19 / مجلد 19. و20. تفسير البحر المحيط ـ موافق للمطبوع محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي
"
صفحة رقم 424 "
بعنق بعض . وذلك باتصال الضمائر لشيء واحد ، ويكون هذا التشبيه مطابقاً لأعمالهم
من حيث أنهم اعتقدوها نافعة فلم تنفعهم وحصل لهم الهلاك بأثر ما حوسبوا . وأما في
قول الزمخشري : فإنه وإن جعل الضمائر للظمآن لكنه جعل ) الظَّمْانُ ( هو الكافر
وهو تشبيه الشيء بنفسه كما قال . وشبه الماء بعد الجهد بالماء . وأما في قول غيره
: ففيه تفكيك الكلام إذ غاير بين الضمائر وانقطع ترصيف الكلام بجعل بعضه مفلتاً من
بعض .
النور : ( 40 ) أو كظلمات في . . . . .
( أَوْ كَظُلُمَاتٍ ( هذا التشبيه الثاني لأعمالهم فالأول فيما يؤول إليه أعمالهم
في الآخرة ، وهذا الثاني فيما هم عليه في حال الدنيا . وبدأ بالتشبيه الأول لأنه
آكد في الإخبار لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم والعذاب
السرمدي . ثم أتبعه بهذا التمثيل الذي نبههم على ما هي أعمالهم عليه لعلهم يرجعون
إلى الإيمان ويفكرون في نور الله الذي جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ،
والظاهر أنه تشبيه لأعمالهم وضلالهم بالظلمات المتكاثفة .
وقال أبو علي الفارسي : التقدير أو كذي ظلمات ، قال : ودل على هذا المضاف قوله )
إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ ( فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف ، فالتشبيه وقع عند أبي
عليّ للكافر لا للأعمال وهو خلاف الظاهر ، ويتخيل في تقرير كلامه أن يكون التقدير
أو هم كذي ظلمات فيكون التشبيه الأول لأعمالهم . والثاني لهم في حال ضلالهم . وقال
أبو البقاء : في التقدير وجهان أحدهما : أو كأعمال ذي ظلمات ، فيقدر ذي ظلمات
ليعود الضمير من قوله ) إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ ( إليه ، ويقدر أعمال ليصح تشبيه أعمال
الكفار بأعمال صاحب الظلمة إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمات . والثاني : لا
حذف فيه ، والمعنى أنه شبه أعمال الكفار بالظلمة في حيلولتها بين القلب وبين ما
يهتدى إليه ، فأما الضمير في قوله ) إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ ( فيعود إلى مذكور حذف
اعتماداً على المعنى تقديره إذا أخرج من فيها يده .
وقال الجرجاني : الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار . والثانية في ذكر كفرهم ونسق
الكفر على أعمالهم لأن الكفر أيضاً من أعمالهم ، وقد قال تعالى يخرجهم من الظلمات
إلى النور . من الكفر إلى الإيمان ، فيكون التمثيل قد وقع لأعمالهم بكفر الكافر و
) أَعْمَالَهُمْ ( منها كفرهم ، فيكون قد شبه ) أَعْمَالَهُمْ ( بالظلمات ، والعطف
بأو هنا لأنه قصد التنويع والتفصيل لا أن ) أَوْ ( للشك . وقال الكرماني : ) أَوْ
( للتخيير على تقدير شبه أعمال الكفار بأيهما شئت .
وقرأ سفيان بن حسين ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ ( بفتح الواو جعلها واو عطف تقدّمت عليها
الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام . والظاهر أن الضمير في )
يَغْشَاهُ ( عائد على ) بَحْرٍ لُّجّىّ ( أي يغشى ذلك البحر أي يغطي بعضه بعضاً ،
بمعنى أن تجيء موجة تتبعها أخرى فهو متلاطم لا يسكن ، وأخوف ما يكون إذا توالت
أمواجه ، وفوق هذا الموج ) سَحَابٌ ( وهو أعظم للخوف لإخفائه النجوم التي يهتدى
بها ، وللريح والمطر الناشئين مع السحاب . ومن قدر أو كذي ظلمات أعاد الضمير في )
يَغْشَاهُ ( على ذي المحذوف ، أي يغشى صاحب الظلمات .
وقرأ الجمهور ) سَحَابٌ ( بالتنوين ) ظُلُمَاتِ ( بالرفع على تقدير خبر لمبتدأ
محذوف ، أي هذه أو تلك ) ظُلُمَاتِ ( وأجاز الحوفي أن تكون مبتدأ و ) بَعْضُهَا
فَوْقَ بَعْضٍ ( مبتدأ وخبره في موضع خبر ) ظُلُمَاتِ ). والظاهر أنه لا يجوز لعدم
المسوغ فيه للابتداء بالنكرة إلاّ إن قدرت صفة محذوفة أي ظلمات كثيرة أو عظيمة )
بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ). وقرأ البزي ) سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ ( بالإضافة . وقرأ
قنبل ) سَحَابٌ ( بالتنوين ) ظُلُمَاتِ ( بالجر بدلاً من ) ظُلُمَاتِ ( و )
بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ( مبتدأ وخبر في موضع الصفة لكظلمات .
قال الحوفي : ويجوز على رفع ) ظُلُمَاتِ ( أن يكون ) بَعْضَهَا ( بدلاً منها ، وهو
لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله أعلم الأخبار بأنها ظلمات ، وأن بعض تلك
الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة وليس على الأخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من
غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة . وتقدم الكلام في كاد إذا دخل
عليها حرف نفي مشبعاً في البقرة في قوله ) وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ( فأغنى عن
إعادته ، والمعنى هنا انتفاء مقاربة الرؤية ، ويلزم من ذلك انتفاء الرؤية ضرورة
وقول من اعتقد زيادة يكد أو أنه يراها بعد عسر ليس بصحيح ، والزيادة قول ابن
الأنباري وأنه لم يرها إلاّ بعد الجهد قول المبرد والفراء .
وقال ابن عطية ما معناه : إذا كان الفعل بعد كان منفياً دل على ثبوته نحو كاد
" صفحة رقم 425 "
زيد لا يقوم ، أو مثبتاً دل على نفيه كاد زيد يقوم ، وإذا تقدم النفي على كاد
احتمل أن يكون منفياً تقول : المفلوخ لا يكاد يسكن فهذا تضمن نفي السكون . وتقول :
رجل منصرف لا يكاد يسكن فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد انتهى . والظاهر أن هذا
التشبيه الثاني هو تشبيه أعمال الكفار بهده الظلمات المتكاثفة من غير مقابلة في
المعنى بأجزائه لا جزاء المشبه .
قال الزمخشري : وشبهها يعني أعماله في ظلمتها وسوادها لكونا باطلة ، وفي خلوها عن
نور الحق بظلمات متراكمة من لجج البحر والأمواج والسحاب ، ومنهم من لاحظ التقابل
فقال : الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة . والبحر اللجيّ صدر الكافر
وقلبه ، والموج الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة والسحاب شهوته في
الكفر وإعراضه عن الإيمان .
وقال الفراء : هذا مثل لقلب الكافر أي إنه يعقل ولا يبصر . وقيل : ) الظُّلُمَاتِ
( أعماله والبحر هواه . القيعان القريب الغرق فيه الكثير الخطر ، والموج ما يغشى
قلبه من جهل وغفلة ، والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة ، والسحاب ما يغشاه من
شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء على عكس ما في مثل نور الدين انتهى . والتفسير
بمقابلة الأجزاء شبيه بتفسير الباطنية ، وعدول عن منهج كلام العرب .
ولما شبه أعمال الكفار بالظلمات المتراكمة وذكر أنه لا يكاد يرى اليد من شدة
الظلمة قال ) وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً ( أي من لم ينور قلبه بنور
الإيمان ويهده إليه فهو في ظلمة ولا نور له ، ولا يهتدي أبداً . وهذا النور هو في
الدنيا . وقيل : هو في الآخرة أي من لم ينوره الله بعفوه ويرحمه برحمته له ، وكونه
في الدنيا أليق بلفظ الآية وأيضاً فذلك متلازم لأن نور الآخرة هو لمن نور الله
قلبه في الدنيا . وقال الزمخشري : ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه فهو في
ظلمة الباطل لا نور له . وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات لأن الألطاف إنما نردف
الإيمان والعمل الصالح أو كونهما مرتقبين ، ألا ترى إلى قوله ) وَالَّذِينَ
جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( وقوله ) وَيُضِلُّ اللَّهُ
الظَّالِمِينَ ( انتهى . وهو على طريقة الاعتزال .
2 ( ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ
رْضِ وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَإِلَى
اللَّهِ الْمَصِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ
بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن
يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالاٌّ
بْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً
لأُوْلِى الاٌّ بْصَارِ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ
مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ
مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ لَّقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ
يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ) ) 2
النور : ( 41 ) ألم تر أن . . . . .
لما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر وأن الإيمان والضلال أمرهما راجع إليه أعقب بذكر
الدلائل على قدرته وتوحيده ، والظاهر حمل التسبيح على حقيقته وتخصيص ) مِنْ ( في
قوله ومن في الأرض بالمطيع لله تعالى من الثقلين . وقيل : ) مِنْ ( عام لكل موجود
غلب من يعقل على ما لا يعقل ، فأدرج ما لا يعقل فيه ويكون المراد بالتسبيح دلالته
بهده الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص موصوفاً بنعوت الكمال . وقيل :
المراد بالتسبيح التعظيم فمن ذي الدين بالنطق والصلاة ومن غيرهم من مكلف وجماد
بالدلالة ، فيكون ذلك قدراً مشتركاً بينهما وهو التعظيم . وقال سفيان : تسبيح كل
شيء بطاعته وانقياده .
( وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ( أي صفت أجنحتها في الهواء للطيران ، وإنما خص الطير
بالذكر لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت فهي خارجة من جملة ) مَن فِى
السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( حالة طيرانها . وقرأ الجمهور ) وَالطَّيْرُ ( مرفوعاً
عطفاً على ) مِنْ ( و ) صَافَّاتٍ ( نصب على الحال . وقرأ الأعرج ) وَالطَّيْرُ (
بالنصب على أنه مفعول معه . وقرأ الحسن وخارجة عن نافع ) وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ (
برفعهما مبتدأ وخبر تقديره يسبحن . قيل : وتسبيح الطير حقيقي قاله الجمهور . قال
الزمخشري : ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم
الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها . وقال الحسن وغيره : هو تجوّز إنما
تسبيحه ظهور الحكمة فيه فهو لذلك يدعو إلى التسبيح .
( كُلٌّ ( أي كل ممن ذكر ، فيشمل الطير والظاهر أن الفاعل المستكن في ) عِلْمٍ (
وفي
" صفحة رقم 426 "
) صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ( عائد على ) كُلٌّ ( وقاله الحسن قال : فهو مثابر
عليهما يؤديهما . وقال الزجاج : الضمير في ) عِلْمٍ ( وفي ) صَلاَتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ ( لكل . وقيل : الضمير في ) عِلْمٍ ( لكل وفي ) صَلاَتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ ( لله أي صلاة الله وتسبيحه اللذين أمر بهما وهدى إليهما ، فهذه
إضافة خلق إلى خالق . وقال مجاهد : الصلاة للبشر والتسبيح لما عداهم .
وقرأ الحسن وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمر وتفعلون بتاء الخطاب ، وفيه وعيد وتخويف
.
النور : ( 42 ) ولله ملك السماوات . . . . .
و ) وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( إخبار بأن جميع المخلوقات تحت
ملكه يتصرف فيهم بما يشاء تصرف القاهر الغالب . وإليه ) الْمَصِيرُ ( أي إلى جزائه
من ثواب وعقاب . وفي ذلك تذكير وتخويف .
النور : ( 43 - 44 ) ألم تر أن . . . . .
ولما ذكر انقياد من في السموات والأرض والطير إليه تعالى وذكر ملكه لهذا العالم
وصيرورتهم إليه أكد ذلك بشيء عجيب من أفعاله مشعر بانتقال من حال إلى حال . وكان
عقب قوله وإليه المصير فاعلم بانتقال إلى المعاد فعطف عليه ما يدل على تصرفه في
نقل الأشياء من حال إلى حال ومعنى ) يُزْجِى ( يسوق قليلاً قليلاً ويستعمل في سوق
الثقيل برفق كالسحاب والإبل ، والسحاب اسم جنس واحده سحابة ، والمعنى يسوق سحابة
إلى سحابة . ) ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ( أي بين أجزائه لأنه سحابة تتصل بسحابة
فجعل ذلك ملتئماً بتأليف بعض إلى بعض . وقرأ ورش يولف بالواو ، وباقي السبعة
بالهمز وهو الأصل . فيجعله ) رُكَاماً ( أي متكاثفاً يجعل بعضه إلى بعض ، وانعصاره
بذلك ) مِنْ خِلاَلِهِ ( أي فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار . والخلال
: قيل مفرد . وقيل : جمع خلل كجبال وجبل . وقرأ ابن مسعود وابن عباس والضحاك ومعاذ
العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من خلله بالإفراد ، والظاهر أن في السماء جبالاً من
برد قاله مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين : خلقها الله كما خلق في الأرض جبالاً من
حجر . وقيل : جبال مجاز عن الكثرة لا أن في السماء جبالاً كما تقول : فلان يملك
جبالاً من ذهب ، وعنده جبال من العلم يريد الكثرة . قيل : أو هو على حذف حرف
التشبيه .
و ) السَّمَاء ( السحاب أي ) مّنَ السَّمَاء ( التي هي جبال أي كجبال كقوله )
حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً ( أي كنار قاله الزجاج ، فجعل السماء هو السحاب
المرتفع سمي بذلك لسموه وارتفاعه . وعلى القول الأول المراد بالسماء الجسم الأزرق
المخصوص وهو المتبادر للذهن ، ومن استعماله الجبال في الكثرة مجازاً قول ابن مقبل
: إذا مت عن ذكر القوافي فلن
ترى لها شاعراً مني أطلب وأشعرا
وأكثر بيتاً شاعراً ضربت له
بطون جبال الشعر حتى تيسرا
واتفقوا على أن
" صفحة رقم 427 "
) مِنْ ( الأولى لابتداء الغاية . وأما ) مِن جِبَالٍ ). فقال الحوفي : هي بدل من
) السَّمَاء ( ثم قال : وهي للتبعيض ، وهذا خطأ لأن الأولى لابتداء الغاية في ما
دخلت عليه ، وإذ كانت الثانية بدلاً لزم أن يكون مثلها لابتداء الغاية ، لو قلت :
خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معاً لابتداء الغاية . وقال الزمخشري وابن
عطية : هي للتبعيض فيكون على قولهما في موضع المفعول لينزل . قال الحوفي والزمخشري
: والثانية للبيان انتهى . فيكون التقدير وينزل من السماء بعض جبال فيها التي هي
البرد فالمنزل برد لأن بعض البرد برد فمفعول ) يُنَزّلٍ ( ) مِن جِبَالٍ ).
قال الزمخشري : أو الأولان للابتداء والأخيرة للتبعيض ، ومعناه أنه ينزل البرد من
السماء من جبال فيها انتهى . فيكون ) مِن جِبَالٍ ( بدلاً ) مّنَ السَّمَاء ).
وقيل : ) مِنْ ( الثانية والثالثة زائدتان وقاله الأخفش ، وهما في موضع نصب عنده
كأنه قال : وينزل من السماء جبالاً فيها أي في السماء برداً وبرداً بدل أي برد
جبال . وقال الفراء : هما زائدتان أي جبالاً فيها برد لا حصى فيها ولا حجر ، أي
يجتمع البرد فيصير كالجبال على التهويل فبرد مبتدأ وفيها خبره . والضمير في )
فِيهَا ( عائد على ) الْجِبَالُ ( أو فاعل بالجار والمجرور لأنه قد اعتمد بكونه في
موضع الصفة لجبال . وقيل : ) مِنْ ( الأولى والثانية لابتداء الغاية ، والثالثة
زائدة أي ) وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ ( السماء برداً . وقال الزجاج :
معناه ) وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ ( برد فيها كما تقول : هذا خاتم في
يدي من حديد ، أي خاتم حديد في يدي ، وإنما جئت في هذا وفي الآية بمن لما فرقت ،
ولأنك إذا قلت : هذا خاتم حديد كان المعنى واحداً انتهى . فعلى هذا يكون ) مِن
بَرَدٍ ( في موضع الصفة لجبال ، كما كان من في من حديد صفة لخاتم ، فيكون في موضع
جر ويكون مفعول ) يُنَزّلٍ ( هو ) مِن جِبَالٍ ( وإذا كانت الجبال ) مِن بَرَدٍ (
لزم أن يكون المنزل برداً . والظاهر إعادة الضمير في ) بِهِ ( على البرد ، ويحتمل
أن يكون أريد به الودق والبرد وجرى في ذلك مجرى اسم الإشارة . وكأنه قال : فيصيب
بذلك والمطر هو أعم وأغلب في الإصابة والصرف أبلغ في المنفعة والامتنان .
وقرأ الجمهور ) سَنَا ( مقصوراً ) بَرْقِهِ ( مفرداً . وقرأ طلحة بن مصرف سناء
ممدوداً ) بَرْقِهِ ( بضم الباء وفتح الراء جمع برقه بضم الباء ، وهي المقدار من
البرق كالغرفة واللقمة ، وعنه بضم الباء والراء اتبع حركة الراء لحركة الباء كما
اتبعت في ) ظُلُمَاتِ ( وأصلها السكون . والسناء بالمدّ ارتفاع الشأن كأنه شبه
المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان ، فإن ذلك صيب لا
يحس به بصر . وقرأ الجمهور ) يَذْهَبُ ( بفتح الياء والهاء وأبو جعفر ) يَذْهَبُ (
بضم الياء وكسر الهاء . وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئة أبي جعفر في هذه القراءة
قالا : لأن الياء تعاقب الهمزة وليس بصواب لأنه لم يكن ليقرأ إلاّ بما روي . وقد
أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أُبيّ وغيره ، ولم ينفرد
بها أبو جعفر بل قرأه شيبة كذلك وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار . وعلى
أن الباء بمعنى من والمفعول محذوف تقديره يذهب النور من الأبصار كما قال :
شع شرب النزيف ببرد ماء الحشرج يريد من برد . وتقليب الليل والنهار آيتان أحدهما
بعد الآخر أو زيادة هذا وعكسه ، أو يغير النهار بظلمة السحاب مرة وضوء الشمس أخرى
، ويغير الليل باشتداد ظلمته مرة وضوء القمر أخرى ، أو باختلاف ما يقدر فيهما من
الخير والنفع والشدة والنعمة والأمن ومقابلاتها ونحو ذلك أقوال أربعة إن في ذلك
إشارة إلى ما تقدم من الدلائل الدالة على وحدانيته من تسبيح من ذكر وتسخير السحاب
. وما يحدثه تعالى فيه من أفعاله حتى ينزل المطر فيقسم رحمته بين خلقه وإراءتهم
البرق في السحاب الذي يكاد يخطف الأبصار ويقلب الليل والنهار .
( لَعِبْرَةً ( أي اتّعاظاً . وخص أولو الأبصار بالاتّعاظ لأن البصر والبصيرة إذا
استعملا وصلا إلى إدراك الحق كقوله ) إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاْلْبَابِ ).
النور : ( 45 ) والله خلق كل . . . . .
وقرأ الجمهور ) خُلِقَ ( فعلاً ماضياً . ) كُلٌّ ( نصب . وقرأ حمزة والكسائي وابن
وثاب والأعمش خالق اسم فاعل مضاف إلى ) كُلٌّ ). والدابة : ما يحرك أمامه قدماً
ويدخل فيه الطير . قال الشاعر : دبيب قطا البطحاء في كل منهل والحوت وفي الحديث :
( دابة من البحر مثل الظرب ) . واندرج في ) كُلَّ دَابَّةٍ ( المميز وغيره ، فسهل
التفصيل بمن التي لمن يعقل وما لا يعقل إذا كان مندرجاً في العام ، فحكم له بحكمه
كان الدواب كلهم مميزون . والظاهر أن ) مِن مَّاء ( متعلق بخلق . و ) مِنْ (
لابتداء الغاية ، أي ابتدأ خلقها من الماء . فقيل : لما كان غالب الحيوان مخلوقاً
من الماء لتولده من النطفة أو لكونه لا يعيش إلاّ بالماء أطلق لفظ ) كُلٌّ (
تنزيلاً للغالب منزلة العام ، ويخرج عما خلق من ماء ما خلق من نور
" صفحة رقم 428 "
وهم الملائكة ، ومن نار وهم الجنّ ، ومن تراب وهم آدم . وخلق عيسى من الروح وكثير
من الحيوان لا يتولد من نطفة . وقيل ) كُلَّ دَابَّةٍ ( على العموم في هذه الأشياء
كلها وإن أصل جميع المخلوقات الماء ، فروي أن أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها
بعين الهيبة فصارت ماءً ، ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور ، ولما كان
المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة وكان الأصل الأول هو الماء قال : ) خَلَقَ
كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء ). وقال القفال : ليس ) مِن مَّاء ( متعلقاً بخلق وإنما
هو في موضع الصفة لكل دابة ، فالمعنى الإخبار أنه تعالى خلق كل دابة متولدة من
الماء أي متولدة من الماء مخلوقة لله تعالى . ونكر الماء هنا وعرف في )
وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ ( لأن المعنى هنا ) خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ ( من نوع من الماء مختص بهذه الدابة ، أو ) مِن مَّاء ( مخصوص وهو النطفة
، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة هوامّ وبهائم وناس كما قال ) يُسْقَى بِمَاء
واحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاْكُلِ ( وهنا قصد أن أجناس
الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء ، وذلك أنه هو الأصل وإن
تخللت بينها وبينه وسائط كما قيل : إن أصل النور والنار والتراب الماء .
وسمي الزحف على البطن مشياً لمشاكلته ما بعده من ذكر الماشين أو استعارة ، كما
قالوا : قد مشى هذا الأمر وما يتمشى لفلان أمر ، كما استعاروا المشفر للشفة والشفة
للجحفلة . والماشي ) عَلَى بَطْنِهِ ( الحيات والحوت ونحو ذلك من الدود وغيره . و
) عَلَى رِجْلَيْنِ ( الإنسان والطير والأربع لسائر حيوان الأرض من البهائم وغيرها
، فإن وجد من له أكثر من أربع . فقيل : اعتماده إنما هو على أربع ولا يفتقر في
مشيه إلى جميعها وقد ما هو أعرف في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة مشى من له
رجل وقوائم ، ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع . وفي مصحف أُبيّ ومنهم من
يمشي على أكثر ، فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان لكنه لم يثبت قرآناً ولعله ما
أورده قرآن بل تنبيهاً على أن الله خلق من يمشي على أكثر من أربع كالعنكبوت
والعقرب والرتيلاء وذي أربع وأربعين رجلاً وتسمى الاذن وهذا النوع لندوره لم يذكر
.
( يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء ( إشارة إلى أنه تعالى ما تعلقت به إرادة خلقه
أنشأه واخترعه ، وفي ذلك تنبيه على كثرة الحيوان وأنها كما اختلفت بكيفية المشيء
اختلفت بأمور أخر .
2 ( ) وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ
يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ وَمَآ أُوْلَائِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ
يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ
يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَائِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ
اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَآئِزُون وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ
طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ قُلْ أَطِيعُواْ
اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا
حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى
الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ
مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاٌّ رْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى
ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ
فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَآتُواْ الزَّكَواةَ
وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاٌّ رْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ
الْمَصِيرُ ( ) ) 2
النور : ( 47 ) ويقولون آمنا بالله . . . . .
نزلت إلى قوله ) إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( في المنافقين بسبب منافق اسمه بشر
، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ودعا هو إلى
كعب بن الأشرف فنزلت .
ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبع ذلك بذمّ قوم آمنوا بألسنتهم دون عقائدهم . )
ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ ( عن الإيمان . ) بَعْدَ ذَلِكَ ( أي بعد قولهم
) مِنَ ( ) وَمَا أُوْلَئِكَ ( إشارة إلى القائلين فينتفي عن جميعهم الإيمان ، أو
إلى الفريق المتولي فيكون ما سبق لهم من الإيمان ليس إيماناً إنما كان ادّعاء
باللسان من غير مواطأة بالقلب .
النور : ( 48 ) وإذا دعوا إلى . . . . .
وأفرد الضمير في ) لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ( وقد تقدم قوله ) إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ ( لأن حكم الرسول هو عن الله . قال الزمخشري : كقولك أعجبني زيد وكرمه
يريد كرم زيد ومنه :
" صفحة رقم 429 "
ومنهل من الفلافي أوسطه
غلسته قبل القطا وفرطه
أراد قبل فرط القطا انتهى . أي قبل تقدم القطا إليه . وقرأ أبو جعفر ) لِيَحْكُمَ
( في الموضعين مبنياً للمفعول و ) إِذَا ( الثانية للفجاءة . جواب ) إِذَا (
الأولى الشرطية ، وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل في إذا الشرطية خلافاً
للأكثرين من النحاة ، لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . وقد أحكم
ذلك في علم النحو .
النور : ( 49 ) وإن يكن لهم . . . . .
والظاهر أن ) إِلَيْهِ ( متعلق بيأتوا . والضمير في ) إِلَيْهِ ( عائد على الرسول
( صلى الله عليه وسلم ) ) . وأجاز الزمخشري أن يتعلق ) إِلَيْهِ ( بمذعنين قال :
لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص . وقد
رددنا عليه ذلك وفي ما رجح تهيئة العامل للعمل وقطعه عن العمل وهو مما يضعف ،
والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معه إلا الحق المرّ والعدل البحت يزورون عن
المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصومهم ، وإن ثبت لهم
الحق على خصم أسرع إليك كلهم ولم يرضوا إلا بحكومتك .
النور : ( 50 ) أفي قلوبهم مرض . . . . .
( أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَوْ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ ( ) أَمْ ( هنا
منقطعة والتقدير : بل ارتابوا بل أيخافون وهو استفهام توقيف وتوبيخ ، ليقروا بأحد
هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم ، وهذا التوقيف يستعمل في الأمور
الظاهرة مما يوبخ به ويذم ، أو مما يمدح به وهو بليغ جداً فمن المبالغة في الذم .
قول الشاعر : ألست من القوم الذين تعاهدوا
على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر
ومن المبالغة في المدح . قول جرير : ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
وقسم تعالى جهات صدودهم عن حكومته فقال ) أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( أي نفاق
وعدم إخلاص ) أَمِ ارْتَابُواْ ( أي عرضت لهم الريبة والشك في نبوته بعد أن كانوا
مخلصين ) أَمْ يَخَافُونَ ( أي يعرض لهم الخوف من الحيف في الحكومة ، فيكون ذلك
ظلماً لهم . ثم استدرك ببل أنهم ) هُمُ الظَّالِمُونَ ).
النور : ( 51 ) إنما كان قول . . . . .
وقرأ عليّ وابن أبي إسحاق والحسن ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ( بالرفع والجمهور
بالنصب . قال الزمخشري : والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لكان أو غلهما
في التعريف و ) أَن يَقُولُواْ ( أو غل
" صفحة رقم 430 "
لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين . وكان هذا من قبيل كان في قوله )
مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( ) مَّا يَكُونُ لَنَا أَن
نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا ( انتهى . ونص سيبويه على أن اسم كان وخبرها إذا كانتا
معرفتين فأنت بالخيار في جعل ما شئت منهما الاسم والآخر الخبر من غير اعتبار شرط
في ذلك ولا اختيار .
وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن الياس ) لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ( مبنياً للمفعول
، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير المصدر أي ) لِيَحْكُمَ ( هو أي الحكم ،
والمعنى ليفعل الحكم ) بَيْنَهُمْ ( ومثله قولهم : جمع بينهما وألف بينهما وقوله
تعالى ) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ ). قال الزمخشري : ومثله ) لَقَد تَّقَطَّعَ
بَيْنَكُمْ ( فيمن قرأ ) بَيْنِكُمْ ( منصوباً أي وقع التقطع بينكم انتهى . ولا
يتعين ما قاله في الآية إذ يجوز أن يكون الفاعل ضميراً يعود على شيء قبله وتقدم
الكلام في ذلك في موضعه .
( أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا ( أي قول الرسول ) وَأَطَعْنَا ( أي أمره .
النور : ( 52 ) ومن يطع الله . . . . .
وقرىء ) وَيَتَّقْهِ ( بالإشباع والاختلاس والإسكان . وقرىء ) وَيَتَّقْهِ ( بسكون
القاف وكسر الهاء من غير إشباع أجرى خبر كان المنفصل مجرى المتصل ، فكما يسكن علم
فيقال علم كذلك سكن ويتقه لأنه تقه كعلم وكما قال السالم : قالت سليمى اشتر لنا
سويقاً يريد اشتر لنا ) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ ( في فرائضه ) وَرَسُولُهُ ( في سننه
و ) يَخْشَى اللَّهَ ( على ما مضى من ذنوبه ) وَيَتَّقْهِ ( فيما يستقبل . وعن بعض
الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه .
النور : ( 53 ) وأقسموا بالله جهد . . . . .
ولما بلغ المنافقين ما أنزل تعالى فيهم أتوا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) )
وأقسموا إلى آخره أي ) لَيُخْرِجَنَّ ( عن ديارهم وأموالهم ونسائهم و ) لَئِنْ
أَمَرْتَهُمْ ( بالجهاد ) لَيُخْرِجَنَّ ( إليه وتقدم الكلام في ) جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ ( في الأنعام . ونهاهم تعالى عن قسمهم لعلمه تعالى أنه ليس حقاً . )
طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ( أي معلومة لا شك فيها ولا يرتاب ، كطاعة الخلص من المؤمنين
المطابق باطنهم لظاهرههم ، لا أيمان تقسموا بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها ، أو
طاعتكم طاعة معروفة بالقول دون الفعل ، أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه
الأيمان الكاذبة قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : يحتمل معاني .
أحدها : النهي عن القسم الكاذب إذ قد عرف أن طاعتهم دغلة رديئة فكأنه يقول : لا
تغالطوا فقد عرف ما أنتم عليه .
والثاني : لا تتكلفوا القسم طاعة معروفة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأجدى
عليكم ، وفي هذا الوجه إبقاء عليهم .
والثالث : لا تقنعوا بالقسم طاعة تعرف منكم وتظهر عليكم هو المطلوب منكم .
والرابع : لا تقنعوا لأنفسكم بإرضائنا بالقسمة طاعة الله معروفة وجهاد عدوه مهيع
لائح انتهى .
و ) طَاعَةٌ ( مبتدأ و ) مَّعْرُوفَةٌ ( صفة والخبر محذوف ، أي أمثل وأولى أو خبر
مبتدأ محذوف أي أمرنا أو المطلوب ) طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ). وقال أبو البقاء : ولو
قرىء بالنصب لكان جائزاً في العربية وذلك على المصدر أي أطيعوا طاعة انتهى .
وقدراه بالنصب زيد بن عليّ واليزيدي وتقدير بعضهم الرفع على إضمار ولتكن ) طَاعَةٌ
مَّعْرُوفَةٌ ( ضعيف لأنه لا يحذف الفعل ويبقى الفاعل ، إلاّ إذا كان ثم مشعر به
نحو ) رِجَالٌ ( بعد ) يُسَبّحُ ( مبنياً للمفعول أي يسبحه رجال ، أو يجاب به نفي
نحو : بلى زيد لمن قال : ما جاء أحد . أو استفهام نحو قوله :
ألا هل أتى أم الحويرث مرسل
بلى خالد إن لم تعقه العوائق
النور : ( 54 ) قل أطيعوا الله . . . . .
أي أتاها خالد . ) إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( أي مطلع على سرائركم
ففاضحكم . والتفت من الغيبة إلى الخطاب لأنه أبلغ في تبكيتهم .
ولما بكتهم بأن مطلع على سرائرهم تلطف بهم فأمرهم بطاعة الله والرسول وهو أمر عام
للمنافقين وغيرهم . ) فَإِن تَوَلَّوْاْ ( أي فإن تتولوا . ) فَإِنَّمَا عَلَيْهِ
( أي على الرسول ) مَا حُمّلَ ( وهو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد
في إنذارهم . ) وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ ( وهو السمع والطاعة واتّباع الحق .
ثم علق هدايتهم على طاعته فلا يقع إلا بطاعته ) وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ
الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في المائدة .
النور : ( 55 ) وعد الله الذين . . . . .
روي أي بعض الصحابة شكا جهد
" صفحة رقم 431 "
مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزل ) وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ ). وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال
بعضهم ما أتى علينا يوم نأمن من فيه ونضع السلاح ، فقال النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) ) : ( لا تغبرون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً
ليسمعه حديدة ) . قال ابن عباس : وهذا الوعد وعده الله أمّة محمد ( صلى الله عليه
وسلم ) ) في التوراة والإنجيل . والخطاب في ) مّنكُمْ ( للرسول وأتباعه و ) مِنْ (
للبيان أي الذين هم أنتم وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر ويورثهم الأرض
ويجعلهم خلفاء . وقوله ) فِى الاْرْضِ ( هي البلاد التي تجاورهم وهي جزيرة العرب ،
ثم افتتحوا بلاد الشرق والغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على
الدنيا . وفي الصحيح : ( زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما
زوي لي عنها ) . قال بعض العلماء : ولذلك اتسع نطاق الإسلام في الشرق والغرب دون
اتساعه في الجنوب والشمال . قلت : ولا سيما في عصرنا هذا بإسلام معظم العالم في
المشرق كقبائل الترك ، وفي المغرب كبلاد السودان التكرور والحبشة وبلاد الهند .
( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( أي بني إسرائيل حين أورثهم مصر
والشام بعد هلاك الجبابرة . وقيل : هو ما كان في زمان داود وسليمان عليهما السلام
، وكان الغالب على الأرض المؤمنون . وقرىء ) كَمَا اسْتَخْلَفَ ( مبنياً للمفعول .
واللام في ) لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ( جواب قسم محذوف ، أي وأقسم )
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ( أو أجرى وعد الله لتحققه مجرى القسم فجووب بما يجاوب به
القسم . وعلى التقدير حذف القسم بكون معمول ) وَعْدُ ( محذوفاً تقديره استخلافكم
وتمكين دينكم . ودل عليه جواب القسم المحذوف . وقال الضحاك : هذه الآية تتضمن
خلافه أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات . وقال ( صلى
الله عليه وسلم ) ) : ( الخلافة بعدي ثلاثون ) انتهى . ونيدرج من جرى مجراهم في
العدل من استخلف من قريش كعمر بن عبد العزيز من الأمويين ، والمهتدين بالله في
العباسيين .
( وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ( أي يثبته ويوطده بإظهاره وإعزاز أهله وإذلال
الشرك وأهله . و ) الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ ( صفة مدح جليلة وقد بلغت هذه الأمة في
تمكين هذا الدين الغاية القصوى مما أظهر الله على أيديهم من الفتوح والعلوم التي
فاقوا فيها جميع العالم من لدن آدم إلى زمان هذه الملة المحمدية . وقرأ الجمهور )
وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ ( بالتشديد وابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف .
وقال أبو العالية : لما أظهر الله عز وجل رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على
جزيرة العرب وضعوا السلاح وآمنوا ، ثم قبض الله نبيه عليه السلام فكانوا آمنين
كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة ،
فأدخل الله عليهم الخوف فغيروا فغير الله ما بهم .
( يَعْبُدُونَنِى ( الظاهر أنه مستأنف فلا موضع له من الإعراب كأنه قيل : ما لهم
يستخلفون ويؤمنون فقال ) يَعْبُدُونَنِى ( قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : )
يَعْبُدُونَنِى ( فعل مستأنف أي هم ) يَعْبُدُونَنِى ( ويعني بالاستئناف الجملة لا
نفس الفعل وحده وقاله الحوفي قال : ويجوز أن يكون مستأنفاً على طريق الثناء عليهم
أي هم ) يَعْبُدُونَنِى ). وقال الزمخشري : وإن جعلته حالاً عن وعدهم أي وعدهم
الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم فمحله النصب انتهى . وقال الحوفي قبله . وقال
أبو البقاء : ) يَعْبُدُونَنِى ( حال من ) لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ( و ) ليبدلنهم (
) بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ( بدل من ) يَعْبُدُونَنِى ( أو حال من الفاعل في )
يَعْبُدُونَنِى ( موحدين انتهى . والظاهر أنه متى أطلق الكفر كان مقابل الإسلام
والإيمان وهو ظاهر قول حذيفة قال : كان النفاق على عهد النبيّ ( صلى الله عليه
وسلم ) ) ، وقد ذهب ولم يبق إلاّ كفر بعد إيمان . قال ابن عطية : يحتمل أن يريد
كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون الفسق على هذا غير مخرج عن الملة . قيل : ظهر في
قتلة عثمان .
وقال الزمخشري : ) وَمَن كَفَرَ ( يريد كفران النعمة كقوله ) فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ ( ) فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( أي هم الكاملون في
فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة .
النور : ( 56 ) وأقيموا الصلاة وآتوا . . . . .
والظاهر
" صفحة رقم 432 "
أن قوله ) وَأَقِيمُواْ ( التفات من الغيبة إلى الخطاب ويحسنه الخطاب في منكم .
وقال الزمخشري : ) وَإِذْ أَخَذْنَا ( معطوف على ) أَطِيعُواْ اللَّهَ
وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه . فاصل .
وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه وكررت طاعة الرسول توكيداً
لوجوبها انتهى .
النور : ( 57 ) لا تحسبن الذين . . . . .
وقرأ الجمهور ) لاَ تَحْسَبَنَّ ( بتاء الخطاب والتقدير ، ( لاَ تَحْسَبَنَّ (
أيها المخاطب ولا يندرج فيه الرسول ، وقالوا : هو خطاب للرسول وليس بجيد لأن مثل
هذا الحسبان لا يتصوّر وقوعه فيه عليه السلام . وقرأ حمزة وابن عامر لا يحسبن
بالياء للغيبة ، والتقدير لا يحسبن حاسب ، والرسول لا يندرج في حاسب وقالوا : يكون
ضمير الفاعل للرسول لتقدم ذكره في ) وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( قاله أبو عليّ
والزمخشري وليس بجيد لما ذكرناه في قراءة التاء . وقال النحاس : ما علمت أحداً من
أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلاّ وهو يخطىء قراءة حمزة ، فمنهم من يقول : هي
لحن لأنه لم يأت إلاّ بمفعول واحد ليحسبن ، وممن قال هذا أبو حاتم انتهى . وقال
الفرّاء : هو ضعيف وأجازه على حذف المفعول الثاني وهو قول البصريين تقديره أنفسهم
. و ) مُعَاجِزِينَ ( المفعول الثاني .
وقال عليّ بن سليمان : ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( في موضع نصب قال : ويكون المعنى
ولا يحسبن الكافر ) الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ ). وقال
الكوفيون : ) مُعَاجِزِينَ ( المفعول الأول . و ) فِى الاْرْضِ ( الثاني قيل : وهو
خطأ وذلك لأن ظاهر في ) الاْرْضِ ( تعلقه بمعجزين ، فلا يكون مفعولاً ثانياً .
وخرج الزمخشري ذلك متبعاً قول الكوفيين . فقال ) مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ ( هما
المفعولان والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا لهم
في مثل ذلك ، وهذا معنى قوي جيد انتهى . وقال أيضاً : يكون الأصل : لا يحسبنهم )
الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ ( ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكان
الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن
ذكر الثالث انتهى . وقد رددنا هذا التخريج في آل عمران في قوله ) لا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ ( في قراءة من قرأ بياء الغيبة ، وجعل
الفاعل ) الَّذِينَ يَفْرَحُونَ ( وملخصه أنه ليس هذا من الضمائر التي يفسرها ما
بعدها فلا يتقدر لا يحسبنهم إذ لا يجوز ظنه زيد قائماً على تقدير رفع زيد بظنه .
( وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ( قال الزمخشري : عطف على ) لاَ تَحْسَبَنَّ ( كأنه قيل
الذين كفروا لا يفوتون الله ) وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ( والمراد بهم المقسمون جهد
أيمانهم انتهى . وقال صاحب النظام لا يحتمل أن يكون ) وَمَأْوَاهُمُ ( متصلاً
بقوله ) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ ( بل هم
مقهورون ) وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ( انتهى . واستبعد العطف من حيث إن ) لاَ
تَحْسَبَنَّ ( نهي ) وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ( جملة خبرية فلم يناسب عنده أن يعطف
الجملة الخبرية على جملة النهي لتباينهما وهذا مذهب قوم . ولما أحسن الزمخشري بهذا
قال : كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله فتأول جملة النهي بجملة خبرية حتى تقع
المناسبة ، والصحيح أن ذلك لا يشترط بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضاً على بعض
وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه .
2 ( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ
مِّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ
وَمِن بَعْدِ صَلَواةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ
وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى
بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاٌّ يَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
وَإِذَا بَلَغَ الاٌّ طْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا
اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
ءَايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلَاتِى
لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ
غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عِلِيمٌ لَّيْسَ عَلَى الاٌّ عْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاٌّ عْرَجِ
حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ
مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ
أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن
تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ
عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاٌّ يَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ) ) 2
النور : ( 58 ) يا أيها الذين . . . . .
روي أن عمر بعث إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) غلاماً من الأنصار يقال
له مدلج ، وكان نائماً فدق عليه الباب ودخل ، فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء فقال
عمر : وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا عن
" صفحة رقم 433 "
الدخول علينا في هذه الساعة إلاّ بإذن . ثم انطلق إلى الرسول فوجد هذه الآية قد
نزلت فخرّ ساجداً . وقيل : نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قيل : دخل عليها غلام لها
كبير في وقت كرهت دخوله ، فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقالت : إن
خدمنا وغلماننا يدخلون علينا حالاً نكرهها .
( لِيَسْتَأْذِنكُمُ ( أمر والظاهر حمله على الوجوب والجمهور على الندب . وقيل :
بنسخ ذلك إذ صار للبيوت أبواب روي ذلك عن ابن عباس وابن المسيب والظاهر عموم )
الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( في العبيد والإماء دون العبيد . ) وَالَّذِينَ
لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ( عام في الأطفال عبيد كانوا أو أحراراً . وقرأ
الحسن وأبو عمر وفي رواية وطلحة ) الْحُلُمَ ( بسكون اللام وهي لغة تميم . وقيل )
مّنكُمْ ( أي من الأحرار ذكوراً كانوا أو إناثاً . والظاهر من قوله ) ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ ( ثلاث استئذانات لأنك إذا ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلاّ ثلاث ضربات
ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : ( الاستئذان ثلاث ) والذي عليه الجمهور أن معنى
) ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ( ثلاث أوقات وجعلوا ما بعده من ذكر تلك الأوقات تفسيراً لقوله
) ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ( ولا يتعين ذلك بل تبقى ) ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ( على مدلولها .
( مّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ ( لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه
من الثياب ولبس ثياب اليقظة وقد ينكشف النائم . ) وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ
مّنَ الظَّهِيرَةِ ( لأنه وقت وضع الثياب للقائلة لأن النهار إذ ذاك يشتد حره في
ذلك الوقت . و ) مِنْ ( في ) مّنَ الظَّهِيرَةِ ( قال أبو البقاء : لبيان الجنس أي
حين ذلك هو الظهيرة ، قال : أو بمعنى من أجل حر الظهيرة و ) حِينٍ ( معطوف على
موضع ) مِن قَبْلُ ( ) وَمِن بَعْدِ صَلَواةِ الْعِشَاء ( لأنه وقت التجرد من ثياب
اليقظة والالتحاف بثياب النوم ) ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ( سمى كل واحد منها
عورة لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها ، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور
المكان ، والأعور المختل العين . وقرأ حمزة والكسائي ) ثَلَاثٍ ( بالنصب قالوا :
بدل من ) ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ ( وقدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء أوقات ) ثَلاَثُ
عَوْرَاتٍ ( وقال ابن عطية : إنما يصح يعنى البدل بتقدير أوقات ) عَوْراتِ ( فحذف
المضاف وقيم المضاف إليه مقامه . وقرأ باقي السبعة بالرفع أي هن ) ثَلاَثُ
عَوْرَاتٍ ( وقرأ الأعمش ) عَوْراتِ ( بفتح الواو وتقدم أنها لغة هذيل بن مدركة
وبني تميم وعلى رفع ) ثَلَاثٍ ).
قال الزمخشري : يكون ) لَيْسَ عَلَيْكُمْ ( الجملة في محل رفع على الوصف والمعنى
هن ) ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ ( مخصوصة بالاستئذان ، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان
كلاماً مقرراً بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة .
( بَعْدَهُنَّ ( أي بعد استئذانهم فيهن حذف الفاعل وحرف الجر بفي بعد استئذانهن ثم
حذف المصدر وقيل ) لَّيْسَ ( على العبيد والإماء ومن لم يبلغ الحلم في الدخول )
عَلَيْكُمْ ( بغير استئذان ) جُنَاحٌ ( بعد هذه الأوقات الثلاث ) طَوفُونَ
عَلَيْكُمْ ( يمضون ويجيؤون وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم ) طَوفُونَ ( أي
المماليك والصغار ) طَوفُونَ عَلَيْكُمْ ( أي يدخلون عليكم في المنازل غدوة وعشية
بغير إذن إلاّ في تلك الأوقات . وجوّزوا في ) بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( أن يكون
مبتدأ وخبراً لكن الجر قدروه طائف على بعض وهو كون مخصوص فلا يجوز حذفه . قال
الزمخشري : وحذف لأن طوافون يدل عليه وأن يكون مرفوعاً بفعل محذوف تقديره يطوف
بعضكم . وقال ابن عطية ) بَعْضُكُمْ ( بدل من قوله ) طَوفُونَ ( ولا يصح لأنه إن
أراد بدلاً من ) طَوفُونَ ( نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم ) بَعْضَكُمْ
عَلَى بَعْضٍ ( وهذا معنى لا يصح . وإن جعلته بدلاً من الضمير في ) طَوفُونَ ( فلا
يصح أيضاً إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقدير المبتدأ هم لأنه يصير التقدير هم يطوف )
بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( وهو لا يصح . فإن جعلت التقدير أنتم يطوف ) عَلَيْكُمْ
بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( فيدفعه أن قوله ) عَلَيْكُمْ ( بدل على أنهم هم المطوف
عليهم ، وأنتم طوافون ، يدل على أنهم طائفون فتعارضا . وقرأ ابن أبي عبلة طوافين
بالنصب على الحال من ضمير ) عَلَيْهِمْ ). وقال الحسن : إذا بات الرجل خادمه معه
فلا استئذان عليه ولا في هذه الأوقات الثلاثة .
النور : ( 59 ) وإذا بلغ الأطفال . . . . .
( وَإِذَا بَلَغَ الاْطْفَالُ ( أي من أولادكم وأقربائكم ) فَلْيَسْتَأْذِنُواْ (
أي في كل الأوقات فإنهم قبل البلوغ كانوا يستأذنون في ثلاث الأوقات . ) كَمَا
اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( يعني البالغين . وقيل : الكبار من أولاد
الرجل وأقربائه . ودل ذلك على أن الابن والأخ البالغين كالأجنبي في ذلك وتكلموا
هنا
" صفحة رقم 434 "
فيما به البلوغ وهي مسألة تذكر في الفقه . كذلك الإشارة إلى ما تقدم ذكره من
استئذان المماليك وغير البلغ .
النور : ( 60 ) والقواعد من النساء . . . . .
ولما أمر تعالى النساء بالتحفظ من الرجال ومن الأطفال غير البلغ في الأوقات التي
هي مظنة كشف عورتهن استثنى ) الْقَوَاعِدَ مِنَ النّسَاء ( اللاتي كبرن وقعدن عن
الميل إليهن والافتتان بهن فقال ) وَالْقَوَاعِدُ ( وهو جمع قاعد من صفات الإناث .
وقال ابن السكيت : امرأة قاعد قعدت عن الحيض . وقال ابن قتيبة : سُميِّن بذلك
لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود . وقال ربيعة لقعودهن عن الاستمتاع بهن فأيسن ولم
يبق لهن طمع في الأزواج . وقيل قعدن عن الحيض والحبل . و ) ثِيَابَهُنَّ ( الجلباب
والرداء والقناع الذي فوق الخمار والملاء الذي فوق الثياب أو الخمر أو الرداء
والخمار أقوال ، ويقال للمرأة إذا كبرت امرأة واضع أي وضعت خمارها . ) غَيْرَ
مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ ( أي غير متظاهرات بالزينة لينظر إليهن ، وحقيقة التبرج
إظهار ما يجب إخفاؤه أو غير قاصدات التبرج بالوضع ، ورب عجوز يبدو منها الحرص على
أن يظهر بها جمال .
( وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ ( عن وضع الثياب ويتسترن كالشباب أفضل لهن . ) وَاللَّهُ
سَمِيعٌ ( لما يقول كل قائل ) عَلِيمٌ ( بالمقاصد . وفي ذكر هاتين الصفتين توعد
وتحذير .
النور : ( 61 ) ليس على الأعمى . . . . .
عن ابن عباس لما نزل ) وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ (
تحرج المسلمون عن مواكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لأنه لا
يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله
هذه الآية قيل : وتحرجوا عن أكل طعام القرابات فنزلت مبيحة جميع هذه المطاعم
ومبينة أن تلك إنما هي في التعدي والقمار وما يأكله المؤمن من مال من يكره أهله أو
بصفقة فاسدة ونحوه . وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وابن المسيب
كانوا إذا نهضوا ءلى الغزو وخلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم تحرجوا من أكل
مال الغائب فنزلت مبيحة لهم ما تمس إليه حاجتهم من مال الغائب إذا كان الغائب قد
بنى على ذلك . وقال مجاهد : كان الرجل إذا ذهب بأهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه
شيئاً ذهب بهم إلى بيوت قراباته فتحرج أهل الأعذار من ذلك فنزلت . وقيل : كانت
العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار فبعضهم تقذراً لمكان
جولان يد الأعمى ، ولانبساط الجلسة مع الأعرج ، ولرائحة المريض وهي أخلاق جاهلية
وكبر . فنزلت واستبعد هذا لأنه لو كان هذا السبب لكان التركيب ليس عليكم حرج أن
تأكلوا معهم ولم يكن ) لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( وأجاب بعضهم : بأن )
عَلَى ( في معنى أي في مواكلة الأعمى وهذا بعيد جداً . وفي كتاب الزهراوي عن ابن
عباس أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم فنزلت . وعلى هذه
الأقوال كلها يكون نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في المطاعم . وقال الحسن وعبد
الرحمن بن زيد الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص
لهم فيه ، والحرج المنفي عمن بعدهم في الأكل مما ذكر وهو مقطوع مما قبله إذ متعلق
الحرجين مختلف . وإن كان قد اجتمعا في انتفاء الحرج . وهذا القول هو الظاهر . ولم
يذكر بيوت الأولاد اكتفاء بذكر بيوتكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه ، وبيته
بيته . وفي الحديث ( إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه ) .
ومعنى ) مِن بُيُوتِكُمْ ). من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ، والولد أقرب من
عدد من القرابات فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى .
وقرأ طلحة إمهاتكم بكسر الهمزة . ) أَوْ مَا مَلَكْتُم ). قال ابن عباس : هو وكيل
الرجل أن يتناول من التمر ويشرب من اللبن . وقال قتادة : العبد لأن ماله لك . وقال
مجاهد والضحاك : خزائن بيوتكم إذا ملكتم مفاتيحها . وقال ابن جرير : الزمنى ملكوا
التصرف في البيوت التي سلمت إليهم مفاتيحها . وقيل : ولي اليتيم يتناول من ماله
بقدر مّا قال تعالى ) فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ ( ومفاتحه بيده .
وقرأ الجمهور ) مَلَكْتُم ( بفتح الميم واللام خفيفة . وقرأ ابن جبير بضم الميم
وكسر اللام مشددة ، والجمهور ) مَّفَاتِحهُ ( جمع مفتح وابن جبير مفاتيحه جمع
مفتاح ، وقتادة وهارون عن أبي عمرو مفتاحه مفرداً . ) أَوْ صَدِيقِكُمْ ( قرىء
بكسر الصاد إتباعاً لحركة الدال حكاه حميد الخزاز ، قرن الله الصديق بالقرابة
المحضة . قيل لبعضهم : من أحب إليك أخوك أم صديقك ؟ فقال : لا أحب أخي إلاّ إذا
كان صديقي . وقال معمر : قلت لقتادة ألا أشرب من هذا
" صفحة رقم 435 "
الحب ؟ قال : أنت لي صديق فما هذا الاستئذان . وقال ابن عباس : الصديق أوكد من
القرابة لا ترى استغاثة الجهنميين ) فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ
حَمِيمٍ ( ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات ومعنى ) أَوْ صَدِيقِكُمْ ( أو بيوت
أصدقائكم ، والصديق يكون للواحد والجمع كالخليط والقطين ، وقد أكل جماعة من أصحاب
الحسن من بيته وهو غائب فجاء فسر بذلك وقال : هكذا وجدناهم يعني كبراء الصحابة ،
وكان الرجل يدخل بيت صديقه فيأخذ من كيسه فيعتق جاريته التي مكنته من ذلك . وعن
جعفر الصادق : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وترك
الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ . وقال هشام بن عبد الملك : نلت ما نلت
حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه . وقال أهل العلم : إذا دل ظاهر الحال على
رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح .
وانتصب ) جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ( على الحال أي مجتمعين أو متفرقين . قال
الضحاك وقتادة : نزلت في حي من كنانة تحرجوا أن يأكل الرجل وحده فربما قعدوا لطعام
بين يديه لا يجد من يؤاكله حتى يمسي فيضطر إلى الأكل وحده . وقال بعض الشعراء :
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له
أكيلاً فإني لست آكله وحدي
وقال عكرمة في قوم من الأنصار : إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون لاّ معه . وقيل في قوم
: تحرجوا أن يأكلوا جميعاً مخافة أن يزيد أحدهم على الآخرة في الأكل . وقيل ) أَوْ
صَدِيقِكُمْ ( هو إذا دعاك إلى وليمة فحسب . وقيل : هذه الآية منسوخة بقوله عليه
السلام ( ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ) وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر
: ( لا يحلبن أحد ماشية أحد إلاّ بإذنه ) وبقوله تعالى ) لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ ).
) فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ). قال ابن عباس
والنخعي : المساجد فسلموا على من فيها فإن لم يكن فيها أحد قال السلام على رسول
الله . وقيل : يقول السلام عليكم يعني الملائكة ، ثم يقول : السلام علينا وعلى
عباد الله الصالحين . وقال جابر وابن عباس وعطاء : البيوت المسكونة وقالوا يدخل
فيها غير المسكونة ، فيقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . وقال ابن عمر
: بيوتاً خالية . وقال السدّي ) عَلَى أَنفُسِكُمْ ( على أهل دينكم . وقال قتادة :
على أهاليكم في بيوت أنفسكم . وقيل : بيوت الكفار ) فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ
( وقال الزمخشري ) فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً ( من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدؤوا
بالسلام على أهلها الذين هم فيها منكم ديناً وقرابة . و ) تَحِيَّةً مّنْ عِندِ
اللَّهِ ( أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، أو لأن التسليم والتحية طلب للسلامة
وحياة للمسلم عليه ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله
زيادة وطيب الرزق انتهى . وقال مقاتل : مباركة بالأجر . وقيل : بورك فيها بالثواب
. وقال الضحاك : في السلام عشر حسنات ، ومع الرحمة عشرون ، ومع البركات ثلاثون . وانتصب
) تَحِيَّةً ( بقوله ) فَسَلّمُواْ ( لأن معناه فيحوا كقولك : قعدت جلوساً .
2 ( ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى
يَسْتَأذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأذِنُونَكَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ
فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ
بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ
لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَلاإِنَّ للَّهِ مَا فِى
السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ
يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ
عَلِيمُ ( ) ) 2
النور : ( 62 ) إنما المؤمنون الذين . . . . .
لما افتتح السورة بقوله ) سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا ( وذكر أنواعاً من الأوامر
والحدود مما أنزله على الرسول عليه السلام اختتمها بما يجب له عليه السلام على
أمته من التتابع والتشايع على ما فيه مصلحة الإسلام ومن
" صفحة رقم 436 "
طلب استئذانه إن عرض لأحد منهم عارض ، ومن توقيره في دعائهم إياه . وقال الزمخشري
: أراد عز وجل أن يريهم عظيم الجناية في ذهاب الذاهب عن رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) بغير إذنه .
( إِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ ( فجعل ترك ذهابهم ) حَتَّى ( ثالث
الإيمان بالله والإيمان برسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وجعلهما كالتسبيب له
والنشاط لذكره . وذلك مع تصدير الجملة بإنما وارتفاع المؤمنين مبتدأ ومخبر عنه
بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين ، ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتسديداً بحيث
أعاده على أسلوب آخر وهو قوله ) إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ( وضمنه شيئاً آخر وهو أنه جعل
الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين ، وعرّض بحال الماضين وتسللهم لو إذاً .
ومعنى قوله ) لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَذِنُوهُ ( لم يذهبوا حتى يستأذنوه
وبأذن لهم ، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب
أن بأذن له ، والأمر الجامع الذي يجمع له الناس ، فوصف بالجمع على المجاز وذلك نحو
مقابلة عدو وتشاور في أمرهم أو تضام لإرهاب مخالف ، أو ما ينتج في حلف وغير ذلك .
والأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وفي قوله ) وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ
جَامِعٍ ( أنه خطب جليل لا بد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيه من ذوي رأي
وقوة يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفاءته ،
فمفارقة أحدهم في مثل هذه الحالة مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه . فمن ثم غلظ
عليهم وضيق الأمر في الاستئذان مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه واعتراض ما
يهمهم ويعينهم ، وذلك قوله ) لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ ( وذكر الاستغفار للمستأذنين
دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه .
وقيل : نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن لذلك ينبغي أن يكون الناس مع
أثمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ،
ولا يتفرقون عنهم ، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن
على حسب ما اقتضاه رأيه انتهى . وهو تفسير حسن ويجري هذا المجرى إمام الأمرة إذا
كان الناس معه مجتمعين لمراعاة مصلحة دينية فلا يذهب أحد منهم عن المجمع إلاّ بإذن
منه إذ قد يكون له رأي في حضور ذلك الذاهب . وقال مكحول والزهري : الجمعة من الأمر
الجامع ، فإذا عرض للحاضر ما يمنعه الحضور من سبق رعاف فليستأذن حتى يذهب عنه سوء
الظن به . وقال ابن سيرين : كانوا يستأذنون الإمام على المنبر ، فلما كثر ذلك قال
زياد : من جعل يده على أنفه فليخرج دون إذن وقد كان هذا بالمدينة حتى إنّ سهيل بن
أبي صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام . وقال ابن سلام : هو كل صلاة فيها خطبة
كالجمعة والعيدين والاستسقاء . وقال ابن زيد : في الجهاد . وقال مجاهد : الاجتماع
في طاعة الله . قيل : في قوله ) فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ( أريد بذلك عمر بن
الخطاب . وقرأ اليماني على أمر جميع .
( لاَّ تَجْعَلُواْ ( خطاب لمعاصري الرسول عليه السلام
النور : ( 63 ) لا تجعلوا دعاء . . . . .
لما كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة ، أمروا بتوقير رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) بأحسن ما يدعى به نحو : يا رسول الله ، يا نبي الله ، ألا ترى إلى
بعض جفاة من أسلم كان يقول : يا محمد وفي قوله ) كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً (
إشارة إلى جواز ذلك مع بضعهم لبعض إذ لم يؤمر بالتوقير والتعظيم في دعائه عليه
السلام إلاّ من دعاه لا من دعا غيره . وكانوا يقولون : يا أبا القاسم يا محمد
فنهوا عن ذلك . وقيل : نهاهم عن الإبطاء والتأخر إذا دعاهم ، واختارهم المبرد
والقفال ويدل عليه ) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ( وهذا
القول موافق لمساق الآية ونظمها .
وقال الزمخشري : إذا احتاج إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرّقوا عنه إلاّ
بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه على دعاء بعضكم بعضاً ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي
انتهى . وهو قريب مما قبله . وقال أيضاً : ويحتمل ) لاَّ تَجْعَلُواْ ( دعاء
الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم ، يسأله حاجة فربما أجابه
وربما رده ، وإن دعوات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مسموعة مستجابة انتهى .
وقال ابن عباس : إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض أي
دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه . قال ابن عطية : ولفظ الآية يدفع هذا المعنى انتهى .
وقرأ الحسن ويعقوب في رواية نبيكم بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء مشددة بدل قوله )
بَيْنِكُمْ ( ظرفاً قراءة الجمهور . قال صاحب اللوامح : وهو النبيّ عليه السلام
على البدل من ) الرَّسُولَ ( فإنما صار بدلاً لاختلاف تعريفهما باللام مع الإضافة
، يعني أن الرسول معرفة باللام ونبيكم معرفة
" صفحة رقم 437 "
بالإضافة إلى الضمير فهو في رتبة العلم ، فهو أكثر تعريفاً من ذي اللام فلا يصح
النعت به على المذهب المشهور ، لأن النعت يكون دون المنعوت أو مساوياً له في
التعريف . ثم قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نعتاً لكونهما معرفتين انتهى .
وكأنه مناقض لما قرر من اختياره البدل وينبغي أن يجوز النعت لأن الرسول قد صار
علماً بالغلبة كالبيت للكعبة إذ ما جاء في القرآن والسنة من لفظ الرسول إنما يفهم
منه أنه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإاذ كان كذلك فقد تساوياً في التعريف .
ومعنى ) يَتَسَلَّلُونَ ( ينصرفون قليلاً قليلاً عن الجماعة في خفية ، ولواذ بعضهم
ببعض أي هذا يلوذ بهذا وهذا بذاك بحيث يدور معه حيث دار استتاراً من الرسول .
وقال الحسن ) لِوَاذاً ( فراراً من الجهاد . وقيل : في حفر الخندق ينصرف المنافقون
بغير إذن ويستأذن المؤمنون إذا عرضت لهم حاجة . وقال مجاهد لوذاً خلافاً . وقال
أيضاً ) يَتَسَلَّلُونَ ( من الصف في القتال وقيل : ) يَتَسَلَّلُونَ ( على رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعلى كتابه وعلى ذكره . وانتصب ) لِوَاذاً ( على
أنه مصدر في موضع الحال أي متلاوذين ، و ) لِوَاذاً ( مصدر لاوذ صحت العين في
الفعل فصحت في المصدر ، ولو كان مصدر لاذ لكان لياذاً كقام قياماً . وقرأ يزيد بن
قطيب ) لِوَاذاً ( بفتح اللام ، فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ولم يقبل لأنه لا كسرة
قبل الواو فهو كطاف طوافاً . واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وكانت فتحة اللام لأجل فتحة
الواو وخالف يتعدى بنفسه تقول : خالفت أمر زيد وبالي تقول : خالفت إلى كذا فقوله )
عَنْ أَمْرِهِ ( ضمن خالف معنى صدّ وأعرض فعاده بعن . وقال ابن عطية : معناه يقع
خلافهم بعد أمره كما تقول كان المرط عن ريح و ) عَنْ ( هي لما عدا الشيء . وقال
أبو عبيدة والأخفش ) عَنْ ( زائدة أي ) أَمَرَهُ ( والظاهر أن الأمر بالحذر للوجوب
وهو قول الجمهور ، وأن الضمير في ) أَمَرَهُ ( عائد على الله . وقيل على الرسول .
وقرىء يخلفّون بالتشديد أي يخلفون أنفسهم بعد أمره ، والفتنة القتل قاله ابن عباس
أيضاً أو بلاء قاله مجاهد ، أو كفر قاله السدي ومقاتل ، أو إسباغ النعم استدراجاً
قاله الجراح ، أو قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر قاله الجنيد ، أو طبع على
القلوب قاله بعضهم . وهذه الأقوال خرجت مخرج التمثيل لا الحصر وهي في الدنيا . أو
) عَذَابٌ أَلِيمٌ ). قيل : عذاب الآخرة . وقيل : هو القتل في الدنيا .
النور : ( 64 ) ألا إن لله . . . . .
( أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( هذا كالدلالة على قدرته
تعالى عليهما وعلى المكلف فيما يعامله به من المجازاة من ثوابه وعقابه . ) قَدْ
يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ( أي من مخالفة أمر الله وأمر رسوله وفيه تهديد
ووعيد ، والظاهر أنه خطاب للمنافقين . وقال الزمخشري : ادخل ) قَدْ ( ليؤكد علمه
بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد
وذلك أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما ، فوافقت ربما في خروجها إلى
معنى التنكير في نحو قوله : فإن يمس مهجور الفناء فربما
أقام به بعد الوفود وفود
ونحو من ذلك قول زهير : أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله
ولكنه قد يهلك المال نائله
انتهى . وكون قد إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قول بعض النحاة وليس بصحيح ،
وإنما التكثير مفهوم من سياقة الكلام في المدح والصحيح في رب إنها لتقليل الشيء أو
تقليل نظيره فإن فهم تكثير فليس ذلك من رب . ولا قد إنما هو من سياقه الكلام ، وقد
بين ذلك في علم النحو .
وقرأ الجمهور ) يَرْجِعُونَ ( مبنياً للمفعول . وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو
عمرو مبنياً للفاعل . والتفت من ضمير الخطاب في ) أَنتُمْ ( إلى ضمير الغيبة في )
يَرْجِعُونَ ( ويجوز
" صفحة رقم 438 "
أن يكون ) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ( خطاباً عاماً ويكون ) يَرْجِعُونَ ( للمنافقين .
والظاهر عطف ) وَيَوْمَ ( على ) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ( فنصبه نصب المفعول . قال
ابن عطية : ويجوز أن يكون التقديم والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب
على الظرف .
( لّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ (
الهباء قال أبو عبيدة والزجاج : مثل الغبار يدخل الكوة مع ضوء الشمس . وقال ابن
عرفة : الهبوة والهباء التراب الدقيق . وقال الجوهري يقال منه إذا ارتفع هبا يهبو
هبواً ، وأهبيتُه أنا إهباءً . وقيل : هو الشرر الطائر من النار إذا أضرمت .
النثرب : التفريق . العض : وقع الأسنان على المعضوض بقوة وفعله على وزن فعل بكسر
العين ، وحكى الكسائي عضضت بفتح عين الكلمة . فلان كناية عن علم من يعقل . الجملة
من الكلام هو المجتمع غير المفرق . الترتيل سرد اللفظ بعد اللفظ يتخلل بينهما زمن
يسير من قولهم : ثغر مرتل أي مفلج الأسنان . السبات : الراحة ، ومنه يوم السبت لما
جرت العادة من الاستراحة فيه ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت قاله أبو
مسلم . وقال الزمخشري : السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة . مرج :
قال ابن عرفة خلط ومرج الأمر اختلط واضطرب . وقيل : مرج وأمرج أجرى ، ومرج لغة
الحجاز وأمرج لغة نجد . العذب : الحلو . والفرات البالغ في الحلاوة . الملح : المالح
. والأجاج البالغ في الملوحة . وقيل : المر . وقيل : الحار . الصهر ، قال الخليل :
لا يقال لأهل بيت المرأة إلاّ أصهار ، ولأهل بيت الرجل إلاّ أختان ، ومن العرب من
يجعلهم أصهاراً كلهم . السراج : الشمس . الهون : الرفق واللبن . الغرفة : العلية
وكل بناء عال فهو غرفة . عباءً من العبء وهو الثقيل ، يقال : عبأت الجيش بالتخفيف
والتثقيل هيأته للقتال ، ويقال : ما عبأت به أي ما اعتددت به كقولك : ما اكترثت به
.
" صفحة رقم 439 "
25
( سورة الفرقان )
2 ( ) تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ
نَذِيراً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ
وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ
فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ
شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاًّنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً
وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَواةً وَلاَ نُشُوراً وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ
ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ
اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى
يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَاواتِ وَالاٌّ رْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً
رَّحِيماً وَقَالُواْ مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى
الاٌّ سْوَاقِ لَوْلاأُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ
يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ
الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً انظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُواْ لَكَ الاٌّ مْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً تَبَارَكَ
الَّذِىإِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذالِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا
الاٌّ نْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ
وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن
مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإَذَآ أُلْقُواْ
مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ
تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً قُلْ
أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وَعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ
لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى
رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً ( ) ) 2
الفرقان : ( 1 ) تبارك الذي نزل . . . . .
هذه السورة مكية في قول الجمهور . وقال ابن عباس وقتادة : إلاّ ثلاث آيات نزلت
بالمدينة وهي ) وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ ( إلى
قوله ) وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( وقال الضحاك مدنية إلا من أولها إلى
قوله ) وَلاَ نُشُوراً ( فهو مكي
" صفحة رقم 440 "
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما ذكر وجوب مبايعة المؤمنين للرسول
وأنهم إذا كانوا معه في أمر مهم توقف انفصال واحد منهم على إذنه وحذر من يخالف
أمره وذكر أن له ملك السموات والأرض وأنه تعالى عالم بما هم عليه ومجازيهم على ذلك
، فكان ذلك غاية في التحذير والإنذار ناسب أن يفتتح هذه السورة بأنه تعالى منزه في
صفاته عن النقائص كثير الخير ، ومن خيره أنه ) نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ( على رسوله
منذراً لهم فكان في ذلك اطماع في خيره وتحذيره من عقابه . و ) تَبَارَكَ ( تفاعل
مطاوع بارك وهو فعل لا يتصرف ولم يستعمل في غيره تعالى فلا يجيء منه مضارع ولا اسم
فاعل ولا مصدر . وقال الطرماح : تباركت لا معط لشيء منعته
وليس لما أعطيت يا رب مانع
قال ابن عباس : لم يزل ولا يزول . وقال الخليل : تمجد . وقال الضحاك : تعظم . وحكى
الأصمعي تبارك عليكم من قول عربي صعد رابية فقال لأصحابه ذلك ، أي تعاليت وارتفعت .
ففي هذه الأقوال تكون صفة ذات . وقال ابن عباس أيضاً والحسن والنخعي : هو من
البركة وهي التزايد في الخير من قبله ، فالمعنى زاد خيره وعطاؤه وكثر ، وعلى هذا
يكون صفة فعل وجاء الفعل مسنداً إلى ) الَّذِى ( وهم وإن كانوا لا يقرون بأنه
تعالى هو الذي نزل الفرقان فقد قام الدليل على إعجازه فصارت الصلة معلومة بحسب
الدليل ، وإن كانوا منكرين لذلك . وتقدّم في آل عمران لمَ سمي القرآن فرقاناً .
وقرأ الجمهور ) عَلَى عَبْدِهِ ( وهو الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ
ابن الزبير على عباده أي الرسول وأمته كما قال ) لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ( )
وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ( ويبعد أن يراد بالقرآن الكتب المنزلة ، وبعبده من نزلت
عليهم فيكون اسم جنس كقوله ) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا (
والضمير في ) لِيَكُونَ ). قال ابن زيد : عائد على ) عَبْدِهِ ( ويترجح بأنه
العمدة المسند إليه الفعل وهو من وصفه تعالى كقوله ) إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ).
والظاهر أن ) نَذِيراً ( بمعن منذر . وجوز أن يكون مصدراً بمعنى لإنذر كالنكير
بمعنى الإنكار ، ومنه ) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ). و ) لّلْعَالَمِينَ (
عام للإنس والجن ، ممن عاصره أو جاء بعده وهذا معلوم من الحديث المتواتر وظواهر
الآيات . وقرأ ابن الزبير ) لّلْعَالَمِينَ ( للجن والإنس وهو تفسير )
لّلْعَالَمِينَ ).
الفرقان : ( 2 ) الذي له ملك . . . . .
ولما سبق في أواخر السورة لا إن لله ما في السموات والأرض فكان إخباراً بأن ما
فيهما ملك له ، أخبر هنا أنه له ملكهما أي قهرهما وقهر ما فيهما ، فاجتمع له الملك
والملك لهما . ولما فيهما ، والذي مقطوع للمدح رفعاً أو نصباً أو نعت أو بد من )
الَّذِى نَزَّلَ ( وما بعد ) نَزَّلَ ( من تمام الصلة ومتعلق به فلا يعد فاصلاً
بين النعت أو البدل ومتبوعه .
( وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ( الظاهر نفي الاتخاذ أي لم ينزل أحداً منزلة الولد .
وقيل : المعنى لم يكن له ولد بمعنى قوله لم يلد لأن التوالد مستحيل عليه . وفي ذلك
رد على مشركي قريش وعلى النصارى واليهود الناسبين لله الولد . ) وَلَم يَكُنْ
لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ ( تأكيد لقوله ) لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالاْرْضَ ( ورد على من جعل لله شريكاً .
( وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء ( عام في خلق الذوات وأفعالها . قيل : وفي الكلام حذف
تقديره ) وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء ( مما يصح خلقه لتخرج عنه ذاته وصفاته القديمة انتهى
. ولا يحتاج إلى هذا المحذوف لأن من قال : أكرمت كل رجل لا يدخل هو في العموم
فكذلك لم يدخل في عموم ) وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء ( ذاته تعالى ولا صفاته القديمة . )
فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ( إن كان الخلق بمعنى التقدير ، فكيف جاء ) فَقَدَّرَهُ (
إذ يصير المعنى وقدر كل شيء يقدره ) تَقْدِيراً ). فقال الزمخشري : المعنى أنه
أحدث كل شيء إحداثاً مراعى فيه التقدير
" صفحة رقم 441 "
والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له ، أو سمي إحداث الله خلقاً لأنه لا يحدث شيئاً
لحكمته إلاّ على وجه التقدير من غير تفاوت . فإذا قيل : خلق الله كذا فهو بمنزلة
إحداث الله وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق ، فكأنه قيل : وأوجد كل شيء فقدره
في إيجاده متفاوتاً . وقيل : فجعل له غاية ومنتهى ، ومعناه ) فَقَدَّرَهُ ( للبقاء
إلى أمد معلوم . وقال ابن عطية : تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة والأزمان
والمقادير والمصلحة والاتقان انتهى .
الفرقان : ( 3 ) واتخذوا من دونه . . . . .
( وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَةً ( الضمير في ) وَاتَّخَذُواْ ( عائد على ما
يفهم من سياق الكلام لأن في قوله ) وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ
شَرِيكٌ ( دلالة على ذلك لم ينف إلاّ وقد قيل به . وقال الكرماني : الواو ضمير
للكفار وهم مندرجون في قوله ) لّلْعَالَمِينَ ). وقيل : لفظ ) نَذِيراً ( ينبىء
عنهم لأنهم المنذرون ويندرج في ) وَاتَّخَذُواْ ( كل من ادعى إلهاً غير الله ، ولا
يختص ذلك بعباد الأوثان وعباد الكواكب . وقال القاضي : يبعد أن يدخل فيه النصارى
لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع . والأقرب أن المراد به عبَدة الأصنام
، ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن لعبادها كثرة انتهى . ولا يلزم ما قال
لأن ) وَاتَّخَذُواْ ( جمع و ) ءالِهَةً ( جمع ، وإذا قوبل الجمع بالجمع تقابل الفرد
بالفرد ، ولا يلزم أن يقابل الجمع بالجمع فيندرج معبود النصارى في لفظ ) ءالِهَةً
).
ثم وصف الآلهة بانتفاء إنشائهم شيئاً من الأشياء إشارة إلى انتفاء القدرة بالكلية
، ثم بأنهم مخلوقون لله ذاتاً أو مصنوعون بالنحت والتصوير على شكل مخصوص ، وهذا
أبلغ في الخساسة ونسبة الخلق للبشر تجوز . ومنه قول زهير : ولأنت تفري ما خلقت
وبعض
القوم يخلق ثم لا يفري
وقال الزمخشري : الخلق بمعنى الافتعال كما في قوله ) وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً (
والمعنى أنهم آثروا على عبادته عبادة آلهة لا عجز أبَيْنَ من عجزهم ، لا يقدرون
على شيء من أفعال الله ولا أفعال العباد حيث لا يفتعلون شيئاً وهم يفتعلون لأن
عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير ) وَلاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِمْ ( دفع ضرر عنها
ولا جلب نفع إليها ، وهم يستطيعون وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع
الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلاّ
الله أعجز .
الفرقان : ( 4 ) وقال الذين كفروا . . . . .
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ). قال ابن عباس : هو النضر بن الحارث وأتباعه ،
والإفك أسوأ لكذب . ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ ( ، قال مجاهد : قوم من
اليهود ألقوا أخبار الأمم إليه . وقيل : عداس مولى حويطب بن عبد العزّى ، ويسار
مولى العلاء بن الحضرمي ، وجبر مولى عامر وكانوا كتابيين يقرؤون التوراة أسلموا
وكان الرسول يتعهدهم . وقال ابن عباس : أشاروا إلى قوم عبيد كانوا للعرب من الفرس
أبو فكيهة مولى الحضرميين . وجبر ويسار وعداس وغيرهم . وقال الضحاك : عنوا أبا
فكيهة الرومي . وقال المبرد : عنوا بقوم آخرين المؤمنين لأن آخر لا يكون إلاّ من
جنس الأول انتهى . وما قاله لا يلزم للاشتراك في جنس الإنسان ، ولا يلزم الاشتراك
في الوصف . ألا ترى إلى قوله ) فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى
كَافِرَةٌ ( فقد اشتركتا في مطلق الفئة ، واختلفتا في الوصف .
والظاهر أن الضمير في ) فَقَدْ ( عائد على ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ (
والمعنى أن هؤلاء الكفار وردوا ظلماً كما تقول : جئت المكان فيكون جاء متعدياً
بنفسه قاله الكسائي ، ويجوز أن يحذف الجار أي بظلم وزور ويصل الفعل بنفسه . وقال
الزجاج : إذا جاء يستعمل بهذين الاستعمالين وظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من
العجمي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب ، والزور إن بهتوه بنسبة ما
هو بريء منه إليه . وقيل : الضمير عائد على قوم آخرين وهو من كلام الكفار ،
الفرقان : ( 5 ) وقالوا أساطير الأولين . . . . .
والضمير في ) وَقَالُواْ ( للكفار وتقدم الكلام على ) أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( )
اكْتَتَبَهَا ( أي جمعها من قولهم كتب الشيء أي جمعه أو من الكتابة أي كتبها بيده
، فيكون ذلك من جملة كذبهم عليه وهم يعلمون أنه لا يكتب ويكون كاستكب الماء واصطبه
أي سكبه وصبه . ويكون لفظ افتعل مشعراً بالتكلف والاعتمال أو بمعنى
" صفحة رقم 442 "
أمر أن يكتب كقولهم احتجم وافتصد إذا أمر بذلك . ) فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ ( أي
تلقى عليه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على المتحفظ كصورة الإملاء على الكاتب .
و ) أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذه ) أَسَاطِيرُ ( و )
اكْتَتَبَهَا ( خبر ثان ، ويجوز أن يكون ) أَسَاطِيرُ ( مبتدأ و ) اكْتَتَبَهَا (
الخبر . وقرأ الجمهور ) اكْتَتَبَهَا ( مبنياً للفاعل . وقراءة طلحة مبنياً
للمفعول والمعنى ) اكْتَتَبَهَا ( كاتب له لأنه كان أمّياً لا يكتب بيده وذلك من
تمام إعجازه ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار ) اكْتَتَبَهَا ( إياه
كاتب كقوله ) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه
فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان بارزاً منصوباً وبقي ضمير الأساطير على حاله ،
فصار ) اكْتَتَبَهَا ( كما ترى انتهى . وهو من كلام الزمخشري ولا يصح ذلك على مذهب
جمهور البصريين لأن ) اكْتَتَبَهَا ( له كاتب وصل فيه اكتتب لمفعولين أحدهما مسرح
وهو ضمير الأساطير ، والآخر مقيد وهو ضميره عليه السلام . وثم اتسع في الفعل فحذف
حرف الجر فصار ) اكْتَتَبَهَا ( إياه كاتب فإذا بني هذا الفعل للمفعول إنما يتوب
عن الفاعل المفعول المسرح لفظاً وتقديراً لا المسرح لفظاً المقيد تقديراً ، فعلى
هذا كان يكون التركيب اكتتبته لا ) اكْتَتَبَهَا ( وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع
عن العرب في هذا النوع الذي أحد المفعولين فيه مسرح لفظاً وتقديراً والآخر مسرح
لفظاً لا تقديراً . قال الشاعر وهو الفرزدق : ومنا الذي اختير الرجال سماحة
وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
ولو جاء على ما قرره الزمخشري لجاء التركيب ومنا الذي اختيره الرجال لأن اختار
تعدى إلى الرجال على إسقاط حرف الجر إذ تقديره اختير من الرجال . والظاهر أن قوله
) اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ( من تمام قول الكفار
. وعن الحسن أنه قول الله سبحانه بكذبهم وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة في )
اكْتَتَبَهَا ( للاستفهام الذي في معنى الإنكار ، ووجهه أن يكون نحو قوله : أفرح
إن أرزأ الكرام وإن
آخذ ذوداً شصايصاً نبلا
وحق للحسن أن يقف على الأولين . والظهير تقييد الإملاء بوقت انتشار الناس وحين
الإيواء إلى مساكنهم وهما البكرة والأصيل ، أو يكونان عبارة عن الديمومة . وقرأ
طلحة وعيسى فهي تتلى بالتاء بدل الميم .
الفرقان : ( 6 ) قل أنزله الذي . . . . .
( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ ( أي كل سر خفي ، ورد عليهم بهذا وهو
وصفه تعالى بالعلم لأن هذا القرآن لم يكن ليصدر إلاّ من علام بكل المعلومات لما احتوى
عليه من إعجاز التركيب الذي لا يمكن صدوره من أحد ، ولو استعان بالعالم كلهم
ولاشتماله على مصالح العالم وعلى أنواع العلوم واكتفى بعلم السر لأن ما سواه أولى
أن يتعلق علمه به ، أو ) يَعْلَمْ ( ما تسرون من الكيد لرسوله مع علمكم ببطل ما
تقولون فهو مجازيكم ) إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ( إطماع في أنهم إذا تابوا
غفر لهم ما فرط من كفرهم ورخمهم . أو ) غَفُوراً رَّحِيماً ( في كونه أمهلكم ولم
يعاجلكم على ما استوجبتموه من العقاب بسبب مكابرتكم ، أو لما تقدم ما يدل على
العقاب أعقبه بما يدل على القدرة عليه لأن المتصف بالغفران والرحمة قادر على أن
يعاقب .
الفرقان : ( 6 ) قل أنزله الذي . . . . .
( وَقَالُواْ ( الضمير لكفار قريش ، وكانوا قد جمعهم والرسول مجلس مشهور ذكره ابن
إسحاق في السير فقال عتبة وغيره : إن كنت تحب الرئاسة ولَّيناك علينا أو المال
جمعنا لك ، فلما أبي عليهم اجتمعوا عليه فقالوا : مالك وأنت رسول من الله تأكل
الطعام وتقف بالأسواق لالتماس الرزق سل ربك أن ينزل معك ملكاً ينذر معك ، أو يلقي
إليك كنزاً تنفق منه ، أو يرد لك جبال مكة ذهباً وتزال الجبال ، ويكون مكانها جنات
تطرد فيها المياه وأشاعوا هذه المحاجة فنزلت الآية .
" صفحة رقم 443 "
وكتب في المصحف لام الجر مفصولة من ) هَاذَا ( و ) هَاذَا ( استفهام يصحبه استهزاء
أي ) مَّالِ هَاذَا ( الذي يزعم أنه رسول أنكروا عليه ما هو عادة للرسل كما قال )
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ
الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاْسْوَاقِ ( أي حاله كحالنا أي كان يجب أن يكون
مستغنياً عن الأكل والتعيش ، ثم قالوا : وهب أنه بشر فهلا أرفد بملك ينذر معه أو
يلقى إليه كنز من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش . ثم اقتنعوا بأن
يكون له بستان يأكل منه ويرتزق كالمياسير . وقرىء فتكون بالرفع حكاه أبو معاذ
عطفاً على ) أَنَزلَ ( لأن ) أَنَزلَ ( في موضع رفع وهو ماض وقع موقع المضارع ، أي
هلا ينزل إليه ملك أو هو جواب التحضيض على إضمار هو ، أي فهو يكون . وقراءة
الجمهور بالنصب على جواب التحضيض .
الفرقان : ( 8 ) أو يلقى إليه . . . . .
وقوله ) أَوْ يُلْقَى ( ) أَوْ ( يكون عطف على ) أَنَزلَ ( أي لو لا ينزل فيكون
المطلوب أحد هذه الأمور أو مجموعها باعتبار اختلاف القائلين ، ولا يجوز النصب في )
أَوْ يُلْقَى ( ولا في ) أَوْ تَكُونَ ( عطفاً على ) فَيَكُونُ ( لأنهما في حكم
المطلوب بالتحضيض لا في حكم الجواب لقوله ) لَوْ لا أَنَزلَ ). وقرأ قتادة والأعمش
: أو يكون بالياء من تحت . وقرأ ) يَأْكُلُ ( بياء الغيبة أي الرسول ، وزيد بن
عليّ وحمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش بنون الجمع أي يأكلون هم من ذلك
البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم .
( وَقَالَ الظَّالِمُونَ ( أي للمؤمنين . قال الزمخشري : وأراد بالظالمين إياهم
بأعيانهم وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوه انتهى . وتركيبه
وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم ليس تركيباً سائغاً بل التركيب العربي أن يقول : وأرادهم
بأعيانهم بالظالمين ) مَّسْحُورًا ( غلب على عقله السحر وهذا أظهر ، أو ذا سحر وهو
الرئة ، أو يسحر بالطعام وبالشراب أي يُغذي ، أو أصيب سحره كما تقول رأسته أصبت
رأسه . وقيل ) مَّسْحُورًا ( ساحراً عنوا به أنه بشر مثلهم لا ملك . وتقدم تفسيره
في الإسراء وبهذين القولين قيل : والقائلون ذلك النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي
أمية ونوفل بن خويلد ومن تابعهم .
الفرقان : ( 9 ) انظر كيف ضربوا . . . . .
( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَالَ ( أي قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا
لك تلك الصفات والأحوال النادرة من نبوة مشتركة بين إنسان وملك وإلقاء كنز عليك
وغير ذلك فبقوا متحيرين ضلالاً لا يجدون قولاً يستقرون عليه ، أي فضلوا عن الحق
فلا يجدون طريقاً له . وقيل : ) ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَالَ ( بالمسحور والكاهن
والشاعر وغيره ) فُضّلُواْ ( أخطؤوا الطريق فلا يجدون سبيل هداية ولا يطيقونه
لالتباسهم بضده من الضلال . وقيل ) فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ( إلى حجة
وبرهان على ما يقولون ، فمرة يقولون هو بليغ فصيح يتقول القرآن من نفسه ويفتريه
ومرة مجنون ومرة ساحر ومرة مسحور . وقال ابن عباس : شبه لك هؤلاء المشركون الأشباه
بقولهم هو مسحور فضلوا بذلك عن قصد السبيل ، فلا يجدون طريقاً إلى الحق الذي بعثك
به . وقال مجاهد : لا يجدون مخرجاً يخرجهم عن الأمثال التي ) ضَرَبُواْ لَكَ ).
ومعناه أنهم ) ضَرَبُواْ لَكَ ( هذه ليتوصلوا بها إلى تكذيبك ) فُضّلُواْ ( عن
سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا .
وقال بو عبد الله الرازي ؛ ) انْظُرْ كَيْفَ ( اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي
لا فائدة فيها لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك ، لم يجدوا إلى القدح
سبيلاً إذا لطعن عليه إنما يكون فيما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس
من القول . وقال الفراء : لا يستطيعون في أمرك حيلة . وقال السدي ) سَبِيلاً ( إلى
الطعن .
الفرقان : ( 10 ) تبارك الذي إن . . . . .
ولما قال المشركون ما قالوا قيل : فيما يروى إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا
ومفاتيحها ، ولم يعط ذلك أحد قبلك ولا يعطاه أحد بعدك وليس ذلك بناقصك في الآخرة
شيئاً ، وإن شئت جمعناه لك في الآخرة فقال : يجمع لي ذلك في الآخرة فنزل )
تَبَارَكَ الَّذِى ). وعن ابن عباس عنه عليه السلام قال : عرض على جبريل عليه
السلام بطحاء مكة ذهباً فقلت : بل شبعة وثلاث جوعات ، وذلك أكثر لذكري ومسألتي .
قال الزمخشري في ) تَبَارَكَ ( أي تكاثر خيراً ) الَّذِى إِن شَاء ( وهب لك في
الدنيا ) خَيْرًا ( مما قالوا وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات
والقصور انتهى . والإشارة بذلك الظاهر أنه إلى ما ذكره الكفار من الجنة والكنز في
الدنيا قاله مجاهد . ويبعد تأويل ابن عباس أنه إشاة إلى أكله الطعام
" صفحة رقم 444 "
ومشيه في الأسواق والظاهر أن هذا الجعل كان يكون في الدنيا لو شاءه الله . وقيل :
في الآخرة ودخلت إن على المشيئة تنبيهاً أنه لا ينال ذلك إلاّ برحمته وأنه معلق
على محض مشيئته ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة .
والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم . قال ابن عطية : ويرده قوله بعد ذلك )
بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ ( انتهى . ولا يرده لأن المعنى به متمكن وهو عطف على
ما حكى عنهم يقول : بل أتى بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة . وقرأ الجمهور )
وَيَجْعَلَ ( بالجزم قالوا عطفاً على موضع جعل لأن التقدير إن يشأ يجعل ويجوز أن
يكون مرفوعاً أدغمت لامه في لام ) لَكَ ( لكن ذلك لا يعرف إلاّ من مذهب أبي عمرو
والذي قرأ بالجزم من السبعة نافع وحمزة والكسائي وأبو عمرو ، وليس من مذهب الثلاثة
إدغام المثلين إذا تحرك أولهما إنما هو من مذهب أبي عمر وكما ذكرنا . وقرأ مجاهد
وابن عامر وابن كثير وحميد وأبو بكر ومحبوب عن أبي عمرو بالرفع . قال ابن عطية :
والاستئناف ووجهه العطف على المعنى في قوله ) جَعَلَ ( لأن جواب الشرط هو موضع
استئناف . ألا ترى أن الجمل من الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط ؟ وقال
الحوفي من رفع جعله مستأنفاً منقطعاً مما قبله انتهى . وقال أبو البقاء وبالرفع
على الاستئناف . وقال الزمخشري : وقرىء ) وَيَجْعَلَ ( بالرفع عطفاً على ) جَعَلَ
( لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله : وإن أتاه خليل يوم
مسألة
يقول لا غائب مالي ولا حرم
انتهى . وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري من أنه إذا كان فعل الشرط ماضياً جاز في
جوابه الرفع ليس مذهب سيبويه ، إذ مذهب سيبويه أن الجواب محذوف وأن هذا المضارع
المرفوع النية به التقديم ، ولكون الجواب محذوفاً لا يكون فعل الشرط إلاّ بصيغة الماضي
. وذهب الكوفيون والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء ، وذهب غير هؤلاء
إلى أنه هو الجواب وليس على حذف الفاء ولا على التقديم ، ولما لم يظهر لأداة الشرط
تأثير في فعل الشرط لكونه ماضي اللفظ ضعف عن العمل في فعل الجواب فلم تعمل فيه ،
وبقي مرفوعاً وذهب الجمهور إلى أن هذا التركيب فصيح وأنه جائز في الكلام . وقال
بعض أصحابنا : هو ضرورة إذ لم يجىء إلاّ في الشعر وهو على إضمار الفاء والكلام في
هذه المذاهب مذكور في علم النحو . وقرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان )
وَيَجْعَلَ ( بالنصب على إضمار أن . وقال أبو الفتح هي على جواب الشرط بالواو ،
وهي قراءة ضعيفة انتهى . ونظير هذه القراءات الثلاث قول النابغة : فإن يهلك أبو
قابوس يهلك
ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش
أجب الظهر ليس له سنام
يروى بجرم نأخذ ورفعه ونصبه .
الفرقان : ( 11 ) بل كذبوا بالساعة . . . . .
( بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ ( قال الكرماني : المعنى ما منعهم من الإيمان أكلك
الطعام ولا مشيك في السوق ، بل منعهم تكذيبهم بالساعة . وقيل : ليس ما تعلقوا به
شبهة بل الحامل على تكذبيك تكذبيهم بالساعة استثقالاً للاستعداد لها . وقيل : يجوز
أن يكون متصلاً بما يليه كأنه قال ) بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ ( فكيف يلتفتون
إلى هذا الجواب ، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة
انتهى . وبل لترك اللفظ المتقدم من غير إبطال لمعناه . وأخذ في لفظ آخر )
وَأَعْتَدْنَا ( جعلناه معداً . ) سَعِيراً ( ناراً كبيرة الإيقاد . وعن الحسن :
اسم من أسماء جهنم .
الفرقان : ( 12 ) إذا رأتهم من . . . . .
( إِذَ
" صفحة رقم 445 "
ا رَأَتْهُمْ ( قيل هو حقيقة وإن لجهنم عينين وروي في ذلك أثر فإن صح كان هو القول
الصحيح . وإلاّ كان مجازاً ، أي صارت منهم بقدر ما يرى الرائي من البعد كقولهم :
دورهم تتراءى أي تتناظر وتتقابل ، ومنه : لا تتراءى ناراهما . وقال قوم : النار
اسم لحيوان ناري يتكلم ويرى ويسمع ويتغير ويزفر حكاه الكرماني ، وقيل : هو على حذف
مضاف أي رأتهم جزنتها من مكان بعيد ، قيل : مسيرة خمسمائة عام . وقيل : مائة سنة .
وقيل : سنة ) سَمِعُواْ لَهَا ( صوت تغيظ لأن التغيظ لا يسمع ، وإذا كان على حذف
المضاف كان المعنى تغيظوا وزفروا غضباً على الكفار وشهوة للانتقام منهم . وقيل )
سَمِعُواْ ( صوت لهيبها واشتعالها وقيل هو مثل قول الشاعر : فيا ليت زوجك قد غدا
متقلداً سيفاً ورمحاً
وهذا مخرج على تخريجين أحدهما الحذف أي ومعتقلاً رمحاً . والثاني تضمين ضمن
متقلداً معنى متسلحاً فكذلك الآية أي ) سَمِعُواْ لَهَا ( ورأوا ) تَغَيُّظاً
وَزَفِيراً ( وعاد كل واحد إلى ما يناسبه . أو ضمن ) سَمِعُواْ ( معنى أدركوا
فيشمل التغيظ والزفير .
الفرقان : ( 13 ) وإذا ألقوا منها . . . . .
وانتصب ) مَكَاناً ( على الظرف أي في مكان ضيق . وعن ابن عباس : تضيق عليهم ضيق
الزج في الرمح مقرنين قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل . وقيل : يقرن مع كل كافر
شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد . وقرأ ابن كثير وعبيد عن أبي عمر وضيقاً .
قال ابن عطية : وقرأ أبو شيبة صاحب معاذ بن جبل مقرنون بالواو وهي قراءة شاذة ،
والوجه قراءة الناس ونسبها ابن خالويه إلى معاذ بن جبل ووجهها أن يرتفع على البدل
من ضمير ) أَلْقَوْاْ ( بدل نكرة من معرفة ونصب على الحال ، والظاهر دعاء الثبور وهي
الهلاك فيقولون : واثبوراه أي يقال يا ثبور فهذا أوانك . وقيل : المدعو محذوف
تقديره دعوا من لا يجيبهم قائلين ثبرنا ثبوراً . والثبور قال ابن عباس : هو الويل
، وقال الضحاك : هو الهلاك ومنه قول ابن الزبعري : إذ يجاري الشيطان في سنن الغي
ومن مال ميله مثبور
الفرقان : ( 14 ) لا تدعوا اليوم . . . . .
( لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ( يقول لهم ) لاَّ تَدْعُواْ ( أو هم أحق أن يقال لهم
ذلك وإن لم يكن هناك قول ، أي لا تقتصروا على حزن واحد بل احزنوا حزناً كثيراً
وكثرته إما لديمومة العذاب فهو متجدداً دائماً ، وإما لأنه أنواع وكل نوع يكون منه
ثبور لشدته وفظاعته . وقرأ عمرو بن محمد ) ثُبُوراً ( بفتح الثاء في ثلاثتها وفعول
بفتح الواو في المصادر قليل نحو البتول . وحكى عليّ بن عيسى : ما ثبرك عن هذا
الأمر أي ما صرفك . كأنهم دعوا بما فعلوا فقالوا : واصرفاه عن طاعة الله كما تقول
: واندامتاه . روي أن أول ما ينادي بذلك إبليس يقول : واثبوراه حتى يكسى حلة من
جهنم يضعها على جبينه ويسحبها من خلفه ، ثم يتبعه في القول أتباعه فيقول لهم خزان
جهنم ) لاَّ تَدْعُواْ ). وقيل : نزلت في ابن خطل وأصحابه .
الفرقان : ( 15 - 16 ) قل أذلك خير . . . . .
والظاهر أن الإشارة بذلك إلى النار وأحوال أهلها . وقيل إلى الجنة والكنز في قولهم
. وقيل إلى الجنة والقصور المجعولة في الدنيا على تقدير المشيئة و ) خَيْرٌ ( هنا
ليست تدل على الأفضلية بل هي على ما جرت عادة العرب في بيان فضل الشيء وخصوصيته
بالفضل دون مقابله كقوله :
شع فشركما لخيركما الفداء وكقول العرب : الشقاء أحب إليك أم السعادة . وكقوله )
السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ ( وهذا الاستفهام على سبيل
التوقيف والتوبيخ .
قال ابن عطية : ومن حيث كان الكلام استفهاماً جاز فيه
" صفحة رقم 446 "
مجيء لفظه للتفضيل بين الجنة والنار في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره
على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ ، وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل
إذا كان الكلام خبراً لأن فيه مخالفة ، وأما إذا كان استفهاماً فذلك سائغ انتهى .
وما ذكره يخالفه قوله :
فشركما لخيركما الفداء
وقوله ) السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ ( فإن هذا خبر . وكذلك قولهم : العسل أحلى من
الخل إلاّ إن تقيد الخبر بأنه إذا كان واضحاً الحكم فيه للسامع بحيث لا يختلج في
ذهنه ولا يتردد أيهما أفضل فإنه يجوز . وضمير ) الَّتِى ( محذوف أي وعدها وضمير )
مَا يَشَآءونَ ( كذلك أي ما يشاؤونه وفي قوله ما يشاؤنه دليل على أن حصول المرادات
بأسرها لا تكون ألاّ في الجنة . وشمل قوله ) جَزَاء وَمَصِيراً ( الثواب ومحله كما
قال ) نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ( وفي ضده ) بِئْسَ الشَّرَابُ
وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا ( لأنه بطيب المكان يتضاعف النعيم ، كما أنه برداءته يتضاعف
العذاب ) وَعْداً ( أي موعوداً ) مَسْؤُولاً ( سألته الملائكة في قولهم ) رَبَّنَا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ ( قاله محمد بن كعب والناس
في قولهم ) رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ( ) رَبَّنَا
ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاْخِرَةِ حَسَنَةً ( وقال معناه ابن عباس
وابن زيد .
وقال الفراء : ) وَعْداً مَسْؤُولاً ( أي واجباً يقال لأعطينك ألفاً وعداً مسؤولاً
أي واجباً ، وإن لم يسأل . قيل : وما قاله الفراء محال انتهى . وليس محالاً إذ
يكون المعنى أنه ينبغي أن يسأل هذا الوعد الذي وعدته أو بصدد أن يسأل أي من حقه أن
يكون مسؤولاً . و ) عَلَى رَبِّكَ ( أي بسبب الوعد صار لا بد منه . وقال الزمخشري
: كان ذلك موعوداً واجباً على ربك انجازه حقيقاً أن يسأل . ويطلب لأنه جزاء وأجر
مستحق ، وهذا على مذهب المعتزلة .
2 ( ) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ
أَءَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَاؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ
قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ
أَوْلِيَآءَ وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ
وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا
تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً
كَبِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ
لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاٌّ سْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ
لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً وَقَالَ الَّذِينَ لاَ
يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى
رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِىأَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ
وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ
مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( ) ) 2
) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَءنتُمْ
أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ
مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَاكِن
مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ وَكَانُواْ (
" صفحة رقم 447 "
الفرقان : ( 17 ) ويوم يحشرهم وما . . . . .
قرأ أبو جعفر والأعرج وابن كثير وحفص ) يَحْشُرُهُمْ ( و ) فَيَقُولُ ( بالياء
فيهما . وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر بالنون فيهما . وقرأ باقي السبعة في نحشرهم
بالنون وفي ) فَيَقُولُ ( بالياء . وقرأ الأعرج ) يَحْشُرُهُمْ ( بكسر الشين . قال
صاحب اللوامح في كل القرآن وهو القياس في الأفعال المتعدية الثلاثية لأن يفعل بضم
العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي . وقال ابن عطية : وهي قليلة
في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعل بكسر العين المتعدي أقيس من يفعل بضم العين
انتهى . وهذا ليس كما ذكر ابل فعل المتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة
ولا حلقى عين ولا لام فإنه جاء على يفعل ويفعل كثيراً ، فإن شهر أحد الاستعمالين
اتبع وإلاّ فالخيار حتى أن بعض أصحابنا خير فيهما سمعاً للكلمة أو لم يسمعا .
( وَمَا يَعْبُدُونَ ( قال الضحاك وعكرمة : الأصنام التي لا تعقل يقدرها الله على
هذه المقالة من الجواب . وقال الكلبي : يحيي الله الأصنام يومئذ لتكذيب عابديها .
وقال الجمهور : من عبد ممن يعقل ممن لم يأمر بعبادته كالملائكة وعيسى وعزير وهو
الأظهر كقوله ) أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى ( وما بعده من المحاورة التي ظاهرها أنها لا
تصدر إلاّ من العقلاء ، وجاء ما يشبه ذلك منصوصاً في قوله ) ثُمَّ تَقُولَ
لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( ) قُلتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( وسؤاله تعالى وهو
عالم بالمسؤول عنه ليجيبوا بما أجابوا به فيبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فيزيد حسرتهم
ويسر المؤمنون بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك ، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفاً
للمكلفين . وجاء الاستفهام مقدماً فيه الاسم على الفعل ولم يأت التركيب ) أأضللتم
( ولا أضلوا لأن كلاً من الإضلال والضلال واقع والسؤال إنما هو من فاعله . وتقدم
نظير هذا في ) قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هَاذَا بِئَالِهَتِنَا إِبْرَاهِيمَ (
وقال الزمخشري : وفيه كسر بيِّن لقول من يزعم أن الله يضل عباده على الحقيقة حيث
يقول للمعبودين من دونه ) أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى ( أم ضلوا بأنفسهم فيتبرؤون من
ضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون : بل أنت تفضلت من غير سابقة على
هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم ، فجعلوا الرحمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب
الكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا تبرأت الملائكة والرسل أنفسهم من
نسبة الضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منهم فهم لربهم الغنى العدل أشد
تبرئة وتنزيهاً منه ، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها .
وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحا الإضلال المجازي الذي
أسنده الله إلى ذاته في قوله ) يُضِلُّ مَن يَشَاء ( ولو كان هو المضل على الحقيقة
لكان الجواب العتيد أن يقولوا بل أنت أضللتم انتهى . وهو على طريقة المعتزلة .
والمعنى ) أَءنتُمْ ( أوقعتم هؤلاء ونسبتم لهم في إضلالهم عن الحق ، أم ) ضَلُّواْ
( بأنفسهم عنه . ضل أصله أن يتعدى بعن كقوله ) مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ( ثم
أتسع فحذف ، وأضله عن السبيل كما أن هدى يتعدى بإلى ثم يحذف ويضل مطاوع أضل كما
تقول : أقعدته فقعد .
الفرقان : ( 18 ) قالوا سبحانك ما . . . . .
و ) سُبْحَانَكَ ( تنزيه لله تعالى أن يشرك معه في العبادة أحد أو يفرد بعبادة
فأنّى لهم أن يقع منهم إضلال أحدوهم المنزهون المقدسون ، أن يكون أحد منهم نداً
وهو المنزه عن الند والنظير .
وقال الزمخشري : ) سُبْحَانَكَ ( تعجب منهم مما قيل لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون
فما أبعدهم عن الإضرل الذي هو مختص بإبليس وحزبه انتهى .
وقرأ علقمة ما ى نبغي بسقوط كان وقراءة الجمهور بثبوتها أمكن في المعنى لأنهم
أخبروا عن حال كانت في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه . وقرأ أبو عيسى الأسود
القاري ) يَنبَغِى لَنَا ( مبنياً للمفعول . وقال ابن خالويه : زعم سيبويه أن
ينبغي لغة .
وقرأ الجمهور : ) أَن نَّتَّخِذَ ( مبنياً للفاعل و ) مِنْ أَوْلِيَاء ( مفعول على
زيادة ) مِنْ ( وحسن زيادتها انسحاب النفي على ) نَّتَّخِذَ ( لأنه معمول لينبغي .
وإذا انتفى الابتغاء لزم منه انتفاء متعلقة وهو اتخاذ وليّ من دون الله . ونظيره )
مَّا يَوَدُّ
" صفحة رقم 448 "
الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ
عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ ( أي خير والمعنى ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون
أن نتولى أحداً دونك ، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك . وقال أبو
مسلم ) مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا ( أن نكون أمثال الشياطين نريد الكفر فنتولى
الكفار قال ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ). وقرأ أبو
الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة وزيد بن عليّ وأخوه الباقر ومكحول
والحسن وأبو جعفر وحفص بن عبيد والنخعي والسلمي وشيبة وأبو بشر والزعفراني أن
يُتخذ مبنياً للمفعول واتخذ مما يتعدى تارة لواحد كقوله ) أَمِ اتَّخَذُواْ
الِهَةً مّنَ الاْرْضِ ( وعليه قراءة الجمهور وتارة إلى اثنين كقوله )
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( فقيل : هذه القراءة منه فالأول
الضمير في ) نَّتَّخِذَ ( والثاني ) مِنْ أَوْلِيَاء ( و ) مِنْ ( للتبعيض أي لا
يتخذ بعض أولياء وهذا قول الزمخشري .
وقال ابن عطية : ويضعف هذه القراءة دخول ) مِنْ ( في قوله ) مِنْ أَوْلِيَاء (
اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره . وقال أبو الفتح ) مِنْ أَوْلِيَاء ( في موضع
الحال ودخلت ) مِنْ ( زيادة لمكان النفي المتقدم كما تقول : ما اتخذت زيداً من
وكيل . وقيل ) مِنْ أَوْلِيَاء ( هو الثاني على زيادة ) مِنْ ( وهذا لا يجوز عند
أكثر النحويين إنما يجوز دخولها زائدة على المفعول الأول بشرطه . وقرأ الحجاج أن
نتخذ من دونك أولياء فبلغ عاصماً فقال : مقت المخدّج أو ما علم أن فيها ) مِنْ (
ولما تضمن قولهم ) مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ
أَوْلِيَاء ( أنّا لم نضلهم ولم نحملهم على الامتناع من الإيمان صلح أن يستدرك
بلكن ، والمعنى لكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعم وأطلت أعمارهم وكان يجب عليهم
شكرها والإيمان بما جاءت به الرسل ، فكان ذلك سبباً للإعراض عن ذكر الله . قيل :
ولكن متعتهم كالرمز إلى ما صرح به موسى من قوله ) إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ (
أي أنت الذي أعطيتهم مطالبهم من الدنيا حتى صاروا غرقى في بحر الشهوات فكان صارفاً
لهم عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك و ) الذّكْرِ ( ما ذكر به الناس على
ألسنة الأنبياء أو الكتب المنزلة أو القرآن . والبور : قيل مصدر يوصف به الواحد
والجمع . وقيل : جمع بائر كعائذ وعوذ . قيل : معناه هلكى . وقيل : فدى وهي لغة
الأزد يقولون : أمر بائر أي فاسد ، وبارت البضاعة : فسدت . وقال الحسن : لا خير
فيهم من قولهم أرض بور أي معطلة لا نبات فيها . وقيل ) بُوراً ( عمياً عن الحق .
الفرقان : ( 19 ) فقد كذبوكم بما . . . . .
( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ( هذا من قول الله بلا خلاف وهي مفاجأة ، فالاحتجاج
والإلزام حسنة رابعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وهو على إضمار القول كقوله )
مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ ( أي فقلنا قد
جاءكم . وقول الشاعر : قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
ثم القفول فقد جئنا خراسانا
أي فقلنا قد جئنا وكذلك هذا أي فقلنا قد كذبوكم ، فإن كان المجيب الأصنام فالخطاب
للكفار أي قد كذبتكم معبوداتكم من الأصنام بقولهم ) مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا (
وإن كان الخطاب للمعبودين من العقلاء عيسى والملائكة وعزير عليهم السلام ، وهو
الظاهر لتناسق الخطاب مع قوله ) أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى ( أي كذبكم المعبودون )
بِمَا تَقُولُونَ ( أي بقولهم أنكم أضللتموهم ، وزعمهم أنكم أولياؤهم من دون الله
. ومن قرأ ) بِمَا تَقُولُونَ ( بتاء الخطاب فالمعنى فيما تقولون أي ) سُبْحَانَكَ
مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء ). وقيل :
الخطاب للكفار العابدين أي كذبكم المعبودون بما تقولون من الجواب . ) سُبْحَانَكَ
مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا ( أو فيما تقولون أنتم من الافتراء عليهم خوطبوا على جهة
التوبيخ والتقريع . وقيل : هو خطاب للمؤمنين في الدنيا أي قد كذبكم أيها المؤمنون
الكفار في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد والشرع . وقرأ الجمهور ) بِمَا
تَقُولُونَ ( بالتاء من فوق . وأبو حيوة وابن الصلت عن قنبل بالياء من تحت .
وقرأ حفص وأبو حيوة والأعمش
" صفحة رقم 449 "
وطلحة ) فَمَا تَسْتَطِيعُونَ ( بتاء الخطاب ، ويؤيد هذه القراءة أن الخطاب في )
كَذَّبُوكُمْ ( للكفار العابدين . وذكر عن ابن كثير وأبي بكر أنهما قرآ بما يقولون
فما يستطيعون بالياء فيهما أي هم . ) صَرْفاً ( أي صرف العذاب أو توبة أو حيلة من
قولهم إنه ليتصرف أي يحتال ، هذا إن كان الخطاب في ) كَذَّبُوكُمْ ( للكفار فالتاء
جارية على ذلك ، والياء التفات وإن كان للمعبودين فالتاء التفات . والياء جارية
على ضمير ) كَذَّبُوكُمْ ( المرفوع وإن كان الخطاب للمؤمنين أمّة الرسول عليه
السلام في قوله ) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ( فالمعنى أنهم شديد والشكيمة في التكذيب )
فَمَا تَسْتَطِيعُونَ ( أنتم صرفهم عما هم عليه من ذلك . وبالياء فما يستطيعون )
صَرْفاً ( لأنفسهم عما هم عليه . أو ما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه . )
وَلاَ نَصْراً ( لأنفسهم من البلاء الذي استوجبوه بتكذبيهم .
( وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ ( الظاهر أنه عام . وقيل : خطاب للمؤمنين . وقيل : خطاب
للكافرين . والظلم هنا الشرك قاله ابن عباس والحسن وابن جريج ، ويحتمل دخول
المعاصي غير الشرك في الظلم . وقال الزمخشري : العذاب الكبير لا حق لكل من ظلم
والكافر ظالم لقوله ) إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( والفاسق ظالم لقوله )
وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( انتهى وفيه دسيسة الاعتزال
. وقرىء : يذقه بياء الغيبة أي الله وهو الظاهر . وقيل : هو أي الظلم وهو المصدر
المفهوم من قوله ) يَظْلِمُ ( أي يذقه الظلم .
الفرقان : ( 20 ) وما أرسلنا قبلك . . . . .
ولما تقدم الطعن على الرسول بأكل الطعام والمشي في الأسواق أخبر تعالى أنها عادة
مستمرة في كل رسالة ومفعول ) أَرْسَلْنَا ( عند الزجاج والزمخشري ومن تبعهما محذوف
تقديره أحداً . وقدره ابن عطية رجالاً أو رسلاً . وعاد الضمير في ) أَنَّهُمْ (
على ذلك المحذوف كقوله ) وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ ( أي وما منا أحد
والجملة عند هؤلاء صفة أعني قوله ) أَلاَ إِنَّهُمْ ( كأنه قال إلاّ آكلين وماشين
. وعند الفراء المفعول محذوف وهو موصول مقدر بعد إلاّ أي إلاّ من . ) أَنَّهُمْ (
والضمير عائد على ) مِنْ ( على معناها فيكون استثناء مفرغاً وقيل : إنهم قبله قول
محذوف أي ) إِلا ( قيل ) أَنَّهُمْ ( وهذان القولان مرجوحان في العربية . وقال ابن
الأنباري : التقدير إلاّ وإنهم يعنى أن الجملة حالية وهذا هو المختار . قد ردّ على
من قال إن ما بعد إلاّ قد يجيء صفة وإما حذف الموصول فضعيف وقد ذهب إلى حكاية
الحال أيضاً أبو البقاء قال : وقيل لو لم تكن اللام لكسرت لأن الجملة حالية إذ
المعنى إلاّ وهم يأكلون . وقرىء ) أَنَّهُمْ ( بالفتح على زيادة اللام وإن مصدرية
التقدير إلاّ أنهم يأكلون أي ما جعلناهم رسلاً إلى الناس إلاّ لكونهم مثلهم . وقرأ
الجمهور : ) وَيَمْشُونَ ( مضارع مشى خفيفاً . وقرأ عليّ وابن مسعود وعبد الرحمن
بن عبد الله ) يَمْشُونَ ( مشدداً مبنياً للمفعول ، أي يمشيهم حوائجهم والناس .
قال الزمخشري : ولو قريء ) يَمْشُونَ ( لكان أوجه لولا الرواية انتهى . وقد قرأ
كذلك أبو عبد الرحمن السلمي مشدد مبنياً للفاعل ، وهي بمعنى ) يَمْشُونَ ( قراءة
الجمهور . قال الشاعر : ومشى بأعطان المباءة وابتغى
قلائص منها صعبة وركوب
) وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ ). قال ابن عطية : هو عام للمؤن والكافر ، فالصحيح فتنة
للمريض ، والغني فتنة للفقير ، والفقير الشاكر فتنة للغني ، والرسول المخصوص
بكرامة النبوّة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره ، وكذلك العلماء وحكام العدل .
وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى . وروي قريب من هذه عن ابن عباس
والحسن . قال ابن عطية : والتوقيف بأتصبرون خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمّة محمد (
صلى الله عليه وسلم ) ) ، كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي اختباراً ثم
وقفهم . هل تصبرون أم لا ؟ ثم أعرب قوله ) وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ( عن الوعد
للصابرين والوعيد للعاصين .
وقال الزمخشري : ) فِتْنَةً ( أي محنة وبلاء ، وهذا تصبر لرسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) على ما قالوه واستبعدوه من أكله الطعام ومشيه في اوسواق
" صفحة رقم 450 "
بعدما احتج عليهم بسائر الرسل يقول : جرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم أيها
الناس ببعض . والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة
وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف وأنواع أذاهم ، وطلب منهم الصبر الجميل ونحوه )
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ( الآية وموقع ) أَتَصْبِرُونَ ( بعد ذكر الفتنة موقع
) أَيُّكُمْ ( بعد الابتلاء في قوله ) لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً
).
) بَصِيراً ( عالماً بالصواب فيما يبتلى به وبغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك
أقاويلهم فإن في صبرك عليهم سعادة ، وفوزك في الدارين . وقيل : هو تسلية عما عيروه
به من الفقر حين قالوا ) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ
( وأنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء لينظر هل تصبرون وأنها حكمته ومشيئته يغني من
يشاء ويفقر من يشاء . وقيل : جعلنا فتنة لهم لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنات
لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا ، وإنما بعثناك فقيراً لتكون
طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله من غير طمع دينوي . وقيل : كان أبو جهل
والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون إن أسلمنا وقد أسلم
قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان فرفعوا علينا إدلالاً بالسابقة فهو افتتان
بعضهم ببعض انتهى . وفيه تكثير وهذا القول الأخير قول الكلبي والفراء والزجاج .
والأولى أن قوله ) وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ( يشمل معاني هذه
الألفاظ كلها لأن بين الجميع قدراً مشتركاً . وقيل : في قوله ) أَتَصْبِرُونَ (
أنه استفهام بمعنى الأمر أي اصبروا ،
الفرقان : ( 21 ) وقال الذين لا . . . . .
والظاهر حمل الرجاء على المشهور من استعماله والمعنى لا يأملون لقاءنا بالخير
وثوابنا على الطاعة لتكذيبهم بالبعث لكفرهم بما جئت به . وقال أبو عبيدة وقوم :
معناه لا يخافون . وقال الفراء : لا يرجون نشوراً لا يخافون ، وهذه الكلمة تهامية
وهي أيضاً من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف . فتقول :
فلان لا يرجو ربه يريدون لا يخاف ربه ، ومن ذلك ) مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ
لِلَّهِ وَقَاراً ( أي لا تخافون لله عظمة وإذا قالوا : فلان يرجو ربه فهذا معنى
الرجاء لا على الخوف . وقال الشاعر : إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
وحالفها في بيت نوب عوامل وقال آخر :
لا ترجى حين تلاقي الذائذا
أسبعة لاقت معاً أم واحداً
انتهى . ومن لازم الرجاء للثواب الخوف من العقاب ، ومن كان مكذباً بالبعث لا يرجو
ثواباً ولا يخاف عقاباً ومن تأول لم يرج لسعها على معنى لم يرج دفعها ولا الانفكاك
عنها . فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله فتأويله ممكن لكن الفراء وغيره نقلوا
ذلك لغة لهذيل في النفي والشاعر هذلي ، فينبغي أن لا يتكلف للتأويل وأن يحمل على
لغته .
( لَوْ لا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَةُ ( فتخبرنا أنك رسول حقاً ) أَوْ نَرَى
رَبَّنَا ( فيخبرنا بذلك قاله ابن جريج وغيره . وهذه كما قالت اليهود ) لَن
نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ( وكقولهم أعني المشركين ) أَوْ
تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ قَبِيلاً ( وهذا كله في سبيل التعنت ، وإلاّ
فما جاءهم به من المعجزات كاف لو وفقوا . ) لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ ( أي تكبروا )
فِى أَنفُسِهِمْ ( أي عظموا أنفسهم بسؤال رؤية الله ، وهم ليسوا بأهل لها . والمعنى
أن سؤال ذلك إنما هو لما أضمروا في أنفسهم من الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد
الكامن في قلوبهم الظاهر عنه ما لا يقع لهم كما قال ) إِن
" صفحة رقم 451 "
فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ( واللام في لقد جواب قسم
محذوف و ) عَتَوْاْ ( تجاوزوا الحد في الظلم ووصفه بكبير مبالغة في إفراطه أي لم
يجسروا على هذا القول العظيم إلاّ لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو . وجاء
هنا ) عَتَوْاْ ( على الأصل وفي مريم ) عِتِيّاً ( على استثقال اجتماع الواوين
والقلب لمناسبة الفواصل . قال ابن عباس ) عَتَوْاْ ( كفروا أشد الكفر وأفحشوا .
وقال عكرمة : تجبروا . وقال ابن سلام : عصوا . وقال ابن عيسى : أسرفوا . قال
الزمخشري : هذه الجملة في حسن استيفائها غاية في أسلوبها . ونحوه قول القائل :
وجارة جساس أبأنا بنابها
كليباً غلت ناب كليب بواؤها
في نحو هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ تعجب ، ألا ترى أن المعنى ما أشدّ
استكبارهم وما أكثر عتوهم وما أغلى نابا بواؤها كليب .
الفرقان : ( 22 ) يوم يرون الملائكة . . . . .
( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئِكَةَ ( ) يَوْمٍ ( منصوب ب ( اذكر ) وهو أقرب أو بفعل
يدل عليه ) لا ( أي يمنعون البشرى ولا يعمل فيه ) الْمَلَئِكَةَ لاَ بُشْرَى (
لأنه مصدر ولأنه منفي بلا التي لنفي الجنس لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ،
وكذا الداخلة على الأسماء عاملة عمل ليس ، ودخول ) لا ( على ) بُشْرىً ( لانتفاء
أنواع البشرى وهذا اليوم الظاهر أنه يوم القيامة لقوله بعد ) وَقَدِمْنَا إِلَى
مَا عَمِلُواْ ( وعن ابن عباس : عند الموت والمعنى أن هؤلاء الذين اقترحوا نزول
الملائكة لا يعرفون ما يكون لهم إذا رأوهم من الشر وانتفاء البشارة وحصول الخسار
والمكروه . واحتمل ) بُشْرىً ( أن يكون مبنياً مع ) لا ( واحتمل أن يكون في نية
التنوين منصوب اللفظ ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنياً مع ) لا (
احتمل أن يكون الخبر ) يَوْمَئِذٍ ( خبر بعد خبر أو نعت لبشرى ، أو متعلق بما تعلق
به الخبر ، وأن يكون ) فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ( صفة لبشرى ، والخبر ) لّلْمُجْرِمِينَ
( ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس ) لا ( أو الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع
) لا ( وما بني معها ؟ وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون ) يَوْمَئِذٍ
( معمولاً لبشرى ، وأن يكون صفة ، والخبر من الخبر . وأجاز أن يكون ) يَوْمَئِذٍ (
و ) لّلْمُجْرِمِينَ ( خبر وجاز أن يكون ) يَوْمَئِذٍ ( خبراً و ) لّلْمُجْرِمِينَ
( صفة ، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنياً لنفس لا بإجماع .
وقال الزمخشري : و ) يَوْمَئِذٍ ( للتكرير وتبعه أبو البقاء ، ولا يجوز أن يكون
تكريراً سواء أريد به التوكيد اللفظي أم أريد به البدل ، لأن ) يَوْمٍ ( منصوب بما
تقدم ذكره من اذكر أو من يعدمون البشرى وما بعد ) لا ( العاملة في الاسم لا يعمل
فيه ما قبلها وعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبل إلاّ والظاهر عموم المجرمين
فيندرج هؤلاء القائلون فيهم . قيل : ويجوز أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير ،
والظاهر أن الضمير في ) وَيَقُولُونَ ( عائد على القائلين لأن المحدث عنهم كانوا
يطلبون نزول الملائكة ، ثم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم
إلاّ بما يكرهون فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو ونزول الشدة
وقال معناه مجاهد قال ) حِجْراً ( عواذاً يستعيذون من الملائكة . وقال مجاهد وابن
جريج : كانت العرب إذا كرهت شيئاً قالوا حجراً . وقال أبو عبيدة : هاتان اللفظتان
عوذة للعرب يقولهما من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة
انتهى . ومنه قول المتلمس : حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها
حجر حرام ألا تلك الدهايس أي هذا الذي حننت إليه هو ممنوع ، وذكر سيبويه ) حِجْراً
( في المصادر المنصوبة غير المتصرفة . وقال بعض الرجاز :
" صفحة رقم 452 "
قالت وفيها حيرة وذعر
عوذ يرى منكم وحجر
وأنه واجب إضمار ناصبها . قال سيبويه : ويقول الرجل للرجل أتفعل كذا ؟ فيقول حجراً
وهي من حجره إذا منعه لأن المتسعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه لا يلحقه .
وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك ) حِجْراً ( بضم الحاء . وقيل : الضمير في )
وَيَقُولُونَ ( عائد على الملائكة أي تقول الملائكة للمجرمين ) حِجْراً
مَّحْجُوراً ( عليكم البشرى و ) مَّحْجُوراً ( صفة يؤكد معنى ) حِجْراً ( كما
قالوا : موت مائت ، وذيل ذائل ،
الفرقان : ( 23 ) وقدمنا إلى ما . . . . .
والقدوم الحقيقي مستحيل في حق الله تعالى فهو عبارة عن حكمه بذلك وإنفاذه .
قيل : أو على حذف مضاف أي قدمت ملائكتنا وأسند ذلك إليه لأنه عن أمره ، وحسنت لفظة
) قدمنا ( لأن القادم على شيء مكروه لم يقرره ولا أمر به مغير له ومذهب ، فمثلت
حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف ، ومنّ
علي أسير . وغير ذلك من مكارمهم بحال قوم خالفوا سلطانهم فقصد إلى ما تحت أيديهم
فمزقها بحيث لم يترك لها أثراً ، وفي أمثالهم أقل من الهباء و ) هَبَاء مَّنثُوراً
( صفة للهباء شبهه بالهباء لقلته وأنه لا ينتفع به ، ثم وصفه بمنثوراً لأن الهباء
تراه منتظماً مع الضوء فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب . وقال الزمخشري : أو
جعله يعني ) مَّنثُوراً ( مفعولاً ثالثاً لجعلناه أي ) فَجَعَلْنَاهُ ( جامعاً
لحقارة الهباء والتناثر . كقوله ) كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( أي جامعين للمسخ
والخسء انتهى . وخالف ابن درستويه فخالف النحويين في منعه أن يكون لكان خبران
وأزيد . وقياس قوله في جعل أن يمنع أن يكون لها خبر ثالث .
وقال ابن عباس : الهباء المنثور ما تسفي به الرياح وتبثه . وعنه أيضاً : الهباء
الماء المهراق والمستقر مكان الاستقرار في أكثر الأوقات .
الفرقان : ( 24 ) أصحاب الجنة يومئذ . . . . .
والمقيل المكان الذي يأوون إليه في الاسترواح إلى الأزواج والتمتع ، ولا نوم في
الجنة فسمي مكان استرواحهم إلى الحور ) مَقِيلاً ( على طريق التشبيه إذ المكان
المتخير للقيلولة يكون أطيب المواضع . وفي لفظ ) أَحْسَنُ ( رمز إلى ما يتزين به
مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور إلى غير ذلك من التحاسين . و ) خَيْرٌ ( قيل :
ليست على بابها من استعمالها دلالة على الأفضلية فيلزم من ذلك خير في مستقر أهل
النار ، ويمكن إبقاؤها على بابها ويكون التفضيل وقع بين المستقرين والمقيلين
باعتبار الزمان الواقع ذلك فيه . فالمعنى ) خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( في الآخرة من
الكفار المترفين في الدنيا ) وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( في الآخرة من أولئك في الدنيا
. وقيل : ) خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( منهم لو كان لهم مستقر ، فيكون التقدير وجود
مستقر لهم فيه خير . وعن ابن مسعود وابن عباس والنخعي وابن جبير وابن جريج ومقاتل
: إن الحساب يكمل في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، ويقيل أهل الجنة في الجنة
وأهل النار في النار .
2 ( ) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَئِكَةُ
تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى
الْكَافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى
اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ
فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى
وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ
قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ
نَبِىٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً
وَاحِدَة
" صفحة رقم 453 "
كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلاَ يَأْتُونَكَ
بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً الَّذِينَ
يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً
وَأَضَلُّ سَبِيلاً ( )
) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ
عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى
لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا
لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ
بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً وَقَالَ
الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى
بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ
عَلَيْهِ الْقُرْءانُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ
وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ
وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ
أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً ).
الفرقان : ( 25 ) ويوم تشقق السماء . . . . .
قرأ الحرميان وابن عامر ) تَشَقَّقُ ( بإدغام التاء من تتشقق في الشين هنا . وفي ق
وباقي السبعة بحذف تلك التاء ويعني يوم القيامة كقوله ) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ
). وقرأ الجمهور : ) وَنُزّلَ ( ماضياً مشدداً مبنياً للمفعول ، وابن مسعود وأبو
رجاء ) وَنُزّلَ ( ماضياً مبنياً للفاعل . وعنه أيضاً وأنزل مبنياً للفاعل وجاء
مصدره ) تَنْزِيلاً ( وقياسه إنزالاً إلاّ أنه لما كان معنى أنزل ونزَّل واحداً
جاز مجيء مصدر أحدما للآخر كما قال الشاعر :
حتى تطوّيت انطواء الخصب
كأنه قال : حتى انطويت . وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية وأنزل ماضياً
رباعياً مبنياً للمفعول مضارعه ينزل . وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو )
وَنُزّلَ ( ثلاثى اً مخففاً مبنياً للفاعل ، وهارون عن أبي عمرو وتنزل بالتاء من
فوق مضارع نزل مشدداً مبنياً للفاعل ، وأبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو ) وَنُزّلَ
الْمَلَائِكَةُ ( بضم النون وشد الزاي ، أسقط النون من وننزل وفي بعض المصاحف
وننزل بالنون مضارع نزل مشدداً مبنياً للفاعل . ونسبها ابن عطية لابن كثير وحده
قال : وهي قراءة أهل مكة ورويت عن أبي عمرو . وعن أبيّ أيضاً وتنزلت . وقرأ أبيّ
ونزلت ماضياً مشدداً مبنياً للمفعول بتاء التأنيث . وقال صاحب اللوامح عن الخفاف
عن أبي عمرو : ) وَنُزّلَ ( مخففاً مبنياً للمفعول ) الْمَلَائِكَةَ ( رفعاً ، فإن
صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وتقديره : ونزل نزول
الملائكة فحذف النزول ونقل إعرابه إلى ) الْمَلَائِكَةَ ( بمعنى نزول نازل
الملائكة لأن المصدر يكون بمعنى الاسم ، وهذا مما يجيء على مذهب سيبويه في ترتيب
اللازم للمفعول به لأن الفعل يدل على مصدره انتهى .
وقال أبو الفتح : وهذا غير معروف لأن ) نَزَّلَ ( لا يتعدى إلى مفعول فيبني هنا
للملائكة ، ووجهه أن يكون مثل زكم الرجل وجن فإنه لا يقال إلاّ أزكمه الله وأجنه .
وهذا باب سماع لا قياس انتهى . فهذه إحدى عشرة قراءة . والظاهر أن الغمام هو
السحاب المعهود . وقيل هو الله في قوله ) فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ ). وقال ابن
جريج : الغمام الذي يأتي الله فيه في الجنة زعموا . وقال الحسن : سترة بين السماء
والأرض تعرج الملائكة فيه تنسخ أعمال بني آدم ليحاسبوا . وقيل : غمام أبيض رقيق
مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم ، والظاهر أن ) السَّمَاء ( هي المظلة
لنا . وقيل : تتشقق سماء سماءى قاله مقاتل . والباء باء الحال أي متغيمة أو باء
السبب أي بسبب طلوع الغمام منه كأنه الذي تتشقق به السماء كما تقول : شق السنام
بالشفرة وانشق بها ونظيره قوله ) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ( أو بمعنى عن أقوال
ثلاثة . والفرق بين الباء السببية وعن أن انشق عن كذا تفتح عنه وانشق بكذا أنه هو
الشاق له .
( وَنُزّلَ الْمَلَائِكَةُ ( أي إلى الأرض لوقوع الجزاء والحساب .
الفرقان : ( 26 ) الملك يومئذ الحق . . . . .
و ) الْحَقّ ( صفة للملك أي الثابت لأن كل ملك يومئذ يبطل ، ولا يبقى إلاّ ملكه
تعالى وخبر ) الْمَلِكُ ( ) يَوْمَئِذٍ ). و ) الرَّحْمَنُ ( متعلق بالحق أو
للبيان أعني ) لِلرَّحْمَانِ ). وقيل : الخبر ) لِلرَّحْمَانِ ( و ) يَوْمَئِذٍ (
معمول للملك . وقيل : الخبر ) الْحَقّ ( و ) لِلرَّحْمَانِ ( متعلق به أو للبيان ،
وعسر ذلك اليوم على الكافرين بدخولهم النار وما في خلال ذلك من المخاوف . ودل قوله
) عَلَى الْكَافِرِينَ ( على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث أنه يهون حتى يكون على
المؤمن أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا
الفرقان : ( 27 ) ويوم يعض الظالم . . . . .
والظاهر
" صفحة رقم 454 "
عموم الظالم إذ اللام فيه للجنس قاله مجاهد وأبو رجاء ، وقالا : فلان هو كناية عن
الشيطان .
وقال ابن عباس وجماعة : ) الظَّالِمِ ( هنا عقبة بن أبي معيط إذ كان جنح إلى
الإسلام وأبيّ بن خلف هو المكني عنه بفلان ، وكان بينهما مخالة فنهاه عن الإسلام
فقبل منه . وعن ابن عباس أيضاً . عكس هذا القول . قيل وسبب نزولها هو عقبة وأبي .
وقيل : كان عقبة خليلاً لأمية فأسلم عقبة فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن بايعت
محمداً فكفر وارتد لرضا أمية فنزلت قاله الشعبي . وذكر من إساءة عقبة على الرسول
ما كان سبب أن قال له الرسول عليه السلام : ( لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت
رأسك بالسيف ) . فقتل عقبة يوم بدر صبراً أمر علياً فضرب عنقه ، وقتل أبيّ بن خلف
يوم أحد في المبارزة . والمقصود ذكر هول يوم القيامة بتندم الظالم وتمنيه أنه لم
يكن أطاع خليله الذي كان يأمره بالظلم وما من ظالم إلا وله في الغالب خليل خاص به
يعبر عنه بفلان . والظاهر أن ) الظَّالِمِ ( ) يَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ ( فعل
النادم المتفجع . وقال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ، ولا يزال كذلك
كلما أكلها نبتت . وقيل : هو مجاز عبر به عن التحير والغم والندم والتفجع ونقل
أئمة اللغة أن المتأسف المتحزن المتندم يعض على إبهامه ندماً وقال الشاعر : لطمت
خدها بحمر لطاف
نلن منها عذاب بيض عذاب
فتشكى العناب نور إقاح
واشتكى الورد ناضر العناب
وفي المثل : يأكل يديه ندماً ويسيل دمعه دماً . وقال الزمخشري : عض الأنامل
واليدين والسقوط في اليد وأكل البنان وحرق الأسنان والإرم وفروعها كنايات عن الغيظ
والحسرة لأنها من روادفها فتذكر الرادفة . ويدل بها على المردوف فيرتفع الكلام به
في طبقة الفصاحة ، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجد عند
لفظ المكنى عنه انتهى . وقال الشاعر في حرق الناب : أبى الضيم والنعمان يحرق نابه
عليه فأفضى والسيوف معاقله
) يِقُولُ ( في موضع الحال أي قائلاً ) ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى ( فان كانت اللام للعهد
فالمعنى أنه تمنى عقبة أن لو صحب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) وسلك طريق الحق
، وإن كانت اللام للجنس فالمعنى أنه تمنى . سلوك طريق الرسول وهو الإيمان ، ويكون
الرسول للجنس لأن كل ظالم قد كلف اتّباع ما جاء به رسول من الله إلى أن جاءت الملة
المحمدية فنسخت جميع الملل ، فلا يقبل بعد مجيئه دين غير الذي جاء به .
الفرقان : ( 28 - 29 ) يا ويلتى ليتني . . . . .
ثم ينادي بالويل والحسرة يقول ) يا ويلتي ( أي يا هلكاه كقوله ) نَفْسٌ
ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ). وقرأ الحسن وابن قطيب )
ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى ( بكسر التاء والياء ياء الإضافة وهو الأصل لأن الرجل ينادي
ويلته وهي هلكته يقول لها تعالي فهذا أوانك . وقرأت فرقة بالإمالة . قال أبو علي :
وترك الإمالة أحسن لأن هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفاً فراراً من
الياء فمن أمال رجع إلى الذي عنه فر أولاً . وفلان كناية عن العلم وهو متصرف وقل
كناية عن نكرة الإنسان نحو : يا رجل وهو مختص بالنداء ، وفلة بمعنى يا امرأة كذلك
ولام فل ياء أو واو وليس مرخماً من فلان خلافاً للفراء . ووهم ابن عصفور وابن مالك
وصاحب البسيط في قولهم فل كناية عن العلم كفلان . وفي كتاب سيبويه ما قلناه بالنقل
عن العرب .
و ) الذّكْرِ ( ذكر الله أو القرآن أو الموعظة ، والظاهر حمل الشيطان على ظاهره
لأنه هو الذي وسوس إليه في مخالة من أضله سماه شيطاناً لأنه يضل كما يضل الشيطان
ثم خذ له ولم ينفعه في العاقبة . وتحتمل هذه الجملة أن تكون من تمام كلام الظالم ،
ويحتمل أن تكون إخباراً من كلام الله على جهة الدلالة على وجه ضلالهم والتحذير من
الشيطان الذي بلغهم ذلك
" صفحة رقم 455 "
المبلغ . وفي الحديث الصحيح تمثيل الجليس الصالح بالمسك والجليس السوء بنافخ الكير
.
الفرقان : ( 30 - 31 ) وقال الرسول يا . . . . .
والظاهر أن دعاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ربه وإخباره بهجر قومه قريش
القرآن هو مما جرى له في الدنيا بدليل إقباله عليه مسلياً مؤانساً بقوله )
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ ( وأنه هو
الكافي في هدايته ونصره فهو وعد منه بالنصر وهذا القول من الرسول وشكايته فيه
تخويف لقومه . وقالت فرقة منهم أبو مسلم إنه قوله عليه السلام في الآخرة كقوله )
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء
شَهِيداً ( والظاهر أن ) مَهْجُوراً ( بمعنى متروكاً من الإيمان به مبعداً مقصياً
من الهجر بفتح الهاء . وقاله مجاهد والنخعي وأتباعه . وقيل : من الهجر والتقدير )
مَهْجُوراً ( فيه بمعنى أنه باطل . وأساطير الأولين أنهم إذا سمعوه هجروا فيه
كقوله ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ
وَالْغَوْاْ فِيهِ ).
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر كالملحود والمعقول ، والمعنى
اتخذوه هجراً والعد ويجوز أن يكون واحداً وجمعاً انتهى .
وانتصب ) هَادِياً ( و ) نَصِيراً ( على الحال أو على التمييز .
الفرقان : ( 32 ) وقال الذين كفروا . . . . .
وقالوا أي الكفار على سبيل الاقتراح والاعتراض الدال على نفورهم عن الحق . قال
الزمخشري : ) نَزَّلَ ( ههنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلاّ كان
متدافعاً انتهى . وإنما قال أن ) نَزَّلَ ( بمعنى أنزل لأن نزل عنده أصلها أن تكون
للتفريق ، فلو أقره على أصله عنده من الدلالة على التفريق تدافع هو . وقوله )
جُمْلَةً واحِدَةً ( وقد قررنا أنا ) نَزَّلَ ( لا تقتضي التفريق لأن التضعيف فيه
عندنا مرادف للهمزة . وقد بيّنا ذلك في أول آل عمران وقائل ذلك كفار قريش قالوا :
لو كان هذا من عند الله لنزل جملة كما نزلت التوراة والإنجيل . وقيل : قائلو ذلك
اليهود وهذا قول لا طائل تحته لأن أمر الاحتجاج به والإعجاز لا يختلف بنزوله جملة
واحدة أو مفرقاً بل الإعجاز في نزوله مفرقاً أظهر إذ يطالبون بمعارضة سورة منه ،
فلو نزل جملة واحدة وطولبوا بمعارضته مثل ما نزل لكانوا أعجز منهم حين طولبوا
بمعارضة سورة منه فعجزوا والمشار إليه غير مذكور . فقيل : هو من كلام الكفار
وأشاروا إلى التوراة والإنجيل أي تنزيلاً مثل تنزيل تلك الكتب الإلهية جملة واحدة
ويبقى ) لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ( تعليلاً لمحذوف أي فرقناه في أوقات )
لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ). وقيل : هو مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلامهم ،
ولما تضمن كلامهم معنى لمَ أُنْزِلَ مفرقاً أشير بقوله كذلك إلى التفريق أي )
كَذالِكَ ( أنزل مفرقاً .
قال الزمخشري : والحكمة فيه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقن
إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء ، وجزأ عقيب جزء ، ولو ألقي عليه جملة
واحدة لكان يعيا في حفظه والرسول عليه السلام فارقت حاله حال داود وموسى وعيسى
عليهم السلام حيث كان أمياً لا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين ، فلم يكن له بد من
التلقن والتحفظ فأنزل عليه منجماً في عشرين سنة . وقيل : في ثلاث وعشرين سنة
وأيضاً فكان ينزل على حسب الحوادث وجواب السائلين ، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ،
ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرقاً انتهى .
واللام في ) لِنُثَبّتَ بِهِ ( لام العلة . وقال أبو حاتم : هي لام القسم والتقدير
والله ليثبتن فحذفت النون وكسرت اللام انتهى . وهذا قول في غاية الضعف وكان ينحو
إلى مذهب الأخفش أن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه ولتصغي إليه أفئدة وهو مذهب
مرجوح . وقرأ عبد الله ليثبت بالياء أي ليثبت الله ) وَرَتَّلْنَاهُ ( أي فصلناه .
وقيل : بيناه . وقيل : فسرناه .
( وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ( يضربونه على جهة المعارضة منهم كتمثيلهم في هذه
بالتوراة والإنجيل الإحاء القرآن بالحق في ذلك ثم هو أوضح بياناً وتفصيلاً . وقال
الزمخشري :
الفرقان : ( 33 ) ولا يأتونك بمثل . . . . .
( وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ( بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثل في
البطلان إلاّ أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى
من
" صفحة رقم 456 "
سؤالهم . ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا :
تفسير هذا الكلام كيت وكيت ، كما قيل معناه كذا أو ) وَلاَ يَأْتُونَكَ ( بحال
وصفة عجيبة يقولون هلا كانت هذه صفتك وحالك نحو إن يقرن بك ملك ينذر معك أو يلقى
إليك كنز أو تكون لك جنة أو ينزل عليك القرآن جملة إلاّ أعطيناك ما يحق لك في
حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفاً لما بعثت عليه ودلالة على صحته انتهى
. وقيل : ) وَلاَ يَأْتُونَكَ ( بشبهة في إبطال أمرك إلاّ جئناك بالحق الذي يدحض
شبهة أهل الجهل ويبطل كلام أهل الزيغ ، والمفضل عليه محذوف أي ) وَأَحْسَنَ
تَفْسِيراً ( من مثلهم ومثلهم قولهم ) لَوْ لا أُنزِلَ عَلَيْهِ وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ ).
الفرقان : ( 34 ) الذين يحشرون على . . . . .
و ) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ ). قال الكرماني : متصل بقوله ) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ ( الآية . قيل : ويجوز أن يكون متصلاً بقوله ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ ( انتهى . والذي يظهر أنهم لم اعترضوا
في حديث القرآن وإنزاله مفرقاً كان في ضمن كلامهم أنهم ذو ورشد وخير ، وأنهم على
طريق مستقيم ولذلك اعتراضوا فأخبر تعالى بحالهم وما يؤول إليه أمرهم في الآخرة
بكونهم ) شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً ( والظاهر أنه يحشر الكافر على وجهه
بأن يسحب على وجهه . وفي الحديث ( إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على
وجوههم ) . وهذا قول الجمهور . وقيل : هو مجاز للذلة المفرطة والهوان والخزي .
وقيل : هو من قول العرب مر فلان على وجه إذا لم يدر أين ذهب . ويقال : مضى على
وجهه إذا أسرع متوجهاً لقصده و ) شَرُّ ( و ) أَضَلَّ ( ليسا على بابهما من
الدلالة على التفضيل . وقوله ) شَرٌّ مَّكَاناً ( أي مستقراً وهو مقابل لقوله )
خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( ويحتمل أن يراد بالمكان المكانة والشرف لا المستقر .
وأعربوا ) الَّذِينَ ( مبتدأ والجملة من ) أُوْلَائِكَ ( في موضع الخبر ويجوز عندي
أن يكون ) الَّذِينَ ( خبر مبتدأ محذوف لما تقدم ذكر الكافرين وما قالوا قال
إبعاداً لهم وتسميعاً بما يؤول إليه حالهم هم ) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ ( ثم استأنف
إخباراً أخبر عنهم فقال ) أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً (
2 ( ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ
وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا
فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ
أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ
عَذَاباً أَلِيماً وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ
ذَالِكَ كَثِيراً وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاٌّ مْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا
تَتْبِيراً وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِىأُمْطِرَتْ مَطَرَ
السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً
وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ
اللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا
عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً
أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ
كَالاٌّ نْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ( ) ) 2
الفرقان : ( 35 - 36 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
لما تقدم تكذيب قريش والكفار لما جاء به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ذكر
تعالى ما فيه تسلية للرسول وإرهاب للمكذبين وتذكير
" صفحة رقم 457 "
لهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من هلاك الاستئصال لما كذبوا رسلهم ، فناسب
أن ذكر أولاً من نزل عليه كتابه جملة واحدة ومع ذلك كفروا وكذبوا به فكذلك هؤلاء
لو نزل عليه القرآن دفعة لكذبوا وكفروا كما كذب قوم موسى .
و ) الْكِتَابِ ( هنا التوراة و ) هَارُونَ ( بدل أو عطف بيان ، واحتمل أن يكون
معه المفعول الثاني لجعلنا . وأن يكون ) وَزِيراً ( والوزارة لا تنافي النبوة فقد
كان في الزمان الواحد أنبياء يوازر بعضهم بعضاً ، والمذهوب إليهم القبط وفرعون .
وفي الكلام حذف أي فذهبا وأديا الرسالة فكذبوهما ) فَدَمَّرْنَاهُمْ ( والتدمير
أشد الإهلاك وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن إصلاحه . وقصة موسة ومن أرسل إليه
ذكرت منتهية في غير ما موضع وهنا اختصرت فأوجز بذكر أولها وآخرها لأنه بذلك يلزم
الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم .
وقرأ عليّ والحسن ومسلمة بن محارب : فدمراهم على الأمر لموسى وهارون ، وعن عليّ
أيضاً : إلاّ أنه مؤكد بالنون الشديدة . وعنه أيضاً فدمرا أمراً لهما بهم بباء
الجر ، ومعنى الأمر كوناً سبب تدميرهم .
الفرقان : ( 37 ) وقوم نوح لما . . . . .
وانتصب ) وَقَوْمَ نُوحٍ ( على الاشتغال وكان النصب أرجح لتق / م الجمل الفعلية
قبل ذلك ، ويكون ) لَّمّاً ( في هذا الإعراب ظرفاً على مذهب الفارسي . وأما إن
كانت حرف وجوب لوجوب فالظاهر أن ) أَغْرَقْنَاهُمْ ( جواب لما فلا يفسر ناصباً
لقوم فيكون معطوفاً على المفعول في ) فَدَمَّرْنَاهُمْ ( أو منصوباً على مضمر
تقديره اذكر . وقد جوز الوجوه الثلاثة الحوفي .
( لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ ( كذبوا نوحاً ومن قبله أو جعل تكذيبهم لنوح
تكذيباً للجميع ، أو لم يروا بعثه الرسل كالبراهمة
الفرقان : ( 38 ) وعادا وثمود وأصحاب . . . . .
والظاهر عطف ) وَعَاداً ( على و ) قَوْمٌ ). وقال أبو إسحاق : يكون معطوفاً على
الهاء والميم في ) وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ ءايَةً ). قال : ويجوز أن يكون
معطوفاً على ) الْظَّالِمِينَ ( لأن التأويل وعدنا الظالمين بالعذاب ووعدنا )
عَاداً وَثَمُودَاْ وِقْراً عَبْدُ اللَّهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذالِكَ الْخُرُوجُ
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ ). قال ابن عباس : هم قوم
ثمود ويبعده عطفه على ثمود لأن العطف يقتضي التغاير . وقال قتادة : أهل قرية من
اليمامة يقال ها الرس والفلج . قيل : قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود وقوم صالح
. وقال كعب ومقاتل والسدي بئر بإنطاكية الشام قتل فيها صاحب ياسين وهو حبيب النجار
. وقيل : قتلوا نبيهم ورسوه في بئر أي دسوه فيه .
وقال وهب الكلبي ) أَصْحَابُ الرَّسّ ( وأصحاب الأيكة قومان أرسل إليهما شعيب أرسل
إلى أصحاب الرس وكانوا قوماً من عبدة الأصنام وأصحاب آبار ومواش ، فدعاهم إلى
الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه فبينما هم حول الرس وهي البئر غير المطوية
. وعن أبي عبيدة انهارت بهم فخسف بهم وبدارهم . وقال عليّ فيما نقله الثعلبي : قوم
عبدوا شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت رسوا نبيهم في بئر حفروه له في حديث طويل .
وقيل : هم أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين
بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير ، سميت بذلك لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي
يقال له فج وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة
فأصابتها الصاعقة ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا . وقيل : الرس هم أصحاب الأخدود
والرس الأخدود . وقال ابن عباس : الرس بئر أذربيجان . وقيل : الرس ما بين نجران
إلى اليمن ألى حضرموت . وقيل : قوم بعث الله إليهم أنبياء فقتلوهم ورسوا عظامهم في
بئر . وقيل : قوم بعث إليهم نبي فأكلوه . وقيل : قوم نساؤهم سواحق . وقيل : الرس
ماء ونخل لبني أسد . وقيل : الرس نهر من بلاد المشرق بعث الله إليهم نبياً من
إولاد يهوذا ابن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زماناً فشكا إلى الله منهم فحفروا له
بئراً وأرسلوه فيها ، وقالوا : نرجو أن يرضى عنا إلهنا فكانوا عامة يومهم يسمعون
أنين نبيهم ، فدعا بتعجيل قبض روحه فمات وأضلتهم سحابة سوداء أذابتهم كما يذوب
الرصاص .
وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( أن أهل الرس
أخذوا نبيهم فرسّوه في بئر وأطبقوا عليه صخرة فكان عبد أسود آمن به يجيء بطعام إلى
تلك البئر فيعينه الله على تلك الصخرة فيقلها فيعطيه ما يغذيه به . ثم يرد الصخة ،
إلى أن ضرب الله يوماً على أذن ذلك الأسود بالنوم أربع عشرة سنة وأخرج أهل القرية
نبيهم فآمنوا به ) . في حديث طويل . قال الطبري : فيمكن أنهم كفروا بعد ذلك فذكرهم
الله في هذه الآية وكثر الاختلاف في أصحاب الرس ، فلو صح ما نقله عكرمة ومحمد بن
كعب كان هو القول الذي لا يمكن خلافه
" صفحة رقم 458 "
وملخص هذه الأقوال أنهم قوم أهلكهم الله بتكذيب من أرسل إليهم .
( وَقُرُوناً بَيْنَ ذالِكَ ( هذا إبهام لا يعلم حقيقة ذلك إلاّ الله ) ذالِكَ (
إشارة إلى أولئك المتقدمي الذكر فلذلك حسن دخول ) بَيْنَ ( عليه من غير أن يعطف
عليه شيء كأنه قيل بين المذكورين وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة . ثم يشير إليها .
الفرقان : ( 39 ) وكلا ضربنا له . . . . .
وانتصب ) كَلاَّ ( الأول على الاشتغال أي وأنذرنا كلاً أو حذرنا كلاً والثاني على
أنه مفعول بتبرنا لأنه لم يأخذ مفعولا وهذا من واضح الإعراب . ومعنى ضرب الأمثال
أي بين لهم القصص العجيبة من قصص الأولين ووصفنا لهم ما أدى إليه تكذيبهم
بأنبيائهم من عذاب الله وتدميره إياهم ليهتدوا بضرب الأمثال فلم يهتدوا وأبعد من
جعل الضمير في ) لَهُ ( لرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : والمعنى وكل الأمثال
ضربنا للرسول وعلى هذا و ) كَلاَّ ( منصوب بضربنا و ) الاْمْثَالَ ( بدل من )
كَلاَّ (
الفرقان : ( 40 ) ولقد أتوا على . . . . .
والضمير في ) وَلَقَدْ أَتَوْا ( لقريش كانوا يمرون على سدوم من قرى قوم لوط في
متاجرهم إلى الشام وكانت قرى خمسة أهلك الله منها أربعاً وبقيت واحدة وهي زغر لم
يكن أهلها يعملون ذلك العمل قاله ابن عباس و ) مَطَرَ السَّوْء ( الحجارة التي
أمطرت عليهم من السماء فهلكوا . وكان إبراهيم عليه السلام ينادي نصيحة لكم : يا
سدوم يوم لكم من الله عز وجل أنهاكم أن تتعرضوا للعقوبة من الله ، ومعنى ) أَتَوْا
( مروا فلذلك عداه بعلى . وأفراد لفظ القرية وإن كانت قرى لأن سدوم هي أم تلك
القرى وأعظمها .
وقال مكي : الضمير في ) أَتَوْا ( عائد على الذين اتخذوا القرآن مهجوارً انتهى .
وهم قريش وانتصب ) مَطَرَ ( على أنه مفعول ثان لأمطرت على معنى أوليت ، أو على أنه
مصدر محذوف الزوائد أي إمطار السوء . ) أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا ( أن
ينظرون إلى ما فيها من العبر والآثار الدالة على ما حل بها من النقم كما قال )
وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ ( وقال )
وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ( وهو استفهام معناه التعجب ومع ذلك فلم
يعتبروا برؤيتها أن يحل بهم في الدنيا ما حل بأولئك ، بل كانوا كفرة لا يؤمنون
بالبعث فلم يتوقعوا عذاب الآخرة وضع الرجاء موضع التوقع لأنه إنما بتوقع العاقبة
من يؤمن ، فمن ثم لم ينظروا ولم يتفكروا ومروا بها كما مرت ركابهم ، أو لا يأملون
) نُشُوراً ( كما يأمله المؤمنون لطمعهم إلى ثواب أعمالهم أو لا يخافون على اللغة
التهامية . وقرأ زيد بن عليّ مطرت ثلاثي مبنياً للمفعول ومطر متعد . قال الشاعر :
كمن بواديه بعد المحل ممطور
وقرأ أبو السماك ) مَطَرَ السَّوْء ( بضم السين .
الفرقان : ( 41 ) وإذا رأوك إن . . . . .
( وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً ( لم يقتصر المشركون على
إنكار نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وترك الإيمان به ، بل زادوا على ذلك
بالاستهزاء والاحتقار . حتى يقول بعبضهم لبعض ) أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ
رَسُولاً ( و ) ءانٍ ( نافية جواب ) إِذَا ( وانفردت ) إِذَا ( بأنه إذا كان
جوابها منفياً بما أو بلا لا تدخله الفاء بخلاف أدوات الشرط غيرها فلا بد من الفاء
مع ما ومع لا إذا ارتفع المضارع ، فلو وقعت إن النافية في جواب غير إذا فلا بد من
الفاء كما النافية ومعنى ) هزؤاً ( موضع هزء أو مهزواً به ) هُزُواً أَهَاذَا (
قبله قول محذوف أي يقولون وقال : جواب ) إِذَا ( ما أضمر من القول أي ) وَإِذَا
رَأَوْكَ ( قالوا ) أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ( و ) إِن
يَتَّخِذُونَكَ جِمَالَةٌ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ( وجوابها .
قيل : ونزلت في أبي جهل كان إذا رأى الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ) أَهَاذَا
الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ( ؟ وأخبر بلفظ الجمع تعظيماً لقبح صنعه أو لكون
جماعة معه قالوا ذلك : والظاهر أن قائل ذلك جماعة كثيرة وهذا الاستفهام استصغار
واحتقار منهم أخرجوه بقولهم بعث الله رسولا في معرض التسليم والإقرار وهم على غاية
الجحود
" صفحة رقم 459 "
والإنكار سخرية واستهزاء ، ولو لم يستهزئوا لقالوا هذا زعم أو ادعى أنه مبعوث من
عند الله رسولاً .
الفرقان : ( 42 ) إن كاد ليضلنا . . . . .
وقولهم ) إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا ( دليل على فرط مجاهدة رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) في دعوتهم ، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم مع عرض الآيات
والمعجزات حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام لولا فرط لاجهم
واستمساكهم بعبادة آلهتهم . و ) لَوْلاَ ( في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا
من حيث اللفظ مجرى التقييد للحكم المطلق قاله الزمخشري . وقال أبو عبد الله الرازي
: الاستهزاء إما بالصورة فكان أحسن منهم خلقة أو بالصفة فلا يمكن لأن الصفة التي
تميز بها عنهم ظهور المعجز عليه دونهم ، وما قدروا على القدح في حجته ففي الحقيقة
هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ثم لوقاحتهم قلبوا القصة والستهزؤوا بالرسول عليه
الصلاة والسلام انتهى . قيل : وتدل الآية على أنهم صاروا في ظهور حجته عليه الصلاة
والسلام عليهم كالمجانين استهزؤوا به أولاً ثم إنهم وصفوه بأنه ) كَادَ
لَيُضِلُّنَا ( عن مذهبنا ) لَوْلاَ ( أنا قابلناه بالجمود والإصرار فهذا يدل على
أنهم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل ، فكونهم جمعوا بين الاستهزاء وبين هذه
الكيدودة دل على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره تارة يستهزئون منه وتارة يصفونه
بما لا يليق إلاّ بالعالم الكامل .
( وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال
فلا بد للوعيد أن يلحقهم فلا يغرنهم التأخير ، ولما قالوا ) إِن كَادَ
لَيُضِلُّنَا ( جاء قوله ) مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ( أي سيظهر لهم من المضل ومن
الضال بمشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه . والظاهر أن من استفهامية وأضل خبره
والجملة في موضع مفعول ) يَعْلَمُونَ ( إن كانت متعدية إلى واحد أو في موضع
مفعولين إن كانت تعدت إلى اثنين ، ويجوز أن تكون ) مِنْ ( موصولة مفعولة بيعلمون و
) أَضَلَّ ( خبر مبتدأ محذوف أي هو أضل ، وصار حذف هذا المضمر للاستطالة التي حصلت
في قول العرب ما أنا بالذي قائل لك سواء .
الفرقان : ( 43 ) أرأيت من اتخذ . . . . .
( أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( هذا يأس عن إيمانهم وإشارة إليه
عليه السلام أن لا يتأسف عليهم ، وإعلام أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في
العواقب مثل البهائم ثم ذكر أنهم ) أَضَلُّ سَبِيلاً ( من الأنعام من حيث لهم فهم
وتركوا استعماله فيما يخلصهم من عذاب الله . والأنعام لا سبيل لها إلى فهم المصالح
. و ) أَرَأَيْتَ ( استفهام تعجب من جهل من هذه الحالة و ) إِلَاهَهُ ( المفعول
الأول لاتخذ ، و ) هَوَاهُ ( الثاني أي أقام مقام الأله الذي يعبده هواه فهو حار
على ما يكون في ) هَوَاهُ ( والمعنى أنه لم يتخذ إلهاً إلا هواه وادعاء القلب ليس
بجيد إذ يقدره من اتخذ هواه إلهه والبيت من ضرائر الشعر ونادر الكلام فينزه كلام
الله عنه كان الرجل يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه وأخذ الأحسن .
قيل : نزلت في الحارث بن قيس السهمي ، كان إذا هوى شيئاً عبده ، والهوى ميل القلب
إلى الشيء أفأنت تجبره على ترك هواه ، أو أفأنت تحفظه من عظيم جهله . وقرأ بعض أهل
المدينة من اتخذ آلهةً منونة على الجمع ، وفيه تقديم جعل هواه أنواعاً أسماء
لأجناس مختلفة فجعل كل جنس من هواه إلهاً آخر . وقرأ ابن هرمز : إلاهة على وزن
فعالة وفيه أيضاً تقديم أي هواه إلاهة بمعنى معبود لأنها بمعنى المألوهة . فالهاء
فيها للمبالغة فلذلك صرفت . وقيل : بل الإلاهة الشمس ويقال لها أُلاهة بضم الهمزة
وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام المعرفة في بعض
اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت بمنزلة النعوت
فتنكرت قاله صاحب اللوامح . ومفعول ) أَرَأَيْتَ ( الأول هو ) مِنْ ( والجملة
الاستفهامية في موضع المفعول الثاني . وتقدم الكلام في ) أَرَأَيْتَ ( في أوائل
الأنعام ومعنى ) وَكِيلاً ( أي هل تستطيع أن تدعو إلى الهدى فتتوكل عليه وتجبره
على الإسلام .
الفرقان : ( 44 ) أم تحسب أن . . . . .
و ) أَمْ ( منقطعة تتقدّر ببل والهمزة على المذهب الصحيح كأنه قال : بل أتحسب كان
هذه المذمّة أشد من التي تقدمتها حتى حفت بالإضراب عنها إليها وهو كونها مسلوبي
الأسماع والعقول لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذناً إلى تدبره عقلاً ، ومشبهين
بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلالة ، ونفى ذلك عن أكثرهم لأن فيهم من سبقت
له السعادة فأسلم ، وجعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها وتعرف من يحسن
إليها ممن يسيء إليها وتطلب منفعتها وتتجنب مضرّتها وتهتدي إلى مراعيها ومشاربها ،
وهم لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم ولا يرغبون في
" صفحة رقم 460 "
الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ولا يهتدون للحق
.
2 ( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ
سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ
إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً
وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً وَهُوَ الَّذِىأَرْسَلَ
الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً
طَهُوراً لِّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ
أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ
لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً وَلَوْ شِئْنَا
لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ
وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَاذَا
عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً
مَّحْجُوراً وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً
وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ
يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً وَمَآ
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْحَىِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ
عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ
خَبِيراً وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ وَمَا
الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً ( ) ) 2 ( تكرار :
) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً
ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً
يَسِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً
وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ
يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً لّنُحْيِىَ بِهِ
بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ
كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً
فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً وَهُوَ الَّذِى
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ
بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاء
بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ
ظَهِيراً وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّراً وَنَذِيراً قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ
بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ
فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ
وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً ). )
الفرقان : ( 45 - 46 ) ألم تر إلى . . . . .
لما بيِّن تعالى جهل المعترضين على دلائل الصانع وفساد طريقتهم ذكر أنواعاً من
الدلائل الواضحة التي تدل على قدرته التامة لعلهم يتدبرونها ويؤمنون بمن هذه قدرته
وتصرفه في عالمه ، فبدأ بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال وأن
ذلك جار على مشيئته . وتقدم الكلام على ) أَلَمْ تَرَ ( في البقرة في قصة الذي حاج
إبراهيم . والمعنى ) أَلَمْ تَرَ إِلَى ( صنع ) رَبَّكَ ( وقدرته . و ) كَيْفَ (
سؤال عن حال في موضع نصب بمد . والجملة في موضع متعلق ) أَلَمْ تَرَ ( لأن ) تَرَ
( معلقة والجملة الاستفهامية التي هي معلق عنها فعل القلب ليس باقي على حقيقة
الاستفهام . فالمعنى ألم تر إلى مد ربك الظل .
وقال الجمهور : ) الظّلّ ( هنا من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مثل ظل الجنة ظل
ممدود لا شمس فيه ولا ظلمة . واعترض بأنه في غير النهار بل في بقايا الليل ولا
يسمى ظلاً . وقيل : ) الظّلّ ( الليل لا ظل الأرض وهو يغمر الدنيا كلها . وقيل :
من غيبوبة الشمس إلى طلوعها وهذا هو القول الذي قبله ولكن أورده كذا . وقيل : ظلال
الأشياء كلها كقوله ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْء
يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ ). وقال أبو عبيدة : ) الظّلّ ( بالغداة والفيء بالعشي .
وقال ابن السكيت : ) الظّلّ ( ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس . وقيل : ما لم
تكن عليه الشمس ظل وما كانت عليه فزالت فيء .
( وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ( قال ابن عباس وقتادة وابن زيد : كظل الجنة
الذي لا شمس تذهبه . وقال مجاهد : لا تصيبه ولا تزول . وقال الحسن : ) لَوْ شَاء (
لتركه ظلاً كما هو . وقيل : لأدامه أبداً بمنع طلوع الشمس بعد غيبوبتها ، فلما
طلعت الشمس دلت على زوال الظل وبدا فيه النقصان فبطلوع الشمس يبدو
" صفحة رقم 461 "
النقصان في الظل ، وبغروبها تبدو الزيادة في الظل فبالشمس استدل أهل الأرض على
الظل وزيادتها ونقصه ، وكلما علت الشمس نقص الظل ، وكلما دنت للغروب زاد وهو قوله
) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ( يعني في وقت علو الشمس بالنهار ينقص
الظل نقصاناً يسيراً بعد يسير وكذلك زيادته بعد نصف النهار يزيد يسيراً بعد يسير
حتى يعم الأرض . كلها فأما زوال الظل كله فإنما يكون في البلدان المتوسطة في وقت .
وقال الزمخشري : ومعنى ) مَدَّ الظّلَّ ( أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس . )
وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ( أي لاصقاً بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجر وغير
منبسط فلم ينتفع به أحد ، سمي انبساط الظل وامتداده تحركاً منه وعدم ذلك سكوناً
ومعنى كون الشمس دليلاً أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال
الظل من كونه ثابتاً في مكان وزائلاً ومتسعاً ومتقلصاً فيبنون حاجتهم إلى الظل
واستغناءهم عنه على حسب ذلك . وقبضه إلى ه أن ينسخه بظل الشمس ) يَسِيراً ( أي على
مهل وفي هذا القبض اليسير شيئاً بعد شيء من المنافع ما لا يعد ولا يحصى ، ولو قبض
دفعة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً فإن قلت : ثم في هذين الموضعين
كيف موقعها ؟ قلت : موقعها البيان تفاضل الأمور الثلاثة كأن الثاني أعظم من الأول
، والثالث أعظم من الثاني تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين
الحوادث في الوقت . ووجه آخر وهو أنه بنى الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة
ودحاً الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض لعدم النير .
( وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ( مستقراً على تلك الحالة ثم خلق الشمس وجعله
على ذلك الظل سلطها عليه وجعلها دليلاً متبوعاً لهم كما يتبع الدليل في الطريق فهو
يزيد بها وينقص ويمتد ويقلص ، ثم نسخه بها قبضه قبضاً سهلاً يسيراً غير عسير ،
ويحتمل أن يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل
فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه ، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه وقوله )
قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا ( يدل عليه وكذلك قوله ) يَسِيراً ( كما قال ) ذَلِكَ حَشْرٌ
عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( انتهى وقوله : سمى انبساط الظل وامتداده تحركاً منه لم يسم
الله ذلك إنما قال كيف مد الظل وقوله : ويحتمل أن يريد قبضه عند قيامه الساعة فهذا
يبعد احتماله لأنه إنما ذكر آثار صنعته وقدرته لتشاهد ثم قال ) مَدَّ الظّلَّ (
وعطف عليه ماضياً مثله فيبعد أن يكون التقدير ثم قبضه عند قيام الساعة مع ظهور
كونه ماضياً مستداماً أمثاله .
وقال ابن عطية : ) وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ( أي ثابتاً غير متحرك ولا
منسوخ ، لكنه جعل الشمس ونسخها إياه بطردها له من موضع إلى موضع دليلاً عليه
مبيناً لوجوده ولوجه العبرة فيه . وحكى الطبري : أنه لولا الشمس لم يعلم أن الظل
شيء إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها . وقال ابن عباس : ) يَسِيراً ( معجلاً . وقال
مجاهد لطيفاً أي شيئاً بعد شيء ، ويحتمل أن يريد سهلاً قريب التناول . وقال أبو
عبد الله الرازي : أكثر الناس في تأويل هذه الآية ويرفع الكلام فيها إلى وجهين .
الأول : أن الظل لا ضوء خالص ولا ظلمة خالصة ، وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس
وكذلك الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأبنية الجدارات ، وهي أطيب الأحوال لأن الظلمة
الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الخالص يحير الحس البصري ويحدث
السخونة القوية وهي مؤذية ، ولهذا قيل في الجنة ) وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( والناظر إلى
الجسم الملون كأنه يشاهد بالظل شيئاً سوى الجسم وسوى اللون والظل ليس أمراً ثالثاً
ولا معرفة به إلاّ إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم ثم مال عرف للظل وجود
وماهية ، ولولاها ما عرف لأن الأشياء تدرك بأضدادها ، فظهر للعقل أن الظل كيفية
زائدة على الجسم واللون ولذلك قال ) ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً
( أي جعلنا الظل أولاً بما فيه من المنافع واللذات ، ثم هدينا العقول إلى معرفة
وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت دليلاً على وجود الظل . ) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ ( أي
أزلناه لا دفعة بل ) يَسِيراً ( يسيراً كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل
من جانب المغرب ، ولما كانت الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيراً يسيراً كان
زوال الأظلال كذلك .
والثاني : أنه لما خلق السماء والأرض وقع السماء على الأرض فجعل الشمس دليلاً لأنه
بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فهما متعاقبان متلازمان لا واسطة
" صفحة رقم 462 "
بينهما ، فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر ، فكما أن المهتدي يقتدي بالهادي
والدليل ويلازمه فكذلك الأظلال ملازمة للأضواء ، ولذلك جعل الشمس دليلاً عليه
انتهى . ملخصاً وهو مأخوذ من كلام الزمخشري ، ومحسن بعض تحسين . والآية في غاية
الظهور ولا تحتاج إلى هذا التكثير .
وقال أيضاً : ) الظّلّ ( ليس عدماً محضاً بل هو أضواء مخلوطة بظلام ، فهو أمر
وجودي وفي تحقيقه دقيق يرجع فيه إلى الكتب العقلية انتهى . والآية في غاية الوضوح
ولا تحتاج إلى هذا التكثير وقد تركت أشياء من كلام المفسرين مما لا تمس إليه
الحاجة .
الفرقان : ( 47 ) وهو الذي جعل . . . . .
( جَعَلَ الَّيْلَ لِبَاساً ( تشبيهاً بالثوب الذي يغطي البدن ويستره من حيث الليل
يستر الأشياء . والسبات : ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضاً فشبه النوم به ،
والسبت الإقامة في المكان فكان السبات سكوناً تاماً والنشور هنا الإحياء شبه
اليقظة به ليتطابق الإحياء مع الإماتة اللذين يتضمنهما النوم والسبات انتهى . ومن
كلام ابن عطية وقال غيره : السبات الراحة جعل ) نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ( أي سبب راحة
.
وقال الزمخشري : السبات الموت وهو كقوله ) وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم
بِالَّيْلِ ( فإن قلت : هلا فسرته بالراحة ؟ قلت : النشور في مقابلته يأباه انتهى
. ولا يأباه إلاّ لو تعين تفسير خبر مبتدأ محذوف ، و ) الرَّحْمَنُ ( صفة له . أو
يكون ) الَّذِى ( منصوباً على إضمار أعني ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون )
الرَّحْمَنُ ( مبتدأ . و ) فَاسْأَلِ ( خبره تخريجه على حد قول الشاعر : وكم لظلام
الليل عندي من يد
تخبر أن المانوية تكذب
والنوم واليقظة وشبههما بالموت والحياة أي عبرة فيهما لمن اعتبر . وعن لقمان أنه
قال لابنه : يا بني كما تنام فتوقظ فكذلك تموت فتنشر .
الفرقان : ( 48 ) وهو الذي أرسل . . . . .
وتقدم الخلاف في قراءة الريح بالإفراد والجمع في البقرة . قال ابن عطية : وقراءة
الجمع أوجه لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب ، ومتى كانت
للمطر والرحمة فإنما هي رياح لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرّق وتأتي لينة ومن
ههنا وههنا وشيئاً اثر شيء ، وريح العذاب خرجت لاتتداءب وإنما تأتي جسداً واحداً .
ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه . قال الرماني : جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح
: الجنوب ، والصبا ، والشمال . وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور
. قال أي ابن عطية : يرد هذا قول النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إذا هبت الريح
: ( اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً ) انتهى . ولا يسوغ أن يقال : هذه
القراءة أوجه لأنه كلاً من القراءتين متواتر والألف واللام في الريح للجنس فتعم ،
وما ذكر من أن قول الرماني يرده الحديث فلا يظهر لأنه يجوز أن يريد بقوله عليه
السلام : ( رياحاً ) . الثلاثة اللواقح وبقوله ( ولا تجعلها ريحاً ) الدبور .
فيكون ما قاله الرماني مطابقاً للحديث على هذا المفهوم .
وتقدم الخلاف في قراءة ) نَشْراً ( وفي مدلوله في الأعراف ) بَيْنَ يَدَىْ
رَحْمَتِهِ ( استعارة حسنة أي قدام المطر لأنه يجيء معلماً به . والطهور فعول إما
للمبالغة كنؤوم فهو معدول عن طاهر ، وإما أن يكون اسماً لما يتطهر به كالسحور
والفطور ، وإما مصدر لتطهر جاء على غير المصدر حكاه سيبويه . والظاهر في قوله )
مَاء طَهُوراً ( أن يكون للمبالغة في طهارته وجهة المبالغة كونه لم يشبه شيء بخلاف
ما نبع من الأرض ونحوه فإنه تشوبه أجزاء أرضية من مقره أو ممره أو مما يطرح فيه ،
ويجوز أن يوصف بالاسم وبالمصدر . وقال ثعلب : هو ما كان طاهراً في نفسه مطهراً
لغيره ، فإن كان ما قاله شرحاً لمبالغته في الطهارة كان سديداً ويعضده )
وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ
" صفحة رقم 463 "
وإلاّ ففعول لا يكون بمعنى مفعل ، ومن استعمال طهور للمبالغة قوله تعالى ) وَسَقَاهُمْ
رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ). وقال الشاعر : إلى رحج الأكفال غيد من الظبا
عذاب الثنايا ريقهنّ طهور
الفرقان : ( 49 ) لنحيي به بلدة . . . . .
وقرأ عيسى وأبو جعفر ) مَيْتًا ( بالتشديد ووصف بلده بصفة المذكر لأن البلدة تكون
في معنى البلد في قوله ) فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ ( ورجح الجمهور التخفيف
لأنه يماثل فعلاً من المصادر ، فكما وصف المذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه
بخلاف المشدد فإنه يماثل فاعلاً من حيث قبوله للثاء إلاّ فيما خص المؤنث نحو طامث
. وقرأ عبد الله وأبو حيوة وابن أبي عبلة والأعمش وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما
) وَنُسْقِيَهِ ( بفتح النون ورويت عن عمر بن الخطاب . وقرأ يحيى بن الحارث
الذماري ) وَأَنَاسِىَّ ( بتخفيف الياء . ورويت عن الكسائي ) وَأَنَاسِىَّ ( جمع
إنسان في مذهب سيبويه . وجمع أنسي في مذهب الفراء والمبرد والزجاج ، والقياس أناسيه
كما قالوا في مهلبي مهالبة . وحكي أناسين في جمع إنسان كسرحان وسراحين ، ووصف
الماء بالطهارة وعلل إنزاله بالإحياء والسقي لأنه لما كان الأناسي من جملة ما أنزل
له الماء وصف بالطهور وإكراماً له وتتميماً للنعمة عليه ، والتعليل يقتضي أن
الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول : حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش .
وقدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي لأن حياتهم بحياة أرضهم وحياة
أنعامهم ، فقدم ما هو السبب في ذلك ولأنهم إذا وجدوا ما يسقي أرضهم ومواشيهم وجدوا
سقياهم . ونكر الأنعام والأناسي ووصفا بالكثرة لأن كثيراً منهم لا يعيشهم إلا ما
أنزل الله من المطر ، وكذلك ) وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ( يريد بعض
بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظانّ الماء بخلاف سكان المدن فإنهم قريبون من الأودية
والأنهار والعيون فهم غنيون غالباً عن سقي ماء المطر ، وخص الأنعام من بين ما خلق
من الحيوان الشارب لأن الطيور والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف
الأنعام فإنها قنية الأناسي ومنافعهم متعلقة بها فكان الإنعام عليهم بسقي أنعامهم
كالإنعام بسقيهم .
الفرقان : ( 50 ) ولقد صرفناه بينهم . . . . .
والضمير في ) صَرَّفْنَاهُ ( عائد على الماء المنزل من السماء ، أي جعلنا إنزال
الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض وهو في كل عام بمقدار واحد قاله
الجمهور منهم ابن مسعود وابن عباس ومجاهد ، فعلى هذا التأويل ) إِلاَّ كُفُورًا (
هو قولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة . وقيل ) كَفُورًا ( على الإطلاق لما تركوا
التذكر . وقال ابن عباس أيضاً : عائد على القرآن وإن لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر
ويعضده ) وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ( لتوافق الضمائر ، وعلى أنه للمطر يكون به للقرآن .
وقال أبو مسلم : راجع إلى المطر والرياح والسحاب وسائر ما ذكر فيه من الأدلة .
وقال الزمخشري : صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي
أنزلت على الرسل ، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا
حق النعمة فيه ويشكروا ، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الأكتراث بها
. وقيل : صرّفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات
المتفاوتة من وابل وطل وجود ورذاذ وديمة ورهام فأبوا إلا الكفور . وأن يقولوا
مطرنا بنوء كذا ولا يذكروا رحمته وصنعته . وعن ابن عباس : ما من عام أقل مطراً من
عام ، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما يشاء وتلا هذه الآية . ويروى أن
الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام لأنه لا يختلف ، ولكن يختلف في
البلاد وينتزع من ههنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسي كأنه قال : ليحي به
بعض البلاد الميتة ، ونسقيه بعض الأنعام والأناسي وذلك البعض كثير انتهى . وقرأ
عكرمة ) صَرَّفْنَاهُ ( بتخفيف الراء .
الفرقان : ( 51 ) ولو شئنا لبعثنا . . . . .
( وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً ( لما علم تعالى ما
كابده الرسول من أذى قومه أعلمه أنه تعالى لو أراد لبعث في كل قرية نذيراً فيخفف
عنك الأمر ولكنه أعظم أجرك وأجلك إذ جعل إنذارك عاماً للناس كلهم ، وخصك بذلك
ليكثر ثوابك لأنه على
" صفحة رقم 464 "
كثرة المجاهدة يكون الثواب ، وليجمع لك حسنات من آمن بك إذ أنت مؤسسها .
الفرقان : ( 52 ) فلا تطع الكافرين . . . . .
( فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ ( يعنى كفار قريش فإنهم كانوا استمعوا إليه ورغبوا
أن يرجع إلى دين آبائهم ويملكونه عليهم ويجمعون له مالاً عظيماً فنهاه تعالى عن
طاعتهم حتى يظهر لهم أنه لا رغبة له في شيء من ذلك ، لكن رغبته في الدعاء إلى الله
والإيمان به . ) وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ( أي القرآن أو بالإسلام أو بالسيف أو بترك
طاعتهم و ) جِهَاداً ( مصدر وصف بكبيراً لأنه يلزمه عليه السلام مجاهدة جميع
العالم فهو جهاد كبير .
الفرقان : ( 53 ) وهو الذي مرج . . . . .
و ) مَرَجَ ( خلط بينهما أو أفاض أحدهما في الآخر أو أجراهما أقوال ، والظاهر أنه
يراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح . وقيل : بحران معينان .
فقيل : بحر فارس ، وبحر الروم . وقيل : بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان في كل عام
قاله ابن عباس . وقال مجاهد : مياه الأنهار الواقعة في البحر الأجاج وهذا قريب من
القول الأول . قال ابن عطية : والمقصد بالآية التنبيه على قدرة الله وإتقان خلقه
للأشياء في أن بث في الأرض مياهاً عذبة كثيرة من الأنهار والعيون والآبار وجعلها
خلال الأجاج ، وجعل الأجاج خلالها فترى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه
ويلقى الماء البحر في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج ، والبرزخ والحجر ما
حجز بينهما من الأرض والسد قاله الحسن . ويتمشى هذا على قول من قال أن ) مَرَجَ (
بمعنى أجرى . وقيل : البرزخ البلاد والقفار فلا يختلفان إلاّ بزوال الحاجز يوم
القيامة . قال الأكثرون : الحاجز مانع من قدرة الله . قال الزجاج : فهما مختلطان
في مرائي العين منفصلان بقدرة الله ، وسواد البصرة ينحدر الماء العذب منه في دجلة
نحو البحر ، ويأتي المد من البحر فيلتقيان من غير اختلاط فماء البحر إلى الخضرة
الشديدة ، وماء دجلة إلى الحمرة ، فالمستقي يغرف من ماء دجلة عندنا لا يخالطه شيء
ونيل مصر في فيضه يشق البحر المالح شقاً بحيث يبقى نهراً جارياً أحمر في وسط
المالح ليستقي الناس منه ، وترى المياه قطعاً في وسط البحر المالح فيقولون : هذا
ماء ثلج فيسقون منه من وسط البحر .
وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي ) مِلْحٌ ( بفتح الميم وكسر اللام وكذا في فاطر . قال
أبو حاتم وهذا منكر في القراءة . وقال أبو الفتح أراد مالحاً وحذف الألف كما حذفت
من برد أي بارد . وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح : هي لغة شاذة قليلة .
وقيل : أراد مالح فقصره بحذف الألف فالمالح جائز في صفة الماء لأن الماء يوجد في
الضفيان بأن يكون مملوحاً من جهة غيره ، ومالحاً لغيره وإن كان من صفته أن يقال :
ماء ملح موصوف بالمصدر أي ماء ذو ملح ، فالوصف بذلك مثل حلف ونضو من الصفات .
قال الزمخشري : فإن قلت : ) حِجْراً مَّحْجُوراً ( ما معناه ؟ قلت : هي الكلمة
التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها وهي ههنا واقعة على سبيل المجاز ، كان كل واحد من
البحرين متعوذ من صاحبه ويقول له ) حِجْراً مَّحْجُوراً ( كما قال ) لاَّ
يَبْغِيَانِ ( أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة ، فانتفاء البغي ثم كالتعوذ
ههنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهي من أحسن
الاستعارات وأشهدها على البلاغة انتهى .
والظاهر أن ) حِجْراً مَّحْجُوراً ( معطوف على ) بَرْزَخاً ( عطف المفعول على
المفعول وكذا أعربه الحوفي ، وعلى ما ذكره الزمخشري يكون ذلك على إضمار القول
المجازي أي ، ويقولان أي كل واحد منهما لصاحبه ) حِجْراً مَّحْجُوراً ).
الفرقان : ( 54 ) وهو الذي خلق . . . . .
والظاهر عموم البشر وهم بنو آدم والبشر ينطلق على الواحد والجمع . وقيل : المراد
بالنسب آدم وبالصهر حواء . وقيل : النسب البنون والصهر البنات و ) مِنَ الْمَاء (
إما النطفة ، وإما أنه أصل خلقة كل حي ، والنسب والصهر يعمان كل قربى بين آدميين ،
فالنسب أن يجتمع مع آخر في أب وأم قرب ذلك أو بعد ، والصهر هو نواشج المناكحة .
وقال عليّ بن أبي طالب النسب ما لا يحل نكاحه والصهر قرابة الرضاع . وعن طاوس :
الرضاعة من الصهر . وعن عليّ : الصهر ما يحل نكاحه والنسب ما لا يحل نكاحه . وقال
الضحاك : الصهر قرابة الرضاع . وقال ابن سيرين : نزلت في النبيّ ( صلى الله عليه
وسلم ) ) وعليّ لأنه جمعه معه نسب وصهر . قال ابن عطية : فاجتماعهما وكادة حرمة
إلى يوم القيامة . ) وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ( حيث خلق من النطفة الواحدة بشراً
نوعين ذكراً وأنثى .
الفرقان : ( 55 ) ويعبدون من دون . . . . .
ولما ذكر دلائل قدرته وما امتن به على عباده من غرائب مصنوعاته ثبت بذلك أنه
المستحق للعبادة لنفعه وضره بين فساد عقول المشركين حيث
" صفحة رقم 465 "
يعبدون الأصنام . والظاهر أن ) الْكَافِرُ ( اسم جنس فيعم . وقيل : هو أبو جهل
والآية نزلت فيه . وقال عكرمة ) الْكَافِرُ ( هنا إبليس والظهير والمظاهر كالمعين
والمعاون قاله مجاهد والحسن وابن زيد ، وفعيل بمعنى مفاعل كثير والمعنى أن )
الْكَافِرُ ( يعاون الشيطان على ربه بالعداوة والشريك . وقيل : معناه وكان الذي
يفعل هذا الفعل وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر على ربه هيناً مهيناً من قولهم :
ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك لا يلتفت إليه ، وهذا نحو قوله ) أُوْلَئِكَ لاَ
خَلَاقَ لَهُمْ ( الآية قاله الطبري . وقيل : ) عَلَى رَبّهِ ( أي معيناً على
أولياء الله . وقيل : معيناً للمشركين على أن لا يوحد الله .
الفرقان : ( 56 ) وما أرسلناك إلا . . . . .
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا ( سلى نبيه بذلك أي لا تهتم
بهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وإنما أنت رسول تبشر تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر
الكفرة بالنار ، ولست بمطلوب بإيمانهم أجمعين .
الفرقان : ( 57 ) قل ما أسألكم . . . . .
ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم مزيلاً لوجوه التهم بقوله ) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( أي لا أطلب مالاً ولا نفعاً يختص بي . والضمير في )
عَلَيْهِ ( عائد على التبشير والإنذار ، أو على القرآن ، أو على إبلاغ الرسالة
أقوال . والظاهر في ) إِلاَّ مَن شَاء ( أنه استثناء منقطع وقاله الجمهور . فعلى
هذا قيل بعباده ) لَكِنِ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً ( فليفعل .
وقيل : لكن من أنفق في سبيل الله ومجاهدة أعدائه فهو مسؤولي . وقيل : هو متصل على
حذف مضاف تقديره : إلاّ أجر من اتخذ إلى ربه سبيلاً أي إلاّ أجر من آمن أي الأجر
الحاصل لي على دعائه إلى الإيمان وقبوله ، لأنه تعالى يأجرني على ذلك . وقيل :
إلاّ أجر من آمن من يعني بالأجرة الإنفاق في سبيل الله أي لا أسألكم أجراً إلاّ
الإنفاق في سبيل الله ، فجعل الإنفاق أجراً .
الفرقان : ( 58 ) وتوكل على الحي . . . . .
ولما أخبر أنه فطم نفسه عن سؤالهم شيئاً أمره تعالى تفويض أمره إليه وثقته به
واعتماده عليه فهو المتكفل بنصره وإظهار دينه . ووصف تعالى نفسه بالصفة التي تقتضي
التوكل في قوله ) الْحَىّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ ( لأن هذا المعنى يختص به تعالى دون
كل حي كما قال ) كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ). وقرأ بعض السلف هذه الآية
فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق ، ثم أمره بتنزيهه وتمجيده مقروناً
بالثناء عليه لأن التنزيه محله اعتقاد القلب والمدح محله اللسان الموافق للأعتقاد
. وفي الحديث : ( من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد
البحر . وهي الكلمتان الخفيفتان على اللسان الثقيلتان في الميزان ) .
( وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ( أراد أنه ليس إليه من أمور عباده
شيء آمنوا أم كفروا ، وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم . وفي هذه الجملة
تسلية للرسول ووعيد للكافر . وفي بعض الأخبار كفى بك ظفراً أن يكون عدوك عاصياً
وهي كلمة يراد بها المبالغة تقول : كفى بالعلم جمالاً . وكفى بالأدب مالاً ، أي
حسبك لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم .
الفرقان : ( 59 ) الذي خلق السماوات . . . . .
ولما أمره بالتوكل والتسبيح وذكر صفة الحياة الدائمة ذكر ما دل على القدرة التامة
وهو إيجاد هذا العالم . وتقدم الكلام في نظير هذا الكلام واحتمل ) الَّذِى ( أن
يكون صفة للحي الذي لا يموت . ويتعين على قراءة زيد بن عليّ ) الرَّحْمَنُ ( بالجر
وأما على قراءة الجمهور ) الرَّحْمَنُ ( بالرفع فإنه يحتمل أن يكون ) الَّذِى (
صفة للحي و ) الرَّحْمَنُ ( خبر مبتدأ محذوف . ويحتمل أن يكون ) الَّذِى ( مبتدأ و
) الرَّحْمَنُ ( خبره . وأن يكون ) الَّذِى ( ( سقط : منصوبا على إضمار أعني ،
ويجوز على مذاهب الأخفش أن يكون الرحمن مبتدا وفاسأل خبره تخريجه على حده قول
الشاعر وقائلة خولا فانكح فتاتهم ، وجوزوا أيضا في الرحمن أن يكون بدلا من الضمير
المستكين في استوى والظاهر : تعلق به بقوله فاسأل وبقاء الباء غير مضمنة معنى عن ،
وخبيرا من صفات الله ، كما نقول لقيت بزيد أسدا ولقيت بزيد البحر تريد : أنه هو
الأسد شجاعة والبحر رما ، والمعنى أنه تعالى اللطيف العالم الخبير ، والمعنى فاسأل
الله الخبير بالأشياء )
" صفحة رقم 466 "
العالم بحقائقها ، وقال ابن عطية : و ( خبيرا ) على هذا منصوب ، إما بوقوع السؤال ،
وإما على الحال المؤكدة ، كما قال ( وهو الحق مصدقا ) ، وليس هذه الحال منتقلة إذ
الصفة العلية لا تتغير انتهى . وبنى هذا الإعراب على أنه كما تقول لو لقيت فلانا
للقيت به البحر كرما ، أي : لقيت منه والمعنى فاسأل الله عن كل أمر ، وكونه منصوبا
على الحال المؤكدة على هذا التقدير لا يصح ، إنما يصح أن يكون مفعولا به ، ويجوز
أن تكون الباء بمعنى عن أي فاسأل عنه خبيرا كما قال الشاعر : فإن تسألوني بالنساء
فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
وهو قول الأخفش والزجاج ويكون ( خبيرا ) ليس من صفات الله هنا ، كأنه قيل اسأل عن
الرحمن الخبراء جبريل والعلماء وأهل الكتب المنزلة ، وإن جعلت به متعلقا بخبيرا
كان المعنى فسأل عن الله الخبراء به ، وقال الكلبي معناه فاسأل خبيرا به وبه يعود
إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش ، وذلك الخبير هو الله
تعالى ، لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق ذلك فلا يعلمها إلا الله ، وعن ابن
عباس : الخبير جبريل وقدم لرؤوس الآي ، وقال الزمخشري : الباء في به صلة سل كقوله
) سأل سائل بعذاب ( [ المعارج : 1 ] كما يكون عن صلته في نحو : ) لتسألن يومئذ عن
النعيم ( [ التكاثر : 8 ] أو صلة ( خبيرا به ) فتجعل خبيرا مفعولا أي فسل عنه رجلا
عارفا يخبرك برحمته ، أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته ، أو فسل بسؤاله خبيرا ، كقولك
رأيت به أسدا ، أي رأيت برؤيته ، والمعنى : إن سألته وجدته خبيرا بجعله حالا عن به
تريد فسل عنه عالما بكل شيء ، وقيل : الرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكتب
المتقدمة ولم يكونوا يعرفونه ، فقيل : فسل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى
يعرف من ينكره ، ومن ثم كانوا يقولون : ما نعرف الرحمن إلا الذي في اليمامة يعنون
' مسيلمة ' ، وكان يقال له رحمن اليمامة انتهى .
الفرقان : ( 60 ) وإذا قيل لهم . . . . .
( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن ( وكانت قريش لا تعرف هذا في أسماء الله ، غالطت
قريش بذلك فقالت : إن محمدا يأمرنا بعبادة رحمن اليمامة نزلت ( وإذا قيل لهم ) ، و
( ما ) سؤال عن المجهول فيجوز أن يكون سؤالا عن المسمى به لأنهم ما كانوا يعرفونه
بهذا الاسم ، ويجوز أن يكون سؤالا عن معناه لأنه لم يكن مستعملا كفي كلامهم ، كما
يستعمل الرحيم والرحوم والراحم ، أو لأنهم أنكروا إطلاقا على الله قاله الزمخشري ،
والذي يظهر أنهم لما قيل لهم اسجدوا للرحمن فذكرت الصفة المقتضية للمبالغة في
الرحمة والكلمة عربية لا ينكر وضعها أظهروا التجاهل بهذه الصفة التي لله مغالطة
منهم ووقاحة ، فقالوا وما الرحمن ، وهم عارفون به وبصفته الرحمانية ، وهذا كما قال
فرعون : ) وما رب العالمين ( [ الشعراء : 23 ] حين قال له موسى : ) إني رسول من رب
العالمين ( [ الأعراف : 104 ] على سبيل المناكرة وهو عالم برب العالمين ، كما قال
موسى ) لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ( [ الإسراء : 102 ] ،
فكذلك كفار قريش استفهموا عن الرحمن استفهام من يجهله وهم عالمون به ، فعلى قول من
قال لم يكونوا يعرفون الرحمن إلا مسيلمة ، وعلى قول من قال من لا يعرفون الرحمن
إلا مسيلمة ، فالمعنى أنسجد لمسيلمة ؟ وعلى قول من قال من لا يعرفون الرحمن
بالكلية فالمعنى أنسجد لما تأمرنا من غير علم ببيانه ، والقائل اسجدوا : الرسول أو
الله على لسان رسله ، وقرأ ابن مسعود ، الأسود بن يزيد ، وحمزة ، والكسائي ( يأمر
) بالياء من تحت أي يأمرنا محمد والكناية عنه أو المسمى الرحمن ولا نعرفه ، وقرأ
باقي السبعة بالتاء خطابا بالرسول ومفعول ( تأمرنا ) الثاني محذوف لدلالة الكلام
عليه تقديره يأمرنا سجوده نحو قولهم ' أمرتك الخير ' وزادهم أي هذا القول وهو
الأمر بالسجود للرحمن زادهم ضلال يختص به مع ضلالهم السابق ، وكان حقه أن يكون
باعثا على فعل السجود والقبول ، وقال الضحاك : سجد أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي
، وعثمان بن مظعون ، وعمرو بن غلسة ، فرآهم المشركون
" صفحة رقم 467 "
فأخذوا في ناحية المسجد يستهزوؤن ، فهذا المراد بقوله ) وَزَادَهُمْ نُفُوراً (
ومعنى ) نُفُورًا ( فراراً .
2 ( ) تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً
وَقَمَراً مُّنِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً
لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاٌّ رْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ
قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ
عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَالَّذِينَ
إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ
قَوَاماً وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءَاخَرَ وَلاَ
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ
وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ
عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ
يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا
مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِأايَاتِ
رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً أُوْلَائِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا
صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ
مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ
فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ( ) ) 2
) تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً
وَقَمَراً مُّنِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ
أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ
يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ
سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ
غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ
لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً وَالَّذِينَ
لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى
حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ).
الفرقان : ( 61 ) تبارك الذي جعل . . . . .
لما جعلت قريش سؤالها عن اسمه الذي هو الرحمن سؤالاً عن مجهول نزلت هذه الآية
مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بألوهيته . ومناسبتها لما قبلها أنه
تعالى لما ذكر أنه خلق السموات والأرض وما بينهما ، ووصف نفسه بالرحمن ، وسألوا هم
فيه عما وضع في السماء من النيرات وما صرف من حال الليل والنهار لبادروا بالسجود
والعبادة للرحمن ، ثم نبههم على مالهم به اعتناء تام من رصد الكواكب وأحوالها ووضع
أسماء لها . والظاهر أن المراد بالبروج المعروفة عند العرب وهي منازل الكواكب
السيارة وهي الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان
، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت . سميت بذلك لشبهها بما شبهت به .
وسميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها
واشتقاق البرج من التبرج لظهوره .
وقيل : البروج هنا القصور في الجنة . قال الأعمش . وكان أصحاب عبد الله يقرؤونها )
فِى السَّمَاء ( قصوراً . وقال أبو صالح : البروج هنا الكواكب العظام . قال ابن
عطية : والقول بأنها قصور في الجنة تحط من غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات
تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل . والضمير في ) فِيهَا ( الظاهر أنه عائد
على ) السَّمَاء ). وقيل : على البروج ، فالمعنى وجعل في جملتها ) سِرَاجاً ). وقرأ
الجمهور ) سِرَاجاً ( على الإفراد وهو الشمس . وقرأ عبد الله وعلقمة والأعمش
والأخوان سُرُجاً بالجمع مضموم
" صفحة رقم 468 "
الراء وهو يجمع الأنوار ، فيكون خص القمر بالذكر تشريفاً . وقرأ الأعمش أيضاً
والنخعي وابن وثاب كذلك بسكون الراء . وقرأ الحسن والأعمش والنخعي وعصمة عن عاصم )
وقُمر ( بضم القاء وسكون الميم فالظاهر أنه لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب
والعرب . وقيل : جمع قمراء أي ليلة قمراء كأنه قال : وذا قمر منير لأن الليلة تكون
قمراء بالقمر ، فأضافه إليها ونظيره في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف
إليه مقامه قول حسان :
بردى يصفق بالرحيق السلسل
يريد ماء بردى . فمنيراً وصف لذلك المحذوف كما قال يصفق بالياء من تحت ، ولو لم
يراع المضاف لقال : تصفق بالتاء وقال ) وَقَمَراً مُّنِيراً ( أي مضيئاً ولم يجعله
) سِرَاجاً ( كالشمس لأنه لا توقد له .
الفرقان : ( 62 ) وهو الذي جعل . . . . .
وانتصب ) خِلْفَةً ( على الحال . فقيل : هو مصدر خلف خلفة . وقيل : هو اسم هيئة
كالركبة ووقع حالاً اسم الهيئة في قولهم : مررت بماء قعدة رجل ، وهي الحالة التي
يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر . والمعنى جعلهما ذوي خلفة أي ذوي
عقبة يعقب هذا ذاك وذاك هذا ، ويقال الليل والنهار يختلفان كما يقال يعتقبان ومنه
قوله ) وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( ويقال : بفلان خلفة واختلاف إذا
اختلف كثيراً إلى متبرزه ومن هذا المعنى قول زهير :
بها العيس والآرام يمشين خلفة
وقول الآخر
يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأباً : ولها بالما طرون إذا
أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتفعت
سكنت من جلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة
حولها الزيتون قد ينعا
وقيل ) خِلْفَةً ( في الزيادة والنقصان . وقال مجاهد وقتادة والكسائي : هذا أسود
وهذا أبيض وهذا طويل وهذا قصير . ) لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ). قال عمر وابن
عباس والحسن : معناه ) لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ( ما فاته من الخير والصلاة
ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه . وقال مجاهد وغيره : أي يعتبر بالمصنوعات
ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم . وقال الزمخشري : وعن أبي
بن كعب يتذكر والمعنى . لينظر في اختلافهما الناظر فيعلم أن لا بد لانتقالهما من
حال إلى حال وتغيرهما من نافل ومغير ، ويستدل بذلك على عظم قدرته ويشكر الشاكر على
النعمة من السكون بالليل والتصرف بالنهار كما قال تعالى : ) وَمِن رَّحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن
فَضْلِهِ ( وليكونا وقتين للمتذكر والشاكر من فاته في أحدهما ورده من العبادة أتى
به في الآخر . وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن عليّ وطلحة وحمزة تذكر مضارع ذكر
خفيفاً .
الفرقان : ( 63 ) وعباد الرحمن الذين . . . . .
ولما تقدم ذكر الكفار وذمهم جاء ) لَّمّاً أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ
شُكُوراً ( ذكر أحوال المؤمنين المتذكرين الشاكرين فقال : ) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ
( وهذه إضافة تشريف وتفضل ، وهو جمع عبد . وقال ابن بحر : جمع عابد كصاحب وصحاب ،
وتاجر وتجار ، وراجل ورجال ، أي الذين يعبدونه حق عبادته .
" صفحة رقم 469 "
والظاهر أن ) وَعِبَادُ ( مبتدأ و ) الَّذِينَ يَمْشُونَ ( الخبر . وقيل : أولئك
الخبر و ) الَّذِينَ ( صفة ، وقوم من عبد القيس يسمون العباد لأن كسرى ملكهم دون
العرب . وقيل : لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله . وقرأ اليماني :
وعباد جمع عابد كضارب وضراب . وقرأ الحسن : وعُبَدُ بضم العين والباء . وقرأ
السلمي واليماني ) يَمْشُونَ ( مبنياً للمفعول مشدداً . والهون : الرفق واللين .
وانتصب ) هَوْناً ( على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشياً هوناً أو على الحال ، أي
يشمون هينين في تؤدة وسكينة وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً
وبطراً ، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق . وقال مجاهد : بالحلم والوقار
. وقال ابن عباس : بالطاعة والعفاف والتواضع . وقال الحسن : حلماء إن جهل عليهم لم
يجهلوا . وقال ابن عطية ) هَوْناً ( عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم ، فذكر
من ذلك المعظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال )
هَوْناً ( بمعنى أمره هون أي ليس بخشن ، وذهبت فرقة إلى أن ) هَوْناً ( مرتبط
بقوله ) يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ ( أي إن المشي هو الهون ، ويشبه أن يتأول هذا
على أن يكون أخلاق ذلك الماشي ) هَوْناً ( مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما
بينا ، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل ، لأن رب ماش ) هَوْناً ( رويداً
وهو ذنب أطلس . وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يتكفأ في مشيه كأنما
يمشي في صبب . وهو عليه السلام الصدر في هذه الآية وقوله عليه السلام : ( من مشى
منكم في طمع فليمش رويداً ) . أراد في عمر نفسه ولم يرد المشي وحده ألا ترى أن
المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر : كلهم يمشي
رويدا
كلهم يطلب صيداً
وقال الزهري : سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه ، يريد الإسراع الخفيف لأنه يخل
بالوقار والخير في التوسط . وقال زيد بن أسلم : أنه رأى في النوم من فسر له )
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( بأنهم الذين لا يريدون أن يفسدوا في
الأرض . وقال عياض بن موسى : كان عليه السلام يرفع في مشيه رجليه بسرعة وعد وخطوة
خلاف مشية المختال ، ويقصد سمته وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة كما قال : ( إنما
ينحط من صبب ) . وكان عمر يسرع جبلة لا تكلفاً .
( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ ( أي مما لا يسوغ الخطاب به ) قَالُواْ
سَلاَماً ( أي سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه ) سَلَامٌ
عَلَيْكَ ( قاله الأصم . وقال مجاهد : قولاً سديداً فهو منصوب بقالوا . وقيل : هو
على إضمار فعل تقديره سلمنا ) سَلاَماً ( فهو جزء من متعلق الجملة المحكية . قال
ابن عطية : والذي أقوله أن ) قَالُواْ ( هو العامل في ) سَلاَماً ( لأن المعنى
قالوا هذا اللفظ . وقال الزمخشري : تسلماً منكم فأقيم السلام مقام التسليم . وقيل
: قالوا سداداً من القول يسلمون فيه من الأذى والإثم والمراد بالجهل السفه وقلة
الأدب وسوء الرغبة من قوله : ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
انتهى . وقال الكلبي : وأبو العالية نسختها آية القتال . وقال ابن عطية : وهذه
الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يخص الكفرة وبقي حكمها في المسلمين إلى يوم
القيامة ، وذكره سيبويه في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه . ورجح به
أنه المراد السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة ،
والآية مكية فنسختها آية السيف . وفي التاريخ ما معناه أن إبراهيم بن المهدي كان
منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب فرآه في النوم قد تقدمه إلى عبور قنطرة ، فقال له :
إنما تَدَّعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك ، وكان حكى ذلك للمأمون قال : فما
رأيت له
" صفحة رقم 470 "
بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون : فما أجابك به ؟ قال : كان يقول لي
سلاماً سلاماً ، فنبهه المأمون على هذه الآية وقال : يا عم قد أجابك بأبلغ جواب .
فخزي إبراهيم واستحيا ، وكان إبراهيم لم يحفظ الآية أو ذهب عنه حالة الحكاية .
والبيتوتة هو أن يدرك الليل نمت أو لم تنم ، وهو خلاف الظلول وبجبيلة وأزد السراة
يقولون : بيات وسائر العرب يقولون : يبيت ،
الفرقان : ( 64 ) والذين يبيتون لربهم . . . . .
ولما ذكر حالهم بالنهار بأنهم يتصرفون أحسن تصرف ذكر حالهم بالليل والظاهر أنه
يعنى إحياء الليل بالصلاة أو أكثره . وقيل : من قرأ شيئاً من القرآن بالليل في
صلاة فقد بات ساجداً وقائماً . وقيل : هما الركعتان بعد المغرب ، والركعتان بعد
العشاء . وقيل : من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في هذه الآية . وفي هذه
الآية حض على قيام الليل في الصلاة . وقدم السجود وإن كان متأخراً في الفعل لأجل
الفواصل ، ولفضل السجود فإنها حالة أقرب ما يكون العبد فيها من الله . وقرأ أبو البرهثيم
: سجوداً على وزن قعوداً .
الفرقان : ( 65 ) والذين يقولون ربنا . . . . .
ومدحهم تعالى بدعائه أن يصرف عنهم عذاب جهنم وفيه تحقيق إيمانهم بالبعث والجزاء .
قال ابن عباس : ) غَرَاماً ( فظيعاً وجيعاً . وقال الخدري : لازماً ملحاً دائماً .
قال الحسن : كل غريم يفارق غريمه إلاّ غريم جهنم . وقال السدّي : شديداً . وأنشدوا
على أن ) غَرَاماً ( لازماً قوله الشاعر وهو بشر بن أبي خازم : ويوم اليسار ويوم
الجفار
كانا عذاباً وكانا غراماً
وقال الأعشى . إن يعاقب يكن غراما
وإن يعط جزيلاً فإنه لا يبالي وصفهم بإحياء الليل ساجدين ثم عقبه بذكر دعائهم هذا
إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون يبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم .
الفرقان : ( 66 ) إنها ساءت مستقرا . . . . .
و ) سَاءتْ ( احتمل أن يكون بمعنى بئست . والمخصوص بالذم محذوف وفي ) سَاءتْ (
ضمير مبهم ويتعين أن يكون ) مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ( تمييز . والتقدير ) سَاءتْ
مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ( هي وهذا المخصوص بالذم هو رابط الجملة الواقعة خبراً
لأن . ويجوز أن يكون ) سَاءتْ ( بمعن أحزنت فيكون المفعول محذوفاً أي ساءتهم .
والفاعل ضمير جهنم وجاز في ) مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ( أن يكونا تمييزين وأن
يكونا حالين قد عطف أحدهما على الآخر . والظاهر أن التعليلين غير مترادفين ذكر
أولاً لزوم عذابها ، وثانياً مساءة مكانها وهما متغايران وإن كان يلزم من لزوم
العذاب في مكان دم ذلك المكان . وقيل : هما مترادفان ، والظاهر أنه من كلام
الداعين وحكاية لقولهم . وقيل : هو من كلام الله ، ويظهر أن قوله ) وَمُقَاماً (
معطوف على سبيل التوكيد لأن الاستقرار والإقامة كأنهما مترادفان . وقيل : المستقر
للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون فيها ولا يقيمون ، والإقامة للكفار . وقرأت
فرقة ) وَمُقَاماً ( بفتح الميم أي مكان قيام ، والجمهور بالضم أي مكان إقامة .
الفرقان : ( 67 ) والذين إذا أنفقوا . . . . .
( لَمْ يُسْرِفُواْ ( ولم يقتروا . قال أبو عبد الرحمن الجيلي : الإنفاق في غير
طاعة اسراف ، والإمساك عن طاعة إقتار . وقال معناه ابن عباس ومجاهد وابن زيد .
وسمع رجل رجلاً يقول : لا خير في الإسراف فقال : لا إسراف في الخير . وقال عون بن
عبد الله بن عتبة : الإسراف أن تنفق مال غيرك . وقال النخعي : هو الذي لا يجيع ولا
يُعَرِّي ولا ينفق نفقة يقول : الناس قد أسرف . وقال يزيد بن أبي حبيب : هم الذين
لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاماً للذة وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن
عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة : ما نفقتك ؟ قال له عمر : الحسنة بين
" صفحة رقم 471 "
السيئتين . ثم تلا الآية . والإسراف مجاوزة الحد في النفقة والقتر التضييق الذي هو
نقيض الإسراف . وعن أنس في سنن ابن ماجة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) ) : ( إن من السرف أن تأكل ما اشتهيته ) . وقال الشاعر : ولا تغل في شيء من
الأمر واقتصد
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر إذا المرء أعطى نفسه كلما اشتهت
ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي
دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال حاتم
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله
فرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم :
يقترون بفتح الياء وضم التاء ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء
ونافع ، وابن عامر بضم الياء وكسر التاء مشددة وكلها لغات في التضييق . وأنكر أبو
حاتم لغة أقتر رباعياً هنا . وقال أقتر إذا افتقر . ومنه ) وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدْرُهُ ( وغاب عنه ما حكاه الأصمعي وغيره : من اقتر بمعنى ضيق ، والقوام
الاعتدال بين الحالتين . وقرأ حسان بن عبد الرحمن ) قَوَاماً ( بالكسر . فقيل :
هما لغتان بمعنى واحد . وقيل : بالكسر ما يقام به الشيء يقال : أنت قوامنا بمعنى
ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص . وقيل : ) قَوَاماً ( بالكسر مبلغاً
وسداداً وملاك حال ، و ) بَيْنَ ذالِكَ ( و ) قَوَاماً ( يصح أن يكونا خبرين عند
من يجيز تعداد خبر ) كَانَ ( وأن يكون ) بَيْنَ ( هو الخبر و ) قَوَاماً ( حال
مؤكدة ، وأن يكون ) قَوَاماً ( خبراً و ) بَيْنَ ذالِكَ ( إما معمول لكان على مذهب
من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف ، وأن يكون حالاً من ) قَوَاماً ( لأنه لو
تأخر لكان صفة ، وأجاز الفراء أن يكون ) بَيْنَ ذالِكَ ( اسم ) كَانَ ( وبُني
لإضافته إلى مبني كقوله ) وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ ( في قراءة من فتح الميم و )
قَوَاماً ( الخبر .
قال الزمخشري : وهو من جهة الإعراب لا بأس به ، ولكن المعنى ليس بقوي لأن ما بين
الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة انتهى
.
وصفهم تعالى بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير ، وبمثله خوطب الرسول ( صلى الله
عليه وسلم ) ) بقوله ) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً ( الآية .
الفرقان : ( 68 - 70 ) والذين لا يدعون . . . . .
( وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ ( الآية سأل ابن مسعود رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) أي الذنب أعظم ؟ فقال : ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك ) . قال : ثم أي ؟
قال : ( أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ) . قال : ثم أي ؟ قال : ( أن تزاني حليلة
جارك ) . فأنزل الله تصديقها ) وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ ( الآية . وقيل : أتى
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مشركون قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ،
فقالوا : إن الذين تقول وتدعو إليه لحسن ، أو تخبرنا أن لما علمنا كفارة فنزلت إلى
) غَفُوراً رَّحِيماً ). وقيل : نزولها قصة وحشي في إسلامه في حديث طويل . قال
الزمخشري : نفي هذه التقبيحات العظام عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدفين
للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم ، كأنه قيل : والذين برأهم
الله وطهرهم مما أنتم عليه . وقال ابن عطية : إخراج لعباده المؤمنين من صفات
الكفرة في عبادتهم الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال
والغارات وبالزنا الذي كان عندهم مباحاً انتهى . وتقدم تفسير نظير ) وَلاَ
تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ( في
" صفحة رقم 472 "
سورة الأنعام . وقرىء ) يَلْقَ ( بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة وابن مسعود
وأبو رجاء يلقى بألف ، كان نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقر الألف . والآثام
في اللغة العقاب وهو جزاء الإثم . قال الشاعر : جزى الله ابن عروة حيث أمسى
عقوق والعقوق له آثام أي حد وعقوبة وبه فسره قتادة وابن زيد . وقال عبد الله بن
عمرو ومجاهد وعكرمة وابن جبير : آثام واد في جهنم هذا اسمه جعله الله عقاباً
للكفرة . وقال أبو مسلم : الآثام الإثم ، ومعناه ) يَلْقَ ( جزاء آثام ، فأطلق اسم
الشيء على جزائه . وقال الحسن : الآثام اسم من أسماء جهنم . وقيل : بئر فيها .
وقيل : جبل . وقرأ ابن مسعود : يلق أياماً جمع يوم يعني شدائد . يقال : يوم ذو
أيام لليوم العصيب . وذلك في قوله ) وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ( يظهر أنه إشارة إلى
المجموع من دعاء إله وقتل النفس بغير حق والزنا ، فيكون التضعيف مرتباً على مجموع
هذه المعاصي ، ولا يلزم ذلك التضعيف على كل واحد منها . ولا شك أن عذاب الكفار
يتفاوت بحسب جرائمهم .
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ ( مبنياً للمفعول
وبألف ) وَيَخْلُدْ ( مبنياً للفاعل . والحسن وأبو جعفر وابن كثير كذلك إلاّ أنهم
شددوا العين وطرحوا الألف . وقرأ أبو جعفر أيضاً وشيبة وطلحة بن سليمان نضعف
بالنون مضمومة وكسر العين مشددة ) الْعَذَابَ ( نصب . وطلحة بن مصرف ) يُضَاعِفُ (
بالياء مبنياً للفاعل ) الْعَذَابَ ( نصب . وقرأ طلحة بن سليمان وتخلد بتاء الخطاب
على الالتفات مرفوعاً أي وتخلد أيها الكافر . وقرأ أبو حيوة ) وَيَخْلُدْ ( مبنياً
للمفعول مشدد اللام مجزوماً . ورويت عن أبي عمرو وعنه كذلك مخففاً . وقرأ أبو بكر
عن عاصم ) يُضَاعِفُ ( ) وَيَخْلُدْ ( بالرفع عنهما وكذا ابن عامر والمفضل عن عاصم
) يُضَاعِفُ ( ) وَيَخْلُدْ ( مبنياً للمفعول مرفوعاً مخففاً . والأعمش بضم الياء
مبنياً للمفعول مرفوعاً مخففاً . والأعمش بضم الياء مبنياً للمفعول مشدداً مرفوعاً
فالرفع على الاستئناف أو الحال والجزم على البدل من ) يَلْقَ ). كما قال الشاعر :
متى تأتنا تلمم بنافي ديارنا
تجد حطباً جزلاً وناراً تأججاً
والضمير في ) فِيهِ ( عائد على العذاب ، والظاهر أن توبة المسلم القاتل النفس بغير
حق مقبولة خلافاً لابن عباس ، وتقدم ذلك في النساء وتبديل سيئاتهم حسنات هو جعل
أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة ويكون ذلك سبب رحمة الله إياهم قاله ابن عباس .
وابن جبير والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وردوا على من قال هو في يوم القيامة . وقال
الزجاج : السيئة بعينها لا تصير حسنة ، ولكن السيئة تُمْحَى بالتوبة وتكتب الحسنة
مع التوبة ، والكافر يحبط عملة وتثبت عليه السيئات . وتأول ابن مسيب ومكحول أن ذلك
يوم القيامة وهو بمعنى كرم العفو . وفي كتاب مسلم إن الله يبدل يوم القيامة لمن
يريد المغفرة له من الموحدين بدل سيئات حسنات . وقالا تُمحى السيئة ويثبت بدلها
حسنة . وقال القفال والقاضي : يبدل العقاب بالثواب فذكرهما وأراد ما يستحق بهما .
( إِلاَّ مَن تَابَ ( استثناء متصل من الجنس ، ولا يظهر لأن المستثنى منه محكوم
عليه بأنه ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ ( فيصير التقدير ) إِلاَّ مَن تَابَ
وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ( فلا يضاعف له العذاب . ولا يلزم من انتفاء
التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف فالأولى عندي أن يكون استثناء منقطعاً أي لكن من
تاب وآمن عمل صالحاً ) فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ (
وإذا كان كذلك فلا يلقى عذاباً ألبتة و ) سَيّئَاتِهِمْ ( هو المفعول الثاني ، وهو
أصله أن يكون مقيداً بحرف الجر أي بسيئاتهم . و ) حَسَنَاتٍ ( هو المفعول الأول
وهو المصرح كما قال تعالى ) وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ). وقال
الشاعر :
" صفحة رقم 473 "
تضحك مني أخت ذات النحيين
أبد لك الله بلون لونين
سواد وجه وبياض عينين
الفرقان : ( 71 ) ومن تاب وعمل . . . . .
الظاهر أن ) وَمَن تَابَ ( أي أنشأ التوبة فإنه يتوب إلى الله أي يرجع إلى ثوابه
وإحسانه . قال ابن عطية ) وَمَن تَابَ ( فإنه قد تمسك بأمر وثيق . كما تقول لمن
يستحسن قوله في أمر : لقد قلت يا فلان قولاً فكذلك الآية معناها مدح المتاب ، كأنه
قال : فإنه يجد الفرج والمغفرة عظيماً . وقال الزمخشري : ومن يترك المعاصي ويندم
عليها ويدخل في العمل الصالح فإن بذلك تائب إلى الله الذي يعرف حق التائبين ،
ويفعل بهم ما يستوجبون ، والله يحب التوّابين ويحب المتطهرين . وقيل : من عزم على
التوبة فإنه يتوب إلى الله فليبادر إليها ويتوجه بها إلى الله . وقيل ) مَن تَابَ
( من ذنوبه فإنه يتوب إلى من يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات . وقيل : )
وَمَن تَابَ ( استقام على التوبة فإنه يتوب إلى الله أي فهو التائب حقاً عند الله
.
الفرقان : ( 72 ) والذين لا يشهدون . . . . .
( وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ ( عاد إلى ذكر أوصاف ) عِبَادُ
الرَّحْمَنِ ( والظاهر أن المعنى لا يشهدون بالزور أو شهادة الزور ، قاله عليّ والباقر
فهو من الشهادة . وقيل : المعنى لا يحضرون من المشاهدة والزور الشرك والصنم أو
الكذب أو آلة الغناء أو أعياد النصارى . أو لعبة كانت في الجاهلية أو النوح أو
مجالس يعاب فيها الصالحون ، أقوال . فالشرك قاله الضحاك وابن زيد ، والغناء قاله
مجاهد ، والكذب قاله ابن جريج . وفي الكشاف عن قتادة مجالس الباطل . وعن ابن
الحنفية : اللهو والغناء . وعن مجاهد : أعياد المشركين و ) اللَّغْوَ ( كل ما
ينبغي أن يُلغى ويُطرح . والمعنى ) وَإِذَا مَرُّواْ ( بأهل اللغو ) مَرُّواْ (
معرضين عنهم مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم . والخوض معهم لقوله ) وَإِذَا
سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ( انتهى .
الفرقان : ( 73 ) والذين إذا ذكروا . . . . .
( بآيَاتِ رَبّهِمْ ( هي القرآن . ) لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً
وَعُمْيَاناً ( النفي متوجه إلى القيد الذي هو صم وعميان لا للخرور الداخل عليه ،
وهذا الأكثر في لسان العرب أن النفي يتسلط على القيد ، والمعنى أنهم إذا ذكروا بها
أَكَبّوا عليها حرصاً على استماعها ، وأقبلوا على المذكر بها بآذان واعية وأعين
راعية ، بخلاف غيرهم من المنافقين وأشباههم ، فإنهم إذا ذكروا بها كانوا مكبين
عليها مقبلين على من يذكر بها في ظاهر الأمر ، وكانوا ) صُمّاً وَعُمْيَاناً ( حيث
لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها . قال ابن عطية : بل يكون خرورهم سجداً وبكياً كما
تقول : لم يخرج زيد إلى الحرب جزعاً أي إنما خرج جريئاً معدماً ، وكان المسمع
المذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض كان ذلك خروراً وهو السقوط على غير نظام
وترتيب ، وإن كان قد أشبه الذي يَخّر ساجداً لكن أصله أنه على غير ترتيب انتهى .
وقال السدّي ) لَمْ يَخِرُّواْ ( ) صُمّاً وَعُمْيَاناً ( هي صفة للكفار ، وهي
عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك . وقرن ذلك بقولك : قعد فلان يتمنى ، وقام فلان
يبكي ، وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة .
الفرقان : ( 74 ) والذين يقولون ربنا . . . . .
( قُرَّةِ أَعْيُنٍ ( كناية عن السرور والفرح ، وهو مأخوذ من القر وهو البرد .
يقال : دمع السرور بارد ، ودمع الحزن سخن ، ويقال : أقر الله عينك ، وأسخن الله
عين العدو . وقال أبو تمام : فأما عيون العاشقين فأسخنت
وأما عيون الشامتين فقرت
وقيل : مأخوذ من القرار أي يقر النظر به ولا ينظر إلى غيره . وقال أبو عمرو : وقرة
العين النوم أي آمناً لأن الأمن لا يأتي مع الخوف حكاه القفال ، وقرة العين فيمن
ذكروا رؤيتهم مطيعين لله قاله ابن عباس والحسن وحضرمي كانوا في أول الإسلام يهتدي
الأب والابن كافروا والزوج والزوجة كافرة ، وكانت قرة عيونهم في إيمان أحبابهم .
وقال
" صفحة رقم 474 "
ابن عباس : قرة عين الولدان تراه يكتب الفقه والظاهر أنهم دعوا بذلك ليجابوا في
الدنيا فيسروا بهم . وقيل : سألوا أن يلحق الله بهم أولئك في الجنة ليتم لهم
سرورهم انتهى . ويتضمن هذا القول الأول الذي هو في الدنيا لأن ذلك نتيجة إيمانهم
في الدنيا . ومن الظاهر أنها لابتداء الغاية أي ) هَبْ لَنَا ( من جهتهم ما تقربه
عيوننا من طاعة وصلاح ، وجوز أن تكون للبيان قاله الزمخشري قال : كأنه قيل ) هَبْ
لَنَا ( ) قُرَّةِ أَعْيُنٍ ( ثم بينت القرة وفسرت بقوله ) مِنْ أَزْواجِنَا
وَذُرّيَّاتِنَا ( ومعناه أن يجعلهم الله لهم قرة أعين من قولك : رأيت منك أسداً
أي أنت أسد انتهى . وتقدم لنا أن ) مِنْ ( التي لبيان الجنس لا بد أن تتقدم المبين
. ثم يأتي بمن البيانية وهذا على مذهب من أثبت أنها تكون لبيان الجنس . والصحيح أن
هذا المعنى ليس بثابت لمن .
وقرأ ابن عامر والحرميان وحفص وذرياتنا على الجمع وباقي السبعة وطلحة على الإفراد
. وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرة قرات على الجمع ، والجمهور على الإفراد .
ونكرت القرة لتنكير الأعين كأنه قال هب لنا منهم سروراً وفرحاً وجاء ) أَعْيُنِ (
بصيغة جمع القلة دون عيون الذي هو صيغة جمع الكثرة لأنه أريد أعين المتقين وهي
قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قاله الزمخشري . وليس بجيد لأن أعين تنطلق على
العشرة فما دونه من الجمع ، والمتقون ليست أعينهم عشرة بل هي عيون كثيرة جداً وإن
كانت عيونهم قليلة بالنسبة إلي عيون غيرهم فهي من الكثرة بحيث تفوت العد . وأفرد )
إِمَاماً ( إما اكتفاء بالواحد عن الجمع ، وحسنه كونه فاصلة ويدل على الجنس ولا
لبس ، وأما لأن المعنى واجعل كل واحد ) إِمَاماً ( وإما أن يكون جمع آمّ كحال
وحلال ، وإما لاتحادهم واتفاق كلمتهم قالوا : واجعلنا إماماً واحد ادعوا الله أن
يكونوا قدوة في الدين ولم يطلبوا الرئاسة قاله النخعي . وقيل : في الآية ما يدل
على أن الرئاسة في الدين يجب أن تطلب .
الفرقان : ( 75 ) أولئك يجزون الغرفة . . . . .
ونزلت في العشرة المبشرين بالجنة .
( أُوْلَائِكَ ( إشارة إلى الموصوفين بهذه الصفات العشرة . و ) الْغُرْفَةَ ( اسم
معرف بأل فيعم أي الغرف كما جاء ) وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءامَنُواْ ( وهي
العلالي . قال ابن عباس : وهي بيوت من زبرجد ودر وياقوت . وقيل ) الْغُرْفَةَ ( من
أسماء الجنة . وقيل : السماء السابعة غرفة . وقيل : هي أعلى منازل الجنة . وقيل :
المراد العلو في الدرجات والباء في ) بِمَا صَبَرُواْ ( للسبب . وقيل : للبدل أي
بدل صبرهم كما قال :
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا
أي فليت لي بدلهم قوماً ولم يذكر متعلق الصبر مخصصاً ليعم جميع متعلقاته . وقرأ
الحسن وشيبة وأبو جعفر والحرميان وأبو عمرو وأبو بكر ) وَيُلَقَّوْنَ ( بضم الياء
وفتح اللام والقاف مشددة . وقرأ طلحة ومحمد اليماني وباقي السبعة بفتح الياء وسكون
اللام وتخفيف القاف . والتحية دعاء بالتعمير والسلام دعاء بالسلامة ، أي تحييهم
الملائكة أو يحيي بعضهم بعضاً . وقيل : يحيون بالتحف جمع لهم بينهم المنافع
والتعظيم .
الفرقان : ( 76 ) خالدين فيها حسنت . . . . .
( حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ( معادل لقوله في جهنم ) سَاءتْ مُسْتَقَرّاً
وَمُقَاماً ).
الفرقان : ( 77 ) قل ما يعبأ . . . . .
ولما وصف عباده العباد وعدد ما لهم من صالح الأعمال أمر رسوله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) أن يصرح للناس بأن لا اكتراث لهم عند ربهم إنما هو العبادة والدعاء في
قوله ) لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ( هو العبادة والظاهر أن ) مَا ( نفي أي ليس )
يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ( ويجوز أن تكون استفهامية فيها معنى
النفي أي ، أي عبء يعبأ بكم ، و ) دُعَاؤُكُمْ ( مصدر أضيف إلى الفاعل أي لولا
عبادتكم إياه أي لولا دعاؤكم وتضرعكم إليه أو ما يعبأ بتعذيبكم لولا دعاؤكم
الأصنام آلهة . وقيل : أضيف إلى المفعول أي لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته . والذي
يظهر أن قوله ) قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ ( خطاب لكفار قريش القائلين نسجد لما
تأمرنا أي لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إياه في الشدائد .
( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ( بما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) )
" صفحة رقم 475 "
، فتستحقون العقاب ) فَسَوْفَ يَكُونُ ( العقاب وهو ما أنتجه تكذبيكم ونفس لهم في
حلوله بلفظة ) فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ( أي لازماً لهم لا ينفكون منه . وقرأ
عبد الله وابن عباس وابن الزبير : فقد كذب الكافرون وهو محمول على أنه تفسير لا
قرآن ، والأكثرون على أن اللزام هنا هو يوم بدر وهو قول ابن مسعود وأُبَيّ . وقيل
: عذاب الآخرة . وقيل : الموت ولا يحمل على الموت المعتاد بل القتل ببدر . وقيل :
التقدير ) فَسَوْفَ يَكُونُ ( هو أي العذاب وقد صرح به من قرأ ) فَسَوْفَ يَكُونُ
( العذاب ) لِزَاماً ( والوجه أن يترك اسم كان غير منطوق به بعدما علم أنه مما
توعد به لأجل الإبهام وتناول ما لا يكتنهه الوصف . وعن ابن عباس ) فَسَوْفَ
يَكُونُ ( هو أي التكذيب ) لِزَاماً ( أي لازماً لكم لا تعطون توبة ذكره الزهراوي
. قال الزمخشري : والخطاب إلى الناس على الإطلاق ومنهم مؤمنون عابدون ومكذبون
عاصون ، فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب ) فَقَدْ كَذَّبْتُمْ (
يقول إذا أعلمتكم أن حكمي أنى لا أعتد إلاّ بعبادتهم ، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي
فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار . ونظيره في الكلام أن يقول الملك لمن
عصى عليه : إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني ويتبع أمري ، فقد عصيت فسوف ترى ما
أحل بك بسبب عصيانك . وقرأ ابن جريج : فسوف تكون بتاء التأنيث أي فسوف تكون
العاقبة ، وقرأ الجمهور ) لِزَاماً ( بكسر اللام . وقرأ المنهال وأبان بن ثعلب
وأبو السمال بفتحها مصدر يقول لزم لزوماً ولزاماً ، مثل ثبت ثبوتاً وثباتاً .
وأنشد أبو عبيدة عليّ كسر اللام لصخر الغي : فإما ينج من حتف أرض
فقد لقيا حتوفهما لزاماً
ونقل ابن خالويه عن أبي السمال أنه قرأ لزام على وزن حذام جعله مصدراً معدولاً عن
اللزمة كفجار معدول عن الفجرة .
" صفحة رقم 3 "
( سورة الشعراء )
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) طسم تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ
أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ
ءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ
مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ
فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ
إِلَى الاٌّ رْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافُ أَن
يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى
هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلاَّ
فَاذْهَبَا بِأايَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ
فَقُولاإِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا
بَنِىإِسْرَاءِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ
عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ
الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِّينَ فَفَرَرْتُ
مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ
الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى
إِسْرَاءِيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ
أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الاٌّ وَّلِينَ قَالَ
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِىأُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ
لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ
أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ
فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَاذَا
لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا
تَأْمُرُونَ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْم
" صفحة رقم 4 "
ٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ
السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالُواْ
لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لاّجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ
نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ
مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ
بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ
فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ
قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ ءَامَنتُمْ
لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ
السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
مِّنْ خِلاَفٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى
رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ
أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ
بِعِبَادِىإِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَآئِنِ
حَاشِرِينَ إِنَّ هَاؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا
لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا
بَنِىإِسْرَاءِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَآءَا الْجَمْعَانِ
قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى
سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ
فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ
الاٌّ خَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الاٌّ خَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ
أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ
أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا
كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ
وَءَابَآؤُكُمُ الاٌّ قْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِىإِلاَّ رَبَّ
الْعَالَمِينَ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى
وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ
يُحْيِينِ وَالَّذِىأَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ
هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى
الاٌّ خِرِينَ وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ
لاًّبِىإِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ
يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ
لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ
إِن كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَآ
أَضَلَّنَآ إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ
" صفحة رقم 5 "
فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً
فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم
مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( )
الشعراء : ( 1 ) طسم
الشرذمة : الجمع القليل المحتقر ، وشرذمة كل شيء : بقيته الخسيسة : وأنشد أبو
عبيدة :
في شراذم البغال وقال آخر :
جاء الشتاء وقميصي أخلاق شراذم يضحك منه وقال الجوهري : الشرذمة : الطائفة من
الناس ، والقطعة من الشيء ، وثوب شراذم : أي قطع . انتهى . وقيل : السفلة من الناس
. كبكبه : قلب بعضه على بعض ، وحروفه كلها أصول عند جمهور البصريين . وقال
الزمخشري : الكبكبة : تكرير الكب ، جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في
المعنى . وقال ابن عطية : كبكب مضاعف من كب ، هذا قول الجمهور ، وهو الصحيح ، لأن
معناهما واحد ، والتضعيف في الفعل نحو : صر وصرصر . انتهى . وقول الزمخشري وابن
عطية هو قول الزجاج ، وهو أنه يزعم أن نحو كبكبه مما يفهم المعنى بسقوط ثالثه ، هو
مما ضوعف فيه الباء . وذهب الكوفيون إلى أن الثالث بدل من مثل الثاني ، فكان أصله
كبب ، فأبدل من الباء الثانية كاف ، الحميم : الولي القريب ، وحامة الرجل : خاصته
. وقال الزمخشري : الحميم من الاحتمام ، وهو الاهتمام ، وهو الذي يهمه ما أهمك ؛
أو من الحامة بمعنى الخاصة ، وهو الصديق الخالص .
( طسم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ
يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء ءايَةً
فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ
الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ
فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ
إِلَى الاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قَالَ رَبّ إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ
وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ
عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِئَايَاتِنَا
إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ
الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ ).
هذه السورة كلها مكية في قول الجمهور إلا أربع آيات من : ) وَالشُّعَرَاء
يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ( إلى آخر السورة ، وقاله ابن عباس وعطاء وقتادة . وقال
مقاتل : ) أَوَّلُ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً ( ، الآية مدنية . ومناسبة أولها
الآخر ما قبلها أنه قال تعالى : ) فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (
كذر تلهف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على كونهم لم يؤمنوا ، وكونهم كذبوا
بالحق ، لما جاءهم . ولما أوعدهم في آخر السورة بقوله : ) فَسَوْفَ يَكُونُ
لِزَاماً ( ، أوعدهم في أول هذه فقال في إثر إخباره بتكذيبهم فسوف يأتيهم )
أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ ). وتلك إشارة إلى آيات السورة ، أو
آيات القرآن . وأمال فتحة الطاء حمزة والكسائي ، وأبو بكر وباقي السبعة : بالفتح ؛
وحمزة بإظهار نون سين ، وباقي السبعة بإدغامها ؛ وعيسى بكسر الميم من طسم هنا وفي
القصص ، وجاء كذلك عن نافع . وفي مصحف عبد الله ط س م مقطوع ، وهي قراءة أبي جعفر
. وتكلموا على هذه الحروف بما يشبه اللغز والأحاجي ، فتركت نقهل ، إذ لا دليل على
" صفحة رقم 6 "
شيء مما قالوه .
( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( : هو القرآن ، هو بين في نفسه ومبين غيره من الأحكام
والشرائع وسائر ما اشتمل عليه ، أو مبى ن إعجازه وصحة أنه من عند الله . وتقدم
تفسير ) بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ( في أول الكهل . ) أَلاَّ يَكُونُواْ ( : أي لئلا
يؤمنوا ، أو خيفة أن لا يؤمنوا . وقرأ قتادة وزيد بن علي : باخع نفسك على الإضافة
. ) إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ ( ، دخلت إن على نشأ وإن للممكن ، أو المحقق المنبهم
زمانه . قال ابن عطية : ما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حزينا ، وأما
الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار ، وإنما جعل الله آيات الأنبياء
والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ، ليهتدي من سبق في علمه هداه ، ويضل من
سبق ضلاله ، وليكون للنظرة كسب به يتعلق الثواب والعقاب ، وآية الاضطرار تدفع جميع
هذا إذ لو كانت . انتهى . ومعنى آية : أي ملجئة إلى الإيمان يقهر عليه . وقرأ أبو
عمرو في رواية هرون عنه : إن يشأ ينزل على الغيبة ، أي إن يشأ الله ينزل ، وفي
المصاحف : لو شئنا لأنزلنا . وقرأ الجمهور : فظلت ، ماضياً بمعنى المستقبل ، لأنه
معطوف على ينزل . وقرأ طلحة : فتظلل ، وأعناقهم . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف صح
مجيء خاضعين خبراً عن الأعناق ؟ قلت ؛ أصل الكلام : فظلوا لها خاضعين ، فأقحمت
الأعناق لبيان موضع الخشوع ، وترك الكلام على أصله كقولهم : ذهبت أهل اليمامة ،
كان الأهل غير مذكور . انتهى . وقال مجاهد ، وابن زيد ، والأخفش : جماعاتهم ، يقال
: جاءني عنق من الناس ، أي جماعة ، ومنه قول الشاعر : إن العراق وأهله عنق إليك
فهيت هيتا وقيل : أعناق الناس : رؤساؤهم ، ومقدموهم شبهوا بالأعناق ، كما قيل :
لهم الرؤوس والنواصي والصدور قال الشاعر :
في مجفل من نواصي الخيل مشهود
وقيل : أريد الجارحة . فقال ابن عبسى : هو على حذف مضاف ، أي أصحاب للأعناق .
وروعي هذا المحذوف في قوله : ) خَاضِعِينَ ( ، حيث جاء جمعاً للمذكر العاقل ،
أولاً حذف ، ولكنه اكتسى من إضافته للمذكر العاقل وصفه ، فأخبر عنه إخباره ، كما
يكتسي المذكر التأنيث من إضافته إلى المؤنث في نحو :
كما شرقت صدر القناة من الدم
أولاً حذف ، ولكنه لما وضعت لفعل لا يكون إلا مقصوداً للعاقل وهو الخضوع ، جمعت
جمعه كما جاء : ) أَتَيْنَا طَائِعِينَ ).
" صفحة رقم 7 "
وقرأ عيسى ، وابن أبي عبلة : خاضعة . وعن ابن عباس : فنزلت هذه الآية فينا وفي بني
أمية ، ستكون لنا عليهم الدولة ، فتذل أعناقهم بعد معاوية ، ويلحقهم هوان بعد عز .
) وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ ). تقدم تفسيره في
الأنبياء . ) إِلاَّ كَانُواْ ( : جملة حالية ، أي إلا يكونوا عنها . وكان يدل ذلك
أن ديدنهم وعادتهم الإعراض عن ذكر الله . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف خولف بين
الألفاظ والغرض واحد ، وهو الإعراض ؟ قلت : كان قبل حين أعرضوا عن الذكر ، فقد كذبوا
به ، وحين كذبوا به ، فقد خف عليهم قدره وصار عرضه الاستهزاء بالسخرية ، لأن من
كان قابلاً للتحق مقبلاً عليه ، كان مصدقاً به لا محالة ، ولم يظن به التكذيب .
ومن كان مصدقاً به ، كان موقراً له . انتهى .
( فَسَيَأْتِيهِمْ ( : وعيد بعذاب الدنيا ، كيوم بدر ، وعذاب الآخرة . ولما كان
إعراضهم عن النظر في صانع الوجود ، وتكذيب ما جاءتهم به رسله من أعظم الكفر ،
وكانوا يجعلون الأصنام آلهة ، نبه تعالى على قدرته ، وأنه الخالق المنشيء الذي
يستحق العبادة بقوله : ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاْرْضِ ( ؟ والزوج : النوع . وقيل
: الشيء وشكله . وقيل : أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض . وقال الفراء : الزوج
: اللون . والكريم : الحسن ، قاله مجاهد وقتادة . وقيل : ما يأكله الناس والبهائم
. وقيل : الكثير المنفعة . وقيل : الكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد . وجه كريم : مرضي
في حسنه وجماله ؛ وكتاب كريم : مرضي في معانيه وفوائده . وقال : حتى يشق الصفوف من
كرمه ، أي من كونه مرضياً في شجاعته وبأسه ، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور ،
والأغذية والنباتات ، ويدخل في ذلك الحيوان لأنه عن اثنين . قال تعالى : )
وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ). قال الشعبي : الناس من نبات
الأرض ، فمن صار إلى الجنة فهو كريم ، ومن صار إلى النار فبضد ذلك .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الجمع بين كم وكل ؟ ولو قيل : ) أَنبَتْنَا
فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( قلت : دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل
التفصيل ، وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة ؟ فهذا معنى الجمع ، وبه نبه
على كمال قدرته . انتهى . وأفرد ) لآيَةً ( ، وإن كان قد سبق ما دل على الكثرة في
الأزواج ، وهو كم ، وعلى الإحاطة بالعموم في الأزواج ، لأن المشار إليه واحد ، وهو
الإنبات ، وإن اختلفت متعلقاته ، أو أريد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية . )
وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ( : تسجيل على أكثرهم بالكفر . ) وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( : أي الغالب القاهر . ولما كان الموضع
موضع بيان القدرة ، قدم صفة العزة على صفة الرحمة . فالرحمة إذا كانت عن قدرة ،
كانت أعظم وقعاً ، والمعنى : أنه عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة . ولما
ذكر تكذيب قريش بما جاءهم من الحق وإعراضهم عنه ، ذكر قصة موسى عليه السلام ، وما
قاسى مع فرعون وقومه ، ليكون ذلك مسلاة لما كان يلقاه عليه الصلاة والسلام من كفار
قريش . وإذ كانت قريش . وإذ كانت قريش قد اتخذت آلهة من دون الله ، وكان قوم فرعون
قد اتخذوه إلاهاً ، وكان أتباع ملة موسى عليه السلام هم المجاورون من آمن بالرسول
( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بدأ بقصة موسى ، ثم ذكر بعد ذلك ما يأتي ذكره من القصص
. والعامل في قال الزجاج ، اتل مضمرة ، أي اتل هذه القصة فيما يتلوا إذ نادى ،
ودليل ذلك ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ( إذ . وقيل : العامل اذكر ،
وهو مثل واتل ، ومعنى نادى : دعا . وقيل : أمر . وأن : يجوز أن تكون مصدرية ، وأن
تكون تفسيرية ، وسجل عليهم بالظلم ، لظلم أنفسهم بالكفر ، وظلم بني إسرائيل
بالاستعباد ، وذبح الأولاد ، و ) قَوْمِ فِرْعَونَ ( ، وقيل : بدل من ) الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ ( ، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول
واحد ، إذ كل واحد عطف البيان ، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان
على مدلول واحد ، إذ كل واحد عطف البيان ، وسوغه مستقل بالإسناد . ولما كان القوم
الظالمين يوهم الاشتراك ، أتى عطف البيان بإزالته
" صفحة رقم 8 "
إذ هو أشهر . وقرأ الجمهور : ألا يتقون ، بالياء على الغيبة . وقرأ عبد الله بن
مسلم بن يسار ، وشقيق بن سلمة ، وحماد بن سلمة ، وأبو قلابة : بتاء الخطاب ، على
طريقة الالتفات إليهم إنكاراً وغضباً عليهم ، وإن لم يكونوا حاضرين ، لأنه مبلغهم
ذلك ومكافحهم . قال ابن عطية : معناه قل لهم ، فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي
التقوى عنهم وأمرهم بالتقوى .
وقال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلق قوله : ) أَلا يَتَّقُونَ ( ؟ قلت : هو كلام
مستأنف اتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيباً لموسى
عليه السلام من حالهم التي سعت في الظلم والعسف ، ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم
وحذرهم من أيام الله . ويحتمل أن يكون ألا يتقون حالاً من الضمير في الظالمين ، أي
يظلمون غير متقين الله وعقابه ، فأدخلت همزة الإنكار على الحال . انتهى . وهذا
الاحتمال الذي أورده خطأ فاحش لأنه جعله حالاً من الضمير في الظالمين ، وقد أعرب
هو ) قَوْمِ فِرْعَونَ ( عطف بيان ، فصار فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي
بينهما ، لأن قوم فرعون معمول لقوله : ) ائْتَ ( والذي زعم أنه حال معمول لقوله
الظالمين ، وذلك لا يجوز أيضاً لو لم يفصل بينهما بقوله : قوم فرعون . لم يجز أن
تكون الجملة حالاً ، لأن ما بعد الهمزة يمتنع أن يكون معمولاً لما قبلها . وقولك :
جئت أمسرعاً ؟ على أن يكون أمسرعاً حالاً من الضمير في جئت لا يجوز ، فلو أضمرت
عاملاً بعد الهمزة جاز . وقرىء : بفتح النون وكسرها ، التقدير : أفلا يتقونني ؟
فحذفت نون الرفع لالتقاء الساكنين ، وياء المتكلم اكتفاء بالكسرة . وقال الزمخشري
: في ألا يتقون بالياء وكسر النون وجه آخر ، وهو أن يكون المعنى : ألا يا ناس
اتقون ، كقوله : ) أَلاَّ يَسْجُدُواْ ). انتهى . يعني : وحذف ألف ياخطاً ونطقاً
لالتقاء الساكنين ، وهذا تخريج بعيد . والظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على
التقوى ، وقول من قال إنها للتنبيه لا يصح ، وكذلك قول الزمخشري : إنها للنفي دخلت
عليها همزة الإنكار .
ولما كان فرعون عظيم النخوة حتى ادعى الإلاهية ، كثير المهابة ، قد أشربت القلوب
الخوف منه خصوصاً من كان من بني إسرائيل ، قال موسى عليه السلام : ) إِنّى أَخَافُ
أَن يُكَذّبُونِ ). وقرأ الجمهور : ويضيق ، ولا ينطلق ( ، بالرفع فيهما عطفاً على
أخاف . فالمعنى : إنه يفيد ثلاث علل : خوف التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع انطلاق
اللسان . وقرأ الأعرج ، وطلحة ، وعيسى ، وزيد بن عليّ ، وأبو حيوة ، وزائدة ، عن
الأعمش ، ويعقوب : بالنصب فيهما عطفاً على يكذبون ، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق
بالخوف . وحكى أبو عمرو الداني ، عن الأعرج : أنه قرأ بنصب : ويضيق ، ورفع : ولا
ينطلق ، وعدم انطلاق اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيق الصدر ، لأن اللسان إذ ذاك
يتلجلج ولا يكاد يبين عن مقصود الإنسان . وقال ابن عطية : وقد يكون عدم انطلاق اللسان
بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة ، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر
، لم ينطلق اللسان .
فأرسل إلى هارون ( : معناه يعينني ويؤازرني ، وكان هارون عليه السلام فصيحاً واسع
الصدر ، فحذف بعض المراد من القول ، إذ باقية دال عليه . انتهى .
" صفحة رقم 9 "
وقال الزمخشري : ومعنى ) ( ، بالرفع فيهما عطفاً على أخاف . فالمعنى : إنه يفيد
ثلاث علل : خوف التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع انطلاق اللسان . وقرأ الأعرج ،
وطلحة ، وعيسى ، وزيد بن عليّ ، وأبو حيوة ، وزائدة ، عن الأعمش ، ويعقوب : بالنصب
فيهما عطفاً على يكذبون ، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف . وحكى أبو عمرو
الداني ، عن الأعرج : أنه قرأ بنصب : ويضيق ، ورفع : ولا ينطلق ، وعدم انطلاق
اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيق الصدر ، لأن اللسان إذ ذاك يتلجلج ولا يكاد يبين
عن مقصود الإنسان . وقال ابن عطية : وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض
المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة ، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر ، لم ينطلق
اللسان .
فأرسل إلى هارون ( : معناه يعينني ويؤازرني ، وكان هارون عليه السلام فصيحاً واسع
الصدر ، فحذف بعض المراد من القول ، إذ باقية دال عليه . انتهى . وقال الزمخشري :
ومعنى ) ( : معناه يعينني ويؤازرني ، وكان هارون عليه السلام فصيحاً واسع الصدر ،
فحذف بعض المراد من القول ، إذ باقية دال عليه . انتهى . وقال الزمخشري : ومعنى )
فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ( : أرسل إليه جبريل عليه السلام ، واجعله نبياً ، وأزرني
به ، واشدد به عضدي ؛ وهذا كلام مختصر ، وقد أحسن في الاختصار حيث قال : )
فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ( ، فجاء بما يتضمن معنى الاستثناء . وقوله : ) إِنّى
أَخَافُ ( إلى آخره ، بعد أن أمره الله بأن يأتي القوم الظالمين ، ليس توقفاً فيما
أمره الله تعالى به ، ولكنه طلب من الله أن يعضده بأخيه ، حتى يتعاونا على إنفاذ
أمره تعالى ، وتبليغ رسالته ، مهد قبل طلب ذلك عذره ثم طلب . وطلب العون دليل على
القبول لا على التوقف والتعلل ، ومفعول أرسل محذوف . فقيل جبريل ، كما تقدم ذكره ،
وفي الخبر أن الله أرسل موسى إلى هارون ، وكان هارون بمصر حين بعث الله موسى نبياً
بالشام . قال السدي : سار بأهله إلى مصر ، فالتقى بهارون وهو لا يعرفه فقال : أنا
موسى ، فتعارفا ؛ وأمرهما أن ينطلقا إلى فرعون لأداء الرسالة ، فصاحت أمهما
لخوفهما عليه ، فذهبا إليه .
( وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ ( : أي قبلي قود ذنب ، أو عقوبة ، وهو قتله القبطي
الكافر خباز فرعون بالوكزة التي وكزها ، أو سمى تبعة الذنب ذنباً ، كما سمى جزاء
السيئة سيئة . وليس قول موسى ذلك تلكأ في أداء الرسالة ، بل قال ذلك استدفاعاً لما
يتوقعه منهم من القتل ، وخاف أن يقتل قبل أداء الرسالة ، ويدل على ذلك قوله : كلا
، وهي كلمة الردع ، ثم وعده تعالى بالكلاءة والدفع . وكلا رد لقوله : ) إِنّى
أَخَافُ ( ، أي لا تخف ذلك ، فإني قضيت بنصرك وظهورك . وقوله : ) فَاذْهَبَا ( ،
أمر لهما بخطاب لموسى فقط ، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع ، ولكنه قال لموسى : )
اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ ). قال الزمخشري : جمع الله له الاستجابتين معاً في قوله
: ) كَلاَّ فَاذْهَبَا ( ، لأنه استدفعه بلاءهم ، فوعده الدفع بردعه عن الخوف ،
والتمس المؤازرة بأخيه ، فأجابه بقوله : اذهب ، أي اذهب أنت والذي طلبته هارون .
فإن قلت : علام عطف قوله اذهبا ؟ قلت : على الفعل الذي يدل عليه كلا ، كأنه قيل :
ارتدع يا موسى عما تظن ، فاذهب أنت وهارون بآياتنا ، يعم جميع ما بعثهما الله به ،
وأعظم ذلك العصا ، وبها وقع العجز . قال ابن عطية : ولا خلاف أن موسى هو الذي حمله
الله أمر النبوة وكلفها ، وأن هارون كان نبياً رسولاً معيناً له ووزيراً . انتهى .
ومعكم ، قيل : من وضع الجمع موضع المثنى ، أي معكما . وقيل : هو على ظاهره من
الجمع ، والمراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه . وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن
الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى ، والخطاب لموسى وهارون فقط ، قال :
لأن لفظة مع تباين من يكون كافراً ، فإنه لا يقال الله معه . وعلى أنه أريد بالجمع
التثنية ، حمله سيبويه رحمه الله وكأنهما لشرفهما عند الله ، عاملهما في الخطاب
معاملة الجمع ، إذ كان ذلك جائزاً أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته .
قال ابن عطية : ) مُّسْتَمِعُونَ ( اهتبالاً ، ليس في صيغة سامعون ، وإلا فليس
يوصف الله تعالى بطلب الاستماع ، وإنما القصد إظهار التهم ليعظم أنس موسى ، أو
يكون الملائكة بأمر الله إياها تستمع . وقال الزمخشري : ) مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ
( من مجاز الكلام ، يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر
واستمع ما يجري بينكما وبينه ، فأظهركما وغلبكما وكسر شوكته عنكما ونكسه . انتهى .
ويجوز أن يكون معه متعلقاً بمستمعون ، وأن يكون خبراً ومستمعون خبر ثان . والمعية
هنا مجاز ، وكذلك الاستماع ، لأنه بمعنى الإصغاء ، ولا يلزم من الاستماع السماع ،
تقول : أسمع إليه ، فما سمع واستمع إليه ، فسمع كما قال : ) اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ
الْجِنّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا ( ، وأفرد رسول هنا ولم يثن ، كما في قوله :
) إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ ( ، إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة ، فجاز أن يقع مفرداً
خبر المفرد فما فوقه ، وإما لكونهما ذوي شريعة واحدة ، فكأنهما رسول واحد . وأريد
بقوله : أنا أوكل واحد منا رسول .
( وَرَسُولٌ رَبّ الْعَالَمِينَ ( فيه رد عليه ، وأنه مربوب لله تعالى ، بادهه
" صفحة رقم 10 "
بنقض ما كان أبرمه من ادعاء الألوهية ، ولذلك أنكر فقال : وما رب العالمين والمعنى
إليك ، ( وَأَنْ أُرْسِلَ ( : يجوز أن تكون تفسيرية لما في رسول من معنى القول ،
وأن تكون مصدرية ، وأرسل بمعنى أطلق وسرح ، كما تقول : أرسلت الحجر من يدي ،
وأرسلت لصقر . وكان موسى مبعوثاً إلى فرعون في أمرين : إرسال بني إسرائيل ليزول
عنهم العبودية ، والإيمان بالله وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل وإرسالهم
معهما كان إلى فلسطين ، وكانت مسكن موسى وهارون .
( قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ
فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا
خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ
نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْراءيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ
وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى
أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا
بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى
لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أُوْحِى لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ
ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ).
ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون ، ولم يؤذن لهما سنة ، حتى قال البواب : إن هنا
إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين ، فقال له : ائذن له لعلنا نضحك منه . فأديا
إليه الرسالة ، فعرف موسى فقال له : ) أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً ( وفي
الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره : فأتيا فرعون ، فقالا له ذلك . ولما بادهه
موسى بأنه رسول رب العالمين ، وأمره بإرسال بني إسرائيل معه ، أخذ يستحقره ويضرب
عن المرسل وعما جاء به من عنده ، ويذكره بحالة الصغر والمنّ عليه بالتربية .
والوليد الصبي ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة . وقرأ
أبو عمرو في رواية : من عمرك ، بإسكان الميم ، وتقدم ذكر الخلاف في كمية هذه
السنين في طه . وقرأ الجمهور : فعلتك ، بفتح الفاء ، إذ كانت وكزة واحدة ، والشعبي
: بكسر الفاء ، يريد الهيئة ، لأن الوكزة نوع من القتل . عدد عليه نعمة التربية
ومبلغه عنده مبلغ الرجال ، حيث كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل ، وذكره ما جرى على
يده من قتل القبطي ، وعظم ذلك بقوله : ) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ (
، لأن هذا الإبهام ، بكونه لم يصرح أنها القتل ، تهويل للواقعة وتعظيم شأن . )
وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( : يجوز أن يكون حالاً ، أي قتلته وأنت إذ ذاك من
الكافرين ، فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك ، والأنبياء عليهم السلام
معصومون . ويجوز أن يكون إخباراً مستأنفاً من فرعون ، حكم عليه بأنه من الكافرين
بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان ، قاله ابن زيد ؛ أو من الكافرين بي في
أنني إلاهك ، قاله الحسن ؛ أو من الكافرين بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي
تعيبه الآن ، قاله السدي .
( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً ( : إجابة موسى عن كلامه الأخير المتضمن للقتل ، إذ كان
الاعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية ، لأنه فيه إزهاق النفس . قال
ابن عطية : إذن صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ . انتهى . وليس بصلة ، بل هي حرف
معنى . وقوله وكأنها بمعنى حينئذ ، ينبغي أن يجعل قوله تفسير معنى ، إذ لا يذهب
أحد إلى أن إذن ترادف من حيث الإعراب حينئذ . وقال الزمخشري : فإن قلت : إذاً جواب
وجزاء معاً ، والكلام وقع جواباً لفرعون ، فكيف وقع جزاء ؟ قلت : قول فرعون : )
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ( فيه معنى : إنك جازيت نعمتي بما فعلت ؛ فقال له موسى :
نعم فعلتها ، مجازياً لك تسليماً لقوله ، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى
بنحو ذلك الجزاء . انتهى . وهذا الذي ذكره من أن إذاً جواب وجزاء معاً ، هو قول
سيبويه ، لكن الشراح فهموا أنها قد تكون جواباً وجزاء معاً ، وقد تكون جواباً فقط
دون جزاء . فالمعنى اللازم لها هو الجواب ، وقد يكون مع ذلك جزاء . وحملوا قوله :
) فَعَلْتُهَا إِذاً ( من المواضع التي جاءت فيها جواباً بالآخر ، على أن بعض
أئمتنا تكلف هنا كونها جزاء وجواباً ، وهذا كله محرر
" صفحة رقم 11 "
فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل ، وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس
هو الصحيح ، ولا قول الأكثرين .
( وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ ( ، قال ابن زيد : معناه من الجاهلين ، بأن وكزني
إياه تأتي على نفسه . وقال أبو عبيدة : من الناسين ، ونزع لقوله : ) أَن تَضِلَّ
إْحْدَاهُمَا ). وفي قراءة عبد الله ، وابن عباس : وأنا من الجاهلين ، ويظهر أنه
تفسير للضالين ، لا قراءة مروية عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال
الزمخشري : من الفاعلين فعل أولي الجهل ، كما قال يوسف لإخوته : ) إِذْ أَنتُمْ
جَاهِلُونَ ( أو المخلصين ، كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل ، أو الذاهبين عن تلك
الصفة . انتهى . وقيل : من الضالين ، يعني عن النبوة ، ولم يأتني عن الله فيه شيء
، فليس على فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ . ومن غريب ما شرح به أن معنى )
وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ ( ، أي من المحبين لله ، وما قتلت القبطي إلا غيرة لله
. قيل : والضلال يطلق ويراد به المحبة ، كما في قوله : ) إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ
الْقَدِيمِ ( ، أي في محبتك القديمة . وجمع ضمير الخطاب في منكم وخفتكم بأن كان قد
أفرد في : تمنها وعبدت ، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ، وإنما منه ومن
ملته المذكورين قبل ) أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمِ فِرْعَونَ ( ،
وهم كانوا قوماً يأتمرون لقتله . ألا ترى إلى قوله : ) إِنَّ الْمَلاَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ ). وقرأ الجمهور : لما حرف وجوب لوجوب
، على قول سيبويه ، وظرفاً بمعنى حين ، على مذهب الفارسي . وقرأ حمزة في رواية :
لما بكسر اللام وتخفيف الميم ، أي يخوفكم . وقرأ عيسى : حكماً بضم الكاف ؛
والجمهور : بالإسكان . والحكم : النبوة . ) وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( :
درجة ثانية للنبوة ، فرب نبي ليس برسول . وقيل : الحكم : العلم والفهم .
( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ ( : وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من
قوله : ) أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً ( ؛ وذكر بهذا آخراً على ما بدأ به
فرعون في قوله : ) أَلَمْ نُرَبّكَ بِكَ ). والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى
عليه السلام بالنعمة ، كأنه يقول : وتربيتك لي نعمة عليّ من حيث عبدت غيري وتركتني
واتخذتني ولداً ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي . وإلى هذا التأويل ذهب السدّي والطبري
. وقال قتادة : هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة ، كأنه يقول : أو يصح
لك أن تعتد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم ؟ أي ليست
بنعمة ، لأن الواجب كان أن لا تقتلني ولا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير
ذلك . وقرأ الضحاك : وتلك نعمة ماألك أن تمنها ، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل ،
وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون ونقض كلامه كله . والقول الأول فيه إنصاف واعتراف
. وقال الأخفش : والفراء : قبل الواو همزة استفهام يراد به الإنكار ، وحذفت لدلالة
المعنى عليها ، ورده النحاس بأنها لا تحذف ، لأنها حرف يحدث معها معنى ، إلا إن
كان في الكلام أم لا خلاف في ذلك إلا شيئاً ، قاله الفراء من أنه يجوز حذفها مع
أفعال الشك ، وحكى : ترى زيداً منطلقاً ، بمعنى : ألا ترى ؟ وكان الأخفش الأصغر
يقول : أخذه من ألفاظ العامة . وقال
" صفحة رقم 12 "
الضحاك : الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام ، والمعنى : لو
لم يقتل بني إسرائيل لرباني أبواي ، فأي نعمة لك علي فأنت تمنّ علي بما لا يجب أن
تمنّ به . وقيل : اتخاذك بني إسرائيل عبيداً أحبط نعمتك التي تمنّ بها . وقال
الزمخشري : وأبي ، يعني موسى عليه السلام ، أن يسمي نعمته أن لا نعمة ، حيث بين أن
حقيقة إنعامه تعبد بني إسرائيل ، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في
حصوله عنده وتربيته ، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت . وتعبيدهم : تذليلهم
واتخاذهم عبيداً ، يقال : عبدت الرجل وأعبدته ، إذا اتخذته عبداً ، قال الشاعر :
علام يعبدني قومي وقد كثرت
فيهم أباعر ما شاؤوا وعبدان
فإن قلت : وتلك إشارة إلى ماذا ؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب ؟ قلت : تلك إشارة
إلى خصلة شنعاء مبهمة ، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها ؛ ومحل أن عبدت الرفع ، عطف
بيان لتلك ، ونظيره قوله تعالى : ) وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ
دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( ، والمعنى : تعبيدك بني إسرائيل نعمة
تمنها عليّ . وقال الزجاج : يجوز أن يكون في موضع نصب ، المعنى أنها صارت نعمة
عليّ ، لأن عبدت بني إسرائيل ، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم .
انتهى . وقال الحوفي : ) أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْراءيلَ ( في موضع نصب مفعول من
أجله . وقال أبو البقاء : بدل ، ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين ، لم
يسأل إذ ذاك فيقول : ) وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ؟ بل أخذ في المداهاة وتذكار
التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي . فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في
التربية والقتل ، وكان في قوله : رسول رب العالمين دعاء إلى الإقرار بربوبية الله
، وإلى طاعة رب العالم ، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده .
والظاهر أن سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادّة ، وكان عالماً
بالله . ويدل عليه : ) لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بَصَائِرَ ( ، ولكنه تعامى عن ذلك طلباً للرياسة ودعوى
الإلهية ، واستفهم بما استفهاماً عن مجهول من الأشياء . قال مكي : كما يستفهم عن
الأجناس ، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر ، ويشبه أنها مواطن . انتهى .
والموضع الآخر قوله : ) فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى ( ؟ ولما سأله فرعون ،
وكان السؤال بما التي هي من سؤال عن الماهية ، ولم يمكن الجواب بالماهية ، أجاب
بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها ، وهي ربوبية السموات والأرض
وما بينهما . وقال الزمخشري : وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء
التي شوهدت وعرفت أجناسها ، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة ، ليعرفه أنه
ليس مما شاهد وعرف من الأجرام والأعراض ، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء ، ( لَيْسَ
كَمِثْلِهِ ( شيء . وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشاً عن حقيقة الخاصة ما
هي ، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل ، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه
بصفاته استدلالاً بأفعاله الخاصة على ذلك ؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي
فوق فطر العقول ، فتفتيش عما لا سبيل إليه ، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق .
والذي يليق بحال فرعون ، ويدل عليه الكلام ، أن كون سؤاله إنكاراً لأن يكون
للعالمين رب سواه ، ألا نرى أنه يعلم حدوثه بعد العدم ؟ وأنه محل للحوادث ؟ وأنه
لم يدعّ الإلاهية إلا في محل ملكه مصر ؟ وأنه لم يكن ملك الأرض ؟ بل كان فيها ملوك
غيره ، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه السلام ؟ وأنه كان مقراً
بالله تعالى في باطن أمره ؟ وجاء قوله : ) وَمَا بَيْنَهُمَا ( على التثنية ،
والعائد عليه الضمير مجموع اعتباراً للجنسين : جنس السماء ، وجنس الأرض ؛ كما ثنى
المظهر في قوله :
بين رماحي مالك ونهشل
اعتباراً للجنسين : وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال : كان عالماً بالله
ولكنه قال ما قال طلباً للملك والرياسة . وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه
كان عارفاً بالله ، وهو قوله : ) لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء ( الآية .
ويحتمل أنه كان على
" صفحة رقم 13 "
مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها ، وأن حركاتها أسباب لحصول
الحوادث بالفاعل المختار ، ثم اعتقد أنه بمنزلة إلاه لأهل إقليمه من حيث استعبدهم
وملك زمام أمرهم . ويحتمل أن يقال : كان على مذهب الحلولية القائلين : بأن ذات
الإلاه تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإلاه سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة
إلى جسده ، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلاهاً . انتهى . ومعنى : ) إِن كُنتُمْ
مُّوقِنِينَ ( : إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح ، نفعكم هذا
الجواب ، وإلا لم ينفعكم ؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط ، فهذا أولى ما توقنون به
لظهوره وإنارة دليله . وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه
إلى التوحيد .
( قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ ( : هم أشراف قومه . قيل : كانوا خمسمائة رجل عليهم
الأساور ، وكانت للملوك خاصة . ) إِلا تَسْمَعُونَ ( : أي ألا تصغون إلى هذه
المقالة إغراء به وتعجباً ، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم . قال ابن
عطية : والفراعنة قبله كذلك ، وهذه ضلالة منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية .
انتهى . يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم
الإلاهية ، وأقاموا ملوكاً بمصر ، من زمان المعز إلى زمان العاض ، إلى أن محى الله
دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري رضي الله عنه ، فلقد
كانت له مآثر في الإسلام منها : فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحل الشام ، كان
النصارى مستولين عليها ، فاستنقذها منهم . ) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ
الاْوَّلِينَ ( : نبههم على منشئهم ومنشىء آبائهم ، وجاء في قوله : الأولين ،
دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم . وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم ، ليكون
أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلاهية ، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون
في الوجود ، فمحال أن يكون وهو في العدم إلاهاً هم .
( قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ). قال أبو
عبد الله الرازي : التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى عليه السلام من
الكلام الأول إليه ، إذ كان لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وفي آبائه كونهم
واجبي الوجود لذواتهم ، لأن المشاهدة دلت على وجودهم بعد عدمهم ، وعدمهم بعد
وجودهم ، فعند ذلك قال فرعون : ما قال يعني أن المقصود من سؤال ما طلبت الماهية
وخصوصية الحقيقة . والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا تفيد تلك الخصوصية ، فهذا الذي
يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه ، فقال موسى عليه السلام
: ) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (
: فعدل إلى طرق أوضح من الثاني ، وذلك أنه أراد بالمشرق : طلوع الشمس وظهور النهار
، وأراد بالمغرب : غروب الشمس وزوال النهار .
وهذا التقدير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وهذا بعينه طريقة
إبراهيم عليه السلام مع نمروذ ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة ، وهو الذي
ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله : ) رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ
( ، فأجابه نمروذ بقوله : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى ( ، فقال : ) إِنَّ اللَّهَ يَأْتِى
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى
كَفَرَ ( وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله : ) رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( : أي إن كنتم من
العقلاء ، عرفتم أن لا جواب عن السؤال إلا ما ذكرت . انتهى ، وفيه بعض تلخيص .
وقال ابن عطية : زاده موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون ،
وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها ، وهي ربوبية المشرق والمغرب ، ولم يكن
لفرعون إلا ملك معصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية . وقرأ مجاهد ، وحميد ،
والأعرج : أرسل إليكم ، على بناء الفاعل ، أي أرسله ربه إليكم . وقرأ عبد الله ،
وأصحابه ، والأعمش : رب المشارق والمغارب ، على الجمع فيهما . ولما انقطع فرعون في
باب الاحتجاج ، رجع إلى الاستعلاء والغلب ، وهذا أبين علامات الانقطاع ، فتوعد
موسى بالسجن حين أعياه خطابه : ) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى
لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ). وقال الزمخشري : لما أجاب موسى بما أجاب ،
عجب قومه من جوابه ، حيث نسب الربوبية إلى غيره ، فلما ثنى بتقرير قوله ، جننه إلى
قومه وظنن به ، حيث سماه رسولهم ، فلما ثلث احتد واحتدم ، وقال : ) لَئِنِ
اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى ).
فإن قلت : كيف قال :
" صفحة رقم 14 "
أولاً : ) إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ( ، وآخراً : ) إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( ؟
قلت : لأين أولاً ، فلما رأى شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج ،
خاشن وعارض إن رسولكم لمجنون بقوله : ) إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ). فإن قلت : ألم
يكن لأسجننك أخصر من ) لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( ومؤدّياً مؤدّاه ؟
قلت : أما أخصر فنعم ، وأما مؤدّياً مؤدّاه فلا ، لأن معناه : لأجعلنك واحداً ممن
عرفت حالهم في سجوني . وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة
في الأرض بعيدة العمق فرداً ، لا يبصر فيها ولا يسمع ، فكان ذلك أشد من القتل .
انتهى . ولما كان عند موسى عليه السلام من أمر فرعون ما لا يروعه معه توعد فرعون ،
قال له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه : ) أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ
( ، أي يوضح لك صدقي ، أفكنت تسجنني ؟ قال الزمخشري : أو لو جئتك ، واو الحال دخلت
عليها همزة الاستفهام ، معناه : أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين ؟ انتهى . وتقدّم
لنا الكلام على هذه الواو ، والداخلة على لو في مثل هذا السياق في قوله : ) أَوْ
لَّوْ كَانَ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ ( ، فأغنى عن
إعادته . وقال الحوفي : واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير ، والمعنى :
أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا متلبس بها ؟ .
ولما سمع فرعون هذا من موسى طمع أن يجده موضع معارضة فقال له : ) فَأْتِ بِهِ إِن
كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ، إن لك رباً بعثك رسولاً إلينا . قال الزمخشري : وفي
قوله : ) إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( دليل على أنه لا يأتي بالمعجزة إلا
الصادق في دعواه ، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة ، والحكيم لا صدق
الكاذب . ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه مثل هذا ، وخفي على ناس من أهل
القبلة ، حيث جوزوا القبيح على الله حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات . انتهى .
وتقديره : إن كنت من الصادقين فأئت به ، حذف الجزاء ، لأن الأمر بالإتيان يدل عليه
. وقدره الزمخشري : إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به . جعل الجواب المحذوف
فعلاً ماضياً ، ولا يقدر إلا من جنس الدليل بقوله : أنت ظالم إن فعلت ، تقديره :
أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم . وقال الحوفي : إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم
جوابه ، وجاز تقديم الجواب ، لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئاً . ويجوز أن
يكون الجواب محذوفاً تقديره فائت به . وقول الزمخشري : حتى لزمهم تصديق الكاذبين
بالمعجزات ، إشارة إلى إنكار الكرامات التي ذهب أهل السنة إلى إثباتها . والمعجز
عندهم هو ما كان خارقاً للعادة ، ولا يكون إلا لنبي أو في زمان نبي ، إن جرى على
يد غيره فتكون معجزة لذلك النبي ، أو على سبيل الإرهاص لنبي .
( فَأَلْقَى عَصَاهُ ( : رماها من يده ، وتقدم الكلام على عصا موسى عليه السلام .
والثعبان : أعظم ما يكون من الحيات . ومعنى ) مُّبِينٌ ( : ظاهر الثعبانية ، ليست
من الأشياء التي تزوّر بالشعبذة والسحر . ) وَنَزَعَ يَدَهُ ( من جيبه ، فإذا هي
تلألأ كأنها قطعة من الشمس . ومعنى ) لِلنَّاظِرِينَ ( : أي بياضها يجتمع النظارة
على النظر إليه لخروجه عن العادة ، وكان بياضاً نورانياً . روي أنه لما أبصر أمر
العصا قال : فهل غيرها ؟ فأخرج يده ، فقال : ما هذه ؟ قال : يدك ، فأدخلها في إبطه
ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق .
( قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن
يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُواْ أَرْجِهْ
وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ
عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ
هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ
الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا
لاَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ
فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا
لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا
يَأْفِكُونَ فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبّ
الْعَالَمِينَ رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ
لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْر
" صفحة رقم 15 "
َ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ
).
قال ابن عطية : وانتصب حوله على الظرف ، وهو في موضع الحال ، أي كائنين حوله ،
فالعامل فيه محذوف ، والعامل فيه هو الحال حقيقة والناصب له ، قال : لأنه هو
العامل في ذي الحال بواسطة لام الجر ، نحو : مررت بهند ضاحكة . والكوفيون يجعلون
الملأ موصولاً ، فكأنه قيل : قال للذي حوله ، فلا موضع للعامل في الظرف ، لأنه وقع
صلة . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما العامل في حوله ؟ قلت : هو منصوب نصبين : نصب
في اللفظ ، ونصب في المحل . فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف ، وذلك
استقروا حوله ، وهذا يقدر في جميع الظروف ، والعامل في النصب المحلي ، وهو النصب
على الحال . انتهى . وهو تكثير وشقشقة كلام في أمر واضح من أوائل علم العربية .
ولما رأى فرعون أمر العصا واليد ، وما ظهر فيهما من الآيات ، هاله ذلك ولم يكن له
فيه مدفع فزع إلى رميه بالسحر . وطمع لغلبة علم السحر في ذلك الزمان أن يكون ثَمّ من
يقاومه ، أو كان علم صحة المعجزة . وعمى تلك الحجة على قومه ، برميه بالسحر ،
وبأنه ) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ( ، ليقوي تنفيرهم
عنه ، وابتغاؤهم الغوائل له ، وأن لا يقبلوا قوله ؛ إذ من أصعب الأشياء على النفوس
مفارقة الوطن الذي نشأوا فيه ، ثم استأمرهم فيما يفعل معه ، وذلك لما حل به من
التحير والدهش وانحطاطه عن مرتبة ألوهيته إلى أن صار يستشيرهم في أمره ، فيأمرونه
بما يظهر لهم فيه ، فصار مأموراً بعد أن كان آمراً . وتقدم الكلام في ) مَاذَا
تَأْمُرُونَ ( وفي الألفاظ التي وافقت ما في سورة الأعراف ، فأغنى عن إعادته .
ولما قال : ) إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ، عارضوا بقوله : ) بِكُلّ
سَحَّارٍ ( ، فجاءوا بكلمة الاستغراق والبناء الذي للمبالغة ، لينفسوا عنه بعض ما
لحقه من الكرب . وقرأ الأعمش ، وعاصم في رواية : بكل ساحر . واليوم المعلوم : يوم
الزينة ، وتقدم الكلام عليه في سورة طه . وقوله : ) هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ (
، استبطاء لهم في الاجتماع ، والمراد منه استعجالهم ، كما يقول الرجل لغلامه : هل
أنت منطلق ؟ إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق ، كما يخيل إليه أن الناس قد
انطلقوا وهو واقف ، ومنه قول تأبط شراً : هل أنت باعث ديناراً لحاجتناأو عند رب
أخا عون بن مخراق
يريد : ابعثه إلينا سريعاً ولا تبطىء به . وترجوا اتباع السحرة ، أي في دينهم ، إن
غلبوا موسى عليه السلام ، ولا يتبعون موسى في دينه . وساقوا الكلام سياق الكناية ،
لأنهم إذا اتبعوهم لم يتعبوا موسى عليه السلام . ودخلت إذا هنا بين اسم إن وخبرها
، وهي جواب وجزاء . ) قَالَ فِرْعَوْنُ ( : الظاهر أن الباء للقسم ، والذي تتعلق
به الباء محذوف ، وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة تعظيماً ، كما يقال للملوك :
أمروا رضي الله عنهم بكذا ، فيخبر عنه إخبار الغائب ، وهذا من نوع إيمان الجاهلية
. وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمان الجاهلية ، لا يرضون
بالقسم بالله ، ولا يعتدون به حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان وبرأس المحلف ، فحينذ
يستوثق منه . وقال ابن عطية : بعد أن ذكر أنه قسم قال : والأجر أن يكون على جهة
التعظيم والتبرك باسمه ، إذ كانوا يعبدونه ؛ كما تقول إذا ابتدأت بعمل شيء : بسم
الله ، وعلى بركة الله ، ونحو هذا . وبين قوله : ) قَالَ لَهُمْ مُّوسَى ( ، وقوله
: ) لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ، كلام محذوف ، وهو ما ثبت في الأعراف من تخييرهم إياه
في البداءة من يلقى . قال الزمخشري : فإن قلت : فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به ؟
قلت : هو الله عز وجل ، بما خوّلهم من التوفيق وإيمانهم ، أو بما عاينوا من
المعجزة الباهرة ، ولك أن لا تقدر فاعلاً ، لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا . انتهى .
وهذا القول الآخر ليس بشيء . لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا
وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه ، أما أنه لا يقدر فاعل ، فقول ذاهب عن الصواب .
" صفحة رقم 16 "
وقال ابن عطية : قرأ البزي ، وابن فليح ، عن ابن كثير : بشد التاء وفتح اللام وشد
القاف ، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن حذف همزة الوصل ، وهمزة الوصل لا تدخل
على الأفعال المضارعة ، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين . انتهى . كأنه يخيل أنه
لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل ، وليس ذلك بلازم كثيراً ما يكون
الوصل مخالفاً للوقف ، والوقف مخالفاً للوصل ، ومن له تمرن في القراآت عرف ذلك .
( قَالُواْ لاَ ضَيْرَ ( : أي لا ضرر علينا في وقوع ما وعدتنا به من قطع الأيدي
والأرجل والتصليب ، بل لنا فيه المنفعة التامة بالصبر عليه . يقال : ضاره يضيره
ضيراً ، وضاره يضوره ضوراً . إنا إلى ربنا : أي إلى عظيم ثوابه ، أو : لا ضير
علينا ، إذ انقلابنا إلى الله بسبب من أسباب الموت والقتل أهون أسبابه . وقال أبو
عبد الله الرازي : لما آمنوا بأجمعهم ، لم يأمن فرعون أن يقول قومه لم تؤمن السحرة
على كثرتهم إلا عن معرفة بصحة أمر موسى فيؤمنون ، فبالغ في التنفير من جهة قوله :
) قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ ( موهماً أن مسارعتهم للإيمان دليل على
ميلهم إليه قبل . وبقوله : ) إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ( ، صرح بما رمزه أولاً من
مواطأتهم وتقصيرهم ليظهر أمر كبيرهم ، وبقوله : ) فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ، حيث
أوعدهم وعيداً مطلقاً ، وبتصريحه بما هددهم به من العذاب ، فأجابوا بأن ذلك إن وقع
، لن يضير ، وفي قولهم : ) إِنَّا إِلَى رَبَّكَ مُنقَلِبُونَ ( ، نكتة شريفة ،
وهو أنهم آمنوا لا رغبة ولا رهبة ، إنما قصدوا محض الوصول إلى مرضات الله
والاستغراق في أنوار معرفته . انتهى ملخصاً . ويدفع هذا الأخير قولهم : ) إِنَّا
نَطْمَعُ ( إلى آخره ، ولا يكون ذلك إلا من خوف تبعات الخطايا . والظاهر بقاء
الطمع على بابه كقوله : ) وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ
الصَّالِحِينَ ). وقيل : يحتمل اليقين . قيل : كقول إبراهيم عليه السلام : )
وَالَّذِى أَطْمَعُ ).
وقرأ الجمهور : ) أَن كُنَّا ( ، بفتح الهمزة ، وفيه الجزم بإيمانهم . وقرأ أبان
بن تغلب ، وأبو معاذ : إن كنا ، بكسر الهمزة . قال صاحب اللوامح على الشرط : وجاز
حذف الفاء من الجواب ، لأنه متقدم ، وتقديره : ) أَن كُنَّا أَوَّلَ
الْمُؤْمِنِينَ ( فإنا نطمع ، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا ما لهم عند الله من
قبول الإيمان . انتهى . وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد ، حيث
يجيزون تقديم جواب الشرط عليه ، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز ، وجواب مثل
هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه . وقال الزمخشري : هو من الشرط الذي يجيء به
المدلول بأمره المتحقق لصحته ، وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين . ونظيره قول
العامل لمن يؤخر . جعله إن كنت عملت فوفني حقي ، ومنه قوله تعالى : ) إِن كُنتُمْ
خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاء مَرْضَاتِى ( ، مع علمه أنهم لم
يخرجوا إلا لذلك . وقال ابن عطية بمعنى : أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط . انتهى .
ويحتمل أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة ، وجاز حذف اللام الفارقة لدلالة الكلام
على أنهم مؤمنون ، فلا يحتمل النفي ، والتقدير : إن كنا لأول المؤمنين . وجاء في
الحديث : ( إن كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يحب العسل ) ، أي ليحب .
وقال الشاعر : ونحن أباة الضيم من آل مالك
وإن مالك كانت كرام المعادن
أي : وإن مالك لكانت كرام المعادن ، وأول يعني أول المؤمنين من القبط ، أو أول
المؤمنين من حاضري ذلك
" صفحة رقم 17 "
المجمع . وقال الزمخشري : وكانوا أول جماعة مؤمنين من أهل زمانهم ، وهذا لا يصح
لأن بني إسرائيل كانوا مؤمنين قبل إيمان السحرة .
( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ
فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ
قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءا
الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ
مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ
الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا
ثَمَّ الاْخَرِينَ الاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ). تقدم الخلاف في ) أَسَرَّ ( ، وأنه قرىء بوصل الهمزة
وبقطعها في سورة هود . وقرأ اليماني : أن سر ، أمر من سار يسير . أمر الله موسى
عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر إلى تجاه البحر ، وأخبره أنهم
سيتبعون . فخرج سحراً ، جاعلاً طريق الشام على يساره ، وتوجه نحو البحر ، فيقال له
في ترك الطريق ، فيقول : هكذا أمرت . فلما أصبح ، علم فرعون بسري موسى ببني
إسرائيل ، فخرج في أثرهم ، وبعث إلى مدائن مصر ليحلقه العساكر . وذكروا أعداداً في
أتباع فرعون وفي بني إسرائيل ، الله أعلم بصحة ذلك . ) إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ
( : أي قال إن هؤلاء وصفهم بالقلة ، ثم جمع القليل فجعل كل حزب قليلاً ، جمع
السلام الذي هو للقلة ، وقد يجمع القليل على أقلة وقلل ، والظاهر تقليل العدد .
قال الزمخشري : ويجوز أن يريد بالقلة : الذلة والقماءة ، ولا يريد قلة العدد ،
والمعنى : أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا تتوقع غفلتهم ، ولكنهم يفعلون أفعالاً
تغيظنا وتضيق صدورنا ، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور
، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم يساره ، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل
المدائن ، لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه . انتهى . قال أبو حاتم : وقرأ من
لا يؤخذ عنه : ) لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ( ، وليست هذه موقوفة . انتهى . يعني أن
هذه القراءة ليست موقوفة على أحد رواها عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقيل : ) لَغَائِظُونَ ( : أي بخلافهم وأخذهم الأموال حين استعاروها ولم يردوها ،
وخرجوا هاربين . وقرأ الكوفيون ، وابن ذكوان ، وزيد بن علي : ) حَاذِرُونَ ( ،
بالألف ، وهو الذي قد أخذ يحذر ويجدد حذره ، وحذر متعد . قال تعالى : ) يَحْذَرُ
الاْخِرَةَ ). وقال العباس بن مرداس :
وإني حاذر أنمي سلاحي
إلى أوصال ذيال صنيع
وقرأ باقي السبعة : بغير ألف وهو المتيقظ . وقال الزجاج : مؤذن ، أي ذوو أدوات
وسلاح ، أي متسلحين . وقيل : حذرون في الحال ، وحادرون في المآل . وقال الفراء :
الحاذر : الخائف ما يرى ، والحذر : المخلوق حذراً . وقال أبو عبيدة : رجل حذر وحذر
وحاذر بمعنى واحد . وذهب سيبويه إلى أن حذراً يكون للمبالغة ، وأنه يعمل كما يعمل
حاذر ، فينصب المفعول به ، وأنشد :
حذر أموراً لا تضير وآمن
ما ليس منجيه من الأقدار
" صفحة رقم 18 "
وقد نوزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو . وعن الفراء أيضاً ، والكسائي : رجل
حذر ، إذا كان الحذر في خلقته ، فهو متيقظ منتبه . وقرأ سميط بن عجلان ، وابن أبي
عمار ، وابن السميفع : حاذرون ، بالدال المهملة من قولهم : عين حدرة ، أي عظيمة ،
والحادر : المتوارم . قال ابن عطية : فالمعنى ممتلئون غيظاً وأنفة . وقال ابن
خالوية : الحادر : السمين القوي الشديد ، يقال غلام حدر بدر . وقال صاحب اللوامح :
حدر الرجل : قوي بأسه ، يقال : منه رجل حد بدر ، إذا كان شديد البأس في الحرب ،
ويقال : رجل حدر ، بضم الدال للمبالغة ، مثل يقظ . وقال الشاعر : أحب الصبي السوء
من أجل أمّة
وأبغضه من بغضها وهو حادر
أي سمين قوي . وقيل : مدجّجون في السلاح . ) فَأَخْرَجْنَاهُمْ ( : الضمير عائد
على القبط . ) مّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( : بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد ، قاله
ابن عمر وغيره ، والجمهور : على أنها عيون الماء . وقال ابن جبير : المراد عيون
الذهب . ) وَكُنُوزٍ ( : هي الأموال التي خربوها . قال مجاهد : سماها كنوزاً لأنه
لم ينفق في طاعة الله قط . وقال الضحاك : الكنوز : الأنهار . قال صاحب التحبير :
وهذا فيه نظر ، لأن العيون تشملهما . وقيل : هي كنوز للقطم ومطالبة . قال ابن عطية
: هي باقية إلى اليوم . انتهى .
وأهل مصر في زماننا في غاية الطلب لهذه الكنوز التي زعموا أنها مدفونة في المقطم ،
فينفقون على حفر هذه المواضع في المقطم الأموال الجزيلة ، ويبلغون في العمق إلى
أقصى غاية ، ولا يظهر لهم إلا التراب أو حجر الكذان الذي المقطم مخلوق منه ، وأي
مغربي يرد عليهم سألوه عن علم المطالب . فكثير منهم يضع في ذلك أوراقاً ليأكلوا
أموال المصريين بالباطل ، ولا يزال الرجل منهم يذهب ماله في ذلك حتى يفتقر ، وهو
لا يزداد إلا طلباً لذلك حتى يموت . وقد أقمت بين ظهرانيهم إلى حين كتابة هذه
الأسطر ، نحواً من خمسة وأربعين عاماً ، فلم أعلم أن أحداً منهم حصل على شيء غير
الفقر ؛ وكذلك رأيهم في تغوير الماء . يزعمون أن ثمر آباراً ، وأنه يكتب أسماء في
شقفة ، فتلقى في البئر ، فيغور الماء وينزل إلى باب في البئر ، يدخل منه إلى قاعة
مملوءة ذهباً وفضة وجوهراً وياقوتاً . فهم دائماً يسألون من يرد من المغاربة عمن
يحفظ تلك الأسماء التي تكتب في الشفقة ، فيأخذ شياطين المغاربة منهم مالاً جزيلاً
، ويستأكلونهم ، ولا يحصلون على شيء غير ذهاب أموالهم ، ولهم أشياء من نحو هذه الخرافات
، يركنون إليها ويقولون إليها ويقولون بها ، وإنما أطلت في هذا على سبيل التحذير
لمن يعقل .
وقوله تعالى : ) وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ). قال ابن لهيعة : هو الفيوم . وقال ابن عباس
، ومجاهد ، والضحاك : هو المنابر للخطباء . وقيل : الأسرة في الكلل . وقيل : مجالس
الأمراء والأشراف والحكام . وقال النقاش : المساكن الحسان . وقيل : مرابط الخيل ،
حكاه الماوردي . وقرأ قتادة ، والأعرج : ومقام ، بضم الميم من أقام كذلك . قال
الزمخشري : يحتمل ثلاثة أوجه : النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه ،
والجر على أنه وصف لمقام ، أي ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، والرفع
على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي الأمر كذلك . انتهى . فالوجه الأول لا يسوغ ، لأنه
يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه ، وكذلك الوجه الثاني ، لأن المقام الذي كان لهم هو
المقام الكريم ، ولا يشبه الشيء بنفسه .
والظاهر أن قوله : ) وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ ( ، أنهم ملكوا ديار مصر
بعد غرق فرعون وقومه ، لأنه اعتقب قوله : ) وَأَوْرَثْنَاهَا ( : قوله : )
وأخرجناهم ( ، وقاله الحسن ؛ قال : كما عبروا النهر ، رجعوا وورثوا ديارهم
وأموالهم . وقيل : ذهبوا إلى الشام وملكوا مصر زمن سليمان . وقرأ الجمهور : )
إِسْراءيلَ فَأَتْبَعُوهُم ( : أي فلحقوهم . وقرأ الحسن ، والذماري :
" صفحة رقم 19 "
فاتبعوهم ، بوصل الألف وشد التاء . ) مشرفين ( : داخلين في وقت الشروق ، من شرقت
الشمس شروقاً ، إذا طلعت ، كأصبح : دخل في وقت الصباح ، وأمسى : دخل في وقت المساء
. وقال أبو عبيدة : فاتبعوهم نحو الشرق ، كأنجد : إذا قصد نحو نجد . والظاهر أن
مشرقين حال من الفاعل . وقيل : مشرقين : أي في ضياء ، وكان فرعون وقومه في ضباب
وظلمة ، تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر ، فعلى هذا يكون مشرقين حالاً من
المفعول .
فلما تراءى الجمعان ( : أي رأى أحدهما الآخر ، ( ( : أي رأى أحدهما الآخر ، (
الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( : أي ملحقون ، قالوا
ذلك حين رأوا العدوّ القوي وراءهم والبحر أمامهم ، وساءت ظنونهم . وقرأ الأعمش :
وابن وثاب : تراي الجمعان ، بغير همز ، على مذهب التخفيف بين بين ، ولا يصح القلب
لوقوع الهمزة بين ألفين ، إحداهما ألف تفاعل الزائدة بعد الفاء ، والثانية اللام
المعتلة من الفعل . فلو خففت بالقلب لاجتمع ثلاث ألفات متسقة ، وذلك مما لا يكون
أبداً ، قاله أبو الفضل الرازي . وقال ابن عطية : وقرأ حمزة : تريء ، بكسر الراء
ويمد ثم يهمز ؛ وروى مثله عن عاصم ، وروي عنه أيضاً مفتوحاً ممدوداً ، أو الجمهور
يقرؤونه مثل تراعى ، وهذا هو الصواب ، لأنه تفاعل . وقال أبو حاتم : وقراءة حمزة
هذا الحرف محال ، وحمل عليه ، قال : وما روي عن ابن وثاب والأعمش خطأ . انتهى .
وقال الأستاذ أبو جعفر أحمد ابن الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري ،
هو ابن الباذش ، في كتاب الإقناع من تأليفه : تراءى الجمعان في الشعراء إذا وقف
عليها حمزة والكسائي ، أما لا الألف المنقلبة عن لام الفعل ، وحمزة يميل ألف تفاعل
وصلاً ووقفاً لإمالة الألف المنقلبة ؛ ففي قراءته إمالة الإمالة . وفي هذا الفعل ،
وفي راءى ، إذا استقبله ألف وصل لمن أمال للإمالة ، حذف السبب وإبقاء المسبب ، كما
قالوا : صعقى في النسب إلى الصعق . وقرأ الجمهور : لمدركون ، بإسكان الدال ؛
والأعرج ، وعبيد بن عمير : بفتح الدال مشددة وكسر الراء ، على وزن مفتعلون ، وهو
لازم ، بمعنى الفناء والاضمحلال . يقال : منه ادّرك الشيء بنفسه ، إذا فني تتابعاً
، ولذلك كسرت الراء على هذه القراءة ؛ نص على كسرها أبو الفضل الرازي في ( كتاب
اللوامح ) ، والزمخشري في ( كشافه ) وغيرهما . وقال أبو الفضل الرازي : وقد يكون
ادّرك على افتعل بمعنى أفعل متعدياً ، فلو كانت القراءة من ذلك ، لوجب فتح الراء ،
ولم يبلغني ذلك عنهما ، يعني عن الأعرج وعبيد بن عمير . قال الزمخشري : المعنى إنا
لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد ، ومنه بيت الحماسة : أبعد
بني أمي الذين تتابعوا
أرجى الحياة أم من الموت أجزع
) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ ( : زجرهم وردعهم بحرف الردع وهو
كلا ، والمعنى : لن يدركوكم لأن الله وعدكم بالنصر والخلاص منهم ، إن معي ربي
سيهدين عن قريب إلى طريق النجاة ويعرفنيه . وقيل : سيكفيني أمرهم . ولما انتهى
موسى إلى البحر ، قال له مؤمن آل فرعون ، وكان بين يدي موسى : أين أمرت ، وهذا
البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون ؟ قال : أمرت بالبحر ، ولا يدري موسى ما يصنع .
ورويت هذه المقالة عن يوشع ، قالها لموسى عليه السلام ، فأوحى الله إليه ) أَنِ
اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ ( ، فحاض يوشع الماء . وضرب موسى بعصاه ، فصار فيه
اثنا عشر طريقاً ، لكل سبط طريق . أراد تعالى أن يجعل هذه الآية متصلة بموسى
ومتعلقة بفعل فعله ، ولكنه بقدرة الله إذ ضرب البحر بالعصا لا يوجب انفلاق البحر
بذاته ، ولو شاء تعالى لفلقه دون ضربه بالعصا ، وتقدّم الخلاف في مكان هذا البحر .
( فَانفَلَقَ ( : ثم محذوف تقديره : فضرب فانفلق . وزعم ابن عصفور في مثل هذا
التركيب أن المحذوف هو ضرب ، وفاء انفلق . والفاء في انفلق هي فاء ضرب ،
" صفحة رقم 20 "
فأبقى من كل ما يدل على المحذوف ، أبقيت الفاء من فضرب واتصلت بانفلق ، ليدل على
ضرب المحذوفة ، وأبقى انفلق ليدل على الفاء المحذوفة منه . وهذا قول شبيه بقول
صاحب البرسام ، ويحتاج إلى وحي يسفر عن هذا القول . وإذا نظرت القرآن وجدت جملاً
كثيرة محذوفة ، وفيها الفاء نحو قوله : ) فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا
الصّدِيقُ ( ، أي فأرسلوه ، فقال يوسف أيها الصديق ، والفرق الجزء المفصل . والطود
: الجبل العظيم المنطاد في السماء . وحكى يعقوب عن بعض القراء ، أنه قرأ كل فلق
باللام عوض الراء .
( وَأَزْلَفْنَا ( : أي قربنا ، ( ثُمَّ ( : أي هناك ، وثم ظرف مكان للبعد . )
الاْخَرِينَ ( : أي قوم فرعون ، أي قربناهم ، ولم يذكر من قربوا منه ، فاحتمل أن
يكون المعنى : قربناهم حيث انفلق البحر من بني إسرائيل ، أو قربنا بعضهم من بعض
حتى لا ينجو أحد ، أو قربناهم من البحر . وقرأ الحسن ، وأبو حيوة : وزلفنا بغير
ألف . وقرأ أبي ، وابن عباس ، وعبد الله بن الحارث : وأزلقنا بالقاف عوض الفاء ،
أي أزللنا ، قاله صاحب اللوامح . قيل : من قرأ بالقاف صار الآخرين فرعون وقومه ،
ومن قرأ بالعامة يعني بالقراءة العامة ، فالآخرون هم موسى وأصحابه ، أي جمعنا
شملهم وقربناهم بالنجاة . انتهى ، وفي الكلام حذف تقديره : ودخل موسى وبنو إسرائيل
البحر وأنجينا . قيل : دخلوا البحر بالطول ، وخرجوا في الصفة التي دخلوا منها بعد
مسافة ، وكان بين موضع الدخول وموضع الخروج أوعار وجبال لا تسلك .
( إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً ( : أي لعلامة واضحة عاينها الناس وشاع أمرها . قال
الزمخشري : ) وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ( : أي ما تنبه أكثرهم عليها
ولا آمنوا . وبنو إسرائيل ، الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء ، قد سألوه
بقرة يعبدونها ، واتخذوا العجل ، وطلبوا رؤية الله جهرة . انتهى . والذي يظهر أن
قوله : ) وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ( : أي أكثر قوم فرعون ، وهم
القبط ، إذ قد آمن السحرة ، وآمنت آسية امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وعجوز
اسمها مريم ، دلت موسى على قبر يوسف عليه السلام ، واستخرجوه وحملوه معهم حين
خرجوا من مصر .
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا
تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ
يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ
بَلْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ
تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ الاْقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ
رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا
كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ الاْقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى
هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى
يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى
يَوْمَ الدِينِ رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لّى
لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ
وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ وَلاَ تَحْزَنِى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ
لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ
إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا
لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا
إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ
أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنُونَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا
كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ).
لما كانت العرب لها خصوصية بإبراهيم عليه السلام ، أمر الله نبيه ( صلى الله عليه
وسلم ) ) أن يتلو عليهم قصصه ، وما جرى له مع قومه . ولم يأت في قصة من قصص هذه
السورة أمره عليه السلام بتلاوة قصة إلا في هذه ، وإذ : العامل فيه . قال الحوفي :
أتل ، ولا يتصور ما قال إلا بإخراجه عن الظرفية وجعله بدلاً من نبا ، واعتقاد أن
العامل في البدل والمبدل منه واحد . وقال أبو البقاء : العامل في إذ نبأ . والظاهر
أن الضمير في ) وَقَوْمِهِ ( عائد على إبراهيم . وقيل : على أبيه ، أي وقوم أبيه ،
كما قال : ) إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ). وما : استفهام
بمعنى التحقير والتقرير . وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم
" صفحة رقم 21 "
عبدة أصنام ، ولكن سألهم ليريهم أن ما كانوا يعبدونه ليس مستحقاً للعبادة ، لما
ترتب على جوابهم من أوصاف معبوداتهم التي هي منافية للعبادة . ولما سألهم عن الذي
يعبدونه ، ولم يقتصروا على ذكره فقط ، بل أجابوا بالفعل ومتعلقه وما عطف عليه من
تمام صفتهم مع معبودهم ، فقالوا : ) نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا
عَاكِفِينَ ( : على سبيل الابتهاج والافتخار ، فأتوا بقصتهم معهم كاملة ، ولم
يقتصروا على أن يجيبوا بقولهم : أصناماً ، كما جاء : ) مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ
قَالُواْ خَيْرًا ( ، ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ( ،
ولذلك عطفوا على ذلك الفعل قولهم : ) فَنَظَلُّ ). قال : كما تقول لرئيس : ما تلبس
؟ فقال : ألبس مطرف الخز فاجر ذيوله ، يريد الجواب : وحاله مع ملبوسه . وقالوا :
فنظل ، لأنهم كانو يعبدونهم بالنهار دون الليل . ولما أجابوا إبراهيم ، أخذ يوقفهم
على قلة عقولهم ، باستفهامه عن أوصاف مسلوبة عنهم لا يكون ثبوتها إلا لله تعالى .
وقرأ الجمهور : ) يَسْمَعُونَكُمْ ( ، من سمع ؛ وسمع إن دخلت على مسموع تعدّت إلى
واحد ، نحو : سمعت كلام زيد ، وإن دخلت على غير مسموع ، فذهب الفارسي أنها تتعدى
إلى اثنين ، وشرط الثاني منهما أن يكون مما يسمع ، نحو : سمعت زيداً يقرأ والصحيح
أنها تتعدى إلى واحد ، وذلك الفعل في موضع الحال ، والترجيح بين المذهبين مذكور في
النحو . وهنا لم تدخل إلا على واحد ، ولكنه بمسموع ، فتأولوه على حذف مضاف تقديره
: هل يسمعوانكم ، تدعون ؟ وقيل : ) هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ ( بمعنى : يجيبونكم .
وقرأ قتادة ، ويحيى بن يعمر : بضم الياء وكسر الميم من أسمع ، والمفعول الثاني
محذوف تقديره : الجواب ، أو الكلام . وإذ : ظرف لما مضى ، فإما أن يتجاوز فيه
فيكون بمعنى إذا ، وإما أن يتجاوز في المضارع فيكون قد وقع موقع الماضي ، فيكون
التقدير : هل سمعوكم هذ دعوتم ؟ وقد ذكر أصحابنا أن من قرائن صرف المضارع إلى
الماضي إضافة إلى جملة مصدرة بالمضارع ، ومثلوا بقوله : ) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى
أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ( ، أي وإذ قلت . وقال الزمخشري : وجاء مضارعاً مع إيقاعه
في إذ على حكاية الحال الماضية التي كنتم تدعونها فيها ، وقولوا : هل سمعوا ، أو
اسمعوا قط ؟ وهذا أبلغ في التبكيت . انتهى . وقرىء : بإظهار ذال إذ وبإدغامها في
تاء تدعونن . قال ابن عطية : ويجوز فيه قياس مذكر ، ولم يقرأ به أحد ؛ والقياس أن
يكون اللفظ به ، إذ إتدعون . فالذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل
، فكثرة المتماثلات . انتهى . وهذا الذي ذكر أنه يجوز فيه قياس مذكر لا يجوز ، لأن
ذلك الإبدال ، وهو إبدال التاء دالاً ، لا يكون إلا في افتعل ، مما فاؤه ذال أو
زاي أو دال ، نحو : إذذكر ، وازدجر ، وادهن ، أصله : اذتكر ، وازتجر ، وادتهن ؛ أو
جيم شذوذ ، قالوا : اجد مع في اجتمع ، ومن تاء الضمير بعد الزاي والدال ، ومثلوا
بتاء الضمير للمتكلم فقالوا في فزت : فزد ، وفي جلدت : جلدّ ، ومن تاء تولج شذوذاً
قالوا : دولج ، وتاء المضارعة ليست شيئاً مما ذكرنا ، فلا تبدل تاءه . وقول ابن
عطية : والذي منع من هذا اللفظ إلى آخره ، يدل على أنه لولا ذلك لجاز إبدال تاء ،
المضارعة دالاً وإدغام الذال فيها ، فكنت تقول : إذ تخرج : ادّخرج ، وذلك لا يقوله
أحد ، بل إذا أدغم مثل هذا أبدل من الذال تاء وأدغم في التاء ، فتقول : اتخرج .
( أَوْ يَنفَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ( بترك
عبادتكم إياهم ، فإذا لم ينفعوا ولم يضروا ، فما معنى عبادتكم لها ؟ ) قَالُواْ
بَلْ وَجَدْنَا ( هذه حيدة عن جواب الاستفهام ، لأنهم لو قالوا : يسمعوننا
وينفعوننا ويضروننا ، فضحوا أنفسهم بالكذب الذي لا يمتري فيه ، ولو قالوا :
يسمعوننا ولا يضروننا ، لسجلوا على أنفسهم بالخطأ المحض ، فعدلوا إلى التقليد
البحث لآبائهم في عبادتها من غير برهان ولا حجة . والكاف في موضع نصب بيفعلون ، أي
يفعلون في عبادتهم تلك الأصنام مثل ذلك الفعل الذي يفعله ، وهو عبادتهم ؛ والحيدة
عن الجواب من علامات انقطاع الحجة . وبل هنا إضراب عن جوابه لما سأل وأخذ في شيء
آخر لم يسألهم عنه انقطاعاً وإقراراً بالعجز .
( أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ ( : وصفهم بالأقدمين دلالة على ما تقادم عبادهم الأصنام
فيهم ، وإذ كانوا قد عبدوها في زمان نوح عليه السلام ، فزمان من بعده ؟ وعدو :
يكون للمفرد والجمع ، كما قال : ) هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ( ، قيل : شبه
بالمصدر ، كالقبول والولوع . قال الزمخشري : وإنما قال : عدو لي ، تصوراً للمسألة
في نفسه على
" صفحة رقم 22 "
معنى : أي فكرت في أمري ، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو ، فاجتنبتها وآثرت عبادة
من الخير كله منه ، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولاً ، وبنى عليها تدبير
أمره ، لينظروا ويقولوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، وما أراد لنا
إلا ما أرادو لروحه ، ليكون أدنى لهم إلى القبول ، وأبعث على استماع منه . ولو قال
: فإنه عدو لكم ، لم يكن بتلك المثابة ، ولأنه دخل في باب من التعريض ، وقد يبلغ
التعريض للمنضوح . ما لا يبلغ التصريح ، لأنه ربما يتأمل فيه ، فربما قاده التأميل
إلى التقبل . ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي الله عنه ، أن رجلاً واجهه بشيء فقال :
لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب ؛ وسمع رجل ناساً يتحدثون عن الحجر فقال : ما هو
بيتي ولا بيتكم . انتهى . وهو كلام فيه تكثير على عادته ، وذهاب من ذهب إلى أن
قوله : ) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ( ، من المقلوب والأصل : فإني عدو لهم ، لأن
الأصنام لا تعادي لكونها جماداً ، وإنما هو عاداها ليس بشيء ولا ضرورة تدعو إلى
ذلك . ألا ترى إلى قوله : ) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ
عَلَيْهِمْ ضِدّاً ( ، فهذا معنى العداوة ، ولأن المغري على عداوتها عدو الإنسان ،
وهو الشيطان . وقيل : لأنه تعالى يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يبترؤوا من عبدتهم
ويوبخوهم . وقيل : هو على حذف ، أي : فإن عبادهم عدولي . والظاهر إقرار الاستثناء
في موضعه من غير تقديم ولا تأخير . وقال الجرجاني : تقديره : أفرأيتم ما كنتم
تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين ، فإنهم عدو لي ، وإلا : بمعنى دون
وسوى . انتهى . فجعله مستثنى مما بعد كنتم تعبدون ، ولا حاجة إلى هذا التقدير لصحة
أن يكون مستثنى من قوله : ) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ). وجعله جماعة منهم الفراء ،
واتبعه الزمخشري استثناء منقطعاً ، أي لكن رب العالمين ، لأنهم فهموا من قوله : ما
كنتم تعبدون أنهم الأصنام . وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلاً على أنهم كانوا
يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام ، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله ،
وأجازوا في ) الَّذِى خَلَقَنِى ( النصب على الصفة لرب العالمين ، أو بإضمار ،
أعني : والرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الذي . وقال الحوفي : ويجوز أن يكون )
الَّذِى خَلَقَنِى ( رفعاً بالابتداء ، ( فَهُوَ يَهْدِينِ ( : ابتداء وخبر في
موضع الخبر عن الذي ، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط . انتهى . وليس
الذي هنا فيه معنى اسم الشرط لأنه خاص ، ولا يتخيل فيه العموم ، فليس نظير : الذي
يأتيني فله درهم ، وأيضاً ليس الفعل الذي هو خلق لا يمكن فيه تحدد بالنسبة إلى
إبراهيم .
وتابع أبو البقاء الحوفي في إعرابه هذا ، لكنه لم يقل : ودخلت الفاء لما في الكلام
من معنى الشرط . فإن كان أراد ذلك ، فليس بجيد لما ذكرناه ، وإن لم يرده ، فلا
يجوز ذلك إلا على زيادة الفاء ، على مذهب الأخفش في نحو : زيد فاضربه ؛ الذي خلقني
بقدرته فهو يهدين إلى طاعته . وقيل : إلى جنته . وقال الزمخشري : فهو يهدين ، يريد
أنه حين أتم خلقه ، ونفخ فيه الروح عقب هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى ما يصلحه
ويعينه ، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذي بالدم في البطن امتصاصاً ؟ ومن هداه إلى
معرفة الثدي عند الولادة ؟ وإلى معرفة مكانه ؟ ومن هداه لكيفية الإرتضاع ؟ إلى غير
ذلك من هدايات المعاش والمعاذ . انتهى . والظاهر أن قوله : ) يُطْعِمُنِى
وَيَسْقِينِ ( : الطعام المعروف المعهود ، والسقي المعهود ، وفيه تعديد نعمة الرزق
. وقال أبو بكر الوراق : يطعمني بلا طعام ، ويسيني بلا شراب ، كما جاء أني أبيت
يطمني ربي ويسقيني ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو ، فلم يكن
التركيب الذي هو خلقني ، ولما كانت الهداية قد يمكن ادعاؤها . والإطعام والسقي
كذلك أكد بهو في قوله : ) فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى ( ، وذكر
بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة ويستمر به نظام الخلق ، وهو الغذاء
والشرب . ولما كان ذلك سبباً لغلبة إحدى الكيفيات على الأخرى بزيادة الغذاء أو نقصانه
، فيحدث بذلك مرض ذكر نعمته ، بإزالة ما حدث من السقم ، وأضاف المرض إلى نفسه ،
ولم يأت التركيب : وإذا أمر ضني ، وإن كان تعالى هو الفاعل لذلك وإبراهيم عليه
السلام عدد نعم الله تعالى عليه والشفاء محبوب والمرض مكروه . ولما لم يكن المرض
منها ، لم يضفه إلى الله . وعن جعفر الصادق ، ولعله لا يصح : وإذا مرضت بالذنوب
" صفحة رقم 23 "
شفاني بالتوبة . وقال الزمخشري : وإنما قال : مرضت دون أمر ضني ، لأن كثيراً من
أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك . ومن ثم قال
الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم ؟ لقالوا : التخم ، ولما كان
الشفاء قد يعزى إلى الطيب ، وإلى الدواء على سبيل المجاز ؛ كما قال : ) فِيهِ
شِفَآء لِلنَّاسِ ( ، أكد بقوله : ) فَهُوَ يَشْفِينِ ( : أي الذي هو يهدين
ويطعمني ويسقين هو الله لا غيره .
ولما كانت الإماتة بعد البعث ، لا يمكن إسنادها إلا إلى الله ، لم يحتج إلى توكيد
ودعوى نمروذ لإماتة والإحياء هي منه على سبيل المخرفة والقحة ، وكذلك لم يحتج إلى
تأكيد في : ) وَالَّذِى أَطْمَعُ ). وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يهديني
وما بعده ، وهي رواية عن نافع . والطمع عبارة عن الرجاء ، وإبراهيم عليه السلام
كان جازماً بالمغفرة . فقال الزمخشري : لم يجزم القول بالمغفرة ، وفيه تعليم
لأممهم ، وليكون لطفاً بهم في اجتناب المعاصي والحذر منها ، وطلب المغفرة مما يفرط
منهم . انتهى . ورده الرازي قال : لأن حاصله يرجع إلى أنه ، ونطق بكلمة لا أذكرها
، وبعدها على نفسه لأجل تعليم الأمة ، وهو باطل قطعاً . وقال الجبائي : أراد به
سائر المؤمنين ، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون . ورده الرازي بأن جعل كلام الواحد
من كلام غيره ، مما يبطل نظم الكلام . وقال الحسن : المراد بالطمع اليقين . وقال
الرازي : لا يستقيم هذا إلا على مذهبنا ، حيث قلنا : إنه لا يجب على الله شيء ،
وإنه يحسن منه كل شيء ، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله . وقال ابن عطية : أوقف عليه
الصلاة والسلام نفسه على الطمع في المغفرة ، وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته
وخلته .
وقرأ الجمهور : خطيئتي على الإفراد ، والحسن : خطاياي على الجمع ، وذهب الأكثرون
إلى أنها قوله : ) إِنّى سَقِيمٌ ( ، و ) بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ( ، وهي أختي
في سارة . وقالت فرقة : أراد بالخطيئة اسم الجنس ، قدرها في كل أمره من غير تعيين
. قال ابن عطية : وهذا أظهر عندي ، لأن تلك الثكلاث قد خرجها كثير من العلماء على
المعاريض . وقال الزمخشري : المراد ما يندر منه في بعض الصغائر ، لأن الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام معصومون مختارون على العالمين ، وهي قوله وذكر الثلاثة ثم
قال وما هي إلا معاريض ، كلام وتخيلات للكفرة ، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار .
فإن قلت : إذا لم يندر منهم إلا الصغائر ، وهي تقع مكفرة ، فما له أثبت لنفسه
خطيئة أو خطايا ، وطمع أن يغفر له ؟ قلت : الجواب ما سبق ، أن استغفار الأنبياء
تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم ، ويدل عليه قوله : اطمع ، ولم يجزم القول . انتهى
. و ) يَوْمِ الدّينِ ( : ظرف ، والعامل فيه يعفر ، والغفران ، وإن كان في الدنيا
، فأثره لا يتبين إلا يوم الجزاء ، وهو في الدنيا لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى .
وضعف أبو عبد الله الرازي حمل الخطيئة على تلك الثلاث ، لأن نسبة ما لا يطابق إلى
إبراهيم غير جائز ، وحمله على سبيل التواضع قال : لأنه إن طابق في هذا الموضع زال
الإشكال ، وإن لم يطابق رجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به ، لأجل تنزيهه عن
المعصية . قال : والجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى ، وقد يسمى خطأ . فإن
من باع جوهرة تساوي ألفاً بدينار ، قيل : أخطأ ، وترك الأولى على الأنبياء جائز .
انتهى ، وفيه بعض تلخيص وتبديل ألفاظ للأدب بما يناسب مقام النبوة .
وقدم إبراهيم عليه السلام الثناء على الله تعالى ، وذكره بالأوصاف الحسنة بين يدي
طلبته ومسألته ، ثم سأله تعالى فقال : ) رَبّ هَبْ لِى حُكْماً ( ، فدل على أن
تقديم الثناء على المسلة من المهمات . والظاهر أن الحكم هو الفصل بين الناس بالحق
. وقيل : الحكم : الحكمة والنبوة ، لأنها حاصلة تلو طلب النبوة ،
" صفحة رقم 24 "
لأن النبي ذو حكمة وحكم بين الناس . وقال أبو عبد الله الرازي : لا يجوز تفسير
الحكم بالنبوة لأنها حاصلة ، فلو طلب النبوة لكانت مطلوبة ، إما عين الحاصلة أو
غيرها . والأول محال ، لأن تحصيل الحاصل محال ، والثاني محال ، لأنه يمنع أن يكون
الشخص الواحد نبياً مرتين ، بل المراد من الحكم ما هو كمال النبوة العملية ، وذلك
بأن يكون عالماً بالخير لأجل العمل به . انتهى . وقال ابن عطية : وقد فسر الحكم
بالحكمة والنبوة ، قال : ودعاؤه عليه السلام في مثل هذا هو في التثبت والدوام .
وإلحاقه بالصالحين : توفيقه لعمل ينتظمه في جملتهم ، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة
. وقد أجابه تعالى حيث قال : ) وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ).
قال أبو عبد الله الرازي : وإنما قدّم قوله : ) هَبْ لِى حُكْماً ( على قوله : )
وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( ، لأن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية ،
لأنه يمكنه أن يعلم الحق ، وإن لم يعمل به ، وعكسه غير ممكن ، لأن العلم صفة الروح
، والعمل صفة البدن ، وكما أن الروح أشرف من البدن ، كذلك العلم أفضل من الإصلاح .
انتهى . ولسان الصدق ، قال ابن عطية : هو الثناء وتخليد المكانة بإجماع من
المفسرين . وكذلك أجاب الله دعوته ، فكل ملة تتمسك به وتعظمه ، وهو على الحنيفية
التي جاء بها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال مكي : وقيل معنى سؤاله أن يكون
من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق ، فأجيبت الدعوة في محمد عليه السلام ، وهذا
معنى حسن ، إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ . انتهى . ولما طلب
سعادة الدنيا ، طلب سعادة الآخرة ، وهي جنة النعيم ، وشبهها بما يورث ، لأنه الذي
يقسم في الدنيا شبه غنيمة الدنيا بغنيمة الآخرة ، وقال تعالى : ) تِلْكَ
الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ).
ولما فرغ من مطالب الدنيا والآخرة لنفسه ، طلب لأشد الناس التصاقاً به ، وهو أصله
الذي كان ناشئاً عنه ، وهو أبوه ، فقال : ) وَاغْفِرْ لاِبِى ( ، وطلبه المغفرة
مشروط بالإسلام ، وطلب المشروط يتضمن طلب الشرط ، فحاصله أنه دعا بالإسلام . وكان
وعده ذلك يوضحه قوله : ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ
عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ
اللَّهِ ( ، أي الموافاة على الكفر تبرأ منه . وقيل : كان قال له إنه على دينه
باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً ، تقية وخوفاً ، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك ،
فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ، ولذلك قال في دعائه : ) وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ
كَانَ مِنَ الضَّالّينَ ). فلولا اعتقاده أنه في الحال ليس بضال ما قال ذلك . )
وَلاَ تَحْزَنِى ( : إما من الخزي ، وهو الهوان ، وإما من الخزاية ، وهي الحياء .
والضمير في ) يُبْعَثُونَ ( ضمير العباد ، لأنه معلوم ، أو ضمير ) الضَّالّينَ ( ،
ويكون من جملة الاستغفار ، لأنه يكون المعنى : يوم يبعث الضالون . وأتى فيهم : )
يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ( بدل من : ) يَوْمِ يُبْعَثُونَ ). ) مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ( :
أي كما ينفع في الدنيا يفديه ماله ويذب عنه بنوه . وقيل : المراد بالبنين جميع
الأعوان . وقيل : المعنى يوم لا ينفع إعلاق بالدنيا ومحاسنها ، فقصد من ذلك الذكر
العظيم والأكثر ، لأن المال والبنين هي زينة الحياة الدنيا . والظاهر أن الاستثناء
منقطع ، أي لكن من أتى الله بقلب سليم ينفعه سلامة قلبه . قال الزمخشري : ولك أن
تجعل الاستثناء منقطعاً ، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف ، وهو الحال المراد
بها السلامة ، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنين
لا ينفعان ، وإنما ينفع سلامة القلب ، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى
. انتهى . ولا ضرورة تدعو إلى حذف مضاف ، كما ذكر ، إذ قدرناه ، لكن ) مَنْ أَتَى اللَّهَ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( ينفعه ذلك ، وقد جعله الزمخشري في أول توجيه متصلاً بتأويل قال
: إلا من أتى الله : لا حال من أتى الله بقلب سليم ، وهو من قوله
" صفحة رقم 25 "
تحية بينهم ضرب وجيع
وما ثوابه إلا السيف ، ومثاله أن يقال : هل لزيد مال وبنون ؟ فيقول : ماله وبنوه
سلامة قلبه ، تريد نفي المال والبنين عنه ، وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك .
وإن شئت حملت الكلام على المعنى ، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى ، كأنه قيل :
يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم ، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة
قلبه ، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه . انتهى . وجعله بعضهم استثناء مفرغاً ،
ف ( من ) مفعول ، والتقدير : لا ينفع مال ولا بنون أحداً إلا من أتى الله بقلب
سليم ، فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البر ، وبنوه الصلحاء ، إذ كان أنفقه في
طاعة الله ، وأرشد بنيه إلى الدين ، وعلمهم الشرائع وسلامة القلب ، خلوصه من الشرك
والمعاصي ، وعلق الدنيا المتروكة وإن كانت مباحة كالمال والبنين . وقال سفيان : هو
الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره ، وهذا يقتضي عمومه اللفظ ، ولكن السليم من
الشرك هو الأعم . وقال الجنيد : بقلب لديغ من خشية الله ، والسليم : اللديغ . وقال
الزمخشري : هو من بدع التفاسير وصدق .
( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ ( : قربت لينظروا إليها ويغتبطوا بحشرهم إليها . )
وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ ( : أظهرت وكشفت بحيث كانت بمرأى منهم كقوله : ) فَلَمَّا
رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا
كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( ، وذلك على سبيل التوبيخ . هل ينفعونكم
بنصرهم إياكم ، أو ينتصرون هم فينفعون أنفسهم بحمايتها ، إذ هم وأنتم وقود النار ؟
وقرأ الأعمش : فبرزت بالفاء ، جعل تبريز الجحيم بعد تقريب الجنة يعقبه ، وذلك لأن
الواو للجمع ، فيمكن أن يكون كل واحد منهما ظهوره قبل الآخر ، وهو من تقديم الرحمة
على العذاب ، وهو حسن ، لو أن رسم المصحف بالواو . وقرأ مالك بن دينار : )
وَبُرّزَتِ ( بالفتح والتخفيف ؛ ) الْجَحِيمِ ( بالرفع ، بإسناد الفعل إليها
اتساعاً . ولما وبخهم وقرعهم ، أخبر عن حال يوم القيامة ، وجيء في ذلك كله بلفظ
الماضي في أتى وأزلفت وبرزت . وقيل : ) فَكُبْكِبُواْ ( ، لتحقق وقوع ذلك ، وإن
كان لم يقع . والضمير في : فكبكبوا عائد على الأصنام ، أجريت مجرى من يعقل . قال
الكرماني : فكبكبوا : قذفوا فيها . وقيل : جمعوا . وقيل : هدروا . وقيل : نكسوا
على رؤوسهم بموج بعضهم في بعض . وقيل : ألقوا في جهنم ينكبون مرة بعد مرة حتى
يستقروا في قعرها . ) وَالْغَاوُونَ ( : هم الكفرة الذين شملتهم الغواية . وقيل :
الضمير يعود على الكفار ، والغاوون : الشياطين . ) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ ( : قبيلة
، وكل من تبعه فهو جند له وعون . وقال السدّي : هم مشركو العرب ، والغاوون : سائر
المشركين . وقيل : هم القادة والسفلة ، قالوا : أي عباد الأصنام ، والجملة بعده
حال ، والمقول جملة القسم ومتعلقه ، والخطاب في ) نُسَوّيكُمْ ( للأصنام على جهة الإقرار
والاعتراف بالحق . قال ابن عطية : أقسموا بالله إن كنا إلا ضالين في أن نعبدكم
ونجعلكم سواء مع الله تعالى ، الذي هو رب العالمين وخالقهم ومالكهم . انتهى .
وقوله : إن كنا إلا ضالين ، إن أراد تفسير المعنى فهو صحيح ، وإن أراد أن هنا
نافية ، واللام في لفي بمعنى إلا ، فليس مذهب البصريين ، وإنما هو مذهب الكوفيين .
ومذهب البصريين في مثل هذا أن إن هي المخففة من الثقيلة ، وأن اللام هي الداخلة
للفرق بين إن النافية وإن التي هي لتأكيد مضمون الجملة .
( وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ ( : أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام
والجرأة ، وهم ساداتهم ذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم : ) أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ ). وقال السدي : هم الأولون
الذين اقتدوا بهم . وقيل : المجرمون : الشياطين ، وقيل : من دعاهم إلى عبادة
الأصنام من الجن والإنس . وقال ابن جريج : إبليس وابن آدم القاتل ، لأنه أول من سن
القتل وأنواع المعاصي . وحين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل
الإيمان ، وشفاعة الصديق في
" صفحة رقم 26 "
صديقه خاصة ، قالوا على جهة التلهف والتأسف ، ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ
صَدِيقٍ حَمِيمٍ ). وقال ابن جريج : شافعين من الملائكة وصديق من الناس . ولفظة
الشفيع تقتضي رفعة مكانة عند المشفوع عنده ، ولفظة الصديق تقتضي شدة مساهمة ونصرة
، وهو فعيل من صدق الود من أبنية المبالغة ونفي الشفعاء . والصديق يحتمل أن يكون
نفياً لوجودهم إذ ذاك ، وهم موجودون للمؤمنين ، إذ تشفع الملائكة وتتصادق المؤمنون
، كما قال : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين ، أو ذلك على حسب اعتقادهم
في معبوداتهم أنهم شفعاؤهم عند الله ، وأن لهم أصدقاء من الإنس والشياطين ، فقصدوا
بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع ، لأن ما لا ينفع ، حكمه حكم المعدوم ، فصار
المعنى : فما لنا من نفع من كنا نعتقد أنهم شفعاء وأصدقاء ، وجمع الشفعاء لكثرتهم
في العادة . ألا ترى أنه يشفع فيمن وقع في ورطة من لا يعرفه ، وأفرد الصديق لقلته
، وأريد به الجمع ؟ إذ يقال : هم صديق ، أي أصدقاء ، كما يقال : هم عدو ، أي أعداء
. والظاهر أن لو هنا أشربت معنى التمني ، وفتكون الجواب ، كأنه قيل : يا ليت لنا
كرة فنكون . وقيل : هي الخالصة للدلالة لما كان سيقع لوقوع غيره ، فيكون قوله : )
فَنَكُونَ ( معطوفاً على كرة ، أي فكونا من المؤمنين ، وجواب لو محذوف ، أي لكان
لنا شفعاء وأصدقاء ، أو لخلصنا من العذاب . والظاهر أن هذه الجمل كلها متعلقة بقول
إبراهيم ، أخبر بما أعلمه الله من أحوال يوم القيامة ، وما يكون فيها من حال قومه
.
وقال ابن عطية : وهذه الآيات من قوله : ) يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ
( هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه السلام ، وهي إخبار من الله عز وجل ، تعلق
بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه السلام عنده في دعائه أن لا يخزي فيه .
انتهى . وكان ابن عطية قد أعرب ) يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ( بدلاً من ) يَوْمِ
يُبْعَثُونَ ( ، وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره من تفكيك الكلام ، وجعل بعضه من
كلام إبراهيم ، وبعضه من كلام الله ، لأن العامل في البدل على مذهب الجمهور فعل
آخرمن لفظ الأول ، أو الأول . وعلى كلا التقديرين ، لا يصح أن يكون من كلام الله ،
إذ يصير التقدير : ولا تخزني يوم لا ينفع مال ولا بنون . والإشارة بقوله ) إِنَّ
فِى ذَلِكَ لآيَةً ( إلى قصة إبراهيم عليه السلام ومحاورته لقومه . ) وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ ( : أي أكثر قوم إبراهيم . بين تعالى أن أكثر قومه لم يؤمنوا مع ظهور
هذه الدلائل التي استدل بها إبراهيم عليه السلام ، وفي ذلك مسلاة للرسول ( صلى الله
عليه وسلم ) ) في تكذيب قومه إياه عليه السلام .
( ) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ
أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
وَمَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ
وَاتَّبَعَكَ الاٌّ رْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّى لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ
الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ
تَنْتَهِ يانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى
كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ
أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم
مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ عَادٌ
الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ
رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا
بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُواْ
الَّذِى e
" صفحة رقم 27 "
1764 أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ إِنِّىأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُواْ سَوَآءٌ
عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَاذَا إِلاَّ
خُلُقُ الاٌّ وَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ
فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ
أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَآ
ءَامِنِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى
الاٌّ رْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَآ
أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِأايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
قَالَ هَاذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلاَ
تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا
فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا
كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا
تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا
خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ
قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ
إِنِّى لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا
يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى
الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاٌّ خَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً
فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم
مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحَابُ
لْأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّى
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُواْ
الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ
الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى
الاٌّ رْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الاٌّ
وَّلِينَ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ
مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً
مِّنَ السَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّىأَعْلَمُ بِمَا
تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاّيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم
مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَإِنَّهُ
" صفحة رقم 28 "
لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاٌّ مِينُ عَلَى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِى
زُبُرِ الاٌّ وَّلِينَ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ
بَنِىإِسْرَاءِيلَ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاٌّ عْجَمِينَ فَقَرَأَهُ
عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ
فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ
مُنظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ
سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا
كَانُواْ يُمَتَّعُونَ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا
يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ
فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ
وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاٌّ قْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ
وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ
وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ
أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَآءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ
مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } )
الشعراء : ( 105 ) كذبت قوم نوح . . . . .
المشحون : المملوء بما ينبغي له من قدر ما يحمل ، يقال : شحنها عليها خيلاً
ورجالاً ، الريع : بكسر الراء وفتحها : جمع ريعة ، وهو المكان المرتفع . قال ذو
الرمة : طراق الخوافي مشرق فوق ريعه
بذي ليلة في ريشه يترقرق
وقال أبو عبيدة : الريع : الطريق . قال ابن المسيب بن علس يصف ظعناً : في الآل
يخفضها ويرفعها
ريع يلوح كأنه سحل
الطلع : الكفري ، وهو عنقود التمر قبل أن يخرج من الكم في أول نباته . وقال الزمخشري
: الطلعة : هي التي تطلع
" صفحة رقم 29 "
من النخلة ، كنصل السيف في جوفه . شماريخ القنو ، والقنو : اسم للخارج من الجذع ،
كما هو بعرجونه . الفراهة : جودة منظر الشيء وقوته وكماله في نوعه . وقيل : الكيس
والنشاط . القالي : المبغض ، قلى يقلي ويقلى ، ومجيئه على يفعل بفتح العين شاذ .
الجبلة : الخلق المتجسد الغليظ ، مأخوذ من الجبل . قال الشاعر : والموت أعظم حادث
مما يمر على الجبله
ويقال : بسكون الباء مثلث الجيم . وقال الهروي : الجبل والجبل والجبل ، لغات ، وهو
الجمع الكثير العدد من الناس . انتهى . هام : ذهب على وجهه ، قاله الكسائي . وقال
أبو عبيدة : حاد عن القصد .
( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ
تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً
قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ
يَكُونُ لِزَاماً طسم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ
نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ
السَّمَاء ءايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّن
ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ
فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ
إِلَى الاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ ).
القوم : مؤنث مجازي التأنيث ، ويصغر قويمة ، فلذلك جاء : ) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ
). ولما كان مدلوله أفراداً ذكوراً عقلاء ، عاد الضمير عليه ، كما يعود على جمع
المذكر العاقل . وقيل : قوم مذكر ، وأنث لأنه في معنى الأمة والجماعة ، وتقدم معنى
تكذيب قوم نوح المرسلين ، وإن كان المرسل إليهم واحداً في الفرقان في قوله : )
وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ ( ، وإخوة نوح قيل :
في النسب . وقيل : في المجانسة ، كقوله :
يا أخيا تميم تريد يا واحد أمته
وقال الشاعر : لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
ومتعلق التقوى محذوف ، فقيل : ألا تتقون عذاب الله وعقابه على شرككم ؟ وقيل : ألا
تتقون مخالفة أمر الله فتتركوا عبادتكم للأصنام وأمانته ، كونه مشهوراً في قومه
بذلك ، أو مؤتمناً على أداء رسالة الله ؟ ولما عرض عليهم برفق تقوى الله فقال : )
أَلاَ تَتَّقُونَ ( ، انتقل من العرض إلى الأمر فقال : ) فَاتَّقُواْ اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ ( في نصحي لكم ، وفيما دعوتكم إليه من توحيد الله وإفراده بالعبادة .
) وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ ( : أي على دعائي إلى الله والأمر بتقواه . وقيل :
الضمير في عليه يعود على النصح ، أو
" صفحة رقم 30 "
على التبليغ ، والمعنى : لا أسئلكم عليه شيئاً من أموالكم . وقدم الأمر بتقوى الله
على الأمر بطاعته ، لأن تقوى الله سبب لطاعة نوح عليه السلام . ثم كرر الأمر
بالتقوى والطاعة ، ليؤكد عليهم ويقرر ذلك في نفوسهم ، وإن اختلف التعليل ، جعل
الأول معلولاً لأمانته ، والثاني لانتفاء أخذ الأجر . ثم لم ينظروا في أمر رسالته
، ولا تفكروا فيما أمرهم به ، لما جبلوا عليه ونشؤوا من حب الرئاسة ، وهي التي
تطبع على قلوبهم . فشرع أشرافهم في تنقيص متبعيه ، وأن الحامل على انتفاء إيمانهم
له ، كونه اتبعه الأرذلون .
وقوله : ) وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( ، جملة حالية ، أي كيف نؤمن وقد اتبعك
أراذلنا ، فنتساوى معهم في اتباعك ؟ وكذا فعلت قريش في شأن عمار وصهيب . والضعفاء
أكثر استجابة من الرؤساء ، لأن أدهانهم ليست مملوءة بزخارف الدنيا ، فهم أدرك للحق
وأقبل له من الرؤساء . وقرأ الجمهور : واتبعك فعلاً ماضياً . وقرأ عبد الله ، وابن
عباس ، والأعمش ، وأبو حيوة ، والضحاك ، وابن السميفع ، وسعيد بن أبي سعد الأنصاري
، وطلحة ، ويعقوب : واتباعك جمع تابع ، كصاحب وأصحاب . وقيل : جمع تبيع ، كشريف
وأشراف . وقيل : . قيل : والذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكنانة وبنو بنيه ، فعلى هذا
لا تكون الرذالة دناءة المكاسب ؛ وتقدم الكلام في الرذالة في هود في قوله : )
إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ( ، وأرادوا بذلك تنقيص نوح عليه السلام ، إذ
لم يعلموا أن ضعفاء الناس هم أتباع الرسل ، كما ورد في حديث هرقل . وهذا الذي
أجابوا به في غاية السخافة ، إذ هو مبعوث إلى الخلق كافة ، فلا يختلف الحال بسبب
الفقر والغنى ، ولا شرف المكاسب ودناءتها .
وقال ابن عطية : ويظهر من الآية أن مراد قوم نوح نسبة الرذيلة إلى المؤمنين ،
بتهجين أفعالهم لا النظر إلى صنائعهم ، يدل على ذلك قول نوح : ) وَمَا عِلْمِى (
الآية ، لأن معنى كلامه ليس في نظري ، وعلمي بأعمالهم ومعتقداتهم فائدة ، فإنما
أقنع بظاهرهم وأجتزىء به ، ثم حسابهم على الله تعالى ، وهذا نحو ما قال رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلاه إلا الله )
، الحديث بجملته انتهى . وقال الكرماني : لا أطلب العلم بما عملوه ، إنما على أن
أدعوهم . وقال الزمخشري : وما علمي ، وأي شيء علمي ، والمراد انتفاء علمه بإخلاص
أعمالهم واطلاعه على سرائرهم ؛ وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا في استرذالهم في إيمانهم
، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة ، وإنما آمنوا هوى وبديهة ، كما حكى الله عنهم في
قوله : ) الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ( بادىء الرأي . ويجوز أن يتعالى لهم نوح
عليه السلام ، فيفسر قولهم : الأرذلون ، بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد
العقائد ، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم . ثم بنى جوابه على ذلك فيقول : ما
عليّ إلا اعتبار الظواهر ، دون التفتيش على أسرارهم والشق عن قلوبهم ، وإن كان لهم
شيء ، فالله محاسبهم ومجازيهم ، وما أنا إلا منذر لا محاسب ، ولا مجاز ، لو تشعرون
ذلك ، ولكنكم تجهلون ، فتنساقون مع الجهل حيث سيركم . وقصد بذلك رد اعتقادكم ،
وإنكار أن يسمى المؤمن رذلاً ، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسباً . فإن الغنى غنى
الدين ، والنسب نسب التقوى . انتهى . وهو تكثير . وقال الحوفي : وما علمي ماانا
فيه ، والباء متعلقة بعلمي . انتهى . وهذا التخريج يحتاج فيه إلى إضمار خبر حتى
تصير جملة ولما كانوا لا يصدقون بالحساب ولا بالبعث ، أردفه بقوله : ) لَوْ
تَشْعُرُونَ ( ، أي بأن المعاد حق ، والحساب حق . وقرأ الجمهور : تشعرون بتاء
الخطاب . وقرأ الأعرج ، وأبو زرعة ، وعيسى بن عمر الهمداني : بياء الغيبة .
( وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ( : هذا مشعر بأنهم طلبوا منه ذلك
فأجابهم بذلك ، كما طلب رؤساء قريش من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يطرد
من آمن من الضعفاء ، فنزلت : ) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ (
الآية ، أي لا أطردهم عني لاتباع شهواتكم والطمع في إيمانكم . ) إن أنا إلا نذير
مبين : ما جئت به بالبرهان الصحيح الذي يميز به الحق من الباطل . ولما اعتلوا في
ترك إيمانهم بإيمان من هو دونهم ، دل ذلك على أنهم لم تثلج صدورهم للإيمان ، إذ
اتباع الحق لا يأنف منه أحد لوجود الشركة فيه ، أخذوا في التهديد والوعيد .
( قالوا لئن لم تنته يا نوح ( عن تقبيح ما نحن عليه ، وادعائك الرسالة من الله ، (
لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ ( ، أي بالحجارة ، وقيل : بالشتم
" صفحة رقم 31 "
وأيس إذ ذاك من فلاحهم ، فنادى ربه وهو أعلم بحاله فدعائي ليس لأجل أنهم آذوني ،
ولكن لأجل دينك . ) فَافْتَحْ ( ، أي فاحكم . ودعا لنفسه ولمن آمن به بالنجاة ،
وفي ذلك إشعار بحلول العذاب بقومه ، أي : ) وَنَجّنِى ( مما يحل بهم . وقيل :
ونجني من عملهم لأنه سبب العقوبة . والفلك واحد وجمع ، وغالب استعماله جمعاً لقوله
: ) وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ( ، والفلك التي تجري في البحر ( ، فحيث
أتى في غير فاصلة ، استعمل جمعاً ، وحيث كان فاصلة ، استعمل مفرداً لمراعاة
الفواصل ، كهذا الموضع . والذي في سورة يس ، وتقدّم الخلاف إذا كان مدلوله جمعاً ،
أهو جمع تكسير ، أم اسم جمع ؟ والمشحون ، قال ابن عباس : الموقر ، وقال عطاء :
المثقل . ) ( ، فحيث أتى في غير فاصلة ، استعمل جمعاً ، وحيث كان فاصلة ، استعمل
مفرداً لمراعاة الفواصل ، كهذا الموضع . والذي في سورة يس ، وتقدّم الخلاف إذا كان
مدلوله جمعاً ، أهو جمع تكسير ، أم اسم جمع ؟ والمشحون ، قال ابن عباس : الموقر ، وقال
عطاء : المثقل . ) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ ( : أي بعد نجاة نوح والمؤمنين .
( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ أَلاَ تَتَّقُونَ
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ
أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ
لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُواْ
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُواْ الَّذِى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْمَلُونَ
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ
مّنَ الْواعِظِينَ إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاْوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَةً وَمَا
كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ).
كان أخاهم من النسب ، وكان تاجراً جميلاً ، أشبه الخلق بآدم عليه السلام ، عاش
أربعمائة سنة وأربعاً وستين سنة ، وبينه وبين ثمود مائة سنة . وكانت منازل عاد ما
بين عمان إلى حضرموت . أمرع البلاد ، فجعلها الله مفاوز ورمالاً . أمرهم أولاً أمر
به نوح قومه ، ثم نعى عليهم من سوء أعمالهم مع كفرهم فقال : ) أَتَبْنُونَ بِكُلّ
رِيعٍ ( ؟ قال ابن عباس : هو رأس الزقاق . وقال مجاهد : فج بين جبلين . وقال عطاء
: عيون فيها الماء . وقال ابن بحر : جبل . وقيل : الثنية الصغيرة . وقرأ الجمهور :
ريع بكسر الراء ، وابن أبي عبلة : بفتحها . قال ابن عباس : ) ءايَةً ( : علماً .
وقال مجاهد : أبراج الحمام . وقال النقاش وغيره : القصور الطوال . وقيل : بيت عشار
. وقيل : نادياً للتصلف . وقيل : أعلاماً طوالاً ليهتدوا بها في أسفارهم ، عبثوا
بها لأنهم كانوا يهتدون بالنجوم . وقيل : علامة يجتمع إليها من يعبث بالمار في
الطريق . وفي قوله إنكار للبناء على صورة العبث ، كما يفعل المترفون في الدنيا .
والمصانع : جمع مصنعة . قيل : وهي البناء على الماء . وقيل : القصور المشيدة
المحكمة . وقيل : الحصون . وقال قتادة : برك الماء . وقيل : بروج الحمام . وقيل :
المنازل . واتخذ هنا بمعنى عمل ، أي ويعملون مصانع ، أي تبنون . وقال لبيد :
وتبقى جبال بعدنا ومصانع
) لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ( : الظاهر أن لعل على بابها من الرجاء ، وكأنه تعليل
للبناء والاتخاذ ، أي الحامل لكم على ذلك هو الرجاء للخلود ولا خلود . وفي قراءة
عبد الله : كي تخلدون ، أو يكون المعنى يشبه حالكم حال من يخلد ، فلذلك بتيتم
واتخذتم . وقال ابن زيد : معناه الاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم ، أي هل
أنتم تخلدون : وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي . وقال ابن عباس : المعنى كأنكم
خالدون ، وفي حرف أبي : كأنكم تخلدون . وقرىء : كأنكم خالدون . وقرأ أبيّ ، وعلقمة
، وأبو العالية ، مبنياً للمفعول مشدداً ، كما قال الشاعر :
" صفحة رقم 32 "
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد
قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وإذا بطشتم : أي أردتم البطش ، وحمل على الإرادة لئلا يتحد الشرط وجوابه ، كقوله :
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
أي متى أردتم بعثها . قال الحسن : بادروا تعذيب الناس من غير تثبت ولا فكر في
العواقب . وقيل : المعنى أنكم كفار الغضب ، لكم السطوات المفرطة والبوادر . فبناء
الأبنية العالية تدل على حب العلو ، واتخاذ المصانع رجاء الخلود يدل على البقاء ،
والجبارية تدل على التفرد بالعلو ، وهذه صفات الإلاهية ، وهي ممتنعة الحصول للعبد
. ودل ذلك على استيلاء حب الدنيا عليهم بحيث خرجوا عن حد العبودية ، وحب الدنيا
رأس كل خطيئة . ولما نبههم ووبخهم على أفعالهم القبيحة ، أمرهم ثانياً بتقوى الله
وطاعة نبيه . ثم أمرهم ثالثاً بالتقوى تنبيهاً لهم على إحسانه تعالى إليهم ، وسبوغ
نعمته عليهم . وأبرز صلة ) الَّذِى ( متعلقة بعلمهم ، تنبيهاً لهم وتحريضاً على
الطاعة والتقوى ، إذ شكر المحسن واجب ، وطاعته متعينة ، ومشيراً إليهم بأن من أمد
بالإحسان هو قادر على سلبه ، وعلى تعذيب من لم يتقه ، إذ هذا الإمداد ليس من جهتكم
، وإنما هو من تفضله تعالى عليكم بحيث أتبعكم إحسانه شيئاً بعد شيء . ولما أتى
بذكر ما أمدهم به مجملاً محالاً على علمهم ، أتى به مفصلاً . فبدأ بالأنعام ، وهي
التي تحصل بها الرئاسة في الدنيا ، والقوة على من عاداهم ، والغنى هو السبب في
حصول الذرية غالباً لوجده . وبحصول القوة أيضاً بالبنين ، فلذلك قرنهم بالأنعام ،
ولأنهم يستعينون بهم في حفظها والقيام عليها . واتبع ذلك بالبساتين والمياه
المطردة ، إذ الإمداد بذلك من إتمام النعمة .
( وبأنعام ( : ذهب بعض النحويين إلى أنه بدل من قوله : ) خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ ( ، وأعيد العامل كقوله : ) اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُواْ
مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ ). والأكثرون لا يجعلون مثل هذا بدلاً وإنما هو عندهم من
تكرار الجمل ، وإن كان المعنى واحداً ، ويسمى التتبيع ، وإنما يجوز أن يعاد عندهم
العامل إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به ، نحو : مررت بزيد بأخيك ، ثم حذرهم عذاب
الله ، وأبرز ذلك في صورة الخوف لا على سبيل الجزم ، إذ كان راجياً لإيمانهم ،
فكان من جوابهم أن قالوا : ) سَوَاء عَلَيْنَا ( وعظك وعدمه ، وجعلوا قوله وعظاً ،
إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به ، وأنه كاذب فيما ادعاه ، وقولهم ذلك على سبيل
الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به . وقرأ الجمهور : وعظت ، بإظهار الظاء .
وروي عن أبي عمرو ، والكسائي ، وعاصم : إدغام الظاء في التاء . وبالإدغام ، قرأ
ابن محيصن ، والأعمش ، إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ : أوعظتنا . وينبغي أن
يكون إخفاء ، لأن الظاء مجهورة مطبقة ، والتاء مهموسة منفتحة ، فالظاء أقوى من
التاء ، والإدغام إنما يحسن في المتماثلين ، أو في المتقاربين ، إذا كان الأول
أنقص من الثاني . وأما إدغام الأقوى في الأضعف ، فلا يحسن . على أنه قد جاء من ذلك
أشياء في القرآن بنقل الثقات ، فوجب قبولها ، وإن كان غيرها هو أفصح وأقيس .
وعادل ) أَوَعَظْتَ ( بقوله : ) أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْواعِظِينَ ( ، وإن كان
قد يعادله : أم لم تعظ . كما قال : ) سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا
( لأجل الفاصلة ، كما عادلت في قوله : ) سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ
أَنتُمْ صَامِتُونَ ( ، ولم يأت التركيب أم صمتم ، وكثيراً ما يحسن مع الفواصل ما
لا يحسن دونه . وقال الزمخشري : بينهما فرق ، يعني بين ما جاء في الآية وهي : أم
لم تعظ ، قال : لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن
أصلاً من أهله ومباشرته ، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظ من قولك : أم لم تعظ .
ولما لم يبالوا بما أمرهم به ، وبما ذكرهم من نعم الله وتخويفه الانتقام منهم ،
أجابوه بأن قالوا : ) إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاْوَّلِينَ ). وقرأ عبد الله ،
وعلقمة ، والحسن ، وأبو جعفر ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، والكسائي : خلق ، بفتح
الخاء وسكون اللام ، فهو يحتمل أن يكون المعنى : إن هذا الذي تقوله وتدعيه إلا
اختلاق الأولين من الكذبة
" صفحة رقم 33 "
قبلك ، فأنت على مناهجهم . وروى علقمة عن عبد الله : أن هذا إلا اختلاق الأولين .
ويحتمل أن يكون المعنى : ما هذه البنية التي نحن عليها إلا البنية التي عليها
الأولون ، حياة وموت ولا بعث ولا تعذيب . وقرأ باقي السبعة : خلق ، بضمتين ؛ وأبو
قلابة ، والأصمعي عن نافع : بضم الخاء وسكون اللام ؛ وتحتمل هذه القراءة ذينك
الاحتمالين اللذين في خلق .
( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا
تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ
أَتُتْرَكُونَ فِيمَا هَاهُنَا ءامِنِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ
وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ
فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ
مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن
كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَاذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ
يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ
عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى
ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ).
) أَتُتْرَكُونَ ( : يجوز أن يكون إنكاراً لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزولون
عنه ، وأن يكون تذكيراً بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات ،
وغير ذلك مع الأمن والدعة ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : تخويف لهم ، بمعنى :
أتطمعون إن كفرتم في النعم على معاصيكم ؟ وقيل : أتتركون ؟ استفهام في معنى
التوبيخ ، أي أيترككم ربكم ؟ ) فِيمَا هَاهُنَا ( : أي فيما أنتم عليه في الدنيا )
ءامِنِينَ ( : لا تخافون بطشه . انتهى . وما موصولة ، وههنا إشارة إلى المكان
الحاضر القريب ، أي في الذي استقر في مكانكم هذا من النعيم . وفي جنات : بدل من ما
ههنا أجمل ، ثم فصل ، كما أجمل هود عليه السلام في قوله : ) أَمَدَّكُمْ بِمَا
تَعْلَمُونَ ( ، ثم فصل في قوله : ) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ( ، وكانت
أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل . والهضيم ، قال ابن عباس : إذا أينع وبلغ
. وقال الزهري : الرخص اللطيف أول ما يخرج . وقال الزجاج : الذي رطبه بغير نوى .
وقال الضحاك : المنضد بعضه على بعض . وقيل : الرطب المذنب . وقيل : النضيج من
الرطب . وقيل : الرطب المتفتت . وقيل : الحماض الطلع ، ويقارب قشرته من الجانبين
من قولهم : خصر هضيم . وقيل : العذق المتدلي . وقيل : الجمار الرخو . وجاء قوله :
) وَنَخْلٍ ( بعد قوله : ) فِي جَنَّاتِ ( ، وإن كانت الجنة تتناول النخل أول شيء
، ويطلقون الجنة ، ولا يريدون بها إلا النخل ، كما قال الشاعر : كان عيني في غربي
مقتلة
من النواضح تسقي جنة سحقا
أراد هنا النخل . والسحق جمع سحوق ، وهي التي ذهبت بجردتها صعداً فطالت . فأفرد )
وَنَخْلٍ ( بالذكر بعد اندراجه في لفظ جنات ، تنبيهاً على انفارده عن شجر الجنة
بفضله . أو أراد بجنات غير النخل من الشجر ، لأن اللفظ صالح لهذه الإرادة ، ثم عطف
عليه ونخل ، ذكرهم تعالى في أن وهب لهم أجود النخل وأينعه ، لأن الإناث ولادة
التمر ، وطلعها فيه لطف ، والهضيم : اللطيف الضامر ، والبرني ألطف من طلع اللون .
ويحتمل اللطف في الطلع أن يكون بسبب كثرة الحمل ، فإنه متى كثر لطف فكان هضيماً ،
وإذا قل الحمل جاء التمر فاخراً . ولما كانت منابت النخل جيدة ، وكان السقي لها
كثيراً ، أوسلمت من العاهة ، كبر الحمل بلطف الحب . وقرأ الجمهور : )
وَتَنْحِتُونَ ( ، بالتاء للخطاب
" صفحة رقم 34 "
وكسر الحاء ؛ وأبو حيوة ، وعيسى ، والحسن : بفتحها ، وتقدم ذكره ، وعنه بألف بعد
الحاء إشباعاً . وعن عبد الرحمن بن محمد ، عن أبيه : بالياء من أسفل وكسر الحاء .
وعن أبي حيوة ، والحسن أيضاً : بالياء من أسفل وفتح الحاء . وقرأ عبد الله ، وابن
عباس ، وزيد بن علي ، والكوفيون ، وابن عامر : فارهين بألف ، وباقي السبعة : بغير
ألف ؛ ومجاهد : متفرهين ، اسم فاعل من تعزه ، والمعنى : نشطين مهتمين ، قاله ابن
عباس . وقال مجاهد : شرهين . وقال ابن زيد : أقوياء . وقال ابن عباس أيضاً ، وأبو
عمرو بن العلاء : أشرين بطرين . وقال عبد الله بن شداد : بمعنى مستفرهين ، أي
مبالغين في استجادة المغارات ليحفظوا أموالهم فيها . وقال قتادة : آمنين . وقال
الكلبي : متجبرين . وقال خصيف : معجبين . وقال عكرمة : ناعمين . وقال الضحاك :
كيسين . وقال أبو صالح : حاذقين . وقال ابن بحر : قادرين . وقال أبو عبيدة : مرحين
.
وظاهر هذه الآيات أن الغالب على قوم هود : اللذات الخيالية من طلب الاستعلاء
والبقاء والتفرد والتجبر ، وعلى قوم صالح : اللذات الحسية من المأكول والمشروب
والمساكن الطيبة الحصينة . ) وَلاَ تُطِيعُواْ ( : خطاب الجمهور قومه . والمسرفون
: هم كبراؤهم وأعلامهم في الكفر والإضلال ، وكانوا تسعة رهط . ) يُفْسِدُونَ فِى
الاْرْضِ ( : أي أرض ثمود . وقيل : في الأرض كلها ، لأن بمعاصيهم امتناع الغيث .
ولما كانوا يفسدون دلالته دلالة المطلق ، أتى بقوله : ) وَلاَ يُصْلِحُونَ ( ،
فنفى عنهم الصلاح ، وهو نفي لمطلق الصلاح ، فيلزم منه نفي الصلاح كائناً ما كان ،
فلا يحصل منهم صلاح ألبتة . والمسحر : الذي سحر كثيراً حتى غلب على عقله . وقيل :
من السحر ، وهو الرئة ، أي أنت بشر لا تصلح للرسالة . ويضعف هذا القول قولهم بعد :
) مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا ( ، إذ تكون هذه الجملة توكيداً لما قبلها ،
والأصل التأسيس . ومثلنا : أي في الأكل والشرب وغير ذلك من صفات البشر ، فلا
اختصاص لك بالرسالة .
( يَأْتِىَ بِئَايَةٍ ( : أي بعلامة على صحة دعواك ، وفي الكلام حذف تقديره : قال
آتي بها ، قالوا : ما هي ؟ ) قَالَ هَاذِهِ نَاقَةٌ ( روي أنهم اقترحوا عليه ناقة
عشراء تخرج من هذه الصخرة تلد سقباً . فقعد صالح يتفكر ، فقال له جبريل عليه
السلام : صل ركعتين وسل ربك الناقة ، ففعل ؛ فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ،
ونتجت سقباً مثلها في العظم . وتقدم في الأعراف طرف من قصة ثمود والناقة ، والشرب
النصيب المشروب من الماء نحو السقي . وقرأ ابن أبي عبلة : شرب ، بضم الشين فيهما ،
وظاهر هذا العذب أنه في الدنيا ، وكذا وقع ووصف بالعظم لحلول العذاب فيه ، ووصفه
به أبلغ من وصف العذاب به ، لأن الوقت إذا عظم بسبب العذاب ، كان موقع العذاب من
العظم أشد . ونسب العقر إلى جميعهم ، لكونهم راضين بذلك ، حتى روي أنهم استرضوا
المرأة في خدرها والصبيان ، فرضوا جميعاً .
( فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ ( ، لا ندم توبة ، بل ندم خوف أن يحل بهم العذاب
عاجلاً ، وذلك عند معاينة العذاب في غير وقت التوبة . أصبحوا وقد تغيرت ألوانهم
حسبما كان أخبرهم به صالح عليه السلام ، وكان العذاب صيحة خمدت لها أبدانهم ،
وانشقت قلوبهم ، وماتوا عن آخرهم ، وصب عليهم حجارة خلال ذلك . وقيل : كانت
ندامتهم على ترك عقر الولد ، وهو قول بعيد . وأل في : ) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ (
للعهد في العذاب السابق ، عذاب ذلك اليوم العظيم .
( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا
تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا
أَسْئَلُكُمْ
" صفحة رقم 35 "
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ
الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ
أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ
لُوطٍ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ
الْقَالِينَ رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا
الاْخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ).
أتأتون : استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ ؛ ) والذكران ( : جمع ذكر ، مقابل الأنثى .
والإتيان : كناية عن وطء الرجال ، وقد سماه تعالى بالفاحشة فقال : ) لِقَوْمِهِ
أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ ( ،
هو مخصوص بذكران بني آدم . وقيل : مخصوص بالغرباء . ) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ ( :
ظاهر في كونهم لا يأتون النساء ، إما البتة ، وإما غلبة . ) مَا خَلَقَ لَكُمْ
رَبُّكُمْ ( : يدل على الإباحة بشرطها . ) مّنْ أَزْواجِكُمْ ( : أي من الإناث .
ومن إما للتبيين لقوله : ) مَا خَلَقَ ( ، وإما للتبعيض : أي العضو المخلوق للوطء
، وهو الفرج ، وهو على حذف مضاف ، أي وتذرون إتيان . فإن كان ما خلق لا يراد به
العضو ، فلا بد من تقدير مضاف آخر ، أي وتذرون إتيان فروج ما خلق . ) بَلْ أَنتُمْ
قَوْمٌ عَادُونَ ( : : أي متجاوزون الحد في الظلم ، وهو إضراب بمعنى الانتقال من
شيء إلى شيء ، لا أنه إبطال لما سبق من الإنكار عليهم وتقبيح أفعالهم واعتداؤهم ؛
إما في المعاصي التي هذه المعصية من جملتها ، أو من حيث ارتكاب هذه الفعلة الشنيعة
. وجاء تصدير الجملة بضمير الخطاب تعظيماً لقبح فعلهم وتنبيهاً على أنهم هم مختصون
بذلك ، كما تقول : أنت فعلت كذا ، أي لا غيرك . ولما نهاهم عن هذا الفعل القبيح
توعدوه بالإخراج ، وهو النفي من بلده الذي نشأ فيه ، أي : ) لَئِن لَّمْ تَنتَهِ (
عن دعواك النبوة ، وعن الإنكار علينا فيما نأتيه من الذكران ، فننفينك كما نفينا
من نهانا قبلك . ودل قوله : ) مِنَ الْمُخْرَجِينَ ( على أنه سبق من نهاهم عن ذلك
، فنفوه بسبب النهي ، أو من المخرجين بسبب غير هذا السبب ، كأنه من خالفهم في شيء
نفوه ، سواء كان الخلاف في هذا الفعل الخاص ، أم في غيره .
( قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُمْ ( : أي للفاحشة التي أنتم تعملونها . ولعملكم يتعلق
إما بالقالين ، وإن كان فيه أل ، لأنه يسوغ في المجرورات والظروف ما لا يسوغ في
غيرها ، لاتساع العرب في تقديمها ، حيث لا يتقدم غيرها ؛ وإما بمحذوف دل عليه
القالين وكونه بغض القالين يدل على أنه يبغض هذا الفعل ناس غيره هو بعضهم ، ونبه
ذلك على أن هذا الفعل موجب للبغض حتى يبغضه الناس . ومن القالين أبلغ من قال لما
ذكرنا من أن الناس يبغضونه ، ولتضمنه أنه معدود ممن يبغضه . ألا ترى إن قولك : زيد
من العلماء ، أبلغ من : زيد عالم ، لأن في ذلك شهادة بأنه معدود في زمرتهم . وقال
أبو عبد الله الرازي : القلى : البغض الشديد ، كأنه بغض فقلي الفؤاد والكبد .
انتهى . ولا يكون قلى بمعنى أبغض . وقلا من الطبخ ؛ والشيء من مادّة واحدة لاختلاف
التركيب . فمادة قلا من الشيّ من ذوات الواو ، وتقول : قلوت اللحم فهو مقلو .
ومادّة قلى من البغض من ذوات الياء ، قليت الرجل ، فهو مقلي . قال الشاعر :
ولست بمقلي الخلال ولا قال
ولما توعدوه بالإخراج ، أخبرهم ببغض عملهم ، ثم دعا ربه فقال : ) رَبّ نَّجِنِى
وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ ( : أي من عقوبة ما يعملو من المعاصي . ويحتمل أن
يكون دعاء لأهله بالعصمة من أن يقع واحد منهم في مثل فعل قومه . ودل دعاؤه
بالتنجية لأهله على أنهم كانوا مؤمنين . ولما كانت زوجته مندرجة في الأهل ، وكان
ظاهر دعائه دخولها في التنجية ، وكانت كافرة استثنيت في قوله : ) فَنَجَّيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ( ، ودل قوله : عجوزاً
، على أنها قد عسيت في الكفر ودامت فيه إلى أن صارت عجوزاً . ومن الغابرين صفة ،
أي من الباقين من لذاتها وأهل بيتها ، قاله أبو عبيدة .
" صفحة رقم 36 "
وقال قتادة : من الباقين في العذاب النازل بهم . وتقدّم القول في غبر ، وأنه
يستعمل بمعنى بقي ، وهو المشهور ، وبمعنى مضى . ونجاته عليه السلام أن أمره تعالى
بالرّحلة ليلاً ، وكانت امرأته كافرة تعين عليه قومه ، فأصابها حجر ، فهلكت فيمن
هلك . قال قتادة : أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم . وقال قتادة
: أتبع الائتفاك مطراً من الحجارة . وساء : بمعنى بئس ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي
مطرهم . وقال مقاتل : خسف الله بقوم لوط ، وأرسل الحجارة إلى من كان خارجاً من
القربة ، ولم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط .
( كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ
تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ فِيهَا تَحِيَّةً
وَسَلَاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً قُلْ مَا
يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ
لِزَاماً طسم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ
أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء
ءايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ
مّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ
فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ
إِلَى الاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ ).
قرأ الحرميان وابن عامر : ليكة هنا ، وفي ) ص ( بغير لام ممنوع الصرف . وقرأ باقي
السبعة الأيكة ، بلام التعريف . فأما قراءة الفتح ، فقال أبو عبيد : وجدنا في بعض
التفسيران : ليكة : اسم للقرية ، والأيكة : البلاد كلها ، كمكة وبكة ، ورأيتها في
الإمام مصحف عثمان في الحجر و ) ق ( : الأيكة ، وفي الشعراء و ) ص ( : ليكة ،
واجتمعت مصاحف الأمصار كلها بعد على ذلك ولم تختلف . انتهى . وقد طعن في هذه
القراءة المبرد وابن قتيبة والزجاج وأبو عليّ الفارسي والنحاس ، وتبعهم الزمخشري ؛
ووهموا القراء وقالوا : حملهم على ذلك كون الذي كتب في هذين الموضعين على اللفظ في
من نقل حركة الهمزة إلى اللام وأسقط الهمزة ، فتوهم أن اللام من بنية الكلمة ففتح
الياء ، وكان الصواب أن يخيز ، ثم مادّة ل ي ك لم يوجد منها تركيب ، فهي مادّة
مهملة . كما أهملوا مادّة خ ذ ج منقوطاً ، وهذه نزغة اعتزالية ، يعتقدون أن بعض
القراءة بالرأي لا بالرواية ، وهذه قراءة متواترة لا يمكن الطعن فيها ، ويقرب
إنكارها من الردّة ، والعياذ بالله . أما نافع ، فقرأ على سبعين من التابعين ، وهم
عرب فصحاء ، ثم قراءة أهل المدينة قاطبة . وأما ابن كثير ، فقرأ على سادة التابعين
ممن كان بمكة ، كمجاهد وغيره ، وقد قرأ عليه إمام البصرة أبو عمرو بن العلاء ،
وسأله بعض العلماء : أقرأت على ابن كثير ؟ قال : نعم ، ختمت على ابن كثير بعدما
ختمت على مجاهد ، وكان ابن كثير أعلم من مجاهد باللغة . قال أبو عمرو : ولم يكن
بين القراءتين كبير يعني خلافاً . وأما ابن عامر فهو إمام أهل الشام ، وهو عربي قح
، قد سبق اللحن ، أخذ عن عثمان ، وعن أبي الدرداء وغيرهما . فهذه أمصار ثلاثة
اجتمعت على هذه القراءة الحرمان مكة والمدينة والشام ، وأما كون هذه المادّة
مفقودة في لسان العرب ، فإن صح ذلك كانت الكلمة عجمية ، ومواد كلام العجم مخالفة
في كثير مواد كلام العرب ، فيكون قد اجتمع على منع صرفها العلمية والعجمة والتأنيث
.
وتقدم مدلول الأيكة في الحجر ، وكان شعيب عليه السلام من أهل مدين ، فلذلك جاء : )
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ). ولم يكن من أهل الأيكة ، فلذلك قال هنا :
) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ). ومن غريب النقل ما روي عن ابن عباس ، أن )
كَذَّبَ أَصْحَابُ ( هم أصحاب مدين ، وعن غيره ، أن ) كَذَّبَ أَصْحَابُ ( هم أهل
البادية ، وأصحاب مدين هم الحاضرة . وروي في الحديث : ( أن شعيباً أخا مدين أرسل
إليهم وإلى أصحاب الأيكة ، أمرهم بإيفاء الكيل ، وهو الواجب ، ونهاهم عن الإخسار ،
وهو التطفيف ، ولم يذكر الزيادة على الواجب ، لأن
" صفحة رقم 37 "
النفوس قد تشح بذلك فمن فعله فقد أحسن ، ومن تركه فلا حرج ) . وتقدم تفسير القسطاس
في سورة الإسراء . وقال الزمخشري : إن كان من القسط ، وهو العدل ، وجعلت الغين
مكررة ، فوزنه فعلاء ، وإلا فهو رباعي . انتهى . ولو تكرر ما يماثل العين في النطق
، لم يكن عند البصريين إلا رباعياً . وقال ابن عطية : هو مبالغة من القسط . انتهى
. والظاهر أن قوله : ) وَزِنُواْ ( ، هو أمر بالوزن ، إذ عادل قوله : ) أَوْفُواْ
الْكَيْلَ ( ، فشمل ما يكال وما يوزن مما هو معتاد فيه ذلك . وقال ابن عباس ومجاهد
: معناه عدلوا أموركم كلها بميزان العدل الذي جعله الله لعباده .
( وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ ( : الجملة والتي تليها تقدم الكلام
عليهما . ولما تقدم أمره عليه السلام إياهم بتقوى الله ، أمرهم ثانياً بتقوى من
أوجدهم وأوجد من قبلهم ، تنبيهاً على أن من أوجدهم قادر على أن يعذبهم ويهلكهم .
وعطف عليهم ) وَالْجِبِلَّةَ ( إيذاناً بذلك ، فكأنه قيل : يصيركم إلى ما صار إليه
أولوكم ، فاتقوا الله الذي تصيرون إليه . وقرأ الجمهور : والجبلة بكسر الجيم
والباء وشد اللام . وقرأ أبو حصين ، والأعمش ، والحسن : بخلاف عنه ، بضمها والشد
للام . وقرأ السلمي : والجبلة ، بكسر الجيم وسكون الباء ، وفي نسخة عنه : فتح
الجيم وسكون الباء ، وهي من جبلوا على كذا ، أي خلقوا . قيل : وتشديد اللام في
القراءتين في بناءين للمبالغة . وعن ابن عباس : الجبلة : عشرة آلاف . ) وَمَا
أَنتَ ( : جاء هنا بالواو ، وفي قصة هود : ) مَا أَنتَ ( ، بغير واو . فقال
الزمخشري : إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان ، كلاهما مخالف للرسالة عندهم ، التسخير
والبشرية ، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحراً ، ولا يجوز أن يكون بشراً ، وإذا
تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد ، وهو كونه مسحراً ، ثم قرر بكونه بشراً .
انتهى .
( وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( : إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام
في لمن هي الفارقة ، خلافاً للكوفيين ، فإن عندهم نافية واللام بمعنى إلا ، وتقدم
الخلاف في نحو ذلك في قوله : ) وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ( في البقرة . ثم طلبوا
منه إسقاط كسف ، من السماء عليهم ، وليس له ذلك ، فالمعنى : إن كنت صادقاً ، فادفع
الذي أرسلك أن يسقط علينا كسفاً ، أي قطعة ، أو قطعاً على حسب التسكين والتحريك .
وقال الزمخشري : وكلاهما جمع كسفة ، نحو : قطع وشذر . وقيل : الكسف والكسفة ،
كالريع والريعة ، وهي القطعة وكسفة : قطعة ، والسماء : السحاب أو المظلة . ودل
طلبهم ذلك على التصميم على الجحود والتكذيب . ولما طلبوا منه ما طلبوا ، أحال علم
ذلك إلى الله تعالى ، وأنه هو العالم بأعمالكم ، وبما تستوجبون عليها من العقاب ،
فهو يعاقبكم بما شاء .
( فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ( ، وهو نحو مما اقترحوا .
ولم يذكر الله كيفية عذاب يوم الظلة ، حتى أن ابن عباس قال : من حدثك ما عذاب يوم
الظلة فقد كذب ، وذكر في حديثها تطويلات . فروى أنه حبس عنهم الريح سبعاً ،
فابتلوا بحرّ عظيم يأخذ بأنفاسهم ، لا ينفعهم ظل ولا ماء ، فاضطروا إلى أن خرجوا
إلى البرية ، فأظلتهم سحابة وجدوا لها برداً ونسيماً ، فاجتمعوا تحتها ، فأمطرت
عليهم ناراً فأحرقتهم . وكرر ما كرر في أوائل هذه القصص ، تنبيهاً على أن طريقة
الأنبياء واحدة لا اختلاف فيها ، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته ورفض ما سواه
، وأنهم ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مشتركون في ذلك ، وأن ما جاء به (
صلى الله عليه وسلم ) ) هو ما جاءت به الرسل قبله ، وتلك عادة الأنبياء .
قال ابن عطية : وجاءت الألفاظ في دعاء كل واحد من هؤلاء الأنبياء واحدة بعينها ،
إذ كان الإيمان المدعو إليه معنى واحداً بعينه . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف
كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر ؟ قلت : كل قصة منها كتنزيل برأسه
، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها . فكانت كل واحدة منها تدلى بحق ، إلى أن
تفتتح بمثل ما افتتحت به صاحبتها ، وأن تختتم بمثل ذلك مما اختتمت به ، ولأن
التكرير تقرير للمعاني في النفوس ، وتثبيت لها في الصدور ، ولأن هذه القصص طرقت
بهذا آذان ، وقر عن الأنصات للحق ، وقلوب
" صفحة رقم 38 "
غلف عن تدبره ، فأوثرت بالوعظ والتذكير ، وروجعت بالترديد والتكرير .
( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى
قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ
لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً أَن يَعْلَمَهُ
عُلَمَاء بَنِى إِسْراءيلَ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاْعْجَمِينَ
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي
قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ
الاْلِيمَ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَيَقُولُواْ هَلْ
نَحْنُ مُنظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِن
مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى
عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا
مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ).
الضمير في : ) وَأَنَّهُ ( عائد على القرآن ، أي إنه ليس بكهانة ولا سحر ، بل هو
من عند الله ، وكأنه عاد أيضاً إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما
يأتيهم من الذكر ، ليتناسب المفتتح والمختتم . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وحفص :
) نَزَّلَ ( مخففاً ، و ) الرُّوحُ الاْمِينُ ( : مرفوعان ؛ وباقي السبعة :
بالتشديد ونصبهما . والروح هنا : جبريل عليه السلام ، وقد تقدم في سورة مريم لم
أطلق عليه الروح ، وبه قال ابن عطية : في موضع الحال كقوله : ) وَقَدْ دَّخَلُواْ
بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ). انتهى . والظاهر تعلق على ) قَلْبِكَ (
و ) لِتَكُونَ ( بنزل ، وخص القلب والمعنى عليك ، لأنه محل الوعي والتثبيت ،
وليعلم أن المنزل على قلبه عليه السلام محفوظ ، لا يجوز عليه التبديل ولا التغيير
، وليكون علة في التنزيل أو النزول اقتصر عليها ، لأن ذلك أزجر للسامع ، وإن كان
القرآن نزل للإنذار والتبشير . والظاهر تعلق ) بِلِسَانٍ ( بنزل ، فكان يسمع من
جبريل حروفاً عربية . قال ابن عطية ، وهو القول الصحيح : وتكون صلصلة الجرس صفة
لشدة الصوت وتداخل حروفه وعجلة مورده وإغلاظه . ويمكن أن يتعلق بقوله : )
لِتَكُونَ ( ، وتمسك بهذا من رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كان يسمع
أحياناً مثل صلصلة الجرس ، يتفهم له منه القرآن ، وهو مردود . انتهى . وقال
الزمخشري : ) بِلِسَانٍ ( ، إما أن يتعلق بالمنذرين ، فيكون المعنى : لتكون من
الذين أنذروا بهذا اللسان ، وهم خمسة : هود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، ومحمد (
صلى الله عليه وسلم ) ) وعليهم ؛ وإما أن يتعلق بنزل ، فيكون المعنى : نزله
باللسان العربي المبين لتنذر به ، لأنه لو نزله باللسان الأعجمي ، لتجافوا عنه
أصلاً وقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه ؟ فيتعذر الإنذار به . وفي هذا الوجه ، إن
تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك ، تنزيل له على قلبك ، لأنك تفهمه
ويفهمه قومك . ولو كان أعجمياً ، لكان نازلاً على سمعك دون قلبك ، لأنك تسمع أجراس
حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها ، وقد يكون الرجل عارفاً بعده لغات ، فإذا كلم
بلغتها التي لقنها أولاً ونشأ عليها وتطبع بها ، لم يكن قلبه إلا إلى معاني تلك
الكلم يتلقاها بقلبه ، ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت . وإن كلم بغير تلك اللغة ،
وإن كان ماهراً بمعرفتها ، كان نظره أولاً في ألفاظها ، ثم في معانيها . فهذا
تقرير أنه أنزل على قلبه لنزوله بلسان عربي مبين . انتهى . وفيه تطويل .
وإنه ، أي القرآن ، ( لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ ( : أي مذكور في الكتب المنزلة
القديمة ، منبه عليه مشار إليه . وقيل : إن معانيه فيها ، وبه يحتج لأبي حنيفة في
جواز القراءة بالفارسية في الصلاة ، على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية ،
حيث قيل : ) وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ ( ، لكون معانيه فيها . وقيل :
الضمير عائد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي إن ذكره ورسالته في الكتب
الإلهية المتقدمة يكون التفاتاً ، إذ خرج من ضمير الخطاب في قوله : ) عَلَى
قَلْبِكَ لِتَكُونَ ( إلى ضمير الغيبة ، وكذلك قبل في أن يعلمه ، أي أن يعلم
محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتناسق الضمائر لشيء واحد أوضح . وقرأ الأعمش :
لفي زبر ، بسكون الباء ، والأصل الضم ، ثم احتج عليهم بأنهم كان ينبغي أن يصحح
عندهم أمره ، كون علماء بني إسرائيل يعلمونه ، أي أو لم يكن لهم علامة على صحة علم
بني إسرائيل به ؟ إذ كانت قريش ترجع في كثير من الأمور النقلية إلى
" صفحة رقم 39 "
بني إسرائيل ، ويسألونهم عنها ويقولون : هم أصحاب الكتب الإلهية . وقد تهود كثير
من العرب وتنصر كثير ، لاعتقادهم في صحة دينهم . وذكر الثعلبي ، عن ابن عباس ، أن
أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ،
فقالوا : هذا زمانه ، ووصفوا نعته ، وخلطوا في أمر محمد عليه السلام ، فنزلت الآية
في ذلك ، ويؤيد هذا كون الآية مكية . وقال مقاتل : هي مدنية .
( مَعِىَ بَنِى إِسْراءيلَ ( : عبد الله بن سلام ونحوه ، قاله ابن عباس ومجاهد ،
وذلك أن جماعة منهم أسلموا ونصوا على مواضع من التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول
عليه السلام ، قال تعالى : ) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ
إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا ( الآية . وقيل : علماؤهم من أسلم منهم ومن لم يسلم
. وقيل : أنبياؤهم ، حيث نبهوا عليه وأخبروا بصفته وزمانه ومكانة . وقرأ الجمهور :
) أَوَ لَمْ يَكُن ( ، بالياء من تحت ، ( ءايَةً ( : بالنصب ، وهي قراءة واضحة
الإعراب توسط خبر يكن ، و ) أَن يَعْلَمَهُ ( : هو الاسم . وقرأ ابن عامر ،
والجحدري : تكن بالتاء من فوق ، آية : بالرفع . قال الزمخشري : جعلت آية اسماً ،
وأن يعلمه خبراً ، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسماً والمعرفة خبراً ، وقد خرج لها
وجه آخر ليتخلص من ذلك فقيل : في تكن ضمير القصة ، وآية أن يعلمه جملة واقعة الخبر
، ويجوز على هذا أن يكون لهم آية جملة الشأن ، وأن يعلمه بدلاً من آية . انتهى .
وقرأ ابن عباس : تكن بالتاء من فوق ، آية بالنصب ، كقراءة من قرأ : ثم ) لَمْ
تَكُنْ ( ، بتاء التأنيث ، ( فِتْنَتُهُمْ ( بالنصب ، إلا أن قالوا ، وكقول لبيد :
فمضى وقدمها وكانت عادة
منه إذا هي عردت أقدامها
ودل ذلك إما على تأنيث الاسم لتأنيث الخبر ، وإما لتأويل أن يعلمه بالمعرفة ،
وتأويل ) إِلاَّ أَن قَالُواْ ( بالمقالة ، وتأويل الإقدام بالإقدامة . وقرأ
الجحدري : أن تعلمه بتاء التأنيث ، كما قال الشاعر : قالت بنو عامر خالوا بني أسد
يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام
وكتب في المصحف : علموا بواو بين الميم والألف . قيل : على لغة من يميل ألف علموا
إلى الواو ، كما كتبوا الصلوة والزكوة والربوا على تلك اللغة . قال الزمخشري :
الأعجمي الذي لا يفصح ، وفي لسانه عجمة واستعجام ، والأعجمي مثله إلا أن فيه
لزيادة ياء بالنسبة زيادة توكيد . وقال ابن عطية : الأعجمون جمع أعجم ، وهو الذي
لا يفصح ، وإن كان عربي النسب يقال له أعجم ، وذلك يقال للحيوانات والجمادات ،
ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( جرح العجماء جبار ) . وأسند الطبري ،
عن عبد الله بن مطيع أنه قال ، حين قرأ هذه الآية وهو واقف بعرفة : ( جملي هذا
أعجم ، فلو أنزل عليه ما كانوا يؤمنون ) . والعجمي هو الذي نسبته في العجم ، وإن
كان أفصح الناس . انتهى . وفي التحرير : ) الاْعْجَمِينَ ( : جمع أعجم على التخفيف
، ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة . قيل : والمعنى ولو نزلناه بلغة
العجم على رجل أعجمي فقرأه على
" صفحة رقم 40 "
العرب ، لم يؤمنوا به ، حيث لم يفهموه ، واستنكفوا من اتباعه . وقيل : ولو نزلنا
القرآن على بعض العجم من الدواب فقرأه عليهم ، لم يؤمنوا ، لعنادهم لقوله تعالى :
) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةَ ( الآية ، وجمع جمع
السلامة ، لأنه وصف بالإنزال عليه والقراءة ، وهو فعل العقلاء . وقيل : ولو نزل
على بعض البهائم ، فقرأه عليهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لم تؤمن البهائم ،
كذلك هؤلاء لأنهم : ) كَالاْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ( انتهى .
ولما بين بما تقدم ، من أن هذا القرآن في كتب الأولين ، وأن علماء بني إسرائيل
يعلمون ذلك ، وكان في ذلك دليلان على صدق نبوّة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
) ، بين أن هؤلاء الكفار لا تجدي فيهم الدلائل . ألا ترى نزوله على رجل عربي بلسان
عربي ، وسمعوه وفهموه وأدركوا إعجازه وتصديق كتب الله القديمة له ، ومع ذلك جحدوا
وسموه تارة شعراً وتارة سحراً ؟ ولو نزل على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية ،
لكفروا به وتمحلوا بجحوده . وقال الفراء : الأعجمين جمع أعجم وأعجمي ، على حذف ياء
النسب ، كما قالوا : الأشعرين ، وواحدهم أشعري . وقال ابن الجهم : قال الكميت :
ولو جهزت قافية شرودا
لقد دخلت بيوت الأشعرينا
انتهى . وقرأ الحسن ، وابن مقسم : الأعجمين ، بياء النسب : جمع أعجمي . والضمير في
) سَلَكْنَاهُ ( ، الظاهر أنه عائد على ما عادت عليه الضمائر . قيل : وهو القرآن ،
وقاله الرماني . والمعنى : مثل ذلك السلك ، وهو الإدخال والتمكين والتفهيم لمعانيه
. ) سَلَكْنَاهُ ( : أدخلناه ومكناه في ) قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ). والمعنى : ما ترتب
على ذلك السلك من كونهم فهموه وأدركوه ، ولم يزدهم ذلك إلا عناداً وجحوداً وكفرا
به ، أي على مثل هذه الحالة وهذه الصفة من الكفر به والتكديب له ، كما وضعناه فيها
. فكيف ما يرام إيمانهم به لم يتغير ؟ وأعماهم عليه من الإنكار والجحود ، كما قال
: ) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ ( الآية . وقال الكرماني :
أدخلناه فيها ، فعرفوا معانيه ، وعجزهم عن الأتيان الإيمان بمثله ، ولم يؤمنوا به
. وقال يحيى بن سلام : الضمير في سلكناه يعود على التكذيب ، فذلك الذي منعهم من
الإيمان . انتهى . ويقويه قوله : ) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ
مُؤْمِنِينَ ). وقال الحسن : الضمير يعود على الكفر الذي يتضمنه قوله : ) مَّا
كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ). انتهى . وهو قريب من القول الذي قبله . وقال عكرمة :
سلكناه ، أي القسوة ، وأسند السلك تعالى إليه ، لأنه هو موجد الأشياء حقيقة ، وهو
الهادي وخالق الضلال .
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته ؟ قلت : أراد به
الدلالة على تمكنه مكذباً في قلوبهم أشد التمكين وأثبته ، فجعله بمنزلة أمر قد
جبلوا عليه . ألا ترى إلى قولهم : هو مجبول على الشح ؟ يريدون تمكن الشح فيه ، لأن
الأمور الخلقية أثبت من العارضة ، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على
عقبه ، وهو قوله : ) لاَ يُؤْمِنُونَ ( به . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال
والتشبيه بين السلكين ، يقتضي تغاير من حل به . والمعنى : مثل ذلك السلك في قلوب
قريش ، سلكناه في قلوب من أجرم ، لاشتراكهما في علة السلك وهو الإحرام . قال ابن
عطية : أراد بهم مجرمي كل أمّة ، أي إن هذه عادة الله فيهم ، أنهم لا يؤمنون حتى
يروا العذاب ، فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم ، وهذا على جهة المثال
لقريش ، أي هؤلاء كذلك ، وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما موقع ) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ( من قوله : )
سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( ؟ قلت : موقعه منه موقع الموضح والملخص
، لأنه مسوق لثباته مكذباً مجحوداً في قلوبهم ، فاتبع بما يقرر هذا المعنى من أنهم
لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد ، ويجوز أن يكون حالاً ، أي
سلكناه فيها غير مؤمن به . انتهى . ورؤيتهم العذاب ، قيل : في الدنيا ، وقيل : يوم
القيامة . وقرأ الجمهور : ) فَيَأْتِيَهُم ( ، بياء ، أي العذاب .
" صفحة رقم 41 "
وقرأ الحسن ، وعيسى : بتاء التأنيث ، أنث على معنى العذاب لأنه العقوبة ، أي
فتأتيهم العقوبة يوم القيامة ، كما قال : أتته كتابي ، فلما سئل قال : أو ليس
بصحيفة ؟ قال الزمخشري : فتأتيهم بالتاء ، يعني الساعة . وقال أبو الفضل الرازي :
أنث العذاب لاشتماله على الساعة ، فاكتسى منها التأنيث ، وذلك لأنهم كانوا يسألون
عذاب القيامة تكذيباً بها ، فلذلك أنث . ولا يكتسى المذكر من المؤنث تأنيثاً إلا
إن كان مضافاً إليه نحو : اجتمعت أهل اليمامة ، وقطعت بعض أصابعه ، وشرقت صدر
القناة ، وليس كذلك . وقرأ الحسن : بغتة ، بفتح الغين ، فتأتيهم بالتاء من فوق ،
يعني الساعة .
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى التعقيب في قوله : ) فَتَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً (
قلت : ليس المعنى يراد برؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه الوجود ، وإنما
المعنى ترتبها في الشدة ، كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب
مما هو أشد منها ، وهو لحوقه بهم مفاجأة مما هو أشد منه ، وهو سؤالهم النظرة .
ومثل ذلك أن تقول : إن أسأت مقتك الصالحون ، فمتقك الله ، فإنك لا تقصد بهذا
الترتيب أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين ، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على
المسيء ، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين . فما هو أشد من مقتهم ؟ وهو مقت
الله . ويرى ، ثم يقع هذا في هذا الأسلوب ، فيحل موقعه . انتهى . ) فَيَقُولُواْ (
، أي كل أمّة معذبة : ) هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ ( : أي مؤخرون ، وهذا على جهة
التمني منهم والرغبة حيث لا تنفع الرغبة . ثم رجع لفظ الآية إلى توبيخ قريش على
استعجالهم عذاب الله في طلبهم سقوط السماء كسفاً وغير ذلك ، وقولهم للرسول : أين
ما تعدنا به ؟
وقال الزمخشري : ) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( ، تبكيت لهم بإنكاره وتهكم
، ومعناه : كيف يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب فيه من جنس ، ما هو فيه اليوم من
النظرة والإمهال ؟ طرفة عين فلا يجاب إليها . ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ ،
يوبخون به عند استنظارهم يومئذ ، ويستعجلون هذا على الوجه ، حكاية حال ماضية ووجه
آخر متصل بما بعده ، وذلك أن استعجالهم بالعذاب إما كان لاعتقادهم أنه غير كائن
ولا لاحق بهم ، وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن . فقال عز وعلا : )
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( ؟ أشر أو بطر أو استهزاء واتكالاً على الأمل
الطويل ؟ ثم قال : وهب أن الأمر كما يعتقدون من تمتعهم وتعميرهم ، فإذا لحقهم
الوعيد بعد ذلك ، ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم ؟ انتهى .
وقيل : اتبع قوله : فتأتيهم بغتة بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة . )
فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ ( ، كما يستغيث إليه المرء عند تعذر الخلاص ،
لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجاً ، لكنهم يقولون ذلك استرواحاً . وقيل : يطلبون
الرجعة حين يبغتهم عذاب الساعة ، فلا يجابون إليها .
( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ( : خطاب للرسول عليه السلام بإقامة
الحجة عليهم ، في أن مدة الإرجاء والإمهال والإملاء لا تغني إذا نزل العذاب بعدها
. وقال عكرمة : سنين ، عمر الدنيا . انتهى . وتقرر في علم العربية أن أرأيت إذا
كانت بمعنى أخبرني ، تعدت إلى مفعولين ، أحدهما منصوب والآخر جملة استفهامية . في
الغالب تقول العرب : أرأيت زيداً ما صنع ؟ وما جاء مما ظاهره خلاف ذلك أول ، وتقدم
الكلام على ذلك مشبعاً في أوائل سورة الأنعام . وتقول هنا مفعول أرأيت محذوف ،
لأنه تنازع على ما يوعدون أرأيت وجاءهم ، فأعمل الثاني فهو مرفوع بجاءهم . ويجوز
أن يكون منصوباً بأرأيت على إعمال الأول ، وأضمر الفاعل في جاءهم . والمفعول
الثاني هو قوله : ) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ ( ، وما استفهامية ، أي : أيّ شيء أغنى
عنهم تمتعهم في تلك السنين التي متعوها ؟ وفي الكلام محذوف يتضمن الضمير العائد
على المفعول الأول ، أي : أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم حين حل ، أي الموعود به ، وهو
العذاب ؟ وظاهر ما
" صفحة رقم 42 "
فسر به المفسرون ما أغنى : أن تكون ما نافية ، والاستفهام قد يأتي مضمناً معنى
النفي كقوله : ) هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( ؟ بعد قوله : )
أَرَأَيْتُكُم ( في سورة الأنعام ، أي ما يهلك إلا القوم الظالمون . وجوز أبو
البقاء في ما أن تكون استفهاماً وننافية . وقرىء : يمتعون ، بإسكان الميم وتخفيف
التاء .
ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا وقد أرسل إليها من ينذرها عذاب الله
، إن هي عصت ولم تؤمن ، كما قال تعالى : ) وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً ). وجمع منذرون ، لأن ) مِن قَرْيَةٍ ( عام في القرى الظالمة ،
كأنه قيل : وما أهلكنا القرى الظالمة . والجملة من قوله : ) لَهَا مُنذِرُونَ ( ،
في موضع الحال ) مِن قَرْيَةٍ ( ، والإعراب أن تكون لها في موضع الحال ، وارتفع
منذرون بالمجرور إلا كائناً لها منذرون ، فيكون من مجيء الحال مفرداً لا جملة ،
ومجيء الحال من المنفي كقولك : ما مررت بأحد إلا قائماً ، فصيح . وقال الزمخشري :
فإن قلت : كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ، ولم تعزل عنها في قوله : ) وَمَآ
أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ( ؟ قلت : الأصل عزل
الواو ، لأن الجملة صفة لقرية ، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف ، كما في
قوله : ) سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ). انتهى . ولو قدر نالها منذرون جملة
، لم يجز أن تجيء صفة بعد إلا . ومذهب الجمهور ، أنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة
على أداة الاستثناء نحو : ما جاءني أحد إلا راكب . وإذا سمع مثل هذا ، خرجوه على
البدل ، أي : إلا رجل راكب . ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول : ما مررت
بأحد إلا قائماً ، ولا يحفظ من كلامها : ما مررت بأحد إلا قائم . فلو كانت الجملة
في موضع الصفة للنكرة ، لو رد المفرد بعد إلا صفة لها . فإن كانت الصفة غير معتمدة
على أداة ، جاءت الصفة بعد إلا نحو : ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو ، التقدير
: ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد . وأمّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة
بالموصوف ، فغير معهود في كلام النحويين . لو قلت : جاءني رجل وعاقل ، على أن يكون
وعاقل صفة لرجل ، لم يجز ، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازاً إذا عطف بعضها على
بعض ، وتغاير مدلولها نحو : ) مررت ( بزيد الكريم والشجاع والشاعر . وأما )
سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ( فتقدم الكلام عليه في موضعه .
( وَذِكْرَى ( : منصوب على الحال عند الكسائي ، وعلى المصدر عند الزجاج . فعلى
الحال ، إما أن يقدر ذوي ذكرى ، أو مذكرين . وعلى المصدر ، فالعامل منذرون ، لأنه
في معنى مذكرون ذكرى ، أي تذكرة . وأجاز الزمخشري في ذكرى أن يكون مفعولاً له ،
قال : على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة ، وأن تكون مرفوعة صفة بمعنى
منذرون ذوو ذكرى ، أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها . وأجاز هو
وابن عطية أن تكون مرفوعة على خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى ، والجملة اعتراضية
. قال الزمخشري : ووجه آخر ، وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولاً له ،
والمعنى : وما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعدما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين
إليهم ، لتكون تذكرة وعبرة لغيرهم ، فلا يعصوا مثل عصيانهم . ) وَمَا كُنَّا
ظَالِمِينَ ( ، فنهلك قوماً غير ظالمين ، وهذا الوجه عليه المعول . انتهى . وهذا
لا معوّل عليه ، لأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون
مستثنى ، أو مستثنى منه ، أو تابعاً له غير معتمد على الأداة نحو : ما مررت بأحد
إلا زيد خير من عمرو . والمفعول له ليس واحداً من هذه الثلاثة ، فلا يجوز أن يتعلق
بأهلكنا . ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش ، وإن كانا لم ينصا على
المفعول له بخصوصيته .
( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا
يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلاَ تَدْعُ مَعَ
اللَّهِ إِلَاهاً ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
الاْقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ
عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ
الرَّحِيمِ الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هَلْ أُنَبّئُكُمْ مَن تَنَزَّلُ
الشَّيَاطِينُ
" صفحة رقم 43 "
تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ
كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى
كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ
الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً
وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ
مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ).
كان مشركو قريش يقولون : إن لمحمد تابعاً من الجن يخبره كما يخبر الكهنة ، فنزلت ،
والضمير في ) بِهِ ( يعود على القرآن ، بل ) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ ).
وقرأ الحسن : الشياطون ، وتقدمت في البقرة ، وقد ردها أبو حاتم والقراء ؛ قال أبو
حاتم : هي غلط منه أو عليه . وقال النحاس : هو غلط عند جميع النحويين . وقال
المهدوي : هو غير جائز في العربية . وقال الفراء : غلط الشيخ ، ظن أنها النون التي
على هجائن . فقال النضر بن شميل : إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤية ، فهلا جاز أن
يحتج بقول الحسن وصاحبه ، يريد محمد بن السميفع ، مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ بها
إلا وقد سمعا فيه ؟ وقال يونس بن حبيب : سمعت أعرابياً يقول : دخلت بساتين من
ورائها بساتون ، فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن . انتهى . ووجهت هذه القراءة
بأنه لما كان آخره كآخر يبرين وفلسطين ، فكما أجرى إعراب هذا على النون تارة وعلى
ما قبله تارة فقالوا : يبرين ويبرون وفلسطين وفلسطون ؛ أجرى ذلك في الشياطين
تشبيهاً به فقالوا : الشياطين والشياطون . وقال أبو فيد مؤرج السدوسي : إن كان
اشتقاقه من شاط ، أي احترق ، يشيط شوطة ، كان لقراء تهما وجه . قيل : ووجهها أن
بناء المبالغة منه شياط ، وجمعه الشياطون ، فخففا الياء ، وقد روي عنهما التشديد ،
وقرأ به غيرهما . انتهى . وقرأ الأعمش : الشياطون ، كما قرأه الحسن وابن السميفع .
فهؤلاء الثلاثة من نقلة القرآن ، قرؤوا ذلك ، ولا يمكن أن يقال غلطوا ، لأنهم من
العلم ونقل القرآن بمكان . وما أحسن ما ترتب نفي هذه الجمل ؛ نفى أولاً تنزيل
الشياطين به ، والنفي في الغالب يكون في الممكن ، وإن كان هنا لا يمكن من الشياطين
التنزل بالقرآن ، ثم نفى انبغاء ذلك والصلاحية ، أي ولو فرض الإمكان لم يكونوا
أهلاً له ، ثم نفى قدرتهم على ذلك وأنه مستحيل في حقهم التنزل به ، فارتقى من نفي
الإمكان إلى نفي الصلاحية إلى نفي القدرة والاستطاعة ، وذلك مبالغة مترتبة في نفي
تنزيلهم به ، ثم علل انتفاء ذلك عن استماع كلام أهل السماء مرجومون بالشهب .
ثم قال تعالى : ) فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءاخَرَ ( : والخطاب في
الحقيقة للسامع ، لأنه تعالى قد علم أن ذلك لا يمكن أن يكون من الرسول ( صلى الله
عليه وسلم ) ) ، ولذلك قال المفسرون : المعنى قل يا محمد لمن كفر : لا تدع مع الله
إلهاً آخر . ثم أمره تعالى بإنذار عشيرته ، والعشيرة تحت الفخذ وفوق الفصيلة ،
ونبه على العشيرة ، وإن كان مأموراً بإنذار الناس كافة . كما قال : ) أَنْ أَنذِرِ
النَّاسَ ( ، لأن في إندارهم ، وهم عشيرته ، عدم محاباة ولطف بهم ، وأنهم والناس
في ذلك شرع واحد في التخويف والإنذار . فإذا كانت القرابة قد خوفوا وأنذروا مع ما
يلحق الإنسان في حقهم من الرأفة ، كان غيرهم في ذلك أوكد وأدخل ، أو لأن البداءة
تكون بمن يليه ثم من بعده ، كما قال : ) قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ
الْكُفَّارِ ). وقال عليه الصلاة والسلام حين دخل مكة : ( كل ربا في الجاهلية
موضوع تحت قدميّ هاتين ، فأول ما أضعه ربا العباس ، إذ العشيرة مظنة الطواعية ،
ويمكنه من الغلظة عليهم ما لا يمكنه مع غيرهم ، وهم له أشد احتمالاً ) . وامتثل (
صلى الله عليه وسلم ) ) ما أمره به ربه من إنذار عشيرته ، فنادى الأقرب فالأقرب
فخذاً . وروي عنه في ذلك أحاديث . ) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ ( : تقدم الكلام على هذه الجمل في آخر الحجر ، وهو كناية عن
التواضع . وقال بعض الشعراء : وأنت الشهير بخفض الجناح
فلا تك في رفعه أجدلا
" صفحة رقم 44 "
نهاه عن التكبر بعد التواضع . والأجدل : الصقر ، ومن المؤمنين عام في عشيرته
وغيرهم . ولما كان الإنذار يترتب عليه إما الطاعة وإما العصيان ، جاء التقسيم
عليهما ، فكان المعنى : أن من اتبعك مؤمناً ، فتواضع له ؛ فلذلك جاء قسيمه : )
فَإِنْ عَصَوْكَ ( فتبرأ منهم ومن أعمالهم . وفي هذا موادعة نسختها آية السيف .
والظاهر عود الضمير المرفوع في عصوك ، على أن من أمر بإنذارهم ، وهم العشيرة ،
والذي برىء منه هو عبادتهم الأصنام واتخاذهم إلهاً آخر . وقيل : الضمير يعود على
من اتبعه من المؤمنين ، أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام ، بعد
تصديقك والإيمان بك ، ( فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ ( ، لا منكم ، أي
أظهر عدم رضاك بعملهم وإنكارك عليهم . ولو أمره بالبراءة منهم ، ما بقي بعد هذا
شفيعاً للعصاة ، ثم أمره تعالى بالتوكل . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ،
وشيبة : فتوكل بالفاء ، وباقي السبعة : بالواو . وناسب الوصف بالعزيز ، وهو الذي
لا يغالب ، والرحيم ، وهو الذي يرحمك . وهاتان الصفتان هما اللتان جاءتا في أواخر
قصص هذه السورة . فالتوكل على من هو بهذين الوصفين كافية شر من بعضه من هؤلاء
وغيرهم ، فهو يقهر أعداءك بعزته ، وينصرك عليهم برحمته . والتوكل هو تفويض الأمر
إلى من يملك الأمر ويقدر عليه . ثم وصف بأنه الذي أنت منه بمرأى ، وذلك من رحمته
بك أن أهلك لعبادته ، وما تفعله من تهجدك . وأكثر المفسرين منهم ابن عباس ، على أن
المعنى حين تقوم إلى الصلاة .
وقرأ الجمهور : ) وَتَقَلُّبَكَ ( مضارع قلب مشدداً ، عطفاً على ) يَرَاكَ ). وقال
مجاهد وقتادة : ) فِى السَّاجِدِينَ ( : في المصلين . وقال ابن عباس : في أصلاب
آدم ونوح وإبراهيم حتى خرجت . وقال عكرمة : يراك قائماً وساجداً . وقيل : معنى )
تَقُومُ ( : تخلو بنفسك . وعن مجاهد أيضاً : المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه ،
كما قال : ( أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي ) . وفي الوجيز لابن
عطية : ظاهر الآية أنه يريد قيام الصلاة ، ويحتمل أن يريد سائر التصرفات ، وهو
تأويل مجاهد وقتادة . وفي الساجدين : أي صلاتك مع المصلين ، قاله ابن عباس وعكرمة
وغيرهما . وقال ابن عباس أيضاً ، وقتادة : أراد وتقلبك في المؤمنين ، فعبر عنهم
بالساجدين . وقال ابن جبير : أراد الأنبياء ، أي تقلبك كما تقلب غيرك من الأنبياء
. وقال الزمخشري : ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد ، وتقلبه في
تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه ، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون ، ويستبطن سرائرهم
وكيف يعملون لآخرتهم . كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل ، طاف تلك الليلة
ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون ، بحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات
وتكثير الحسنات ، فوجدها كبيوت الزنابير ، لما سمع من دندنتهم بذكر الله والتلاوة
. والمراد بالساجدين : المصلون . وقيل : معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة
، وتقلبه في الساجدين : تصرفه فيما بينهم لقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم .
وعن مقاتل ، أنه سأل أبا حنيفة رضي الله عنه : هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن
؟ فتلا هذه الآية . ويحتمل أن لا يخفى على حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في
كفاية أمور الدين . انتهى .
( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ( لما تقوله ، ( الْعَلِيمُ ( بما تنوبه وتعمله ، وذهبت
الرافضة إلى أن آباء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) كانوا مؤمنين ، واستدلوا
بقوله تعالى : ) وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ ( قالوا : فاحتمل الوجوه التي
ذكرت ، واحتمل أن
" صفحة رقم 45 "
يكون المراد أنه تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد ، كما نقوله نحن . فإذا احتمل كل
هذه الوجوه ، وجب حمل الآية على الكل ضرورة ، لأنه لا منافاة ولا رجحان . وبقوله
عليه الصلاة والسلام : ( لم أزل أنقل من أصلال الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، وكل
من كان كافراً فهو نجس لقوله تعالى : ) إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( فأما
قوله تعالى : ) وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ ( ، فلفظ الأب قد يطلق
على العم ، كما قالوا أبناء يعقوب له : ) نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ
إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( ، . سموا إسماعيل أباً مع أنه كان عماً
له .
( قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ ( : أي قل يا محمد : هل أخبركم ؟ وهذا استفهام توقيف
وتقرير . وعلى من متعلق بتنزل ، والجملة المتضمنة معنى الاستفهام في موضع نصب
لأنبئكم ، لأنه معلق ، لأنه بمعنى أعلمكم ، فإن قدرتها متعدية لاثنين ، كانت سادة
مسد المفعول الثاني ؛ وإن قدرتها متعدية لثلاثة ، كانت سادة مسد الاثنين .
والاستفهام إذا علق عنه العامل ، لا يبقى على حقيقة الاستفهام وهو الاستعلام ، بل
يؤول معناه إلى الخبر . ألا ترى أن قولك : علمت أزيد في الدار أم عمرو ، كان
المعنى : علمت أحدهما في الدار ؟ فليس المعنى أنه صدر منه علم ، ثم استعلم المخاطب
عن تعيين من في الدار من زيد وعمرو ، فالمعنى هنا : هل أعلمكم من تنزل الشياطين
عليه ؟ لا أنه استعلم المخاطبين عن الشخص الذي تنزل الشياطين عليه .
ولما كان المعنى هذا ، جاء الإخبار بعده بقوله : ) تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ
أَثِيمٍ ( ، كأنه لما قال : هل أخبركم بكذا ؟ قيل له : أخبر ، فقال : ) تَنَزَّلُ
عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ ( ، وهو الكثير الإفك ، وهو الكذب ، أثيم : كثير الإثم .
فأفاك أثيم : صيغتا مبالغة ، والمراد الكهنة . والضمير في ) يُلْقُون ( يحتمل أن
يعود إلى الشياطين ، أي ينصتون ويصغون بأسماعهم ، ليسترقوا شيئاً مما يتكلم به
الملائكة ، حتى ينزلوا بها إلى الكهنة ، أو : ) يُلْقُونَ السَّمْعَ ( : أي
المسموع إلى من يتنزلون عليه . ) وَأَكْثَرُهُمُ ( : أي وأكثر الشياطين الملقين )
كَاذِبُونَ ). فعلى معنى الإنصات يكون استئناف إخبار ، وعلى إلقاء المسموع إلى
الكهنة احتمل الاستئناف ، واحتمل أن يكون حالاً من الشياطين ، أي تنزل على كل أفاك
أثيم ملقين ما سمعوا . ويحتمل أن يعود الضمير في يلقون على كل أفاك أثيم ، وجمع
الضمير ، لأن كل أفاك فيه عموم وتحته أفراد . واحتمل أن يكون المعنى : يلقون سمعهم
إلى الشياطين ، لينقلوا عنهم ما يقررونه في أسماعهم ، وأن يكون يلقون السمع ، أي
المسموع من الشياطين إلى الناس ؛ وأكثرهم ، أي أكثر الكهنة كاذبون . كما جاء أنهم
يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء ، فيخلطون معها مائة كذبة
. فإذا صدقت تلك الكلمة ، كانت سبب ضلالة لمن سمعها . وعلى كون الضمير عائداً على
كل أفاك ، احتمل أن يكون يلقون استئناف إخبار عن الأفاكين ، واحتمل أن يكون صفة
لكل أفاك ، ولا تعارض بين قوله : ) كُلّ أَفَّاكٍ ( ، وبين قوله : )
وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ( ، لأن الأفاك هو الذي يكثر الكذب ، ولا يدل ذلك على
أنه لا ينطق إلا بالإفك ، فالمعنى : أن الأفاكين من صدق منهم فيما يحكى عن الجني ،
فأكثرهم مغتر .
قال الزمخشري : فإن قلت : ) وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ وَمَا
تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ
الشَّيَاطِينُ ( ، لم فرق بينهن وبين إخوان ؟ قلت : أريد التفريق بينهن بآيات ليست
في معناهن ، ليرجع إلى المجيء بهن ، بطريه ذكر ما فيهن كرة بعد كرة ، فيدل بذلك
على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي أسندت كراهة الله لهم ، ومثاله : أن
يحدث الرجل بحديث ، وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية ، فتراه يعيد ذكره ولا
ينفك عن الرجوع إليه . انتهى . ولما ذكر الكهنة بإفكهم الكثير وحالهم المقتضية ،
نفى كلام القرآن ، إذ كان بعض الكفار قال في القرآن : إنه شعر ، كما قالوا في
الرسول : إنه كاهن ، وإن ما أتى به هو من باب الكهانة ، كما قال تعالى : ) وَمَا
هُوَ يِقُولُ كَاهِنٍ ( ، وقال : ) وما هو بقول شاعر ) .
فقال : ) والشعراء يتبعهم الغاوون ). قيل : هي في أمية بن أبي الصلت ، وأبي عزة ،
ومسافع الجمحي ، وهبيرة بن أبي وهب ، وأبي سفيان بن الحرث ، وابن الزبعري . وقد
أسلم ابن الزبعري وأبو سفيان . والشعراء عام يدخل فيه كل شاعر ، والمذموم من يهجو
ويمدح شهوة محرمة ، ويقذف المحصنات ، ويقول الزور وما لا يسوغ شرعاً . وقرأ عيسى :
والشعراء : نصباً على الاشتغال ؛ والجمهور : رفعاً على الابتداء والخبر . وقرأ
السلمي ، والحسن
" صفحة رقم 46 "
بخلاف عنه ، ونافع يتبعهم مخففاً ؛ وباقي السبعة مشدداً ؛ وسكن العين : الحسن ،
وعبد الوارث ، عن أبي عمرو . وروى هارون : نصبها عن بعضهم ، وهو مشكل . )
وَالْغَاوُونَ ( ، قال ابن عباس : الرواة ، وقال أيضاً : المستحسنون لأشعارهم ،
المصاحبون لهم . وقال عكرمة : الرعاع الذين يتبعون الشاعر . وقال مجاهد ، وقتادة :
الشياطين . وقال عطية : السفهاء المشركون يتبعون شعراءهم .
( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ ( : تمثيل لذهابهم في كل شعب
من القول ، واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ، ومجاوزة حد القصد فيه ،
حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة ، وأشجهم علي حاتم ، ويبهتوا البريء ، ويفسقوا
النفي . وقال ابن عباس : هو تقبيحهم الحسن ، وتحسينهم القبيح . ) وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ( ، وذلك لغلوهم في أفانين الكلام ، ولهجهم
بالفصاحة والمعاني اللطيفة ، قد ينسبون لأنفسهم ما لا يقع منهم . وقد درأ الحد في
الخمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن النعمان بن عدي ، في شعر قاله لزوجته حين
احتج عليه بهذه الآية ، وكان قد ولاه بيسان ، فعزله وأراد أن يحده والفرزدق ،
سليمان بن عبد الملك : فبتن كأنهن مصرعات
وبت أفض أغلاق الختام
فقال له سليمان : لقد وجب عليك الحد ، فقال : لقد درأ الله عني الجدّ بقوله : )
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ). أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال
التي تخالف حالا النبوة ، إذ أمرهم ، كما ذكر ، من اتباع الغواة لهم ، وسلوكهم
أفانين الكلام من مدح الشيء وذمه ، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم ، وذلك بخلاف حال
النبوة ، فإنها طريقة واحدة ، لا يتبعها إلا الراشدون . ودعوة الأنبياء واحدة ،
وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته ، والترغيب في الآخرة والصدق . وهذا مع أن ما
جاءوا به لا يمكن أن يجيء به غيرهم من ظهور المعجز . ولما كان ما سبق ذماً للشعراء
، واستثنى منهم من اتصف بالإيمان والعمل الصالح والإكثار من ذكر الله ، وكان ذلك
أغلب عليهم من الشعر ؛ وإذا نظموا شعراً كان في توحيد الله والثناء عليه وعلى
رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وصحبه ، والموعظة والزهد والآداب الحسنة وتسهيل
علم ، وكل ما يسوغ القول فيه شرعاً فلا يتلطخون في قوله بذنب ولا منقصة . والشعر
باب من الكلام ، حسنه حسن ، وقبيحه قبيح .
وقال رجل علوي لعمرو بن عبيد : إن صدري ليجيش بالشعر ، فقال : ما يمنعك منه فيما
لا بأس به . وقيل : المراد بالمستثنين : حسان ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك
، وكعب بن زهير ، ومن كان ينافخ عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقال
عليه السلام لكعب بن مالك : ( اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل ) .
وقال لحسان : ( قل وروح القدس معك ) ، وهذا معنى قوله : ) وَانتَصَرُواْ ( : أي
بالقول فيمن ظلمهم . وقال عطاء بن يسار وغيره : لما ذم الشعراء بقوله : )
وَالشُّعَرَاء ( الآية ، شق ذلك على حسان وابن رواحة وكعب بن مالك ، وذكروا ذلك
للرسول عليه الصلاة والسلام ، فنزلت آية الاستثناء بالمدينة ، وخص ابن زيد قوله :
) وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً ( ، فقال : أي في شعرهم . وقال ابن عباس : صار
خلقاً لهم وعادة ، كما قال لبيد ، حين طلب منه شعرة : إن الله أبدلني بالشعر
القرآن خيراً منه . ولما ذكر : ) وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ( ، توعد
الظالمين هذا التوعد العظيم الهائل الصادع للأكباد وأبهم في قوله : ) أَىَّ مُنقَلَبٍ
يَنقَلِبُونَ ).
ولما عهد أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ، تلا عليه : ) وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ
ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ
" صفحة رقم 47 "
يَنقَلِبُونَ ( ، وكان السلف الصالح يتواعظون بها . والمفهوم من الشريعة أن الذين
ظلموا هم الكفار . وقال الزمخشري : وتفسير الظلم بالكفر تعليل ، وكان ذكر قبل أن
الذين ظلموا مطلق ، وهذا منه على طريق الاعتزال . وقرأ ابن عباس ، وابن أرقم ، عن
الحسن : أي منفلت ينفلتون ، بفاء وتاءين ، معناه : إن الذين ظلموا يطمعون أن
ينفلتوا من عذاب الله ، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات ، وهو النجاة .
) وَسَيَعْلَمْ ( هنا معلقة ، وأي منقلب : استفهام ، والناصب له ينقلبون ، وهو
مصدر . والجملة في موضع المفعول لسيعلم . وقال أبو البقاء : أي منقلب مصدر نعت
لمصدر محذوف ، والعامل ينقلبون انقلاباً ، أي منقلب ، ولا يعمل فيه يعلم ، لأن
الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله . انتهى . وهذا تخليط ، لأن أياً ، إذا وصف بها ،
لم تكن استفهاماً ، بل أي الموصوف بها قسم لأي المستفهم بها ، لا قسم . برأسه فأي
تكون شرطية واستفهامية وموصولة ، ووصفاً على مذهب الأخفش موصوفة بنكرة نحو : مررت
بأي معجب لك ، وتكون مناداة وصلة لنداء ما فيه الألف واللام نحو : يا أيها الرجل .
والأخفش يزعم أن التي في النداء موصولة . ومذهب الجمهور أنها قسم برأسه ، والصفة
تقع حالاً من المعرفة ، فهذه أقسام أي ؛ فإذا قلت : قد علمت أي ضرب تضرب ، فهي
استفهامية ، لا صفة لمصدر محذوف .
" صفحة رقم 48 "
( سورة النمل )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) طستِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُم
بِالاٌّ خِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ
زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَهُمْ
سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ هُمُ الاٌّ خْسَرُونَ وَإِنَّكَ
لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى
لاًّهْلِهِ إِنِّىآنَسْتُ نَاراً سَأاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ ءَاتِيكُمْ
بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ
مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا
رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يامُوسَى
لاَ تَخَفْ إِنِّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ
بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى
جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِى تِسْعِ ءَايَاتٍ إِلَى
فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا
جَآءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ
بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً
وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ
الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ
عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ
الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس
وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ
قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ
ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِىأَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِىأَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ
وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ
فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ
لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاّذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى
بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ
بِه
" صفحة رقم 49 "
وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ
وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا
يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ
يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ
وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ اذْهَب بِّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ
عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنَّىأُلْقِىَ
إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ
ياأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِى فِىأَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى
تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالاٌّ
مْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا
دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً
وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ
بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ
بِمَالٍ فَمَآ ءَاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ ءَاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ
بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ
قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ
قَالَ ياأَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى
مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن
تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِى
عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ
إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ
رَبِّى لِيَبْلُوَنِىأَءَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا
عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِىأَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ
فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ
مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ
اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ
فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ
صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى
وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } )
النمل : ( 1 ) طس تلك آيات . . . . .
الوزع : أصله الكف والمنع ، يقال : وزعه يزعه ، ومنه قول عثمان رضي الله عنه : (
ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن ، وقول الحسن : لا بد للقاضي من وزعة ، وقول
الشاعر : ومن لم يزعه لبه وحياؤه
فليس له من شيب فوديه وازع
" صفحة رقم 50 "
النمل : جنس ، واحدة نملة ، ويقال بضم الميم فيهما ، وبضم النون مع ضم الميم ،
وسمي بذلك لكثرة تنمله ، وهو حركته . الحطم : الكسر ، قاله النحاس . التبسم :
ابتداء الضحك ، وتفعل فيه بمعنى المجرد ، وهو بسم . قال الشاعر : وتبسم عن ألمي
كان منوّرا
تخلل حر الرمل دعص له ند
وقال آخر :
أبدى نواجذه لغير تبسم
التفقد : طلب ما فقدته وغاب عنك . الهدهد : طائر معروف ، وتصغيره على القياس هديهد
، وزعم بعضهم أن ياءه أبدلت ألفاً في التصغير ، فقيل : هداهد . قال الشاعر :
كهداهد كسر الرماة جناحه
كما قالوا : دوابة وشوابة ، يريدون : دويبة وشويبة . سبأ : هو سبأ بن يشجب بن يعرب
بن قحطان ، وهو يصرف ولا يصرف إذا صار اسماً للحي والقبيلة ، أو البقعة التي تسمى
مأرب سميت باسم الرجل . الخبء : الشيء المخبوء ، من خبأت الشيء خبأ بسترته ، وسمي
المفعول بالمصدر . الهدية : ما سيق إلى الإنسان مما يتحف به على سبيل التكرمة .
العفريت والعفر والعفرتة والعفارتة من الرجال : الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه ،
ومن الشياطين : الخبيث المارد . قال الشاعر : كأنه كوكب في إثر عفرية
مصوب في سواد الليل منقضب
الصرح : القصر ، أو صحن الدار ، أو ساحتها ، أو البركة ، أو البلاط المتخذ من
القوارير ، أقوال تأتي في التفسير . الساق : معروف ، يجمع على أسوق في القلة ،
وعلى سووق وسوق في الكثرة ، وهمزة لغة : الممرد : المملس ، ومنه الأمرد ، وشجرة
مرداء : لا ورق عليها . القوارير : جمع قارورة .
( طس تِلْكَ ءايَاتُ الْقُرْءانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُم
بِالاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ
زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ
سُوء الْعَذَابِ وَهُمْ فِى الاْخِرَةِ هُمُ الاْخْسَرُونَ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى
الْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لاِهْلِهِ إِنّى
آنَسْتُ نَاراً سَئَاتِيكُمْ مّنْهَا بِخَيْرٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لاِهْلِهِ إِنّى
آنَسْتُ فَلَمَّا جَاءهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا
وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ الْعَالَمِينَ يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا
اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ
كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنّى
لاَ يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً
بَعْدَ سُوء فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ
بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء فِى تِسْعِ ءايَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ).
" صفحة رقم 51 "
هذه السورة مكية بلا خلاف . ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها واضحة ، لأنه قال :
) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ( ، وقبله : ) وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ
الْعَالَمِينَ ( ، وقال هنا : ) طس تِلْكَ ءايَاتُ الْقُرْءانِ ( : أي الذي هو
تنزيل رب العالمين . وأضاف الآيات إلى القرآن والكتاب المبين على سبيل التفخيم لها
والتعظيم ، لأن المضاف إلى العظيم عظيم . والكتاب المبين ، إما اللوح ، وإبانته أن
قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين ، وإما السورة ، وإما القرآن ،
وإبانتهما أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع . وأن إعجازهما ظاهر
مكشوف ونكر . ) وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( ، ليبهم بالتنكير ، فيكون أفخم له كقوله : )
فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ). وإذا أريد به القرآن ، فعطفه من عطف إحدى الصفتين على
الأخرى ، لتغايرهما في المدلول عليه بالصفة ، من حيث أن مدلول القرآن الاجتماع ،
ومدلول كتاب الكتابة . وقيل : القرآن والكتاب اسمان علمان على المنزل على محمد (
صلى الله عليه وسلم ) ) ، فحيث جاء بلفظ التعريف ، فهو العلم ، وحيث جاء بوصف
النكرة ، فهو الوصف ، وقيل : هما يجريان مجرى العباس ، وعباس فهو في الحالين اسم
العلم . انتهى . وهذا خطأ ، إذ لو كان حاله نزع منه علماً ، ما جاز أن يوصف
بالنكرة . ألا ترى إلى قوله : ) وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( ، ( الرَ تِلْكَ ( ، وأنت لا
تقول : مررت بعباس قائم ، تريد به الوصف ؟ وقرأ ابن أبي عبلة : وكتاب مبين ،
برفعهما ، التقدير : وآيات كتاب ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، فأعرب
بإعرابه . وهنا تقدم القرآن على الكتاب ، وفي الحجر عكسه ، ولا يظهر فرق ، وهذا
كالمعاطفين في نحو : ما جاء زيد وعمرو . فتارة يظهر ترجيح كقوله : ) شَهِدَ
اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ (
، وتارة لا يظهر كقوله : ) وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا ).
قال يحيى بن سلام : ) هُدًى ( إلى الجنة ، ( وَبُشْرَى ( بالثواب . وقال الشعبي :
هدى من الضلال ، وبشرى بالجنة ، وهدى وبشرى مقصوران ، فاحتمل أن يكونا منصوبين على
الحال ، أي هادية ومبشرة . قيل : والعامل في الحال ما في تلك من معنى الإشارة ، واحتمل
أن يكونا مصدرين ، واحتملا الرفع على إضمار مبتدأ . أي هي هدى وبشرى ؛ أو على
البدل من آيات ؛ أو على خبر بعد خبر ، أي جمعت بين كونها آيات وهدى وبشرى . ومعنى
كونها هدى للمؤمنين : زيادة هداهم . قال تعالى : ) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ
فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ). وقيل : هدى لجميع الخلق ، ويكون الهدى بمعنى الدلالة
والإرشاد والتبيين ، لا بمعنى تحصيل الهدى الذي هو مقابل الضلال . ) وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ ( خاصة ، وقيل : هدى للمؤمنين وبشرى للمؤمنين ، وخصهم بالذكر
لانتفاعهم به .
( وَهُم بِالاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( : تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة على
صلة ) الَّذِينَ ). ولما كان : ) يُقِيمُونَ الصَّلواةَ وَيُؤْتُونَ ( مما يتجدد
ولا يستغرق الأزمان ، جاءت الصلة فعلاً . ولما كان الإيمان بالآخرة بما هو ثابت
عندهم مستقر الديمومة ، جاءت الجملة اسمية ، وأكدت المسند إليه فيها بتكراره ،
فقيل : ) وَبِالأْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( وجاء خبر المبتدأ فعلاً ليدل على
الديمومة ، واحتمل أن تكون الجملة استئناف إخبار . قال الزمخشري : ويحتمل أن تتم
الصلة عنده ، أي عند قوله : ) وَهُمْ ( ، قال : وتكون الجملة اعتراضية ، كأنه قيل
: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون
بالآخرة ، وهو الوجه ، ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو
هم ، حتى صار معناها : وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين
الإيمان والعمل الصالح ، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق . انتهى . وقوله
: وتكون الجملة اعتراضية ، هو على غير اصطلاح النحاة في الجملة الاعتراضية من
كونها لا تقع إلا بين شيئين متعلق بعضهما ببعض ، كوقوعها بين صلة موصول ، وبين
جزأي إسناد ، وبين شرط وجزائه ، وبين نعت ومنعوت ، وبين
" صفحة رقم 52 "
قسم ومقسم عليه ، وهنا ليست واقعة بين شيئين مما ذكر وقوله الخ . حتى صار معناها
فيه دسيسة الاعتزال . وقال ابن عطية : والزكاة هنا يحتمل أن تكون غير المفروضة ؛
لأن السورة مكية قديمة ، ويحتمل أن تكون المفروضة من غير تفسير . وقيل : الزكاة
هنا بمعنى الطهارة من النقائص وملازمة مكارم الأخلاق . انتهى .
ولما ذكر تعالى المؤمنين الموقنين بالبعث ، ذكر المنكرين والإشارة إلى قريش ومن
جرى مجراهم في إنكار البعث . والأعمال ، إما أن تكون أعمال الخير والتوحيد التي
كان الواجب عليهم أن تكون أعمالهم ، فعموا عنها وتردّدوا وتجيزوا ، وينسب هذا
القول إلى الحسن البصري ؛ أو أعمال الكفر والضلال ، فيكون تعالى قد حبب ذلك إليهم
وزينه بأن خلقه في نفوسهم ، فرأوا تلك الأعمال القبيحة حسنة . وقال الزمخشري : فإن
قلت : كيف أسند تزين أعمالهم إلى ذاته ، وأسنده إلى الشيطان في قوله : ) وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ( ؟ قلت : بين الإسنادين فرق ، وذلك أن إسناده
إلى الشيطان حقيقة ، وإسناده إلى الله تعالى مجاز ، وله طريقان في علم البيان :
أحدهما : أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة . والثاني : أن يكون من المجاز
المحكي .
فالطريق الأول : أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق ، وجعلوا إنعام الله عليهم
بذلك وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الترفه ونفارهم عما
يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة ، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم ، وإليه
إشارة الملائكة بقولهم : ) وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ
الذّكْرَ ). ) والطريق الثاني ( : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة
ظاهرة للتزيين فأسند إليه ، لأنه المختار المحكي ببعض الملابسات . انتهى ، وهو
تأويل على طريق الاعتزال .
( وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أُوْلَائِكَ ( : إشارة إلى منكري البعث ، و ) سُوء
الْعَذَابِ ( : الظاهر أنه ليس مقيداً بالدنيا ، بل لهم ذلك في الدنيا والآخرة .
وقيل : المعنى في الدنيا ، وفسر بما نالهم يوم بدر من القتل والأسر والنهب . وقيل
: ما ينالونه عند الموت وما بعده من عذاب القبر . وسوء العذاب : شدته وعظمه .
والظاهر أن ) الاْخْسَرُونَ ( أفعل التفضيل ، وذلك أن الكافر خسر الدنيا والآخرة ،
كما أخبر عنه تعالى ، وهو في الآخرة أكثر خسراناً ، إذ مآله إلى عقاب دائم . وأما
في الدنيا ، فإذا أصابه بلاء ، فقد يزول عنه وينكشف . فكثرة الخسران وزيادته ،
إنما ذلك له في الآخرة ، وقد ترتب الأكثرية ، وإن كان المسند إليه واحداً بالنسبة
إلى الزمان والمكان ، أو الهيئة ، أو غير ذلك مما يقبل الزيادة . وقال الكرماني :
أفعل هنا للمبالغة لا للشركة ، كأنه يقول : ليس للمؤمن خسران ألبتة حتى يشركه فيه
الكافر ويزيد عليه ، وقد بينا كيفية الاشتراك بالنسبة إلى الدنيا والآخرة . وقال
ابن عطية : والأخسرون جمع أخسر ، لأن أفعل صفة لا يجمع إلا أن يضاف ، فتقوى رتبته
في الأسماء ، وفي هذا نظر . انتهى . ولا نظر في كونه يجمع جمع سلامة وجمع تكسير .
إذا كان بأل ، بل لا يجوز فيه إلا ذلك ، إذا كان قبله ما يطابقه في الجمعية فيقول
: الزيدون هم الأفضلون ، والأفاضل ، والهندات هنّ الفضليات والفضل . وأما قوله :
لا يجمع إلا أن يضاف ، فلا يتعين إذ ذاك جمعه ، بل إذا أضيف إلى نكرة فلا يجوز
جمعه ، وإن أضيف إلى معرفة جاز فيه الجمع والإفراد على ما قرر ذلك في كتب النحو .
ولما تقدم : ) تِلْكَ ءايَاتُ الْقُرْءانِ ( ، خاطب نبيه بقوله : ) وَأَنَّكَ ( ،
أي هذا القرآن الذي تلقيته هو من عند الله تعالى ، وهو الحكيم العليم ، لا كما
ادعاه المشركون من أنه إفك وأساطير وكهانة وشعر ، وغير ذلك من تقوّلاتهم . وبنى
" صفحة رقم 53 "
الفعل للمفعول ، وحذف الفاعل ، وهو جبريل عليه السلام ، للدلالة عليه في قوله : )
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ ). ولقي يتعدى إلى واحد ، والتضعيف فيه للتعدية ،
فيعدى به إلى اثنين ، وكأنه كان غائباً عنه فلقيه فتلقاه . قال ابن عطية : ومعناه
يعطي ، كما قال : ) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ ). وقال الحسن :
المعنى وإنك لتقبل القرآن . وقيل : معناه تلقن . والحكمة : العلم بالأمور العملية
، والعلم أعم منه ، لأنه يكون عملياً ونظرياً ، وكمال العلم : تعلقه بكل المعلومات
وبقاؤه مصوناً عن كل التغيرات ، ولا يكون ذلك إلا لله تعالى . وهذه الآية تمهيد
لما يخبر به من المغيبات وبيان قصص الأمم الخالية ، مما يدل على تلقيه ذلك من جهة
الله ، وإعلامه بلطيف حكمته دقيق علمه تعالى . قيل : وانتصب ) إِذْ ( باذكر مضمرة
، أو بعليم ؛ وليس انتصابه بعليم واضحاً ، إذ يصير الوصف مقيداً بالمعمول .
وقد تقدم طرف من قصة موسى عليه السلام في رحلته بأهله من مدين : في سورة طه ،
وظاهر أهله جمع لقوله : ) سَئَاتِيكُمْ ( و ) تَصْطَلُونَ ( ، وروي أنه لم يكن معه
غير امرأته . وقيل : كانت ولدت له ، وهو عند شعيب ، ولداً ، فكان مع أمه . فإن صح
هذا النقل ، كان من باب خطاب الجمع على سبيل الإكرام والتعظيم . وكان الطريق قد
اشتبه عليه ، والوقت بارد ، والسير في ليل ، فتشوقت نفسه ، إذ رأى النار إلى زوال
ما لحق من إضلال الطريق وشدة البرد فقال : ) إِذْ قَالَ بِخَيْرٍ ( : أي من موقدها
بخبر يدل على الطريق ، ( إِذْ قَالَ مُوسَى لاِهْلِهِ ( : أي إن لم يكن هناك من
يخبر ، فإني أستصحب ما تدفؤون به منها . وهذا الترديد بأو ظاهر ، لأنه كان مطلوبه
أولاً أن يلقي على النار من يخبره بالطريق ، فإنه مسافر ليس بمقيم . فإن لم يكن
أحد ، فهو مقيم ، فيحتاجون لدفع ضرر البرد ، وهو أن يأتيهم بما يصطلون ، فليس
محتاجاً للشيئين معاً ، بل لأحدهما الخبر إن وجد من يخبره فيرحل ، أو الاصطلاء إن
لم يجد وأقام . فمقصوده إما هداية الطريق ، وإما اقتباس النار ، وهو معنى قوله : )
لَّعَلّى اتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ).
وجاء هنا : ) إِذْ قَالَ مُوسَى ( ، وهو خبر ، وفي طه : ) لَّعَلّى اتِيكُمْ
مّنْهَا بِقَبَسٍ ( ، وفي القصص : ) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى بِخَيْرٍ ( ، وهو ترج ،
ومعنى الترجي مخالف لمعنى الخبر . ولكن الرجاء إذا قوي ، جاز للراجي أن يخبر بذلك ،
وإن كانت الخيبة يجوز أن تقع . وأتى بسين الاستقبال ، إما لأن المسافة كانت بعيدة
، وإما لأنه قد يمكن أن تبطىء لما قدر أنه قد يعرض له ما يبطئه . والشهاب : الشعلة
، والقبس : النار المقبوسة ، فعل بمعنى مفعول ، وهو القطعة من النار في عود أو
غيره ، وتقدم ذلك في طه . وقرأ الكوفيون : بشهاب منوناً ، فقبس بدل أو صفة ، لأنه
بمعنى المقبوس . وقرأ باقي السبعة : بالإضافة ، وهي قراءة الحسن . قال الزمخشري :
أضاف الشهاب إلى القبس ، ، واتبع في ذلك أبا الحسن . قال أبو الحسن : الإضافة أجود
وأكثر في القراءة ، كما تقول : دار آجر ، وسوار ذهب . والظاهر أن الضمير في )
جَاءهَا ( عائد على النار ، وقيل : على الشجرة ، وكان قد رآها في شجرة سمر . وقيل
: عليق ، وهي لا تحرقها ، كلما قرب منها بعدت . و ) نُودِىَ ( المفعول الذي لم يسم
فاعله ، الظاهر أنه ضمير عائد على موسى عليه السلام . و ) ءانٍ ( على هذا يجوز أن
تكون مفسرة لوجود شرط المفسرة فيها ، ويجوز أن تكون مصدرية . أما الثنائية التي
تنصب المضارع ، وبورك صلة لها ، والأصل حرف الجر ، أي بأن بورك ، وبورك خبر . وأما
المخففة من الثقيلة فأصلها حرف الجر . وقال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن تكون المخففة
من الثقيلة ، وتقديره بأنه بورك ، والضمير ضمير الشأن والقصة ؟ قلت : لا ، لأنه لا
بد من قد . فإن قلت : فعلى إضمارها ؟ قلت : لا يصح ، لأنها علامة ولا تحذف . انتهى
. ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، وبورك فعل دعاء ، كما تقول : بارك الله فيك
. وإذا كان دعاء ، لم يجز دخول قد عليه ، فيكون كقوله تعالى : ) وَالْخَامِسَةَ
أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا ( في قراءة من جعله فعلاً ماضياً ، وكقول العرب :
إما أن جزاك الله خيراً ، وإما أن يغفر الله لك ، وكان الزمخشري بنى ذلك على ) أَن
بُورِكَ ( خبر لا دعاء ، فلذلك لم يجز أن تكون مخففة من الثقيلة ، وأجاز
" صفحة رقم 54 "
الزجاج أن تكون ) أَن بُورِكَ ( في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو على
إسقاط الخافض ، أي نودي بأن بورك ، كما تقول : نودي بالرخص . ويجوز أن تكون أن
الثنائية ، أو المخففة من الثقيلة ، فيكون بورك دعاء . وقيل : المفعول الذي لم يسم
فاعله هو ضمير النداء ، أي نودي هو ، أي النداء ، ثم فسر بما بعده . وبورك معناه :
قدّس وطهر وزيد خيره ، ويقال : باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك .
وقال الشاعر : فبوركت مولوداً وبوركت ناشئا
وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
وقال آخر :
بورك الميت الغريب كما
بورك نبع الرمان والزيتون
وقال عبد الله بن الزبير :
فبورك في بنيك وفي بنيهم
إذا ذكروا ونحن لك الفداء
و ) مِنْ ( : المشهور أنها لمن يعلم ، فقال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن وغيرهم
: أراد تعالى بمن في النار ذاته ، وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة بالنسبة إلى
الله تعالى . وإذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف ، أي بورك من قدرته
وسلطانه في النار . وقيل لموسى عليه السلام : أي بورك من في المكان أو الجهة التي
لاح له فيه النار . وقال السدّي : من للملائكة الموكلين بها . وقيل : من تقع هنا
على ما لا يعقل . فقال ابن عباس : أراد النور . وقيل : الشجرة التي تتقد فيها
النار . وقيل : والظاهر في ) وَمَنْ حَوْلَهَا ( أنه لمن يعلم تفسير ) حَدِيثُ
مُوسَى ( ، وفسر بالملائكة ، ويدل عليه قراءة أبي ؛ فيما نقل أبو عمرو الداني :
وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ؛ ومن حولها من الملائكة ، وتحمل هذه القراءة على
التفسير ، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، وفسر أيضاً بموسى والملائكة
عليهم السلام معاً . وقيل : تكون لما لا يعقل ، وفسر بالأمكنة التي حول النار ؛
وجدير أن يبارك من فيها ومن حواليها إذا حدث أمر عظيم ، وهو تكليم الله لموسى عليه
السلام ؛ وتنبيئه وبدؤه بالنداء بالبركة تبشير لموسى وتأنيس له ومقدمة لمناجاته .
والظاهر أن قوله : ) وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( داخل تحت قوله : )
نُودِىَ ). أي لما نودي ببركة من ذكر ، نودي أيضاً بما يدل على التنزيه والبراءة
من صفات المحدثين مما عسى أن يخطر ببال ، ولا سيما إن حمل من في النار على تفسير
ابن عباس أن من أريد به الله تعالى ، فإن ذلك دال على التحيز ، فأتى بما يقتضي
التنزيه . وقال السدّي : هو من كلام موسى ، لما سمع النداء قال : ) وَسُبْحَانَ اللَّهِ
رَبّ الْعَالَمِينَ ( تنزيهاً لله تعالى عن سمات المحدثين . وقال ابن شجرة : هو من
كلام الله ، ومعناه : وبورك من سبح الله ، وهذا بعيد من دلالة اللفظ . وقيل : )
وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( خطاب لمحمد عليه لصلاة والسلام ، وهو
اعتراض بين الكلامين ، والمقصود به التنزيه .
ولما آنسه تعالى ، ناداه وأقبل عليه
" صفحة رقم 55 "
فقال : ) يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). والظاهر أن
الضمير في إنه ضمير الشأن ، وأنا الله : جملة في موضع الخبر ، والعزيز الحكيم :
صفتان ، وأجاز الزمخشري أن يكون الضمير في إنه راجعاً إلى ما دل عليه ما قبله ،
يعني : إن مكلمك أنا ، والله بيان لأنا ، والعزيز الحكيم صفتان للبيان . انتهى .
وإذا حذف الفاعل وبني الفعل مفعول ، فلا يجوز أن يعود على الضمير على ذلك المحذوف
، إذ قد غير الفعل عن بنائه له ، وعزم على أن لا يكون محدثاً عنه . فعود الضمير
إليه مما ينافي ذلك ، إذ يصير مقصوداً معتنى به ، وهذا النداء والإقبال والمخاطبة
تمهيد لما أراد الله تعالى أن يظهره على يده من المعجز ، أي أنا القوي القادر على
ما يبعد في الأوهام ، الفاعل ما أفعله بالحكمة . وقال الزمخشري : فإن قلت : علام
عطف قوله : ) وَأَلْقِ عَصَاكَ ( ؟ قلت : على بورك ، لأن المعنى : ) نُودِىَ أَن
بُورِكَ مَن فِى النَّارِ ). وقيل له : ألق عصاك ، والدليل على ذلك قوله : )
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ( ، بعد قوله : ) أَن ياإِبْراهِيمُ مُوسَى إِنّى أَنَا
اللَّهُ ( ، على تكرير حرف التفسير ، كما تقول : كتبت إليه أن حج واعتمر ، وإن شئت
أن حج وأن اعتمر . انتهى . وقوله : ) أَنَّهُ ( ، معطوف على بورك مناف لتقديره .
وقيل له : ألق عصاك ، لأن هذه جملة معطوفة على بورك ، وليس جزؤها الذي هو . وقيل :
معطوفاً على بورك ، وإنما احتيج إلى تقدير . وقيل له : ألق عصاك ، لتكون الجملة
خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها ، كأنه يرى في العطف تناسب
المتعاطفين ، والصحيح أنه لا يشترط ذلك ، بل قوله : ) وَأَلْقِ عَصَاكَ ( معطوف
على قوله : ) إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ، عطف جملة الأمر على
جملة الخبر . وقد أجاز سيبويه : جاء زيد ومن عمرو .
( فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ ( : ثم محذوف تقديره : فألقاها من يده . وقرأ الحسن
، والزهري ، وعمرو بن عبيد : جأن ، بهمزة مكان الألف ، كأنه فر من التقاء الساكنين
؛ وقد تقدم الكلام في نحو ذلك في قوله : ولا الضألين ، بالهمز في قراءة عمرو بن
عبيد . وجاء : ) فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ ( ، ( فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ( ،
وهذا إخبار من الله بانقلابها وتغيير أوصافها وإعراضها ، وليس إعداماً لذاتها
وخلقها لحية وثعبان ، بل ذلك من تغيير الصفات لا تغيير الذات . وهنا شبهها حالة
اهتزازها بالجان ، فقيل : وهو صغار الحيات ، شبهها بها في سرعة اضطرابها وحركتها ،
مع عظم جثتها . ولما رأى موسى هذا الأمر الهائل ، ( وَلِيُّ مُدْبِراً وَلَمْ
يُعَقّبْ ). قال مجاهد : ولم يرجع . وقال السدّي : لم يمكث . وقال قتادة : ولم يلتفت
، يقال : عقب الرجل : توجه إلى شيء كان ولى عنه ، كأنه انصرف على عقبيه ، ومنه :
عقب المقاتل ، إذا كر بعد الفرار . قال الشاعر : فما عقبوا إذ قيل هل من معقب
ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
ولحقه ما لحق طبع البشرية إذا رأى الإنسان أمراً هائلاً جداً ، وهو رؤية انقلاب
العصا حية تسعى ، ولم يتقدمه في ذلك تطمين إليه عند رؤيتها . قال الزمخشري : وإنما
رغب لظنه أن ذلك لأمرٍ أريد به ، ويدل عليه : ) إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ
الْمُرْسَلُونَ ). انتهى . وقال ابن عطية : وناداه الله تعالى مؤنساً ومقوياً على
الأمر : ) خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ ( ، فإن رسلي الذين اصطفيتم للنبوة لا
يخافون غيري . فأخذ موسى عليه السلام الحية ، فرجعت عصا ، ثم صارت له عادة . انتهى
. وقيل : لّالمعنى لا يخاف المرسلون في الموضع الذي يوحى إليهم فيه ، وهم أخوف
الناس من الله . وقيل : إذا أمرتهم بإظهار معجز ، فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق
بإظهار ذلك ، فالمرسل يخاف الله لا محالة . انتهى .
والأظهر أن قوله : ) إَلاَّ مَن ظَلَمَ ( ، استثناء منقطع ، والمعنى : لكن من ظلم
غيرهم ، قاله الفراء وجماعة ، إذ الأنبياء معصومون من وقوع الظلم الواقع من غيرهم
. وعن الفراء : إنه استثناء متصل من جمل محذوفة ، والتقدير : وإنما يخاف غيرهم إلا
من ظلم . ورده النحاس وقال : الاستثناء من محذوف محال ، لو
" صفحة رقم 56 "
جاز هذا لجاز أن لا يضرب القوم إلا زيداً ، بمعنى : وإنما أضرب غيرهم إلا زيداً ،
وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه . انتهى . وقالت فرقة : إلا بمعنى الواو
، والتقدير : ولا من ظلم ، وهذا ليس بشيء ، لأن معنى إلا مباين لمعنى الواو مباينة
كثيرة ، إذ الواو للإدخال ، وإلا للإخراج ، فلا يمكن وقوع أحدهما موقع الآخر .
وروي عن الحسن ، ومقاتل ، وابن جريج ، والضحاك ، ما يقتضي أنه استثناء متصل .
قال ابن عطية : وأجمع العلماء على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من
الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل ، واختلف فيما عداها ، فعسى أن يشير الحسن وابن
جريج إلى ما عدا ذلك . انتهى . وقال الزمخشري : وإلا بمعنى لكن ، لأنه لما أطلق
نفي الخوف عن المرسل كان ذلك مظنة لطرو الشبهة فاستدرك ذلك ، والمعنى : ولكن من
ظلم منهم ، أي فرطت منهم صغيرة مما لا يجوز على الأنبياء ، كالذي فرط من آدم ويونس
وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى ، بوكزة القبطي . ويوشك أن يقصد بهذا التعريض
ما وجد من موسى ، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها ، وسماه ظلماً ؛ كما قال موسى
: ) رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى ). انتهى . وقرأ أبو جعفر ، وزيد
بن أسلم : ألا من ظلم ، بفتح الهمزة وتخفيف اللام ، حرف استفتاح . ومن : شرطية .
والحسن : حسن التوبة ، والسوء : الظلم الذي ارتكبه . وقرأ الجمهور : حسناً ، بضم
الحاء وإسكان السين منوناً . وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني : كذلك ، إلا أنه لم
ينون ، جعله فعلى ، فامتنع الصرف ؛ وابن مقسم : بضم الحاء والسين منوناً . ومجاهد
، وأبو حيوة ، وابن أبي ليلى ، والأعمش ، وأبو عمرو في رواية الجعفي ، وأبو زيد ،
وعصمة ، وعبد الوارث ، وهارون ، وعياش : بفتحهما منوناً .
( وَأُدْخِلَ ( : أمر بما يترتب عليه من ظهور المعجز العظيم ، لما أظهر له معجزاً
في غيره ، وهو العصا ، أظهر له معجزاً في نفسه ، وهو تلألؤ يده كأنها قطعة نور ،
إذا فعل ما أمر به . وجواب الأمر الظاهر أنه تخرج ، لأن خروجها مترتب على إدخالها
. وقيل : في الكلام حذف تقديره : وأدخل يدك في جيبك تدخل ، وأخرجها تخرج ، فحذف من
الأول ما أثبت مقابله في الثاني ، ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول . قال قتادة
: ) فِى جَيْبِكَ ( : قميصك ، كانت له مدرعة من صوف لا كمين لها . وقال ابن عباس ،
ومجاهد : كان كمها إلى بعض يده . وقال السدي : في جيبك : أي تحت إبطك . والظاهر أن
قوله : ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ ( متعلق بمحذوف تقديره : اذهب
بهاتين الآيتين : ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ ( ، ويدل عليه قوله
بعد : ) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءايَاتُنَا مُبْصِرَةً ( ، وهذا الحذف مثل قوله :
أتوا ناري فقلت منون أنتم
فقالوا الجن قلت عموا ظلاماً
وقلت إلى الطعام فقال منهم
فريق يحسد الإنس الطعاما
التقدير : هلموا إلى الطعام . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : وألق عصاك ،
وأدخل يدك ، في ) تِسْعِ ءايَاتٍ ( ، أي في جملة تسع آيات . ولقائل أن يقول : كانت
الآيات إحدى عشرة ، ثنتان منها : اليد والعصا ، والتسع : الفلق ، والطوفان ،
والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمسة ، والجذب في بواديهم ، والنقصان من
مزارعهم . انتهى . فعلى الأول يكون العصا واليد داخلتين في التسع ، وعلى الثاني
تكون في بمعنى مع ، أي مع تسع آيات . وقال ابن عطية : ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى (
متصل بقوله : ) أَلْقِ وَأُدْخِلَ ( ، وفيه اقتضاب وحذف تقديره : نمهد ذلك وتيسر
لك في جملة تسع آيات وهي : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ،
والضفادع ، والدم ، والطمس ، والحجر ؛ وفي هذين الأخيرين اختلاف ، والمعنى : يجيء
بهنّ إلى فرعون وقومه . وقال الزجاج : في تسع آيات ، أي من تسع آيات ، كما تقول :
خذ ) لِى ( عشراً من الإبل فيها فحلان ، أي منها إلى فرعون ، أي مرسلاً إلى فرعون
. انتهى . وانتصب ) مُبْصِرَةً ( على الحال ، أي بينة واضحة ، ونسب الإبصار إليها
على
" صفحة رقم 57 "
سبيل المجاز ، لما كان يبصر بها جعلت مبصرة ، أو لما كان معها الإبصار والوضوح .
وقيل : لجعلهم بصراء ، من قولل : أبصرته المتعدية بهمزة النقل من بصر . وقيل :
فاعل بمعنى مفعول ، كماء دافق . وقرأ قتادة ، وعلي بن الحسين : مبصرة ، بفتح الميم
والصاد ، وهو مصدر ، كما تقول : الولد مجبنة ، وأقيم مقام الاسم ، وانتصب أيضاً
على الحال ، وكثر هذا الوزن في صفات الأماكن نحو : أرض مسبعة ، ومكان مضنية . قال الزمخشري
: أي مكاناً يكثر فيه التبصر . انتهى . والأبلغ في : ) وَاسْتَيْقَنَتْهَا ( أن
تكون الواو واو الحال ، أي كفروا بها وأنكروها في الظاهر ، وقد استيقنت أنفسهم في
الباطن أنها آيات من عند الله ، وكابروا وسموها سحراً . وقال تعالى ، حكاية عن
موسى في محاورته لفرعون : ) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بَصَائِرَ ). ) ظُلْماً ( : مجاوزة الحد ، (
وَعُلُوّاً ( : ارتفاعاً وتكبراً عن الإيمان ، وانتصبا على أنهما مصدران في موضع
الحال ، أي ظالمين عالين ؛ أو مفعولان من أجلهما ، أي لظلمهم وعلوهم ، أي الحامل
لهم على الإنكار والجحود ، مع استيقان أنها آيات من عند الله هو الظلم والعلو .
واستفعل هنا بمعنى تفعل نحو : استكبر في معنى تكبر . وقرأ عبد الله ، وابن وثاب ،
والأعمش ، وطلحة ، وأبان بن تغلب ، وعلياً : تقلب الواو ياء ، وكسر العين واللام ،
وأصله فعول ، لكنهم كسروا العين اتباعاً ؛ وروي ضمها عن ابن وثاب والأعمش وطلحة ،
وتقدم الخلاف في كفر العناد ، هل يجوز أن يقع أم لا ؟ والعاقبة : ما آل إليه قوم
فرعون من سوء المنقلب ، وما أعد لهم في الآخرة أشد ، وفي هذا تمثيل لكفار قريش ،
إذ كانوا مفسدين مستعلين ، وتحذيرهم أن يحل بهم مثل ما حل بمن كان قبلهم .
( وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ
سُلَيْمَانُ دَاوُودُ وَقَالَ يأَبَتِ أَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ
الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ
وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ
يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ
يأَيُّهَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ
سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مّن
قَوْلِهَا وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ
عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ).
هذا ابتداء قصص وأخبار بمغيبات وعبر ونكر . ) عِلْمًا ( لأنه طائفة من العلم .
وقال قتادة : علماً : فهماً . وقال مقاتل : علماً بالقضاء . وقال ابن عطاء : علماً
بالله تعالى . وقال الزمخشري : أو علماً سنياً عزيزاً . ) وَقَالاَ ( قال : فإن
قلت : أليس هذا موضع الفاء دون الواو ، كقولك : أعطيته فشكر ومنعته فصبر ؟ قلت :
بلى ، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من
مواجبه ، فأضمر ذلك ، ثم عطف عليه التحميد ، كأنه قال : ولقد آتيناهما علماً ،
فعملا به وعلماه ، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة ، ( وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ (
، والكثير المفضل عليه من لم يؤت علماً ، أو من يؤت مثل علمهما ، وفي الآية دليل
على شرف العلم . انتهى . والموروث : الملك والنبوّة ، بمعنى : صار ذلك إليه بعد
موت أبيه فسمي ميراثاً تجوزاً ، كما قيل : العلماء ورثة الأنبياء . وحقيقة الميراث
في المال والأنبياء لا نورث مالاً ، وكان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً ، فنبىء
سليمان من بينهم وملك . وقيل : ولاه على بني إسرائيل في حياته من بين سائر أولاده
، فكانت الولاية في معنى الوراثة . وقال الحسن : ورث المال لأن النبوة عطية مبتدأة
لا تورث . وقيل : الملك والسياسة . وقيل : النبوة فقط ، والأظهر القول الأول ،
ويؤيده قوله : ) عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ( ، فهذا يدل على النبوة ؛ )
وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء ( يدل على الملك ، وكان هذا شرحاً للميراث . وقوله : )
إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ( يقوي ذلك ، ولا يناسب شيء من هذا
وراثة المال .
وقوله : ) يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ( تشهير لنعمة الله ، وتنويه بها
واعتراف بمكانها ، ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير ،
وغير ذلك مما أوتيه من عظائم
" صفحة رقم 58 "
الأمور . و ) مَنطِقَ الطَّيْرِ ( : استعارة لما يسمع منها من الأصوات ، وهو حقيقة
في بني آدم ، لما كان سليمان يفهم منه ما يفهم من كلام بني آدم ، كما يفهم بعض
الطير من بعض ، أطلق عليه منطق . وقيل : كانت الطير تكلمه معجزة له ، كقصة الهدهد
، والظاهر أنه علم منطق الطير وعموم الطير . وقيل : علم منطق الحيوان . قيل :
والنبات ، حتى كان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها ، وإنما نص على الطير
، لأنه كان جنداً من جنوده ، يحتاج إليه في التظليل من الشمس ، وفي البعث في
الأمور . وقال قتادة : والشعبي : وكذلك كانت هذه النملة القائلة ذات جناحين .
وأورد المفسرون مما ذكروا بأن سليمان عليه السلام أخبر عن كثير من الطير بأنواع من
الكلام ، تقديس لله تعالى وعظات ، وعبر ما الله أعلم بصحته .
( وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء ( : ظاهره العموم ، والمراد الخصوص ، أي من كل شيء
يصلح لنا ونتمناه ، وأريد به كثرة ما أوتي ، فكأنه مستغرق لجميع الأشياء . كما
تقول : فلان يقصده كل أحد ، يريد كثرة فصاده ، وهذا كقوله تعالى في قصة بلقيس : )
وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء ( ؛ وبنى علمنا وأوتينا للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به
، وهو الله تعالى . وكانا مسندين لنون العظمة لا لتاء المتكلم ، لأنه إما إن أراد
نفسه وأباه ، أو لما كان ملكاً مطاعاً خاطب أهل طاعته ومملكته بحاله التي هو عليها
، لا على سبيل التعاظم والتكبر .
( إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ( : إقرار بالنعمة وشكر لها ومحمدة .
روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة خمسة وعشرون للجن ، ومثلها للإنس ، ومثلها
للطير ، ومثلها للوحش ، وألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاثمائة منكوحة ،
وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخاً في فرسخ ، ومنبره
في وسطه من ذهب ، فيصعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، تقعد الأنبياء
على كراسي الفضة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير
بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط ، فتسير به مسيرة شهر ،
وتفصيل هذه الأشياء يحتاج إلى صحة نقل ، وكان ملكه عظيماً ، ملأ الأرض ، وانقاد له
أهل المعمور منها . وتقدم لنا أنه ملك الأرض بأسرها أربعة : مؤمنان : سليمان وذو
القرنين ، وكافران : بختنصر ونمروذ . وحشر الجنود يقتضي سفراً وفسر الجنود أنهم
الجن والإنس والطير ، وذكر المفسرون الوحش رابعاً .
( فَهُمْ يُوزَعُونَ ( : يحشر أولهم على آخرهم ، أي يوقف متقدمو العسكر حتى يأتي
آخرهم فيجتمعون ، لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة ، أو يكفون عن المسير حتى
يجتمعوا . وقيل : يجتمعون من كل جهة . وقيل : يساقون . وقيل : يدفعون . وقيل :
يحبسون . كانت الجيوش تسير معه إذا سار ، تنزل إذا نزل . ) حَتَّى إِذَا أَتَوْا (
: هذه غاية لشيء مقدر ، أي وساروا حتى إذا أتوا ، أو يضمن يوزعون معنى فعل يقتضي
أن تكون حتى غاية له ، أي فهم يسيرون مكنوفاً بعضهم من مفارقة بعض . وعدى أتوا
بعلى ، إما لأن إتيانهم كان من فوق ، وإما أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم
: أتى على الشيء ، إذا أتى على آخره وأنفذه ، كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع
الوادي ، لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم ، قاله الزمخشري .
وقال ابن عطية : والظاهر أن سليمان وجنوده كانوا مشاة في الأرض ، ولذلك يتهيأ حطم
النمل بنزولهم في وادي النمل . ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح ،
فأحست النمل بنزولهم في وادي النمل ، ووادي النمل قيل بالشام . وقيل : بأقصى اليمن
، وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها . وقال كعب : وادي السدر من الطائف .
والظاهر صدور القول من النملة ، وفهم سليمان كلامها ، كما فهم منطق الطير . قال
مقاتل : من ثلاثة أميال . وقال الضحاك بلغته : الريح كلامها . وقال ابن بحر : نطقت
بالصوت معجزة لسليمان ، ككلام الضب والذراع للرسول . وقيل : فهمه إلهاماً من الله
، كما فهمه جنس النمل ، لا أنه سمع قولاً . وقال الكلبي : أخبره ملك بذلك . قال
الشاعر : لو كنت أوتيت كلام الحكل
علم سليمان كلام النمل
" صفحة رقم 59 "
والحكل : ما لا يسمع صوته . وذكروا اختلافاً في صغر النملة وكبرها ، وفي اسمها
العلم ما لفظه . وليت شعري ، من الذي وضع لها لفظاً يخصها ، أبنو آدم أم النمل ؟ وقالوا
: كانت نملة عرجاء ، ولحوق التاء في قالت لا يدل على أن النملة مؤنث ، بل يصح أن
يقال في المذكر : قالت نملة ، لأن نملة ، وإن كان بالتاء ، هو مما لا يتميز فيه
المذكر من المؤنث . وما كان كذلك ، كالنملة والقملة ، مما بينه في الجمع وبين
واحدة من الحيوان تاء التأنيث ، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث ، ولا يدل كونه يخبر
عنه إخبار المؤنث على أنه ذكر أو أنثى ، لأن التاء دخلت فيه للفرق ، لا دالة على
التأنيث الحقيقي ، بل دالة على الواحد من هذا الجنس .
وقال الزمخشري ، وعن قتادة : أنه دخل الكوفة ، فالتف عليه الناس فقال : سلوا عما
شئتم . وكان أبو حنيقة حاضراً ، وهو غلام حدث ، فقال : سلوه عن نملة سليمان ،
أكانت ذكراً أم أنثى : فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى . فقيل له : من
أين عرفت ؟ فقال : من كتاب الله ، وهو قوله : ) قَالَتْ نَمْلَةٌ ( ، ولو كان
ذكراً لقال قال نملة . قال الزمخشري : وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في
وقوعها على الذكر والأنثى ، فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة
أنثى ، وهو وهي . انتهى . وكان قتادة بن دعامة السدوسي بصيراً بالعربية ، وكونه
أفحم ، يدل على معرفته باللسان ، إذ علم أن النملة يخبر عنها إخبار المؤنث ، وإن
كانت تنطلق على الأنثى والذكر ، إذ هو مما لا يتميز فيه أحد هذين ، فتذكيره
وتأنيثه لا يعلم ذلك من إلحاق العلامة للفعل فتوقف ، إذ لا يعلم ذلك إلا بوحي من
الله . وأما استنباط تأنيثه من كتاب الله من قوله : ) قَالَتْ نَمْلَةٌ ( ، ولو
كان ذكراً لقال : قال نملة ، وكلام النحاة على خلافه ، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبار
المؤنث ، سواء كان ذكراً أم أنثى . وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة ،
فبينهما قدره مشترك ، وهو إطلاقهما على الذكر والمؤنث ، وبينهما فرق ، وهو أن
الحمامة والشاة يتميز فيهما المذكر من المؤنث ، فيمكن أن تقول : حمامة ذكر وحمامة
أنثى ، فتميز بالصفة . وأما تمييزه بهو وهي ، فإنه لا يجوز . لا تقول : هو الحمامة
، ولا هو الشاة ؛ وأما النملة والقملة فلا يتيمز فيه المذكر من المؤنث ، فلا يجوز
فيه في الإخبار إلا التأنيث ، وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان العاقل نحو :
المرأة ، أو غير العاقل كالدابة ، إلا أن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من
ذلك ، فيجوز أن تلحق العلامة الفعل ، ويجوز أن لا تلحق ، على ما قرر ذلك في باب
الإخبار عن المؤنث في علم العربية .
وقرأ الحسن ، وطلحة ، ومعتمر بن سليمان ، وأبو سليمان التيمي : نملة ، بضم الميم
كسمرة ، وكذلك النمل ، كالرجلة والرجل لعتان . وعن سليمان التيمي : نمل ونمل بضم
النون والميم ، وجاء الخطاب بالأمر ، كخطاب من يعقل في قوله : ) أَدْخِلُواْ ( وما
بعده ، لأنها أمرت النمل كأمر من يعقل ، وصدر من النمل الامتثال لأمرها . وقرأ شهر
بن حوشب : مسكنكم ، على الإفراد . وعن أبي : أدخلن مساكنكن لا يحطمنكم : مخففة
النونن التي قبل الكاف . وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، وعيسى بن عمر الهمداني
، الكوفي ، ونوح القاضي : بضم الياء وفتح الحاء وشد الطاء والنون ، مضارع حطم
مشدداً . وعن الحسن : بفتح الياء وإسكان الحاء وشد الطاء ، وعنه كذلك مع كسر الحاء
، وأصله : لا يحطتمنكم من الاحتطام . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وطلحة ، ويعقوب ، وأبو
عمرو في رواية عبيد : كقراءة الجمهور ، إلا أنهم سكنوا نون التوكيد . وقرأ الأعمش
: بحذف النون وجزم الميم ، والظاهر أن قوله : ) لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ ( ، بالنون
خفيفة أو شديدة ، نهي مستأنف ، وهو من باب : لا أرينك
" صفحة رقم 60 "
ههنا ، بهن غير النمل ، والمراد النمل ، أي لا تظهروا بأرض الوادي فيحطمكم ، ولا
تكن هنا فأراك . وقال الزمخشري : فإن قلت : لا يحطمنكم ما هو ؟ قلت : يحتمل أن
يكون جواباً للأمر ، وأن يكون هنا بدلاً من الأمر ، والذي جوز أن يكون بدلاً منه ،
لأنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقة لا أرينك ههنا ، أرادت لا
يحطمنكم جنود سليمان ، فجاءت بما هو أبلغ ونحوه : عجبت من نفسي ومن إشفاقها .
انتهى . وأما تخريجه على أنه أمر ، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش ، إذ هو
مجزوم ، مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نفي ، وأما مع وجود نون التوكيد ، فإنه لا
يجوز ذلك إلا إن كان في الشعر . وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر ،
فأحرى أن لا يجوز في جواب الأمر إلا في الشعر . وكونه جواب الأمر متنازع فيه على
ما قرر في النحو ، ومثال مجيء نون التوكيد في جواب الشرط ، قول الشاعر : نبتم نبات
الخيزرانة في الثرى
حديثاً متى يأتك الخير ينفعا
وقول الآخر : مهما تشا منه فزارة يعطه
ومهما تشا منه فزارة يمنعا
قال سيبويه : وذلك قليل في الشعر ، شبهوه بالنفي حيث كان مجزوماً غير واجب . انتهى
. وقد تنبه أبو البقاء لشيء من هذا قال : وقيل هو جواب الأمر ، وهو ضعيف ، لأن
جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار . وأما تخريجه على البدل فلا يجوز ، لأن
مدلول ) لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ ( مخالف لمدلول ) أَدْخِلُواْ ). وأما قوله : لأنه في
معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم ، فهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، والبدل من
صفة الألفاظ . نعم لو كان اللفظ القرآني لا تكونوا حيث أنتم لا يحطمنكم لتخيل فيه
البدل ، لأن الأمر بدخول المساكن نهى عن كونهم في ظاهر الأرض . وأما قوله : أنه
أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخر ، فيسوغ زيادة الأسماء ، وهو لا يجوز ، بل
الظاهر إسناد الحطم إليه وإلى جنوده ، وهو على حذف مضاف ، أي خيل سليمان وجنوده ،
أو نحو ذلك مما يصح تقديره . ) وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( : جملة حالية ، أي إن وقع
حطم ، فليس ذلك بتعمد منهم ، إنما يقع وهم لا يعلمون بحطمنا ، كقوله : )
فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( ، وهذا التفات حسن ، أي من
عدل سليمان وأتباعه ورحمته ورفقه أن لا يحطم نملة فما فوقها إلا بأن لا يكون لهم
شعور بذلك .
وما أحسن ما أتت به هذه النملة في قولها وأغربه وأفصحه وأجمعه للمعاني ، أدركت
فخامة ملك سليمان ، فنادت وأمرت وأنذرت . وذكروا أنه جزى بينها وبين سليمان
محاورات ، وأهدت له نبقة ، وأنشدوا أبياتاً في حقارة ما يهدى إلى العظيم ،
والاستعذار من ذلك ، ودعاء سليمان للنمل بالبركة ، والله أعلم بصحة ذلك أو افتعاله
. والنمل حيوان قوي الحس شمام جداً ، يدخر القوت ، ويشق الحبة قطعتين لئلا تنبت ،
والكزبرة بأربع ، لأنها إذا قطعت قطعتين أنبتت ، وتأكل في عامها بعض ما
" صفحة رقم 61 "
تجمع ، وتدخر الباقي عدة . وفي الحديث : ( النهي عن قتل أربع من الدواب : الهدهد
والصرد والنملة والنحلة ) ، خرجه أبو داود عن ابن عباس . وروي من حديث أبي هريرة :
وتبسم سليمان عليه السلام ، إما للعجب بما دل عليه قولها : ) وَهُمْ لاَ
يَشْعُرُونَ ( ، وهو إدراكها رحمته وشفقته ورحمة عسكره ، وإما للسرور بما آتاه الله
مما لم يؤت أحداً ، وهو إدراكه قول ما همس به ، الذي هو مثل في الصغر ، ولذلك دعا
أن يوزعه الله شكر ما أنعم به عليه . وانتصب ضاحكاً على الحال ، أي شارعاً في
الضحك ومتجاوزاً حد التبسم إلى الضحك ، ولما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب ،
كما يقولون ، تبسم تبسم الغضبان ، وتبسم تبسم المستهزىء ، وكان الضحك إنما يكون
للسرور والفرح ، أتى بقوله : ) ضَاحِكاً ). وقرأ ابن السميفع : ضحكاً ، جعله
مصدراً ، لأن تبسم في معنى ضحك ، فانتصابه على المصدر به ، أو على أنه مصدر في
موضع الحال ، كقراءة ضاحكاً .
( وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى ( : أي اجعلني شكر نعمتك وآلفه وأرتبطه ، حتى لا ينفلت
عني ، حتى لا أنفك شاكراً لك . وقال ابن عباس : أوزعني : اجعلني أشكر . وقال ابن
زيد : حرضني . وقال أبو عبيدة : أولعني . وقال الزجاج : امنعني عن الكفران . وقيل
: ألهمني الشكر ، وأدرج ذكر نعمة الله على والديه في أن يشكرهما ، كما يشكر نعمة
الله على نفسه ، لما يجب للوالد على الولد من الدعاء لهما والبر بهما ، ولا سيما
إذا كان الولد تقياً لله صالحاً ، فإن والديه ينتفعان بدعائه وبدعاء المؤمنين لهما
بسببه ، كقولهم : رحم الله من خلفك ، رضي الله عنك وعن والديك . ولما سأل ربه
شيئاً خاصاً ، وهو شكر النعمة ، سأل شيئاً عاماً ، وهو أن يعمل عملاً يرضاه الله
تعالى ، فاندرج فيه شكر النعمة ، فكأنه سأل إيزاع الشكر مرتين ، ثم دعا أن يلحق
بالصالحين . قال ابن زيد : هم الأنبياء والمؤمنون ، وكذا عادة الأنبياء أن يطلبوا
جعلهم من الصالحين ، كما قال يوسف عليه السلام : ) تَوَفَّنِى مُسْلِمًا
وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ). وقال تعالى ، عن إبراهيم عليه السلام : )
وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ). قيل : لأن كمال الصلاح أن لا
يعصي الله تعالى ولا يهم بمعصية ، وهذه درجة عالية .
( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لِىَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ
مِنَ الْغَائِبِينَ لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ
لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ
بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنّى وَجَدتُّ
امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ
وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ
يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِي
السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ
إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ
كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَب بّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ
تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ).
الظاهر أنه تفقد جميع الطير ، وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام
بالرعايا . قيل : وكان يأتيه من كل صنف واحد ، فلم ير الهدهد . وقيل : كانت الطير
تظله من الشمس ، وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن ، فمسته الشمس ، فنظر إلى مكان
الهدهد ، فلم يره . وعن عبد الله بن سلام : أن سليمان عليه السلام نزل بمفازة لا
ماء فيها ، وكان الهدهد يرى ظاهر الأرض وباطنها ، وكان يخبر سليمان بذلك ، فكانت الجن
تخرجه في ساعة تسلخ الأرض كما تسلخ الشاة ، فسأل عنه حين حلوا تلك المفازة ،
لاحتياجهم إلى الماء . وفي قوله ) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ( دلالة على تفقد الإمام
أحوال رعيته والمحافظة عليهم . وقال عمر رضي الله عنه : لو أن سخلة على شاطىء
الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر ، وفي الكلام محذوف ، أي فقد الهدهد حين تفقد
الطير .
قال ابن عطية وقوله : ) مَا لِى لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ ( ، مقصد الكلام الهدهد ،
غاب ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه ، وهو أن لا يراه ، فاستفهم على جهة التوقيف عن
اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز والاستفهام الذي في قوله : ) مَا لِى ( ،
" صفحة رقم 62 "
( سقط : ناب مناب الألف التي تختلجها أم ، انتهى فظاهر هذا الكلام أن أم متصلة ،
وأن الاستفهام الذي في قوله ومالي ) ناب مناب ألف الاستفهام ، فمعناه عنده : أغاب
عني الآن فلم أره حالة التفقد ؟ أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته ؟ وقال
الزمخشري : أم هي المنقطعة ، نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال : ) مَا لِى لاَ
أَرَى الْهُدْهُدَ ( ؟ على معنى : أنه لا يراه ، وهو حاضر ، لساتر ستره أو غير ذلك
، ثم لاح له أنه غائب ، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب ؟ كأنه سأل صحة ما لا ح
له ، ونحوه قولهم : إنها لإبل أم شاء ؟ انتهى . والصحيح أن أم في هذا هي المنقطعة
، لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام ، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير الهمزة ،
كانت أم منقطعة ، وهنا تقدم ما ، ففارت شرط المتصلة . وقيل : يحتمل أن تكون من
المقلوب وتقديره : ما للهدهد لا أراه ؟ ولا ضرورة إلى ادعاء القلب . وفي الكشاف ،
أن سليمان لما تم له بناء بيت المقدس ، تجهز للحج ، فوافى الحرم وأقام به ما شاء ،
ثم عزم على المسير إلى اليمن ، فخرج من مكة صباحاً يؤم سهيلاً ، فوافى صنعاء وقت
الزوال ، وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضاً حسناء أعجبته خضرتها ، فنزل ليتغذى ويصلي ،
فلم يجد الماء ، وكان الهدهد يأتيه ، وكان يرى الماء من تحت الأرض . وذكر أنه كان
الجن يسلخون الأرض حتى يظهر الماء .
( لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ( : أبهم العذاب الشديد ، وفي تعيينه أقوال
متعارضة ، والأجود أن يجعل أمثلة . فعن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جريج : نتف ريشه
. وقال ابن جريج : ريشه كله . وقال يزيد بن رومان : جناحه . وقال ابن وهب : نصفه
ويبقى نصفه . وقيل : يراد مع نتفه تركه للشمس . وقيل : يحبس في القفص . وقيل :
يطلى بالقطران ويشمس . وقيل : ينتف ويلقى للنمل . وقيل : يجمع مع غير جنسه . وقيل
: يبعد من خدمة سليمان عليه السلام . وقيل : يفرق بينه وبين إلفه . وقيل : يلزم
خدمة امرأته ، وكان هذا القول من سليمان غضباً لله ، حيث حضرت الصلاة وطلب الماء
للوضوء فلم يجده ، وأباح الله له ذلك للمصلحة ، كما أباح البهائم والطيور للأكل ،
وكما سخر له الطير ، فله أن يؤدّيه إذا لم يأت ما سخر له .
وقرأ الجمهور : أو ليأتيني ، بنون مشددة بعدها ياء المتكلم ، وابن كثير : بنون
مشددة بعدها نون الوقاية بعد الياء ؛ وعيسى بن عمر : بنون مشددة مفتوحة بغير ياء .
والسلطان المبين : الحجة والعذر ، وفيه دليل على الإغلاط على العاصين وعقابهم .
وبدأ أولاً بأخف العقابين ، وهو التعذيب ؛ ثم أتبعه بالأشد ، وهو إذهاب المهجة
بالذبح ، وأقسم على هذين لأنهما من فعله ، وأقسم على الإتيان بالسلطان وليس من
فعله لما نظم الثلاثة في الحكم بأو ، كأنه قال : ليكونن أحد الثلاثة ، والمعنى :
إن أتى بالسلطان ، لم يكن تعذيب ولا ذبح ، وإلا كان أحدهما . ولا يدل قسمه على
الإتيان على ادعاء دراية ، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي من الله بأنه
يأتيه بسلطان ، فيكون قوله : ) أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( عن
دراية وإيقان .
وقرأ الجمهور : فمكث ، بضم الكاف ؛ وعاصم ، وأبو عمرو في رواية الجعفي ، وسهل ،
وروح : حّبضمها . وفي قراءة أبيّ : فيمكث ، ثم قال : وفي قراءة عبد الله : فيمكث ،
فقال : وكلاهما في الحقيقة تفسير لا قراءة ، لمخالفة ذلك سواد المصحف ، وما روي
عنهما بالنقل الثابت . والظاهر أن الضمير في فمكث عائد على الهدهد ، أي غبر زمن
بعيد ، أي عن قرب . ووصف مكثه بقصر المدة ، للدلالة على إسراعه ، خوفاً من سليمان
، وليعلم كيف كان الطير مسخراً له ، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوته
وعلى قدرة
" صفحة رقم 63 "
الله . وقيل : وقف مكاناً غير بعيد من سليمان ، وكأنه فيما روي ، حين نزل سليمان
حلق الهدهد ، فرأى هدهداً ، فانحط عليه ووصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء ،
وذكر له صاحبه ملك بلقيس وعظم منه ، وذهب معه لينظر ، فما رجع إلا بعد العصر .
وقيل : الضمير في فمكث لسليمان . وقيل : يحتمل أن يكون لسليمان وللهدهد ، وفي
الكلام حذف ، فإن كان غير بعيد زماناً ، فالتقدير : فجاء سليمان ، فسأله : ما غيبك
؟ فقال : أحطت ؛ وإن كان مكاناً ، فالتقدير : فجاء فوقف مكاناً قريباً من سليمان ،
فسأله : ما غيبك ؟ وكان فيما روي قد علم بما أقسم عليه سليمان ، فبادر إلى جوابه
بما يسكن غيظه عليه ، وهو أن غيبته كانت لأمر عظيم عرض له ، فقال : ) أَحَطتُ
بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ( ، وفي هذا جسارة من لديه علم ، لم يكن عند غيره ، وتبجحه
بذلك ، وإبهام حتى تتشوف النفس إلى معرفة ذلك المهم ما هو . ومعنى الإحاطة هنا :
أنه علم علماً ليس عند نبي الله سليمان .
قال الزمخشري : ألهم الله الهدهد ، فكافح سليمان بهذا الكلام ، على ما أوتي من فضل
النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له في علمه ،
وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به سليمان ،
لتتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة
العلماء ، وأعظم بها فتنة ، والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته ، لا
يخفى منه معلوم ، قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إن الإمام لا يخفى عليه
شيء ، ولا يكون في زمانه أعلم منه . انتهى .
ولما أبهم في قوله : ) بِمَا لَمْ تُحِطْ ( ، انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاماً ،
وهو قوله : ) وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ( ، إذ فيه إخبار بالمكان
الذي جاء منه ، وأنه له علم بخبر مستيقن له . وقرأ الجمهور : من سبأ ، مصروفاً ،
هذا وفي : ) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ ( ، وابن كثير ، وأبو عمرو : بفتح الهمزة ، غير
مصروف فيهما ، وقنبل من طريق النبال : بإسكانها فيهما . فمن صرفه جعله اسماً للحي
أو الموضع أو للأب ، كما في حديث فروة بن مسيك وغيره ، عن رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) : ( أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد ، تيامن منهم ستة ، وتشاءم أربعة .
والستة : حمير ، وكندة ، والأزد ، وأشعر ، وخثعم ، وبجيلة ؛ والأربعة : لخم ،
وجذام ، وعاملة ، وغسان . وكان سبأ رجلاً من قحطان اسمه عبد شمس . وقيل : عامر ،
وسمي سبأ لأنه أول من سبأ ، ومن منعه الصرف جعله اسماً للقبيلة أو البقعة ،
وأنشدوا على الصرف : الواردون وتيم في ذرى سبأ
قد عض أعناقهم جلد الجواميس
ومن سكن الهمزة ، فلتوالي الحركات فيمن منع الصرف ، وإجراء للوصل مجرى الوقف .
وقال مكي : الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي . انتهى . وقرأ الأعمش : من
سبأ ، بكسر الهمزة من غير تنوين ، حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية ، ويبعد توجيهها
. وقرأ ابن كثير في رواية : من سبأ ، بتنوين الباء على وزن رحى ، جعله مقصوراً
مصروفاً . وذكر أبو معاذ أنه قرأ من سبأ : بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة ،
بناه على فعلى ، فامتنع الصرف للتأنيث اللازم . وروى ابن حبيب ، عن اليزيدي : من
سبأ ، بألف ساكنة ، كقولهم : تفرقوا أيدي سبا . وقرأت فرقة : بنبأ ، بألف عوض
الهمزة ، وكأنها قراءة من قرأ : لسبا ، بالألف ، لتتوازن الكلمتان ، كما توازنت في
قراءة من قرأهما بالهمز المكسور والتنوين . وقال في التحرير : إن هذا النوع في علم
البديع يسمى بالترديد ، وفي كتاب التفريع بفنون البديع . إن الترديد رد أعجاز
البيوت على صدورها ، أو رد كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني ، ويسمى أيضاً
التصدير ، فمثال الأول قوله : سريع إلى ابن العم يجبر كسره
وليس إلى داعي الخنا بسريع
ومثال الثاني قوله
" صفحة رقم 64 "
والليالي إذا نأيتم طوال
والليالي إذا دنوتم قصار
وذكر أن مثل : ) مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ ( ، يسمى تجنيس التصريف ، قال : وهو أن تنفرد
كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف ، ومنه قوله تعالى : ) ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ
تَفْرَحُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ( ، وما
ورد في الحديث : ( الخيل معقود في نواصيها الخير ) . وقال الشاعر : لله ما صنعت
بنا
تلك المعاجر والمحاجر
وقال الزمخشري : وقوله : ) مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ ( ، من جنس الكلام الذي سماه
المحدثون البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ ، بشرط أن يجيء مطبوعاً
، أو بصيغة عالم بجوهر الكلام ، يحفظ معه صحة المعنى وسداده . ولقد جاء هنا زائداً
على الصحة ، فحسن وبدع لفظاً ومعنى . ألا ترى لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحاً
؟ وهو كما جاء أصح ، لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال . انتهى .
والزيادة التي أشار إليها هي أن النبأ لا يكون إلا الخبر الذي له شأن ، ولفظ الخبر
مطلق ، ينطلق على ماله شأن وما ليس له شأن .
ولما أبهم الهدهد أولاً ، ثم أبهم ثانياً دون الإبهام ، صرح بما كان أبهمه فقال :
) إِنّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ). ولا يدل قوله : ) تَمْلِكُهُمْ ( على
جواز أن تكون المرأة ملكة ، لأن ذلك كان من فعل قوم بلقيس ، وهم كفار ، فلا حجة في
ذلك . وفي صحيح البخاري ، من حديث ابن عباس ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ،
لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال : ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) .
ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ، ولم يصح عنه . ونقل عن أبي
حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه ، لا على الإطلاق ، ولا أن يكتب لها مسطور بأن
فلانة مقدمة على الحكم ، وإنما ذلك على سبيل التحكم والاستنابة في القضية الواحدة
. ومعنى وجدت هنا : أصبت ، والضمير في تملكهم عائد على سبأ ، إن كان أريد القبيلة
، وإن أريد الموضع ، فهو على حذف ، أي وجئتك من أهل سبأ .
والمرأة بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك اليمن كلها ، وقد ولد له أربعون ملكاً
، ولم يكن له ولد غيرها ، فغلبت على الملك ، وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس
. واختلف في اسم أبيها اختلافاً كثيراً . قيل : وكانت أمها جنية تسمى ريحانة بنت
السكن ، تزوجها أبوها ، إذ كان من عظميه لم ير أن يتزوج أحداً من ملوك زمانه ،
فولدت له بلقيس ، وقد طولوا في قصصها بما لم يثبت في القرآن ، ولا الحديث الصحيح .
وبدأ الهدهد بالإخبار عن ملكها ، وأنها أوتيت من كل شيء ، وهذا على سبيل المبالغة
، والمعنى : من كل شيء احتاجت إليه ، أو من كل شيء في أرضها . وبين قول الهدهد ذلك
، وبين قول سليمان : ) وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء ( فرق ، وذلك أن سليمان عطف على
قوله : ) عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ( ، وهو معجزة ، فيرجع أولاً إلى ما أوتي من
النبوة والحكمة وأسباب الدين ، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا ، وعطف الهدهد على
الملك ، فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها . ) وَلَهَا عَرْشٌ
عَظِيمٌ ( ، قال ابن زيد : هو مجلسها . وقال سفيان : هو كرسيها ، وكان مرصعاً
بالجواهر ، وعليه سبعة أبواب . وذكروا من وصف عرشها أشياء ، الله هو العالم بحقيقة
ذلك ، واستعظام الهدهد عرشها ، إما لاستصغار حالها أن يكون لها مثل هذا العرش ،
وإما لأن سليمان لم يكن له مثله ، وإن كان عظيم المملكة في كل شيء ، لأنه قد يوجد
لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هو تحت طاعته .
ولما
" صفحة رقم 65 "
كان سليمان قد آتاه الله من كل شيء ، وكان له عرش عظيم ، أخبره بهذا النبأ العظيم
، حيث كان في الدنيا من يشاركه فيما يقرب من ذلك . ولم يلتفت سليمان لذلك ، إذ كان
معرضاً عن أمور الدنيا . فانتقل الهدهد إلى الإخبار إلى ما يتعلق بأمور الدين ،
وما أحسن انتقالات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك ، أخبر أولاً باطلاعه
على ما لم يطلع عليه سليمان ، تحصناً من العقوبة ، بزينة العلم الذي حصل له ،
فتشوف السامع إلى علم ذلك . ثم أخبرنا ثانياً يتعلق ذلك العلم ، وهو أنه من سبأ ،
وأنه أمر متيقن لا شك فيه ، فزاد تشوف السامع إلى سماع ذلك النبأ . ثم أخبر ثالثاً
عن الملك الذي أوتيته امرأة ، وكان سليمان عليه السلام قد سأل الله أن يؤتيه ملكاً
لا ينبغي لأحد من بعده . ثم أخبر رابعاً ما ظاهره الإشتراك بينه وبين هذه المرأة
التي ليس من شأنها ولا شأن النساء أن تملك فحول الرجال ، وهو قوله : ) وَأُوتِيَتْ
مِن كُلّ شَىْء ( ، وقوله : ) وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( ، وكان سليمان له بساط قد
صنع له ، وكان عظيماً . ولما لم يتأثر سليمان للإخبار بهذا كله ، إذ هو أمر دنياوي
، أخبره خامساً بما يهزه لطلب هذه الملكة ، ودعائها إلى الإيمان ، وإفراده
بالعبادة فقال : ) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ
اللَّهِ ( ، وقد تقدم القول : إنهم كانوا مجوساً يعبدون الأنوار ، وهو قول الحسن .
وقيل : كانوا زنادقة .
وهذه الإخبارات من الهدهد كانت على سبيل الاعتذار عن غيبته عن سليمان ، وعرف أن
مقصد سليمان الدعاء إلى توحيد الله والإيمان به ، فكان ذلك عذراً واضحاً أزال عنه
العقوبة التي كان سليمان قد توعده بها . وقام ذلك الإخبار مقام الإيقان بالسلطان
المبين ، إذ كان في غيبته مصلحة لإعلام سليمان بما كان خافياً عنه ، ومآله إلى
إيمان الملكة وقومها . وفي ملك هذه المرأة ومكانها على سليمان ، وإن كانت المسافة
بينهما قريبة ، كما خفي ملك يوسف على يعقوب ، وذلك لأمر أراده الله تعالى . قال
الزمخشري : ومن نوكي القصاص من يقف على قوله : ) وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( ،
وجدتها يريد أمر عظيم ، إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها ، فوقع في عظيمة وهي
نسخ كتاب الله . انتهى . وقال أيضاً فإن قلت : من أين للهدهد الهدى إلى معرفة الله
ووجوب السجود له ، وإنكار السجود للشمس ، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه ؟ قلت : لا
يبعد أن يلهمه الله ذلك ، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف
اللطيفة الت لا تكاد العقلاء يهتدون لها . ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان
خصوصاً في زمان بني سخرت له الطيور وعلم منطقها ، وجعل ذلك معجزة له . انتهى .
وأسند التزيين إلى الشيطان ، إذ كان هو المتسبب في ذلك بأقدار الله تعالى . )
فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ( ، أي الشيطان ، أو تزيينه عن السبيل وهو الإيمان
بالله وإفراده بالعبادة . ) فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( ، أي إلى الحق . وقرأ ابن
عباس ، وأبو جعفر ، والزهري ، والسلمي ، والحسن ، وحميد ، والكسائي : ألا ، بتخفيف
لام الألف ، فعلى هذا له أن يقف على : ) فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( ، ويبتدىء على :
) أَلاَّ يَسْجُدُواْ ). قال الزمخشري : وإن شاء وقف على ألا يا ، ثم ابتدأ اسجدوا
، وباقي السبعة : بتشديدها ، وعلى هذا يصل قوله : ) فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ (
بقوله : ) أَلاَّ يَسْجُدُواْ ). وقال الزمخشري : وفي حرف عبد الله ، وهي قراءة
الأعمش : هلا وهلا ، بقلب الهمزتين هاء ، وعن عبد الله : هلا يسجدون ، بمعنى : ألا
تسجدون ، على الخطاب . وفي قراءة أبي : ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السمائ
والأرض ويعلم سركم وما تعلنون ، انتهى . وقال بن عطية : وقرأ الأعمش : هلا يسجدون
؛ وفي حرف عبد الله : ألا هل تسجدون ، بالتاء ، وفي قراءة أبي : ألا تسجدون ،
بالتاء أيضاً ؛ فأما قراءة من أثبت النون في يسجدون ، وقرأ بالتاء أو الياء ،
فتخريجها واضح . وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله : ) أَلاَّ يَسْجُدُواْ
( في موضع نصب ، على أن يكون بدلاً من قوله : ) أَعْمَالَهُمْ ( ، أي فزين لهم
الشيطان أن لا يسجدوا .
" صفحة رقم 66 "
وما بين المبدل منه والبدل معترض ، أو في موضع جر ، على أن يكون بدلاً من السبيل ،
أي قصدهم عن أن لا يسجدوا . وعلى هذا التخريج تكون لا زائدة ، أي فصدهم عن أن
يسدجوا لله ، ويكون ) فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( معترضاً بين المبدل منه والبدل ،
ويكون التقدير : لأن لا يسجدوا . وتتعلق اللام إما بزين ، وإما بقصدهم ، واللام
الداخلة على أن داخلة على مفعول له ، أي علة تزيين الشيطان لهم ، أو صدهم عن
السبيل ، هي انتفاء سجودهم لله ، أو لخوفه أن يسجدوا لله . وقال الزمخشري : ويجوز
أن تكون لا فريدة ، ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا . انتهى . وأما
قراءة ابن عباس ومن وافقه ، فخرجت على أن تكون ألا حرف استفتاح ، ويا حرف نداء ،
والمنادى محذوف ، واسجدوا فعل أمر ، وسقطت ألف يا التي للنداء ، وألف الوصل في
اسجدوا ، إذ رسم المصحف يسجدوا بغير ألفين لما سقط لفظاً سقطا خطاً . ومجيء مثل
هذا التركيب موجود في كلام العرب . قال الشاعر :
ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد
وقال :
ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال
وقال :
ألا يا اسلمي يا دارميّ على البلى
وقال : فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة
فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي
وقال :
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدروإن كان جباناً عدا آخر الدهر
وسمع بعض العرب يقول :
ألا يا ارحمونا ألا تصدّقوا علينا
ووقف الكسائي في هذه القراءة على يا ، ثم يبتدىء اسجدوا ، وهو وقف اختيار لا
اختبار ، والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يافيه للنداء ،
وحذف المنادى ، لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه ، لأنه قد حذف الفعل العامل في
النداء ، وانحذف فاعله لحذفه . ولو حذفنا المنادى ، لكان في ذلك حذف جملة النداء ،
وحذف متعلقه وهو المنادي ، فكان ذلك إخلالاً كبيراً . وإذا أبقينا المنادي ولم
نحذفه ، كان ذلك دليلاً على العامل فيه جملة النداء . وليس حرف النداء حرف جواب ،
كنعم ، ولا ، وبلى ، وأجل ؛ فيجوز حذف الجمل بعدهنّ لدلالة ما سبق من السؤال على
الجمل المحذوفة . فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه ،
وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ، ولقصد المبالغة في التوكيد ، وإذا كان قد وجد التأكيد
في اجتماع الحرفين المختلفي
" صفحة رقم 67 "
اللفظ العاملين في قوله :
فأصبحن لا يسألنني عن بما به
والمتفقي اللفظ العاملين في قوله :
ولا للما بهم أبداً دواء
وجاز ذلك ، وإن عدوه ضرورة أو قليلا ، فاجتماع غير العاملين ، وهما مختلفا اللفظ ،
يكون جائزاً ، وليس يا في قوله :
يا لعنة الله والأقوام كلهم
حرف نداء عندي ، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ ، وليس مما حذف منه المنادى لما
ذكرناه . وقال الزمخشري : فإن قلت : أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً ، أو
في واحدة منهما : قلت : هي واجبة فيهما ، وإحدى القراءتين أمر بالسجود ، والأخرى
ذمّ للتارك ؛ وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع
إليه ، انتهى . والخبء : مصدر أطلق على المخبوء ، وهو المطر والنبات وغيرهما مما
خبأه تعالى من غيوبه . وقرأ الجمهور : الخبء ، بسكون الباء والهمزة . وقرأ أبيّ ،
وعيسى : بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة . وقرأ عكرمة : بألف بدل الهمزة ،
فلزم فتح ما قبلها ، وهي قراءة عبد الله ، ومالك بن دينار . ويخرج على لغة من يقول
في الوقف : هذا الخبو ، ومررت بالخبي ، ورأيت الخبا ، وأجرى الوصل مجرى الوقف . وأجاز
الكوفيون أن تقول في المرأة والكمأة : المرأة والكمأة ، فيبدل من الهمزة ألفاً ،
فتفتح ما قبلها ، فعلى قولهم هذا يجوز أن يكون الخبأ منه . قيل : وهي لغة ضعيفة ،
وإجراء الوصل مجرى الوقف أيضاً نادر قليل ، فيعادل التخريجان . ونقل الحركة إلى
الباء ، وحذف الهمزة ، حكاه سيبويه ، عن قوم من بني تميم وبني أسد . وقراءة الخب
بالألف ، طعن فيها أبو حاتم وقال : لا يجوز في العربية ، قال : لأنه إن حذف الهمزة
ألقى حركتها على الباء فقال : الخب ، وإن حولها قال : الخبي ، بسكون الباء وياء
بعدها . قال المبرد : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ، ولم يلحق بهم ، إلا أنه
إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه . والظاهر أن ) فِي السَّمَاوَاتِ ( متعلق
بالخب ، أي المخبوء في السموات . وقال الفراء في ومن يتعاقبان بقول العرب :
لأستخرجن العلم فيكم ، يريد منكم . انتهى . فعلى هذا يتعلق بيخرج ، أي من في
السموات .
( ولما كان الهدهد قد أوتي من معرفة الماء تحت الأرض ما لم يؤت غيره ، وألهمه الله
تعالى ذلك ، كان وصفه ربه تعالى بهذا الوصف الذي هو قوله : ) الَّذِى يُخْرِجُ
الْخَبْء ( ، إذ كل مختص بوصف من علم أو صناعة ، يظهر عليه مخايل ذلك الوصف في
روائه ومنطقه وشمائله ، ولذلك ورد ما عمل عبد عملاً إلا ألقى الله عليه رداء عمله
. وقرأ الحرميان والجمهور : ما يخفون وما يعلنون ، بياء الغيبة ، والضمير عائد على
المرأة وقومها . وقرأ الكسائي وحفص : بتاء الخطاب ، فاحتمل أن يكون خطاباً لسليمان
عليه السلام والحاضرين معه ، إذ يبعد أن تكون محاورة الهدهد لسليمان ، وهما ليس
معهما أحد . وكما جاز له أن يخاطبه بقوله : ) أَحَطتُ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ( ،
جاز أن يخاطبه والحاضرين معه بقوله : ) مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( ، بل
خطابه بهذا ليس فيه ظهور شغوف بخلاف ذلك الخطاب . والظاهر أن قوله : ) أَلاَّ
يَسْجُدُواْ ( إلى العظيم من كلام الهدهد . وقيل : من كلام الله تعالى
" صفحة رقم 68 "
لأمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن عطية : القراءة بياء الغيبة
تعطي أن الآية من كلام الهدهد ، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله عز وجل لأمة
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقال صاحب الغنيان : لما ذكر الهدهد عرش بلقيس ووصفه بالعظم ، رد الله عز وجل عليه
وبين أن عرشه تعالى هو الموصوف بهذه الصفة على الحقيقة ، إذ لا يستحق عرش دونه أن
يوصف بالعظمة . وقيل : إنه من تمام كلام الهدهد ، كأنه استدرك ورد العظمة من عرش
بلقيس إلى عرش الله . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس
وعرش الله في الوصف بالعظم ؟ قلت : بين الوصفين فرق ، لأن وصف عرشها بالعظم تعظيم
له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة
إلى سائر ما خلق من السموات والأرض . انتهى . وقرأ ابن محيصن وجماعة : العظيم
بالرفع ، فاحتمل أن تكون صفة للعرش ، وقطع على إضمار هو على سبيل المدح ، فتستوي
قراءته وقراءة الجمهور في المعنى . واحتمل أن تكون صفة للرب ، وخص العرش بالذكر ،
لأنه أعظم المخلوقات ، وما عداه في ضمنه .
ولما فرغ الهدهد من كلامه ، وأبدى عذره في غيبته ، أخر سليمان أمره إلى أن يتبين
له صدقه من كذبه فقال : ) سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ ( في أخبارك أم كذبت . والنظر هنا
: التأمل والتصفح ، وأصدقت : جملة معلق عنها سننظر ، وهي في موضع نصب على إسقاط حرف
الجر ، لأن نظر ، بمعنى التأمل والتفكر ، إنما يتعدى بحرف الجر الذي هو في . وعادل
بين الجملتين بأم ، ولم يكن التركيب أم كذبت ، لأن قوله : ) أَمْ كُنتَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ ( أبلغ في نسبة الكذب إليه ، لأن كونه من الكاذبين يدل على أنه
معروف بالكذب ، سابق له هذا الوصف قبل الإخبار بما أخبر به . وإذا كان قد سبق له
الوصف بالكذب ، كان متهماً فيما أخبر به ، بخلاف من يظن ابتداء كذبه فيما أخبر به
. وفي الكلام حذف تقديره : فأمر بكتابة كتاب إليهم ، وبذهاب الهدهد رسولاً إليهم
بالكتاب ، فقال : ) اذْهَب بّكِتَابِى هَاذَا ( : أي الحاضر المكتوب الآن . )
فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ( : أي تنح عنهم إلى مكان قريب ،
بحيث تسمع ما يصدر منهم وما يرجع به بعضهم إلى بعض من القول .
وفي قوله : ) اذْهَب بّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ( دليل على إرسال
الكتب إلى المشركين من الإمام ، يبلغهم الدعوة ويدعوهم إلى ازسلام . وقد كتب رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى كسرى وقيصر وغيرهما ملوك العرب . وقال وهب :
أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدّب به الملوك ، بمعنى : وكن قريباً بحيث
تسمع مراجعاتهم . وقال ابن زيد : أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه ، أي ألقه وارجع
. قال : وقوله : ) فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ( في معنى التقديم على قوله : )
ثُمَّ أَغْنَتْ عَنْهُمْ ). انتهى . وقاله أبو علي ، ولا ضرورة تدعو إلى التقديم
والتأخير ، بل الظاهر أن النظر معتقب التولي عنهم . وقرىء في السبعة : فألقه ،
بكسر الهاء وياء بعدها ، وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء . وقرأ مسلم بن جندب : بضم
الهاء وواو بعدها ، وجمع في قوله : ) إِلَيْهِمُ ( الهدهد قال : ) وَجَدتُّهَا
وَقَوْمَهَا ). وفي الكتاب أيضاً ضمير الجمع في قوله : ) أَن لا تَعْلُواْ عَلَىَّ
( ، والكتاب كان فيه الدعاء إلى الإسلام لبلقيس وقومها . ومعنى : ) فَانْظُرْ
مَاذَا يَرْجِعُونَ ( : أي تأمل واستحضره في ذهنك . وقيل معناه : فانتظر . ماذا :
إن كان معنى فانظر معنى التأمل بالفكر ، كان انظر معلقاً ، وماذا : إما كلمة
استفهام في موضع نصب ، وإما أن تكون ما استفهاماً وذا موصول بمعنى الذي . فعلى
الأول يكون يرجعون خبراً عن ماذا ، وعلى الثاني يكون ذا هو الخبر ويرجعون صلة ذا .
وإن كان معنى فانظر : فانتظر ، فليس فعل قلب فيعلق ، بل يكون ماذا كله موصولاً
بمعنى الذي ، أي فانتظر الذي يرجعون ، والمعنى : فانظر ماذا يرجعون حتى ترد إلى ما
يرجعون من القول .
( قَالَتْ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الْمَلا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ
إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَن لا
تَعْلُواْ عَلَىَّ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ
أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ
نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالاْمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى
مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا
وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنّى
مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ
فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ
خَيْرٌ مّمَّا ءاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ
إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا
وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّة
" صفحة رقم 69 "
وَهُمْ صَاغِرُونَ ).
في الكلام حذف تقديره : فأخذ الهدهد الكتاب وذهب به إلى بلقيس وقومها وألقاه إليهم
، كما أمره سليمان . فقيل : أخذه بمنقاره . وقيل : علقه في عنقه ، فجاءها حتى وقف
على رأسها ، وحولها جنودها ، فرفرف بجناحيه ، والناس ينظرون إليه ، حتى رفعت رأسها
، فألقى الكتاب في حجرها . وقيل : كانت في قصرها قد غلقت الأبواب واستلقت على
فراشها نائمة ، فألقي الكتاب على نحرها . وقيل : كانت في البيت كوة تقع الشمس فيها
كل يوم ، فإذا نظرت إليها سجدت ، فجاء الهدهد فسدها بجناحه ، فرأت ذلك وقامت إليه
، فألقى الكتاب إليها ، وكانت قارئة عربية من قوم تبع . وقيل : ألقاه من كوة
وتوارى فيها .
فأخذت الكتاب ونادت أشراف قومها : ) قَالَتْ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الْمَلاَ ). وكرم
الكتاب لطبعه بالخاتم ، وفي الحديث : ( كرم الكتاب ختمه ) أو لكونه من سليمان ،
وكانت عالمة بملكه ، أو لكون الرسول به الطير ، فظنته كتاباً سماوياً ؛ أو لكونه
تضمن لطفاً وليناً ، لا سباً ولا ما يغير النفس ، أو لبداءته باسم الله ، أقوال .
ثم أخبرتهم فقالت : ) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ ( ، كأنها قيل لها : ممن الكتاب وما
هو ؟ فقالت : ) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ ( ، وإنه كيت وكيت . أبهمت أولاً ثم فسرت
، وفي بنائها ألقي للمفعول دلالة على جهلها بالملقي ، حيث حذفته ، أو تحقيراً له ،
حيث كان طائراً ، إن كانت شاهدته . والظاهر أن بداءة الكتاب من سليمان باسم الله
الرحمن الرحيم ، إلى آخر ما قص الله منه خاصة ، فاحتمل أن يكونن من سليمان مقدماً
على بسم الله ، وهو الظاهر ، وقدمه لاحتمال أن يندر منها ما لا يليق ، إذ كانت
كافرة ، فيكون اسمه وقاية لاسم الله تعالى . أو كان عنواناً في ظاهر الكتاب ،
وباطنه فيه بسم الله إلى آخره . واحتمل أن يكون مؤخراً في الكتابة عن بسم الله ،
وإن ابتدأ الكتاب باسم الله ، وحين قرأته عليهم بعد قراءتها له في نفسها ، قدمته
في الحكاية ، وإن لم يكن مقدماً في الكتابة .
وقال أبو بكر بن العربي : كانت رسل المتقدمين إذا كتبوا كتاباً بدؤوا بأنفسهم ، من
فلان إلى فلان ، وكذلك جاءت الإشارة . وعن أنس : ما كان أحد أعظم حرمة من رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكان أصحابه إذا كتبوا إليه كتاباً بدؤوا بأنفسهم
. وقال أبو الليث في ( كتاب البستان ) له : ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز ، لأن الأمة
قد أجمعت عليه وفعلوه . وقرأ الجمهور : إنه من سليمان ، وإنه بكسر الهمزة فيهما .
وقرأ عبد الله : وإنه من سليمان ، بزيادة واو عطفاً على ) إِنّى أُلْقِىَ ). وقرأ
عكرمة ، وابن أبي عبلة : بفتحهما ، وخرج على البدل من كتاب ، أي ألقى إليّ أنه ،
أو على أن يكون التقدير لأنه كأنها . عللت كرم الكتاب لكونه من سليمان وتصديره
ببسم الله . وقرأ أبي : أن من سليمان وأن بسم الله ، بفتح الهمزة ونون ساكنة ،
فخرج على أن أن هي المفسرة ، لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى القول ، وعلى أنها أن
المخففة من الثقيلة ، وحذفت الهاء وبسم الله الرحمن الرحيم ، استفتاح شريف بارع
المعنى مبدوء به في الكتب في كل لغة وكل شرع . وأن في قوله : ) أَن لا تَعْلُواْ (
، قيل : في موضع رفع على البدل من كتاب . وقيل : في موضع نصب على معنى بأن لا
تعلوا ، وعلى هذين التقديرين تكون أن ناصبة للفعل . وقال الزمخشري : وأن في ) أَن
لا تَعْلُواْ عَلَىَّ ( مفسرة ، فعلى هذا تكون لا في لا تعلوا للنهي ، وهو حسن
لمشاكلة عطف الأمر عليه . وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير هو أن لا تعلوا ، فيكون
خبر مبتدأ محذوف . ومعنى لا تعلوا : لا تتكبروا ، كما يفعل الملوك . وقرأ ابن عباس
، في رواية وهب بن منبه والأشهب العقيلي : أن لا تعلوا ، بالغين المعجمة ، أي ألا
تتجاوزوا الحد ، وهو من الغلو . والظاهر أنه طلب منهم أن يأتوه وقد أسلموا ،
وتركوا الكفر وعبادة الشمس . وقيل : معناه مذعنين مستسلمين من الانقياد والدخول في
الطاعة
" صفحة رقم 70 "
وما كتبه سليمان في غاية الإيجاز والبلاغة ، وكذلك كتب الأنبياء .
والظاهر أن الكتاب هو ما نص الله عليه فقط . واحتمل أن يكون مكتوباً بالعربي ، إذ
الملوك يكون عندهم من يترجم بعدة ألسن ، فكتب بالخط العربي واللفظ العربي ، لأنها
كانت عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري . واحتمل أن يكون باللسان الذي كان
سليمان يتكلم به ، وكان عندها من يترجم لها ، إذ كانت هي عارفة بذلك اللسان . وروي
أن نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : السلام على من
اتبع الهدى ، أما بعد ، فلا تعلوا عليّ وائتوني مسلمين . وكانت كتب الأنبياء جملاً
لا يطيلون ولا يكثرون ، وطبع الكتاب بالمسك ، وختمه بخاتمة . وروي أنه لم يكتب أحد
بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان ، ولما قرأت على الملأ الكتاب ، ورأت ما فيه من
الانتقال إلى سليمان ، استشارتهم في أمرها . قال قتادة : وكان أولو مشورتها
ثلاثمائة واثني عشر ، وعنه : وثلاثة عشر ، كل رجل منهم على عشرة آلاف ، وكانت بأرض
مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام ، وذكر عن عسكرها ما هو أعظم وأكثر من هذا ، والله
أعلم بذلك . وتقدم الكلام في الفتوى في سورة يوسف ، والمراد هنا : أشيروا عليّ بما
عندكم في ما حدث لها من الرأي السديد والتدبير . وقصدت بإشارتهم : استطلاع آرائهم
واستعطافهم وتطييب أنفسهم ليمالئوها ويقوموا .
( مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً ( : أي مبرمة وفاصلة أمراً ، ( حَتَّى تَشْهَدُونِ
( : أي تحضروا عندي ، فلا أستبد بأمر ، بل تكونون حاضرين معي . وفي قراءة عبد الله
: ما كنت قاضية أمراً ، أي لا أبت إلا وأنتم حاضرون معي . وما كنت قاطعة أمراً ،
عام في كل أمر ، أي إذا كانت عادتي هذه معكم ، فكيف لا أستشيركم في هذه الحادثة
الكبرى التي هي الخروج من الملك والانسلاك في طاعة غيري والصيرورة تبعاً ؟ فراجعها
الملأ بما أقرعينها من قولهم : إنهم ) أُوْلُواْ قُوَّةٍ ( ، أي قوة بالعدد والعدد
، ( وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ( : أي أصحاب شجاعة ونجدة . أظهروا القوة العرضية ،
ثم القوة الذاتية ، أي نحن متهيؤون للحرب ودفع هذا الحادث . ثم قالوا : )
وَالاْمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ ( ، وذلك من حسن محاورتهم ، إذ
وكلوا الأمر إليها ، وهو دليل على الطاعة المفرطة ، أي نحن ذكرنا ما نحن عليه ،
ومع ذلك فالأمر موكول إليك ، كأنهم أشاروا أولاً عليه بالحرب ، أو أرادوا : نحن
أبناء الحرب لا أبناء الاستشارة ، وأنت ذات الرأي والتدبير الحسن . فانظري ماذا
تأمرين به ، نرجع إليك ونتبع رأيك ، وفانظري من التأمل والتفكر ، وماذا هو المفعول
الثاني لتأمرين ، والمفعول الأول محذوف لفهم المعنى ، أي تأمريننا . والجملة معلق
عنها انظري ، فهي في موضع مفعول لا نظري بعد إسقاط الحرف من اسم الاستفهام .
ولما وصل إليها كتاب سليمان ، لا على يد رجل بل على طائر ، استعظمت ملك سليمان ،
وعلمت أن من سخر له الطير حتى يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب ، غير
ممتنع عليه تدويخ الأرض وملوكها ، فأخبرت بحال الملوك ومالت إلى المهاداة والصلح
فقالت : ) إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً ( : أي تغلبوا عليها ، (
أَفْسَدُوهَا ( : أي خربوها بالهدم والحرق والقطع ، وأذلوا أعزة أهلها بالقتل
والنهب والأسر ، وقولها فيه تزييف لآرائهم في الحرب ، وخوف عليهم وحياطة لهم ،
واستعظام لملك سليمان . والظاهر أن ) وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ ( هو من قولها ، أي
عادة الملوك المستمرة تلك من الإفساد والتذليل ، وكانت ناشئة في بيت الملك ، فرأت
ذلك وسمعت . ذكرت ذلك تأكيداً لما ذكرت من حال الملوك . وقيل : هو من كلام الله
إعلاماً لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمته ، وتصديقاً لإخبارها عن الملوك إذا
تغلبوا .
ولما كانت عادة الملوك قبول الهدايا ، وأن قبولها يدل على الرضا والإلفة ، قالت :
) وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ ( ، أي إلى سليمان ومن معه ، رسلاً بهدية ، وجاء
لفظ الهدية مبهماً . وقد ذكروا في تعيينها أقوالاً مضطربة متعارضة ، وذكروا من
حالها ومن حال سليمان حين وصلت إليه الهدية ، وكلامه مع رسولها ما الله أعلم به .
و ) فَنَاظِرَةٌ ( معطوف على ) مُرْسِلَةٌ ). و ) بِمَ ( متعلق بيرجع . ووقع
للحوفي أن البائ متعلقة بناظرة ، وهو وهم فاحش ، والنظر هنا معلق أيضاً . والجملة
في موضع مفعول به ، وفيه دلالة على أنها لم تثق بقبول الهدية ، بل جوزت الرد ،
وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان . والهدية : اسم لما يهدي ، كالعطية هي اسم
لما يعطى . وروي أنها قالت لقومها : إن كان ملكاً دنياوياً ، أرضاه المال وعملنا
معه بحسب ذلك ، وإن كان نبياً ، لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه ، وفي
الكلام حذف تقديره : فأرسلت الهدية ، فلما جاء ، أي الرسول سليمان ، والمراد
بالرسول الجنس لا حقيقة المفرد ، وكذلك الضمير في ارجع والرسول يقع على الجمع
" صفحة رقم 71 "
والمفرد والمذكر والمؤنث . وقرأ عبد الله : فلما جاءوا ، قرأ : ارجعوا ، جعله
عائداً على قوله : ) الْمُرْسَلُونَ ). و ) أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ ( : استفهام
إنكار واستقلال ، وفي ذلك دلالة على عزوفه عن الدنيا ، وعدم تعلق قلبه عليه الصلاة
والسلام بها .
ثم ذكر نعمة الله عليه ، وإن ما آتاه الله من النبوة وسعة الملك خير مما آتاكم ،
بل أنتم بما يهدى إليكم تفرحون بحبكم الدنيا ، والهدية تصح إضافتها إلى المهدي
وإلى المهدي إليه ، وهي هنا مضافة للمهدي إليه ، وهذا هو الظاهر . ويجوز أن تكون
مضافة إلى المهدي ، أي بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على
الملوك ، فإنكم قدرتم على إهداء مثلها . ويجوز أن تكون عبارة عن الرد ، كأنه قال :
بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها . وقرأ جمهور السبعة : أتمدونني ،
بنونين ، وأثبت بعض الياء . وقرأ حمزة : بإدغام نون الرفع في نون الوقاية وإثبات
ياء المتكلم . وقرأ المسيبي ، عن نافع : بنون واحدة خفيفة . وقال الزمخشري : فإن
قلت : ما الفرق بين قولك : أتمدونني بمال وأنا أغني منكم ، وبين أن يقوله بالفاء ؟
قلت : إذا قلته بالواو ، فقد جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي عليه في الغنى ، وهو مع ذلك
يمدني بالمال ، وإذا قلته بالفاء ، فقد جعلته ممن خفيت عنه حالي ، وأنا أخبره
الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده ، كأني أقول له : أنكر عليك ما فعلت ، فإني
غني عنه وعليه . ورد قوله : ) فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ ). فإن قلت : فما وجه
الإضراب ؟ قلت : لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره ، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب
الذي حملهم عليه ، وهو أنهم لا يعرفون سبب رضاً ولا فرح إلا أن يهدي إليهم حظ من
الدنيا التي لا يعلمون غيرها . انتهى .
( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ( : هو خطاب للرسول الذي جاء بالهدية ، وهو المنذر بن عمرو
أمير الوفد ، والمعنى : ارجع إليهم بهديتهم ، وتقدمت قراءة عبد الله : ارجعوا
إليهم ، وارجعوا هنا لا تتعدى ، أي انقلبوا وانصرفوا إليهم . وقيل : الخطاب بقوله
: ارجع ، للهدهد محملاً كتاباً آخر . ثم أقسم سليمان فقال : ) فَلَنَأْتِيَنَّهُم
بِجُنُودٍ ( ، متوعداً لهم ، وفيه حذف ، أي إن لم يأتوني مسلمين . ودل هذا التوعد
على أنهم كانوا كفاراً باقين على الكفر إذ ذاك . والضمير في ) بِهَا ( عائد على
الجنود ، وهو جمع تكسير ، فيجوز أن يعود الضمير عليه ، كما يعود على الواحدة ، كما
قالت العرب : الرجال وأعضادها . وقرأ عبد الله : بهم . ومعنى ) لاَّ قِبَلَ ( : لا
طاقة ، وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة ، أي لا تقدرون أن تقابلوهم . والضمير في
منها عائد على سبأ ، وهي أرض بلقيس وقومها . وانتصب ) أَذِلَّةٍ ( على الحال . )
وَهُمْ صَاغِرُونَ ( : حال أخرى . والذل : ذهاب ما كانوا فيه من العز ، والصغار :
وقوعهم في أسر واستعباد ، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً .
وفي مجيء هاتين الحالتين دليل على جواز أن يقضي العامل حالين الذي حال واحد ، وهي
مسألة خلاف ، ويمكن أن يقال : إن الثانية هنا جاءت توكيداً لقوله : ) أَذِلَّةٍ (
، فكأنهما حال واحدة .
( قَالَ يَاءادَمُ أَيُّهَا الْمَلاَ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن
يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ
أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِى
عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ
إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ ).
في الكلام حذف تقديره : فرجع المرسل إليها بالهدية ، وأخبرها بما أقسم عليه سليمان
، فتجهزت للمسير إليه ، إذ علمت أنه نبي ولا طاقة لها بقتال نبي . فروي أنها أمرت
عند خروجها إلى سليمان ، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات ، بعضها في جوف بعض ، في
آخر قصر من قصورها ، وغلقت الأبواب ووكلت به حراساً يحفظونه ، وتوجهت إلى سليمان
في
" صفحة رقم 72 "
أقيالها وأتباعهم .
قال عبد الله بن شداد : فلما كانت على فرسخ من سليمان ، قال : ) أَيُّكُمْ
يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا ( ؟ وقال ابن عباس : كان سليمان مهيباً ، لا يبتدأ بشيء
حتى يكون هو الذي يسأل عنه . فنظر ذات يوم رهجاً قريباً منه فقال : ما هذا ؟
فقالوا : بلقيس ، فقال ذلك . واختلفوا في قصد سليمان استدعاء عرشها . فقال قتادة ،
وابن جريج : لما وصف له عظم عرشها وجودته ، أراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها
الإسلام ويمنع أخذ أموالهم ، والإسلام على هذا الدين ، وهذا فيه بعد أن يقع ذلك من
نبي أوتي ملكاً لم يؤته غيره . وقال ابن عباس ، وابن زيد : استدعاه ليريها القدرة
التي هي من عند الله ، وليغرب عليها سليمان والإسلام على هذا الاستسلام . وأشار
الزمخشري لقول فقال : ولعله أوحي إليه عليه السلام باستيثاقها من عرشها ، فأراد أن
يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه به من إجراء العجائب على يده ، مع اطلاعها على
عظيم قدرة الله تعالى ، وعلى ما يشهد لنبوة سليمان ويصدقها . انتهى . وقال الطبري
: أراد أن يختبر صدق الهدهد في قوله : ) وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( ، وهذا فيه بعد
، لأنه قد ظهر صدقة في حمل الكتاب ، وما ترتب على حمله من مشورة بلقيس قومها
وبعثها بالهدية . وقيل : أراد أن يؤتي به ، فينكر ويغير ، ثم ينظر أتثبته أم تنكره
، اختباراً لعقلها . والظاهر ترتيب هذه الأخبار على حسب ما وقعت في الوجود ، وهو
قول الجمهور . وعن ابن عباس أنه قال : ) أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا ( ؟ حين
ابتدأ النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال : ) وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ). ففي
ترتيب القصص تقديم وتأخير ، وفي قوله : ) أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا ( دليل
على جواز الاستعانة ببعض الاتباع في مقاصد الملوك ، ودليل على أنه قد يخص بعض
أتباع الأنبياء بشيء لا يكون لغيرهم ، ودليل على مبادرة من طلبه منه الملوك قضاء
حاجة ، وبداءة الشياطين في التسخير على الإنس ، وقدرتهم بأقدار الله على ما يبعد
فعله من الإنس . وقرأ الجمهور : عفريت ، وأبو حيوة : بفتح العين . وقرأ أبو رجاء ،
وأبو السمال ، وعيسى ، ورويت عن أبي بكر الصديق : عفرية ، بكسر العين ، وسكون
الفاء ، وكسر الراء ، بعدها ياء مفتوحة ، بعدها تاء التأنيث . وقال ذو الرمة :
كأنه كوكب في إثر عفرية
مصوّب في سواد الليل مقتضب
وقرأت فرقة : عفر ، بلا ياء ولا تاء ، ويقال في لغة طيىء وتميم : عفراة بالألف
وتاء التأنيث ، وفيه لغة سادسة عفارية ، ويوصف بها الرجل ، ولما كان قد يوصف به
الإنس خص بقوله من الجن . وعن ابن عباس : اسمه صخر . وقيل : كوري . وقيل : ذكران .
و ) ءاتِيكَ ( : يحتمل أن يكون مضارعاً واسم فاعل . وقال قتادة ، ومجاهد ، ووهب :
) مِن مَّقَامِكَ ( : أي من مجلس الحكم ، وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم
. وقيل : قبل أن تستوي من جلوسك قائماً . ) وَإِنّى عَلَيْهِ ( : أي على الإتيان
به لقوي على حمله ؛ ) أَمِينٌ ( : لا أختلس منه شيئاً . قال الحسن : كان كافراً ،
لكنه كان مسخراً ، والعفريت لا يكون إلا كافراً .
( قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ ( ، قيل : هو من الملائكة ، وهو
جبريل ، قاله النخعي . والكتاب : اللوح المحفوظ ، أو كتاب سليمان إلى بلقيس . وقيل
: ملك أيد الله به سليمان . وقيل : هو رجل من الإنس ، واسمه آصف بن برخيا ، كاتب
" صفحة رقم 73 "
سليمان ، وكان صديقاً عالماً قاله الجمهور . أو اسطوام ، أو هود ، أو مليخا ، قاله
قتادة . أو اسطورس ، أو الخضر عليه السلام ، قاله ابن لهيعة . وقالت جماعة : هو
ضبة بن اد جد بني ضبة ، من العرب ، وكان فاضلاً يخدم سليمان ، كان على قطعة من
خيله ، وهذه أقوال مضطربة ، وقد أبهم الله اسمه ، فكان ينبغي أن لا يذكر اسمه حتى
يخبر به نبي . ومن أغرب الأقوال أنه سليمان عليه السلام ، كأنه يقول لنفسه : )
قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ ( ، أو يكون خاطب
بذلك العفريت ، حكى هذا القول الزمخشري وغيره ، كأنه استبطأ ما قال العفريت ، فقال
له سليمان ذلك على تحقير العفريت . والكتاب : هو المنزل من عند الله ، أو اللوح
المحفوظ ، قولان . والعلم الذي أوتيه ، قال : اسم الله الأعظم وهو : يا حي يا قيوم
. وقيل : يا ذا الجلال والإكرام . وقيل بالعبرانية : أهيا شراهيا . وقال الحسن :
الله ثم الرحمن . والظاهر أن ارتداد الطرف حقيقة ، وأنه أقصر في المدة من مدة العفريت
، ولذلك روي أن سليمان قال : أريد أسرع من ذلك حين أجابه العفريت ، ولما كان
الناظر موصوفاً بإرسال البصر ، كما قال الشاعر : وكنت متى أرسلت طرفك رائدا
لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
وصف برد الطرف ، ووصف الطرف بالارتداد . فالمعنى أنك ترسل طرفك ، فقبل أن ترده أتيتك
به ، وصار بين يديك . فروي أن آصف قال لسليمان عليه السلام : مد عينيك حتى ينتهي
طرفك ، فمد طرفه فنظر نحو اليمن ، فدعا آصف فغاب العرش في مكانه بمأرب ، ثم نبع
عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله ، قبل أن يرد طرفه . وقال ابن جبير ، وقتادة :
قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى . وقال مجاهد : قبل أن تحتاج إلى
التغميض ، أي مدة ما يمكنك أن تمد بصرك دون تغميض ، وذلك ارتداده . قال ابن عطية :
وهذان القولان يقابلان قول من قال : إن القيام هو من مجلس الحكم ، ومن قال : إن
القيام هو من الجلوس ، فيقول في ارتداد الطرف هو أن تطرف ، أي قبل أن تغمض عينيك
وتفتحهما ، وذلك أن الثاني يعطي الأقصر في المدة ولا بد . انتهى . وقيل : طرفك
مطروفك ، أي قبل أن يرجع إليك من تنظر إليه من منتهى بصرك ، وهذا هو قول ابن جبير
وقتادة المتقدم ، لأن من يقع طرفك عليه هو مطروفك . وقال الماوردي : قبل أن ينقبض
إليك طرفك بالموت ، فخبره أنه سيأتيه قبل موته ، وهذا تأويل بعيد ، بل المعنى آتيك
به سريعاً . وقيل : ارتداد الطرف مجاز هنا ، وهو من باب مجاز التمثيل ، والمراد
استقصار مدة الإتيان به ، كما تقول لصاحبك : افعل كذا في لحظة ، وفي ردة طرف ، وفي
طرفة عين ، تريد به السرعة ، أي آتيك به في مدة أسرع من مدة العفريت .
( فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً ( عنده : في الكلام حذف تقديره : فدعا الله فأتاه
به ، فلما رآعه : أي عرش بلقيس . قيل : نزل على سليمان من الهواء . وقيل : نبع من
الأرض . وقيل : من تحت عرش سليمان ، وانتصب مستقراً على الحال ، وعنده معمول له .
والظرف إذا وقع في موضع الحال ، كان العامل فيه واجب الحذف . فقال ابن عطية : وظهر
العامل في الظرف من قوله : ) مُسْتَقِرّاً ( ، وهذا هو المقدر أبداً في كل ظرف وقع
في موضع الحال . وقال أبو البقاء : ومستقراً ، أي ثابتاً غر متقلقل ، وليس بمعنى
الحضور المطلق ، إذ لو كان كذلك لم يذكر . انتهى . فأخذ في مستقراً أمراً زائداً
على الاستقرار المطلق ، وهو كونه غير متقلقل ، حتى يكون مدلوله غير مدلول العندية
، وهو توجيه حسن لذكر العامل في الظرف الواقع حالاً ؛ وقد رد ذكر العامل في ما وقع
خبراً من الجار والمجرور التام في قول الشاعر : لك العزان مولاك عزوان يهن
فأنت لدى بحبوحة الهون كائن
) قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى ( : أي هذا الإتيان بعرشها ، وتحصيل ما أردت من
ذلك ، هو من فضل ربي عليّ وإحسانه ، ثم علل
" صفحة رقم 74 "
ذلك بقوله : ) ( سقط : ليبلوني أأشكر أم أكفر ) ). قال ابن عباس : المعنى أأشكر
على السرير وسوقه أم أكفر ؟ إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني . انتهى .
وتلقى سليمان النعمة وفضل الله بالشكر ، إذ ذاك نعمة متجددة ، والشكر قيد للنعم .
وأأشكر أم أكفر في موضع نصب ليبلوني ، وهو معلق ، لأنه في معنى التمييز ، والتمييز
في معنى العلم ، وكثير التعليق في هذا الفعل إجراء له مجرى العلم ، وإن لم يكن
مرادفاً له ، لأن مدلوله الحقيقي هو الاختبار . ) وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ( : أي ذلك الشكر عائد ثوابه إليه ، إذ كان قد صان نفسه عن
كفران النعمة ، وفعل ما هو واجب عليه من شكر نعمة الله عليه . ) وَمَن كَفَرَ ( :
أي فضل الله ونعمته عليه ، فإن ربي غني عن شكره ، لا يعود منفعتها إلى الله ، لأنه
هو الغني المطلق الكريم بالإنعام على من كفر نعمته . والظاهر أن قوله : ) فَإِنَّ رَبّى
غَنِىٌّ كَرِيمٌ ( هو جواب الشرط ، ولذلك أضمر فاء في قوله : ) غَنِىٌّ ( ، أي عن
شكره . ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً دل عليه ما قبله من قسيمة ، أي ومن كفر
فلنفسه ، أي ذلك الكفر عائد عقابه إليه . ويجوز أن تكون ما موصولة ، ودخلت الفاء
في الخبر لتضمنها معنى الشرط .
( قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا ). روي أن الجن أحست من سليمان ، أو ظنت به أنه
ربما تزوج بلقيس ، فكرهوا ذلك ورموها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة ، وأن رجلها
كحافر دابة ، فجرب عقلها وميزها بتنكير العرش ، ورجلها بالصرح ، لتكشف عن ساقيها
عنده . وتنكير عرشها ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : بأن زيد فيه ونقص منه . وقيل
: بنزع ما عليه من الفصوص والجواهر . وقيل : يجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره .
والتنكير : جعله متنكراً متغيراً عن شكله وهيئته ، كما يتنكر الرجل للناس حتى لا
يعرفوه . وقرأ الجمهور : ننظر : بالجزم على جواب الأمر . وقرأ أبو حيوة : بالرفع
على الاستئناف . أمر بالتنكير ، ثم استأنف الإخبار عن نفسه بأنه ينظر ، ومتعلق
أتهتدي محذوف . والظاهر أنه أتهتدي لمعرفة عرشها ولا يجعل تنكيره قادحاً في
معرفتها له فيظهر بذلك فرط عقلها وأنها لم يخف عليه حال عرشها وإن كانوا قد راموا
الإخفاء أو أتهتدي للجواب المصيب إذا سئلت عنه ، أو أتهتدي للإيمان بنبوة سليمان
عليه السلام إذا رأت هذا المعجز من نقل عرشها من المكان الذي تركته فيه وغلقت
الأبواب عليه وجعلت له حراساً .
( فَلَمَّا جَاءتْ ( ، في الكلام حذف ، أي فنكروا عرشها ونظروا ما جوابها إذا سئلت
عنه . ) فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ( : أي مثل هذا العرش الذي أنت
رأيتيه عرشك الذي تركتيه ببلادك ؟ ولم يأت التركيب : أهذا عرشك ؟ جاء بأداة
التشبيه ، لئلا يكون ذلك تلقيناً لها . ولما رأته على هيئة لا تعرفها فيه ، وتميزت
فيه أشياء من عرشها ، لم تجزم بأنه هو ، ولا نفته النفي البالغ ، بل أبرزت ذلك في
صورة تشبيهية فقالت : ) كَأَنَّهُ هُوَ ( ، وذلك من جودة ذهنها ، حيث لم تجزم في
الصورة المحتملة بأحد الجائزين من كونه إياه أو من كونه ليس إياه ، وقابلت تشبيههم
بتشبيهها . والظاهر أن قوله : ) وَأُوتِينَا الْعِلْمَ ( إلى قوله : ) مِن قَوْمٍ
كَافِرِينَ ( ليس من كلام بلقيس ، وإن كان متصلاً بكلامها . فقيل : من كلام سليمان
. وقيل : من كلام قوم سليمان وأتباعه . فإن كان من قول سليمان فقيل : العلم هنا
مخصوص ، أي وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة . ) مِن قَبْلِهَا ( أي من قبل
مجيئها . ) وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ( : موحدين خاضعين . وقال ابن عطية : وفي الكلام
حذف تقديره كأنه هو ، وقال سليمان عند ذلك : ) وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن
قَبْلِهَا ( الآية ، قال ذلك على جهة تعديد نعم الله تعالى ، وإنما قال ذلك بما
علمت هي وفهمت ، ذكر هو نعمة الله عليه وعلى آبائه . انتهى ملخصاً . وقال الزمخشري
: وأوتينا العلم من كلام سليمان وملائه ، فإن قلت : علام عطف هذا الكلام وبما اتصل
؟ قلت : لما كان المقام الذي سئلت فيه عن
" صفحة رقم 75 "
عرشها ، وأجابت بما أجابت به مقاماً ، أجرى فيه سليمان وملأه ما يناسب قولهم : )
وَأُوتِينَا الْعِلْمَ ( ، نحو أن يقولوا عند قولها : ) كَأَنَّهُ هُوَ ( ، قد
أصابت في جوابها ، فطبقت المفصل ، وهي عاقلة لبيبة ، وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة
الله وصحة النبوّة بالآيات التي تقدمت عند وفدة المنذر .
وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم : وأوتينا نحن العلم بالله
وبقدرته وبصحة نبوّة سليمان ما جاء من عنده قبل علمها ، ولم نزل نحن على دين
الإسلام ، شكروا الله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها
وصدها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة . ويجوز أن
يكون من كلام بلقيس موصولاً بقولها ) كَأَنَّهُ هُوَ ( ، والمعنى : وأوتينا العلم
بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة ، أو قبل هذه الحالة ، يعني ما
تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام . ثم قال الله تعالى : )
وَصَدَّهَا ( قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل . وقيل : وصدها الله أو
سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار واتصال الفعل . انتهى . أما قوله : ويجوز
أن يكون من كلام بلقيس ، فهو قول قد تقدم إليه على سبيل التعيين لا الجوار . قيل :
والمعنى وأوتينا العلم بصحة نبوته بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل
هذه المعجزة ، يعني إحضار العرش . وكنا مسلمين مطيعين لأمرك منقادين لك . والظاهر
أن الفاعل بصدّها هو قوله : ) مَا كَانَت تَّعْبُدُ ( ، وكونه الله أو سليمان ،
وما مفعول صدّها على إسقاط حرف الجر ، قاله الطبري ، وهو ضعيف لا يجوز إلا في
ضرورة الشعر ، نحو قوله :
تمرون الديار ولم تعوجوا
أي عن الديار ، وليس من مواضع حذف حرف الجر . وإذا كان الفاعل هو ما كانت بالمصدود
عنه ، الظاهر أنه الإسلام . وقال الرماني : التقدير التفطن للعرش ، لأن المؤمن يقظ
والكافر خبيث . والظاهر أن قوله : ) وَصَدَّهَا ( معطوف على قوله : ) وَأُوتِينَا
( ، إذا كان من كلام سليمان ، وإن كان يحتمل ابتداء إخبار من الله تعالى لمحمد
نبيه ولأمته . وإن كان وأوتينا من كلام بلقيس ، فالظاهر أنه يتعين كونه من قول
الله تعالى وقول من قال إنه متصل بقوله : ) أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ
الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ ). والواو في صدها للحال ، وقد مضمرة مرغوب عنه لطول
الفصل بينهما ، ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة . وقرأ
الجمهور : إنها بكسر الهمزة ، وسعيد بن جبير ، وابن أبي عبلة : بفتحها ، فإما على
تقدير حرف الجر ، أي لأنها ، وإما على أن يكون بدلاً من الفاعل الذي هو ما كانت
تعبد .
قال محمد بن كعب القرظي وغيره : لما وصلت بلقيس ، أمر سليمان الجن فصنعت له صرحاً
، وهو السطح في الصحن من غير سقف ، وجعلته مبنياً كالصهريج ومليء ماء ، وبث فيه
السمك والضفادع ، وجعل لسليمان في وسطه كرسي . فلما وصلته بلقيس ، ( قِيلَ لَهَا
ادْخُلِى ( إلى النبي عليه السلام ، فرأت اللجة وفزعت ، ولم يكن لها بد من امتثال
الأمر ، فكشفت عن ساقيها ، فرأى سليمان ساقيها سليمتين مما قالت الجن . فلما بلغت هذا
الحد ، قال لها سليمان : ) إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ ( ، وعند ذلك
استسلمت بلقيس وأدغنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم . وفي هذه الحكاية زيادة ،
وهو أنه وضع سريره في وصدره وجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس . قال
الزمخشري : وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحققاً لنبوته وثباتاً على
الدين . انتهى . والصرح : كل بناء عال ، ومنه : ) ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلّى
أَبْلُغُ الاْسْبَابَ ( ، وهو من التصريح ، وهو الإعلان البالغ . وقال مجاهد :
الصرح هنا : البركة . وقال ابن عيسى : الصحن ، وصرحة الدار : ساحتها . وقيل :
الصرح هنا : القصر من
" صفحة رقم 76 "
الزجاج ؛ وفي الكلام حذف ، أي فدخلته امتثالاً للأمر . واللجة : الماء الكثير .
وكشف ساقيها عادة من كان لابساً وأراد أن يخوض الماء إلى مقصد له ، ولم يكن
المقصود من الصرح إلا تهويل الأمر ، وحصل كشف الساق على سبيل التبع ، إلا أن يصح
ما روي عن الجن أن ساقها ساق دابة بحافر ، فيمكن أن يكون استعلام ذلك مقصوداً .
وقرأ ابن كثير : قيل في رواية الأخريط وهب بن واضح عن سأقيها بالهمز ، قال أبو علي
: وهي ضعيفة ، وكذلك في قراءة قنبل : يكشف عن سأق ، وأما همز السؤق وعلى سؤقه فلغة
مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة . حكى أبو علي أن أبا حية النميري كان يهمز كل
واو قبلها ضمة ، وأنشد :
أحب المؤقدين إلى موسى
والظاهر أن الفاعل قال هو سليمان ، ويحتمل أن يكون الفاعل هو الذي أمرها بدخول
الصرح . وظلمها نفسها ، قيل : بالكفر ، وقيل : بحسبانها أن سليمان أراد أن يعرفها
. وقال ابن عطية : ومع ، ظرف بني على الفتح ، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه
حرف جاء لمعنى . انتهى ، والصحيح أنها ظرف ، فتحت العين أو سكنت ، وليس التسكين
مخصوصاً بالشعر ، كما زعم بعضهم ، بل ذلك لغة لبعض العرب ، والظرفية فيها مجاز ،
وإنما هو اسم يدل على معنى الصحبة .
2 ( ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ
اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ ياقَوْمِ لِمَ
تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ
قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ وَكَانَ فِى
الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الاٌّ رْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ
قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ
لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُواْ
مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ
بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ فِى ذالِكَ لاّيَةً لِّقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ وَلُوطاً
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَءِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ
لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا
عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ
مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَان
" صفحة رقم 77 "
لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ
يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الاٌّ رْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً
وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلاهٌ مَّعَ
الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا
دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الاٌّ رْضِ أَءِلَاهٌ مَّعَ
اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ
أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والاٌّ رْضِ
أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل
لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاواتِ والاٌّ رْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ بَلْ
هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَآؤُنَآ أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا
هَاذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ
وَّلِينَ قُلْ سِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا
يَمْكُرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ
عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ وَإِنَّ
رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ
غَآئِبَةٍ فِى السَّمَآءِ وَالاٌّ رْضِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ إِنَّ هَاذَا
الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِىإِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ إِن رَبَّكَ يَقْضِى
بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ
تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِى
الْعُمْىِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِأايَاتِنَا فَهُم
مُّسْلِمُونَ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً
مِّنَ الاٌّ رْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِأايَاتِنَا لاَ
يُوقِنُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ
بِأايَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم
بِأايَاتِى وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ أَلَمْ
يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً
إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ
فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاٌّ رْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ
وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ
تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِىأَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ إِنَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ
مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ
" صفحة رقم 78 "
وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا
وَلَهُ كُلُّ شَىءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ
الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ
إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ
ءَايَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( )
النمل : ( 45 ) ولقد أرسلنا إلى . . . . .
والحديقة : البستان ، كان عليه جدار أو لم يكن . الحاجز : الفاصل بين الشيئين .
الفوج : الجماعة . الجمود : سكون الشيء وعدم حركته . الإتقان : الإتيان بالشيء على
أحسن حالاته من الكمال والإحكام في الخلق ، وهو مشتق من قول العرب : تقنوا أرضهم
إذا أرسلوا فيها الماء الخاثر بالتراب فتجود ، والتقن : ما رمي به الماء في الغدير
، وهو الذي يجيء به الماء من الخثورة . كبيت الرجل : ألقيته لوجهه .
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ
فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٍ لَّمْ
تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ
قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ وَكَانَ فِى
الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ
قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ
لِوَلِيّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُواْ
مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ
بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ فِى ذالِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ).
ثمود هي عاد الأولى ، وصالح أخوهم في النسب . لما ذكر قصة موسى وداود وسليمان ،
وهم من بني إسرائيل ، ذكر قصة من هو من العرب ، يذكر بها قريشاً والعرب ، وينبههم
أن من تقدم من الأنبياء من العرب كان يدعو إلى إفراد الله تعالى بالعبادة ،
ليعلموا أنهم في عبادة الأصنام على ضلالة ، وأن شأن الأنبياء عربهم وعجمهم هو
الدعاء إلى عبادة الله ، وإن في : ) أَنِ اعْبُدُواْ ( يجوز أن تكون مفسرة ، لأن )
أَرْسَلْنَا ( تتضمن معنى القول ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي بأن اعبدوا ، فحذف
حرف الجر ، فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب ، وعلى الثاني ففي موضعها خلاف ،
أهو في موضع نصب أم في موضع جر ؟ والظاهر أن الضمير في ) فَإِذَا هُم ( عائد على )
ثَمُودُ ( ، وأن قومه انقسموا فريقين : مؤمناً وكافراً ، وقد جاء ذلك مفسراً في
سورة الأعراف في قوله : ) قَالَ الْمَلاَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ
لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ ). وقال الزمخشري : أريد
بالفريقين : صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد . انتهى . فجعل الفريق الواحد هو
صالح ، والفريق الآخر قومه ، وإذا هنا هي الفجائية ، وعطف بالفاء التي تقتضي
التعقيب لا المهلة ، فكان المعنى : أنهم بادروا بالاختصام ، متعقباً دعاء صالح
إياهم إلى عبادة الله . وجاء ) يَخْتَصِمُونَ ( على المعنى ، لأن الفريقين جمع ،
فإن كان الفريقان من آمن ومن كفر ، فالجمعية حاصلة في كل فريق ، ويدل على أن فريق
المؤمن جمع قوله : ) ( سقط : إنا بالذي آمنتم به كافرون ) ( فقال : آمنتم ، وهو
ضمير الجمع . وإن كان الفريق المؤمن هو صالح وحده ، فإنه قد انضم إلى قومه ،
والمجموع جمع ، وأوثر يختصمون على يختصمان ، وإن كان من حيث التثنية جائرا فصيحاً
، لأنه مقطع فصل ، واختصاصهم دعوى كل فريق أن الحق معه ، وقد ذكر الله
" صفحة رقم 79 "
تخاصمهم في سورة الأعراف .
ثم تلطف صالح بقومه ورفق بهم في الخطاب فقال منادياً لهم على جهة التحنن عليهم : )
لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيّئَةِ ( ، أي بوقوع ما يسوؤكم قبل الحالة الحسنة ،
وهي رحمة الله . وكان قد قال لهم في حديث الناقة : ) وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء
فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( فقالوا له : ) ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ ).
وقيل : لم تستعجلون بوقوع المعاصي منكم قبل الطاعة ؟ قال الزمخشري : فإن قلت : ما
معنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة ؟ وإنما يكون ذلك إذا كانتا متوقعتين إحداهما
قبل الأخرى ؟ قلت : كانوا يقولون بجهلهم : إن العقوبة التي يعدنا صالح ، إن وقعت
على زعمه ، تبنا حينئذ واستغفرنا ، مقدرين أن التوبة مقبولة في ذلك الوقت ، وإن لم
تقع ، فنحن على ما نحن عليه ، فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب قولهم واعتقادهم .
انتهى . ثم حضهم على ما فيه درء السيئة عنهم ، وهو الإيمان واستغفار الله مما سبق
من الكفر ، وناط ذلك يترجى الرحمة ، ولم يجزم بأنه يترتب على استغفارهم . وكان في التحضيض
تنبيه على الخطأ منهم في استعجال العقوبة ، وتجهيل لهم في اعتقادهم .
ولما لاطفهم في الخطاب أغلظوا له وقالوا : ) اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ (
: أي تشاء منا بك وبالذين آمنوا معك . ودل هذا العطف على أن الفريقين كانوا مؤمنين
وكافرين لقوله : ) وَبِمَن مَّعَكَ ( ، وكانوا قد قحطوا . وتقدم الكلام في معنى
التطير في سورة الأعراف ، جعلوا سبب قحطهم هو ذات صالح ومن آمن معه ، فرد عليهم
بقوله : ) طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ( : أي حظكم في الحقيقة من خير أو شر هو عند
الله وبقضائه ، إن شاء رزقكم ، وإن شاء حرمكم . وقال الزمخشري : ويجوز أن يريد
عملكم مكتوب عند الله ، فمنه نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وفتنة ، ومنه طائركم معكم ،
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه . وقرىء : تطيرنا بك على الأصل ، ومعنى تطير به :
تشاءم به ، وتطير منه : نفر عنه . انتهى . ثم انتقل إلى الإخبار عنهم بحالهم فقال
: ) بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ( ، أي تختبرون ، أو تعذبون ، أو يفتنكم
الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة ، أو تفتنون بشهواته : أي تشفعون بها ، كما يقال :
فتن فلان بفلان . وقال الشاعر : داء قديم في بني آدم
فتنة إنسان بإنسان
وهذه أقوال يحتملها لفظ تفتنون ، وجاء تفتنون بتاء الخطاب على مراعاة أنتم ، وهو
الكثير في لسان العرب . ويجوز يفتنون بياء الغيبة على مراعاة لفظ قوم ، وهو قليل .
تقول العرب : أنت رجل تأمر بالمعروف ، بتاء الخطاب وبياء الغيبة . والمدينة مجتمع
ثمود وقريتهم ، وهي الحجر . وذكر المفسرون أسماء التسعة ، وفي بعضها اختلاف ،
ورأسهم : قدار بن سالف ، وأسماؤهم لا تنضبط بشكل ولا تتعين ، فلذلك ضربنا صفحاً عن
ذكرها ، وكانوا عظماء القرية وأغنياءها وفساقها . والرهط : من الثلاثة إلى العشرة
، والنفر : من الثلاثة إلى التسعة ، واتفق المفسرون على أن المعنى : تسعة رجال .
وقال الزمخشري : إنما جاز تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة ، فكأنه قيل :
تسعة أنفس . انتهى . وتقدير غيره : تسعة رجال هو الأولى ، لأنه من حيث أضاف إلى
أنفس كان ينبغي أن يقول : تسع أنفس ، على تأنيث النفس ، إذ الفصيح فيها التأنيث .
ألا تراهم عدواً من الشذوذ قول الشاعر :
" صفحة رقم 80 "
ثلاثة أنفس وثلاث ذود
فأدخل التاء في ثلاثة ؛ وكان الفصيح أن يقول : ثلاث أنفس . وقال أبو عبد الله
الرازي : الأقرب أن يكون المراد تسعة جمع ، إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد
، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد ، لاختلاف صفاتهم
وأحوالهم ، لا لاختلاف أجناسهم . انتهى . قيل : والرهط اسم الجماعة ، وكأنهم كانوا
رؤساء ، مع كل واحد منهم رهط . وقال الكرماني : وأصله من الترهيط ، وهو تعظيم
اللقم وشدة الأكل . انتهى . ورهط : اسم جمع ، واتفقوا على أن فصله بمن هو الفصيح
كقوله تعالى : ) فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطَّيْرِ ). واختلفوا في جواز إضافة
العدد إليه ، فذهب الأخفش إلى أنه لا ينقاس ، وما ورد من الإضافة إليه فهو على
سبيل الندور . وقد صرح سيبويه أنه لا يقال : ثلاث غنم ، وذهب قوم إلى أنه يجوز ذلك
وينقاس ، وهو مع ذلك قليل ، وفصل قوم بين أن يكون اسم الجمع للقليل ، كرهط ونفر
وذود ، فيجوز أن يضاف إليه ، أو للتكثير ، أو يستعمل لهما ، فلا تجوز إضافته إليه
، وهو قول المازني ، وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة في ( شرح التسهيل ) .
و ) يُفْسِدُونَ ( : صفة لتسعة رهط ، والمعنى : أنهم يفسدون الفساد العظيم الذي لا
يخالطه شيء من الإصلاح ، فلذلك قال : ) وَلاَ يُصْلِحُونَ ( ، لأن بعض من يقع منه
إفساد قد يقع منه إصلاح في بعض الأحيان . وقرأ الجمهور : تقاسموا ، وابن أبي ليلى
: تقسموا ، بغير ألف وتشديد السين ، وكلاهما من القسم والتقاسم والتقسيم ،
كالتظاهر والتظهير . والظاهر أن قوله ) تَقَاسَمُواْ ( فعل أمر محكي بالقول ، وهو
قول الجمهور ، أشار بعضهم على بعض بالحلف على تبييت صالح . وأجاز الزمخشري وابن
عطية أن يكون تقاسموا فعلاً ماضياً في موضع الحال ، أي قالوا متقاسمين . قال الزمخشري
: تقاسموا يحتمل أن يكون أمراً وخبراً على محل الحال بإضمار قد ، أي قالوا :
متقاسمين . انتهى . أما قوله : وخبراً ، فلا يصح لأن الخبر هو أحد قسمي الكلام ،
إذ هو منقسم إلى الخبر والإنشاء ، وجميع معانيه إذا حققت راجعة إلى هذين القسمين .
وقال بعد ذلك وقرىء لنبيتنه بالياء والتاء والنون ، فتقاسموا مع النون والتاء يصح
فيه الوجهان ، يعني فيه : أي في تقاسموا بالله ، والوجهان هما الأمر والخبر عنده .
قال : ومع الياء لا يصح إلا أن يكون خبراً . انتهى . والتقييد بالحال ليس إلا من
باب نسبة التقييد ، لا من نسبة الكلام التي هي الإسناد ، فإذا أطلق عليها الخير