه والمعنى سنسترقهم شيئاً بعد شيء ودرجة بعد درجة بالنعم عليهم والإمهال لهم حتى يغترّوا ويظنّوا أنهم لا ينالهم عقاب ، وقال الجبائي سنستدرجهم إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلمون استدراجاً لهم إلى ذلك فيجوز أن يكون هذا العذاب في الدنيا كالقتل ويجوز أن يكون عذاب الآخرة ، وقال الزمخشري : ومعنى ) سَنَسْتَدْرِجُهُم ( سنستدينهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم وذلك أن يواتر الله نعمة عليهم مع انهماكهم في الغيّ فكلما جدّد عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجدّدوا معصيةً فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن مواترة النعم أثرة من الله وتقريب ، وإنما هي خذلان منه وتبعيد فهذا استدراج الله نعوذ بالله تعالى منه ، من حيث لا يعلمون

" صفحة رقم 429 "
قيل : بالاستدراج ، وقيل : بالهلاك ، وقرأ النخعي وابن وثاب : سيستدرجهم بالياء فاحتمل أن يكون من باب الالتفات واحتمل أن يكون الفاعل ضمير التكذيب المفهوم من كذّبوا أي سيستدرجهم هو أي التكذيب قال الأعشى : في الاستدراج : فلو كنت في جبّ ثمانين قامة
ورقيت أسباب السماء بسلم
ليستدرجنك القول حتى تهزه
وتعلم أني عنكم غير مفحم
الأعراف : ( 183 ) وأملي لهم إن . . . . .
( وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ( معطوف على سنستدرجهم فهو داخل في الاستقبال وهو خروج من ضمير التكلم بنون العظمة إلى ضمير تكلم المفرد والمعنى أؤخرهم ملاوة من الدهر أي مدة فيها طول والملاوة بفتح الميم وضمها وكسرها ومنه واهجرني مليًّا أي طويلاً وسمى فعله ذلك بهم كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان ، قال ابن عباس : يريد أنّ مكري شديد ، وقيل : إن عذابي وسماه كيداً لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون والمتين من كل شيء القوي يقال : متن متانه وهذا إخبار عن المكذبين عموماً ، وقيل : نزلت في المستهزئين من قريش قتلهم الله في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم مدة ، وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر أن كيدي بفتح الهمزة على معنى لأجل أنّ كيدي ، وقرأ الجمهور بكسرها على الاستئناف .
الأعراف : ( 184 ) أولم يتفكروا ما . . . . .
( أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( قال الحسن وقتادة : سبب نزولها أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) صعد ليلاً على الصفا فجعل يدعو قبائل قريش يا بني فلان يا بني يحذرهم ويدعوهم إلى الله تعالى ، فقال بعض الكفار حين أصبحوا : هذا مجنون بات يصوّت حتى الصباح ، وكانوا يقولون : شاعر مجنون فنفى الله عز وجل عنه ما قالوه ، ثم أخبر أنه محذر من عذاب الله والآية باعثة لهم على التفكر في أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وانتفاء الجنة عنه وهذا الاستفهام قيل : معناه التوبيخ ، وقيل : التحريض على التأمل والجنة كما قال تعالى ) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ( والمعنى من مس جنة أو تخبيط جنة ، وقيل : هي هيئة كالجلسة والركبة أريد بها المصدر أي ما بصاحبهم من جنون والظاهر أن يتفكروا معلّق عن الجملة المنفيّة وهي في موضع نصب بيتفكروا بعد إسقاط حرف الجر لأن التفكر من أعمال القلوب فيجوز تعليقه والمعنى أو لم يتأملوا ويتدبروا في انتفاء هذا الوصف عن الرسول فإنه منتف لا محالة ولا يمكن لمن أنعم الفكر في نسبة ذلك إليه ، وقيل ثم مضمر محذوف أي فيعلموا ما بصاحبهم من جنة قالوا الحوفي ، وزعم أن تفكّروا لا تعلّق لأنه لا يدخل على الجمل قال : ودلّ التفكر على العلم ، وقال أصحابنا : إذا كان فعل القلب يتعدى بحرف جر قدرت الجملة في موضع جر بعد إسقاط حرف الجر ومنهم من زعم أنه يضمن الفعل الذي تعدى بنفسه إلى واحد أو بحرف جر إلى واحد معنى ما يتعدى إلى اثنين فتكون الجملة في موضع المفعولين فعلى هذين الوجهين لا حاجة إلى هذا المضمر الذي قدّره الحوفي ، وقيل تمّ الكلام على قوله يتفكروا ثم استأنف إخباراً بانتفاء الجنة وإثبات النذارة ، وقال أبو البقاء : في ما وجهان أحدهما : أنها باقية وفي الكلام حذف تقديره أو لم يتفكروا في قولهم به جنة ، والثاني أنها استفهام أي أو لم يتفكروا أي شيء بصاحبهم من الجنون مع انتظام أقواله وأفعاله ، وقيل هي بمعنى الذي تقديره أو لم يتفكروا في ما بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم انتهى وهي تخريجات ضعيفة ينبغي أن ينزه القرآن عنها وتفكر مما ثبت في اللسان تعليقه فلا ينبغي أن يعدل عنه .
الأعراف : ( 185 ) أولم ينظروا في . . . . .
( أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ

" صفحة رقم 430 "
السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْء ( لما حضّهم على التفكر في حال الرسول وكان مفرعاً على تقرير دليل التوحيد أعقب بما يدل على التوحيد ووجود الصانع الحكيم والملكوت الملك العظيم وتقدّم شرح ذلك في قوله ) وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ولم يتقصر على ذكر النظر في الملكوت بل نبه على أنّ كل فرد فرد من الموجودات محل للنظر والاعتبار والاستدلال على الصانع الحكيم ووحدانيته كما قال الشاعر : وفي كل شيء له آية
تدلّ على أنه الواحد
) وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ( وأن معطوف على ما في قوله وما خلق وبخوا على انتفاء نظرهم في ملكوت السموات والأرض وهي أعظم المصنوعات وأدلتها على عظمة الصانع ثم عطف عليه شيئاً عاماً وهو قوله وما خلق الله من شيء فاندرج السموات والأرض في ما خلق ثم عطف عليه شيئاً يخصّ أنفسهم وهو انتفاء نظرهم وتفكرهم في أنّ أجلهم قد اقترب فيبادرهم الموت على حالة الغفلة عن النظر في ما ذكر فيؤول أمرهم إلى الخسار وعذاب النار نبههم على الفكر في اقتراب الأجل لعلهم يبادرون إليه وإلى طلب الحق وما يخلّصهم من عذاب الله قبل مقانصة الأجل وأجلهم وقت موتهم ، وقال الزمخشري : يجوز أن يراد باقتراب الأجل اقتراب الساعة وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف ضمير الشأن وخبرها عسى وما تعلقت به وقد وقع خبر الجملة غير الخبرية في مثل هذه الآية وفي مثل ) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا ( فغضب الله عليها جملة دعاء وهي غير خبرية فلو كانت أن مشددة لم تقع عسى ولا جملة الدعاء لها لا يجوز علمت أن زيداً عسى أن يخرج ولا علمت أن زيداً لعنه الله وأنت تريد الدعاء وأجاز أبو البقاء أن تكون أن هي المخففة من الثقيلة وأن تكون مصدرية يعني أن تكون الموضوعة على حرفين وهي الناصبة للفعل المضارع وليس بشيء لأنهم نصوا على أنها توصل بفعل متصرّف مطلقاً يعنون ماضياً ومضارعاً وأمراً فشرطوا فيه التصرّف ، وعسى فعل جامد فلا يجوز أن يكون صلة لأن وعسى هنا تامة وأن يكون فاعل بها نحو قولك عسى أن تقوم واسم يكون . قال الحوفي : أجلهم وقد اقترب الخبر ، وقال الزمخشري وغيره : اسم يكون ضمير الشأن فيكون قد اقترب أجلهم في موضع نصب في موضع خبر يكون وأجلهم فاعل باقترب وما أجازه الحوفي فيه خلاف فإذا قلت كان يقوم زيد فمن النحويين من زعم أنّ زيداً هو الاسم ويقوم في موضع نصب على الخبر ومنهم من منع ذلك ويجعل في ذلك ضمير الشأن والجواز اختيار ابن مالك والمنع اختيار ابن عصفور وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة التقسيم والدلائل في شرحنا لكتاب التسهيل .
( فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( معنى هذه الجملة وما قبلها توقيفهم وتوبيخهم على أنه لم يقع منهم نظر ولا تدبّر في شيء من ملكوت السموات والأرض ولا في مخلوقات الله تعالى ولا في اقتراب آجالهم ثم قال فبأيّ حديث أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم إذ لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة ونحوه قول الشاعر :
فعن أي نفس بعد نفسي أقاتل
والمعنى إذا لم أقاتل عن نفسي فكيف أقاتل عن غيرها ولذلك إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث الذي هو الصدق المحض وفيه نجاتهم وخلاصهم فكيف يصدقون بحديث غيره والمعنى أنه ليس من طباعهم التصديق بما فيه

" صفحة رقم 431 "
خلاصهم والضمير في بعده للقرآن أو الرسول وقصته وأمره أو الأجل إذ لا عمل بعد الموت أقوال ثلاثة . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم يتعلق قوله فبأي حديث بعده يؤمنون ، ( قلت ) : بقوله : عسى أن يكون قد اقترب أجلهم كأنه قيل : لعل أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت ما ينتظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا .
الأعراف : ( 186 ) من يضلل الله . . . . .
( مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ). نفى نفياً عامًّا أن يكون هاد لمن أضله الله فتضمن اليأس من إيمانهم والمقت بهم . ) وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ). قرأ الحسن وقتادة وأبو عبد الرحمن وأبو جعفر والأعرج وشيبة والحرميان وابن عامر ونذرهم بالنون ورفع الراء وأبو عمرو وعاصم بالياء ورفع الراء وهو استئناف إخبار قطع الفعل أو أضمر قبله ونحن فيكون جملة اسمية ، وقرأ ابن مصرّف والأعمش والأخوان وأبو عمرو فيما ذكر أبو حاتم بالياء والجزم وروى خارجة عن نافع بالنون والجزم وخرج سكون الراء على وجهين أحدهما أنه سكن لتوالي الحركات كقراءة وما يشعركم وينصركم فهو مرفوع والآخر أنه مجزوم عطفاً على محل فلا هادي له فإنه في موضع جزم فصار مثل قوله فهو خير لكم ونكفر في قراءة من قرأ بالجزم في راء ونكفر . ومثل قول الشاعر : أنّى سلكت فإنني لك كاشح
وعلى انتقاصك في الحياة وازدد
الأعراف : ( 187 ) يسألونك عن الساعة . . . . .
( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( الضمير في يسألونك لقريش قالوا يا محمد إنا قرابتك فأخبرنا بوقت الساعة ، وقال ابن عباس : الضمير لليهود ، قال حسل بن أبي بشير وشمويل بن زيدان ان كنت نبيًّا فأخبرنا بوقت الساعة فإنا نعرفها فإن صدقت آمنا بك فنزلت ، ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر التوحيد والنبوة والقضاء والقدر أتبع ذلك بذكر المعاد وأيضاً فلما تقدّم قوله وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم وكان ذلك باعثاً على المبادرة إلى التوبة أتى بالسؤال عن الساعة ليعلم أنّ وقتها مكتوم عن الخلق فيكون ذلك سبباً للمسارعة إلى التوبة والساعة القيامة موت من كان حينئذ حيًّا وبعث الجميع فيقع عليه اسم الساعة واسم القيامة والساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا ، وقرأ الجمهور أيّان بفتح الهمزة والسلمي بكسرها حيث وقعت وتقدم أنها لغة قومه سليم ومرساها مصدر أي متى إرساؤها وإثباتها إقرارها والرّسو ثبات الشيء الثقيل ومنه رسا الجبل وأرسيت السفينة والمرسا المكان الذي ترسو فيه ، وقال الزمخشري : مرساها إرساؤها أو وقت إرسائها أي إثباتها وإقرارها انتهى ، وتقديره أو وقت إرسائها ليس بجيد لأنّ أيان اسم استفهام عن الوقت فلا يصحّ أن يكون خبراً عن الوقت إلا بمجاز لأنه يكون التقدير في أي وقت وقت إرسائها وأيان مرساها مبتدأ وحكى ابن عطية عن المبرّد أن مرساها مرتفع بإضمار فعل ولا حاجة إلى هذا الإضمار وأيان مرساها جملة استفهامية في موضع البدل من الساعة والبدل على نية تكرار العامل وذلك العامل معلق عن العمل لأنّ الجملة فيها استفهام ولما علق الفعل وهو يتعدى بعن صارت الجملة في موضع نصب على إسقاط حرف الجر فهو بدل في الجملة على موضع عن الساعة لأنّ موضع المجرور نصب ونظيره في البدل قولهم عرفت زيداً أبو من هو على أحسن المذاهب في تخريج هذه المسألة أعني في كون الجملة الاستفهامية تكون في موضع البدل .
( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ

" صفحة رقم 432 "
رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ). أي الله استأثر بعلمها ولما كان السؤال عن الساعة عموماً ثم خصص بالسؤال عن وقتها جاء الجواب عموماً عنها بقوله قل إنما علمها عند ربي ثم خصصت من حيث الوقت فقيل لا يجليها لوقتها إلا هو وعلم الساعة من الخمس التي نصّ عليها من الغيب أنه تعالى لا يعلمها إلا الله والمعنى لا يظهرها ويكشفها لوقتها الذي قدّر أن تكون فيه إلا هو قالوا : وحكمة إخفائها أنهم يكونون دائماً على حذر فإخفاؤها أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك ، وقال الزمخشري : لا يجليها لوقتها إلا هو أي لا تزال خفية ولا يظهر أمرها ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده إذا جاء بها في وقتها بغتة لا يجليها بالخبر عنها ، قل : مجيئها أحد من خلقه لاستمرار الخفاء بها على غيره إلى وقت وقوعها انتهى ، وهو كلام فيه تكثير وعجمة .
( ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( قال ابن جريج معناه ثقلت على السموات والأرض أنفسها لتفطر السموات وتبدّل الأرض ونسف الجبال ، وقال الحسن ثقلت لهيبتها والفزع منها على أهل السموات والأرض ، وقال السدي : معنى ثقلت خفيت في السموات والأرض فلم يعلم أحد من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين متى تكون وما خفي أمره ثقل على النفوس انتهى ، ويعبّر بالثقل عن الشدة والصعوبة كما قال : و ) وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ( أي شديداً صعباً وأصله أن يتعدى بعلى تقول ثقل عليّ هذا الأمر ، وقال الشاعر :
ثقيل على الأعداء
فإما أن يدّعي أنّ في بمعنى على كما قال بعضهم في قوله ولأصلبنكم في جذوع النخل أي ويضمن ثقلت معنى يتعدى بفي ، وقال الزمخشري : أي كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة وودّ أن يتجلى له علمها وشقّ عليه خفاؤها وثقل عليه أو ثقلت فيهما لأن أهلهما يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها ولأنّ كل شيء لا يطيقها ولا يقوم لها فهي ثقيلة فيهما . ) لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ( أي فجأة على غفلة منكم وعدم شعور بمجيئها وهذا خطاب عام لكل الناس وفي الحديث أن الساعة لتهجم والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يسوم سائمته والرجل يخفض ميزانه ويرفعه . ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ ( قال ابن عباس والسدي ومجاهد : كأنك حفي بسؤالهم أي محبّ له وعن ابن عباس أيضاً : كأنك يعجبك سؤالهم عنها وعنه أيضاً كأنك مجتهد في السؤال مبالغ في الإقبال على ما تسأل عنه ، وقال ابن قتيبة : كأنك طالب علمها ، وقال مجاهد أيضاً والضحاك وابن زيد : معناه كأنك حفي بالسؤال عنها والاشتغال بها حتى حصلت عليها أي تحبه وتؤثرة أو بمعنى أنك تكره السؤال لأنها من علم الغيب الذي استأثر الله به ولم يؤته أحداً . وقال ابن عطية : أي محتف ومحتفل ، وقال الزمخشري : كأنك عالم بها وحقيقته كأنك بليغ في السؤال عنها لأنّ من بالغ في السؤال عن الشيء والتنقير عنه استحكم علمه فيه وهذا التركيب معناه المبالغة ومنه إحفاء الشارب واحتفاء النعل استئصاله وأحفى في المسألة ألحف وحفي بفلان وتحفى به بالغ في البرّ به انتهى ، وعنها إما أن يتعلق بيسألونك أي يسألونك عنها وتكون صلة حفي محذوفة والتقدير كأنك حفي بها أي معتن بشأنها حتى علمت حقيقتها ووقت مجيئها أو كأنك حفيّ بهم أو معتن بأمرهم فتجيبهم عنها لزعمهم أن علمها عندك وحفي لا يتعدى بعن قال تعالى :

" صفحة رقم 433 "
) إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً ( فعداه بالباء وإما أن يتعلق بحفي على جهة التضمين لأنّ من كان حفياً بشيء أدركه وكشف عنه فالتقدير كأنك كاشف بحفاوتك عنها وإما أن تكون عن بمعنى الباء كما تكون الباء بمعنى عن في قوله ، فإن تسألوني بالنساء فإنني ، أي عن النساء ، وقرأ عبد الله كأنك حفيّ بها بالباء مكان عن أي عالم بها بليغ في العلم بها .
( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ ( أي علم مجيئها في علم الله وظرفية عند مجازية كما تقول النحو عند سيبويه أي في علمه وتكرير السؤال والجواب على سبيل التوكيد ولما جاء به من زيادة قوله كأنك حفي عنها . ) وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( قال الطبري : لا يعلمون أن هذا الأمر لا يعلمه إلا الله بل يظنّ أكثرهم أنه مما يعلمه البشر ، وقيل : لا يعلمون أن القيامة حق لأنّ أكثر الخلق ينكرون المعاد ويقولون ) إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( الآية . وقيل : لا يعلمون أي أخبرتك أن وقتها لا يعلمه إلا الله . وقيل لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقتها والأظهر قول الطبري .
2 ( )
الأعراف : ( 188 ) قل لا أملك . . . . .
قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ) ) 2
) قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ). قال ابن عباس : قال أهل مكة ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري وتربح وبالأرض التي تجدب فترحل عنها إلى ما أخصب فنزلت ، وقيل لما رجع من غزوة المصطلق جاءت ريح في الطريق فأخبرت بموت رفاعة وكان فيه غيظ المنافقين ، ثم قال انظروا أين ناقتي ، فقال عبد الله بن أبيّ : ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته ، فقال عليه السلام إن ناساً من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في الشعب وقد تعلق زمامها بشجرة فردوها على فنزلت ، ووجه مناسبتها لما قبلها ظاهر جداً وهذا منه عليه السلام إظهار للعبودية وانتفاء عن ما يختص بالربوبية من القدرة وعلم الغيب ومبالغة في الاستسلام فلا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر فكيف أملك علم الغيب كما قال في سورة يونس ) وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ( وقدم هنا النفع على الضرّ لأنه تقدم من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فقدّم الهداية على الضلال وبعده لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء فناسب تقديم النفع وقدم الضرّ في يونس على الأصل لأن العبادة لله تكون خوفاً من عقابه أولاً ثم طمعاً في ثوابه ولذلك قال ) يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ( فإذا تقدم النفع فلسابقة لفظ تضمنه وأيضاً ففي يونس موافقة ما قبلها ففيها ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ما لا ينفعنا ولا يضرّنا لأنه موصول بقوله ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهاوفي يونس ) وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ ( وتقدمه ) ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( ) كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ ( وفي الأنبياء قال ) أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ ( وتقدمه قول الكفار لإبراهيم في المحاجّة ) لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ ( وفي الفرقان ) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ

" صفحة رقم 434 "
وتقدمه ألم ) تَرَى إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ وَنِعْمَ كَثِيرَةٍ ( وهذا النوع من لطائف القرآن العظيم وساطع براهينه والاستثناء متصل أي إلا ما شاء الله من تمكيني منه فإني أملكه وذلك بمشيئة الله ، وقال ابن عطية : وهذا الاستثناء منقطع انتهى ، ولا حاجة لدعوى الانقطاع مع إمكان الاتصال .
( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوء ( أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واستغزار المنافع واجتناب السوء والمضارّ حتى لا يمسّني شيء منها وظاهر قوله ولو كنت أعلم الغيب انتفاء العلم عن الغيب على جهة عموم الغيب كما روي عنه لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمنيه ربي بخلاف ما يذهب إليه هؤلاء الذين يدعون الكشف وأنهم بتصفية نفوسهم يحصل لها اطلاع على المغيبات وإخبار بالكوائن التي تحدث ، وما أكثر ادعاء الناس لهذا الأمر وخصوصاً في ديار مصر حتى أنهم لينسبون ذلك إلى رجل متضمّخ بالنجاسة يظلّ دهره لا يصلي ولا يستنجي من نجاسته ويكشف عورته للناس حين يبول وهو عار من العلم والعمل الصالح وقد خصص قوم هذا العموم فحكى مكي عن ابن عباس : لو كنت أعلم السنة المجدبة لأعددت لها من المخصبة ، وقال قوم : أوقات النصر لتوخيتها ، وقال مجاهد وابن جريج : لو كنت أعلم أجلي لاستكثرت من العمل الصالح ، وقيل : ولو كنت أعلم وقت الساعة لأخبرتكم حتى توقنوا ، وقيل : ولو كنت أعلم الكتب المنزلة لاستكثرت من الوحي ، وقيل : ولو كنت أعلم ما يريده الله مني قبل أن يعرفنيه لفعلته ، وينبغي أن تجعل هذه الأقوال وما أشبهها مثلاً لا تخصيصات لعموم الغيب والظاهر أن قوله وما مسني السوء معطوف على قوله لاستكثرت من الخير فهو من جواب لو ويوضح ذلك أنه تقدم قوله قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً فقابل النفع بقوله لاستكثرت من الخير وقابل الضرّ بقوله وما مسني السوء ولأنّ المترتب على تقدير علم الغيب كلاهما وهما اجتلاب النفع واجتناب الضرّ ولم نصحب ما النافية جواب لو لأن الفصيح أن لا يصحبهما كما في قوله تعالى ) وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ ( والظاهر عموم الخبر وعدم تعيين السوء ، وقيل : السوء تكذيبهم له مع أنه كان يدعي الأمين ، وقيل : الجدب ، وقيل : الموت ، وقيل : الغلبة عند اللقاء ، وقيل : الخسارة في التجارة ، وقال ابن عباس : الفقر وينبغي أن تجعل هذه الأقوال خرجت على سبيل التمثيل لا الحصر فإن الظاهر في الغيب الخير والسوء عدم التعيين ، وقيل : ثم الكلام عند قوله لاستكثرت من الخير ثم أخبر أنه ما مسّه السّوء وهو الجنون الذي رموه به ، وقال مؤرّج السدوسي : السوء الجنون بلغة هذيل وهذا القول فيه تفكيك لنظم الكلام واقتصار على أن يكون جواب لولا استكثرت من الخير فقط وتقدير حصول علم الغيب يترتب عليه الأمران لا أحدهما فيكون إذ ذاك جواباً قاصراً .
( إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( لما نفى عن نفسه علم الغيب أخبر بما بعث به من النذارة ومتعلقها المخوفات والبشارة ومتعلقها بالمحبوبات والظاهرة تعلقهما بالمؤمنين لأن منفعتهما معاً وجدوا هما لا يحصل إلا لهم وقال تعالى : ) وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ). وقيل معنى لقوم يؤمنون يطلب منهم الإيمان ويدعون إليه وهؤلاء الناس أجمع ، وقيل : أخبر أنه نذير وتمّ الكلام ومعناه أنه نذير للعالم كلهم ثم أخبر أنه بشير للمؤمنين به فهو وعد لمن حصل له الإيمان ، وقيل حذف متعلق النذارة ودلّ على حذفه إثبات مقابله والتقدير نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون كما حذف المعطوف في قوله سرابيل تقيكم الحرّ أي والبرد وبدأ بالنذارة لأن السائلين عن الساعة كانوا كفاراً أما مشركو قريش وأما اليهود فكان الاهتمام بذكر الوصف من قوله ) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ ( آكد وأولى بالتقديم والله تعالى أعلم .

" صفحة رقم 435 "
2 ( ) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ ءَاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّىَ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاأَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِأايَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبِّى هَاذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالاٌّ صَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الْغَافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) ) 2
الأعراف : ( 189 ) هو الذي خلقكم . . . . .
صمت يصمت بضم الميم صمتاً وصماتاً سكت وإصمت فلاة معروفة وهي مسماة بفعل الأمر قطعت همزته إذ ذاك قاعدة في تسمية بفعل فيه همزة وصل وكسرت الميم لأن التغيير يأنس بالتغيير ولئلا يدخل في وزن ليس في الأسماء . البطش الأخذ بقوة بطش يبطش بضم الطاء وكسرها ، النزع أدنى حركة ومن الشيطان أدنى وسوسة قاله الزجاج ، وقال ابن عطية : حركة فيها فساد وقلما تستعمل إلا في فعل الشيطان لأن حركاته مسرعة مفسدة ، وقيل هو لغة الإصابة تعرض عند الغضب ، وقال الفرّاء : الإغراء والإغضاب الإنصات ، قال الفراء : هو السكوت للاستماع يقال : نصت وأنصت وانتصت بمعنى واحد وقد ورد الإنصات متعدياً في شعر الكميت قال

" صفحة رقم 436 "
أبوك الذي أجدى علي بنصره
فأنصت عني بعده كل قائل
قال : يريد فأسكت عني . الآصال جمع أصل وهو العشي كعنق وأعناق أو جمع أصيل كيمين وأيمان ولا حاجة لدعوى أنه جمع جمع كما ذهب إليه بعضهم إذ ثبت أن أصلاً مفرد وأن كان يجوز جمع أصيل على أصل فيكون جمعاً ككثيب وكثب ، ومن ذهب إلى أن آصالاً جمع أصل ومفرد أصل أصيل الفرّاء ويقال : جئناهم موصلين أي عند الأصيل .
( هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ). مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما تقدم سؤال الكفار عن الساعة ووقتها وكان فيهم من لا يؤمن بالبعث ذكر ابتداء خلق الإنسان وإنشائه تنبيهاً على أن الإعادة ممكنة ، كما أن الإنشاء كان ممكناً وإذا كان إبرازه من العدم الصرف إلى الوجود واقعاً بالفعل وإعادته أحرى أن تكون واقعة بالفعل ، وقيل : وجه المناسبة أنه لما بين الذين يلحدون في أسمائه ويشتقون منها أسماء لآلهتهم وأصنامهم وأمر بالنظر والاستدلال المؤدي إلى تفرده بالإلهية والربوبية بين هنا أن أصل الشرك من إبليس لآدم وزوجته حين تمنيا الولد الصالح وأجاب الله دعاءهما فأدخل إبليس عليهما الشرك بقوله سمياه عبد الحرث فإنه لا يموت ففعلا ذلك ، وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه لما أمر بالنظر في الملكوت الدال على الوحدانية وقسم خلقه إلى مؤمن وكافر ونفى قدرة أحد من خلقه على نفع نفسه أو ضرّها رجع إلى تقرير التوحيد انتهى ، والجمهور على أن المراد بقوله من نفس واحدة آدم عليه السلام فالخطاب بخلقكم عام والمعنى أنكم تفرعتم من آدم عليه السلام وأن معنى وجعل منها زوجها هي حواء ومنها إما من جسم آدم من ضلع من أضلاعه وإما أن يكون من جنسها كما قال تعالى ) جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ( وقد مرّ هذان القولان في أول النساء مشروحين بأكثر من هذا ويكون الإخبار بعد هذه الجملة عن آدم وحواء ويأتي تفسيره إن شاء الله تعالى ، وعلى هذا القول فسّر الزمخشري الآية وقد رد هذا القول أبو عبد الله الرازي وأفسده من وجوه . الأول فتعالى الله عما يشركون فدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة . الثاني أنه قال بعده أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون وهذا ردّ على من جعل الأصنام شركاء ولم يجر لإبليس في هذه الآية ذكر ، الثالث لو كان المراد إبليس لقال أيشركون من لا يخلق ثم ذكر الرازي ثلاثة وجوه أخر من جهة النظر يوقف عليها من كتابه ، وقال الحسن وجماعة الخطاب لجميع الخلق والمعنى في هو الذي خلقكم من نفس واحدة من هيئة واحدة وشكل واحد وجعل منها زوجها أي من جنسها ثم ذكر حال الذكر والأنثى من الخلق ومعنى جعلا له شركاء أي حرفاه عن الفطرة إلى الشرك كما جاء : ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه ) . وقال القفال نحو هذا القول قال هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها وذكر حال الزوج والزوجة وجعلا أي الزوج والزوجة ، لله تعالى شركاء فيما آتاهما لأنهما تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجّمين وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام انتهى ، وعلى هذا لا يكون لآدم وحوّاء ذكر في الآية ، وقيل الخطاب بخلقكم خاص وهو لمشركي العرب كما يقرّبون المولود للات والعزى والأصنام تبركاً بهم في الابتداء وينقطعون بأملهم إلى الله تعالى في ابتداء خلق الولد إلى انفصاله ثم يشركون فحصل التعجب منهم ، وقيل : الخطاب خاص أيضاً وهو لقريش المعاصرين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ونفس واحدة هو قضى منها أي من جنسها زوجة عربية قرشية ليسكن إليها

" صفحة رقم 437 "
والصالح الولد السوي جعلا له شركاء حيث سميا أولادهما الأربعة عبد مناف وعبد العزّى وعبد قصي وعبد الدار والضمير في يشركون لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك انتهى . ) لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ( ليطمئن ويميل ولا ينفر لأنّ الجنس إلى الجنس أمْيَل وبه آنس وإذا كان منها على حقيقته فالسكون والمحبة أبلغ كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه أو أكثر لكونه بعضاً منه وأنث في قوله منها ذهاباً إلى لفظ النفس ثم ذكر في قوله ليسكن حملاً على معنى النفس ليبين أن المراد بها الذكر آدم أو غيره على اختلاف التأويلات وكان الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى .
( فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ( إن كان الخبر عن آدم فخلق حواء كان في الجنة وأما التغشّي والحمل فكانا في الأرض والتغشي والغشيان والإتيان كناية عن الجماع ومعنى الخفة أنها لم تلق به من الكرب ما يعرض لبعض الحبالى ويحتمل أن يكون حملاً مصدراً وأن يكون ما في البطن والحمل بفتح الحاء ما كان في بطن أو على رأس الشجرة وبالكسر ما كان على ظهر أو على رأس غير شجرة ، وحكى يعقوب في حمل النخل ، وحكى أبو سعيد في حمل المرأة حمل وحمل ، وقال ابن عطية : الحمل الخفيف هو المني الذي تحمله المرأة في فرجها ، وقرأ حماد بن سلمة عن ابن كثير حملاً بكسر الحاء ، وقرأ الجمهور فمرت به ، قال الحسن : أي استمرت به ، وقيل : هذا على القلب أي فمر بها أي استمر بها ، وقال الزمخشري : فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق ، وقيل : حملت حملاً خفيفاً يعني النطفة فمرت به فقامت به وقعدت فاستمرت به انتهى ، وقرأ ابن عباس فيما ذكر النقاش وأبو العالية ويحيى بن يعمر وأيوب فمرت به خفيفة الراء من المرية أي فشكت فيما أصابها أهو حمل أو مرض ، وقيل معناه استمرت به لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه نحو وقرن فيمن فتح من القرار ، وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاصي والجحدري : فمارت به بألف وتخفيف الراء أي جاءت وذهبت وتصرفت به كما تقول مارت الريح موراً ووزنه فعل ، وقال الزمخشري : من المرية كقوله تعالى ) أَفَتُمَارُونَهُ ( ومعناه ومعنى المخففة فمرت وقع في نفسها ظن الحمل وارتابت به ووزنه فاعل ، وقرأ عبد الله فاستمرت بحملها ، وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن عباس أيضاً والضحاك فاستمرت به ، وقرأ أبي بن كعب والجرمي فاستمارت به والظاهر رجوعه إلى المرية بني منها استفعل كما بنى منها فاعل في قولك ماريت .
( فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ ). أي دخلت في الثقل كما تقول أصبح وأمسى أو صارت ذات ثقل كما تقول أتمر الرجل وألبن إذا صار ذا تمر ولبن ، وقال الزمخشري : أي حان وقت ثقلها كقوله أقربت ، وقرىء أثقلت على البناء للمفعول ربهما أي مالك أمرهما الذي هو الحقيق أن يدعى ومتعلق الدعاء محذوف يدل عليه جملة جواب القسم أي دعوا الله ورغبا إليه في أن يؤتيَهما صالحاً ثم أقسما على أنهما يكونان من الشاكرين إن آتاهما صالحاً لأن إيتاء الصالح نعمة من الله على والديه كما جاء في الحديث : ( إن عمل ابن آدم ينقطع إلا من ثلاث ) فذكر الولد الصالح يدعو لوالده فينبغي الشكر عليها إذ هي من أجل النعم ومعنى صالحاً مطيعاً لله تعالى أي ولداً طائعاً أو ولداً ذكراً لأنّ الذكورة من الصلاح والجودة ، قال الحسن : سمياه غلاماً ، وقال ابن عباس : بشراً سوياً سليماً ، ولنكونن جواب قسم محذوف تقديره وأقسما لئن آتيتنا أو مقسمين لئن آتيتنا وانتصاب صالحاً على أنه مفعول ثان لآتيتنا وفي المشكل لمكي أنه نعت لمصدر أي ابناً صالحاً .
الأعراف : ( 190 ) فلما آتاهما صالحا . . . . .
( فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ( من جعل الآية في آدم وحواء جعل الضمائر والإخبار لهما وذكروا في ذلك محاورات جرت بين إبليس وآدم وحواء لم تثبت في قرآن ولا

" صفحة رقم 438 "
حديث صحيح فأطرحت ذكرها ، وقال الزمخشري : والضمير في آتيتنا ولنكونن لهما ولكلّ من تناسل من ذريتهما فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السويّ جعلا له شركاء أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وكذلك فيما آتاهما أي آتى أولادهما وقد دلّ على ذلك بقوله تعالى فتعالى الله عما يشركون حيث جمع الضمير ، وآدم وحواء بريئان من الشرك ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله بتسمية أولادهم بعبد العزّى وعبد مناف وعبد شمس وما أشبه ذلك مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم انتهى ، وفي كلامه تفكيك للكلام عن سياقه وغيره ممن جعل الكلام لآدم وحواء جعل الشرك تسميتهما الولد الثالث عبد الحرث إذ كان قد مات لهما ولدان قبله كانا سمّيا كل واحد منهما عبد الله فأشار عليهما إبليس في أن يسميا هذا الثالث عبد الحرث فسمّياه به حرصاً على حياته فالشرك الذي جعلا الله هو في التسمية فقط ويكون الضمير في يشركون عائداً على آدم وحواء وإبليس لأنه مدبّر معهما تسمية الولد عبد الحرث ، وقيل جعلا أي جعل أحدهما يعني حواء وأما من جعل الخطاب للناس وليس المراد في الآية بالنفس وزوجها آدم وحواء أو جعل الخطاب لمشركي العرب أو لقريش على ما تقدم ذكره فيتّسق الكلام اتساقاً حسناً من غير تكلف تأويل ولا تفكيك ، وقال السدّي والطبري : ثم أخبر آدم وحواء في قوله فيما آتاهما وقوله ) فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( كلام منفصل يراد به مشركو العرب ، قال ابن عطية : وهذا تحكّم لا يساعده اللفظ انتهى ، والضمير في له عائد على الله ومن زعم أنه عائد على إبليس فقوله بعيد لأنه لم يجر له ذكر وكذا يبعد قول من جعله عائداً على الولد الصالح وفسّر الشرك بالنصيب من الرزق في الدنيا وكانا قبله يأكلان ويشربان وحدهما ثم استأنف فقال : ) فَتَعَالَى اللَّهُ عَن مَّا يُشْرِكُونَ ( يعني الكفار ، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهد وإبان بن ثعلب ونافع وأبو بكر عن عاصم شركاً على المصدر وهو على حذف مضاف أي ذا شرك ويمكن أن يكون أطلق الشرك على الشريك كقوله : زيد عدل ، قال الزمخشري : أو أحدثا لله إشراكاً في الولد انتهى ، وقرأ الأخوان وابن كثير وأبو عمر وشركاء على الجمع ويبعد نوجيه الآية أنها في آدم وحواء على هذه القراءة وتظهر باقي الأقوال عليها ، وفي مصحف أبيّ فلما آتاهما صالحاً أشركا فيه ، وقرأ السلمي عما تشركون بالتاء التفاتاً من الغيبة للخطاب وكان الضمير بالواو وانتقالاً من لتثنية للجمع وتقدم توجيه ضمير الجمع على من يعود .
الأعراف : ( 191 ) أيشركون ما لا . . . . .
( أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ). أي أتشركون الأصنام وهي لا تقدر على خلق شيء كما يخلق الله وهم يُخلقون أي يخلقهم الله تعالى ويوجدهم كما يوجدكم أو يكون معناه وهم ينحتون ويصنعون فعبدتهم يخلقونهم وهم لا يقدرون على خلق شيء فهم أعجز من عبدتهم وهم عائد على معنى ما وقد عاد الضمير على لفظ ما في يخلق وعبّر عن الأصنام بقوله وهم كأنها تعقل على اعتقاد الكفار فيها وبحسب أسمائهم . وقيل أتى بضمير من يعقل لأنّ جملة من عبد الشياطين والملائكة وبعض بني آدم فغلب من يعقل كل مخلوق لله تعالى ويحتمل أن يكون وهم عائداً على ما عاد عليه ضمير الفاعل في أيشركون أي وهؤلاء المشركون يخلقون أي كان يجب أن يعتبروا بأنهم مخلوقون فيجعلوا إلههم خالقهم لا من لا يخلق شيئاً . وقرأ السلمي أتشركون بالتاء من فوق فيظهر أن يكون وهم عائداً على ما على معناها ومن جعل ذلك في آدم وحواء قال : إنّ إبليس جاء إلى آدم وقد مات له ولد اسمه عبد الله فقال إن شئت أن يعيش لك الولد فسمّه عبد شمس فسماه كذلك فإياه عنى بقوله أتشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون عائد على آدم وحوّاء والابن المسمى عبد شمس .
الأعراف : ( 192 ) ولا يستطيعون لهم . . . . .
( وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ( أي ولا تقدر الأصنام أن يعبدهم على نصر ولا

" صفحة رقم 439 "
لأنفسهم إن حدث بهم حادث بل عبدتهم الذين يدفعون عنها ويحمونها ومن لا يقدر على نصر نفسه كيف يقدر على نصر غيره .
الأعراف : ( 193 ) وإن تدعوهم إلى . . . . .
( وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ ( الظاهر أن الخطاب للكفار انتقل من الغيبة إلى الخطاب على سبيل الالتفات والتوبيخ على عبادة غير الله ويدلّ على أنّ الخطاب للكفار قوله بعد إنّ الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم وضمير المفعول عائد على ما عادت عليه هذه الضمائر قبل وهو الأصنام والمعنى وإن تدعوا هذه الأصنام إلى ما هو هدى ورشاد أو إلى أن يهدوكم كما تطلبون من الله الهدي والخير لا يتبعوكم على مرادكم ولا يجيبوكم أي ليست فيهم هذه القابلية لأنها جماد لا تعقل ثم أكد ذلك بقوله سواء عليكم أي دعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سيّان فكيف يعبد من هذه حاله ؟ وقيل : الخطاب للرسول والمؤمنين وضمير النصب للكفار أي وإن تدعوا الكفار إلى الهدى لا يقبلوا منكم فدعاؤكم وصمتكم سيّان أي ليست فيهم قابلية قبول ولا هدى ، وقرأ الجمهور لا يتبعوكم مشدداً هنا وفي ( الشعراء يتبعهم الغاوون ( من اتبع ومعناها لا يقتدوا بكم ، وقرأ نافع فيهما لا يتّبعوكم مخففاً من تبع ومعناه لا يتبعوا آثاركم وعطفت الجملة الإسمية على الفعلية لأنها في معنى الفعلية والتقدير أم صمتم ، وقال ابن عطية : وفي قوله أدعوتموهم أم أنتم عطف الاسم على الفعل إذ التقدير أم صمتم ومثل هذا قول الشاعر : سواء عليك النفر أم بت ليلة
بأهل القباب من نمير بن عامر
انتهى . وليس من عطف الاسم على الفعل إنما هو من عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية وأما البيت فليس من عطف الاسم على الفعل بل من عطف الجملة الفعلية على الاسم المقدّر بالجملة الفعلية إذ أصل التركيب سواء عليك أنفرت أم بت ليلة فأوقع النفر موقع أنفرت وكانت الجملة الثانية إسمية لمراعاة رؤوس الآي ولأنّ الفعل يشعر بالحدوث واسم الفاعل يشعر بالثبوت والاستمرار فكانوا إذا دهمهم أمر معضل فزعوا إلى أصنامهم وإذا لم يحدث بقوا ساكتين فقيل لا فرق بين أن تحدثوا لهم دعاء وبين أن تستمروا على صمتكم فتبقوا على ما أنتم عليه من عادة صمتكم وهي الحالة المستمرة .
( ( من اتبع ومعناها لا يقتدوا بكم ، وقرأ نافع فيهما لا يتّبعوكم مخففاً من تبع ومعناه لا يتبعوا آثاركم وعطفت الجملة الإسمية على الفعلية لأنها في معنى الفعلية والتقدير أم صمتم ، وقال ابن عطية : وفي قوله أدعوتموهم أم أنتم عطف الاسم على الفعل إذ التقدير أم صمتم ومثل هذا قول الشاعر : سواء عليك النفر أم بت ليلة
بأهل القباب من نمير بن عامر
انتهى . وليس من عطف الاسم على الفعل إنما هو من عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية وأما البيت فليس من عطف الاسم على الفعل بل من عطف الجملة الفعلية على الاسم المقدّر بالجملة الفعلية إذ أصل التركيب سواء عليك أنفرت أم بت ليلة فأوقع النفر موقع أنفرت وكانت الجملة الثانية إسمية لمراعاة رؤوس الآي ولأنّ الفعل يشعر بالحدوث واسم الفاعل يشعر بالثبوت والاستمرار فكانوا إذا دهمهم أمر معضل فزعوا إلى أصنامهم وإذا لم يحدث بقوا ساكتين فقيل لا فرق بين أن تحدثوا لهم دعاء وبين أن تستمروا على صمتكم فتبقوا على ما أنتم عليه من عادة صمتكم وهي الحالة المستمرة .
الأعراف : ( 194 ) إن الذين تدعون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( هذه الجملة على سبيل التوكيد لما قبلها في انتفاء كون هذه الأصنام قادرة على شيء من نفع أو ضرّ أي الذين تدعونهم وتسمونهم آلهة من دون الله الذي أوجدها وأوجدكم هم عباد وسمّى الأصنام عباداً وإن كانت جمادات لأنهم كانوا يعتقدون فيها أنها تضرّ وتنفع فاقتضى ذلك أن تكون عاقلة وأمثالكم . قال الحسن في كونها مملوكة لله ، وقال التبريزي في كونها مخلوقة ، وقال مقاتل : المراد طائفة من العرب من خزاعة كانت تعبد الملائكة فأعلمهم تعالى أنهم عباد أمثالهم لا آلهة انتهى ، فعلى هذا جاء الإخبار إخباراً عن العقلاء ، وقال الزمخشري : عباد أمثالكم استهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء ، فإن ثبت ذلك فمنهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم فقال ألهم أرجل يمشون بها انتهى ؟ وليس كما زعم لأنه تعالى حكم على هؤلاء المدعوّين من دون الله أنهم عباد أمثال الداعين فلا يقال في الخبر من الله فإن ثبت ذلك لأنه ثابت ولا يصحّ أن يقال ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم فقال ألهم أرجل لأن قوله ألهم أرجل ليس إبطالاً لقوله عباد أمثالكم لأن المثلية ثابتة أما في أنهم مخلوقون أو في أنهم مملوكون مقهورون وإنما ذلك تحقير لشأن الأصنام وأنهم دونكم في انتفاء الآلات التي أعدت للانتفاع بها مع ثبوت كونهم أمثالكم فيما ذكر ولا يدلّ إنكار هذه الآلات على انتفاء المثلية فيما ذكر وأيضاً فالأبطال لا يتصور بالنسبة إليه تعالى لأنه يدلّ على كذب أحد الخبرين وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى ، وقد

" صفحة رقم 440 "
بيّنا ذلك في قوله أولئك كالأنعام بل هم أضلّ وقرأ ابن جبير إن خفيفة وعباداً أمثالكم بنصب الدال واللام واتفق المفسرون على تخريج هذه القراءة على أنّ إن هي النافية أعملت عمل ما الحجازية فرفعت الاسم ونصبت الخبر فعباداً أمثالكم خبر منصوب قالوا : والمعنى بهذه القراءة تحقير شأن الأصنام ونفي مماثلتهم للبشر بل هم أقل وأحقر إذ هي جمادات لا تفهم ولا تعقل وإعمال إن إعمال ما الحجازية فيه خلاف أجاز ذلك الكسائي وأكثر الكوفيين ومن البصريين ابن السّراج والفارسي وابن جني ومنع من إعماله الفرّاء وأكثر البصريين واختلف النقل عن سيبويه والمبرّد والصحيح أن إعمالها لغة ثبت ذلك في النثر والنظم وقد ذكرنا ذلك مشبعاً في شرح التسهيل وقال النحاس : هذه قراءة لا ينبغي أن يقرأ بها بثلاث جهات إحداها أنها مخالفة للسواد والثانية أن سيبويه يختار الرفع في خبر أن إذا كانت بمعنى ما فيقول : إن زيد منطلق لأن عمل ما ضعيف وإن بمعناها فهي أضعف منها والثالثة أن الكسائي رأى أنها في كلام العرب لا تكون بمعنى ما إلا أن يكون بعدها إيجاب انتهى وكلام النحاس هذا هو الذي لا ينبغي لأنها قراءة مروية عن تابعيّ جليل ولها وجه في العربية وأما الثلاث جهات التي ذكرها فلا يقدح شيء منها في هذه القراءة أما كونها مخالفة للسواد فهو خلاف يسير جدًّا لا يضرّ ولعله كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا تكون فيه مخالفة للسواد وأما ما حكي عن سيبويه فقد اختلف الفهم في كلام سيبويه في أنّ وأما ما حكاه عن الكسائي فالنقل عن الكسائي أنه حكى إعمالها وليس بعدها إيجاب والذي يظهر لي أن هذا التخريج الذي خرجوه من أن إن للنفي ليس بصحيح لأن قراءة الجمهور تدل على إثبات كون الأصنام عباداً أمثال عابديها وهذا التخريج يدل على نفي ذلك فيؤدي إلى عدم مطابقة أحد الخبرين الآخر وهو لا يجوز بالنسبة إلى الله تعالى ، وقد خرجت هذه القراءة في شرح التسهيل على وجه غير ما ذكروه وهو أن إن هي المخففة من الثقيلة وأعملها عمل المشددة وقد ثبت أن إن المخففة يجوز إعمالها عمل المشدّدة في غير المضمر بالقراءة المتواترة وإن كلا لما وبنقل سيبويه عن العرب لكنه نصب في هذه القراءة خبرها نصب عمر بن أبي ربيعة المخزومي في قوله : إذا اسود جنح الليل فلتأتِ ولتكن
خطاك خفافاً إن حرّاسنا أسدا
وقد ذهب جماعة من النحاة إلى جواز نصب أخبار إنّ وأخواتها واستدلوا على ذلك بشواهد ظاهرة الدلالة على صحة مذهبهم وتأولها المخالفون ، فهذه القراءة الشاذة تتخرّج على هذه اللغة أو تتأوّل على تأويل المخالفين لأهل هذا المذهب وهو أنهم تأولوا المنصوب على إضمار فعل كما قالوا في قوله :
يا ليت أيام الصّبا واجعا
إن تقديره أقبلت رواجعا فكذلك تؤول هذه القراءة على إضمار فعل تقديره أن الذين تدعون من دون الله تدعون عباداً أمثالكم ، وتكون القراءتان قد توافقتا على معنى واحد وهو الإخبار أنهم عباد ، ولا يكون تفاوت بينهما وتخالف لا يجوز في حقّ الله تعالى وقرىء أيضاً إن مخففة ونصب عباداً على أنه حال من الضمير المحذوف العائد من الصلة على الذين وأمثالكم بالرفع على الخبر أي أن الذين تدعونهم من دون الله في حال كونهم عباداً أمثالكم في

" صفحة رقم 441 "
الخلق أو في الملك فلا يمكن أن يكونوا آلهة فادعوهم أي فاختبروهم بدعائكم هل يقع منهم إجابة أو لا يقع والأمر بالاستجابة هو على سبيل التعجيز أي لا يمكن أن يجيبوا كما قال : ولو سمعوا ما استجابوا لكم ومعنى إن كنتم صادقين في دعوى إلهيتهم واستحقاق عبادتهم كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه ) لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ).
الأعراف : ( 195 ) ألهم أرجل يمشون . . . . .
( أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ). هذا استفهام إنكار وتعجيب وتبيين أنهم جماد لا حراك لهم وأنهم فاقدون لهذه الأعضاء ومنافعها التي خلقت لأجلها فأنتم أفضل من هذه الأصنام أذلكم هذا التصرف وهذا الاستفهام الذي معناه الإنكار قد يتوجه الإنكار فيه إلى انتفاء هذه الأعضاء وانتفاء منافعها فيتسلط النفي على المجموع كما فسرناه لأنّ تصويرهم هذه الأعضاء للأصنام ليست أعضاء حقيقة وقد يتوجه النفي إلى الوصف أي وإن كانت لهم هذه الأعضاء مصوّرة فقد انتفت هذه المنافع التي للأعضاء والمعنى أنكم أفضل من الأصنام بهذه الأعضاء النافعة وأم هنا منقطعة فتقدر ببل والهمزة وهو إضراب على معنى الانتقال لا على معنى الأبطال وإنما هو تقدير على نفي كلّ واحدة من هذه الجمل وكان ترتيب هذه الجمل هكذا لأنه بدىء بالأهم ثم اتبع بما هو دونه إلى آخرها ، وقرأ الحسن والأعرج ونافع بكسر الطاء ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بضمها وقال أبو عبد الله الرازي : تعلق بعض الأغمار بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى فقالوا : جعل عدمها للأصنام دليلاً على عدم إلهيتها فلو لم تكن موجودة له تعالى لكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية وذلك باطل فوجب القول بإثباتها له تعالى والجواب من وجهين ، أحدهما : أن المقصود من الآية أن الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصم لأنه له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة والصنم وإن صُوِّرت له هذه الأعضاء بخلاف الإنسان فالإنسان أكمل وأفضل فلا يشتغل بعبادة الأخس الأدون والثاني أن المقصود تقرير الحجة التي ذكرها قبل وهي لا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون يعني كيف يحسن عبادة من لا يقدر على النفع والضرّ ثم قرر أنّ هذه الأصنام انتفت عنها هذه الأعضاء ومنافعها فليست قادرة على نفع ولا ضر فامتنع كونها آلهة أما الله تعالى فهو وإن كان متعالياً عن هذه الأعضاء فهو موصوف بكمال القدرة على النفع والضرّ وبكمال السمع والبصر انتهى ، وفيه بعض تلخيص .
( قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ ( لما أنكر تعالى عليهم عبادة الأصنام وحقّر شأنها وأظهر كونها جماداً عارية عن شيء من القدرة أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك أي لا مبالاة بكم ولا بشركائكم فاصنعوا ما تشاؤون وهو أمر تعجيز أي لا يمكن أن يقع منكم دعاء لأصنامكم ولا كيد لي وكانوا قد خوّفوه آلهتهم ، ومعنى ادعوا شركاءكم استعينوا بهم على إيصال الضرّ إلى ثم كيدون أي امكروا بي ولا تؤخرون عما تريدون بي من الضرّ وهذا كما قال قوم هود أن نقول : إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون وسمي الأصنام شركاءهم من حيث أن لهم نسبة إليهم بتسميتهم إياهم آلهة وشركاء الله تعالى ، وقرأ أبو عمرو وهشام بخلاف عنه كيدوني بإثبات الياء وصلاً ووقفاً وقرأ باقي السبعة بحذف الياء اجتزاء بالكسرة عنها .
الأعراف : ( 196 ) إن وليي الله . . . . .
( إِنَّ وَلِيّىَ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( لما أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضره وأراهم أنّ الله هو القادر على كل شيء عقب ذلك بالاستناد إلى الله تعالى والتوكل عليه والإعلام أنه تعالى هو ناصره عليهم وبين جهة نصره عليهم بأن أوحى إليه كتابه وأعزّه برسالته ثم أنه تعالى يتولى الصالحين من عباده وينصرهم على أعدائه ولا يخذلهم ، وقرأ الجمهور إن وليي الله بياء مشدّدة وهي ياء فعيل أدغمت في لام الكلمة وبياء المتكلم بعدها مفتوحة ، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بياء واحدة مشددة مفتوحة ورفع الجلالة ، قال أبو علي لا يخلو من أن يدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة وهولا يجوز لأنه ينفك الإدغام الأول أو تدغم ياء فعيل في ياء الإضافة ، ويحذف لام الفعل فليس إلا هذا انتهى ويمكن

" صفحة رقم 442 "
تخريج هذه القراءة على وجه آخر وهو أن لا يكون ولي مضافاً إلى ياء متكلم بل هو اسم نكرة اسم إنّ والخبر الله وحذف من وليّ التنوين لالتقاء الساكنين كما حذف من قوله قل هو الله أحد وقوله ولا ذاكر الله إلا قليلاً والتقدير أنّ وليًّا حقّ وليّ الله الذي نزل الكتاب وجعل اسم إنّ نكرة والخبر معرفة في فصيح الكلام . قال الشاعر : وإن حراماً أن أسب مجاشعا
بآبائي الشمّ الكرام الخضارم
وهذا توجيه لهذه القراءة سهل واختلف النقل عن الجحدري فنقل عنه صاحب كتاب اللوامح في شواذ القراءات إن وليّ بياء مكسورة مشدّدة وحذفت ياء المتكلم لما سكنت التقى ساكنان فحذفت ، كما تقول : إن صاحبي الرجل الذي تعلم ، ونقل عنه أبو عمرو الداني أنّ ولي الله بياء واحدة منصوبة مضافة إلى الله وذكرها الأخفش وأبو حاتم غير منصوبة وضعفها أبو حاتم وخرّج الأخفش وغيره هذه القراءة على أن يكون المراد جبريل ، قال الأخفش : فيصير الذي نزل الكتاب من صفة جبريل بدلالة قل نزله روح القدس ، وفي قراءة العامة من صفة الله تعالى انتهى ، يعني أن يكون خبر إن هو قوله الذي نزل الكتاب ، قال الأخفش : فأما وهو يتولى الصالحين فلا يكون إلا من الإخبار عن الله تعالى وتفسير هذه القراءة بأن المراد بها جبريل وإن احتملها لفظ الآية لا يناسب ما قبل هذه الآية ولا ما بعدها ويحتمل وجهين من الإعراب ولا يكون المعنى جبريل أحدهما أن يكون وليّ الله اسم إنّ والذي نزل الكتاب هو الخبر على تقدير حذف الضمير العائد على الموصول ، والموصول هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والتقدير أنّ ولي الله الشخص الذي نزل الكتاب عليه فحذف عليه وإن لم يكن فيه شرط جواز الحذف المقيس لكنه قد جاء نظيره في كلام العرب . قال الشاعر : وإن لساني شهدة يشتفى بها
وهو على من صبه الله علقم
التقدير وهو على من صبه الله عليه علقم . وقال الآخر : فأصبح من أسماء قيس كقابض
على الماء لا يدري بما هو قابض
التقدير بما هو قابض عليه ، وقال الآخر

" صفحة رقم 443 "
وتقدم قوله ) ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون ( [ الأعراف : 192 ] ، قال الواحدي : ' أعبد هذا المعنى ، لأن الأول مذكور على جهة التقريع ، وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين من لا تجوز ، كأنه قيل : الإله المعبود يجب أن يكون يتولى الصالحين وهذه الأصنام ليست كذلك ، فلا تكون صالحة للإلهية ' . انتهى ومعنى قوله : ' على جهة التقريع ' أن قوله ( ولا يستطيعون ) معطوف على قوله ( ما لا يخلق ) وهو في حيز الإنكار . والتقريع والتوبيخ على إشراكهم من لا يمكن أن يوجد شيئاً ، ولا ينشئه ، ولا ينصر نفسه ، فضلاً عن غيره . وهذه الآية كما ذكر جاءت على جهة الفرق ومندرجة تحت الأمر بقوله ) قل ادعوا ( [ الإسراء : 110 ] ، فهذه الجمل مأمور بقولها ، وخطاب المشركين بها ، إذ كانوا يخوفون الرسول - عليه السلام - بآلهتهم ، فأمر أن يخاطبهم بهذه الجمل ، تحقيراً لهم ولأصنامهم ، وإخباراً لهم بأن وليه هو الله ، فلا مبالاة بهم ، ولا بأصنامهم . ) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعون وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ( تناسق الضمائر يقتضي أن الضمير المنصوب في ( وإن تدعهم ) هو للأصنام . ونفى عنهم السماع ، لأنها جماد لا تحس وأثبت لهم النظر على سبيل المجاز . بمعنى : ' أنهم صوروهم ذوي أعين فهم يشبهون من لعلّ الذي أصعدتني أن يردني
إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادره
يريد أصعدتني به . وقال الآخر : فأبلغن خالد بن نضله
والمرء معنى بلوم من يثق
يريد يثق به . وقال الآخر : ومن حسد يجور عليّ قومي
وأي الدّهر ذر لم يحسدوني
يريد لم يحسدوني فيه . وقال الآخر : فقلت لها لا والذي حج حاتم
أخونك عهداً إنني غير خوّان
قالوا يريد حج حاتم إليه فهذه نظائر من كلام العرب يمكن حمل هذه القراءة الشاذة عليها ، والوجه الثاني أن يكون خبر إن محذوفاً لدلالة ما بعده عليه التقدير إن وليّ الله الذي نزل الكتاب من هو صالح أو الصالح ، وحذف لدلالة وهو يتولى الصالحين عليه وحذف خبر إن وأخواتها لفهم المعنى جائز ومنه قوله تعالى : ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( الآية وقوله : ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الآية وسيأتي تقدير حذف الخبر فيهما إن شاء الله .
الأعراف : ( 197 ) والذين تدعون من . . . . .
( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ( أي من دون الله ويتعيّن عود الضمير في من دونه على الله وبذلك يضعف من فسر ) الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ ( بجبريل ، وهذه الآية بيان لحال الأصنام وعجزها عن نصرة أنفسها فضلاً عن نصرة غيرها وتقدم قوله ) ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون ( [ الأعراف : 192 ] ، قال الواحدي : ' أعيد هذا المعنى ، لأن الأول مذكور على جهة التقريع ، وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين من لا تجوز ، كأنه قيل : الإله المعبود يجب أن يكون يتولى الصالحين وهذه الأصنام ليست كذلك ، فلا تكون صالحة للإلهية ' . انتهى ومعنى قوله : ' على جهة التقريع ' أن قوله ) ولا يستطيعون ( معطوف على قوله ) ما لا يخلق ( وهو في حيز الإنكار . والتقريع والتوبيخ على إشراكهم من لا يمكن أن يوجد شيئا ، ولا ينشئه ، ولا ينصر نفسه ، فضلا عن غيره . وهذه الآية كما ذكر جاءت على جهة الفرق ومندرجة تحت الأمر بقوله ) قل ادعوا ( [ الإسراء : 110 ] ، فهذه الجمل مأمنور بقولها ، وخطاب المشركين بها ، إذ كانوا يخوفون الرسول - عليه السلام - بآلهتهم ، فأمر أن يخاطبهم بهذه الجمل ، تحقيرا لهم ولأصنامهم ، وإخبارا لهم بأن وليه هو الله ، فلا مبالاة بهم ، ولا بأصنامهم
الأعراف : ( 198 ) وإن تدعوهم إلى . . . . .
( وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ( تناسق الضمائر يقتضي أن الضمير المنصوب في ) وإن تدعوهم ( هو للأصنام . ونفى عنهم السماع ، لأنها جماد لا تحس وأثبت لهم النظر على سبيل المجاز . بمعنى : ' أنهم صوروهم ذوي أعين فهم يشبهون من
الأعراف : ( 198 ) وإن تدعوهم إلى . . . . .

" صفحة رقم 444 "
ينظر من قلب حدقته ، للنظر ثم نفى عنهم الإبصار كقوله ) يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً [ مريم : 42 ] ومعنى ( إليك ) أيها الداعي وأفرد ، لأنه اقتطع قوله ( وتراهم ينظرون إليك ) من جملة الشرط ، واستأنف الإخبار عنهم بحالهم السيئ في انتفاء الإبصار كانتفاء السماع . وقيل : ' المعنى في قوله ( ينظرون إليك ) أي : يحاذونك من قولهم : ' المنازل تتناظر ' إذا كانت متحاذية يقابل بعضها بعضاً . وذهب بعض المعتزلة إلى الاحتجاج بهذه الآٍ ية على أن العباد لا ينظرون إلى ربهم ولا يرونه . ولا حجة لهم في الآية ، لأن النظر في الأصنام مجاز محض ، وجعل الضمير للأصنام . اختار الطبري . قال : ' ومعنى الآية تبيين جمودها ، وصغر شأنها . ' . قال : ' وإنما تكرر القول في هذا وترددت الآيات فيه ، لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكناً من نفوس العرب في ذلك الزمن ومستولياً على عقولها لطفاً من الله تعالى بهم . وقال مجاهد والحسن والسدي : ' الضمير المنصوب في ( تدعوهم ) يعود على الكفار . ووصفهم بأنهم ( لا يسمعون ولا يبصرون ) إذ لم يتحصل لهم عن الاستماع والنظر فائدة ، ولا حصلوا منه بطائل . وهذا تأويل حسن . ويكون إثبات النظر حقيقة لا مجازاً ويحسن هذا التأويل الآية بعد هذه إذ في آخرها ( وأعرض عن الجاهلين ) أي : الذين من شأنهم أن تدعوهم لا يسمعون وينظرون إليك وهم لا يبصرون . فتكون مرتبة على العلة الموجبة لذلك وهي الجهل
الأعراف : ( 199 ) خذ العفو وأمر . . . . .
( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ( هذا خطاب لرسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - ويعم جميع أمته وهي أمر بجميع مكارم الأخلاق . وقال عبد الله بن الزبير ومجاهد وعروة والجمهور : أي : ' أقبل من الناس في أخلاقهم ، وأموالهم ، ومعاشرتهم ، بما أتى عفواً دون تكلف ، ولا تحرج ، والعفو : ضد الجهد . أي : لا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى لا ينفروا وقد أمر بذلك رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - بقوله ' يسروا ولا تعسروا ' ، وقال حاتم : خذي العفو مني تستديمي مودتي
ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وقال الآخر : إذا ما بلغة جاءتك عفواً
فخذها فالغنى مرعى وشرب
إذا اتفق القليل وفيه سلم
فلا ترد الكثير وفيه حرب
وقال الشعبي : ' سأل الرسول - ( صلى الله عليه وسلم ) - جبريل - عليه السلام - عن قوله تعالى ( خذ العفو ) فأخبره عن الله تعالى : انه يأمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ' . وقال ابن عباس والضحاك والسدي : ' هي في الأموال قبل فرض الزكاة ، أمر أن يأخذ ما سهل من أموال الناس أي : ما فضل وزاد ثم فرضت الزكاة فنسخت هذه وتؤخذ طوعاً وكرهاً ' . وقال مكي عن مجاهد : ' إن العفو هو الزكاة المفروضة ' . وقال ابن زيد : ' الآية جميعها في مداراة الكفار ، وعدم مؤاخذتهم ، ثم نسخ ذلك بالقتال ' . انتهى . والذي يظهر : القول الأول من أنه أمر بمكارم الأخلاق وأن ذلك حكم مستمر في الناس ليس بمنسوخ . ويدل عليه حديث الحر بن قيس حين أدخل عيينة بن حصن على عمر ، فكلم عمر كلاماً فيه غلطة ، فأراد عمر أن يهم به ، فتلا الحر هذه الآية على عمر فقرها ووقف عندها ' . والعرف : المعروف والجميل من الأفعال والأقوال . وقرأ عيسى بن عمر ( بالعرف ) بضم الراء . والأمر بالإعراض عن الجاهلين : حض على التخلق بالحلم ، والتنزه عن منازعة السفهاء ، وعلى الإغضاء عما يسوء . كقول من قال : ' إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ' وقول الآخر : ' إن كان ابن عمتك ، وكالذي جذب رداءه حتى حز في عنقه وقال أعطني من

" صفحة رقم 445 "
مال الله ' ، وخرج البزار في مسنده من حديث جابر بن سليم ما وصاه به الرسول - ( صلى الله عليه وسلم ) - : ' اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئاً وأن تلقى أخاك بوجه منبسط ، وأن تفرغ من فضل دلوك في إناء المستسقى وإن امرؤ سبّك بما لا يعلم منك فلا تسبَّه بما تعلم فيه فإنّ الله جاعل لك أجراً وعليه وزراً ولا تسبن شيئاً مما خولك الله ) . وقال جعفر الصادق : أمر الله تعالى نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها .
الأعراف : ( 200 ) وإما ينزغنك من . . . . .
( وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( أي ينخسنك بأن يحملك بوسوسته على ما لا يليق فاطلب العياذة بالله منه وهي اللواذ والاستجارة ، قيل : لما نزلت خذ العفو الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : كيف والغضب فنزلت ومناسبتها لما قبلها ظاهرة وفاعل ينزغنك هو نزغ على حدّ قولهم جدجده أو على إطلاق المصدر ، والمراد به نازغ وختم بهاتين الصفتين لأنّ الاستعاذة تكون بالنسيان ولاتجدي إلا باستحضار معناها فالمعنى سميع للأقوال عليم بما في الضمائر ، قال ابن عطية : الآية وصية من الله تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) تعم أمته رجلاً رجلاً ونزغ الشيطان عام في الغضب وتحسين المعاصي واكتساب الغوائل وغير ذلك وفي مصنف أبي عيسى الترمذي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( إنّ للملك لمة وإن للشيطان لمة ) وبهذه الآية تعلق ابن القاسم في قوله : إنّ الاستعاذة عند القراءة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم انتهى . واستنباط ذلك من الآية ضعيف لأن قوله : إنه سميع عليم جرى مجرى التعليل لطلب الاستجارة بالله أي لا تستعذ بغيره فإنه هو السميع لما تقول أو السميع لما تقوله الكفار فيك حين يرومون إغضابك العليم بقصدك في الاستعاذة أو العليم بما انطوت عليه ضمائرهم من الكيد لك فهو ينصرك عليهم ويجيرك منهم .
الأعراف : ( 201 ) إن الذين اتقوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( النزغ من الشيطان أحفّ من مس الطائف من الشيطان لأن النزغ أدنى حركة والمس الإصابة والطائف ما يطوف به ويدور عليه فهو أبلغ لا محالة فحال المتقين تزيد في ذلك على حال الرسول ، وانظر لحسن هذا البيان حيث جاء الكلام للرسول كان الشرط بلفظ إن المحتملة للوقوع ولعدمه ، وحيث كان الكلام للمتقين كان المجيء بإذا الموضوعة للتحقيق أو للترجيح ، وعلى هذا فالنزغ يمكن أن يقع ويمكن أن لا يقع والمسّ واقع لا محالة أو يرجح وقوعه وهو إلصاق البشرة وهو هنا استعارة وفي تلك الجملة أمر هو ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالاستعاذة ، وهنا جاءت الجملة خبريّة في ضمنها الشرط وجاء الخبر تذكروا فدكل على تمكن مسّ الطائف حتى حصل نسيان فتذكروا ما نسوه والمعنى تذكروا ما أمر به تعالى وما نهى عنه ، وبنفس التذكر حصل إبصارهم فاجأهم إبصار الحقّ والسداد فاتبعوه وطروا عنهم مسّ الشيطان الطائف ، واتقوا قيل : عامّة في كل ما يتقى ، وقيل : الشرك والمعاصي ، وقيل : عقاب الله ، وقرأ النحويان وابن كثير : طيف فاحتمل أن يكون مصدراً من طاف يطيف طيفاً أنشد أبو عبيدة : أني ألمّ بك الخيال يطيف
ومطافه لك ذكره وشغوف
واحتمل أن يكون مخفّفاً من طيف كميت وميت أو كلين من لين لأنّ طاف المشددة يحتمل أن يكون من طاف يطيف ويحتمل أن يكون من طاف يطوف ، وقرأ باقي السبعة طائف اسم فاعل من طاف ، وقرأ ابن جبير طيف بالتشديد وهو فيعل وإلى أن الطيف مصدر مال الفارسي جعل الطيف كالخطرة والطائف

" صفحة رقم 446 "
كالخاطر ، وقال الكسائي : الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإنسان . قال ابن عطية : وكيف هذا ؟ وقد قال الأعشى : وتصبح عن غب السّرى وكأنها
ألمّ بها من طائف الجن أولق
انتهى . ولا يتعجب من تفسير الكسائي الطائف بأنه ما طاف حول الإنسان بهذا البيت لأنه يصح فيه معنى ما قاله الكسائي لأنه إن كان تعجبه وإنكاره من حيث خصّص الإنسان والذي قاله الأعشى تشبيه لأنه قال كأنها وإن كان تعجّبه من حيث فسّر بأنه ما طاف حول الإنسان ، فطائف الجن يصك أن يقال طاف حول الإنسان وشبه هو الناقة في سرعتها ونشاطها وقطعها الفيافي عجلة بحالتها إذا ألمّ بها أولق من طائف الجنّ ، وقال أبو زيد : طاف أقبل وأدبر يطوف طوفاً وطوافاً وأطاف استدار القوم وأتاهم من نواحيهم ، وطاف الخيال ألمّ يطيف طيفاً وزعم السهيلي أنه لم يقل اسم فاعل من طاف الخيال قال : لأنه تخيل لا حقيقة وأما فطاف عليها طائف من ربك فلا يقال فيه طيف لأنه اسم فاعل حقيقة انتهى ، وقال حسّان : جنّيّة أرّقني طيفها
تذهب صبحاً وتُرى في المنام
وقال ابن عباس : هما بمعنى النزع ، وقال السدّي : الطيف الجنون ، والطائف الغضب ، وقال أبو عمرو : هما بمعنى الوسوسة ، وقيل : هما بمعنى اللمم والخيال ، وقيل : الطيف النخيل ، والطائف الشيطان ، وقال مجاهد : الطيف الغضب ويسمى الجنون والغضب والوسوسة طيفاً لأنه لمّة من الشيطان ، وقال عبد الله بن الزبير والسدّي : إذا زلوا تابوا ، وقال مجاهد : إذا همّوا بذنب ذكروا الله فتركوه ، وقال ابن جبير : إذا غضب كظم غيظه ، وقال مقاتل : إذا أصابه نزغ تذكر وعرف أنها معصية نزع عنها مخافة الله تعالى ، وقال أبو روق : ابتهلوا ، وقال ابن بحر : عاذوا بذكر الله ، وقيل : تفكّروا فأبصروا وهذه كلها أقوال متقاربة وسب عصام بن المصطلق الشامي الحسين بن علي رضي الله عنه سبًّا مبالغاً وأباه إذ كان مبغضاً لأبيه فقال الحسين بن علي : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم خذ العفو وأمر بالعرف إلى قوله فإذا هم مبصرون ، ثم قال : خفض عليك أستغفر الله لي ولك ودعا له في حكاية فيها طول ظهر فيها من مكارم أخلاقه وسعة صدره وحوالة الأشياء على القدر ما صيّر عصاما أشد الناس حبا له ولأبيه وذلك باستعماله هذه الآية الكريمة وأخذ بها ، ومبصرون هنا من البصيرة لا من البصر ، وقرأ ابن الزبير من الشيطان تأملوا وفي مصحف أبي إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا فإذا هم مبصرون وينبغي أن يحمل هذا ، وقراءة ابن الزبير على أن ذلك من باب التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد ما أجمع المسلمون عليه من ألفاظ القرآن .
الأعراف : ( 202 ) وإخوانهم يمدونهم في . . . . .
( وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ). الضمير في وإخوانهم عائد على الجاهلين أو على ما دل عليه قوله إن الذين اتقوا وهم غير المتقين لأن الشيء قد يدل على مقابله فيضمر ذلك المقابل لدلالة مقابله عليه وعنى بالإخوان على هذا التقدير الشياطين كأنه قيل : والشياطين الذين هم إخوان الجاهلين أو غير المتقين يمدّون الجاهلين أو غير المتقين في الغيّ فالواو وفي يمدّونهم ضمير الإخوان فيكون الخبر جارياً على من هو له والضمير المجرور والمنصوب للكفار وهذا قول قتادة ، وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعودا جميعاً على الشياطين ويكون المعنى وإخوان الشياطين في الغيّ بخلاف الأخوة في الله يمدون الشياطين أي بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ولا يترتب هذا التأويل على أن يتعلق في الغيّ بالإمداد لأنّ

" صفحة رقم 447 "
الإنس لا يعودون الشياطين انتهى ، ويمكن أن يتعلق في الغيّ على هذا التأويل بقوله يمدّونهم على أن تكون في للسببية أي يمدّونهم بسبب غوايتهم نحو دخلت امرأة النار في هرة أي بسبب هرة ، ويحتمل أن يكون في الغيّ حالاً فيتعلق بمحذوف أي كائنين ومستقرين في الغيّ فيبقى في الغيّ في موضعه لا يكون منعلقاً بقوله وإخوانهم وقد جوز ذلك ابن عطية وعندي في ذلك نظر فلو قلت : مطعمك زيد لحماً تريد مطعمك لحماً زيد فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر لكان في جواز نظر لأنك فصلت بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاً وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما الذي هو المبتدأ ويحتمل أن يختلف الضمير فيكون في وإخوانهم عائد على الشياطين الدالّ عليهم الشيطان أو على الشيطان نفسه باعتبار أنه يراد به الجنس نحو قوله : أولياؤهم الطاغوت المعنى الطواغيت ويكون في يمدّونهم عائد على الكفار والواو في يمدّونهم عائدة على الشياطين وإخوان الشياطين يمدّونهم الشياطين ويكون الخبر جرى على غير من هو له ، لأن الإمداد مسند إلى الشياطين لا لإخوانهم وهذا نظير قوله :
قوم إذا الخيل جالوا في كواثيها
وهذا الاحتمال هو قول الجمهور وعليه فسّر الطبري ، وقال الزمخشري : هو أوجه لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا ، وقرأ نافع يمدونهم مضارع أمدّ ، وباقي السبعة يمدونهم من مدّ وتقدم الكلام على ذلك في قوله ويمدّهم في طغيانهم يعمهون ، وقرأ الجحدري يمادّونهم من مادّ على وزن فاعل ، وقرأ الجمهور : لا يقصرون من أقصر أي كفّ . قال الشاعر : لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر
ولا مقصر يوماً فيأتيني بقر
أي ولا هو نازع عما هو فيه ، وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بن عمر ثم لا يقصّرون من قصر أي ثم لا ينقصون من إمدادهم وغوايتهم وقد أبعد الزجاج في دعواه أن قوله وإخوانهم الآية متصل بقوله ) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ( ولا حاجة إلى تكلف ذلك بل هو كلام متناسق أخذ بعضه بعنق بعض لما بين حال المتّقين مع الشياطين بين حال غير المتقين معهم وأن أولئك ينفس ما يمسهم من الشيطان ماس أقلعوا على الفور وهؤلاء في إمداد من الغيّ وعدم نزوع عنه .
الأعراف : ( 203 ) وإذا لم تأتهم . . . . .
( وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا ). روى أنّ الوحي كان يتأخر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أحياناً فكان الكفار يقولون : هلا اجتبيتها ومعنى اللفظة في كلام العرب تخيرتها واصطفيتها ، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم : المراد هلا اخترعتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك والمعنى أنّ كلامك كله كذلك على ما كانت قريش تدعيه كما قالوا ما هذا إلا إفك مفتري ، قال الفرّاء تقول العرب اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك ، وقال الزمخشري : اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه أي جمعه كقوله اجتمع أو جبى إليه فاجتباه أي أخذه كقولك : جليت العروس إليه

" صفحة رقم 448 "
فاجتلاها والمعنى هلا اجتمعتها افتعالاً من قبل نفسك ، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك : هلا تلقيتها ، وقال الزمخشري هلاّ أخذتها منزلة عليك مقترحة انتهى ، وهذا القول منهم من نتائج الإمداد في الغيّ كانوا يطلبون آيات معينة على سبيل التعنّت كقلب الصفا ذهباً وإحياء الموتى وتفجير الأنهار وكم جاءتهم من آية فكذبوا بها واقترحوا غيرها .
( قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى ( بيّن أنه ليس مجيء الآيات إليه إنما هو متبع ما أوحاه الله تعالى إليه ولست بمفتعلها ولا مقترحها . ) هَاذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ ( أي هذا الموحى إليّ الذي أنا أتبعه لا أبتدعه وهو القرآن بصائر أي حجج وبينات يبصر بها وتتضح الأشياء الخفيّات وهي جمع بصيرة كقوله على بصيرة أنا ومن اتبعني أي على أمر جليّ منكشف وأخبر عن المفرد بالجمع لاشتماله على سور وآيات ، وقيل : هو على حذف مضاف أي ذو بصائر . ) وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( أي دلالة إلى الرّشد ورحمة في الدارين وفي الدين والدنيا وخصّ المؤمنين لأنهم الذين يستبصرون وهم الذين ينتفعون بالوحي يتبعون ما أمر به فيه ويجتنبون ما ينهون عنه فيه ويؤمنون بما تضمنه ، وقال أبو عبد الله الرازي : أصل البصيرة الإبصار لما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلالة التوحيد والنبوة والمعاد أطلق عليه اسم البصيرة تسميةً للسبب باسم المسبّب والناس في معارف التوحيد والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام ، أحدها : الذين بالغوا في هذه المعارف إلى حيث صاروا كالمشاهدين لها وهم أصحاب عين اليقين فالقرآن في حقهم بصائر ، والثاني : الذين وصلوا إلى درجات المستدلين وهم أصحاب علم اليقين فهو في حقهم هدى ، والثالث : من اعتقد ذلك الإعتقاد الجزم وإنْ لم يبلغ مرتبة المستدلّين وهم عامة المؤمنين فهو في حقهم رحمة ، ولما كانت هذه الفرق الثلاث من المؤمنين قال لقوم يؤمنون انتهى ، وفيه تكميل وبعض تلخيص .
الأعراف : ( 204 ) وإذا قرئ القرآن . . . . .
( وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( لما ذكر أن القرآن بصائر وهدى ورحمة أمر باستماعه إذا شرع في قراءته وبالإنصات وهو السكوت مع الإصغاء إليه لأنّ ما اشتمل على هذه الأوصاف من البصائر والهدى والرحمة حريّ بأن يصغي إليه حتى يحصل منه للمنصت هذه النتائج العظيمة وينتفع بها فيستبصر من العمى ويهتدي من الضلال ويرحم بها والظاهر استدعاء الاستماع والإنصاب إذا أخذ في قراءة القرآن ومتى قرىء ، وقال ابن مسعود وأبو هريرة وجابر وعطاء وابن المسيب والزهري وعبيد الله بن عمر : إنها في المشركين كانوا إذا صلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه فنزلت جواباً لهم ، وقال عطاء أيضاً وابن جبير ومجاهد وعمرو بن دينار وزيد بن أسلم والقاسم بن عمخيمرة ومسلم بن يسار وشهر بن حوشب وعبد الله بن المبارك : هي في الخطبة يوم الجمعة وضعف هذا القول بأنّ ما يقرأ في الخطبة من القرآن قليل وبأنّ الآية مكية والخطبة لم تكن إلا بعد الهجرة من مكة ، وقال ابن جبير إنها في الأنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر فيه الإمام من الصلاة ، وقال ابن مسعود أيضاً : كان يسلم بعضنا على بعض في الصلاة ويكلمه في حاجته فأمرنا بالسكوت في الصلاة بهذه الآية ، وقال ابن عباس : قرأ في الصلاة المكتوبة وقرأ الصحابة رافعي أصواتهم فخلطوا عليه فالآية فيهم ، وقيل : هو أمر بالاستماع والإنصات إذ أدّى الوحي ، وقال جماعة منهم الزجاج : ليس المراد الصلاة ولا غيرها وإنما المراد بقوله فاستمعوا له وأنصتوا اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه ، كقولك : سمع الله دعاءك أي أجابك ، وقال الحسن : هي على عمومها ففي أي موضع قرىء القرآن وجب على كل حاضر استماعه والسكوت والخطاب في قوله فاستمعوا إن كان للكفار فترجى لهم الرحمة باستماعه والإصغاء إليه بأن كان سبباً لإيمانهم وإن كان للمؤمنين

" صفحة رقم 449 "
فرحمتهم هو ثوابهم على الاستماع والإنصات والعمل بمقتضاه ، وإن كان للجميع فرحمة كلّ منهم على ما يناسبه ولعلّ باقية على بابها من توقع الترجي ، وقيل : هي للتعليل .
الأعراف : ( 205 ) واذكر ربك في . . . . .
( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْغَافِلِينَ ). لما أمرهم تعالى بالاستماع والإنصات إذا شرع في قراءة القرآن ارتقى من أمرهم إلى أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يذكر ربه في نفسه أي بحيث يراقبه ويذكره في الحالة التي لا يشعر بها أحد وهي الحالة الشريفة العليا ، ثم أمره أن يذكره دون الجهر من القول أي يذكره بالقول الخفي الذي لا يشعر بالتذلّل والخشوع من غير صياح ولا تصويت شديد كما تناجى الملوك وتستجلب منهم الرغائب ، وكما قال للصحابة وقد جهروا بالدعاء إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً اربؤوا على أنفسكم وكان كلام الصحابة رضي الله عنهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) سراراً وكما قال تعالى : ) إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( وقال تعالى : ) لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ ( لأنّ في الجهر عدم مبالاة بالمخاطب وظهور استعلاء وعدم تذلّل والذكر شامل لكلّ من التهليل والتسبيح وغير ذلك وانتصب تضرّعاً وخيفة على أنهما مفعولان من أجلهما لأنهما يتسبب عنهما الذكر وهو التضرّع في اتصال الثواب والخوف من العقاب ويحتمل أن ينتصبا على أنهما مصدران في موضع الحال أي متضرعاً وخائفاً أو ذا تضرُّع وخيفة ، وقرىء وخفية والظاهر أن قوله واذكر خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقيل : خطاب لكلّ ذاكر ، وقال ابن عطية : خطاب له ويعمّ جميع أمته ، والظاهر تعلّق الذكر بالرب تعالى لأنّ استحضار الذات المقدسة استحضار لجميع أوصافها ، وقيل : هو على حذف مضاف أي واذكر نعم ربك في نفسك باستدامة الفكر حتى لا تنسى نعمه الموجبة لدوام الشكر ، وفي لفظة ربك من التشريف بالخطاب والإشعار بالإحسان الصادر من المالك للملوك ما لا خفاء فيه ولم يأت التركيب واذكر الله ولا غيره من الأسماء وناسب أيضاً لفظ الرب قوله تضرعاً وخيفة لأنّ فيه التصريح بمقام العبودية والظاهر أن قوله ودون الجهر من القول حالة مغايرة لقوله في نفسك لعطفها عليها والعطف يقتضي التغاير ، وقال ابن عطية : والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس ولا يراعى إلا بحركة اللسان قال : ويدل عليه من هذه الآية قوله تعالى ودون الجهر من القول فهذه مرتبة السرّ والمخافتة باللفظ انتهى ، ولا دلالة في ذلك لما زعم بل الظاهر المغايرة بين الحالتين وأنهما ذكران نفساني ولساني ، ولذلك قال الزمخشري ومتكلماً كلاماً دون الجهر لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى جنس التفكر انتهى ، ولما ذكر حالتي الذكر وسببهما وهما التضرُّع والخفية ذكر أوقات الذكر فقيل : أراد خصوصية الوقتين لأنهم كانوا يصلون في وقتين قبل فرض الخمس ، وقال قتادة : الغدوّ صلاة الصبح والآصال : صلاة العصر ، وقيل : خصهما بالذكر لفضلهما ، وقيل : المعنى جميع الأوقات وعبر بالطرفين المشعرين بالليل والنهار والغدوّ ، قيل : جمع غدوة فعلى هذا تظهر المقابلة لاسم جنس بجمع ويكون المراد بالغدوات والعشايا وإن كان مصدر الغداء فالمراد بأوقات الغدوّ حتى يقابل زمان مجموع بزمان مجموع . وقرأ أبو مجلز لاحق بن حميد السدوسي البصري والإيصال جعله مصدراً لقولهم آصلت أي دخلت في وقت الأصيل فيكون قد قابل مصدراً بمصدر ويكون كأعصر أي دخل في العصر وهو العشي وأعتم أي دخل في العتمة ، ولما أمره بالذكر أكد ذلك بالنهي عن أن يكون من الغافلين أي استلزم الذكر ولا تغفل طرفة عين ومعلوم أنه عليه السلام تستحيل عليه الغفلة لعصمته فهو نهي له ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمراد أمته .
الأعراف : ( 206 ) إن الذين عند . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ( هم الملائكة عليهم السلام ومعنى العنديّة الزّلفى والقرب منه تعالى بالمكانة لا بالمكان وذلك لتوفّرهم على طاعته وابتغاء مرضاته ولما أمر تعالى بالذكر ورغب في المواعيظ عليه ذكر من شأنهم ذلك فأخبر عنهم بأخبار ثلاثة ، الأول نفي : الاستكبار عن عبادته وذلك هو إظهار العبوديّة

" صفحة رقم 450 "
ونفي الاستكبار هو الموجب للطاعات كما أن الاستكبار هو الموجب للعصيان لأنّ المستكبر يرى لنفسه شفوفاً ومزية فيمنعه ذلك من الطاعة ، الثاني : إثبات التسبيح منهم له تعالى وهو التنزيه والتطهير عن جميع ما لا يليق بذاته المقدّسة ، والثالث : السجود له قيل : وتقديم المجرور يؤذن بالاختصاص أي لا يسجدون إلا له والذي يظهر أنه إنما قدم المجرور ليقع الفعل فاصلة فاخره لذلك ليناسب ما قبله من رؤوس الآي ولما كانت العبادة ناشئة عن انتفاء الاستكبار وكانت على قسمين عبادة قلبية وعبادة جسمانية ذكرهما ، فالقلبية تنزيه الله تعالى عن كل سوء والجسمانية السجود وهو الحال التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى وفي الحديث أطّت السماء وحقّ لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد وله يسجدون هو مكان سجدة وقيل : سجود التلاوة أربع سجدات ) الم تَنزِيلَ ( ) مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ ( والنجم والعلق وذكر عن ابن عباس أنها عشر أسقط آخر الحج وص وثلاثاً في المفصل وروي عن مالك إحدى عشرة أسقط آخرة الحج وثلاث المفصل ، وعن ابن وهب أربع عشرة أسقط ثانية الحجّ وهو قول أبي حنيفة والشافعي لكن أبو حنيفة أسقط ثانية الحج وأثبت ص وعكس الشافعي وعن ابن وهب أيضاً وابن حبيب خمس عشرة آخرها خاتمة العلق وعن بعض العلماء ست عشرة وزاد سجدة الحجر والجمهور على أنه ليس بواجب وقال أبو حنيفة هو واجب ولا خلاف في أن شرطه شرط الصلاة من طهارة خبث وحدث ونيّة واستقبال ووقت إلا ما روى البخاري عن ابن عمرو وابن المنكدر عن الشعبي أنه يسجد على غير طهارة وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبر ويرفع اليدين وقال مالك يكبر لها في الخفض ، والرفع في الصلاة وأما في غير الصلاة فاختلف عنه ويسلّم عند الجمهور ، وقال جماعة من السلف وإسحاق : لا يسلم ووقتها سائر الأوقات مطلقاً لأنها صلاة بسبب وهو قول الشافعي وجماعة ، وقيل : ما لم يسفر ولم تصفرّ الشمس ، وقيل : لا يسجد بعد الصبح ولا بعد العصر وقيل بعد الصبح لا بعد العصر ، وثلاثة الأقوال هذه في مذهب مالك ، وفي سنن ابن ماجه عن ابن عباس أنه عليه السلام : كان يقول في سجود التلاوة ( اللهم احطط عني بها وزراً واكتب لي بها أجراً واجعلها لي عندك ذخراً ) ، ومشهور مذهب مالك أنه لا يسجد في الفريضة سرًّا كانت أو جهراً ومذهب أبي حنيفة أنه واجب على السامع قصد الاستماع أوّلاً . والحمد لله أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً .

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدليل البديل

مجلد1 ومجلد 2. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغز... مجلد3.و 4. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغزالي أ... مجلد 5.و6. إحياء علوم الدين محمد...