Translate

السبت، 28 مايو 2022

مجلد 23. ز24.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

 

23.  مجلد 23. تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 112 "
إلا على مذهب أبي الحسن في قوله : إن ركبا جمع راكب . وقال أيضاً الزمخشري : وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث ، لأنهن توابع لرجالهن . انتهى . وغيره يجعله من باب التغليب والنهي ، ليس مختصاً بانصبابه على قوم ونساء بقيد الجمعية من حيث المعنى ، وإن كان ظاهر اللفظ ذلك ، بل المعنى : لا يسخر أحد من أحد ، وإنما ذكر الجمع ، والمراد به كل فرد فرد ممن يتناوله عموم البدل . فكأنه إذا سخر الواحد ، كان بمجلسه ناس يضحكون على قوله ، أو بلغت سخريته ناساً فضحكوا ، فينقلب الحال إلى جماعة . ) عَسَى أَن يَكُونُواْ ( : أي المسخور منهم ، ( خَيْراً مّنْهُمْ ( : أي من الساخرين بهم . وهذه الجملة مستأنفة ، وردت مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه ، أي ربما يكون المسخور منه عند الله خيراً من الساخر ، لأن العلم بخفيات الأمور إنما هو لله تعالى . وعن ابن مسعود : لو سخرت من كلب ، خشيت أن أحول كلباً .
( وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء ( : روي أن عائشة وحفصة ، رضي الله تعالى عنهما ، رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها ، فقالت عائشة لحفصة : انظري إلى ما يجر خلفها ، كأنه لسان كلب . وعن عائشة ، أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية ، وكانت قصيرة . وعن أنس : كان نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) يعيرن أم سلمة بالقصر . وقالت صفية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها : هلا قلت إن أبي هارون ، وإن عمي موسى ، وإن زوجي محمد ؟ وقرأ عبد الله وأبي : عسوا أن يكونوا ، وعسين أن يكن ، فعسى ناقصة ، والجمهور : عسى فيهما تامّة ، وهي لغتان : الإضمار لغة تميم ، وتركه لغة الحجاز .
( وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( : ضم الميم في تلمزوا ، الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو . وقال أبو عمرو : هي عربية ؛ والجمهور ؛ بالكسر ، واللمز بالقول والإشارة ونحوه مما يفهمه آخر ، والهمز لا يكون إلا باللسان ، والمعنى : لا يعب بعضكم بعضاً ، كما قال : فاقتلوا أنفسكم ، كأن المؤمنين نفس واحدة ، إذ هم إخوة كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، وكالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى . ومفهوم أنفسكم أن له أن يعيب غيره ، مما لا يدين بدينه . ففي الحديث : ( اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس ) . وقيل : المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به ، لأن من فعل ما استحق اللمز ، فقد لمز نفسه .
( وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاْلْقَابِ ( : اللقب إن دل على ما يكرهه المدعو به ، كان منهياً ، وأما إذا كان حسناً ، فلا ينهى عنه . وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير . وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب ، فنزلت الآية بسبب ذلك . وفي الحديث : ( كنوا أولادكم ) . قال عطاء : مخافة الألقاب . وعن عمر : ( أشيعوا الكنى فإنها سنة ) . انتهى ، ولا سيما إذا كانت الكنية غريبة ، لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنى بها في عصره ، فإنه يطير بها ذكره في الآفاق ، وتتهادى أخباره الرفاق ، كما جرى في كنيتي بأبي حيان ، واسمي محمد . فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر ، مما يقع فيه الاشتراك ، لم أشتهر تلك الشهرة ، وأهل بلادنا جزيرة الأندلس كثيراً ما يلقبون الألقاب ، حتى قال فيهم أبو مروان الطنبي : يا أهل أندلس ما عندكم أدب
بالمشرق الأدب النفاخ بالطيب
يدعى الشباب شيوخاً في مجالسهم
والشيخ عندكم يدعى بتلقيب
فمن علماء بلادنا وصالحيهم من يدعى الواعي وباللص وبوجه نافخ ، وكل هذا يحرم تعاطيه . قيل : وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه ، وليس فيه قصد استخفاف ولا

" صفحة رقم 113 "
أذى . قالوا : وقد قال ابن مسعود لعلقمة : وتقول أنت ذلك يا أعور . وقال ابن زيد : أي لا يقول أحد لأحد يا يهودي بعد إسلامه ، ولا يا فاسق بعد توبته ، ونحو ذلك . وتلاحى ابن أبي حدرد وكعب بن مالك ، فقال له مالك : يا أعرابي ، يريد أن يبعده من الهجرة ، فقال له الآخر : يا يهودي ، يريد المخاطبة لليهود في يثرب .
( بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ ( : أي بئس اسم تنسبونه بعصيانكم نبزكم بالألقاب ، فتكونون فساقاً بالمعصية بعد إيمانكم ، أو بئس ما يقوله الرجل لأخيه يا فاسق بعد إيمانه . وقال الرماني : هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسوق والإيمان . انتهى . وقال الزمخشري : نحو قول الرماني ، قال : استقباح الجمع بعد الإيمان ، والفسق الذي يأباه الإيمان ، وهذه نزغة اعتزالية . وقال الزمخشري : الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللوم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته وحقيقة ما سمي من ذكره وارتفع بين الناس ، كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن تذكروا بالفسق . ) وَمَن لَّمْ يَتُبْ ( : أي عن هذه الأشياء ) فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( : تشديد وحكم بظلم من لم يتب .
الحجرات : ( 12 ) يا أيها الذين . . . . .
( اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ ( : أي لا تعملوا على حسبه ، وأمر تعالى باجتنابه ، لئلا يجترىء أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل وتمييز بين حقه وباطله . والمأمور باجتنابه هو بعض الظن المحكوم عليه بأنه إثم ، وتمييز المجتنب من غيره أنه لا يعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر ، كمن يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث ، كالدخول والخروج إلى حانات الخمر ، وصحبة نساء المغاني ، وإدمان النظر إلى المرد . فمثل هذا يقوي الظن فيه أنه ليس من أهل الصلاح ، ولا إثم فيه ، وإن كنا لا نراه يشرب الخمر ، ولا يزني ، ولا يعبث بالشبان ، بخلاف من ظاهره الصلاح فلا يظن به السوء . فهذا هو المنهي عنه ، ويجب أن يزيله . والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب . وقال الزمخشري : والهمزة فيه بدل عن الواو ، كأنه يثم الأعمال ، أي يكسرها بإحباطه ، وهذا ليس بشيء ، لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز . تقول : أثم يأثم فهو آثم ، والإثم والآثام ، فالهمزة أصل وليست بدلاً عن واو . وأما يثم فأصله يوثم ، وهو من مادة أخرى . وقيل : الاثم متعلق بتكلم الظان . أما إذا لم يتكلم ، فهو في فسحة ، لأنه لا يقدر على رفع الخواطر التي يبيحها قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( الحزم سوء الظن ) . وقرأ الجمهور : ولا تجسسوا بالجيم . وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء وهما متقاربان ، نهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه . وقيل لابن مسعود : هل لك في فلان تقطر لحيته خمراً ؟ فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به . وفي الحديث : ( أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم ) ، وقد وقع عمر رضي الله تعالى عنه في حراسته على من كان في ظاهره ريبة ، وكان دخل عليه هجماً ، فلما ذكر له نهي الله تعالى عن التجسس ، انصرف عمر .
( وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ( ، يقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله ؛ والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة من الاغتيال ، وهي ذكر الرجل بما يكره مما هو فيه . وفي الحديث : ( سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما الغيبة فقال : أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع ، فقال : يا رسول الله وإن كان حقاً ؟ قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إذا قلت باطلاً فذلك البهتان ) ، وفي الصحيحين فقد بهته . وقال ابن عباس : الغيبة أدام كلاب الناس . وقالت عائشة عن امرأة : ما رأيت أجمل منها ، إلا أنها قصيرة . فقال لها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( اغتبتيها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرتيه ) . وحكى الزهراوي عن جابر ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب الله عليه ، والذي يغتاب فلا يتاب عليه حتى يستحل

" صفحة رقم 114 "
وعرض المسلم مثل دمه في التحريم ) . وفي الحديث المستفيض : ( فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم ) . ولا يباح من هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه ، من تجريح الشهود والرواة ، والخطاب إذا استنصح من يخطب إليه من يعرفهم ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم ، ومنه :
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
) أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ( ، قال الزمخشري : تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه ، وفيه مبالغات شتى ، منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها : جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها : أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتاً . انتهى . وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليه الطبع ، وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل ، وهو أحق أن يجاب ، لأنه بصير عالم ، والطبع أعمى جاهل . انتهى . وقال أبو زيد السهيلي : ضرب المثل لأخذه العرض يأكل اللحم ، لأن اللحم ستر على العظم ، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر .
وقال تعالى : ) مَيْتًا ( ، لأن الميت لا يحس ، وكذلك الغائب لا يسمع ما يقول فيه المغتاب ، ثم هو في التحريم كآكل لحم الميت . انتهى . وروي في الحديث : ( ما صام من أكل لحوم الناس ) . وقال أبو قلابة الرياشي : سمعت أبا عاصم يقول : ما اغتبت أحداً منذ عرفت ما في الغيبة . وقيل : لعمر بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك ، قال : إياه فارحموا . وقال رجل للحسن : بلغني أنك تغتابني ، قال : لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي . وانتصب ميتاً على الحال من لحم ، وأجاز الزمخشري أن ينتصب عن الأخ ، وهو ضعيف ، لأن المجرور بالإضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كان له موضع من الإعراب ، نحو : أعجبني ركوب الفرس مسرجاً ، وقيام زيد مسرعاً . فالفرس في موضع نصب ، وزيد في موضع رفع . وقد أجاز بعض أصحابنا أنه إذا كان الأول جزأ أو كالجزء ، جاز انتصاب الحال من الثاني ، وقد رددنا عليه ذلك فيما كتبناه في علم النحو . ) فَكَرِهْتُمُوهُ ( ، قال الفراء : أي فقد كرهتموه ، فلا تفعلون . وقيل : لما وقفهم على التوبيخ بقوله : ) أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ( ، فأجاب عن هذا : لأنهم في حكم من يقولها ، فخوطبوا على أنهم قالوا لا ، فقيل لهم : فكرهتموه ، وبعد هذا يقدر فلذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك . وعلى هذا التقدير يعطف قوله : ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( ، قاله أبو علي الفارسي ، وفيه عجرفة العجم .
وقال الزمخشري : ولما قررهم عز وجل بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه ، عقب ذلك بقوله : ) فَكَرِهْتُمُوهُ ( ، أي فتحققت بوجوب الإقرار عليكم بأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره لإباء البشرية عليكم أن تجحدوا كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أيضاً أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين . انتهى ، وفيه أيضاً عجرفة العجم . والذي قدره الفراء أسهل وأقل تكلفاً ، وأجرى على قواعد العربية . وقى ل : لفظه خبر ، ومعناه الأمر ، تقديره : فاكرهوه ، ولذلك عطف عليه ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( ، ووضع الماضي موضع الأمر في لسان العرب كثير ، ومنه اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه ، أي ليتق الله ، ولذلك انجزم يثب على جواب الأمر .
وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية . جاء الأمر أولاً باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم ، وهو الظن ؛ ثم نهى ثانياً عن طلب تحقق ذلك الظن ، فيصير علماً بقوله : ) وَلاَ تَجَسَّسُواْ ( ؛ ثم نهى ثالثاً عن ذكر ذلك إذا علم ، فهذه أمور ثلاثة مترتبة ، ظنّ فعلم بالتجسس فاغتياب . وضمير النصف في كرهتموه ، الظاهر أنه عائد على الأكل . وقيل : على الميت . وقرأ أبو سعيد الخدري ، وأبو حيوة : فكرّهتموه ، الظاهر أنه عائد على الأكل . وقيل : على الميت . وقرأ أبو سعيد الخدري ، وأبو حيوة : فكرّهتموه ، بضم الكاف وتشديد الراء ؛ ورواها الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والجمهور : بفتح الكاف وتخفيف الراء ، وكره يتعدى إلى واحد ، فقياسه إذا ضعف أن يتعدى إلى اثنين ، كقراءة الخدري ومن معه ، أي جعلتم فكرهتموه . فأما قوله : ) وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ( فعلى التضمين بمعنى بغض ، وهو يتعدى لواحد ، وبإلى إلى آخر ، وبغض منقول بالتضعيف من بغض الشيء إلى زيد

" صفحة رقم 115 "
والظاهر عطف ) عَبْدُ اللَّهِ ( على ما قبله من الأمر والنهي . قوله عز وجل :
) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير ( سقط : إلى آخر الآية ) ٌ ).
الحجرات : ( 13 ) يا أيها الناس . . . . .
قيل : غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة ، فنزلت . وعن ابن عباس ، سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يا ابن فلانة ؛ فوبخه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقال له : ( إنك لا تفضل أحداً إلا في الدين والتقوى ) . ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضاً . ) مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( : أي من آدم وحواء ، أو كل أحد منكم من أب وأم ، فكل واحد منكم مساوٍ للآخر في ذلك الوجه ، فلا وجه للتفاخر . ) وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ ( : وتقدم الكلام على شيء من ذلك في المفرادت . وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب ، والأسباط في بني إسرائيل . وقيل : الشعوب : عرب اليمن من قحطان ، والقبائل : ربيعة ومضر وسائر عدنان . وقال قتادة ، ومجاهد ، والضحاك : الشعب : النسب الأبعد ، والقبيلة : الأقرب ، قال الشاعر : قبائل من شعوب ليس فيهم
كريم قد يعدّ ولا نجيب
وقيل : الشعوب : الموالي ، والقبائل : العرب . وقال أبو روق : الشعوب : الذين ينسبون إلى المدائن والقرى ، والقبائل : الذين ينسبون إلى آبائهم . انتهى . وواحد الشعوب شعب ، بفتح الشين . وشعب : بطن من همدان ينسب إليه عامر الشعبي من سادات التابعين ، والنسب إلى الشعوب شعوبية ، بفتح الشين ، وهم الأمم التي ليست بعرب . وقيل : هم الذين يفضلون العجم على العرب ، وكان أبو عبيدة خارجياً شعوبياً ، وله كتاب في مناقب العرب ، ولابن غرسبة رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب ، وقد رد عليه ذلك علماء الأندلس برسائل عديدة . وقرأ الجمهور : ) لِتَعَارَفُواْ ( ، مضارع تعارف ، محذوف التاء ؛ والأعمش : بتاءين ؛ ومجاهد ، وابن كثير في رواية ، وابن محيصن : بإدغام التاء في التاء ؛ وابن عباس ، وأبان عن عاصم : لتعرفوا ، مضارع عرف ؛ والمعنى : أنكم جعلكم الله تعالى ما ذكر ، كي يعرف بعضكم بعضاً في النسب ، فلا ينتمي إلى غير آبائه ، لا التفاخر بالآباء والأجداد ، ودعوى التفاضل ، وهي التقوى . وفي خطبته عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة : ( إنما الناس رجلان ، مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله ) ، ثم قرأ الآية . وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله ) . وما زال التفاخر بالأنساب في الجاهلية والإسلام ، وبالبلاد ، وبالبلاد وبالمذاهب وبالعلوم وبالصنائع ، وأكثره بالأنساب : وأعجب شيء إلى عاقل
فروع عن المجد مستأخره

" صفحة رقم 116 "
إذا سئلوا ما لهم من علا
أشاروا إلى أعظم ناخره
ومن ذلك : افتخار أولاد مشايخ الزوايا الصوفية بآبائهم ، واحترام الناس لهم بذلك وتعظيمهم لهم ، وإن كان الأولاد بخلاف الآباء في الدين والصلاح . وقرأ الجمهور : إن ، بكسر الهمزة ؛ وابن عباس : بفتحها ، وكان قرأ : لتعرفوا ، مضارع عرف ، فاحتمل أن تكون أن معمولة لتعرفوا ، وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر ، وهو أجود من حيث المعنى . وأما إن كانت لام كي ، فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوباً وقبائل لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى . فإن جعلت مفعول لتعرفوا محذوفاً ، أي لتعرفوا الحق ، لأن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ساغ في لام لتعارفوا أن تكون لام كي .
الحجرات : ( 14 ) قالت الأعراب آمنا . . . . .
( قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا ( ، قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة ، قبيلة تجاور المدينة ، أظهروا الإسلام وقلوبهم دخلة ، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا . وقيل : مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا آمنا فاستحققنا الكرامة ، فردّ الله تعالى عليهم بقوله : ) قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( ، أكذبهم الله في دعوى الإيمان ، ولم يصرح بإكذابهم بلفظه ، بل بما دل عليه من انتفاء إيمانهم ، وهذا في أعراب مخصوصين . فقد قال الله تعالى : ) وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( الآية .
( وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( ، فهو اللفظ الصادق من أقوالكم ، وهو الاستسلام والانقياد ظاهراً ، ولم يواطىء أقوالكم ما في قلوبكم ، فلذلك قال : ) وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( : وجاء النفي بلما الدالة على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار ، وتبين أن قوله : ) لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي ، بل متصلاً بزمان الإخبار أيضاً ، لأنك إذا نفيت بلم ، جاز أن يكون النفي قد انقطع ، ولذلك يجوز أن تقول : لم يقم زيد وقد قام ، وجاز أن يكون النفي متصلاً بزمن الإخبار . فإذا كان متصلاً بزمن الإخبار ، لم يجز أن تقول : وقد قام ، لتكاذب الخبرين . وأما لما ، فإنها تدل على نفي الشيء متصلاً بزمان الإخبار ، ولذلك امتنع لما يقم زيد وقد قام للتكاذب . والظاهر أن قوله : ) لَّمّاً يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( ليس له تعلق بما قبله من جهة الإعراب . وقال الزمخشري : فإن قلت : هو بعد قوله : ) قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة ؛ قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله : ) لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( هو تكذيب دعواهم ، وقوله : ) وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم : ) وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم ، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قوله : ) قُولُواْ ). انتهى .
والذي يظهر أنهم أمروا أن يقولوا : ) قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( غير مقيد بحال ، وأن ) وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ ( إخبار غير قيد في قولهم . وقال الزمخشري : وما في لما من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد . انتهى ، ولا أدري من أي وجه يكون ما نفي بلما يقع بعد ولما ، إنما تنفي ما كان متصلاً بزمان الإخبار ، ولا تدل على ما ذكر ، وهي جواب لقد فعل ، وهب أن قد تدل على توقع الفعل . فإذا نفي ما دل على التوقع ، فكيف يتوهم أنه يقع بعد : ) وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( بالإيمان والأعمال ؟ وهذا فتح لباب التوبة . وقرأ الجمهور : ) لاَ يَلِتْكُمْ ( ، من لات يليت ، وهي لغة الحجاز . والحسن والأعرج وأبو عمرو : ولا يألتكم ، من ألت ، وهي لغة غطفان وأسد .
الحجرات : ( 15 ) إنما المؤمنون الذين . . . . .
( ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ ( ، ثم تقتضي التراخي ، وانتفاء الريبة يجب أن يقارن الإيمان ، فقيل : من ترتيب الكلام لا من ترتيب الزمان ، أي ثم أقول لم يرتابوا . وقيل : قد يخلص الإيمان ، ثم يعترضه ما يثلم إخلاصه ، فنفي ذلك ، فحصل التراخي ، أو أريد انتفاء الريبة في الأزمان المتراخية المتطاولة ، فحاله في ذلك كحاله في الزمان الأول الذي آمن فيه . ) أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( : أي في قولهم آمنا ، حيث طابقت ألسنتهم عقائدهم ، وظهرت ثمرة ذلك عليهم بالجهاد بالنفس والمال . وفي سبيل الله يشمل جميع الطاعات البدنية والمالية ، وليسوا كأعراب بني أسد في قولهم آمنا ، وهم كاذبون في ذلك .
الحجرات : ( 16 ) قل أتعلمون الله . . . . .
( قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ ( ، هي منقولة من : علمت به ، أي شعرت به ، ولذلك تعدّت إلى واحد

" صفحة رقم 117 "
بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر لما ثقلت بالتضعيف ، وفي ذلك تجهيل لهم ، حيث ظنوا أن ذلك يخفى على الله تعالى . ثم ذكر إحاطة علمه بما في السموات والأرض .
الحجرات : ( 17 ) يمنون عليك أن . . . . .
ويقال : منّ عليهم بيد أسداها إليه ، أي أنعم عليه . المنة : النعمة التي لا يطلب لها ثواب ، ثم يقال : منّ عليه صنعه ، إذا اعتده عليه منة وإنعاماً ، أي يعتدون عليك أن أسلموا ، فإن أسلموا في موضع المفعول ، ولذلك تعدى إليه في قوله : ) قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَامَكُمْ ). ويجوز أن يكون أسلموا مفعولاً من أجله ، أي يتفضلون عليك بإسلامهم . ) أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ ( بزعمكم ، وتعليق المن بهدايتهم بشرط الصدق يدل على أنهم ليسوا مؤمنين ، إذ قد بين تعالى كذبهم في قولهم آمنا بقوله : ) قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ). وقرأ عبد الله وزيد بن عليّ ، إذ هداكم ، جعلا إذ مكان إن ، وكلاهما تعليل ، وجواب الشرط محذوف ، أي ) إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ، فهو المانّ عليكم .
الحجرات : ( 18 ) إن الله يعلم . . . . .
وقرأ ابن كثير وأبان عن عاصم : يعلمون ، بياء الغيبة ، والجمهور : بتاء الخطاب .

" صفحة رقم 118 "
50
( سورة ق )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قوَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاٌّ رْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِىأَمْرٍ مَّرِيجٍ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالاٌّ رْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَالِكَ الْخُرُوجُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الاٌّ يْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاٌّ وَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَلٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاّتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ وَكَم

" صفحة رقم 119 "
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الاٌّ رْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( )
ق : ( 1 ) ق والقرآن المجيد
بسقت النخلة بسوقاً : طالت ، قال الشاعر : لنا خمر وليست خمر كرم
ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السماء ذهبن طولا
وفات ثمارها أيدي الجناة
وبسق فلان على أصحابه : أي علاهم ، ومنه قول ابن نوفل في ابن هبيرة : يا ابن الذين بمجدهم
بسقت على قيس فزاره
ويقال : بسقت الشاة : ولدت ، وأبسقت الناقة : وقع في ضرعها اللبأ قبل النتاج فهي مبسق ، ونوق مباسق . حاد عن الشيء : مال عنه ، حيوداً وحيدة وحيدودة . الوريد : عرق كبير في العنق ، يقال : إنهما وريدان عن يمين وشمال . وقال الفراء : هو ما بين الحلقوم والعلباوين . وقال الأثرم : هو نهر الجسد ، هو في القلب : الوتين ، وفي الظهر : الأبهر ، وفي الذراع والفخذ : الأكحل والنسا ، وفي الخنصر : الأسلم . وقال الزمخشري : والوريدان عرقان مكتنفان بصحفتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين ، يردان من الرأس إليه ، سمي وريداً لأن الروح ترده . قال : كان وريديه رشا صلب ) ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَىْء عَجِيبٌ مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاْرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذالِكَ الْخُرُوجُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ وَثَمُودُ

" صفحة رقم 120 "
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الاْيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ).
هذه السورة مكية ، قال ابن عطية : بإجماع من المتأولين . وقال صاحب التحرير : قال ابن عباس ، وقتادة : مكية إلا آية ، وهي قوله تعالى : ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الآية . ومناسبتها لآخر ما قبلها ، أنه تعالى أخبر أن أولئك الذين قالوا آمنا ، لم يكن إيمانهم حقاً ، وانتفاء إيمانهم دليل على إنكار نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال : ) بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ ). وعدم الإيمان أيضاً يدل على إنكار البعث ، فلذلك أعقبه به . وق حرف هجاء ، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولاً متعارضة ، لا دليل على صحة شيء منها ، فأطرحت نقلها في كتابي هذا .
( وَالْقُرْءانِ ( مقسم به و ) الْمَجِيدِ ( صفته ، وهو الشريف على غيره من الكتب ، والجواب محذوف يدل عليه ما بعده ، وتقديره : أنك جئتهم منذراً بالبعث ، فلم يقبلوا .
ق : ( 2 ) بل عجبوا أن . . . . .
( بَلْ عَجِبُواْ ( ، وقيل : ما ردوا أمرك بحجة . وقال الأخفش ، والمبرد ، والزجاج : تقديره لتبعثن . وقيل : الجواب مذكور ، فعن الأخفش قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ؛ وعن ابن كيسان ، والأخفش : ما يلفظ من قول ؛ وعن نحاة الكوفة : بل عجبوا ، والمعنى : لقد عجبوا . وقيل : إن في ذلك لذكرى ، وهو اختيار محمد بن علي الترمذي . وقيل : ما يبدل القول لديّ ، وهذه كلها أقوال ضعيفة . وقرأ الجمهور : قاف بسكون الفاء ، ويفتحها عيسى ، ويكسرها الحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال ؛ وبالضم : هارون وابن السميفع والحسن أيضاً ؛ فيما نقل ابن خالويه . والأصل في حروف المعجم ، إذا لم تركب مع عامل ، أن تكون موقوفة . فمن فتح قاف ، عدل إلى الحركات ؛ ومن كسر ، فعلى أصل التقاء الساكنين ؛ ومن ضم ، فكما ضم قط ومنذ وحيث .
( بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ ( : إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب ، وهو أن ينذرهم بالخوف رجل منهم قد عرفوا صدقه وأمانته ونصحه ، فكان المناسب أن لا يعجبوا ، وهذا مع اعترافهم بقدرة الله تعالى ، فأي بعد في أن يبعث من يخوف وينذر بما يكون في المآكل من البعث والجزاء . والضمير في ) بَلْ عَجِبُواْ ( عائد على الكفار ، ويكون قوله : ) فَقَالَ الْكَافِرُونَ ( تنبيهاً على القلة الموجبة للعجب ، وهو أنهم قد جبلوا على الكفر ، فلذلك عجبوا . وقيل : الضمير عائد على الناس ، قيل : لأن كل مفطور يعجب من بعثة بشر رسولاً من الله ، لكن من وفق نظر فاهتدى وآمن ، ومن خذل ضل وكفر ؛ وحاج بذلك العجب والإشارة بقولهم : ) هَاذَا شَىْء عَجِيبٌ ( ، الظاهر أنها إلى مجيء منذر من البشر . وقيل : إلى ما تضمنه الإنذار ، وهو الإخبار بالبعث . وقال الزمخشري : وهذا إشارة إلى المرجع . انتهى ، وفيه بعد .
ق : ( 3 ) أئذا متنا وكنا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أئذأ ( بالاستفهام ، وهم على أصولهم في تحقيق الثانية وتسهيلها والفصل بينهما . وقرأ الأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وابن وثاب ، والأعمش ، وابن عتبة عن ابن عامر : إذا بهمزة واحدة على صورة الخبر ، فجاز أن يكون استفهاماً حذفت منه الهمزة ، وجاز أن يكونوا عدلوا إلى الخبر وأضمر جواب إذا ، أي إذا متنا وكنا تراباً رجعنا . وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب رجع بعيد على تقدير حذف الفاء ، وقد أجاز بعضهم في جواب الشرط ذلك إذا كان جملة اسمية ، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة . وأما في قراءة الاستفهام ، فالظرف منصوب بمضمر ، أي : أنبعث إذا متنا ؟ وإليه الإشارة بقوله ذلك ، أي البعث .
( ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ، أي مستبعد في الأوهام والفكر . وقال الزمخشري : وإذا منصوب بمضمر معناه : أحين نموت ونبلى نرجع ؟ انتهى . وأخذه من قول ابن جني ، قال ابن جني : ويحتمل أن يكون المعنى : أئذا متنا بعد رجعنا ، فدل رجع بعيد على هذا الفعل ، ويحل محل الجواب لقولهم أئذا . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع ، وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث ، والوقف قبله على هذا التفسير حسن . فإن قلت : فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع ؟ قلت : ما دل عليه المنذر من المنذر به ، وهو البعث . انتهى . وكون ذلك رجع بعيد بمعنى مرجوع ، وأنه من كلام الله تعالى ، لا من كلامهم ، على ما شرحه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب .
ق : ( 4 ) قد علمنا ما . . . . .
( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاْرْضَ مِنْهُمْ ( : أي من لحومهم وعظامهم وآثارهم ، قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور ، وهذا فيه رد لاستبعادهم الرجع ، لأن من كان عالماً بذلك

" صفحة رقم 121 "
كان قادراً على رجعهم . وقال السدي : أي ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم ، وهذا يتضمن الوعيد . ) وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( : أي حافظ لما فيه جامع ، لا يفوت منه شيء ، أو محفوظ من البلى والتغير . وقيل : هو عبارة عن العلم والإحصاء . وفي الخبر الثابت أن الأرض تأكل ابن آدم الأعجب الذنب ، وهو عظم كالخردلة منه يركب ابن آدم .
ق : ( 5 ) بل كذبوا بالحق . . . . .
( بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ ( : وقدروا قبل هذا الإضراب جملة يكون مضروباً عنها ، أي ما أجادوا والنظر ، بل كذبوا . وقيل : لم يكذبوا المنذر ، بل كذبوا ، والغالب أن الإضراب يكون بعد جملة منفية . وقال الزمخشري : بل كذبوا : إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم ، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات . انتهى . وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأول ، وكلاهما بعد ذلك الجواب الذي قدرناه جواباً للقسم ، فلا يكون قبل الثانية ما قدروه من قولهم : ما أجادوا النظر ، ( بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ ( ، والحق : القرآن ، أو البعث ، أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو الإسلام ، أقوال . وقرأ الجمهور : ) لَمَّا جَاءهُمْ ( : أي لم يفكروا فيه ، بل بأول ما جاءهم كذبوا ؛ والجحدري : لما جاءهم ، بكسر اللام وتخفيف الميم ، وما مصدرية ، واللام لام الجر ، كهي في قولهم كتبته لخمس خلون أي عند مجيئهم إياه . ) فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ ( ، قال الضحاك ، وابن زيد : مختلط : مرة ساحر ، ومرة شاعر ، ومرة كاهن . قال قتادة : مختلف . وقال الحسن : ملتبس . وقال أبو هريرة : فاسد . ومرجت أمانات الناس : فسدت ، ومرج الدين : اختلط . قال أبو واقد : ومرج الدين فأعددت له
مسرف الحارك محبوك الكند
وقال ابن عباس : المريج : الأمر المنكر ، وعنه أيضاً مختلط ، وقال الشاعر : فجالت والتمست لها حشاها
فخر كأنه خوط مريج
والأصل فيه الاضطراب والقلق . مرج الخاتم في أصبعي ، إذا قلق من الهزال . ويجوز أن يكون الأمر المريج ، باعتبار انتقال أفكارهم فيما جاء به المنذر قائلاً عدم قبولهم أول إنذاره إياهم ، ثم العجب منهم ، ثم استعباد البعث الذي أنذر به ، ثم التكذيب لما جاء به .
ق : ( 6 ) أفلم ينظروا إلى . . . . .
( أَفَلَمْ يَنظُرُواْ ( حين كفروا بالبعث وبما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى آثار قدرة الله تعالى في العالم العلوي والسفلي ، ( كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ( مرتفعة من غير عمد ، ( وَزَيَّنَّاهَا ( بالنيرين وبالنجوم ، ( وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ( : أي من فتوق وسقوف ، بل هي سليمة من كل خلل .
ق : ( 7 ) والأرض مددناها وألقينا . . . . .
( وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا ( : بسطناها ، ( وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ ( ، أي جبالاً ثوابت تمنعها من التكفؤ ، ( مِن كُلّ زَوْجٍ ( : أي نوع ، ( بَهِيجٍ ( : أي حسن المنظر بهيج ، أي يسر من نظر إليه .
ق : ( 8 ) تبصرة وذكرى لكل . . . . .
وقرأ الجمهور : ) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى ( بالنصب ، وهما منصوبان بفعل مضمر من لفظهما ، أي بصر وذكر . وقيل : مفعول من أجله . وقرأ زيد بن علي : تبصرة بالرفع ، وذكر معطوف عليه ، أي ذلك الخلق على ذلك الوصف تبصرة ، والمعنى : يتبصر بذلك ويتذكر ، ( كُلٌّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( : أي راجع إلى ربه مفكر في بدائع صنعه .
ق : ( 9 ) ونزلنا من السماء . . . . .
( مَاء مُّبَارَكاً ( : أي كثير المنفعة ، ( وَحَبَّ الْحَصِيدِ ( : أي الحب الحصيد ، فهو من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، كما يقوله البصريون ، والحصيد : كل ما يحصد مما له حب ، كالبر والشعير .
ق : ( 10 ) والنخل باسقات لها . . . . .
( بَاسِقَاتٍ ( : أي طوالاً في العلو ، وهو منصوب على الحال ، وهي حال مقدرة ، لأنها حالة الإنبات ، لم تكن طوالاً . وباسقات جمع . ) وَالنَّخْلَ ( اسم جنس ، فيجوز أن يذكر ، نحو قوله : ) نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ( ، وأن يؤنث نحو قوله تعالى : ) نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( ، وأن يجمع باعتبار إفراده ، ومنه باسقات ، وقوله : ) وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ ). والجمهور : باسقات بالسين . وروى قطبة بن مالك ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أنه قرأ : باصقات بالصاد ، وهي

" صفحة رقم 122 "
لغة لبني العنبر ، يبدلون من السين صاداً إذا وليتها ، أو فصل بحرف أو حرفين ، خاء أو عين أو قاف أو طاء . ) لَّهَا طَلْعٌ ( : تقدم شرحه عند ) مِن طَلْعِهَا قِنْوانٌ دَانِيَةٌ ).
) نَّضِيدٌ ( : أي منضود بعضه فوق بعض ، بريد كثرة الطلع وتراكمه ، أي كثرة ما فيه من الثمر . وأول ظهور الثمر في الكفرى هو أبيض ينضد كحب الرمان ، فما دام ملتصقاً بعضه ببعض فهو نضيد ، فإذا خرج من الكفرى تفرق فليس بنضيد .
ق : ( 11 ) رزقا للعباد وأحيينا . . . . .
و ) رِزْقاً ( نصب على المصدر ، لأن معنى : وأنبتنا رزقنا ، أو على أنه مفعول له . وقرأ الجمهور : ) مَيْتًا ( بالتخفيف ؛ وأبو جعفر ، وخالد : بالتثقيل ، والإشارة في ذلك إلى الإحياء ، أي الخروج من الأرض أحياء بعد موتكم ، مثل ذلك الحياة للبلدة الميت ، وهذه كلها أمثلة وأدلة على البعث .
وذكر تعالى في السماء ثلاثة : البناء والتزين ونفي الفروج ، وفي الأرض ثلاثة : المد وإلقاء الرواسي والإنبات . قابل المد بالبناء ، لأن المد وضع والبناء رفع . وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب ، لارتكاز كل واحد منهما . والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج ، فلا شق فيها . ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقي أصله ، وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة ، وعلى ما اختلط من جنسين ، فبعض الثمار فاكهة لا قوت ، وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت .
ق : ( 12 - 14 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
ولما ذكر تعالى قوله : ) بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ ( ، ذكر من كذب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، تسلية لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتقدم الكلام على مفردات هذه الآية هذه الآية وقصص من ذكر فيها . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وطلحة ، ونافع : الأيكة بلام التعريف ؛ والجمهور : ليكة . ) كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ( : أي كلهم ، أي جميعهم كذب ؛ وحمل على لفظ كل ، فأفرد الضمير في كذب . وقال الزمخشري : يجوز أن يراد به كل واحد منهم . انتهى . والتنوين في كل تنوين عوض من المضاف إليه المحذوف . وأجاز محمد بن الوليد ، وهو من قدماء نحاة مصر ، أن يحذف التنوين من كل جعله غاية ، ويبنى على الضم ، كما يبنى قبل وبعد ، فأجاز كل منطلق بضم اللام دون تنوين ، ورد ذلك عليه الأخفش الصغير ، وهو علي بن سليمان . ) فَحَقَّ وَعِيدِ ( : أي وجب تعذيب الأمم المكذبة وإهلاكهم ، وفي ذلك تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتهديد لقريش ومن كذب الرسول .
قوله عز وجل : ) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ).
ق : ( 15 ) أفعيينا بالخلق الأول . . . . .
( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( : وهو إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج ، وتقدم تفسير عيي في قوله تعالى : ) وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ ). وقرأ الجمهور : أفعيينا ، بياء مكسورة بعدها ياء ساكنة ، ماضي عيي ، كرضي . وقرأ ابن أبي عبلة ، والوليد بن مسلم ، والقورصبي عن أبي جعفر ، والسمسار عن شيبة ، وأبو بحر عن نافع : بتشديد الياء من غير إشباع في الثانية ، هكذا قال أبو القاسم الهذلي في كتاب الكامل . وقال ابن خالويه في كتاب شواذ القراآت له : أفعينا بتشديد الياء . ابن أبي عبلة ، وفكرت في توجيه هذه القراءة ، إذ لم يذكر أحد توجيهها ، فخرجتها على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي ، فقال : عي في عيي ، وحي في حيي . فلما أدغم ، ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه ، ولم يفك الإدغام فقال : عيناً ، وهي لغة لبعض بكر بن وائل ، يقولون في رددت ورددنا : ردت وردنا ، فلا يفكون ، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشدّدة مفتوحة . فلو كان نا ضمير نصب ، لاجتمعت العرب على الإدغام ، نحو : ردّنا زيد . وقال الحسن : الخلق الأول آدم عليه السلام ، والمعنى : أعجزنا عن الخلق الأول ، فنعجز عن الخلق الثاني ، وهذا توقيف للكفار ، وتوبيخ وإقامة الحجة الواضحة عليهم . ) بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ ( : أي خلط وشبهة وحيرة ، ومنه قول علي : يا جار إنه لملبوس عليك ،

" صفحة رقم 123 "
اعرف الحق تعرف أهله . ) مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( : أي من البعث من القبور .
ق : ( 16 ) ولقد خلقنا الإنسان . . . . .
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ ( : هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث ، والإنسان إسم جنس . وقيل : آدم . ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ ( : قرب علم به وبأحواله ، لا يخفى عليه شيء من خفياته ، فكأن ذاته قريبة منه ، كما يقال : الله في كل مكان ، أي بعلمه ، وهو منزه عن الأمكنة . و ) حَبْلِ الْوَرِيدِ ( : مثل في فرط القرب ، كقول العرب : هو مني مقعد القابلة ، ومقعد الإزار . قال ذو الرمة :
والموت أدنى لي من الوريد
والحبل : العرق الذي شبه بواحد الحبال ، وإضافته إلى الوريد للبيان ، كقولهم : بعير سانية . أو يراد حبل العاتق ، فيضاف إلى الوريد ، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد ، والعامل في إذ أقرب . وقيل : اذكر ، قيل : ويحسن تقدير اذكر ، لأنه أخبر خبراً مجرداً بالخلق والعلم بخطرات الأنفس ، والقرب بالقدرة والملك .
ق : ( 17 ) إذ يتلقى المتلقيان . . . . .
فلما تم الإخبار ، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر ، وتعين وروده عند السامع . فمنها : ) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ ( ، ومنها مجيء سكرة الموت ، ومنها : النفخ في الصور ، ومنها : مجيء كل نفس معها سائق وشهيد . والمتلقيان : الملكان الموكلان بكل إنسان ؛ ملك اليمين يكتب الحسنات ، وملك الشمال يكتب السيئآت . وقال الحسن : الحفظة أربعة ، اثنان بالنهار واثنان بالليل . وقعيدة : مفرد ، فاحتمل أن يكون معناه : مقاعد ، كما تقول : جليس وخليط : أي مجالس ومخالط ، وأن يكون عدل من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، كعليم . قال الكوفيون : مفرد أقيم مقام اثنين ، والاجود أن يكون حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، أي عن اليمين قعيد ، كما قال الشاعر : رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريئاً ومن أجل الطوى رماني
على أحسن الوجهين فيه ، أي كنت منه برياً ، ووالدي برياً . ومذهب المبرد أن التقدير عن اليمين قعيد ، وعن الشمال ، فأخر قعيد عن موضعه . ومذهب الفراء أن لفظ قعيد يدل على الاثنين والجمع ، فلا يحتاج إلى تقدير .
ق : ( 18 ) ما يلفظ من . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ ( ، وظاهر ما يلفظ العموم . قال مجاهد ، وأبو الحوراء : يكتب عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه . وقال الحسن ، وقتادة : يكتبان جميع الكلام ، فيثبت الله تعالى من ذلك الحسنات والسيئات ، ويمحو غير ذلك . وقيل : هو مخصوص ، أي من قول خير أو شر . وقال : معناه عكرمة ، وما خرج عن هذا لا يكتب . واختلفوا في تعيين قعود الملكين ، ولا يصح فيه شيء . ) رَقِيبٌ ( : ملك يرقب . ) عَتِيدٌ ( : حاضر ، وإذا كان على اللفظ رقيب عتيد ، فأحرى على العمل . وقال الحسن : فإذا مات ، طويت صحيفته . وقيل : له يوم القيامة اقرأ كتابك .
ق : ( 19 ) وجاءت سكرة الموت . . . . .
( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ( : هو معطوف على ) إِذْ يَتَلَقَّى ( ، وسكرة الموت : ما يعتري الإنسان عند نزاعه ، والباء في ) بِالْحَقّ ( للتعدية ، أي جاءت سكرة الموت الحق ، وهو الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله ، من سعادة الميت أو شقاوته ، أو للحال ، أي ملتبسه بالحق . وقرأ ابن مسعود : سكران جمعاً . ) ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( : أي تميل . تقول : أعيش كذا وأعيش كذا ، فمتى فكر في قرب الموت ، حاد بذهنه عنه وأمل إلى مسافة بعيدة من الزمن . ومن الحيد : الحذر من الموت ، وظاهر تحيد أنه خطاب للإنسان الذي جاءته سكرة الموت . وقال الزمخشري : الخطاب للفاجر . تحيد : تنفر وتهرب .
ق : ( 20 ) ونفخ في الصور . . . . .
( ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ ( ، هو على حذف : أي وقت ذلك يوم الوعيد . والإشارة إلى مصدر نفخ ، وأضاف اليوم إلى الوعيد ، وإن كان يوم الوعد والوعيد معاً على سبيل التخويف .
ق : ( 21 ) وجاءت كل نفس . . . . .
وقرأ الجمهور : معها ؛ وطلحة : بالحاء مثقلة ، أدغم العين في

" صفحة رقم 124 "
الهاء ، فانقلبتا حاء ؛ كما قالوا : ذهب محم ، يريد معهم ، ( سَائِقٌ ( : جاث على السير ، ( وَشَهِيدٌ ( : يشهد عليه . قال عثمان بن عفان ، ومجاهد وغيره : ملكان موكلان بكل إنسان ، أحدهما يسوقه ، والآخر من حفظه يشهد عليه . وقال أبو هريرة : السائق ملك ، والشهيد النبي . وقيل : الشهيد : الكتاب الذي يلقاه منشوراً ، والظاهر أن قوله : ) سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( اسما جنس ، فالسائق : ملائكة موكلون بذلك ، والشهيد : الحفظة وكل من يشهد . وقال ابن عباس ، والضحاك : السائق ملك ، والشهيد : جوارح الإنسان . قال ابن عطية : وهذا يبعد عن ابن عباس ، لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي ، وقوله : كل نفس يعم الصالحين ، فإنما معناه : وشهيد بخيره وشره . ويقوى في شهيد اسم الجنس ، فشهد بالخير الملائكة والبقاع ، ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ) . وقال أبو هريرة : السائق ملك ، والشهيد العمل . وقال أبو مسلم : السائق شيطان ، وهو قول ضعيف . وقال الزمخشري : ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر يشهد عليه بعمله ؛ أو ملك واحد جامع بين الأمرين ، كأنه قيل : كأنه قيل : ملك يسوقه ويشهد عليه ويحل معها سائق النصب على الحال من كل لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة ، هذا كلام ساقط لا يصدر عن مبتدىء في النحو ، لأنه لو نعت كل نفس ، لما نعت إلا بالنكرة ، فهو نكرة على كل حال ، فلا يمكن أن يتعرف كل ، وهو مضاف إلى نكرة .
قوله عز وجل : ) لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) .
ق : ( 22 ) لقد كنت في . . . . .
قرأ الجمهور : ) لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ ( ، بفتح التاء ، والكاف في كنت وغطاءك وبصرك ؛ والجحدري : بكسرها على مخاطبة النفس . وقرأ الجمهور : ) عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ( ، بفتح التاء والكاف ، حملاً على لفظ كل من التذكير ؛ والجحدري ، وطلحة بن مصرّف : عنك غطاءك فبصرك ، بالكسر مراعاة للنفس أيضاً ، ولم ينقل الكسر في الكاف صاحب اللوامح إلا عن طلحة وحده . قال صاحب اللوامح : ولم أجد عنه في ) لَّقَدْ كُنتَ ). فإن كسر ، فإن الجميع شرع واحد ؛ وإن فتح ) لَّقَدْ كُنتَ ( ، فحمل على كل أنه مذكر . ويجوز تأنيث كل في هذا الباب لإضافته إلى نفس ، وهو مؤنث ، وإن كان كان كذلك ، فإنه حمل بعضه على اللفظ وبعضه على المعنى ، مثل قوله : ) فَلَهُ أَجْرُهُ ( ، ثم قال : ) وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ). انتهى .
قال ابن عباس ، وصالح بن كيسان ، والضحاك : يقال للكافر الغافل من ذوي النفس التي معها السائق والشهيد ، إذا حصل بين يدي الرحمن ، وعاين الحقائق التي لا يصدق بها في الدنيا ، ويتغافل عن النظر فيها : ) لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَاذَا ( : أي من عاقبة الكفر . فلما كشف الغطاء عنك ، احتدّ بصرك : أي بصيرتك ؛ وهذا

" صفحة رقم 125 "
كما تقول : فلان حديد الذهن . وقال مجاهد : هو بصر العين ، أي احتدّ التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة . وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله ، وهو في كتاب ابن عطية . وكنى بالغطاء عن الغفلة ، كأنها غطت جميعه أو عينيه ، فهو لا يبصر . فإذا كان في القيامة ، زالت عنه الغفلة ، فأبصر ما كان لم يبصره من الحق .
ق : ( 23 ) وقال قرينه هذا . . . . .
( وَقَالَ قَرِينُهُ ( : أي من زبانية جهنم ، ( هَاذَا ( : العذاب الذي لدي لهذا الإنسان الكافر ، ( عَتِيدٌ ( : حاضر ، ويحسن هذا القول إطلاق ما على ما لا يعقل . وقال قتادة : قرينه : الملك الموكل بسوقه ، أي هذا الكافر الذي أسوقه لديّ حاضر . وقال الزهراوي : وقيل قرينه : شيطانه ، وهذا ضعيف ، وإنما وقع فيه أن القرين في قوله : ) رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف . ولفظ القرين اسم جنس ، فسائقه قرين ، وصاحبه من الزبانية قرين ، ومماشي الإنسان في طريقة قرين . وقيل : قرينه هنا : عمله قلباً وجوارحاً . وقال الزمخشري : وقال قرينه : هو الشيطان الذي قيض له في قوله ) نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( ، يشهد له قوله تعالى : ) قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( ، ( هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ ( ، هذا شيء لدي ، وفي ملكتي عتيد لجهنم . والمعنى : أن ملكاً يسوقه ، وآخر يشهد عليه ، وشيطاناً مقروناً به يقول : قد أعتدته لجهنم وهيأته لها بإغواي وإضلالي . انتهى ، وهذا قول مجاهد . وقال الحسن ، وقتادة أيضاً : الملك الشهيد عليه . وقال الحسن أيضاً : هو كاتب سيئاته ، وما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد وموصولة ، والظرف صلتها . وعتيد ، قال الزمخشري : بدل أو خير بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف . انتهى . وقرأ الجمهور : عتيد بالرفع ؛ وعبد الله : بالنصب على الحال ، والأولى إذ ذاك أن تكون ما موصولة .
ق : ( 24 - 26 ) ألقيا في جهنم . . . . .
( أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ ( : الخطاب من الله للملكين : السائق والشهيد . وقيل : للملكين من ملائكة العذاب ، فعلى هذا الألف ضمير الاثنين . وقال مجاهد وجماعة : هو قول إما للسائق ، وإما للذي هو من الزبانية ، وعلى أنه خطاب للواحد . وقال المبرد معناه : ألق ألق ، فثنى . وقال الفراء : هو من خطاب الواحد بخطاب الاثنين . وقيل : الألف بدل من النون الخفيفة ، أجرى الوصل مجرى الوقف ، وهذه أقوال مرغوب عنها ، ولا ضرورة تدعو إلى الخروج عن ظاهر اللفظ لقول مجاهد . وقرأ الحسن : ألقين بنون التوكيد الخفيفة ، وهي شاذة مخالفة لنقل التواتر بالألف . ) كُلَّ كَفَّارٍ ( : أي يكفر النعمة والمنعم ؛ ) عَتِيدٌ ( ، قال قتادة : منحرف عن الطاعة . وقال الحسن : جاحد متمرد . وقال السدي : المساق من العند ، وهو عظم يعرض في الحلق . وقال ابن بحر : المعجب بما فيه .
( مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ ( ، قال قتادة ومجاهد وعكرمة : يعني الزكاة . وقيل : بخيل . وقيل : مانع بني أخيه من الإيمان ، كالوليد بن المغيرة ، كان يقول لهم : من دخل منكم فيه لم أنفعه بشيء ما عشت ، والأحسن عموم الخير في المال وغيره . ) مُرِيبٍ ( ، قال الحسن : شاك في الله أو في البعث . وقيل : متهم الذي جوزوا فيه أن يكون منصوباً بدلاً من كل كفار ، وأن يكون مجروراً بدلاً من كفار ، وأن يكون مرفوعاً بالابتداء مضمناً معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في خبره ، وهو فألقياه . والظاهر تعلقه بما قبله على جهة البدل ، ويكون فألقياه توكيداً . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون صفة من حيث يختص كفار بالأوصاف المذكورة ، فجاز وصفه بهذه المعرفة . انتهى . وهذا ليس بشيء لو وصفت النكرة بأوصاف كثيرة لم يجز أن توصف بالمعرفة .
ق : ( 27 ) قال قرينه ربنا . . . . .
( قَالَ قرِينُهُ ( : لم تأت هذه الجملة بالواو ، بخلاف ) وَقَالَ قَرِينُهُ ( قبله ، لأن هذه استؤنفت كما استؤنفت الجمل في حكاية التقاول في مقاولة موسى وفرعون ، فجرت مقاولة بين الكافر وقرينه ، فكأن الكافر قال ربي هو أطغاني ، ( قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ). وأما ) وَقَالَ قَرِينُهُ ( فعطف لدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول ، أعني مجيء كل نفس مع الملكين . وقول قرينه : ما قال له ، ومعنى ما أطغيته : تنزيه لنفسه من أنه أثر فيه ، ( وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ ( : أي من نفسه لا مني ، فهو الذي استحب العمى على الهدى ، كقوله : ) وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن

" صفحة رقم 126 "
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( ، وكذب القرين ، قد أطغاه بوسوسته وتزيينه .
ق : ( 28 ) قال لا تختصموا . . . . .
( قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ ( : استئناف أيضاً مثل قال قرينه ، كأن قائلاً قال : ما قال الله تعالى ؟ فقيل : ) لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ ( أي في دار الجزاء وموقف الحساب . ) وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ( لمن عصاني ، فلم أترك لكم حجة .
ق : ( 29 ) ما يبدل القول . . . . .
( مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ ( : أي عندي ، فما أمضيته لا يمكن تبديله . وقال الفراء : ما يكذب لدي لعلمي بجميع الأمور . وقدمت : يجوز أن يكون بمعنى تقدمت ، أي قد تقدم قولي لكم ملتبساً بالوعيد ، أو يكون قدم المتعدية ، وبالوعيد هو المفعول ، والباء زائدة ، والتقديم كان في الدنيا ، ونهيهم عن الاختصام في الآخرة ، فاختلف الزمانان . فلا تكون الجملة من قوله : ) وَقَدْ قَدَّمْتُ ( حالاً إلا على تأويل ، أي وقد صح عندكم أني قدمت ، وصحة ذلك في الآخرة ، فاتفق زمان النهي عن الاختصام ، وصحة التقديم بالحال على هذا التأويل مقارنة . ) وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( : تقدم شرح مثله في أواخر آل عمران ، والمعنى : لا أعذب من لا يستحق العذاب .
ق : ( 30 ) يوم نقول لجهنم . . . . .
وقرأ يوم يقول ، بياء الغيبة الأعرج ، وشيبة ، ونافع ، وأبو بكر ، والحسن ، وأبو رجاء ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وباقي السبعة : بالنون ؛ وعبد الله ، والحسن ، والأعمش أيضاً : يقال مبنياً للمفعول وانتصاب يوم بظلام ، أو بأذكر ، أو بأنذر كذلك . قال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب بنفخ ، كأنه قيل : ونفخ في الصور يوم نقول ، وعلى هذا يشار بذلك إلى يوم يقول . انتهى ، وهذا بعيد جداً ، قد فصل على هذا القول بين العامل والمعمول بجمل كثيرة ، فلا يناسب هذا القول فصاحة القرآن وبلاغته . و ) هَلِ امْتَلاَتِ ( : تقرير وتوقيف ، لا سؤال استفهام حقيقة ، لأنه تعالى عالم بأحوال جهنم . قيل : وهذا السؤال والجواب منها حقيقة . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي نقول لخزنة جهنم ، قاله الرماني . وقيل : السؤال والجواب من باب التصوير الذي يثبت المعنى ، أي حالها حال من لو نطق بالجواب لسائله لقال كذا ، وهذا القول يظهر أنها إذ ذاك لم تكن ملأى . فقولها : ) مِن مَّزِيدٍ ( ، سؤال ورغبة في الزيادة والاستكثار من الداخلين فيها . وقال الحسن ، وعمرو ، وواصل : كانت ملأى وقت السؤال ، فلا تزداد على امتلائها ، كما جاء في الحديث وهل ترك لنا عقيل من دار أي ما تركه ومزيد يحتمل أن يكون مصدر أو اسم مفعول .
ق : ( 31 - 33 ) وأزلفت الجنة للمتقين . . . . .
( غَيْرَ بَعِيدٍ ( : مكاناً غير بعيد ، وهو تأكيد لأزلفت ، رفع مجاز القرب بالوعد والإخبار . فانتصاب غير على الظرف صفة قامت مقام مكان ، فأعربت بإعرابه . وأجاز الزمخشري أن ينتصب غير بعيد على الحال من الجنة . قال : وتذكيره يعني بعيد ، لأنه على زنة المصدر ، كالزئير والصليل ، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث . انتهى . وكونه على وزن المصدر ، لا يسوغ أن يكون المذكر صفة للمؤنث . وقال الزمخشري أيضاً : أو على حذف الموصوف ، أي شيئاً غير بعيد . انتهى . وكأنه يعني إزلافاً غير بعيد ، هذا إشارة للثواب .
وقرأ الجمهور : ) مَّا تُوعَدُونَ ( ؛ خطاب للمؤمنين ؛ وابن كثير ، وأبو عمرو : بياء الغيبة ، أي هذا القول هو الذي وقع الوعد به ، وهي جملة اعتراضية بين المبدل منه والبدل . و ) لِكُلّ أَوَّابٍ ( : هو البدل من المتقين . ) مَّنْ خَشِىَ ( : بدل بعد بدل تابع ) لِكُلّ ( ، قاله الزمخشري . وإنما جعله تابعاً ) لِكُلّ ( ، لا بدلاً من ) لّلْمُتَّقِينَ ( ، لأنه لا يتكرر الإبدال من مبدل منه واحد . قال : ويجوز أن يكون بدلاً من موصوف أواب وحفيظ ، ولا يجوز أن يكون في حكم أواب وحفيظ ، لأن من لا يوصف به ، ولا يوصف من بين سائر الموصولات إلا بالذي . انتهى . يعني بقوله : في حكم أو أب : أن يجعل من صفته ، وهذا حكم صحيح . وأما قوله : ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي ، فالحصر ليس بصحيح ، قد وصفت العرب بما فيه أل ، وهو موصول ، نحو القائم والمضروب ، ووصفت بذو الطائية ، وذات في المؤنث . ومن كلامهم : بالفضل ذو فضلكم الله به ، والكرامة ذات أكرمك الله به ، يريد بالفضل الذي فضلكم والكرامة التي أكرمكم ، ولا يريد الزمخشري خصوصية الذي ، بل فروعه من المؤنث والمثنى والمجموع على اختلاف لغات ذلك . وجوز أن تكون من موصولة مبتدأ خبره القول المحذوف ، تقديره : يقال لهم ادخلوها ، لأن من في معنى الجمع ، وأن تكون شرطية ، والجواب الفعل المحذوف ، أي فيقال : وأن يكون منادى ، كقولهم : من لا يزال محسناً أحسن إليّ ، وحذف حرف النداء للتقريب . وقال

" صفحة رقم 127 "
ابن عطية : يحتمل أن تكون من نعتاً . انتهى ، وهذا لا يجوز ، لأن من لا ينعت بها ، وبالغيب حال من المفعول ، أي وهو غائب عنه ، وإنما أدركه بالعلم الضروري ، إذ كل مصنوع لا بد له من صانع . ويجوز أن تكون صفة لمصدر خشي ، أي خشية خشيه ملتبسة بالغيب ، حيث خشي عقابه وهو غائب ، أو خشيه بسبب الغيب الذي أوعده به من عذابه . وقيل : في الخلوة حيث لا يراه أحد ، فيكون حالاً من الفاعل . وقرن بالخشية الرحمن بناء على الخاشي ، حيث علم أنه واسع الرحمة ، وهو مع ذلك يخشاه .
ق : ( 34 ) ادخلوها بسلام ذلك . . . . .
( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ( : أي سالمين من العذاب ، أو مسلماً عليكم من الله وملائكته . ) ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ ( : كقوله : ) فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( : أي مقدرين الخلود ، وهو معادل لقوله في الكفار : ) ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ ).
ق : ( 35 ) لهم ما يشاؤون . . . . .
( لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا ( : أي ما تعلقت به مشيئاتهم من أنواع الملاذ والكرمات ، كقوله تعالى : ) وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ). ) وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( : زيادة ، أو شيء مزيد على ما تشاءون ، ونحوه : ) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ( ، وكما جاء في الحديث : ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ما اطلعتهم عليه ) ، ومزيد مبهم ، فقيل : مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها . وقيل : أزواج من حور الجنة . وقيل : تجلى الله تعالى لهم حتى يرونه .
قوله عز وجل : ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الاْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ).
ق : ( 36 ) وكم أهلكنا قبلهم . . . . .
أي كثيراً . ) أَهْلَكْنَا ( : أي قبل قريش . ) هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ( ، لكثرة قوتهم وأموالهم . وقرأ الجمهور : ) فَنَقَّبُواْ ( ، بفتح القاف مشددة ، والظاهر أن الضمير في نقبوا عائد على كم ، أي دخلوا البلاد من أنقابها . والمعنى : طافوا في البلاد . وقيل : نقروا وبحثوا ، والتنقيب : التنقير والبحث . قال امرؤ القيس في معنى التطواف : وقد نقبت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
وروي : وقد طوفت . وقال الحارث بن خالدة : نقبوا في البلاد من الموت
وجالوا في الأرض كل مجال
وفنقبوا متسبب عن شدة بطشهم ، فهي التي أقدرتهم على التنقيب وقوتهم عليه . ويجوز أن يعود الضمير في فنقبوا على قريش ، أي فنقبوا في أسفارهم في بلاد القرون ، فهل رأوا محيصاً حتى يؤملوه لأنفسهم ؟ ويدل على عود الضمير على أهل مكة قراءة ابن عباس ، وابن يعمر ، وأبي العالية ، ونصر بن يسار ، وأبي حيوة ، والأصمعي عن أبي عمرو : بكسر القاف مشدّدة على الأمر لأهل مكة ، أي فسيحوا في البلاد وابحثوا . وقرىء : بكسر القاف خفيفة ، أي نقبت أقدامهم وأخفاف إبلهم ، أو حفيت لكثرة تطوافهم في البلاد ، من نقب خف البعير إذا انتقب ودمى . ويحتمل أن يكون ) هَلْ مِن مَّحِيصٍ ( على إضمار القول ، أي يقولون هل من محيص من الهلاك ؟ واحتمل أن لا يكون ثم قول ، أي لا محيص

" صفحة رقم 128 "
من الموت ، فيكون توفيقاً وتقريراً .
ق : ( 37 ) إن في ذلك . . . . .
( إِنَّ فِى ذَلِكَ ) : أي في إهلاك تلك القرون ، ( لِذِكْرِى ( : لتذكرة واتعاظاً ، ( لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( : أي واع ، والمعنى : لمن له عقل وعبر عنه بمحله ، ومن له قلب لا يعي ، كمن لا قلب له . وقرأ الجمهور : ) أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ( ، مبنياً للفاعل ، والسمع نصب به ، أي أو أصغى سمعه مفكراً فيه ، و ) شَهِيدٌ ( : من الشهادة ، وهو الحضور . وقال قتادة : لمن كان له ، قيل : من أهل الكتاب ، فيعتبر ويشهد بصحتها لعلمه بذلك من التوراة ، فشهيد من الشهادة . وقرأ السلمي ، وطلحة ، والسدي ، وأبو البر هثيم : أو ألقى مبنياً ، للمفعول ، السمع : رفع به ، أي السمع منه ، أي من الذي له قلب . وقيل : المعنى : أو لمن ألقي غيره السمع وفتح له أذنه ولم يحضر ذهنه ، أي الملقي والفاتح والملقى له والمفتوح أذنه حاضر الذهن متفطن . وذكر لعاصم أنها قراءة السدي ، فمقته وقال : أليس يقول يلقون السمع ؟
ق : ( 38 ) ولقد خلقنا السماوات . . . . .
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : نزلت في اليهود تكذيباً لهم في قولهم : إنه تعالى استراح من خلق السموات والأرض ، ( فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ( : يوم السبت ، واستلقى على العرش ، وقيل : التشبيه الذي وقع في هذه الأمة إنما أخذ من اليهود . ) وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ( : احتمل أن تكون جملة حالية ، واحتمل أن تكون استئنافاً ؛ واللغوب : الإعياء . وقرأ الجمهور : بضم اللام ، وعلي ، والسلمي ، وطلحة ، ويعقوب ، بفتحها ، وهما مصدران ، الأول مقيس وهو الضم ، وأما الفتح فغير مقيس ، كالقبول والولوع ، وينبغي أن يضاف إلى تلك الخمسة التي ذكرها سيبويه ، وزاد الكسائي الوزوع فتصير سبعة .
ق : ( 39 - 40 ) فاصبر على ما . . . . .
( فَاصْبِرْ ( ، قيل : منسوخ بآية السيف ، ( عَلَى مَا يَقُولُونَ ( : أي اليهود وغيرهم من الكفار قريش وغيرهم ، ( وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ ( ، أي فصلّ ، ( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ( ، هي صلاة الصبح ، ( وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( : هي صلاة العصر ، قاله قتادة وابن زيد والجمهور . وقال ابن عباس : قبل الغروب : الظهر والعصر . ) وَمِنَ الَّيْلِ ( : صلاة العشاءين ، ( وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( : ركعتان قبل المغرب . وفي صحيح مسلم ، عن أنس ما معناه : أن الصحابة كانوا يصلونها قبل المغرب . وقال قتادة : ما أدركت أحداً يصليها إلا أنساً وأبا برزة الأسلمي . وقال بعض التابعين : كان الصحابة يهبون إليهما كما يهبون إلى المكتوبة . وقال ابن زيد : هي العشاء فقط . وقال مجاهد : هي صلاة الليل . ) وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( ، قال أبو الأحوص : هو التسبيح في أدبار الصلوات . وقال عمر ، وعليّ ، وأبو هريرة ، والحسن ، والشعبي ، وإبراهيم ، ومجاهد ، والأوزاعي : هما ركعتان بعد المغرب . وقال ابن عباس : هو الوتر بعد العشاء . وقال ابن عباس ، ومجاهد أيضاً ، وابن زيد : النوافل بعد الفرائض . وقال مقاتل : ركعتان بعد العشاء ، يقرأ في الأولى : ) قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( ، وفي الثانية : ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ). وقرأ ابن عباس ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وعيسى ، والأعمش ، وطلحة ، وشبل ، وحمزة ، والحرميان : وإدبار بكسر الهمزة ، وهو مصدر ، تقول : أدبرت الصلاة ، انقضت ونمت . وقال الزمخشري وغيره : معناه ووقت انقضاء السجود ، كقولهم : آتيك خفوق النجم . وقرأ الحسن والأعرج وباقي السبعة : بفتحها ، جمع دبر ، كطنب وأطناب ، أي وفي أدبار السجود : أي أعقابه . قال أوس بن حجر : على دبر الشهر الحرام فأرضنا
وما حولها جدب سنون تلمع
ق : ( 41 ) واستمع يوم يناد . . . . .
( وَاسْتَمِعْ ( : أمر بالاستماع ، والظاهر أنه أريد به حقيقة الاستماع ، والمستمع له محذوف تقديره : واستمع لما أخبر به من حال يوم القيامة ، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به ، كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لمعاذ : ( يا معاذ اسمع ما أقول لك ) ، ثم حدثه بعد ذلك . وانتصب ) يَوْمٍ ( بما دل عليه ذلك . ) يَوْمُ الْخُرُوجِ ( : أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور . وقيل : مفعول استمع محذوف تقديره : نداء المنادي . وقيل تقديره : نداء الكافر بالويل والثبور . وقيل : لا يحتاج إلى مفعول ، إذ حذف اقتصاراً ، والمعنى : كن مستمعاً ، ولا تكن غافلاً معرضاً . وقيل معنى واستمع : وانتظر

" صفحة رقم 129 "
والخطاب لكل سامع . وقيل : للرسول ، أي ارتقبه ، فإن فيه تبين صحة ما قلته ، كما تقول لمن تعده بورود فتح : استمع كذا وكذا ، أي كن منتظراً له مستمعاً ، فيوم منتصب على أنه مفعول به . وقرأ ابن كثير : المنادى بالياء وصلاً ووقفاً ، ونافع ، وأبو عمرو ؛ بحذف الياء وقفاً ، وعيسى ، وطلحة ، والأعمش ، وباقي السبعة : بحذفها وصلاً ووقفاً اتباعاً لخط المصحف ، ومن أثبتها فعلى الأصل ، ومن حذفها وقفاً فلأن الوقف تغيير يبدل فيه التنوين ألفاً نصباً ، والتاء هاء ، ويشدّد المخفف ، ويحذف الحرف في القوافي . والمنادي في الحديث : ( أن ملكاً ينادي من السماء أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة هلموا إلى الحشر والوقوف بين يدي الله تعالى ) . ) مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( : وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق . قيل : والمنادي إسرافيل ، ينفخ في الصور وينادي . وقيل : المنادي جبريل . وقال كعب ، وقتادة وغيرهما : المكان صخرة بيت المقدس ، قال كعب : قربها من السماء بثمانية عشر ميلاً ، كذا في كتاب ابن عطية ، وفي كتاب الزمخشري : باثني عشر ميلاً ، وهي وسط الأرض . انتهى ، ولا يصح ذلك إلا بوحي .
ق : ( 42 ) يوم يسمعون الصيحة . . . . .
( يَوْمَ يَسْمَعُونَ ( : بدل من ) يَوْمٍ يُنَادِى ( ، و ) الصَّيْحَةَ ( : صيحة المنادي . قيل : يسمعون من تحت أقدامهم . وقيل : من تحت شعورهم ، وهي النفخة الثانية ، و ) بِالْحَقّ ( متعلق بالصيحة ، والمراد به البعث والحشر . ) ذالِكَ ( : أي يوم النداء والسماع ، ( يَوْمُ الْخُرُوجِ ( من القبور ، وقيل : الإشارة بذلك إلى النداء ، واتسع في الظرف فجعل خبراً عن المصدر ، أو يكون على حذف ، أي ذلك لنداء نداء يوم الخروج ، أو وقت النداء يوم الخروج .
ق : ( 44 ) يوم تشقق الأرض . . . . .
وقرأ نافع ، وابن عامر : تشقق بشدّ الشين ؛ وباقي السبعة : بتخفيفها . وقرىء : تشقق بضم التاء ، مضارع شققت على البناء للمفعول ، وتنشق مضارع انشقت . وقرأ زيد بن علي : تشقق بفك الإدغام ، ذكره أبو عليّ الأهوازي في قراءة زيد بن عليّ من تأليفه ، ويوم بدل من يوم الثاني . وقيل : منصوب بالمصدر ، وهو الخروج . وقيل : المصير ، وانتصب ) سِرَاعاً ( على الحال من الضمير في عنهم ، والعامل تشقق . وقيل : محذوف تقديره يخرجون ، فهو حال من الواو في يخرجون ، قاله الحوفي . ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملاً في ) يَوْمَ تَشَقَّقُ ). ) ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( : فصل بين الموصوف وصفته بمعمول الصفة ، وهو علينا ، أي يسير علينا ، وحسن ذلك كون الصفة فاصلة . وقال الزمخشري : ) عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( ، تقديم الظرف يدل على الاختصاص ، يعني لا يتيسر مثل ذلك اليوم العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن ، كما قال : ) مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ). انتهى ، وهو على طريقه في أن تقديم المفعول وما أشبهه من دلالة ذلك على الاختصاص ، وقد بحثنا معه في ذلك في سورة الفاتحة في ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ).
ق : ( 45 ) نحن أعلم بما . . . . .
( نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ( : هذا وعيد محض للكفار وتهديد لهم ، وتسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( : بمتسلط حتى تجبرهم على الإيمان ، قاله الطبري . وقيل : التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم . ) فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( : لأن من لا يخاف الوعيد لكونه غير مصدّق بوقوعه لا يذكر ، إذ لا تنفع فيه الذكرى ، كما قال : ) وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( ، وختمت بقوله : ) فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ ( ، افتتحت ب ) ق وَالْقُرْءانِ ).

" صفحة رقم 130 "
51
( سورة الذاريات )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالذَارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرَاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْألُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالاٌّ سْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِىأَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ وَفِى الاٌّ رْضِ ءَايَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِىأَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالاٌّ رْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُم

" صفحة رقم 131 "
كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالاٌّ رْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ إِنِّء لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ } )
الذاريات : ( 1 - 4 ) والذاريات ذروا
الحبك : الطرائق ، مثل حبك الرمل والماء القائم إذا ضربته الريح ، وكذلك حبك الشعر آثار تثنيه وتكسره قال الشاعر : مكلل بأصول النجم ينسجه
ريح خريق لضاحي مائه حبك
والدرع محبوكة لأن حلقها مطرق طرائق ، وواحدها حبيكة ، كطريقة وطرق ، أو حباك ، كمثال ومثل ، قال الراجز : كأنما حللها الحوّاك
طنفسة في وشيها حباك
ويقال : حباك للظفيرة التي يشد بها خطار القصب بكرة ، وهي مستطيلة تصنع في ترحيب الغراسات المصطفة . وقال ابن الأعرابي : حبكت الشيء : أحكمته وأحسنت عمله . قال الفراء : الحبك : تكسر كل شيء . وقال غيره : المحبوك : الشديد الخلق من فرس وغيره . قال امرؤ القيس : قد غدا يحملني في أنفه
لاحق الأطلين محبوك ممر
الهجود : النوم . السمن : معروف ، وهو امتلاء الجسد بالشحم واللحم . يقال : سمن سمناً فهو سمين ، شذوا في المصدر واسم الفاعل ، والقياس سمن وسمن . وقالوا : سامن ، إذا حدث له السمن . الذنوب : الدلو العظيمة ، قال الراجز : إنا إذا نازلنا غريب
له ذنوب ولنا ذنوب
وإن أبيتم فلنا القليب
وأنشده الزمخشري : لنا ذنوب ولكم ذنوب

" صفحة رقم 132 "
ويطلق ، ويراد به الحظ والنصيب ، قال علقمة بن عبدة :
وفي كل حي قد خبطت بنعمة
فحق لشاس من نداك ذنوب
ونسبه الزمخشري لعمرو بن شاس ، وهو وهم في ديوان علقمة . وكان الحارث بن أبي شمر الغساني أسر شاساً أخا علقمة ، فدخل إليه علقمة ، فمدحه بالقصيدة التي فيها هذا البيت ، فلما وصل إلى هذا البيت في الإنشاد قال الحرث : نعم وأذنبه ، وقال حسان :
لا يبعدن ربيعة بن مكرم
وسقى الغوادي قبره بذنوب
وقال آخر :
لعمرك والمنايا طارقات
لكل بني أب منها ذنوب
) وَالذرِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءاخِذِينَ مَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ السَّمَاء وَالاْرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال فذكر بالقرآن من يخاف وعيد . وقال أول هذه بعد القسم : ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ ).
) وَالذرِيَاتِ ( : الرياح : . ) فَالْحَامِلَاتِ ( السحاب . ) فَالْجَارِيَاتِ ( الفلك . ) فَالْمُقَسّمَاتِ ( : الملائكة ، هذا تفسير عليّ كرم الله وجهه على المنبر ، وقد سأله ابن الكواء ، قاله ابن عباس . وقال ابن عباس أيضاً : ) فَالْحَامِلَاتِ ( هي السفن الموقرة بالناس وأمتاعهم . وقيل : الحوامل من جميع الحيوان . وقيل : الجاريات : السحاب بالرياح . وقيل : الجواري من الكواكب ، وأدغم أبو عمرو وحمزة ) وَالذرِيَاتِ ( في ذال ) ذَرْواً ( ، وذروها : تفريقها للمطر أو للتراب . وقرىء : بفتح الواو وتسمية للمحمول بالمصدر . ومعنى ) يُسْراً ( : جرياً ذا يسر ، أي سهولة . فيسراً مصدر وصف به على تقدير محذوف ، فهو على رأي سيبويه في موضع الحال . ) أمْراً ( تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها ، فأمراً مفعول به . وقيل : مصدر منصوب على الحال ، أي مأموره ، ومفعول المقسمات محذوف . وقال مجاهد : يتولى أمر العباد جبريل للغلظة ، وميكائيل للرحمة ، وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل للنفخ . وجاء في الملائكة : فالمقسمات على معنى الجماعات . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد الرياح لا غير ، لأنها تنشىء

" صفحة رقم 133 "
السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجو جرياً سهلاً ، وتقسم الأمطار بتصريف الرياح . انتهى . فإذا كان المدلول متغايراً ، فتكون أقساماً متعاقبة . وإذا كان غير متغاير ، فهو قسم واحد ، وهو من عطف الصفات ، أي ذرت أول هبوبها التراب والحصباء ، فأقلت السحاب ، فجرت في الجو باسطة للسحاب ، فقسمت المطر . فهذا كقوله : يا لهف زيابة للحارث الص
ابح فالغانم فالآيب
أي : الذي صبح العدو فغنم منهم ، فآب إلى قومه سالماً غانماً . والجملة المقسم عليها ، وهي جواب القسم ، هي
الذاريات : ( 5 ) إنما توعدون لصادق
) إِنَّمَا تُوعَدُونَ ( ، وما موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي توعدونه . ويحتمل أن تكون مصدرية ، أي أنه وعدكم أو وعيدكم ، إذ يحتمل توعدون الأمرين أن يكون مضارع وعد ومضارع أوعد ، ويناسب أن يكون مضارع أوعد لقوله : ) فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ، ولأن المقصود التخويف والتهويل . ومعنى صدقة : تحقق وقوعه ، والمتصف بالصدق حقيقة هو المخبر . وقال تعالى : ) ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ( : أي مصدوق فيه . وقيل : ) لَصَادِقٌ ( ، ووضع اسم الفاعل موضع المصدر ، ولا حاجة إلى هذا التقدير . وقال مجاهد : الأظهر أن الآية في الكفار ، وأنه وعيد محض .
الذاريات : ( 6 ) وإن الدين لواقع
) وَإِنَّ الدّينَ ( : أي الجزاء ، ( لَوَاقِعٌ ( : أي صادر حقيقة على المكلفين من الإنس والجن .
الذاريات : ( 7 ) والسماء ذات الحبك
والظاهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السموات . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : هي السماء السابعة . وقيل : السحاب الذي يظل الأرض .
( ذَاتِ الْحُبُكِ ( : أي ذات الخلق المستوي الجيد ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة والربيع . وقال الحسن ، وسعيد بن جبير : ) ذَاتِ الْحُبُكِ ( : أي الزينة بالنجوم . وقال الضحاك : ذات الطرائق ، يعني من المجرة التي في السماء . وقال ابن زيد : ذات الشدة ، لقوله : ) سَبْعاً شِدَاداً ). وقيل : ذات الصفاقة . وقرأ الجمهور : الحبك بضمتين ؛ وابن عباس ، والحسن : بخلاف عنه ، وأبو مالك الغفاري ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو السمال ، ونعيم عن أبي عمرو : بإسكان الباء ؛ وعكرمة : بفتحها ، جمع حبكة ، مثل : طرفة وطرف . وأبو مالك الغفاري ، والحسن : بخلاف عنه ، بكسر الحاء والباء ؛ وأبو مالك الغفاري ، والحسن أيضاً ، وأبو حيوة : بكسر الحاء وإسكان الباء ، وهو تخفيف فعل المكسور هما وهو اسم مفرد لا جمع ، لأن فعلاً ليس من أبنية الجموع ، فينبغي أن يعد مع إبل فيما جاء من الأسماء على فعل بكسر الفاء والعين ؛ وابن عباس أيضاً ، وأبو مالك : بفتحهما . قال أبو الفضل الرازي : فهو جمع حبكة ، مثل عقبة وعقب . انتهى . والحسن أيضاً : الحبك بكسر الحاء وفتح الباء ، وقرأ أيضاً كالجمهور ، فصارت قراءته خمساً : الحبك الحبك الحبك الحبك الحبك . وقرأ أبو مالك أيضاً : الحبك بكسر الحاء وضم الباء ، وذكرها ابن عطية عن الحسن ، فتصير له ست قراءات . وقال صاحب اللوامح ، وهو عديم النظير في العربية : في أبنيتها وأوزانها ، ولا أدري ما رواه . انتهى . وقال ابن عطية : هي قراءة شاذة غير متوجهة ، وكأنه أراد كسرها ، ثم توهم الحبك قراءة الضم بعد أن كسر الحاء وضم الباء ، وهذا على تداخل اللغات ، وليس في كلام العرب هذا البناء . انتهى .
وعلى هذا تأول النحاة هذه القراءات ، والأحسن عندي أن تكون مما اتبع فيه حركة الحاء لحركة ذات في الكسرة ، ولم يعتد باللام الساكنة ، لأن الساكن حاجز غير حصين . وجواب القسم :
الذاريات : ( 8 ) إنكم لفي قول . . . . .
( إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ، والظاهر أنه خطاب عام للمسلم والكافر ، كما أن جواب القسم السابق يشملهما ، واختلافهم كونهم مؤمناً بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكتابه وكافراً . وقال ابن زيد : خطاب للكفرة ، فيقولون : ساحر

" صفحة رقم 134 "
شاعر كاهن مجنون ، وقال الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستوياً ، إنما يكون متناقضاً مختلفاً . وقيل : اختلافهم في الحشر ، منهم من ينفيه ، ومنهم من يشك فيه . وقيل : اختلافهم : إقرارهم بأن الله تعالى أوجدهم وعبادتهم غيره والأقوال التي يقولونها في آلهتهم .
الذاريات : ( 9 ) يؤفك عنه من . . . . .
( يُؤْفَكُ ( : أي يصرف عنه ، أي عن القرآن والرسول ، قاله الحسن وقتادة . ) مَنْ أُفِكَ ( : أي من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم لقوله : لا يهلك على الله إلا هالك . وقيل : من صرف في سابق علم الله تعالى أنه مأفوك عن الحق لا يرعوي . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون ، أو للذي أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه ، فمنهم شاك ومنهم جاحد . ثم قال : يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك . وقيل : المأفوك عنه محذوف ، وعن هنا للسبب ، والضمير عائد على ) قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ، أي يصرف بسببه من أراد الإسلام بأن يقول : هو سحر هو كهانة ، حكاه الزهراوي والزمخشري ، وأورده على عادته في إبداء ما هو محكي عن غيره أنه مخترعه . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعود على ) قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ، والمعنى : يصرف عنه بتوفيق الله إلى الإسلام من غلبت سعادته ، وهذا على أن يكون في قول مختلف للكفار ، إلا أن عرف الاستعمال في إفكه الصرف من خير إلى شر ، فلذلك لا تجده إلا في المذمومين . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وقرأ ابن جبير وقتادة : من أفك مبنياً للفاعل ، أي من أفك الناس عنه ، وهم قريش . وقرأ زيد بن علي : يأفك عنه من أفك ، أي يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه . وعنه أيضاً : يأفك عنه من أفك ، أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب . وقرىء : يؤفن عنه من أفن بالنون فيهما ، أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا نهكه حلباً .
الذاريات : ( 10 ) قتل الخراصون
) قُتِلَ الْخَرصُونَ ( : أي قتل الله الخراصين ، وهم المقدرون ما لا يصح .
الذاريات : ( 11 ) الذين هم في . . . . .
( فِى غَمْرَةٍ ( : في جهل يغمرهم ، ( سَاهُونَ ( : غافلون عن ما أمروا به .
الذاريات : ( 12 ) يسألون أيان يوم . . . . .
( أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ ( : أي متى وقت الجزاء ؟ سؤال تكذيب واستهزاء ، وتقدمت قراءة من كسر الهمزة في قوله : ) أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( ، ( أيان يَوْمِ الدّينِ ( ، فيكون الظرف محلاً للمصدر ،
الذاريات : ( 13 ) يوم هم على . . . . .
وانتصب يوم هم بمضمر تقديره : هو كائن ، أي الجزاء ، قاله الزجاج ، وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو يومهم ، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير متمكن ، وهي الجملة الإسمية . ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة والزعفراني . ) يَوْمَ هُم ( بالرفع ، وإذا كان ظرفاً جاز أن تكون الحركة فيه حركة إعراب وحركة بناء ، وتقدم الكلام على إضافة الظرف المستقبل إلى الجملة الإسمية في غافر في قوله تعالى : ) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ). وقال بعض النحاة : يومهم بدل من ) يَوْمِ الدّينِ ( ، فيكون هنا حكاية من كلامهم على المعنى ، ويقولون ذلك على سبيل الاستهزاء . ولو حكى لفظ قولهم ، لكان التركيب : يوم نحن على النار يفتنون .
الذاريات : ( 14 ) ذوقوا فتنتكم هذا . . . . .
( ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ ( : أي يقال لهم ذوقوا . ) هَاذَا الَّذِى ( : مبتدأ وخبر . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون هذا بدلاً من فتنتكم ، أي ذوقوا هذا العذاب . انتهى ، وفيه بعد ، والاستقلال خير من البدل . ومعنى تفتنون : تعذبون في النار .
الذاريات : ( 15 ) إن المتقين في . . . . .
ولما ذكر حال الكفار ، ذكر حال المؤمنين ، وانتصب آخذين على الحال ، أي قابليه راضين به ، وذلك في الجنة . وقال ابن عباس :
الذاريات : ( 16 ) آخذين ما آتاهم . . . . .
( ءاخِذِينَ ( : أي في دنياهم ، ( مَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ ( من أوامره ونواهيه وشرعه ، فالحال محكية لتقدمها في الزمان على كونهم في الجنة .
الذاريات : ( 17 ) كانوا قليلا من . . . . .
والظاهر أن ) قَلِيلاً ( ظرف ، وهو في الأصل صفة ، أي كانوا في قليل من الليل . وجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً ، وما زائدة في كلا الإعرابين . وفسر أنس بن مالك ذلك فقال : كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء ، ولا يدل لفظ الآية على الاقتصار على هذا التفسير . وقال الربيع بن خيثم : كانوا يصيبون من الليل حظاً . وقال مطرف ، ومجاهد ، وابن أبي نجيح : قل ليلة أتت عليهم هجوعاً كلها . وقال الحسن : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً . وقال الضحاك : ) كَانُواْ قَلِيلاً ( ، أي في عددهم ، وثم خبر كان ، ثم ابتدأ ) مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( ، فما نافية ، وقليلاً وقف حسن ، وهذا القول فيه تفكيك للكلام ، وتقدم معمول العامل المنفي بما على عامله ، وذلك لا يجوز عند البصريين ، ولو كان ظرفاً أو مجروراً . وقد أجاز ذلك بعضهم ، وجاء في الشعر قوله :

" صفحة رقم 135 "
إذا هي قامت حاسراً مشمعلة
يحسب الفؤاد رأسها ما تقنع
فقدم رأسها على ما تقنع ، وهو منفي بما ، وجوزوا أن تكون ما مصدرية في موضع رفع بقليلاً ، أي كانوا قليلاً هجوعهم ، وهو إعراب سهل حسن ، وأن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف تقديره : ) كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ ( من الوقت الذي يهجعون فيه ، وفيه تكلف . ومن الليل يدل على أنهم مشغولون بالعبادة في أوقات الراحات ، وسكون الأنفس من مشاق النهار .
الذاريات : ( 18 ) وبالأسحار هم يستغفرون
) وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ، فيه ظهور على أن تهجدهم يتصل بالأسحار ، فيأخدون في الاستغفار مما يمكن أن يقع فيه تقصير وكأنهم أجرموا في تلك الليالي ، والأسحار مظنة الاستغفار . وقال ابن عمرو الضحاك : يستغفرون : يصلون . وقال الحسن : يدعون في طلب المغفرة ، والظاهر أن قيام الليل
الذاريات : ( 19 ) وفي أموالهم حق . . . . .
وهذا الحق في المال هو من المندوبات ، وأكثر ما تقع زيادة الثواب بفعل المندوب . وقال القاضي منذر بن سعيد : هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وضعف بأن السورة مكية ، وفرض الزكاة بالمدينة . وقيل : كان فرضاً ، ثم نسخ وضعف بأنه تعالى لم يشرع شيئاً بمكة قبل الهجرة من أخد الأموال . والسائل : الذي يستعطي ، والمحروم : لغة الممنوع من الشيء ، قال علقمة : ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمة
أنى توجه والمحروم محروم
وأما في الآية ، فالذي يحسب غنياً فيحرم الصدقة لتعففه . وقيل : الذي تبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان . وقال ابن عباس : المحارب الذي ليس له في الإسلام سهم مال . وقال زيد بن أسلم : هو الذي أجيحت ثمرته . وقيل : الذي ماتت ماشيته . وقال عمر بن عبد العزيز : هو الكلب . وقيل : الذي لا ينمي له مال . وقيل : المحارف الذي لا يكاد يكسب . وقيل غير ذلك ، وكل هذه الأقوال على سبيل التمثيل لا التعيين ، ويجمعها أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه .
الذاريات : ( 20 ) وفي الأرض آيات . . . . .
( وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ ( تدل على الصانع وقدرته وتدبيره من حيث هي كالبساط لما فوقها ، وفيها الفجاج للسلاك ، وهي متجزئة من سهل ووعر وبحر وبر ، وقطع متجاورات من صلبة ورخوة ومنبتة وسبخة ، وتلقح بأنواع النبات ، وفيها العيون والمعادن والدواب المنبتة في بحرها وبرها المختلفة الأشكال . وقرأ قتادة : آية على الإفراد ، ( لّلْمُوقِنِينَ ( : وهم الذين نظروا النظر الصحيح ، وأداهم ذلك إلى إيقان ما جاءت به الرسل ، فأيقنوا لم يدخلهم ريب .
الذاريات : ( 21 ) وفي أنفسكم أفلا . . . . .
( وَفِى أَنفُسِكُمْ ( حال ابتدائها وانتقالها من حال إلى حال ، وما أودع في شكل الإنسان من لطائف الحواس ، وما ترتب على العقل الذي أوتيه من بدائع العلوم وغريب الصنائع ، وغير ذلك مما لا ينحصر .
الذاريات : ( 22 ) وفي السماء رزقكم . . . . .
( وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ ( ، قال الضحاك ومجاهد وابن جبير : المطر والثلج ، لأنه سبب الأقوات ، وكل عين دائمة من الثلج . وقال مجاهد أيض وواصل الأحدب : أراد القضاء والقدر ، أي الرزق عند الله يأتي به كيف شاء ، ( وَمَا تُوعَدُونَ ( : الجنة ، أو هي النار ، أو أمر الساعة ، أو من خير وشر ، أو من ثواب وعقاب ، أقوال المراد بها التمثيل لا التعيين . وقرأ ابن محيصن : أرزاقكم على الجمع ،
الذاريات : ( 23 ) فورب السماء والأرض . . . . .
والضمير في إنه عائد على القرآن ، أو إلى الدين الذي في قوله : ) وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ ( ، أو إلى اليوم المذكور في قوله : ) أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ ( ، أو إلى الرزق ، أو إلى الله ، أو إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أقوال منقولة . والذي يظهر أنه عائد على الإخبار السابق من الله تعالى فيما تقدم في هذه السورة من صدق الموعود ووقوع الجزاء ، وكونهم في ) قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ، و ) قُتِل

" صفحة رقم 136 "
الْخَرصُونَ ( ، وكينونة المتقين في الجنة على ما وصف ، وذكر أوصافهم وما ذكر بعد ذلك ، ولذلك شبه في الحقيقة بما يصدر من نطق الإنسان بجامع ما اشتركا فيه من الكلام . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والأعم 5 : بخلاف عن ثلاثتهم . مثل بالرفع : صفة لقوله : ) لَحَقُّ ( ؛ وباقي السبعة ، والجمهور : بالنصب ، وقيل : هي فتحة بناء ، وهو نعت كحاله في قراءة من رفع . ولما أضيف إلى غير متمكن بنى ، وما على هذا الإعراب زائدة للتوكيد ، والإضافة هي إلى أنكم تنطقون . وقال المازني : بنى مثل ، لأنه ركب مع ما ، فصار شيئاً واحداً ، ومثله : ويحما وهيما وابنما ، قال حميد بن ثور : ألا هيما مما لقيت وهيما
وويحاً لمن لم يلق منهن ويحما
قال : فلولا البناء لكان منوناً ، وقال الشاعر : فأكرم بنا أو أماً وأكرم بنا ابنما انتهى هذا التخريج . وابنما ليس ابنا بني مع ما ، بل هذا من باب زيادة الميم فيه ، واتباع ما في الآخر ، إذ جعل في الميم الإعراب . تقول : هذا ابنم ، ورئت ابنما ، ومررت بابنم ، وليست ما في الثلاث في ابنما مركبة مع ما ، كما قال : الفتحة في ابنما حركة إعراب ، وهو منصوب على التمييز ، وأنشد النحويون في بناء الاسم مع الحرف قول الراجز :
أثور ما أصيدكم أو ثورين
أم تيكم الجماء ذات القرنين
وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : إنه لحق حقاً مثل ما أنكم ، فحركته حركة إعراب . وقيل : انتصب على أنه حال من الضمير المستكن في ) لَحَقُّ ). وقيل : حال من لحق ، وإن كان نكرة ، فقد أجاز ذلك الجرمي وسيبويه في مواضع من كتابه . والنطق هنا عبارة عن الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني . ويقول الناس : هذا حق ، كما أنك ههنا وهذا حق ، كما أنك ترى وتسمع ، وهذا كما في الآية . وما زائدة بنص الخليل ، ولا يحفظ حذفها ، فتقول : ذا حق كأنك ههنا ، والكوفيون يجعلون مثلاً محلى ، فينصبونه على الظرف ، ويجيزون زيد مثلك بالنصب ، فعلى مذهبهم يجوز أن تكون مثل فيها منصوباً على الظرف ، واستدلالهم والرد عليهم مذكور في النحو . ومن كلام بعض الأعراب : من ذا الذي أغضب الخليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين .
قوله عز وجل ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاْلِيمَ وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ وَهُوَ مُلِيمٌ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ

" صفحة رقم 137 "
الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ).
الذاريات : ( 24 ) هل أتاك حديث . . . . .
( هَلُ أَتَاكَ ( : تقرير لتجتمع نفس المخاطب ، كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب ، فتقرره هل سمع ذلك أم لا ، فكأنك تقتضي أن يقول لا . ويستطعمك الحديث ، وفيه تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإنما عرفه بالوحي ، وضيف الواحد والجماعة فيه سواء . وبدأ بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وإن كانت متأخرة عن قصة عاد ، هزماً للعرب ، إذ كان أباهم الأعلى ، ولكون الرسل الذين وفدوا عليه جاءوا بإهلاك قوم لوط ، إذ كذبوه ، ففيه وعيد للعرب وتهديد واتعاظ وتسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على ما يجري عليه من قومه . ووصفهم بالمكرمين لكرامتهم عند الله تعالى ، كقوله تعالى في الملائكة : ) بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( ، قاله الحسن ، فهي صفة سابقة فيهم ، أو لإكرام إبراهيم إياهم ، إذ خدمهم بنفسه وزوجته سارة وعجل لهم القرا . وقيل : لكونه رفع مجالسهم في صفة حادثة . وقرأ عكرمة : المكرمين بالتشديد ، وأطلق عليهم ضيف ، لكونهم في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم ، أو لحسبانه لذلك . وتقدم ذكر عددهم في سورة هود .
الذاريات : ( 25 ) إذ دخلوا عليه . . . . .
وإذ معمولة للمكرمين إذا كانت صفة حادثة بفعل إبراهيم ، وإلا فبما في ضيف من معنى لفعل ، أو بإضمار اذكر ، وهذه أقوال منقولة . وقرأ الجمهور : قالوا سلاماً ، بالنصب على المصدر الساد مسد فعله المستغنى به .
( قَالَ سَلَامٌ ( بالرفع ، وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره : عليكم سلام . قصد أن يجيبهم بأحسن مما حيوه أخذاً بأدب الله تعالى ، إذ سلاماً دعاء . وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي أمري سلام ، وسلام جملة خبرية قد تحصل مضمونها ووقع . وقال ابن عطية : ويتجه أن يعمل في سلاماً قالوا ، على أن يجعل سلاماً في معنى قولاً ، ويكون المعنى حينئذ : أنهم قالوا تحية ؛ وقولاً معناه سلاماً ، وهذا قول مجاهد . وقرأ ابن وثاب ، والنخعي ، وابن جبير ، وطلحة : قال سلم ، بكسر السين وإسكان اللام ، والمعنى : نحن سلم ، أو أنتم سلم ، وقرئا مرفوعين . وقرىء : سلاماً قالوا سلماً ، بنصبهما وكسر سين الثاني وسكون لامه . ) قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( ، قال أبو العالية : أنكر سلامهم في تلك الأرض وذلك الزمان . وقيل : لا نميزهم ولا عهد لنا بهم . وقيل : كان هذا سؤالهم ، كأنه قال : أنتم قوم منكرون ، فعرّفوني من أنتم . وقوم خبر مبتدأ محذوف قدره أنتم ، والذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لا يخاطبهم بذلك ، إذ فيه من عدم الإنس ما لا يخفى ، بل يظهر أنه يكون التقدير : هؤلاء قوم منكرون . وقال ذلك مع نفسه ، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه بحيث لا يسمع ذلك الأضياف .
الذاريات : ( 26 ) فراغ إلى أهله . . . . .
( فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ ( : أي مضى أثناء حديثه ، مخفياً مضيه مستعجلاً ؛ ) فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( : ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يبادر بالقرا من غير أن يشعر به الضيف ، حذراً من أن يمنعه أن يجيء بالضيافة . وكونه عطف ، فجاء على فراغ يدل على سرعة مجيئه بالقرا ، وأنه كان معداً عنده لمن يرد عليه . وقال في سورة هود : ) فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ( ، وهذا يدل أيضاً على أنه كان العجل سابقاً شيه قبل مجيئهم . وقال قتادة : كان غالب ماله البقر ، وفيه دليل على أنه يحضر للضيف أكثر مما يأكل . وكان عليه الصلاة والسلام مضيافاً ، وحسبك وقف للضيافة أوقافاً تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها .
الذاريات : ( 27 ) فقربه إليهم قال . . . . .
( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ( : فيه أدب المضيف من تقريب القرا لمن يأكل ، وفيه العرض على الأكل ؛ فإن في ذلك تأنيساً للأكل ، بخلاف من قدم طعاماً ولم يحث على أكله ، فإن الحاضر قد يتوهم أنه قدمه على سبيل التجمل ، عسى أن يمتنع الحاضر من الأكل ، وهذا موجود في طباع بعض الناس . حتى أن بعضهم إذا لج الحاضر وتمادى في الأكل ، أخذ من أحسن ما أحضر وأجزله ، فيعطيه لغلامه برسم رفعه لوقت آخر يختص هو بأكله . وقيل : الهمزة في ألا

" صفحة رقم 138 "
للإنكار ، وكأنه ثم محذوف تقديره : فامتنعوا من الأكل ، فأنكر عليهم ترك الأكل فقال : ) أَلا تَأْكُلُونَ ). وفي الحديث : ( إنهم قالوا إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه ، فقال لهم : وإني لا أبيحه لكم إلا بثمن ، قالوا : وما هو ؟ قال : أن تسموا الله عز وجل عند الابتداء وتحمدوه عند الفراغ من الأكل ، فقال بعضهم لبعض : بحق اتخذه الله خليلاً ) .
الذاريات : ( 28 ) فأوجس منهم خيفة . . . . .
( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ( : أي فلما استمروا على الامتناع من الأكل ، أوجس منهم خيفة ، وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه ، وللطعام حرمة وذمام ، والامتناع منه وحشة . فخشي إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن امتناعهم من أكل طعامهم إنما هو لشر يريدونه ، فقالوا لا تخف ، وعرفوه أنهم ملائكة . وعن ابن عباس : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب . وعلمهم بما أضمر في نفسه من الخوف ، إنما يكون باطلاع الله ملائكته على ما في نفسه ، أو بظهور أمارته في الوجه ، فاستدلوا بذلك على الباطن . وعن يحيى بن شداد : مسح جبريل عليه السلام بجناحه العجل ، فقام يدرج حتى لحق بأمه . ) بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( : أي سيكون عليماً ، وفيه تبشير بحياته حتى يكون من العلماء . وعن الحسن : عليم نبي ؛ والجمهور : على أن المبشر به هو إسحاق بن سارة . وقال مجاهد : هو إسماعيل . وقيل : علم أنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب ، ووقعت البشارة بعد التأنيس والجلوس ، وكانت البشارة بذكر ، لأنه أسر للنفس وأبهج ، ووصفه بعليم لأنها الصفة التي يختص بها الإنسان الكامل إلا بالصورة الجميلة والقوة .
الذاريات : ( 29 ) فأقبلت امرأته في . . . . .
( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ ( : أي إلى بيتها ، وكانت في زاوية تنظر إليهم وتسمع كلامهم . وقيل : ) فَأَقْبَلَتِ ( ، أي شرعت في الصياح . قيل : وجدت حرارة الدم ، فلطمت وجهها من الحياء . والصرة ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وسفيان : الصيحة . قال الشاعر : فألحقنا بالهاديات ودونه
حواجرها في صرة لم تزيل
وقال قتادة وعكرمة : الرنة . قيل : قالت أوّه بصياح وتعجب . وقال ابن بحر : الجماعة ، أي من النسوة تبادروا نظراً إلى الملائكة . وقال الجوهري : الصرة : الصيحة والجماعة والشدة . ) فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ( : أي لطمته ، قاله ابن عباس ، وكذلك كما يفعله من يرد عليه أمر يستهو له ويتعجب منه ، وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء . وقال السدي وسفيان : ضربت بكفها جبهتها ، وهذا مستعمل في الناس حتى الآن . ) وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( : أي إنا قد اجتمع فيها أنها عجوز ، وذلك مانع من الولادة ، وأنها عقيم ، وهي التي لم تلد قط ، فكيف ألد ؟ تعجبت من ذلك .
الذاريات : ( 30 ) قالوا كذلك قال . . . . .
( قَالُواْ كَذَلِكِ ( : أي مثل القول الذي أخبرناك به ، ( قَالَ رَبُّكِ ( : وهو القادر على إيجاد ما يستبعد . وروي أن جبريل عليه السلام قال لها : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت ، فإذا جذوعه مورقة مثمرة . ) إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ ( : أي ذو الحكمة . ) الْعَلِيمُ ( بالمصالح .
ولما علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنهم ملائكة ، وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله تعالى رسلاً ،
الذاريات : ( 31 - 32 ) قال فما خطبكم . . . . .
قال ) فَمَا خَطْبُكُمْ ( إلى : ) قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( : أي ذوي جرائم ، وهي كبار المعاصي من كفر وغيره .
الذاريات : ( 33 ) لنرسل عليهم حجارة . . . . .
( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ ( : أي لنهلكهم بها ، ( حِجَارَةً مّن طِينٍ ( : وهو السجيل ، طين يطبخ كما يطبخ الآجر حتى يصير في صلابة كالحجارة .
الذاريات : ( 34 ) مسومة عند ربك . . . . .
( مُّسَوَّمَةً ( : معلمة ، على كل واحد منها اسم صاحبه . وقيل : معلمة أنها من حجارة العذاب . وقيل : معلمة أنها ليست من حجارة الدنيا ، ( لِلْمُسْرِفِينَ ( : وهم المجاوزون الحد في الكفر .
الذاريات : ( 35 - 37 ) فأخرجنا من كان . . . . .
( فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا ( : في القرية التي حل العذاب بأهلها . ) غَيْرَ بَيْتٍ ( : هو بيت لوط عليه السلام ، وهو لوط وابنتاه فقط ، وقيل : ثلاثة عشر نفساً . وقال الرماني : الآية تدل على أن الإيمان هو الإسلام ، وكذا قال الزمخشري ، وهما معتزليان .
( وَتَرَكْنَا فِيهَا ( : أي في القرية ، ( ءايَةً ( : علامة . قال ابن جريج : حجراً كبيراً جدًّا منضوداً . وقيل : ماء أسود منتن . ويجوز أن يكون فيها عائداً على الإهلاكة التي أهلكوها ، فإنها من أعاجيب الإهلاك ،

" صفحة رقم 139 "
بجعل أعالي القرية أسافل وإمطار الحجارة .
الذاريات : ( 38 ) وفي موسى إذ . . . . .
والظاهر أن قوله : ) وَفِى مُوسَى ( معطوف على ) وَتَرَكْنَا فِيهَا ( : أي في قصة موسى . وقال الزمخشري وابن عطية : ) وَفِى مُوسَى ( يكون عطفاً على ) وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ ). ) وَفِى مُوسَى ( ، وهذا بعيد جدًّا ، ينزه القرآن عن مثله . وقال الزمخشري أيضاً : أو على قوله ، ( وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً ( ، على معنى : وجعلنا في موسى آية ، كقوله : علفتها تبناً وماء بارداً انتهى ، ولا حاجة إلى إضمار ) وَتَرَكْنَا ( ، لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور ) وَتَرَكْنَا ).
الذاريات : ( 39 ) فتولى بركنه وقال . . . . .
( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ( : أي ازور وأعرض ، كما قال : ) وَنَأَى بِجَانِبِهِ ). وقيل : بقوته وسلطانه . وقال ابن زيد : بركنه : بمجموعه . وقال قتادة : بقومه . ) وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( : ظن أحدهما ، أو تعمد الكذب ، وقد علم أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حقاً . وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو ، ويدل على ذلك أنه قد قالهما ، قال : ) إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ، و ) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( ، واستشهد أبو عبيدة بقول جرير :
أثعلبة الفوارس أو رباحا
عدلت بهم طهية والحشايا
ولا ضرورة تدعو إلى جعل أو بمعنى الواو ، إذ يكون قالهما ، وأبهم على السامع ، فأو للإبهام .
الذاريات : ( 40 ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم . . . . .
( هُوَ مُلِيمٌ ( : أي أتى من المعاصي ما يلام عليه .
الذاريات : ( 41 ) وفي عاد إذ . . . . .
( الْعَقِيمَ ( التي لا خير فيها ، من الشتاء مطر ، أو لقاح شجر . وفي الصحيح : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور . فقول من ذهب إلى أنها الصبا ، أو الجنوب ، أو النكباء ، وهي ريح بين ريحين ، نكبت عن سمت القبلة ، فسميت نكباء ، ليس بصحيح ، لمعارضته للنص الثابت عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنها الدبور .
الذاريات : ( 42 ) ما تذر من . . . . .
( مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ ( : وهو عام مخصوص ، كقوله : ) تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبّهَا ( : أي مما أراد الله تدميره وإهلاكه من ناس أو ديار أو شجر أو نبات ، لأنها لم يرد الله بها إهلاك الجبال والآكام والصخور ، ولا العالم الذي لم يكن من قوم عاد . ) إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( : جملة حالية ، والرميم تقدّم تفسيره في يس ، وهنا قال السدّي : التراب ، وقتادة : الهشيم ، ومجاهد : البالي ، وقطرب : الرماد ، وابن عيسى : المنسحق الذي لا يرم ، جعل الهمزة في أرم للسلب . روي أن الريح كانت تمر بالناس ، فيهم الرجل من قوم عاد ، فتنزعه من بينهم وتهلكه .
الذاريات : ( 43 ) وفي ثمود إذ . . . . .
( تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ ( ، قال الحسن : هذا كان حين بعث إليهم صالح ، أمروا بالإيمان بما جاء به ، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم ، ثم إنهم عتوا بعد ذلك ، ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عن ما أمروا به ، فهو مطابق لفظاً ووجود . وقال الفراء : هذا الأمر بالتمتع كان بعد عقر الناقة ، والحين ثلاثة أيام التي أوعدوا في تمامها بالعذاب . فالعتو كان قد تقدم قبل أن يقال لهم تمتعوا ، ولا ضرورة تدعو إلى قول الفراء ، إذ هو غير مرتب في الوجود .
الذاريات : ( 44 ) فعتوا عن أمر . . . . .
وقرأ الجمهور : الصاعقة ؛ وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما ، والكسائي : الصعقة ، وهي الصيحة هنا . وقرأ الحسن : الصاعقة ؛ وزيد بن علي كقراءة الكسائي . ) وَهُمْ يَنظُرُونَ ( : أي فجأة ، وهم ينظرون بعيونهم ، قاله الطبري : وكانت نهاراً . وقال مجاهد : ) وَهُمْ يَنظُرُونَ ( ينتظرون ذلك في تلك الأيام الثلاثة التي أعلموه فيها ، ورأوا علاماته في قلوبهم ، وانتظار العذاب أشد من العذاب .
الذاريات : ( 45 ) فما استطاعوا من . . . . .
( فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ ( ، لقوله : ) فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( ، ونفي الاستطاعة أبلغ من نفي القدرة . ) وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ ( ، أبلغ من نفي الانتصار : أي فما قدروا على الهرب ، ولا كانوا ممن ينتصر لنفسه فيدفع ما حل به . وقيل : ) مِن قِيَامٍ ( ، هو من قولهم : ما يقوم به إذا عجز عن دفعه ، فليس المعنى انتصاب القامة ، قاله قتادة .
الذاريات : ( 46 ) وقوم نوح من . . . . .
وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : ) وَقَوْمِ ( بالجر عطفاً على ما تقدم ، أي وفي قوم نوح ، وهي قراءة عبد الله . وقرأ باقي السبعة ، وأبو عمرو في رواية : بالنصب . قيل : عطفاً على الضمير في ) فَأَخَذَتْهُمُ ( ؛ وقيل : عطفاً على ) فَنَبَذْنَاهُمْ ( ، لأن معنى كل منهما : فأهلكناهم . وقيل : منصوب بإضمار فعل تقديره : وأهلكنا قوم نوح ، لدلالة معنى الكلام عليه .

" صفحة رقم 140 "
وقيل : باذكر مضمرة . وروى عبد الوارث ، ومحبوب ، والأصمعي عن أبي عمرو ، وأبو السمال ، وابن مقسم : وقوم نوح بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي أهلكناهم .
قوله عز وجل : ) وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءاخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ ).
الذاريات : ( 47 ) والسماء بنيناها بأيد . . . . .
أي : وبنينا السماء ، فهو من باب الاشتغال ، وكذا وفرشنا الأرض . وقرأ أبو السمال ، ومجاهد ، وابن مقسم : برفع السماء ورفع الأرض على الابتداء . ) بِأَيْدٍ ( : أي بقوة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وهو كقوله : ) دَاوُودُ ذَا الاْيْدِ ). ) وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( : أي بناءها ، فالجملة حالية ، أي بنيناها موسعوها ، كقوله : جاء زيد وإنه لمسرع ، أي مسرعاً ، فهي بحيث أن الأرض وما يحيط من الماء والهواء كالنقطة وسط الدائرة . وقال ابن زيد قريباً من هذا وهو : أن الوسع راجع إلى السماء . وقيل : لموسعون قوة وقدرة ، أي لقادرون من الوسع ، وهو الطاقة . وقال الحسن : أوسع الرزق بالمطر والماء .
الذاريات : ( 48 - 49 ) والأرض فرشناها فنعم . . . . .
( فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( ، و ) خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( ، قال مجاهد : إشارة إلى المتضادات والمتقابلات ، كالليل والنهار ، والشقاوة والسعادة ، والهدى والضلال ، والسماء والأرض ، والسواد والبياض ، والصحة والمرض ، والكفر والإيمان ، ونحو ذلك ، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة التي توجد الضدين ، بخلاف ما يفعل بطبعه ، كالتسخين والتبريد . ومثل الحسن بأشياء مما تقدم وقال : كل اثنين منها زوج ، والله تعالى فرد لا مثل له . وقال ابن زيد وغيره : ) مِن كُلّ شَىْء ( : أي من الحيوان ، ( خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( : ذكراً وأنثى . وقيل : المراد بالشيء الجنس ، وما يكون تحت الجنس نوعان : فمن كل جنس خلق نوعين من الجواهر ، مثل النامي والجامد . ومن النامي المدرك والنبات ، ومن المدرك الناطق والصامت ، وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه . ) لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( : أي بأني باني السماء وفارش الأرض وخالق الزوجين ، تعالى أن يكون له زوج . أو تذكرون أنه لا يعجزه حشر الأجساد وجمع الأرواح . وقرأ أبي : تتذكرون ، بتاءين وتخفيف الذال . وقيل : إرادة أن تتذكروا ، فتعرفوا الخالق وتعبدوه .
الذاريات : ( 50 ) ففروا إلى الله . . . . .
( فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( : أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله ، وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار ، لينبه على أن وراء الناس عقاب وعذاب . وأمر حقه أن يفر منه ، فجمعت لفظة ففروا بين التحذير والاستدعاء . وينظر إلى هذا المعنى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ) ، قاله ابن عطية ، وهو تفسير حسن . وقال الزمخشري : إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ، ووحدوه ولا تشركوا به شيئاً . وكرر ) إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ، عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل ، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما . ألا ترى إلى قوله : ) لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا ( ؟ والمعنى : قل يا محمد ففروا إلى الله . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال . وقد رددنا عليه في تفسير ) لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ( في موضع هذه الآية .
الذاريات : ( 52 ) كذلك ما أتى . . . . .
( كَذالِكَ ( : أي أمر الأمم السابقة عند مجيء الرسل إليهم ، مثل الأمر من الكفار الذين بعثت إليهم ، وهو التكذيب . ) سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( : أو للتفصيل ، أي قال بعض ساحر ، وقال بعض مجنون ، وقال بعض كلاهما ، ألا ترى إلى قوم نوح عليه الصلاة والسلام لم يقولوا عنه إنه ساحر ، بل قالوا به جنة ، فجمعوا في الضمير ودلت أو على التفصيل ؟
الذاريات : ( 53 ) أتواصوا به بل . . . . .
( أَتَوَاصَوْاْ بِهِ ( : أي بذلك القول ، وهو توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة على تكذيب الأنبياء ، مع افتراق أزمانهم ، ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( : أي لم يتواصوا به ، لأنهم لم يكونوا في زمان واحد ، بل جمعتهم علة واحدة ، وهي كونهم طغاة ، فهم مستعلون في الأرض ، مفسدون فيها

" صفحة رقم 141 "
عاتون .
الذاريات : ( 54 ) فتول عنهم فما . . . . .
( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( : أي أعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة ، فلم يجيبوا . ) فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ( : إذ قد بلغت ونصحت .
الذاريات : ( 55 ) وذكر فإن الذكرى . . . . .
( وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( : تؤثر فيهم وفيمن قدر الله أن يؤمن ، وما دل عليه الظاهر من الموادعة منسوخ بآية السيف . وعن عليّ ، كرم الله وجهه : لما نزل ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( ، حزن المسلمون وظنوا أنه أمر بالتولي عن الجميع ، وأن الوحي قد انقطع ، نزلت ) وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( ، فسروا بذلك . ) إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( : أي ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ ( الطائعين ، قاله زيد بن أسلم وسفيان ، ويؤيده رواية ابن عباس ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) :
الذاريات : ( 56 ) وما خلقت الجن . . . . .
( وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين ) . وقال علي وابن عباس : ) إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( : إلا لآمرهم بعبادتي ، وليقروا لي بالعبادة . فعبر بقوله : ) لِيَعْبُدُونِ ( ، إذ العبادة هي مضمن الأمر ، فعلى هذا الجن والإنس عام . وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : إلا معدين ليعبدون ، وكأن الآية تعديد نعمه ، أي خلقت لهم حواس وعقولاً وأجساماً منقادة ، نحو : العبادة ، كما تقول : هذا مخلوق لكذا ، وإن لم يصدر منه الذي خلق له ، كما تقول : القلم مبري لأن يكتب به ، وهو قد يكتب به وقد لا يكتب به ، وقال الزمخشري : إلا لأجل العبادة ، ولم أرد من جميعهم إلا إياها . فإن قلت : لو كان مريداً للعبادة منهم ، لكانوا كلهم عباداً . قلت : إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها ، لأنه خلقهم ممكنين ، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريداً لها ، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وقال مجاهد : ) إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( : ليعرفون . وقال ابن زيد : لأحملهم في العبادة على الشقاوة والسعادة . وقال الربيع بن أنس : إلا للعبادة ، قال : وهو ظاهر اللفظ . وقيل : إلا ليذلوا لقضائي . وقال الكلبي : إلا ليوحدون ، فالمؤمن يوحده في الشدة والرخاء ، والكافر في الشدة . وقال عكرمة : ليطيعون ، فأثيب العابد ، وأعاقب الجاحد . وقال مجاهد أيضاً : إلا للأمر والنهي .
الذاريات : ( 57 - 58 ) ما أريد منهم . . . . .
( مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ ( : أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم . ) وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ( : أي أن يطعموا خلقي ، فهو على حذف مضاف ، فالإضافة إلى الضمير تجوز ، قاله ابن عباس . وقيل : ) أَن يُطْعِمُونِ ( : أن ينفعون ، فذكر جزأ من المنافع وجعله دالاً على الجميع . وقال الزمخشري : يريد إن شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، لأن ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا في تحصيل معايشهم وأرزاقهم بهم ؛ فإما مجهز في تجارة يبغي ربحاً ، أو مرتب في فلاحة ليقتل أرضاً ، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته ، أو محتطب ، أو محتش ، أو مستق ، أو طابخ ، أو خابز ، أو ما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق . فأما مالك ملاك العبيد فقال لهم : اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم ، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم ، وأنا غني عنكم وعن مرافقكم ، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي ، فما هو إلا أن انا وحدي . انتهى ، وهو تكثير وخطابة . وقرأ ابن محيصن : ) الرَّزَّاقُ ( ، كما قرأ : ) وَفِى السَّمَاء ( : اسم فاعل ، وهي قراءة حميد . وقرأ الأعمش ، وابن وثاب : ) الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ( بالجر ، صفة للقوة على معنى الاقتدار ، قاله الزمخشري ، أو كأنه قال : ذو الأيد ، وأجاز أبو الفتح أن تكون صفة لذو وخفض على الجوار ، كقولهم : هذا جحر ضب خرب .
الذاريات : ( 59 ) فإن للذين ظلموا . . . . .
( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( : هم أهل مكة وغيرهم من الكفار الذين كذبوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ذنوباً : أي حظاً ونصيباً ، ( مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ( : من الأمم السابقة التي كذبت الرسل في الإهلاك والعذاب . وعن قتادة : سجلاً من عذاب الله مثل سجل أصحابهم . وقال الجوهري : الذنوب : الدلو الملأى ماء ، ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة وجمعها العدد ، وفي الكثير ذنائب . والذنوب : الفرس الطويل الذنب ، والذنوب : النصيب ، والذنوب : لحم أسفل المتن . وقال ابن الأعرابي : يقال يوم ذنوب : أي طويل الشر لا ينقضي .
الذاريات : ( 60 ) فويل للذين كفروا . . . . .
( فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ( ، قيل : يوم بدر . وقيل : يوم القيامة ) الَّذِى يُوعَدُونَ ( : أي به ، أو يوعدونه .

" صفحة رقم 142 "
52
( سورة الطور )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِى رَقٍّ مَّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِىأَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَاذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْألُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُوا

" صفحة رقم 143 "
ْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( )
الطور : ( 1 ) والطور
الرق ، بالفتح والكسر : جلد رقيق يكتب فيه ، وجمعه رموق . والرق بالكسر : المملوك . مار الشيء : ذهب وجاء . وقال الأخفش : وأبو عبيدة : تكفأ ، وأنشد الأعشى : كأن مشيتها من بين جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجل
ويروى : مرو السحابة . الدع : الدفع في الضيق بشدّة وإهانة . السموم : الريح الحارة التي تدخل المسام ، ويقال : سم يومنا فهو مسموم ، والجمع سمائم . وقال ثعلب : شدّة الحر ، أو شدّة البرد في النهار . وقال أبو عبيدة : السموم بالنهار ، وقد يكون بالليل ؛ والحرور بالليل ، وقد يكون بالنهار . وقد يستعمل السموم في لفح البرد ، وهو في لفح الحر والشمس أكثر . المنون : الدهر ، وريبه : حوادثه . وقيل : اسم للموت . المسيطر : المتسلط . وحكى أبو عبيدة : سطرت عليّ ، إذا اتخذتني خولاً ، ولم يأت في كلام العرب اسم على مفيعل إلا خمسة : مهيمن ومحيمر ومبيطر ومسيطر ومبيقر . فالمحيمر اسم جبل ، والبواقي أسماء فاعلين ، والله تعالى أعلم .
( وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِى رَقّ مَّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، إذ في آخر تلك : ) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ( ، وقال هنا : ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ).
الطور : الجبل ، والظاهر أنه اسم جنس ، لا جبل معين ، وفي الشأم جبل يسمى الطور ، وهو طور سيناء . فقال نوف البكالي : إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال . قيل : وهو الذي كلم الله عليه موسى ، عليه الصلاة والسلام .
الطور : ( 2 ) وكتاب مسطور
والكتاب المسطور : القرآن ، أو المنتسخ من اللوح المحفوظ ، أو التوراة ، أو هي الإنجيل والزبور ، أو الكتاب الذي فيه أعمال الخلق ، أو الصحف التي تعطى يوم القيامة بالإيمان والشمائل ، أقوال آخرها للفراء ، ولا ينبغي أن يحمل شيء منها على التعيين ، إنما تورد على الاحتمال .
الطور : ( 3 ) في رق منشور
وقرأ أبو السمال : في رِق ، بكسر الراء ، ( مَّنْشُورٍ ( : أي مبسوط . وقيل : مفتوح لا ختم عليه . وقيل : منشور لائح . وعن ابن عباس : منشور ما بين المشرق والمغرب .
الطور : ( 4 ) والبيت المعمور
) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ( ، قال علي وابن عباس وعكرمة : هو بيت في السماء

" صفحة رقم 144 "
مسامت الكعبة يقال له الضراح ، والضريح أيضاً ، وهو الذي ذكر في حديث الإسراء ، قال جبريل : هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم . وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : في كل سماء بيت معمور ، وفي كل أرض كذلك . وسأل ابن الكوا علياً ، رضي الله تعالى عنه فقال : بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح . وقال الحسن : البيت المعمور : الكعبة ، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف ، فإن عجز من الناس أتمه الله بالملائكة .
الطور : ( 5 ) والسقف المرفوع
) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( : السماء ، قال ابن عباس : هو العرش ، وهو سقف الجنة .
الطور : ( 6 ) والبحر المسجور
) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( ، قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحمد بن كعب والأخف 5 : هو البحر الموقد ناراً . وروي أن البحر هو جهنم . وقال قتادة : البحر المسجور : المملوء ، وهذا معروف من اللغة ، ورجحه الطبري بوجود ماء البحر كذلك ، ولا ينافي ما قاله مجاهد ، لأن سجرت التنور معناه : ملأته بما يحترق . وقال ابن عباس : المسجور : الذي ذهب ماؤه . وروى ذو الرمة الشاعر ، عن ابن عباس قال : خرجت أمة لتستقي ، فقالت : إن الحوض مسجور : أي فارغ ، وليس لذي الرمة حديث إلا هذا ، فيكون من الأضداد . ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة . وقال ابن عباس أيضاً : المسجور : المحبوس ، ومنه ساجور الكلب : وهي القلادة من عود أو حديد تمسكه ، ولولا أن البحر يمسك ، لفاض على الأرض . وقال الربيع : المسجور : المختلط العذب بالملح . وقيل : المفجور ، ويدل عليه : ) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجّرَتْ ). والجمهور : على أن البحر المقسم به هو بحر الدنيا ، ويؤيده : ) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ ). وعن علي وابن عمر : أنه في السماء تحت العرش فيه ماء غليظ يقال له بحر الحياة ، يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً ، فينبتون في قبورهم . وقال قتيبة بن سعيد : هو جهنم ، وسماها بحراً لسعتها وتموجها . كما جاء في الفرس : وإن وجدناه لبحراً . قيل : ويحتمل أن تكون الجملة في القسم بالطور والبحر والبيت ، لكونها أماكن خلوة مع الله تعالى ، خاطب منها ربهم رسله .
فالطور ، قال فيه موسى : ) أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ( ، والبيت المعمور لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والبحر المسجور ليونس ، قال : ) لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ ( ، فشرفت هذه الأماكن بهذه الأسباب . والقسم بكتاب مسطور ، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان لهم مع الله في هذه الأماكن كلام . واقترانه بالطور دل على ذلك . والقسم بالسقف المرفوع لبيان رفعة البيت المعمور . انتهى . ونكر وكتاب ، لأنه شامل لكل كتاب أنزله الله شمول البدل ، ويحتمل أن يكون شمول العموم ، كقوله : ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ). وكونه في رق ، يدل على ثبوته ، وأنه لا يتخطى الرؤوس . ووصفه بمنشور يدل على وضوحه ، فليس كالكتاب المطوي الذي لا يعلم ما انطوى عليه ، والمنشور يعلم ما فيه ، ولا يمنع من مطالعة ما تضمنه ؛ والواو الأولى واو القسم ، وما بعدها للعطف .
الطور : ( 7 ) إن عذاب ربك . . . . .
والجملة المقسم عليها هي قوله : ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ). وفي إضافة العذاب لقوله : ) رَبَّكَ ( لطيفة ، إذ هو المالك والناظر في مصلحة العبد

" صفحة رقم 145 "
فبالإضافة إلى الرب ، وإضافته لكاف الخطاب أمان له ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ وإن العذاب لواقع هو بمن كذابه ، ولواقع على الشدة ، وهو أدل عليها من لكائن . ألا ترى إلى قوله : ) إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( ، وقوله : ) وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ( ، كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حل به ؟ وعن جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في أسارى بدر ، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب : ) وَالطُّورِ ( إلى ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ( ، فكأنما صدع قلبي ، فأسلمت خوفاً من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب . وقرأ زيد بن علي : واقع بغير لام . قال قتادة : يريد عذاب الآخرة للكفار ، أي لواقع بالكفار .
ومن غريب ما يحكى أن شخصاً رأى في النوم في كفه مكتوباً خمس واوات ، فعبر له بخير ، فسأل ابن سيرين ، فقال : تهيأ لما لا يسر ، فقال له : من أين أخذت هذا ؟ فقال : من قوله تعالى : ) وَالطُّورِ ( إلى ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ( ، فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص . وانتصب يوم بدافع ، قاله الحوفي ، وقال مكي : لا يعمل فيه واقع ، ولم يذكر دليل المنع . وقيل : هو منصوب بقوله : ) لَوَاقِعٌ ( ،
الطور : ( 8 ) ما له من . . . . .
وينبغي أن يكون ) مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ( على هذا جملة اعتراض بين العامل والمعمول .
الطور : ( 9 ) يوم تمور السماء . . . . .
قال ابن عباس : ) تَمُورُ ( : تضطرب . وقال أيضاً : تشقق . وقال الضحاك : يموج بعضها في بعض .
الطور : ( 10 ) وتسير الجبال سيرا
وقال مجاهد : تدور . ) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ( ، هذا في أول الأمر ، ثم تنسف حتى تصير آخراً ) كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ).
الطور : ( 11 - 12 ) فويل يومئذ للمكذبين
) فَوَيْلٌ ( : عطف على جملة تتضمن ربط المعنى وتأكيده ، والخوض : التخبط في الباطل ، وغلب استعماله في الاندفاع في الباطل .
الطور : ( 13 ) يوم يدعون إلى . . . . .
( يَوْمَ يُدَعُّونَ ( ، وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم . وقرأ علي وأبو رجاء والسلمي وزيد بن علي : يدعون ، بسكون الدال وفتح العين : من الدعاء ، أي يقال لهم : هلموا إلى النار ، وادخلوها ) دَعًّا ( : مدعوعين ،
الطور : ( 14 ) هذه النار التي . . . . .
يقال لهم : ) هَاذِهِ النَّارُ ). لما قيل لهم ذلك ، وقفوا بعد ذلك على الجهتين اللتين يمكن دخول الشك في أنها النار ،
الطور : ( 15 ) أفسحر هذا أم . . . . .
وهي : إما أن يكون سحر يلبس ذات المرئي ، وإما أن يكون في نظر الناظر اختلال ، فأمرهم بصليها على جهة التقريع .
الطور : ( 16 ) اصلوها فاصبروا أو . . . . .
ثم قيل لهم على قطع رجائهم : ) فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ ( : عذابكم حتم ، فسواء صبركم وجزعكم لا بد من جزاء أعمالكم ، قاله ابن عطية .
وقال الزمخشري : ) أَفَسِحْرٌ هَاذَا ( ، يعني كنتم تقولون للوحي : هذا سحر . . ) أَفَسِحْرٌ هَاذَا ( ، يريد : أهذا المصداق أيضاً سحر ؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى . ) أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ ( : كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ، يعني : أم أنتم عمي عن المخبر عنه ، كما كنتم عمياً عن الخبر ؟ وهذا تقريع وتهكم . فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله : ) إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ؟ قلت : لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة ، وبأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير . فأما الصبر على العذاب ، الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع . انتهى . وسحر : خبر مقدم ، وهذا : مبتدأ ، وسواء : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي الصبر والجزع . وقال أبو البقاء : خبر مبتدأ محذوف ، أي صبركم وتركه سواء .
الطور : ( 17 - 18 ) إن المتقين في . . . . .
ولما ذكر حال الكفار ، ذكر حال المؤمنين ، ليقع الترهيب والترغيب ، وهو إخبار عن ما يؤول إليه حال المؤمنين ، أخبروا بذلك . ويجوز أن يكون من جملة القول للكفار ، إذ ذلك زيادة في غمهم وتنكيد لهم ، والأول أظهر . وقرأ الجمهور : فكهين ، نصباً على الحال ، والخبر في ) جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ). وقرأ خالد : بالرفع على أنه خبر إن ، وفي جنات متعلق به . ومن أجاز تعداد الخبر ، أجاز أن يكونا خبرين . ) وَوَقَاهُمْ ( معطوف على ) فِي جَنَّاتِ ( ، إذ المعنى : استقروا في جنات ، أو على ) ءاتَاهُمُ ( ، وما مصدرية ، أي فكهين بإيتائهم ربهم النعيم ووقايتهم عذاب الجحيم . وجوز أن تكون الواو في ووقاهم واو الحال ، ومن شرط قد في الماضي ، قال : هي هنا مضمرة ، أي وقد وقاهم . وقرأ أبو حيوة : ووقاهم ، بتشديد القاف .
الطور : ( 19 ) كلوا واشربوا هنيئا . . . . .
( كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( على إضمار القول : أي يقال لهم : ) هَنِيئَاً ). قال الزمخشري : أكلاً وشرباً هنيئاً ، أو طعاماً وشراباً هنيئاً ، وهو الذي لا تنغيص فيه . ويجوز أن يكون مثله في قوله :

" صفحة رقم 146 "
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت
أعني : صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل ، مرتفعاً به ما استحلت ، كما يرتفع بالفعل ، كأنه قيل : هنا عزة المستحل من أعراضنا . وكذلك معنى هنيئاً ههنا : هنأكم الأكل والشرب ، أو هنأكم ما كنتم تعملون ، أي جزاء ما كنتم تعملون ، والباء مزيدة كما في : ) كَفَى بِاللَّهِ ( ، والباء متعلقة بكلوا واشربوا ، إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب . انتهى . وتقدم لنا الكلام مشبعاً على ) هَنِيئَاً ( في سورة النساء . وأما تجويزه زيادة الباء ، فليست زيادتها مقيسة في الفاعل ، إلا في فاعل كفى على خلاف فيها ؛ فتجويز زيادتها في الفاعل هنا لا يسوغ . وأما قوله : إن الباء تتعلق بكلوا واشربوا ، فلا يصح إلا على الأعمال ، فهي تتعلق بأحدهما .
الطور : ( 20 ) متكئين على سرر . . . . .
وانتصب ) مُتَّكِئِينَ ( على الحال . قال أبو البقاء : من الضمير في ) كُلُواْ ( ، أو من الضمير في ) وَوَقَاهُمْ ( ، أو من الضمير في ) ءاتَاهُمُ ( ، أو من الضمير في ) فَاكِهِينَ ( ، أو من الضمير في الظرف . انتهى . والظاهر أنه حال من الظرف ، وهو قوله : ) فِي جَنَّاتِ ). وقرأ أبو السمال : على سرر ، بفتح الراء ، وهي لغة لكلب في المضعف ، فراراً من توالي ضمتين مع التضعيف . وقرأ عكرمة : ) بِحُورٍ عِينٍ ( على الإضافة .
الطور : ( 21 ) والذين آمنوا واتبعتهم . . . . .
والظاهر أن قوله : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( مبتدأ ، وخبره ) ألحقناه ). وأجاز أبو البقاء أن يكون ) مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ( في موضع نصب على تقدير : وأكرمنا الذين آمنوا . ومعنى الآية ، قال الجمهور وابن عباس وابن جبير وغيرهما : أن المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يكونون في مراتب آبائهم ، وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال مثلهم كرامة لآبائهم . فبإيمان متعلق بقوله : ) وَأَتْبَعْنَاهُم ). وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته وإن كان لم يبلغها بعمله ليقر بها عينه ) ثم قرأ الآية . وقال ابن عباس والضحاك : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار ، وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين . انتهى . فيكون بإيمان متعلقاً بألحقنا ، أي ألحقنا بسبب الإيمان الآباء بهم ذرياتهم ، وهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف ، فهم في الجنة مع آبائهم ، وإذا كان أبناء الكفار ، الذين لم يبلغوا حدّ التكليف في الجنة ، كما ثبت في صحيح البخاري ، فأحرى أولاد المؤمنين . وقال الحسن : الآية في الكبار من الذرية . وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار . وعن ابن عباس أيضاً : الذين آمنوا : المهاجرون والأنصار ، والذرية : التابعون . وعنه أيضاً : إن كان الآباء أرفع درجة ، رفع الله الأبناء إليهم ، فالآباء داخلون في اسم الذرية . وقال النخعي : المعنى : أعطيناهم أجورهم من غير نقص ، وجعلنا ذريتهم كذلك .
وقال الزمخشري : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( ، معطوف على حور عين . أي قرناهم بالحور العين ؛ وبالذين آمنوا : أي بالرفقاء والجلساء منهم ، كقوله تعالى : ) إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ( ، فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وأتبعناهم ذرياتهم . ثم ذكر حديث ابن عباس ، ثم قال : فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، وبمزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم بهم ونسلهم . ثم قال : بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم : أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ، ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم ، وإن كانوا لا يستأهلونها ، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم ، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم . فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان ؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة . ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم . انتهى .
ولا يتخيل أحد أن ) وَالَّذِينَ ( معطوف على ) بِحُورٍ عِينٍ ( غير هذا الرجل ، وهو تخيل أعجميّ مخالف لفهم العربي القح ابن عباس وغيره . والأحسن من هذه الأقوال قول ابن عباس ، ويعضده الحديث الذي رواه ، لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى هل الجنة . وذكر من جملة إحسانه أنه يرعى

" صفحة رقم 147 "
المحسن في المسيء . ولفظة ) أَلْحَقْنَا ( تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال . وقرأ أبو عمرو : وأتبعناهم ؛ وباقي السبعة : واتبعتهم ؛ وأبو عمرو : وذرياتهم جمعاً نصباً ؛ وابن عامر : جمعاً رفعاً ؛ وباقي السبعة : مفرداً ؛ وابن جبير : وأتبعناهم ذريتهم ، بالمدّ والهمز .
وقرأ الجمهور : ) أَلَتْنَاهُمْ ( ، بفتح اللام ، من ألات ؛ والحسن وابن كثير : بكسرها ؛ وابن هرمز : آلتناهم ، بالمد من آلت ، على وزن أفعل ؛ وابن مسعود وأبي : لتناهم من لات ، وهي قراءة طلحة والأعمش ؛ ورويت عن شبل وابن كثير ، وعن طلحة والأعمش أيضاً : لتناهم بفتح اللام . قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال ، وأنكر أيضاً آلتناهم بالمد ، وقال : لا يروى عن أحد ، ولا يدل عليها تفسير ولا عربية ، وليس كما ذكر ، بل قد نقل أهل اللغة آلت بالمد ، كما قرأ ابن هرمز . وقرىء : وما ولتناهم ، ذكره ابن هارون . قال ابن خالويه : فيكون هنا الحرف من لات يليت ، وولت يلت ، وألت يألت ، وألات يليت ، ويؤلت ، وكلها بمعنى نقص . ويقال : ألت بمعنى غلظ . وقام رجل إلى عمر رضي الله عنه فوعظه ، فقال رجل : لا تألت أمير المؤمنين ، أي لا تغلظ عليه . والظاهر أن الضمير في ألتناهم عائد على المؤمنين . والمعنى : أنه تعالى يلحق المقصر بالمحسن ، ولا ينقص المحسن من أجر شيئاً ، وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور . وقال أبي زيد : الضمير عائد على الأبناء . ) مّنْ عَمَلِهِم ( : أي الحسن والقبيح ، ويحسن هذا الاحتمال قوله : ) كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ( : أي مرتهن وفيه ،
الطور : ( 22 ) وأمددناهم بفاكهة ولحم . . . . .
( وَأَمْدَدْنَاهُم ( : أي يسرنا لهم شيئاً فشيئاً حتى يكر ولا ينقطع .
الطور : ( 23 ) يتنازعون فيها كأسا . . . . .
( يَتَنَازَعُونَ فِيهَا ( أي يتعاطون ، قال الأخطل : نازعته طيب الراح الشمول وقد
صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
أو يتنازعون : يتجاذبون تجاذب ملاعبة ، إذ أهل الدنيا لهم في ذلك لذة ، وكذلك في الجنة . وقرأ الجمهور : ) لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ( ، برفعهما ؛ وابن كثير ، وأبو عمرو : بفتحهما ، واللغو : السقط من الكلام ، كما يجري بين شراب الخمر في الدنيا . والتأثيم : الإثم الذي يلحق شارب الخمر في الدنيا .
الطور : ( 24 ) ويطوف عليهم غلمان . . . . .
( غِلْمَانٌ لَّهُمْ ( : أي مماليك . ) مَّكْنُونٌ ( : أي في الصدف ، لم تنله الأيدي ، قاله ابن جبير ، وهو إذ ذاك رطب ، فهو أحسن وأصفى . ويجوز أن يراد بمكنون : مخزون ، لأنه لا يخزن إلا الغالي الثمن .
الطور : ( 25 - 27 ) وأقبل بعضهم على . . . . .
والظاهر أن التساؤل هو في الجنة ، إذ هذه كلها معاطيف بعضها على بعض ، أي يتساءلون عن أحوالهم وما نال كل واحد منهم ؛ ويدل عليه ) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ( : أي بهذا النعيم الذي نحن فيه . وقال ابن عباس : تساؤلهم إذا بعثوا في النفخة الثانية ، حكاه الطبري عنه . ) مُشْفِقِينَ ( : رقيقي القلوب ، خاشعين لله . وقرأ أبو حيوة : ووقانا بتشديد القاف ، والسموم هنا النار ؛ وقال الحسن : اسم من أسماء جهنم .
الطور : ( 28 ) إنا كنا من . . . . .
( مِن قَبْلُ ( : أي من قبل لقاء الله والمصير إليه . ) نَدْعُوهُ ( نعبده ونسأله الوقاية من عذابه ، ( إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ ( : المحسن ، ( الرَّجِيمِ ( : الكثير الرحمة ، إذا عبد أثاب ، وإذا سئل أجاب . أو ) نَدْعُوهُ ( من الدعاء . وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي : أنه بفتح الهمزة ، أي لأنه ، وباقي السبعة : إنه بكسر الهمزة ، وهي قراءة الأعرج وجماعة ، وفيها معنى التعليل .
قوله عز وجل : ) فَذَكّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَاذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِن

" صفحة رقم 148 "
ُ ( سقط : رحمة ) رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ).
الطور : ( 29 ) فذكر فما أنت . . . . .
لما تقدم إقسام الله تعالى على وقوع العذاب ، وذكر أشياء من أحوال المعذبين والناجين ، أمره بالتذكير ، إنذاراً للكافر ، وتبشيراً للمؤمن ، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته ، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون ، إذا كانا طريقين إلى الإخبار ببعض المغيبات ، وكان للجن بهما ملابسة للإنس . وممن كان ينسبه إلى الكهانة شيبة بن ربيعة ، وممن كان ينسبه إلى الجنون عقبة بن أبي معيط . وقال الزمخشري : ) فَذَكّرْ ( فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبطنك قولهم كاهن أو مجنون ، ولا تبال به ، فإنه قول باطل متناقض . فإن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى على عقله ؛ وما أنت ، بحمد الله تعالى وإنعامه عليك بصدق النبوة ورصافة العقل ، أحد هذين . انتهى . وقال الحوفي : ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( متعلق بما دل عليه الكلام ، وهو اعتراض بين اسم ما وخبرها ، والتقدير : ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن . قال أبو البقاء : الباء في موضع الحال ، والعامل في بكاهن أو مجنون ، والتقدير : ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك . انتهى . وتكون حالاً لازمة لا منتقلة ، لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبساً بنعمة ربه . وقيل : ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( مقسم بها ، كأنه قيل : ونعمة ربك ما أنت كاهن ولا مجنون ، فتوسط المقسم به بين الاسم والخبر ، كما تقول : ما زيد والله بقائم .
الطور : ( 30 ) أم يقولون شاعر . . . . .
ولما نفى عنه الكهانة والجنون اللذين كان بعض الكفار ينسبونهما إليه ، ذكر نوعاً آخر مما كانوا يقولونه .
روي أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة ، وكثرت آراؤهم فيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حتى قال قائل منهم ، وهم بنو عبد الدار ، قاله الضحاك : تربصوا به ريب المنون ، فإنه شاعر سيهلك ، كما هلك زهير والنابغة والأعشى ، فافترقوا على هذه المقالة ، فنزلت الآية في ذلك . وقول من قال ذلك هو من نقص الفطرة بحيث لا يدرك الشعر ، وهو الكلام الموزون على طريقة معروفة من النثر الذي ليس هو على ذلك المضمار ، ولا شك أن بعضهم كان يدرك ذلك ، إذ كان فيهم شعراء ، ولكنهم تمالؤوا مع أولئك الناقصي الفطرة على قولهم : هو شاعر ، حجداً الآيات الله بعد استيقانها . وقرأ زيد بن علي : يتربص بالياء مبنياً للمفعول به ، ( رَيْبَ ( : مرفوع ، وريب المنون : حوادث الدهر ، فإنه لا يدوم على حال ، قال الشاعر : تربص بها ريب المنون لعلها
تطلق يوماً أو يموت حليلها
وقال الهندي : أمن المنون وريبها تتوجع
والدهر ليس بمعتب من يجزع
الطور : ( 31 ) قل تربصوا فإني . . . . .
( قُلْ تَرَبَّصُواْ ( : هو أمر تهديد من المتربصين هلاككم ، كما تتربصون هلاكي .
الطور : ( 32 ) أم تأمرهم أحلامهم . . . . .
( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ ( : عقولهم بهذا ، أي بقولهم كاهن وشاعر ومجنون ، وهو قول متناقض ، وكانت قريش تدعى أهل الأحلام والنهي . وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل ؟ فقال : تلك عقول كادها الله ، أي لم يصحبها التوفيق . ) أَمْ تَأْمُرُهُمْ ( ، قيل : أم بمعنى الهمزة ، أي أتأمرهم ؟ وقدرها مجاهد ببل ، والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة .
( أَم

" صفحة رقم 149 "
هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( : أي مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحق . وقرأ مجاهد : بل هم ، مكان : ) أَمْ هُمُ ( ، وكون الأحلام آمرة مجازاً لما أدت إلى ذلك ، جعلت آمرة كقوله : ) هَاذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا ). وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال : كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف .
الطور : ( 33 ) أم يقولون تقوله . . . . .
تقوله : اختلقه من قبل نفسه ، كما قال : ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ ). وقال ابن عطية : تقوله معناه : قال عن الغير أنه قاله ، فهو عبارة عن كذب مخصوص . انتهى . ) بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ ( : أي لكفرهم وعنادهم ،
الطور : ( 34 ) فليأتوا بحديث مثله . . . . .
ثم عجزهم بقوله تعالى : ) فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ( : أي مماثل للقرآن في نظمه ورصفه من البلاغة ، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات ، والحكم إن كانوا صادقين في أنه تقوله ، فليقولوا هم مثله ، إذ هو واحد منهم ، فإن كانوا صادقين فليكونوا مثله في التقوّل . فقرأ الجحدري وأبو السمّال : ) بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( ، على الإضافة : أي بحديث رجل مثل الرسول في كونه أمياً لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده ، أو مثله في كونه واحداً منهم ، فلا يجوز أن يكون مثله في العرب فصاحة ، فليأت بمثل ما أتى به ، ولن يقدر على ذلك أبداً .
الطور : ( 35 ) أم خلقوا من . . . . .
( أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء ( : أي من غير شيء حي كالجماد ، فهم لا يؤمرون ولا ينهون ، كما هي الجمادات عليه ، قاله الطبري . وقيل : ) مِنْ غَيْرِ شَىْء ( : أي من غير علة ولا لغاية عقاب وثواب ، فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون ، وهذا كما تقول : فعلت كذا وكذا من غير علة : أي لغير علة ، فمن للسبب ، وفي القول الأول لابتداء الغاية . وقال الزمخشري : ) أَمْ خَلَقُواْ ( : أم أحدثوا ؟ وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم ؛ ) مِنْ غَيْرِ شَىْء ( : من غير مقدر ، أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق ؟ ) بَل لاَّ يُوقِنُونَ ( : أي إذا سئلوا : من خلقكم وخلق السموات والأرض ؟ قالوا : الله ، وهم شاكون فيما يقولون لا يوقنون . أم خلقوا من غير رب ولا خالق ؟ أي أم أحدثوا وبرزوا للوجود من غير إله يبرزهم وينشئهم ؟ ) أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ( لأنفسهم ، فلا يعبدون الله ، ولا يأتمرون بأوامره ، ولا ينتهون عن مناهيه . والقسمان باطلان ، وهم يعترفون بذلك ، فدل على بطلانهم . وقال ابن عطية : ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم ، أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ؟
الطور : ( 36 ) أم خلقوا السماوات . . . . .
ثم خصص من تلك الأشياء السموات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات ، ثم حكم عليهم بأنهم لا يوقنون ولا ينظرون نظراً يؤديهم إلى اليقين .
الطور : ( 37 ) أم عندهم خزائن . . . . .
( أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ ( ، قال الزمخشري : خزائن الرزق ، حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ، أو : أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة ؟ ) أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ( : الأرباب الغالبون حتى يدبرون أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم . وقال ابن عطية : أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور ، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله تعالى . وقال الزهراوي : وقيل يريد بالخزائن : العلم ، وهذا قول حسن إذا تؤمل وبسط . وقال الرماني : خزائنه تعالى : مقدوراته . انتهى . والمسيطر ، قال ابن عباس : المسلط القاهر . وقرأ الجمهور : المصيطرون بالصاد ؛ وهشام وقنبل وحفص : بخلاف عنه بالسين ، وهو الأصل ؛ ومن أبدلها صاداً ، فلأجل حرف الاستعلاء وهو الطاء ، وأشم خلق عن حمزة ، وخلاد عنه بخلاف عنه الزاي .
الطور : ( 38 ) أم لهم سلم . . . . .
( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ ( منصوب إلى السماء ، ( يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ( : أي عليه أو منه ، إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض ، وقدره الزمخشري : صاعدين فيه ، ومفعول يستمعون محذوف تقديره : الخبر بصحة ما يدعونه ، وقدره الزمخشري : ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون . ) بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( : أي بحجة واضحة بصدق استماعهم مستمعهم ،
الطور : ( 40 ) أم تسألهم أجرا . . . . .
( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً ( على الإيمان بالله وتوحيده واتباع شرعه ، ( فَهُمُ ( من ذلك المغرم الثقيل اللام ) مُّثْقَلُونَ ( ، فاقتضى زهدهم في اتباعك .
الطور : ( 41 ) أم عندهم الغيب . . . . .
( أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ ( : أي اللوح المحفوظ ، ( فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( : أي يثبتون ذلك للناس شرع ، وذلك عبادة الأوثان وتسييب

" صفحة رقم 150 "
السوائب وغير ذلك من سيرهم . وقيل : المعنى فهم يعلمون متى يموت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) الذي يتربصون به ، ويكتبون بمعنى : يحكمون . وقال ابن عباس : يعني أم عندهم اللوح المحفوظ ، فهم يكتبون ما فيه ويخبرون .
الطور : ( 42 ) أم يريدون كيدا . . . . .
( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ( : أي بك وبشرعك ، وهو كيدهم به في دار الندوة ، ( فَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( : أي فهم ، وأبرز الظاهر تنبيهاً على العلة ، أو الذين كفروا عام فيندرجون فيه ، ( هُمُ الْمَكِيدُونَ ( : أي الذين يعود عليهم وبال كيدهم ، ويحيق بهم مكرهم ، وذلك أنهم قتلوا يوم بدر ، وسمى غلبتهم كيداً ، إذ كانت عقوبة الكيد .
الطور : ( 43 ) أم لهم إله . . . . .
( أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ ( يعصمهم ويدفع عنهم في صدور إهلاكهم ، ثم نزه تعالى نفسه ، ( عَمَّا يُشْرِكُونَ ( به من الأصنام والأوثان .
الطور : ( 44 ) وإن يروا كسفا . . . . .
( وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء ( : كانت قريش قد اقترحت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فيما اقترحت من قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ، فأخبر تعالى أنهم لو رأوا ذلك عياناً ، حسب اقتراحهم ، لبلغ بهم عتوهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه ، وقالوا : هو سحاب مركوم ، تراكم بعضه على بعض ممطرنا ، وليس بكسف ساقط للعذاب .
الطور : ( 45 ) فذرهم حتى يلاقوا . . . . .
( فَذَرْهُمْ ( : أمر موادعة منسوخ بآية السيف . وقرأ الجمهور : ) حَتَّى يُلَاقُواْ ( ؛ وأبو حيوة : حتى يلقوا ، مضارع لقي ، ( يَوْمَهُمُ ( : أي يوم موتهم واحداً واحداً ، والصعق : العذاب ، أو يوم بدر ، لأنهم عذبوا فيه ، أو يوم القيامة ، أقوال ، ثالثها قول الجمهور ، لأن صعقته تعم جميع الخلائق . وقرأ الجمهور : يصعقون ، بفتح الياء . وقرأ عاصم وابن عامر وزيد بن عليّ وأهل مكة : في قول شبل بن عبادة ، وفتحها أهل مكة ، كالجمهور في قول إسماعيل . وقرأ السلمي : بضم الياء وكسر العين ، من أصعق رباعياً .
الطور : ( 47 ) وإن للذين ظلموا . . . . .
( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( : أي لهؤلاء الظلمة ، ( عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ ( : أي دون يوم القيامة وقبله ، وهو يوم بدر والفتح ، قاله ابن عباس وغيره . وقال البراء بن عازب وابن عباس أيضاً : هو عذاب القبر . وقال الحسن وابن زيد : مصائبهم في الدنيا . وقال مجاهد : هو الجوع والقحط ، سبع سنين .
الطور : ( 48 ) واصبر لحكم ربك . . . . .
( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ( : عبارة عن الحفظ والكلاءة ، وجمع لأنه أضيف إلى ضمير الجماعة ، وحين كان الضمير مفرداً ، أفرد العين ، قال تعالى : ) وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ). وقرأ أبو السمال : بأعيننا ، بنون واحدة مشدّدة . ) وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ ( ، قال أبو الأحوص عوف بن مالك : هو التسبيح المعروف ، وهو قول سبحان الله عند كل قيام . وقال عطاء : حين تقوم من كل مجلس ، وهو قول ابن جبير ومجاهد . وقال ابن عباس : حين تقوم من منامك . وقيل : هو صلاة التطوع . وقيل : الفريضة . وقال الضحاك : حين تقوم إلى الصلاة تقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك . وقال زيد بن أسلم : حين تقوم من القائلة والتسبيح ، إذ ذاك هو صلاة الظهر . وقال ابن السائب : اذكر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة .
الطور : ( 49 ) ومن الليل فسبحه . . . . .
( وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ ( : قبل صلاة المغرب والعشاء . ) وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( : صلاة الصبح . وعن عمرو وعليّ وأبي هريرة والحسن : إنها النوافل ، ( وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( : ركعتا الفجر . وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب : وأدبار ، بفتح الهمزة ، بمعنى : وأعقاب النجوم .

" صفحة رقم 151 "
53
( سورة النجم )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالاٍّ فُقِ الاٌّ عْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى أَفَرَءَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاٍّ خْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاٍّ نثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاٌّ نفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الاٌّ خِرَةُ والاٍّ ولَى وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الاٍّ نثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الاٌّ رْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُو

" صفحة رقم 152 "
َ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاٍّ خْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاٍّ ولَى وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى هَاذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الاٍّ وْلَى أَزِفَتِ الاٌّ زِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ } )
النجم : ( 1 ) والنجم إذا هوى
المرّة : القوة من أمررت الحبل ، إذا أحكمت فتله . وقال قطرب : تقول العرب لكل جزل الرأي خصيف العقل إنه لذو مرّة ، قال : وإني لذو مرّة مرّة
إذا ركبت خالة خالها
تدلى العذق تدلياً : امتد من علو إلى جهة السفل ، فيستعمل في القرب من العلو ، قاله الفراء وابن الأعرابي . قال أسامة الهذلي : تدلى علينا وهو زرق حمامة
إذا طحلب في منتهى القيظ هامد
القاب والقيب ، والقّادة والقيد : المقدار . القوس معروف وهو : آلة لرمي السهام ، وتختلف أشكاله . السدرة : شجرة النبق . الضيزى : الجائرة من ضازه يضيزه إذا ضامه . قال الشاعر : ضازت بنو أسد بحكمهم
إذ يجعلون الرأس كالذنب
وأصلها ضوزى على وزن فعلى ، نحو : حبلى وأنثى وريا ، ففعل بها ما فعل ببيض لتسلم الياء ، ولا يوجد فعلى بكسر الفاء في الصفات ، كذا قال سيبويه . وحكى ثعلب : مشية جبكى ، ورجل كيصى . وحكى غيره : امرأة عزمى ، وامرأة سعلى ؛ والمعروف : عزماة وسعلاة . وقال الكسائي : ضاز يضيز ضيزى ، وضاز يضوز ضوزى ، وضأز يضأز ضأزاً . اللمم : ما قل وصغر ، ومنه اللمم : المس من الجنون ، وألمّ بالمكان : قل لبثه فيه ، وألمّ بالطعام : قل أكله منه . وقال المبرد : أصل اللمم أن يلم بالشيء من غير أن يركبه ، يقال : ألم بكذا ، إذا قاربه ولم يخالطه . وقال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في المقاربة والدنو ، يقال : ألم يفعل كذا ، بمعنى : كاد يفعل . قال جرير : بنفسي من تجنيه عزيز
عليّ ومن زيارته لمام
وقال آخر :

" صفحة رقم 153 "
لقاء أخلاء الصفا لمام
الأجنة : جمع جنين ، وهو الولد في البطن ، سمي بذلك لاستتاره ، والاجتنان : الاستتار . أكدى : أصله من الكدية ، يقال لمن حفر بئراً ثم وصل إلى حجر لا يتهيأ له فيها حفر : قد أكدى ، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم ، ولمن طلب شيئاً فلم يبلغ آخره . قال الحطيئة : فأعطى قليلاً ثم أكدى عطاءه
ومن يبذل المعروف في الناس يحمد
وقال الكسائي وغيره : أكدى الحافر ، إذا بلغ كدية أو جبلاً ولا يمكنه أن يحفر ، وحفر فأكدى : إذا وصل إلى الصلب ، ويقال : كديت أصابعه إذا كلت من الحفر ، وكدا البيت : قلّ ريعه . وقال أبو زيد : أكدى الرجل : قلّ خيره . أقنى ، قال الجوهري : قنى يقنى قنى ، كغنى يغنى غنى ، ويتعدّى بتغيير الحركة ، فتقول : قنيت المال : أي كسبته ، نحو شترت عين الرجل وشترها الله ، ثم تعدى بعد ذلك بالهمزة أو التضعيف ، فتقول : أقناه الله مالاً ، وقناه الله مالاً ، وقال الشاعر : كم من غني أصاب الدهر ثروته
ومن فقير تقنى بعد الإقلال
أي : تقنى المال ، ويقال : أقناه الله مالاً ، وأرضاه من القنية . قال أبو زيد : تقول العرب لمن أعطى مائة من المعز : أعطى القنى ، ومن أعطى مائة من الضأن : أعطى الغنى ، ومن أعطى مائة من الإبل : أعطى المنى . الشعرى : هو الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء ، وطلوعه في شدة الحر ، ويقال له : مرزم الجوزاء ، وهما الشعريان : العبور التي في الجوزاء ، والشعرى الغميصاء التي في الذراع ، وتزعم العرب أنهما أختا سهيل . قال الزمخشري : وتسمى كلب الجبار ، وهما شعريان : الغميصاء والعبور ، ومن كذب العرب أن سهيلاً والشعرى كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانياً ، فاتبعته الشعرى العبور ، فعبرت المجرة ، فسميت العبور ، وأقامت الغميصاء لأنها أخفى من الأخرى . أزف : قرب ، قال كعب بن زهير : بان الشباب وهذا الشيب قد أزفا
ولا أرى لشباب بائن خلفا
وقال النابغة الذبياني : أزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأن قد
ويروى : أفد الترحل . سمد : لهى ولعب ، قال الشاعر : ألا أيها الإنسان إنك سامد
كأنك لا تفنى ولا أنت هالك

" صفحة رقم 154 "
وقال آخر : قيل قم فانظر إليهم
ثم دع عنك السمودا
وقال أبو عبيدة : السمود : الغناء بلغة حمير ، يقولون : يا جارية اسمدي لنا : أي غني لنا .
( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الاْخِرَةُ والاْولَى ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، لأنه قال : ) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ( : أي اختلق القرآن ، ونسبوه إلى الشعر وقالوا : هو كاهن ومجنون ؛ فأقسم تعالى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما ضل ، وأن ما يأتي به هو وحي من الله ، وهي أول سورة أعلن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بها في الحرم ، والمشركون يستمعون ، فيها سجد ، وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب ، فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال : يكفي هذا . وسبب نزولها قول المشركين : إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) يختلق القرآن . وأقسم تعالى بالنجم ، فقال ابن عباس ومجاهد والفراء والقاضي منذر بن سعيد : هو الجملة من القرآن إذا نزلت ، وقد نزل منجماً في عشرين سنة . وقال الحسن ومعمر بن المثنى : هو هنا اسم جنس ، والمراد النجوم إذا هوت : أي غربت ، قال الشاعر : فباتت تعد النجم في مستجره
سريع بأيدي الآكلين حمودها
أي : تعد النجوم . وقال الحسن وأبو حمزة الثمالي : النجوم إذا انتثرت في القيامة . وقال ابن عباس أيضاً : هو انقض في أثر الشياطين ، وهذا تساعده اللغة . وقال الأخفش : والنجم إذا طلع ، وهويه : سقوطه على الأرض . وقال ابن جبير الصادق : هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهويه : نزوله ليلة المعراج . وقيل : النجم معين . فقال مجاهد وسفيان : هو الثريا ، وهويها : سقوطها مع الفجر ، وهو علم عليها بالغلبة ، ولا تقول العرب النجم مطلقاً إلا للثريا ، ومنه قول العرب : طلع النجم عشاء
فابتغى الراعي كساء
طلع النجم غديه
فابتغي الراعي كسيه
وقيل : الشعرى ، وإليها الإشارة بقوله : ) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى ( ، والكهان والمنجمون يتكلمون على المغيبات عند طلوعها . وقيل : الزهرة ، وكانت تعبد . وقيل : ) وَالنَّجْمِ ( : هم الصحابة . وقيل : العلماء مفرد أريد به الجمع ،
النجم : ( 2 ) ما ضل صاحبكم . . . . .
وهو في

" صفحة رقم 155 "
اللغة خرق الهوى ومقصده السفل ، إذ مصيره إليه ، وإن لم يقصد إليه . وقال الشاعر :
هوى الدلو اسلمها الرشا
ومنه : هوى العقاب . ) صَاحِبُكُمْ ( : هو محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والخطاب لقريش : أي هو مهتد راشد ، وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي .
النجم : ( 3 ) وما ينطق عن . . . . .
( وَمَا يَنطِقُ ( : أي الرسول عليه الصلاة والسلام ، ( عَنِ الْهَوَى ( : أي عن هوى نفسه ورأيه .
النجم : ( 4 - 5 ) إن هو إلا . . . . .
( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ ( من عند الله ، ( يُوحَى ( إليه . وقيل : ) وَمَا يَنطِقُ ( : أي القرآن ، عن هوى وشهوة ، كقوله : ) هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ ). ) إِنْ هُوَ ( : أي الذي ينطق به . أو ) إِنْ هُوَ ( : أي القرآن . ) عِلْمِهِ ( : الضمير عائد على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فالمفعول الثاني محذوف ، أي علمه الوحي . أو على القرآن ، فالمفعول الأول محذوف ، أي علمه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) شَدِيدُ الْقُوَى ( : هو جبريل ، وهو مناسب للأوصاف التي بعده ، وقاله ابن عباس وقتادة والربيع . وقال الحسن : ) شَدِيدُ الْقُوَى ( : هو الله تعالى ، وهو بعيد .
النجم : ( 6 ) ذو مرة فاستوى
) ذُو مِرَّةٍ ( : ذو قوة ، ومنه لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوى . وقيل : ذو هيئة حسنة . وقيل : هو جسم طويل حسن . ولا يناسب هذان القولان إلا إذا كان شديد القوى هو جبريل عليه السلام . ) فَاسْتَوَى ( : الضمير لله في قوله الحسن ،
النجم : ( 7 ) وهو بالأفق الأعلى
وكذا ) وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ( لله تعالى ، على معنى العظمة والقدرة والسلطان . وعلى قول الجمهور : ) فَاسْتَوَى ( : أي جبريل في الجو ، ( وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ( ، إن رآه الرسول عليه الصلاة والسلام بحراء قد سد الأفق له ستمائة جناح ، وحينئذ دنا من محمد حتى كان قاب قوسين ، وكذلك هو المرئي في النزلة الأخرى بستمائة جناح عند السدرة ، قاله الربيع والزجاج . وقال الطبري : والفراء : المعنى فاستوى جبريل ؛ وقوله : ) وَهُوَ ( ، يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي هذا التأويل العطف على الضمير المرفوع من غير فصل ، وهو مذهب الكوفيين . وقد يقال : الضمير في استوى للرسول ، وهو لجبريل ، والأعلى لعمه الرأس وما جرى معه . وقال الحسن وقتادة : هو أفق مشرق الشمس .
وقال الزمخشري : ) فَاسْتَوَى ( : فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي ، وكان ينزل في صورة دحية ، وذلك أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها ، فاستوى له بالأفق الأعلى ، وهو أفق الشمس ، فملأ الأفق . وقيل : ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، مرة في الأرض ، ومرة في السماء .
النجم : ( 8 - 9 ) ثم دنا فتدلى
) ثُمَّ دَنَا ( من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ( فَتَدَلَّى ( : فتعلق عليه في الهوى . وكان مقدار مسافة قربه منه مثل ) قَابَ قَوْسَيْنِ ( ، فحذفت هذه المضافات ، كما قال أبو علي في قوله :
وقد جعلتني من خزيمة أصبعا
أي : ذا مسافة مقدار أصبع ، ( أَوْ أَدْنَى ( على تقديركم ، كقوله : ) أَوْ يَزِيدُونَ ).
النجم : ( 10 ) فأوحى إلى عبده . . . . .
( إِلَى عَبْدِهِ ( : أي إلى عبد الله ، وإن لم يجر لاسمه عز وجل ذكر ، لأنه لا يلبس ، كقوله : ) مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا ). ) مَا أَوْحَى ( : تفخيم للوحي الذي أوحي إليه قبل

" صفحة رقم 156 "
انتهى . وقال ابن عطية : ) ثُمَّ دَنَا ( ، قال الجمهور : أي جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام عند حراء . وقال ابن عباس وأنس في حديث الإسراء : ما يقتضي أن الدنو يستند إلى الله تعالى . وقيل : كان الدنو إلى جبريل . وقيل : إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي دنا وحيه وسلطانه وقدرته ، والصحيح أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل بدليل قوله : ) وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( ، فإنه يقتضي نزلة متقدمة . وما روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) رأى ربه قبل ليلة الإسراء . ودنا أعم من تدلى ، فبين هيئة الدنو كيف كانت قاب قدر ، قال قتادة وغيره : معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر . وقال الحسن ومجاهد : من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض . وقال أبو رزين : ليست بهذه القوس ، ولكن قدر الذراعين . وعن ابن عباس : أن القوس هنا ذراع تقاس به الأطوال . وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز .
( فَأَوْحَى ( : أي الله ، ( إِلَى عَبْدِهِ ( : أي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قاله ابن عباس . وقيل : ) إِلَى عَبْدِهِ ( جبريل ، ( مَا أَوْحَى ( : إبهام على جهة التعظيم والتفخيم ، والذي عرف من ذلك فرض الصلوات . وقال الحسن : فأوحى جبريل إلى عبد الله ، محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ما أوحى ، كالأول في الإبهام . وقال ابن زيد : فأوحى جبريل إلى عبد الله ، محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ما أوحاه الله تعالى إلى جبريل عليه السلام . وقال الزمخشري : ) مَا أَوْحَى ( : أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك .
النجم : ( 11 ) ما كذب الفؤاد . . . . .
( مَا كَذَبَ ( فؤاد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما رآه ببصره من صورة جبريل : أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ، يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ، ولم يشك في أن ما رآه حق . انتهى . وقرأ الجمهور : ما كذب مخففاً ، على معنى : لم يكذب قلب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) الشيء الذي رآه ، بل صدقه وتحققه نظراً ، وكذب يتعدى . وقال ابن عباس وأبو صالح : رأى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) الله تعالى بفؤاده . وقيل : ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه ، بل صدقه وتحققه ، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى .
وعن ابن عباس وعكرمة وكعب الأحبار : أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) رأى ربه بعيني رأسه ، وأبت ذلك عائشة رضي الله تعالى عنها ، وقالت : أنا سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن هذه الآيات ، فقال لي : ( هو جبريل عليه السلام فيها كلها ) . وقال الحسن : المعنى ما رأى من مقدورات الله تعالى وملكوته . وسأل أبو ذر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : هل رأيت ربك ؟ فقال : ( نورانى أراه ) . وحديث عائشة قاطع لكل تأويل في اللفظ ، لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن ، وليست نصاً في الرؤية بالبصر ، بلا ولا بغيره . وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن الياس وهشام عن ابن عامر : ما كذب مشدداً . وقال كعب الأحبار : إن الله قسم الرؤية والكلام بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) مرتين . وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : لقد وقف شعري من سماع هذا ، وقرأت : ) لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ ( ، وذهبت هي وابن مسعود وقتادة والجمهور إلى أن المرئي مرتين هو جبريل ، مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى .
النجم : ( 12 ) أفتمارونه على ما . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أَفَتُمَارُونَهُ ( : أي أتجادلونه على شيء رآه ببصره وأبصره ، وعدى بعلى لما في الجدال من المغالبة ، وجاء يرى بصيغة المضارع ، وإن كانت الرؤية قد مضت ، إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد . وقرأ علي وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي : بفتح التاء وسكون الميم ، مضارع مريت : أي جحدت ، يقال : مريته حقه ، إذا جحدته ، قال الشاعر :

" صفحة رقم 157 "
لثن سخرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخاً ما كان يمريكا
وعدى بعلى على معنى التضمين . وكانت قريش حين أخبرهم ( صلى الله عليه وسلم ) ) بأمره في الإسراء ، كذبوا واستخفوا ، حتى وصف لهم بيت المقدس وأمر غيرهم ، وغير ذلك مما هو مستقصى في حديث الإسراء . وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه ، والشعبي فيما ذكر شعبة : بضم التاء وسكون الميم ، مضارع أمريت . قال أبو حاتم : وهو غلط .
النجم : ( 13 ) ولقد رآه نزلة . . . . .
( وَلَقَدْ رَءاهُ ( : الضمير المنصوب عائد على جبريل عليه السلام ، قال ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع . ) نَزْلَةً أُخْرَى ( : أي مرة أخرى ، أي نزل عليه جبريل عليه السلام مرة أخرى في في صورة نفسه ، فرآه عليها ، وذلك ليلة المعراج . وأخرى تقتضي نزلة سابقة ، وهي المفهومة من قوله : ) ثُمَّ دَنَا ( جبريل ، ( فَتَدَلَّى ( : وهو الهبوط والنزول من علو . وقال ابن عباس وكعب الأحبار : الضمير عائد على الله ، على ما سبق من قولهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) رأى ربه مرتين . وانتصب نزلة ، قال الزمخشري : نصب الظرف الذي هو مرة ، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل . وقال الحوفي وابن عطية : مصدر في موضع الحال . وقال أبو البقاء : مصدر ، أي مرة أخرى ، أو رؤية أخرى .
النجم : ( 14 ) عند سدرة المنتهى
) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى ( ، قيل : هي شجرة نبق في السماء السابعة . وقيل : في السماء السادسة ، ثمرها كقلال هجر ، وورقها كآذان الفيلة . تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله تعالى في كتابه ، يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها . والمنتهى موضع الانتهاء ، لأنه ينتهي إليها علم كل عالم ، ولا يعلم ما وراءها صعداً إلا الله تعالى عز وجل ؛ أو ينتهي إليها كل من مات على الإيمان من كل جيل ؛ أو ينتهي إليها ما نزل من أمر الله تعالى ، ولا تتجاوزها ملائكة العلو وما صعد من الأرض ، ولا تتجاوزها ملائكة السفل ؛ أو تنتهي إليها أرواح الشهداء ؛ أو كأنها في منتهى الجنة وآخرها ؛ أو تنتهي إليها الملائكة والأنبياء ويقفون عندها ؛ أو ينتهي إليها علم الأنبياء ويغرب علمهم عن ما وراءها ؛ أو تنتهي إليها الأعمال ؛ أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة ، أقوال تسعة .
النجم : ( 15 ) عندها جنة المأوى
) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ( : أي عند السدرة ، قيل : ويحتمل عند النزلة . قال الحسن : هي الجنة التي وعدها الله المؤمنين . وقال ابن عباس : بخلاف عنه ؛ وقتادة : هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء ، وليست بالتي وعد المتقون جنة النعيم . وقيل : جنة : مأوى الملائكة . وقرأ علي وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحمد بن كعب وقتادة : جنه ، بهاء الضمير ، وجن فعل ماض ، والهاء ضمير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي عندها ستره إيواء الله تعالى وجميل صنعه . وقيل : المعنى ضمه المبيت والليل . وقيل : جنه بظلاله ودخل فيه . وردّت عائشة وصحابة معها هذه القراءة وقالوا : أجن الله من قرأها ؛ وإذا كانت قراءة قرأها أكابر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فليس لأحد ردّها . وقيل : إن عائشة رضي الله تعالى عنها أجازتها . وقراءة الجمهور : ) جَنَّةُ الْمَأْوَى ( ، كقوله في آية أخرى : ) فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً ).
النجم : ( 16 ) إذ يغشى السدرة . . . . .
( إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( : فيه بإبهام الموصول وصلته تعظيم وتكثير للغاشي الذي يغشاه ، إذ ذاك أشياء لا يعلم وصفها إلا الله تعالى . وقيل : يغشاها الجم الغفير من الملائكة ، يعبدون الله عندها . وقيل : ما يغشى من قدرة الله تعالى ، وأنواع الصفات التي يخترعها لها . وقال ابن مسعود وأنس ومسروق ومجاهد وإبراهيم : ذلك جراد من ذهب كان يغشاها . وقال مجاهد : ذلك تبدل أغصانها درّاً وياقوتاً . وروي في الحديث : ( رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله تعالى ) . وأيضاً : يغشاها رفرف أخضر ، وأيضاً : تغشاها ألوان لا أدري ما هي . وعن أبي هريرة : يغشاها نور الخلاق . وعن الحسن : غشيها نور رب العزة

" صفحة رقم 158 "
فاستنارت . وعن ابن عباس : غشيها رب العزة ، أي أمره ، كما جاء في صحيح مسلم مرفوعاً ، فلما غشيها من أمر الله ما غشي ، ونظير هذا الإبهام للتعظيم : ) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( ، ( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ).
النجم : ( 17 ) ما زاغ البصر . . . . .
( مَا زَاغَ الْبَصَرُ ( ، قال ابن عباس : ما مال هكذا ولا هكذا . وقال الزمخشري : أي أثبت ما رآه إثباتاً مستيقناً صحيحاً من غير أن يزيغ بصره أو يتجاوزه ، إذ ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها ، ( وَمَا طَغَى ( : وما جاوز ما أمر برؤيته . انتهى . وقال غيره : ) وَمَا طَغَى ( : ولا تجاوز المرئي إلى غيره ، بل وقع عليه وقوعاً صحيحاً ، وهذا تحقيق للأمر ، ونفي للريب عنه .
النجم : ( 18 ) لقد رأى من . . . . .
( لَقَدْ رَأَى مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى ( ، قيل : الكبرى مفعول رأى ، أي رأى الآيات الكبرى والعظمى التي هي بعض آيات ربه ، أي حين رقي إلى السماء رأى عجائب الملكوت ، وتلك بعض آيات الله . وقيل : ) مِنْ آيَاتِ ( هو في موضع المفعول ، والكبرى صفة لآياته ربه ، ومثل هذا الجمع يوصف بوصف الواحدة ، وحسن ذلك هنا كونها فاصلة ، كما في قوله : ) لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى ( ، عند من جعلها صفة لآياتنا . وقال ابن عباس وابن مسعود : أي رفرف أخضر قد سد الأفق . وقال ابن زيد : رأي جبريل في الصورة التي هو بها في السماء .
النجم : ( 19 ) أفرأيتم اللات والعزى
) أَفَرَءيْتُمُ ( : خطاب لقريش . ولما قرر الرسالة أولاً ، وأتبعه من ذكر عظمة الله وقدرته الباهرة بذكر التوحيد والمنع عن الإشراك بالله تعالى ، وقفهم على حقارة معبوداتهم ، وهي الأوثان ، وأنها ليست لها قدرة . واللات : صنم كانت العرب تعظمه . قال قتادة : كان بالطائف . وقال أبو عبيدة وغيره : كان في الكعبة . وقال ابن زيد : كان بنخلة عند سوق عكاظ . قال ابن عطية : وقول قتادة أرجح ، ويؤيده قوله الشاعر : وفرت ثقيف إلى لاتها
بمنقلب الخائب الخاسر
انتهى .
ويمكن الجمع بأن تكون أصناماً سميت باسم اللات فأخبر كل عن صنم بمكانه . والتاء في اللات قيل أصلية ، لام الكلمة كالباء من باب ، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء ، لأن مادة ليت موجودة . فإن وجدت مادة من ل و ت ، جاز أن تكون منقلبة من واو . وقيل : التاء للتأنيث ، ووزنها فعلة من لوى ، قيل : لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة ، أو يلتوون عليها : أي يطوفون ، حذفت لامها . وقرأ الجمهور : اللات خفيفة التاء ؛ وابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية : بشدها . قال ابن عباس : كان هذا رجلاً بسوق عكاظ ، يلت السمن والسويق عند صخرة . وقيل : كان ذلك الرجل من بهز ، يلت السويق للحجاج على حجر ، فلما مات ، عبدوا الحجر الذي كان عنده ، إجلالاً لذلك الرجل ، وسموه باسمه . وقيل : سمي برجل كان يلت عنده السمن بالدب ويطمعه الحجاج . وعن مجاهد : كان رجل يلت السويق بالطائف ، وكانوا يعكفون على قبره ، فجعلوه وثناً . وفي التحرير : أنه كان صنماً تعظمه العرب . وقيل : حجر ذلك اللات ، وسموه باسمه . وعن ابن جبير : صخرة بيضاء كانت العرب تعبدها وتعظمها . وعن مجاهد : شجيرات تعبد ببلادها ، انتقل أمرها إلى الصخرة . انتهى ملخصاً . وتلخص في اللات ، أهو صنم ، أو حجر يلت عليه ، أو صخرة يلت عندها ، أو قبر اللات ، أو شجيرات ثم صخرة ، أو اللات نفسه ، أقوال ، والعزى صنم . وقيل : سموه لغطفان ، وأصلها تأنيث الأعز ، بعث إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خالد بن الوليد فقطعها ، وخرجت منها شيطانة ، ناشرة شعرها ، داعية ويلها ، واضعة يدها على رأسها ؛ فجعل يضر بها بالسيف حتى قتلها ، وهو يقول : يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك

" صفحة رقم 159 "
ورجع فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( تلك العزى ولن تعبد أبدأ ) . وقال أبو عبيدة : كانت العزى ومناة بالكعبة . انتهى . ويدل على هذا قول أبي سفيان في بعض الحروب للمسلمين : لنا عزى ، ولا عزى لكم . وقال ابن زيد : كانت العزى بالطائف . وقال قتادة : كانت بنخلة ، ويمكن الجمع ، فإنه كان في كل مكان منها صنم يسمى بالعزى ، كما قلنا في اللات ، فأخبر كل واحد عن ذلك الصنم المسمى ومكانه .
النجم : ( 20 - 21 ) ومناة الثالثة الأخرى
) وَمَنَواةَ ( : قيل : صخرة كانت لهذيل وخزاعة ، وعن ابن عباس : لثقيف . وقيل : بالمشكك من قديد بين مكة والمدينة ، وكانت أعظم هذه الأوثان قدراً وأكثرها عدداً ، وكانت الأوس والخزرج تهل لها هذا اضطراب كثير في الأوثان ومواضعها ، والذي يظهر أنها كانت ثلاثتها في الكعبة ، لأن المخاطب بذلك في قوله : ) أَفَرَءيْتُمُ ( هم قريش . وقرأ الجمهور : ومناة مقصوراً ، فقيل : وزنها فعلة ، سميت مناة لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها : أي تراق . وقرأ ابن كثير : ومناءة ، بالمد والهمز . قيل : ووزنها مفعلة ، فالألف منقلبة عن واو ، نحو : مقالة ، والهمزة أصل مشتقة من النوء ، كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها ، والقصر أشهر . قال جرير : أزيد مناة توعد بأس تيم
تأمل أين تاه بك الوعيد
وقال آخر في المد والهمز : ألا هل أتى تيم بن عبد مناءة
على النأي فيما بيننا ابن تميم
واللات والعزى ومناة منصوبة بقوله : ) أَفَرَءيْتُمُ ( ، وهي بمعنى أخبرني ، والمفعول الثاني الذي لها هو قوله : ) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( على حد ما تقرر في متعلق أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني ، ولم يعد ضمير من جملة الاستفهام على اللات والعزى ومناة ، لأن قوله : ) وَلَهُ الاْنثَى ( هو في معنى : وله هذه الإناث ، فأغنى عن الضمير . وكانوا يقولون في هذه الأصنام : هي بنات الله ، فالمعنى : ألكم النوع المحبوب المستحسن الموجود فيكم ، وله النوع المذموم بزعمكم ؟ وهو المستثقل . وحسن إبراز الأنثى كونه نصاً في اعتقادهم أنهن إناث ، وأنهن بنات الله تعالى ، وإن كان في لحاق تاء التأنيث في اللات وفي مناة ، وألف التأنيث في العزى ، ما يشعر بالتأنيث ، لكنه قد سمى المذكر بالمؤنث ، فكان في قوله : ) الاْنثَى ( نص على اعتقاد التأنيث فيها . وحسن ذلك أيضاً كونه جاء فاصلة ، إذ لو أتى ضميراً ، فكان التركيب ألكم الذكر وله هن ، لم تقع فاصلة . وقال الزجاج : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها ، فيقول : أخبروني عن آلهتكم ، هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السالفة ؟ انتهى . فجعل المفعول الثاني لأفرأيتم جملة الاستفهام التي قدرها ، وحذفت لدلالة الكلام السابق عليها ، وعلى تقديره يبقى قوله : ) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( متعلقاً بما قبله من جهة المعنى ، لا من جهة المعنى الإعراب ، كما قلناه نحن . ولا يعجبني قول الزجاج : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها ، ولو قال : وجه اتصال هذه ، أو وجه انتظام هذه مع ما قبلها ، لكان الجيد في الأدب ، وإن كان يعني هذا المعنى .
وقال ابن عطية : ) أَفَرَءيْتُمُ ( خطاب لقريش ، وهي من رؤية العين ، لأنه أحال على أجرام مرئية ، ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء لم تتعد . انتهى . ويعني بالأجرام : اللات والعزى ومناة ، وأرأيت التي هي استفتاء تقع على الأجرام

" صفحة رقم 160 "
نحو : أرأيت زيداً ما صنع ؟ وقوله : ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء ، يعني الذي تقول النحاة فيه إنها بمعنى أخبرني ، لم تتعد ؛ والتي هي بمعنى الاستفتاء تتعدى إلى اثنين ، أحدهما منصوب ، والآخر في الغالب جملة استفهامية . وقد تكرر لنا الكلام في ذلك ، وأوله في سورة الأنعام . ودل كلام ابن عطية على أنه لم يطالع ما قاله الناس في أرأيت إذا كانت استفتاء على اصطلاحه ، وهي التي بمعنى أخبرني . والظاهر أن ) الثَّالِثَةَ الاْخْرَى ( صفتان لمناة ، وهما يفيدان التوكيد . قيل : ولما كانت مناة هي أعظم هذه الأوثان ، أكدت بهذين الوصفين ، كما تقول : رأيت فلاناً وفلاناً ، ثم تذكر ثالثاً أجل منهما فتقول : وفلاناً الآخر الذي من شأنه . ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات ، وذلك نص في الآية ، ومنه قول ربيعة بن مكرم :
ولقد شفعتهما بآخر ثالث
انتهى .
وقول ربيعة مخالف للآية ، لأن ثالثاً جاء بعد آخر . وعلى قول هذا القائل أن مناة هي أعظم هذه الأوثان ، يكون التأكيد لأجل عظمها . ألا ترى إلى قوله : ثم تذكر ثالثاً أجل منهما وقال الزمخشري : والأخرى ذم ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله تعالى : ) قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاْولَاهُمْ ( : أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم . ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى . انتهى . ولفظ آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعا للذم ولا للمدح ، إنما يدلان على معنى غير ، إلا أن من شرطهما أن يكونا من جنس ما قبلهما . لو قلت : مررت برجل وآخر ، لم يدل إلا على معنى غير ، لا على ذم ولا على مدح . وقال أبو البقاء : والأخرى توكيد ، لأن الثالثة لا تكون إلا أخرى . انتهى . وقيل : الأخرى صفة للعزى ، لأنها ثانية اللات ؛ والثانية يقال لها الأخرى ، وأخرت لموافقة رؤوس الآي . وقال الحسن بن الفضل : فيه تقديم وتأخير تقديره : والعزى الأخرى ، ومناة الثالثة الذليلة ، وذلك لأن الأولى كانت وثناً على صورة آدمي ، والعزى صورة نبات ، ومناة صورة صخرة . فالآدمي أشرف من النبات ، والنبات أشرف من الجماد . فالجماد متأخر ، ومناة جماد ، فهي في أخريات المراتب .
النجم : ( 22 ) تلك إذا قسمة . . . . .
والإشارة بتلك إلى قسمتهم ، وتقديرهم : أن لهم الذكران ، ولله تعالى البنات . وكانو يقولون : إن هذه الأصنام والملائكة بنات الله تعالى .
قال ابن عباس وقتادة : ضيزى : جائرة ؛ وسفيان : منقوصة ؛ وابن زيد : مخالفة ؛ ومجاهد ومقاتل : عوجاء ؛ والحسن : غير معتدلة ؛ وابن سيرين : غير مستوية ، وكلها أقوال متقاربة في المعنى . وقرأ الجمهور : ) ضِيزَى ( من غير همز ، والظاهر أنه صفة على وزن فعلى بضم الفاء ، كسرت لتصح الياء . ويجوز أن تكون مصدراً على وزن فعلى ، كذكرى ، ووصف به . وقرأ ابن كثير : ضئزى بالهمز ، فوجه على أنه مصدر كذكرى . وقرأ زيد بن علي : ضيزى بفتح الضاد وسكون الياء ، ويوجه على أنه مصدر ، كدعوى وصف به ، أو وصف ، كسكرى وناقة خرمى . ويقال : ضوزى بالواو وبالهمز ، وتقدّم في المفردات حكاية لغة الهمز عن الكسائي . وأنشد الأخفش : فإن تنأ عنها تقتضيك وإن تغب
فسهمك مضؤوز وأنفك راغم
النجم : ( 23 ) إن هي إلا . . . . .
( إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ( : تقدّم تفسير نظيرها في سورة هود ، وفي سورة الأعراف . وقرأ الجمهور : ) إِن يَتَّبِعُونَ ( بياء الغيبة ؛ وعبد الله وابن عباس وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر : بتاء الخطاب ، ( إِلاَّ الظَّنَّ ( : وهو ميل النفس إلى أحد معتقدين من غير حجة ، ( وَمَا تَهْوَى ( : أي تميل إليه بلذة ، وإنما تهوى أبداً ما هو غير الأفضل ، لأنها مجبولة على حب الملاذ ، وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة العقل . ) وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى ( :

" صفحة رقم 161 "
توبيخ لهم ، والذي هم عليه باطل واعتراض بين الجملتين ، أي يفعلون هذه القبائح ؛ والهدى قد جاءهم ، فكانوا أولى من يقبله ويترك عبادة من لا يجدي عبادته .
النجم : ( 24 ) أم للإنسان ما . . . . .
( أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى ( : هو متصل بقوله : ) وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ ( ، بل للإنسان ، والمراد به الجنس ، ( مَا تَمَنَّى ( : أي ما تعلقت به أمانيه ، أي ليست الأشياء والشهوات تحصل بالأماني ، بل لله الأمر . وقولكم : إن آلهتكم تشفع وتقرب زلفى ، ليس لكم ذلك . وقيل : أمنيتهم قولهم : ) وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ). وقيل : قول الوليد بن المغيرة : ) لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ). وقيل : تمنى بعضهم أن يكون النبي .
النجم : ( 25 ) فلله الآخرة والأولى
) فَلِلَّهِ الاْخِرَةُ والاْولَى ( : أي هو مالكهما ، فيعطي منهما ما يشاء ، ويمنع من يشاء ، وليس لأحد أن يبلغ منهما إلا ما شاء الله . وقدّم الآخرة على الأولى ، لتأخرها في ذلك ، ولكونها فاصلة ، فلم يراع الترتيب الوجودي ، كقوله : ) وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَالاْولَى ).
) وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الاْنثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَإِذْ ).
النجم : ( 26 ) وكم من ملك . . . . .
( وَكَمْ ( : هي خبرية ، ومعناها هنا : التكثير ، وهي في موضع رفع بالابتداء ، والخبر ) لاَ تُغْنِى ( ؛ والغنى : جلب النفع ودفع الضر ، بحسب الأمر الذي يكون فيه الغنى . وكم لفظها مفرد ، ومعناها جمع . وقرأ الجمهور : ) شَفَاعَتُهُمْ ( ، بإفراد الشفاعة وجمع الضمير ؛ وزيد بن علي : شفاعته ، بإفراد الشفاعة والضمير ؛ وابن مقسم : شفاعاتهم ، بجمعهما ، وهو اختيار صاحب الكامل ، أي القاسم الهذلي . وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور لأنها مصدر ، ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد ، لم تغن شفاعتهم عنه شيئاً . فإذا كانت الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله ورضاه ، أي يرضاه أهلاً للشفاعة ، فكيف تشفع الأصنام لمن يعبدها ؟
النجم : ( 27 ) إن الذين لا . . . . .
ومعنى تسمية الاْنثَى : كونهم يقولون إنهم بنات الله ، ( وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ ( : هم العرب منكر والبعث .
النجم : ( 28 ) وما لهم به . . . . .
( وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئاً ( : أي ما يدركه العلم لا ينفع فيه الظن ، وإنما يدرك بالعلم واليقين . قيل : ويحتمل أن يكون المراد بالحق هنا هو الله تعالى ، أي الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون ، ويدل عليه ذلك بأن الله هو الحق .
النجم : ( 29 ) فأعرض عن من . . . . .
( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ( ، موادعة منسوخة بآية السيف . ) وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ( : أي لم تتعلق إرادته بغيرها ، فليس له فكر في سواها ، كالنضر بن الحارث والوليد بن المغيرة . والذكر هنا : القرآن ، أو الإيمان ، أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أقوال . ) عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ( : هو سبب الأعراض ، لأن من لا يصغي إلى قول ، كيف يفهم معناه ؟ فأمر ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالإعراض عن من هذه حاله ، ثم ذكر سبب التولي عن الذكر ، وهو حصر إرادته في الحياة الدنيا . فالتولي عن الذكر سبب للإعراض عنهم ، وإيثار الدنيا سبب التولي عن الذكر ،
النجم : ( 30 ) ذلك مبلغهم من . . . . .
وذلك إشارة إلى تعلقهم بالدنيا وتحصيلها . ) مَبْلَغُهُمْ ( : غايتهم ومنتهاهم من العلم ، وهو ما تعلقت به علومهم من مكاسب الدنيا ، كالفلاحة والصنائع ، لقوله تعالى : ) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ). ولما ذكر ما هم عليه ، أخبر تعالى بأنه عالم بالضال والمهتدي ، وهو مجازيهما . وقال الزمخشري : وقوله : ) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ ( : اعتراض . انتهى ، وكأنه يقول : هو اعتراض بين ) فَأَعْرَضَ ( وبين ) إِنَّ رَبَّكَ ( ، ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض . وقيل : ذلك إشارة إلى جعلهم الملائكة بنات الله . وقال الفراء : صغر رأيهم وسفه أحلامهم ، أي غاية عقولهم ونهاية علومهم أن آثروا الدنيا على الآخرة . وقيل : ذلك إشارة إلى الظن ، أي غاية ما يفعلون أن يأخذوا بالظن . وقوله : ) إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ( في معرض التسلية ،

" صفحة رقم 162 "
إذ كان من خلقه عليه الصلاة والسلام الحرص على إيمانهم ، وفي ذلك وعيد للكفار ، ووعد للمؤمنين .
النجم : ( 31 ) ولله ما في . . . . .
( وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( : أخبر أن من في العالم العلوي والعالم السفلي ملكه تعالى ، يتصرف فيهما بما شاء . واللام في ) لِيَجْزِىَ ( متعلقة بما دل عليه معنى الملك ، أي يضل ويهدي ليجزي . وقيل : بقوله : ) بِمَن ضَلَّ ( ، و ) بِمَنِ اهْتَدَى ( ، واللام للصيرورة ، والمعنى : إن عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما علموا ، أي بعقاب ما علموا ، والحسنى : الجنة . وقيل : التقدير بالأعمال الحسنى ، وحين ذكر جزاء المسيء قال : بما علموا ، وحين ذكر جزاء المحسن أتى بالصفة التي تقتضي التفضل ، وتدل على الكرم والزيادة للمحسن ، كقوله تعالى : ) وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ، والأحسن تأنيث الحسنى . وقرأ زيد بن علي : لنجزي ونحزي بالنون فيهما .
النجم : ( 32 ) الذين يجتنبون كبائر . . . . .
وتقدّم الكلام في الكبائر في قوله تعالى : ) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( في سورة النساء . والذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر ، والفواحش معطوف على كبائر ، وهي ما فحش من الكبائر ، أفردها بالذكر لتدل على عظم مرتكبها . وقال الزمخشري : والكبائر : الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . ) إِلاَّ اللَّمَمَ ( : استثناء منقطع ، لأنه لم يدخل تحت ما قبله ، وهو صغار الذنوب ، أو صفة إلى كبائر الإثم غير اللمم ، كقوله : ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ ( ، أي غير الله ) لَفَسَدَتَا ). وقيل : يصح أن يكون استثناء متصلاً ، وهذا يظهر عند تفسير اللمم ما هو ، وقد اختلفوا فيه اختلافاً ، فقال الخدري : هو النظرة والغمزة والقبلة . وقال السدي : الخطرة من الذنب . وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي والكلبي : كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حداً ولا عذاباً . وقال ابن عباس أيضاً وابن زيد : ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام .
وعن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه : أن سبب الآية قول الكفار للمسلمين : قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا ، فنزلت ، وهي مثل قوله : ) وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ). وقيل : نزلت في نبهان التمار ، وحديثه مشهور . وقال ابن عباس وغيره : العلقة والسقطة دون دوام ، ثم يتوب منه . وقال الحسن : والزنا والسرقة والخمر ، ثم لا يعود . وقال ابن المسيب : ما خطر على القلب . وقال نفطويه : ما ليس بمعتاد . وقال الرماني : الهم بالذنب ، وحديث النفس دون أن يواقع . وقيل : نظرة الفجأة . ) إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ( ، حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر . وقال الزمخشري : والكبائر بالتوبة . انتهى ، وفيه نزغة الاعتزال .
( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ( : قيل نزلت في قوم من اليهود عظموا أنفسهم ، وإذا مات طفل لهم قالوا : هذا صديق عند الله . وقيل : في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم ، والظاهر أنه خطاب عام ، وأعلم على بابها من التفضيل . وقال مكي : بمعنى عالم بكم ، ولا ضرورة إلى إخراجها عن أصل موضوعها . كان مكياً راعى عمل أعلم في الظرف الذي هو : ) إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ ( ، والظاهر أن المراد بأنشأكم : أنشأ أصلكم ، وهو آدم . ويجوز أن يراد من فضلة الأغذية التي منشؤها من الأرض ، ( فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( : أي لا تنسبوها إلى زكاء الأعمال والطهارة عن المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها ، فقد علم الله منكم الزكي والتقي قبل إخراجكم من صلب آدم ، وقبل إخراجكم من بطون أمهاتكم .
وكثيراً ما ترى من المتصلحين ، إذا حدثوا ، كان وردنا البارحة كذا ، وفاتنا من وردنا البارحة ، أو فاتنا وردنا ، يوهمون الناس أنهم يقومون بالليل . وترى لبعضه في جبينه سواداً يوهم أنه من كثرة السجود ، ولبعضهم احتضار النية حالة الإحرام ، فيحرك يديه مراراً ، ويصعق حتى ينزعج من بجانبه ، وكأنه يخطف شيئاً بيديه وقت التحريكة الأخيرة ، يوهم أنه يحافظ على تحقيق النية . وبعضهم يقول في

" صفحة رقم 163 "
حلفه : وحق البيت الذي زرت ، يعلم أنه حاج ، وإذا لاح له فلس يثب عليه وثوب الأسد على الفريسة ، ولا يلحقه شيء من الواسوس ، ولا من إحضار النية في أخذه ، وتراه يحب الثناء عليه بالأوصاف الجميلة التي هو عارضها . وقيل : المعنى لا يزكي بعضكم بعضاً تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو تزكية بالقطع . وأما التزكية لإثبات الحقوق فجائزة للضرورة .
والجنين : ما كان في البطن ، فإذا خرج سمي ولداً أو سقطاً . وقوله : ) فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ( تنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطن الأم في غاية الظلمة ، ومن علم حاله وهو مجنّ ، لا يخفى عليه حاله وهو ظاهر . ) بِمَنِ اتَّقَى ( : قيل الشرك . وقال علي : عمل حسنة وارعوى عن معصية .
قوله عز وجل : ) أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفِي الاْخِرَةِ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الاوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاْخْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاْولَى وَثَمُودَاْ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَى هَاذَا نَذِيرٌ مّنَ النُّذُرِ الاْوْلَى أَزِفَتِ الاْزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ ).
النجم : ( 33 ) أفرأيت الذي تولى
) أَفَرَأَيْتَ ( الآية ، قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان قد سمع قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وجلس إليه ووعظه ، فقرب من الإسلام ، وطمع فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ثم إنه عاتبة رجل من المشركين ، فقال له : أتترك ملة آبائك ؟ ارجع إلى دينك واثبت عليه ، وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة ، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال . فوافقه الوليد على ذلك ، ورجع عن ما هم به من الإسلام ، وضل ضلالاً بعيداً ، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل ، ثم أمسك عنه وشح . وقال الضحاك : هو النضر بن الحرث ، أعطى خمس فلايس لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه ، وضمن له أن يحمل عنه مآثم رجوعه . وقال السدي : نزلت في العاصي بن وائل السهمي ، كان ربما يوافق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في بعض الأمور . وقال محمد بن كعب : في أبي جهل بن هشام ، قال : والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق . وروي عن ابن عباس والسدي أنها نزلت في عثمان بن عفان ، رضي الله تعالى عنه ؛ كان يتصدق ، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح نحواً من كلام القائل للوليد بن المغيرة الذي بدأنا به . وذكر القصة بتمامها الزمخشري ، ولم يذكر في سبب النزول غيرها . قال ابن عطية : وذلك كله عندي باطل ، وعثمان رضي الله عنه منزه عن مثله . انتهى .
وأفرأيت هنا بمعنى : أخبرني ، ومفعولها الأول الموصول ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي : ) عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ ). و ) تَوَلَّى ( : أي أعرض عن الإسلام . وقال الزمخشري : ) تَوَلَّى ( : ترك المركز يوم أحد . انتهى . لما جعل الآية نزلت في عثمان ، فسر التولي بهذا . وإذا ذكر التولي غير مقيد في القرآن ، فأكثر استعماله أنه استعارة عن عدم الدخول في الإيمان .
النجم : ( 34 ) وأعطى قليلا وأكدى
) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى ( ، قال ابن عباس : أطاع قليلاً ثم عصى . وقال مجاهد : أعطى قليلاً من نفسه

" صفحة رقم 164 "
بالاستماع ، ثم أكدى بالانقطاع . وقال الضحاك : أعطى قليلاً من ماله ثم منع . وقال مقاتل : أعطى قليلاً من الخير بلسانه ثم قطع .
النجم : ( 35 ) أعنده علم الغيب . . . . .
( أعنده عِلْمُ الْغَيْبِ ( : أي أعلم من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر ، فإنه المتحمل عنه ينتفع بذلك ، فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيره ، أم هو جاهل ؟ وقال الزمخشري : ) فَهُوَ يَرَى ( : فهو يعلم أن ما قاله أخوه من احتمال أوزاره حق . وقيل : يعلم حاله في الآخرة . وقال الزجاج : يرى رفع مأثمه في الآخرة . وقيل : فهو يرى أن ما سمعه من القرآن باطل . وقال الكلبي : أنزل عليه قرآن ، فرأى ما منعه حق . وقيل : ) فَهُوَ يَرَى ( : أي الأجزاء ، واحتمل يرى أن تكون بصرية ، أي فهو يبصر ما خفي عن غيره مما هو غيب ، واحتمل أن يكون بمعنى يعلم ، أي فهو يعلم الغيب مثل الشهادة .
النجم : ( 36 - 38 ) أم لم ينبأ . . . . .
( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ ( : أي بل ألم يخبر ؟ ) بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى ( ، وهي التوراة . ) وَإِبْراهِيمَ ( : أي وفي صحف إبراهيم التي أنزلت عليه ، وخص هذين النبيين عليهما أفضل الصلاة والسلام . قيل : لأنه ما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بأبيه وابنه وعمه وخاله ، والزوج بامرأته ، والعبد بسيده . فأول من خالفهم إبراهيم ، ومن شريعة إبراهيم إلى شريعة موسى ( صلى الله عليه وسلم ) ) عليهما ، كانوا لا يأخذون الرجل بجريمة غيره . ) الَّذِى وَفِى ( ، قرأ الجمهور : وفي بتشديد الفاء . وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي : بتخفيفها ، ولم يذكر متعلق وفي ليتناول كل ما يصلح أن يكون متعلقاً له ، كتبليغ الرسالة والاستقلال بأعباء الرسالة ، والصبر على ذبح ولده ، وعلى فراق اسماعيل وأمه ، وعلى نار نمروذ وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه . وكان يمشي كل يوم فرسخاً يرتاد ضيفاً ، فإن وافقه أكرمه ، وإلا نوى الصوم . وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفى به . وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً . وقال ابن عباس والربيع : وفي طاعة الله في أمر ذبح ابنه . وقال الحسن وقتادة : وفي بتبليغ الرسالة والمجاهدة في ذات الله . وقال عكرمة : وفي هذه العشر الآيات : ) أَن لا تَزِرُ ( فما بعدها . وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : وفي ما افترض عليه من الطاعة على وجهها ، وكملت له شعب الإيمان والإسلام ، فأعطاه الله براءته من النار . وقال ابن عباس أيضاً : وفي شرائع الإسلام ثلاثين سهماً ، يعني : عشرة في براءة التائبون الخ ، وعشرة في قد أفلح ، وعشرة في الأحزاب إن المسلمين . وقال أبو أمامة : ورفعه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي أربع صلوات في كل يوم . وقال أبو بكر الوراق : قام بشرط ما ادّعى ، وذلك أن الله تعالى قال له : أسلم ، قال : أسلمت لرب العالمين ، فطالبه بصحة دعواه ، فابتلاه في ما له وولده ونفسه ، فوجده وافياً . انتهى ، وللمفسرين أقوال غير هذه . وينبغي أن تكون هذه الأقوال أمثلة لما وفي ، لا على سبيل التعيين ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، وهي بدل من ما في قوله : ) بِمَا فِى صُحُفِ ( ، أو في موضع رفع ، كأن قائلاً قال : ما في صحفهما ، فقيل : ) لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( ، وتقدم شرح ) لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ).
النجم : ( 39 - 40 ) وأن ليس للإنسان . . . . .
( وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( : الظاهر أن الإنسان يشمل المؤمن والكافر ، وأن الحصر في السعي ، فليس له سعي غيره ، وقال عكرمة : كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى ، وأما هذه الأمّة فلها سعي غيرها ، يدل عليه حديث سعد بن عبادة : هل لأمي ، إن تطوعت عنها ؟ قال : نعم . وقال الربيع : الإنسان هنا الكافر ، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره . وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله : ) وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ( ، فقال : ليس له بالعدل إلا ما سعى ، وله بالفضل ما شاء الله ، فقبل عبد الله رأس الحسين . وما روي عن ابن عباس أنها منسوخة لا يصح ، لأنه خبر لم يتضمن تكليفاً ؛ وعند الجمهور : إنها محكمة . قال ابن عطية : والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله : ) لِلإِنسَانِ ). فإذا حققت الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا ، لم تجده إلا سعيه ، وما تم بعد من رحمة بشفاعة ، أو رعاية أب صالح ، أو ابن صالح ، أو تضعيف حسنات ، أو تعمد بفضل ورحمة دون هذا كله ، فليس هو للإنسان ، ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو حقيقة . واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحد عن أحد بعد موته

" صفحة رقم 165 "
ببدن أو مال ، وفرق بعض العلماء بين البدن والمال . انتهى .
والسعي : التكسب ، ويرى مبني للمفعول ، أي سوف يراه حاضراً يوم القيامة . وفي عرض الأعمال تشريف للمحسن وتوبيخ للمسيء ،
النجم : ( 41 ) ثم يجزاه الجزاء . . . . .
والضمير المرفوع في يجزاه عائد على الإنسان ، والمنصوب عائد على السعي ، والجزاء مصدر . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسره بقوله : ) الْجَزَاء الاوْفَى ). وإذا كان تفسيراً للمصدر المنصوب في يجزاه ، فعلى ماذا انتصابه ؟ وأما إذا كان بدلاً ، فهو من باب بدل الظاهر من الضمير الذي يفسره الظاهر ، وهي مسألة خلاف ، والصحيح المنع .
النجم : ( 42 ) وأن إلى ربك . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ ( وما بعدها من ) وَأَنَّهُ ( ، وأن بفتح الهمزة عطفاً على ما قبلها . وقرأ أبو السمال : بالكسر فيهن ، وفي قوله : ) الاوْفَى ( وعيد للكافر ووعد للمؤمن ، ومنتهى الشيء : غايته وما يصل إليه ، أي إلى حساب ربك والحشر لأجله ، كما قال : ) وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( : أي إلى جزائه وحسابه ، أو إلى ثوابه من الجنة وعقابه من النار ؛ وهذا التفسير المناسب لما قبله في الآية . وعن أبي ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في قوله تعالى : ) وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( ، لا فكرة في الرب . وروى أنس عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إذا ذكر الرب فانتهوا ) .
النجم : ( 43 ) وأنه هو أضحك . . . . .
( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( : الظاهر حقيقة الضحك والبكاء . قال مجاهد : أضحك أهل الجنة ، وأبكى أهل النار . وقيل : كنى بالضحك عن السرور ، وبالبكاء عن الحزن . وقيل : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر . وقيل : أحيا بالإيمان ، وأبكى بالكفر . وقال الزمخشري : ) أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( : خلق قوتي الضحك والبكاء . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال ، إذ أفعال العباد من الضحك والبكاء وغيرهما مخلوقة للعبد عندهم ، لا لله تعالى ، فلذلك قال : خلق قوتي الضحك والكباء .
النجم : ( 45 ) وأنه خلق الزوجين . . . . .
( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ ( المصطحبين من رجل وامرأة وغيرهما من الحيوان ،
النجم : ( 46 ) من نطفة إذا . . . . .
( مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ( : أي إذا تدفق ، وهو المني . يقال : أمنى الرجل ومنى . وقال الأخفش : إذا يمنى : أي يخلق ويقدر من مني الماني ، أي قدر المقدر .
النجم : ( 47 ) وأن عليه النشأة . . . . .
( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاْخْرَى ( : أي إعادة الأجسام : أي الحشر بعد البلى ، وجاء بلفظ عليه المشعرة بالتحتم لوجود الشيء لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله : ) عَلَيْهِ ( بوجودها لا محالة ، وكأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه ، وتقدم الخلاف في قراءة النشأة في سورة العنكبوت . وقال الزمخشري : وقال ) عَلَيْهِ ( ، لأنها واجبة عليه في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال .
النجم : ( 48 ) وأنه هو أغنى . . . . .
( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( : أي أكسب القنية ، يقال : قنيت المال : أي كسبته ، وأقنيته إياه : أي أكسبته إياه ، ولم يذكر متعلق أغنى وأقنى لأن المقصود نسبة هذين الفعلين له تعالى . وقد تكلم المفسرون على ذلك فقالوا اثني عشر قولاً ، كقولهم : أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه ، وكل قول منها لا دليل على تعينه ، فينبغي أن تجعل أمثلة .
النجم : ( 49 ) وأنه هو رب . . . . .
والشعرى التي عبدت هي العبور . وقال السدّي : كانت تعبدها حمير وخزاعة . وقال غيره : أول من عبدها أبو كبشة ، أحد أجداد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، من قبل أمهاته ، وكان اسمه عبد الشعرى ، ولذلك كان مشركو قريش يسمونه عليه السلام : ابن أبي كبشة ، ومن ذلك كلام أبي سفيان : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة . ومن العرب من كان يعظمها ولا يعبدها ، ويعتقد تأثيرها في العالم ، وأنها من الكواكب الناطقة ، يزعم ذلك المنجمون ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ، وهي تقطع السماء طولاً ، والنجوم تقطعها عرضاً . وقال مجاهد وابن زيد : هو مرزم الجوزاء .
النجم : ( 50 ) وأنه أهلك عادا . . . . .
( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاْولَى ( : جاء بين أن وخبرها لفظ هو ، وذلك في قوله : ) وَأَنْ هُوَ أَضْحَكَ ( ، ( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ ( ، ( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى ( ، ( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى ). ففي الثلاثة الأول ، لما كان قد يدعي ذلك بعض

" صفحة رقم 166 "
الناس ، كقول نمروذ : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى ( ، احتيج إلى تأكيد في أن ذلك إنما هو لله لا غيره ، فهو الذي يضحك ويبكي ، وهو المميت المحيي ، والمغني ، والمقني حقيقة ، وإن ادّعى ذلك أحد فلا حقيقة له . وأما ) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى ( ، فلأنها لما عبدت من دون الله تعالى ، نص على أنه تعالى هو ربها وموجدها . ولما كان خلق الزوجين ، والإنشاء الآخر ، وإهلاك عاد ومن ذكر ، لا يمكن أن يدعي ذلك أحد ، لم يحتج إلى تأكيد ولا تنصيص أنه تعالى هو فاعل ذلك . وعاد الأولى هم قوم هود ، وعاد الأخرى إرم . وقيل : الأولى : القدماء لأنهم أول الأمم هلاكاً بعد قوم نوح عليه السلام . وقيل : الأولى : المتقدّمون في الدنيا الأشراف ، قاله الزمخشري . وقال ابن زيد والجمهور : لأنها في وجه الدهر وقديمه ، فهي أولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة . وقال الطبري : وصفت بالأولى ، لأن عاداً الآخرة قبيلة كانت بمكة مع العماليق ، وهو بنو لقيم بن هزال . وقال المبرد : عاد الأخيرة هي ثمود ، والدليل عليه قول زهير :
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
ذكره الزهراوي . وقيل : عاد الأخيرة : الجبارون . وقيل : قبل الأولى ، لأنهم كانوا من قبل ثمود . وقيل : ثمود من قبل عاد . وقيل : عاد الأولى : هو عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح ؛ وعاد الثانية : من ولد عاد الأولى . وقرأ الجمهور : ) عَاداً الاْولَى ( ، بتنوين عاداً وكسره لالتقائه ساكناً مع سكون لام الأولى وتحقيق الهمزة بعد اللام . وقرأ قوم كذلك ، غير أنهم نقلوا حركة الهمزة إلى اللام وحذفوا الهمزة . وقرأ نافع وأبو عمرو : بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة ، وعاد هذه القراءة للمازني والمبرد . وقالت العرب في الابتداء بعد النقل : الحمر ولحمر ، فهذه القراءة جاءت على الحمر ، فلا عيب فيها ، وهمز قالون عين الأولى بدل الواو الساكنة . ولما لم يكن بين الضمة والواو حائل ، تخيل أن الضمة على الواو فهمزها ، كما قال :
أحب المؤقدين إليّ مؤسى
وكما قرأ بعضهم : على سؤقه ، وهو توجيه شذوذ ، وفي حرف أبي عاد غير مصروف جعله اسم قبيلة ، فمنعه الصرف للتأنيث والعملية ، والدليل على التأنيث وصفه بالأولى .
النجم : ( 51 ) وثمود فما أبقى
وقرأ الجمهور : وثمودا مصروفاً ، وقرأه غير مصروف : الحسن وعاصم وعصمة . ) فَمَا أَبْقَى ( : الظاهر أن متعلق أبقى يرجع إلى عاد وثمود معاً ، أي فما أبقى عليهم ، أي أخذهم بذنوبهم . وقيل : ) فَمَا أَبْقَى ( : أي فما أبقى منهم عيناً تطرف . وقال ذلك الحجاج بن يوسف حين قيل له إن ثقيفاً من نسل ثمود ، فقال : قال الله تعالى : ) وَثَمُودَاْ فَمَا أَبْقَى ( ، وهؤلاء يقولون : بقيت منهم بقية ، والظاهر القول الأول ، لأن ثمود كان قد آمن منهم جماعة بصالح عليه السلام ، فما أهلكهم الله مع الذين كفروا به .
النجم : ( 52 ) وقوم نوح من . . . . .
( وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ ( : أي من قبل عاد وثمود ، وكانوا أول أمة كذبت من أهل الأرض ، ونوح عليه السلام أول الرسل . والظاهر أن الضمير في ) أَنَّهُمْ ( عائد على قوم نوح ، وجعلهم ) أَظْلَمَ وَأَطْغَى ( لأنهم كانوا في غاية العتو والإيذاء لنوح عليه السلام ، يضربونه حتى لا يكاد يتحرك ، ولا يتأثرون لشيء مما يدعوهم إليه . وقال قتادة : دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، كلما هلك قرن نشأ قرن ، حتى كان الرجل يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه ، يحذره منه ويقول : يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا ولنا مثلك يومئذ ، فإياك أن تصدقه ، فيموت الكبير على الكفر ، وينشأ الصغير على وصية أبيه . وقيل : الضمير في إنهم عائد على من تقدم عاد وثمود وقوم نوح ، أي كانوا أكفر من قريش وأطغى ، ففي ذلك تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وهم يجوز أن يكون تأكيداً للضمير المنصوب ، ويجوز أن يكون فصلاً ، لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل ، وحذف المفضول بعد الواقع خبراً لكان ، لأنه جار مجرى خبر المبتدأ ، وحذفه فصيح فيه

" صفحة رقم 167 "
فكذلك في خبر كان .
النجم : ( 53 ) والمؤتفكة أهوى
) وَالْمُؤْتَفِكَةَ ( : هي مدائن قوم لوط بإجماع من المفسرين ، وسميت بذلك لأنها انقلبت ، ومنه الإفك ، لأنه قلب الحق كذباً ، أفكه فأئتفك . قيل : ويحتمل أن يراد بالمؤتفكة : كل ما انقلبت مساكنه ودبرت أماكنه . ) أَهْوَى ( : أي خسف بهم بعد رفعهم إلى السماء ، رفعها جبريل عليه السلام ، ثم أهوى بها إلى الأرض . وقال المبرد : جعلها تهوي . وقرأ الحسن : والمؤتفكات جمعاً ، والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة ، وأخر العامل لكونه فاصلة . ويجوز أن يكون ) وَالْمُؤْتَفِكَةَ ( معطوفاً على ما قبله ، و ) أَهْوَى ( جملة في موضع الحال يوضح كيفية إهلاكهم ، أي وإهلاك المؤتفكة مهوياً لها .
النجم : ( 54 ) فغشاها ما غشى
) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( : فيه تهويل للعذاب الذي حل بهم ، لما قلبها جبريل عليه السلام اتبعت حجارة غشيتهم . واحتمل أن يكون فعل المشدد بمعنى المجرد ، فيتعدى إلى واحد ، فيكون الفاعل ما ، كقوله تعالى : ) فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ ).
النجم : ( 55 ) فبأي آلاء ربك . . . . .
( فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَى ( : الباء ظرفية ، والخطاب للسامع ، وتتمارى : تتشكك ، وهو استفهام في معنى الإنكار ، أي آلاؤه ، وهي النعم لا يتشكك فيها سامع ، وقد سبق ذكر نعم ونقم ، وأطلق عليها كلها آلاء لما في النقم من الزجر والوعظ لمن اعتبر . وقرأ يعقوب وابن محيصن : ربك تمارى ، بتاء واحدة مشددة . وقال أبو مالك الغفاري : إن قوله : ) أَن لا تَزِرُ ( إلى قوله : ) تَتَمَارَى ( هو في صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام .
النجم : ( 56 ) هذا نذير من . . . . .
( هَاذَا نَذِيرٌ ( ، قال قتادة ومحمد بن كعب وأبو جعفر : الإشارة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، افتتح أول السورة به ، واختتم آخرها به . وقيل : الإشارة إلى القرآن . وقال أبو مالك : إلى ما سلف من الأخبار عن الأمم ، أي هذا إنذار من الإنذارات السابقة ، والنذير يكون مصدراً أو اسم فاعل ، وكلاهما من أنذر ، ولا يتقاسان ، بل القياس في المصدر إنذار ، وفي اسم الفاعل منذر ؛ والنذر إما جمع للمصدر ، أو جمع لاسم الفاعل . فإن كان اسم فاعل ، فوصف النذر بالأولى على معنى الجماعة .
ولما ذكر إهلاك من تقدّم ذكره ، وذكر قوله : ) هَاذَا نَذِيرٌ ( ، ذكر أن الذي أنذر به قريب الوقوع
النجم : ( 57 ) أزفت الآزفة
فقال : ) أَزِفَتِ الاْزِفَةُ ( : أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله : ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ( ، وهي القيامة .
النجم : ( 58 ) ليس لها من . . . . .
( لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ( : أي نفس كاشفة تكشف وقتها وتعلمه ، قاله الطبري والزجاج . وقال القاضي منذر بن سعيد : هو من كشف الضر ودفعه ، أي ليس لها من يكشف خطبها وهو لها . انتهى . ويجوز أن تكون الهاء في كاشفة للمبالغة . وقال الرماني وجماعة : ويحتمل أن يكون مصدراً ، ( كالعاقبة ( ، ( وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( ، أي ليس لها كشف من دون الله . وقيل : يحتمل أن يكون التقدير حال كاشفة .
النجم : ( 59 ) أفمن هذا الحديث . . . . .
( أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ ). وهو القرآن ، ( تَعْجَبُونَ ( فتنكرون ،
النجم : ( 60 ) وتضحكون ولا تبكون
) وَتَضْحَكُونَ ( مستهزئين ، ( وَلاَ تَبْكُونَ ( جزعاً من وعيده .
النجم : ( 61 ) وأنتم سامدون
) وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ( ، قال مجاهد : معرضون . وقال عكرمة : لاهون . وقال قتادة : غافلون . وقال السدّي : مستكبرون . وقال ابن عباس : ساهون . وقال المبرد : جامدون ، وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلاً عنه . وروي أنه عليه الصلاة والسلام لم ير ضاحكاً بعد نزولها .
النجم : ( 62 ) فاسجدوا لله واعبدوا
فاسجدوا : أي صلوا له ، ( وَاعْبُدُواْ ( : أي أفردوه بالعبادة ، ولا تعبدوا اللات والعزى ومناة والشعرى وغيرها من الأصنام . وخرّج البغوي بإسناد متصل إلى عبد الله ، قال : أول سورة نزلت فيها السجدة النجم ، فسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وسجد من خلفه إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً ، والرجل أمية بن خلف . وروي أن المشركين سجدوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وفي حرف أبي وعبد الله : تضحكون بغير واو . وقرأ الحسن : تعجبون تضكحون ، بغير واو وبضم التاء وكسر الجيم والحاء . وفي قوله : ) وَلاَ تَبْكُونَ ( ، حض على البكاء عند سماع القرآن . والسجود هنا عند كثير من أهل العلم

" صفحة رقم 168 "
منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، ووردت به أحاديث صحاح ، وليس يراها مالك هنا . وعن زيد بن ثابت : أنه قرأ بها عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فلم يسجد ، والله تعالى أعلم .

" صفحة رقم 169 "
54
( سورة القمر )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءَايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الاٌّ نبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الاٌّ جْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الاٌّ رْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُواْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاٌّ شِرُ إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَد يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ

" صفحة رقم 170 "
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( )
القمر : ( 1 ) اقتربت الساعة وانشق . . . . .
الجدث : القبر ، وتبدل ثاؤه فاء فيقال : جدف ، كما أبدلوا في ثم فقالوا : فم . انهمر الماء : نزل بقوة غزيراً ، قال الشاعر : راح تمريه الصبا ثم تنحى
فيه شؤبوب جنوب منهمر
الدسر : المسامير التي تشدّ بها السفينة ، واحدها دسار ، نحو كتاب وكتب . ويقال : دسرت السفينة ، إذا شددتها بالمسامير . وقال الليث وصاحب الصحاح : الدسر : خيوط تشدّ بها ألواح السفينة . الصرصر : الشديدة الصوت ، أو البرد ، إما من صرير الباب ، وهو تصويته ، أو من الصر الذي هو البرد ، وهو بناء متأصل على وزن فعلل عند الجمهور . العجز : مؤخر الشيء . المنقعر : المنقلع : من أصله ، قعرت الشجرة قعراً : قلعتها من أصلها فانقعرت ، والبئر : نزلت حتى انتهيت إلى قعرها ، والإناء : شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره ، وأقعرته البئر : جعلت لها قعراً . الأشر : البطر . وقرأ : أشر بالكسر يأشر أشراً ، فهو أشر وآشر وأشران ، وقوم أشارى ، مثل : سكران وسكارى . سقر : علم لجهنم مشتق من سقرته النار بالسين ، وصقرته بالصاد إذا لوّحته . قال ذو الرمّة : إذا دابت الشمس اتقى صقراتها
بأفنان مربوع الصريمة معيل
وامتنعت سقر من الصرف للعلمية ، والتأنيث تنزلت حركة وسطه تنزل الحرف الرابع في زينب .
( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَىْء نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ).
هذه السورة مكية في قول الجمهور . وقيل : هي مما نزل يوم بدر . وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات ، أولها : ) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ ( ، وآخرها : ) أَدْهَى وَأَمَرُّ ). وسبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إن كنت صادقاً فشق لنا القمر

" صفحة رقم 171 "
فرقتين ، ووعدوه بالإيمان إن فعل . وكانت ليلة بدر ، فسأل ربه ، فانشق القمر نصف على الصفا ونصف على قيقعان . فقال أهل مكة : آية سماوية لا يعمل فيها السحر . فقال أبو جهل : اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي ، فإن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح ، وإلا فقد سحر محمد أعيننا . فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر ، فأعرض أبو جهل وقال : ) سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ). وعن ابن عباس : شق القمر شقين ، شطرة على السويداء وشطرة على الحديبية . وعنه : انشق القمر بمكة مرتين . وعنه : انفلق فلقتين ، فلقة ذهبت وفلقة بقيت .
ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها ظاهرة ، قال : ) أَزِفَتِ الاْزِفَةُ ( ، وقال : ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ). وممن عاين انشقاق القمر ابن مسعود جبير بن مطعم ، وأخبر به ابن عمر وأنس وحذيفة وابن عباس . وحين أرى الله الناس انشقاق القمر ، قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اشهدوا ) ، وقال المشركون إذ ذاك : سحرنا محمد . وقال بعضهم : سحر القمر . والأمة مجمعة على خلاف من زعم أن قوله : ) وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( معناه : أنه ينشق يوم القيامة ، ويرده من الآية قوله : ) وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ). فلا يناسب هذا الكلام أن يأتي إلا بعد ظهور ما سألوه معيناً من انشقاق القمر . وقيل : سألوا آية في الجملة ، فأراهم هذه الآية السماوية ، وهي من أعظم الآيات ، وذلك التأثير في العالم العلوي . وقرأ حذيفة : وقد انشق القمر ، أي اقتربت ، وتقدم من آيات اقترابها انشقاق القمر ، كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه . وخطب حذيفة بالمدائن ، ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت ، وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم ، ولا التفات إلى قول الحسن أن المعنى : إذ جاءت الساعة انشق القمر بعد النفخة الثانية ، ولا إلى قول من قال : إن انشقاقه عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه في أثنائها ، فالمعنى : ظهر الأمر ، فإن العرب تضرب بالقمر مثلاً فيما وضح ، كما يسمى الصبح فلقاً عند انفلاق الظلمة عنه ، وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق . قال النابغة : فلما أدبروا ولهم دوي
دعانا عند شق الصبح داعي
وهذه أقوال فاسدة ، ولولا أن المفسرين ذكروها ، لأضربت عن ذكرها صفحاً .
القمر : ( 2 ) وإن يروا آية . . . . .
( وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ ( ، وقرىء : وإن يروا مبنياً للمفعول : أي من شأنهم وحالتهم أنهم متى رأوا ما يدل على صدق الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الآيات الباهرة أعرضوا عن الإيمان به وبتلك الآية . وجاءت الجملة شرطية ليدل على أنهم في الاستقبال على مثل حالهم في الماضي ، ويقولوا : ) سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ( : أي دائم ، ومنه قول الشاعر : ألا إنما الدنيا ليال وأعصر
وليس على شيء قويم بمستمر
لما رأوا الآيات متوالية لا تنقطع ، قالوا ذلك . وقال أبو العالية والضحاك والأخفش : مستمر : مشدود موثق من مرائر الحبل ، أي سحر قد أحكم ، ومنه قول الشاعر : حتى استمرت على سر مريرته
صدق العزيمة لا رياً ولا ضرعا
وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء ، واختاره النحاس : مستمر : مار ذاهب زائل عن قريب ، عللوا بذلك أنفسهم . وقيل مستمر : شديد المرارة ، أي مستبشع عندنا مر ، يقال : مر الشيء وأمر ، إذا صار مراً ، وأمر غيره

" صفحة رقم 172 "
ومره ، يكون لازماً ومتعدياً . وقيل : مستمر : يشبه بعضه بعضاً ، أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخيلات . وقيل : مستمر : مار من الأرض إلى السماء ، أي بلغ من سحره أنه سحر القمر .
القمر : ( 3 ) وكذبوا واتبعوا أهواءهم . . . . .
( وَكَذَّبُواْ ( : أي بالآيات وبمن جاء بها ، أي قالوا هذا سحر مستمر سحرنا محمد . ) وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ ( : أي شهوات أنفسهم وما يهوون . ) وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ( ، بكسر القاف وضم الراء : مبتدأ أو خبر . قال مقاتل : أي له غاية ينتهي إليها . وقال الكلبي : مستقرّ له حقيقة ، فما كان في الدنيا فسيظهر ، وما كان في الآخرة فسيعرف . وقال قتادة : معناه أن الخير يستقر بأهل الخير ، والشر بأهل الشر . وقيل : يستقر الحق ظاهراً ثابتاً ، والباطل زاهقاً ذاهباً . وقيل : كل أمر من أمرهم وأمره يستقر على خذلان أو نصرة في الدنيا وسعادة ، أو شقاوة في الآخرة . وقرأ شيبة : مستقر بفتح القاف ، ورويت عن نافع ؛ وقال أبو حاتم : لا وجه لفتح القاف . انتهى . وخرجت على حذف مضاف ، أي ذو استقرار ، وزمان استقرار . وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي : مستقر بكسر القاف والراء معاً صفة لأمر . وخرجه الزمخشري على أن يكون وكل عطفاً على الساعة ، أي اقتربت الساعة ، واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله ، وهذا بعيد لطول الفصل بجمل ثلاث ، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب ، نحو : أكلت خبزاً وضربت زيداً ، وأن يجيء زيد أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحماً ، فيكون ولحماً عطفاً على خبزاً ، بل لا يوجد مثله في كلام العرب . وخرجه صاحب اللوامح على أنه خبر لكل ، فهو مرفوع في الأصل ، لكنه جر للمجاورة ، وهذا ليس بجيد ، لأن الخفض على الجوار في غاية الشذوذ ، ولأنه لم يعهد في خبر المبتدأ ، إنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده ، والأسهل أن يكون الخبر مضمراً لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : ) وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ( بالغوه ، لأن قبله : ) وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ ( : أي وكل أمر مستقر لهم في القدر من خير أو شر بالغه هم . وقيل : الخبر حكمة بالغة ، أي وكل أمر مستقر حكمة بالغة . ويكون :
القمر : ( 4 ) ولقد جاءهم من . . . . .
( وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( اعتراض بين المبتدأ وخبره .
( وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء ( : أي من الأخبار الواردة في القرآن في إهلاك من كذب الأنبياء وما يؤولون إليه في الآخرة ، ( مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( : أي ازدجار رادع لهم عن ما هم فيه ، أو موضع ازدجار وارتداع ، أي ذلك موضع ازدجار ، أو مظنة له . وقرىء مزجر ، بإبدال تاء الافتعال زاياً وإدغام الزاي فيها . وقرأ زيد بن علي : مزجر اسم فاعل من أزجر ، أي صار ذا زجر ، كأعشب : أي صار ذا عشب .
القمر : ( 5 ) حكمة بالغة فما . . . . .
وقرأ الجمهور : ) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ( برفعهما ، وجوزوا أن تكون حكمة بدلاً من مزدجر أو من ما ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وتقدم قول من جعله خبراً عن كل في قراءة من قرأ مستقر بالجر . وقرأ اليماني : حكمة بالغة بالنصب فيهما حالاً من ما ، سواء كانت ما موصولة أم موصوفة تخصصت بالصفة ، ووصفت الحكمة ببالغة لأنها تبلغ غيرها . ) فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ ( مع هؤلاء الكفرة .
القمر : ( 6 ) فتول عنهم يوم . . . . .
ثم سلى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( أي أعرض عنهم ، فإن الإنذار لا يجدي فيهم . ثم ذكر شيئاً من أحوال الآخرة وما يؤولون إليه ، إذ ذاك متعلق باقتراب الساعة ، فقال : ) يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِىَ ( ، والناصب ليوم اذكر مضمرة ، قاله الرماني ، أو يخرجون . وقال الحسن : المعنى : فتول عنهم إلى يوم ، وهذا ضعيف من جهة اللفظ ومن جهة المعنى . أما من جهة اللفظ فحذف إلى ، وأما من جهة المعنى فإن توليه عنهم ليس مغياً بيوم يدع الداع . وجوزوا أن يكون منصوباً بقوله : ) فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ ( ، ويكون ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( اعتراضاً ، وأن يكون منصوباً بقوله : ) يَقُولُ الْكَافِرُونَ (

" صفحة رقم 173 "
ومنصوباً على إضمار انتظر ، ومنصوباً بقوله : ) فَتَوَلَّ ( ، وهذا ضعيف جدّاً ، ومنصوباً بمستقر ، وهو بعيد أيضاً . وحذفت الواو من يدع في الرسم اتباعاً للنطق ، والياء من الداع تخفيفاً أجريت أل مجرى ما عاقبها ، وهو التنوين . فكما تحذف معه حذفت معها ، والداع هو إسرافيل ، أو جبرائيل ، أو ملك غيرهما موكل بذلك ، أقوال . وقرأ الجمهور : ) نُّكُرٍ ( بضم الكاف ، وهو صفة على فعل ، وهو قليل في الصفات ، ومنه رجل شلل : أي خفيف في الحاجة ، وناقة أجد ، ومشية سجح ، وروضة أنف . وقرأ الحسن وابن كثير : وشبل بإسكان الكاف ، كما قالوا : شغل وشغل ، وعسر وعسر . وقرأ مجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي : نكر فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ، أي جهل فنكر . وقال الخليل : النكر نعت للأمر الشديد ، والوجل الداهية ، أي تنكره النفوس لأنها لم تعهد مثله ، وهو يوم القيامة . قال مالك بن عوف النضري : أقدم محاج أنه يوم نكر
مثلي على مثلك يحمي ويكر
القمر : ( 7 ) خشعا أبصارهم يخرجون . . . . .
وقرأ قتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والجمهور : خشعاً جمع تكسير ؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي : خاشعاً بالإفراد . وقرأ أبيّ وابن مسعود : خاشعة ، وجمع التكسير أكثر في كلام العرب . وقال الفراء وأبو عبيدة : كله جائز . انتهى ، ومثال جمع التكسير قول الشاعر : بمطرد لذن صحاح كعربه
وذي رونق عضب يقد الوانسا
ومثال الإفراد قوله : ورجال حسن أو جههم
من أياد بن نزار بن معد
وقال آخر :
ترمي الفجاج به الركبان معترضاً
أعناق بزلها مرخى لها الجدل
وانتصب خشعاً وخاشعا وخاشعة على الحال من ضمير يخرجون ، والعامل فيه يخرجون ، لأنه فعل متصرف ، وفي هذا دليل على بطلان مذهب الجرمى ، لأنه لا يجوز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفاً . وقد قالت العرب : شتى تؤب الحلبة ، فشتى حال ، وقد تقدمت على عاملها وهو تؤب ، لأنه فعل متصرف ، وقال الشاعر :
سريعاً يهون الصعب عند أولي النهي
إذا برجاء صادق قابلوه البأسا
فسريعاً حال ، وقد تقدمت على عاملها ، وهو يهون . وقيل : هو حال من الضمير المجرور في عنهم من قوله : ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( وقيل : هو مفعول بيدع ، أي قوماً خشعاً ، أو فريقاً خشعاً ، وفيه بعد . ومن أفرد خاشعاً وذكر ،

" صفحة رقم 174 "
فعلى تقدير تخشع أبصارهم ؛ ومن قرأ خاشعة وأنث ، فعلى تقدير تخشع ؛ ومن قرأ خشعاً جمع تكسير ، فلأن الجمع موافق لما بعده ، وهو أبصارهم ، وموافق للضمير الذي هو صاحب الحال في يخرجون ، وهو نظير قولهم : مررت برجال كرام آباؤهم . وقال الزمخشري : وخشعاً على يخشعن أبصارهم ، وهي لغة من يقول : أكلوني البراغيث ، وهم طيء . انتهى . ولا يجري جمع التكسير مجرى جمع السلامة ، فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة .
وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب ، فكيف يكون أكثر ، ويكون على تلك اللغة النادرة القليلة ؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفراد مذكراً ومؤنثاً وجمع التكسير ، قال : لأن الصفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها جميع ذلك ، والجمع موافق للفظها ، فكان أشبه . انتهى . وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمع مجموعاً بالواو والنون نحو : مررت بقوم كريمين آباؤهم . والزمخشري قاس جمع التكسير على هذا الجمع السالم ، وهو قياس فاسد ، ويزده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد ، كما ذكرناه عن سيبويه ، وكما دل عليه كلام الفراء ؛ وجوز أن يكون في خشعاً ضمير ، وأبصارهم بدل منه . وقرىء : خشع أبصارهم ، وهي جملة في موضع الحال ، وخشع خبر مقدم ، وخشوع الأبصار كناية عن الذلة ، وهي في العيون أظهر منها في سائر الجوارح ؛ وكذلك أفعال النفس من ذلة وعزة وحياء وصلف وخوف وغير ذلك .
( كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ( : جملة حالية أيضاً ، شبههم بالجراد في الكثرة والتموج ، ويقال : جاءوا كالجراد في الجيش الكثير المتموج ، ويقال : كالذباب . وجاء تشبيههم أيضاً بالفراش المبثوث ، وكل من الجراد والفراش في الخارجين يوم الحشر شبه منهما . وقيل : يكونون أولاً كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون ، لأن الفراش لا جهة له يقصدها ، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر والداعي ، فهما تشبيهان باعتبار وقتين ، قال معناه مكي بن أبي طالب .
القمر : ( 8 ) مهطعين إلى الداع . . . . .
( مُهْطِعِينَ ( ، قال أبو عبيدة : مسرعين ، ومنه قوله : بدجلة دارهم ولقد أراهم
بدجلة مهطعين إلى السماع
زاد غيره : مادّي أعناقهم ، وزاد غيره : مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد ، إما لخوف أو طمع ونحوه . وقال قتادة : عامدين . وقال الضحاك : مقبلين . وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت . وقال ابن عباس : ناظرين . ومنه قول الشاعر : تعبدني نمر بن سعد وقد أرى
ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وقيل : خافضين ما بين أعينهم . وقال سفيان : خاشعة أبصارهم إلى السماء . ) يَوْمٌ عَسِرٌ ( ، لما يشاهدون من مخايل هوله ، وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه .
القمر : ( 9 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ( : أي قبل قريش ، ( قَوْمُ نُوحٍ ( وفيه وعيد لقريش وضرب مثل لهم . ومفعول كذبت محذوف ، أي كذبت الرسل ، فكذبوا نوحاً عليه السلام . لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأساً ، كذبوا نوحاً لأنه من جملة الرسل . ويجوز أن يكون المحذوف نوحاً أول مجيئه إليهم ، فكذبوه تكذيباً يعقبه تكذيب . كلما مضى منهم قرن مكذب ، تبعه قرن مكذب . وفي لفظ عبدنا تشريف وخصوصية بالعبودية ، كقوله تعالى : ) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ( ، ( سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ). ) وَقَالُواْ مَجْنُونٌ ( : أي هو مجنون . لما رأوا الآيات الدالة على صدقه قالوا : هو مصاب الجن ، لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إلى الجنون ، أي

" صفحة رقم 175 "
يقول ما لا يقبله عاقل ، وذلك مبالغة في تكذيبهم .
( وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ ( ، الظاهر أن قوله : ) وَازْدُجِرَ ( من أخبار الله تعالى ، أي انتهروه وزجروه بالسبب والتخويف ، قاله ابن زيد وقرأ : ) لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ نُوحٌ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ ). قيل : والمعنى أنهم فعلوا به ما يوجب الانزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم إلى الإيمان وعدل إلى الدعاء عليهم . وقال مجاهد : وازدجر من تمام قولهم ، أي قالوا وازدجر : أي استطير جنوناً ، أي ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته .
القمر : ( 10 ) فدعا ربه أني . . . . .
وقرأ ابن إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن عليّ ، ورويت عن عاصم : إني بكسر الهمزة ، على إضمار القول على مذهب البصريين ، أو على إجراء الدعاء مجرى القول على مذهب الكوفيين . وقرأ الجمهور : بفتحها ، أي بأني مغلوب ، أي غلبني قومي ، فلم يسمعوا مني ، ويئست من إجابتهم لي . ) فَانتَصِرْ ( : أي فانتقم بعذاب تبعثه عليهم . وإنما دعا عليهم بعد ما يئس منهم وتفاقم أمرهم ، وكان الواحد من قومه يخنقه إلى أن يخر مغشياً عليه ، وقد كان يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، ومتعلق ) فَانتَصِرْ ( محذوف . وقيل : التقدير فانتصر لي منهم بأن تهلكهم . وقيل : فانتصر لنفسك ، إذ كذبوا رسولك فوقعت الإجابة . وللمتصوفة قول في ) مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ( حكاه ابن عطية ، يوقف عليه في كتابه .
القمر : ( 11 ) ففتحنا أبواب السماء . . . . .
( فَفَتَحْنَا ( : بيان أن الله تعالى انتصر منهم وانتقم . قيل : ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين ، فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم . ) أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء ( : جعل الماء كأنه آلة يفتح بها ، كما تقول : فتحت الباب بالمفتاح ، وكأن الماء جاء وفتح الباب ، فجعل المقصود ، وهو الماء ، مقدّماً في الوجود على فتح الباب المغلق . ويجوز أن تكون الباء للحال ، أي ملتبسة بماء منهمر . وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب : ففتحنا مشدّداً ؛ والجمهور : مخففاً ، ( أَبْوابَ السَّمَاء ( ، هذا عند الجمهور مجاز وتشبيه ، لأن المطر كثره كأنه نازل من أبواب ، كما تقول : فتحت أبواب القرب ، وجرت مزاريب السماء . وقال عليّ ، وتبعه النقاش : يعني بالأبواب المجرة ، وهي سرع السماء كسرع العيبة . وذهب قوم إلى أنها حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء ، ومثله مروي عن ابن عباس ، قال : أبواب السماء فتحت من غير سحاب ، لم تغلق أربعين يوماً . قال السدي : ) مُّنْهَمِرٍ ( : أي كثير . قال الشاعر : أعينيّ جودا بالدموع الهوامر
على خير باد من معد وحاضر
القمر : ( 12 - 13 ) وفجرنا الأرض عيونا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَفَجَّرْنَا ( بتشديد الجيم ؛ وعبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم : بالتخفيف ؛ والمشهور أن العين لفظ مشترك . والظاهر أنها حقيقة في العين الباصرة ، مجاز في غيرها ، وهو في غير الماء مجاز مشهور ، غالب وانتصب عيوناً على التمييز ، جعلت الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من : وفجرنا عيون الأرض ، ومن منع مجيء التمييز من المفعول أعربه حالاً ، ويكون حالاً مقدرة ، وأعربه بعضهم مفعولاً ثانياً ، كأنه ضمن ) وَفَجَّرْنَا ( : صيرنا بالتفجير ، ( الاْرْضَ عُيُوناً ). وقيل : وفجرت أربعين يوماً . وقرأ الجمهور : ) فَالْتَقَى المَاء ( ، وهو اسم جنس ، والمعنى : ماء السماء وماء الأرض . وقرأ عليّ والحسن ومحمد بن كعب والجحدري : الماآن . وقرأ الحسن أيضاً : الماوان . وقال الزمخشري : وقرأ الحسن ماوان ، بقلب الهمزة واواً ، كقولهم : علباوان . انتهى . شبه الهمزة التي هي بدل من هاء في الماء بهمزة الإلحاق في علبا . وعن الحسن أيضاً : المايان ، بقلب الهمزة ياء ، وفي كلتا القراءتين شذوذ . ) عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( : أي على حالة ورتبة قد فصلت في الأزل . وقيل : على مقادير قد رتبت وقت التقائه ، فروى أن ماء الأرض كان على سبعة عشر ذراعاً ، ونزل ماء السماء على تكملة أربعين ذراعاً . وقيل : كان ماء الأرض أكثر . وقيل : كانا متساويين ، نزل من السماء قدر ما خرج من الأرض .
وقيل : ) عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( : في اللوح

" صفحة رقم 176 "
أنه يكون ، وهو هلاك قوم نوح عليه السلام بالطوفان ، وهذا هو الراجح ، لأن كل قصة ذكرت بعد هذه القصة ذكر الله هلاك مكذبي الرسل فيها ، فيكون هذا كناية عن هلاك قوم نوح ، ولذلك ذكر نجاة نوح بعدها في قوله : ) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ). وقرأ أبو حيوة : قدر بشد الدال ؛ والجمهور ؛ بتخفيفها ، وذات الألواح والدسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليها السلام . ويفهم من هذين الوصفين أنها السفينة ، فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوب عنه ، ونحوه : قميصي مسرودة من حديد ، أي درع ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه . ولو جمعت بين الصفة والموصوف فيه ، لم يكن بالفصيح والدسر المسامير ، قاله الجمهور . وقال الحسن وابن عباس : مقاديم السفينة لأنها تدسر الماء ، أي تدفعه ، والدسر : الدفع . وقال مجاهد وغيره : بطن السفينة . وعنه أيضاً : عوارض السفينة . وعنه أيضاً : أضلاع السفينة ، تجري في ذلك الماء المتلقي بحفظ منا وكلاءة ، بحيث نجا من كان فيها وغرق غيرهم .
القمر : ( 14 ) تجري بأعيننا جزاء . . . . .
وقال مقاتل بن سليمان : ) بِأَعْيُنِنَا ( : بوحينا . وقيل : بأمرنا . وقيل : بأوليائنا . يقال : فلان عين من عيون الله تعالى : أي ولي من أوليائه . وقيل : بأعين الماء التي أنبعناها . وقيل : من حفظها من الملائكة سماهم أعيناً . وقرأ زيد بن علي وأبو السمال : بأعينا بالإدغام ؛ والجمهور : بالفك . ) جَزَاء ( : أي مجازاة ، ( لّمَن كَانَ كُفِرَ ( : أي لنوح عليه السلام ، إذ كان نعمة أهداها الله إلى قومه لأن يؤمنوا فكفروها ، المعنى : أنه حمله في السفينة ومن آمن معه كان جزاء له على صبره على قومه المئين من السنين ، ومن كناية عن نوح . قيل : يعني بمن كفر لمن جحدت نبوته . وقال ابن عباس ومجاهد : من يراد به الله تعالى ، كأنه قال : غضباً وانتصاراً لله تعالى ، أي انتصر لنفسه ، فأغرق الكافرين ، وأنجى المؤمنين ، وهذان التأويلان في من على قراءة الجمهور . كفر : مبنياً للمفعول . وقرأ مسلمة بن محارب : بإسكان الفاء خفف فعل ، كما قال الشاعر :
لو عصر منه البان والمسك انعصر
يريد : لو عصر . وقرأ زيد بن رومان وقتادة وعيسى : كفر مبنياً للفاعل ، فمن يراد به قوم نوح : أي إن ما نشأ من تفتيح أبواب السماء بالماء ، وتفجر عيون الأرض ، والتقاء الماءين من غرق قوم نوح عليه الصلاة والسلام ، كان جزاء لهم على كفرهم . وكفر : خبر لكان ، وفي ذلك دليل على وقوع الماضي بغير قد خبراً لكان ، وهو مذهب البصريين وغيرهم . يقول : لا بد من قد ظاهرة أو مقدرة ، على أنه يجوز إن كان هنا زائدة ، أي لمن كفر ،
القمر : ( 15 ) ولقد تركناها آية . . . . .
والضمير في ) تَّرَكْنَاهَا ( عائد على الفعلة والقصة . وقال قتادة والنقاش وغيرهما : عائد على السفينة ، وأنه تعالى أبقى خشبها حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة . وقال قتادة : وكم من سفينة بعدها صارت رماداً وقرأ الجمهور : ) مُّدَّكِرٍ ( ، بإدغام الذال في الدال المبدلة من تاء الافتعال ؛ وقتادة : فيما نقل ابن عطية بالذال ، أدغمه بعد قلب الثاني إلى الأول . وقال صاحب كتاب اللوامح قتادة : فهل من مذكر ، فاعل من التذكير ، أي من يذكر نفسه أو غيره بما مضى من القصص . انتهى . وقرىء : مدتكر على الأصل .
القمر : ( 16 ) فكيف كان عذابي . . . . .
( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ( : تهويل لما حل بقوم نوح من العذاب وإعظام له ، إذ قد استأصل جميعهم وقطع دابرهم ، فلم ينسل منهم أحد ؛ أي كيف كان عاقبة إنذاري ؟ والنذر : جمع نذير وهو الإنذار ، وفيه توقيف لقريش على ما حل بالمكذبين أمثالهم . وكان ، إن كانت ناقصة ، كانت كيف في موضع خبر

" صفحة رقم 177 "
كان ؛ وإن كانت تامة ، كانت في موضع نصب على الحال . والاستفهام هنا لا يراد به حقيقته ، بل المعنى على التذكير بما حل بهم .
القمر : ( 17 ) ولقد يسرنا القرآن . . . . .
( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ( : أي سهلنا ، ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ( : أي للإذكار والاتعاظ ، لما تضمنه من الوعظ والوعد والوعيد . ) فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( ، قال ابن زيد : من متعظ . وقال قتادة : فهل من طالب خير ؟ وقال محمد بن كعب : فهل من مزدجر عن المعاصي ؟ وقيل : للذكر : للحفظ ، أي سهلناه للحفظ ، لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلامة اللفظ ، وعروه عن الحشو وشرف المعاني وصحتها ، فله تعلق بالقلوب . ) فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( : أي من طالب لحفظه ليعان عليه ، وتكون زواجره وعلومه حاضرة في النفس . وقال ابن جبير : لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن . وقيل : يسرنا : هيأنا ) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ( ، كقولهم : يسر ناقته للسفر إذا رحلها ، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه ، قال الشاعر : وقمت إليه باللجام ميسرا
هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
قوله عز وجل : ) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاْشِرُ إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ).
القمر : ( 18 - 19 ) كذبت عاد فكيف . . . . .
تقدمت قصة عاد مطولة ومتوسطة ، وهنا ذكرها تعالى موجزة ، كما ذكر قصة نوح عليه السلام موجزة . ولما لم يكن لقوم نوح علم ، ذكر قوم مضافاً إلى نوح . ولما كانت عاد علماً لقوم هود ، ذكر العلم ، لأنه أبلغ في الذكر من التعريف بالإضافة . وتكرر التهويل بالاستفهام قبل ذكر ما حل بهم وبعده ، لغرابة ما عذبوا به من الريح ، وانفرادهم بهذا النوع من العذاب ، ولأن الاختصار داعية الاعتبار والتدبر والصرصر الباردة ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة . وقيل ، المصوتة والجمهور : على إضافة يوم إلى نحس ، وسكون الحاء . وقرأ الحسن : بتنوين يوم وكسر الحاء ، جعله صفة لليوم ، كقوله تعالى : ) فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ). ) مُّسْتَمِرٌّ ( ، قال قتادة : استمر بهم حتى بلغهم جهنم . وعن الحسن والضحاك : كان مراً عليهم . وروي أنه كان يوم الأربعاء ، والذي يظهر أنه ليس يوماً معيناً ، بل أريد به الزمان والوقت ، كأنه قيل : في وقت نحس . ويدل على ذلك أنه قال في سورة فصلت : ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ). وقال في الحاقة : ) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ( ، إلا أن يكون ابتداء الريح في يوم الأربعاء ، فعبر بوقت الابتداء ، وهو يوم الأربعاء ، فيمكن الجمع بينها .
القمر : ( 20 ) تنزع الناس كأنهم . . . . .
( تَنزِعُ النَّاسَ ( : يجوز أن يكون صفة للريح ، وأن يكون حالاً منها ، لأنها وصفت فقربت من المعرفة . ويحتمل أن يكون تنزع مستأنفاً ، وجاء الظاهر

" صفحة رقم 178 "
مكان المضمر ليشمل ذكورهم وإناثهم ، إذ لو عاد بضمير المذكورين ، لتوهم أنه خاص بهم ، أي تقلعهم من أماكنهم . قال مجاهد : يلقى الرجل على رأسه ، فتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه . وقيل : كانوا يصطفون آخذي بعضهم بأيدي بعض ، ويدخلون في الشعاب ، ويحفرون الحفر فيندسون فيها ، فتنزعهم وتدق رقابهم . والجملة التشبيهية حال من الناس ، وهي حال مقدرة . وقال الطبري : في الكلام حذف تقديره : فتتركهم . ) كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ ( : فالكاف في موضع نصب بالمحذوف شبههم ، بأعجاز النخل المنقعر ، إذ تساقطوا على الأرض أمواتاً وهم جثث عظام طوال . والأعجاز : الأصول بلا فروع قد انقلعت من مغارسها . وقيل : كانت الريح تقطع رؤوسهم ، فتبقى أجساداً بلا رؤوس ، فأشبهت أعجاز النخل التي انقلعت من مغرسها . وقرأ أبو نهيك : أعجز على وزن أفعل ، نحو ضبع وأضبع . والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث ، وإنما ذكر هنا لمناسبة الفواصل ، وأنث في قوله : ) أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( في الحاقة لمناسبة الفواصل أيضاً .
القمر : ( 24 - 25 ) فقالوا أبشرا منا . . . . .
وقرأ أبو السمال ، فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل ، وأبو عمرو والداني : برفعهما . فأبشر : مبتدأ ، وواحد صفته ، والخبر نتبعه . ونقل ابن خالويه ، وصاحب اللوامح ، وابن عطية رفع أبشر ونصب واحداً عن أبي السمال . قال صاحب اللوامح : فأما رفع أبشر فبإضمار الخبر بتقدير : أبشر منا يبعث إلينا ، أو يرسل ، أو نحوهما ؟ وأما انتصاب واحداً فعلى الحال ، إما مما قبله بتقدير : أبشر كائن منا في الحال توحده ، وإما مما بعده بمعنى : نتبعه في توحده ، أو في انفراده . وقال ابن عطية : ورفعه إما على إضمار فعل مبني للمفعول ، التقدير : أينبأ بشر ؟ وإما على الابتداء ، والخبر في قوله : ) نَّتَّبِعُهُ ( ، وواحداً على هذه القراءة حال إما من الضمير في نتبعه ، وإما من المقدر مع منا ، كأنه يقول : أبشر كائن منا واحداً ؟ وفي هذا نظر . وقولهم ذلك حسد منهم واستبعاد أن يكون نوع البشر يفضل بعضه بعضاً هذا الفضل ، فقالوا : نكون جمعاً ونتبع واحداً ، ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ويفيض نور الهدى على من رضيه . انتهى .
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف أنكروا أن يتبعوا بشراً منهم واحداً ؟ قلت : قالوا : أبشراً إنكاراً ؟ لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكونوا من جنس أعلى من جنس البشر ، وهم الملائكة ، وقالوا منا ، لأنه إذا كان منهم ، كانت المماثلة أقوى ، وقالوا واحداً إنكاراً ، لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً ، وأرادوا واحداً من أبنائهم ليس بأشرفهم ولا أفضلهم ، ويدل عليه . ) الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ ( : أي أأنزل عليه الوحي من بيننا ؟ وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة . انتهى ، وهو حسن ، على أن فيه تحميل اللفظ ما لا يحتمله . ) إِنَّا إِذَا ( : أي إن اتبعناه ، فنحن في ضلال : أي بعد عن الصواب وحيرة . وقال الضحاك : في تيه . وقال وهب : بعد عن الحق ، ( وَسُعُرٍ ( : أي عذاب ، قاله ابن عباس . وعنه وجنون يقال : ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة ، وقال الشاعر : كأن بها سعراً إذا العيس هزها
زميل وإزجاء من السير متعب
وقال قتادة : وسعر : عناء . وقال ابن بحر : وسعر جمع سعير ، وهو وقود النار ، أي في في خطر كمن هو في النار . انتهى . وروي أنه كان يقول لهم : إن لم تتبعوني ، كنتم في ضلال عن الحق وسعر : أي نيران ، فعكسوا عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذاً كما تقول . ثم زادوا في الإنكار والاستبعاد فقالوا : ) أَءلْقِىَ ( : أي أأنزل ؟ قيل : وكأنه يتضمن العجلة في الفعل ، والعرب تستعمل هذا الفعل ، ومنه : ) وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى ( ، ( إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ). والذكر هنا : الوحي والرسالة وما جاءهم من الحكمة والموعظة . ثم قالوا : ليس الأمر كما تزعم بل هو القرآن . ) أَشِرٌ ( : أي بطر ،

" صفحة رقم 179 "
يريد العلوّ علينا ، وأن يقتادنا ويتملك طاعتنا . وقرأ قتادة وأبو قلابة : بل هو الكذاب الأشر ، بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشد الراء ، وكذا الأشر الحرف الثاني . وقرأ الحرف الثاني مجاهد ، فيما ذكر صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي الأشر بثلاث ضمات وتخفيف الراء . ويقال : أشر وأشر ، كحذر وحذر ، فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لضمة الشين . وحكى الكسائي عن مجاهد : ضم الشين . وقرأ أبو حيوة : هذا الحرف الآخر الأشر أفعل تفضيل ، وإتمام خير ، وشر في أفعل التفضيل قليل . وحكى ابن الأنباري أن العرب تقول : هو أخير وهو أشر . قال الراجز .
بلال خير الناس وابن الأخير
وقال أبو حاتم : لا تكاد العرب تتكلم بالأخير والأشر إلا في ضرورة الشعر ، وأنشد قول رؤبة بلال البيت .
القمر : ( 26 ) سيعلمون غدا من . . . . .
وقرأ علي والجمهور : سيعلمون بياء الغيبة ، وهو من إعلام الله تعالى لصالح عليه السلام ؛ وابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش : بتاء الخطاب : أي قل لهم يا صالح وعداً يراد به الزمان المستقبل ، لا اليوم الذي يلي يوم خطابهم ، فاحتمل أن يكون يوم العذاب الحال بهم في الدنيا ، وأن يكون يوم القيامة ، وقال الطرماح : ألا عللاني قبل نوح النوائح
وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي في غد
إذا راح أصحابي ولست برائح
أراد وقت الموت ، ولم يرد غداً بعينه . وفي قوله : ) سَيَعْلَمُونَ غَداً ( تهديد ووعيد ببيان انكشاف الأمر ، والمعنى : أنهم هم الكذابون الأشرون . وأورد ذلك مورد الإبهام والاحتمال ، وإن كانوا هم المعنيين بقوله تعالى ، حكاية عن قول نوح عليه الصلاة والسلام : ) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ( ، والمعنى به قومه ، وكذا قول شعيب عليه السلام : ) سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ( ؛ وقول الشاعر : فلئن لقيتك خاليين لتعلمن
أني وأيك فارس الأحزاب
وإنما عنى أنه فارس الأحزاب ، لا الذي خاطبه .
القمر : ( 27 ) إنا مرسلو الناقة . . . . .
( إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ ( : أي ابتلاء واختباراً ، وآنس بذلك صالحاً . ولما هددهم بقوله : ) سَيَعْلَمُونَ غَداً ( ، وكانوا قد ادعوا أنه كاذب ، قالوا : ما الدليل على صدقك ؟ قال الله تعالى : ) إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ ( : أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها . ) فَارْتَقِبْهُمْ ( : أي فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون ، ( وَاصْطَبِرْ ( على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله .
القمر : ( 28 ) ونبئهم أن الماء . . . . .
( وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء ( : أي ماء البئر الذي لهم ، ( قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ( : أي بين ثمود وبين الناقة غلب ثمود ، فالضمير في بينهم لهم وللناقة . أي لهم شرب يوم ، وللناقة شرب يوم . وقرأ الجمهور : قسمة بكسر القاف ؛ ومعاذ عن أبي عمرو : بفتحها . ) كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ( أي محضور لهم وللناقة . وتقدمت قصة الناقة مستوفاة ، فأغنى عن إعادتها ، وهنا محذوف ، أي فكانوا على هذه الوتيرة من قسمة الماء ، فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة .
القمر : ( 29 ) فنادوا صاحبهم فتعاطى . . . . .
( فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ ( ، وهو قدار بن سالف ، ( فَتَعَاطَى ( : هو مطاوع عاطى ، وكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضاً ، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده . ولما كانوا راضين ، نسب ذلك إليهم في قوله : ) فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ ( ، وفي قوله : ) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ).
القمر : ( 31 ) إنا أرسلنا عليهم . . . . .
والصيحة التي أرسلت عليهم .
يروي أن جبريل عليه السلام صاح في طرف منازلهم ، فتفتتوا وهمدوا

" صفحة رقم 180 "
وصاروا ) كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ( وهو ما تفتت وتهضم من الشجر . والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة ، فإنه تتفتت منه حالة العمل وتتساقط أجزاء مما يعمل به ، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان ، تطأه البهائم فيتهشم . وقرأ الجمهور : بكسر الظاء ؛ وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وأبو عمرو بن عبيد : بفتحها ، وهو موضع الاحتظار . وقيل : هو مصدر ، أي كهشيم الاحتظار ، وهو ما تفتت حالة الاحتظار . والحظيرة تصنعها العرب وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب . والخظر : المنع ؛ وعن ابن عباس وقتادة ، أن المحتظر هو المحترق . قال قتادة : كهشيم محترق ؛ وعن ابن جبير : هو التراب الذي يسقط من الحائط البالي . وقيل : المحتظر بفتح الظاء هو الهشيم نفسه ، فيكون من إضافة الموصوف إلى صفته ، كمسجد الجامع على من تأوله كذلك ، وكان هنا قيل : بمعنى صار .
قوله عز وجل : ) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ الَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ).
القمر : ( 33 - 34 ) كذبت قوم لوط . . . . .
تقدمت قصة لوط عليه السلام وقومه . والحاصب من الحصباء ، وهو المعنيّ بقوله تعالى : ) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ ). ) إِلا ءالَ لُوطٍ ( ، قيل : إلا ابنتاه ، و ) بِسَحَرٍ ( : هو بكرة ، فلذلك صرف ،
القمر : ( 35 ) نعمة من عندنا . . . . .
وانتصب ) نِعْمَتَ ( على أنه مفعول من أجله ، أي نجيناهم لإنعامنا عليهم أو على المصدر ، لأن المعنى : أنعمنا بالتنجية إنعاماً . ) كَذالِكَ نَجْزِى ( : أي مثل ذلك الإنعام والتنجية نجزي ) مَن شَكَرَ ( إنعامنا وأطاع وآمن .
القمر : ( 36 ) ولقد أنذرهم بطشتنا . . . . .
( وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا ( : أي أخذتنا لهم بالعذاب ، ( فَتَمَارَوْاْ ( : أي تشككوا وتعاطوا ذلك ، ( بِالنُّذُرِ ( : أي بالإنذار ، أو يكون جمع نذير .
القمر : ( 37 ) ولقد راودوه عن . . . . .
( فَطَمَسْنَا ( ، قال قتادة : الطمس حقيقة جر جبريل عليه السلام على أعينهم جناحه ، فاستوت مع وجوههم . وقال أبو عبيدة : مطموسة بجلد كالوجه . قيل : لما صفقهم جبريل عليه السلام بجناحه ، تركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب ، حتى أخرجهم لوط عليه السلام . وقال ابن عباس والضحاك : هذه استعارة ، وإنما حجب إدراكهم ، فدخلوا المنزل ولم يروا شيئاً ، فجعل ذلك كالطمس . وقرأ الجمهور : فطمسنا بتخفيف الميم ؛ وابن مقسم : بتشديدها . ) فَذُوقُواْ ( : أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا .
القمر : ( 38 ) ولقد صبحهم بكرة . . . . .
( وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً ( : أي أول النهار وباكره ، لقوله : ) مُشْرِقِينَ ( و ) مُّصْبِحِينَ ). وقرأ الجمهور : بكرة بالتنوين ، أراد بكرة من البكر ، فصرف . وقرأ زيد بن علي : بغير تنوين . ) عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ ( : أي لم يكشفه عنهم كاشف ، بل اتصل بموتهم ، ثم بما بعد ذلك من عذاب القبر ، ثم عذاب جهنم .
القمر : ( 39 ) فذوقوا عذابي ونذر
) فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ ( : توكيد وتوبيخ ذلك عند الطمس ، وهذا عند تصبيح العذاب . قيل : وفائدة تكرار هذا ، وتكرار
القمر : ( 40 ) ولقد يسرنا القرآن . . . . .
( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ( ، التجرد عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ، للاتعاظ واستئناف التيقظ إذا سمعوا الحث على ذلك لئلا تستولي عليهم الغفلة ، وهكذا حكم التكرير لقوله : ) فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( عند كل نعمة عدها في سورة الرحمن . وقوله : ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ( عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات ، وكذلك تكرير القصص في أنفسها ، لتكون العبرة حاضرة للقلوب ، مذكورة في كل أوان .
القمر : ( 41 ) ولقد جاء آل . . . . .
( وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ( : هم موسى

" صفحة رقم 181 "
وهارون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون ، أو يكون جمع نذير المصدر بمعنى الإنذار .
القمر : ( 42 ) كذبوا بآياتنا كلها . . . . .
( كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( هي التسع ، والتوكيد هنا كهو في قوله : ) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءايَاتِنَا كُلَّهَا ). والظاهر أن الضمير في : ) كَذَّبُواْ ( ، وفي : ) فَأَخَذْنَاهُمْ ( عائد على آل فرعون . وقيل : هو عائد على جميع من تقدم من الأمم ذكره ، وتم الكلام عند قوله : ) النُّذُرُ ). ) فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ ( : لا يغالب ، ( مُّقْتَدِرٍ ( : لا يعجز شيء .
القمر : ( 43 ) أكفاركم خير من . . . . .
( أَكُفَّارُكُمْ ( : خطاب لأهل مكة ، ( خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ ( : الإشارة إلى قوم نوح وهود وصالح ولوط ، وإلى فرعون ، والمعنى : أهم خير في القوّة وآلات الحروب والمكانة في الدنيا ، أو أقل كفؤاً وعناداً ؟ فلأجل كونهم خيراً لا يعاقبون على الكفر بالله ، وقفهم على توبيخهم ، أي ليس كفاركم خيراً من أولئكم ، بل هم مثلهم أو شرّ منهم ، وقد علمتم ما لحق أولئك من الهلاك المستأصل لما كذبوا الرسل . ) أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزُّبُرِ ( : أي ألكم في الكتب الإلهية براءة من عذاب الله تعالى ؟ قاله الضحاك وعكرمة وابن زيد .
القمر : ( 44 ) أم يقولون نحن . . . . .
( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ ( أي واثقون بجماعتنا ، منتصرون بقوتنا ، تقولون ذلك على سبيل الإعجاب بأنفسكم . وقرأ الجمهور : أم يقولون ، بياء الغيبة التفاتاً ، وكذا ما بعده للغائب . وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهشيم : بتاء الخطاب للكفار ، اتباعا لما تقدم من خطابهم .
القمر : ( 45 ) سيهزم الجمع ويولون . . . . .
وقرأوا : ستهزم الجمع ، بفتح التاء وكسر الزاي وفتح العين ، خطاباً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ وأبو حيوة أيضاً ويعقوب : بالنون مفتوحة وكسر الزاي وفتح العين ؛ والجمهور : بالياء مبنياً للمفعول ، وضم العين . وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة أيضاً : بفتح الياء مبنياً للفاعل ونصب العين : أي سيهزم الله الجمع . والجمهور : ) وَيُوَلُّونَ ( بياء الغيبة ؛ وأبو حيوة وداود بن أبي سالم ، عن أبي عمرو : بتاء الخطاب . والدبر هنا : اسم جنس ، وجاء في موضع آخر ) لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ( ، وهو الأصل ، وحسن اسم الجنس هنا كونه فاصلة . وقال الزمخشري : ) وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( : أي الأدبار ، كما قال : كلوا في بعض بطنكم تعفوا . وقرىء : الأدبار . انتهى ، وليس مثل بطنكم ، لأن مجيء الدبر مفرداً ليس بحسن ، ولا يحسن لإفراد بطنكم . وفي قوله تعالى : ) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ( عدة من الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بهزيمة جمع قريش ؛ والجمهور : على أنها مكية ، وتلاها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مستشهداً بها . وقيل : نزلت يوم بدر .
القمر : ( 46 ) بل الساعة موعدهم . . . . .
( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ( : انتقل من تلك الأقوال إلى أمر الساعة التى عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتال . ) وَالسَّاعَةُ أَدْهَى ( : أي أفظع وأشد ، والداهية الأمر : المنكر الذي لا يهتدى لدفعه ، وهي الرزية العظمى تحل بالشخص . ) وَأَمَرُّ ( من المرارة : استعارة لصعوبة الشيء على النفس .
القمر : ( 47 ) إن المجرمين في . . . . .
( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ ( : أي في حيرة وتخبط في الدنيا . ) وَسُعُرٍ ( : أي احتراق في الآخرة ، جعلوا فيه من حيث مصيرهم إليه . وقال ابن عباس : وخسران وجنون ، والسعر : الجنون ، وتقدم مثله في قصة صالح عليه السلام .
القمر : ( 48 ) يوم يسحبون في . . . . .
( يَوْمَ يُسْحَبُونَ ( : يجرون ) فِى النَّارِ ( ، وفي قراءة عبد الله : إلى النار . ) عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ ( : أي مقولاً لهم : ) ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ). وقرأ محبوب عن أبي عمرو : مسقر ، بإدغام السين في السين . قال ابن مجاهد : إدغامه خطأ لأنه مشدد . انتهى . والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ، ثم أدغم .
القمر : ( 49 ) إنا كل شيء . . . . .
( إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( ، قراءة الجمهور : كل شيء بالنصب . وقرأ أبو السمال ، قال ابن عطية وقوم من أهل السنة : بالرفع . قال أبو الفتح : هو الوجه في العربية ، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة . وقال قوم : إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف ، وأن ما بعده يصلح للخبر ، وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر ، اختير النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف ، ومنه هذا الموضع ، لأن في قراءة الرفع يتخيل أن الفعل وصف ، وأن الخبر يقدر . فقد

" صفحة رقم 182 "
تنازع أهل السنة والقدرية الاستدلال بهذه الآية . فأهل السنة يقولون : كل شيء فهو مخلوق لله تعالى بقدرة دليله قراءة النصب ، لأنه لا يفسر في مثل هذا التركيب إلا ما يصح أن يكون خبراً لو وقع الأول على الابتداء . وقالت القدرية : القراءة برفع كل ، وخلقناه في موضع الصفة لكل ، أي إن أمرنا أو شأننا كل شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار ، على حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك . وقال الزمخشري : ) كُلّ شَىْء ( منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر . وقرىء : كل شيء بالرفع ، والقدر والقدر هو التقدير . وقرىء : بهما ، أي خلقنا كل شيء مقدراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة ، أو مقدراً مكتوباً في اللوح ، معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه . انتهى . قيل : والقدر فيه وجوه : أحدها : أن يكون بمعنى المقدار في ذاته وصفاته . والثاني : التقدير ، قال تعالى : ) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ). وقال الشاعر :
وما قدّر الرحمن ما هو قادر
أي ما هو مقدور . والثالث : القدر الذي يقال مع القضاء ، يقال : كان ذلك بقضاء الله وقدره ، والمعنى : أن القضاء ما في العلم ، والقدر ما في الإرادة ، فالمعنى في الآية : ) خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( : أي بقدرة مع إرادة . انتهى .
القمر : ( 50 ) وما أمرنا إلا . . . . .
( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَةٌ ( : أي إلا كلمة واحدة وهي : كن كلمح بالبصر ، تشبيه بأعجل ما يحس ، وفي أشياء أمر الله تعالى أوحي من ذلك ، والمعنى : أنه إذا أراد تكوين شيء لم يتأخر عن إرادته .
القمر : ( 51 ) ولقد أهلكنا أشياعكم . . . . .
( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ ( : أي الفرق المتشايعة في مذهب ودين .
القمر : ( 52 ) وكل شيء فعلوه . . . . .
( وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ ( : أي فعلته الأمم المكذبة ، محفوظ عليهم إلى يوم القيامة ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد . ومعنى ) فِى الزُّبُرِ ( : في دواوين الحفظة .
القمر : ( 53 ) وكل صغير وكبير . . . . .
( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ( من الأعمال ، ومن كل ما هو كائن ، ( مُّسْتَطَرٌ ( : أي مسطور في اللوح . يقال : سطرت واستطرت بمعنى . وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وعصمة عن أبي بكر : بشد راء مستطر . قال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون من طرّ النبات ، والشارب إذا ظهر وثبت بمعنى : كل شيء ظاهر في اللوح مثبت فيه . ويجوز أن يكون من الاستطار ، لكن شدّد الراء للوقف على لغة من يقول : جعفرّ ونفعلّ بالتشديد وقفاً . انتهى ، ووزنه على التوجيه الأول استفعل ، وعلى الثاني افتعل .
القمر : ( 54 ) إن المتقين في . . . . .
وقرأ الجمهور : ونهر على الإفراد ، والهاء مفتوحة ؛ والأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان : بسكونها ، والمراد به الجنس ، إن أريد به الأنهار ، أو يكون معنى ونهر : وسعة في الأرزاق والمنازل ، ومنه قول قيس بن الحطيم : ملكت بها كفي فأنهرت فتقها
يرى قائم من دونها ما وراءها
أي : أوسعت فتقها . وقرأ زهير العرقبي والأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني : بضم النون والهاء ، جمع نهر ، كرهن ورهن ، أو نهر كأسد وأسد ، وهو مناسب لجمع جنات . وقيل : نهر جمع نهار ، ولا ليل في الجنة ، وهو بعيد
القمر : ( 55 ) في مقعد صدق . . . . .
. ) فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ( : يجوز أن يكون ضد الكذب ، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به ، وأن يكون من قولك : رجل صدق : أي خير وجود وصلاح . وقرأ الجمهور : في مقعد ، على الإفراد ، يراد به اسم الجنس ؛ وعثمان البتي : في مقاعد على الجمع ؛ وعند تدل على قرب المكانة من الله تعالى ، والله تعالى أعلم .

" صفحة رقم 183 "
55
( سورة الرحمن )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ وَالاٌّ رْضَ وَضَعَهَا لِلاٌّ نَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاٌّ كْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَىِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالاٌّ عْلَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاٌّ قْدَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَىِّ ءَالا

" صفحة رقم 184 "
1764 ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَآمَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَىءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ } )
الرحمن : ( 1 - 2 ) الرحمن
النجم : النبات الذي لا ساق له ، من نجم : أي ظهر وطلع . الأنام : الحيوان . العصف : ورق الزرع . الريحان : كل مشموم طيب الريح من النبات . المرجان : الخرز الأحمر ، وقيل : صغار الدر ، واللؤلؤ كباره ، واللؤلؤ بناء غريب . قيل : لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة ؛ اللؤلؤ ، والجؤجؤ ، والدؤدؤ ، واليؤيؤ طائر ، والبؤبؤ . والنفوذ : الخروج من الشيء بسرعة . الشواظ : اللهب الخالص بغير دخان . وقال حسان : هجوتك فاختضعت لها بذل
بقافية تأجج كالشواظ
وقال رؤبة :
ونار حرب تسعر الشواظا
وتضم شينه وتكسر . النحاس ، قال الخليل : والنحاس هو الدخان الذي لا لهب له ، وهو معروف في كلام العرب . قال نابغة بني جعدة : تضيء كضوء سراج السليط
لم يجعل الله فيه نحاساً
وقال الكسائي : النحاس هو النار الذي له ريح شديد ، وقيل : الصفر المذاب ، وتضم نونه وتكسر . الوردة : الشديدة الحمرة ، يقال : فرد ورد ، وحجرة وردة . الدهان : الجلد الأحمر . أنشد القاضي منذر بن سعد ، رحمه الله : تبعن الدهان الحمر كل عشية
بموسم بدر أو بسوق عكاظ

" صفحة رقم 185 "
الناصية : مقدم الرأس . آن : نهاية في الحر . الأفنان ، جمع فنن : وهو الغصن ، أو جمع فن : وهو النوع . قال الشاعر : ومن كل أفنان اللذاذة والصبى
لهوت به والعيش أخضر ناضر
وقال نابغة بني ذبيان : بكاء حمامة تدعو هديلا
مفجعة على فنن تغني
الجني : ما يقطف من الثمرة ، وهو فعل بمعنى مفعول ، كالقبض بمعنى مقبوض . قاصرات الطرف : قصرت ألحاظهن على أزواجهنّ . قال الشاعر : من القاصرات الطرف لو دب محول
من الذر فوق الأثب منها لأثرا
الطمث : دم الحيض ودم الافتضاض . الياقوت : حجر معروف ، وقيل : لا تؤثر فيه النار ، قال الشاعر : وطالما أصلى الياقوت جمر غضى
ثم انطفى الجمر والياقوت ياقوت
الادهمام : السواد . النضح : فوران الماء . المقصورة : المحبوسة ، ويقال : قصيرة وقصورة : أي مخدرة . وقال كثير : وأنت التي حببت كل قصيرة
إليّ ولم تشعر بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد
قصار الخطا شر النساء البحاتر
الخيمة معروفة ، وهي بيت المرتحل من خشب وتمام وسائر الحشيش ، وإذا كان من شعر فهو بيت ، ولا يقال له خيمة ، ويجمع على خيام وخيم . قال جرير : متى كان الخيام بذي طلوح
سقيت الغيث أيتها الخيام
الرفرف : ما يدلى من الأسرة من غالي الثياب . وقال الجوهري : ثياب خضر تتخذ منها المجالس ، الواحدة رفرفة ، واشتقاقه من رف إذا ارتفع ، ومنه رفرفة الطائر لتحريك جناحيه وارتفاعه في الهواء ، وسمي الطائر رفرافاً ، ورفرف جناحيه : حركهما ليقع على الشيء ، ورفرف السحاب : هسد به . العبقري : منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنه بلد الجن ، فينسبون إليه كل شيء عجيب . قال زهير :

" صفحة رقم 186 "
بخيل عليها جنة عبقرية
جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا
وقال امرؤ القيس : كأن صليل المرء حين يشذه
صليل زيوف ينتقدن بعبقرا
وقال ذو الرمة : حي كأن رياض العف ألبسها
من وشي عبقر تحليل وتنجيد
وقال الخليل : العبقري : كل جليل نفيس من الرجال والنساء وغيرهم . الجلال : العظمة . قال الشاعر : خبر ما قد جاءنا مستعمل
جل حتى دق فيه الأجل
) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ وَالاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاْكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ).
هذه السورة مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول ابن مسعود . وعن ابن عباس : القولان ، وعنه : سوى آية هي مدنية ، وهي : ) يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الآية . وسبب نزولها فيما قال مقاتل : أنه لما نزل ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ ( الآية ، قالوا : ما نعرف الرحمن ، فنزلت : ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ). وقيل : لما قالوا ) إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ ( ، أكذبهم الله تعالى وقال : ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ). وقيل : مدنية نزلت ، إذ أبى سهيل بن عمرو وغيره أن يكتب في الصلح : ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ).
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما ذكر مقر المتقين في جنات ونهر عند مليك مقتدر ، ذكر شيئاً من آيات الملك وآثار القدرة ، ثم ذكر مقر الفريقين على جهة الإسهاب ، إذ كان في آخر السورة ذكره على جهة الاختصار والإيجاز . ولما ذكر قوله : ) عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( ، فأبرز هاتين الصفتين بصورة التنكير ، فكأنه قيل : من المتصف بذلك ؟ فقال : ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( ، فذكر ما نشأ عن صفة الرحمة ، وهو تعلى م القرآن الذي هو شفاء للقلوب . والظاهر أن ) الرَّحْمَنُ ( مرفوع على الابتداء ، ( وَعَلَّمَ الْقُرْءانَ ( خبره . وقيل : ) الرَّحْمَنُ ( آية بمضمر ، أي الله الرحمن ، أو الرحمن ربنا ، وذلك آية ؛ و ) عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( استئناف إخبار . ولما عدّد نعمه تعالى ، بدأ من نعمه بما هو أعلى رتبها ، وهو تعليم القرآن ، إذ هو عماد الدين ونجاة من استمسك به .
الرحمن : ( 3 - 4 ) خلق الإنسان
ولما ذكر تعليم القرآن

" صفحة رقم 187 "
ولم يذكر المعلم ، ذكره بعد في قوله : ) خَلَقَ الإِنسَانَ ( ، ليعلم أنه المقصود بالتعليم . ولما كان خلقه من أجل الدين وتعليمه القرآن ، كان كالسبب في خلقه تقدّم على خلقه . ثم ذكر تعالى الوصف الذي يتميز به الإنسان من المنطق المفصح عن الضمير ، والذي به يمكن قبول التعليم ، وهو البيان . ألا ترى أن الأخرس لا يمكن أن يتعلم شيئاً مما يدرك بالنطق ؟ وعلم متعدّية إلى اثنين ، حذف أولهما لدلالة المعنى عليه ، وهو جبريل ، أو محمد عليهما الصلاة والسلام ، أو الإنسان ، أقوال . وتوهم أبو عبد الله الرازي أن المحذوف هو المفعول الثاني ، قال : فإن قيل : لم ترك المفعول الثاني ؟ وأجاب بأن النعمة في التعليم ، لا في تعليم شخص دون شخص ، كما يقال : فلان يطعم الطعام ، إشارة إلى كرمه ، ولا يبين من يطعمه . انتهى . والمفعول الأول هو الذي كان فاعلاً قبل النقل بالتضعيف أو الهمزة في علم وأطعم .
وأبعد من ذهب إلى أن معنى ) عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( : جعله علامة وآية يعتبر بها ، وهذه جمل مترادفة ، أخبار كلها عن الرحمن ، جعلت مستقلة لم تعطف ، إذ هي تعداد لنعمه تعالى . كما تقول : زيد أحسن إليك ، خوّلك : أشار بذكرك ، والإنسان اسم جنس . وقال قتادة الإنسان : آدم عليه السلام . وقال ابن كيسان : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن زيد والجمهور : ) البَيَانَ ( : المنطق ، والفهم : الإبانة ، وهو الذي فضل به الإنسان على سائر الحيوان . وقال قتادة : هو بيان الحلال والشرائع ، وهذا جزء من البيان العام . وقال محمد بن كعب : ما يقول وما يقال له . وقال الضحاك : الخير والشر . وقال ابن جريج : الهدى . وقال يمان : الكتابة . ومن قال : الإنسان آدم ، فالبيان أسماء كل شيء ، أو التكلم بلغات كثيرة أفضلها العربية ، أو الكلام بعد أن خلقه ، أو علم الدنيا والآخرة ، أو الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء ، أقوال ، آخرها منسوب لجعفر الصادق .
الرحمن : ( 5 ) الشمس والقمر بحسبان
ولما ذكر تعالى ما أنعم به على الإنسان من تعليمه البيان ، ذكر ما امتن به من وجود الشمس والقمر ، وما فيهما من المنافع العظيمة للإنسان ، إذ هما يجريان على حساب معلوم وتقدير سوي في بروجهما ومنازلهما . والحسبان مصدر كالغفران ، وهو بمعنى الحساب ، قاله قتادة . وقال الضحاك وأبو عبيدة : جمع حساب ، كشهاب وشهبان . قال ابن عباس وأبو مالك وقتادة : لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج ، وغير ذلك حسبانات شتى . وقال ابن زيد : لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً يريد من مقادير الزمان . وقال مجاهد : الحسبان : الفلك المستدير ، شبهه بحسبان الرحى ، وهو العود المستدير الذي باستدارته تستدير المطحنة . وارتفع الشمس على الابتداء وخبره بحسبان ، فأما على حذف ، أي جري الشمس والقمر كائن بحسبان . وقيل : الخبر محذوف ، أي يجريان بحسبان ، وبحسبان متعلق بيجريان ، وعلى قول مجاهد : تكون الباء في بحسبان ظرفية ، لأن الحسبان عنده الفلك .
الرحمن : ( 6 ) والنجم والشجر يسجدان
ولما ذكر تعالى ما أنعم به من منفعة الشمس والقمر ، وكان ذلك من الآيات العلوية ، ذكر في مقابلتهما من الآثار السفلية النجم والشجر ، إذ كانا رزقاً للإنسان ، وأخبر أنهما جاريان على ما أراد الله بهما ، من تسخيرهما وكينونتهما على ما اقتضته حكمته تعالى . ولما ذكر ما به حياة الأرواح من تعليم القرآن ، ذكر ما به حياة الأشباح من النبات الذي له ساق ، وكان تقديم النجم ، وهو مالا ساق له ، لأنه أصل القوت ، والذي له ساق ثمره يتفكه به غالباً . والظاهر أن النجم هو الذي شرحناه ، ويدل عليه اقترانه بالشجر . وقال مجاهد وقتادة والحسن : النجم : اسم الجنس من نجوم السماء . وسجودهما ، قال مجاهد والحسن : ذلك في النجم بالغروب ونحوه ، وفي الشجر بالظل واستدارته . وقال مجاهد أيضاً : والسجود تجوز ، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل . والجمل الأول فيها ضمير يربطها بالمبتدأ ، وأما في هاتين الجملتين فاكتفى بالوصل المعنوي عن الوصل اللفظي ، إذ معلوم أن الحسبان هو حسبانه ، وأن السجود له لا لغيره ، فكأنه قيل : بحسبانه ويسجدان له . ولما أوردت هذه الجمل

" صفحة رقم 188 "
مورد تعديد النعم ، رد الكلام إلى العطف في وصل ما يناسب وصله ، والتناسب الذي بين هاتين الجملتين ظاهر ، لأن الشمس والقمر علويان ، والنجم والشجر سفليان .
الرحمن : ( 7 ) والسماء رفعها ووضع . . . . .
( وَالسَّمَاء رَفَعَهَا ( : أي خلقها مرفوعة ، حيث جعلها مصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين ينزلون بالوحي على أنبيائه ، ونبه بذلك على عظم شأنه وملكه . وقرأ الجمهور : ) وَالسَّمَاء ( ، بالنصب على الاشتغال ، روعي مشاكلة الجملة التي تليه وهي ) يَسْجُدَانِ ). وقرأ أبو السمال : والسماء بالرفع ، راعى مشاكلة الجملة الابتدائية . وقرأ الجمهور : ) وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( ، فعلاً ماضياً ناصباً الميزان ، أي أقره وأثبته . وقرأ إبراهيم : ووضع الميزان ، بالخفض وإسكان الضاد . والظاهر أنه كل ما يوزن به الأشياء وتعرف مقاديرها ، وإن اختلفت الآلات ، قال معناه ابن عباس والحسن وقتادة ، جعله تعالى حاكماً بالسوية في الأخذ والإعطاء . وقال مجاهد والطبري والأكثرون : الميزان : العدل ، وتكون الآلات من بعض ما يندرج في العدل . بدأ أولاً بالعلم ، فذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن ؛ ثم ذكر ما به التعديل في الأمور ، وهو الميزان ، كقوله : ) وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ( ، ليعلموا الكتاب ويفعلوا ما يأمرهم به الكتاب .
الرحمن : ( 8 ) ألا تطغوا في . . . . .
( أَن لا تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ ( : أي لأن لا تطغوا ، فتطغوا منصوب بأن . وقال الزمخشري : أو هي أن المفسرة . وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون أن مفسرة ، فيكون تطغوا جزماً بالنهي . انتهى ، ولا يجوز ما قالاه من أن أن مفسرة ، لأنه فات أحد شرطيها ، وهو أن يكون ما قبلها جملة فيها معنى القول . ) وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( جملة ليس فيها معنى القول . والطغيان في الميزان هو أن يكون بالتعمد ، وأما مالا يقدر عليه من التحرير بالميزان فمعفو عنه .
الرحمن : ( 9 ) وأقيموا الوزن بالقسط . . . . .
ولما كانت التسوية مطلوبة جداً ، أمر الله تعالى فقال : ) وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ ). وقرأ الجمهور : ) وَلاَ تُخْسِرُواْ ( ، من أخسر : أي أفسد ونقص ، كقوله : ) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( ؛ أي ينقصون . وبلال بن أبي بردة وزيد بن علي : تخسر بفتح التاء ، يقال : خسر يخسر ، وأخسر يخسر بمعنى واحد ، كجبر وأجبر . وحكى ابن جني وصاحب اللوامح ، عن بلال : فتح التاء والسين مضارع خسر بكسر السين ، وخرجها الزمخشري على أن يكون التقدير : في الميزان ، فحذف الجار ونصب ، ولا يحتاج إلى هذا التخريج . ألا ترى أن خسر جاء متعدياً كقوله تعالى : ) خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ( ، و ) خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةَ ( ؟ وقرىء أيضاً : تخسروا ، بفتح التاء وضم السين . لما منع من الزيادة ، وهي الطغيان ، نهى عن الخسران الذي هو نقصان ، وكرر لفظ الميزان ، تشديداً للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه .
الرحمن : ( 10 ) والأرض وضعها للأنام
ولما ذكر السماء ، ذكر مقابلتها فقال : ) وَالاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ ( : أي خفضها مدحوة على الماء لينتفع بها . وقرأ الجمهور : والأرض بالنصب ؛ وأبو السمال : بالرفع . والأنام ، قال ابن عباس : بنو آدم فقط . وقال أيضاً هو وقتادة وابن زيد والشعبي : الحيوان كله . وقال الحسن : الثقلان ، الجن والإنس .
الرحمن : ( 11 ) فيها فاكهة والنخل . . . . .
( فِيهَا فَاكِهَةٌ ( : ضروب مما يتفكه به . وبدأ بقوله : ) فَاكِهَةٍ ( ، إذ هو من باب الابتداء بالأدنى والترقي إلى الأعلى ، ونكر لفظها ، لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما يذكر بعدها . ثم ثنى بالنخل ، فذكر الأصل ولم يذكر ثمرتها ، وهو الثمر لكثرة الانتفاع بها من ليف وسعف وجريد وجذوع وجمار وثمر .
الرحمن : ( 12 ) والحب ذو العصف . . . . .
ثم أتى ثالثاً بالحب الذي هو قوام عيش الإنسان في أكثر الأقاليم ، وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه ، ووصفه بقوله : ) ذُو الْعَصْفِ ( تنبيهاً على إنعامه عليهم بما يقوتهم من الحب ، ويقوت بهائمهم من ورقه الذي هو التبن . وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم ، وبينهما النخل والحب ، ليحصل ما به يتفكه ، وما به يتقوت ، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة . وذكر النخل باسمها ، والفاكهة دون شجرها ، لعظم المنفعة بالنخل من جهات متعددة ، وشجرة الفاكهة بالنسبة إلى ثمرتها حقيرة ، فنص على ما يعظم به الانتفاع من شجرة النخل ومن الفاكهة دون شجرتها .
وقرأ الجمهور : ) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ( ، برفع الثلاثة عطفاً على المرفوع قبله ؛ وابن عامر وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بنصب الثلاثة ، أي وخلق الحب . وجوزوا أن يكون ) وَالرَّيْحَانُ ( حالة الرفع وحالة النصب على

" صفحة رقم 189 "
حذف مضاف ، أي وذو الريحان حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ؛ وحمزة والكسائي والأصمعي ، عن أبي عمرو : والريحان بالجر ، والمعنى : والحب ذو العصف الذي هو علف البهائم ، والريحان الذي هو مطعم الناس ، ويبعد دخول المشموم في قراءة الجر ، وريحان من ذوات الواو . وأجاز أبو علي أن يكون اسماً ، ووضع موضع المصدر ، وأن يكون مصدراً على وزن فعلان كاللبان . وأبدلت الواو ياء ، كما أبدلوا الياء واواً في أشاوى ، أو مصدراً شاذاً في المعتل ، كما شذ كبنونة وبينونة ، فأصله ريوحان ، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصار ريحان ، ثم حذفت عين الكلمة ، كما قالوا : ميت وهين .
الرحمن : ( 13 ) فبأي آلاء ربكما . . . . .
ولما عدد تعالى نعمه ، خاطب الثقلين بقوله : ) فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( ، أي أن نعمه كثيرة لا تحصى ، فبأيها تكذبان ؟ أي من هذه نعمه لا يمكن أن يكذب بها . وكان هذا الخطاب للثقلين ، لأنهما داخلان في الأنام على أصح الأقوال . ولقوله : ) خَلَقَ الإِنسَانَ ( ، و ) خُلِقَ الْجَانَّ ( ؛ ولقوله : ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ ( ، وقد أبعد من جعله خطاباً للذكر والأنثى من بني آدم . وأبعد من هذا قول من قال : إنه خطاب على حد قوله : ) أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ ( ، ويا حرسيّ اضربا عنقه ، يعني أنه خطاب للواحد بصورة الاثنين ، فبأي منوناً في جميع السورة ، كأنه حذف منه المضاف إليه وأبدل منه ) رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( بدل معرفة من نكرة ، وآلاء تقدم في الأعراف أنها النعم ، واحدها إلى وألا وإلى وألى .
الرحمن : ( 14 - 15 ) خلق الإنسان من . . . . .
( خَلَقَ الإِنسَانَ ( : لما ذكر العالم الأكبر من السماء والأرض وما أوجد فيها من النعم ، ذكر مبدأ من خلقت له هذه النعم ، والإنسان هو آدم ، وهو قول الجمهور . وقيل : للجنس ، وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق من الصلصال . وإذا أريد بالإنسان آدم ، فقد جاءت غايات له مختلفة ، وذلك بتنقل أصله ؛ فكان أولاً تراباً ، ثم طيناً ، ثم حمأ مسنوناً ، ثم صلصالاً ، فناسب أن ينسب خلقه لكل واحد منها . والجان هو أبو الجن ، وهو إبليس ، قاله الحسن . وقال مجاهد : هو أبو الجن ، وليس بإبليس . وقيل : الجان اسم جنس ، والمارج : ما اختلط من أصفر وأحمر وأخضر ، أو اللهب ، أو الخالص ، أو الحمرة في طرف النار ، أو المختلط بسواد ، أو المضطرب بلا دخان ، أقوال ، ومن الأولى لابتداء الغاية ، والثانية في ) مّن نَّارٍ ( للتبعيض . وقيل للبيان والتكرار في هذه الفواصل : للتأكيد والتنبيه والتحريك ، وهي موجودة في مواضع من القرآن . وذهب قوم منهم ابن قتيبة إلى أن هذا التكرار إنما هو لاختلاف النعم ، فكرر التوقيف في كل واحد منها .
الرحمن : ( 16 - 17 ) فبأي آلاء ربكما . . . . .
وقرأ الجمهور : ) رَبّ ( ، و ) رَبّ ( بالرفع ، أي هو رب ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بالخفض بدلاً من ربكما ، وثنى المضاف إليه لأنهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما ، قاله مجاهد . وقيل : مشرقا الشمس والقمر ومغرباهما . وعن ابن عباس : للشمس مشرق في الصيف مصعد ، ومشرق في الشتاء منحدر ، تنتقل فيهما مصعدة ومنحدرة . انتهى . فالمشرقان والمغربان للشمس . وقيل : المشرقان : مطلع الفجر ومطلع الشمس ، والمغربان مغرب الشفق ومغرب الشمس . ولسهل التستري كلام في المشرقين والمغربين شبيه بكلام الباطنية المحرفين مدلول كلام الله ، ضربنا عن ذكره صفحاً . وكذلك ما وقفنا عليه من كلام الغلاة الذين ينسبون للصوفية ، لأنا لا نستحل نقل شيء منه . وقد أولغ صاحب كتاب التحرير والتحبير بحسب ما قاله هؤلاء الغلاة في كل آية آية ، ويسمي ذلك الحقائق ، وأرباب القلوب وما ادعوا فهمه في القرآن فأغلوا فيه ، لم يفهمه عربي قط ، ولا أراده الله تعالى بتلك الألفاظ ، نعوذ بالله من ذلك .
الرحمن : ( 19 - 20 ) مرج البحرين يلتقيان
مرج البحرين : تقدم الكلام على ذلك في الفرقان . قال ابن عطية : وذكر الثعلبي في مرج البحرين ألغازاً وأقوالاً باطنة لا يلتفت إلى شيء منها . انتهى ، والظاهر التقاؤهما ، أي يتجاوزان ، فلا فصل بين الماءين في رؤية العين . وقيل : يلتقيان في كل سنة مرة . وقيل : معدان للالتقاء ، فحقهما أن يلتقيا لولا البرزخ بينهما . ) بَرْزَخٌ ( : أي حاجز من قدرة الله تعالى ، ( لاَّ يَبْغِيَانِ ( : لا يتجاوزان حدهما ، ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممارجة . وقيل : البرزخ : أجرام الأرض ، قاله قتادة ؛ وقيل : لا يبغيان : أي على الناس والعمران ، وعلى هذا والذي قبله يكون من البغي . وقيل : هو من بغى ، أي طلب ، فالمعنى : لا يبغيان حالاً غير الحال التي خلقا عليها

" صفحة رقم 190 "
وسخرا لها . وقيل : ماء الأنهار لا يختلط بالماء الملح ، بل هو بذاته باق فيه . وقال ابن عطية : والعيان لا يقتضيه . انتهى ، يعني أنه يشاهد الماء العذب يختلط بالملح فيبقي كله ملحاً ، وقد يقال : إنه بالاختلاط تتغير أجرام العذب حتى لا تظهر ، فإذا ذاق الإنسان من الملح المنبث فيه تلك الأجزاء الدقيقة لم يحس إلا الملوحة ، والمعقول يشهد بذلك ، لأن تداخل الأجسام غير ممكن ، لكن التفرق والالتقاء ممكن . وأنشد القاضي منذر بن سعيد البلوطي ، رحمه الله تعالى : وممزوجة الأمواه لا العذب غالب
على الملح طيباً لا ولا الملح يعذب
الرحمن : ( 22 ) يخرج منهما اللؤلؤ . . . . .
وقرأ الجمهور : ) يَخْرُجُ ( مبنياً للفاعل ؛ ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة : مبنياً للمفعول ؛ والجعفي ، عن أبي عمرو : بالياء مضمومة وكسر الراء ، أي يخرج الله ؛ وعنه وعن أبي عمرو ، وعن ابن مقسم : بالنون . واللؤلؤ والمرجان نصب في هاتين القراءتين . والظاهر في ) مِنْهُمَا ( أن ذلك يخرج من الملح والعذب . وقال بذلك قوم ، حكاه الأخفش . ورد الناس هذا القول ، قالوا : والحس يخالفه ، إذ لا يخرج إلا من الملح ، وعابوا قول الشاعر : فجاء بها ما شئت من لطيمة
على وجهها ماء الفرات يموج
وقال الجمهور : إنما يخرج من الأجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة ، فناسب إسناد ذلك إليهما ، وهذا مشهور عند الغواصين . وقال ابن عباس وعكرمة : تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر ، لأن الصدف وغيرها تفتح أفواهها للمطر ، فلذلك قال ) مِنْهُمَا ). وقال أبو عبيدة : إنما يخرج من الملح ، لكنه قال ) مِنْهُمَا ( تجوزاً . وقال الرماني : العذب فيها كاللقاح للملح ، فهو كما يقال ؛ الولد يخرج من الذكر والأنثى . وقال ابن عطية ، وتبع الزجاج من حيث هما نوع واحد ، فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما ، وإن كانت تختص عند التفصيل المبالغ بأحدهما ، كما قال : ) سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ( ، وإنما هو في إحداهن ، وهي الدنيا إلى الأرض . وقال الزمخشري نحواً من قول ابن عطية ، قال : فإن قلت : لم قال ) مِنْهُمَا ( ، وإنما يخرجان من الملح قلت : لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ، جاز أن يقال : يخرجان منهما ، كما يقال : يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميع البحر ، ولكن من بعضه . وتقول : خرجت من البلد ، وإنما خرجت من محلة من محالة ، بل من دار واحدة من دوره . وقيل : لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب . انتهى . وقال أبو علي الفارسي : هذا من باب حذف المضاف ، والتقدير : يخرج من أحدهما ، كقوله تعالى : ) عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( : أي من إحدى القريتين . وقيل : هما بحران ، يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان . وقال أبو عبد الله الرازي : كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس ، ومن أعلم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب ، وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من المالح . ولكن لم قلتم إن الصدف لا يخرج بأمر الله من الماء العذب إلى الماء الملح وكيف يمكن الجزم به والأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد ، فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم ؟ واللؤلؤ ، قال ابن عباس والضحاك وقتادة : كبار الجوهر ؛ والمرجان صغاره . وعن ابن عباس أيضاً ، وعلي ومرة الهمداني عكس هذا . وقال أبو عبد الله وأبو مالك : المرجان : الحجر الأحمر . وقال الزجاج : حجر شديد البياض . وحكي القاضي أبو يعلى أنه ضرب من اللؤلؤ ، كالقضبان ، والمرجان : اسم أعجميّ معرب . قال ابن دريد : لم أسمع فيه نقل متصرف ، وقال الأعشى : من كل مرجانة في البحر أحرزها
تيارها ووقاها طينها الصدف

" صفحة رقم 191 "
قيل : أراد اللؤلؤة الكبيرة . وقرأ طلحة : اللؤلؤ بكسر اللام الثالثة ، وهي لغة . وعبد اللولي : تقلب الهمزة المتطرفة ياء ساكنة بعد كسرة ما قبلها ، وهي لغة ، قاله أبو الفضل الرازي .
الرحمن : ( 24 ) وله الجوار المنشآت . . . . .
( وَلَهُ الجوار ( : خص تعالى الجواري بأنها له ، وهو تعالى له ملك السموات والأرض وما فيهن ، لأنهم لما كانوا هم منشئيها ، أسندها تعالى إليه ، إذ كان تمام منفعتها إنما هو منه تعالى ، فهو في الحقيقة مالكها . والجواري : السفن . وقرأ عبد الله والحسن وعبد الوارث ، عن أبي عمرو : بضم الراء ، كما قالوا في شاك شاك . وقرأ الجمهور ؛ ) المنشآت ( بفتح الشين ، اسم مفعول : أي أنشأها الله ، أو الناس ، أو المرفوعات الشراع . وقال مجاهد : ما له شراع من المنشآت ، وما لم يرفع له شراع ، فليس من المنشآت . والشراع : القلع . والأعمش وحمزة وزيد بن علي وطلحة وأبو بكر : بخلاف عنه ، بكسر الشين : أي الرافعات الشراع ، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن ، أو التي تنشىء السفر إقبالاً وإدباراً . وشدد الشين ابن أبي عبلة والحسن المنشأة ، وحد الصفة ، ودل على الجمع الموصوف ، كقوله : ) فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَةٌ ( ، وقلب الهمزة ألفاً على حد قوله :
إن السباع لتهدي في مرابضها
يريد : لتهدأ ، التاء لتأنيث الصفة ، كتبت تاء على لفظها في الوصل . ) كَالاْعْلَامِ ( : أي كالجبال والآكام ، وهذا يدل على كبر السفن حيث شبهها بالجبال ، وإن كانت المنشآت تنطلق على السفينة الكبيرة والصغيرة .
الرحمن : ( 26 - 27 ) كل من عليها . . . . .
وعبر بمن في قوله : ) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا ( تغليباً لمن يعقل ، والضمير في ) عَلَيْهَا ( قليل عائد على الأرض في قوله : ) وَالاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ ( ، فعاد الضمير عليها ، وإن كان بعد لفظها . والفناء عبارة عن إعدام جميع الموجودات من حيوان وغيره ، والوجه يعبر به عن حقيقة الشيء ، والجارجة منتفية عن الله تعالى ، ونحو كل شيء هالك إلا وجهه . وتقول صعاليك مكة : أين وجه عربي كريم يجود عليّ ؟ وقرأ الجمهور : ذو بالواو ، وصفة للوجه ؛ وأبي وعبد الله : ذي بالياء ، صفة للرب . والظاهر أن الخطاب في قوله : ) وَجْهُ رَبّكَ ( للرسول ، وفيه تشريف عظيم له ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : الخطاب لكل سامع . ومعنى ) ذُو الْجَلْالِ ( : الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم ، أو الذي يتعجب من جلاله ، أو الذي عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده .
الرحمن : ( 29 ) يسأله من في . . . . .
( يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : أي حوائجهم ، وهو ما يتعلق بمن في السموات من أمر الدين وما استعبدوا به ، ومن في الأرض من أمر دينهم ودنياهم . وقال أبو صالح : من في السموات : الرحمة ، وسن في الأرض : المغفرة والرزق . وقال ابن جريج : الملائكة الرزق لأهل الأرض ، والمغفرة وأهل الأرض يسألونهما جميعاً . والظاهر أن قوله : يسأله استئناف إخبار . وقيل : حال من الوجه ، والعامل فيه يبقى ، أي هو دائم في هذه الحال . انتهى ، وفيه بعد . ومن لا يسأل ، فحاله تقتضي السؤال ، فيصح إسناد السؤال إلى الجميع باعتبار القدر المشترك ، وهو الافتقار إليه تعالى .
( كُلَّ يَوْمٍ ( : أي كل ساعة ولحظة ، وذكر اليوم لأن الساعات واللحظات في ضمنه . ) هُوَ فِى شَأْنٍ ( ، قال ابن عباس : في شأن يمضيه من الخلق والرزق والإحياء والإماتة . وقال عبيد بن عمير : يجيب داعياً ، ويفك عانياً ، ويتوب على قوم ، ويغفر لقوم . وقال سويد بن غفلة : يعتق رقاباً ، ويعطي رغاماً ويقحم عقاباً . وقال ابن عيينة : الدهر عند الله يومان ، أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا ، فشأنه فيه الأمر والنهى والإمانة والإحياء ؛ والثاني الذي هو يوم القيامة ، فشأنه فيه الجزاء والحساب . وعن مقاتل : نزلت في اليهود ، فقالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً . وقال الحسين بن الفضل ، وقد سأله عبد الله بن طاهر عن قوله : ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ( : وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة فقال : شؤون يبديها ، لا شؤون يبتديها . وقال ابن بحر : هو في يوم الدنيا في الابتلاء ، وفي يوم القيامة في الجزاء . وانتصب ) كُلَّ يَوْمٍ ( على الظرف ، والعامل فيه العامل في قوله : ) فِى شَأْنٍ ( ، وهو مستقر المحذوف ، نحو : يوم الجمعة زيد قائم .
قوله عز وجل : ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ تُكَذّبَانِ يامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا

" صفحة رقم 192 "
تَنتَصِرَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدّهَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ).
الرحمن : ( 31 ) سنفرغ لكم أيها . . . . .
لما ذكر تعالى ما أنعم به من تعليم العلم وخلق الإنسان والسماء والأرض وما أودع فيهما وفناء ما على الأرض ، ذكر ما يتعلق بأحوال الآخرة الجزاء وقال : ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ ( : أي ننظر في أموركم يوم القيامة ، لا أنه تعالى كان له شغل فيفرغ منه . وجرى على هذا كلام العرب في أن المعنى : سيقصد لحسابكم ، فهو استعارة من قول الرجل لمن يتهدده : سأفرغ لك ، أي سأتجرد للإيقاع بك من كل ما شغلني عنه حتى لا يكون لي شغل سواه ، والمراد التوفر على الانتقام منه . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون التوعد بعذاب في الدنيا ، والأول أبين . انتهى ، يعني : أن يكون ذلك يوم القيامة . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا ويبلغ آخرها ، وتنتهي عند ذلك شؤون الخلق التي أرادها بقوله : ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ( ، فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل . انتهى . والذي عليه أئمة اللغة أن فرغ تستعمل عند انقضاء الشغل الذي كان الإنسان مشتغلاً به ، فلذلك احتاج قوله إلى التأويل على أنه قد قد قيل : إن فرغ يكون بمعنى قصد واهتم ، واستدل على ذلك بما أنشده ابن الأنباري لجرير : الآن وقد فرغت إلى نمير
فهذا حين كنت لهم عذابا
أي : قصدت . وأنشد النحاس :
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل
وفي الحديث : ( فرغ ربك من أربع ) ، وفيه : ( لأتفرغن إليك يا خبيث ) ، يخاطب به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إرب العقبة يوم بيعتها : أي لأقصدن إبطال أمرك ، نقل هذا عن الخليل والكسائي والفراء . وقرأ الجمهور : سنفرغ بنون العظمة وضم الراء ، من فرغ بفتح الراء ، وهي لغة الحجاز ؛ وحمزة والكسائي وأبو حيوة وزيد بن علي : بياء الغيبة ؛ وقتادة والأعرج : بالنون وفتح الراء ، مضارع فرغ بكسرها ، وهي تميمية ؛ وأبو السمال وعيسى : بكسر النون وفتح الراء . قال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر ؛ والأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما ؛ وابن أبي عبلة والزعفراني : بضم الياء وفتح الراء ، مبنياً للمفعول ؛ وعيسى أيضاً : بفتح النون وكسر الراء ؛ والأعراج أيضاً : بفتح الياء والراء ، وهي رواية يونس والجعفي وعبد الوارث عن أبي عمرو . والثقلان : الإنس والجن ، سميا بذلك لكونهما ثقيلين على وجه الأرض ، أو لكونهما مثقلين بالذنوب ، أو لثقل الإنس . وسمي الجن ثقلاً لمجاورة الإنس ، والثقل : الأمر العظيم . وفي الحديث : ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ) ، سميا بذلك لعظمهما وشرفهما .
الرحمن : ( 33 ) يا معشر الجن . . . . .
والظاهر أن قوله : ) يا معشر

" صفحة رقم 193 "
الآية من خطاب الله إياهم يوم القيامة ، ( أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ). وقيل : يقال لهم ذلك . قال الضحاك : يفرون في أقطار الأرض لما يرون من الهول ، فيجدون الملائكة قد أحاطت بالأرض ، فيرجعون من حيث جاءوا ، فحينئذ يقال لهم ذلك . وقيل : هو خطاب في الدنيا ، والمعنى : إن استطعتم الفرار من الموت . وقال ابن عباس : ) إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ( بأذهانكم وفكركم ، ( أَن تَنفُذُواْ ( ، فتعلمون علم ) أَقْطَارِ ( : أي جهات ) السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ). قال الزمخشري : ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ ( ، كالترجمة لقوله : ) أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ ( ، ( إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ( أن تهربوا من قضائي ، وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي فافعلوا ؛ ثم قال : لا تقدرون على النفوذ ) إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ( ، يعني : بقوة وقهر وغلبة ، وأنى لكم ذلك ، ونحوه : ) وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء ). انتهى . ) فَانفُذُواْ ( : أمر تعجيز . وقال قتادة : السلطان هنا الملك ، وليس لهم ملك . وقال الضحاك أيضاً : بينما الناس في أسواقهم ، انفتحت السماء ونزلت الملائكة ، فتهرب الجن والإنس ، فتحدق بهم الملائكة . وقرأ زيد بن علي : إن استطعتما ، على خطاب تثنية الثقلين ومراعاة الجن والإنس ؛ والجمهور : على خطاب الجماعة إن استطعتم ، لأن كلاً منهما تحته أفراد كثيرة ، كقوله : ) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ).
الرحمن : ( 35 ) يرسل عليكما شواظ . . . . .
( يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ شُوَاظٌ ( ، قال ابن عباس : إذا خرجوا من قبورهم ، ساقهم شواظ إلى المحشر . والشواظ : لهب النار . وقال مجاهد : اللهب الأحمر المنقطع . وقال الضحاك : الدخان الذي يخرج من اللهب . وقرأ الجمهور : شواظ ، بضم الشين ؛ وعيسى وابن كثير وشبل : بكسرها . والجمهور ؛ ) وَنُحَاسٌ ( : بالرفع ؛ وابن أبي إسحاق والنخعي وابن كثير وأبو عمرو : بالجر ؛ والكلبي وطلحة ومجاهد : بكسر نون نحاس والسين . وقرأ ابن جبير : ونحس ، كما تقول : يوم نحس . وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق أيضاً : ونحس مضارعاً ، وماضيه حسه ، أي قتله ، أي ويحس بالعذاب . وعن ابن أبي إسحاق أيضاً : ونحس بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير ؛ وحنظلة بن نعمان : ونحس بفتح النون وكسر السين ؛ والحسن وإسماعيل : ونحس بضمتين والكسر . وقرأ زيد بن علي : نرسل بالنون ، عليكما شواظاً بالنصب ، من نار ونحاساً بالنصب عطفاً على شواظاً . قال ابن عباس وابن جبير والنحاس : الدخان ؛ وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد : هو الصفر المعروف ، والمعنى : يعجز الجن والإنس ، أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا ، فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه .
الرحمن : ( 37 ) فإذا انشقت السماء . . . . .
( فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء ( : جواب إذا محذوف ، أي فما أعظم الهول ، وانشقاقها : انفطارها يوم القيامة . ) فَكَانَتْ وَرْدَةً ( : أي محمرة كالورد . قال ابن عباس وأبو صالح : هي من لون الفرس الورد ، فأنث لكون السماء مؤنثة . وقال قتادة : هي اليوم زرقاء ، ويومئذ تغلب عليها الحمرة كلون الورد ، وهي النوار المعروف ، قاله الزجاج ، ويريد كلون الورد ، وقال الشاعر : فلو كانت ورداً لونه لعشقتني
ولكن ربي شانني بسواديا
وقال أبو الجوزاء : وردة صفراء . وقال : أما سمعت العرب تسمي الخيل الورد ؟ قال الفراء : أراد لون الفرس الورد ، يكون في الربيع إلى الصفرة ، وفي الشتاء إلى الحمرة ، وفي اشتداد البرد إلى الغبرة ، فشبه تلون السماء بتلون الوردة

" صفحة رقم 194 "
من الخيل ، وهذا قول الكلبي . ) كَالدّهَانِ ( ، قال ابن عباس : الأديم الأحمر ، ومنه قول الأعشى : وأجرد من كرام الخير طرف
كأن على شواكله دهاناً
وقال الشاعر : كالدهان المختلفة ، لأنها تتلون ألواناً . وقال الضحاك : كالدهان خالصة ، جمع دهن ، كقرط وقراط . وقيل : تصير حمراء من حرارة جهنم ، ومثل الدهن لذوبها ودورانها . وقيل : شبهت بالدهان في لمعانها . وقال الزمخشري : ) كَالدّهَانِ ( : كدهن الزيت ، كما قال : ) كَالْمُهْلِ ( ، وهو دردي الزيت ، وهو جمع دهن ، أو اسم ما يدهن به ، كالحرام والأدام ، قال الشاعر : كأنهما مزادتا متعجل
فريان لما سلعا بدهان
وقرأ عبيد بن عمير : وردة بالرفع بمعنى : فحصلت سماء وردة ، وهو من الكلام الذي يسمى التجريد ، كقوله : فلئن بقيت لأرحلن بغزوة
نحو المغانم أو يموت كريم
انتهى .
الرحمن : ( 39 ) فيومئذ لا يسأل . . . . .
( فَيَوْمَئِذٍ ( : التنوين فيه للعوض من الجملة المحذوفة ، والتقدير : فيوم إذ انشقت السماء ، والناصب ليومئذ ) لاَ يُسْأَلُ ( ، ودل هذا على انتفاء السؤال ، ووقفوهم أنهم مسئولون وغيره من الآيات على وقوع السؤال . فقال عكرمة وقتادة : هي مواطن يسأل في بعضها . وقال ابن عباس : حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ وتقرير ، وحيث نفي فهي استخبار محض عن الذنب ، والله تعالى أعلم بكل شيء . وقال قتادة أيضاً : كانت مسألة ، ثم ختم على الأفواه وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يعملون . وقال أبو العالية وقتادة : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : ولا جأن بالهمز ، فراراً من التقاء الساكنين ، وإن كان التقاؤهما على حده .
الرحمن : ( 41 ) يعرف المجرمون بسيماهم . . . . .
وقرأ حماد بن أبي سليمان : بسيمائهم ؛ والجمهور : ) بِسِيمَاهُمْ ( ، وسيما المجرمين : سواد الوجوه وزرقة العيون ، قاله الحسن ، ويجوز أن يكون غير هذا من التشويهات ، كالعمى والبكم والصمم . ) فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ ( ، قال ابن عباس : يؤخذ بناصيته وقدميه فيوطأ ، ويجمع كالحطب ، ويلقى كذلك في النار . وقال الضحاك : يجمع بينهما في سلسلة من وراء ظهره . وقيل : تسحبهم الملائكة ، تارة تأخذ بالنواصي ، وتارة بالأقدام . وقيل : بعضهم سحباً ، بالناصية ، وبعضهم سحباً بالقدم ؛ ويؤخذ متعد إلى مفعول بنفسه ، وحذف هذا الفاعل والمفعول ، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل مضمناً معنى ما يعدى بالباء ، أي فيسحب بالنواصي والأقدام ، وأل فيهما على مذهب الكوفيين عوض من الضمير ، أي بنواصيهم وأقدامهم ، وعلى مذهب البصريين الضمير محذوف ، أي بالنواصي والأقدام منهم .
الرحمن : ( 43 - 44 ) هذه جهنم التي . . . . .
( هَاذِهِ جَهَنَّمُ ( : أي يقال لهم ذلك على طريق التوبيخ والتقريع . ) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا ( : أي يتردّدون بين نارها وبين ما غلى فيها من مائع عذابها . وقال قتادة : الحميم يغلي منذ خلق الله جهنم ، وآن : أي منتهى الحر والنضج ، فيعاقب بينهم وبين تصلية النار ، وبين شرب الحميم . وقيل : إذا استغاثوا من النار ، جعل غياثهم الحميم . وقيل : يغمسون في واد في جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ، ثم يخرجون منه ، وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً . وقرأ علي والسلمي : يطافون ؛ والأعمش وطلحة وابن

" صفحة رقم 195 "
مقسم : يطوفون بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة . وقرىء : يطوفون ، أي يتطوفون ؛ والجمهور : يطوفون مضارع طاف .
الرحمن : ( 46 ) ولمن خاف مقام . . . . .
قوله تعالى : ) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( ، قال ابن الزبير : نزلت في أبي بكر . ) مَقَامَ رَبّهِ ( مصدر ، فاحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل ، أي قيام ربه عليه ، وهو مروي عن مجاهد ، قال : من قوله : ) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( ، أي حافظ مهيمن ، فالعبد يراقب ذلك ، فلا يجسر على المعصية . وقيل : الإضافة تكون بأدنى ملابسة ، فالمعنى أنه يخاف مقامه الذي يقف فيه العباد للحساب ، من قوله : ) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( ، وفي هذه الإضافة تنبيه على صعوبة الموقف . وقيل : مقام مقحم ، والمعنى : ولمن خاف ربه ، كما تقول : أخاف جانب فلان يعني فلاناً . والظاهر أن لكل فرد فرد من الخائفين ) جَنَّتَانِ ( ، قيل : إحداهما منزله ، والأخرى لأزواجه وخدمه . وقال مقاتل : جنة عدن ، وجنة نعيم . وقيل : منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته . وقيل : هما للخائفين ؛ والخطاب للثقلين ، فجنة للخائف الجني ، وجنة للخائف الإنسي . وقال أبو موسى الأشعري : جنة من ذهب للسابقين ، وجنة من فضة للتابعين . وقال الزمخشري : ويجوز أن يقال : جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي ، لأن التكليف دائر عليهما . وأن يقال : جنة يبات بها ، وأخرى تضم إليها على وجه التفضل لقوله وزيادة ؛
الرحمن : ( 48 ) ذواتا أفنان
وخص الأفنان بالذكر جمع فنن ، وهي الغصون التي تتشعب عن فروع الشجر ، لأنها التي تورق وتثمر ، ومنها تمتد الظلال ، ومنها تجنى الثمار . وقيل : الأفنان جمع فن ، وهي ألوان النعم وأنواعها ، وهي قول ابن عباس ، والأول قال قريباً منه مجاهد وعكرمة ، وهو أولى ، لأن أفعالاً في فعل أكثر منه في فعل بسكون العين ، وفن يجمع على فنون .
الرحمن : ( 50 ) فيهما عينان تجريان
) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( ، قال ابن عباس : هما عينان مثل الدنيا أضعافاً مضاعفة . وقال : تجريان بالزيادة والكرامة على أهل الجنة . وقال الحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحداهما التسنيم ، والأخرى السلسبيل . وقال ابن عطية : إحداهما من ماء ، والأخرى من خمر . وقيل : تجريان في الأعالي والأسافل من جبل من مسك .
الرحمن : ( 52 ) فيهما من كل . . . . .
( زَوْجَانِ ( ، قال ابن عباس : ما في الدنيا من شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة ، حتى شجر الحنظل ، إلا أنه حلواً . انتهى . ومعنى زوجان : رطب ويابس ، لا يقصر هذا عن ذاك في الطيب واللذة . وقيل : صنفان ، صنف معروف ، وصنف غريب . وجاء الفصل بين قوله : ) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( وبين قوله : ) فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ ( بقوله : ) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ). والأفنان عليها الفواكه ، لأن الداخل إلى البستان لا يقدم إلا للتفرج بلذة ما فيه بالنظر إلى خضرة الشجر وجري الأنهار ، ثم بعد يأخذ في اجتناء الثمار للأكل .
الرحمن : ( 54 ) متكئين على فرش . . . . .
وانتصب ) مُتَّكِئِينَ ( على الحال من قوله : ) وَلِمَنْ خَافَ ( ، وحمل جمعاً على معنى من . وقيل : العامل محذوف ، أي يتنعمون متكئين . وقال الزمخشري : أي نصب على المدح ، والاتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب ، والمعنى : ) مُتَّكِئِينَ ( في منازلهم ) عَلَى فُرُشٍ ). وقرأ الجمهور : وفرش بضمتين ؛ وأبو حيوة : بسكون الراء . وفي الحديث : ( قيل لرسول لله ( صلى الله عليه وسلم ) ) هذه البطائن من استبرق ، كيف الظهائر ؟ قال : هي من نور يتلألأ ) ، ولو صح هذا لم يجز أن يفسر بغيره . وقيل : من سندس . قال الحسن والفراء : البطائن هي الظهائر . وروي عن قتادة ، وقال الفراء : قد تكون البطانة الظهارة ، والظهارة البطانة ، لأن كلاً منهما يكون وجهاً ، والعرب تقول : هذا وجه السماء ، وهذا بطن السماء .
قوله عز وجل : ) وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَىّ الاء تُكَذّبَانِ تُكَذّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ حُورٌ مَّقْصُوراتٌ فِى الْخِيَامِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ فَبِأَىّ ءالاء

" صفحة رقم 196 "
رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ).
الرحمن : ( 55 ) فبأي آلاء ربكما . . . . .
قال ابن عباس : تجتنيه قائماً وقاعداً ومضطجعاً ، لا يرد يده بعد ولا شوك وقرأ عيسى : بفتح الجيم وكسر النون ، كأنه أمال النون ، وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ ، كما أمال أبو عمرو ) حَتَّى نَرَى اللَّهَ ). وقرىء : وجنى بكسر الجيم . والضمير في ) فِيهِنَّ ( عائد على الجنان الدال عليهن جنتان ، إذ كل فرد فرد له جنتان ، فصح أنها جنان كثيرة ، وإن كان الجنتان أريد بهما حقيقة التثنية ، وأن لكل جنس من الجن والإنس جنة واحدة ، فالضمير يعود على ما اشتملت عليه الجنة من المجالس والقصور والمنازل . وقيل : يعود على الفرش ، أي فيهن معدات للاستماع ، وهو قول حسن قريب المأخذ . وقال الزمخشري : فيهن في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والجنى . انتهى ، وفيه بعد . وقال الفراء : كل موضع من الجنة جنة ، فلذلك قال : ) فِيهِنَّ ( ،
الرحمن : ( 56 ) فيهن قاصرات الطرف . . . . .
والطرف أصله مصدر ، فلذلك وحد . والظاهر أنهن اللواتي يقصرون أعينهن على أزواجهن ، فلا ينظرن إلى غيرهم . قال ابن زيد : تقول لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك . وقيل : الطرف طرف غيرهن ، أي قصرن عيني من ينظر إليهن عن النظر إلى غيرهن .
( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ ( ، قال ابن عباس : لم يفتضهن قبل أزواجهن . وقيل : لم يطأهن على أي وجه . كان الوطء من افتضاض أو غيره ، وهو قول عكرمة . والضمير في ) قَبْلَهُمْ ( عائد على من عاد عليه الضمير في ) مُتَّكِئِينَ ). وقرأ الجمهور : بكسر ميم يطمثهن في الموضعين ؛ وطلحة وعيسى وأصحاب عبد الله وعليّ : بالضم . وقرأ ناس : بضم الأول وكسر الثاني ، وناس بالعكس ، وناس بالتخيير ، والجحدري : بفتح الميم فيهما ، ونفي وطئهن عن الإنس ظاهر وأما عن الجن ، فقال مجاهد والحسن : قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن ، إذ لم يذكر الزوج الله تعالى ، فنفى هنا جميع المجامعين . وقال ضمرة بن حبيب : الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم ، فنفي الافتضاض عن البشريات والجنيات .
الرحمن : ( 58 ) كأنهن الياقوت والمرجان
قال قتادة : ) كَأَنَّهُنَّ ( على صفاء الياقوت وحمرة المرجان ، لو أدخلت في الياقوت سلكاً ، ثم نظرت إليه ، لرأيته من ورائه . انتهى . وفي الترمذي : أن المرأة من نساء الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة مخها . وقال ابن عطية : الياقوت والمرجان من الأشياء التى يرتاح بحسنها ، فشبه بهما فيما يحسن التشبيه به ، فالياقوت في إملاسه وشفوفه ، والمرجان في إملاسه وجمال منظره ، وبهذا النحو من النظر سمت العرب النساء بذلك ، كدرة بنت أبي لهب ، ومرجانة أم سعيد . انتهى .
الرحمن : ( 60 ) هل جزاء الإحسان . . . . .
( هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ ( في العمل ، ( إِلاَّ الإحْسَانُ ( في الثواب ؟ وقيل : هل جزاء التوحيد إلا الجنة ؟ وقرأ ابن أبي إسحاق : إلا الحسان يعني : بالحسان الحور العين .
الرحمن : ( 62 ) ومن دونهما جنتان
) وَمِن دُونِهِمَا ( : أي من دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر ، ( جَنَّتَانِ ( لأصحاب اليمين ، والأوليان هما للسابقين ، قاله ابن زيد والأكثرون . وقال الحسن : الأوليان للسابقين ، والأخريان للتابعين . وقال ابن عباس : ) وَمِن دُونِهِمَا ( في القرب للمنعمين ، والمؤخرتا الذكر أفضل من الأوليين . يدل على ذلك أنه وصف عيني هاتين بالنضخ ، وتينك بالجري فقط ؛ وهاتين بالدهمة

" صفحة رقم 197 "
من شدة النعمة ، وتينك بالأفنان ، وكل جنة ذات أفنان . ورجح الزمخشري هذا القول فقال : للمقربين جنتان من دونهم من أصحاب اليمين ادهامتا من شدة الخضرة ، ورجح غيره القول الأول بذكر جري العينين والنضخ دون الجري ، وبقوله فيهما : ) مِن كُلّ فَاكِهَةٍ ( ، وفي المتأخرتين : ) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ ( ، وبالاتكاء على ما بطائنه من ديباج وهو الفرش ، وفي المتأخرتين الاتكاء على الرفرف ، وهو كسر الخباء ، والفرش المعدة للاتكاء أفضل ، والعبقري : الوشي ، والديباج أعلى منه ، والمشبه بالياقوت والمرجان أفضل في الوصف من خيرات حسان ، والظاهر النضخ بالماء ، وقال ابن جبير : بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة ، كما ينضخ رش المطر . وعنه أيضاً بأنواع الفواكه والماء .
الرحمن : ( 68 ) فيهما فاكهة ونخل . . . . .
( وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( عطف فاكهة ، فاقتضى العطف أن لا يندرجا في الفاكهة ، قاله بعضهم . وقال يونس بن حبيب وغيره : كررهما وهما من أفضل الفاكهة تشريفاً لهما وإشارة بهما ، كما قال تعالى : ) وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ). وقيل : لأن النخل ثمره فاكهة وطعام ، والرمان فاكهة ودواء ، فلم يخلصا للتفكه .
الرحمن : ( 70 ) فيهن خيرات حسان
) فِيهِنَّ خَيْراتٌ ( ، جمع خيرة : وصف بني على فعلة من الخير ، كما بنوا من الشر فقالوا : شرة . وقيل : مخفف من خيرة ، وبه قرأ بكر بن حبيب وأبو عثمان النهدي وابن مقسم ، أي بشدّ الياء . وروي عن أبي عمرو بفتح الياء ، كإنه جمع خايرة ، جمع على فعلة ، وفسر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأم سلمة ذلك فقال : ( خيرات الأخلاق حسان الوجوه ) .
الرحمن : ( 72 ) حور مقصورات في . . . . .
( حُورٌ مَّقْصُوراتٌ ( : أي قصرن في أماكنهن ، والنساء تمدح بذلك ، إذ ملازمتهن البيوت تدل على صيانتهن ، كما قال قيس بن الأسلت : وتكسل عن جاراتها فيزرنها
وتغفل عن أبياتهن فتعذر
قال الحسن : لسن بطوافات في الطرق ، وخيام الجنة : بيوت اللؤلؤ . وقال عمر بن الخطاب : هي در مجوف ، ورواه عبد الله عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الرحمن : ( 74 ) لم يطمثهن إنس . . . . .
( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ ( : أي قبل أصحاب الجنتين ، ودل عليهم ذكر الجنتين .
الرحمن : ( 76 ) متكئين على رفرف . . . . .
( مُتَّكِئِينَ ( ، قال الزمخشري : نصب على الاختصاص . ) عَلَى رَفْرَفٍ ( ، قال ابن عباس وغيره : فضول المجلس والبسط . وقال ابن جبير : رياض الجنة من رف البيت تنعم وحسن . وقال ابن عيينة : الزرابي . وقال الحسن وابن كيسان : المرافق . وقرأ الفراء وابن قتيبة : المجالس . وعبقري ، قال الحسن : بسط حسان فيها صور وغير ذلك يصنع بعبقر . وقال ابن عباس : الزرابي . وقال مجاهد : الديباج الغليظ . وقال ابن زيد : الطنافس . قال الفراء : الثخان منها . وقرأ الجمهور : ) عَلَى رَفْرَفٍ ( ، ووصف بالجمع لأنه اسم جنس ، الواحد منها رفرفة ، واسم الجنس يجوز فيه أن يفرد نعته وأن يجمع لقوله : ) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ( ، وحسن جمعه هنا مقابلته لحسان الذي هو فاصلة . وقال صاحب اللوامح ، وقرأ عثمان بن عفان ، ونصر بن عاصم ، والجحدري ، ومالك بن دينار ،

" صفحة رقم 198 "
وابن محيصن ، وزهير العرقبي وغيره : رفارف جمع لا ينصرف ، خضر بسكون الضاد ، وعباقري بكسر القاف وفتح الياء مشددة ؛ وعنهم أيضاً : ضم الضاد ؛ وعنهم أيضاً : فتح القاف . قال : فأما منع الصرف من عباقري ، وهي الثياب المنسوبة إلى عبقر ، وهو موضع تجلب منه الثياب على قديم الأزمان ، فإن لم يكن بمجاورتها ، وإلا فلا يكون يمنع التصرف من ياءي النسب وجه إلا في ضرورة الشعر . انتهى . وقال ابن خالويه : على رفارف خضر ، وعباقري النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) والجحدري وابن محيصن . وقد روي عمن ذكرنا على رفارف خضر وعباقري بالصرف ، وكذلك روي عن مالك بن دينار . وقرأ أبو محمد المروزي ، وكان نحوياً : على رفارف خضار ، يعني : على وزن فعال . وقال صاحب الكامل : رفارف جمع ، عن ابن مصرف وابن مقسم وابن محيصن ، واختاره شبل وأبو حيوة والجحدري والزعفراني ، وهو الاختيار لقوله : ) خُضْرٍ ( ، وعباقري بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين ، ابن مقسم وابن محيصن ، وروي عنهما التنوين . وقال ابن عطية ، وقرأ زهير العرقبي : رفارف بالجمع والصرف ، وعنه : عباقري بفتح القاف والياء ، على أن اسم الموضع عباقر بفتح القاف ، والصحيح في اسم الموضع عبقر . انتهى . وقال الزمخشري ، وروى أبو حاتم : عباقري بفتح القاف ومنع الصرف ، وهذا لا وجه لصحته . انتهى . وقد يقال : لما منع الصرف رفارف ، شاكله في عباقري ، كما قد ينون ما لا ينصرف للمشاكلة ، يمنع من الصرف للمشاكلة . وقرأ ابن هرمز : خضر بضم الضاد . قال صاحب اللوامح : وهي لغة قليلة . انتهى ، ومنه قول طرفة : أيها الفتيان في مجلسنا
جردوا منها وراداً وشقر
وقال آخر : وما انتميت إلى خور ولا كسف
ولا لئام غداة الروع أوزاع
فشقر جمع أشقر ، وكسف جمع أكسف .
الرحمن : ( 78 ) تبارك اسم ربك . . . . .
وقرأ الجمهور : ) ذِى الْجَلَالِ ( : صفة لربك ؛ وابن عامر وأهل الشام : ذو صفة للاسم ، وفي حرف . أبي عبد الله وأبيّ : ذي الجلال ، كقراءتهما في الموضع الأول ، والمراد هنا بالاسم المسمى . وقيل : اسم مقحم ، كالوجه في ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ( ، ويدل عليه إسناد ) تَبَارَكَ ( لغير الاسم في مواضع ، كقوله : ) تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( ، ( تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاء ( ، ( تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ). وقد صح الإسناد إلى الاسم لأنه بمعنى العلو ، فإذا علا الاسم ، فما ظنك بالمسمى ؟
ولما ختم تعالى نعم الدنيا بقوله : ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ ( ، ختم نعم الآخرة بقوله : ) تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ( وناسب

" صفحة رقم 199 "
هنالك ذكر البقاء والديمومة له تعالى ، إذ ذكر فناء العالم ؛ وناسب هنا ذكر ما اشتق من البركة ، وهي النمو والزيادة ، إذ جاء ذلك عقب ما امتن به على المؤمنين ، وما آتاهم في دار كرامته من الخير وزيادته وديمومته ، ويا ذا الجلال والإكرام من الصفات التي جاء في الحديث أن يدعى الله بها ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام ) .

" صفحة رقم 200 "
56
( سورة الواقعة )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الاٌّ رْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَائِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الاٌّ خِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لاًّصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ خِرِينَ ( )

" صفحة رقم 201 "
الواقعة : ( 1 - 2 ) إذا وقعت الواقعة
رجت الأرض : زلزلت وحركت تحريكاً شديداً بحيث تنهدم الأبنية وتخر الجبال . بست الجبال : فتتت ، وقيل : سيرت ، من قولهم : بس الغنم : ساقها ، ويقال : رجت الأرض وبست الجبال لازمين . المشأمة : من الشؤم ، أو من اليد الشؤمى ، وهي الشمال . الثلاثة : الجماعة ، كثرت أو قلت . وقال الزمخشري : الأمّة من الناس الكثيرة ، وقال الشاعر : وجاءت إليهم ثلاثة خندفية
بجيش كتيار من السيل مزبد
الموضونة : المنسوجة بتركيب بعض أجزائها على بعض ، كحلق الدرع . قال الأعشى : ومن نسج داود موضونة
تسير مع الحي عيراً فعيرا
ومنه : وضين الناقة ، وهو خزامها ، لأنه موضون : أي مفتول . قال الراجز : إليك تغدو قلقاً وضينها
معترضاً في بطنها جنينها
مخالفاً دين النصارى دينها
الإبريق : إفعيل من البريق ، وهو إناء للشرب له خرطوم . قيل : وأذن ، وهو من أواني الخمر عند العرب ، قال الشاعر :

" صفحة رقم 202 "
كأن إبريقهم ظبي على شرف
مقدّم فسبا الكتان ملثوم
وقال عدي بن زيد : وندعو إلى الصباح فجاءت
قينة في يمينها إبريق
صدع القوم بالخمر : لحقهم الصداع في رؤوسهم منها . وقيل : صدعوا : فرقوا . السدر : تقدّم الكلام عليه في سورة سبأ . المخضود : المقطوع شوكه . قال أمية بن أبي الصلت : إن الحدائق في الجنان ظليلة
فيها الكواعب سدرها مخضود
الطلح : شجر الموز ، وقيل : شجر من العضاة كثير الشوك . المسكوب : المصبوب . العروب : المتحببة إلى زوجها . الترب : اللذة ، وهو من يولد هو وآخر في وقت واحد ، سميا بذلك لمسهما التراب في وقت واحد ، والله تعالى أعلم .
( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الاْرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مّنَ الاْوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لاِصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مّنَ الاْوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ). هذه السورة مكية ، ومناسبتها لما قبلها تضمن العذاب للمجرمين ، والنعيم للمؤمنين . وفاضل بين جنتي بعض المؤمنين وجنتي بعض بقوله : ) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( ، فانقسم العالم بذلك إلى كافر ومؤمن مفضول ومؤمن فاضل ؛ وهكذا جاء ابتداء هذه السورة من كونهم أصحاب ميمنة ، وأصحاب مشأمة ، وسباق وهم المقربون ، وأصحاب اليمين والمكذبون المختتم بهم آخر هذه السورة .
وقال ابن عباس : الواقعة من أسماء القيامة ، كالصاخة والطامّة والآزفة ، وهذه الأسماء تقتضي عظم شأنها ، ومعنى ) وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( : أي وقعت التي لا بد من وقوعها ، كما تقول : حدثت الحادثة ، وكانت الكائنة ؛ ووقوع الأمر نزوله ، يقال : وقع ما كنت أتوقعه : أي نزل ما كنت أترقب نزوله . وقال الضحاك : ) الْوَاقِعَةُ ( : الصيحة ، وهي النفخة في الصور . وقيل : ) الْوَاقِعَةُ ( : صخرة بيت المقدس تقع يوم القيامة .

" صفحة رقم 203 "
والعامل في إذا الفعل بعدها على ما قررناه في كتب النحو ، فهو في موضع خفض بإضافة إذا إليها احتاج إلى تقدير عامل ، إذ الظاهر أنه ليس ثم جواب ملفوظ به يعمل بها . فقال الزمخشري : فإن قلت : بم انتصب إذا ؟ قلت : بليس ، كقولك : يوم الجمعة ليس لي شغل ، أو بمحذوف يعني : إذا وقعت ، كان كيت وكيت ، أو بإضمار أذكر . انتهى .
أما نصبها بليس فلا يذهب نحوي ولا من شدا شيئاً من صناعة الإعراب إلى مثل هذا ، لأن ليس في النفي كما ، وما لا تعمل ، فكذلك ليس ، وذلك أن ليس مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان . والقول بأنها فعل هو على سبيل المجاز ، لأن حد الفعل لا ينطبق عليها . والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث ، فإذا قلت : يوم الجمعة أقوم ، فالقيام واقع في يوم الجمعة ، وليس لا حدث لها ، فكيف يكون لها عمل في الظرف ؟ والمثال الذي شبه به ، وهو يوم القيامة ، ليس لي شغل ، لا يدل على أن يوم الجمعة منصوب بليس ، بل هو منصوب بالعامل في خبر ليس ، وهو الجار والمجرور ، فهو من تقديم معمول الخبر على ليس ، وتقديم ذلك مبني على جواز تقديم الخبر الذي لليس عليها ، وهو مختلف فيه ، ولم يسمع من لسان العرب : قائماً ليس زيد . وليس إنما تدل على نفي الحكم الخبري عن الخبري عن المحكوم عليه فقط ، فهي كما ، ولكنه لما اتصلت بها ضمائر الرفع ، جعلها ناس فعلاً ، وهي في الحقيقة حرف نفي كما النافية .
ويظهر من تمثيل الزمخشري إذاً بقوله : يوم الجمعة ، أنه سلبها الدلالة على الشرط الذي هو غالب فيها ، ولو كانت شرطاً ، وكان الجواب الجملة المصدرة بليس ، لزمت الفاء ، إلا إن حذفت في شعر ، إذ ورد ذلك ، فنقول : إذا أحسن إليك زيد فلست تترك مكافأته . ولا يجوز لست بغير فاء ، إلا إن اضطر إلى ذلك . وأما تقديره : إذا وقعت كان كيت وكيت ، فيدل على أن إذا عنده شرطية ، ولذلك قدر لها جواباً عاملاً فيها . وأما قوله : بإضمار اذكر ، فإنه سلبها الظرفية ، وجعلها مفعولاً بها منصوبة باذكر .
و ) كَاذِبَةٌ ( : ظاهره أنه اسم فاعل من كذب ، وهو صفة لمحذوف ، فقدره الزمخشري : نفس كاذبة ، أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله ، وتكذب في تكذيب الغيب ، لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات ، لقوله تعالى : ) فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ( ، ( لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( ) وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ ( ، واللام مثلها في قوله : ) يَقُولُ يالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى ( ، إذ ليس لها نفس تكذبها وتقول لها : لم تكذبي ، كما لها اليوم نفوس كثيرة يقلن لها : لم تكذبي ، أو هي من قولهم : كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم ، إذا شجعته على مباشرته ، وقالت له : إنك تطيقه وما فوقه ، فتعرض له ولا تبال على معنى : أنها وقعة لا تطاق بشدة وفظاعة ، وأن لا نفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور ، وتزين له احتمالها وإطاقتها ، لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذل . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ( ؟ والفراش مثل في الضعف . انتهى ، وهو تكثير وإسهاب . وقدره ابن عطية حال كاذبة ، قال : ويحتمل الكلام على هذا معنيين : أحدهما كاذبة ، أي مكذوب فيما أخبر به عنها ، فسماها كاذبة لهذا ، كما تقول : هذه قصة كاذبة ، أي مكذوب فيها . والثاني : حال كاذبة ، أي لا يمضي وقوعها ، كما تقول : فلان إذا حمل لم يكذب . وقال قتادة والحسن المعنى : ليس لها تكذيب ولا رد ولا منثوية ، فكاذبة على هذا مصدر ، كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين . والجملة من قوله : ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( على ما قدّره الزمخشري من أن إذا معمولة لليس يكون ابتداء السورة ، إلا إن اعتقد أنها جواب لإذا ، أو منصوبة باذكر ، فلا يكون ابتداء كلام . وقال ابن عطية : في موضع الحال ، والذي يظهر لي أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه .
الواقعة : ( 3 ) خافضة رافعة
وقرأ الجمهور : ) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ( برفعهما ، على تقدير هي ؛ وزيد بن علي والحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني واليزيدي في اختياره بنصبهما . قال ابن خالوية : قال الكسائي : لولا أن اليزيدي سبقني إليه لقرأت به ، ونصبهما على الحال . قال ابن عطية : بعد الحال التي هي ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( ، ولك أن تتابع الأحوال ، كما لك أن تتابع أخبار المبتدأ . والقراءة الأولى أشهر وأبدع معنى ، وذلك أن موقع الحال من الكلام موقع ما لو لم يذكر لاستغنى عنه ، وموقع الجمل التي يجزم الخبر بها موقع ما

" صفحة رقم 204 "
يتهم به . انتهى . وهذا الذي قاله سبقه إليه أبو الفضل الرازي . قال في كتاب اللوامح : وذو الحال الواقعة والعامل وقعت ، ويجوز أن يكون ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( حال أخرى من الواقعة بتقدير : إذا وقعت صادقة الواقعة ، فهذه ثلاثة أحوال من ذي حال ، وجازت أحوال مختلفة عن واحد ، كما جازت عنه نعوت متضادة وأخبار كثيرة عن مبتدأ واحد . وإذا جعلت هذه كلها أحوالاً ، كان العامل في ) إِذَا وَقَعَتِ ( محذوفاً يدل عليه الفحوى بتقدير يحاسبون ونحوه . انتهى . وتعداد الأحوال والأخبار فيه خلاف وتفصيل ذكر في النحو ، فليس ذلك مما أجمع عليه النحاة .
قال الجمهور : القيامة تنفظر له السماء والأرض والجبال ، وتنهد له هذه البنية برفع طائفة من الأجرام وبخفض أخرى ، فكأنها عبارة عن شدة الهول والاضطراب . وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك : الصيحة تخفض قوتها لتسمع الأدنى ، وترفعها لتسمع الأقصى . وقال قتادة وعثمان بن عبد الله بن سراقة : القيامة تخفض أقواماً إلى النار ، وترفع أقواماً إلى الجنة ؛ وأخذ الزمخشري هذه الأقوال على عادته وكساها بعض ألفاظ رائعة ، فقال : ترفع أقواماً وتضع آخرين ، أما وصفاً لها بالشدة ، لأن الواقعات العظام كذلك يرتفع فيها ناس إلى مراتب ويتضع ناس ؛ وأما أن الأشقياء يحطون إلى الدركات ، والسعداء يحطون إلى الدرجات ؛ وأما أنها تزلزل الأشياء عن مقارها لتخفض بعضاً وترفع بعضاً ، حيث تسقط السماء كسفاً ، وتنتثر الكواكب وتنكدر ، وتسير الجبال فتمر في الجو مر السحاب . انتهى .
الواقعة : ( 4 - 5 ) إذا رجت الأرض . . . . .
( إِذَا رُجَّتِ ( ، قال ابن عباس : زلزلت وحركت بجذب . وقال أيضاً هو وعكرمة ومجاهد : ) بست ( : فتتت ، وقيل : سيرت . وقرأ زيد بن علي : ) إِذَا رُجَّتِ ( ، و ) بست ( مبنياً للفاعل ، ( وَإِذَا رُجَّتِ ( بدل من ) إِذَا وَقَعَتِ ( ، وجواب الشرط عندي ملفوظ به ، وهو قوله : ) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( ، والمعنى إذا كان كذا وكذا ، فأصحاب الميمنة ما أسعدهم وما أعظم ما يجازون به ، أي إن سعادتهم وعظم رتبتهم عند الله تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم . وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة ، أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال ، لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض . انتهى . ولا يجوز أن ينتصب بهما معاً ، بل بأحدهما ، لأنه لا يجوز أن يجتمع مؤثران على أثر واحد . وقال ابن جني وأبو الفضل الرازي : ) إِذْ رُجَّتِ ( في موضع رفع على أنه خبر للمبتدأ الذي هو ) إِذَا وَقَعَتِ ( ، وليست واحدة منهما شرطية ، بل جعلت بمعنى وقت ، وما بعد إذا أحوال ثلاثة ، والمعنى : وقت وقوع الواقعة صادقة الوقوع ، خافضة قوم ، رافعة آخرين وقت رج الأرض . وهكذا ادعى ابن مالك أن إذا تكون مبتدأ ، واستدل بهذا . وقد ذكرنا في شرح التسهيل ما تبقى به إذا على مدلولها من الشرط ،
الواقعة : ( 6 ) فكانت هباء منبثا
وتقدم شرح الهباء في سورة الفرقان . ) مُّنبَثّاً ( : منتشراً . منبتاً بنقطتين بدل الثاء المثلثة ، قراءة الجمهور ، أي منقطعاً .
الواقعة : ( 7 ) وكنتم أزواجا ثلاثة
) وَكُنتُمْ ( : خطاب للعالم ، ( أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً ( : أصنافاً ثلاثة ، وهذه رتب للناس يوم القيامة .
الواقعة : ( 8 ) فأصحاب الميمنة ما . . . . .
( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( ، قال الحسن والربيع : هم الميامين على أنفسهم . وقيل : الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم . وقيل : أصحاب المنزلة السنية ، كما تقول : هو مني باليمين . وقيل : المأخوذ بهم ذات اليمين ، أو ميمنة آدم المذكورة في حدث الإسراء في الاسودة .
الواقعة : ( 9 ) وأصحاب المشأمة ما . . . . .
( وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ ( : هم من قابل أصحاب الميمنة في هذه الأقوال ، فأصحاب مبتدأ ، ما مبتدأ ثان استفهام في معنى التعظيم ، وأصحاب الميمنة خبر عن ما ، وما بعدها خبر عن أصحاب ، وربط الجملة بالمبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه ، وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتعظيم ، وما تعجب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة ، والمعنى : أي شيء هم .
الواقعة : ( 10 ) والسابقون السابقون
) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( : جوزوا أن يكون مبتدأ وخبراً ، نحو قولهم : أنت أنت ، وقوله : أنا أبو النجم ، وشعري شعري ، أي الذين انتهوا في السبق ، أي الطاعات ، وبرعوا فيها وعرفت حالهم . وأن يكون السابقون تأكيداً لفظياً ، والخبر فيما بعد ذلك ؛ وأن يكون السابقون مبتدأ والخبر فيما بعده ، وتقف على قوله : ) وَالسَّابِقُونَ ( ، وأن يكون متعلق السبق الأول مخالفاً للسبق الثاني . والسابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة ، فعلى هذا جوزوا أن يكون السابقون خبراً لقوله : ) وَالسَّابِقُونَ ( ، وأن يكون صفة والخبر فيما بعده . والوجه الأول ، قال ابن عطية : ومذهب سيبويه أنه يعني السابقون خبر الابتداء ، يعني خبر والسابقون ، وهذا كما

" صفحة رقم 205 "
تقول : الناس الناس ، وأنت أنت ، وهذا على تفخيم الأمر وتعظيمه . انتهى . ويرجح هذا القول أنه ذكر أصحاب الميمنة متعجباً منهم في سعادتهم ، وأصحاب المشأمة متعجباً منهم في شقاوتهم ، فناسب أن يذكر السابقون مثبتاً حالهم معظماً ، وذلك بالإخبار أنهم نهاية في العظمة والسعادة ، والسابقون عموم في السبق إلى أعمال الطاعات ، وإلى ترك المعاصي . وقال عثمان بن أبي سودة : السابقون إلى المساجد . وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين . وقال كعب : هم أهل القرآن . وفي الحديث : ( سئل عن السابقين فقال هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم ) .
الواقعة : ( 11 ) أولئك المقربون
) أُوْلَائِكَ ( : إشارة إلى السابقين المقربين الذين علت منازلهم وقربت درجاتهم في الجنة من العرش .
الواقعة : ( 12 ) في جنات النعيم
وقرأ الجمهور : ) فِي جَنَّاتِ ( ، جمعاً ؛ وطلحة : في جنات مفرداً .
الواقعة : ( 13 - 14 ) ثلة من الأولين
وقسم السابقين المقربين إلى ) ثُلَّةٌ مّنَ الاْوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ ). وقال الحسن : السابقون من الأمم ، والسابقون من هذه الأمة . وقالت عائشة : الفرقتان في كل أمة نبي ، في صدرها ثلة ، وفي آخرها قليل . وقيل : هما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، كانوا في صدر الدنيا ، وفي آخرها أقل . وفي الحديث : ( الفرقتان في أمتي ، فسابق في أول الأمة ثلة ، وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل ) ، وارتفع ثلة على إضمارهم .
الواقعة : ( 15 ) على سرر موضونة
وقرأ الجمهور : ) عَلَى سُرُرٍ ( بضم الراء ؛ وزيد ابن علي وأبو السمال : بفتحها ، وهي لغة لبعض بني تميم وكلب ، يفتحون عين فعل جمع فعيل المضعف ، نحو سرير ، وتقدم ذلك في والصافات . ) مَّوْضُونَةٍ ( ، قال ابن عباس : مرمولة بالذهب . وقال عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت .
الواقعة : ( 16 ) متكئين عليها متقابلين
) مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا ( : أي على السرر ، ومتكئين : حال من الضمير المستكن في ) عَلَى سُرُرٍ ( ، ( مُّتَقَابِلِينَ ( : ينظر بعضهم إلى بعض ، وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء بطائنهم من غل إخواناً .
الواقعة : ( 17 ) يطوف عليهم ولدان . . . . .
( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ ( : وصفوا بالخلد ، وإن كان من في الجنة مخلداً ، ليدل على أنهم يبقون دائماً في سن الولدان ، لا يكبرون ولا يتحولون عن شكل الوصافة . وقال مجاهد : لا يموتون . وقال الفراء : مقرطون بالخلدات ، وهي ضروب من الأقراط .
الواقعة : ( 18 ) بأكواب وأباريق وكأس . . . . .
( وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ ( ، قال : من خمر سائلة جارية معينة .
الواقعة : ( 19 ) لا يصدعون عنها . . . . .
( لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ( ، قال الأكثرون : لا يلحق رؤوسهم الصداع الذي يلحق من خمر الدنيا . وقرأت على أستاذنا العلامة أبي جعفر بن الزبير ، رحمه الله تعالى ، قول علقمة في صفة الخمر : تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها
ولا يخالطها في الرأس تدويم
فقال : هذه صفة أهل الجنة . وقيل : لا يفرقون عنها بمعنى : لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب ، كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق ، كما جاء : فتصدع السحاب عن المدينة : أي فتفرق . وقرأ مجاهد : لا يصدعون ، بفتح الياء وشد الصاد ، أصله يتصدعون ، أدغم التاء في الصاد : أي لا يتفرقون ، كقوله : ) يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ). والجمهور ؛ بضم الياء وخفة الصاد ؛ والجمهور : بجر ) وَفَاكِهَةٍ ( ؛ ولحم وزيد بن علي : برفعهما ، أي ولهم ؛ والجمهور : ) وَلاَ يُنزِفُونَ ( مبنياً للمفعول . قال مجاهد وقتادة وجبير والضحاك : لا تذهب عقولهم سكراً ؛ وابن أبي إسحاق : بفتح الياء وكسر الزاي ، نزف البئر : استفرغ ماءها ، فالمعنى : لا تفرغ خمرهم . وابن أبي إسحاق أيضاً وعبد الله والسلمي والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى : بضم

" صفحة رقم 206 "
الياء وكسر الزاي : أي لا يفنى لهم شراب ،
الواقعة : ( 20 ) وفاكهة مما يتخيرون
) مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ( : يأخذون خيره وأفضله ،
الواقعة : ( 21 ) ولحم طير مما . . . . .
( مّمَّا يَشْتَهُونَ ( : أي يتمنون .
الواقعة : ( 22 ) وحور عين
وقرأ الجمهور : ) وَحُورٌ عِينٌ ( برفعهما ؛ وخرج عليّ على أن يكون معطوفاً على ) وِلْدانٌ ( ، أو على الضمير المستكن في ) مُتَّكِئِينَ ( ، أو على مبتدأ محذوف هو وخبره تقديره : لهم هذا كله ، ( وَحُورٌ عِينٌ ( ، أو على حذف خبر فقط : أي ولهم حور ، أو فيهما حور . وقرأ السلمي والحسن وعمرو بن عبيد وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة والمفضل وأبان وعصمة والكسائي : بجرهما ؛ والنخعي : وحير عين ، بقلب الواو ياء وجرهما ، والجر عطف على المجرور ، أي يطوف عليهم ولدان بكذا وكذا وحور عين . وقيل : هو على معنى : وينعمون بهذا كله وبحور عين . وقال الزمخشري : عطفاً على ) جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( ، كأنه قال : هم في جنات وفاكهة ولحم وحور . انتهى ، وهذا فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض ، وهو فهم أعجمي . وقرأ أبي وعبد الله : وحوراً عيناً بنصبهما ، قالوا : على معنى ويعطون هذا كله وحوراً عيناً . وقرأ قتادة : وحور عين بالرفع مضافاً إلى عين ؛ وابن مقسم : بالنصب مضافاً إلى عين ؛ وعكرمة : وحوراء عيناء على التوحيد اسم جنس ، وبفتح الهمزة فيهما ؛ فاحتمل أن يكون مجروراً عطفاً على المجرور السابق ؛ واحتمل أن يكون منصوباً ؛ كقراءة أبي وعبد الله وحوراً عيناً .
الواقعة : ( 23 ) كأمثال اللؤلؤ المكنون
ووصف اللؤلؤ بالمكنون ، لأنه أصفى وأبعد من التغير . وفي الحديث : ( صفاؤهنّ كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي ) . وقال تعالى : ) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ( ، وقال الشاعر ، يصف امرأة بالصون وعدم الابتذال ، فشبهها بالدرة المكنونة في صدفتها فقال : قامت ترأى بين سجفي كلة
كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
أو درّة صدفية غواصها
بهج متى يرها يهل ويسجد
الواقعة : ( 24 ) جزاء بما كانوا . . . . .
( جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( : روي أن المنازل والقسم في الجنة على قدر الأعمال ، ونفس دخول الجنة برحمة الله تعالى وفضله لا بعمل عامل ، وفيه النص الصحيح الصريح : لا يدخل أحد الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ، قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني بفضل منه ورحمة ) .
الواقعة : ( 25 ) لا يسمعون فيها . . . . .
( لَغْواً ( : سقط القول وفحشه ، ( وَلاَ تَأْثِيماً ( : ما يؤثم أحداً
الواقعة : ( 26 ) إلا قيلا سلاما . . . . .
والظاهر أن ) إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ( استثناء منقطع ، لأنه لم يندرج في اللغو ولا التأثيم ، ويبعد قول من قال استثناء متصل . وسلاماً ، قال الزجاج : هو مصدر نصبه ) قِيلاً ( ، أي يقول بعضهم لبعض ) سَلَاماً سَلَاماً ). وقيل : نصب بفعل محذوف ، وهو معمول قيلاً ، أي قيلاً أسلموا سلاماً . وقيل : ) سَلاَماً ( بدل من ) قِيلاً ). وقيل : نعت لقيلا بالمصدر ، كأنه قيل : إلا قيلاً سالماً من هذه العيوب .
الواقعة : ( 28 ) في سدر مخضود
) فِى سِدْرٍ ( : في الجنة شجر على خلقه ، له ثمر كقلال هجر طيب الطعم والريح . ) مَّخْضُودٍ ( : عار من الشوك . وقال مجاهد : المخضود : الموقر الذي تثني أغصانه كثرة حمله ، من خضد الغصن إذا أثناه .
الواقعة : ( 29 ) وطلح منضود
وقرأ الجمهور : ) وَطَلْحٍ ( بالحاء ؛ وعليّ وجعفر بن محمد وعبد الله : بالعين ، قرأها على المنبر . وقال عليّ وابن عباس وعطاء ومجاهد : الطلح : الموز . وقال الحسن : ليس بالموز ، ولكنه شجر ظله بارد رطب . وقيل : شجر أم غيلان ، وله نوّار كثير طيب الرائحة . وقال السدّي : شجر يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل . والمنضود : الذي نضد من أسفله إلى أعلاه ، فليست له ساق تظهر .
الواقعة : ( 30 ) وظل ممدود
) وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( : لا يتقلص . بل منبسط لا ينسخه شيء . قال مجاهد : هذا الظل من سدرها وطلحها .
الواقعة : ( 31 ) وماء مسكوب
) وَمَاء مَّسْكُوبٍ ( ، قال سفيان وغيره : جار في أخاديد . وقيل : منساب لا يتعب فيه بساقية ولا رشاء .
الواقعة : ( 32 - 33 ) وفاكهة كثيرة
) لاَّ مَقْطُوعَةٍ ( : أي هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات ، كفاكهة الدنيا ، ( وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ( : أي لا يمنع من تناولها بوجه ، ولا يحظر عليها كالتي في الدنيا . وقرىء : وفاكهة كثيرة برفعهما ، أي وهناك فاكهة ،
الواقعة : ( 34 ) وفرش مرفوعة
وفرش : جمع فراش . وقرأ الجمهور : بضم الراء ؛ وأبو حيوة : بسكونها مرفوعة ، نضدت حتى ارتفعت ، أو رفعت على الأسرة . والظاهر أن الفراش هو ما يفترش للجلوس عليه والنوم . وقال أبو عبيدة

" صفحة رقم 207 "
وغيره : المراد بالفرش النساء ، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش ، ورفعهن في الأقدار والمنازل .
الواقعة : ( 35 ) إنا أنشأناهن إنشاء
والضمير في ) أَنشَأْنَاهُنَّ ( عائد على الفرش في قول أبي عبيدة ، إذ هنّ النساء عنده ، وعلى ما دل عليه الفرش إذا كان المراد بالفرش ظاهر ما يدل عليه من الملابس التي تفرش ويضطجع عليها ، أي ابتدأنا خلقهن ابتداء جديداً من غير ولادة . والظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق ، ويكون ذلك مخصوصاً بالحور اللاتي لسن من نسل آدم ، ويحتمل أن يريد إنشاء الإعادة ، فيكون ذلك لبنات آدم .
الواقعة : ( 36 - 38 ) فجعلناهن أبكارا
) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً ( : والعرب ، قال ابن عباس : العروب المتحببة إلى زوجها ، وقاله الحسن ، وعبر ابن عباس أيضاً عنهن بالعواشق ، ومنه قول لبيد : وفي الخدور عروب غير فاحشة
ريا الروادف يغشى دونها البصر
وقال ابن زيد : العروب : المحسنة للكلام . وقرأ حمزة ، وناس منهم شجاع وعباس والأصمعي ، عن أبي عمرو ، وناس منهم خارجة وكردم وأبو خليد عن نافع ، وناس منهم أبو بكر وحماد وأبان عن عاصم : بسكون الراء ، وهي لغة تميم ؛ وباقي السبعة : بضمها . ) أَتْرَاباً ( في الشكل والقد ، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في ) أَنشَأْنَاهُنَّ ( عائد على الحور العين المذكورة قبل ، لأن تلك قصة قد انقطعت ، وهي قصة السابقين ، وهذه قصة أصحاب اليمين . واللام في ) أَصْحَابُ ( متعلقة بأنشأناهن .
الواقعة : ( 39 ) ثلة من الأولين
) ثُلَّةٌ مّنَ الاْوَّلِينَ ( : أي من الأمم الماضية ،
الواقعة : ( 40 ) وثلة من الآخرين
) وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( : أي من أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولا تنافي بين قوله : ) وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( وقوله قبل : ) وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( ، لأن قوله : ) مّنَ الاْخِرِينَ ( هو في السابقين ، وقوله ) وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( هو في أصحاب اليمين .
( ) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءَابَآؤُنَا الاٌّ وَّلُونَ قُلْ إِنَّ الاٌّ وَّلِينَ وَالاٌّ خِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لاّكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِأونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَاذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَءَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاٍّ ولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَءَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَارِعُونَ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ أَءَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (
الواقعة : ( 41 ) وأصحاب الشمال ما . . . . .
اليحموم الأسود البهيم ، الحنث قال الخطابي هو في كلام العرب العدل الثقيل شبه الاثم به ، الهيم جمع أهيم وهيماء

" صفحة رقم 208 "
والهيام داء معطش يصيب الإبل فتشرب حتى تموت أو تسقم سقماً شديداً قال : فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد
صداها ولا يقضي عليها هيامها
( والهيم ) جمه هيام ، وهو الرمل بفتح الهاء وهو المشهور ، وقال ثعلب : بضمها قال : هو الرمل الذي لا يتماسك ، فبالفتح كسحاب وسحب ، ثم خفف وفعل به ما فعل ، بجمع أهيم من قلب ضمته كسرة لتصح الياء ، أو بالضم ، يكون قد جمع على فعل ، كقراد وقرد ، ثم سكنت ضمة الراء فصار فعلا ، ثم فعل به ما فعل ببيض ، أمنى الرجل النطفة ومناها قذفها من إحليله ، المزن السحاب ، قال الشاعر : فلا مزنة ودقت ودقها
ولا أرض أبقل إبقالها
أوريت النار من الزناد قدحتها ، وورى الزند نفسه ، والزناد حجرين ، أو من حجر وحديدة ومن شجر ، لا سيما في الشجر الرخو ، كالمرخ والعفار والكلح ، والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما بالآخر ، ويسمون الأعلى الزند ، والأسفل الزندة ، شبهوهما بالعجل والطروقة ، أقوى الرجل دخل في الأرض ، القوا وهي القفر كأصحر دخل في الصحراء ، وأقوى من أقام أياماً يأكل شيئاً ، وأقوت الدار : صارت قفراء ، قال الشاعر : يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
إدهن لاين ، وهاود فيما لا يحمل عند المدهن ، وقال الشاعر : الحزم والقوة خبر من
الإدهان والفهة والهاع
( الحلقوم ) مجرى الطعام ، ( الروح ) الاستراحة ، ( الريحان ) تقدم في سورة الرحمن ) وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ، في سموم وحميم ، وظل من يحموم ، وظل من يحموم ، لا بارد ولا كريم ، إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ، وكانوا يصرون على الحنث العظيم ، وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون ، أو آباؤنا الأولون ، قل إن الأولين والآخرين ، لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ، ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ، لآكلون من شجر من زقوم ، فمالئون منها البطون ، فشاربون عليه من الحميم ، فشابون شرب الهيم ، هذا نزلهم يوم الدين ، نحن خلقناكم فلولا تصدقون ، أفرأيتم ما تمنون ، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ، نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين ، على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ، ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ، أفرأيتم ما تحرثون ، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ، لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون ، إنا لمغرمون ، بل نحن محرومون ، أفرأيتم الماء الذي تشربون ، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ، لو نشاء جعلناه أجاجاً فلوى تشكرون ، أفرأيتم النار التي تورون ، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ، نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين ، فسبح باسم ربك العظيم ( لما ذكر حال السابقين ،

" صفحة رقم 209 "
وأتبعهم بأصحاب الميمنة ، ذكر حال أصحاب المشئمة فقال : ) وَأَصْحَابُ الشّمَالِ ( ، وتقدّم إعراب نظير هذه الجملة ، وفي هذا الاستفهام تعظيم مصابهم .
الواقعة : ( 42 ) في سموم وحميم
) فِى سَمُومٍ ( : في أشدّ حر ، ( وَحَمِيمٍ ( : ماء شديد السخونة .
الواقعة : ( 43 ) وظل من يحموم
) وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ ( ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو مالك وابن زيد والجمهور : دخان . وقال ابن عباس أيضاً : هو سرادق النار المحيط بأهلها ، يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم . وقال ابن كيسان : اليحموم من أسماء جهنم . وقال ابن زيد أيضاً وابن بريدة : هو جبل في النار أسود ، يفزع أهل النار إلى ذراه ، فيجدونه أشد شيء وأمر .
الواقعة : ( 44 ) لا بارد ولا . . . . .
( لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ( : صفتان للظل نفيتا ، سمي ظلاً وإن كان ليس كالظلال ، ونفي عنه برد الظل ونفعه لمن يأوي إليه . ) وَلاَ كَرِيمٍ ( : تتميم لنفي صفة المدح فيه ، وتمحيق لما يتوهم في الظل من الاسترواح إليه عند شدّة الحر ، أو نفي لكرامة من يستروح إليه . ونسب إليه مجازاً ، والمراد هم ، أي يستظلون إليه وهم مهانون . وقد يحتمل المجلس الرديء لنيل الكرامة ، وبدىء أولاً بالوصف الأصلي الذي هو الظل ، وهو كونه من يحموم ، فهو بعض اليحموم . ثم نفى عنه الوصف الذي يبغي له الظل ، وهو كونه لا بارداً ولا كريماً . وقد يجوز أن يكون ) لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ( صفة ليحموم ، ويلزم منه أن يكون الظل موصوفاً بذلك . وقرأ الجمهور : ) لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ( بجرهما ؛ وابن عبلة : برفعهما : أي لا هو بارد ولا كريم ، على حد قوله :
فأبيت لا حرج ولا محروم
أي لا أنا حرج .
الواقعة : ( 45 ) إنهم كانوا قبل . . . . .
( إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ ( : أي في الدنيا ، ( مُتْرَفِينَ ( : فيه ذم الترف والتنعم في الدنيا ، والترف طريق إلى البطالة وترك التفكر في العاقبة .
الواقعة : ( 46 ) وكانوا يصرون على . . . . .
( وَكَانُواْ يُصِرُّونَ ( : أي يداومون ويواظبون ، ( عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ ( ، قال قتادة والضحاك وابن زيد : الشرك ، وهو الظاهر . وقيل : ما تضمنه قوله : ) وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ( الآية من التكذيب بالبعث . ويبعده : ) وَكَانُواْ يِقُولُونَ ( ، فإنه معطوف على ما قبله ، والعطف يقتضي التغاير ، فالحنث العظيم : الشرك .
الواقعة : ( 47 ) وكانوا يقولون أئذا . . . . .
فقولهم : ) أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءابَاؤُنَا الاْوَّلُونَ ( : تقدم الكلام عليه في والصافات ، وكرر الزمخشري هنا وهمه فقال : فإن قلت : كيف حسن العطف على المضمر في ) لَمَبْعُوثُونَ ( من غير تأكيد بنحن ؟ قلت : حسن للفاصل الذي هو الهمزة ، كما حسن في قوله : ) مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَاؤُنَا ( ، الفصل لا المؤكدة للنفي . انتهى . ورددنا عليه هنا وهناك إلى مذهب الجماعة في أنهم لا يقدرون بين همزة الاستفهام وحرف العطف فعلاً في نحو : ) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ( ، ولا اسماً في نحو :
الواقعة : ( 48 ) أو آباؤنا الأولون
) أَوَ ءابَاؤُنَا ( ، بل الواو والفاء لعطف ما بعدهما على ما قبلهما ، والهمزة في التقدير متأخرة عن حرف العطف . لكنه لما كان الاستفهام له صدر الكلام قدمت .
الواقعة : ( 49 ) قل إن الأولين . . . . .
ولما ذكر تعالى استفهامهم عن البعث على طريق الاستبعاد والإنكار ، أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يخبرهم ببعث العالم ، أولهم وآخرهم ، للحساب ، وبما يصل إليه المكذبون للبعث من العذاب .
الواقعة : ( 50 ) لمجموعون إلى ميقات . . . . .
والميقات : ما وقت به الشيء ، أي حد ، أي إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم ، والإضافة بمعنى من ، كخاتم حديد .
الواقعة : ( 51 ) ثم إنكم أيها . . . . .
( ثُمَّ إِنَّكُمْ ( : خطاب لكفار قريش ، ( أَيُّهَا الضَّالُّونَ ( عن الهدى ، ( الْمُكَذّبُونَ ( للبعث . وخطاب أيضاً لمن جرى مجراهم في ذلك .
الواقعة : ( 52 ) لآكلون من شجر . . . . .
( لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ ( : من الأولى لابتداء الغاية أو للتبعيض ؛ والثانية ، إن كان من زقوم بدلاً ، فمن تحتمل الوجهين ، وإن لم تكن بدلاً ، فهي لبيان الجنس ، أي من شجر الذي هو زقوم . وقرأ الجمهور : من شجر ؛ وعبد الله : من شجرة .
الواقعة : ( 53 ) فمالئون منها البطون
) فَمَالِئُونَ مِنْهَا ( : الضمير في منها عائد على شجر ، إذ هو اسم جنس يؤنث ويذكر ، وعلى قراءة عبد الله ، فهو واضح .
الواقعة : ( 54 ) فشاربون عليه من . . . . .
( فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ ( ، قال الزمخشري : ذكر على لفظ الشجر ، كما أنث على المعنى في منها . قال : ومن قرأ : من شجرة من زقوم ، فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثانى على تأويل الزقوم لأنه يفسرها ، وهي في معناه . وقال ابن عطية : والضمير في عليه عائد على المأكول ، أو على الأكل . انتهى . فلم يجعله عائداً على شجر .
الواقعة : ( 55 ) فشاربون شرب الهيم
وقرأ نافع وعاصم وحمزة : ) شُرْبَ ( بضم الشين ، وهو مصدر . وقيل : اسم لما يشرب ؛ ومجاهد وأبو عثمان النهدي : بكسرها ، وهو بمعنى المشروب ، اسم لا مصدر ، كالطحن والرعي ؛ والأعرج وابن المسيب وسبيب بن الحبحاب ومالك بن دينار وابن جريج وباقي السبعة : بفتحها ، وهو مصدر مقيس . والهيم ، قال ابن عباس ومجاهد

" صفحة رقم 210 "
وعكرمة والضحاك : جمع أهيم ، وهو الجمل الذي أصابه الهيام ، وقد فسرناه في المفردات . وقيل : جمع هيماء . وقيل : جمع هائم وهائمة ، وجمع فاعل على فعل شاذ ، كباذل وبذل ، وعائد وعوذ ؛ والهائم أيضاً من الهيام . ألا ترى أن الجمل أذا أصابه ذلك هام على وجهه وذهب ؟ وقال ابن عباس وسفيان : الهيم : الرمال التى لا تروى من الماء ، وتقدم الخلاف في مفرده ، أهو الهيام بفتح الهاء ، أم بالضم ؟ والمعنى : أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي كالمهل ، فإذا ملأوا منه البطون ، سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاهم ، فيشربونه شرب الهيم ، قاله الزمخشري .
وقال أيضاً : فإن قلت : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسه ؟ قلت : ليستا بمتفقتين من حيث أن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة ، وقطع الأمعاء أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك ، كما تشرب الهيم الماء ، أمر عجيب أيضاً ؛ فكانتا صفتين مختلفتين . انتهى . والفاء تقتضي التعقيب في الشربين ، وأنهم أولاً لما عطشوا شربوا من الحميم ظناً أنه يسكن عطشهم ، فازداد العطش بحرارة الحميم ، فشربوا بعده شرباً لا يقع به ريّ أبداً ، وهو مثل شرب الهيم ، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد ، اختلفت صفتاه فعطف ، والمقصود الصفة . والمشروب منه في ) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ( محذوف لفهم المعنى تقديره : فشاربون منه شرب الهيم .
الواقعة : ( 56 ) هذا نزلهم يوم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) نُزُلُهُمْ ( بضم الزاي . وقرأ ابن محيصن وخارجة ، عن نافع ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس ، كلهم عن أبي عمرو : بالسكون ، وهو أول ما يأكله الضيف ، وفيه تهكم بالكفار ، وقال الشاعر : وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا
جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
) يَوْمِ الدّينِ ( : أي يوم الجزاء .
الواقعة : ( 57 ) نحن خلقناكم فلولا . . . . .
( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ ( بالإعادة وتقرون بها ، كما أقررتم بالنشأة الأولى ، وهي خلقهم . ثم قال : ) فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ ( بالإعادة وتقررن بها كما أقررتم ، فهو حض على التصديق . ) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( ، أو : ) فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ بِهِ ( ،
الواقعة : ( 58 - 59 ) أفرأيتم ما تمنون
ثم حض على التصديق على وجه تقريعهم بسياق الحجج الموجبة للتصديق ، وكان كافراً ، قال : ولم أصدق ؟ فقيل له : أفرأيت كذا مما الإنسان مفطور على الإقرار به ؟ فقال : ) أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ ( ، وهو المني الذي يخرج من الإنسان ، إذ ليس له في خلقه عمل ولا إرادة ولا قدرة . وقال الزمخشري : ) يخلقونه ( : تقدرونه وتصورونه . انتهى ، فحمل الخلق على التقدير والتصوير ، لا على الإنشاء . ويجوز في ) يَخْشَى أَءنتُمْ ( أن يكون مبتدأ ، وخبره ) تَخْلُقُونَهُ ( ، والأولى أن يكون فاعلاً بفعل محذوف ، كأنه قال : أتخلقونه ؟ فلما حذف الفعل ، انفصل الضمير وجاء ) أَفَرَءيْتُمُ ( هنا مصرحاً بمفعولها الأول . ومجيء جملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني على ما هو المقرر فيها ، إذا كانت بمعنى أخبرني . وجاء بعد أم جملة فقيل : أم منقطعة ، وليست المعادلة للهمزة ، وذلك في أربعة مواضع هنا ، ليكون ذلك على استفهامين ، فجواب الأول لا ، وجواب الثاني نعم ، فتقدر أم على هذا ، بل أنحن الخالقون فجوابه نعم . وقال قوم من النحاة : أم هنا معادلة للهمزة ، وكان ما جاء من الخبر بعد نحن جيء به على سبيل التوكيد ، إذ لو قال : أم نحن ، لوقع الاكتفاء به دون ذكر الخبر . ونظير ذلك جواب من قال : من في الدار ؟ زيد في الدار ، أو زيد فيها ، ولو اقتصر في الجواب على زيد لاكتفى به . وقرأ الجمهور : ) مَّا تُمْنُونَ ( بضم التاء ؛ وابن عباس وأبو السمال : بفتحها .
الواقعة : ( 60 - 61 ) نحن قدرنا بينكم . . . . .
والجمهور : ) قَدَّرْنَآ ( ، بشد الدال ؛ وابن كثير : يخفها ، أي قضينا وأثبتنا ، أو رتبنا في التقدم والتأخر ، فليس موت العالم دفعة واحدة ، بل بترتيب لا يتعدى .
ويقال : سبقته

" صفحة رقم 211 "
على الشيء : أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه ، والمعنى : ) وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ ( : أي نحن قادرون على ذلك ، لا تغلبوننا عليه ، إن أردنا ذلك . وقال الطبري : المعنى نحن قادرون ، ( قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ( ، ( عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ ( : أي بموت طائفة ونبدلها بطائفة ، هكذا قرناً بعد قرن . انتهى . فعلى أن نبدل متعلق بقوله : ) نَحْنُ قَدَّرْنَا ( ، وعلى القول الأول متعلق ) بِمَسْبُوقِينَ ( ، أي لا نسبق . ) عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ ( ، وأمثالكم جمع مثل ، ( وَنُنشِئَكُمْ فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ ( من الصفات : أي نحن قادرون على أن نعدمكم وننشىء أمثالكم ، وعلى تغيير أوصافكم مما لا يحيط به فكركم . وقال الحسن : من كونكم قردة وخنازير ، قال ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد . ويجوز أن يكون ) أَمْثَالَكُم ( جمع مثل بمعنى الصفة ، أي نحن قادرون على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقاً وخلقاً ، ( وَنُنشِئَكُمْ ( في صفات لا تعلمونها .
الواقعة : ( 62 ) ولقد علمتم النشأة . . . . .
( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاْولَى ( : أي علمتم أنه هو الذي أنشأكم ، أولاً أنشأنا إنساناً . وقيل : نشأة آدم ، وأنه خلق من طين ، ولا ينكرها أحد من ولده . ) فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ( : حض على التذكير المؤدي إلى الإيمان والإقرار بالنشأة الآخرة . وقرأ الجمهور : تذكرون بشد الذال ؛ وطلحة يخفها وضم الكاف ، قالوا : وهذه الآية دالة على استعمال القياس والحض عليه . انتهى ، ولا تدل إلا على قياس الأولى ، لا على جميع أنواع القياس .
الواقعة : ( 63 ) أفرأيتم ما تحرثون
) أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ( : ما تذرونه في الأرض وتبذرونه ،
الواقعة : ( 64 ) أأنتم تزرعونه أم . . . . .
( تَزْرَعُونَهُ أَمْ ( : أي زرعاً يتم وينبت حتى ينتفع به ، والحطام : اليابس المتفتت الذي لم يكن له حب ينتفع به .
الواقعة : ( 65 ) لو نشاء لجعلناه . . . . .
( فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ( ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : تعجبون . وقال عكرمة : تلاومون . وقال الحسن : تندمون . وقال ابن زيد : تنفجعون ، وهذا كله تفسير باللازم . ومعنى تفكهون : تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة ، ورجل فكه : منبسط النفس غير مكترث بشيء ، وتفكه من أخوات تخرج وتحوب . وقرأ الجمهور : ) فَظَلْتُمْ ( ، بفتح الظاء ولام واحدة ؛ وأبو حيوة وأبو بكر في رواية القيكي عنه : بكسرها . كما قالوا : مست بفتح الميم وكسرها ، وحكاها الثوري عن ابن مسعود ، وجاءت عن الأعمش . وقرأ عبد الله والجحدري : فظللتم على الأصل ، بكسر اللام . وقرأ الجحدري أيضاً : بفتحها ، والمشهور ظللت بالكسر . وقرأ الجمهور : ) تَفَكَّهُونَ ( ؛ وأبو حرام : بالنون بدل الهاء . قال ابن خالويه : تفكه : تعجب ، وتفكن : تندم .
الواقعة : ( 66 ) إنا لمغرمون
) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ( ، قبله محذوف : أي يقولون . وقرأ الجمهور : إنا ؛ والأعمش والجحدري وأبو بكر : أئنا بهمزتين ، ( لَمُغْرَمُونَ ( : أي معذبون من الغرام ، وهو أشد العذاب ، قال : إن يعذب يكن غراماً وإن
يعط جزيلاً فإنه لا يبالي
أو لمحملون الغرم في النفقة ، إذ ذهب عنا غرم الرجل وأغرمته .
الواقعة : ( 67 ) بل نحن محرومون
) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( : محدودون ، لاحظ لنا في الخير .
الواقعة : ( 68 ) أفرأيتم الماء الذي . . . . .
( الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ ( : هذا الوصف يغني عن وصفه بالعذاب . ألا ترى مقابله ، وهو الأجاج ؟
الواقعة : ( 70 ) لو نشاء جعلناه . . . . .
ودخلت اللام في ) لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ( ، وسقطت في قوله : ) جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ( ، وكلاهما فصيح . وطول الزمخشري في مسوغ ذلك ، وملخصه : أن الحرف إذا كان في مكان ، وعرف واشتهر في ذلك المكان ، جاز حذفه لشهرة أمره . فإن اللام علم لارتباط الجملة الثانية بالأولى ، فجاز حذفه استغناء بمعرفة السامع . وذكر في كلامه أن الثاني امتنع لامتناع الأول ، وليس كما ذكر ، إنما هذا قول ضعفاء المعربين . والذي ذكره سيبويه : أنها حرف لما كان سيقع لوقوع الأول . ويفسد قول أولئك الضعفاء قولهم : لو كان إنساناً لكان حيواناً ، فالحيوانية لا تمتنع لامتناع الإنسانية . ثم قال : ويجوز أن يقال : إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة ، وأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب ، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم ، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب .
الواقعة : ( 72 ) أأنتم أنشأتم شجرتها . . . . .
والظاهر أن ) شَجَرَتَهَا ( ، المراد منه الشجر الذي يقدح منه النار . وقيل : المراد بالشجرة نفس النار ، كأنه يقول : نوعها أو جنسها ،

" صفحة رقم 212 "
فاستعار الشجرة لذلك ، وهذا قول متكلف .
الواقعة : ( 73 - 74 ) نحن جعلناها تذكرة . . . . .
( نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ( : أي لنار جهنم ، ( وَمَتَاعاً لّلْمُقْوِينَ ( : أي النازلين الأرض القوا ، وهي القفر . وقيل : للمسافرين ، وهو قريب مما قبله ؛ وقول ابن زيد : الجائعين ، ضعيف جداً . وقدم من فوائد النار ما هو أهم وآكد من تذكيرها بنار جهنم ، ثم أتبعه بفائدتها في الدنيا . وهذه الأربعة التي ذكرها الله تعالى ووقفهم عليها ، من أمر خلقهم وما به قوام عيشهم من المطعوم والمشروب . والنار من أعظم الدلائل على البعث ، وفيها انتقال من شيء إلى شيء ، وإحداث شيء من شيء ، ولذلك أمر في آخرها بتنزيهه تعالى عما يقول الكافرون . ووصف تعالى نفسه بالعظيم ، إذ من هذه أفعاله تدل على عظمته وكبريائه وانفراده بالخلق والإنشاء .
قوله عز وجل : ) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةٍ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضَّالّينَ فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ).
الواقعة : ( 75 - 76 ) فلا أقسم بمواقع . . . . .
قرأ الجمهور : ) فَلاَ أُقْسِمُ ( ، فقيل : لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله : ) لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ( ، والمعنى : فاقسم . وقيل : المنفي المحذوف ، أي فلا صحة لما يقول الكفار . ثم ابتدأ أقسم ، قاله سعيد بن جبير وبعض النحاة ؛ ولا يجوز ، لأن في ذلك حذف اسم لا وخبرها ، وليس جواباً لسائل سأل ، فيحتمل ذلك ، نحو قوله ) لا ( لمن قال : هل من رجل في الدار ؟ وقيل : توكيد مبالغة ما ، وهي كاستفتاح كلام شبهه في القسم ، إلا في شائع الكلام القسم وغيره ، ومنه .
فلا وأبي أعدائها لا أخونها
والأولى عندي أنها لام أشبعت فتحتها ، فتولدت منها ألف ، كقوله :
أعوذ بالله من العقراب
وهذا وإن كان قليلاً ، فقد جاء نظيره في قوله : ) فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ ( بياء بعد الهمزة ، وذلك في قراءة هشام ، فالمعنى : فلأقسم ، كقراءة الحسن وعيسى ، وخرج قراءة الحسن أبو الفتح على تقدير مبتدأ محذوف ، أي فلأنا أقسم ، وتبعه على ذلك الزمخشري . وإنما ذهبا إلى ذلك لأنه فعل حال ، وفي القسم عليه خلاف . فالذي اختاره ابن عصفور وغيره أن فعل الحال لا يجوز أن يقسم عليه ، فاحتاجوا إلى أن يصوروا المضارع خبراً لمبتدأ محذوف ، فتصير الجملة اسمية ، فيقسم عليها . وذهب بعض النحويين إلى أن جواز القسم على فعل الحال ، وهذا الذي اختاره فتقول : والله ليخرج زيد ، وعليه قول الشاعر :

" صفحة رقم 213 "
ليعلم ربي أن بيتي واسع
وقال الزمخشري : في قراءة الحسن ، ولا يصح أن تكون اللام لام قسم لأمرين ، أحدهما : أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح ؛ والثاني : أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال . انتهى . أما الأمر الأول ففيه خلاف ، فالذي قاله قول البصريين ، وأما الكوفيون فيختارون ذلك ، ولكن يجيزون تعاقبهما ، فيجيزون لأضربن زيداً ، واضربن عمراً . وأما الثاني فصحيح ، لكنه هو الذي رجح عندنا أن تكون اللام في لا أقسم لام القسم ، وأقسم فعل حال ، والقسم قد يكون جواباً للقسم ؛ كما قال تعالى : ) وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى ). فاللام في ) وَلَيَحْلِفَنَّ ( جواب قسم ، وهو قسم ، لكنه لما لم يكن حلفهم حالاً ، بل مستقبلاً ، لزمت النون ، وهي مخلصة المضارع للاستقبال . وقرأ الجمهور : ) بِمَواقِعِ ( جمعاً ؛ وعمر وعبد الله وابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي : بموقع مفرداً ، مراداً به الجمع . قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم : هي نجوم القرآن التي أنزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويؤيد هذا القول قوله : ) إِنَّهُ لَقُرْءانٌ ( ، فعاد الضمير على ما يفهم من قوله : ) بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( ، أي نجوم القرآن . وقيل : النجوم : الكواكب ومواقعها . قال مجاهد وأبو عبيدة : عند طلوعها وغروبها . وقال قتادة : مواقعها : مواضعها من السماء . وقال الحسن : مواقعها عند الانكدار يوم القيامة . وقيل : عند الانفضاض أثر العفاري ، ومن تأول النجوم على أنها الكواكب ، جعل الضمير في إنه يفسره سياق الكلام ، كقوله : ) حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ).
وفي إقسامه تعالى بمواقع النجوم سر في تعظيم ذلك لا نعلمه نحن ، وقد أعظم ذلك تعالى فقال : ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ). والجملة المقسم عليها قوله : ) إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ ( ، وفصل بين القسم وجوابه ؛ فالظاهر أنه اعتراض بينهما ، وفيه اعتراض بين الصفة والموصوف بقوله : ) لَّوْ تَعْلَمُونَ ). وقال ابن عطية : ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ( تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به ، وليس هذا باعتراض بين الكلامين ، بل هذا معنى قصد التهمم به ، وإنما الاعتراض قوله : ) لَّوْ تَعْلَمُونَ ). انتهى .
الواقعة : ( 77 ) إنه لقرآن كريم
وكريم : وصف مدح ينفي عنه مالا يليق به . وقال الزمخشري : ) كَرِيمٌ ( : حسن مرضي في جنسه من الكتب ، أو نفاع جم المنافع ، أو كريم على الله تعالى .
الواقعة : ( 78 ) في كتاب مكنون
) فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( : أي مصون . قال ابن عباس ومجاهد : الكتاب الذي في السماء . وقال عكرمة : التوراة والإنجيل ، كأنه قال : ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه ، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة . وقيل : ) فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( : أي في مصاحف للمسلمين مصونة من التبديل والتغيير ، ولم تكن إذ ذاك مصاحف ، فهو إخبار بغيب .
الواقعة : ( 79 ) لا يمسه إلا . . . . .
والظاهر أن قوله : ) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ( وصف لقرآن كريم ، فالمطهرون هم الملائكة . وقيل : ) لاَّ يَمَسُّهُ ( صفة لكتاب مكنون ، فإن كان الكتاب هو الذي في السماء ، فالمطهرون هم الملائكة أيضاً : أي لا يطلع عليه من سواهم ، وكذا على قول عكرمة : هم الملائكة ، وإن أريد بكتاب مكنون الصحف ، فالمعنى : أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على طهارة من الناس . وإذا كان ) الْمُطَهَّرُونَ ( هم الملائكة ، ( فَلا يَمَسُّهُ ( نفي ، ويؤيد المنفي ما يمسه على قراءة عبد الله . وإذا عنى بهم المطهرون من الكفر والجنابة ، فاحتمل أن يكون نفياً محضاً ، ويكون حكمه أنه لا يمسه إلا المطهرون ، وإن كان يمسه غير المطهر ، كما جاء : ) لا تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ( ، أي الحكم هذا ، وإن كان قد يقع العضد . واحتمل أن يكون نفياً أريد به النهي ، فالضمة في السين إعراب . واحتمل أن يكون نهياً فلو فك ظهر الجزم ، ولكنه لما أدغم كان مجزوماً في التقدير ، والضمة فيه لأجل ضمة الهاء ، كما جاء في الحديث : ( إنا لم نرده عليك ) ، إلا إنا جزم ، وهو مجزوم ، ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا من المجزوم المدغم المتصل بالهاء ضمير المذكر إلا الضم . قال ابن عطية : والقول بأن لا يمسه نهي ، قول فيه ضعف

" صفحة رقم 214 "
وذلك أنه إذا كان خبراً ، فهو في موضع الصفة
الواقعة : ( 80 ) تنزيل من رب . . . . .
وقوله بعد ذلك ) تَنزِيلَ ( صفة ، فإذا جعلناه نهياً ، جاء معناه أجنبياً معترضاً بين الصفات ، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره . وفي حرف ابن مسعود ما يمسه ، وهذا يقوي ما رجحته من الخبر الذي معناه حقه وقدره أن لا يمسه إلا طاهر . انتهى .
ولا يتعين أن يكون ) تَنزِيلَ ( صفة ، بل يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فيحسن إذ ذاك أن يكون ) لاَّ يَمَسُّهُ ( نهياً . وذكروا هنا حكم مس المصحف ، وذلك مذكور في الفقه ، وليس في الآية دليل على منع ذلك . وقرأ الجمهور : ) الْمُطَهَّرُونَ ( اسم مفعول من طهر مشدّداً ؛ وعيسى : كذلك مخففاً من أطهر ، ورويت عن نافع وأبي عمرو . وقرأ سلمان الفارسي : المطهرون ، بخف الطاء وشد الهاء وكسرها : اسم فاعل من طهر ، أي المطهرين أنفسهم ؛ وعنه أيضاً المطهرون بشدهما ، أصله المتطهرون ، فأدغم التاء في الطاء ، ورويت عن الحسن وعبد الله بن عوف . وقرىء : المتطهرون . وقرىء : تنزيلاً بالنصب ، أي نزل تنزيلاً ،
الواقعة : ( 81 ) أفبهذا الحديث أنتم . . . . .
والإشارة في : ) أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ ( للقرآن ، و ) أَنتُمْ ( : خطاب للكفار ، ( مُّدْهِنُونَ ( ، قال ابن عباس : مهاودون فيما لا يحل . وقال أيضاً : مكذبون .
الواقعة : ( 82 ) وتجعلون رزقكم أنكم . . . . .
( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ( : أي شكر ما رزقكم الله من إنزال القرآن عليكم تكذيبكم به ، أي تضعون مكان الشكر التكذيب ، ومن هذا المعنى قول الراجز : مكان شكر القوم عند المنن
كي الصحيحات وفقء الأعين
وقرأ عليّ وابن عباس : وتجعلون شكركم ، وذلك على سبيل التفسير لمخالفته السواد . وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنؤه ما رزق فلان فلاناً ، بمعنى : ما شكره . قيل : نزلت في الأنواء ، ونسبة السقيا إليها ، والرزق : المطر ، فالمعنى : ما يرزقكم الله من الغيب . وقال ابن عطية : أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر ، هذا بنوء كذا وكذا ، وهذا بنوء الأسد ، وهذا بنوء الجوزاء ، وغير ذلك . وقرأ الجمهور : ) تُكَذّبُونَ ( من التكذيب ؛ وعليّ والمفضل عن عاصم : من الكذب ، فالمعنى من التكذيب أنه ليس من عند الله ، أي القرآن أو المطر ، حيث ينسبون ذلك إلى النجوم . ومن الكذب قولهم : في القرآن سحر وافتراء ، وفي المطر من الأنواء .
الواقعة : ( 83 - 84 ) فلولا إذا بلغت . . . . .
( فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ( ، قال الزمخشري : ترتيب الآية : فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين ، فلولا الثانية مكررة للتوكيد ، والضمير في ترجعونها للنفس . وقال ابن عطية : توقيف على موضع عجز يقتضي النظر فيه أن الله مالك كل شيء . ) وَأَنتُمْ ( : إشارة إلى جميع البشر ، ( حِينَئِذٍ ( : حين إذ بلغت الحلقوم ، ( تَنظُرُونَ ( : أي إلى النازع في الموت . وقرأ عيسى : حينئذ بكسر النون اتباعاً لحركة الهمزة في إذ ،
الواقعة : ( 85 - 87 ) ونحن أقرب إليه . . . . .
( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ( بالعلم والقدرة ، ( وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ( : من البصيرة بالقلب ، أو ) أَقْرَبُ ( : أي ملائكتنا ورسلنا ، ( وَلَكِنَّا لاَ تُبْصِرُونَ ( : من البصر بالعين . ثم عاد التوقيف والتقدير ثانية بلفظ التخصيص . والمدين : المملوك . قال الأخطل : ربت ورباني في حجرها ابن مدينة قيل : ابن مملوكة يصف عبداً ابن أمة ، وآخر البيت :
تراه على مسحانة يتوكل والمعنى : فلولا ترجعون النفس البالغة إلى الحلقوم إن كنتم غير مملوكين وغير مقهورين . ) إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد ، إذ كانوا فيما ذهبوا إليه من أن القرآن سحر وافتراء ، وأن ما نزل من المطر

" صفحة رقم 215 "
هو بنوء ، كذا تعطيل للصانع وتعجيز له . وقال ابن عطية : قوله ) تَرْجِعُونَهَا ( سد مسد جوابها ، والبيانات التي تقتضيها التخصيصات ، وإذا من قوله : ) فَلَوْلاَ إِذَا ( ، وإن المتكررة ، وحمل بعض القول بعضاً إيجازاً واقتصاراً . انتهى . وتقول : ) إِذَا ( ليست شرطية ، فتسد ) تَرْجِعُونَهَا ( مسد جوابها ، بل هي ظرف غير شرط معمول لترجعونها المحذوف بعد فلولا ، لدلالة ترجعونها في التخصيص الثاني علي ، فجاء التخصيص الأول مقيداً بوقت بلوغ الحلقوم ، وجاء التخصيص الثاني معلقاً على انتفاء مربوبيتهم ، وهم لا يقدرون على رجوعها ، إذ مربوبيتهم موجودة ، فهم مقهورون لا قدرة لهم .
( فَأَمَّا إِن كَانَ ( : أي المتوفى ، ( مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( : وهم السابقون .
الواقعة : ( 88 - 90 ) فأما إن كان . . . . .
وقرأ الجمهور ؛ ) فَرَوْحٌ ( ، بفتح الراء ؛ وعائشة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ونوح القارىء ، والضحاك ، والأشهب ، وشعيب بن الحبحاب ، وسليمان التيمي ، والربيع بن خيثم ، ومحمد بن عليّ ، وأبو عمران الجوني ، والكلبي ، وفياض ، وعبيد ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، ويعقوب بن صيان ، وزيد ، ورويس عنه : بضمها . قال الحسن : الروح : الرحمة ، لأنها كالحياة للمرحوم . وقال أيضاً : روحه تخرج في ريحان . وقيل : الروح : البقاء ، أي فهذان له معاً ، وهو الخلود مع الرزق . وقال مجاهد : الريحان : الرزق . وقال الضحاك : الاستراحة . وقال أبو العالية وقتادة والحسن أيضاً : الريحان ، هذا الشجر المعروف في الدنيا ، يلقى المقرب ريحاناً من الجنة . وقال الخليل : هو ظرف كل بقلة طيبة فيها أوائل النور . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، في الحسن والحسين ، رضي الله تعالى عنهما : ( هما ريحانتاي من الدنيا ) .
وقال ابن عطية : الريحان : مما تنبسط به النفوس ، ( فَرَوْحٌ ( : فسلام ، فنزل الفاء جواب أما تقدم . أما وهي في تقدير الشرط ، وإن كان من المقربين ، وإن كان من أصحاب اليمين ، وإن كان من المكذبين الضالين شرط ؛ وإذا اجتمع شرطان ، كان الجواب للسابق منهما . وجواب الثاني محذوف ، ولذلك كان فعل الشرط ماضي للفظ ، أو مصحوباً بلم ، وأغنى عنه جواب أما ، هذا مذهب سيبويه . وذهب أبو عليّ الفارسي إلى أن الفاء جواب إن ، وجواب أما محذوف ، وله قول موافق لمذهب سيبويه . وذهب الأخفش إلى أن الفاء جواب لأمّا ، والشرط معاً ، وقد أبطلنا هذين المذهبين في كتابنا المسمى بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل ، والخطاب في ذلك للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي لا ترى فيهم يا محمد إلا السلامة من العذاب . ثم لكل معتبر من أمّته ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبل لمن يخاطبه : ) مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ).
الواقعة : ( 91 ) فسلام لك من . . . . .
فقال الطبري : المعنى : فسلام لك أنت من أصحاب اليمين . وقال قوم : المعنى : فيقال لهم : مسلم لك إنك من أصحاب اليمين . وقيل : فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي يسلمون عليك ، كقوله : ) إِلاَّ قَلِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ).
الواقعة : ( 92 ) وأما إن كان . . . . .
والمكذبون الضالون هم أصحاب المشأمة ، أصحاب الشمال .
الواقعة : ( 93 ) فنزل من حميم
وقرأ الجمهور : وتصلية رفعاً ، عطفاً على ) فَنُزُلٌ ( ؛ وأحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو : بحر عطفاً على ) مِنْ حَمِيمٍ ).
الواقعة : ( 94 - 95 ) وتصلية جحيم
ولما انقضى الإخبار بتقسيم أحوالهم وما آل إليه كل قسم منهم ، أكد ذلك بقوله : ) إِنَّ هَذَا ( : أي إن هذا الخبر المذكور في هذه السورة ) هُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( ، فقيل : هو من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة ، كما تقول : هذا يقين اليقين وصواب الصواب ، بمعنى أنها نهاية في ذلك ، فهما بمعنى واحد أضيف على سبيل المبالغة . وقيل : هو من إضافة الموصوف إلى صفته جعل الحق مبايناً لليقين ، أي الثابت المتيقن .
الواقعة : ( 96 ) فسبح باسم ربك . . . . .
ولما تقدم ذكر الأقسام الثلاثة مسهباً الكلام فيهم ، أمره تعالى بتنزيهه عن ما لا يليق به من الصفات . ولما أعاد التقسيم موجزاً الكلام فيه ، أمره أيضاً بتنزيهه وتسبيحه ، والإقبال على عبادة ربه ، والإعراض عن أقوال الكفرة المنكرين للبعث والحساب والجزاء . ويظهر أن سبح يتعدى تارة بنفسه ، كقوله : ) سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( ، ويسبحوه ؛ وتارة بحرف الجر ، كقوله : ) فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ( ، والعظيم يجوز أن يكون صفة لاسم ، ويجوز أن يكون صفة لربك .

" صفحة رقم 216 "
5
( سورة الحديد )
) 2
) سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ هُوَ الاْوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الاْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء ).
قال النقاش وغيره : هذه السورة مدنية بإجماع من المفسرين . وقال غيره ، كالزمخشري : هي مكية . وقال ابن عطية : لا خلاف ، إن فيها قرآناً مدنياً ، لكن يشبه صدرها أن يكون مكياً .
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة ، لأنه تعالى أمر بالتسبيح ، ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله والتزمه كل من في السموات والأرض ، وأتى سبح بلفظ الماضي ، ويسبح بلفظ المضارع ، وكله يدل على الديمومة والاستمرار ، وإن ذلك ديدن من في السموات والأرض .
الحديد : ( 1 ) سبح لله ما . . . . .
والتسبيح هنا عند الأكثرين بمعنى التنزيه المعروف في قولهم : سبحان الله ، فقيل : هو حقيقة في الجميع ، وقيل : فيمن يمكن التسبيح منهم ، وقيل : مجاز ، بمعنى : أن أثر الصنعة فيها ينبه الرائي على التسبيح . وقيل : التسبيح هنا الصلاة ، ففي الجماد بعيد ، وفي الكافر سجود ظله صلاته ، وفي المؤمن ذلك سائغ ، واللام في ) لِلَّهِ ( ، إما أن تكون بمنزلة اللام في : نصحت لزيد ، يقال : سبح الله ، كما يقال ؛ نصحت زيداً ، فجيء باللام لتقوية وصول الفعل إلى المفعول ؛ وإما أن تكون لام التعليل ، أي أحدث التسبيح لأجل الله ، أي لوجهه خالصاً .
الحديد : ( 2 ) له ملك السماوات . . . . .
( يحيي ويميت ( : جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب لقوله : ) لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ). لما أخبر بأنه له الملك ، أخبر عن ذاته بهذين الوصفين العظيمين اللذين بهما تمام التصرف في الملك ، وهو إيجاد ما شاء وإعدام ما شاء ، ولذلك أعقب بالقدرة التي بها الإحياء والإماتة . وجوز أن يكون خبر مبتدأ ، أي هو يحيي ويميت . وأن يكون حالاً ، وذو الحال الضمير في له ، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور .
الحديد : ( 3 ) هو الأول والآخر . . . . .
( هُوَ الاْوَّلُ ( : الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة ، ( وَالاْخِرُ ( : أي الدائم الذي ليس له نهاية منقضية . وقيل : الأول الذي كان قبل كل شيء ، والآخر الذي يبقى بعد هلاك كل شيء . ) وَالظَّاهِرُ ( بالأدلة ونظر العقول في صفته ، ( وَالْبَاطِنُ ( لكونه غير مدرك بالحواس . وقال أبو بكر الورّاق : الأول بالأزلية ، والآخر بالأبدية . وقيل : ) الظاهر ( العالي على كل شيء ، الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه ؛ ) وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ( : الذي بطن كل شيء ، أي علم باطنه . وقال الزمخشري ؛ فإن قلت : فما معنى الواو ؟ قلت : الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين

" صفحة رقم 217 "
الأولية والآخرية ؛ والثانية على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ؛ وأما الوسطى فعل أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين . فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن . جامع الظهور بالأدلة والخفاء ، فلا يدرك بالحواس ؛ وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .
الحديد : ( 4 ) هو الذي خلق . . . . .
( يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الاْرْضِ ( من المطر والأموات وغير ذلك ، ( وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ( من النبات والمعادن وغيرها ، ( وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء ( من الملائكة والرحمة والعذاب وغيره ، ( وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ( من الملائكة وصالح الأعمال وسيئها ، ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ( : أي بالعلم والقدرة . قال الثوري : المعني علمه معكم ، وهذه آية أجمعت الأمّة على هذا التأويل فيها ، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات ، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها . وقال بعض العلماء : فيمن يمتنع من تأويل ما لا يمكن حمله على ظاهره ، وقد تأول هذه الآية ، وتأول الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، لو اتسع عقله لتأول غير هذا مما هو في معناه .
الحديد : ( 5 ) له ملك السماوات . . . . .
وقرأ الجمهور ؛ ) تُرْجَعُ ( ، مبنياً للمفعول ؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج : مبنياً للفاعل ؛ والأمور عام في جميع الموجودات ، أعراضها وجواهرها . وتقدم شرح ما قبل هذا وما بعده ، فأغنى عن إعادته .
( ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ هُوَ الَّذِى يُنَزّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ ).
الحديد : ( 7 ) آمنوا بالله ورسوله . . . . .
لما ذكر تعالى تسبيح العالم له ، وما احتوى عليه من الملك ، والتصرف ، وما وصف به نفسه من الصفات العلا ، وختمها بالعالم بخفيات الصدور ، أمر تعالى عباده المؤمنين بالثبات على الإيمان وإدامته ، والنفقة في سبيل الله تعالى . قال الضحاك : نزلت في غزوة تبوك . ) مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ( : أي ليست لكم بالحقيقة ، وإنما انتقلت إليكم من غيركم . وكما وصلت إليكم تتركونها لغيركم ، وفيه تزهيد فيما بيد الناس ، إذ مصيره إلى غيره ، وليس له منه إلا ما جاء في الحديث : ( يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ) . وقيل لأعرابي : لمن هذه الإبل ؟ فقال : هي لله تعالى عندي . أو يكون المعنى : إنه تعالى أنشأ هذه الأموال ، فمتعكم بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها ، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء ، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى .
ثم ذكر تعالى ما للمؤمن المنفق من الأجر ، ووصفة بالكرم ليصرعه في أنواع الثواب . قيل : وفيه إشارة إلى عثمان بن عفان ، حيث بذل تلك النفقة العظيمة في جيش العسرة ،
الحديد : ( 8 ) وما لكم لا . . . . .
ثم قال : ) وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( ، وهو استفهام على سبيل التأنيب والإنكار : أي كيف لا تثبتون على الإيمان ؟ ودواعي ذلك موجودة ، وذلك ركزة فيكم من دلائل العقل . وموجب ذلك من السمع في قوله : ) وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ( لهذا الوصف الجليل . وقد تقدم أخذ الميثاق عليكم بالإيمان ، فدواعي الإيمان موجودة ، وأسبابه حاصلة ، فلا مانع منه ، ولا عذر في تركه . و ) لاَ تُؤْمِنُونَ ( حال ، كما تقول : ما لك لا تقوم تنكر عليه انتفاء قيامه ؟

" صفحة رقم 218 "
) وَالرَّسُولِ ( : الواو واو الحال ، فالجملة بعده حال ، وقد أخذ حال ثالثة ، وهذا الميثاق قيل : هو الذي أخذ عليهم حين الإخراج من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام . وقيل : ما نصب من الأدلة وركز في العقول من النظر فيها .
( إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( : شرط وجوابه محذوف ، أي إن كنتم مؤمنين لموجب مّا ، فهذا هو الموجب لإيمانكم ، أو إن كنتم ممن يؤمن ، فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه ؟ وهي دعاء الرسول وأخذ الميثاق . وقال الطبري : إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فالآن . وقرأ الجمهور : ) وَقَدْ أَخَذَ ( مبنياً للفاعل ، ( مِيثَاقَكُمْ ( بالنصب ؛ وأبو عمرو : مبنياً للمفعول ، ميثاقكم رفعاً . وقال ابن عطية : في قوله : ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( وإنما المعنى أن قوله : ) وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( يقتضي أن يقدر بأثره ، فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة . ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( : أي إن دمتم على ما بدأتم به .
الحديد : ( 9 ) هو الذي ينزل . . . . .
ولما ذكر توطئة ما يوجب الإيمان دعاء الرسول إياهم للإيمان ، ذكر أنه تعالى هو المنزل على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما دعا به إلى الإيمان ، وذلك الآيات البينات المعجزات ، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أي الله تعالى ، إذ هو المخبر عنه ، أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنه أقرب . وقرىء في السبعة : ) يُنَزّلٍ ( مضارعاً ، فبعض ثقل وبعض خفف . وقراءة الحسن : بالوجهين ؛ وزيد بن علي والأعما : أنزل ماضياً ، ووصف نفسه تعالى بالرأفة والرحمة تأنيساً لهم .
الحديد : ( 10 ) وما لكم ألا . . . . .
ولما كان قد أمرهم بالإيمان والإنفاق ، ثم ترك تأنيبهم على ترك الإيمان مع حصول موجبه ، أنبهم على ترك الإنفاق في سبيل الله مع قيام الداعي لذلك ، وهو أنهم يموتون فيخلفونه . ونبه على هذا الموجب بقوله : ) وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( وهذا من أبلغ البعث على الإنفاق . وأن لا تنفقوا تقديره : في أن لا تنفقوا ، فموضعه جر أو نصب على الخلاف ، وأن ليست زائدة ، بل مصدرية . وقال الأخفش : في قوله : ) وَمَا لَنَا أَن لا نُّقَاتِلْ ( ، إنها زائدة عاملة تقديره عنده : وما لنا لا نقاتل ، فلذلك على مذهبه في تلك هنا تكون أن ، وتقديره : وما لكم لا تنفقون ، وقد رد مذهبه في كتب النحو .
( لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ( ، قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، إذ كان أول من أسلم وهاجر وأنفق رضي الله تعالى عنه ، وكذا من تابعه في السبق في ذلك ، ولذلك قال : ) أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً ). وقيل : نزلت بسبب أن ناساً من الصحابة أنفقوا نفقات جليلة حتى قيل : إن هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق . وهذه الجملة تضمنت تباين ما بين المنفقين . وقرأ الجمهور : ) مِن قَبْلِ الْفَتْحِ ( ؛ وزيد بن علي ، قيل : بغير من . والفتح مكة ، وهو المشهور ، وقول قتادة وزيد بن أسلم ومجاهد . وقال أبو سعيد الخدري والشعبي : هو فتح الحديبة ، وقد تقدم في أول سورة الفتح كونه فتحاً ، ورفعه أبو سعيد إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبة . والظاهر أن ) مِنْ ( فاعل ) لاَ يَسْتَوِى ( ، وحذف مقابله ، وهو من أنفق من بعد الفتح وقاتل ، لوضوح المعنى .
( أُوْلَائِكَ ( : أي الذين أنفقوا قبل الفتح وقبل انتشار الإسلام وفشوّه واستيلاء السلمين على أم القرى ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين جاء في حقهم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) . وأبعد من ذهب إلى الفاعل بلا يستوي ضمير يعود على الإنفاق ، أي لا يستوي ، هو الإنفاق ، أي جنسه ، إذ منه ما هو قبل الفتح وبعده ؛ ومن أنفق مبتدأ ، وأولئك مبتدأ خبره ما بعده ، والجملة في موضع خبر من ، وهذا فيه تفكيك للكلام ، وخروج عن الظاهر لغير موجب . وحذف المعطوف لدلالة المقابل كثيرة ، فأنفق لا سيما المعطوف الذي يقتضيه وضع الفعل ، وهو يستوي . وقرأ الجمهور : ) وَكُلاًّ ( بالنصب ، وهو المفعول الأول لوعد . وقرأ ابن عامر وعبد الوارث من طريق المادر أي : وكل بالرفع والظاهر أنه مبتدأ ، والجملة بعده في موضع الخبر ، وقد أجاز ذلك الفراء وهشام ، وورد في

" صفحة رقم 219 "
السبعة ، فوجب قبوله ؛ وإن كان غيرهما من النحاة قد خص حذف الضمير الذي حذف من مثل وعد بالضرورة . وقال الشاعر : وخالد تحمد ساداتنا
بالحق لا تحمد بالباطل
يريده : تحمده ساداتنا ، وفر بعضهم من جعل وعد خبراً فقال : كل خبر مبتدأ تقديره : وأولئك كل ، ووعد صفة ، وحذف الضمير المنصوب من الجملة الواقعة صفة أكثر من حذفه منها إذا كانت خيراً ، نحو قوله : وما أدري أغيرهم تناء
وطول العهد أم مال أصابوا
يريد : أصابوه ، فأصابوه صفة لمال ، وقد حذف الضمير العائد على الموصوف والحسنى : تأنيث الأحسن ، وفسره مجاهد وقتادة بالجنة . والوعد يتضمن ذلك في الآخرة ، والنصر والغنيمة في الدنيا . ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيرٌ ( : فيه وعد ووعيد .
الحديد : ( 11 ) من ذا الذي . . . . .
وتقدم الكلام على مثل قوله : ) مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ( ، إعراباً وقراءة وتفسيراً ، في سورة البقرة . وقال ابن عطية : هنا الرفع يعني في يضاعفه على العطف ، أو على القطع والاستئناف . وقرأ عاصم : فيضاعفه بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام ، وفي ذلك قلق . قال أبو علي ، يعني الفارسي : لأن السؤال لم يقع على القرض ، وإنما وقع السؤال على فاعل القرض ، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ، لكن هذه الفرقة ، يعني من القراء ، حملت ذلك على المعنى ، كأن قوله : ) مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ ( بمنزلة أن لو قال : أيقرض الله أحد فيضاعفه ؟ انتهى .
وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أنه إنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ليس بصحيح ، بل يجوز إذا كان الاستفهام بأدواته الاسمية نحو : من يدعوني فأستجيب له ؟ وأين بيتك فأزورك ؟ ومتى تسير فأرافقك ؟ وكيف تكون فأصحبك ؟ فالاستفهام هنا واقع عن ذات الداعي ، وعن ظرف المكان وظرف الزمان والحال ، لا عن الفعل . وحكى ابن كيسان عن العرب : أين ذهب زيد فنتبعه ؟ وكذلك : كم مالك فنعرفه ؟ ومن أبوك فنكرمه ؟ بالنصب بعد الفاء . وقراءة فيضاعفه بالنصب قراءة متواترة ، والفعل وقع صلة للذي ، والذي صفة لذا ، وذا خبر لمن . وإذا جاز النصب في نحو هذا ، فجوازه في المثل السابقة أحرى ، مع أن سماع بن كيسان ذلك محكياً عن العرب يؤيد ذلك . والظاهر أن قوله : ) وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( هو زيادة على التضعيف المترتب على القرض ، أي وله مع التضعيف أجر كريم .
قوله عز وجل : ) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِك ( سقط : سقط إلى آخر الصفحة ) َ ).

" صفحة رقم 220 "
( سقط : الله وغركم بالله الغرور ، فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ومأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير )
الحديد : ( 12 ) يوم ترى المؤمنين . . . . .
العامل في يوم ما عمل في لهم ؛ التقدير : ومستقر له أجر كريم يوم ترى ، أو اذكر يوم ترى إعظاماً لذلك اليوم . والرؤية هنا رؤية عين ، والنور حقيقة ، وهو قول الجمهور ، وروي في ذلك عن ابن عباس وغيره آثار ، وأن كل مظهر من الإيمان له نور ، فيطفىء نور المنافق ، ويبقى نور المؤمن ، وهم متفاوتون في النور . منهم من يضيء ، كما بين مكة وصنعاء ، ومن نوره كالنخلة السحوق ، ومن يضيء له ما قرب قدميه . ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويبين مرة ، وذلك على قدر الأعمال . وقال الضحاك : النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه . والظاهر أن النور يتقدم لهم بين أيديهم ، ويكون أيضاً بأيمانهم ، فيظهر أنهما نوران : نور ساع بين أيديهم ، ونور بأيمانهم ؛ فذلك يضيء الجهة التي يؤمونها ، وهذا يضيء ما حواليهم من الجهات . وقال الجمهور : النور أصله بأيمانهم ، والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك النور . وقيل : الباء بمعنى عن ، أي عن أيمانهم ، والمعنى : في جميع جهاتهم . وعبر عن ذلك بالأيمان تشريفاً لها . وقال الزمخشري : وإنما قال ) بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ( ، لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم . وقرأ الجمهور : ) وَبِأَيْمَانِهِم ( ، جمع يمين ؛ وسهل بن شعيب السهمي ، وأبو حيوة : بكسر الهمزة ، وعطف هذا المصدر على الظرف لأن الظرف متعلق بمحذوف ، أي كائناً بين أيديهم ، وكائناً بسبب أيمانهم .
( بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ( : جملة معمولة لقول محذوف ، أي تقول لهم الملائكة : الذين يتلقونهم جنات ، أي دخول جنات . قال ابن عطية : ) خَالِدِينَ فِيهَا ( ، إلى آخر الآية ، مخاطبة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . انتهى . ولا مخاطبة هنا ، بل هذا من باب الالتفات من ضمير الخطاب في ) بُشْرَاكُمُ ( إلى ضمير الغيبة في ) خَالِدِينَ ). ولو جرى على الخطاب ، لكان التركيب خالداً أنتم فيها ، والالتفات من فنون البيان
الحديد : ( 13 ) يوم يقول المنافقون . . . . .
( يَوْمَ يَقُولُ ( بدل من ) يَوْمَ تَرَى ). وقيل : معمول لأذكر . قال ابن عطية : ويظهر لي أن العامل فيه ) ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ، ومجيء معنى الفوز أفخم ، كأنه يقول : إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا ، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم . انتهى . فظاهر كلامه وتقديره أن يوم منصوب بالفوز ، وهو لا يجوز ، لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته ، فلا يجوز إعماله . فلو أعمل وصفة ، وهو العظيم ، لجاز ، أي الفوز الذي عظم ، أي قدره ) يَوْمَ يَقُولُ ).
) انظُرُونَا ( : أي انتظرونا ، لأنهم لما سبقوكم إلى المرور على الصراط ، وقد طفئت أنوارهم ، قالوا ذلك . قال الزمخشري : ) انظُرُونَا ( : انتظرونا ، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تذف بهم وهؤلاء مشاة ، أو انظروا إلينا ، لأنهم إذا انظروا إليهم استقبلوهم بوجوهم والنور بين أيديهم فيستضيئون به . انتهى . فجعل انظرونا بمعنى انظروا إلينا ، ولا يتعدى النظر هذا في لسان العرب إلا بإلى لا بنفسه ، وإنما وجد متعدياً بنفسه في الشعر . وقرأ زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة : أنظرونا من أنظر رباعياً ، أي أخرونا ، أي اجعلونا في آخركم ، ولا تسبقونا بحيث تفوتوننا ، ولا نلحق بكم . ) نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ( : أي نصب منه حتى نستضيء به . ويقال : اقتبس الرجل واستقبس : أخذ من نار غيره قبساً . ) قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ ( : القائل المؤمنون ، أو الملائكة . والظاهر أن ) وَرَاءكُمْ ( معمول لا رجعوا . وقيل : لا محل له من الأعراب لأنه بمعنى ارجعوا ، كقولهم : وراءك أوسع لك ، أي ارجع تجد مكاناً أوسع لك . وارجعوا أمر توبيخ وطرد ، أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا الفوز فالتمسوه هناك ، أو ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نوراً ، أي بتحصيل سببه وهو الإيمان ، أو تنحوا عنا ، ( فَالْتَمِسُواْ نُوراً ( غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه . وقد علموا أن لا نور وراءهم ، وإنما هو إقناط لهم .
( فَضُرِبَ بَيْنَهُم ( : أي بين المؤمنين والمنافقين ، ( بِسُورٍ ( : بحاجز . قال ابن زيد : هو الأعراف

" صفحة رقم 221 "
وقيل : حاجز غيره . وقرأ الجمهور : فضرب مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن علي وعبيد بن عمير : مبنياً للفاعل ، أي الله ، ويبعد قول من قال : إن هذا السور هو الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس ، وهو مروي عن عبادة بن الصامت وابن عباس وعبد الله بن عمر وكعب الأحبار ، ولعله لا يصح عنهم . والسور هو الحاجز الدائر على المدينة للحفظ من عدو . والظاهر في باطنه أن يعود الضمير منه على الباب لقربه . وقيل : على السور ، وباطنه الشق الذي لأهل الجنة ، وظاهره ما يدانيه من قبله من جهته العذاب .
الحديد : ( 14 ) ينادونهم ألم نكن . . . . .
( يُنَادُونَهُمْ ( : استئناف إخبار ، أي ينادون المنافقون المؤمنين ، ( أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ( : أي في الظاهر ، ( قَالُواْ بَلَى ( : أي كنتم معنا في الظاهر ، ( وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ ( : أي عرضتم أنفسكم للفتنة بنفاقكم ، ( وَتَرَبَّصْتُمْ ( أي بأيمانكم حتى وافيتم على الكفر ، أو تربصتم بالمؤمنين الدوائر ، قاله قتادة ، ( وَارْتَبْتُمْ ( : شككتم في أمر الدين ، ( وَغرَّتْكُمُ الاْمَانِىُّ ( : وهي الأطماع ، مثل قولهم : سيهلك محمد هذا العام ، تهزمه قبيلة قريش مستأخرة الأحزاب إلى غير ذلك ، أو طول الآمال في امتداد الأعمار ، ( حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ ( ، وهو الموت على النفاق ، والغرور : الشيطان بإجماع . وقرأ سماك بن حرب : الغرور ، وتقدم ذلك .
الحديد : ( 15 ) فاليوم لا يؤخذ . . . . .
( فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ ( أيها المنافقون ، والناصب لليوم الفعل المنفي بلا ، وفيه حجة على من منع ذلك ، ( وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، في الحديث : ( إن الله تعالى يعزر الكافر فيقول له : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا ، أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار ؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول الله تبارك وتعالى : قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأ نت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك ) . وقرأ الجمهور : لا يؤخذ ؛ وأبو جعفر والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو : بالتاء لتأنيث الفدية . ) هِىَ مَوْلَاكُمْ ( ، قيل : أولى بكم ، وهذا تفسير معنى . وكانت مولاهم من حيث أنها تضمهم وتباشرهم ، وهي تكون لكم مكان المولى ، ونحوه قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد هي ناصركم ، أي لا ناصر لكم غيرها . والمراد نفي الناصر على البتات ، ونحوه قولهم : أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع ، ومنه قوله تعالى : ) يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ ). وقيل : تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار .
قوله عز وجل : ) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن ).

" صفحة رقم 222 "
الحديد : ( 16 - 17 ) ألم يأن للذين . . . . .
عن عبد الله : ملت الصحابة ملة ، فنزلت ) أَلَمْ يَأْنِ ). وعن ابن عباس : عوتبوا بعد ثلاث عشرة سنة . وقيل : كثر المزاح في بعض شباب الصحابة فنزلت . وقرأ الجمهور : ) الم ( ؛ والحسن وأبو السمال : ألما . والجمهور : ) يَأْنِ ( مضارع أنى حان ؛ والحسن : يئن مضارع أن حان أيضاً ، والمعنى : قرب وقت الشيء . ) أَن تَخْشَعَ ( : تطمئن وتخبت ، وهو من عمل القلب ، ويظهر في الجوارح . وفي الحديث : ( أول ما يرفع من الناس الخشوع ) . ) لِذِكْرِ اللَّهِ ( : أي لأجل ذكر الله ، كقوله : ) إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ). قيل : أو لتذكير الله إياهم . وقرأ الجمهور : وما نزل مشدداً ؛ ونافع وحفص : مخففاً ؛ والحجدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس ، وعباس عنه : مبنياً للمفعول مشدداً ؛ وعبد الله : أنزل بهمزة النقل مبنياً للفاعل . والجمهور : ) وَلاَ يَكُونُواْ ( بياء الغيبة ، عطفاً على ) أَن تَخْشَعَ ( ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر ، وعن شيبة ، ويعقوب وحمزة في رواية عن سليم عنه : ولا تكونوا على سبيل الالتفات ، إما نهياً ، وإما عطفاً على ) أَن تَخْشَعَ ). ) كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ ( ، وهم معاصرو موسى عليه السلام من بني إسرائيل . حذر المؤمنون أن يكونوا مثلهم في قساوة القلوب ، إذ كانوا إذا سمعوا التوراة رقوا وخشعوا ، ( فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاْمَدُ ( : أي انتظار الفتح ، أو انتظار القيامة . وقيل : أمد الحياة . وقرأ الجمهور : الأمد مخفف الدال ، وهي الغاية من الزمان ؛ وابن كثير : بشدها ، وهو الزمان بعينه الأطول . ) فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ( : صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعة .
( فَانظُرْ إِلَىءاثَارِ رَحْمَةِ ( : يظهر أنه تمثيل لتليين القلوب بعد قسوتها ، ولتأثير ذكر الله فيها . كما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة ، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلة ، يظهر فيها أثر الطاعات والخشوع .
الحديد : ( 18 ) إن المصدقين والمصدقات . . . . .
وقرأ الجمهور : ) الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ ( ، بشدّ صاديهما ؛ وابن كثير وأبو بكر والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون : بخفهما ؛ وأبيّ : بتاء قبل الصاد فيهما ، فهذه وقراءة الجمهور من الصدقة ، والخف من التصديق ، صدّقوا رسوله الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيما بلغ عن الله تعالى . قال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف قوله : ) وَأَقْرِضُواُ ( ؟ قلت : على معنى الفعل في المصدّقين ، لأن اللام بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى اصدّقوا ، كأنه قيل : إن الذين اصدقوا وأقرضوا . انتهى . واتبع في ذلك أبا علي الفارسي ، ولا يصح أن يكون

" صفحة رقم 223 "
معطوفاً على المصدقين ، لأن المعطوف على الصلة صلة ، وقد فصل بينهما بمعطوف ، وهو قلوه : ) وَالْمُصَّدّقَاتِ ). ولا يصح أيضاً أن يكون معطوفاً على صلة أل في المصدقات لاختلاف الضمائر ، إذ ضمير المتصدّقات مؤنث ، وضمير وأقرضوا مذكر ، فيتخرج هنا على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه ، لأنه قيل : والذين أقرضوا ، فيكون مثل قوله : فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
يريد : ومن يمدحه ، وصديق من أبنية المبالغة . قال الزجاج : ولا يكون فيما أحفظ إلا من ثلاثي . وقيل : يجيء من غير الثلاثي كمسيك ، وليس بشيء ، لأنه يقال : مسك وأمسك ، فمسيك من مسك .
الحديد : ( 19 ) والذين آمنوا بالله . . . . .
( وَالشُّهَدَاء ( : الظاهر أنه مبتدأ خبره ما بعده ، فيقف على الصديقون ، وإن شئت فهو من عطف الجمل ، وهذا قول ابن عباس ومسروق والضحاك . إن الكلام تام في قوله : ) الصّدّيقُونَ ( ، واختلف هؤلاء ، فبعض قال : الشهداء هم الأنبياء ، يشهدون للمؤمنين بالصدّيقية لقوله : ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ ( الآية ؛ وبعض قال : هم الشهداء في سبيل الله تعالى ، استأنف الخبر عنهم ، فكأنه جعلهم صنفاً مذكوراً وحده لعظم أجرهم . وقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة : والشهداء معطوف على الصديقون ، والكلام متصل ، يعنون من عطف المفرادت ، فبعض قال : جعل الله كل مؤمن صديقاً وشهيداً ، قاله مجاهد . وفي الحديث ، من رواية البراء : ( مؤمنو أمتي شهداء ) ، وإنما ذكر الشهداء السبعة تشريفاً لهم لأنهم في أعلى رتب الشهادة ، كما خص المقتول في سبيل الله من السبعة بتشريف تفرد به ، وبعض قال : وصفهم بالصديقية والشهادة من قوله تعالى : ) لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ). ) لَهُمْ أَجْرُهُمْ ( : خبر عن الشهداء فقط ، أو عن من جمع بين الوصفين على اختلاف القولين . والظاهر في نورهم أنه حقيقة . وقال مجاهد وغيره : عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى .
الحديد : ( 20 ) اعلموا أنما الحياة . . . . .
( اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ( : أخبر تعالى بغالب أمرها من اشتمالها على أشياء لا تدوم ولا تجدي ، وأما ما كان من الطاعات وضروري ما يقوم به الأود ، فليس مندرجاً في هذه الآية . ) لَعِبٌ وَلَهْوٌ ( ، كحالة المترفين من الملوك . ) وَزِينَةٌ ( : تحسين لما هو خارج عن ذات الشيء . ) وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ ( : قراءة الجمهور بالتنوين ونصب بينكم ، والسلمى بالإضافة . ) وَتَكَاثُرٌ ( بالعدد والعدد على عادة الجاهلية ، وهذه كلها محقرات ، بخلاف أمر الآخرة ، فإنها مشتملة على أمور حقيقية عظام . قال الزمخشري : وشبه تعالى حال الدنيا وسرعة تقضيها ، مع قلة جدواها ، بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل ، وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليهم العاهة ، فهاج واصفر وصار حطاماً ، عقوبة لهم على جحودهم ، كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين . انتهى .
وقال ابن عطية : ) كَمَثَلِ ( في موضع رفع صفة لما تقدّم . وصورة هذا المثال أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك ، فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس ، ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط ، فينشف ويضعف ويسقم ، وتصيبه النوائب في ماله ودينه ، ويموت ويضمحلّ أمره ، وتصير أمواله لغيره وتغير رسومه ، فأمره مثل مطر أصاب أرضاً فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق ، ثم هاج ، أي يبس واصفر ، ثم تحطم ، ثم تفرق بالرياح واضمحل . انتهى . قيل : الكفار : الزراع ، من كفر الحب ، أي ستره في الأرض ، وخصوا بالذكر لأنهم أهل البصر بالنبات والفلاحة ، فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة . وقيل : من الكفر بالله ، لأنهم أشدّ تعظيماً للدنيا وإعجاباً بمحاسنها ؛ وحطام : بناء مبالغة كعجاب . وقرىء : مصفاراً . ولما ذكر ما يؤول إليه أمر الدنيا من الفناء ، ذكر ما هو ثابت دائم من أمر الآخرة من العذاب الشديد ، ومن رضاه الذي هو سبب النعيم .
قوله عز وجل : ) سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاْرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ ).
الحديد : ( 21 ) سابقوا إلى مغفرة . . . . .
ولما ذكر تعالى ما في الآخرة من المغفرة ، أمر بالمسابقة إليها ، والمعنى : سابقوا إلى سبب مغفرة ، وهو الإيمان وعمل الطاعات . وقد مثل بعضهم المسابقة في أنواع ؛ فقال عبد الله : كونوا في أول صفة في القتاد . وقال أنس : اشهدوا تكبيرة

" صفحة رقم 224 "
الإحرام مع الإمام . وقال علي : كن أول داخل في المسجد وآخر خارج . واستدل بهذا السبق على أن أول أوقات الصلوات أفضل ، وجاء لفظ سابقوا كأنهم في مضمار يجرون إلى غاية مسابقين إليهم . ) عَرْضُهَا ( : أي مساحتها في السعة ، كما قال : فذو دعاء عريض ، أو العرض خلاف الطول . فإذا وصف العرض بالبسطة ، عرف أن الطول أبسط وأمد . ) أُعِدَّتْ ( : يدل على أنها مخلوقة ، وتكرر ذلك في القرآن يقوي ذلك ، والسنة ناصة على ذلك ، وذلك يرد على المعتزلة في قولهم : إنها الآن غير مخلوقة وستخلق . ) ذالِكَ ( : أي الموعود من المغفرة والجنة ، ( فَضَّلَ اللَّهُ ( : عطاؤه ، ( يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( : وهم المؤمنون .
الحديد : ( 22 ) ما أصاب من . . . . .
( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ ( : أي مصيبة ، وذكر فعلها ، وهو جائز التذكير والتأنيث ، ومن التأنيث ) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا ). ولفظ مصيبة يدل على الشر ، لأن عرفها ذلك . قال ابن عباس ما معناه : أنه أراد عرف المصيبة ، وهو استعمالها في الشر ، وخصصها بالذكر لأنها أهم على البشر . والمصيبة في الأرض مثل القحط والزلزلة وعاهة الزرع ، وفي الأنفس : الأسقام والموت . وقيل : المراد بالمصيبة الحوادث كلها من خير وشر ، ( إِلاَّ فِى كِتَابٍ ( : هو اللوح المحفوظ ، أي مكتوبة فيه ، ( مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ( : أي نخلقها . برأ : خلق ، والضمير في نبرأها الظاهر أنه يعود على المصيبة ، لأنها هي المحدث عنها ، وذكر الأرض والأنفس هو على سبيل محل المصيبة . وقيل : يعود على الأرض . وقيل : على الأنفس ، قاله ابن عباس وقتادة وجماعة . وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر . قال ابن عطية : وهي كلها معارف صحاح ، لأن الكتاب السابق أزليّ قبل هذه كلها . انتهى . ) إِنَّ ذالِكَ ( : أي يحصل كل ما ذكر في كتاب وتقديره ، ( عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( : أي سهل ، وإن كان عسيراً على العباد .
الحديد : ( 23 - 24 ) لكي لا تأسوا . . . . .
ثم بين تعالى الحكمة في إعلامنا بذلك الذي فعله من تقدير ذلك ، وسبق قضائه به فقال : ) لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ ( : أي تحزنوا ، ( عَلَى مَا فَاتَكُمْ ( ، لأن العبد إن أعلم ذلك سلم ، وعلم أن ما فاته لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه ، فلذلك لا يحزن على فائت ، لأنه ليس بصدد أن يفوته ، فهون عليه أمر حوادث الدنيا بذلك ، إذ قد وطن نفسه على هذه العقيدة . ويظهر أن المراد بقوله : ) لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ ( : أن يلحق الحزن الشديد على ما فات من الخير ، فيحدث عنه التسخط وعدم الرضا بالمقدور . ) وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ ( : أن يفرح الفرح المؤدي إلى البطر المنهي عنه في قوله تعالى : ) لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( ، فإن الحزن قد ينشأ عنه البطر ، ولذلك ختم بقوله : ) وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ). فالفرح بما ناله من حطام الدنيا يلحقه في نفسه الخيلاء والافتخار والتكبر على الناس ، فمثل هذا هو المنهي عنه . وأما الحزن على ما فات من طاعة الله ، والفرح بنعم الله والشكر عليها والتواضع ، فهو مندوب إليه .
وقال ابن عباس : ليس أحد إلا يحزن ويفرح ، ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبراً ، ومن أصاب خيراً جعله شكراً . انتهى ، يعني هو المحمود . وقال الزمخشري : فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح . قلت : المراد : الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر ، والتسليم لأمر الله تعالى ، ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح المطغي الملهي عن الشكر . فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر ، فلا بأس به . انتهى . وقرأ الجمهور : بما آتاكم : أي أعطاكم ؛ وعبد الله : أوتيتم ، مبنياً للمفعول : أي أعطيتم ؛ وأبو عمرو : أتاكم : أي جاءكم .
( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ( : أي هم الذين يبخلون ، أو يكون الذين مبتدأ محذوف الخبر على جهة الإبهام تقديره : مذمومون ، أو موعودون بالعذاب ، أو مستغنى عنهم ، أو على إضمار ، أعني فهو في موضع نصب ، أو في موضع نصب صفة لكل مختال ، وإن كان نكرة ، فهو مخصص نوعاً مّا ، فيسوغ لذلك وصفة بالمعرفة . قال ابن عطية : هذا مذهب الأخفش . انتهى .
عظمت الدنيا في أعينهم ، فبخلوا أن يؤدوا منها حقوق الله تعالى ، وما كفاهم ذلك حتى أمروا الناس بالبخل ورغبوهم في الإمساك ، والظاهر أنهم أمروا الناس حقيقة . وقيل : كانوا قدوة فيه ، فكأنهم يأمرون به . ) وَمَن يَتَوَلَّ ( عن ما أمر الله به . وقرأ الجمهور : ) فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ ( ؛ وقرأ نافع وابن عامر : بإسقاط هو ، وكذا في

" صفحة رقم 225 "
مصاحف المدينة والشام ، وكلتا القراءتين متواترة . فمن أثبت هو ، فقال أبو علي الفارسي : يحسن أن يكون فصلاً ، قال : ولا يحسن أن يكون ابتداء ، لأن حذف الابتداء غير سائغ . انتهى . يعني أنه في القراءة الأخرى حذف ، ولو كان مبتدأ لم يجز حذفه ، لأنك إذا قلت : إن زيداً هو الفاضل ، فأعربت هو مبتدأ ، لم يجز حذفه ، لأن ما بعده من قولك الفاضل صالح أن يكون خبراً لأن ، فلا يبقى دليل على حذف هو الرابط . ونظيره : ) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ ( ، لا يجوز حذف هم ، لأن ما بعده يصلح أن يكون صلة ، فلا يبقى دليل على المحذوف . وما ذهب إليه أبو علي ليس بشيء ، لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وتركيب إحداهما على الأخرى ، وليس كذلك . ألا ترى أنه يكون قراءتان في لفظ واحد ، ولكل منهما توجيه يخالف الآخر ، كقراءة من قرأ : ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ( بضم التاء ، والقراءة الأخرى : ) بِمَا وَضَعَتْ ( بتاء التأنيث فضم التاء يقتضي أن الجملة من كلام أم مريم ، وتاء التأنيث تقتضي أنها من كلام الله تعالى ، وهذا كثير في القراءات المتواترة . فكذلك هذا يجوز أن يكون هو مبتدأ في قراءة من أثبته ، وإن كان لم يرد في القراءة الأخرى ، ولكل من التركيبين في الإعراب حكم يخصه .
الحديد : ( 25 ) لقد أرسلنا رسلنا . . . . .
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ ( : الظاهر أن الرسل هنا هم من بني آدم ، والبينات : الحجج والمعجزات . ) وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ ( : الكتاب اسم جنس ، ومعهم حال مقدرة ، أي وأنزلنا الكتاب صائراً معهم ، أي مقدراً صحبته لهم ، لأن الرسل منزلين هم والكتاب . ولما أشكل لفظ معهم على الزمخشري ، فسر الرسل بغير ما فسرناه ، فقال : ) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا ( ، يعنى : الملائكة ، إلى الأنبياء بالحجج والمعجزات ، ( وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ ( : أي الوحي ، ( وَالْمِيزَانَ ). وروي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان ، فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به . ) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( ، قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة . وروي : ومعه المسن والمسحاة . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض ، أنزل الحديد والنار والماء والملح . انتهى . وأكثر المتأولين على أن المراد بالميزان : العدل ، فقال ابن زيد وغيره : أراد بالموازين : المعرفة بين الناس ، وهذا جزء من العدل . ) لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ( : الظاهر أنه علة لإنزال الميزان فقط ، ويجوز أن يكون علة لإنزال الكتاب والميزان معاً ، لأن القسط هو العدل في جميع الأشياء من سائر التكاليف ، فإنه لا جور في شيء منها ، ولذلك جاء : ) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ).
) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( : عبر عن إيجاده بالإنزال ، كما قال : ) وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ). وأيضاً فإن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تلقى من السماء ، جعل الكل نزولاً منها ، قاله ابن عطية . وقال الجمهور : أراد بالحديد جنسه من المعادن . وقال ابن عباس : نزل آدم من الجنة ومعه السندان والكلبتان والميقعة . ) فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ( : أي السلاح الذي يباشر به القتال ، ( وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ( : في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم ؛ فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها . ) وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ ( علة لإنزال الكتاب والميزان والحديد . ) مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ ( بالحجج والبراهين المنتزعة من الكتاب المنزل ، وبإقامة العدل ، وبما يعمل من آلة الحرب للجهاد في سبيل الله . قال ابن عطية : أي ليعلمه موجوداً ، فالتغير ليس في علم الله ، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود . وقوله : ) بِالْغَيْبِ ( معناه : بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه ، فآمن بها لقيام الأدلة عليها .
ولما قال تعالى : ) مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ ( ، ذكر تعالى أنه غني عن نصرته بقدرته وعزته ، وأنه إنما كلفهم الجهاد لمنفعة أنفسهم ، وتحصيل ما يترتب لهم من الثواب . وقال ابن عطية : ويترتب معنى الآية بأن الله تعالى أخبر بأنه أرسل رسله ، وأنزل كتباً وعدلاً مشروعاً ، وسلاحاً يحارب به من عاند ولم يهتد بهدي الله ، فلم يبق عذر . وفي الآية ، على هذا التأويل ، حث على القتال .
قوله عز وجل : ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَءاتَيْنَاهُ الإنجِيلَ وَجَعَلْنَا

" صفحة رقم 226 "
فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّة ( سقط : الآية كاملة ) ً ).
الحديد : ( 26 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . . .
لما ذكر تعالى إرسال الرسل جملة ، أفرد منهم في هذه الآية نوحاً وإبراهيم ، عليهما السلام ، تشريفاً لهما بالذكر . أما نوح ، فلأنه أول الرسل إلى من في الأرض ؛ وأما إبراهيم ، فلأنه انتسب إليه أكثر الأنبياء عليهم السلام ، وهو معظم في كل الشرائع . ثم ذكر أشرف ما حصل لذريتهما ، وذلك النبوة ، وهي التي بها هدي الناس من الضلال ؛ ) وَالْكِتَابِ ( ، وهي الكتب الأربعة : التوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، وهي جميعها في ذرية إبراهيم عليه السلام ، وإبراهيم من ذرية نوح ، فصدق أنها في ذريتهما . وفي مصحف عبد الله : والنبية مكتوبة بالياء عوض الواو . وقال ابن عباس : ) وَالْكِتَابِ ( : الخط بالقلم ، والظاهر أن الضمير في منهم عائد على الذرية . وقيل : يعود على المرسل إليهم لدلالة ذكر الإرسال والمرسلين عليهم . ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العلل بذلك ، انقسموا إلى مهتد وفاسق ، وأخبر بالفسق عن الكثير منهم .
الحديد : ( 27 ) ثم قفينا على . . . . .
( ثُمَّ قَفَّيْنَا ( : أي اتبعنا وجعلناهم يقفون من تقدم ، ( عَلَىءاثَارِهِمْ ( : أي آثار الذرية ، ( بِرُسُلِنَا ( : وهم الرسل الذين جاءوا بعد الذرية ، ( وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ( : ذكره تشريفاً له ، ولانتشار أمته ، ونسبه لأمه على العادة في الإخبار عنه . وتقدمت قراءة الحسن : الإنجيل ، بفتح الهمزة في أول سورة آل عمران . قال أبو الفتح : وهو مثال لا نظير له . انتهى ، وهي لفظة أعجمية ، فلا يلزم فيها أن تكون على أبنية كلم العرب . وقال الزمخشري : أمره أهون من أمر البرطيل ، يعني أنه بفتح الباء وكأنه عربي ؛ وأما الإنجيل فأعجمي . وقرىء : رآفة على وزن فعالة ، ( وَجَعَلْنَا ( : يحتمل أن يكون المعنى وخلقنا ، كقوله : ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( ، ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا ، فيكون ) فِى قُلُوبِ ( : في موضع المفعول الثاني لجعلنا . ) وَرَهْبَانِيَّةً ( معطوف على ما قبله ، فهي داخلة في الجمل . ) ابتَدَعُوهَا ( : جملة في موضع الصفة لرهبانية ، وخصت الرهبانية بالابتداع ، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها ، بخلاف الرهبانية ، فإنها أفعال بدن مع شيء في القلب ، ففيها موضع للتكسب . قال قتادة : الرأفة والرحمة من الله ، والرهبانية هم ابتدعوها ؛ والرهبانية : رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهنّ واتخاد الصوامع . وجعل أبو علي الفارسي ) وَرَهْبَانِيَّةً ( مقتطعة من العطف على ما قبلها من ) رَأْفَةً وَرَحْمَةً ( ، فانتصب عنده ) وَرَهْبَانِيَّةً ( على إضمار فعل يفسره ما بعده ، فهو من باب الاشتغال ، أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها . واتبعه الزمخشري فقال : وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها ، يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها . انتهى ، وهذا إعراب المعتزلة ، وكان أبو عليّ معتزلياً . وهم يقولون : ما كان مخلوقاً لله لا يكون مخلوقاً للعبد ، فالرأفة والرحمة من خلق الله ، والرهبانية من ابتداع الإنسان ، فهي مخلوقة له . وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية ، لأن مثل هذا هو مما يجوز فيه الرفع بالابتداء ، ولا يجوز الابتداء هنا بقوله : ) وَرَهْبَانِيَّةً ( ، لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة .
وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق : ففرقة قاتلت الملوك على

" صفحة رقم 227 "
الدين فغلبت وقتلت ؛ وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه ولم تقاتل ، فأخذها الملوك ينشرونهم بالمناشير فقتلوا ، وفرقة خرجت إلى الفيافي ، وبنت الصوامع والديارات ، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت . والرهبانية : الفعلة المنسوبة إلى الرهبان ، وهو الخائف بني فعلان من رهب ، كالخشيان من خشي . وقرىء : ورهبانية بالضم . قال الزمخشري : كأنها نسبة إلى الرهبان ، وهو جمع راهب ، كراكب وركبان . انتهى . والأولى أن يكون منسوباً إلى رهبان وغير بضم الراء ، لأن النسب باب تغيير . ولو كان منسوباً إلى رهبان الجمع لرد إلى مفرده ، فكان يقال : راهبية ، إلا إن كان قد صار كالعلم ، فإنه ينسب إليه على لفظه كالأنصار . والظاهر أن ) إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوانِ ( الله استثناء متصل من ما هو مفعول من أجله ، وصار المعنى : أنه تعالى كتبها عليهم ابتغاء مرضاته ، وهذا قول مجاهد ، ويكون كتب بمعنى قضى . وقال قتادة وجماعة : المعنى : المعنى : لم يفرضها عليهم ، ولكنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان الله تعالى ، فالاستثناء على هذا منقطع ، أي لكن ابتدعوها لابتغاء رضوان الله تعالى . والظاهر أن الضمير في ) رَعَوْهَا ( عائد على ما عاد عليه في ) ابتَدَعُوهَا ( ، وهو ضمير ) الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ( ، أي لم يرعوها كما يجب على الناذر رعاية نذره ، لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه . وقال نحوه ابن زيد ، قال : لم يدوموا على ذلك ، ولا وفوه حقه ، بل غيروا وبدلوا ، وعلى تقدير أن فيهم من رعى يكون المعنى : فما رعوها بأجمعهم . وقال ابن عباس وغيره : الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم . وقال الضحاك وغيره : الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين لها . ) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ( : وهم أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام . ) وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( : وهم الذين لم يرعوها .
الحديد : ( 28 ) يا أيها الذين . . . . .
( يا أيها الذين آمنوا ( : الظاهر أنه نداء لمن آمن من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فمعنى آمنوا : دوموا واثبتوا ، وهكذا المعنى في كل أمر يكون المأمور ملتبساً بما أمر به . ) يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ ( ، قال أبو موسى الأشعري : كفلين : ضعفين بلسان الحبشة . انتهى ، والمعنى : أنه يؤتكم مثل ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله : ) أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ ( ، إذ أنتم مثلهم في الإيمانين ، لا تفرقوا بين أحد من رسله . وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين ، وادعوا الفضل عليهم ، فنزلت . وقيل : النداء متوجه لمن آمن من أهل الكتاب ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ، آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، يؤتكم الله كفلين ، أي نصيبين من رحمته ، وذلك لإيمانكم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإيمانكم بمن قبله من الرسل . ) وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ( : وهو النور المذكور في قوله : ) يَسْعَى نُورُهُم ( ، ويغفر لكم ما أسلفتم من الكفر والمعاصي . ويؤيد هذا المعنى ما ثبت في الصحيح : ( ثلاثة يؤتهم الله أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ) ، الحديث .
ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا أنهم لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة ، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ، ولم يكسبهم فضلاً قط . وإذا كان النداء لمؤمني هذه الأمة والأمر لهم ، فروي أنه لما نزل هذا الوعد لهم حسدهم أهل الكتاب ، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها ، وتزعم أنهم أحباء الله وأهل رضوانه ، فنزلت هذه الآية معلمة أن الله تعالى فعل ذلك وأعلم به . ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون .
الحديد : ( 29 ) لئلا يعلم أهل . . . . .
وقرأ الجمهور : ) لّئَلاَّ يَعْلَمَ ( ، ولا زائدة كهي في قوله : ) مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ ( ، وفي قوله : ) أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( في بعض التأويلات . وقرأ خطاب بن عبد الله : لأن لا يعلم ؛ وعبد الله وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة : على اختلاف ليعلم ؛ والجحدري : لينيعلم ، أصله لأن يعلم ، قلب الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغم النون في الياء بغير غنة ، كقراءة خلف أن يضرب بغير غنة . وري ابن مجاهد عن الحسن : ليلاً مثل ليلى اسم المرأة ، يعلم برفع الميم أصله لأن لا بفتح لام الجر وهي لغة ، فحذفت الهمزة ، اعتباطاً ، وأدغمت النون في اللام ، فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها ، فأبدلوا من الساكنة ياء فصار

" صفحة رقم 228 "
ليلاً ، ورفع الميم ، لأن إن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع ، إذ الأصل لأنه لا يعلم . وقطرب عن الحسن أيضاً : لئلا بكسر اللام وتوجيهه كالذي قبله ، إلا أنه كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر . وعن ابن عباس : كي يعلم ، وعنه : لكيلا يعلم ، وعن عبد الله وابن جبير وعكرمة : لكي يعلم . وقرأ الجمهور : أن لا يقدرون بالنون ، فإن هي المخففة من الثقيلة ؛ وعبد الله بحذفها ، فإن الناصبة للمضارع ، والله تعالى أعلم .

" صفحة رقم 229 "
58
( سورة المجادلة )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِىإِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِىأَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِىإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

" صفحة رقم 230 "
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أَءَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَائِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ فِى الاٌّ ذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِىإِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَائِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَائِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( )
المجادلة : ( 1 ) قد سمع الله . . . . .
فسح في المجلس : وسع لغيره . ) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ ).
هذه السورة مدنية . قال الكلبي : إلا قوله : ) مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ). وعن عطاء : العشر الأول منها مدني وباقيها مكي . قرأ الجمهور : ) قَدْ سَمِعَ ( بالبيان ؛ وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن : بالإدغام ، قال خلف بن هشام البزار : سمعت الكسائي يقول : من قرأ قد سمع ، فبين الدال عند السين ، فلسانه أعجمي ليس بعربي ، ولا يلتفت إلى هذا القول ؛ فالجمهور على البيان . والتي تجادل خولة بنت ثعلبة ، ويقال بالتصغير ، أو خولة بنت خويلد ، أو خولة بنت حكيم ، أو خولة بنت دليج ، أو جميلة ، أو خولة بنت الصامت ، أقوال للسلف . وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة . وقيل : سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته . قالت زوجته : يا رسول الله ، أكل أوس شبابي ونثرت له بطني ، فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني ، فقال لها : ( ما أراك إلا قد حرمت عليه ) ، فقالت : يا

" صفحة رقم 231 "
رسول الله لا تفعل ، فإني وحيدة ليس لي أهل سواه ، فراجعها بمثل مقالته فراجعته ، فهذا هو جدالها ، وكانت في خلال ذلك تقول : اللهم إن لي منه صبية صغاراً ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا . فهذا هو اشتكاؤها إلى الله ، فنزل الوحي عند جدالها .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : سبحان من وسع سمعه الأصوات . كان بعض كلام خولة يخفى عليّ ، وسمع الله جدالها ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى أوس وعرض عليه كفارة الظهار : ( العتق ) ، فقال : ما أملك ، و ( الصوم ) ، فقال : ما أقدر ، و ( الاطعام ) ، فقال : لا أجد إلا أن تعينني ، فأعانه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بخمسة عشر صاعاً ودعا له ، فكفر بالإطعام وأمسك أهله . وكان عمر ، رضي الله تعالى عنه ، يكرم خولة إذا دخلت على ه ويقول : قد سمع الله لها . وقال الزمخشري : معنى قد : التوقع ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمجادلة كانا متوقعين أن يسمع الله مجادلتها وشكواها ، وينزل في ذلك ما يفرح عنها . انتهى .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : يظهرون بشدّهما ؛ والأخوان وابن عامر : يظاهرون مضارع ظاهر ؛ وأبيّ : يتظاهرون ، مضارع تظاهر ؛ وعنه : يتظهرون ، مضارع تظهر ؛ والمراد به كله الظهار ، وهو قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، يريد في التحريم ، كأنه إشارة إلى الركوب ، إذ عرفه في ظهور الحيوان . والمعنى أنه لا يعلوها كما لا يعلو أمّه ، ولذلك تقول العرب في مقابلة ذلك : نزلت عن امرأتي ، أي طلقتها . وقوله : ) مّنكُمْ ( ، إشارة إلى توبيخ العرب وتهجين عادتهم في الظهار ، لأنه كان من إيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم .
المجادلة : ( 2 ) الذين يظاهرون منكم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أُمَّهَاتِهِمْ ( ، بالنصب على لغة الحجاز ؛ والمفضل عن عاصم : بالرفع على لغة تميم ؛ وابن مسعود : بأمهاتهم ، بزيادة الباء . قال الزمخشري : في لغة من ينصب . انتهى . يعني أنه لا تزاد الباء في لغة تميم ، وهذا ليس بشيء ، وقد رد ذلك على الزمخشري . وزيادة الباء في مثل : ما زيد بقائم ، كثير في لغة تميم ، والزمخشري تبع في ذلك أبا عليّ الفارسي رحمه الله . ولما كان معنى كظهر أمي : كأمي في التحريم ، ولا يراد خصوصية الظهر الذي هو من الجسد ، جاء النفي بقوله : ) مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ( ، ثم أكد ذلك بقوله : ) أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ ( : أي حقيقة ، ( إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ ( وألحق بهنّ في التحريم أمّهات الرضاع وأمّهات المؤمنين أزواج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والزوجات لسن بأمّهات حقيقة ولا ملحقات بهنّ . فقول المظاهر منكر من القول تنكره الحقيقة وينكره الشرع ، وزور : كذب باطل منحرف عن الحق ، وهو محرم تحريم المكروهات جدّاً ، فإذا وقع لزم ، وقد رجى تعالى بعده بقوله : ) وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( مع الكفارة . وقال الزمخشري : ) وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( لما سلف منه إذ تاب عنه ولم يعد إليه . انتهى ، وهي نزغة اعتزالية .
والظاهر أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها . فلو قال : أنت عليّ كظهر أختي أو ابنتي ، لم يكن ظهاراً ، وهو قول قتادة والشعبي وداود ، ورواية أبي ثور عن الشافعي . وقال الجمهور : الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي في قول هو ظهار ، والظاهر أن الذمي لا يلزمه ظهاره لقوله : ) مّنكُمْ ( ، أي من المؤمنين وبه قال أبو حنيفة والشافعي لكونها ليست من نسائه . وقال مالك : يلزمه ظهاره إذا نكحها ، ويصح من المطلقة الرجعية . وقال : المزني لا يصح . وقال بعض العلماء : لا يصح ظهار غير المدخول بها ، ولو ظاهر من أمته التي يجوز له وطئها ، لزمه عند مالك . وقال

" صفحة رقم 232 "
أبو حنيفة والشافعي : لا يلزم ، وسبب الخلاف هو : هل تندرج في نسائهم أم لا ؟ والظاهر صحة ظهار العبد لدخوله في يظهرون منكم ، لأنه من جملة المسلمين ، وإن تعذر منه العتق والإطعام ، فهو قادر على الصوم . وحكى الثعلبي عن مالك أنه لا يصح ظهاره ، وليست المرأة مندرجة في الذين يظهرون ، فلو ظاهرت من زوجها لم يكن شيئاً . وقال الحسن بن زياد : تكون مظاهرة . وقال الأوزاعي وعطاء وإسحاق وأبو يوسف : إذا قالت لزوجها أنت عليّ كظهر فلانة ، فهي يمين تكفرها . وقال الزهري : أرى أن تكفر كفارة الظاهر ، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها .
المجادلة : ( 3 ) والذين يظاهرون من . . . . .
والظاهر أن قوله تعالى : ) ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ( : أن يعودوا للفظ الذي سبق منهم ، وهو قول الرجل ثانياً : أنت مني كظهر أمي ، فلا تلزم الكفارة بالقول ، وإنما تلزم بالثاني ، وهذا مذهب أهل الظاهر . وروي أيضاً عن بكير بن عبد الله بن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة : وهو قول الفراء . وقال طاووس وقتادة والزهري والحسن ومالك وجماعة : ) لِمَا قَالُواْ ( : أي للوطء ، والمعنى : لما قالوا أنهم لا يعودون إليه ، فإذا ظاهر ثم وطىء ، فحينئذ يلزمه الكفارة ، وإن طلق أو ماتت . وقال أبو حنيفة ومالك أيضاً والشافعي وجماعة : معناه يعودون لما قالوا بالعزم على الإمساك والوطء ، فمتى عزم على ذلك لزمته الكفارة ، طلق أو ماتت . قال الشافعي : العود الموجب للكفارة أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار ، ويمضي بعده زمان يمكن أن يطلقها فيه فلا يطلق . وقال قوم : المعنى : والذين يظهرون من نسائهم في الجاهلية ، أي كان الظهار عادتهم ، ثم يعودون إلى ذلك في الإسلام ، وقاله القتبي . وقال الأخفش : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : فتحرير رقبة لما قالوا ، وهذا قول ليس بشيء لأنه يفسد نظم الآية .
( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ( ، والظاهر أنه يجزىء مطلق رقبة ، فتجزىء الكافرة . وقال مالك والشافعي : شرطها الإسلام ، كالرقبة في كفارة القتل . والظاهر إجزاء المكاتب ، لأنه عبد ما بقي عليه درهم ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه : وإن عتق نصفي عبدين لا يجزىء . وقال الشافعي : يجزىء . ) مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ( : لا يجوز للمظاهر أن يطأ حتى يكفر ، فإن فعل عصى ، ولا يسقط عنه التكفير . وقال مجاهد : يلزمه كفارة أخرى . وقيل : تسقط الكفارة الواجبة عليه ، ولا يلزمه شيء . وحديث أوس بن الصامت يرد على هذا القول ، وسواء كانت الكفارة بالعتق أم الصوم أم الإطعام . وقال أبو حنيفة : إذا كانت بالإطعام ، جاز له أن يطأ ثم يطعم ، وهو ظاهر قوله : ) فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ( ، إذ لم يقل فيه : ) مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ( ، وقيد ذلك في العتق والصوم . والظاهر في التماس الحقيقة ، فلا يجوز تماسهما قبلة أو مضاجعة أو غير ذلك من وجوه الاستمتاع ، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي . وقال الأكثرون : هو الوطء ، فيجوز له الاستمتاع بغيره قبل التكفير ، وقاله الحسن والثوري ، وهو الصحيح من مذهب الشافعي . والضمير في ) يَتَمَاسَّا ( عائد على ما عاد عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها . ) ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ( : إشارة إلى التحرير ، أي فعل عظة لكم لتنتهوا عن الظهار .
المجادلة : ( 4 ) فمن لم يجد . . . . .
( فَمَن لَّمْ يَجِدْ ( : أي الرقبة ولا ثمنها ، أو وجدها ، أو ثمنها ، وكان محتاجاً إلى ذلك ، فقال أبو حنيفة : يلزمه العتق ولو كان محتاجاً إلى ذلك ، ولا ينتقل إلى الصوم ، وهو الظاهر . وقال الشافعي : ينتقل إلى الصوم . والشهران بالأهلة ، وإن جاء أحدهما ناقصاً ، أو بالعدد لا بالأهلة ، فيصوم إلى الهلال ، ثم شهراً بالهلال ، ثم يتم الأول بالعدد . والظاهر وجوب التتابع ، فإن أفطر بغير عذر استأنف ، أو بعذر من سفر ونحوه . فقال ابن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي ومالك والشافعي : في أحد قوليه يبني . وقال النخعي وابن جبير والحكم بن عيينة والثوري وأصحاب الرأي والشافعي : في أحد قوليه . والظاهر أنه إن وجد الرقبة بعد أن شرع في الصوم ، أنه يصوم ويجزئه ، وهو مذهب مالك والشافعي . وقال أبو حنيفة وأصحابه : يلزمه العتق ، ولو وطىء في خلال الصوم بطل التتابع ويستأنف ، وبه قال مالك وأبو حنيفة . وقال الشافعي : يبطل إن جامع نهاراً لا ليلاً .
( فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ ( لصوم لزمانة به ، أو كونه يضعف به ضعفاً شديداً ، كما جاء في حديث أوس لما قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ فقال : والله يا رسول الله إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني . والظاهر مطلق الإطعام ، وتخصصه ما كانت العادة في الإطعام وقت

" صفحة رقم 233 "
النزول ، وهو ما يشبع من غير تحديد بمدّ . ومذهب مالك أنه مد وثلث بالمدّ النبوي ، ويجب استيعاب العدد ستين عند مالك والشافعي ، وهو الظاهر . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه . ) ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ ( ، قال ابن عطية : إشارة إلى الرجعة والتسهيل في الفعل من التحرير إلى الصوم والإطعام . ثم شدّد تعالى بقوله : ) وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ( : أي فالزموها وقفوا عندها . ثم توعد الكافرين بهذا الحكم الشرعي . وقال الزمخشري : ذلك البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها ، لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه التي شرعها في الظهار وغيره ، ورفض ما كنتم عليه من جاهليتكم ، ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ( التي لا يجوز تعديها ، ( وَلِلْكَافِرِينَ ( الذين لا يتبعونها ولا يعملون عليها ) عَذَابٌ أَلِيمٌ ). انتهى .
المجادلة : ( 5 - 6 ) إن الذين يحادون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( : نزلت في مشركي قريش ، أخزوا يوم الخندق بالهزيمة ، كما أخزى من قاتل الرسل من قبلهم . ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ، ذكر المحادّين المخالفين لها ، والمحادة : المعاداة والمخالفة في الحدود . ) كتبوا ( ، قال قتادة : أخزوا . وقال السدي : لعنوا . قيل : وهي لغة مذحج . وقال ابن زيد وأبو روق : ردّوا مخذولين . وقال الفراء : غيظوا يوم الخندق . ) كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( : أي من قاتل الأنبياء . وقيل : يوم بدر . وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا . وعن أبي عبيدة : التاء بدل من الدال ، أي كبدوا : أصابهم داء في أكبادهم . قيل : والذين من قبلهم منافقو الأمم . قيل : وكبتوا بمعنى سيكبتون ، وهي بشارة للمؤمنين بالنصر . وعبر بالماضي لتحقق وقوعه ، وتقدّم الكلام في مادة كبت في آل عمران .
( وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ ( على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وصحة ما جاء به . ) وَلِلْكَافِرِينَ ( : أي الذين يحادّونه ، ( عَذَابٌ مُّهِينٌ ( : أي يهينهم ويذلهم . والناصب ليوم يبعثهم العامل في للكافرين أو مهين أو اذكر أو يكون على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء ؟ فقيل له : ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ ( : أي يكون يوم يبعثهم الله ، وانتصب ) جَمِيعاً ( على الحال : أي مجتمعين في صعيد واحد ، أو معناه كلهم ، إذ جميع يحتمل ذينك المعنيين ؛ ) فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ ( ، تخجيلاً لهم وتوبيخاً . ) أَحْصَاهُ ( بجميع تفاصيله وكميته وكيفيته وزمانه ومكانه . ) وَنَسُوهُ ( لاستحقارهم إياه واحتقارهم أنه لا يقع عليه حساب . ) شَهِيدٌ ( : لا يخفى عليه شيء .
المجادلة : ( 7 ) ألم تر أن . . . . .
وقرأ الجمهور : ما يكون بالياء ؛ وأبو جعفر وأبو حيوة وشيبة : بالتاء لتأنيث النجوى .
قال صاحب اللوامح : وإن شغلت بالجار ، فهي بمنزلة : ما جاءتني من امرأة ، إلا أن الأكثر في هذا الباب التذكير على ما في العامة ، يعني القراءة العامة ، قال : لأنه مسند إلى ) مِن نَّجْوَى ( وهو يقتضي الجنس ، وذلك مذكر . انتهى . وليس الأكثر في هذا الباب التذكير ، لأن من زائدة . فالفعل مسند إلى مؤنث ، فالأكثر التأنيث ، وهو القياس ، قال تعالى : ) وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايَاتِ رَبّهِمْ ( ، ( مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا ( ، ويكون هنا تامة ، ونجوى احتمل أن تكون مصدراً مضافاً إلى ثلاثة ، أي من تناجي ثلاثة ، أو مصدراً على حذف مضاف ، أي من ذوي نجوى ، أو مصدراً أطلق على الجماعة المتناجين ، فثلاثة : على هذين التقديرين . قال ابن عطية : بدل أو صفة . وقال الزمخشري : صفة . وقرأ ابن أبي عبلة ثلاثة وخمسة بالنصب على الحال ، والعامل يتناجون مضمرة يدل عليه نجوى . وقال الزمخشري : أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبها من المستكن فيه . وقال ابن عيسى : كل سرار نجوى . وقال ابن سراقة : السرار ما كان بين اثنين ، والنجوى ما كان بين أكثر . قيل : نزلت في المنافقين ، واختص الثلاثة والخمسة لأن المنافقين كانوا يتناجون على هذين العددين مغايظة لأهل الإيمان ؛ والجملة بعد إلا في المواضع الثلاثة في موضع الحال ، وكونه تعالى رابعهم وسادسهم ومعهم بالعلم وإدراك ما يتناجون به . وقال ابن عباس : نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية ، تحدّثوا فقال أحدهم : أترى الله يعلم ما نقول ؟ فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً ، فقال الثالث : إن كان يعلم بعضاً فهو يعلمه كله .
( وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ ( : إشارة إلى الثلاثة والخمسة ، والأدنى من الثلاثة الاثنين ، ومن الخمسة الأربعة ؛ ولا أكثر يدل على ما يلي الستة فصاعداً . وقرأ الجمهور : ) وَلاَ أَكْثَرَ ( عطفاً على لفظ المخفوض ؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب : بالرفع عطفاً على موضع نجوى إن أريد به

" صفحة رقم 234 "
المتناجون ، ومن جعله مصدراً محضاً على حذف مضاف ، أي ولا نجوى أدنى ، ثم حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه . ويجوز أن يكون ) وَلاَ أَدْنَى ( مبتدأ ، والخبر ) إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ ( ، فهو من عطف الجمل ، وقرأ الحسن أيضاً ومجاهد والخليل بن أحمد ويعقوب أيضاً : ولا أكبر بالباء بواحدة والرفع ، واحتمل الإعرابين : العطف على الموضع والرفع بالابتداء . وقرىء : ) يُنَبّئُهُمُ ( بالتخفيف والهمز ؛ وزيد بن علي : بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء ؛ والجمهور : بالتشديد والهمز وضم الهاء .
قوله عز وجل ) لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ ).
المجادلة : ( 8 - 9 ) ألم تر إلى . . . . .
نزلت ) أَلَمْ تَرَ ( في اليهود والمنافقين . كانوا يتناجون دون المؤمنين ، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم ، موهمين المؤمنين من أقربائهم أنهم أصابهم شر ، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أقرباؤهم . فلما كثر ذلك منهم ، شكا المؤمنون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين ، فلم ينتهوا ، فنزلت ، قاله ابن عباس . وقال مجاهد : نزلت في اليهود . وقال ابن السائب : في المنافقين . وقرأ الجمهور : ) وَيَتَنَاجَوْنَ ( ؛ وحمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ورويس : وينتجون مضارع انتجى . ) بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ ( : كانوا يقولون : السام عليك ، وهو الموت ؛ فيرد عليهم : وعليكم . وتحية الله لأنبيائه : ) وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ). ) لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ( : أي إن كان نبياً ، فما له لا يدعو علينا حتى نعذب بما نقول ؟ فقال تعالى : ) حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ).
ثم نهى المؤمنين أن يكون تناجيهم مثل تناجي الكفار ، وبدأ بالإثم لعمومه ، ثم بالعدوان لعظمته في النفوس ، إذ هي ظلامات العباد . ثم ترقى إلى ما هو أعظم ، وهو معصية الرسول عليه الصلاة والسلام ، وفي هذا طعن على المنافقين ، إذ كان تناجيهم في ذلك . وقرأ الجمهور : ) فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ ( ، وأدغم ابن محيصن التاء في التاء . وقرأ الكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس : فلا تنتجوا مضارع انتجى ؛ والجمهور : بضم عين العدوان ؛ وأبو حيوة بكسرها حيث وقع ؛ والضحاك : ومعصيات الرسول على الجمع . والجمهور : على الإفراد . وقرأ عبد الله : إذا انتجيتم فلا تنتجوا .
المجادلة : ( 10 ) إنما النجوى من . . . . .
وأل في ) إِنَّمَا النَّجْوَى ( للعهد في نجوى الكفار ) بِالإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ( ، وكونها ) مِنَ الشَّيْطَانِ ( ، لأنه هو الذي يزينها لهم ، فكأنها منه .
( لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( : كانوا يوهمون المؤمنين أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا . ) وَلَيْسَ ( : أي التناجي أو الشيطان أو الحزن ، ( بِضَارّهِمْ ( : أي المؤمنين ، ( إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( : أي بمشيئته ، فيقضي بالقتل أو الغلبة . وقال ابن زيد : هي نجوى قوم من المسلمين يقصدون مناجاة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وليس لهم حاجة ولا ضرورة . يريدون التبجح بذلك ، فيظن المسلمون أن ذلك في أخبار بعد وقاصداً نحوه . وقال عطية العوفي : نزلت في المناجاة التي يراها المؤمن في النوم تسوءه ، فكأنه نجوى يناجي بها . انتهى . ولا يناسب هذا القول ما قبل الآية ولا ما

" صفحة رقم 235 "
بعدها ، وتقدمت القراءتان في نحو : ) لِيَحْزُنَ ). وقرىء : بفتح الياء والزاي ، فيكون ) الَّذِينَ ( فاعلاً ، وفي القراءتين مفعولاً .
المجادلة : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . .
ولما نهى تعالى المؤمنين عن ما هو سبب للتباغض والتنافر ، أمرهم بما هو سبب للتواد والتقارب ، فقال : ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الآية . قال مجاهد وقتادة والضحاك : كانوا يتنافسون في مجلس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض . وقال ابن عباس : المراد مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب . وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان الصحابة يتشاحون على الصف الأول ، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة ، فنزلت . وقرأ الجمهور : ) تَفَسَّحُواْ ( ؛ وداود بن أبي هند وقتادة وعيسى : تفاسحوا . والجمهور : في المجلس ؛ وعاصم وقتادة وعيسى : ) فِى الْمَجَالِسِ ). وقرىء : في المجلس بفتح اللام ، وهو الجلوس ، أي توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه . والظاهر أن الحكم مطرد في المجالس التي للطاعات ، وإن كان السبب مجلس الرسول . وقيل : الآية مخصوصة بمجلس الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكذا مجالس العلم ؛ ويؤيده قراءة من قرأ ) فِى الْمَجَالِسِ ( ، ويتأول الجمع على أن لكل أحد مجلساً في بيت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وانجزم ) يَفْسَحِ اللَّهُ ( على جواب الأمر في رحمته ، أو في منازلكم في الجنة ، أو في قبوركم ، أو في قلوبكم ، أو في الدنيا والآخرة ، أقوال .
( وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ ( : أي انهضوا في المجلس للتفسح ، لأن مريد التوسعة على الوارد يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع . أمروا أولاً بالتفسح ، ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إذا ائتمروا . وقال الحسن وقتادة والضحاك : معناه : إذا دعوا إلى قتال وصلاة أو طاعة نهضوا . وقيل : إذا دعوا إلى القيام عن مجلس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) نهضوا ، إذ كان عليه الصلاة والسلام أحياناً يؤثر الانفراد في أمر الإسلام . وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن عامر ونافع وحفص : بضم السين في اللفظين ؛ والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة : بكسرها . والظاهر أن قوله : ) وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ( معطوف على ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، والعطف مشعر بالتغاير ، وهو من عطف الصفات ، والمعنى : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات ، فالوصفان لذات واحدة . وقال ابن مسعود وغيره : تم الكلام عند قوله : ) مّنكُمْ ( ، وانتصب ) وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ( بفعل مضمر تقديره : ويخص الذين أوتوا العلم درجات ، فللمؤمنين رفع ، وللعلماء درجات .
المجادلة : ( 12 ) يا أيها الذين . . . . .
( بين يدي نجواكم ( استعارة ، والمعنى قبل نجواكم ، وعن ابن عباس وقتادة أن قوما من المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للرسول ، عليه الصلاة والسلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) سمحا لا يرد أحدا فنزلت مشددة عليهم أمر المناجاة ، وهذا الحكم قيل : نسخ قبل العمل به . وقال قتادة : عمل به ساعة من نهار . وقال مقاتل : عشرة أيام . وقال علي كرم الله وجهه : ما عمل به أحد غيري ، أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، وناجيت عشر مرار أتصدق في كل مرة بدرهم ، ثم ظهرت مشقة ذلك على الناس فنزلت الرخصة في ترك الصدقة . وقرئ ( صدقات ) بالجمع . وقال ابن عباس : هي منسوخة بالآية التي بعدها وقيل : بآية الزكاة .
المجادلة : ( 13 ) أأشفقتم أن تقدموا . . . . .
( أأشفقتم ( أخفتم من ذهاب المال في الصدقة ، أو من العجز عن وجودها تتصدقون به . فإذا لم تفعلوا ما أمرتم به ، وتاب الله عليكم عذركم ، ورخص لكم في أن لا تفعلوا فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وأفعال الطاعات . وقرأ عياش

" صفحة رقم 236 "
عن أبي عمر وخبير : بما يعملون بالياء من تحت ، والجمهور بالتاء .
قوله عز وجل ) خَبِيرٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ ( سقط : إلى آخر الآية ) ).
المجادلة : ( 14 ) ألم تر إلى . . . . .
( الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ ( : هم المنافقون ، والمغضوب عليهم : هم اليهود ، عن السدي ومقاتل ، أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال لأصحابه : ( يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان ) ، فدخل عبد الله بن أبي بن سلول ، وكان أزرق أسمر قصيراً ، خفيف اللحية ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( علام تشتمني أنت وأصحابك ) ؟ فحلف بالله ما فعل ، فقال عليه الصلاة والسلام له : ( فعلت ) ، فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه ، فنزلت . والضمير في ) مَّا هُم ( عائد على ) الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ ( ، وهم المنافقون : أي ليسوا منكم أيها المؤمنون ، ( وَلاَ مِنْهُمْ ( : أي ليسوا من الذين تولوهم ، وهم اليهود . وما هم استئناف إخبار بأنهم مذبذبون ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكفار بقلبه ) . وقال ابن عطية : يحتمل تأويلاً آخر ، وهو أن يكون قوله : ) مَّا هُم ( يريد به اليهود ، وقوله : ) وَلاَ مِنْهُمْ ( يريد به المنافقين ، فيجيء فعل المنافقين على هذا التأويل أحسن ، لأنهم تولوا مغضوباً عليهم ، ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ، ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صواباً . انتهى . والظاهر التأويل الأول ، لأن الذين تولوا هم المحدث عنهم . والضمير في ) وَيَحْلِفُونَ ( عائد عليهم ، فتتناسق الضمائر لهم ولا تختلف . وعلى هذا التأويل يكون ) مَّا هُم ( استئنافاً ، وجاز أن يكون حالاً من ضمير ) تَوَلَّوْاْ ). وعلى احتمال ابن عطية ، يكون ) مَّا هُم ( صفة لقوم . ) وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ ( ، إما أنهم ما سبوا ، كما روي في سبب النزول ، أو على أنهم مسلمون . والكذب هو ما ادعوه من الإسلام . ) وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( : جملة حالية يقبح عليهم ، إذ حلفوا على خلاف ما أبطنوا ، فالمعنى : وهم عالمون متعمدون له .
المجادلة : ( 15 ) أعد الله لهم . . . . .
والعذاب الشديد : المعد لهم في الآخرة . وقرأ الجمهور : ) أَيْمَانِهِمْ ( جمع يمين ؛ والحسن : إيمانهم ، بكسر الهمزة : أي ما يظهرون من الإيمان ،
المجادلة : ( 16 ) اتخذوا أيمانهم جنة . . . . .
( جَنَّةُ ( : أي ما يتسترون به ويتقون المحدود ، وهو الترس ، ( فَصَدُّواْ ( : أي أعرضوا ، أو صدوا الناس عن الإسلام ، إذ كانوا يثبطون من لقوا عن الإسلام ويضعفون أمر الإيمان وأهله ، أو صدوا المسلمين عن قتلهم بإظهار الإيمان ، وقتلهم هو سبيل الله فيهم ، لكن ما أظهروه من الإسلام صدوا به المسلمين عن قتلهم .
المجادلة : ( 17 ) لن تغني عنهم . . . . .
( لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا ( : تقدم الكلام على هذه الجملة في أوائل آل عمران .
المجادلة : ( 18 ) يوم يبعثهم الله . . . . .
( فَيَحْلِفُونَ لَهُ ( : أي لله تعالى . ألا ترى إلى قولهم : ) وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( ؟ ) كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ( أنهم مؤمنون ، وليسوا بمؤمنين . والعجب منهم ، كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على عالم الغيب والشهادة ، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم ؟ والمقصود أنهم مقيمون على الكذب ، قد تعودوه حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كان في الدنيا ، ( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء ( : أي شيء نافع لهم .
المجادلة : ( 19 ) استحوذ عليهم الشيطان . . . . .
( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ( : أي أحاط بهم من كل جهة ، وغلب على نفوسهم واستولى عليها

" صفحة رقم 237 "
وتقدمت هذه المادة في قوله تعالى : ) أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ( في النساء ، وأنها من حاذ الحمار العانة إذا ساقها ، وجمعها غالباً لها ، ومنه كان أحوذياً نسيج وحده . وقرأ عمر : استحاذ ، أخرجه على الأصل والقياس ، واستحوذ شاذ في القياس فصيح في الاستعمال . ) فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ( : فهم لا يذكرونه ، لا بقلوبهم ولا بألسنتهم ؛ و ) حِزْبُ الشَّيْطَانِ ( : جنده ، قاله أبو عبيدة .
المجادلة : ( 20 ) إن الذين يحادون . . . . .
( أُوْلَئِكَ فِى الاْذَلّينَ ( : هي أفعل التفضيل ، أي في جملة من هو أذل خلق الله تعالى ، لا ترى أحداً أذل منهم .
المجادلة : ( 21 ) كتب الله لأغلبن . . . . .
وعن مقاتل : لما فتح الله مكة للمؤمنين ، والطائف وخيبر وما حولهم ، قالوا : نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم ، فقال عبد الله بن أبي : أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها ؟ والله إنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك ، فنزلت : ) كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( : ) كِتَابَ ( : أي في اللوح المحفوظ ، أو قضى . وقال قتادة : بمعنى قال ، ( وَرُسُلِى ( : أي من بعثت منهم بالحرب ومن بعثت منهم بالحجة . ) إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ ( : ينصر حزبه ، ( عَزِيزٌ ( : يمنعه من أن يذل .
المجادلة : ( 22 ) لا تجد قوما . . . . .
( لاَّ تَجِدُ قَوْماً ( ، قال الزمخشري ، من باب التخييل : خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوماً مؤمنين يوادون المشركين ، والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه أن يمتنع ، ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله . وزاد ذلك تأكيداً بقوله : ) وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ ). انتهى . وبدأ بالآباء لأنهم الواجب على الأولاد طاعتهم ، فنهاهم عن موادتهم . وقال تعالى : ) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ( ، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب ، ثم أتى ثالثاً بالإخوان لأنهم بهم التعاضد ، كما قيل : أخاك أخاك إن من لا أخاً له
كساع إلى الهيجاء بغير سلاح
ثم رابعاً بالعشيرة ، لأن بها التناصر ، وبهم المقاتلة والتغلب والتسرع إلى ما دعوا إليه ، كما قال : لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهاناً
وقرأ الجمهور : ) كِتَابَ ( مبنياً للفاعل ، ( فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( نصباً ، أي كتب الله . وأبو حيوة والمفضل عن عاصم : كتب مبنياً للمفعول ، والإيمان رفع . والجمهور : ) أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ( على الإفراد ؛ وأبو رجاء : على الجمع ، والمعنى : أثبت الإيمان في قلوبهم وأيدهم بروح منه تعالى ، وهو الهدى والنور واللطف . وقيل : الروح : القرآن . وقيل : جبريل يوم بدر . وقيل : الضمير في منه عائد على الإيمان ، والإنسان في نفسه روح يحيا به المؤمن ، والإشارة بأولئك كتب إلى الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله . قيل : والآية نزلت في أبي حاطب بن أبي بلتعة . وقيل : الظاهر أنها متصلة بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود . وقيل : نزلت في ابن أبيّ وأبي بكر الصديق ، رضى الله تعالى عنه ، كان منه سب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فصكه أبو بكر صكة سقط منها ، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : ( أوفعلته ) ؟ قال : نعم ، قال : ( لا تعد ) ، قال : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته . وقيل : في أبي عبيدة بن الجراح ، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أُحد ، وفي

" صفحة رقم 238 "
أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وفي مصعب بن عمير قتل أخاه بن عمير يوم أُحد . وقال ابن شوذب : يوم بدر ، وفي عمر قتل خاله العاصي بن هشام يوم بدر ، وفي عليّ وحمزة وعبيد بن الحارث ، قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة يوم بدر . وقال الواقدي في قصة أبي عبيدة أنه قتل أباه ، قال : كذلك يقول أهل الشام ، وقد سألت رجالاً من بني فهر فقالوا : توفي أبوه قبل الإسلام . انتهى ، يعنون في الجاهلية قبل ظهور الإسلام . وقد رتب المفسرون . ) وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ( على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومصعب وعمر وعليّ وحمزة وعبيد مع أقربائهم ، والله تعالى أعلم .

" صفحة رقم 239 "
59
( سورة الحشر )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِىأَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاًّوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى الاٌّ بْصَارِ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاٌّ غْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاٌّ دْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ

" صفحة رقم 240 "
لاّنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنكَ إِنِّىأَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لاَ يَسْتَوِىأَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاٌّ مْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاٌّ سْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } )
الحشر : ( 1 ) سبح لله ما . . . . .
اللينة ، قال الأخفش : كأنه لون من النخيل ، أي ضرب منه ، وأصلها لونه ، قلبوا الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، وأنشد : قد شجاني الأصحاب لما تغنوا
بفراق الأحباب من فوق لينه
انتهى . وجمعها لين ، كتمرة وتمر ، وقد كسروه على ليان ، وتكسير ما بينه وبين واحده هاء التأنيث شاذ ، كرطبة ورطب ، شذوا فيه فقالوا : أرطاب وقال الشاعر : وسالفة كسحوق الليان
أضرم فيها الغوى السعر
وقال أبو الحجاج الأعلم : الليان جمع لينة ، وهي النخلة . انتهى ، وتأتى أقوال المفسرين في اللينة . أوجف البعير : حمله على الوجيف ، وهو السير السريع . تقول : وجف البعير يجف وجفاً ووجيفاً ووجفاناً قال العجاج :
ناج طواه الاين مما وجفا
وقال نصيب : ألا رب ركب قد قطعت وجيفهم
إليك ولولا أنت لم يوجف الركب

" صفحة رقم 241 "
) سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاِوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم ( سقط : الآية كاملة ) ).
هذه السورة مدنية . وقيل : نزلت في بني النضير ، وتعد من المدينة لتدانيها منها . وكان بنو النضير صالحوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، على أن لا يكونوا عليه ولا له . فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة ، لا ترد له راية . فلما هزم المسلمون يوم أُحد ، ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة ، فحالفوا عليه قريشاً عند الكعبة ، فأخبر جبريل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بذلك ، فأمر بقتل كعب ، فقتله محمد بن مسلمة غيلة ، وكان أخاه من الرضاعة . وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري ، منصرفه من بئر معونة ؛ فهموا بطرح الحجر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فعصمه الله تعالى .
فلما قتل كعب ، أمر عليه الصلاة والسلام بالمسير إلى بني النضير ، وكانوا بقرية يقال لها الزهرة . فساروا ، وهو عليه الصلاة والسلام على حمار مخطوم بليف ، فوجدهم ينوحون على كعب ، وقالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم مر أمرك ، فقال : ( اخرجوا من المدينة ) ، فقالوا : الموت أقرب لنا من ذلك ، وتنادوا بالحرب . وقيل : استمهلوه عشرة أيام ليتجهزوا للخروج . ودس المنافق عبد الله بن أبيّ وأصحابه أن لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم ، وإن أخرجتم لنخرجن معكم . فدرّبوا على الأزفة وحصنوها ، ثم أجمعوا على الغدر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقالوا : اخرج في ثلاثين من أصحابك ، ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك ، فإن صدقوا آمنا كلنا ، ففعل ، فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون ؟ اخرج في ثلاثة ، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ، ففعلوا ، فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك . فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها ، وكان مسلماً ، فأخبرته بما أرادوا ، فأسرع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، فساره بخبرهم قبل أن يصل الرسول إليهم .
فلما كان من الغد ، غدا عليهم بالكتائب ، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين ، فطلبوا الصلح ، فأبى عليهم إلا الجلاء ، على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع ، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات ، إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أحطب ، فلحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة بالحيرة ، وقبض أموالهم وسلاحهم ، فوجد خمسين درعاً وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفاً . وكان ابن أبي قد قال لهم : معي ألفان من قومي وغيرهم ، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان . فلما نازلهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان .
ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضاً ، ذكر أيضاً ما حل باليهود من غضب الله عليهم وجلائهم ، وإمكان الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام ممن حاد الله ورسوله ورام الغدر بالرسول عليه الصلاة والسلام وأظهر العداوة بحلفهم مع قريش .
وتقدم الكلام في تسبيح الجمادات التي يشملها العموم المدلول عليه بما ،
الحشر : ( 2 ) هو الذي أخرج . . . . .
( مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( : هم قريظة ، وكانت قبيلة عظيمة توازن في القدر والمنزلة بني النضير ، ويقال لهما

" صفحة رقم 242 "
الكاهنان ، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون ، نزلوا قريباً من المدينة في فتن بني إسرائيل ، انتظاراً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى في كتابه . ) مِن دِيَارِهِم ( : يتعلق بأخرج ، و ) مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( يتعلق بمحذوف ، أي كائنين من أهل الكتاب . وصحت الإضافة إليهم لأنهم كانوا ببرية لا عمران فيها ، فبنوا فيها وأنشأوا . واللام في ) لاِوَّلِ الْحَشْرِ ( تتعلق بأخرج ، وهي لام التوقيت ، كقوله : ) لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( ، والمعنى : عند أول الحشر ، والحشر : الجمع للتوجيه إلى ناحية مّا . والجمهور : إلى أن هؤلاء الذين أخرجوا هم بنو النضير . وقال الحسن : هم بنو قريظة ؛ ورد هذا بأن بني قريظة ما حشروا ولا أجلوا وإنما قتلوا ، وهذا الحشر هو بالنسبة لإخراج بني النضير . وقيل الحشر هو حشر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الكتائب لقتالهم ، وهو أول حشر منه لهم ، وأول قتال قاتلهم . وأول يقتضي ثانياً ، فقيل : الأول حشرهم للجلاء ، والثاني حشر عمر لأهل خيبر وجلاؤهم . وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بجلاء أهل خيبر بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا يبقين دينان في جزيرة ) . وقال الحسن : أراد حشر القيامة ، أي هذا أوله ، والقيام من القبور آخره . وقال عكرمة والزهري : المعنى : الأول موضع الحشر ، وهو الشام . وفي الحديث ، أنه عليه الصلاة والسلام قال لبني النضير : ( اخرجوا ) ، قالوا : إلى أين ؟ قال : ( إلى أرض المحشر ) . وقيل : الثاني نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وهذا الجلاء كان في ابتداء الإسلام ، وأما الآن فقد نسخ ، فلا بد من القتل والسبي أو ضرب الجزية .
( مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ( ، لعظم أمرهم ومنعتهم وقوتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم . ) وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ ( تمنعهم حصونهم من حرب الله وبأسه . ولما كان ظن المؤمنين منفياً هنا ، أجري مجرى نفي الرجاء والطمع ، فتسلط على أن الناصبة للفعل ، كما يتسلط الرجاء والطمع . ولما كان ظن اليهود قوياً جداً يكاد أن يلحق بالعلم تسلط على أن المشددة ، وهي التي يصحبها غالباً فعل التحقيق ، كعلمت وتحققت وأيقنت ، وحصونهم الوصم والميضاة والسلاليم والكثيبة . وقال الزمخشري : فإن قلت : أي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ، وبين النظم الذي جاء عليه ؟ قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في انفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم . انتهى ، يعني أن حصونهم هو المبتدأ ، ومانعتهم الخبر ، ولا يتعين هذا ، بل الراجح أن يكون حصونهم فاعلة بمانعتهم ، لأن في توجيهه تقديماً وتأخيراً ، وفي إجازة مثله من نحو : قائم زيد ، على الابتداء ، والخبر خلاف ؛ ومذهب أهل الكوفة منعه .
( فَاتَاهُمُ اللَّهُ ( : أي بأسه ، ( مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ( : أي لم يكن في حسابهم ، وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف ، قاله السدي وأبو صالح وابن جريج ، وذلك مما أضعف قوتهم . ) وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ( ، فسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة حتى نزلوا على حكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ ( ، قال قتادة : خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا ، وخربوا هم من داخل ونحوه . قال الضحاك والزجاج وغيرهما : كانوا كلما خرب المسلمون من حصونهم ، هدموا هم من البيوت ، خربوا الحصن . وقال الزهري وغيره : كانوا ، لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل ، لا يدعون خشبة حسنة ولا سارية إلا قلعوها وخربوا البيوت عنها ، فيكون قوله : ) وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ ( إسناد التخريب إليها من حيث كان المؤمنون محاصرتهم إياهم داعية إلى ذلك . وقيل : شحوا على بقائها سليمة ، فخربوها إفساداً . وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمر : ويخربون مشدّداً ؛ وباقي السبعة مخففاً ، والقراءتان بمعنى واحد عدى خرب اللازم بالتضعيف وبالهمزة . وقال صاحب الكامل في القراآت ؛ التشديد الاختيار على التكثير . وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب بمعنى هدم وأفسد ،

" صفحة رقم 243 "
وأخرب : ترك الموضع خراباً وذهب عنه . ) فَاعْتَبِرُواْ ( : تفطنوا لما دبر الله من إخراجهم بتسليط المؤمنين عليهم من غير قتال .
وقيل : وعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فقال : فكان كما قال ؛
الحشر : ( 3 ) ولولا أن كتب . . . . .
( وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَء لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا ( : أي لولا أنه تعالى قضى أنه سيجليهم من ديارهم ويبقون مدة يؤمن بعضهم ويولد لبعضهم من يؤمن ، لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي ، كما فعل بإخوانهم بني قريظة . وكان بنو النضير من الجيش الذين عصوا موسى في كونهم لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق ، تركوه لجماله وعقله . وقال موسى عليه السلام : لا تستحيوا منهم أحداً . فلما رجعوا إلى الشام ، وجدوا موسى عليه السلام قد مات . فقال لهم بنو إسرائيل : أننم عصاة ، والله لا دخلتم علينا بلادنا ، فانصرفوا إلى الحجاز ، فكانوا فيه ، فلم يجر عليهم الجلاء الذي أجلاه بخت نصر على أهل الشام . وكان الله قد كتب على بني إسرائيل جلاء ، فنالهم هذا الجلاء على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالسيف والقتل ، كأهل بدر وغيرهم .
ويقال : جلا القوم عن منازلهم وأجلاهم غيرهم . قيل : والفرق بين الجلاء والإخراج : أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد . وقال الماوردي : الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج قد يكون لواحد وجماعة . وقرأ الجمهور : الجلاء ممدوداً ؛ والحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح : مقصوراً ؛ وطلحة : مهموزاً من غير ألف كالبنأ . ) وَلَهُمْ فِى الاْخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ( : أي إن نجوا من عذاب الدنيا ، لم ينجوا في الآخرة .
الحشر : ( 4 - 5 ) ذلك بأنهم شاقوا . . . . .
وقرأ طلحة : ومن يشاقق بالإظهار ، كالمتفق عليه في الأنفال ؛ والجمهور ؛ بالإدغام . كان بعض الصحابة قد شرع في بعض نخل بني النضير يقطع ويحرق ، وذلك في صدر الحرب ، فقالوا : ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الإفساد ؟ فكفوا عن ذلك ، ونزل : ) مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ ( الآية رداً على بني النضير ، وإخباراً أن ذلك بتسويغ الله وتمكينه ليخربكم به ويذلكم . واللينة والنخلة اسمان بمعنى واحد ، قاله الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون . وقال الشاعر : كان قيودي فوقها عش طائر
على لينة سوقاً يهفو حيونها
وقال آخر : طراق الحوامي واقع فوق لينة
يدي ليلة في ولشه يترقرق
وقال ابن عباس وجماعة من أهل اللغة : هي النخلة ما لم تكن عجوة . وقال الثوري : الكريمة من النخل . وقال أبو عبيدة وسفيان : ما ثمرها لون ، وهو نوع من التمر يقال له اللون . قال سفيان : هو شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج . وقال أيضاً أبو عبيدة : اللين : ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني . وقال جعفر بن محمد : هي العجوة ، وقيل : هي السيلان ، وأنشد فيه : غرسوا لينة بمجرى معين
ثم حف النخيل بالآجام
وقيل : هي أغصان الأشجار للينها ، فعلى هذا لا يكون أصل الياء الواو . وقيل : هي النخلة القصيرة . وقال الأصمعي : هي الدفل ، وما شرطية منصوبة بقطعتم ، ومن لينة تبيين لإبهام ما ، وجواب الشرط ) فَبِإِذْنِ اللَّهِ ( : أي فقطعها أو تركها بإذن الله . وقرأ الجمهور ؛ ) قَائِمَةً ( ، أنث قائمة ، والضمير في ) تَرَكْتُمُوهَا ( على معنى ما . وقرأ عبد الله

" صفحة رقم 244 "
والأعمش وزيد بن علي : قوماً على وزن فعل ، كضرب جمع قائم . وقرىء : قائماً اسم فاعل ، فذكر على لفظ ما ، وأنث في على أصولها . وقرىء : أصلها بغير واو .
الحشر : ( 6 ) وما أفاء الله . . . . .
ولما جلا بنو النضير عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم ، طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر ، فنزلت : ) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( : بين أن أموالهم فيء ، لم يوجف عليها خيل ولا ركاب ولا قطعت مسافة ، إنما كانوا ميلين من المدينة مشوا مشياً ، ولم يركب إلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال عمر بن الخطاب : كانت أموال بني النضير لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خاصة ، ينفق منها على أهله نفقة سنته ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى . وقال الضحاك : كانت له عليه الصلاة والسلام ، فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ، ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا أبا دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة ، أعطاهم لفقرهم . وما في قوله : ) وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( شرطية أو موصولة ، وأفاء بمعنى : يفيء ، ولا يكون ماضياً في اللفظ والمعنى ، ولذلك صلة ما الموصولة إذا كانت الباء في خبرها ، لأنها إذ ذاك شبهت باسم الشرط . فإن كانت الآية نزلت قبل جلائهم ، كانت مخبرة بغيب ، فوقع كما أخبرت ؛ وإن كانت نزلت بعد حصول أموالهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كان ذلك بياناً لما يستقبل ، وحكم الماضي المتقدم حكمه . ومن في : ) مِنْ خَيْلٍ ( زائدة في المفعول يدل عليه الاستغراق ، والركاب : الإبل ، سلط الله رسوله عليهم وعلى ما في أيديهم ، كما كان يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم . وقال بعض العلماء : كل ما وقع على الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة .
الحشر : ( 7 ) ما أفاء الله . . . . .
( مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ( ، قال الزمخشري : لم يدخل العاطف على هذه الجملة ، لأنها بيان للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها . بين لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما يصنع بما أفاء الله عليه ، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوم على الأقسام الخمسة . انتهى . وقال ابن عطية : أهل القرى المذكورون في هذه الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة ، وحكمها مخالف لبني النضير ، ولم يحبس من هذه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لنفسه شيئاً ، بل أمضاها لغيره ، وذلك أنها في ذلك الوقت فتحت . انتهى . وقيل : إن الآية الأولى خاصة في بني النضير ، وهذه الآية عامة . وقرأ الجمهور : ) كَى لاَ يَكُونَ ( بالياء ؛ وعبد الله وأبو جعفر وهشام : بالتاء . والجمهور : ) دُولَةً ( بضم الدال ونصب التاء ؛ وأبو جعفر وأبو حيوة وهشام : بضمها ؛ وعلي والسلمي : بفتحها . قال عيسى بن عمر : هما بمعنى واحد . وقال الكسائي وحذاق البصرة : الفتح في الملك بضم الميم لأنها الفعلة في الدهر ، والضم في الملك بكسر الميم . والضمير في تكون بالتأنيث عائد على معنى ما ، إذ المراد به الأموال والمغانم ، وذلك الضمير هو اسم ) يَكُونَ ). وكذلك من قرأ بالياء ، أعاد الضمير على لفظ ما ، أي يكون الفيء ، وانتصب دولة على الخبر . ومن رفع دولة فتكون تامة ، ودولة فاعل ، وكيلا يكون تعليل لقوله : ) فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ( ، أي فالفيء وحكمه لله وللرسول ، يقسمه على ما أمره الله تعالى ، كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء بلغة يعيشون بها متداولاً بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم ، كما كان رؤساؤهم يستأثرون بالغنائم ويقولون : من عز بزّ ، والمعنى : كي لا يكون أخذه غلبة وأثرة جاهلية .
وروي أن قوماً من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا : لنا منها سهمنا ، فنزل : ) وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ). وعن الكلبي : أن رؤساً من المسلمين قالوا له : يا رسول الله ، خذ صفيك والربع ودعنا والباقي ، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية ، فنزل : ) وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ( الآية ، وهذا عام يدخل فيه قسمة ما أفاء الله والغنائم وغيرها ؛ حتى أنه قد استدل بهذا العموم على تحريم الخمر ، وحكم الواشمة والمستوشمة ، وتحريم المخيط للمحرم .
ومن غريب الحكايات في

" صفحة رقم 245 "
الاستنباط : أن الشافعي ، رحمه الله تعالى ، قال : سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فقال له عبد الله بن محمد بن هارون : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور ؟ فقال : قال الله تعالى : ) وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ). وحدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن خراش ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ) . وحدثنا سفيان بن عيينة ، عن مسعر بن كدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب ، أنه أمر بقتل الزنبور . انتهى . ويعني في الإحرام . بين أنه يقتدي بعمر ، وأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمر بالاقتداء به ، وأن الله تعالى أمر بقبول ما يقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
قوله عز وجل : ) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ ).
الحشر : ( 8 ) للفقراء المهاجرين الذين . . . . .
( لِلْفُقَرَاء ( ، قال الزمخشري : بدل من قوله : ) وَلِذِى الْقُرْبَى ( ، والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من ) لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ( ، والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله : ) وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( ، وأنه يترفع برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وعلا . انتهى . وإنما جعله الزمخشري بدلاً من قوله : ) وَلِذِى الْقُرْبَى ( ، لأنه مذهب أبي حنيفة ، والمعنى إنما يستحق ذو القربى الفقير . فالفقر شرط فيه على مذهب أبي حنيفة ، ففسره الزمخشري على مذهبه . وأما الشافعي ، فيرى أن سبب الاستحقاق هو القرابة ، فيأخذ ذو القربى الغني لقرابته .
وقال ابن عطية : ) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ ( بيان لقوله : ) وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ( ، وكررت لام الجر لما كانت الأولى مجرورة باللام ، ليبين بين الأغنياء منكم ، أي ولكن يكون للفقراء . انتهى . ثم وصف تعالى المهاجرين بما يقتضي فقرهم ويوجب الإشفاق عليهم . ) أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( : أي في إيمانهم وجهادهم قولاً وفعلاً .
الحشر : ( 9 ) والذين تبوؤوا الدار . . . . .
والظاهر أن قوله : ) وَالَّذِينَ ( معطوف على المهاجرين ، وهم الأنصار ، فيكون قد وقع بينهم الاشتراك فيما يقسم من الأموال . وقيل : هو مستأنف مرفوع بالابتداء ، والخبر ) هَاؤُلاَء يُحِبُّونَ ). أثنى الله تعالى بهذه الخصال الجليلة ، كما أنثى على المهاجرين بقوله : ) يَبْتَغُونَ فَضْلاً ( الخ ، والإيمان معطوف على الدار ، وهي المدينة ، والإيمان ليس مكاناً فيتبوأ . فقيل : هو من عطف الجمل ، أي واعتقدوا الإيمان وأخلصوا فيه ، قاله أبو عليّ ، فيكون كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً
أو يكون ضمن ) تبوؤا ( معنى لزموا ، واللزوم قدر مشترك في الدار والإيمان ، فيصح العطف . أو لما كان الإيمان قد شملهم ، صار كالمكان الذي يقيمون فيه ، لكن يكون ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز . قال الزمخشري : أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه

" صفحة رقم 246 "
مقامه ؛ أو سمى المدينة ، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان . وقال ابن عطية : والمعنى تبوؤا الدار مع الإيمان معاً ، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله : ) خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ( فتأمله . انتهى . ومعنى ) مِن قَبْلِهِمُ ( : من قبل هجرتهم ، ( حَاجَةً ( : أي حسداً ، ( مّمَّا أُوتُواْ ( : أي مما أعطي المهاجرون ، ونعم الحاجة ما فعله الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في إعطاء المهاجرين من أموال بني النضير والقرى .
( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( : من ذلك قصة الأنصاري مع ضيف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حيث لم يكن لهم إلا ما يأكل الصبية ، فأوهمهم أنه يأكل حتى أكل الضيف ، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : ( عجب الله من فعلكما البارحة ) ، فالآية مشيرة إلى ذلك . وروي غير ذلك في إيثارهم . والخصاصة : الفاقة ، مأخوذة من خصاص البيت ، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج : والفتوح ، فكأن حال الفقير هي كذلك ، يتخللها النقص والاحتياج . وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة : شح بكسر الشين . والجمهور : بإسكان الواو وتخفيف القاف وضم الشين ، والشح : اللؤم ، وهو كزازة النفس على ما عندها ، والحرص على المنع . قال الشاعر : يمارس نفساً بين جنبيه كرة
إذا همّ بالمعروف قالت له مهلاً
وأضيف الشح إلى النفس لأنه غريزة فيها . وقال تعالى : ) وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ ( ، وفي الحديث : ( من أدّى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برىء من الشح ) .
الحشر : ( 10 ) والذين جاؤوا من . . . . .
( وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ ( : الظاهر أنه معطوف على ما قبله من المعطوف على المهاجرين . فقال الفراء : هم الفرقة الثالثة من الصحابة ، وهو من آمن أو كفر في آخر مدّة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الجمهور : أراد من يجيء من التابعين ، فعلى القول الأول : يكون معنى ) مّن بَعْدِهِمْ ( : أي من بعد المهاجرين والأنصار السابقين بالإيمان ، وهؤلاء تأخر إيمانهم ، أو سبق إيمانه وتأخرت وفاته حتى انقرض معظم المهاجرين والأنصار . وعلى القول الثاني : يكون معنى ) مّن بَعْدِهِمْ ( : أي من بعد ممات المهاجرين ، مهاجريهم وأنصارهم . وإذا كان ) وَالَّذِينَ ( معطوفاً على المجرور قبله ، فالظاهر أنهم مشاركو من تقدّم في حكم الفيء .
وقال مالك بن أوس : قرأ عمر ) وَإِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ( الآية ، فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : ) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم ( ، فقال : وهذه لهؤلاء ، ثم قرأ : ) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( حتى بلغ ) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ ( إلى ) وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ ). ثم قال : لئن عشت لنؤتين الراعي ، وهو يسير نصيبه منها . وعنه أيضاً : أنه استشار المهاجرين والأنصار فيما فتح الله عليه من ذلك في كلام كثير آخره أنه تلا : ) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( الآية ، فلما بلغ ) أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( قال : هي لهؤلاء فقط ، وتلا : ) وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ ( الآية ، إلى قوله : ) رَءوفٌ رَّحِيمٌ ( ؛ ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك . وقال عمر رضي الله تعالى عنه : لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها ، كما قسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خيبر . وقيل : ) وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ ( مقطوع مما قبله ، معطوف عطف الجمل ، لا عطف المفردات ؛ فإعرابه : ) وَالَّذِينَ ( مبتدأ ، ندبوا بالدعاء للأولين ، والثناء عليهم ، وهم من يجيء بعد الصحابة إلى يوم القيامة ، والخبر ) يَقُولُونَ ( ، أخبر تعالى عنهم بأنهم لإيمانهم ومحبة أسلافهم ) يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا ( ، وعلى القول الأول يكون ) يَقُولُونَ ( استئناف إخبار ، قيل : أو حال .
الحشر : ( 11 - 12 ) ألم تر إلى . . . . .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ ( الآية : نزلت في عبد الله بن أبيّ ، ورفاعة بن التابوت ، وقوم من منافقي الأنصار ، كانوا بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله : ) يَقُولُونَ ( ، واللام في ) لإِخْوانِهِمْ ( للتبليغ ، والإخوة بينهم إخوة الكفر وموالاتهم ، ( وَلاَ

" صفحة رقم 247 "
نُطِيعُ فيكُمْ ( : أي في قتالكم ، ( أَحَدًا ( : من الرسول والمؤمنين ؛ أو ) لا نُطِيعُ فيكُمْ ( : أي في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة ، و ) لَنَنصُرَنَّكُمْ ( : جواب قسم محذوف قبل أن الشرطية ، وجواب أن محذوف ، والكثير في كلام العرب إثبات اللام المؤذنة بالقسم قبل أداة الشرط ، ومن حذفها قوله : ) وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ ( ، التقدير : ولئن لم ينتهوا لكاذبون ، أي في مواعيدهم لليهود ، وفي ذلك دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيب ، ولذلك لم يخرجوا حين أخرج بنو النضير ، بل أقاموا في ديارهم ، وهذا إذا كان قوله : ) لإِخْوانِهِمْ ( أنهم بنو النضير . وقيل : هم يهود المدينة ، والضمائر على هذين القولين . وقيل : فيها اختلاف ، أي لئن أخرج اليهود لا يخرج المنافقون ، ولئن قوتل اليهود لا ينصرهم المنافقون ، ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار ، وكأن صاحب هذا القول نظر إلى قوله : ) وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ( ، فقد أخبر أنهم لا ينصرونهم ، فكيف يأتي ) وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ( ؟ فأخرجه في حيز الإمكان ، وقد أخبر أنهم لا ينصرونهم ، فلا يمكن نصرهم إياهم بعد إخباره تعالى أنه لا يقع . وإذا كانت الضمائر متفقة ، فقال الزمخشري : معناه ولئن نصروهم على الفرض ، والتقدير كقوله : ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( ، وكما يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون . وقال ابن عطية : معناه : ولئن خالفوا ذلك فإنهم ينهزمون . انتهى . والظاهر أن الضمير في ) لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ( ، وفي ) ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( عائد على المفروض أنهم ينصرونهم ، أي ولئن نصرهم المنافقون ليولن المنافقون الأدبار ، ثم لا ينصر المنافقون . وقيل : الضمير في التولي عائد على اليهود ، وكذا في ) لاَ يُنصَرُونَ ). قال ابن عطية : وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله : ) لاَ يَخْرُجُونَ ( و ) لاَ يُنصَرُونَ ( لأنها راجعة على حكم القسم ، لا على حكم الشرط ، وفي هذا نظر . انتهى . وأي نظر في هذا ؟ وهذا جاء على القاعدة المتفق عليها من أنه إذا تقدم القسم على الشرط كان الجواب للقسم وحذف جواب الشرط ، وكان فعله بصيغة المضي ، أو مجزوماً بلم ، وله شرط ، وهو أن لا يتقدمه طالب خبر . واللام في ) لَئِنْ ( مؤذنة بقسم محذوف قبله ، فالجواب له . وقد أجاز الفراء أن يجاب الشرط ، وأن تقدم القسم ، ورده عليه البصريون .
الحشر : ( 13 ) لأنتم أشد رهبة . . . . .
ثم خاطب المؤمنين بأن هؤلاء يخافونكم أشد خيفة من الله تعالى ، لأنهم يتوقعون عاجل شركم ، ولعدم إيمانهم لا يتوقعون أجل عذاب الله ، وذلك لقلة فهمهم ، ورهبة : مصدر رهب المبني للمفعول ، كأنه قيل : أشد مرهوبية ، فالرهبة واقعة منهم لا من المخاطبين ، والمخاطبون مرهوبون ، وهذا كما قال : فلهو أخوف عندي إذ أكلمه
وقيل إنك مأسور ومقتول
من ضيغم بثراء الأرض مخدره
ببطن عثر غيل دونه غيل
فالمخبر عنه مخوف لا خائف ، والضمير في ) صُدُورُهُمْ ). قيل : لليهود ، وقيل : للمنافقين ، وقيل : للفريقين . وجعل المصدر مقراً للرهبة دليل على تمكنها منهم بحيث صارت الصدور مقراً لها ، والمعنى : رهبتهم منكم أشد من رهبتهم من الله عز وجل .
الحشر : ( 14 ) لا يقاتلونكم جميعا . . . . .
( لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ ( : أي بنو النضير وجميع اليهود . وقيل : اليهود والمنافقون ) جَمِيعاً ( : أي مجتمعين متساندين يعضد بعضهم بعضاً ، ( إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ ( : لا في الصحراء لخوفهم منكم ، وتحصينها بالدروب والخنادق ، أو من وراء جدار يتسترون به من أن تصيبوهم . وقرأ الجمهور : ) جُدُرٍ ( بضمتين ، جمع جدار ؛ وأبو رجاء والحسن وابن وثاب : بإسكان الدال تخفيفاً ، ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش . وقرأ أبو عمرو وابن كثير وكثير من المكيين : جدار بالألف وكسر الجيم . وقرأ كثير من المكيين ، وهارون عن ابن كثير : جدر بفتح الجيم وسكون الدال . قال صاحب اللوامح : وهو واخذ بلغة اليمن . وقال ابن عطية : ومعناه أصل بنيان كالسور ونحوه . قال : ويحتمل أن يكون من جدر النخل ، أي من وراء نخلهم ، إذ هي مما يتقى به عند المصافة . ) بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ( : أي إذا اقتتلوا بعضهم

" صفحة رقم 248 "
مع بعض . كان بأسهم شديداً ؛ أما إذا قاتلوكم ، فلا يبقى لهم بأس ، لأن من حارب أولياء الله خذل . ) تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً ( : أي مجتمعين ، ذوي ألفة واتحاد . ) وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ( : أي وأهواؤهم متفرقة ، وكذا حال المخذولين ، لا تستقر أهواؤهم على شيء واحد ، وموجب ذلك الشتات هو انتفاء عقولهم ، فهم كالبهائم لا تتفق على حالة . وقرأ الجمهور : ) شَتَّى ( بألف التأنيث ؛ ومبشر بن عبيد : منوناً ، جعلها ألف الإلحاق ؛ وعبد الله : وقلوبهم أشت : أي أشد تفرقاً ، ومن كلام العرب : شتى تؤوب الحلبة . قال الشاعر : إلى الله أشكوا فتية شقت العصا
هي اليوم شتى وهي أمس جميع
قوله عز وجل : ) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ الظَّالِمِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ ).
الحشر : ( 15 ) كمثل الذين من . . . . .
( كَمَثَلِ ( : خبر مبتدأ محذوف ، أي مثلهم ، أي بني النضير ) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ( : وهم بنو قينقاع ، أجلاهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من المدينة قبل بني النضير فكانوا مثلاً لهم ، قاله ابن عباس ؛ أو أهل بدر الكفار ، فإنه عليه الصلاة والسلام قتلهم ، فهم مثلهم في أن غلبوا وقهروا . وقيل : الضمير في ) مِن قَبْلِهِمُ ( للمنافقين ، و ) الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( : منافقو الأمم الماضية ، غلبوا ودلوا على وجه الدهر ، فهؤلاء مثلهم . ويبعد هذا التأويل لفظة ) قَرِيبًا ( أن جعلته متعلقاً بما قبله ، وقريباً ظرف زمان وإن جعلته معمولاً لذاقوا ، أي ذاقوا وبال أمرهم قريباً من عصيانهم ، أي لم تتأخر عقوبتهم في الدنيا ، كما لم تتأخر عقوبة هؤلاء . ) وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( في الآخرة .
الحشر : ( 16 ) كمثل الشيطان إذ . . . . .
( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ ( : لما مثلهم بمن قبلهم ، ذكر مثلهم مع المنافقين ، فالمنافقون كالشيطان ، وبنو النضير كالإنسان ، والجمهور : على أن الشيطان والإنسان اسما جنس يورطه في المعصية ثم يفر منه . كذلك أغوى المنافقون بني النضير ، وحرضوهم على الثبات ، ووعدوهم النصر . فلما نشب بنو النضير ، خذلهم المنافقون وتركوهم في أسوأ حال . وقيل : المراد استغواء الشيطان قريشاً يوم بدر . وقوله لهم : ) لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ ( إلى قوله : ) إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ ). وقيل : التمثيل بشيطان مخصوص مع عابد مخصوص استودع امرأة ، فوقع عليها فحملت ، فخشي الفضيحة ، فقتلها ودفنها . سول له الشيطان ذلك ، ثم شهره ، فاستخرجت فوجدت مقتولة ؛ وكان قال إنها ماتت ودفنتها ، فعلموا بذلك ، فتعرض له الشيطان وقال : اكفر واسجد لي وأنا أنجيك ، ففعل وتركه عند ذلك وقال : أنا بريء منك . وقول الشيطان : ) إِنّى أَخَافُ اللَّهَ ( رياء ، ولا يمنعه الخوف عن سوء يوقع ابن آدم فيه .
الحشر : ( 17 ) فكان عاقبتهما أنهما . . . . .
وقرأ الجمهور : ) عَاقِبَتَهُمَا ( بنصب التاء ؛ والحسن وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم : برفعهما . والجمهور : ) خَالِدِينَ ( بالياء حالاً ، و ) فِى النَّارِ ( خبر أن ؛ وعبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن عبلة : بالألف ، فجاز أن يكون خبر أن ، والظرف ملغى وإن كان قد أكد بقوله : ) فِيهَا ( ، وذلك جائز على مذهب سيبويه ، ومنع ذلك أهل الكوفة ، لأنه إذا أكد عندهم لا يلغى . ويجوز أن يكون في النار خبراً ، لأن ) خَالِدِينَ ( خبر ثان ، فلا يكون فيه حجة على مذهب سيبويه .
الحشر : ( 18 ) يا أيها الذين . . . . .
ولما انقضى في هذه السورة ، وصف المنافقون واليهود . وعظ المؤمنين ، لأن الموعظة بعد ذكر المصيبة لها موقع في النفس

" صفحة رقم 249 "
لرقة القلوب والحذر مما يوجب العذاب ، وكرر الأمر بالتقوى على سبيل التوكيد ، أو لإختلاف متعلق بالتقوى . فالأولى في أداء الفرائض ، لأنه مقترن بالعمل ؛ والثانية في ترك المعاصي ، لأنه مقترن بالتهديد والوعيد . وقرأ الجمهور : ) وَلْتَنظُرْ ( : أمراً ، واللام ساكنة ؛ وأبو حيوة ويحيى بن الحارث : بكسرها . وروي ذلك عن حفص ، عن عاصم والحسن : بكسرها وفتح الراء ، جعلها لام كي . ولما كان أمر القى امة كائناً لا محالة ، عبر عنه بالغد ، وهو اليوم الذي يلي يومك على سبيل التقريب . وقال الحسن وقتادة : لم يزل يقر به حتى جعله كالغد ، ونحوه : كأن لم تغن بالأمس ، يريد تقريب الزمان الماضي . وقيل : عبر عن الآخرة بالغد ، كأن الدنيا والآخرة نهاران ، يوم وغد . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بقوله : ) لِغَدٍ ( : ليوم الموت ، لأنه لكل إنسان كغده . وقال مجاهد وابن زيد : بالأمس الدنيا وغد الآخرة . وقال الزمخشري : أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة ، كأنه : قيل لغد لا يعرف كنهه لعظمه . انتهى .
الحشر : ( 19 ) ولا تكونوا كالذين . . . . .
وقرأ الجمهور : ) لاَ تَكُونُواْ ( بتاء الخطاب ؛ وأبو حيوة : بياء الغيبة ، على سبيل الالتفات . وقال ابن عطية : كناية عن نفس التي هي اسم الجنس ؛ ) كَالَّذِينَ نَسُواْ ( : هم الكفار ، وتركوا عبادة الله وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى ، وهذا تنبيه على فرط غفلتهم واتباع شهواتهم ؛ ) فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ( ، حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب ، وهذا من المجازاة على الذنب بالذنب . عوقبوا على نسيان جهة الله تعالى بأن أنساهم أنفسهم . قال سفيان : المعنى حظ أنفسهم ، ث
الحشر : ( 20 ) لا يستوي أصحاب . . . . .
م ذكر مباينة الفريقين : أصحاب النار في الجحيم ، وأصحاب الجنة في النعيم ، كما قال : ) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ( ، وقال تعالى : ) أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ).
الحشر : ( 21 ) لو أنزلنا هذا . . . . .
( لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ ( : هذا من باب التخييل والتمثيل ، كما مر في قوله تعالى : ) إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ ( ، ودل على ذلك : ) وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ( ، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه ، وعدم تأثره لهذا الذي لو أنزل على الجبل لتخشع وتصدع . وإذا كان الجبل على عظمه وتصلبه يعرض له الخشوع والتصدع ، فابن آدم كان أولى بذلك ، لكنه على حقارته وضعفه لا يتأثر . وقرأ طلحة : مصدعاً ، بإدغام التاء في الصاد ؛
الحشر : ( 23 ) هو الله الذي . . . . .
وأبو السمال وأبو دينار الأعرابي : القدوس بفتح القاف ؛ والجمهور : بالفك والضم . وقرأ الجمهور : المؤمن بكسر الميم ، اسم فاعل من آمن بمعنى أمن . وقال ثعلب : المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا . وقال النحاس : أو في شهادتهم على الناس يوم القيامة . وقيل : المصدق نفسه في أقواله الأزلية . وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، وقيل ، أبو جعفر المدني : المؤمن بفتح الميم . قال أبو حاتم : لا يجوز ذلك ، لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به وكان جائزاً ، لكن المؤمن المطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفاً فأومن . وقال الزمخشري : يعني المؤمن به على حذف حرف الجر ، كما تقول في قوم موسى من قوله : ) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( : المختارون . ) الْمُهَيْمِنُ ( : تقدم شرحه . ) الْجَبَّارُ ( : القهار الذي جبر خلقه على ما أراد . وقيل : الجبار : الذي لا يدانيه شيء ولا يلحق ، ومنه نخلة جبارة إذا لم تلحق ، وقال امرؤ القيس : سوابق جبار أتيت فروعه
وعالين قنواناً من البسر أحمرا
وقال ابن عباس : هو العظيم ، وجبروته : عظمته . وقيل : هو من الجبر ، وهو الإصلاح . جبرت العظم : أصلحته بعد الكسر . وقال الفراء : من أجبره على الأمر : قهره ، قال : ولم أسمع فعالاً من أفعل إلا في جبار ودراك . انتهى ، وسمع أسار فهو أسار . ) الْمُتَكَبّرُ ( : المبالغ في الكبرياء والعظمة . وقيل : المتكبر عن ظلم عباده ،
الحشر : ( 24 ) هو الله الخالق . . . . .
( الْخَالِقُ ( : المقدر لما يوجده . ) الْبَارِىء ( : المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة ، ( الْمُصَوّرُ ( : الممثل . وقرأ عليّ وحاطب بن أبي بلتعة والحسن وابن السميفع : المصور بفتح الواو والراء ، وانتصب مفعولاً بالباري ، وأراد به جنس المصور . وعن علي ؛ فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول ، نحو : الضارب الغلام .

" صفحة رقم 250 "
60
( سورة الممتحنة )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِىإِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لاًّبِيهِ لاّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاٌّ خِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْألُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْألُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِىأَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاٌّ خِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( ) ) 2
) الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاء ).
الممتحنة : ( 1 ) يا أيها الذين . . . . .
هذه السورة مدنية ، ونزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة ، كان قد وجه كتاباً ، مع امرأة إلى أهل مكة يخبرهم بأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) متوجه إليهم لغزوهم ؛ فأطلع الله رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على ذلك ، ووجه إلى المرأة من أخذ الكتاب منها ، والقصة مشهورة في كتب الحديث والسير .
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما ذكر فيما قبلها حالة المنافقين والكفار ، افتتح هذه بالنهي عن موالاة الكفار والتودّد إليهم ، وأضاف في قوله : ) عَدُوّى ( تغليظاً ، لجرمهم وإعلاماً بحلول عقاب الله بهم . والعدو ينطلق على الواحد وعلى الجمع ، وأولياء مفعول ثان لتتخذوا . ) تُلْقُونَ ( : بيان لموالاتهم ، فلا موضع له من

" صفحة رقم 251 "
الإعراب ، أو استئناف إخبار . وقال الحوفي والزمخشري : حال من الضمير في ) لاَ تَتَّخِذُواْ ( ، أو صفة لأولياء ، وهذا تقدّمه إليه الفراء ، قال : ) تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ( من صلة ) أَوْلِيَاء ). انتهى . وعندهم أن النكرة توصل ، وعند البصريين لا توصل بل توصف ، والحال والصفة قيد وهم قد نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقاً ، والتقييد يدل على أنه يجوز أن يتخذوا أولياء إذا لم يكونوا في حال إلقاء المودة ، أو إذا لم يكن الأولياء متصفين بهذا الوصف ، وقد قال تعالى : ) يُوقِنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ( ، فدل على أنه لا يقتصر على تلك الحال ولا ذلك الوصف . والأولياء عبارة عن الإفضاء بالمودة ، ومفعول ) تُلْقُونَ ( محذوف ، أي تلقون إليهم أخبار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأسراره . والباء في ) بِالْمَوَدَّةِ ( للسبب ، أي بسبب المودة التي بينهم . وقال الكوفيون : الباء زائدة ، كما قيل : في : ) وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ( : أي أيديكم . قال الحوفي : وقال البصريون هي متعلقة بالمصدر الذي دل عليه الفعل ، وكذلك قوله ) بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ( : أي إرادته بإلحاد . انتهى . فعلى هذا يكون ) بِالْمَوَدَّةِ ( متعلقاً بالمصدر ، أي إلقاؤهم بالمودّة ، وهذا ليس بجيد ، لأن فيه حذف المصدر ، وهو موصول ، وحذف الخبر ، إذ إلقاؤهم مبتدأ وبما يتعلق به ، ( وَقَدْ كَفَرُواْ ( جملة حالية ، وذو الحال الضمير في ) تُلْقُونَ ( : أي توادونهم ، وهذه حالهم ، وهي الكفر بالله ، ولا يناسب الكافر بالله أن يودّ . وأجاز الزمخشري أن يكون حالاً من فاعل ) لاَ تَتَّخِذُواْ ).
وقرأ الجمهور : ) بِمَا جَاءكُمْ ( ، والجحدري والمعلى عن عاصم : لما باللام مكان الباء ، أي لأجل ما جاءكم . ) يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ ( : استئناف ، كالتفسير لكفرهم ، أو حال من ضمير ) كَفَرُواْ ( ، ( وَإِيَّاكُمْ ( : معطوف على الرسول . وقدّم على إياكم الرسول لشرفه ، ولأنه الأصل للمؤمنين به . ولو تقدّم الضمير لكان جائزاً في العربية ، خلافاً لمن خص ذلك بالضرورة ، قال : لأنك قادر على أن تأتي به متصلاً ، فلا تفصل إلا في الضرورة ، وهو محجوج بهذه الآية وبقوله تعالى : ) وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ( وإياكم أن اتقوا ألله ، وقدّم الموصول هنا على المخاطبين للسبق في الزمان وبغير ذلك من كلام العرب . و ) أَن تُؤْمِنُواْ ( مفعول من أجله ، أي يخرجون لإيمانكم أو كراهة إيمانكم ، ( إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ ( : شرط جوابه محذوف لدلالة ما تقدّم عليه ، وهو قوله : ) لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى ( ، ونصب جهاداً وابتغاء على المصدر في موضع الحال ، أي مجاهدين ومبتغين ، أو على أنه مفعول من أجله . ) تُسِرُّونَ ( : استئناف ، أي تسرون وقد علمتم أني أعلم الإخفاء والإعلان ، وأطلع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على ذلك ، فلا طائل في فعلكم هذا . وقال ابن عطية : ) تُسِرُّونَ ( بدل من ) تُلْقُونَ ). انتهى ، وهو شبيه ببدل الاشتمال ، لأن الإلقاء يكون سراً وجهراً ، فهو ينقسم إلى هذى ن النوعين . وأجاز أيضاً أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : أنتم تسرون . والظاهر أن ) أَعْلَمُ ( أفعل تفضيل ، ولذلك عداه بالباء . وأجاز ابن عطية أن يكون مضارعاً عدى بالباء قال : لأنك تقول علمت بكذا . ) وَأَنَاْ أَعْلَمُ ( : جملة حالية ، والضمير في ) وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ ( ، الظاهر أنه إلى أقرب مذكور ، أي ومن يفعل الأسرار . وقال ابن عطية : يعود على الاتخاذ ، وانتصب سواء على المفعول به على تقدير تعدى ضل ، أو على الظرف على تقدير اللزوم ، والسواء : الوسط .
الممتحنة : ( 2 ) إن يثقفوكم يكونوا . . . . .
ولما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء ، وشرح ما به الولاية من الإلقاء بالمودة بينهم ، وذكر ما صنع الكفار بهم أولاً من إخراج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمؤمنين ، ذكر صنيعهم آخراً لو قدروا عليه من أنه إن تمكنوا منكم تظهر عداوتهم لكم ، ويبسطوا أيديهم بالقتل والتعذيب ، وألسنتهم بالسب ؛ وودوا لو ارتددتم عن دينكم الذي هو أحب الأشياء إليكم ، وهو سبب إخراجهم إياكم . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف أورد جواب الشرط مضارعاً مثله ، ثم قال ) وَوَدُّواْ ( بلفظ الماضي ؟ قلت : الماضي ، وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب ، فإنه فيه نكتة كأنه قيل : وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم ، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعاً . انتهى . وكأن الزمخشري فهم من قوله : ) وَوَدُّواْ ( أنه معطوف على جواب الشرط ، فجعل ذلك سؤالاً وجواباً . والذي يظهر أن قوله : ) وَوَدُّواْ ( ليس على جواب الشرط ، لأن ودادتهم كفرهم ليست مترتبة على الظفر بهم والتسلط عليهم ، بل هم وادون

" صفحة رقم 252 "
كفرهم على كل حال ، سواء أظفروا بهم أم لم يظفروا ، وإنما هو معطوف على جملة الشرط والجزاء ، أخبر تعالى بخبرين : أحدهما اتضاح عداوتهم والبسط إليهم ما ذكر على تقدير الظفر بهم ، والآخر ودادتهم كفرهم ، لا على تقدير الظفر بهم .
الممتحنة : ( 3 ) لن تنفعكم أرحامكم . . . . .
ولما كان حاطب قد اعتذر بأن له بمكة قرابة ، فكتب إلى أهلها بما كتب ليرعوه في قرابته ، قال تعالى : ) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ ( : أي قراباتكم الذين توالون الكفار من أجلهم ، وتتقربون إليهم محاماة عليهم . ويوم معمول لينفعكم أو ليفصل . وقرأ الجمهور ؛ ) يُفَصّلُ ( بالياء مخففاً مبنياً للمفعول . وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر : كذلك إلا أنه مشدد ، والمرفوع ، إما ) بَيْنِكُمْ ( ، وهو مبني على الفتح لإضافته إلى مبني ، وإما ضمير المصدر المفهوم من يفصل ، أي يفصل هو ، أي الفصل . وقرأ عاصم والحسن والأعمش : يفصل بالياء مخففاً مبنياً للفاعل ؛ وحمزة والكسائي وابن وثاب : مبنياً للفاعل بالياء مضمومة مشدداً ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : كذلك إلا أنه بالنون مشدداً ؛ وهما أيضاً وزيد بن علي : بالنون مفتوحة مخففاً مبنياً للفاعل ؛ وأبو حيوة أيضاً : بالنون مضمومة ، فهذا ثماني قراآت .
الممتحنة : ( 4 ) قد كانت لكم . . . . .
ولما نهى عن موالاة الكفار ، ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأن من سيرته التبرؤ من الكفار ليقتدوا به في ذلك ويتأسوا . وقرأ الجمهور : إسوة بكسر الهمزة ، وعاصم بضمها ، وهما لغتان . ) وَالَّذِينَ مَعَهُ ( ، قيل : من آمن به . وقال الطبري وغيره : الأنبياء معاصروه ، أو كانوا قريباً من عصره ، لأنه لم يرو أنه كان له أتباع مؤمنون في مكافحته لهم ولنمروذ . ألا تراه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجراً من بلد نمروذ : ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك ؟ والتأسي بإبراهيم عليه السلام هو في التبرؤ من الشرك ، وهو في كل ملة وبرسولنا عليه الصلاة والسلام على الإطلاق في العقائد وأحكام الشرع . وقرأ الجمهور ؛ ) بَرَاء ( جمع بريء ، كظريف وظرفاء ؛ وعيسى : براء جمع بريء أيضاً ، كظريف وظراف ؛ وأبو جعفر : بضم الباء ، كتؤام وظؤار ، وهم اسم جمع الواحد بريء وتوأم وظئر ، ورويت عن عيسى . قال أبو حاتم : زعموا أن عيسى الهمداني رووا عنه براء على فعال ، كالذي في قوله تعالى : ) إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ ( في الزخرف ، وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد والجمع . وقال الزمخشري : وبراء على إبدال الضم من الكسر ، كرخال ورباب . انتهى . فالضمة في ذلك ليست بدلاً من كسرة ، بل هي ضمة أصلية ، وهو قريب من أوزان أسماء الجموع ، وليس جمع تكسير ، فتكون الضمة بدلاً من الكسرة ، إلا قول إبراهيم استثناء من قوله : ) أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( ، قاله قتادة والزمخشري . قال مجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم : المعنى أن الأسوة لكم في هذا الوجه لا في الوجه الآخر ، لأنه كان لعلمه ليست في نازلتكم .
وقال الزمخشري : فإن قلت : فإن كان قوله : ) لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( مستثنى من القول الذي هو ) أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( ، فما بال قوله : ) فَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْء ( ، وهو غير حقيق بالاستثناء ؟ ألا ترى إلى قوله : ) فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ اللَّهِ شَيْئاً ( ؟ قلت : أراد استثناء جملة قوله لأبيه ، والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده مبني عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار . انتهى . وقال الزمخشري : أولاً بعد أن ذكر أن الاستثناء هو من قوله : ) أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( في مقالات قال : لأنه أراد بالأسوة الحسنة ، فهو الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذوه سنة يستنون بها . انتهى . والذين يظهر أنه مستثنى من مضاف لإبراهيم تقديره : أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه إلا قول إبراهيم لأبيه ) لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( ، فليس فيه أسوة حسنة ، فيكون على هذا استثناء متصلاً . وأما أن يكون قول إبراهيم مندرجاً في أسوة حسنة ، لأن معنى الأسوة هو الاقتداء والتأسي ، فالقول ليس مندرجاً تحته ، لكنه مندرج تحت مقالات إبراهيم عليه السلام . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الاستثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت ، لم تبق جملة إلا كذا . انتهى . وقيل : هو استثناء منقطع المعنى ، لكن قول إبراهيم لأبيه ) لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( ، فلا تأسوا به فيه فتستغفروا وتفذوا آباءكم الكفار بالاستغفار . ) رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا ( وما بعده ، الظاهر أنه من تمام قول إبراهيم متصلاً بما قبل الاستثناء ، وهو من جملة ما يتأسى به فيه ، وفصل بينهما بالاستثناء اعتناء بالاستثناء ولقربه من المستثنى منه ، ويجوز أن يكون أمراً من الله للمؤمنين ، أي قولوا ربنا عليك توكلنا ، علمهم بذلك قطع العلائق التي

" صفحة رقم 253 "
بينهم وبين الكفار .
الممتحنة : ( 5 ) ربنا لا تجعلنا . . . . .
( رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، قال ابن عباس : لا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا . وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم أو بعذاب من عندك ، فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون ، فيفتنوا لذلك . وقال قريباً منه قتادة وأبو مجلز ، وقول ابن عباس أرجح لأنه دعاء لأنفسهم ، وعلى قول غيره دعاء للكافرين ،
الممتحنة : ( 6 ) لقد كان لكم . . . . .
والضمير في فيهم عائد على إبراهيم والذين معه ، وكررت الأسوة تأكيداً ، وأكد ذلك بالقسم أيضاً ، ولمن يرجو بدل من ضمير الخطاب ، بدل بعض من كل .
الممتحنة : ( 7 ) عسى الله أن . . . . .
وروي أنه لما نزلت هذه الآية ، عزم المسلمون على إظهار عداوات أقربائهم الكفار ، ولحقهم هم لكونهم لم يؤمنوا حتى يتوادوا ، فنزل ) عَسَى اللَّهُ ( الآية مؤنسة ومرجئة ، فأسلم الجميع عام الفتح وصاروا إخواناً . ومن ذكر أن هذه المودة هي تزويج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأنها كانت بعد الفتح فقد أخطأ ، لأن تزويجها كان وقت هجرة الحبشة ، وهذه الآيات سنة ست من الهجرة ، ولا يصح ذلك عن ابن عباس إلا أن يسوقه مثالاً ، وإن كان متقدماً لهذه الآية ، لأنه استمر بعد الفتح كسائر ما نشأ من المودات ، قاله ابن عطية . وعسى من الله تعالى واجبة الوقوع ، ( وَاللَّهُ قَدِيرٌ ( على تقليب القلوب وتيسير العسير ، ( وَاللَّهُ غَفُورٌ ( لمن أسلم من المشركين .
الممتحنة : ( 8 - 9 ) لا ينهاكم الله . . . . .
( لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ ( الآية ، قال مجاهد : نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا ، فكانوا في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة . وقى ل : في مؤمنين من أهل مكة وغيرها تركوا الهجرة . وقال الحسن وأبو صالح : في خزاعة وبين الحارث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب ، كانوا مظاهرين للرسول محبين فيه وفي ظهوره . وقيل : فيمن لم يقاتل ، ولا أخرج ولا أظهر سوأ من كفار قريش . وقال قرة الهمداني وعطية العوفي : في قوم من بني هاشم منهم العباس . وقال عبد الله بن الزبير : في النساء والصبيان من الكفرة . وقال النحاس والثعلبي : أراد المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطى عوا الهجرة . وقيل : قدمت على أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمّها نفيلة بنت عبد العزى ، وهي مشركة ، بهدايا ، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول ، فنزلت الآية ، فأمرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن تدخلها منزلها وتقبل منها وتكفيها وتحسن إليها . قال ابن عطية : وكانت المرأة فيما روي خالتها فسمتها أمّاً ؛ وفي التحرير : أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه طلق امرأته نفيلة في الجاهلية ، وهي أم أسماء بنت أبي بكر ، فقدمت في المدة التي فيها الهدنة وأهدت إلى أسماء قرطاً وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها ، فنزلت الآية . و ) أَن تَبَرُّوهُمْ ( ، و ) ءانٍ ( بدلان مما قبلهما ، بدل اشتمال .
قوله عز وجل : ) الظَّالِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ ).

" صفحة رقم 254 "
الممتحنة : ( 10 ) يا أيها الذين . . . . .
كان صلح الحديبية قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يرد إليهم ، ومن أتى المسلمين من أهل مكة رد إليهم ، فجاءت أم كلثوم ، وهي بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أول امرأة هاجرت بعد هجرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في هدنة الحديبية ، فخرج في أثرها أخواها عمارة والوليد ، فقالا : يا محمد أوف لنا بشرطنا ، فقالت : يا رسول الله حال النساء إلى الضعف ، كما قد علمت ، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي ، فنقض الله العهد في النساء ، وأنزل فيهن الآية ، وحكم بحكم رضوه كلهم . وقيل : سبب نزولها سبيعة بنت الحارث الأسلمية ، جاءت الحديبية مسلمة ، فأقبل زوجها مسافر المخدومي . وقيل : صيفي بن الراهب ، فقال : يا محمد اردد علي امرأتي ، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزلت بياناً أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء . وذكر أبو نعيم الأصبهاني أن سبب نزولها أميمة بنت بشر بن عمرو بن عوف ، امرأة حسان بن الدحداحة ، وسماهن تعالى مؤمنات قبل أن يمتحن ، وذلك لنطقهن بكلمة الشهادة ، ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك ، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان .
وقرىء : مهاجرات بالرفع على البدل من المؤمنات ، وامتحانهن ، قالت عائشة : بآية المبايعة . وقيل : بأن بشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وقال ابن عباس : بالحلف إنها ما خرجت إلا حباً لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام . وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة وعكرمة : كانت تستحلف أنها ما هاجرت لبغض في زوجها ، ولا لجريرة جرتها ، ولا لسبب من أغراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة . ) اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ( : لأنه تعالى هو المطلع على أسرار القلوب ومخبآت العقائد ، ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ ( : أطلق العلم على الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات بالخروج من الوطن ، والحلول في قوم ليسوا من قومها ، وبين انتفاء رجعهن إلى الكفار أزواجهن ، وذلك هو التحريم بين المسلمة والكافر .
وقرأ طلحة : لا هن يحلان لهم ، وانعقد التحريم بهذه الجملة ، وجاء قوله : ) وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ( على سبيل التأكيد وتشديد الحرمة ، لأنه إذا لم تحل المؤمنة للكافر ، علم أنه لا حل بينهما البتة . وقيل : أفاد قوله : ) وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ( استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل ، كما هو في الحال ما داموا على الإشراك وهن على الإيمان . ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( : أمر أن يعطي الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إذا أسلمت ، فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية . قال ابن عباس : أعطى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بعد إمتحانها زوجها الكافر ، ما أنفق عليها ، فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وكان إذا امتحنهن ، أعطى أزواجهن مهورهن . وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما كان في نساء أهل العهد ، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين ، فلا يرد عليه الصداق ، والأمر كما قال قتادة ، ثم نفى الحرج في نكاح المؤمنين اياهن إذا آتوهن مهورهن ، ثم أمر تعالى المؤمنين بفراق نسائهن الكوافر عوابد الأوثان .
وقرأ الجمهور : ) تُمْسِكُواْ ( مضارع أمسك ، كأكرم ؛ وأبو عمرو ومجاهد : بخلاف عنه ؛ وابن جبير والحسن والأعرج : مضارع مسك مشدّداً ؛ والحسن أيضاً وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد الحميد وأبو عمرو في رواية معاذ : تمسكوا بفتح الثلاثة ، مضارع تمسك محذوف الثاني بتمسكوا ؛ والحسن أيضاً : تمسكوا بكسر السين ، مضارع مسك ثلاثياً . وقال الكرخي : ) الْكَوَافِرِ ( ، يشمل الرجال والنساء ، فقال له أبو علي الفارسي : النحويون لا يرون هذا إلا في النساء ، جمع كافرة ، وقال : أليس يقال : طائفة كافرة وفرقة كافرة ؟ قال أبو علي : فبهت فقلت : هذا تأييد . انتهى . وهذا الكرخي معتزلي فقيه ، وأبو علي معتزلي ، فأعجبه هذا التخريج ، وليس بشيء لأنه لا يقال كافرة في وصف الرجال إلا تابعاً لموصوفها ، أو يكون محذوفاً مراداً ، أما بغير ذلك فلا يجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث . والعصم جمع عصمة ، وهي سبب البقاء في الزوجية . ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( : أي واسألوا الكافرين ما أنفقتم على أزواجكم إذا فروا إليهم ، ( وَلْيَسْئَلُواْ ( : أي الكفار ما أنفقوا على أزواجهم إذ فروا إلى المؤمنين .
الممتحنة : ( 11 ) وإن فاتكم شيء . . . . .
ولما تقرر هذا الحكم ، قالت قريش ، فيما روي : لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقاً ، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى : ) وَإِن فَاتَكُمْ ( ، فأمر تعالى المؤمنين أن يدفعوا من فرت زوجته من المسلمين ، ففاتت بنفسها إلى الكفار وانقلبت من الإسلام ، ما كان مهرها . قال

" صفحة رقم 255 "
الزمخشري : فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموضوع فائدة ؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه أن لا يغادر شيء من هذا الجنس ، وإن قل وحقر ، غير معوض منه تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه . انتهى . واللاتي ارتددن من نساء المهاجرين ولحقن بالكفار : أم الحكم بنت أبي سفيان ، زوج عياض بن شداد الفهري ؛ وأخت أم سلمة فاطمة بنت أبي أمية ، زوج عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ؛ وعبدة بنت عبد العزى ، زوج هشام بن العاصي ؛ وأم كلثوم بنت جرول ، زوج عمر أيضاً . وذكر الزمخشري أنهن ست ، فذكر : أم الحكم ، وفاطمة بنت أبي أمية زوج عمر بن الخطاب ، وعبدة وذكر أن زوجها عمرو بن ود ، وكلثوم ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاصي ، أعطى أزواجهن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مهورهن من الغنيمة .
وقرأ الجمهور ) فَعَاقَبْتُمْ ( بألف ؛ ومجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة والزعفراني : بشد القاف ؛ والنخعي والأعرج أيضاً وأبو حيوة أيضاً والزهري أيضاً وابن وثاب : بخلاف عنه بخف القاف مفتوحة ؛ ومسروق والنخعي أيضاً والزهري أيضاً : بكسرها ؛ ومجاهد أيضاً : فاعقبتم على وزن افعل ، يقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر ، ويقال : أعقب ، قال : وحادرت البلد الحلاد ولم يكن
لعقبة قدر المستعيرين يعقب
وعقب : أصاب عقبى ، والتعقيب : غزو إثر غزو ، وعقب بفتح القاف وكسرها مخففاً . وقال الزمخشري : فعاقبتم من العقبة ، وهي النوبة . شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى ، بأمر يتعاقبون فيه ، كما يتعاقب في الركوب وغيره ، ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر . ) فَاتُواْ ( من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة ، ولا يؤتوه زوجها الكافر ، وهكذا عن الزهري ، يعطي من صداق من لحق بهم . ومعنى أعقبتم : دخلتم في العقبة ، وعقبتم من عقبه إذا قفاه ، لأن كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم بالتخفيف ، يقال : عقبه يعقبه . انتهى . وقال الزجاج : فعاقبتم : قاضيتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، وفسر غيرها من القراءات : لكانت العقبى لكم : أي كانت الغلبة لكم حتى غنمتم والكفار من قوله : ) إِلَى الْكُفَّارِ ( ، ظاهره العموم في جميع الكفار ، قاله قتادة ومجاهد . قال قتادة : ثم نسخ هذا الحكم . وقال ابن عباس : يعطى من الغنيمة قبل أن تخمس . وقال الزهري : من مال الفيء ؛ وعنه : من صداق من لحق بنا . وقيل : الكفار مخصوص بأهل العهد . وقال الزهري : اقتطع هذا يوم الفتح . وقال الثوري : لا يعمل به اليوم . وقال مقاتل : كان في عهد الرسول فنسخ . وقال ابن عطية : هذه الآية كلها قد ارتفع حكمها . وقال أبو بكر بن العربي القاضي : كان هذا حكم الله مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة بإجماع الأمة . وقال القشيري : قال قوم هو ثابت الحكم إلى الآن .
الممتحنة : ( 12 ) يا أيها النبي . . . . .
( يأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ( : كانت بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفاء ، بعدما فرغ من بيعة الرجال ، وهو على الصفا وعمر أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه ، وما مست يده عليه الصلاة والسلام يد امرأة أجنبية قط . وقالت أسماء بنت يزيد بن السكن : كنت في النسوة المبايعات ، فقلت : يا رسول الله ابسط يدك نبايعك ، فقال لي عليه الصلاة والسلام : ( إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ما أخذ الله عليهن ) . وكانت هند بنت عتبة في النساء ، فقرأ عليهن الآية . فلما قررهن على أن لا يشركن بالله شيئاً ، قالت هند : وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال ؟ تعني أن هذا بين لزومه . فلما وقف على السرقة قالت : والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان ، لا أدري أيحل لي ذلك ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما

" صفحة رقم 256 "
مضى وفيما عبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعرفها ، فقال لها : ( وإنك لهند بنت عتبة ) ، قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك . فقال : ) وَلاَ يَزْنِينَ ( ، فقالت : أوتزني الحرة ؟ قال : ) وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ ( ، فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر ، فضحك عمر رضي الله تعالى عنه حتى استلقى ، وتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال : ) وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ ( ، فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح ، ولا يأمر الله إلا بالرشد ومكارم الأخلاق . فقال : ) وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ ( ، فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء . ومعنى قول هند : أو تزني الحرة أنه كان في قريش في الإماء غالباً ، وإلا فالبغايا ذوات الربات قد كن حرائر . وقرأعليّ والحسن والسلمي : ولا يقتلن مشدداً ، وقتلهن من أجل الفقر والفاقة ، وكانت العرب تفعل ذلك . والبهتان ، قال الأكثرون : أن تنسب إلى زوجها ولداً ليس منه ، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدي منك . ) بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ( : لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين ، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين . وروى الضحاك : البهتان : العضة ، لأنها إذا قذفت المرأة غيرها ، فقد بهتت ما بين يدي المقذوفة ورجليها ، إذ نفت عنها ولداً قد ولدته ، أو ألحقت بها ولداً لم تلده . وقيل : البهتان : السحر . وقيل : بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة ، وأرجلهن ؛ فروجهن . وقيل : بين أيديهن قبله أو جسة ، وأرجلهن الجماع . ومن البهتان الفرية بالقول على أحد من الناس ، والكذب فيما اؤتمنّ عليه من حمل وحيض ، والمعروف الذي نهى عن العصيان فيه ، قال ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم : هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر ، وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها .
الممتحنة : ( 13 ) يا أيها الذين . . . . .
وروي أن قوماً من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم ، فقيل لهم : لا تتولوا قوماً مغضوباً عليهم وعلى أنهم اليهود ، فسرهم الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد ، لأن غضب الله قد صار عرفاً لهم . وقال ابن عباس : كفار قريش ، لأن كل كافر عليه غضب من الله . وقيل : اليهود والنصارى .
( قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاْخِرَةِ ( ، قال ابن عباس : من خيرها وثوابها . والظاهر أن من في ) مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( لابتداء الغاية ، أي لقاء أصحاب القبور . فمن الثانية كالأولى من الآخرة . فالمعنى أنهم لا يلقونهم في دار الدنيا بعد موتهم . وقال ابن عرفة : هم الذين قالوا : ما يهلكنا إلا الدهر . انتهى . والكفار على هذا كفار مكة ، لأنهم إذا مات لهم حميم قالوا : هذا آخر العهد به ، لن يبعث أبداً ، وهذا تأويل ابن عباس وقتادة والحسن . وقيل : من لبيان الجنس ، أي الكفار الذين هم أصحاب القبور ، والمأيوس منه محذوف ، أي كما يئس الكفار المقبورون من رحمة الله ، لأنه إذا كان حياً لم يقبر ، كان يرجى له أن لا ييأس من رحمة الله ، إذ هو متوقع إيمانه ، وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد . وقال ابن عطية : وبيان الجنس أظهر . انتهى . وقد ذكرنا أن الظاهر كون من لابتداء الغاية ، إذ لا يحتاج الكلام إلى تقدير محذوف . وقرأ ابن أبي الزناد : كما يئس الكافر على الإفراد . والجمهور : على الجمع . ولما فتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ، ختمها بمثل ذلك تأكيداً لترك مولاتهم وتنفير المسلمين عن توليهم وإلقاء المودّة إليهم .

" صفحة رقم 257 "
61
( سورة الصف )
2 ( ) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْرَاءِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِىأَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِىإِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَأامَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِىإِسْرَاءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( ) ) 2
الصف : ( 2 ) يا أيها الذين . . . . .
المرصوص ، قال الفرّاء والقاضي منذر بن سعيد : هو المعقود بالرصاص . وقال المبرد : رصصت البناء : لاءمت بين أجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة واحدة ، قال الراعي : ما لقي البيض من الحرقوص
بفتح باب المغلف المرصوص

" صفحة رقم 258 "
الحرقوص : دويبة تولع بالنساء الأبكار ، وقيل : هو من الترصيص ، وهو انصمام الأسنان .
( سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْراءيلَ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا ).
هذه السورة مدنية في قول الجمهور ، ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة . وقال ابن يسار : مكية ، وروى ذلك أيضاً عن ابن عباس ومجاهد . وسبب نزولها قول المنافقين للمؤمنين : نحن منكم ومعكم ، ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك ؛ أو قول شباب من المسلمين : فعلنا في الغزو كذا ولم يفعلوا ؛ أو قول ناس : وددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى ربنا حتى نعنى فيه ، ففرض الجهاد ؛ وأعلم تعالى بحب المجاهدين ، فكرهه قوم وفر بعضهم يوم أحد ، فنزلت ، أقوال . الأول : لابن زيد ، والثاني : لقتادة ، والثالث : لابن عباس وأبي صالح .
ومناسبتها لآخر السورة قبلها ، أن في آخر تلك : ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ( ، فاقتضى ذلك إثبات العداوة بينهم ، فحض تعالى على الثبات إذا لقي المؤمنون في الحرب أعداءهم . والنداء ب ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، إن كان للمؤمنين حقيقة ، فالاستفهام يراد به التلطف في العتب ، وإن كان للمنافقين ، فالمعنى ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( : أي بألسنتهم ، والاستفهام يراد به الإنكار والتوبيخ وتهكم بهم في إسناد الإيمان إليهم ، ولم يتعلق بالفعل وحده . ووقف عليه بالهاء أو بسكون الميم ، ومن سكن في الوقف فلإجرائه مجرى الوقف ،
الصف : ( 3 ) كبر مقتا عند . . . . .
والظاهر انتصاب ) مَقْتاً ( على التمييز ، وفاعل ) كَبُرَ ( : أن ) تَقُولُواْ ( ، وهو من التمييز المنقول من الفاعل ، والتقدير : كبر مقت قولكم ما لا تفعلون . ويجوز أن يكون من باب نعم وبئس ، فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالتمييز ، وأن تقولوا هو المخصوص بالذم ، أي بئس مقتاً قولكم كذا ، والخلاف الجاري في المرفوع في : بئس رجلاً زيد ، جار في ) أَن تَقُولُواْ ( هنا ، ويجوز أن يكون في كبر ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله : ) لِمَ تَقُولُونَ ( ، أي كبر هو ، أي القول مقتاً ، ومثله كبرت كلمة ، أي ما أكبرها كلمة ، وأن تقولوا بدل من المضمر ، أو خبر ابتداء مضمر . وقيل : هو من أبنية التعجب ، أي ما أكبره مقتاً . وقال الزمخشري : قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله :
غلت ناب كليب بواؤها
ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظرائه وأشكاله ، وأسند إلى ) أَن تَقُولُواْ ( ونصب ) مَقْتاً ( على تفسيره ، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه ، واختير لفظ المقت لأنه أشدّ البغض ، ولم يقتصر على أن جعل البغض كثيراً حتى جعل أشدّه وأفحشه ، وعند الله أبلغ

" صفحة رقم 259 "
من ذلك ، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته . انتهى . وقال ابن عطية : والمقت : البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت . انتهى . وقال المبرد : رجل ممقوت ومقيت ، إذا كان يبغضه كل أحد . انتهى .
الصف : ( 4 ) إن الله يحب . . . . .
وقرأ زيد بن عليّ : يقاتلون بفتح التاء . وقيل : قرىء يقتلون ، وانتصب صفاً على الحال ، أي صافين أنفسهم أو مصفوفين ، كأنهم فيء في تراصهم من غير فرجة ولا خلل ، بنيان رص بعضه إلى بعض . والظاهر تشبيه الذوات في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص . وقيل : المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص . قيل : وفيه دليل على فضل القتال راجلاً ، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة ؛ وصفاً وكأنهم ، قال الزمخشري : حالان متداخلان . وقال الحوفي : كأنهم في موضع النعت لصفاً . انتهى . ويجوز أن يكونا حالين من ضمير يقاتلون .
الصف : ( 5 ) وإذ قال موسى . . . . .
ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل ، وهو راجع إلى الكذب ، فإن ذلك في معنى الإذاية للرسول عليه الصلاة والسلام ، إذ كان في أتباعه من عانى الكذب ، فناسب ذكر قصة موسى وقوله لقومه : ) لِمَ تُؤْذُونَنِى ( ، وإذايتهم له كان بانتقاصه في نفسه وجحود آيات الله تعالى واقتراحاتهم عليه ما ليس لهم اقتراحه ، ( وَقَد تَّعْلَمُونَ ( : جملة حالية تقتضي تعظيمه وتكريمه ، فرتبوا على علمهم أنه رسول الله ما لا يناسب العلم وهو الإذاية ، وقد تدل على التحقق في الماضي والتوقع في المضارع ، والمضارع هنا معناه المضي ، أي وقد علمتم ، كقوله : ) قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ( ، أي قد علم ، ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ ). وعبر عنه بالمضارع ليدل على استصحاب الفعل ، ( فَلَمَّا زَاغُواْ ( عن الحق ، ( أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ). قال الزمخشري : بأن منع ألطافه ، ( وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( : لا يلطف بهم ، لأنهم ليسوا من أهل اللطف . وقال غيره : أسند الزيغ إليهم ، ثم قال : ) أَزَاغَ اللَّهُ ( كقوله تعالى : ) نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ( ، وهو من العقوبة على الذنب بالذنب ، بخلاف قوله : ) ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ ).
الصف : ( 6 ) وإذ قال عيسى . . . . .
ولما ذكر شيئاً من قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل ، ذكر أيضاً شيئاً من قصة عيسى عليه السلام . وهناك قال : ) عَلَيْهِ قَوْمٌ ( لأنه من بني إسرائيل ، وهنا قال عيسى : ) مَعِىَ بَنِى إِسْراءيلَ ( من حيث لم يكن له فيهم أب ، وإن كانت أمه منهم . ومصدقاً ومبشراً : حالان ، والعامل رسول ، أي مرسل ، ويأتي واسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدق لما تقدم من كتب الله الإلهية ، ولمن تأخر من النبي المذكور ، لأن التبشير بأنه رسول تصديق لرسالته . وروي أن الحواريين قالوا : يا رسول الله هل بعدنا من أمة ؟ قال : ( نعم ، أمة أحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حكماء علماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم بالقليل من العمل ) . وأحمد علم منقول من المضارع للمتكلم ، أو من أحمد أفعل التفضيل ، وقال حسان : صلى الإله ومن يحف بعرشه
والطيبون على المبارك أحمد
وقال القشيري : بشر كل نبي قومه بنبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والله أفرد عيسى بالذكر في هذا الموضع لأنه آخر نبي قبل نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فبين أن البشارة به عمت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إلى عيسى عليه السلام . والظاهر أن الضمير المرفوع في ) جَاءهُمُ ( يعود على عيسى لأنه المحدث عنه . وقيل : يعود على أحمد . لما فرغ من كلام عيسى ، تطرق إلى الإخبار عن أحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وذلك على سبيل الإخبار للمؤمنين ، أي فلما جاء المبشر به هؤلاء الكفار بالمعجزات الواضحة قالوا : ) هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ). وقرأ الجمهور : سحر ، أي ما جاء به من البينات . وقرأ عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب : ساحر ، أي هذا الحال ساحر .
الصف : ( 7 ) ومن أظلم ممن . . . . .
وقرأ الجمهور : يدعى مبنياً للمفعول ؛ وطلحة : يدعى مضارع ادعى مبنياً للفاعل ، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به ، لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدى بإلى . وقال الزمخشري : أيضاً ، وقرأ طلحة بن مصرف : وهو يدعى بشد الدال ، بمعنى يدعى دعاه وادعاه ، نحو لمسه والتمسه .
الصف : ( 8 ) يريدون ليطفئوا نور . . . . .
( يُرِيدُونَ ( الآية : تقدم

" صفحة رقم 260 "
تفسير نظيرها في سورة التوبة . وقال الزمخشري : أصله : ) يُرِيدُونَ أَن ( ، كما جاء في سورة براءة ، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لأكرمك ، كما زيدت اللام في : لا أبا لك ، تأكيداً لمعنى الإضافة في : لا أبا لك . انتهى . وقال نحوه ابن عطية ، قال : واللام في قوله : ) ليطفؤا ( لام مؤكدة ، دخلت على المفعول لأن التقدير : يريدون أن يطفؤا ، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدم ، تقول : لزيد ضربت ، ولرؤيتك قصرت . انتهى . وما ذكره ابن عطية من أن هذه اللام أكثر ما تلزم المفعول إذا تقدم ليس بأكثر ، بل الأكثر : زيداً ضربت ، من : لزيد ضربت . وأما قولهما إن اللام للتأكيد ، وإن التقدير أن يطفؤا ، فالإطفاء مفعول ) إِن يُرِيدُونَ ( ، فليس بمذهب سيبويه والجمهور . وقال ابن عباس وابن زيد : هنا يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول . وقال السدي : يريدون دفع الإسلام بالكلام . وقال الضحاك : هلاك الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالأراجيف . وقال ابن بحر : إبطال حجج الله بتكذيبهم .
وعن ابن عباس : سبب نزولها أن الوحي أبطأ أربعين يوماً ، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر يهود أبشروا ، اطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم نوره ، فحزن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فنزلت واتصل الوحي . وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن : ) مُّتُّمْ ( بالتنوين ، ( نُورِهِ ( بالنصب ؛ وباقي السبعة والأعمش : بالإضافة .
الصف : ( 10 ) يا أيها الذين . . . . .
وقرأ الجمهور : ) تُنجِيكُم ( مخففاً ؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر : مشدداً .
الصف : ( 11 - 12 ) تؤمنون بالله ورسوله . . . . .
والجمهور : ) تُؤْمِنُونَ ( ، ( وَتُجَاهِدُونَ ( ؛ وعبد الله : آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا أمرين ؛ وزيد بن علي بالتاء ، فيهما محذوف النون فيهما . فأما توجيه قراءة الجمهور ، فقال المبرد : هو بمعنى آمنوا على الأمر ، ولذلك جاء يغفر مجزوماً . انتهى ، فصورته صورة الخبر ، ومعناه الأمر ، ويدل عليه قراءة عبد الله ، ونظيره قوله : اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه ، أي ليتق الله ، وجيء به على صورة الخبر . قال الزمخشري : للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل ، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين ، ونظيره قول الداعي : غفر الله لك ويغفر الله لك ، جعلت المغفرة لقوة الرجاء ، كأنها كانت ووجدت . انتهى . وقال الأخفش : هو عطف بيان على تجارة ، وهذا لا يتخيل إلا على تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر ، ثم حذف أن فارتفع الفعل كقوله :
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغا
يريد : أن احضر ، فلما حذف أن ارتفع الفعل ، فكان تقدير الآية ) هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( : إيمان بالله ورسوله وجهاد . وقال ابن عطية : ) تُؤْمِنُونَ ( فعل مرفوع تقديره ذلك أنه تؤمنون . انتهى ، وهذا ليس بشيء ، لأن فيه حذف المبتدأ وحذف أنه وإبقاء الخبر ، وذلك لا يجوز . وقال الزمخشري : وتؤمنون استئناف ، كأنهم قالوا : كيف نعمل ؟ فقال : تؤمنون ، ثم اتبع المبرد فقال : هو خبر في معنى الأمر ، وبهذا أجيب بقوله : ) يَغْفِرْ لَكُمْ ). انتهى . وأما قراءة عبد الله فظاهرة المعنى وجواب الأمر يغفر ، وأما قراءة زيد فتتوجه على حذف لام الأمر ، التقدير : لتؤمنوا ، كقول الشاعر : قلت لبواب على بابها
تأذن لي أني من أحمائها
يريد : لتأذن ، ويغفر مجزوم على جواب الأمر في قراءة عبد الله وقراءة زيد ، وعلي تقدير المبرد . وقال الفراء : هو مجزوم

" صفحة رقم 261 "
على جواب الاستفهام ، وهو قوله : ) هَلْ أَدُلُّكُمْ ( ، واستبعد هذا التخريج . قال الزجاج : ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم ، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا . وقال المهدوي : إنما يصح حملاً على المعنى ، وهو أن يكون تؤمنون وتجاهدون عطف بيان على قوله : ) هَلْ أَدُلُّكُمْ ( ، كأن التجارة لم يدر ما هي ، فبينت بالإيمان والجهاد ، فهي هما في المعنى ، فكأنه قال : هل تؤمنون وتجاهدون ؟ قال : فإن لم تقدر هذا التقدير لم يصح ، لأنه يصير : إن دللتم يغفر لكم ، والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة . وقال الزمخشري نحوه ، قال : وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة ، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد ، فكأنه قال : هل تتحرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم ؟ انتهى ، وتقدم شرح بقية الآية .
الصف : ( 13 ) وأخرى تحبونها نصر . . . . .
ولما ذكر تعالى ما يمنعهم من الثواب في الآخرة ، ذكر ما يسرهم في العاجلة ، وهي ما يفتح عليهم من البلاد . ) وَأُخْرَى ( : صفة لمحذوف ، أي ولكم مثوية أخرى ، أو نعمة أخرى عاجلة إلى هذه النعمة الآجلة . فأخرى مبتدأ وخبره المقدر لكم ، وهو قول الفراء ، ويرجحه البدل منه بقوله : ) نَصْرٌ مّن اللَّهِ ( ، و ) تُحِبُّونَهَا ( صفة ، أي محبوبة إليكم . وقال قوم : وأخرى في موضع نصب بإضمار فعل ، أي ويمنحكم أخرى ؛ ونصر خبر مبتدأ ، أي ذلك ، أو هو نصر . وقال الأخفش : وأخرى في موضع جر عطفاً على تجارة ، وضعف هذا القول لأن هذه الأخرى ليست مما دل عليه ، إنما هي من الثواب الذي يعطيهم الله على الإيمان والجهاد بالنفس والمال . وقرأ الجمهور : ) نَصْرُ ( بالرفع ، وكذا ) وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ( ؛ وابن أبي عبلة : بالنصب فيها ثلاثتها ، ووصف أخرى بتحبونها ، لأن النفس قد وكلت بحب العاجل ، وفي ذلك تحريض على ما يحصل ذلك ، وهو الإيمان والجهاد . وقال الزمخشري : وفي تحبونها شيء من التوبيخ على محبة العاجل ، قال : فإن قلت : لم نصب من قرأ نصراً من الله وفتحاً قريباً ؟ قلت : يجوز أن ينصب على الاختصاص ، أو على ينصرون نصراً ويفتح لكم فتحاً ، أو على ) يَغْفِرْ لَكُمْ ( و ) لَهُمْ جَنَّاتُ ( ويؤتكم أخرى نصراً وفتحاً قريباً . فإن قلت علام عطف قوله : ) وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ؟ قلت : على ) تُؤْمِنُونَ ( ، لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك . انتهى .
الصف : ( 14 ) يا أيها الذين . . . . .
( كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ ( : ندب المؤمنين إلى النصرة ووضع لهم هذا الاسم ، وإن كان قد صار عرفاً للأوس والخزرج ، وسماهم الله به . وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان : أنصاراً لله بالتنوين ؛ والحسن والجحدري وباقي السبعة : بالإضافة إلى الله ، والظاهر أن كما في موضع نصب على إضمار ، أي قلنا لكم ذلك كما قال عيسى . وقال مكي : نعت لمصدر محذوف ، والتقدير : كونوا كوناً . وقيل : نعت لأنصاراً ، أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال : ) مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ). انتهى . والحواريون اثنا عشر رجلاً ، وهم أول من آمن بعيسى ، بثهم عيسى في الآفاق ، بعث بطرس وبولس إلى رومية ، وأندارس ومتى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس ، وبوقاس إلى أرض بابل ، وفيليس إلى قرطاجنة وهي إفريقية ، ويحنس إلى أقسوس قرية أصحاب الكهف ، ويعقوبين إلى بيت المقدس ، وابن بليمن إلى أرض الحجاز وتستمر إلى أرض البربر وما حولها ، وفي بعض أسمائهم إشكال من جهة الضبط ، فليلتمس ذلك من مظانه . ) يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ بِعَيسَى عَلَى عَدُوّهِمْ ( : وهم الذين كفروا بعيسى ، ( فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( : أي قاهرين لهم مستولين عليهم . وقال زيد بن عليّ وقتادة : ظاهرين : غالبين بالحجة والبرهان . وقيل : أيدنا المسلمين على الفرقتين الضالتين ، والله أعلم .

" صفحة رقم 262 "
62
( سورة الجمعة )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُلْ ياأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُواْ فِى الاٌّ رْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَازِقِينَ ( ) ) 2
الجمعة : ( 1 ) يسبح لله ما . . . . .
السفر : الكتاب المجتمع الأوراق منضدة .
( يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ ( سقط : إلى آخر الصفحة ) (

" صفحة رقم 263 "
( سقط : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله ذكرا كثيرا لعلكم تفلحون ، وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين )
هذه السورة مدنية . وقيل : مكية ، وهو خطأ ، لأن أمر اليهود وانفضاض الناس في الجمعة لم يكن إلا بالمدينة . ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر تأييد من آمن على أعدائهم ، أتبعه بذكر التنزيه لله تعالى وسعة ملكه وتقديسه ، وذكر ما أنعم به على أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) من بعثته إليهم ، وتلاوته عليهم كتابه ، وتزكيتهم ، فصارت أمّته غالبة سائر الأمم ، قاهرة لها ، منتشرة الدعوة ، كما انتشرت دعوة الحواريين في زمانهم . وقرأ الجمهور : ) الْمَلِكُ ( بجرّه وجر ما بعده ؛ وأبو وائل ومسلمة بن محارب ورؤبة وأبو الدّينار الأعرابي : بالرفع على إضمار هو ، وحسنه الفصل الذي فيه طول بين الموصوف والصفة ، وكذلك جاء عن يعقوب . وقرأ أبو الدينار وزيد بن عليّ : القدوس بفتح القاف ؛ والجمهور : بالضم .
الجمعة : ( 2 ) هو الذي بعث . . . . .
( هُوَ الَّذِى بَعَثَ ( الآية : تقدم الكلام في نظيرها في آل عمران وفي نسبة الأمّي .
( وَءاخَرِينَ ( : الظاهر أنه معطوف على ) الامّيّينَ ( ، أي وفي آخرين من الأمّيين لم يلحقوا بهم بعد ، وسيلحقون .
الجمعة : ( 3 ) وآخرين منهم لما . . . . .
وقيل : ) وَءاخَرِينَ ( منصوب معطوف على الضمير في ) وَيُعَلّمُهُمُ ( ، أسند تعليم الآخرين إليه عليه الصلاة والسلام مجازاً لما تناسق التعليم إلى آخر الزمان وتلا بعضه بعضاً ، فكأنه عليه الصلاة والسلام وجد منه . وقال أبو هريرة وغيره : وآخرين هم فارس ، وجاء نصاً عنه في صحيح البخاري ومسلم ، ولو فهم منه الحصر في فارس لم يجز أن يفسر به الآية ، ولكن فهم المفسرون منه أنه تمثيل . فقال مجاهد وابن جبير : الروم والعجم . وقال مجاهد أيضاً وعكرمة ومقاتل : التابعين من أبناء العرب لقوله : ) مِنْهُمْ ( ، أي في النسب . وقال مجاهد أيضاً والضحاك وابن حبان : طوائف من الناس . وقال ابن عمر : أهل اليمن . وعن مجاهد أيضاً : أبناء الأعاجم ؛ وعن ابن زيد أيضاً : هم التابعون ؛ وعن الضحاك أيضاً : العجم ؛ وعن أبي روق : الصغار بعد الكبار ، وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل ، كما حملوا قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في فارس : ) وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( في تمكينه رجلاً أمّياً من ذلك الأمر العظيم ، وتأييده واختياره من سائر البشر .
الجمعة : ( 4 ) ذلك فضل الله . . . . .
( ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ ( : أي إيتاء النبوة وجعله خير خلقه واسطة بينه وبين خلقه .
الجمعة : ( 5 ) مثل الذين حملوا . . . . .
( مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاةَ ( : هم اليهود المعاصرون للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها ، ولم يطيقوا القيام بها حين كذّبوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهي ناطقة بنبوته . وقرأ الجمهور : حملوا مشدداً مبنياً للمفعول ؛ ويحيى بن يعمرو وزيد بن عليّ : مخففاً مبنياً للفاعل . شبه صفتهم بصفة الحمار الذي يحمل كتباً ، فهو لا يدري ما عليه ، أكتب هي أم صخر وغير ذلك ؟ وإنما يدرك من ذلك ما يلحقه من التعب بحملها . وقال الشاعر في نحو ذلك : زوامل للأشعار لا علم عندهم
بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
بأوساقه أو راح ما في الغرائر
وقرأ عبد الله : حمار منكراً ؛ والمأمون بن هارون : يحمل بشد الميم مبنياً للمفعول . والجمهور : الحمار معرفاً ، ويحمل مخففاً مبنياً للفاعل ، ويحمل في موضع نصب على الحال . قال الزمخشري : أو الجر على الوصف ، لأن الحمار كاللئيم في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني
انتهى .
وهذا الذي قاله قد ذهب إليه بعض النحويين ، وهو أن مثل هذا من المعارف يوصف بالجمل ، وحملوا عليه ) وَءايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ( ، وهذا وأمثاله عند المحققين في موضع الحال ، لا في موضع الصفة . ووصفه

" صفحة رقم 264 "
بالمعرفة ذي اللام دليل على تعريفه مع ما في ذلك المذهب من هدم ما ذكره المتقدمون من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ، والجمل نكرات . ) بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ ). قال الزمخشري : بئس مثلاً مثل القوم . انتهى . فخرجه على أن يكون التمييز محذوفاً ، وفي بئس ضمير يفسره مثلاً الذي ادعى حذفه . وقد نص سيبويه على أن التمييز الذي يفسره الضمير المستكن في نعم وبئس وما أجري مجراهما لا يجوز حذفه . وقال ابن عطية : والتقدير بئس المثل مثل القوم . انتهى . وهذا ليس بشيء ، لأن فيه حذف الفاعل ، وهو لا يجوز . والظاهر أن ) مَثَلُ الْقَوْمِ ( فاعل ) بِئْسَ ( ، والذين كفروا هو المخصوص بالذم على حذف مضاف ، أي مثل الذين كذبوا بآيات الله ، وهم اليهود ، أو يكون ) الَّذِينَ كَذَبُواْ ( صفة للقوم ، والمخصوص بالدم محذوف ، التقدير : بئس مثل القوم المكذبين مثلهم ، أي مثل هؤلاء الذين حملوا التوراة .
الجمعة : ( 6 - 7 ) قل يا أيها . . . . .
روي أنه لما ظهر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كتبت يهود المدينة ليهود خيبر : إن اتبعتموه أطعناكم ، وإن خالفتموه خالفناه ، فقالوا لهم : نحن أبناء خليل الرحمن ، ومنا عزير بن الله والأنبياء ، ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد ، ولا سبيل إلى اتباعه ، فنزلت : ) قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ ( ، وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ، وإن كان قولكم حقاً فتمنوا أن تنقلوا سريعاً إلى دار كرامته المعدة لأوليائه ، وتقدم تفسير نظير بقية الآية في سورة البقرة . وقرأ الجمهور : ) فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ ( ، بضم الواو ؛ وابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السميفع : بكسرها ؛ وعن ابن السميفع أيضاً : فتحها . وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمز مضمومة بدل الواو ، وهذا كقراءة من قرأ : تلؤون بالهمز بدل الواو . قال الزمخشري : ولا فرق بين لا ولن في أن كل واحد منهما نفي للمستقبل ، إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا ، فأتى مرة بلفظ التأكيد : ) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ ( ، ومرة بغير لفظه : ) وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ ( ، وهذا منه رجوع عن مذهبه في أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة في أنها لا تقتضيه ، وأما قوله : إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا ، فيحتاج ذلك إلى نقل عن مستقري اللسان .
وقرأ الجمهور : ) فَإِنَّهُ ( ، والفاء دخلت في خبر إن إذا جرى مجرى صفته ، فكان إن باشرت الذي ، وفي الذي معنى الشرط ، فدخلت الفاء في الخبر ، وقد منع هذا قوم ، منهم الفراء ، وجعلوا الفاء زائدة . وقرأ زيد بن علي : إنه بغير فاء ، وخرجه الزمخشري على الاستئناف ،
الجمعة : ( 8 ) قل إن الموت . . . . .
وخبر إن هو الذي ، كأنه قال : قل إن الموت هو الذي تفرون منه . انتهى . ويحتمل أن يكون خبر أن هو قوله : أنه ملاقيكم ، فالجملة خبر إن ، ويحتمل أن يكون إنه توكيداً ، لأن الموت وملاقيكم خبر إن . لما طال الكلام ، أكد الحرف مصحوباً بضمير الاسم الذي لإن .
الجمعة : ( 9 - 10 ) يا أيها الذين . . . . .
( إِذَا نُودِىَ ( : أي إذا أذن ، وكان الأذان عند قعود الإمام على المنبر . وكذا كان في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كان إذا صعد على المنبر أذن على باب المسجد ، فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة . وكذا كان في عهد أبي بكر وعمر إلى زمان عثمان ، كثر الناس وتباعدت المنازل ، فزاد مؤذناً آخر على داره التي تسمى الزوراء ، فإذا جلس على المنبر أذن الثاني ، فإذا نزل من المنبر أقيمت الصلاة ، ولم يعب ذلك أحد على عثمان رضى الله عنه . فإن قلت : من في قوله : ) مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ ( ما هي ؟ قلت : هي بيان لإذا وتفسير له . انتهى . وقرأ الجمهور : الجمعة بضم الميم ؛ وابن الزبير وأبو حيوة وابن أبي عبلة ، ورواية عن أبي عمرو وزيد بن علي والأعمش : بسكونها ، وهي لغة تميم ، ولغة بفتحها لم يقرأ بها ، وكان هذا اليوم يسمى عروبة ، ويقال : العروبة . قيل : أول من سماه الجمعة كعب بن لؤي ، وأول جمعة صليت جمعة سعد بن أبي زرارة ، صلى بهم ركعتين وذكرهم ، فسموهم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، فأنزل الله آية الجمعة ، فهي أول جمعة جمعت في الإسلام .
وأما أول جمعة جمعها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإنه لما قدم المدينة ، نزل بقباء على بني عمرو بن عوف ، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة ، فأدرك صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف ، في بطن واد لهم ، فخطب وصلى الجمعة . والظاهر وجوب السعي لقوله تعالى : ) فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( ، وأنه يكون في المشي خفة وبدار . وقال الحسن وقتادة ومالك وغيرهم : إنما تؤتى الصلاة بالسكينة ، والسعي هو بالنية والإرادة والعمل ، وليس

" صفحة رقم 265 "
الإسراع في المشي ، كالسعي بين الصفا والمروة ؛ وإنما هو بمعنى قوله تعالى : ) وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( ، فالقيام والوضوء ولبس الثوب والمشي كله سعي . والظاهر أن الخطاب بالأمر بالسعي للمؤمنين عموماً ، وأنهما فرض على الأعيان . وعن بعض الشافعية ، أنها فرض كفاية ، وعن مالك رواية شاذة : أنها سنة . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : ثبت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم ) . وقالوا : المأمور بالسعي المؤمن الصحيح الحر الذكر المقيم . فلو حضر غيره أجزأتهم . انتهى .
والمسافة التي يسعى منها إلى صلاة الجمعة لم تتعرض الآية لها ، واختلف الفقهاء في ذلك . فقال ابن عمرو وأبو هريرة وأنس والزهري : ستة أميال . وقيل : خمسة . وقال ربيعة : أربعة أميال . وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر . وقال مالك والليث : ثلاثة . وقال أبو حنيفة وأصحابه : على من في المصر ، سمع النداء أو لم يسمع ، لا على من هو خارج المصر ، وإن سمع النداء . وعن ابن عمر وابن المسيب والزهري وأحمد وإسحاق : على من سمع النداء . وعن ربيعة : على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشياً أدرك الصلاة . وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين : فامضوا بدل ) فَاسْعَوْاْ ( ، وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث أنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي ، ففسروه بالمضي ، ولا يكون قرآناً لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون .
وذكر الله هنا الخطبة ، قاله ابن المسيب ، وهي شرط في انعقاد الجمعة عند الجمهور . وقال الحسن : هي مستحبة ، والظاهر أنه يجزىء من ذكر الله تعالى ما يسمى ذكراً . قال أبو حنيفة : لو قال الحمد لله أو سبحان الله واقتصر عليه جاز ، وقال غيره : لا بد من كلام يسمى خطبة ، وهو قول الشافعي وأبي سفيان ومحمد بن الحسن ، والظاهر تحريم البيع ، وأنه لا يصح . وقال ابن العربي : يفسخ ، وهو الصحيح . وقال الشافعي : ينعقد ولا يفسخ ، وكلما يشغل من العقود كلها فهو حرام شرعاً ، مفسوخ ورعاً . انتهى . وإنما ذكر البيع من بين سائر المحرمات ، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق ، إذ يكثر الوافدون الأمصار من القرى ويجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار ، فأمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة ، ونهوا عن تجارة الدنيا ، ووقت التحريم من الزوال إلى الفراغ من الصلاة ، قاله الضحاك والحسن وعطاء . وقال ناس غيرهم : من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ ، والإشارة بذلكم إلى السعي وترك البيع ، والأمر بالانتشار والابتغاء أمر إباحة ، وفضل الله هو ما يلبسه في حالة حسنة ، كعيادة المريض ، وصلة صديق ، واتباع جنازة ، وأخذ في بيع وشراء ، وتصرفات دينية ودنيوية ؛ فأمر مع ذلك بإكثار ذكر الله . وقال مكحول والحسن وابن المسيب : الفضل : المأمور بابتغائه هو العلم . وقال جعفر الصادق : ينبغي أن يكون فجر صبح يوم السبت ، ويعني أن يكون بقية يوم الجمعة في عبادة .
الجمعة : ( 11 ) وإذا رأوا تجارة . . . . .
وروي أنه كان أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر ، فقدم دحية بعير تحمل ميرة . قال مجاهد : وكان من عرفهم أن يدخل بالطبل والمعازف من درابها ، فدخلت بها ، فانفضوا إلى رؤية ذلك وسماعه ، وتركوه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قائماً على المنبر في اثني عشر رجلاً . قال جابر : أنا أحدهم . قال أبو بكر غالب بن عطية : هم العشرة المشهود لهم بالجنة ، والحادي عشر قيل : عمار . وقيل : ابن مسعود . وقيل : ثمانية ، قالوا : فنزلت : ) وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً ). وقرأ الجمهور : ) إِلَيْهَا ( بضمير التجارة ؛ وابن أبي عبلة : إليه بضمير اللهو ، وكلاهما جائز ، نص عليه الأخفش عن العرب . وقال ابن عطية : وقال إليها ولم يقل إليهما تهمماً بالأهم ، إذ كانت سبب اللهو ، ولم يكن اللهو سببها . وتأمّل أن قدّمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم ، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولاً على الأبين . انتهى . وفي قوله : ) قَائِمَاً ( دلالة على مشروعية القيام في الخطبة . وأول من استراح في الخطبة عثمان ، وأول من خطب جالساً معاوية . وقرىء : إليهما بالتثنية للضمير ، كقوله تعالى : ) إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ( ، وتخريجه على أن يتجوّز بأو ، فتكون بمعنى الواو ، وقد تقدّم غير هذا التخريج في قوله : ) فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ( في موضعه في سورة النساء . وناسب ختمها بقوله : ) وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ ( ، لأنهم كانوا قد مسهم شيء من غلاء الأسعار ، كما تقدم في سبب النزول ، وقد ملأ المفسرون كثيراً من أوراقهم بأحكام وخلاف في مسائل الجمعة مما لا تعلق لها بلفظ القرآن .

" صفحة رقم 266 "
63
( سورة المنافقون )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الاٌّ عَزُّ مِنْهَا الاٌّ ذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاأَخَّرْتَنِىإِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ) ) 2
المنافقون : ( 1 ) إذا جاءك المنافقون . . . . .
الجسم والخشب معرفان . أسندت ظهري إلى الحائط : أملته وأضفته إليه ، وتساند القوم : اصطفوا وتقابلوا للقتال .
( إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ( سقط : إلى آخر الصفحة ) (

" صفحة رقم 267 "
( سقط : الآية كاملة )
هذه السورة مدنية ، نزلت في غزوة بني المصطلق ، كانت من عبد الله بن أبيّ بن سلول وأتباعه فيها أقوال ، فنزلت . وسبب نزولها مذكور في قصة طويلة ، من مضمونها : أن اثنين من الصحابة ازدحما على ماء ، وذلك في غزوة بني المصطلق ، فشج أحدهما الآخر ، فدعا المشجوج : يا للأنصار ، والشاج : يا للمهاجرين ، فقال عبد الله بن أبيّ بن سلول : ما حكى الله تعالى عنه من قوله : ) لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ ( ، وقوله : ) لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ ( ، وعنى الأعز نفسه ، وكلاماً قبيحاً . فسمعه زيد بن أرقم ، ونقل ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عبد الله ، فحلف ما قال شيئاً من ذلك ، فاتهم زيد ، فأنزل الله تعالى ) إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ ( إلى قوله : ) لاَّ يَعْلَمُونَ ( ، تصديقاً لزيد وتكذيباً لعبد الله بن أبيّ .
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلاً عن المنافقين ، واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك ، وذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة ، إذ كان وقت مجاعة ، جاء ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان ، وأتبعه بقبائح أفعالهم وقولهم : ) لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ ( ، إذ كانوا هم أصحاب أموال ، والمهاجرون فقراء قد تركوا أموالهم ومتاجرهم وهاجروا لله تعالى . ) قَالُواْ نَشْهَدُ ( : يجري مجرى اليمين ، ولذلك تلقى بما يتلقى به القسم ، وكذا فعل اليقين . والعلم يجري مجرى القسم بقوله : ) إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ( ، وأصل الشهادة أن يواطىء اللسان القلب هذا بالنطق ، وذلك بالاعتقاد ؛ فأكذبهم الله وفضحهم بقوله : ) وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( : أي لم تواطىء قلوبهم ألسنتهم على تصديقك ، واعتقادهم أنك غير رسول ، فهم كاذبون عند الله وعند من خبر حالهم ، أو كاذبون عند أنفسهم ، إذ كانوا يعتقدون أن قولهم : ) إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ( كذب . وجاء بين شهادتهم وتكذيبهم قوله تعالى : ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ( ، إيذاناً أن الأمر كما لفظوا به من كونه رسول الله حقاً . ولم تأت هذه الجملة لتوهم أن قولهم هذا كذب ، فوسطت الأمر بينهما ليزول ذلك التوهم .
المنافقون : ( 2 ) اتخذوا أيمانهم جنة . . . . .
( اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ ( : سمى شهادتهم تلك أيماناً . وقرأ الجمهور : أيمانهم ، بفتح الهمزة جمع يمين ؛ والحسن : بكسرها ، مصدر آمن . ولما ذكر أنهم كاذبون ، أتبعهم بموجب كفرهم ، وهو اتخاذ أيمانهم جنة يستترون بها ، ويذبون بها عن أنفسهم وأموالهم ، كما قال بعض الشعراء : وما انتسبوا إلى الإسلام إلا
لصون دمائهم أن لا تسالا
ومن أيمانهم أيمان عبد الله ، ومن حلف معه من قومه أنه ما قال ما نقله زيد بن أرقم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، جعلوا تلك الأيمان جنة تقي من القتل ، وقال أعشى همدان : إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة
من المال سار القوم كل مسير
وقال الضحاك : اتخذوا حلفهم بالله أنهم لمنكم . وقال قتادة : كلما ظهر شيء منهم يوجب مؤاخذتهم ، حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم . وقال السدي : ) جَنَّةُ ( من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا ، ( فَصَدُّواْ ( : أي أعرضوا وصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام ،
المنافقون : ( 3 ) ذلك بأنهم آمنوا . . . . .
( ذالِكَ ( أي ذلك الحلف الكاذب والصد المقتضيان لهم سوء العمل بسبب أيمانهم ثم كفرهم . وقال ابن عطية : ذلك إشارة إلى فعل الله بهم في فضيحتهم وتوبيخهم ، ويحتمل أن تكون الإشارة

" صفحة رقم 268 "
إلى سوء ما عملوا ، فالمعنى : ساء عملهم بأن كفروا . وقال الزمخشري : ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا ، أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستخفاف بالإيمان ، أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا . وقرأ الجمهور : ) فَطُبِعَ ( مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن علي : مبنياً للفاعل : أي فطبع الله ؛ وكذا قراءة الأعمش وزيد في رواية مصرحاً بالله . ويحتمل على قراءة زيد الأولى أن يكون الفاعل ضميراً يعود على المصدر المفهوم من ما قبله ، أي فطبع هو ، أي بلعبهم بالدين . ومعنى ) ءامَنُواْ ( : نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل المسلمون ، ( ثُمَّ كَفَرُواْ ( : أي ظهر كفرهم بما نطقوا به من قولهم : لئن كان محمد ما يقوله حقاً فنحن شر من الحمير ، وقولهم : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر ؟ هيهات ، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين وبالكفر عند شياطينهم ، أو ذلك فيمن آمن ثم ارتد .
المنافقون : ( 4 ) وإذا رأيتهم تعجبك . . . . .
( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ( : الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو للسامع : أي لحسنها ونضارتها وجهارة أصواتهم ، فكان منظرهم يروق ، ومنطقهم يحلو . وقرأ الجمهور : ) تُسْمِعُ ( بتاء الخطاب ؛ وعكرمة وعطية العوفي : يسمع بالياء مبنياً للمفعول ، و ) لِقَوْلِهِمْ ( : الجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وليست اللام زائدة ، بل ضمن يسمع معنى يصغ ويمل ، تعدى باللام وليست زائدة ، فيكون قولهم هو المسموع . وشبهوا بالخشب لعزوب أفهامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان ، ولم يكن حتى جعلها مسندة إلى الحائط ، لا انتفاع بها لأنها إذا كانت في سقف أو مكان ينتفع بها ، وأما إذا كانت غير منتفع بها فإنها تكون مهملة مسندة إلى الحيطان أو ملقاة على الأرض قد صففت ، أو شهوة بالخشب التي هي الأصنام وقد أسندت إلى الحيطان ، والجملة التشبيهية مستأنفة ، أو على إضمارهم . وقرأ الجمهور : ) خُشُبٌ ( بضم الخاء والشين ؛ والبراء بن عازب والنحويان وابن كثير : بإسكان الشين ، تخفيف خشب المضموم . وقيل : جمع خشباء ، كحمر جمع حمراء ، وهي الخشبة التي نخر جوفها ، شبهوا بها في فساد بواطنهم . وقرأ ابن المسيب وابن جبير : خشب بفتحتين ، اسم جنس ، الواحد خشبة ، وأنث وصفه كقوله : ) أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( ، أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام . وذكر ممن كان ذا بهاء وفصاحة عبد الله بن أبيّ ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير . قال الشاعر في مثل هؤلاء : لا تخدعنك اللحى ولا الصور
تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسحاب منتشرا
وليس فيها لطالب مطر
في شجر السرو منهم شبه
له رواء وما له ثمر
وقيل : الجملة التشبيهية وصف لهم بالجبن والخور ، ويدل عليه : ) يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ( في موضع المفعول الثاني ليحسبون ، أي واقعة عليهم ، وذلك لجبنهم وما في قلوبهم من الرعب . قال مقاتل : كانوا متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحاً بأي وجه كان ، أو أخبروا بنزول وحي ، طارت عقولهم حتى يسكن ذلك ويكون في غير شأنهم ، وكانوا يخافون أن ينزل الله تعالى فيهم ما تباح به دماؤهم وأموالهم ، ونحو هذا قول الشاعر : يروعه السرار بكل أرض
مخافة أن يكون به السرار
وقال جرير : ما زلت تحسب كل شيء بعدهم
خيلاً تكر عليهم ورجالا
أنشده ابن عطية لجرير ، ونسب هذا البيت الزمخشري للأخطل . قال : ويجوز أن يكون ) هُمُ الْعَدُوُّ ( المفعول

" صفحة رقم 269 "
الثاني كما لو طرحت الضمير . فإن قلت : فحقه أن يقول : هي العدو . قلت : منظور فيه إلى الخبر ، كما ذكر في هذا ربي ، وأن يقدر مضاف محذوف على يحسبون كل أهل صيحة . انتهى . وتخريج ) هُمُ الْعَدُوُّ ( على أنه مفعول ثان ليحسبون تخريج متكلف بعيد عن الفصاحة ، بل المتبادر إلى الذهن السليم أن يكون ) هُمُ الْعَدُوُّ ( إخباراً منه تعالى بأنهم ، وإن أظهروا الإسلام وأتباعهم ، هم المبالغون في عداوتك ؛ ولذلك جاء بعده أمره تعالى إياه بحذرهم فقال : ) فَاحْذَرْهُمْ ( ، فالأمر بالحذر متسبب عن إخباره بأنهم هم العدو . و ) قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ( : دعاء يتضمن إبعادهم ، وأن يدعو عليهم المؤمنون بذلك . ) أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( : أي كيف يصرفون عن الحق ، وفيه تعجب من ضلالهم وجهلهم .
ولما أخبره تعالى بعداوتهم ، أمره بحذرهم ، فلا يثق بإظهار مودتهم ، ولا بلين كلامهم . و ) قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ( : كلمة ذم وتوبيخ ، وقالت العرب : قاتله الله ما أشعره . يضعونه موضع التعجب ، ومن قاتله الله فهو مغلوب ، لأنه تعالى هو القاهر لكل معاند . وكيف استفهام ، أي كيف يصرفون عن الحق ولا يرون رشد أنفسهم ؟ قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون أنى ظرفاً لقاتلهم ، كأنه قال : قاتلهم الله كيف انصرفوا أو صرفوا ، فلا يكون في هذا القول استفهام على هذا . انتهى . ولا يصح أن يكون أنى لمجرد الظرف ، بل لا بد يكون ظرفاً استفهاماً ، إما بمعنى أين ، أو بمعنى متى ، أو بمعنى كيف ، أو شرطاً بمعنى أين . وعلى هذه التقادير لا يعمل فيها ما قبلها ، ولا تتجرد لمطلق الظرفية بحال من غير اعتبار ما ذكرناه ، فالقول بذلك باطل .
المنافقون : ( 5 ) وإذا قيل لهم . . . . .
ولما صدق الله زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن سلول ، مقت الناس ابن سلول ولامه المؤمنون من قومه ، وقال له بعضهم : امض إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) واعترف بذنبك يستغفر لك ، فلوّى رأسه إنكاراً لهذا الرأي ، وقال لهم : لقد أشرتم عليّ بالإيمان فآمنت ، وأشرتم عليّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلت ، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد ويستغفر مجزوم على جواب الأمر ، ورسول الله يطلب عاملان ، أحدهما ) يَسْتَغْفِرِ ( ، والآخر ) تَعَالَوْاْ ( ؛ فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ، ولو أعمل الأول لكان التركيب : تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ مجاهد ونافع وأهل المدينة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والمفضل وأبان عن عاصم والحسن ويعقوب ، بخلاف عنهما : ) لَوَّوْاْ ( ، بفتح الواو ؛ وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى وأبو رجاء والأعرج وباقي السبعة : بشدها للتكثير . وليّ رءوسهم ، على سبيل الاستهزاء واستغفار الرسول لهم ، هو استتابتهم من النفاق ، فيستغفر لهم ، إذ كان استغفاره متسبباً عن استتابتهم ، فيتوبون وهم يصدون عن المجيء واستغفار الرسول . وقرىء : يصدون ويصدون ، جملة حالية ، وأتت بالمضارع ليدل على استمرارهم ، ( وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ( : جملة حالية أيضاً .
المنافقون : ( 6 ) سواء عليهم أستغفرت . . . . .
ولما سبق في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون البتة ، سوى بين استغفاره لهم وعدمه . وحكى مكي أنه عليه الصلاة والسلام كان استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام . وقال ابن عباس : نزلت هذه بعد قوله تعالى في براءة أن تستغفر لهم سبعين مرة ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ( سوف أستغفر لهم زيادة على السبعين ) ، فنزلت هذه الآية ، فلم يبق للاستغفار وجه . وقرأ الجمهور : ) أَسْتَغْفَرْتَ ( بهمزة التسوية التي أصلها همزة الاستفهام ، وطرح ألف الوصل ؛ وأبو جعفر : بمدة على الهمزة . قيل : هي عوض من همزة الوصل ، وهي مثل المدة في قوله : ) قُلْ مَا حَرَّمَ ( ، لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ، ولا يحتاج ذلك في الفعل ، لأن همزة الوصل فيه مكسورة . وعن أبي جعفر أيضاً : ضم ميم عليهم ، إذ أصلها الضم ، ووصل الهمزة . وروى معاذ بن معاذ العنبري ، عن أبي عمرو : كسر الميم على أصل التقاء الساكنين ، ووصل الهمزة ، فتسقط في القراءتين ، واللفظ خبر ، والمعنى على الاستفهام ، والمراد التسوية ، وجاز حذف الهمزة لدلالة أم عليها ، كما دلت على حذفها في قوله :
بسبع رمينا الجمر أم بثمان

" صفحة رقم 270 "
يريد : أبسبع . وقال الزمخشري : وقرأ أبو جعفر : آستغفرت ، إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان ، لا قلب همزة الوصل ألفاً كما في : آلسحر ، وآلله . وقال ابن عطية : وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : آستغفرت ، بمدة على الهمزة ، وهي ألف التسوية . وقرأ أيضاً : بوصل الألف دون همز على الخبر ، وفي هذا كله ضعف ، لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام ، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها ، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر .
المنافقون : ( 7 ) هم الذين يقولون . . . . .
( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ ( : إشارة إلى ابن سلول ومن وافقه من قومه ، سفه أحلامهم في أنهم ظنوا أن رزق المهاجرين بأيديهم ، وما علموا أن ذلك بيد الله تعالى . ) لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ( : إن كان الله تعالى حكى نص كلامهم ، فقولهم : ) عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ( هو على سبيل الهزء ، كقولهم : ) وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( ، أو لكونه جرى عندهم مجرى اللعب ، أي هو معروف بإطلاق هذا اللفظ عليه ، إذ لو كانوا مقرين برسالته ما صدر منهم ما صدر . فالظاهر أنهم لم ينطقوا بنفس ذلك اللفظ ، ولكنه تعالى عبر بذلك عن رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إكراماً له وإجلالاً . وقرأ الجمهور : ) يَنفَضُّواْ ( : أي يتفرقوا عن الرسول ؛ والفضل بن عيسى : ينفضوا ، من انفض القوم : فني طعامهم ، فنفض الرجل وعاءه ، والفعل من باب ما يعدى بغير الهمزة ، وبالهمزة لا يتعدى . قال الزمخشري : وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم .
المنافقون : ( 8 ) يقولون لئن رجعنا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ ( : فالأعز فاعل ، والأذل مفعول ، وهو من كلام ابن سلول ، كما تقدم . ويعني بالأعز : نفسه وأصحابه ، وبالأذل : المؤمنين . والحسن وابن أبي عبلة والسبي في اختياره : لنخرجن بالنون ، ونصب الأعز والأذل ، فالأعز مفعول ، والأذل حال . وقرأ الحسن ، فيما ذكر أبو عمر والداني : لنخرجن ، بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء ، ونصب الأعز على الاختصاص ، كما قال : نحن العرب أقرى الناس للضيف ؛ ونصب الأذل على الحال ، وحكى هذه القراءة أبو حاتم . وحكى الكسائي والفراء أن قوماً قرأوا : ليخرجن بالياء مفتوحة وضم الراء ، فالفاعل الأعز ، ونصب الأذل على الحال . وقرىء : مبنياً للمفعول وبالياء ، الأعز مرفوع به ، الأذل نصباً على الحال . ومجيء الحال بصورة المعرفة متأول عند البصريين ، فما كان منها بأل فعلى زيادتها ، لا أنها معرفة .
ولما سمع عبد الله ، ولد عبد الله بن أبي هذه الآية ، جاء إلى أبيه فقال : أنت والله يا أبت الذليل ، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) العزيز . فلما دنا من المدينة ، جرد السيف عليه ومنعه الدخول حتى يأذن له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكان فيما قال له : وراءك لا تدخلها حتى تقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الأعز وأنا الأذل ، فلم يزل حبيساً في يده حتى أذن له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بتخليته . وفي هذا الحديث أنه قال لأبيه : لئن لم تشهد لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك ، قال : أفاعل أنت ؟ قال : نعم ، فقال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين . وقيل للحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما : أن فيك تيهاً ، فقال : ليس بتيه ولكنه عزة ، وتلا هذه الآية .
المنافقون : ( 9 ) يا أيها الذين . . . . .
( لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ ( بالسعي في نمائها والتلذذ بجمعها ، ( وَلاَ أَوْلَادُكُمْ ( بسروركم بهم وبالنظر في مصالحهم في حياتكم وبعد مماتكم ، ( عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( : هو عام في الصلاة والثناء على الله تعالى بالتسبيح والتحميد وغير ذلك والدعاء . وقال نحواً منه الحسن وجماعة . وقال الضحاك وعطاء : أكد هنا الصلاة المكتوبة . وقال الحسن أيضاً : جميع الفرائض . وقال الكلبي : الجهاد مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : القرآن . ) وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ( : أي الشغل عن ذكر الله بالمال والولد ، ( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ، حيث آثروا العاجل على الآجل ، والفاني على الباقي .
المنافقون : ( 10 ) وأنفقوا من ما . . . . .
( وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ( ، قال الجمهور : المراد الزكاة . وقيل : عام في المفروض والمندوب . وعن ابن عباس : نزلت في مانعي الزكاة ، والله لو رأى خيراً ما سأل الرجعة ، فقيل له : أما تتقي الله ؟ يسأل المؤمنون الكرة ، قال : نعم أنا أقرأ عليكم به قرآناً ، يعني أنها نزلت في المؤمنين ، وهم المخاطبون بها . ) لَوْلا أَخَّرْتَنِى ( : أي هلا أخرت موتي إلى زمان قليل ؟ وقرأ الجمهور : فأصّدّق ، وهو منصوب على جواب الرغبة ؛ وأبي وعبد الله وابن جبير : فأتصدق على الأصل . وقرأ جمهور السبعة : ) وَأَكُن ( مجزوماً . قال الزمخشري : ) وَأَكُن ( بالجزم عطفاً على محل ) فَأَصَّدَّقَ ( ، كأنه قيل : إن أخرتني أصدق وأكن . انتهى . وقال ابن عطية : عطفاً على الموضع ، لأن التقدير : إن

" صفحة رقم 271 "
تؤخرني أصدق وأكن ، هذا مذهب أبي علي الفارسي . فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غير هذا ، وهو أنه جزم وأكن على توهم الشرط الذي يدل عليه بالتمني ، ولا موضع هنا ، لأن الشرط ليس بظاهر ، وإنما يعطف على الموضع ، حيث يظهر الشرط كقوله تعالى : ) مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ). فمن قرأ بالجزم عطف على موضع ) فَلاَ هَادِيَ لَهُ ( ، لأنه لو وقع هنالك فعل كان مجزوماً . انتهى . والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم : أن العامل في العطف على الموضع موجود دون مؤثره ، والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود . وقرأ الحسن وابن جبير وأبو رجاء وابن أبي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري وأبو عمرو : وأكون بالنصب ، عطفاً على ) فَأَصَّدَّقَ ( ، وكذا في مصحف عبد الله وأبي . وقرأ عبيد بن عمير : وأكون بضم النون على الاستئناف ، أي وأنا أكون ، وهو وعد الصلاح .
المنافقون : ( 11 ) ولن يؤخر الله . . . . .
( وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْساً ( : فيه تحريض على المبادرة بأعمال الطاعات حذاراً أن يجيء الأجل ، وقد فرط ولم يستعد للقاء الله . وقرأ الجمهور : ) تَعْمَلُونَ ( بتاء الخطاب ، للناس كلهم ؛ وأبو بكر : بالياء ، خص الكفار بالوعيد ، ويحتمل العموم .

" صفحة رقم 272 "
64
( سورة التغابن )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَالِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِىأَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاًّنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( )

" صفحة رقم 273 "
التغابن : ( 1 - 2 ) يسبح لله ما . . . . .
التغابن : تفاعل من الغبن وليس من اثنين ، بل هو من واحد ، كتواضح وتحامل . والغبن : أخذ الشيء بدون قيمته ، أو بيعه كذلك . وقيل : الغبن : الإخفاء ، ومنه غبن البيع لاستخفائه ، ويقال : غبنت الثوب وخبنته ، إذا أخذت ما طال منه عن مقدارك ، فمعناه النفص .
( يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى شَىْء قَدِيرٌ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذالِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَئَامِنُواْ ).
هذه السورة مدنية في قول الأكثرين . وقال ابن عباس وغيره : مكية إلا آيات من آخرها : ) الْمُؤْمِنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ ( الخ ، نزلت بالمدينة . وقال الكلبي : مدينة ومكية .
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أن ما قبلها مشتمل على حال المنافقين ، وفي آخرها خطاب المؤمنين ، فأتبعه بما يناسبه من قوله : ) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ( ، هذا تقسيم في الإيمان والكفر بالنظر إلى الاكتساب عند جماعة من المتأولين لقوله : كل مولود يولد على الفطرة ، وقوله تعالى : ) فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ). وقيل : ذانك في أصل الخلقة ، بدليل ما في حديث النطفة من قول الملك : أشقيّ أم سعيد ؟ والغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع يوم طبع كافراً . وما روى ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال : ( خلق الله فرعون في البطن كافراً ) . وحكى يحيى بن زكريا : في البطن مؤمناً . وعن عطاء بن أبي رباح : ) فَمِنكُمْ كَافِرٌ ( بالله ، ( مُؤْمِنٍ ( بالكواكب ؛ ومؤمن بالله وكافر بالكوكب . وقدّم الكافر لكثرته . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ ( ؟ وحين ذكر الصالحين قال : ) وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ). وقال الزمخشري : فمنكم آت بالكفر وفاعل له ، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له ، كقوله تعالى : ) وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( ، والدليل عليه قوله تعالى : ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( : أي عالم بكفركم وإيمانكم اللذين هما من قبلكم ، والمعنى : الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم ، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح ، وتكونوا بأجمعكم عباداً شاكرين . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وقال أيضاً : وقيل : ) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ ( بالخلق : هم الدهرية ، ( وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ( به . وعن الحسن : في الكلام حذف دل عليه تقديره : ومنكم فاسق ، وكأنه من كذب المعتزلة على الحسن . وتقدم الجار والمجرور في قوله : ) لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ( ، قال الزمخشري : ليدل بتقدمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل ، وذلك لأن الملك على الحقيقة له ، لأنه مبدىء كل شيء ومبدعه ، والقائم به المهيمن عليه ؛ وكذلك الحمد ، لأن أصول النعم وفروعها منه . وأما ملك غيره فتسليط منه ، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده .
التغابن : ( 3 ) خلق السماوات والأرض . . . . .
وقرأ الجمهور : ) صُوَرَكُمْ ( بضم الصاد ؛ وزيد بن عليّ وأبو رزين : بكسرها ، والقياس الضم ، وهذا تعديد للنعمة في حسن

" صفحة رقم 274 "
الخلقة ، لأن أعضاء بني آدم متصرّفة بجميع ما تتصرّف فيه أعضاء الحيوان ، وبزيادة كثيرة فضل بها . ثم هو مفضل بحسن الوجه وجمال الجوارح ، كما قال تعالى : ) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ). وقيل : النعمة هنا إنما هي صورة الإنسان من حيث هو إنسان مدرك عاقل ، فهذا هو الذي حسن له حتى لحقته كمالات كثيرة ، وتكاد العرب لا تعرف الصورة إلا الشكل ، لا المعنى القائم بالصورة .
التغابن : ( 4 ) يعلم ما في . . . . .
ونبه تعالى بعلمه بما في السموات والأرض ، ثم بعلمه بما يسر العباد وما يعلنونه ، ثم بعلمه بما أكنته الصدور على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء ، لا من الكليات ولا من الجزئيات ، فابتدأ بالعلم الشامل للعالم كله ، ثم بخاص العباد من سرّهم وإعلانهم ، ثم ما خص منه ، وهو ما تنطوي عليه صدورهم من خفي الأشياء وكامنها ، وهذا كله في معنى الوعيد ، إذ هو تعالى المجازي على جميع ذلك بالثواب والعقاب . وقرأ الجمهور : ) مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( بتاء الخطاب ؛ وعبيد عن أبي عمرو ، وأبان عن عاصم : بالياء .
التغابن : ( 5 ) ألم يأتكم نبأ . . . . .
( أَلَمْ يَأْتِكُمْ ( : الخطاب لقريش ، ذكروا بما حل بالكفار قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وغيرهم ممن صرح بذكرهم في سورة براءة وغيرها ، وقد سمعت قريش أخبارهم ، ( فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ ( : أي مكروههم وما يسوؤهم منه .
التغابن : ( 6 ) ذلك بأنه كانت . . . . .
( ذالِكَ ( : أي الوبال ، ( بِأَنَّهُ ( : أي بأن الشأن والحديث استبعدوا أن يبعث الله تعالى من البشر رسولاً ، كما استبعدت قريش ، فقالوا على سبيل الاستغراب : ) أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ( ، وذلك أنهم يقولون : نحن متساوون في البشرية ، فأنى يكون لهؤلاء تمييز علينا بحيث يصيرون هداة لنا ؟ وارتفع ) أَبَشَرٌ ( عند الجوفي وابن عطية على الابتداء ، والخبر ) يَهْدُونَنَا ( ، والأحسن أن يكون مرفوعاً على الفاعلية ، لأن همزة الاستفهام تطلب الفعل ، فالمسألة من باب الاشتغال . ) فَكَفَرُواْ ( : العطف بالفاء يدل على تعقب كفرهم مجيء الرسل بالبينات ، أي لم ينظروا في تلك البينات ولا تأمّلوها ، بل عقبوا مجيئها بالكفر ، ( وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ( : استفعل بمعنى الفعل المجرد ، وغناه تعالى أزلي ، فالمعنى : أنه ظهر تعالى غناه عنهم إذ أهلكهم ، وليست استفعل هنا للطلب . وقال الزمخشري : معناه : وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .
التغابن : ( 7 ) زعم الذين كفروا . . . . .
والزعم : تقدم تفسيره ، والذين كفروا : أهل مكة ، وبلى : إثبات لما بعد حرف النفي ، ( وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( : أي لا يصرفه عنه صارف .
التغابن : ( 8 ) فآمنوا بالله ورسوله . . . . .
( فآمنوا بالله ورسوله ( : وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ( وَالنّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا ( : هو القرآن ،
التغابن : ( 9 ) يوم يجمعكم ليوم . . . . .
وانتصب ) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ( بقوله : ) لَتُنَبَّؤُنَّ ( ، أو بخبير ، بما فيه من معنى الوعيد والجزاء ، أو باذكر مضمرة ، قاله الزمخشري ؛ والأول عن النحاس ، والثاني عن الحوفي . وقرأ الجمهور : يجمعكم بالياء وضم العين ؛ وروي عنه سكونها وإشمامها الضم ؛ وسلام ويعقوب وزيد بن علي والشعبي : بالنون . ) لِيَوْمِ الْجَمْعِ ( : يجمع فيه الأولون والآخرون ، وذلك أن كل واحد يبعث طامعاً في الخلاص ورفع المنزلة . ) ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ( : مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً ، لأن السعداء نزلوا منازل الأشقياء لو كانوا سعداء ، ونزل الأشقياء منازل السعداء لو كانوا أشقياء ، وفي الحديث : ( ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً ، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة ) ، وذلك معنى يوم التغابن . وعن مجاهد وغيره : إذا وقع الجزاء ، غبن المؤمنون الكافرين لأنهم يجوزون الجنة وتحصل الكفار في النار . وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم وزيد بن عليّ والحسن بخلاف عنه : نكفر وندخله بالنون فيهما ؛ والأعمش وعيسى والحسن وباقي السبعة : بالياء فيهما .
قوله عز وجل : ) مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُؤْمِنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاِنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).
التغابن : ( 11 ) ما أصاب من . . . . .
الظاهر إطلاق المصيبة

" صفحة رقم 275 "
على الرزية وما يسوء العبد ، أي في نفس أو مال أو ولد أو قول أو فعل ، وخصت بالذكر ، وإن كان جميع الحوادث لا تصيب إلا بإذن الله . وقيل : ويحتمل أن يريد بالمصيبة الحادثة من خير وشر ، إذ الحكمة في كونها بأذن الله . وما نافية ، ومفعول أصاب محذوف ، أي ما أصاب أحداً ، والفاعل من مصيبة ، ومن زائدة ، ولم تلحق التاء أصاب ، وإن كان الفاعل مؤنثاً ، وهو فصيح ، والتأنيث لقوله تعالى : ) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا ( ، وقوله : ) وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( ، أي بإرادته وعلمه وتمكينه . ) وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ ( : أي يصدق بوجوده ويعلم أن كل حادثة بقضائه وقدره ، ( يَهْدِ قَلْبَهُ ( على طريق الخير والهداية . وقرأ الجمهور : يهد بالياء ، مضارعاً لهدى ، مجزوماً على جواب الشرط . وقرأ ابن جبير وطلحة وابن هرمز والأزرق عن حمزة : بالنون ؛ والسلمي والضحاك وأبو جعفر : يهد مبنياً للمفعول ، قلبه : رفع ؛ وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن دينار : يهدأ بهمزة ساكنة ، قلبه بالرفع : يطمئن قلبه ويسكن بإيمانه ولا يكون فيه اضطراب . وعمرو بن فايد : يهدا بألف بدلاً من الهمزة الساكنة ؛ وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً : يهد بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة الساكنة وإبدال الهمزة ألفاً في مثل يهدأ ويقرأ ، ليس بقياس خلافاً لمن أجاز ذلك قياساً ، وبنى عليه جواز حذف تلك الألف للجازم ، وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى : جزى متى يظلم يعاقب بظلمه
سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم
أصله : يبدأ ، ثم أبدل من الهمزة ألفاً ، ثم حذفها للجازم تشبيهاً بألف يخشى إذا دخل الجازم .
ولما قال تعالى : ) مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( ،
التغابن : ( 12 ) وأطيعوا الله وأطيعوا . . . . .
ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسوله ،
التغابن : ( 14 ) يا أيها الذين . . . . .
وحذر مما يلحق الرجل من امرأته وولده بسبب ما يصدر من بعضهم من العداوة ، ولا أعدى على الرجل من زوجته وولده إذا كانا عدوين ، وذلك في الدنيا والآخرة . أما في الدنيا فبإذهاب ماله وعرضه ، وأما في الآخرة فبما يسعى في اكتسابه من الحرام لهما ، وبما يكسبانه منه بسبب جاهه . وكم من امرأة قتلت زوجها وجذمت وأفسدت عقله ، وكم من ولد قتل أباه . وفي التواريخ وفيما شاهدناه من ذلك كثير .
وعن عطاء بن أبي رباح : أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فاجتمع أهله وولده ، فثبطوه وشكوا إليه فراقة ، فرق ولم يغز ؛ إنه ندم بمعاقبتهم ، فنزلت : ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الآية .
وقيل : آمن قوم بالله ، وثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة ، ولم يهاجروا إلا بعد مدة ، فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين ، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم ، فنزلت . وقيل : قالوا لهم : أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم ؟ فغضبوا عليهم وقالوا : لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير . فلما هاجروا ، منعوهم الخير ، فحبوا أن يعفوا عنهم ويردوا إليهم البر والصلة . ومن في ) مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ ( للتبعيض ، وقد توجد زوجة تسر زوجها وتعينه على مقاصده في دينه ودنياه ، وكذلك الولد . وقال الشعب العبسي يمدح ولده رباطاً : إذا كان أولاد الرجال حزازة
فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
لنا جانب منه دميث وجانب
إذا رامه الأعداء مركبه صعب
وتأخذه عند المكارم هزة
كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب
وقال فرعان بن الأعرف في ابنه منازل ، وكان عاقاً له ، قصيدة فيها بعض طول منها : وربيته حتى إذا ما تركته
أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

" صفحة رقم 276 "
فلما رآني أحسب الشخص أشخصاً بعيداً وذا الشخص البعيد أقاربه تعمد حقي ظالماً ولوى يدي
لوى يده الله الذي هو غالبه
التغابن : ( 15 ) إنما أموالكم وأولادكم . . . . .
( إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ( : أي بلاء ومحنة ، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ، ولا بلاء أعظم منهما . وفي باب العداوة جاء بمن التي تقتضي التبعيض ، وفي الفتنة حكم بها على الأموال والأولاد على بعضها ، وذلك لغلبة الفتنة بهما ، وكفى بالمال فتنة قصة ثعلبة بن حاطب ، أحد من نزل فيه ، ومنهم من عاهد الله : ) لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ ( الآيات . وقد شاهدنا من ذكر أنه يشغله الكسب والتجارة في أمواله حتى يصلي كثيراً من الصلوات الخمس فائتة . وقد شاهدنا من كان موصوفاً عند الناس بالديانة والورع ، فحين لاح له منصب وتولاه ، استناب من يلوذ به من أولاده وأقاربه ، وإن كان بعض من استنابه صغير السن قليل العلم سيىء الطريقة ، ونعوذ بالله من الفتن . وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة ، ( كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( ، شغلتنا أموالنا وأهلونا . ) وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( : تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة . والأجر العظيم : الجنة .
التغابن : ( 16 ) فاتقوا الله ما . . . . .
( فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( ، قال أبو العالية : جهدكم . وقال مجاهد : هو أن يطاع فلا يعصى ، ( وَاسْمَعُواْ ( ما توعظون به ، ( وَأَطِيعُواْ ( فيما أمرتم به ونهيتم عنه ، ( وَأَنْفِقُواْ ( فيما وجب عليكم . و ) خَيْرًا ( منصوب بفعل محذوف تقديره : وأتوا خيراً ، أو على إضمار يكن فيكون خبراً ، أو على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي إنفاقاً خيراً ، أو على أنه حال ، أو على أنه مفعول بوأنفقوا خيراً ، أي مالاً ، أقوال ، الأول عن سيبويه .
التغابن : ( 17 ) إن تقرضوا الله . . . . .
ولما أمر بالإنفاق ، أكده بقوله : ) إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ( ، ورتب عليه تضعيف القرض وغفران الذنوب . وفي لفظ القرض تلطف في الاستدعاء ، وفي لفظ المضاعفة تأكيد للبذل لوجه الله تعالى . ثم اتبع جوابى الشرط بوصفين : أحدهما عائد إلى المضاعفة ، إذ شكره تعالى مقابل للمضاعفة ، وحلمه مقابل للغفران . قيل : وهذا الحض هو في الزكاة المفروضة ، وقيل ، هو في المندوب إليه . وتقدم الخلاف في القراءة في ) يُوقَ ( وفي ) شُحَّ ( وفي ) يُضَاعِفْهُ ).

" صفحة رقم 277 "
65
( سورة الطلاق )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ياأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْراً وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الاٌّ حْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَأاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ ءَاتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الأَلْبَابِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الاٌّ رْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاٌّ مْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا ( ) ) 2
) الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن ).
الطلاق : ( 1 ) يا أيها النبي . . . . .
هذه السورة مدنية . قيل : وسبب نزولها طلاق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حفصة ، قاله قتادة عن أنس . وقال السدي : طلاق عبد الله بن عمرو . وقيل : فعل ناس مثل فعله ، منهم عبد الله بن عمرو بن العاصي ، وعمرو بن سعيد بن العاص ، وعتبة بن غزوان ، فنزلت . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : وهذا وإن لم يصح ، فالقول الأول أمثل ، والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ .
ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر الفتنة بالمال والولد ، أشار إلى الفتنة بالنساء ، وإنهن قد يعرضن الرجال للفتنة حتى لا يجد مخلصاً منها إلا بالطلاق ، فذكر أنه ينفصل منهن بالوجه الجميل ، بأن لا يكون بينهن اتصال ، لا بطلب ولد ولا حمل .
( مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِىّ ( : نداء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وخطاب على سبيل التكريم والتنبيه ، ( إِذَا طَلَّقْتُمُ ( : خطاب له عليه الصلاة والسلام مخاطبة الجمع على سبيل التعظيم ، أو لأمته على سبيل تلوين الخطاب ، أقبل عليه السلام أولاً ، ثم رجع إليهم بالخطاب ، أو على إضمار القول ، أي قل لأمتك إذا طلقتم ، أو له ولأمته ، وكأنه ثم محذوف تقديره : يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم ، فالخطاب له ولهم ، أي أنت وأمتك ، أقوال . وقال الزمخشري : خص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعمّ بالخطاب ، لأن النبي إمام إمته وقدوتهم . كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه ، وأنه مدره قومه ولسانهم ، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه ، فكان هو وحده في حكم كلهم ، وساداً مسد جميعهم . انتهى ، وهو كلام حسن .
ومعنى ) إِذَا طَلَّقْتُمُ ( : أي إذا أردتم تطليقهن ، والنساء يعني : المدخول بهن ، وطلقوهن : أي أوقعوا الطلاق ، ( لِعِدَّتِهِنَّ ( : هو على حذف مضاف ، أي لاستقبال عدّتهن ، واللام للتوقيت ، نحو : كتبته لليلة بقيت من شهر كذا ، وتقدير الزمخشري هنا حالاً محذوفة يدل عليها المعنى يتعلق بها المجرور ، أي مستقبلات لعدتهن ، ليس بجيد ، لأنه قدر عاملاً خاصاً،ولا يحذف العامل في الظرف والجار والمجرور إذا كان=

24. مجلد 24.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 278 "
خاصاً ، بل إذا كان كوناً مطلقاً . لو قلت : زيد عندك أو في الدار ، تريد : ضاحكا عندك أو ضاحكا في الدار ، لم يجز . فتعليق اللام بقوله : ) فَطَلّقُوهُنَّ ( ، ويجعل على حذف مضاف هو الصحيح .
وما روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ، رضي الله تعالى عنهم ، من أنهم قرؤا : فطلقوهن في قبل عدتهن ؛ وعن بعضهم : في قبل عدّتهن ؛ وعن عبد الله : لقبل طهرهن ، هو على سبيل التفسير ، لا على أنه قرآن ، لخلافه سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون شرقاً وغرباً ، وهل تعتبر العدة بالنسبة إلى الأطهار أو الحيض ؟ تقدم ذلك في البقرة في قوله : ) ثَلَاثَةَ قُرُوء ). والمراد : أن يطلقهن في طهر لم يجامعهن فيه ، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن ، فإن شاء ردها ، وإن شاء أعرض عنها لتكون مهيأة للزوج ؛ وهذا الطلاق أدخل في السنة . وقال مالك : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة ، وكره الثلاث مجموعة أو مفرقة . وأبو حنيفة كره ما زاد على الواحدة في طهر واحد ، فأما مفرقاً في الأطهار فلا . وقال الشافعي : لا بأس بإرسال الطلاق الثلاث ، ولا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح ، راعى في السنة الوقت فقط ، وأبو حنيفة التفريق والوقت .
وقوله : ) فَطَلّقُوهُنَّ ( مطلق ، لا تعرض فيه لعدد ولا لوصف من تفريق أو جمع ؛ والجمهور : على أنه لو طلق لغير السنة وقع . وعن ابن المسيب وجماعة من التابعين : أنه لو طلق في حيض أو ثلاث ، لم يقع . والظاهر أن الخطاب في ) وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ ( للأزواج : أي اضبطوا بالحفظ ، وفي الإحصاء فوائد مراعاة الرجعة وزمان النفقة والسكنى وتوزيع الطلاق على الأقراء . وإذا أراد أن يطلق ثلاثاً ، والعلم بأنها قد بانت ، فيتزوج بأختها وبأربع سواها .
ونهى تعالى عن إخراجهنّ من مساكنهنّ حتى تنقضي العدّة ، ونهاهنّ أيضاً عن خروجهنّ ، وأضاف البيوت إليهنّ لما كان سكناهنّ فيها ، ونهيهنّ عن الخروج لا يبيحه إذن الأزواج ، إذ لا أثر لإذنهم . والإسكان على الزوج ، فإن كان ملكه أو بكراء فذاك ، أو ملكها فلها عليه أجرته ، وسواء في ذلك الرجعية والمبتوبة ، وسنة ذلك أن لا تبيت عن بيتها ولا تخرج عنه نهاراً إلا لضرورة ، وذلك لحفظ النسب والاحتفاظ بالنساء . ) إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مَّبْنِيَّةٌ ( : وهي الزنا ، عند قتادة ومجاهد والحسن والشعبي وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث ، ورواه مجاهد عن ابن عباس ، فيخرجن للحد . وعن ابن عباس : البذاء على الاحماء ، فتخرج ويسقط حقها في السكنى ، وتلزم الإقامة في مسكن تتخذه حفظاً للنسب . وعنده أيضاً : جميع المعاصي ، من سرقة ، أو قذف ، أو زنا ، أو غير ذلك ، واختاره الطبري ، فيسقط حقها في السكنى . وعند ابن عمر والسدي وابن السائب : هي خروجها من بيتها خروج انتقال ، فيسقط حقها في السكنى . وعند قتادة أيضاً : نشوزها عن الزوج ، فتطلق بسبب ذلك ، فلا يكون عليه سكنى ؛ وإذا سقط حقها من السكنى أتمت العدّة . ) لا تَدْرِى ( أيها السامع ، ( لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ( ، قال المفسرون : الأمر هنا الرغبة في ارتجاعها ، والميل إليها بعد انحرافه عنها ؛ أو ظهور حمل فيراجعها من أجله . ونصب لا تدري على جملة الترجى ، فلا تدري معلقة عن العمل ، وقد تقدم لنا الكلام على قوله : ) وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ ( ، وذكرنا أنه ينبغي أن يزاد في المعلقات لعل ، فالجملة المترجاة في موضع نصب بلا تدري .
الطلاق : ( 2 - 3 ) فإذا بلغن أجلهن . . . . .
( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ( : أي أشرفن على انقضاء العدّة ، ( فَأَمْسِكُوهُنَّ ( : أي راجعوهنّ ، ( بِمَعْرُوفٍ ( : أي بغير ضرار ، ( أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( : أي سرحوهنّ بإحسان ، والمعنى : اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهنّ ، فيملكن أنفسهنّ . وقرأ الجمهور : ) أَجَلُهُنَّ ( على الإفراد ؛ والضحاك وابن سيرين : آجالهنّ على الجمع . والإمساك بمعروف : هو حسن العشرة فيما للزوجة على الزوج ، والمفارقة بمعروف : هو أداء المهر والتمتيع والحقوق الواجبة والوفاء بالشرط . ) وَأَشْهِدُواْ ( : الظاهر وجوب الإشهاد على ما يقع من الإمساك وهو الرجعة ، أو المفارقة وهي الطلاق . وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة ، كقوله : ) وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ( ؛ وعند الشافعية واجب في الرجعة ، مندوب إليه في الفرقة . وقيل : ) وَأَشْهِدُواْ ( : يريد على الرجعة فقط ، والإشهاد شرط في صحتها ، فلها منفعة من نفسها حتى يشهد . وقال ابن عباس : الإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق يرفع عن النوازل أشكالاً كثيرة ، ويفسد تاريج الإشهاد من الإشهاد . قيل : وفائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد ، وأن لا

" صفحة رقم 279 "
يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الثاني ثبوت الزوجية ليرث . انتهى . ومعنى منكم ، قال الحسن : من المسلمين . وقال قتادة : من الأحرار . ) وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ( : هذا أمر للشهود ، أي لوجه الله خالصاً ، لا لمراعاة مشهود له ، ولا مشهود عليه لا يلحظ سوى إقامة الحق . ) ذالِكُمْ ( : إشارة إلى إقامة الشهادة ، إذ نوازل الأشياء تدور عليها ، وما يتميز المبطل من المحق .
( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( ، قال علي بن أبي طالب وجماعة : هي في معنى الطلاق ، أي ومن لا يتعدى طلاق السنة إلى طلاق الثلاث وغير ذلك ، ( يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجاً ( إن ندم بالرجعة ، ( وَيَرْزُقْهُ ( ما يطعم أهله . انتهى . ومفهوم الشرط أنه إن لم يتق الله ، فبت الطلاق وندم ، لم يكن له مخرج ، وزال عنه رزق زوجته . وقال ابن عباس : للمطلق ثلاثاً : إنك لم تتق الله ، بانت منك امرأتك ، ولا أرى لك مخرجاً . وقال : ) يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ( : يخلصه من كذب الدنيا والآخرة . والظاهر أن قوله : ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( متعلق بأمر ما سبق من أحكام الطلاق . وروي أنها في غير هذا المعنى ، وهو أن أسر ابن يسمى سالماً لخوف بن مالك الأشجعي ، فشكا ذلك للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأمره بالتقوى فقبل ، ثم لم يلبث أن تفلت ولده واستاق مائة من الإبل ، كذا في الكشاف . وفي الوجيز : قطيعاً من الغنم كانت للذين أسروه ، وجاء أباه فسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : أيطيب له ؟ فقال : ( نعم ) ، فنزلت الآية . وقال الضحاك : من حيث لا يحتسب امرأة أخرى . وقيل : ومن يتق الحرام يجعل له مخرجاً إلى الحلال . وقيل : مخرجاً من الشدة إلى الرخاء . وقيل : من النار إلى الجنة . وقيل : من العقوبة ، ويرزقه من حيث لا يحتسب من الثواب . وقال الكلبي : ومن يتق الله عند المصيبة يجعل له مخرجاً إلى الجنة .
( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ( : أي يفوض أمره إليه ، ( فَهُوَ حَسْبُهُ ( : أي كافيه . ) إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ( ، قال مسروق : أي لا بد من نفوذ أمر الله ، توكلت أم لم تتوكل . وقرأ الجمهور : بالغ بالتنوين ، أمره بالنصب ؛ وحفص والمفضل وأبان وجبلة وابن أبي عبلة وجماعة عن أبي عمرو ويعقوب وابن مصرف وزيد بن علي : بالإضافة ؛ وابن أبي عبلة أيضاً وداود بن أبي هند وعصمة عن أبي عمرو : بالغ أمره ، رفع : أي نافذ أمره . والمفضل أيضاً : بالغاً بالنصب ، أمره بالرفع ، فخرجه الزمخشري على أن بالغاً حال ، وخبر إن هو قوله تعالى : ) قَدْ جَعَلَ اللَّهُ ( ، ويجوز أن تخرج هذه القراءة على قول من ينصب بأن الجزأين ، كقوله : إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن
خطاك خفافاً أن حراسنا أسدا
ومن رفع أمره ، فمفعول بالغ محذوف تقديره : بالغ أمره ما شاء . ) قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً ( : أي تقديراً وميقاتاً لا يتعداه ، وهذه الجمل تحض على التوكل . وقرأ جناح بن حبيش : قدراً بفتح الدال ، والجمهور بإسكانها .
قوله عز وجل : ) وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِى لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ ( سقط : فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن وأتمروا بينك ) َ ).

" صفحة رقم 280 "
( سقط : بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ، لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا )
الطلاق : ( 4 ) واللائي يئسن من . . . . .
وروي أن قوماً ، منهم أبيّ بن كعب وخلاد بن النعمان ، لما سمعوا قوله : ) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوء ( ، قالوا : يا رسول الله ، فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر ؟ فنزلت هذه الآية ، فقال قائل : فما عدة الحامل ؟ فنزلت ) أُوْلَاتِ الاْحْمَالِ ). وقرأ الجمهور : ) يَئِسْنَ ( فعلاً ماضياً . وقرىء : بياءين مضارعاً ، ومعنى ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( في أنها يئست أم لا ، لأجل مكان ظهور الحمل ، وإن كان انقطع دمها . وقيل : إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس ، أهو دم حيض أو استحاضة ؟ وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها ، فغير المرتاب بها أولى بذلك . وقدر بعضهم مبلغ اليأس بستين سنة ، وبعضهم بخمس وخمسين . وقيل : غالب سن يأس عشيرة المرأة . وقيل : أقصى عادة امرأة في العالم . وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم ، لا ندري أهو دم حيض أو دم علة . وقيل : ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( : شككتم في حالهن وحكمهن فلم تدروا ما حكمهن ، فالحكم أن عدتهن ثلاثة أشهر . واختار الطبري أن معنى ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( : شككتم فلم تدروا ما الحكم ، فقيل : ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( : أي إن تيقنتم إياسهن ، وهو من الأضداد . وقال الزجاج : المعنى إن ارتبتم في حيضها ، وقد انقطع عنها الدم ، وكانت مما يحيض مثلها . وقال مجاهد أيضاً : ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( هو للمخاطبين ، أي إن لم تعلموا عدة الآيسة ، ( وَاللاَّئِى لَمْ يَحِضْنَ ( ، فالعدة هذه ، فتلخص في قوله : ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( قولان : أحدهما ، أنه على ظاهر مفهوم اللغة فيه ، وهو حصول الشك ؛ والآخر ، أن معناه التيقن للإياس ؛ والقول الأول معناه : إن ارتبتم في دمها ، أهو دم حيض أو دم علة ؟ أو إن ارتبتم في علوق بحمل أم لا ؛ أو إن ارتبتم : أي جهلتم عدتهن ، أقوال . والظاهر أن قوله : ) وَاللاَّئِى لَمْ يَحِضْنَ ( يشمل من لم يحض لصغر ، ومن لا يكون لها حيض البتة ، وهو موجود في النساء ، وهو أنها تعيش إلى أن تموت ولا تحيض . ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به ولم تحض فقيل : هذه تعتد سنة . ) وَاللاَّئِى لَمْ يَحِضْنَ ( معطوف على ) وَاللاَّئِى يَئِسْنَ ( ، فإعرابه مبتدأ كإعراب ) وَاللاَّئِى يَئِسْنَ ( ، وقدروا خبره جملة من جنس خبر الأول ، أي عدتهن ثلاثة أشهر ، والأولى أن يقدر مثل أولئك أو كذلك ، فيكون المقدر مفرداً جملة . ) وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ ( عام في المطلقة وفي المتوفي عنها زوجها ، وهو قول عمر وابن مسعود وأبي مسعود البدري وأبي هريرة وفقهاء الأمصار . وقال علي وابن عباس : ) وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ ( في المطلقات ، وأما المتوفي عنها فعدتها أقصى الأجلين ، فلو وضعت قبل أربعة أشهر وعشر صبرت إلى آخرها ، والحجة عليها حديث سبيعة . وقال ابن مسعود : من شاء لاعنته ، ما نزلت ) وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ ( إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها . وقرأ الجمهور : ) حَمْلَهُنَّ ( مفرداً ؛ والضحاك : أحمالهن جمعاً .
الطلاق : ( 5 ) ذلك أمر الله . . . . .
( ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ ( : يريد ما علم من حكم المعتدات . وقرأ الجمهور : ) وَيُعْظِمْ ( بالياء مضارع أعظم ؛ والأعمش : نعظم بالنون ، خروجاً من الغيبة للتكلم ؛ وابن مقسم : بالياء والتشديد مضارع عظم مشدداً .
ولما كان الكلام في أمر المطلقات وأحكامهن من العدد وغيرها ، وكن لا يطلقهن أزواجهن إلا عن بغض لهن وكراهة ، جاء عقيب بعض الجمل الأمر بالتقوى من حيث المعنى ، مبرزاً في صورة شرط وجزاء في قوله : ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( ، إذ الزوج المطلق قد ينسب إلى مطلقته بعض ما يشينها به وينفر الخطاب عنها ، ويوهم أنه إنما فارقها لأمر ظهر له منها ، فلذلك تكرر قوله : ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( في العمل بما أنزله من هذه الأحكام ، وحافظ على الحقوق الواجبة عليه من ترك الضرار والنفقة على المعتدات وغير ذلك مما يلزمه ، يرتب له تكفير السيئات وإعظام الأجر .
الطلاق : ( 6 ) أسكنوهن من حيث . . . . .
ومن في ) مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم ( للتبعيض : أي بعض مكان سكناكم . وقال قتادة : إن لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه ، قاله الزمخشري . وقال الحوفي : من لابتداء الغاية ، وكذا قال أبو البقاء . و ) مّن وُجْدِكُمْ ). قال الزمخشري : فإن قلت : فقوله : ) مّن وُجْدِكُمْ ). قلت : هو عطف بيان ، كقوله : ) مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم (

" صفحة رقم 281 "
وتفسير له ، كأنه قيل : أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه ، والوجد : الوسع والطاقة . انتهى . ولا نعرف عطف بيان يعاد فيه العامل ، إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً من قوله : ) مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم ).
وقرأ الجمهور : ) مّن وُجْدِكُمْ ( بضم الواو ؛ والحسن والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة : بفتحها ؛ والفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب : بكسرها ، وذكرها المهدوي عن الأعرج ، وهي لغات ثلاثة بمعنى : الوسع . والوجد بالفتح ، يستعمل في الحزن والغضب والحب ، ويقال : وجدت في المال ، ووجدت على الرجل وجداً وموجدة ، ووجدت الضالة وجداناً والوجد بالضم : الغنى والقدرة ، يقال : افتقر الرجل بعد وجد . وأمر تعالى بإسكان المطلقات ، ولا خلاف في ذلك في التي لم تبت . وأما المبتوتة ، فقال ابن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء والشعبي والحسن ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وأبو عبيد : لها السكنى ، ولا نفقة لها . وقال الثوري وأبو حنيفة : لها السكنى والنفقة . وقال الحسن وحماد وأحمد وإسحاق وأبو ثور : لا سكنى لها ولا نفقة . ) وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ ( : ولا تستعملوا معهن الضرار ، ( لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ ( في المسكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن ، أو يشغل مكانهن ، أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج . وقيل : هذه المضارة مراجعتها إذا بقي من عدتها قليل ، ثم يطلقها فيطول حبسها في عدته الثانية . وقيل : إلجاؤها إلى أن تفتدي منه .
( وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ ( : لا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها ، بتت أو لم تبت . فإن كانت متوفى عنها ، فأكثر العلماء على أنها لا نفقة لها ؛ وعن علي وابن مسعود : تجب نفقتها في التركة . ) فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ( : أي ولدن وأرضعن المولود وجب لها النفقة ، وهي الأجر والكسوة وسائر المؤن على ما قرر في كتب الفقه ، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد بينهن ما لم يبن ، ويجوز عند الشافعي . وفي تعميم المطلقات بالسكنى ، وتخصيص أولات الأحمال بالنفقة دليل على أن غيرها من المطلقات لا يشاركها في النفقة ، وتشاركهن في السكنى . ) وائتمروا ( : افتعلوا من الأمر ، يقال : ائتمر القوم وتأمروا ، إذا أمر بعضهم بعضاً ؛ والخطاب للآباء والأمهات ، أي وليأمر بعضكم بعضاً ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ( : أي في الأجرة والإرضاع ، والمعروف : الجميل بأن تسامح الأم ، ولا يماكس الأب لأنه ولدهما معاً ، وهما شريكان فيه ، وفي وجوب الإشفاق عليه . وقال الكسائي : ) وائتمروا ( : تشاوروا ، ومنه قوله تعالى : ) يامُوسَى إِنَّ الْمَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ( ، وقول امرىء القيس :
ويعدو على المرء ما يأتمر
وقيل : المعروف : الكسوة والدثار . ) وَإِن تَعَاسَرْتُمْ ( : أي تضايقتم وتشاكستم ، فلم ترض إلا بما ترضى به الأجنبية ، وأبي الزوج الزيادة ، أو إن أبى الزوج الإرضاع إلا مجاناً ، وأبت هي إلا بعوض ، ( فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( : أي يستأجر غيرها ، وليس له إكراهها . فإن لم يقبل إلا ثدي أمه ، أجبرت على الإرضاع بأجرة مثلها ، ولا يختص هذا الحكم من وجوب أجرة الرضاع بالمطلقة ، بل المنكوحة في معناها . وقيل : فسترضع خبر في معنى الأمر ، أي فلترضع له أخرى . وفي قوله : ) فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( يسير معاتبة للأم إذا تعاسرت ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى : سيقضيها غيرك ، تريد : لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم . والضمير في له عائد على الأب ، كما تعدى في قوله : ) فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ( : أي للأزواج .
الطلاق : ( 7 ) لينفق ذو سعة . . . . .
( لِيُنفِقْ ( الموسر والمقدور عليه ما بلغه وسعه ، أي على المطلقات والمرضعات ، ولا يكلف ما لا يطيقه . والظاهر أن المأمور بالإنفاق الأزواج ، وهذا أصل في وجوب نفقة الولد على الوالد دون الأم . وقال محمد بن المواز : إنها على الأبوين على قدر الميراث . وفي الحديث : ( يقول لك ابنك انفق عليّ إلى من تكلني ) ، ذكره في صحيح البخاري . وقرأ الجمهور : ) لِيُنفِقْ ( بلام الأمر ، وحكى أبو معاذ : لينفق بلام كي ونصب القاف ، ويتعلق بمحذوف تقديره : شرعنا ذلك لينفق . وقرأ

" صفحة رقم 282 "
الجمهور : ) قُدِرَ ( مخففاً ؛ وابن أبي عبلة : مشدد الدال ، سيجعل الله وعد لمن قدر عليه رزقه ، يفتح له أبواب الرزق . ولا يختص هذا الوعد بفقراء ذلك الوقت ، ولا بفقراء الأزواج مطلقاً ، بل من أنفق ما قدر عليه ولم يقصر ، ولو عجز عن نفقة امرأته . فقال أبو هريرة والحسن وابن المسيب ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق : يفرق بينهما . وقال عمر بن عبد العزيز وجماعة : لا يفرق بينهما .
قوله عز وجل : ) وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى أُوْلِى الالْبَابِ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايَاتِ اللَّهِ مُبَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ ).
الطلاق : ( 8 - 10 ) وكأين من قرية . . . . .
تقدم الكلام على كأين في آل عمران ، وعلى نكراً في الكهف . ) عَتَتْ ( : أعرضت ، ( عَنْ أَمْرِ رَبّهَا ( ، على سبيل العناد والتكبر . والظاهر في ) فَحَاسَبْنَاهَا ( الجمل الأربعة ، إن ذلك في الدنيا لقوله بعدها : ) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً ( ، وظاهره أن المعد عذاب الآخرة ، والحساب الشديد هو الاستقصاء والمناقشة ، فلم تغتفر لهم زلة ، بل أخذوا بالدقائق من الذنوب . وقيل : الجمل الأربعة من الحساب والعذاب والذوق والخسر في الآخرة ، وجيء به على لفظ الماضي ، كقوله : ) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ( ، ويكون قوله : ) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ( تكريراً للوعيد وبياناً لكونه مترقباً ، كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب . وقال الكلبي : الحساب في الآخرة ، والعذاب النكير في الدنيا بالجوع والقحط والسيف .
الطلاق : ( 11 ) رسولا يتلو عليكم . . . . .
ولما ذكر ما حل بهذه القرية العاتية ، أمر المؤمنين بتقوى الله تحذيراً من عقابه ، ونبه على ما يحض على التقوى ، وهو إنزال الذكر . والظاهر أن الذكر هو القرآن ، وأن الرسول هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فإما أن يجعل نفس الذكر مجازاً لكثرة يقدر منه الذكر ، فكأنه هو الذكر ، أو يكون بدلاً على حذف مضاف ، أي ذكر رسول . وقيل : ) رَسُولاً ( نعت على حذف مضاف ، أي ذكراً ، ذا رسول . وقيل : المضاف محذوف من الأول ، أي ذا ذكر رسولاً ، فيكون رسولاً نعتاً لذلك المحذوف أو بدلاً . وقيل : رسول بمعنى رسالة ، فيكون بدلاً من ذكر ، أو يبعده قوله بعده ) يَتْلُو عَلَيْكُمْ ( ، والرسالة لا تسند التلاوة إليها إلا مجازاً . وقى ل : الذكر أساس أسماء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : الذكر : الشرف لقوله : ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( ، فيكون رسولاً بدلاً منه وبياناً له . وقال الكلبي : الرسول هنا جبريل عليه السلام ، وتبعه الزمخشري فقال : رسولاً هو جبريل صلوات الله وسلامه عليه ، أبدل من ذكراً لأنه وصف بتلاوة آيات الله ، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر ، فصح إبداله منه . انتهى . ولا يصح لتباين المدلولين بالحقيقة ، ولكونه لا يكون بدل بعض ولا بدل اشتمال ، وهذه الأعاريب على أن يكون ذكراً ورسولاً لشيء واحد . وقيل : رسولاً منصوب بفعل محذوف ، أي بعث رسولاً ، أو أرسل رسولاً ، وحذف لدلالة أنزل عليه ، ونحا إلى هذا السدي ، واختاره ابن عطية . وقال الزجاج وأبو علي الفارسي : يجوز أن يكون رسولاً معمولاً للمصدر الذي هو الذكر . انتهى . فيكون المصدر مقدراً بأن ، والقول

" صفحة رقم 283 "
تقديره : إن ذكر رسولاً وعمل منوناً كما عمل ، أو ) إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ( ، كما قال الشاعر : بضرب بالسيوف رءوس قوم
أزلنا هامهن عن المقيل
وقرىء : رسول بالرفع على إضمار هو ليخرج ، يصح أن يتعلق بيتلو وبأنزل . ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( : أي الذين قضى وقدر وأراد إيمانهم ، أو أطلق عليهم آمنوا باعتبار ما آل أمرهم إليه . وقال الزمخشري : ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح ، لأنهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين ، وإنما آمنوا بعد الإنزال والتبليغ . انتهى . والضمير في ) لّيُخْرِجَ ( عائد على الله تعالى ، أو على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو على الذكر . ) وَمَن يُؤْمِن ( : راعى اللفظ أولاً في من الشرطية ، فأفرد الضمير في ) يُؤْمِنُ ( ، ( وَيَعْمَلْ ( ، و ) يُدْخِلْهُ ( ، ثم راعى المعنى في ) خَالِدِينَ ( ، ثم راعى اللفظ في ) قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ ( فأفرد . واستدل النحويون بهذه الآية على مراعاة اللفظ أولاً ، ثم مراعاة المعنى ، ثم مراعاة اللفظ . وأورد بعضهم أن هذا ليس كما ذكروا ، لأن الضمير في ) خَالِدِينَ ( ليس عائداً على من ، بخلاف الضمير في ) يُؤْمِنُ ( ، ( وَيَعْمَلْ ( ، و ) يُدْخِلْهُ ( ، وإنما هو عائد على مفعول ) يُدْخِلْهُ ( ، و ) خَالِدِينَ ( حال منه ، والعامل فيها ) يُدْخِلْهُ ( لا فعل الشرط .
الطلاق : ( 12 ) الله الذي خلق . . . . .
( اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( : لا خلاف أن السموات سبع بنص القرآن والحديث ، كما جاء في حديث الإسراء ، ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لسعد : ( حكمت بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة ) ، وغيره من نصوص الشريعة . وقرأ الجمهور : ) مِثْلَهُنَّ ( بالنصب ؛ والمفضل عن عاصم ، وعصمة عن أبي بكر : مثلُهن بالرفع فالنصب ، قال الزمخشري : عطفاً على ) سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ). انتهى ، وفيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف ، وهو الواو ، والمعطوف ؛ وهو مختص بالضرورة عند أبي عليّ الفارسي ، وأضمر بعضهم العامل بعد الواو لدلالة ما قبله عليه ، أي وخلق من الأرض مثلهن ، فمثلهن مفعول للفعل المضمر لا معطوف ، وصار ذلك من عطف الجمل والرفع على الابتداء ، ( وَمِنَ الاْرْضِ ( الخبر ، والمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الأوصاف . فقال الجمهور : المثلية في العدد : أي مثلهن في كونها سبع أرضين . وفي الحديث : ( طوقه من سبع أرضين ) ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ) ، فقيل : سبع طباق من غير فتوق . وقيل : بين كل طبقة وطبقة مسافة . قيل : وفيها سكان من خلق الله . قيل : ملائكة وجن . وعن ابن عباس ، من رواية الواقدي الكذاب ، قال : في كل أرض آدم كآدم ، ونوح كنوح ، ونبي كنبيكم ، وإبراهيم كإبراهيمكم ، وعيسى كعيسى ، وهذا حديث لا شك في وضعه . وقال أبو صالح : إنها سبع أرضين منبسطة ، ليس بعضها فوق بعض ، تفرق بينها البحار ، وتظل جميعها السماء .
( يَتَنَزَّلُ الاْمْرُ بَيْنَهُنَّ ( : من السموات السبع إلى الأرضين السبع . وقال مقاتل وغيره : الأمر هنا الوحي ، فبينهن إشارة إلى بين هذه الأرض التي هي أدناها وبين السماء السابعة . وقال الأكثرون : الأمر : القضاء ، فبينهن إشارة إلى بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها . وقيل : ) يَتَنَزَّلُ الاْمْرُ بَيْنَهُنَّ ( بحياة وموت وغنى وفقر . وقى ل : هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبير . وقرأ الجمهور : ) يَتَنَزَّلُ ( مضارع تنزل . وقرأ عيسى وأبو عمر ، وفي رواية : ينزل مضارع نزل مشدّداً ، الأمر بالنصب ؛ والجمهور : ) لّتَعْلَمُواْ ( بتاء الخطاب . وقرىء : بياء الغيبة ، والله تعالى أعلم .

" صفحة رقم 284 "
66
( سورة التحريم )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَالِكَ ظَهِيرٌ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِىأَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ( ) ) 2
) عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ ).
التحريم : ( 1 ) يا أيها النبي . . . . .
هذه السورة مدنية ، وسبب نزولها ما يأتي ذكره في تفسير أوائلها ، والمناسبة بينها وبين السورة قبلها أنه لما ذكر جملة من أحكام زوجات المؤمنين ، ذكر هنا ما جرى من بعض زوجات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
( مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِىّ ( : نداء إقبال وتشريف وتنبيه بالصفة على عصمته مما يقع فيه من ليس بمعصوم ؛ ) لِمَ تُحَرّمُ ( : سؤال تلطف ، ولذلك قدم قبله ) مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِىّ ( ، كما جاء في قوله تعالى : ) عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ). ومعنى ) تُحَرّمُ ( : تمنع ، وليس التحريم المشروع بوحي من الله ، وإنما هو امتناع لتطييب خاطر بعض من يحسن معه العشرة . ) مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( : هو مباشرة مارية جاريته ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) ) ألمّ بها في بيت بعض نسائه ، فغارت من ذلك صاحبة البيت ، فطيب خاطرها بامتناعه منها ، واستكتمها ذلك ، فأفشته إلى بعض نسائه . وقيل : هو عسل كان يشربه عند بعض نسائه ، فكان ينتاب بيتها لذلك ، فغار بعضهن من دخوله بيت التي عندها العسل ، وتواصين على أن يذكرن له على أن رائحة ذلك العسل ليس بطيب ، فقال : ( لا أشربه ) . وللزمخشري هنا كلام أضربت عنه صفحاً ، كما ضربت عن كلامه في قوله : ) عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( ، وكلامه هذا ونحوه محقق قوي فيه ، ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقاً .
فلو حرم الإنسان على نفسه شيئاً أحله الله ، كشرب عسل ، أو وطء سرية ؛ واختلفوا إذا قال لزوجته : أنت عليّ حرام ، أو الحلال على حرام ، ولا يستثني زوجته ؛ فقال جماعة ، منهم الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ : هو

" صفحة رقم 285 "
كتحريم الماء والطعام . وقال تعالى : ) لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ( ، والزوجة من الطيبات ومما أحله الله . وقال أبو بكر وعمر وزيد وابن عباس وابن مسعود وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاووس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة والحسن والأوزاعي وأبو ثور وجماعة : هو يمين يكفرها . وقال ابن مسعود وابن عباس أيضاً في إحدى روايتيه ، والشافعي في أحد قوليه : فيه تكفير يمين وليس بيمين . وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون : هذا ما أراد من الطلاق ، فإن لم يرد طلاقها فهو لا شيء . وقال آخرون : كذلك ، فإن لم يرد فهو يمين . وفي التحرير ، قال أبو حنيفة وأصحابه : إن نوى الطلاق فواحدة بائنة ، أو اثنين فواحدة ، أو ثلاثاً فثلاث ، أو لم ينو شيئاً فيمين وهو مول ، أو الظهار فظهار . وقال ابن القاسم : لا تنفعه نية الظهار ويكون طلاقاً . وقال يحيى بن عمر : يكون ، فإن ارتجعها ، فلا يجوز له وطئها حتى يكفر كفارة الظهار فما زاد من أعداده ، فإن نوى واحدة فرجعية ، وهو قول الشافعي . وقال الأوزاعي وسفيان وأبو ثور : أي أي شيء نوى به من الطلاق وقع وإن لم ينو شيئاً ، فقال سفيان : لا شيء عليه . وقال الأوزاعي وأبو ثور : تقع واحدة . وقال الزهري : له نيته ولا يكون أقل من واحدة ، فإن لم ينو فلا شيء . وقال ابن جبير : عليه عتق رقبة وإن لم يكن ظهاراً . وقال أبو قلابة وعثمان وأحمد وإسحاق : التحريم ظهار ، ففيه كفارة . وقال الشافعي : إن نوى أنها محرمة كظهر أمه ، فظهار أو تحريم عينها بغير طلاق ، أو لم ينو فكفارة يمين . وقال مالك : هي ثلاث في المدخول بها ، وينوى في غير المدخول بها ، فهو ما أراد من واحدة أو اثنتين أو ثلاث . وقاله علي وزيد وأبو هريرة . وقيل : في المدخول بها ثلاث ، قاله عليّ أيضاً وزيد بن أسلم والحكم . وقال ابن أبي ليلى وعبد الملك بن الماجشون : هي ثلاث في الوجهين ، ولا ينوي في شيء . وروى ابن خويز منداد عن مالك ، وقاله زيد وحماد بن أبي سليمان : إنها واحدة بائنة في المدخول بها وغير المدخول بها . وقال الزهري وعبد العزيز بن الماجشون : هي واحدة رجعية . وقال أبو مصعب ومحمد بن الحكم : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي المدخول بها ثلاث . وفي الكشاف لا يراه الشافعي يميناً ، ولكن سبباً في الكفارة في النساء وحدهن ، وإن نوى الطلاق فهو رجعي . وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعي . وعن علي : ثلاث ؛ وعن زيد : واحدة ؛ وعن عثمان : ظهاراً . انتهى . وقال أيضاً : ولم يثبت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال لما أحله : ( هو حرام علي ) ، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدّمت منه ، وهو قوله : ( والله لا أقربها بعد اليوم ) ، فقيل له : ) لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( : أي لم تمتنع منه بسبب اليمين ؟ يعني أقدم على ما حلفت عليه وكفر ، ونحو قوله تعالى : ) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ ( : أي منعناه منها . انتهى . و ) تَبْتَغِى ( : في موضع الحال . وقال الزمخشري تفسير لتحرم ، أو استئناف ، ( مَرْضَاتَ ( : رضا أزواجك ، أي بالامتناع مما أحله الله لك .
التحريم : ( 2 ) قد فرض الله . . . . .
( قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ( : الظاهر أنه كان حلف على أنه يمتنع من وطء مارية ، أو من شرب ذلك العسل ، على الخلاف في السبب ، وفرض إحالة على آية العقود ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان . وتحلة : مصدر حلل ، كتكرمة من كرم ، وليس مصدراً مقيساً ، والمقيس : التحليل والتكريم ، لأن قياس فعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل ، وأصل هذا تحللة فأدغم . وعن مقاتل : أعتق رقبة في تحريم مارية . وعن الحسن : لم يكفر . انتهى . فدل على أنه لم يكن ثم يمين .
التحريم : ( 3 ) وإذ أسر النبي . . . . .
و ) بَعْضِ أَزْواجِهِ ( : حفصة ، والحديث هو بسبب مارية . ) فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ ( : أي أخبرت عائشة . وقيل : الحديث إنما هو : ( شربت عسلاً ) . وقال ميمون بن مهران : هو إسراره إلى حفصة أن أبا بكر وعمر يملكان إمرتي من بعدي خلافه . وقرأ الجمهور : ) فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ ( ؛ وطلحة : أنبأت ، والعامل في إذا : اذكر ، وذكر ذلك على سبيل التأنيب لمن أسرّ له فأفشاه . ونبأ وأنبأ ، الأصل أن يتعديا إلى واحد بأنفسهما ، وإلى ثان بحرف الجر ، ويجوز حذفه فتقول : نبأت به ، المفعول الأول محذوف ، أي غيرها . و ) مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا ( : أي بهذا ، ( قَالَ نَبَّأَنِىَ ( أي نبأني به أو نبأنيه ، فإذا ضمنت معنى أعلم ، تعدت إلى ثلاثة مفاعيل ، نحو قول الشاعر

" صفحة رقم 286 "
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها
تهدي إليّ غرائب الأشعار
) وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ( : أي أطلعه ، أي على إفشائه ، وكان قد تكوتم فيه ، وذلك بإخبار جبريل عليه السلام . وجاءت الكناية هنا عن التفشية والحذف للمفشى إليها بالسر ، حياطة وصوناً عن التصريح بالاسم ، إذ لا يتعلق بالتصريح بالاسم غرض . وقرأ الجمهور : ) عَرَّفَ ( بشد الرّاء ، والمعنى : أعلم به وأنب عليه . وقرأ السلمي والحسن وقتادة وطلحة والكسائي وأبو عمرو في رواية هارون عنه : بخف الراء ، أي جازى بالعتب واللوم ، كما تقول لمن يؤذيك : لأعرفن لك ذلك ، أي لأجازينك . وقيل : إنه طلق حفصة وأمر بمراجعتها . وقيل : عاتبها ولم يطلقها . وقرأ ابن المسيب وعكرمة : عراف بألف بعد الراء ، وهي إشباع . وقال ابن خالويه : ويقال إنها لغة يمانية ، ومثالها قوله : أعوذ بالله من العقراب
الشائلات عقد الأذناب
يريد : من العقرب . ) وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ( : أي تكرماً وحياء وحسن عشرة . قال الحسن : ما استقصى كريم قط . وقال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام ، ومفعول عرّف المشدد محذوف ، أي عرّفها بعضه ، أي أعلم ببعض الحديث . وقيل : المعرّف خلافة الشيخين ، والذي أعرض عنه حديث مارية . ولما أفشت حفصة الحديث لعائشة واكتتمتها إياه ، ونبأها الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) به ، ظنت أن عائشة فضحتها فقالت : ) مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا ( على سبيل التثبت ، فأخبرها أن الله هو الذي نبأه به ، فسكنت وسلمت .
التحريم : ( 4 ) إن تتوبا إلى . . . . .
( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ ( : انتقال من غيبة إلى خطاب ، ويسمى الالتفات والخطاب لحفصة وعائشة . ) فَقَدْ صَافَّاتٍ ( : مالت عن الصواب ، وفي حرف عبد الله : راغت ، وأتى بالجمع في قوله : ) قُلُوبُكُمَا ( ، وحسن ذلك إضافته إلى مثنى ، وهو ضميراهما ، والجمع في مثل هذا أكثر استعمالاً من المثنى ، والتثنية دون الجمع ، كما قال الشاعر : فتخالسا نفسيهما بنوافذ
كنوافذ العبط التي لا ترفع
وهذا كان القياس ، وذلك أن يعبر بالمثنى عن المثنى ، لكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع ، لأن التثنية جمع في المعنى ، والإفراد لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر ، كقوله :
حمامة بطن الواديين ترنمي
يريد : بطني . وغلط ابن مالك فقال في كتاب التسهيل : ونختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية . وقرأ الجمهور : تظاهرا بشد الظاء ، وأصله تتظاهرا ، وأدغمت التاء في الظاء ، وبالأصل قرأ عكرمة ، وبتخفيف الظاء قرأ أبو رجاء والحسن وطلحة وعاصم ونافع في رواية ، وبشد الظاء والهاء دون ألف قرأ أبو عمرو في رواية ، والمعنى : وأن تتعاونا عليه في إفشاء سره والإفراط في الغيرة ، ( فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ ( : أي مظاهره ومعينه ، والأحسن الوقف على قوله : ) مَوْلاهُ ). ويكون ) وَجِبْرِيلُ ( مبتدأ ، وما بعده معطوف عليه ، والخبر ) ظَهِيرٍ ). فيكون ابتداء الجملة بجبريل ، وهو أمين وحي

" صفحة رقم 287 "
الله واختتامه بالملائكة . وبدىء بجبريل ، وأفرد بالذكر تعظيماً له وإظهاراً لمكانته عند الله . ويكون قد ذكر مرتين ، مرة بالنص ومرة في العموم . واكتنف صالح المؤمنين جبريل تشريفاً لهم واعتناء بهم ، إذ جعلهم بين الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون . فعلى هذا جبريل داخل في الظهراء لا في الولاية ، ويختص الرسول بأن الله هو مولاه . وجوزوا أن يكون ) وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ( عطفاً على اسم الله ، فيدخلان في الولاية ، ويكون ) وَالْمَلَئِكَةُ ( مبتدأ ، والخبر ) ظَهِيرٍ ( ، فيكون جبريل داخلاً في الولاية بالنص ، وفي الظهراء بالعموم ، والظاهر عموم وصالح المؤمنين فيشمل كل صالح . وقال قتادة والعلاء بن العلاء بن زيد : هم الأنبياء ، وتكون مظاهرتهم له كونهم قدوة ، فهم ظهراء بهذا المعنى . وقال عكرمة والضحاك وابن جبير ومجاهد : المراد أبو بكر وعمر ، وزاد مجاهد : وعلي بن أبي طالب . وقيل : الصحابة . وقيل : الخلفاء . وعن ابن جبير : من يرىء من النفاق ، وصالح يحتمل أن يراد به الجمع ، وإن كان مفرداً فيكون كالسامر في قوله : ) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً ( ، أي سماراً . ويحتمل أن يكون جمعاً حذفت منه الواو خطأ لحذفها لفظاً ، كقوله : ) سَنَدْعُ ( ، وأفرد الظهير لأن المراد فوج ظهير ، وكثيراً ما يأتي فعيل نحو : هذا للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ المفرد ، كأنهم في الظاهرة يد واحدة على من يعاديه ، فما قد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه ، وذلك إشارة إلى تظاهرهما ، أو إلى الولاية .
وفي الحديث أن عمر قال : يا رسول الله لا تكترث بأمر نسائك ، والله معك ، وجبريل معك ، وأبو بكر وأنا معك ، فنزلت .
التحريم : ( 5 ) عسى ربه إن . . . . .
وروي عنه أنه قال لزوجات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) ظَهِيرٌ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ ( الآية ، فنزلت . وقرأ الجمهور : طلقكن بفتح القاف ، وأبو عمرو في رواية ابن عباس : بإدغامها في الكاف ، وتقدم ذكر الخلاف في ) أَن يُبْدِلَهُ ( في سورة الكهف ، والمتبدل به محذوف لدلالة المعنى عليه ، تقديره : أن يبدله خيراً منكن ، لأنهن إذا طلقهن كان طلاقهن لسوء عشرتهن ، واللواتي يبدلهن بهذه الأوصاف يكن خيراً منهن . وبدأ في وصفهن بالإسلام ، وهو الانقياد ؛ ثم بالإيمان ، وهو التصديق ؛ ثم بالقنوت ، وهو الطواعية ؛ ثم بالتوبة ، وهي الإقلاع عن الذنب ؛ ثم بالعبادة ، وهي التلذذ ؛ ثم بالسياحة ، وهي كناية عن الصوم ، قاله أبو هريرة وابن عباس وقتادة والضحاك . وقيل : إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فسره بذلك ، قاله أيضاً الحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن . قال الفراء والقتبي : سمي الصائم سائحاً لأن السائح لا زاد معه ، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام . وقال زيد بن أسلم ويمان : مهاجرات . وقال ابن زيد : ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة . وقيل : ذاهبات في طاعة الله . وقرأ الجمهور : سائحات ، وعمرو بن فائد : سيحات ، وهذه الصفات تجتمع ، وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان ، فلذلك عطف أحدهما على الآخر ، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى . وذكر الجنسين لأن في أزواجه ( صلى الله عليه وسلم ) ) من تزوجها بكراً ، والثيب : الراجع بعد زوال العذرة ، يقال : ثابت تثوب ثووباً ، ووزنه فعيل كسيد .
التحريم : ( 6 ) يا أيها الذين . . . . .
ولما وعظ أزواج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) موعظة خاصة ، أتبع ذلك بموعظة عامة للمؤمنين وأهليهم ، وعطف ) وَأَهْلِيكُمْ ( على ) أَنفُسَكُمْ ( ، لأن رب المنزل راع وهو مسؤول عن أهله . ومعنى وقايتهم : حملهم على طاعته وإلزامهم أداء ما فرض عليهم . قال عمر : يا رسول الله ، نقي أنفسنا ، فكيف لنا بأهلينا ؟ قال : ( تنهونهن عما نهاكم الله تعالى عنه ، وتأمرونهن بما أمركم الله به ، فتكون ذلك وقاية بينهن وبين النار ) ، ودخل الأولاد في ) وَأَهْلِيكُمْ ). وقيل : دخلوا في ) أَنفُسَكُمْ ( لأن الولد بعض من أبيه ، فيعلمه الحلال والحرام ويجنبه المعاصي . وقرىء : وأهلوكم بالواو ، وهو معطوف على الضمير في ) قُواْ ( وحسن العطف للفصل بالمفعول . وقال الزمخشري : فإن قلت : أليس التقدير قوا أنفسكم وليق أهلوكم أنفسهم ؟ قلت : لا ، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو وأنفسكم واقع بعده ، فكأنه قيل : قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم . لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه . فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب . انتهى . وناقض في قوله هذا لأنه قدر وليق أهلوكم فجعله من عطف الجمل ، لأن أهلوكم اسم ظاهرة لا يمكن عنده أن يرتفع بفعل الآمر الذي للمخاطب ، وكذا في قوله : ) اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ( ، ثم قال : ولكن المعطوف مقارن

" صفحة رقم 288 "
في التقدير للواو ، فناقض لأنه في هذا جعله مقارناً في التقدير للواو ، وفيما قبله رفعه بفعل آخر غير الرافع للواو وهو وليق ، وتقدم الخلاف في فتح الواو في قوله : ) وَقُودُهَا ( وضمها في البقرة . وتفسير ) وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ( في البقرة ) عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ ( : هي الزبانية التسعة عشر وأعوانهم . ووصفهم بالغلظ ، إما لشدة أجسامهم وقوتها ، وإما لفظاظتهم لقوله : ) وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ ( ، أي ليس فيهم رقة ولا حنة على العصاة . وانتصب ) مَا أَمَرَهُمْ ( على البدل ، أي لا يعصون أمره لقوله تعالى : ) أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى ( ، أو على إسقاط حرف الجر . أي فيما أمرهم ) وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ). قيل : كرر المعنى توكيداً . وقال الزمخشري : فإن قلت : أليس الجملتان في معنى واحد ؟ قلت : لا فإن معنى الأولى : أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ، ومعنى الثانية : أنهم يودون ما يؤمرون ، لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه .
التحريم : ( 7 ) يا أيها الذين . . . . .
( لاَ تَعْتَذِرُواْ ( : خطاب لهم عند دخولهم المنار ، لأنهم لا ينفعهم الاعتذار ، فلا فائدة فيه .
قوله عز وجل : ) تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ).
التحريم : ( 8 ) يا أيها الذين . . . . .
ذكروا في النصوح أربعة وعشرين قولاً . وروي عن عمر وعبد الله وأبي ومعاذ أنها التي لا عودة بعدها ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع ، ورفعه معاذ إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ الجمهور : ) نَّصُوحاً ( بفتح النون ، وصفاً لتوبة ، وهو من أمثلة المبالغة ، كضروب وقتول . وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وأبو بكر عن عاصم ، وخارجة عن نافع : بضمها ، هو مصدر وصف به ، ووصفها بالنصح على سبيل المجاز ، إذ النصح صفة التائب ، وهو أن ينصح نفسه بالتوبة ، فيأتي بها على طريقها ، وهي خلوصها من جميع الشوائب المفسدة لها ، من قولهم : عسل ناصح ، أي خالص من الشمع ، أو من النصاحة وهي الخياطة ، أي قد أحكمها وأوثقها ، كما يحكم الخياط الثوب بخياطته وتوثيقه .
وسمع عليّ أعرابياً يقول : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك ، فقال : يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين ، قال : وما التوبة ؟ قال : يجمعها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة ، وعلى الفرائض الإعادة ، ورد المظالم واستحلال الخصوم ، وأن يعزم على أن لا يعودوا ، وأن تدئب نفسك في طاعة الله كما أدأبتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي . وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه . انتهى . ونصوحاً من نصح ، فاحتمل وهو الظاهر أن تكون التوبة تنصح نفس التائب ، واحتمل أن يكون متعلق النصح الناس ، أي يدعوهم إلى مثلها لظهور أمرها على صاحبها . وقرأ

" صفحة رقم 289 "
زيد بن علي : توباً بغير تاء ، ومن قرأ بالضم جاز أن يكون مصدراً وصف كما قدمناه ، وجاز أن يكون مفعولاً له ، أي توبوا لنصح أنفسكم . وقرأ الجمهور : ) وَيُدْخِلْكُمْ ( عطفاً على ) أَن يُكَفّرَ ). وقال الزمخشري : عطفاً على محل عسى أن يكفر ، كأنه قيل : توبوا يوجب تكفير سيآتكم ويدخلكم . انتهى . والأولى أن يكون حذف الحركة تخفيفاً وتشبيهاً لما هو من كلمتين بالكلمة الواحدة ، تقول في قمع ونطع : قمع ونطع .
( يَوْمٌ لاَّ ( منصوب بيدخلكم ، ولا يجزي تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر ، والنبي هو محمد رسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) تضرع إلى الله عز وجل في أمر أمته ، فأوحى الله تعالى إليه : إن شئت جعلت حسابهم إليك ، فقال : يا رب أنت أرحم بهم ) ، فقال تعالى : إذاً لا أخزيك فيهم . وجاز أن يكون : ) مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ( معطوفاً على ) النَّبِىّ ( ، فيدخلون في انتفاء الخزي . وجاز أن يكون مبتدأ ، والخبر ) نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ). وقرأ سهل بن شعيب وأبو حيوة : وبإيمانهم بكسر الهمزة ، وتقدم في الحديث . ) يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ). قال ابن عباس والحسن : يقولون ذلك إذا طفىء نور المنافقين . وقال الحسن أيضاً : يدعونه تقرباً إليه ، كقوله : ) وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( ، وهو مغفور له . وقيل : يقوله من يمر على الصراط زحفاً وحبوا . وقيل : يقوله من يعطى من النور مقدار ما يبصر به موضع قدميه .
التحريم : ( 9 ) يا أيها النبي . . . . .
( ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ( : تقدم نظير هذه الآية في التوبة .
التحريم : ( 10 ) ضرب الله مثلا . . . . .
( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( : ضرب تعالى المثل لهم بامرأة نوح وامرأة لوط في أنهم لا ينفعهم في كفرهم لحمة نسب ولا وصلة صهر ، إذ الكفر قاطع العلائق بين الكافر والمؤمن ، وإن كان المؤمن في أقصى درجات العلا . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ( ؟ كما لم ينفع تينك المرأتين كونهما زوجتي نبيين . وجاءت الكناية عن اسمهما العلمين بقوله : ) عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا ( ، لما في ذلك من التشريف بالإضافة إليه تعالى . ولم يأت التركيب بالضمير عنهما ، فيكون تحتهما لما قصد من ذكر وصفهما بقوله : ) صَالِحِينَ ( ، لأن الصلاح هو الوصف الذي يمتاز به من اصطفاه الله تعالى بقوله في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ) وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ، وفي قول يوسف عليه السلام : ) وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( ، وقول سليمان عليه الصلاة والسلام : ) وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ). ) فَخَانَتَاهُمَا ( ، وذلك بكفرهما وقول امرأة نوح عليه السلام : هو مجنون ، ونميمة امرأة لوط عليه السلام بمن ورد عليه من الأضياف ، قاله ابن عباس . وقال : لم تزن امرأة نبي قط ، ولا ابتلي في نسائه بالزنا . قال في التحرير : وهذا إجماع من المفسرين ، وفي كتاب ابن عطية . وقال الحسن في كتاب النقاش : فخانتاهما بالكفر والزنا وغيره . وقال الزمخشري : ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور ، لأنه سمج في الطباع نقيصة عند كل أحد ، بخلاف الكفر ، فإن الكفر يستسمجونه ويسمونه حقاً . وقال الضحاك : خانتاهما بالنميمة ، كان إذا أوحى إليه بشيء أفشتاه للمشركين ، وقيل : خانتاهما بنفاقهما . قال مقاتل : اسم امرأة نوح والهة ، واسم امرأة لوط والعة . ) فَلَمْ يُغْنِينَا ( بياء الغيبة ، والألف ضمير نوح ولوط : أي على قربهما منهما فرق بينهما الخيانة . ) وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ ( : أي وقت موتهما ، أو يوم القيامة ؛ ) مَعَ الدخِلِينَ ( : الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو مع من دخلها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط . وقرأ مبشر بن عبيد : تغنيا بالتاء ، والألف ضمير المرأتين ، ومعنى ) عَنْهُمَا ( : عن أنفسهما ، ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل عن اسما ، كهي في : دع عنك ، لأنها إن كانت حرفاً ، كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضمير المجرور ، وهو يجري مجرى المنصوب المتصل ، وذلك لا يجوز .
التحريم : ( 11 ) وضرب الله مثلا . . . . .
( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ( : مثل تعالى حال المؤمنين في أن وصلة الكفار لا تضرهم ولا تنقص من ثوابهم بحال امرأة فرعون ، واسمها آسية بنت مزاحم ، ولم يضرها كونها كانت تحت فرعون عدوّ الله تعالى والمدعي الإلهية ، بل نجاها منه إيمانها ؛ وبحال مريم ، إذ أوتيت من كرامة الله تعالى في الدنيا والآخرة ، والاصطفاء على نساء العالمين ، مع أن قومها كانوا كفاراً . ) إِذْ قَالَتْ رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ ( : هذا يدل على إيمانها وتصديقها بالبعث . قيل : كانت عمة موسى عليه السلام ، وآمنت حين سمعت بتلقف عصاه ما أفك السحرة . طلبت من ربها القرب من رحمته ، وكان ذلك أهم عندها ، فقدمت

" صفحة رقم 290 "
الظرف ، وهو ) عِندَكَ بَيْتاً ( ، ثم بينت مكان القرب فقالت : ) فِى الْجَنَّةِ ). وقال بعض الظرفاء : وقد سئل : اين في القرآن مثل قولهم : الجار قبل الدار ؟ قال : قوله تعالى ) ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ ( ، فعندك هو المجاورة ، وبيتاً في الجنة هو الدار ، وقد تقدم ) عِندَكَ ( على قوله : ) بَيَاتًا ). ) وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ ( ، قيل : دعت بهذه الدعوات حين أمر فرعون بتعذيبها لما عرف إيمانها بموسى عليه السلام . وذكر المفسرون أنواعاً مضطربة في تعذيبها ، وليس في القرآن نصاً أنها عذبت . وقال الحسن : لما دعت بالنجاة ، نجاها الله تعالى أكرم نجاة ، فرفعها إلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم . وقيل : لما قالت : ) ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ ( ، أريت بيتها في الجنة يبنى ، ( وَعَمَلِهِ ( ، قيل : كفره . وقيل : عذابه وظلمه وشماتته . وقال ابن عباس : الجماع . ) وَنَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ، قال : أهل مصر ، وقال مقاتل : القبط ، وفي هذا دليل على الالتجاء إلى الله تعالى عند المحن وسؤال الخلاص منها ، وإن ذلك من سنن الصالحين والأنبياء .
التحريم : ( 12 ) ومريم ابنة عمران . . . . .
( وَمَرْيَمَ ( : معطوف على امرأة فرعون ، ( ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( : تقدم تفسير نظير هذه في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وقرأ الجمهور : ابنت بفتح التاء ؛ وأيوب السختياني : ابنه بسكون الهاء وصلاً أجراه مجرى الوقف . وقرأ الجمهور : ) فَنَفَخْنَا فِيهِ ( : أي في الفرج ؛ وعبد الله : فيها ، كما في سورة الأنبياء ، أي في الجملة . وجمع تعالى في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييباً لقلوبهن . وقرأ الجمهور : ) وَصَدَّقَتْ ( بشد الدال ؛ ويعقوب وأبو مجلز وقتادة وعصمة عن عاصم : بخفها ، أي كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى عليه السلام ، وما أظهر الله له من الكرامات . وقرأ الجمهور : وكلماته جمعاً ، فاحتمل أن تكون الصحف المنزلة على إدريس عليه السلام وغيره ، وسماها كلمات لقصرها ، ويكون المراد بكتبه : الكتب الأربعة . واحتمل أن تكون الكلمات : ما كلم الله تعالى به ملائكته وغيرهم ، وبكتبه : جميع ما يكتب في اللوح وغيره . واحتمل أن تكون الكلمات : ما صدر في أمر عيسى عليه السلام . وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري : بكلمة على التوحيد ، فاحتمل أن يكون اسم جنس ، واحتمل أن يكون كناية عن عيسى ، لأنه قد أطلق عليه أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم . وقرأ أبو عمرو وحفص : وكتبه جمعاً ، ورواه كذلك خارجة عن نافع . وقرأ باقي السبعة : وكتابه على الإفراد ، فاحتمل أن يراد به الجنس ، وأن يراد به الإنجيل لا سيما إن فسرت الكلمة بعيسى . وقرأ أبو رجاء : وكتبه . قال ابن عطية : بسكون التاء وكتبه ، وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل . وقال صاحب اللوامح أبو رجاء : وكتبه بفتح الكاف ، وهو مصدر أقيم مقام الاسم . قال سهل : وكتبه أجمع من كتابه ، لأن فيه وضع المضاف موضع الجنس ، فالكتب عام ، والكتاب هو الإنجيل فقط . انتهى .
( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ( : غلب الذكورية على التأنيث ، والقانتين شامل للذكور والإناث ، ومن للتبعيض . وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين ، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى ، صلوات الله وسلامه عليهما ، وقال يحيى بن سلام : مثل ضربه الله يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ثم ضرب لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنت عمران ترغيباً في التمسك بالطاعات والثبات على الدّين . انتهى . وأخذ الزمخشري كلام ابن سلام هذا وحسنه وزمكه بفصاحة فقال : وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين المذكورتين في أول السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه لما في التمثيل من ذكر الكفر ونحوه . ومن التغليظ قوله : ) وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( ، وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص والكتمان فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا يشكلا على أنهما زوجتا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإن ذلك الفضل لا ينقصهما إلا مع كونهما مخلصين . والتعريض بحفصة أرج ، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدّاً يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره . انتهى . وقال ابن عطية : وقال بعض الناس : إن في المثلين عبرة لزوجات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين تقدم عتابهن ، وفي هذا بعد ، لأن النص أنه للكفار يبعد هذا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

" صفحة رقم 291 "
6
( سورة الملك )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِىأَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لاًّصْحَابِ السَّعِيرِ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّ رْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَءَمِنتُمْ مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الاٌّ رْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِى السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ هُوَ الَّذِىأَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاٌّ بْصَارَ وَالاٌّ فْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاٌّ رْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَاذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ ( ) ) 2
) تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ وَقَالُواْ ).
الملك : ( 1 - 2 ) تبارك الذي بيده . . . . .
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ضرب للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة ، وإن كانتا تحت نبيين ، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم ، وهما محتوم لهما بالجنة ، وإن كان قوماهما كافرين . كان ذلك تصرّفاً في ملكه على ما سبق قضاؤه ، فقال : ) تَبَارَكَ ( : أي تعالى وتعاظم ، ( الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ( : وهو كناية عن الإحاطة والقهر ، وكثيراً ما جاء نسبة اليد إليه تعالى كقوله : ) فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء ( ، ( بِيَدِكَ الْخَيْرُ ( ، وذلك في حقه تعالى استعارة لتحقيق الملك ، إذ كانت في عرف الآدميين آلة للتملك ، والملك هنا هو على الإطلاق لا يبيد ولا يختل . وعن ابن عباس : ملك الملوك لقوله تعالى : ) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ( ، وناسب الملك ذكر وصف القدرة والحياة ما يصح بوجوده الإحساس . ومعنى ) خَلَقَ الْمَوْتَ ( : إيجاد ذلك المصحح وإعدامه ، والمعنى : خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون ، وسمى علم الواقع منهم باختيارهم بلوى وهي الحيرة ، استعارة من فعل المختبر . وفي الحديث أنه فسر ) أَيُّكُم

" صفحة رقم 292 "
ْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( : أي أحسنكم عقلاً وأشدّكم خوفاً وأحسنكم في أمره ونهيه نظراً ، وإن كان أقلكم تطوعاً . وعن ابن عباس والحسن والثوري : أزهدكم في الدنيا . وقيل : كنى بالموت عن الدنيا ، إذ هو واقع فيها ، وعن الآخرة بالحياة من حيث لا موت فيها ، فكأنه قال : هو الذي خلق الدنيا والآخرة ، وصفهما بالمصدرين ، وقدّم الموت لأنه أهيب في النفوس . وليبلوكم متعلق بخلق . ) وَإِيَّاكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( مبتدأ وخبر ، فقدر الحوفي قبلها فعلاً تكون الجملة في موضع معموله ، وهو معلق عنها تقديره : فينظر ، وقدّر ابن عطية فينظر أو فيعلم .
وقال الزمخشري : فإن قلت : من أين تعلق قوله : ) أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( بفعل البلوى ؟ قلت : من حيث أنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملاً ، وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملاً أم هو ؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه ، كما تقول : علمته هو أحسن عملاً . فإن قلت : أيسمى هذا تعليقاً ؟ قلت : لا ، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسدّ المفعولين جميعاً ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق . ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدّراً بحرف الاستفهام وغير مصدّر به ؟ ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان ، كما افترقتا في قولك : علمت أزيد منطلق ، وعلمت زيداً منطلقاً . انتهى . وأصحابنا يسمون ما منعه الزمخشري تعليقاً ، فيقولون في الفعل إذا عدى إلى اثنين ونصب الأول ، وجاءت بعده جملة استفهامية ، أو بلام الابتداء ، أو بحرف نفي ، كانت الجملة معلقاً عنها الفعل ، وكانت في موضع نصب ، كما لو وقعت في موضع المفعولين وفيها ما يعلق الفعل عن العمل . وقد تقدّم الكلام على مثل هذه الجملة في الكهف في قوله تعالى : ) لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ( ،
الملك : ( 3 - 4 ) الذي خلق سبع . . . . .
وانتصب ) طِبَاقاً ( على الوصف السبع ، فإما أن يكون مصدر طابق مطابقة وطباقاً لقولهم : النعل خصفها طبقاً على طبق ، وصف به على سبيل المبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي ذا طباق ؛ وإما جمع طبق كجمل وجمال ، أو جمع طبقة كرحبة ورحاب ، والمعنى : بعضها فوق بعض .
وما ذكر من مواد هذه السموات . فالأولى من موج مكفوف ، والثانية من درّة بيضاء ، والثالثة من حديد ، والرابعة من نحاس ، والخامسة من فضة ، والسادسة من ذهب ، والسابعة من زمردة بيضاء يحتاج إلى نقل صحيح ، وقد كان بعض من ينتمي إلى الصلاح ، وكان أعمى لا يبصر موضع قدمه ، يخبر أنه يشاهد السموات على بعض أوصاف مما ذكرنا . ) مِن تَفَاوُتٍ ( ، قال ابن عباس : من تفرّق . وقال السدّي : من عيب . وقال عطاء بن يسار : من عدم استواء . وقال ثعلب : أصله من الفوت ، وهو أن يفوت شيء شيئاً من الخلل . وقيل : من اضطراب . وقيل : من اعوجاج . وقيل : من تناقض . وقيل : من اختلاف . وقيل : من عدم التناسب والتفاوت ، تجاوز الحد الذي تجب له زيادة أو نقص . قال بعض الأدباء : تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى
بهن اختلافاً بل أتين على قدر
وقرأ الجمهور : ) مِن تَفَاوُتٍ ( ، بألف مصدر تفاوت ؛ وعبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش : بشدّ الواو ، مصدر تفوّت . وحكى أبو زيد عن العربي : تفاوتاً بضم الواو وفتحها وكسرها ، والفتح والكسر شاذان . والظاهر عموم خلق الرحمن من الأفلاك وغيرها ، فإنه لا تفوت فيه ولا فطور ، بل كل جار على الإتقان . وقيل : المراد في ) خَلْقِ الرَّحْمَنِ ( السموات فقط ، والظاهر أن قوله تعالى : ) مَّا تَرَى ( استئناف أنه لا يدرك في خلقه تعالى تفاوت ، وجعل الزمخشري هذه الجملة صفة متابعة لقوله : ) طِبَاقاً ( ، أصلها ما ترى فيهن من تفاوت ، فوضع مكان الضمير قوله : ) خَلْقِ الرَّحْمَنِ ( تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت ، وهو أنه خلق الرحمن ، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المناسب . انتهى . والخطاب في ترى لكل مخاطب ، أو للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ولما

" صفحة رقم 293 "
أخبر تعالى أنه لا تفاوت في خلقه ، أمر بترديد البصر في الخلق المناسب فقال : ) فَارْجِعِ ( ، ففي الفاء معنى التسبب ، والمعنى : أن العيان يطابق الخبر . و ) الفطور ( ، قال مجاهد : الشقوق ، فطر ناب البعير : شق اللحم وظهر ، قال الشاعر : بنى لكم بلا عمد سماء
وسوّاها فما فيها فطور
وقال أبو عبيدة : صدوع ، وأنشد قول عبيد بن مسعود : شققت القلب ثم رددت فيه
هواك فليط فالتأم الفطور
وقال السدي : خروق . وقال قتادة : خلل ، ومنه التفطير والانفطار . وقال ابن عباس : وهن وهذه تفاسير متقاربة ، والجملة من قوله : ) الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ( في موضع نصب بفعل معلق محذوف ، أي فانظر هل ترى ، أو ضمن معنى ) فَارْجِعِ الْبَصَرَ ( معنى فانظر ببصرك هل ترى ؟ فيكون معلقاً . ) ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ ( : أي ردده كرتين هي تثنية لا شفع الواحد ، بل يراد بها التكرار ، كأنه قال : كرة بعد كرة ، أي كرات كثيرة ، كقوله : لبيك ، يريد إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض ، وأريد بالتنثية التكثير ، كما أريد بما هو أصل لها التكثير ، وهو مفرد عطف على مفرد ، نحو قوله : لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهم
بيتاً وأبعدهم عن منزل الذام
يريد : لوعدت قبور كثيرة . وقال ابن عطية وغيره : ) كَرَّتَيْنِ ( معناه مرتين ونصبها على المصدر . وقيل : أمر برجع البصر إلى السماء مرتين ، غلط في الأولى ، فيستدرك بالثانية . وقيل : الأولى ليرى حسنها واستواءها ، والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها . وقرأ الجمهور : ) يَنقَلِبَ ( جزماً على جواب الأمر ؛ والخوارزمي عن الكسائي : يرفع الباء ، أي فينقلب على حذف الفاء ، أو على أنه موضع حال مقدرة ، أي إن رجعت البصر وكررت النظر لتطلب فطور شقوق أو خللاً أو عيباً ، رجع إليك مبعداً عما طلبته لانتفاء ذلك عنها ، وهو كالّ من كثرة النظر ، وكلاله يدل على أن المراد بالكرتين ليس شفع الواحد ، لأنه لا يكل البصر بالنظر مرتين اثنتين . والحسير : الكال ، قال الشاعر : لهن الوجى لم كر عوناً على النوى
ولا زال منها ظالع وحسير
يقال : حسر بعيره يحسر حسوراً : أي كلّ وانقطع فهو حسير ومحسور ، قال الشاعر يصف ناقة :
فشطرها نظر العينين محسور
أي : ونحرها ، وقد جمع حسير بمعنى أعيا وكل ، قال الشاعر :
بها جيف الحسرى فأما عظامها
البيت .
الملك : ( 5 - 6 ) ولقد زينا السماء . . . . .
( السَّمَاء الدُّنْيَا ( : هي التي نشاهدها ، والدنو أمر نسبي وإلا فليست قريبة ، ( بِمَصَابِيحَ ( : أي بنجوم مضيئة كالمصابيح ، ومصابيح مطلق الأعلام ، فلا يدل على أن غير سماء الدنيا ليست فيها مصابيح . ) وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( : أي جعلنا منها ، لأن السماء ذاتها ليست يرجم بها الرجوم هذا إن عاد الضمير في قوله : ) وَجَعَلْنَاهَا ( على السماء .

" صفحة رقم 294 "
والظاهر عوده على مصابيح . ونسب الرجم إليها ، لأن الشهاب المتبع للمسترق منفصل من نارها ، والكواكب قارّ في ملكه على حاله . فالشهاب كقبس يؤخذ من النار ، والنار باقية لا تنقص . والظاهر أن الشياطين هم مسترقو السمع ، وأن الرجم هو حقيقة يرمون بالشهب ، كما تقدم في سورة الحجر وسورة والصافات . وقيل : معنى رجوماً : ظنوناً لشياطين الإنس ، وهم المنجمون ينسبون إلى النجوم أشياء على جهة الظن من جهالهم ، والتمويه والاختلاق من أزكيائهم ، ولهم في ذلك تصانيف تشتمل على خرافات يموهون بها على الملوك وضعفاء العقول ، ويعملون موالد يحكمون فيها بالأشياء لا يصح منها شيء . وقد وقفنا على أشياء من كذبهم في تلك الموالد ، وما يحكونه عن أبي معشر وغيره من شيوخ السوء كذب يغرون به الناس الجهال . وقال قتادة : خلق الله تعالى النجوم زينة للسماء ورجوماً للشياطين ، وليهتدي بها في البر والبحر ؛ فمن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلف وأذهب حظه من الآخرة . والضمير في لهم عائد على الشياطين .
وقرأ الجمهور : ) عَذَابَ جَهَنَّمَ ( برفع الباء ؛ والضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني والحسن في رواية هارون عنه : بالنصب عطفاً على ) عَذَابِ السَّعِيرِ ( ، أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم . ) إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا ( : أي طرحوا ، كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى به ، ومثله حصب جهنم ،
الملك : ( 7 ) إذا ألقوا فيها . . . . .
( سَمِعُواْ لَهَا ( : أي لجهنم ، ( شَهِيقًا ( : أي صوتاً منكراً كصوت الحمار ، تصوت مثل ذلك لشدة توقدها وغليانها . ويحتمل أن يكون على حذف مضاف ، أي سمعوا لأهلها ، كما قال تعالى : ) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ). ) وَهِىَ تَفُورُ ( : تغلي بهم غلي المرجل .
الملك : ( 8 ) تكاد تميز من . . . . .
( تَكَادُ تَمَيَّزُ ( : أي ينفصل بعضها من بعض لشدة اضطرابها ، ويقال : فلان يتميز من الغيظ إذا وصفوه بالإفراط في الغضب . وقرأ الجمهور : ) تَمَيَّزُ ( بتاء واحدة خفيفة ، والبزي يشدّدها ، وطلحة : بتاءين ، وأبو عمرو : بإدغام الدال في التاء ، والضحاك : تمايز على وزن تفاعل ، وأصله تتمايز بتاءين ؛ وزيد بن علي وابن أبي عبلة : تميز من ماز من الغيظ على الكفرة ، جعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم ، ومثل هذا في التجوز قول الشاعر : في كلب يشتد في جريه
يكاد أن يخرج من إهابه
وقولهم : غضب فلان ، فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء إذا أفرط في الغضب . ويجوز أن يراد من غيظ الزبانية . ) كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ ( : أي فريق من الكفار ، ( سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا ( : سؤال توبيخ وتقريع ، وهو مما يزيدهم عذاباً إلى عذابهم ، وخزنتها : مالك وأعوانها ، ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ( : ينذركم بهذا اليوم ،
الملك : ( 9 ) قالوا بلى قد . . . . .
( قَالُواْ بَلَى ( : اعتراف بمجيء النذر إليهم . قال الزمخشري : اعتراف منهم بعدل الله ، وإقرار بأنه عز وعلا أزاح عللهم ببعثة الرسل وإنذارهم فيما وقعوا فيه ، وأنهم لم يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة ، وإنما أتوا من قبل أنفسهم واختيارهم ، خلاف ما اختار الله وأمر به وأوعد على ضده . انتهى ، وهو على طريق المعتزلة . والظاهر أن قوله : ) إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ ( ، من قول الكفار للرسل الذين جاءوا نذراً إليهم ، أنكروا أولاً أن الله نزل شيئاً ، واستجهلوا ثانياً من أخبر بأنه تعالى أرسل إليهم الرسل ، وأن قائل ذلك في حيرة عظيمة . ويجوز أن يكون من قول الخزنة للكفار إخباراً لهم وتقريعاً بما كانوا عليه في الدنيا . أرادوا بالضلال الهلاك الذي هم فيه ، أوسموا عقاب الضلال ضلالاً لما كان ناشئاً عن الضلال . وقال الزمخشري : أو من كلام الرسل لهم حكوه للخزنة ، أي قالوا لنا هذا فلم نقبله . انتهى . فإن كان الخطاب في ) إِنْ أَنتُمْ ( للرسل ، فقد يراد به الجنس ، ولذلك جاء الخطاب بالجمع .
الملك : ( 10 ) وقالوا لو كنا . . . . .
( وَقَالُواْ ( : أي للخزنة حين حاوروهم ، ( لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ ( سماع طالب للحق ، ( أَوْ نَعْقِلُ ). عقل متأمل له ، لم نستوجب الخلود في النار .
الملك : ( 11 ) فاعترفوا بذنبهم فسحقا . . . . .
( فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ ( : أي بتكذيب الرسل ، ( فَسُحْقًا ( : أي فبعداً لهم ، وهو دعاء عليهم ، والسحق : البعد ، وانتصابه على المصدر : أي سحقهم الله سحقاً ، قال الشاعر :

" صفحة رقم 295 "
يجول بأطراف البلاد مغربا
وتسحقه ريح الصبا كل مسحق
والفعل منه ثلاثي . وقال الزجاج : أي أسحقهم الله سحقاً ، أي باعدهم بعداً . وقال أبو علي الفارسي : القياس إسحاقاً ، فجاء المصدر على الحذف ، كما قيل :
وإن أهلك فذلك كان قدري
أي تقديري . انتهى ، ولا يحتاج إلى ادعاء الحذف في المصدر لأن فعله قد جاء ثلاثياً ، كما أنشد :
وتسحقه ريح الصبا كل مسحق
وقرأ الجمهور : بسكون الحاء ؛ وعلي وأبو جعفر والكسائي ، بخلاف عن أبي الحرث عنه : بضمها . قال ابن عطية : ) فَسُحْقًا ( : نصباً على جهة الدعاء عليهم ، وجاز ذلك فيه ، وهو من قبل الله تعالى من حيث هذا القول فيهم مستقر أولاً ، ووجوده لم يقع إلا في الآخرة ، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى به ، كما تقول : سحقاً لزيد وبعداً ، والنصب في هذا كله بإضمار فعل ، وإن وقع وثبت ، فالوجه فيه الرفع ، كما قال تعالى : ) وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ ( ، و ) سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( ، وغير هذا من الأمثلة . انتهى .
الملك : ( 12 ) إن الذين يخشون . . . . .
( يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ( : أي الذي أخبروا به من أمر المعاد وأحواله ، أو غائبين عن أعين الناس ، أي في خلواتهم ، كقوله : ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه .
الملك : ( 13 ) وأسروا قولكم أو . . . . .
( وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ ( : خطاب لجميع الخلق . قال ابن عباس : وسببه أن بعض المشركين قال لبعض : أسروا قولكم لا يسمعكم إله محمد .
الملك : ( 14 ) ألا يعلم من . . . . .
( أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ( : الهمزة للاستفهام ولا للنفي ، والظاهر أن من مفعول ، والمعنى : أينتفي علمه بمن خلق ، وهو الذي لطف علمه ودق وأحاط بخفيات الأمور وجلياتها ؟ وأجاز بعض النحاة أن يكون من فاعلاً والمفعول محذوف ، كأنه قال : ألا يعلم الخالق سركم وجهركم ؟ وهو استفهام معناه الإنكار ، أي كيف لا يعلم ما تكلم به من خلق الأشياء وأوجدها من العدم الصرف وحاله أنه اللطيف الخبير المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن ؟
الملك : ( 15 ) هو الذي جعل . . . . .
( هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ ذَلُولاً ( : منة منه تعالى بذلك ، والذلول فعول للمبالغة ، من ذلك تقول : دابة ذلول : بينة الذل ، ورجل ذليل : بين الذل . وقال ابن عطية : والذلول فعول بمعنى مفعول ، أي مذلولة ، فهي كركوب وحلوب . انتهى . وليس بمعنى مفعول لأن فعله قاصر ، وإنما تعدى بالهمزة كقوله : ) وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ( ، وأما بالتضعيف لقوله : ) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ( ، وقوله : أي مذلولة يظهر أنه خطأ . ) فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا ( : أمر بالتصرف فيها والاكتساب ؛ ومناكبها ، قال ابن عباس وقتادة وبشر بن كعب : أطرافها ، وهي الجبال . وقال الفراء والكلبي ومنذر بن سعيد : جوانبها ، ومنكبا الرجل : جانباه . وقال الحسن والسدي : طرفها وفجاجها . قال الزمخشري : والمشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجازوته الغاية ، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنبأه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم ينزل . انتهى . وقال الزجاج : سهل لكم السلوك في جبالها فهو أبلغ التذليل . ) وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ( : أي البعث ، فسألكم عن شكر هذه النعمة عليكم .
وقوله عز وجل : ) مَّن فِى السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الاْرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ أَمْ أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ

" صفحة رقم 296 "
حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ هُوَ الَّذِى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالاْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَاذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ ).
الملك : ( 16 ) أأمنتم من في . . . . .
قرأ نافع وأبو عمرو والبزي : ) أَءمِنتُمْ ( بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفاً ، وقنبل : بإبدال الأولى واواً لضمة ما قبلها ، وعنه وعن ورش أوجه غير هذه ؛ والكوفيون وابن عامر بتحقيقهما . ) مَّن فِى السَّمَاء ( : هذا مجاز ، وقد قام البرهان العقلي على أن تعالى ليس بمتحيز في جهة ، ومجازه أن ملكوته في السماء لأن في السماء هو صلة من ، ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه ، وهو استقر ، أي من في السماء هو ، أي ملكوته ، فهو على حذف مضاف ، وملكوته في كل شيء . لكن خص السماء بالذكر لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأمره ونهيه ، أو جاء هذا على طريق اعتقادهم ، إذ كانوا مشبهة ، فيكون المعنى : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء ؟ وهو المتعالي عن المكان . وقيل : من على حذف مضاف ، أي خالق من في السماء . وقيل : من هم الملائكة . وقيل : جبريل ، وهو الملك الموكل بالخسف وغيره . وقيل : من بمعنى على ، ويراد بالعلو القهر والقدرة لا بالمكان ، وفي التحرير : الاجماع منعقد على أنه ليس في السماء بمعنى الاستقرار ، لأن من قال من المشبهة والمجسمة أنه على العرش لا يقول بأنه في السماء . ) أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الاْرْضَ ( وهو ذهابها سفلاً ، ( فَإِذَا هِىَ تَمُورُ ( : أي تذهب أو تتموج ، كما يذهب التراب في الريح .
الملك : ( 17 - 18 ) أم أمنتم من . . . . .
وقد تقدم شرح الحاصب في سورة الإسراء ، والنذير والنكير مصدران بمعنى الإنذار والإنكار ، وقال حسان بن ثابت : فأنذر مثلها نصحاً قريشا
من الرحمن إن قبلت نذيرا
وأثبت ورش ياء نذيري ونكيري ، وحذفها باقي السبعة .
الملك : ( 19 ) أولم يروا إلى . . . . .
ولما حذرهم ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب ، نبههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها ، وعن عجز آلهتهم عن شيء من ذلك ، وناسب ذلك الاعتبار بالطير ، إذ قد تقدمه ذكر الحاصب ، وقد أهلك الله

" صفحة رقم 297 "
أصحاب الفيل بالطير والحاصب الذي رمتهم به ، ففيه إذكار قريش بهذه القصة ، وأنه تعالى لو شاء لأهلكهم بحاصب ترمي به الطير ، كما فعل بأصحاب الفيل . ) صَافَّاتٍ ( : باسطة أجنحتها صافتها حتى كأنها ساكنة ، ( وَيَقْبِضْنَ ( : ويضممن الأجنحة إلى جوانبهن ، وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى . وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله تعالى : ) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ ( ، عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى : فاللاتي أغرن صبحاً فأثرن ، ومثل هذا العطف فصيح ، وعكسه أيضاً جائز إلا عند السهيلي فإنه قبيح ، نحو قوله : بات يغشيها بغضب باتر
يقصد في أسوقها وجائر
أي : قاصد في أسوقها وجائر . وقال الزمخشري : ) صَافَّاتٍ ( : باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ، لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً ، ( وَيَقْبِضْنَ ( : ويضمنها إذا ضربن بها جنوبهن . فإن قلت : لم قيل ) وَيَقْبِضْنَ ( ، ولم يقل : وقابضات ؟ قلت : أصل الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها . وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ، كما يكون من السابح . انتهى . وملخصه أن الغالب هو البسط ، فكأنه هو الثابت ، فعبر عنه بالاسم . والقبض متجدد ، فعبر عنه بالفعل ب ) مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ ( : أي بقدرته . قال الزمخشري : وبما دبر لهن من القوادم والخوافي ، وبنى الأجسام على شكل وخصائص قد يأتي منها الجري في الجو ) إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ ( : يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب . انتهى ، وفيه نزوع إلى قول أهل الطبيعة . ونحن نقول : إن أثقل الأشياء إذا أراد إمساكها في الهواء واستعلاءها إلى العرش كان ذلك ، وإذا أراد إنزال ما هو أخف سفلاً إلى منتهى ما ينزل كان ، وليس ذلك معذوقاً بشكل ، لا من ثقل ولا خفة . وقرأ الجمهور : ما يمسكهن مخففاً . والزهري مشدداً .
الملك : ( 20 ) أم من هذا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مِن ( ، بإدغام ميم أم في ميم من ، إذ الأصل أم من ، وأم هنا بمعنى بل خاصة لأن الذي بعدها هو اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء ، وهذا خبر ، والمعنى : من هو ناصركم إن ابتلاكم بعذابه ؛
الملك : ( 21 ) أم من هذا . . . . .
وكذلك من هو رازقكم أن أمسك رزقه ، والمعنى : لا أحد ينصركم ولا يرزقكم . وقرأ طلحة : أمن بتخفيف الميم ونقلها إلى الثانية كالجماعة . قال صاحب اللوامح : ومعناه : أهذا الذي هو جند لكم ينصركم ، أم الذي يرزقكم ؟ فلفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه التقريع والتوبيخ . انتهى . ) بَل لَّجُّواْ ( : تمادوا ، ( فِى عُتُوّ ( : في تكبر وعناد ، ( وَنُفُورٍ ( : شراد عن الحق لثقله عليهم . وقيل : هذا إشارة إلى أصنامهم .
الملك : ( 22 ) أفمن يمشي مكبا . . . . .
( أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ ( ، قال قتادة نزلت مخبرة عن حال القيامة ، وأن الكفار يمشون فيها على وجوههم ، والمؤمنون يمشون على استقامة . وقيل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : كيف يمشى الكافر على وجهه ؟ فقال : ( إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر أن يمشيه في الآخرة على وجهه ) . فالمشي على قول قتادة حقيقة . وقيل : هو مجاز ، ضرب مثلاً للكافر والمؤمن في الدنيا . فقيل : عام ، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك ، نزلت فيهما . وقال ابن عباس أيضاً : نزلت في أبي جهل والرسول عليه الصلاة والسلام . وقيل : في أبي جهل وحمزة ، والمعنى أن الكافر في اضطرابه وتعسفه في عقيدته وتشابه الأمر عليه ، كالماضي في انخفاض وارتفاع ، كالأعمى يتعثر كل ساعة فيخر لوجهه . وأما المؤمن ، فإنه لطمأنينة قلبه بالإيمان ، وكونه قد وضح له الحق ، كالماشي صحيح البصر مستوياً لا ينحرف على طريق واضح الاستقامة لا حزون فيها ، فآلة نظره صحيحة ومسلكه لا صعوبة فيه . و ) مُكِبّاً ( : حال من أكب ، وهو لا يتعدى ، وكب متعد ، قال تعالى : ) فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ ( ، والهمزة فيه للدخول في الشيء أو للصيرورة ، ومطاوع كب انكب ، تقول : كببته فانكب . وقال الزمخشري : ولا

" صفحة رقم 298 "
شيء من بناء افعل مطوعاً ، ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه ، وهذا الرجل كثير التبجح بكتاب سيبويه ، وكم من نص في كتاب سيبويه عمى بصره وبصيرته حتى أن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتاباً يذكر فيه ما غلط فيه الزمخشري وما جهله من نصوص كتاب سيبويه . وأهدي : افعل تفضيل من الهدى في الظاهر ، وهو نظير : العسل أحلى أم الخل ؟ وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته ، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سوياً على صراط مستقيم أهدى .
الملك : ( 23 ) قل هو الذي . . . . .
وانتصب ) قَلِيلاً ( على أنه نعت لمصدر محذوف ، وما زائدة ، وتشكرون مستأنف أو حال مقدرة ، أي تشكرون شكراً قليلاً . وقال ابن عطية : ظاهر أنهم يشكرون قليلاً ، وما عسى أن يكون للكافرين شكر ، وهو قليل غير نافع . وأما أن يريد به نفي الشكر جملة فعبر بالقلة ، كما تقول العرب : هذه أرض قلّ ما تنبت كذا ، وهي لا تنبته ألبتة . انتهى . وتقدم نظير قوله والرد عليه في ذلك .
الملك : ( 24 ) قل هو الذي . . . . .
( ذَرَأَكُمْ ( : بثكم ، والحشر : البعث ،
الملك : ( 25 ) ويقولون متى هذا . . . . .
والوعد المشار إليه هو وعد يوم القيامة ، أي متى إنجاز هذا الوعد ؟ .
الملك : ( 27 ) فلما رأوه زلفة . . . . .
( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً ( : أي رأوا العذاب وهو الموعود به ، ( زُلْفَةً ( : أي قرباً ، أي ذا قرب . وقال الحسن : عياناً . وقال ابن زيد : حاضراً . وقيل : التقدير مكاناً ذا زلفة ، فانتصب على الظرف . ) سَيّئَاتُ ( : أي ساءت رؤيته وجوههم ، وظهر فيها السوء والكآبة ، وغشيها السواد كمن يساق إلى القتل . وأخلص الجمهور كسرة السين ، وأشمها الضم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع والكسائي . ) وَقِيلَ ( لهم ، أي تقول لهم الزبانية ومن يوبخهم . وقرأ الجمهور : ) تَدْعُونَ ( بشد الدال مفتوحة ، فقيل : من الدعوى . قال الحسن : تدعون أنه لا جنة ولا نار . وقيل : تطلبون وتستعجلون ، وهو من الدعاء ، ويقوي هذا القول قراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار عبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب : تدعون بسكون الدال ، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع .
الملك : ( 28 ) قل أرأيتم إن . . . . .
روي أن الكفار كانوا يدعون على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه بالهلاك . وقيل : كانوا يتآمرون بينهم بأن يهلكوهم بالقتل ونحوه ، فأمر أن يقول : ) إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ ( كما تريدون ، ( أَوْ رَحِمَنَا ( بالنصر عليكم ، فمن يحميكم من العذاب الذي سببه كفركم ؟ ولما قال : ) أَوْ رَحِمَنَا (
الملك : ( 29 - 30 ) قل هو الرحمن . . . . .
قال : ) هُوَ الرَّحْمَنُ ( ، ثم ذكر ما به النجاة وهو الإيمان والتفويض إلى الله تعالى . وقرأ الجمهور : ) فَسَتَعْلَمُونَ ( بتاء الخطاب ، والكسائي : بياء الغيبة نظراً إلى قوله : ) فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ ).
ولما ذكر العذاب ، وهو مطلق ، ذكر فقد ما به حياة النفوس وهو الماء ، وهو عذاب مخصوص . والغور مشروح في الكهف ، والمعين في قد أفلح ، وجواب ) إِنْ أَهْلَكَنِىَ ( : ) فَمَن يُجِيرُ ( ، وجواب ) إِنْ أَصْبَحَ ( : ) فَمَن يَأْتِيكُمْ ( ، وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فقال : تجيء به الفوس والمعاويل ، فذهب ماء عينيه .

" صفحة رقم 299 "
68
( سورة القلم )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) نوَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لاّجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ إِنَّا لَضَآلُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُواْ ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَالِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِن يَكَادُ الَّذِين

" صفحة رقم 300 "
َ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( )
القلم : ( 1 ) ن والقلم وما . . . . .
المهين ، قال الرماني : الوضيع لإكثاره من القبائح ، من المهانة ، وهي القلة . الهمز : أصله في اللغة الضرب طعناً باليد أو بالعصا أو نحوها ، ثم استعير للذي ينال بلسانه . قال القاضي منذر بن سعيد : وبعينه وإشارته . النميم والنميمة : مصدران لنمّ ، وهو نقل ما يسمع مما يسوء ويحرش النفوس . وقيل : النميم جمع نميمة ، يريدون به اسم الجنس . العتل ، قال الكلبي والفرّاء : الشديد الخصومة بالباطل . وقال معمر : هو الفاحش اللئيم . قال الشاعر : بعتلّ من الرّجال زنيم
غير ذي نجدة وغير كريم
وقيل : الذي يعتل الناس : أي يجرّهم إلى حبس أو عذاب ، ومنه : ) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ ). قال ابن السكيت : عتلته وعتنته باللام والنون . الزنيم : الدعي . قال حسان : زنيم تداعاه الرّجال زيادة
كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وقال أيضاً :
وأنت زنيم نيط في آل هاشمكما نيط خلف الراكب القدح الفرد
والزنيم من الزنمة ، وهي الهنة من جلد الماعز ، تقطع فتخلى معلقة في حلقة ، سمي الدعي بذلك لأنه زيادة معلقة بغير أهله . وسمه : جعل له سمة ، وهي العلامة تدل على شيء . قال جرير : لما وضعت على الفرزدق ميسمي
وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
الخرطوم : الأنف ، والخرطوم من صفات الخمر ، قال الشاعر : قد أشهد الشرب فيهم مزهر زنم
والقوم تصرعهم صهباء خرطوم
قال الشمنتري : الخرطوم أول خروجها من الدّن ، ويقال لها الأنف أيضاً ، وذلك أصفى لها وأرق . وقال النضر بن شميل : الخرطوم : الخمر ، وأنشد للأعرج المغني : تظل يومك في لهو وفي لعب
وأنت بالليل شراب الخراطيم
الصرام : جداد النخل . الجرد : المنع ، من قولهم : حاردت الإبل إذا قلت ألبانها ، وحاردت السنة : قلّ مطرها وخيرها ، قاله أبو عبيد والقتبي ، والحرد : الغضب . قال أبو نضر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي : وهو مخفف ، وأنشد :

" صفحة رقم 301 "
إذا جياد الخيل جاءت تردي
مملوءة من غضب وحرد
وقال الأشهب بن رميلة : أسود شرى لاقت أسود خفية
تساقوا على حرد دماء الأساود
وقال ابن السكيت : وقد يحرك ، تقول : حرد بالكسر حرداً فهو حردان ، ومنه قيل : أسد حارد ، وليوث حوارد ، والحرد : الانفراد ، حرد يحرد حروداً : تنحى عن قومه ونزل منفرداً ولم يخالطهم ، وكوكب حرود : معتزل عن الكواكب . وقال الأصمعي : المنحرد : المنفرد في لغة هذيل . انتهى . والحرد : القصد ، حرد يحرد بالكسر : قصد ، ومنه حردت حردك : أي قصدت قصدك . ومنه قول الشاعر : وجاء سيل كان من أمر الله
يحرد حرد الجنة المغله
) ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَاهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).
هذه السورة مكية . قال ابن عطية : ولا خلاف فيها بين أحد من أهل التأويل . انتهى . ومعظمها نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل . ومناسبتها لما قبلها : أنه فيما قبلها ذكر أشياء من أحوال السعداء والأشقياء ، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع ، وأنه تعالى لو شاء لخسف بهم أو لأرسل عليهم حاصباً . وكان ما أخبر تعالى به هو ما تلقفه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالوحي ، وكان الكفار ينسبونه مرة إلى الشعر ، ومرة إلى السحر ، ومرة إلى الجنون ؛ فبدأ سبحانه وتعالى هذه السورة ببراءته مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون ، وتعظيم أجره على صبره على أذاهم ، وبالثناء على خلقه العظيم .
( ن ( : حرف من حروف المعجم ، نحو ص وق ، وهو غير معرب كبعض الحروف التي جاءت مع غيرها مهملة من العوامل والحكم على موضعها بالإعراب تخرص . وما يروى عن ابن عباس ومجاهد : أنه اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع . وعن ابن عباس أيضاً والحسن وقتادة والضحاك : أنه اسم الدواة . وعن معاوية بن قرة : يرفعه أنه لوح من نور . وعن ابن عباس أيضاً : أنه آخر حرف من حروف الرحمن . وعن جعفر الصادق : أنه نهر من أنهار الجنة ، لعله لا يصح شيء من ذلك . وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره : ن حرف من حروف المعجم ، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم ، فهو

" صفحة رقم 302 "
إذن حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور . انتهى . ومن قال إنه اسم الدواة أو الحوت وزعم أنه مقسم به كالقلم ، فإن كان علماً فينبغي أن يجر ، فإن كان مؤنثاً منع الصرف ، أو مذكراً صرف ، وإن كان جنساً أعرب ، ونون وليس فيه شيء من ذلك فضعف القول به . وقال ابن عطية : إذا كان اسماً للدواة ، فإما أن يكون لغة لبعض العرب ، أو لفظة أعجمية عربت ، قال الشاعر : إذا ما الشوق برّح بي إليهم
ألقت النون بالدمع السجوم
فمن جعله البهموت ، جعل القلم هو الذي خلقه الله وأمره بكتب الكائنات ، وجعل الضمير في ) يَسْطُرُونَ ( للملائكة . ومن قال : هو اسم ، جعله القلم المتعارف بأيدي الناس ؛ نص على ذلك ابن عباس وجعل الضمير في ) يَسْطُرُونَ ( للناس ، فجاء القسم على هذا المجموع أمر الكتاب الذي هو قوام للعلوم وأمور الدنيا والآخرة ، فإن القلم أخو اللسان ونعمة من الله عامة . انتهى . وقرأ الجمهور : ) ن ( بسكون النون وإدغامها في واو ) وَالْقَلَمِ ( بغنة وقوم بغير غنة ، وأظهرها حمزة وأبو عمرو وابن كثير وقالون وحفص . وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السمال : بكسر النون لالتقاء الساكنين ؛ وسعيد بن جبير وعيسى : بخلاف عنه بفتحها ، فاحتمل أن تكون حركة إعراب ، وهو اسم للسورة أقسم به وحذف حرف الجر ، فانتصب ومنع الصرف للعلمية والتأنيث ، ويكون ) وَالْقَلَمِ ( معطوفاً عليه . واحتمل أن يكون لالتقاء الساكنين ، وأوثر الفتح تخفيفاً كأين ، وما يحتمل أن تكون موصولة ومصدرية ، والضمير في ) يَسْطُرُونَ ( عائد على الكتاب لدلالة القلم عليهم ، فإما أن يراد بهم الحفظة ، وإما أن يراد كل كاتب . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه ، فيكون الضمير في ) يَسْطُرُونَ ( لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وتسطيرهم . انتهى . فيكون كقوله : ) كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ ( : أي وكذي ظلمات ، ولهذا عاد عليه الضمير في قوله : ) يَغْشَاهُ مَوْجٌ ).
وجواب القسم : ) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ ). ويظهر
القلم : ( 2 ) ما أنت بنعمة . . . . .
أن ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( قسم اعترض به بين المحكوم على ه والحكم على سبيل التوكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن عطية : ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( اعتراض ، كما تقول للإنسان : أنت بحمد الله فاضل . انتهى . ولم يبين ما تتعلق به الباء في ) بِنِعْمَتِ ). وقال الزمخشري : يتعلق ) بِمَجْنُونٍ ( منفياً ، كما يتعلق بعاقل مثبتاً في قولك : أنت بنعمة الله عاقل ، مستوياً في ذلك النفي والإثبات استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً ، وما ضرب زيد عمراً تعمل الفعل مثبتاً ومنفياً إعمالاً واحداً ، ومحله النصب على الحال ، كأنه قال : ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك ، ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي ، والمعنى : استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسداً ، وأنه من إنعام الله تعالى عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوة بمنزلة . انتهى .
وما ذهب إليه الزمخشري من أن ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( متعلق ) بِمَجْنُونٍ ( ، وأنه في موضع الحال ، يحتاج إلى تأمل ، وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به ، وذلك له معمول ، ففي ذلك طريقان : أحدهما : أن النفي يتسلط على ذلك المعمول فقط ، والآخر : أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك ، تقول : ما زيد قائم مسرعاً ، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه ، فيكون قد قام غير مسرع . والوجه الآخر أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه ، أي لا قيام فلا إسراع ، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري بوجه ، بل يؤدي إلى مالا يجوز أن ينطق به في حق المعصوم ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل معناه : ما أنت بمجنون والنعمة بربك لقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أي والحمد لله ، ومنه قول لبيد :

" صفحة رقم 303 "
وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي
وفارقني جار بأربد نافع
أي : وهو أربد . انتهى . وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب . وفي المنتخب ما ملخصه المعنى : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، أي حصول الصفة المحمودة ، وزال عنك الصفة المذمومة بواسطة إنعام ربك . ثم قرر بهذه الدعوى ما هو كالدليل القاطع على صحتها ، لأن نعمه كانت ظاهرة في حقه من كمال الفصاحة والعقل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة ، فحصول ذلك وظهوره جار مجرى اليقين في كونهم كاذبين في قولهم : إنه مجنون . ) وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً ( في احتمال طعنهم وفي دعاء الخلق إلى الله ، فلا يمنعك ما قالوا عن الدعاء إلى الله . ) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( : هذا كالتفسير لما تقدم من قوله : ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( ، وتعريف لمن رماه بالجنون أنه كذب وأخطأ ، وأن من كان بتلك الأخلاق المرضية لا يضاف الجنون إليه ، ولفظه يدل على الاستعلاء والاستيلاء . انتهى .
القلم : ( 3 ) وإن لك لأجرا . . . . .
( وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً ( : أي على ما تحملت من أثقال النبوة ومن أذاهم مما ينسبون إليك مما أنت لا تلتبس به من المعائب ، ( غَيْرُ مَمْنُونٍ ( : أي غير مقطوع ، مننت الحبل : قطعته ، وقال الشاعر :
عبس كواسب لا يمن طعامها
أي لا يقطع . وقال مجاهد : غير محسوب . وقال الحسن : غير مكدر بالمن . وقال الضحاك : بغير عمل . وقيل : غير مقدر ، وهو معنى قول مجاهد . وقال الزمخشري : أو غير ممنون عليك ، لأن ثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضل ابتداء ، وإنما تمن الفواصل لا الأجور على الأعمال . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .
القلم : ( 4 ) وإنك لعلى خلق . . . . .
( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( ، قال ابن عباس ومجاهد : دين عظيم ليس دين أحب إلى الله تعالى منه . وقالت عائشة : إن خلقه كان القرآن . وقال علي : هو أدب القرآن . وقال قتادة : ما كان يأتمر به من أمر الله تعالى . وقيل : سمي عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ، من كرم السجية ، ونزاهة القريحة ، والملكة الجميلة ، وجودة الضرائب ؛ ما دعاه أحد إلا قال لبيك ، وقال : ( إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق ) ، ووصى أبا ذر فقال : ( وخالق الناس بخلق حسن ) . وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن ) . وقال : ( أحبكم إلى الله تعالى أحسنكم أخلاقاً ) .
القلم : ( 5 - 6 ) فستبصر ويبصرون
والظاهر تعلق ) بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ( بما قبله . وقال عثمان المازني : تم الكلام في قوله ) وَيُبْصِرُونَ ( ، ثم استأنف قوله : ) بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ). انتهى . فيكون قوله : ) بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ( استفهاماً يراد به الترداد بين أمرين ، ومعلوم نفي الحكم عن أحدهما ، ويعينه الوجود ، وهو المؤمن ، ليس بمفتون ولا به فتون . وإذا كان متعلقاً بما قبله ، وهو قول الجمهور ، فقال قتادة وأبو عبيدة معمر : الباء زائدة ، والمعنى : أيكم المفتون ؟ وزيدت الباء في المبتدأ ، كما زيدت فيه في قوله : بحسبك درهم ، أي حسبك . وقال الحسن والضحاك والأخفش : الباء ليست بزائدة ، والمفتون بمعنى الفتنة ، أي بأيكم هي الفتنة والفساد الذي سموه جنوناً ؟ وقال الأخفش أيضاً : بأيكم فتن المفتون ، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه . ففي قوله الأول جعل المفتون مصدراً ، وهنا أبقاه اسم مفعول وتأوله على حذف مضاف . وقال مجاهد والفراء : الباء بمعنى في ، أي في أيّ فريق منكم النوع المفتون ؟ انتهى . فالباء ظرفية ، نحو : زيد بالبصرة ، أي في البصرة ، فيظهر من هذا القول أن الباء في القول قبله ليست ظرفية ، بل هي سببية . وقال الزمخشري : المفتون : المجنون لأنه فتن ، أي محن بالجنون ، أو لأن العرب يزعمون أنه من تخييل الجن ، وهم الفتان للفتاك منهم . انتهى . وقرأ ابن أبي عبلة : في أيكم المفتون .
القلم : ( 7 ) إن ربك هو . . . . .
( إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ( : وعيد للضال ، وهم المجانين على الحقيقة ، حيث كانت لهم عقول لم ينتفعوا بها ، ولا استعملوها فيما جاءت به الرسل ، أو يكون أعلم كناية عن جزاء الفريقين . ) فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ ( : أي الذين كذبوا بما أنزل الله عليك من الوحي ، وهذا نهي عن طواعيتهم في شيء مما دعوه إليه من تعظيم آلهتهم .
القلم : ( 8 - 9 ) فلا تطع المكذبين
) وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ ( : لو هنا على رأي البصريين مصدرية بمعنى أن ، أي ودوا ادهانكم

" صفحة رقم 304 "
وتقدم الكلام في ذلك في قوله تعالى : ) يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ( ، ومذهب الجمهور أن معمول ود محذوف ، أي ودوا ادهانكم ، وحذف لدلالة ما بعده عليه ، ولو باقية على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف تقديره لسروا بذلك . وقال ابن عباس والضحاك وعطية والسدي : لو تدهن : لو تكفر ، فيتمادون على كفرهم . وعن ابن عباس أيضاً : لو ترخص لهم فيرخصون لك . وقال قتادة : لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك . وقال الحسن : لو تصانعهم في دينك فيصانعوك في دينهم . وقال زيد بن أسلم : لو تنافق وترائي فينافقونك ويراؤونك . وقال الربيع بن أنس : لو تكذب فيكذبون . وقال أبو جعفر : لو تضعف فيضعون . وقال الكلبي والفراء : لو تلين فيلينون . وقال أبان بن ثعلب : لو تحابي فيحابون ، وقالوا غير هذه الأقوال . وقال الفراء : الدهان : التليين . وقال المفضل : النفاق وترك المناصحة ، وهذا نقل أهل اللغة ، وما قالوه لا يخرج عن ذلك لأن ما خالف ذلك هو تفسير باللازم ، وفيدهنون عطف على تدهن . وقال الزمخشري : عدل به إلى طريق آخر ، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يدهنون كقوله : ) فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ ( ، بمعنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ ، أو ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك . انتهى . وجمهور المصاحف على إثبات النون . وقال هارون : إنه في بعض المصاحف فيدهنوا ، ولنصبه وجهان : أحدهما أنه جواب ودوا لتضمنه معنى ليت ؛ والثاني أنه على توهم أنه نطق بأن ، أي ودوا أن تدهن فيدهنوا ، فيكون عطفاً على التوهم ، ولا يجيء هذا الوجه إلا على قول من جعل لو مصدرية بمعنى أن .
القلم : ( 10 ) ولا تطع كل . . . . .
( وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ( : تقدّم تفسير مهين وما بعده في المفردات ، وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ، ونوسب فيها فجاء ) حَلاَّفٍ ( وبعده ) مُّهِينٌ ( ، لأن النون فيها مع الميم تواخ .
القلم : ( 11 ) هماز مشاء بنميم
ثم جاء : ) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ( بصفتي المبالغة ،
القلم : ( 12 ) مناع للخير معتد . . . . .
ثم جاء : ) مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( ، فمناع وأثيم صفتا مبالغة ، والظاهر أن الخير هنا يراد به العموم فيما يطلق عليه خير . وقيل : الخير هنا المال ، يريد مناع للمال عبر به عن الشح ، معناه : متجاوز الحد في الظلم .
القلم : ( 13 ) عتل بعد ذلك . . . . .
وفي حديث شداد بن أوس قلت : يعني لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وما العتل الزنيم ؟ قال : الرحيب الجوف ، الوتير الخلق ، الأكول الشروب ، الغشوم الظلوم . وقرأ الحسن : عتل برفع اللام ، والجمهور : بجرها بعد ذلك . وقال الزمخشري : جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه ، لأنه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية ، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشىء منها ، ومن ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده ) ، وبعد ذلك نظير ثم في قوله : ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ). وقرأ الحسن : عتل رفعاً على الذم ، وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك . انتهى . وقال ابن عطية : ) بَعْدَ ذَلِكَ ( : أي بعد أن وصفناه به ، فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف ، وإلا فكونه عتلاً هو قبل كونه صاحب خبر يمنعه . انتهى . والزنيم : الملصق في القوم وليس منهم ، قاله ابن عباس وغيره . وقيل : الزنيم : المريب القبيح الأفعال ، وعن ابن عباس أيضاً : الزنيم : الذي له زنمة في عنقه كزنمة الشاة ، وما كنا نعرف المشار إليه حتى نزلت فعرفناه بزنمته . انتهى . وروي أن الأخفش بن شريف كان بهذه الصفة ، كان له زنمة . وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرف بالشر ، كما تعرف الشاة بالزنمة . وعنه أيضاً : أنه المعروف بالابنة . وعنه أيضاً : أنه الظلوم . وعن عكرمة : هو اللئيم . وعن مجاهد وعكرمة وابن المسيب : أنه ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم ، وكان الوليد دعيا في قريش ليس من منحهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده . وقال مجاهد : كانت له ستة أصابع في يده ، في كل إبهام أصبع زائدة ، والذي يظهر أن هذه الأوصاف ليست لمعين . ألا ترى إلى قوله : ) كُلَّ حَلاَّفٍ ( ، وقوله : ) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ( ؟ فإنما وقع النهي عن طواعية من هو بهذه الصفات .
القلم : ( 14 - 15 ) أن كان ذا . . . . .
قال ابن عطية ما ملخصه ، قرأ النحويان والحرميان وحفص وأهل المدينة : ) إِن كَانَ ( على الخبر ؛ وباقي السبعة والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر : على الاستفهام ؛ وحقق الهمزتين حمزة ، وسهل الثانية باقيهم . فأما على الخبر ، فقال أبو علي

" صفحة رقم 305 "
الفارسي : يجوز أن يعمل فيها عتل وأن كان قد وصف . انتهى ، وهذا قول كوفي ، ولا يجوز ذلك عند البصريين . وقيل : ) زَنِيمٍ ( لا سيما على قول من فسره بالقبيح الأفعال . وقال الزمخشري : متعلق بقوله : ) وَلاَ تُطِعِ ( ، يعنى ولا تطعه مع هذه المثالب ، ( لاِنْ كَانَ ذَا مَالٍ ( : أي ليساره وحظه من الدنيا ، ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين ، كذب آياتنا ولا يعمل فيه ، قال الذي هو جواب إذا ، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب . انتهى . وأما على الاستفهام ، فيحتمل أن يفسر عامل يدل عليه ما قبله ، أي أيكون طواعية لأن كان ؟ وقدره الزمخشري : أتطيعه لأن كان ؟ أو عامل يدل عليه ما قبله ، أي أكذب أو جحد لأن كان ؟ وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه : إن كان بكسر الهمزة . قال الزمخشري : والشرط للمخاطب ، أي لا تطع كل حلاف شارطاً يساره ، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه ، فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ، ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الرجاء إليه في قوله : ) لَعَلَّهُ يُذْكَرِ ). انتهى . وأقوال : إن كان شرط ، وإذا تتلى شرط ، فهو مما اجتمع فيه شرطان ، وليسا من الشروط المترتبة الوقوع ، فالمتأخر لفظاً هو المتقدم ، والمتقدم لفظاً هو شرط في الثاني ، كقوله : فإن عثرت بعدها إن والت
نفسي من هاء تاء فقولا لها لها
لأن الحامل على ترك تدبر آيات الله كونه ذا مال وبنين ، فهو مشغول القلب ، فذلك غافل عن النظر والفكر ، قد استولت عليه الدنيا وأبطرته . وقرأ الحسن : أئذا على الاستفهام ، وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله القرآن أساطير الأولين لما تليت عليه آياته الله .
القلم : ( 16 ) سنسمه على الخرطوم
ولما ذكر قبائح أفعاله وأقواله ، ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد فقال : ) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ( ، والسمة : العلامة . ولما كان الوجه أشرف ما في الإنسان ، والأنف أكرم ما في الوجه لتقدمه ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية ، واشتقوا منه الأنفة وقالوا : حميّ الأنف شامخ العرنين . وقالوا في الذليل : جدع أنفه ، ورغم أنفه . وكان أيضاً مما تظهر السمات فيه لعلو ، قال : ) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ( ، وهو غاية الإذلال والإهانة والاستبلاد ، إذ صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف ، وإذا كان الوسم في الوجه شيناً ، فكيف به على أكرم عضو فيه ؟ وقد قيل : الجمال في الأنف ، وقال بعض الأدباء : وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل
فكيف إذا ما الخال كان له حليا
وسنسمه فعل مستقبل لم يتعين زمانه . وقال ابن عباس : هو الضرب بالسيف ، أي يضرب به وجهه وعلى أنفه ، فيجيء ذلك كالوسم على الانف ، وحل به ذلك يوم بدر . وقال المبرد : ذلك في عذاب الآخرة في جهنم ، وهو تعذيب بنار على أنوفهم . وقال آخرون : ذلك يوم القيامة ، أي نوسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره . وقال قتادة وغيره : معناه سنفعل به في الدنيا من الذم والمقت والاشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به ، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتاً بيناً ، كما تقول : سأطوقك طوق الحمامة : أي أثبت لك الأمر بيناً فيك ، ونحو هذا أراد جرير بقوله :
لما وضعت على الفرزدق ميسمي
وفي الوسم على الأنف تشويه ، فجاءت استعارته في المذمات بليغة جدّاً . قال ابن عطية : وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه ، وما ثبت لهم في الدنيا من سوء الأخروية ، رأيت أنهم قد وسموا على الخراطيم . انتهى . وقال أبو العالية ومقاتل ، واختاره الفراء : يسود وجهه قبل دخول النار ، وذكر الخرطوم ، والمراد الوجه ، لأن بعض الوجه يؤدي عن

" صفحة رقم 306 "
بعض . وقال أبو عبد الله الرازي : إنما بالغ الكافر في عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بسبب الأنفة والحمية ، فلما كان شاهد الإنكار هو الأنفة والحمية ، عبر عن هذا الاختصاص بقوله : ) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ). انتهى كلامه . وفي استعارة الخرطوم مكان الأنف استهانة واستخفاف ، لأن حقيقة الخرطوم هو للسباع . وتلخص من هذا أن قوله : ) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ( ، أهو حقيقة أم مجاز ؟ وإذا كان حقيقة ، فهل ذلك في الدنيا أو في الآخرة ؟ وأبعد النضر بن شميل في تفسيره الخرطوم بالخمر ، وأن معناه سنحده على شربها .
القلم : ( 17 ) إنا بلوناهم كما . . . . .
ولما ذكر المتصف بتلك الأوصاف الذميمة ، وهم كفار قريش ، أخبر تعالى بما حل بهم من الابتلاء بالقحط والجوع بدعوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) الحديث ، كما بلونا أصحاب الجنة المعروف خبرها عندهم . كانت بأرض اليمين بالقرب منهم قريباً من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله منها ، فمات فصارت إلى ولده ، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى ، فأهلكها الله تعالى من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بهم . وقيل : كانت بصوران على فراسخ من صنعاء لناس بعد رفع عيسى عليه السلام ، وكان صاحبها ينزل للمساكنين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكراس وما أخطاه القطاف من العنب وما بقي على السباط تحت النخلة إذا صرمت ، فكان يجتمع لهم شيء كثير . فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال ، فحلفوا ) لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ( في السدف خفية من المساكين ، ولم يستثنوا في يمينهم ؛ والكاف في ) كَمَا بَلَوْنَا ( في موضع نصب ، وما مصدرية . وقيل : بمعنى الذي ، وإذ معمول لبلوناهم ليصرمنها جواب القسم لا على منطوقهم ، إذ لو كان على منطوقهم لكان لنصرمنها بنون المتكلمين ، والمعنى : ليجدن ثمرها إذا دخلوا في الصباح قبل خروج المساكين إلى عادتهم مع أبيهم .
القلم : ( 18 ) ولا يستثنون
) وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ( : أي ولا ينثنون عن ما عزموا عليه من منع المساكين . وقال مجاهد : معناه : لا يقولون إن شاء الله ، بل عزموا على ذلك عزم من يملك أمره . وقال الزمخشري ، متبعاً قول مجاهد : ولا يقولون إن شاء الله . فإن قلت : لم سمي استثناء ، وإنما هو شرط ؟ قلت : لأنه يؤدي مؤدّى الاستثناء من حيث أن معنى قولك : لأخرجن إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد . انتهى .
القلم : ( 19 ) فطاف عليها طائف . . . . .
( فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ ( ، قرأ النخعي : طيف . قال الفراء : والطائف : الأمر الذي يأتي بالليل ، ورد عليه بقوله : ) إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ ( ، فلم يتخصص بالليل ، وطائف مبهم . فقيل : هو جبريل عليه السلام ، اقتلعها وطاف بها حول البيت ، ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم ، ولذلك سميت بالطائف ، وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها . وقال ابن عباس : طائف من أمر ربك . وقال قتادة : عذاب من ربك . وقال ابن جرير : عنق خرج من وادي جهنم .
القلم : ( 20 ) فأصبحت كالصريم
) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( ، قال ابن عباس : كالرماد الأسود ، والصريم : الرماد الأسود بلغة خزيمة ، وعنه أيضاً : الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت ، فشبه جنتهم بها . وقال الحسن : صرم عنها الخير ، أي قطع . فالصريم بمعنى مصروم . وقال الثوري : كالصبح من حيث ابيضت كالزرع المحصود . وقال مورج : كالرملة انصرمت من معظم الرمل ، والرملة لا تنبت شيئاً ينفع . وقال الأخفش : كالصبح انصرم من الليل . وقال المبرد : كالنهار فلا شيء فيها . وقال شمر : الصريم : الليل ، والصريم : النهار ، أي ينصرم هذا عن ذاك ، وذاك عن هذا . وقال الفراء والقاضي منذر بن سعيد وجماعة : الصريم : الليل من حيث اسودت جنتهم .
القلم : ( 21 ) فتنادوا مصبحين
) فَتَنَادَوْاْ ( : دعا بعضهم بعضاً إلى المضي إلى ميعادهم ،
القلم : ( 22 ) أن اغدوا على . . . . .
( أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ ). قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل ) اغْدُواْ إِلَى حَرْثِكُمْ ( ، وما معنى على ؟ قلت : لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدواً عليه ، كما تقول : غدا عليهم العدو . ويجوز أن يضمن الغد ومعنى الإقبال ، كقولهم : يغدي عليه بالجفنة ويراح ، أي فاقبلوا على حرثكم باكرين . انتهى . واستسلف الزمخشري أن غداً يتعدى بإلى ، ويحتاج ذلك إلى نقل بحيث يكثر ذلك فيصير أصلاً فيه ويتأول ما خالفه ، والذي في حفظي أنه معدى بعلى ، كقول الشاعر :

" صفحة رقم 307 "
بكرت عليه غدوة فرأيته
قعوداً عليه بالصريم عواذله
) إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ ( : الظاهر أنه من صرام النحل . قيل : ويحتمل أن يريد : إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم ، من قولك : سيف صارم .
القلم : ( 23 ) فانطلقوا وهم يتخافتون
) يَتَخَافَتُونَ ( : يخفون كلامهم خوفاً من أن يشعر بهم المساكين .
القلم : ( 24 ) أن لا يدخلنها . . . . .
( أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ( : أي يتخافتون بهذا الكلام وهو لا يدخلنها ، وأن مصدرية ، ويجوز أن تكون تفسيرية . وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة : لا يدخلنها ، بإسقاط أن على إضمار يقولون ، أو على إجراء يتخافتون مجرى القول ، إذ معناه : يسارون القول والنهي عن الدخول . نهى عن التمكين منه ، أي لا تمكنوهم من الدخول فيدخلوا .
القلم : ( 25 ) وغدوا على حرد . . . . .
( وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ( : أي على قصد وقدوة في أنفسهم ، يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم . قال معناه ابن عباس ، أي قاصدين إلى جنتهم بسرعة ، قادرين عند أنفسهم على صرامها . قال أبو عبيدة والقتبي : ) عَلَى حَرْدٍ ( : على منع ، أي قادرين في أنفسهم على منع المساكين من خيرها ، فجزاهم الله بأن منعهم خيراً . وقال الحسن : ) عَلَى حَرْدٍ ( ، أي حاجة وفاقة . وقال السدي وسفيان : ) عَلَى حَرْدٍ ( : على غضب ، أي لم يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهم على بعض . وقيل : ) عَلَى حَرْدٍ ( : على انفراد ، أي انفردوا دون المساكين . وقال الأزهري : حرد اسم قريتهم . وقال السدي : اسم جنتهم ، أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم ، أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام . قيل : ويحتمل أن يكون من التقدير بمعنى التضييق لقوله تعالى : ) وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( ، أي مضيقين على المساكين ، إذ حرموهم ما كان أبوهم ينيلهم منها .
القلم : ( 26 ) فلما رأوها قالوا . . . . .
( فَلَمَّا رَأَوْهَا ( : أي على الحالة التي كانوا غدوها عليها ، من هلاكها وذهاب ما فيها من الخير ، ( قَالُواْ إِنَّا لَضَالُّونَ ( : أي عن الطريق إليها ، قاله قتادة . وذلك في أول وصولهم أنكروا أنها هي ، واعتقدوا أنهم أخطأوا الطريق إليها ، ثم وضح لهم أنها هي ، وأنه أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها . وقيل : لضالون عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين ،
القلم : ( 27 ) بل نحن محرومون
فقالوا : ) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( خيرها بخيانتنا على أنفسنا .
القلم : ( 28 ) قال أوسطهم ألم . . . . .
( قَالَ أَوْسَطُهُمْ ( : أي أفضلهم وأرجحهم عقلاً ، ( أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ ( : أنبهم ووبخهم على تركهم ما حضهم عليه من تسبيح الله ، أي ذكره وتنزيهه عن السوء ، ولو ذكروا الله وإحسانه إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساة المساكين واقتفوا سنة أبيهم في ذلك . فلما غفلوا عن ذكر الله تعالى وعزموا على منع المساكين ، ابتلاهم الله ، وهذا يدل على أن أوسطهم كان قد تقدم إليهم وحرضهم على ذكر الله تعالى . وقال مجاهد وأبو صالح : كان استثناؤهم سبحان الله . قال النحاس : جعل مجاهد التسبيح موضع إن شاء الله ، لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته . وقال الزمخشري : لالتقائهما في معنى التعظيم لله ، لأن الاستثناء تفويض إليه ، والتسبيح تنزيه له ، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم له . وقيل : ) لَوْلاَ تُسَبّحُونَ ( : تستغفرون .
القلم : ( 29 ) قالوا سبحان ربنا . . . . .
ولما انبهم ، رجعوا إلى ذكر الله تعالى ، واعترفوا على أنفسهم بالظلم ، وبادروا إلى تسبح الله تعالى فقالوا : ) سُبْحَانَ رَبّنَا ). قال ابن عباس : أي نستغفر الله من ذنبنا .
القلم : ( 30 ) فأقبل بعضهم على . . . . .
ولما أقروا بظلمهم ، لام بعضهم بعضاً ، وجعل اللوم في حيز غيره ، إذ كان منهم من زين ، ومنهم من قبل ، ومنهم من أمر بالكف ، ومنهم من عصى الأمر . ومنهم من سكت على رضا منه .
القلم : ( 31 ) قالوا يا ويلنا . . . . .
ثم اعترفوا بأنهم طغوا ، وترجوا انتظار الفرج في أن يبدلهم خيراً من تلك الجنة ،
القلم : ( 32 ) عسى ربنا أن . . . . .
( عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا ( : أي بهذه الجنة ، ( خَيْرٌ مّنْهَا ( : وتقدم الكلام في الكهف ، والخلاف في تخفيف يبدلنا ، وتثقيلها منسوباً إلى القراء . ) إِنَّا إِلَى رَبّنَا راغِبُونَ ( : أي طالبون إيصال الخير إلينا منه . والظاهر أن أصحاب هذه الجنة كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا . وقيل : كانوا من أهل الكتاب . وقال عبد الله بن مسعود : بلغني أن القوم دعوا الله وأخلصوا ، وعلم الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة ، وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم . وعن مجاهد : تابوا فأبدوا خيراً منها . وقال القشيري : المعظم يقولون أنهم تابوا

" صفحة رقم 308 "
وأخلصوا . انتهى . وتوقف الحسن في كونهم مؤمنين وقال : أكان قولهم : ) إِنَّا إِلَى رَبّنَا راغِبُونَ ( إيماناً ، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة ؟ .
القلم : ( 33 ) كذلك العذاب ولعذاب . . . . .
( كَذَلِكَ الْعَذَابُ ( : هذا خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في أمر قريش . قال ابن عطية : والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة ، أي ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ ( : أي الذي نزل بقريش بغتة ، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا . وقال كثير من المفسرين : العذاب النازل بقريش الممائل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود . انتهى . وقال الزمخشري : مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا . ) وَلَعَذَابُ الاْخِرَةِ ( أشد وأعظم منه . انتهى . وتشبيه بلاء قريش ببلاء أصحاب الجنة هو أن أصحاب الجنة عزموا على الانتفاع بثمرها وحرمان المساكين ، فقلب الله تعالى عليهم وحرمهم . وأن قريشاً حين خرجوا إلى بدر حلفوا على قتل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه ، فإذا فعلوا ذلك رجعوا إلى مكة وطافوا بالكعبة وشربوا الخمور ، فقلب الله عليهم بأن قتلوا وأسروا . ولما عذبهم بذلك في الدنيا قال : ) وَلَعَذَابُ الاْخِرَةِ أَكْبَرُ ).
قوله عز وجل : ) إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذالِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ ).
القلم : ( 34 ) إن للمتقين عند . . . . .
لما ذكر تعالى أنه بلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة ، أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون ، فقال : ) إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ ( : أي الكفر ، ( جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( : أضافها إلى النعيم ، لأن النعيم لا يفارقها ، إذ ليس فيها إلا هو ، فلا يشوبه كدر كما يشوب جنات الدنيا .
القلم : ( 35 ) أفنجعل المسلمين كالمجرمين
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش : إن كان ثم جنة فلنا فيها أكثر الحظ ، فنزلت : ) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ). وقال مقاتل : قالوا فضلنا الله عليكم في الدنيا ، فهو يفضلنا عليكم في الآخرة ، وإلا فالمشاركة ، فأجاب تعالى : ) أَفَنَجْعَلُ ( : أي لا يتساوى المطيع والعاصي ، هو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ .
القلم : ( 36 ) ما لكم كيف . . . . .
ثم التفت إليهم فقال : ) مَا لَكُمْ ( ، أي : أي شيء لكم فيما تزعمون ؟ وهو استفهام إنكار عليهم . ثم قال : ) كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( ، وهو استفهام ثالث على سبيل الإنكار عليهم ، استفهم عن هيئة حكمهم . ففي قوله : ) مَا لَكُمْ ( استفهام عن كينونة مبهمة ، وفي ) كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( استفهام عن هيئة حكمهم .
القلم : ( 37 ) أم لكم كتاب . . . . .
ثم أضرب عن هذا إضراب انتقال لشيء آخر لا إبطال لما قبله فقال : ) أَمْ لَكُمْ ( ، أي : بل ألكم ؟ ) كِتَابٌ ( ، أي من عند الله ، ( تَدْرُسُونَ ( أن ما تختارونه يكون لكم .
القلم : ( 38 ) إن لكم فيه . . . . .
وقرأ الجمهور : ) إِنَّ لَكُمْ ( بكسر الهمزة ، فقيل هو استئناف قول على معنى : إن لكم كتاب فلكم فيه متخير . وقيل : أن معمولة لتدرسون ، أي تدرسون في الكتاب أن لكم ، ( لَمَا تَخَيَّرُونَ ( : أي تختارون من النعيم ، وكسرت الهمزة من أن لدخول اللام في الخبر ، وهي بمعنى أن بفتح الهمزة ، قاله الزمخشري وبدأ به وقال : ويجوز أن تكون حكاية للمدروس كما هو ، كقوله : ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ ). انتهى . وقرأ طلحة والضحاك : أن لكم بفتح الهمزة ، واللام في لما زائدة كهي في قراءة من قرأ الا أنهم ليأكلون الطعام بفتح همزة أنهم . وقرأ الأعرج : أإن لكم على الاستفهام .
القلم : ( 39 ) أم لكم أيمان . . . . .
( أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ ( : أي أقسام علينا ، ( بَالِغَةٌ ( : أي متناهية في التوكيد . يقال : لفلان عليّ يمين إذا حلفت له على الوفاء بما حلفت عليه ، وإلى يوم القيامة متعلق بما تعلق به الخبر وهو لكم ، أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة ، أو ببالغة : أي تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إلى ه . وقرأ الجمهور : ) بَالِغَةٌ ( بالرفع على الصفة ، والحسن وزيد بن علي : بالنصب على الحال من الضمير المستكن

" صفحة رقم 309 "
في علينا . وقال ابن عطية : حال من نكرة لأنها مخصصة تغليباً . ) إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ( : جواب القسم ، لأن معنى ) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا ( : أم أقسمنا لكم ، قاله الزمخشري . وقرأ الأعرج : أإن لكم عليّ ، كالتي قبلها على الاستفهام .
القلم : ( 40 ) سلهم أيهم بذلك . . . . .
( سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذالِكَ زَعِيمٌ ( : أي ضامن بما يقولونه ويدعون صحته ، وسل معلقة عن مطلوبها الثاني ، لما كان السؤال سبباً لحصول العلم جاز تعليقه كالعلم ، ومطلوبها الثاني أصله أن يعدى بعن أو بالباء ، كما قال تعالى : ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ( ، وقال الشاعر : فإن تسألوني بالنساء فإنني
عليم بأدواء النساء طبيب
ولو كان غير اسم استفهام لتعدى إليه بعن أو بالباء ، كما تقول : سل زيداً عن من ينظر في كذا ، ولكنه علق سلهم ، فالجملة في موضع نصب .
القلم : ( 41 ) أم لهم شركاء . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ ( ؛ وعبد الله وابن أبي عبلة : فليأتوا بشركهم ، قيل : والمراد في القراءتين الأصنام أو ناس يشاركونهم في قولهم ويوافقونهم فيه ، أي لا أحد يقول بقولهم ، كما أنه لا كتاب لهم ، ولا عهد من الله ، ولا زعيم بذلك ، ( فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ ( : هذا استدعاء وتوقيف . قيل : في الدنيا أي ليحضروهم حتى ترى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا . وقيل : في الآخرة ، على أن يأتوا بهم .
القلم : ( 42 - 43 ) يوم يكشف عن . . . . .
( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ( : وعلى هذا القول الناصب ليوم فليأتوا . وقيل : اذكر ، وقيل التقدير : يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت ، وحذف للتهويل العظيم بما يكون فيه من الحوادث ؛ والظاهر وقول الجمهور : إن هذا اليوم هو يوم القيامة . وقال أبو مسلم : هذا اليوم هو في الدنيا لأنه قال : ) وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ( ، ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف ، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه لقوله : ) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئِكَةَ لاَ بُشْرَى ( ، ثم يرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها ، فلا يستطيع الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع فيه نفساً إيمانها ؛ وإما حال المرض والهرم والمعجزة . ) وَقَدْ كَانُواْ ( قبل ذلك اليوم ، ( يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ( مما بهم الآن . فذلك إما لشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، وإما من العجز والهرم . وأجيب بأن الدعاء إلى السجود ليس على سبيل التكليف ، بل على سبيل التقريع والتخجيل . وعند ما يدعون إلى السجود ، سلبوا القدرة عليه ، وحيل بينهم وبين الاستطاعة حتى يزداد حزنهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه وهم سالمون الأطراف والمفاصل . وقرأ الجمهور : ) يُكْشَفُ ( بالياء مبنياً للمفعول . وقرأ عبد الله بن أبي عبلة : بفتح الياء مبنياً للفاعل ؛ وابن عباس وابن مسعود أيضاً وابن هرمز : بالنون ؛ وابن عباس : يكشف بفتح الياء منبياً للفاعل ؛ وعنه أيضاً بالياء مضمومة مبنياً للمفعول . وقرىء : يكشف بالياء المضمومة وكسر الشين ، من أكشف إذا دخل في الكشف ، ومنه أكشف الرجل : انقلبت شفته العليا ، وكشف الساق كناية عن شدة الأمر وتفاقمه . قال مجاهد : هي أول ساعة من يوم القيامة وهي أفظعها . ومما جاء في الحديث من قوله : ( فيكشف لهم عن ساق ) ، محمول أيضاً على الشدة في ذلك اليوم ، وهو مجاز شائع في لسان العرب . قال حاتم : أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها
وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقال الراجز : عجبت من نفسي ومن إشفاقها
ومن طرادي الخيل عن أرزاقها

" صفحة رقم 310 "
في سنة قد كشفت عن ساقها
حمراء تبري اللحم عن عراقها
وقال الراجز : قد شمرت عن ساقها فشدوا
وجدّت الحرب بكم فجدوا
وقال آخر : صبراً امام إن شرباق
وقامت الحرب بنا على ساق
وقال الشاعر : كشفت لهم عن ساقها
وبدا من الشر البوا
ويروى : الصداح . وقال ابن عباس : يوم يكشف عن شدة . وقال أبو عبيدة : هذه كلمة تستعمل في الشدة ، يقال : كشف عن ساقه إذا تشمر . قال : ومن هذا تقول العرب لسنة الجدب : كشفت ساقها ، ونكر ساق للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة ، خارج عن المألوف ، كقوله تعالى : ) يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَىْء نُّكُرٍ ( ، فكأنه قيل : يوم يقع أمر فظيع هائل . ) وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ( : ظاهره أنهم يدعون ، وتقدم أن ذلك على سبيل التوبيخ لا على سبيل التكليف . وقيل : الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين ، فيريدون هم السجود فلا يستطيعونه ، كما ورد في الحديث الذي حاورهم فيه الله تعالى أنهم يقولون : أنت ربنا ، ويخرون للسجود ، فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظماً واحداً ، فلا يستطيعون سجوداً . انتهى . ونفي الاستطاعة للسجود في الآخرة لا يدل على أن لهم استطاعة في الدنيا ، كما ذهب إليه الجبائي . و ) خَاشِعَةٌ ( : حال ، وذو الحال الضمير في ) يَدَّعُونَ ( ، وخص الأبصار بالخشوع ، وإن كانت الجوارح كلها خاشعة ، لأنه أبين فيه منه في كل جارحة ، ( تَرْهَقُهُمْ ( : تغشاهم ، ( ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ). قيل : هو عبارة عن جميع الطاعات ، وخص بالذكر من حيث هو أعظم الطاعات ، ومن حيث امتحنوا به في الآخرة . وقال النخعي والشعبي : أراد بالسجود : الصلوات المكتوبة . وقال ابن جبير : كانوا يسمعون النداء للصلاة وحي على الفلاح فلا يجيبون .
القلم : ( 44 - 45 ) فذرني ومن يكذب . . . . .
( فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ ( ، المعنى : خل بيني وبينه ، فإني سأجازيه وليس ثم مانع . وهذا وعيد شديد لمن يكذب بما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أمر الآخرة وغيره ، وكان تعالى قدم أشياء من أحوال السعداء والأشقياء . ومن في موضع نصب ، إما عطفاً على الضمير في ذرني ، وإما على أنه مفعول معه . ) سَنَسْتَدْرِجُهُم ( إلى قوله : ) مَتِينٌ ( : تكلم عليه في الأعراف .
القلم : ( 46 - 47 ) أم تسألهم أجرا . . . . .
( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً ( إلى : ) يَكْتُبُونَ ( : تكلم عليه في الطور .
القلم : ( 48 ) فاصبر لحكم ربك . . . . .
روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أراد أن يدعو على الذين انهزموا بأحُد حين اشتد بالمسلمين الأمر . وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف ، فنزلت : ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ ( : وهو إمهالهم وتأخير نصرك عليهم ، وامض لما أمرت به من التبليغ واحتمال الأذى ، ( وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( : هو يونس عليه السلام ، ( إِذْ نَادَى ( : أي في بطن الحوت ، وهو قوله : ) أَن لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ ( ، وليس النهي منصباً على الذوات ، إنما المعنى : لا يكن حالك مثل حاله . ) إِذْ نَادَى ( : فالعامل في إذ هو المحذوف المضاف ، أي كحال أو كقصة صاحب الحوت ، ( إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ( : مملوء

" صفحة رقم 311 "
غيظاً على قومه ، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان ، وأحوجوه إلى استعجال مفارقته إياهم . وقال ذو الرمة : وأنت من حب ميّ مضمر حزنا
عانى الفؤاد قريح القلب مكظوم
وتقدمت مادة كظم في قوله : ) وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ).
القلم : ( 49 ) لولا أن تداركه . . . . .
وقرأ الجمهور : ) تَدَارَكَهُ ( ماضياً ، ولم تلحقه علامة التأنيث لتحسين الفصل . وقرأ عبد الله وابن عباس : تداركته بتاء التأنيث ؛ وابن هرمز والحسن والأعمش : بشد الدال . قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك ، والأصل في ذلك تتداركه ، لأنه مستقبل انتصب بأن الخفيفة قبله . وقال بعض المتأخرين : هذا لا يجوز على حكاية الحال الماضية المقتضية ، أي لولا أن كان يقال تتداركه ، ومعناه : لولا هذه الحال الموجودة كانت له من نعم الله ) لَنُبِذَ بِالْعَرَاء ( ، ونحوه قوله : ) فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ ( ؛ وجواب ) لَوْلاَ ( قوله : ) لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ ( ، أي لكنه نبذه وهو غير مذموم ، كما قال : ) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء ( ، والمعتمد فيه على الحال لا على النبذ مطلقاً ، بل بقيد الحال . وقيل : لنبذ بعراء القيامة مذموماً ، ويدل عليه ) فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ).
القلم : ( 50 ) فاجتباه ربه فجعله . . . . .
ثم أخبر تعالى أنه ) اجْتَبَاهُ ( : أي اصطفاه ، ( وَنَبِيّا مّنَ الصَّالِحِينَ ( : أي الأنبياء . وعن ابن عباس : رد الله إليه الوحي وشفعة في قومه .
القلم : ( 51 ) وإن يكاد الذين . . . . .
ولما أمره تعالى بالصبر لما أراده تعالى ونهاه عن ما نهاه ، أخبره بشدة عداوتهم ليتلقى ذلك بالصبر فقال : ) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ ( : أي ليزلقون قومك بنظرهم الحاد الدال على العداوة المفرطة ، أو ليهلكونك من قولهم : نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني ، أي لو أمكنه بنظره الصرع والأكل لفعله . وقال الشاعر : يتعارضون إذا التقوا في موطن
نظراً يزل مواطن الأقدام
وقال الكلبي : ليزلقونك : ليصرفونك . وقرأ الجمهور : ) لَيُزْلِقُونَكَ ( بضم الياء من أزلق ؛ ونافع : بفتحها من زلقت الرجل ، عدى بالفتحة من زلق الرجل بالكسر ، نحو شترت عينه بالكسر ، وشترها الله بالفتح . وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى : ليزهقونك . وقيل : معنى ) لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ( : ليأخذونك بالعين ، وذكر أن اللفع بالعين كان في بني أسد . قال ابن الكلبي : كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ، ثم يرفع جانب خبائه فيقول : لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه ، فما تذهب إلا قليلاً ثم تسقط طائفة أو عدة منها . قال الكفار لهذا الرجل أن يصيب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأجابهم ، وأنشد : قد كان قومك يحسبونك سيدا
وأخال أنك سيد معيون
أي : مصاب بالعين ، فعصم الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأنزل عليه هذه الآية . قال قتادة : نزلت لدفع العين حين أرادوا أن يعينوه عليه الصلاة والسلام . وقال الحسن : دواء من أصابته العين أن يقرأ هذه الآية . وقال القشيري : الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان ، لا مع الكراهة والبغض ، وقال : ) وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ). وقال القرطبي : ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة له حتى يهلك . انتهى . وقد يكون في المعين ، وإن كان مبغضاً عند العائن صفة يستحسنها العائن ، فيعينه من تلك الصفة ، لا سيما من تكون فيه صفات كمال . ) لَمَّا سَمِعُواْ الذِكْرَ ( : من يقول لما ظرف يكون العامل فيه ) لَيُزْلِقُونَكَ ( ، وإن

" صفحة رقم 312 "
كان حرف وجوب لوجوب ، وهو الصحيح ، كان الجواب محذوفاً لدلالة ما قبله عليه ، أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك ، والذكر : القرآن . ) وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ( تنفيراً عنه ، وقد علموا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أتمهم فضلاً وأرجحهم عقلاً .
القلم : ( 52 ) وما هو إلا . . . . .
( وَمَا هُوَ ( : أي القرآن ، ( إِلاَّ ذِكْرٌ ( : عظة وعبرة ، ( لّلْعَالَمِينَ ( : أي للجن والإنس ، فكيف ينسبون إلى الجن من جاء به ؟ .

" صفحة رقم 313 "
69
( سورة الحاقة )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الاٌّ رْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى الاٌّ يَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاٌّ قَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( )

" صفحة رقم 314 "
الحاقة : ( 1 ) الحاقة
الحسوم ، قال الفراء : من حسم الداء ، أي تابع بالمكواة عليه ، قال الشاعر : ففرق بين جمعهم زمان
تتابع فيه أعوام حسوم
وقال المبرد : حسمت الشيء : فصلته عن غيره ، ومنه الحسام . قال الشاعر : فأرسلت ريحاً دبوراً عقيما
فدارت عليهم فكانت حسوماً
وقال الليث : الحسوم : الشؤم ، يقال : هذه ليالي الحسوم : أي تحسم الخير عن أهلها ، وقاله في الصحاح . صرعي : هلكى ، الواحد صريع ، وهي الشيء ضعف وتداعي للسقوط . قال ابن شجرة : من قولهم وهي السقاء إذا انخرق ، ومن أمثالهم قول الراجز : خل سبيل من وهي سقاؤه
ومن هريق بالفلاة ماؤه
الأرجاء : الجوانب ، واحدها رجا ، أي جانب من حائط أو بئر ونحوه ، وهو من ذوات الواو ، ولذلك برزت في التثنية . قال الشاعر : كأن لم ترا قبلي أسيراً مقيدا
ولا رجلاً يرمي به الرجوان
وقال الآخر : فلا يرمي به الرجوان إني
أقل اليوم من يغني مكاني
هاء بمعنى خذ ، فيها لغات ذكرناها في شرح التسهيل . وقال الكسائي وابن السكيت : العرب تقول : هاء يا رجل ، وللاثنين رجلين أو امرأتين : هاؤما ، وللرجل هاؤم ، وللمرأء هاء بهمزة مكسورة من غير ياء ، وللنساء هاؤن . قيل : ومعنى هاؤم : خذوا ، ومنه الخبر في الربا الإهاء وهاء : أي يقول كل واحد لصاحبه خذ . وقيل : تعالوا ، وزعم القتبي أن الهمزة بدل من الكاف ، وهذا ضعيف إلا إن كان عنى أنها تحل محلها في لغة من قال : هاك وهاك وهاكما وهاكم وهاكن ، فيمكن أنه بدل صناعي ، لأن الكاف لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها . وقيل : هاؤم كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط . وفي الحديث ، أنه عليه الصلاة والسلام ناداه أعرابي بصوت عال ، فجاوبه عليه الصلاة والسلام : ( هاؤم ) ، بصولة صوته . وزعم قوم أنها مركبة في الأصل ، والأصل هاء أموا ، ثم نقله التخفيف والاستعمال . وزعم قوم أن هذه الميم ضمير جماعة الذكور . القطوف جمع قطف : وهو ما يجتنى من الثمر ويقطف . السلسلة معروفة ، وهي حلق يدخل في حلق على سبيل الطول . الذراع مؤنث ، وهو معروف ، وقال الشاعر : أرمي عليها وهي فرع أجمع
وهي ثلاث أذرع وأصبع

" صفحة رقم 315 "
حض على الشيء : حمل على فعله بتوكيد . الغسلين ، قال اللغويون : ما يجري من الجراح إذا غسلت . الوتين : عرق يتعلق به القلب ، إذا انقطع مات صاحبه . وقال الكلبي : عرق بين العلباء والحلقوم ، والعلباء : عصب العنق ، وهما علباوان بينهما العرق . وقيل : عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر ، ومنه قول الشماخ : إذا بلغتني وحملت رحلي
عرابة فاشرقي بدم الوتين
) الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ واعِيَةٌ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر شيئاً من أحوال السعداء والأشقياء ، وقال : ) ذَرْنِى وَمَنْ يُكَذّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ ( ، ذكر حديث القيامة وما أعد الله تعالى لأهل السعادة وأهل الشقاوة ، وأدرج بينهما شيئاً من أحوال الذين كذبوا الرسل ، كعاد وثمود وفرعون ، ليزدجر بذكرهم وما جرى عليهم الكفار الذين عاصروا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكانت العرب عالمة بهلاك عاد وثمود وفرعون ، فقص عليهم ذلك .
( الْحَاقَّةُ ( : المراد بها القيامة والبعث ، قاله ابن عباس وغيره ، لأنها حقت لكل عامل عمله . وقال ابن عباس وغيره : لأنها تبدي حقائق الأشياء . وقيل : سميت بذلك لأن الأمر يحق فيها ، فهي من باب ليل نائم . والحاقة اسم فاعل من حق الشيء إذا ثبت ولم يشك في صحته . وقال الأزهري : حاققته فحققته أحقه : أي غالبته فغلبته . فالقيامة حاقة لأنها تحقق كل محاق في دين الله بالباطل ، أي كل مخاصم فتغلبه . وقيل : الحاقة مصدر كالعاقبة والعافية ، والحاقة مبتدأ ،
الحاقة : ( 2 ) ما الحاقة
وما مبتدأ ثان ، والحاقة خبره ، والجملة خبر عن الحاقة ، والرابط تكرار المبتدأ بلفظه نحو : زيد ما زيد ،
الحاقة : ( 3 ) وما أدراك ما . . . . .
وما استفهام لا يراد حقيقته بل التعظيم ، وأكثر ما يربط بتكرار المبتدأ إذا أريد ، يعني التعظيم والتهويل . ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ( : مبالغة في التهويل ، والمعنى أن فيها ما لم يدر ولم يحط به وصف من أمورها الشاقة وتفصيل أوصافها . وما استفهام أيضاً مبتدأ ، ( وأدراك ( الخبر ، والعائد على ما ضمير الرفع في ) وَمَا أَدْرَاكَ ( ، وما مبتدأ ، والحاقة خبر ، والجملة في موضع نصب بأدراك ، وأدراك معلقة . وأصل درى أن يعدى بالباء ، وقد تحذف على قلة ، فإذا دخلت همزة النقل تعدى إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر ، فقوله : ) مَا الْحَاقَّةُ ( بعد أدراك في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر .
والقارعة من أسماء القيامة ، لأنها تقرع القلوب بصدمتها . وقال الزمخشري : تقرع الناس بالأقراع والأهوال ، والسماء بالانشقاق والانفطار ، والأرض والجبال بالدك والنسف ، والنجوم بالطمس والانكدار ؛ فوضع الضمير ليدل على معنى القرع في الحاقة زيادة في وصف شدّتها .
الحاقة : ( 4 ) كذبت ثمود وعاد . . . . .
ولما ذكرها وفخمها ، أتبع ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب ، تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم . انتهى .
الحاقة : ( 5 - 6 ) فأما ثمود فأهلكوا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) فَأُهْلِكُواْ ( : رباعياً مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن عليّ : فهلكوا مبنياً للفاعل . قال قتادة : بالطاغية : بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة . وقال مجاهد وابن زيد : بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها . وقال ابن عباس وابن زيد أيضاً وأبو عبيدة ما معناه : الطاغية مصدر كالعاقبة ، فكأنه قال : بطغيانهم ، ويدل عليه

" صفحة رقم 316 "
) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ). وقيل : الطاغية : عاقر الناقة ، والهاء فيه للمبالغة ، كرجل راوية ، وأهلكوا كلهم لرضاهم بفعله . وقيل : بسبب الفئة الطاغية . واختار الطبري وغيره أن الطاغية هي الصيحة ، وترجيح ذلك مقابله سبب الهلاك في ثمود بسبب الهلاك في عاد ، وهو قوله : ) بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ( ، وتقدّم القول في ) صَرْصَرٍ ( في سورة القمر ، ( عَاتِيَةٍ ( : عتت على خزانها فخرجت بغير مقدار ، أو على عاد فما قدروا على أن يتستروا منها ، أو وصفت بذلك استعارة لشدّة عصفها ،
الحاقة : ( 7 ) سخرها عليهم سبع . . . . .
والتسخير هو استعمال الشيء باقتدار عليه . فمعنى ) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ ( : أي أقامها وأدامها ، ( سَبْعَ لَيَالٍ ( : بدت عليهم صبح الأربعاء لثمان بقين من شوّال إلى آخر الأربعاء تمام الشهر ، ( حُسُوماً ( ، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأبو عبيدة : تباعاً لم يتخللها انقطاع . وقال الخليل : شؤماً ونحساً . وقال ابن زيد : ) حُسُوماً ( جمع حاسم ، أي تلك الأيام قطعتهم بالإهلاك ، ومنه حسم العلل والحسام . وقال الزمخشري : وإن كان مصدراً ، فإما أن ينتصب بفعل مضمر ، أي تحسم حسوماً بمعنى تستأصل استئصالاً ، أو تكون صفة ، كقولك : ذات حسوم ، أو تكون مفعولاً له ، أي سخرها عليهم للاستئصال . وقرأ السدّي : حسوماً بالفتح : حالاً من الريح ، أي سخرها عليهم مستأصلة . وقيل : هي أيام العجز ، وهي آخر الشتاء . وأسماؤها : الصين والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومصفى الجمر . وقيل : مكفى الطعن .
( فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا ( : أي في الليالي والأيام ، أو في ديارهم ، أو في مهاب الريح ؛ احتمالات أظهرها الأول لأنه أقرب ومصرح به . وقرأ أبو نهيك : أعجز ، على وزن أفعل ، كضبع وأضبع . وحكى الأخفش أنه قرىء : نخيل خاوية خلت أعجازها بلى وفساداً . وقال ابن شجرة : كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحسو من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية . وقال يحيى بن سلام : خلت أبدانهم من أرواحهم . وقال ابن جريج : كانوا في سبعة أيام في عذاب ، ثم في الثامن ماتوا وألقتهم الريح في البحر ،
الحاقة : ( 8 ) فهل ترى لهم . . . . .
فذلك قوله : ) فَهَلْ تَرَى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ ). وقال ابن الأنباري : ) مّن بَاقِيَةٍ ( : أي من باق ، والهاء للمبالغة . وقال أيضاً : من فئة باقية . وقيل : ) مّن بَاقِيَةٍ ( : من بقاء مصدر جاء على فاعلة كالعاقبة . وقرأ أبو رجاء وطلحة والجحدري والحسن بخلاف عنه ؛
الحاقة : ( 9 ) وجاء فرعون ومن . . . . .
وعاصم في رواية أبان ، والنحويان : ومن قبله ، بكسر القاف وفتح الباء : أي أجناده وأهل طاعته ، وتقول : زيد قبلك : أي فيما يليك من المكان . وكثر استعمال قبلك حتى صار بمنزلة عندك وفي جهتك وما يليك بأي وجه ولي . وقرأ باقي السبعة وأبو جعفر وشيبة والسلمي : ) وَمِن قَبْلِهِ ( ، ظرف زمان : أي الأمم الكافرة التي كانت قبله ، كقوم نوح ، وقد أشار إلى شيء من حديثه بعد هذا . ) وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ( : قرى قوم لوط . وقرأ الحسن هنا : والمؤتفكة على الإفراد ، ( بِالْخَاطِئَةِ ( : أي بالفعلة أو الفعلات الخاطئة ، قاله مجاهد ؛ أو بالخطأ ، فيكون مصدراً جاء على فاعلة كالعاقبة ، قاله الجرجاني .
الحاقة : ( 10 ) فعصوا رسول ربهم . . . . .
( فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ ( : رسول جنس ، وهو من جاءهم من عند الله تعالى ، كموسى ولوط عليهما السلام . وقيل : لوط عليه السلام ، أعاده على أقرب مذكور ، وهو رسول المؤتفكات . وقال الكلبي : موسى عليه السلام ، أعاده على الأسبق وهو رسول فرعون . وقيل : رسول بمعنى رسالة ، ( رَّابِيَةً ( : أي نامية . قال مجاهد : شديدة ، يريد أنها زادت على غيرها من الأخذات ، وهي الغرق وقلب المدائن .
الحاقة : ( 11 ) إنا لما طغى . . . . .
( أنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء ( : أي زاد وعلا على أعلى جبل في الدنيا خمس عشرة ذراعاً . قال ابن جبير : طغى على الخزان ، كما طغت الريح على خزانها ، ( حَمَلْنَاكُمْ ( : أي في أصلاب آبائكم ، ( فِى الْجَارِيَةِ ( : هي سفينة نوح عليه السلام ، وكثر استعمال الجارية في السفينة ، ومنه قوله تعالى : ) وَمِنْ ءايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ ( ، وقال الشاعر :
تسعون جارية في بطن جارية
وقال المهدوي : المعنى في السفن الجارية يعني أن ذلك هو على سبيل الامتنان ، والمحمولون هم المخاطبون .

" صفحة رقم 317 "
الحاقة : ( 12 ) لنجعلها لكم تذكرة . . . . .
( لِنَجْعَلَهَا ( : أي سفينة نوح عليه السلام ، ( لَكُمْ تَذْكِرَةً ( بما جرى لقومه الهالكين وقومه الناجين فيها وعظة . قال قتادة : أدركها أوائل هذه الأمة . وقال ابن جريج : كانت ألواحها على الجودي . وقيل : لنجعل تلك الجملة في سفينة نوح عليه السلام لكم موعظة تذكرون بها نجاة آبائكم وإغراق مكذبي نوح عليه السلام ، ( وَتَعِيَهَا ( : أي تحفظ قصتها ، ( أَذِنَ ( من شأنها أن تعي المواعظ ، يقال : وعيت لما حفظ في النفس ، وأوعيت لما حفظ في غير النفس من الأوعية . وقال قتادة : الواعية هي التي عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت من كتاب الله ؛ وفي الحديث ، أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال لعلي : ( إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي ) . قال علي رضي الله تعالى عنه : فما سمعت بعد ذلك شيئاً فنسيته ، وقرأها : وتعيها ، بكسر العين وتخفيف الياء العامة ؛ وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة عنه ؛ وقنبل بخلاف عنه : بإسكانها ؛ وحمزة : بإخفاء الحركة ، ووجه الإسكان التشبيه في الفعل بما كان على وزن فعل في الاسم والفعل . نحو : كبد وعلم . وتعي ليس على وزن فعل ، بل هو مضارع وعي ، فصار إلى فعل وأصله حذفت واوه . وروي عن عاصم عصمة وحمزة الأزرق : وتعيها بتشديد الياء ، قيل : وهو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شدة بيان الياء إحترازاً ممن سكنها ، لا إدغام حرف في حرف ، ولا ينبغي أن يجعل ذلك من باب التضعيف في الوقف ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وإن كان قد ذهب إلى ذلك بعضهم . وروي عن حمزة وعن موسى بن عبد الله العنسي : وتعيها بإسكان الياء ، فاحتمل الاستئناف وهو الظاهر ، واحتمل أن يكون مثل قراءة من أوسط ما تطعمون أهاليكم بسكون الياء . وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل ) أُذُنٌ واعِيَةٌ ( على التوحيد والتنكير ؟ قلت : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله تعالى فهي السواد الأعظم عند الله تعالى ، وأن ما سواها لا يبالي بالة وإن ملأوا ما بين الخافقين . انتهى ، وفيه تكثير .
الحاقة : ( 13 ) فإذا نفخ في . . . . .
ولما ذكر تعالى ما فعل بمكذبي الرسل من العذاب في الدنيا ، ذكر أمر الآخرة وما يعرض فيها لأهل السعادة وأهل الشقاوة ، وبدأ بإعلام يوم القيامة فقال : ) فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ( ، وهذه النفخة نفخة الفزع . قال ابن عباس : وهي النفخة الأولى التي حصل عنها خراب العالم ، ويؤيد ذلك قوله : ) وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ ). وقال ابن المسيب ومقاتل : هي النفخة الآخرة ، وعلى هذا لا يكون الدك بعد النفخ ، والواو لا ترتب . وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً ، ولما كانت مرة أكدت بقوله : ) واحِدَةٌ ). وقرأ الجمهور : نفخة واحدة ، برفعهما ، ولم تلحق التاء نفخ ، لأن تأنيث النفخة مجازى ووقع الفصل . وقال ابن عطية : لما نعت صح رفعه . انتهى . ولو لم ينعت لصح ، لأن نفخة مصدر محدود ونعته ليس بنعت تخصيص ، إنما هو نعت توكيد . وقرأ أبو السمال : بنصبهما ، أقام الجار والمجرور مقام الفاعل .
الحاقة : ( 14 ) وحملت الأرض والجبال . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَحُمِلَتِ ( بتخفيف الميم ؛ وابن أبي عبلة وابن مقسم والأعمش وابن عامر في رواية يحيى : بتشديدها ، فالتخفيف على أن تكون ) الاْرْضُ وَالْجِبَالُ ( حملتها الريح العاصف أو الملائكة أو القدرة من غير واسطة مخلوق . ويبعد قوله من قال : إنها الزلزلة ، لأن الزلزلة ليس فيها حمل ، إنما هي اضطراب . والتشديد على أن تكون للتكثير ، أو يكون التضعيف للنقل ، فجاز أن تكون ) الاْرْضُ وَالْجِبَالُ ( المفعول الأول أقيم مقام الفاعل ، والثاني محذوف ، أي ريحاً تفتتها أو ملائكة أو قدرة . وجاز أن يكون الثاني أقيم مقام الفاعل ، والأول محذوف ، وهو واحد من الثلاثة المقدرة . وثني الضمير في ) فَدُكَّتَا ( ، وإن كان قد تقدمه ما يعود عليه ضمير الجمع ، لأن المراد جملة الأرض وجملة الجبال ، أي ضرب بعضها ببعض حتى تفتتت ، وترجع كما قال تعالى : ) كَثِيباً مَّهِيلاً ). والدك فيه تفرق الأجزاء لقوله : ) هَبَاء ( ، والدق فيه اختلاف الأجزاء . وقيل : تبسط فتصير أرضاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، وهو من قولهم : بعير أدك وناقة دكاء إذا ضعفا ، فلم يرتفع سنامهما واستوت عراجينهما مع ظهريهما .
الحاقة : ( 15 ) فيومئذ وقعت الواقعة
) فَيَوْمَئِذٍ ( معطوف على ) فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ ( ، وهو منصوب بوقعت ، كما أن إذا منصوب بنفخ على ما اخترناه وقررناه واستدللنا له في أن العامل في إذا هو الفعل الذي يليهما لا الجواب ، وإن كان مخالفا

" صفحة رقم 318 "
لقول الجمهور . والتنوين في إذ للعوض من الجملة المحذوفة ، وهي في التقدير : فيوم إذ نفخ في الصور وجرى كيت وكيت ، والواقعة هي القيامة ، وقد تقدم في ) إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( أن بعضهم قال : هي صخرة بيت المقدس .
الحاقة : ( 16 ) وانشقت السماء فهي . . . . .
( وَانشَقَّتِ السَّمَاء ( : أي انفطرت وتميز بعضها من بعض ، ( فَهِىَ يَوْمَئِذٍ إِذْ ( انشقت ، ( وَاهِيَةٌ ( : ضعيفة لتشققها بعد أن كانت شديدة ، ( أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ( ، أو منخرقة ، كما يقال : وهي السقاء انخرق . وقيل انشقاقها لنزول الملائكة ، قال تعالى : ) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً ). وقيل : انشقاقها لهول يوم القيامة .
الحاقة : ( 17 ) والملك على أرجائها . . . . .
( وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ( ، قال ابن عباس : على حافاتها حين تنشق ، والظاهر أن الضمير في حافاتها عائد على السماء . وقال ابن جبير والضحاك : على حافات الأرض ، ينزلون إليها يحفظون أطرافها ، وإن لم يجر لها ذكر قريب . كما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة سماء الدنيا فيقفون صفاً على حافات الأرض ، ثم ملائكة الثانية فيصفون حولهم ، ثم ملائكة كل سماء ، فكلما ندّ أحد من الجن والإنس وجد الأرض أحيط بها . ) وَالْمَلَكُ ( : اسم جنس يراد به الملائكة . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين قولك : ) وَالْمَلَكُ ( ، وبين أن يقال : والملائكة ؟ قلت : الملك أعم من الملائكة . ألا ترى أن قولك : ما من ملك إلا وهو شاهد ، أعم من قولك : ما من ملائكة ؟ انتهى . ولا يظهر أن الملك أعم من الملائكة ، لأن المفرد المحلى بالألف واللام الجنسية قصاراه أن يراد به الجمع المحلى بهما ، ولذلك صح الاستثناء منه ، فقصاراه أن يكون كالجمع المحلى بهما . وأما دعواه أنه أعم منه بقوله : ألا ترى الخ ، فليس دليلاً على دعواه ، لأن من ملك نكرة مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها من المخلصة للاستغراق ، فشملت كل ملك فاندرج تحتها الجمع لوجود الفرد فيه فانتفى كل فرد فرد ، بخلاف من ملائكة ، فإن من دخلت على جمع منكر ، فعم كل جمع جمع من الملائكة ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كل فرد فرد من الملائكة . لو قلت : ما في الدار من رجال ، جاز أن يكون فيها واحد ، لأن النفي إنما انسحب على جمع ، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفرد .
والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه من فيكون أعم من جمع دخلت عليه من ، وإنما جيء به مفرداً لأنه أخف ، ولأن قوله : ) عَلَى أَرْجَائِهَا ( يدل على الجمع ، لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون على أرجائها في وقت واحد ، بل في أوقات . والمراد ، والله تعالى أعلم ، أن الملائكة على أرجائها ، لا أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات . وقال الزمخشري : يعني أنها تنشق ، وهي مسكن الملائكة ، فينضوون إلى أطرافها وما حولها من حافاتها . انتهى . والضمير في فوقهم عائد على الملك ضمير جمع على المعنى ، لأنه يراد به الجنس ، قال معناه الزمخشري . وقيل : يعود على الملائكة الحاملين ، أي فوق رؤوسهم . وقيل : على العالم كلهم . والظاهر أن التمييز المحذوف في قوله : ) ثَمَانِيَةٌ ( أملاك ، أي ثمانية أشخاص من الملائكة ؛ وعن الضحاك : ثمانية صفوف ؛ وعن الحسن ، الله أعلم كم هم ، أثمانية صفوف أم ثمانية أشخاص ؟ وذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالاً متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحاً .
الحاقة : ( 18 ) يومئذ تعرضون لا . . . . .
( يَوْمَئِذٍ ( : أي يوم إذٍ كان ما ذكر ، ( تُعْرَضُونَ ( : أي للحساب ، وتعرضون هو جواب قوله : ) فَإِذَا نُفِخَ ). فإن كانت النفخة هي الأولى ، فجاز ذلك لأنه اتسع في اليوم فجعل ظرفاً للنفخ ووقوع الواقعة وجميع الكائنات بعدها ؛ وإن كانت النفخة هي الثانية ، فلا يحتاج إلى اتساع لأن قوله : ) فَيَوْمَئِذٍ ( معطوف على فإذا ، و ) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ( بدل من ) فَيَوْمَئِذٍ ( ، وما بعد هذه الظروف واقع في يوم القيامة . والخطاب في ) تُعْرَضُونَ ( لجميع العالم المحاسبين . وعن عبد الله : رأى موسى في القيامة عرضتان فيهما معاذير وتوقيف وخصومات ، وثالثة تتطاير فيها الصحف للإيمان والشمائل . وقرأ الجمهور : ) لاَ تَخْفَى ( بتاء التأنيث ؛ وعلي وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وابن مقسم عن عاصم وابن سعدان : بالياء ، ( خَافِيَةٌ ( : سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا .
قوله عز وجل : ) فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الاْيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ

" صفحة رقم 319 "
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ ).
الحاقة : ( 19 ) فأما من أوتي . . . . .
أما : حرف تفصيل فصل بها ما وقع في يوم العرض . ويظهر أن من قضى عليه دخول النار من الموحدين ، أنه في يوم العرض يأخذ كتابه بيمينه مع الناجين من النار ، ويكون ذلك يأنس به مدة العذاب . وقيل : لا يأخذه حتى يخرج من النار ، وإيمانه أنيسه مدة العذاب . قيل : وهذا يظهر لأن من يسار به إلى النار كيف يقول : ) هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ( ؟ وهل هذا إلا استبشار وسرور ؟ فلا يناسب دخول النار . وهاؤم إن كان مدلولها خذ ، فهي متسلطة على كتابيه بغير واسطة ، وإن كان مدلولها تعالوا ، فهي متعدية إليه بواسطة إلى ، وكتابيه يطلبه هاؤم واقرؤا . فالبصريون يعملون اقرؤا ، والكوفيون يعملون هاؤم ، وفي ذلك دليل على جواز التنازع بين اسم الفعل والقسم . وقرأ الجمهور : ) كِتَابيَهْ ( ، و ) حِسَابِيَهْ ( في موضعيهما و ) مَالِيَهْ ( و ) سُلْطَانِيَهْ ( ، وفي القارعة : ) ماهيه ( بإثبات هاء السكت وقفاً ووصلاً لمراعاة خط المصحف . وقرأ ابن محيصن : بحذفها وصلاً ووقفاً وإسكان الياء ، وذلك كتابي وحسابي ومالي وسلطاني ، ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه في ) ماهيه ( في القارعة ؛ وابن أبي إسحاق والأعمش : بطرح الهاء فيهما في الوصل لا في الوقف ، وطرحهما حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف ، وفتح الياء فيهن . وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس كما قال ، بل ذلك منقول نقل التواتر فوجب قبوله .
الحاقة : ( 20 ) إني ظننت أني . . . . .
( إِنّى ظَنَنتُ ( : أي أيقنت ، ولو كان ظناً فيه تجويز لكان كفراً .
الحاقة : ( 21 ) فهو في عيشة . . . . .
( فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ( : ذات رضا . وقال أبو عبيدة والفراء : راضية مرضية كقوله : ) مِن مَّاء دَافِقٍ ( ، أي مدفوق .
الحاقة : ( 22 ) في جنة عالية
) فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( : أي مكاناً وقدراً .
الحاقة : ( 23 ) قطوفها دانية
) قُطُوفُهَا ( : أي ما يجني منها ، ( دَانِيَةٌ ( : أي قريبة التناول يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها .
الحاقة : ( 24 ) كلوا واشربوا هنيئا . . . . .
( كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( : أي يقال ، و ) هَنِيئَاً ( ، تقدم الكلام عليه في أول النساء . وقال الزمخشري : هنيئاً أكلاً وشرباً هنيئاً ، أو هنيتم هنيئاً على المصدر . انتهى فقوله : أكلاً وشرباً هنيئاً يظهر منه جعل هنيئاً صفة لمصدرين ، ولا يجوز ذلك إلا على تقدير الإضمار عند من يجيز ذلك ، أي أكلاً هنيئاً وشرباً هنيئاً . ) بِمَا أَسْلَفْتُمْ ( : أي قدمتم من العمل الصالح ، ( فِى الاْيَّامِ الْخَالِيَةِ ( : يعني أيام الدنيا . وقال مجاهد وابن جبير ووكيع وعبد العزيز بن رفيع : أيام الصوم ، أي بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى . والظاهر العموم في قوله : ) بِمَا أَسْلَفْتُمْ ( : أي من الأعمال الصالحة .
الحاقة : ( 25 - 26 ) وأما من أوتي . . . . .
( يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ( : لما رأى فيه قبائح أفعاله وما يصير أمره إليه ، تمنى أنه لم يعطه ، وتمنى أنه لم يدر حسابه ، فإنه انجلى عنه حسابه عن ما يسوءه فيه ، إذ كان عليه لا له .
الحاقة : ( 27 ) يا ليتها كانت . . . . .
( يا ليتها ( : أي الموتة التي متها في الدنيا ، ( حِسَابِيَهْ يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ( : أي القاطعة لأمري ، فلم أبعث ولم أعذب ؛ أو يا ليت الحالة التي انتهيت إليها الآن كانت الموتة التي منها في الدنيا ، حيث رأى أن حالته التي هو فيها أمر مما ذاقه من الموتة ، وكيف لا وأمره آل إلى عذاب لا ينقطع ؟
الحاقة : ( 28 ) ما أغنى عني . . . . .
( مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ ( : يجوز أمن يكون نفياً محضاً ، أخبر بذلك متأسفاً على ماله حيث لم ينفعه ؛ ويجوز أن يكون استفهاماً وبخ به نفسه وقررها عليه .
الحاقة : ( 29 ) هلك عني سلطانيه
) هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ ( : أي حجتي ، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي . وقال ابن زيد : يقول ذلك ملوك الدنيا . وكان عضد الدولة ابن نوية لما تسمى بملك الأملاك غلاب القدر لم يفلح وجن ، فكان لا ينطلق لسانه إلا بقوله : ) هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ ).
الحاقة : ( 30 ) خذوه فغلوه
) خُذُوهُ ( : أي يقال للزبانية ) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ( : أي اجعلوا في عنقه غلاًّ ،
الحاقة : ( 31 ) ثم الجحيم صلوه
) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ( ، قال الزمخشري : ثم لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى ، لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس . يقال : صلى النار وصلاه النار . انتهى ، وإنما قدره لا تصلوه إلا الجحيم ، لأنه يزعم أن تقديم المفعول يدل على الحصر . وقد تكلمنا معه في ذلك عند قوله : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( ، وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحذاق النحاة . وأما قوله : لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس ، فهذا قول ابن زيد وهو مرجوح ، والراجح قول ابن عباس ومن ذكر معه : أن السلطان هنا هو الحجة التي كان يحتج بها في الدنيا ، لأن من أوتي كتابه بشماله ليس مختصاً بالملوك ، بل هو عام في جميع أهل الشقاوة .
الحاقة : ( 32 ) ثم في سلسلة . . . . .
( ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا ( : أي قياسها ومقدار طولها ، ( سَبْعُونَ ذِرَاعاً ( : يجوز أن يراد ظاهره من العدد ، ويجوز أن يراد المبالغة في طولها

" صفحة رقم 320 "
وإن لم يبلغ هذا العدد . قال ابن عباس وابن جريج ومحمد بن المنكدر : بذراع الملك . وقال نوف البكالي وغيره : الذراع سبعون باعاً ، في كل باع كما بين مكة والكوفة ، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح . وقال الحسن : الله أعلم بأي ذراع هي . وقيل : بالذراع المعروف ، وإنما خاطبنا تعالى بما نعرفه ونحصله . وقال ابن عباس : لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص . ) فَاْسْلُكُوهُ ( : أي ادخلوه ، كقوله : ) فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ ( ، والظاهر أنه يدخله في السلسلة ، ولطولها تلتوي عليه من جميع جهاته فيبقى داخلاً فيها مضغوطاً حتى تعمه . وقيل : في الكلام قلب ، والسلسلة تدخل في فمه وتخرج من دبره ، فهي في الحقيقة التي تسلك فيه ، ولا ضرورة تدعو إلى إخراج الكلام عن ظاهره ، إلا إن دل الدليل الصحيح على خلافه . وقال الزمخشري : والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية ، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة ، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم . ومعنى ثم : الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية بالجحيم ، وما بينها وبين السلك في السلسلة ، لا على تراخي المدة . انتهى . وقد تقدم أن من مذهبه الحصر في تقديم المعمول ، وأما ثم فيمكن بقاؤها على موضوعها من المهلة الزمانية ، وأنه أولاً يؤخذ فيغل . ولما لم يعذب بالعجلة ، صارت له استراحة ، ثم جاء تصلية الجحيم ، فكان ذلك أبلغ في عذابه ، إذ جاءه ذلك وقد سكنت نفسه قليلاً ، ثم جاء سلكه بعد ذلك بعد كونه مغلولاً معذباً في النار ، لكنه كان له انتقال من مكان إلى مكان ، فيجد بذلك بعض تنفس . فلما سلك في السلسلة كان ذلك أشد ما عليه من العذاب ، حيث صار لا حراك له ولا انتقال ، وأنه يضيق عليه غاية ، فهذا يصح فيه أن تكون ثم على موضوعها من المهلة الزمانية .
الحاقة : ( 33 ) إنه كان لا . . . . .
( أنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ ( : بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره بالله ، وإنه تعليل مستأنف ، كأن قائلاً قال : لم يعذب هذا العذاب البليغ . وقيل : ) إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ ( ،
الحاقة : ( 34 ) ولا يحض على . . . . .
وعطف ) وَلاَ يَحُضُّ ( على ) لاَ يُؤْمِنُ ( داخل في العلة ، وذلك يدل على عظم ذنب من لا يحض على إطعام المسكين ، إذ جعل قرين الكفر ، وهذا حكم ترك الحض ، فكيف يكون ترك الإطعام ؟ والتقدير على إطعام طعام المسكين . وأضاف الطعام إلى المسكين من حيث لم ينسبه إليه ، إذ يستحق المسكين حقاً في مال الغني الموسر ولو بأدنى يسار ؛ وللعرب في مكارمهم وإيثارهم آثار عجيبة غريبة بحيث لا توجد في غيرهم ، وما أحسن ما قيل فيهم : على مكثريهم رزق من يعتريهم
وعند المقلين السماحة والبذل
وكان أبو الدرداء يحض امرأته على تكثير الرزق لأجل المساكين ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع نصفها الآخر ؟ وقيل : هو منع الكفار . وقولهم : ) أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ ( ، يعني أنه إذا نفي الحض انتفى الإطعام بجهة الأولى ، كما صرح به في قوله تعالى : ) لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ).
الحاقة : ( 35 ) فليس له اليوم . . . . .
( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ( : أي صديق ملاطف وادّ ، ( الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ). وقيل : قريب يدفع عنه .
الحاقة : ( 36 ) ولا طعام إلا . . . . .
( وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ( ، قال ابن عباس : هو صديد أهل النار . وقال قتادة وابن زيد : هو والزقوم أخبث شيء وأبشعه . وقال الضحاك والربيع : هو شجر يأكله أهل النار . وقيل : هو شيء يجري من أهل النار ، يدل على هذا قوله في الغاشية : ) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ( ، فهما شيء واحد أو متداخلان . قيل : ويجوز أن يكونا متباينين ، وأخبر بكل واحد منهما عن طائفة غير الطائفة التي الآخر طعامها ، وله خبر ليس . وقال المهدوي : ولا يصح أن يكون هاهنا ، ولم يبين ما المانع من ذلك . وتبعه القرطبي في ذلك وقال : لأن المعنى يصير ليس هاهنا طعام إلا من غسلين ، ولا يصح ذلك لأن ثم طعاماً غيره ، وهاهنا متعلق بما في له من معنى الفعل . انتهى . وإذا كان ثم غيره من الطعام ، وكان الأكل غير أكل آخر ، صح الحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين . وأما إن كان الضريع هو الغسلين ، كما قال بعضهم ، فلا تناقض ، إذ المحصور في الآيتين هو شيء واحد ، وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره ، وهو أنه إذا جعلنا الخبر هاهنا ، كان له واليوم متعلقين بما تعلق به الخبر ، وهو العامل في ههنا ، وهو عامل معنوي ، فلا يتقدم معموله عليه . فلو كان

" صفحة رقم 321 "
العامل لفظياً جاز ، كقوله تعالى : ) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( ، فله متعلق بكفواً وهو خبر ليكن .
الحاقة : ( 37 ) لا يأكله إلا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) الْخَاطِئُونَ ( ، اسم فاعل من خطىء ، وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمداً لذلك ، والمخطىء الذي يفعله غير متعمد . وقرأ الحسن والزهري والعتكي وطلحة في نقل : بياء مضمومة بدلاً من الهمزة . وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة ونافع : بخلاف عنه ، بضم الطاء دون همز ، فالظاهر اسم فاعل من خطىء كقراءة من همز . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله . انتهى . فيكون اسم فاعل من خطا يخطو ، كقوله تعالى : ) طَيّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ( ، ( وَمَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ( خطا إلى المعاصي .
قوله عز وجل : ) فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ).
الحاقة : ( 38 - 39 ) فلا أقسم بما . . . . .
تقدم الكلام في لا قبل القسم في قوله : ) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( ، وقراءة الحسن : لأقسم بجعلها لا ما دخلت على أقسم . وقيل : لا هنا نفي للقسم ، أي لا يحتاج في هذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك ، وعلى هذا فجوابه جواب القسم . قال مقاتل : سبب ذلك أن الوليد قال : إن محمداً ساحر ، وقال أبو جهل : شاعر ، وقال : كاهن . فردّ الله عليهم بقوله : ) فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ ( ، عام في جميع مخلوقاته . وقال عطاء : ما تبصرون من آثار القدرة ، وما لا تبصرون من أسرار القدرة . وقيل : ) وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ ( : الملائكة . وقيل : الأجساد والأرواح .
الحاقة : ( 40 ) إنه لقول رسول . . . . .
( إنَّهُ ( : أي إن القرآن ، ( لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( : هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) في قول الأكثرين ،
الحاقة : ( 41 - 42 ) وما هو بقول . . . . .
ويؤيده : ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ( وما بعده ، ونسب القول إليه لأنه هو مبلغه والعامل به . وقال ابن السائب ومقاتل وابن قتيبة : هو جبريل عليه السلام ، إذ هو الرسول عن الله .
ونفى تعالى أن يكون قول شاعر لمباينته لضروب الشعر ؛ ولا قول كاهن لأنه ورد بسبب الشياطين . وانتصب ) قَلِيلاً ( على أنه صفة لمصدر محذوف أو لزمان محذوف ، أي تؤمنون إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً . وكذا التقدير في : ) قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ( ، والقلة هو إقرارهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا الله . وقال ابن عطية : ونصب ) قَلِيلاً ( بفعل مضمر يدل عليه ) تُؤْمِنُونَ ( ، وما تحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة . ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، والمتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي ، لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئاً ، إذ كانوا يصدقون أن الخير والصلة والعفاف الذي كان يأمر به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو حق صواب . انتهى . أمّا قوله : ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه تؤمنون فلا يصح ، لأن ذلك الفعل الدال عليه ) تُؤْمِنُونَ ( إما أن تكون ما نافية أو مصدرية ، كما ذهب إليه . فإن كانت نافية ، فذلك الفعل المضمر الدال عليه تؤمنون المنفي بما يكون منفياً ، فيكون التقدير : ما تؤمنون قليلاً ما تؤمنون ، والفعل المنفي بما لا يجوز حذفه ولا حذف ما لا يجوز زيداً ما أضربه ، على تقدير ما أضرب زيداً ما أضربه ، وإن كانت مصدرية كانت ما في موضع رفع على الفاعلية بقليلاً ، أي قليلاً إيمانكم ، ويبقى قلى لاً لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له ؛ وإما في موضع رفع على الابتداء ، فيكون مبتدأ لا خبر له ، لأن ما قبله منصوب لا مرفوع . وقال الزمخشري : والقلة في معنى العدم ، أي لا تؤمنون ولا تذكرون البتة ، والمعنى : ما أكفركم وما أغفلكم . انتهى . ولا يراد بقليلاً هنا النفي المحض ، كما زعم ، وذلك لا يكون إلا في أقل نحو : أقل رجل يقول ذلك إلا زيد ، وفي قل نحو : قلّ رجل يقول ذلك إلا زيد . وقد تستعمل في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين ، نحو ما جوزوا في قوله :
قليل بها الأصوات إلا بغاتها

" صفحة رقم 322 "
أما إذا كان منصوباً نحو : قليلا ضربت ، أو قليلاً ما ضربت ، على أن تكون ما مصدرية ، فإن ذلك لا يجور ، لأنه في : قليلاً ضربت منصوب بضربت ، ولم تستعمل العرب قليلاً إذا انتصب بالفعل نفياً ، بل مقابلاً لكثير . وأمّا في قليلاً ما ضربت على أن تكون ما مصدرية ، فتحتاج إلى رفع قليل ، لأن ما المصدرية في موضع رفع على الابتداء . وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بخلاف عنهما ؛ والجحدري والحسن : يؤمنون ، يذكرون : بالياء فيهما ؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب ؛ وأبيّ : بياءين .
الحاقة : ( 43 ) تنزيل من رب . . . . .
وقرأ الجمهور : ) تَنزِيلَ ( بالرفع ؛ وأبو السمال : تنزيلاً بالنصب .
وقرأ الجمهور : ) وَلَوْ تَقَوَّلَ ( ، والتقول أن يقول الإنسان عن آخر إنه قال شيئاً لو يقله . وقرأ ذكوان وابنه محمد : يقول مضارع قال ، وهذه القراءة معترضة بما صرحت به قراءة الجمهور .
الحاقة : ( 44 ) ولو تقول علينا . . . . .
وقرىء : ولو تقول مبنياً للمفعول ، وحذف الفاعل وقام المفعول مقامه ، وهو بعض ، إن كان قرىء مرفوعاً ؛ وإن كان قرىء منصوباً بعلينا قام مقام الفاعل ، والمعنى : ولو تقول علينا متقول . ولا يكون الضمير في تقول عائد على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لاستحالة وقوع ذلك منه ، فنحن نمنع أن يكون ذلك على سبيل الفرض في حقه عليه الصلاة والسلام . والأقاويل جمع الجمع ، وهو أقوال كبيت وأبيات ، قال الزمخشري : وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً ، كقولك : الأعاجيب والأضاحيك ، كأنها جمع أفعولة من القول .
الحاقة : ( 45 ) لأخذنا منه باليمين
والظاهر أن قوله : ) بِالْيَمِينِ ( المراد به الجارحة . فقال الحسن : المعنى قطعناه عبرة ونكالاً ، والباء على هذا زائدة . وقيل : الأخذ على ظاهرة . قال الزمخشري : والمعنى : ولو ادعى مدع علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراً ، كما تفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام ، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول ، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته ، وخص اليمين على اليسار لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يلحفه بالسيف ، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف ، أخذ بيمينه .
ومعنى ) لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( : لأخذنا بيمينه ،
الحاقة : ( 46 ) ثم لقطعنا منه . . . . .
كما أن قوله تعالى ) لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( : لقطعنا وتينة . انتهى ، وهو قول للمتقدّمين حسنه الزمخشري بتكثير ألفاظه ومصاغها قالوا : المعنى لأخذنا بيده التي هي اليمين على جهة الإذلال والصغار ، كما يقول السلطان إذا أراد عقوبة رجل : يا غلام خذ بيده وافعل كذا ، قاله أو قريباً منه الطبري . وقيل : اليمين هنا مجاز . فقال ابن عباس : باليمين : بالقوّة ، معناه لنلنا منه عقابه بقوّة منا . وقال مجاهد : بالقدرة . وقال السدّي : عاقبناه بالحق ومن على هذا صلة . وقال نفطويه : لقبضنا بيمينه عن التصرّف . وقيل : لنزعنا منه قوّته . وقيل : لأذللناه وأعجزناه .
( ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( ، قال ابن عباس : وهو نياط القلب . وقال مجاهد : حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع . والموتون الذي قطع وتينه ، والمعنى : لو تقول علينا لأذهبنا حياته معجلاً ،
الحاقة : ( 47 ) فما منكم من . . . . .
والضمير في عنه الظاهر أنه يعود على الذي تقول ، ويجوز أن يعود على القتل ، أي لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه ، والخطاب في منكم للناس ، والظاهر في ) حَاجِزِينَ ( أن يكون خبراً لما على لغة الحجاز ، لأن حاجزين هو محط الفائدة ، ويكون منكم لو تأخر لكان صفة لأحد ، فلما تقدّم صار حالاً ، وفي جواز هذا نظر . أو يكون للبيان ، أو تتعلق بحاجزين ، كما تقول : ما فيك زيد راغباً ، ولا يمنع هذا الفصل من انتصاب خبر ما . وقال الحوفي والزمخشري : حاجزين نعت لأحد على اللفظ ، وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، ومنه : ) لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( ، وقوله : ) لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء ( ، مثل بهما الزمخشري ، وقد تكلمنا على ذينك في موضعيهما . وفي الحديث : ( لم تحل لأحد سود الرؤوس قبلكم ) . وإذا كان حاجزين نعتاً فمن أحد مبتدأ والخبر منكم ، ويضعف هذا القول ، لأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم ، فلا يتسلط على الحجز . وإذا كان حاجزين خبراً . تسلط النفي على ه وصار المعنى : ما أحد منكم يحجزه عن ما يريد به من ذلك .
الحاقة : ( 48 ) وإنه لتذكرة للمتقين
) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ ( : أي وإن القرآن أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الحاقة : ( 49 ) وإنا لنعلم أن . . . . .
( وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ ( : وعيد ، أي مكذبين بالقرآن أو بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الحاقة : ( 50 ) وإنه لحسرة على . . . . .
( وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ ( : أي القرآن من حيث كفروا به ، ويرون من آمن به ينعم وهم معذبون . وقال مقاتل : وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم ، عاد الضمير على

" صفحة رقم 323 "
المصدر المفهوم من قوله : ) مُّكَذّبِينَ ( ، كقوله :
إذا نهي السفيه جرى إليه
أي للسفه .
الحاقة : ( 51 - 52 ) وإنه لحق اليقين
) وإَنَّهُ ( : أي وإن القرآن ، ( لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ( : وسبق الكلام على إضافة حق إلى اليقين في آخر الواقعة .

" صفحة رقم 324 "
70
( سورة المعارج )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلاَ يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُأوِيهِ وَمَن فِى الاٌّ رْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ وَالَّذِينَ فِىأَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاًّمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَائِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاٌّ جْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ ( ) ) 2
المعارج : ( 1 - 2 ) سأل سائل بعذاب . . . . .
العهن : الصوف دون تقييد ، أو الأحمر ، أو المصبوغ ألواناً ، أقوال . الفصيلة ، قال ثعلب : الآباء الأدنون . وقال أبو عبيدة : الفخذ . وقيل : عشيرته الأقربون . لظى : اسم لجهنم ، أو للدركة الثانية من دركاتها ، وهو علم منقول من اللظى ، وهو اللهب ، ومنع الصرف هو للعلمية والتأنيث . والشوى جمع شواة ، وهي جلدة الرأس . وقال الأعشى

" صفحة رقم 325 "
قالت قتيلة ما له
قد جللت سبباً شواته
والشوى : جلد الإنسان ، والشوى : قوائم الحيوان ، والشوى : كل عضو ليس بمقتل ، ومنه : رمى فأشوى ، إذا لم يصب المقتل ، والشوى : زوال المال ، والشوى : الشيء الهين اليسير . الهلع : الفزع والاضطراب السريع عند مس المكروه ، والمنع السريع عند مس الخير ، من قولهم : ناقة هلوع : سريعة السير . وقال أبو عبيدة : الهلع في اللغة أشد الحرص وأسوأ الجزع . الجزع : الخوف ، قال الشاعر :
جزعت ولم أجزع من البين مجزعاً
عزين جمع عزة ، قال أبو عبيدة : جماعات في تفرقة ، وقيل : الجمع اليسير كثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة . وقال الأصمعي : في الدار عزون : أي أصناف من الناس ، وقال عنترة : وقرن قد تركت لذي ولي
عليه الطير كالعصب العزين
وقال الداعي : أخليفة الرحمن إن عشيرتي
أمسى سوامهم عزين فلولا
وقال الكميت : ونحن وجندل باغ تركنا
كتائب جندل شتى عزينا
وقال آخر : ترانا عنده والليل داج
على أبوابه حلقاً عزينا
وقال آخر : فلما أن أبين على أصاح
ضرجن حصاة أشتاتاً عزينا
وعزة مما حذفت لامه ، فقيل : هي واو وأصله عزوة ، كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى ، فهم متفرقون . ويقال : عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره . وقيل : لامها هاء والأصل عزهة وجمعت عزة بالواو والنون ، كما جمعت سنة وأخواتها بذلك ، وتكسر العين في الجمع وتضم . وقالوا : عزى على فعل ، ولم يقولوا عزات .
( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرا

" صفحة رقم 326 "
ً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُوِيهِ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لّلشَّوَى تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدّينِ وَالَّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَاداتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ).
هذه السورة مكية . قال الجمهور : نزلت في النضر بن الحرث حين قال : ) اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ( الآية . وقال الربيع بن أنس : في أبى جهل . وقيل : في جماعة من قريش قالوا : ) اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ ( الآية . وقيل : السائل نوح عليه السلام ، سأل العذاب على الكافرين . وقيل : السائل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، سأل الله أن يشدد وطأته على مضر الحديث ، فاستجاب الله دعوته .
ومناسبة أولها لآخر ما قبلها : أنه لما ذكر ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ ( ، أخبر عن ما صدر عن بعض المكذبين بنقم الله ، وإن كان السائل نوحاً عليه السلام ، أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فناسب تكذيب المكذبين أن دعا عليهم رسولهم حتى يصابوا فيعرفوا صدق ما جاءهم به .
وقرأ الجمهور : ) سَأَلَ ( بالهمز : أي دعا داع ، من قولهم : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، فالباء على أصلها . وقيل : المعنى بحث باحث واستفهم . قيل : فالباء بمعنى عن . وقرأ نافع وابن عامر : سال بألف ، فيجوز أن يكون قد أبدلت همزته ألفاً ، وهو بدل على غير قياس ، وإنما قياس هذا بين بين ، ويجوز أن يكون على لغة من قال : سلت أسأل ، حكاها سيبويه . وقال الزمخشري : هي لغة قريش ، يقولون : سلت تسال وهما يتسايلان . انتهى . وينبغي أن يتثبت في قوله إنها لغة قريش . لأن ما جاء في القرآن من باب السؤال هو مهموز أو أصله الهمز ، كقراءة من قرأ : وسلوا الله من فضله ، إذ لا يجوز أن يكون من سال التي عينها واو ، إذ كان يكون ذلك وسلوا الله مثل خافوا الأمر ، فيبعد أن يجيء ذلك كله على لغة غير قريش ، وهم الذين نزل القرآن بلغتهم إلا يسيراً فيه لغة غيرهم . ثم جاء في كلام الزمخشري : وهما يتسايلان بالياء ، وأظنه من الناسخ ، وإنما هو يتساولان بالواو . فإن توافقت النسخ بالياء ، فيكون التحريف من الزمخشري ؛ وعلى تقدير أنه من السؤال ، فسائل اسم فاعل منه ، وتقدم ذكر الخلاف في السائل من هو . وقيل : سال من السيلان ، ويؤيده قراءة ابن عباس : سال سايل . وقال زيد بن ثابت : في جهنم واد يسمى سايلاً وأخبر هنا عنه . قال ابن عطية : ويحتمل إن لم يصح أمر الوادي أن يكون الإخبار عن نفوذ القدر بذلك العذاب قد استعير له السيل لما عهد من نفوذ السيل وتصميمه . وقال الزمخشري : والسيل مصدر في معنى السايل ، كالغور بمعنى الغاير ، والمعنى : اندفع عليهم وادي عذاب ، فذهب بهم وأهلكهم . انتهى . وإذا كان السائل هم الكفار ، فسؤالهم إنما كان على أنه كذب عندهم ، فأخبر تعالى أنه واقع وعيداً لهم . وقرأ أبي وعبد الله : سال سال مثل مال بإلقاء صورة الهمزة وهي الياء من الخط تخفيفاً . قيل : والمراد سائل . انتهى . ولم يحك هل قرأ بالهمز أو بإسقاطها ألبتة . فإن قرأ بالهمز فظاهر ، وإن قرأ بحذفها فهو مثل شاك شايك ، حذفت عينه واللام جرى فيها الإعراب ، والظاهر تعلق بعذاب بسال . وقال أبو عبد الله الرازي : يتعلق بمصدر دل عليه فعله ، كأنه

" صفحة رقم 327 "
قيل : ما سؤاله ؟ فقيل : سؤاله بعذاب ، والظاهر اتصال الكافرين بواقع فيكون متعلقاً به ، واللام للعلة ، أي نازل بهم لأجلهم ، أي لأجل كفرهم ، أو على أن اللام بمعنى على ، قاله بعض النحاة ، ويؤيده قراءة أبيّ : على الكافرين ، أو على أنه في موضع ، أي واقع كائن للكافرين . وقال قتادة والحسن : المعنى : كأن قائلاً قال : لمن هذا العذاب الواقع ؟ فقيل : للكافرين . وقال الزمخشري : أو بالفعل ، أي دعاء للكافرين ، ثم قال : وعلى الثاني ، وهو ثاني ما ذكر من توجيهه في الكافرين . قال هو كلام مبتدأ جواب للسائل ، أي هو للكافرين ، وكان قد قرر أن سال ضمن معنى دعا ، فعدى تعديته كأنه قال : دعا داع بعذاب من قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، ومنه قوله تعالى : ) يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَةٍ ءامِنِينَ ). انتهى . فعلى ما قرره أنه متعلق بدعا ، يعني بسال ، فكيف يكون كلاماً مبتدأ جواباً للسائل أي هو للكافرين ؟ هذا لا يصح . فقد أخذ قول قتادة والحسن وأفسده ، والأجود أن يكون من الله متعلقاً بقوله : ) وَاقِعٍ ). و ) لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( : جملة اعتراض بين العامل والمعمول . وقيل : يتعلق بدافع ، أي من جهته إذا جاء وقته .
المعارج : ( 3 ) من الله ذي . . . . .
( ذِي الْمَعَارِجِ ( : المعارج لغة الدرج وهنا استعارة ، قال ابن عباس وقتادة : في الرتب والفواضل والصفات الحميدة . وقال ابن عباس أيضاً : المعارج : السموات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء . وقال الحسن : هي المراقي إلى السماء ، وقيل : المعارج : الغرف ، أي جعلها لأوليائه في الجنة
المعارج : ( 4 ) تعرج الملائكة والروح . . . . .
تعرج ، قراءة الجمهور بالتاء على التأنيث ، وعبد الله والكسائي وابن مقسم وزائدة عن الأعمش بالياء . ) وَالرُّوحُ ( ، قال الجمهور ؛ هو جبريل ، خص بالذكر تشريفاً ، وأخر هنا بعد الملائكة ، وقدم في قوله : ) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً ). وقال مجاهد : ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم ، لا تراهم الحفظة كما لا نرى نحن حفظتنا . وقيل : الروح ملك غير جبريل عظيم الخلقة . وقال أبو صالح : خلق كهيئة الناس وليسوا بالناس . وقال قبيصة بن ذؤيب : روح الميت حين تقبض إليه ، الضمير عائد على الله تعالى ، أي إلى عرشه وحيث يهبط منه أمره تعالى . وقيل : إليه ، أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء لأنها محل بره وكرامته ، والظاهر أن المعنى : أنها تعرج في يوم من أيامكم هذه ، ومقدار المسافة أن لو عرجها آدمي خمسون ألف سنة ، قاله ابن عباس وابن إسحاق وجماعة من الحذاق منهم القاضي منذر بن سعيد . فإن كان العارج ملكاً ، فقال مجاهد : المسافة هي من قعر الأرض السابعة إلى العرش ؛ ومن جعل الروح جنس أنواع الحيوان ، قال وهب : المسافة من وجه الأرض إلى منتهى العرش . وقال عكرمة والحكم : أراد مدة الدنيا ، فإنها خمسون ألف سنة لا يدري أحد ما مضى منها وما بقي ، أي تعرج في مدة الدنيا وبقاء هذه البنية . وقال ابن عباس أيضاً : هو يوم القيامة . وقيل : طوله ذلك العدد ، وهذا ظاهر ما جاء في الحديث في مانع الزكاة فإنه قال : ) فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ). وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري : قدره في رزاياه وهوله وشدته للكفار ذلك العدد . وفي الحديث : ( يخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة ) . وقال عكرمة مقدار : ما ينقضي فيه من الحساب قدر ما يقضي بالعدل في خمسين ألف سنة من أيام الدنيا . وقال الحسن : نحوه . وقيل : لا يراد حقيقة العدد ، إنما أريد به طول الموقف يوم القيامة وما فيه من الشدائد ، والعرب تصف أيام الشدة بالطول وأيام الفرح بالقصر . قال الشاعر يصف أيام الفرح والسرور : ويوم كظل الرمح قصر طوله
دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
والظاهر أن قوله : ) فِى يَوْمٍ ( متعلق بتعرج . وقيل : بدافع ، والجملة من قوله : ) تَعْرُجُ ( اعتراض .
المعارج : ( 5 ) فاصبر صبرا جميلا
ولما كانوا قد سألوا استعجال العذاب ، وكان السؤال على سبيل الاستهزاء والتكذيب ، وكانوا قد وعدوا به ، أمره تعالى بالصبر ، ومن جعله من السيلان فالمعنى : أنه أشرف على الوقوع ،
المعارج : ( 6 ) إنهم يرونه بعيدا
والضمير في ) يَرَوْنَهُ ( عائد على العذاب أو على اليوم ، إذا أريد به يوم القيامة ، وهذا الاستبعاد هو على سبيل الإحالة منهم .
المعارج : ( 7 ) ونراه قريبا
) وَنَرَاهُ قَرِيباً ( : أي هيناً في قدرتنا ، غير بعيد علينا ولا متعذر ، وكل ما هو

" صفحة رقم 328 "
آت قريب ، والبعد والقرب في الإمكان لا في المسافة .
المعارج : ( 8 ) يوم تكون السماء . . . . .
( يَوْمَ تَكُونُ ( : منصوب بإضمار فعل ، أي يقع يوم تكون ، أو ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ ( كان كيت وكيت ، أو بقريباً ، أو بدل من ضمير نراه إذا كان عائداً على يوم القيامة . وقال الزمخشري : أو هو بدل من ) فِى يَوْمٍ ( فيمن علقه بواقع . انتهى . ولا يجوز هذا ، لأن ) فِى يَوْمٍ ( وإن كان في موضع نصب لا يبدل منه منصوب لأن مثل هذا ليس من المواضع التي تراعي في التوابع ، لأن حرف الجر فيها ليس بزائد ولا محكوم له بحكم الزائد كرب ، وإنما يجوز مراعاة المواضع في حرف الجر الزائد كقوله : يا بني لبينى لستما بيد
إلا يداً ليست لها عضد
ولذلك لا يجوز : مررت بزيد الخياط ، على مراعاة موضع بزيد ، ولا مررت بزيد وعمراً ، ولا غضبت على زيد وجعفراً ، ولا مررت بعمرو أخاك على مراعاة الموضع . فإن قلت : الحركة في يوم تكون حركة بناء لا حركة إعراب ، فهو مجرور مثل ) فِى يَوْمٍ ). قلت : لا يجوز بناؤه على مذهب البصريين لأنه أضيف إلى معرب ، لكنه يجوز على مذهب الكوفيين ، فيتمشى كلام الزمخشري على مذهبهم إن كان استحضره وقصده . ) كَالْمُهْلِ ( : تقدم الكلام عليه في سورة الدخان ، ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ( ، كما في القارعة ،
المعارج : ( 9 ) وتكون الجبال كالعهن
لما نسفت طارت في الجو كالصوف المنفوش إذا طيرته الريح . قال الحسن : تسير الجبال مع الرياح ، ثم تنهد ، ثم تصير كالعهن ، ثم تنسف فتصير هباء .
المعارج : ( 10 - 11 ) ولا يسأل حميم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَلاَ يَسْئَلُ ( مبيناً للفاعل ، أي لا يسأله نصرة ولا منفعة لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده . وقال قتادة : لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة . وقيل : لا يسأله أن يحمل عنه من أوزاره شيئاً ليأسه عن ذلك . وقيل : شفاعة . وقيل : حميماً منصوب على إسقاط عن ، أي عن حميم ، لشغله بما هو فيه . وقرأ أبو حيوة وشيبة وأبو جعفر والبزي : بخلاف عن ثلاثتهم مبنياً للمفعول ، أي لا يسأل إحضاره كل من المؤمن والكافر له سيما يعرف بها . وقيل : عن ذنوب حميمه ليؤخذ بها .
( يُبَصَّرُونَهُمْ ( : استئناف كلام . قال ابن عباس : في المحشر يبصر الحميم حميمه ، ثم يفرّ عنه لشغله بنفسه . وقيل : يبصرونهم في النار . وقيل : يبصرونهم فلا يحتاجون إلى السؤال والطلب . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون يبصرونهم صفة ، أي حميماً مبصرين مصرفين إياهم . انتهى . و ) حَمِيمٌ حَمِيماً ( : نكرتان في سياق النفي فيعمان ، ولذلك جمع الضمير . وقرأ قتادة : يبصرونهم مخففاً مع كسر الصاد ، أي يبصر المؤمن الكافر في النار ، قاله مجاهد . وقال ابن زيد : يبصر الكافر من أضله في النار عبرة وانتقاماً وحزناً . ) يَوَدُّ الْمُجْرِمُ ( : أي الكافر ، وقد يندرج فيه المؤمن العاصي الذي يعذب . وقرأ الجمهور : ) مِنْ عَذَابِ ( مضافاً ؛ وأبو حيوة بفتحها .
المعارج : ( 12 ) وصاحبته وأخيه
) وَصَاحِبَتِهِ ( : زوجته ،
المعارج : ( 13 ) وفصيلته التي تؤويه
) وَفَصِيلَتِهِ ( : أقرباؤه الأدنون ، ( تُوِيهِ ( : تضمه انتماء إليها ، أو لياذاً بها في النوائب .
المعارج : ( 14 ) ومن في الأرض . . . . .
( ثُمَّ يُنجِيهِ ( : عطف على ) يَفْتَدِي ( : أي ينجيه بالافتداء ، أو من تقدم ذكرهم . وقرأ الزهري : تؤويه وتنجيه بضم الهاءين .
المعارج : ( 15 - 17 ) كلا إنها لظى
) كَلاَّ ( : ردع لودادتهم الافتداء وتنبيه على أنه لا ينفع . ) أَنَّهَا ( : الضمير للقصة ، و ) لَظَى نَزَّاعَةً ( : تفسير لها أو للنار الدال عليها ، ( عَذَابِ يَوْمِئِذٍ ( و ) لَظَى ( بدل من الضمير ، و ) نَزَّاعَةً ( خبر إن أو خبر مبتدأ ، و ) لَظَى ( خبر إن : أي هي نزاعة ، أو بدل من ) لَظَى ( ، أو خبر بعد خبر . كل هذا ذكروه ، وذلك على قراءة الجمهور برفع نزاعة . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً ترجم عنه الخبر . انتهى . ولا أدري ما هذا المضمر الذي ترجم عنه الخبر وليس هذا من المواضع التي يفسر فيها المفرد الضمير ، ولولا أنه ذكر بعد هذا أو ضمير القصة ، لحملت كلامه عليه . وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة والزعفراني وابن مقسم وحفص واليزيدي : في اختياره نزاعة بالنصب ، فتعين أن يكون لظى خبراً لأن ، والضمير في إنها عائد على النار الدال عليها عذاب ، وانتصب نزاعة على الحال المؤكدة أو

" صفحة رقم 329 "
المبينة ، والعامل فيها لظى ، وإن كان عاملاً لما فيه من معنى التلظي ، كما عمل العلم في الظرف في قوله :
أنا أبو المنهال بعض الأحيان
أي : المشهور بعض الاحيان ، أو على الاختصاص للتهويل ، قاله الزمخشري ، وكأنه يعني القطع . فالنصب فيها كالرفع فيها ، إذا أضمرت هو فتضمر هنا ، أعني تدعو ، أي حقيقة يخلق الله فيها الكلام كما يخلقه في الأعضاء ، قاله ابن عباس وغيره ، تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم . وقال الزمخشري : وكما خلقه في الشجرة . انتهى ، فلم يترك مذهب الاعتزال . وقال الخليل : مجاز عن استدنائها منهم وما توقعه بهم من عذابها . وقال ثعلب : يهلك ، تقول العرب : دعا الله ، أي أهلكك ، وحكاه الخليل عن العرب ، قال الشاعر : ليالي يدعوني الهوى فأجيبه
وأعين من أهوى إليّ رواني
وقال آخر : ترفع للعيان وكل فج
طباه الدعى منه والخلاء
ويصف ظليماً وطباه : أي دعاه والهوى ، والدعى لا يدعوان حقيقة ، ولكنه لما كان فيهما ما يجذب صاراً داعيين مجازاً . وقيل : تدعو ، أي خزنة جهنم ، أضيف دعاؤهم إليها ، ( مَنْ أَدْبَرَ ( عن الحق وتولى ،
المعارج : ( 18 ) وجمع فأوعى
) وَجَمَعَ فَأَوْعَى ( : أي وجمع المال ، فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد حق الله فيه ، وهذه إشارة إلى كفار أغنياء . وقال الحكيم : كان عبد الله بن حكيم لا يربط كيسه ويقول : سمعت الله يقول : ) وَجَمَعَ فَأَوْعَى
المعارج : ( 19 - 21 ) إن الإنسان خلق . . . . .
( إِنَّ الإنسَانَ ( جنس ، ولذلك استثنى منه ) إِلاَّ الْمُصَلّينَ ). وقيل : الإشارة إلى الكفار . وقال ثعلب : قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع ؟ فقلت : قد فسره الله تعالى ، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس . انتهى .
ولما كان شدة الجزع والمنع متمكنة في الإنسان ، جعل كأنه خلق محمولاً عليهما كقوله : ) خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( ، والخير المال .
المعارج : ( 22 - 23 ) إلا المصلين
) إِلاَّ الْمُصَلّينَ ( : استثناء كما قلنا من الإنسان ، ولذلك وصفهم بما وصفهم به من الصبر على المكاره والصفات الجميلة التي حاوروها . وقرأ الجمهور : ) عَلَى صَلاَتِهِمْ ( بالإفراد ؛ والحسن جمعاً ؛ وديمومتها ، قال الجمهور : المواظبة عليها . وقال ابن مسعود : صلاتها لوقتها . وقال عقبة بن عامر : يقرون فيها ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً ، ومنه المال الدائم . وقال الزمخشري : دوامهم عليها أن يواظبوا على أدائها ولا يشتغلون عنها بشيء ، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وأدائها ويحفظونها من الإحباط باقتران المآثم ، والدوام يرجع إلى أنفس الصلوات والمحافظة على أحوالها . انتهى ، وهو جوابه لسؤاله : فإن قلت : كيف قال : ) عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ ( ،
المعارج : ( 33 - 34 ) والذين هم بشهاداتهم . . . . .
ثم قال : ) عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ). وأقول : إن الديمومة على الشيء والمحافظة عليه شيء واحد ، لكنه لما كانت الصلاة هي عمود الإسلام بولغ في التوكيد فيها ، فذكرت أول خصال الإسلام المذكورة في هذه السورة وآخرها ، ليعلم مرتبتها في الأركان التي بني الإسلام عليها ، والصفات التي بعد هذه تقدم تفسيرها ، ومعظمها في سورة قد أفلح المؤمنون . وقرأ الجمهور : بشهادتهم على الإفراد ؛ والسلمي وأبو عمر وحفص : على الجمع .
قوله عز وجل : ) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ عِزِينَ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىء مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّمَّا يَعْلَمُونَ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ ).
المعارج : ( 36 ) فمال الذين كفروا . . . . .
كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يصلي عند الكعبة ويقرأ

" صفحة رقم 330 "
القرآن ، فكانوا يحتفون به حلقاً حلقاً يسمعون ويستهزؤون بكلامه ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة ، كما يقول محمد ، فلندخلنها قبلهم ، فنزلت . وتقدم شرح ) مُهْطِعِينَ ( في سورة إبراهيم على ه السلام ، ومعنى ) قَبْلِكَ ( : أي في الجهة التي تليك ،
المعارج : ( 37 ) عن اليمين وعن . . . . .
( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ ( : أي عن يمينك وشمالك . وقيل : نزلت في المستهزئين الخمسة .
المعارج : ( 38 ) أيطمع كل امرئ . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أَن يُدْخَلَ ( مبنياً للمفعول ؛ وابن يعمر والحسن وأبو رجاء وزيد بن عليّ وطلحة والمفضل عن عاصم : مبنياً للفاعل .
المعارج : ( 39 ) كلا إنا خلقناهم . . . . .
( كَلاَّ ( : ردّ وردع لطماعيتهم ، إذ أظهروا ذلك ، وإن كانوا لا يعتقدون صحة البعث ، ولا أن ثم جنة ولا ناراً .
( إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّمَّا يَعْلَمُونَ ( : أي أنشأناهم من نطفة مذرة ، فنحن قادرون على إعادتهم وبعثهم يوم القيامة ، وعلى الاستبدال بهم خيراً منهم ، قيل : بنفس الخلق ؛ ومنته عليهم بذلك يعطي الجنة ، بل بالإيمان والعمل الصالح . وقال قتادة في تفسيرها : إنما خلقت من قذر يا ابن آدم . وقال أنس : كان أبو بكر إذا خطبنا ذكر مناتن ابن آدم ومروره في مجرى البول مرتين ، وكذلك نطفة في الرحم ، ثم علقة ، ثم مضغة إلى أن يخرج فيتلوث في نجاسته طفلاً . فلا يقلع أبو بكر حتى يقذر أحدنا نفسه ، فكأنه قيل : إذا كان خلقكم من نطفة مذرة ، فمن أين تتشرّفون وتدعون دخول الجنة قبل المؤمنين ؟ وأبهم في قوله : ) مّمَّا يَعْلَمُونَ ( ، وإن كان قد صرّح به في عدّة مواضع إحالة على تلك المواضع . ورأى مطرف بن عبد الله بن الشخير المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز ، فقال له : يا عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها الله تعالى ؟ فقال له : أتعرفني ؟ قال : نعم ، أوّلك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت تحمل عذرة . فمضى المهلب وترك مشيته .
المعارج : ( 40 ) فلا أقسم برب . . . . .
وقرأ الجمهور : ) فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ( ، لا نفياً وجمعهما وقوم بلام دون ألف ؛ وعبد الله بن مسلم وابن محيصن والجحدري : المشرق والمغرب مفردين .
المعارج : ( 41 ) على أن نبدل . . . . .
أقسم تعالى بمخلوقاته على إيجاب قدرته ، على أن يبدل خيراً منهم ، وأنه لا يسبقه شيء إلى ما يريد .
المعارج : ( 42 ) فذرهم يخوضوا ويلعبوا . . . . .
( فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ ( : وعيد ، وما فيه من معنى المهادنة هو منسوخ بآية السيف . وقرأ أبو جعفر وابن محيصن : يلقوا مضارع لقى ، والجمهور : ) يُلَاقُواْ ( مضارع لاقى ؛
المعارج : ( 43 ) يوم يخرجون من . . . . .
والجمهور : ) يُخْرِجُونَ ( مبنياً للفاعل . قال ابن عطية : وروى أبو بكر عن عاصم مبنياً للمفعول ، و ) يَوْمٍ ( بدل من ) يَوْمَهُمُ ). وقرأ الجمهور : نصب بفتح النون وسكون الصاد ؛ وأبو عمران الجوني ومجاهد : بفتحهما ؛ وابن عامر وحفص : بضمهما ؛ والحسن وقتادة : بضم النون وسكون الصاد . والنصب : ما نصب للإنسان ، فهو يقصده مسرعاً إليه من علم أو بناء أو صنم ، وغلب في الأصنام حتى قيل الأنصاب . وقال أبو عمرو : هو شبكة يقع فيها الصيد ، فيسارع إليها صاحبها مخافة أن يتفلت الصيد منها . وقال مجاهد : نصب علم ، ومن قرأ بضمهما ، قال ابن زيد : أي أصنام منصوبة كانوا يعبدونها . وقال الأخفش : هو جمع نصب ، كرهن ورهن ، والأنصاب جمع الجمع . يوفضون : يسرعون . وقال أبو العالية : يستبقون إلى غايات . قال الشاعر : فوارس ذبيان تحت الحديد
كالجن يوفضن من عبقر
وقال آخر في معنى الإسراع : لأنعتنّ نعامة ميفاضا
حرجاء ظلت تطلب الاضاضا
وقال ابن عباس وقتادة : يسعون ، وقال الضحاك : ينطلقون ، وقال الحسن : يبتدرون .
المعارج : ( 44 ) خاشعة أبصارهم ترهقهم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) ذِلَّةٌ ( منوناً . ) ذَلِكَ الْيَوْمُ ( : برفع الميم مبتدأ وخبر . وقرأ عبد الرحمن بن خلاد ، عن داود بن سالم ، عن يعقوب والحسن بن عبد الرحمن ، عن التمار : ذلة بغير تنوين مضافاً إلى ذلك ، واليوم بخفض الميم .

" صفحة رقم 331 "
71
( سورة نوح )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ ياقَوْمِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِىإِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِىءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّىأَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الاٌّ رْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاٌّ رْضَ بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاٌّ رْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً ( ) ) 2
نوح : ( 1 ) إنا أرسلنا نوحا . . . . .
الأطوار : الأحوال المختلفة ، قال : فإن أفاق فقد طارت عمايته
والمرء يخلق طوراً بعد أطوار

" صفحة رقم 332 "
ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسراً : أسماء أصنام أعلام لها اتخذها قوم نوح عليه السلام آلهة .
( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما أقسم على أن يبدل خيراً منهم ، وكانوا قد سخروا من المؤمنين وكذبوا بما وعدوا به من العذاب ، ذكر قصة نوح وقومه معه ، وكانوا أشد تمرّداً من المشركين ، فأخذهم الله أخذ استئصال حتى أنه لم يبق لهم نسلاً على وجه الأرض ، وكانوا عباد أصنام كمشركي مكة ، فحذر تعالى قريشاً أن يصيبهم عذاب يستأصلهم إن لم يؤمنوا . ونوح عليه السلام أوّل نبي أرسل ، ويقال له شيخ المرسلين ، وآدم الثاني ، وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ ، وهو إدريس بن برد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه الصلاة والسلام . ) أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ ( : يجوز أن تكون أن مصدرية وأن تكون تفسيرية . ) عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ، قال أبو عباس : عذاب النار في الآخرة . وقال الكلبي : ما حل بهم من الطوفان .
نوح : ( 4 ) يغفر لكم من . . . . .
( مّن ذُنُوبِكُمْ ( : من للتبعيض ، لأن الإيمان إنما يجب ما قبله من الذنوب لا ما بعده . وقيل : لابتداء الغاية . وقيل : زائدة ، وهو مذهب ، قال ابن عطية : كوفي ، وأقول : أخفشي لا كوفي ، لأنهم يشترطون أن تكون بعد من نكرة ، ولا يبالون بما قبلها من واجب أو غيره ، والأخفش يجيز مع الواجب وغيره . وقيل : النكرة والمعرفة . وقيل : لبيان الجنس ، ورد بأنه ليس قبلها ما تبينه .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف قال : ) وَيُؤَخّرْكُمْ ( مع إخباره بامتناع تأخير الأجل ؟ وهل هذا إلا تنافض ؟ قلت : قضى الله مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة ، فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى : أي إلى وقت سماه الله تعالى وضربه أمداً تنتهون إليه لا تتجاوزونه ، وهو الوقت الأطول تمام الألف . ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد ، لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ، ولم تكن لكم حيلة ، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير . انتهى . وقال ابن عطية : ) وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ( مما تعلقت المعتزلة به في قولهم أن للإنسان أجلين ، قالوا : لو كان واحداً محدداً لما صح التأخير ، إن كان الحد قد بلغ ، ولا المعاجلة إن كان لم يبلغ ، قال : وليس لهم في الآية تعلق ، لأن المعنى : أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل ، ولا قال لهم إنكم تؤخرون عن أجل قد حان لكم ، لكن قد سبق في الأزل أنهم ، إما ممن قضى له بالإيمان والتأخير ، وإما ممن قضى له بالكفر والمعاجلة . ثم تشدد هذا المعنى ولاح بقوله : ) إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ ( ، وجواب لو محذوف تقديره : لو كنتم تعلمون ، لبادرتم إلى عبادته وتقواه وطاعتي فيما جئتكم به منه تعالى .
نوح : ( 5 - 6 ) قال رب إني . . . . .
ولما لم يجيبوه وآذوه ، شكا إلى ربه شكوى من يعلم أن الله تعالى عالم بحالة مع قومه لما أمر بالإنذار فلم يجد فيهم .
( قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً ( : أي جميع الأوقات من غير فتور ولا تعطيل في وقت . ولما ازدادوا إعراضاً ونفاراً عن الحق ، جعل الدعاء هو الذي زادهم ، إذ كان سبب الزيادة ، ومثله : ) فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ).
نوح : ( 7 - 9 ) وإني كلما دعوتهم . . . . .
( وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ ( : أي ليتربوا فتغفر لهم ، ذكر المسبب الذي هو حظهم خالصاً ليكون أقبح في إعراضهم عنه ، ( جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِىءاذانِهِمْ ( : الظاهر أنه حقيقة ، سدوا مسامعهم حتى لا يسمعوا ما دعاهم إليه ، وتغطوا بثيابهم حتى لا ينظروا إليه كراهة وبغضاً من سماع النصح ورؤية الناصح . ويجوز أن يكون كناية عن المبالغة في إعراضهم عن ما دعاهم إليه ، فهم بمنزلة من سد سمعه ومنع بصره ، ثم كرر صفة دعائه بياناً وتوكيداً . لما ذكر دعاءه عموم الأوقات ، ذكر عموم حالات الدعاء . و ) كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ ( : يدل على تكرر الدعوات ، فلم يبين حالة دعائه أولاً ، وظاهرة أن

" صفحة رقم 333 "
يكون دعاؤه إسراراً ، لأنه يكون ألطف بهم . ولعلهم يقبلون منه كحال من ينصح في السر فإنه جدير أن يقبل منه ، فلما لم يجد له الإسرار ، انتقل إلى أشد منه وهو دعاؤهم جهاراً صلتاً بالدعاء إلى الله لا يحاشي أحداً ، فلما لم يجد عاد إلى الإعلان وإلى الأسرار . قال الزمخشري : ومعنى ثم الدلالة على تباعد الأحوال ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما . انتهى . وكثيراً كرر الزمخشري أن ثم للاستبعاد ، ولا نعلمه من كلام غيره ، وانتصب جهاراً بدعوتهم ، وهو أحد نوعي الدعاء ، ويجيء فيه من الخلاف ما جاء في نصب هو يمشي الخوزلى .
قال الزمخشري : أو لأنه أراد بدعوتهم : جاهرتهم ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهاراً : أي مجاهراً به ، أو مصدراً في موضع الحال ، أي مجاهراً .
نوح : ( 10 ) فقلت استغفروا ربكم . . . . .
ثم أخبر أنه أمرهم بالاستغفار ، وأنهم إذا استغفروا در لهم الرزق في الدنيا ، فقدم ما يسرهم وما هو أحب إليهم ، إذ النفس متشوفة إلى الحصول على العاجل ، كما قال تعالى : ) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ( ، ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( ، ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ ( ، ( وَإِنَّ لُوطاً اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُم ). قال قتادة : كانوا أهل حب للدنيا ، فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها .
نوح : ( 11 - 12 ) يرسل السماء عليكم . . . . .
وقيل : لما كذبوه بعد طول تكرار الدعاء قحطوا وأعقم نساؤهم ، فبدأهم في وعده بالمطر ، ثم ثنى بالأموال والبنين . و ) مُّدْرَاراً ( : من الدر ، وهو صفة يستوي فيها المذكر والمؤنث ، ومفعال لا تلحقه التاء إلا نادراً ، فيشترك فيه المذكر والمؤنث . تقول : رجل محدامة ومطرابة ، وامرأة محدابة ومطرابة ، والسماء المطلة ، قيل : لأن المطر ينزل منها إلى السحاب ، ويجوز أن يراد السحاب والمطر كقوله : إذا نزل السماء بأرض قوم البيت ،
نوح : ( 13 ) ما لكم لا . . . . .
الرجاء بمعنى الخوف ، وبمعنى الأمل . فقال أبو عبيدة وغيره : ) لاَ تَرْجُونَ ( : لا تخافون ، قالوا : والوقار بمعنى العظمة والسلطان ، والكلام على هذا وعيد وتخويف . وقيل : لا تأملون له توقيراً : أي تعظيماً . قال الزمخشري : والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال ما يكون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب ، ولله بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صلة ، أو لا تخافون الله حلماً وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا . وقيل : ما لكم لا تخافون لله عظمة . وعن ابن عباس : لا تخافون لله عاقبة ، لأن العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب منه وقر إذا ثبت واستقر . انتهى . وقيل : ما لكم لا تجعلون رجاءكم لله وتلقاءه وقاراً ، ويكون على هذا منهم كأنه يقول : تؤده منكم وتمكناً في النظر ، لأن الفكر مظنة الخفة والطيش وركوب الرأس . انتهى . وفي التحرير قال سعيد بن جبير : ما لكم لا ترجون لله ثواباً ولا تخافون عقاباً ، وقاله ابن جبير عن ابن عباس . وقال العوفي عنه : ما لكم لا تعلمون لله عظمة ؛ وعن مجاهد والضحاك : ما لكم لا تبالون لله عظمة . قال قطرب : هذه لغة حجازية ، وهذيل وخزاعة ومضر يقولون : لم أرج : لم أبال . انتهى . ) لاَ تَرْجُونَ ( : حال ،
نوح : ( 14 ) وقد خلقكم أطوارا
) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ( : جملة حالية تحمل على الإيمان بالله وإفراده بالعبادة ، إذ في هذه الجملة الحالية التنبيه على تدريج الإنسان في أطوار لا يمكن أن تكون إلا من خلقه تعالى . قال ابن عباس ومجاهد من : النطفة والعلقة والمضغة . وقيل :

" صفحة رقم 334 "
في اختلاف ألوان الناس وخلقهم وخلقهم ومللهم . وقيل : صبياناً ثم شباباً ثم شيوخاً وضعفاء ثم أقوياء . وقيل : معنى ) أَطْوَاراً ( : أنواعاً صحيحاً وسقيماً وبصيراً وضريراً وغنياً وفقيراً .
قوله عز وجل : ) أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ بِسَاطاً لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً مّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِوالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً ).
نوح : ( 15 ) ألم تروا كيف . . . . .
لما نبههم نوح عليه السلام على الفكر في أنفسهم ، وكيف انتقلوا من حال إلى حال ، وكانت الأنفس أقرب ما يفكرون فيه منهم ، أرشدهم إلى الفكر في العالم علوه وسفله ، وما أودع تعالى فيه ، أي في العالم العلوي من هذين النيرين اللذين بهما قوام الوجود . وتقدم شرح ) طِبَاقاً ( في سورة الملك ،
نوح : ( 16 ) وجعل القمر فيهن . . . . .
والضمير في فيهن عائد على السموات ، ويقال : القمر في السماء الدنيا ، وصح كون السموات ظرفاً للقمر ، لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف . تقول : زيد في المدينة ، وهو في جزء منها ، ولم تقيد الشمس بظرف ، فقيل : هي في الرابعة ، وقيل : في الخامسة ، وقيل : في الشتاء في الرابعة ، وفي الصيف في السابعة ، وهذا شيء لا يوقف على معرفته إلا من علم الهيئة . ويذكر أصحاب هذا العلم أنه يقوم عندهم البراهين القاطعة على صحة ما يدعونه ، وأن في معرفة ذلك دلالة واضحة على عظمة الله وقدرته وباهر مصنوعاته . ) سِرَاجاً ( يستضيء به أهل الدنيا ، كما يستضيء الناس بالسراج في بيوتهم ، ولم يبلغ القمر مبلغ الشمس في الإضاءة ، ولذلك ؛ جاء هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ، والضياء أقوى من النور .
نوح : ( 17 ) والله أنبتكم من . . . . .
والإنبات استعارة في الإنشاء ، أنشأ آدم من الأرض وصارت ذريته منه ، فصح نسبتهم كلهم إلى أنهم أنبتوا منها . وانتصاب نباتاً بأنبتكم مصدراً على حذف الزائد ، أي إنباتاً ، أو على إضمار فعل ، أي فنبتم نباتاً . وقال الزمخشري : المعنى أنبتكم فنبتم ، أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم . انتهى . ولا أعقل معنى هذا الوجه الثاني الذي ذكره .
نوح : ( 18 ) ثم يعيدكم فيها . . . . .
( ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ( : أي يصيركم فيها مقبورين ، ( وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً ( : أي يوم القيامة ، وأكده بالمصدر ، أي ذلك واقع لا محالة .
نوح : ( 19 ) والله جعل لكم . . . . .
( بِسَاطاً ( تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه . وظاهره أن الأرض ليست كروية بل هي مبسوطة ،
نوح : ( 20 ) لتسلكوا منها سبلا . . . . .
( سُبُلاً ( : ظرفاً ، ( فِجَاجاً ( : متسعة ، وتقدم الكلام على الفج في سورة الحج .
نوح : ( 21 ) قال نوح رب . . . . .
ولما أصروا على العصيان وعاملوه بأقبح الأقوال والأفعال ، ( قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى ( : الضمير للجميع ، وكان قد قال لهم : ) وَأَطِيعُونِ ( ، وكان قد أقام فيهم ما نص الله تعالى عليه ) أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ( ، وكانوا قد وسع عليهم في الرزق بحيث كانوا يزرعون في الشهر مرتين . ) وَاتَّبِعُواْ ( : أي عامتهم وسفلتهم ، إذ لا يصح عوده على الجميع في عبادة الأصنام . ) مَن لَّمْ يَزِدْهُ ( : أي رؤساؤهم وكبراؤهم ، وهم الذين كان ما تأثلوه من المال وما تكثروا به من الولد سبباً في خسارتهم في الآخرة ، وكان سبب هلاكهم في الدنيا . وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير وأبو عمرو ونافغ ، في رواية خارجة : وولده بضم الواو وسكون اللام ؛ والسلميّ والحسن أيضاً وأبو رجاء وابن وثاب وأبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر : بفتحهما ، وهما لغتان ، كبخل وبخل ؛ والحسن أيضاً والجحدري وقتادة وزر وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ، في رواية : كسر الواو وسكون اللام . وقال أبو حاتم : يمكن أن يكون الولد بالضم جمع الولد ، كخشب وخشب ، وقد قال حسان بن ثابت :
يا بكر آمنة المبارك بكرها
من ولد محصنة بسعد الأسعد

" صفحة رقم 335 "
نوح : ( 22 ) ومكروا مكرا كبارا
) وَمَكَرُواْ ( : يظهر أنه معطوف على صلة من ، وجمع الضمير في ) وَمَكَرُواْ ( ، ( وَقَالُواْ ( على المعنى ؛ ومكرهم : احتيالهم في الدين وتحريش الناس على نوح عليه السلام . وقرأ الجمهور : ) كُبَّاراً ( بتشديد الباء ، وهو بناء فيه مبالغة كثير . قال عيسى بن عمر : هي لغة يمانية ، وعليها قول الشاعر : والمرء يلحقه بقنان الندى
خلق الكريم وليس بالوضاء
وقول الآخر : بيضاء تصطاد القلوب وتستبي
بالحسن قلب المسلم القراء
ويقال : حسان وطوال وجمال . وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال : بخف الباء ، وهو بناء مبالغة . وقرأ زيد بن علي وابن محيصن ، فيما روي عنه أبو الأخيرط وهب بن واضح : كباراً ، بكسر الكاف وفتح الباء . وقال ابن الأنباري : هو جمع كبير ، كأنه جعل مكراً مكان ذنوب أو أفاعيل . انتهى ، يعني فلذلك وصفه بالجمع .
نوح : ( 23 ) وقالوا لا تذرن . . . . .
( وَقَالُواْ ( : أي كبراؤهم لأتباعهم ، أو قالوا ، أي جميعهم بعضهم لبعض ، ( لاَ تَذَرُنَّ ( : لا تتركن ، ( ءالِهَتَكُمْ ( : أي أصنامكم ، وهو عام في جميع أصنامهم ، ثم خصبوا بعد أكابر أصنامهم ، وهو ودّ وما عطف عليه ؛ وروي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الزمان . قال عروة بن الزبير : كانوا بني آدم ، وكان ودّاً أكبرهم وأبرهم به . وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس : كانوا بني آدم ونوح عليهما السلام ، ماتوا فصورت أشكالهم لتذكر أفعالهم الصالحة ، ثم هلك من صورهم وخلف من يعظمها ، ثم كذلك حتى عبدت . قيل : ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها . وقيل : بل الأسماء فقط إلى قبائل من العرب . فكان ودّ لكلب بدومة الجندل ؛ وسواع لهذيل ، وقيل : لهمدان ؛ ويغوث لمراد ، وقيل : لمذحج ؛ ويعوق لهمدان ، وقيل : لمراد ؛ ونسر لحمير ، وقيل : لذي الكلاع من حمير ؛ ولذلك سمت العرب بعبد ودّ وعبد يغوث ؛ وما وقع من هذا الخلاف في سواع ويغوث ويعوق يمكن أن يكون لكل واحد منهما صنم يسمى بهذا الاسم ، إذ يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام ، فإنما بقيت الأسماء فسموا أصنامهم بها . قال أبو عثمان النهدي : رأيت يغوث ، وكان من رصاص ، يحمل على جمل أجرد يسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك ، فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، فينزلون حوله ويضربون له بناء . انتهى . وقال الثعلبي : كان يغوث لكهلان من سبأ ، يتوارثونه حتى صار في همدان ، وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني : يريش الله في الدنيا ويبري
ولا يبري يغوث ولا يريش
وقال الماوردي : ود اسم صنم معبود . سمي وداً لودهم له . انتهى . وقيل : كان ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر ، وهذا مناف لما تقدم من أنهم صوروا صور ناس صالحين . وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة ، بخلاف عنهم : وداً ، بضم الواو ؛ والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة : بفتحها ، قال الشاعر :

" صفحة رقم 336 "
حياك ودّ فإنا لا يحل لنا
لهو النساء وأن الدين قد عزما
وقال آخر :
فحياك ودّ من هداك لعسه
وخوص باعلاذي فضالة هجه
قيل : أراد ذلك الصنم . وقرأ الجمهور : ) وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ ( بغير تنوين ، فإن كانا عربيين ، فمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل ، وإن كانا عجميين ، فللعجمة والعلمية . وقرأ الأشهب : ولا يغوثا ويعوقا بتنوينهما . قال صاحب اللوامح : جعلهما فعولاً ، فلذلك صرفهما . فأما في العامة فإنهما صفتان من الغوث والعوق بفعل منهما ، وهما معرفتان ، فلذلك منع الصرف لاجتماع الفعلين اللذين هما تعريف ومشابهة الفعل المستقبل . انتهى ، وهذا تخبيط . أما أولاً ، فلا يمكن أن يكونا فعولاً ، لأن مادة يغث مفقودة وكذلك يعق ؛ وأما ثانياً ، فليسا بصفتين من الغوث والعوق ، لأن يفعلا لم يجىء اسماً ولا صفة ، وإنما امتنعا من الصرف لما ذكرناه . وقال ابن عطية : وقرأ الأعمش : ولا يغوثا ويعوقا بالصرف ، وذلك وهم لأن التعريف لازم ووزن الفعل . انتهى . وليس ذلك بوهم ، ولم ينفرد الأعمش بذلك ، بل قد وافقه الأشهب العقيلي على ذلك ، وتخريجه على أحد الوجهين ، أحدهما : أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب ، وذلك لغة وقد حكاها الكسائي وغيره ؛ والثاني : أنه صرف لمناسبة ما قبله وما بعده من المنون ، إذ قبله ) وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً ( ، وبعده ) وَنَسْراً ( ، كما قالوا في صرف ) سلاسلاً ( ، و ) قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ ( ، لمن صرف ذلك للمناسبة . وقال الزمخشري : وهذه قراءة مشكلة ، لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ففيهما منع الصرف ، ولعله قصد الازدواج فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات ) وُدّاً وَيَعُوقَ وَنَسْراً ( ، كما قرىء : ) وَضُحَاهَا ( بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواج . انتهى . وكان الزمخشري لو يدر أن ثم لغة لبعض العرب تصرف كل ما لا ينصرف عند عامتهم ، فلذلك استشكلها .
نوح : ( 24 ) وقد أضلوا كثيرا . . . . .
( وَقَدْ أَضَلُّواْ ( : أي الرؤساء المتبوعون ، ( كَثِيراً ( : من أتباعهم وعامتهم ، وهذا إخبار من نوح عليه السلام عنهم بما جرى على أيديهم من الضلال . وقال الحسن : ) وَقَدْ أَضَلُّواْ ( : أي الأصنام ، عاد الضمير عليها كما يعود على العقلاء ، كقوله تعالى : ) رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( ويحسنه عوده على أقرب مذكور ، ولكن عوده على الرؤساء أظهر ، إذ هم المحدث عنهم والمعنى فيهم أمكن . ولما أخبر أنهم قد ضلوا كثيراً ، دعا عليهم بالضلال ، فقال : ) وَلاَ تَزِدِ ( : وهي معطوفة على ) وَقَدْ أَضَلُّواْ ( ، إذ تقديره : وقال وقد أضلوا كثيراً ، فهي معمولة لقال المضمرة المحكي بها قوله : ) وَقَدْ أَضَلُّواْ ( ، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل ، بل قد يعطف ، جملة الإنشاء على جملة الخبر والعكس ، خلافاً لمن يدعي التناسب . وقال الزمخشري ما ملخصه : عطف ) وَلاَ تَزِدِ ( على ) رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى ( ، أي قال هذين القولين . ) إِلاَّ ضَلاَلاً ( ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو الله بزيادته ؟ قلت : المراد بالضلال أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم ، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به ، بل لا يحسن الدعاء بخلافه . انتهى ، وذلك على مذهب الاعتزال . قال : ويجوز أن يراد بالضلال الضياع والهلاك ، كما قال : ) وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً ). وقال ابن بحر : ) إِلاَّ ضَلاَلاً ( : إلا عذاباً ، قال كقوله : ) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ). وقيل : إلا خسراناً . وقيل : إلا ضلالاً في أمر دنياهم وترويج مكرهم وحيلهم .
نوح : ( 25 ) مما خطيئاتهم أغرقوا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ ( جمعاً بالألف والتاء مهموزاً ؛ وأبو رجاء كذلك ، إلا أنه أبدل الهمزة ياء وأدغم فيها ياء المد ؛ والجحدري وعبيد ، عن أبي عمرو : على الإفراد مهموزاً ؛ والحسن وعيسى والأعرج : بخلاف عنهم ؛

" صفحة رقم 337 "
وأبو عمرو : خطاياهم جمع تكسير ، وهذا إخبار من الله تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام بأن دعوة نوح عليه السلام قد أجيبت . وما زائدة للتوكيد ؛ ومن ، قال ابن عطية : لابتداء الغاية ، ولا يظهر إلا أنها للسبب . وقرأ عبد الله : من خطيئاتهم ما أغرقوا ، بزيادة ما بين أغرقوا وخطيئاتهم . وقرأ الجمهور : ) أُغْرِقُواْ ( بالهمزة ؛ وزيد بن عليّ : غرقوا بالتشديد وكلاهما للنقل وخطيئاتهم الشرك وما انجر معه من الكبائر ، ( فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( : أي جهنم ، وعبر عن المستقبل بالماضي لتحققه ، وعطف بالفاء على إرادة الحكم ، أو عبر بالدخول عن عرضهم على النار غدوّاً وعشياً ، كما قال : ) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ). قال الزمخشري : أو أريد عذاب القبر . انتهى . وقال الضحاك : كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب .
( فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً ( : تعريض بانتفاء قدرة آلهتهم عن نصرهم ،
نوح : ( 26 - 27 ) وقال نوح رب . . . . .
ودعاء نوح عليه السلام بعد أن أوحى إليه أنه ) لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ ( ، قاله قتادة . وعنه أيضاً : ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج الله كل مؤمن من الأصلاب ، وأعقم أرحام نسائهم ، وهذا لا يظهر لأنه قال : ) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ ( الآية ، فقوله : ) وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( يدل على أنه لم يعقم أرحام نسائهم ، وقاله أيضاً محمد بن كعب والربيع وابن زيد ، ولا يظهر كما قلنا ، وقد كان قبل ذلك طامعاً في إيمانهم عاطفاً عليهم . وفي الحديث : ( أنه ربما ضربه ناس منهم أحياناً حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون ) . ودياراً : من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي وما أشبهه ، ووزنه فيعال ، أصله ديوار ، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت ؛ ويقال : منه دوّار ووزنه فعال ، وكلاهما من الدوران ، كما قالوا : قيام وقوام ، والمعنى معنى أحد . وعن السدّي : من سكن داراً . وقال الزمخشري : وهو فيعال من الدور أو من الدار . انتهى . والدار أيضاً من الدور ، وألفها منقلبة عن واو . ) وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( : وصفهم وهم حالة الولادة بما يصيرون إليه من الفجور والكفر .
نوح : ( 28 ) رب اغفر لي . . . . .
ولما دعا على الكفار ، استغفر للمؤمنين ، فبدأ بنفسه ثم بمن وجب برّه عليه ، ثم للؤمنين ، فكأن هو ووالداه اندرجوا في المؤمنين والمؤمنات . وقرأ الجمهور : ) والوالديّ ( ، والظاهر أنهما أبوه لملك بن متوشلخ وأمه شمخاء بنت أنوش . وقيل : هما آدم وحوّاء . وقرأ ابن جبير والجحدري : ولوالدي بكسر الدال ، فأما أن يكون خص أباه الأقرب ، أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام . وقال ابن عباس : لم يكن لنوح عليه السلام أب ما بينه وبين آدم عليه السلام . وقرأ الحسن بن عليّ ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري وزيد بن عليّ : ولولداي تثنية ولد ، يعني ساماً وحاماً . ) وَلِوالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ ( ، قال ابن عباس والجمهور : مسجدي ؛ وعن ابن عباس أيضاً : شريعتي ، استعار لها بيتاً ، كما قالوا : قبة الإسلام وفسطاطه . وقيل : سفينته . وقيل : داره . ) وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( : دعا لكل مؤمن ومؤمنة في كل أمّة . والتبار : الهلاك .

" صفحة رقم 338 "
72
( سورة الجن )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً يَهْدِىإِلَى الرُّشْدِ فَأامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاٌّ نَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً وَأَنَّا لاَ نَدْرِىأَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الاٌّ رْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاٌّ رْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىءَامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَائِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لاّسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِىأَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّىأَمَداً عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَداً ( )

" صفحة رقم 339 "
الجن : ( 1 ) قل أوحي إلي . . . . .
الجد : لغة العظمة والجلال ، وجد في عيني : عظم وجل . وقال أبو عبيدة والأخفش : الملك والسلطان ، والجد : الحظ ، والجد : أبو الأب . الحرس : اسم جمع ، الواحد حارس ، كغيب واحده غائب ، وقد جمع على أحراس . قال الشاعر :
تجاوزت أحراساً وأهوال معشر كشاهد وأشهاد ، والحارس : الحافظ للشيء يرقبه . القدد : السير المختلفة ، الواحدة قدة . قال الشاعر : القابض الباسط الهادي بطاعته
في قنية الناس إذ أهواؤهم قدد
وقال الكميت : جمعت بالرأي منهم كل رافضة
إذ هم طرائق في أهوائهم قدد
تحرى الشيء : طلبه باجتهاد وتوخاه وقصده . الغدق : الكثير . اللبد ، جمع لبدة : وهو تراكم بعضه فوق بعض ، ومنه لبدة الأسد . ويقال للجراد الكثير المتراكم : لبد ، ومنه اللبد الذي يفرش ، يلبد صوفه : دخل بعضه في بعض .
( قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاْنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الاْرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىءامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ).
هذه السورة مكية . ووجه مناسبتها لما قبلها : أنه لما حكي تمادي قوم نوح في الكفر وعكوفهم على عبادة الأصنام ، وكان عليه الصلاة والسلام أول رسول إلى الأرض ؛ كما أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) آخر رسول إلى الأرض ، والعرب الذي هو منهم عليه الصلاة والسلام كانوا عباد أصنام كقوم نوح ، حتى أنهم عبدوا أصناماً مثل أصنام أولئك في الأسماء ، وكان ما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) من القرآن هادياً إلى الرشد ، وقد سمعته العرب ، وتوقف عن الإيمان به أكثرهم ، أنزل الله تعالى سورة الجن إثر سورة نوح ، تبكيتاً لقريش والعرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان ، إذ كانت الجن خيراً لهم وأقبل للإيمان ، هذا وهم من غير جنس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ ومع ذلك فبنفس ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا به للوقت ، وعرفوا أنه ليس من نمط كلام الناس ، بخلاف العرب فإنه نزل بلسانهم وعرفوا كونه معجزاً ، وهم مع ذلك مكذبون له ولمن جاء به حسداً وبغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده .
وقرأ الجمهور : ) قُلْ أُوحِىَ ( رباعياً ؛ وابن أبي عبلة والعتكي ، عن أبي عمرو ، وأبو أناس جوية بن عائذ الأسدي : وحى ثلاثياً ، يقال : وحى وأوحى بمعنى واحد . قال العجاج

" صفحة رقم 340 "
وحى إليها القرار فاستقرت . وقرأ زيد بن عليّ وجوية ، فيما روي عن الكسائي وابن أبي عبلة أيضاً : أحى بإبدال الواو همزة ، كما قالوا في وعد أعد . وقال الزمخشري : وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة . انتهى . وليس كما ذكر ، بل في ذلك تفصيل ، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولاً وحشواً وآخراً ، ولكل منها أحكام ، وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في النحو . قال الزمخشري : وقد أطلقه المازني في المكسور أيضاً ، كإشاح وإسادة وإعاء أخيه . انتهى ، وهذا تكثير وتبجح . وكان يذكر هذا في ) وِعَاء أَخِيهِ ( في سورة يوسف . وعن المازني في ذلك قولان : أحدهما : القياس كما قال ، والآخر : قصر ذلك على السماع .
و ) أَنَّهُ اسْتَمَعَ ( في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ؛ أي استماع ) نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ ( ، والمشهور أن هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف في قوله تعالى : ) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءانَ ( ، وهي قصة واحدة . وقيل : قصتان ، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوي ، والسورة التي استمعوها ، قال عكرمة : ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ ). وقيل : سورة الرحمن . ولم تتعرض الآية ، لا هنا ولا في سورة الأحقاف ، إلى أنه رآهم وكلمهم عليه الصلاة والسلام . ويظهر من الحديث ( أن ذلك كان مرتين : إحداهما : في مبدأ مبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو في الوقت الذي أخبر فيه عبد الله بن مسعود أنه لم يكن معه ليلة الجن ، وقد كانوا فقدوه عليه الصلاة والسلام ، فالتمسوه في الأودية والشعاب فلم يجدوه . فلما أصبح ، إذا هو جاء من قبل حراء ، وفيه أتاني داعي الجن ، فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن ، فانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نارهم . والمرة الآخرى : كان معه ابن مسعود ، وقد استندب ( صلى الله عليه وسلم ) ) من يقوم معه إلى أن يتلو القرآن على الجن ، فلم يقم أحد غير عبد الله بن مسعود ، فذهب معه إلى الحجون عند الشعب ، فخط على ه خطاً وقال : لا تجاوزه . فانحدر عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمثال الحجر يجرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفهن حتى غشوه فلا أراه فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع واختفوا في الأرض حتى ما أراهم ) . الحديث . ويدل على أنهما قصتان ، اختلافهم في العدد ، فقيل : سبعة ، وقيل : تسعة ، وعن زر : كانوا ثلاثة من أهل حران ، وأربعة من أهل نصيبين ، قرية باليمن غير القرية التي بالعراق . وعن عكرمة : كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل ، وأين سبعة من اثني عشر ألفاً ؟
) فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً ( : أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم ، ووصفوا قرآناً بقولهم ) عَجَبًا ( وصفاً بالمصدر على سبيل المبالغة ، أي هو عجب في نفسه لفصاحة كلامه ، وحسن مبانيه ، ودقة معانيه ، وغرابة أسلوبه ، وبلاغة مواعظه ، وكونه مبايناً لسائر الكتب . والعجب ما خرج عن أحد أشكاله ونظائره .
الجن : ( 2 ) يهدي إلى الرشد . . . . .
( يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ ( : أي يدعو إلى الصواب . وقيل : إلى التوحيد والإيمان . وقرأ الجمهور : ) الرُّشْدِ ( بضم الراء وسكون الشين ؛ وعيسى : بضمهما ؛ وعنه أيضاً : فتحهما . ) يَهْدِى إِلَى ( : أي بالقرآن . ولما كان الإيمان به متضمناً الإيمان بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا : ) وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً ).
وقرأ الحرميان والأبوان : بفتح الهمزة من قوله :
الجن : ( 3 - 5 ) وأنه تعالى جد . . . . .
( وَأَنَّهُ تَعَالَى ( وما بعده ، وهي اثنتا عشرة آية آخرها ) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ( ؛ وباقي السبعة : بالكسر . فأما الكسر فواضح لأنها معطوفات على قوله : ) إِنَّا سَمِعْنَا ( ، فهي داخلة في معمول القول . وأما الفتح ، فقال أبو حاتم : هو على ) أَوْحَى ( ، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله . انتهى . وهذا لا يصح ، لأن من المعطوفات ما لا يصح دخوله تحت ) أَوْحَى ( ، وهو كل ما كان فيه ضمير المتكلم ، كقوله : ) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ). ألا ترى أنه لا يلائم ) أُوحِىَ إِلَيْكَ ( ، ( إِنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ ( ، وكذلك باقيها ؟ وخرجت قراءة الفتح على أن تلك كلها معطوفة على الضمير المجرور في به من قوله : ) يَهْدِى إِلَى ( : أي وبأنه ، وكذلك باقيها ، وهذا جائز على مذهب الكوفيين ، وهو الصحيح . وقد تقدم احتجاجنا على صحة ذلك في قوله : ) وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (

" صفحة رقم 341 "
وقال مكي : هو أجود في أن منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر مع أن . وقال الزجاج : وجهه أن يكون محمولاً على آمنا به ، لأنه معناه : صدقناه وعلمناه ، فيكون المعنى : فآمنا به أنه تعالى جد ربنا ؛ وسبقه إلى نحوه الفراء قال : فتحت أن لوقوع الإيمان عليها ، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض ، فلا يمنعك ذلك من إمضائهن على الفتح ، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح أن نحو : صدقنا وشهدنا .
وأشار الفراء إلى أن بعض ما فتح لا يناسب تسليط آمنا عليه ، نحو قوله : ) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً ( ، وتبعهما الزمخشري فقال : ومن فتح كلهن فعطفاً على محل الجار والمجرور في آمنا به ، كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وأنه كان يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي . انتهى . ولم يتفطن لما تفطن له الفراء من أن بعضها لا يحسن أن يعمل فيه آمنا . وقرأ الجمهور : ) جَدُّ رَبّنَا ( ، بفتح الجيم ورفع الدال ، مضافاً إلى ربنا : أي عظمته ، قاله الجمهور . وقال أنس والحسن : غناه . وقال مجاهد : ذكره . وقال ابن عباس : قدره وأمره . وقرأ عكرمة : جد منوباً ، ربنا مرفوع الباء ، كأنه قال : عظيم هو ربنا ، فربنا بدل ، والجد في اللغة العظيم . وقرأ حميد بن قيس : جد بضم الجيم مضافاً ومعناه العظيم ، حكاه سيبويه ، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، والمعنى : تعالى ربنا العظيم . وقرأ عكرمة : جداً ربنا ، بفتح الجيم والدال منوناً ، ورفع ربنا وانتصب جداً على التمييز المنقول من الفاعل ، أصله ) تَعَالَى جَدُّ رَبّنَا ). وقرأ قتادة وعكرمة أيضاً : جداً بكسر الجيم والتنوين نصباً ، ربنا رفع . قال ابن عطية : نصب جداً على الحال ، ومعناه : تعالى حقيقة ومتمكناً . وقال غيره : هو صفة لمصدر محذوف تقديره : تعاليا جداً ، وربنا مرفوع بتعالى . وقرأ ابن السميفع : جدي ربنا ، أي جدواه ونفعه . وقرأ الجمهور : ) يَقُولُ سَفِيهُنَا ( : هو إبليس . وقيل : هو اسم جنس لكل سفيه ، وإبليس مقدم السفهاء . والشطط : التعدي وتجاوز الجد . قال الأعشى : أينتهون ولن ينهى ذوو شطط
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
ويقال : أشط في السوم إذا أبعد فيه ، أي قولا هو في نفسه شطط ، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى . ) وَأَنَّا ظَنَنَّا ( الآية : أي كنا حسنا الظن بالإنس والجن ، واعتقدنا أن أحداً لا يجترىء على أن يكذب على الله فينسب إليه الصاحبة والولد ، فاعتقدنا صحة ما أغوانا به إبليس ومردته حتى سمعنا القرآن فتبينا كذبهم . وقرأ الجمهور : ) أَن لَّن تَقُولَ ( مضارع قال ؛ والحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم : تقول مضارع تتقول ، حذفت إحدى التاءين وانتصب ) كَذِبًا ( في قراءة الجمهور بتقول ، لأن الكذب نوع من القول ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي قولا كذباً ، أي مكذوباً فيه . وفي قراءة الشاذ على أنه مصدر لتقول ، لأنه هو الكذب ، فصار كقعدت جلوساً .
الجن : ( 6 ) وأنه كان رجال . . . . .
( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ ). روى الجمهور أن الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في وادٍ نادى بأعلى صوته : يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك ، فيعتقد بذلك أن الجني الذي بالوادي يمنعه ويحميه . فروي أن الجن كانت تقول عند ذلك : لا نملك لكم ولا لأنفسنا من الله شيئاً . قال مقاتل : أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن ، ثم بنو حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب . والظاهر أن الضمير المرفوع في ) فَزَادوهُمْ ( عائد على ) رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ ( ، إذ هم المحدث عنهم ، وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير . ) فَزَادوهُمْ ( أي الإنس ، ( رَهَقاً ( : أي جراءة وانتخاءً وطغياناً وغشيان المحارم وإعجاباً بحيث قالوا : سدنا الإنس والجن ، وفسر قوم الرهق بالإثم . وأنشد الطبري في ذلك بيت الأعشى : لا شيء ينفعني من دون رؤيتها
لا يشتفي وامق ما لم يصب رهقاً

" صفحة رقم 342 "
قال معناه : ما لم يغش محرماً ، والمعنى : زادت الإنس الجن مأثماً لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالاً لمحارم الله تعالى . وقال قتادة وأبو العالية والربيع وابن زيد : ) فَزَادوهُمْ ( ، أي الجن زادت الإنس مخافة يتخيلون لهم بمنتهى طاقتهم ويغوونهم لما رأوا من خفة أحلامهم ، فازدروهم واحتقروهم . وقال ابن جبير : ) رَهَقاً ( : كفراً . وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجن ، فالمعنى : وإنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس ، وكان الرجل يقول مثلاً : أعوذ بحذيفة بن اليمان من جن هذا الوادي ، وهذا قول غريب .
الجن : ( 7 ) وأنهم ظنوا كما . . . . .
( وَأنَّهُمْ ( : أي كفار الإنس ، ( ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ ( أيها الجن ، يخاطب به بعضهم بعضاً . وظنوا وظننتم ، كل منهما يطلب ، ( أَن لَّن يَبْعَثَ ( ، فالمسألة من باب الإعمال ، وإن هي المخففة من الثقيلة . وقيل : الضمير في وأنهم يعود على الجن ، والخطاب في ظننتم لقريش ، وهذه والتي قبلها هما من الموحى به لا من كلام الجن : ) أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً ( : الظاهر أنه بعثة الرسالة إلى الخلق ، وهو أنسب لما تقدم من الآي ولما تأخر . وقيل : بعث القيامة .
الجن : ( 8 ) وأنا لمسنا السماء . . . . .
( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء ( : أصل اللمس المس ، ثم استعير للتطلب ، والمعنى : طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها فوجدناها ملئت . الظاهر أن وجد هنا بمعنى صادف وأصاب وتعدت إلى واحد ، والجملة من ) مُلِئَتْ ( في موضع الحال ، وأجيز أن تكون تعدت إلى اثنين ، فملئت في موضع المفعول الثاني . وقرأ الأعرج : مليت بالياء دون همز ، والجمهور : بالهمز ، وشديداً : صفة للحرس على اللفظ لأنه اسم جمع ، كما قال :
أخشى رجيلاً أو ركيباً عادياً
ولو لحظ المعنى لقال : شداداً بالجمع . والظاهر أن المراد بالحرس : الملائكة ، أي حافظين من أن تقربها الشياطين ، وشهباً جمع شهاب ، وهو ما يرحم به الشياطين إذا استمعوا . قيل : ويحتمل أن يكون الشهب هم الحرس ، وكرر المعنى لما اختلف اللفظ نحو :
وهند أتى من دونها النأي والبعد
وقوله : ) فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ ( يدل على أنها كانت قبل ذلك يطرقون السماء ولا يجدونها قد ملئت .
الجن : ( 9 ) وأنا كنا نقعد . . . . .
( مَقَاعِدَ ( جمع مقعد ، وقد فسر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) صورة قعود الجن أنهم كانوا واحداً فوق واحد ، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه ، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها ، ثم يزيد الكهان الكلمة مائة كذبة . ) فَمَن يَسْتَمِعِ الاْنَ ( ، الآن ظرف زمان للحال ، ويستمع مستقبل ، فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال ، كما قال :
سأسعى الآن إذ بلغت اناها
فالمعنى : فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي ، ( يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ( : أي يرصده فيحرقه ، هذا لمن استمع . وأما السمع فقد انقطع ، كما قال تعالى : ) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ( ، والرجم كان في الجاهلية ، وذلك مذكور

" صفحة رقم 343 "
في أشعارهم ، ويدل عليه الحديث حين رأى عليه الصلاة والسلام نجماً قد رمي به ، قال : ( ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية ) ؟ قالوا : كنا نقول : يموت عظيم أو يولد عظيم . قال أوس بن حجر : وانقض كالدري يتبعه
نقع يثور بحالة طنبا
وقال عوف بن الجزع : فرد علينا العير من دون إلفه
أو الثور كالدري يتبعه الدم
وقال بشر بن أبي حازم : والعير يرهقها الغبار وجحشها
ينقض خلفهما انقضاض الكوكب
قال التبريزي : وهؤلاء الشعراء كلهم جاهليون ليس فيهم محضرم ، وقال معمر : قلت للزهري : أكان يرمي بالنجوم في الجاهلي ؟ قال : نعم ، قلت : أرأيت قوله : ) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ( ؟ فقال : غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الجاحظ : القول بالرمي أصح لقوله : ) فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ ( ، وهذا إخبار عن الجن أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت ، ولما روى ابن عباس وذكر الحديث السابق . وقال الزمخشري : تابعاً للجاحظ ، وفي قوله دليل على أن الحرس هو الملء والكثرة ، فلذلك ) نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ ( : أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب ، والآن ملئت المقاعد كلها . انتهى . وهذا كله يبطل قول من قال : إن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو إحدى آياته . والظاهر أن رصداً على معنى : ذوي شهاب راصدين بالرجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع .
الجن : ( 10 ) وأنا لا ندري . . . . .
ولما رأوا ما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا : ) وإنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الاْرْضِ ( ، وهو كفرهم بهذا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فينزل بهم الشر ، ( أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ( ، فيؤمنون به فيرشدون . وحين ذكروا الشر لم يسندوه إلى الله تعالى ، وحين ذكروا الرشد أسندوه إليه تعالى .
الجن : ( 11 ) وأنا منا الصالحون . . . . .
( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ( : أخبروا بما هم عليه من صلاح وغيره . ) وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ( : أي دون الصالحين ، ويقع دون في مواضع موقع غير ، فكأنه قال : ومنا غير صالحين . ويجوز أن يريدوا : ومنادون ذلك في الصلاح ، أي فيهم أبرار وفيهم من هو غير كامل في الصلاح ، ودون في موضع الصفة لمحذوف ، أي ومنا قوم دون ذلك . ويجوز حذف هذا الموصوف في التفصيل بمن ، حتى في الجمل ، قالوا : منا ظعن ومنا أقام ، يريدون : منا فريق ظعن ومنا فريق أقام ، والجملة من قوله : ) كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً ( تفسير للقسمة المتقدمة . قال ابن عباس وعكرمة وقتادة : أهواء مختلفة ، وقيل : فرقاً مختلفة . وقال الزمخشري : أي كنا ذوي مذاهب مختلفة ، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة ، أو كنا في طرائق مختلفة كقوله :
كما عسل الطريق الثعلب أو كانت طرائقنا قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه . انتهى . وفي تقديريه الأولين حذف المضاف من طرائق وإقامة المضاف إليه مقامه ، إذ حذف ذوي ومثل . وأما التقدير الثالث ، وهو

" صفحة رقم 344 "
أن ينتصب على إسقاط في ، فلا يجوز ذلك إلا في الضرورة ، وقد نص سيبويه على أن عسل الطريق شاذ ، فلا يخرج القرآن عليه .
الجن : ( 12 ) وأنا ظننا أن . . . . .
( وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ ( : أي أيقنا ، ( فِى الاْرْضِ ( : أي كائنين في الأرض ، ( وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً ( : أي من الأرض إلى السماء ، وفي الأرض وهرباً حالان ، أي فارين أو هاربين .
الجن : ( 13 ) وأنا لما سمعنا . . . . .
( وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ( : وهو القرآن ، ( بِهِ إِنَّهُ ( : أي بالقرآن ، ( فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ ( : أي فهو لا يخاف . وقرأ ابن وثاب والأعمش والجمهور : ) فَلاَ يَخَافُ ( ، وخرجت قراءتهما على النفي . وقيل : الفاء زائدة ولا نفي وليس بشيء ، وكان الجواب بالفاء أجود من المجيء بالفعل مجزوماً دون الفاء ، لأنه إذا كان بالفاء كان إضمار مبتدأ ، أي فهو لا يخاف . والجملة الاسمية أدل وآكد من الفعلية على تحقق مضمون الجملة . ) بَخْساً ( ، قال ابن عباس : نقص الحسنات ، ( وَلاَ رَهَقاً ( ، قال : زيادة في السيئات ، ( وَلاَ رَهَقاً ( ، قيل : تحميل ما لا يطاق . وقال الزمخشري : أي جزاء بخس ولا رهق ، لأنه لم يبخس أحداً حقاً ولا رهق ظلم أحد ، فلا يخاف جزاءهما . ويجوز أن يراد : فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى ، ولا أن ترهقه ذلة من قوله عز وجل : ) تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ). انتهى . وقرأ الجمهور : ) بَخْساً ( بسكون الخاء ؛
الجن : ( 14 - 15 ) وأنا منا المسلمون . . . . .
وابن وثاب : بفتحها . ) وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ( : أي الكافرون الجائزون عن الحق . قال مجاهد وقتادة : والبأس القاسط : الظالم ، ومنه قول الشاعر : قوم هم قتلوا ابن هند عنوة
وهمو اقسطوا على النعمان
وجاء هذا التقسيم ، وإن كان قد تقدم ) وَأَنَّا مِنَّا ( ، ومنا دون ذلك ليذكر حال الفريقين من النجاة والهلكة ويرغب من يدخل في الإسلام . والظاهر أن ) الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ ( إلى آخر الشرطين من كلام الجن . وقال ابن عطية : الوجه أن يكون ) فَمَنْ أَسْلَمَ ( مخاطبة من الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وسلم ويؤيده ما بعد من الآيات . وقرأ الأعرج : رشداً ، بضم الراء وسكون الشين ؛ والجمهور : بفتحهما . وقال الزمخشري : وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم ، وكفى به وعيداً ، أي فأولئك تحروا رشداً ، فذكر سبب الثواب وموجبه ، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال في قوله وموجبه .
قوله عز وجل : ) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً لّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا ادْعُواْ رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْء عَدَداً ).
الجن : ( 16 ) وأن لو استقاموا . . . . .
هذا من جملة الموحى المندرج تحت ) أُوحِىَ إِلَيْكَ ( ، وأن مخففة من الثقيلة ، والضمير في ) اسْتَقَامُواْ ( ، قال الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبو مجلز : هو عائد على قوله : ) فَمَنْ أَسْلَمَ ( ، والطريقة : طريقة الكفر ، أي لو كفر من أسلم من الناس ) لاَسْقَيْنَاهُم ( إملاء لهم واستدراجاً واستعارة ، الاستقامة للكفر قلقة لا تناسب . وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جبير : هو عائد على القاسطين ، والمعنى على الطريقة الإسلام والحق ، لأنعمنا عليهم ، نحو قوله : ) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ ). وقيل : الضمير في استقاموا عائد على الخلق كلهم ، وأن هي

" صفحة رقم 345 "
المخففة من الثقيلة . ) لاَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ( : كناية عن توسعة الرزق لأنه أصل المعاش . وقال بعضهم : المال حيث الماء . وقرأ الجمهور : ) غَدَقاً ( بفتح الدال ؛ وعاصم في رواية الأعشى : بكسرها ؛ ويقال : غدقت العين تغدق غدقاً فهي غدقة ، إذا كثر ماؤها .
الجن : ( 17 ) لنفتنهم فيه ومن . . . . .
( لِنَفْتِنَهُمْ ( : أي لنختبرهم كيف يشكرون ما أنعم عليهم به ، أو لمنتحنهم ونستدرجهم ، وذلك على الخلاف في من يعود عليه الضمير في ) اسْتَقَامُواْ ). وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لو ؛ والجمهور : بكسرها . وقرأ الكوفيون : ) يَسْلُكْهُ ( بالياء ؛ وباقي السبعة : بالنون ؛ وابن جندب : بالنون من أسلك ؛ وبعض التابعين : بالياء من أسلك أيضاً ، وهما لغتان : سلك وأسلك ، قال الشاعر :
حتى إذا أسلكوهم في قائدة وقرأ الجمهور : ) صَعَداً ( بفتحتين ، وذو مصدر صعد وصف به العذاب ، أي يعلو المعذب ويغلبه ، وفسر بشاق . يقال : فلان في صعد من أمره ، أي في مشقة . وقال عمر : ما يتصعد بي شيء كما يتصعد في خطبة النكاح ، أي ما يشق عليّ . وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس : صعد : جبل في النار . وقال الخدري : كلما وضعوا أيديهم عليه ذابت . وقال عكرمة : هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها ، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم ، فعلى هذا يجوز أن يكون بدلاً من عذاب على حذف مضاف ، أي عذاب صعد . ويجوز أن يكون صعداً مفعول يسلكه ، وعذاباً مفعول من أجله . وقرأ قوم : صعداً بضمتين ؛ وابن عباس والحسن : بضم الصاد وفتح العين . قال الحسن : معناه لا راحة فيه .
الجن : ( 18 ) وأن المساجد لله . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ ( ، بفتح الهمزة عطفاً على ) أَنَّهُ اسْتَمَعَ ( ، فهو من جملة الموحى . وقال الخليل : معنى الآية : ) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ ( : أي لهذا السبب ، وكذلك عنده ) لإِيلَافِ قُرَيْشٍ ( ، ( فَلْيَعْبُدُواْ ( ، وكذلك ) وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ ( : أي ولأن هذه . وقرأ ابن هرمز وطلحة : وإن المساجد ، بكسرها على الاستئناف وعلى تقدير الخليل ، فالمعنى : فلا تدعوا مع الله أحداً في المساجد لأنها لله خاصة ولعبادته ، والظاهر أن المساجد هي البيوت المعدة للصلاة والعبادة في كل ملة . وقال الحسن : كل موضع سجد فيه فهو مسجد ، كان مخصوصاً لذلك أو لم يكن ، لأن الأرض كلها مسجد هذه الأمة . وأبعد ابن عطاء في قوله إنها الآراب التي يسجد عليها ، واحدها مسجد بفتح الجيم ، وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان عد الجبهة والأنف واحداً وأبعد أيضاً من قال المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد ، وقال : إنه جمع مسجد وهو السجود . وروي أنها نزلت حين تغلبت قريش على الكعبة ، فقيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : المواضع كلها لله ، فاعبده حيث كنت . وقال ابن جبير : نزلت لأن الجن قالت : يا رسول الله ، كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك ؟ فنزلت الآية ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كنتم مقبولة إذ دخلنا المساجد .
وقرأ الجمهور : ) وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ ( بفتح الهمزة ، عطفاً على قراءتهم ) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ ( بالفتح . وقرأ ابن هرمز وطلحة ونافع وأبو بكر . بكسرها على الاستئناف ؛
الجن : ( 19 ) وأنه لما قام . . . . .
وعبد الله هو محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ( يَدْعُوهُ ( : أي يدعو الله ) كَادُواْ ( : أي كاد الجن ، قال ابن عباس والضحاك : ينقضون عليه لاستماع القرآن . وقال الحسن وقتادة : الضمير في ) كَادُواْ ( لكفار قريش والعرب في اجتماعهم على رد أمره . وقال ابن جبير : المعنى أنها قول الجن لقومهم يحكمون ، والضمير في ) كَادُواْ ( لأصحابة الذين يطوعون له ويقيدون به في الصلاة . قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل رسول الله أو النبي ؟ قلت : لأن تقديره وأوحي إليّ أنه لما قام عبد الله ، فلما كان واقعاً في كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن نفسه ، جيء به على ما

" صفحة رقم 346 "
يقتضيه التواضع والتذلل ؛ أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله لله ليست بأمر مستعبد عن العقل ولا مستنكر حتى يكونوا عليه لبداً . ومعنى قام يدعوه : قام يعبده ، يريد قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن ، فاستمعوا لقراءته عليه السلام . ) كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( : أي يزدحمون عليه متراكمين ، تعجباً مما رأوا من عبادته ، واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً وساجداً ، وإعجاباً بما تلا من القرآن ، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره . انتهى ، وهو قول متقدم كثره الزمخشري بخطابته . وقرأ الجمهور : ) لِبَداً ( بكسر اللام وفتح الباء جمع لبدة ، نحو : كسرة وكسر ، وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض ، ومنه قول عبد مناف بن ربيع : صافوا بستة أبيات وأربعة
حتى كأن عليهم جانباً لبداً
وقال ابن عباس : أعواناً . وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر : بخلاف عنه بضم اللام جمع لبدة ، كزبرة وزبر ؛ وعن ابن محيصن أيضاً : تسكين الباء وضم اللام لبداً . وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو : بضمتين جمع لبد ، كرهن ورهن ، أو جمع لبود ، كصبور وصبر . وقرأ الحسن والجحدري : بخلاف عنهما ، لبداً بضم اللام وشد الباء المفتوحة . قال الحسن وقتادة وابن زيد : لما قام الرسول للدعوة ، تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه ، فأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره . انتهى . وأبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه السلام ، كاد قومه يقتلونه حتى استنقذه الله منهم ، قاله الحسن . وأبعد منه قول من قال إنه عبد الله بن سلام .
الجن : ( 20 ) قل إنما أدعو . . . . .
وقرأ الجمهور : قال إنما أدعوا ربي : أي أعبده ، أي قال للمتظاهرين عليه : ) إِنَّمَا ادْعُواْ رَبّى ( : أي لم آتكم بأمر ينكر ، إنما أعبد ربي وحده ، وليس ذلك مما يوجب إطباقكم على عداوتي . أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين : ليس ما ترون من عبادة الله بأمر يتعجب منه ، إنما يتعجب ممن يعبد غيره . أو قال الجن لقومهم : ذلك حكاية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهذا كله مرتب على الخلاف في عود الضمير في ) كَادُواْ ). وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو بخلاف عنه : ) قُلْ ( : أي قل يا محمد لهؤلاء المزدحمين عليك ، وهم إما الجن وإما المشركون ، على اختلاف القولين في ضمير ) كَادُواْ ).
الجن : ( 21 ) قل إني لا . . . . .
ثم أمره تعالى أن يقول لهم ما يدل على تبرئه من القدرة على إيصال خير أو شر إليهم ، وجعل الضر مقابلاً للرشد تعبيراً به عن الغي ، إذ الغي ثمرته الضرر ، يمكن أن يكون المعنى : ضراً ولا نفعاً ولا غياً ولا رشد ، فحذف من كل ما يدل عليه مقابله . قرأ الأعرج : رشداً بضمتين .
الجن : ( 22 ) قل إني لن . . . . .
ولما تبرأ عليه السلام من قدرته على نفعهم وضرهم ، أمر بأن يخبرهم بأنه مربوب لله تعالى ، يفعل فيه ربه ما يريد ، وأنه لا يمكن أن يجبره منه أحد ، ولا يجد من دونه ملجأ يركن إليه ، قال قريباً منه قتادة . وقال السدي : حرزاً . وقال الكلبي : مدخلاً في الأرض ، وقيل : ناصراً ، وقيل : مذهباً ومسلكاً ، ومنه قول الشاعر : يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية
عني وما من قضاء الله ملتحد
وقيل : في الكلام حذف وهو : قالوا له أترك ما ندعو إليه ونحن نجيرك ، فقيل له : قل لن يجيرني . وقيل : هو جواب لقول وردان سيد الجن ، وقد ازدحموا عليه ، قال وردان : أنا أرحلهم عنك ، فقال : إني لن يجبرني أحد ، ذكره الماوردي .
الجن : ( 23 ) إلا بلاغا من . . . . .
( إِلاَّ بَلاَغاً ( ، قال الحسن : هو استثناء منقطع ، أي لن يجيرني أحد ، لكن إن بلغت رحمني بذلك . والإجارة للبلاغ مستعارة ، إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته . وقيل على هذا المعنى : هو استثناء متصل ، أي لن يجيرني في أحد ، لكن لم أجد شيئاً أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيزني الله ، فيجوز نصبه على الاستثناء من ملتحداً وعلى

" صفحة رقم 347 "
البدل وهو الوجه ، لأن ما قبله نفياً ، وعلى البدل خرجه الزجاج . وقال أبو عبد الله الرازي : هذا الاستثناء منقطع ، لأنه لم يقل : ولم أجد ملتحداً بل ، قال : ) مِن دُونِهِ ( ؛ والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحت قوله : ) مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( لأنه لا يكون من دون الله ، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه . وقال قتادة : التقدير لا أملك إلا بلاغاً إليكم ، فأما الإيمان والكفر فلا أملك . انتهى ، وفيه بعد لطول الفصل بينهما . وقيل ، إلا في تقدير الانفصال : إن شرطية ولا نافية ، وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه ، والتقدير : إن لم أبلغ بلاغاً من الله ورسالته ، وهذا كما تقول : إن لا قياماً قعوداً ، أي إن لم تقيم قياماً فاقعد قعوداً ، وحذف هذا الفعل قد يكون لدلالة عليه بعده أو قبله ، كما حذف في قوله : فطلقها فلست لها بكفء
وإلا يعل مفرقك الحسام
التقدير : وإن لا تطقها ، فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه ، ومن لابتداء الغاية . وقال الزمخشري : تابعاً لقتادة ، أي لا أملك إلا بلاغاً من الله ، و ) قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى ( : جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه على معنى إن الله إن أراد به سوأ من مرض أو موت أو غيرهما لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذاً يأوي إليه . انتهى . ) وَرِسَالَاتِهِ ( ، قيل : عطف على ) بَلاَغاً ( ، أي إلا أن أبلغ عن الله ، أو أبلغ رسالاته . الظاهر أن رسالاته عطف على الله ، أي إلا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته . ) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( : أي بالشرك والكفر ، ويدل عليه قوله : ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ). وقرأ الجمهور : ) فَإِنَّ لَهُ ( بكسر الهمزة . وقرأ طلحة : بفتحها ، والتقدير : فجزاؤه أن له . قال ابن خالويه : وسمعت ابن مجاهد يقول : ما قرأ به أحد وهو لحن ، لأنه بعد فاء الشرط . وسمعت ابن الأنباري يقول : هو ضراب ، ومعناه : فجزاؤه أن له نار جهنم . انتهى . وكان ابن مجاهد إماماً في القراآت ، ولم يكن متسع النقل فيها كابن شنبوذ ، وكان ضعيفاً في النحو . وكيف يقول ما قرأ به أحد ؟ وهذا كطلحة بن مصرّف قرأ به . وكيف يقول وهو لحن ؟ والنحويون قد نصوا على أن إن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر . وجمع ) خَالِدِينَ حِمْلاً ( على معنى من ، وذلك بعد الحمل على لفظ من في قوله : ) يَعْصِ ( ، ( فَإِنَّ لَهُ ).
الجن : ( 24 ) حتى إذا رأوا . . . . .
( حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ ( : حتى هنا حرف ابتداء ، أي يصلح أن يجيء بعدها جملة الابتداء والخبر ، ومع ذلك فيها معنى الغاية . قال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له ؟ قلت : بقوله ) يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( ، على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم ) حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ ( من يوم بدر ، وإظهار الله له عليهم ، أو من يوم القيامة ، ( فَسَيَعْلَمُونَ ( حينئذ أنهم ) أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً ). ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده ، كأنه لا يزالون على ما هم عليه ) حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ ). قال المشركون : متى يكون هذا الموعد إنكاراً له ؟ فقيل : قل إنه كائن لا ريب فيه فلا تنكروه ، فإن الله قد وعد ذلك ، وهو لا يخلف الميعاد . وأما وقته فلا أدري متى يكون ، لأن الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة . انتهى . وقوله : بم تعلق إن ؟ عنى تعلق حرف الجر ، فليس بصحيح لأنها حرف ابتداء ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج وابن درستوية ، فإنهما زعما أنها إذا كانت حرف ابتداء ، فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر ؛ وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها ، وكون ما بعدها غاية لما قبلها ، فهو صحيح . وأما تقديره أنها تتعلق بقوله : ) يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( ، فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة . وقال التبريزي : حتى جاز أن تكون غاية لمحذوف ، ولم يبين ما المحذوف . وقيل : المعنى دعهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من الساعة ، ( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً ( ، أهم أم أهل الكتاب ؟ والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم بكينونة النار لهم ، كأنه قيل : إن العاصي يحكم له بكينونة النار لهم ،

" صفحة رقم 348 "
والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فسيعلمون . فقوله : ) فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( هو وعيد لهم بالنار ، ومن أضعف مبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله ، وهو معلق عنه لأن من استفهام . ويجوز أن تكون من موصولة في موضع نصب بسيعلمون ، وأضعف خبر مبتدأ محذوف . والجملة صلة لمن ، وتقديره : هو أضعف ، وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصراً . قال مكحول : لم ينزل هذا إلا في الجن ، أسلم منهم من وفق وكفر من خذل كالإنس ، قال : وبلغ من تابع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ليلة الجن سبعين ألفاً ، وفزعوا عند انشقاق الفجر .
الجن : ( 25 ) قل إن أدري . . . . .
ثم أمره تعالى أن يقول لهم إنه لا يدري وقت طول ما وعدوا به ، أهو قريب أم بعيد ؟ .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : ) أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً ( ، والأمد يكون قريباً وبعيداً ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : ) تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا ( ؟ قلت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يستقرب الموعد ، فكأنه قال : ( ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية ) ؟
الجن : ( 26 - 27 ) عالم الغيب فلا . . . . .
أي هو عالم الغيب . ) فَلاَ يُظْهِرُ ( : فلا يطلع ، و ) مِن رَّسُولٍ ( تبيين لمن ارتضى ، يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضي الذي هو مصطفى للنبوّة خاصة ، لا كل مرتضي ، وفي هذه إبطال للكرامات ، لأن الذين تضاف إليهم ، وإن كانوا أولياء مرتضين ، فليسوا برسل . وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم ، لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط . انتهى . وقال ابن عباس : ) عَالِمُ الْغَيْبِ ( ، قال الحسن : ما غاب عن خلقه ، وقيل : الساعة . وقال ابن عباس : إلا بمعنى لكن ، فجعله استثناء منقطعاً . وقيل : إلا بمعنى ولا أي ، ولا من ارتضى من رسول وعالم خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عالم الغيب ، أو بدل من ربي . وقرىء : عالم بالنصب على المدح . وقال السدّي : علم الغيب ، فعلاً ماضياً ناصباً ، والجمهور : عالم الغيب اسم فاعل مرفوعاً . وقرأ الجمهور : ) فَلاَ يُظْهِرُ ( من أظهر ؛ والحسن : يظهر بفتح الياء والهاء من ظهر ، ( إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ( : استثناء من أحداً ، أي فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك ، فإنه يسلك الله من بين يدي ذلك الرسول ، ( وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ( : أي حفظة يحفظونه من الجن ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إلى ذلك الرسول من علم الغيب . وعن الضحاك : ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك .
وقال القرطبي : قال العلماء : لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم ، ثم ذكر استدلالاً على بطلان ما يقوله المنجم ، ثم قال باستحلال دم المنجم . وقال الواحدي : في هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدل على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن . قال أبو عبد الله الرازي والواحدي : تجوز الكرامات على ما قال صاحب الكشاف ، فجعلها تدل على المنع من الأحكام النجومية ولا تدل على الإلهامات مجرد تشبه ، وعندي أن الآية لا تدل على شيء مما قالوه ، لأن قوله : ) عَلَى غَيْبِهِ ( ليس فيه صفة عموم ، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر خلقه تعالى على غيب واحد من غيوبه ، ويحمله على وقت قيام القيامة فلا يبقى دليل في الآية على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد ، ويؤكده أنه ذكر هذه الآية عقيب قوله : ) إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ( الآية : أي لا أدري وقت وقوع القيامة ، إذ هي من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد . و ) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى ( : استثناء منقطع ، كأنه قال : فلا يظهر على غيبه المخصوص أحداً إلا من ارتضى من رسول ، فله حفظة يحفظونه من شرّ مردة الإنس والجن .
قال أبو عبد الله الرازي : واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس المراد من هذه الآية أنه لا يطلع أحد على شيء من المغيبات إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام ، والذي يدل عليه وجوه : أحدها : أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبل زمان ظهوره ، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وثانيها : إطباق الأمم على صحة علم التعبير ، فيخبر المعبر عن ما

" صفحة رقم 349 "
يأتي في المستقبل ويكون صادقاً . وثالثها : أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن أشياء في المستقبل فأخبرت بها ووقعت على وفق كلامها ، فقد رأيت أناساً محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة على سبيل التفصيل وجاءت كذلك ، وبالغ أبو البركات صاحب المعتبر في شرح حالها في كتاب التعبير وقال : فحصت عن حالها منذ ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات أخباراً مطابقة موافقة . ورابعها : أنا نشاهد أصحاب الإلهامات الصادقة ، ليس هذا مختصاً بالأولياء ، فقد يوجد في السحرة وفي الأحكام النجومية ما يوافق الصدق ، وإن كان الكذب يقع منهم كثيراً . وإذا كان ذلك مشاهداً محسوساً ، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن ، وذلك بأطل . فقلنا : إن التأويل الصحيح ما ذكرناه . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وإنما أوردنا كلام هذا الرجل في هذه المسألة لننظر فيما ذكر من تلك الوجوه .
أما قصة شق وسطيح فليس فيها شيء من الإخبار بالغيب ، لأنه مما يخبر به رئي الكهان من الشياطين مسترقة السمع ، كما جاء في الحديث : ( إنهم يسمعون الكلمة ويكذبون ويلقون إلى الكهنة ويزيد الكهنة للكلمة مائة كذبة ) . وليس هذا من علم الغيب ، إذ تكلمت به الملائكة ، وتلقفها الجني ، وتلقفها منه الكاهن ؛ فالكاهن لم يعلم الغيب .
وأما تعبير المنامات ، فالمعبر غير المعصوم لا يعبر بذلك على سبيل البت والقطع ، بل على سبيل الحزر والتخمين ، وقد يقع ما يعبر به وقد لا يقع .
وأما الكاهنة البغدادية وما حكي عنها فحسبه عقلاً أن يستدل بأحوال امرأة لم يشاهدها ، ولو شاهد ذلك لكان في عقله ما يجوز أنه لبس عليه هذا ، وهو العالم المصنف الذي طبق ذكره الآفاق ، وهو الذي شكك في دلائل الفلاسفة وسامهم الخسف .
وأما حكايته عن صاحب المعتبر ، فهو يهودي أظهر إسلامه وهو منتحل طريقة الفلاسفة . وأما مشاهدته أصحاب الإلهامات الصادقة ، فلي من العمر نحو من ثلاث وسبعين سنة أصحب العلماء وأتردد إلى من ينتمي إلى الصلاح ، فلم أر أحداً منهم صاحب إلهام صادق .
وأما الكرامات ، فلا أشك في صدور شيء منها ، لكن ذلك على سبيل الندرة ، وذلك في من سلف من صلحاء هذه الأمة ؛ وربما قد يكون في أعصارنا من تصدر منه الكرامات ، ولله تعالى أن يخص من شاء بما شاء والله الموفق .
الجن : ( 28 ) ليعلم أن قد . . . . .
وقرأ الجمهور : ) لِيَعْلَمَ ( مبنياً للفاعل . قال قتادة : ليعلم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وحفظوا . وقال ابن جبير : ليعلم محمد أن الملائكة الحفظة الرصد النازلين بين يدي جبريل وخلفه قد أبلغوا رسالات ربهم . وقال مجاهد : ليعلم من أشرك وكذب أن الرسل قد بلغت ، وعلى هذا القول لا يقع لهم هذا العلم إلا في الآخرة . وقيل : ليعلم الله رسله مبلغة خارجة إلى الوجود ، لأن علمه بكل شيء قد سبق . واختار الزمخشري هذا القول الأخير فقال : ) لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبّهِمْ ( : يعني الأنبياء . وحد أولاً على اللفظ في قوله : ) مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ( ، ثم جمع على المعنى كقوله : ) فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ ( ، والمعنى : ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان ، وذكر العلم كذكره في قوله ) حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ). انتهى . وقيل : ) لِيَعْلَمَ ( ، أي : أيّ رسول كان أن الرسل سواه بلغوا . وقيل : ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه وإسراف أصحابه . وقيل : ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم . وقيل : ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه . وقيل : ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم ، ولم يكونوا هم المتلقين بإستراق السمع . وقرأ ابن عباس وزيد بن عليّ : ليعلم ، بضم الياء مبنياً للمفعول ؛ والزهري وابن أبي عبلة : بضم الياء وكسر اللام ، أي ليعلم الله ، أي من شاء أن يعلمه ، أن الرسل قد أبلغوا رسالاته .
وقرأ الجمهور : ) رِسَالاتِ ( على الجمع ؛ وأبو حيوة : على الإفراد . وقرأ الجمهور : ) وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ( : وأحاط مبنياً للفاعل ، أي الله ، ( وَأَحْصَى ( : مبنياً للفاعل ، أي الله كل نصباً ؛ وابن أبي عبلة : وأحيط وأحصى مبنياً للمفعول كل رفعاً . ولما كان ليعلم مضمناً معنى علم ، صار المعنى : قد علم ذلك ، فعطف وأحاط على هذا الضمير ، والمعنى : وأحاط بما عند الرسل من الحكم والشرائع

" صفحة رقم 350 "
لا يفوته منها شيء . ) وَأَحْصَى كُلَّ شَىْء عَدَداً ( : أي معدوداً محصوراً ، وانتصابه على الحال من كل شيء ، وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم . ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى لأنه في معنى إحصاء . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون تمييزاً . انتهى ، فيكون منقولاً من المفعول ، إذا أصله : وأحصى عدد كل شيء ، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف .

" صفحة رقم 351 "
73
( سورة المزمل )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِى وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الاٌّ رْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاٌّ رْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لاًّنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ) ) 2
المزمل : ( 1 ) يا أيها المزمل
تزمّل في ثوبه : التف ، وزمّل : لف . قال امرؤ القيس :
كبير أناس في بجاد مزمّل
وقال ذو الرمّة

" صفحة رقم 352 "
وكائن تخطت ناقتي من مفازة
ومن نائم عن ليلها متزمّل
تبتل إلى كذا : انقطع إليه ، ومنه هبة بتلة ، وطلقة بتلة ، والبتول وبتل الحبل . قال الليث : البتل تمييز الشيء من الشيء ، والبتول المرأة المنقطعة عن الرّجال لا شهوة لها ولا حاجة لها فيهم ، والتبتل : ترك النكاح والزهد فيه ، ومنه قول امرىء القيس : تضيء الظلام بالعشاء كأنها
منارة ممسى راهب متبتل
ومنه النهي عن التبتل : أي عن الانقطاع عن التزويج . ومنه قيل للراهب متبتل ، لانقطاعه عن الناس وانفراده للعبادة . والغصة : الشجي ، وهو ما ينشب بالحلق من عظم أو غيره ، وجمعها غصص ، والفعل غصصت ، فأنت غاص وغصان ، قال :
كنت كالغصان بالماء اعتصاري
الكثيب : الرمل المجتمع ، وجمعه كثب وكثبان في الكثرة ، وأكثبة في القلة . قال ذو الرمّة : فقلت لها لا إن أهلي جيرة
لا كثبة الدهنا جميعاً ومالياً
المهيل : الذي يمر تحت الرجل ، وهلت عليه التراب : صببته . وقال الكلبي : المهيل : الذي إذا وطئته القدم زل من تحتها ، وإذا أخذت أسفله انهال ، وأهلت لغة في هلت . الشيب : جمع أشيب .
( عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِى وَالْمُكَذّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَةِ وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ).
هذه السورة مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها : ) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ( والتي تليها ، ذكره الماوردي . وقال الجمهور : هي مكية إلا قوله تعالى : ) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ ( الخ ، فإنه نزل بالمدينة .
وسبب نزولها فيما ذكر الجمهور : أنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره ، رجع إلى خديجة فقال : ( زملوني زملوني ) ، فنزلت : ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ ( ، وعلى هذا نزلت : ) عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ ). قالت عائشة والنخعي وجماعة : ونودي بذلك لأنه كان في وقت نزول الآية متزملاً بكساء . وقال قتادة : كان تزمل في ثيابه للصلاة واستعد . فنودي على معنى : يا أيها المستعد للعبادة . وقال عكرمة : معناه المزمل للنبوة وأعبائها ، أي المشمر المجد ، فعلى هذا يكون التزمل مجازاً ، وعلى ما سبق يكون حقيقة . وما رووا أن عائشة رضي الله عنها سئلت : ما كان تزميله ؟ قالت : كان مرطاً طوله أربع عشرة ذراعاً ، نصفه عليّ وأنا نائمة ، ونصفه عليه ، إلى آخر الرواية ؛ كذب صراح ، لأن نزول ) عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ ( بمكة في أوائل مبعثة ، وتزويجه عائشة كان بالمدينة .
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أن في آخر ما قبلها ) عَالِمُ الْغَيْبِ ( الآيات ، فأتبعه بقوله : ) عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ ( ، إعلاماً بأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ممن ارتضاه من الرسل وخصه

" صفحة رقم 353 "
بخصائص وكفاه شر أعدائه .
وقرأ الجمهور : ) الْمُزَّمّلُ ( ، بشد الزاي وكسر الميم ، أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي . وقرأ أبي : المتزمل على الأصل ؛ وعكرمة : بتخفيف الزاي . أي المزمل جسمه أو نفسه . وقرأ بعض السلف : بتخفيف الزاي وفتح الميم ، أي الذي لف . وللزمخشري في كيفية نداء الله له بهذا الوصف كلام ضربت عن ذكره صفحاً ، فلم أذكره في كتابي . وقال السهيلي : ليس المزمل باسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام يعرف به ، وإنما هو مشتق من حالته التي كان التبس بها حالة الخطاب ، والعرب إذا قصدت الملاطفة بالمخاطب تترك المعاتبة نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها ، كقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لعليّ كرم الله وجهه وقد نام ولصق بجنبه التراب : ( قم أبا تراب ) ، إشعاراً بأنه ملاطف له ، فقوله : ) عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ ( فيه تأنيس وملاطفة .
المزمل : ( 2 - 3 ) قم الليل إلا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) قُمِ الَّيْلَ ( ، بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين ؛ وأبو السمال : بضمها اتباعا للحركة من القاف . وقرىء : بفتحها طلباً للتخفيف . قال ابن جني : الغرض بالحركة الهروب من التقاء الساكنين ، فبأي حركة تحرك الحرف حصل الغرض ، وقم طلب . فقال الجمهور : هو على جهة الندب ، وقيل : كان فرضاً على الرسول خاصة ، وقيل : عليه وعلى الجميع . قال قتادة : ودام عاماً أو عامين . وقالت عائشة : ثمانية أشهر ، ثم رحمهم الله نزلت : ) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ ( الآيات ، فخفف عنهم ) قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ). بين الاستثناء أن القيام المأمور به يستغرق جميع الليل ، ولذلك صح الاستثناء منه ، إذ لو كان غير مستغرق ، لم يصح الاستثناء منه ، واستغراق جميعه بالقيام على الدوام غير ممكن ، لذلك استثى منه لراحة الجسد ؛ وهذا عند البصريين منصوب على الظرف ، وإن استغرقه الفعل ؛ وهو عند الكوفيين مفعول به . وفي قوله : ) إِلاَّ قَلِيلاً ( دليل على أن المستثنى قد يكون مبهم المقدار ، كقوله : ) مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ ( في قراءة من نصب ) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ ).
قال وهب بن منبه : القليل ما دون المعشار والسدس . وقال الكلبي ومقاتل : الثلث . وقيل : ما دون النصف ، وجوزوا في نصفه أن يكون بدلاً من الليل ومن قليلاً . فإذا كان بدلاً من الليل ، كان الاستثناء منه ، وكان المأمور بقيامه نصف الليل إلا قليلاً منه . والضمير في منه وعليه عائد على النصف ، فيصير المعنى : قم نصف الليل إلا قليلاً ، أو انقص من نصف الليل قليلاً ، أو زد على نصف الليل ، فيكون قوله : أو انقص من نصف الليل قليًلا ، تكراراً لقوله : إلا قليلاً من نصف الليل ، وذلك تركيب غير فصيح ينزه القرآن عنه . قال الزمخشري : نصفه بدل من الليل ، وإلا قليلاً استثناء من النصف ، كأنه قال : قم أقل من نصف الليل . والضمير في منه وعليه للنصف ، والمعنى : التخيير بين أمرين ، بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين ، وهما النقصان من النصف والزيادة عليه . انتهى . فلم يتنبه للتكرار الذي يلزمه في هذا القول ، لأنه على تقديره : قم أقل من نصف الليل كان قوله ، أو انقص من نصف الليل تكراراً . وإذا كان ) نّصْفَهُ ( بدلاً من قوله : ) إِلاَّ قَلِيلاً ( ، فالضمير في نصفه إما أن يعود على المبدل منه ، أو على المستثنى منه وهو الليل ، لا جائز أن يعود على المبدل منه ، لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول ، إذ التقدير إلا قليلاً نصف القليل ، وهذا لا يصح له معنى البتة . وإن عاد الضمير على الليل ، فلا فائدة في الاستثناء من الليل ، إذ كان يكون أخصر وأوضح وأبعد عن الإلباس أن يكون التركيب قم الليل نصفه . وقد أبطلنا قول من قال : إلا قليلاً استثناء من البدل وهو نصفه ، وأن التقدير : قم الليل نصفه إلا قليلاً منه ، أي من النصف . وأيضاً ففي دعوى أن نصفه بدل من إلا قليًلا ، والضمير في نصفه عائد على الليل ، إطلاق القليل على النصف ، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير : إلا نصفه فلا تقمه ، أو انقص من النصف الذي لا تقومه ، وأزد عليه النصف الذي لا تقومه ، وهذا معنى لا يصح ، وليس المراد من الآية قطعاً .
وقال الزمخشري : وإن شئت جعلت نصفه بدلاً من قليلاً ، وكان تخييراً بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه ؛ وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل . وإن شئت قلت : لما كان معنى ) قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ ( : إذا أبدلت النصف من الليل ، قم أقل من

" صفحة رقم 354 "
نصف الليل ، رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف ، فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل ، وقم أنقص من ذلك إلا قل أو أزيد منه قليلاً ، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث ، ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلاً وفسرته به أن تجعل قليلاً الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع ، كأنه قيل : أو انقص منه قليلاً نصفه ، وتجعل المزيد على هذا القليل ، أعني الربع نصف الربع ، كأنه قيل : أو زد عليه قليلاً نصفه . ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث ، فيكون تخييراً بين النصف والثلث والربع . انتهى . وما أوسع خيال هذا الرجل ، فإنه يجوز ما يقرب وما يبعد ، والقرآن لا ينبغي ، بل لا يجوز أن يحمل إلا على أحسن الوجوه التي تأتي في كلام العرب ، كما ذكرناه في خطبة هذا الكتاب . وممن نص على جواز أن يكون نصفه بدلاً من الليل أو من قليلاً الزمخشري ، كما ذكرنا عنه . وابن عطية أورده مورد الاحتمال ، وأبو البقاء ، وقال : أشبه بظاهر الآية أن يكون بدلاً من قليلاً ، أو زد عليه ، والهاء فيهما للنصف . فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير : قم نصف الليل إلا قليلاً ، أو انقص منه قليلاً . والقليل المستثنى غير مقدر ، فالنقصان منه لا يتحصل . انتهى . وأما الحوفي فأجاز أن يكون بدلاً من الليل ، ولم يذكر غيره .
قال ابن عطية : وقد يحتمل عندي قوله : ) إِلاَّ قَلِيلاً ( أنه استثناء من القيام ، فيجعل الليل اسم جنس . ثم قال : ) إِلاَّ قَلِيلاً ( ، أي الليالي التي تخل بقيامها عند العذر البين ونحوه ، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب . انتهى ، وهذا خلاف الظاهر . وقيل : المعنى أو نصفه ، كما تقول : أعطه درهماً درهمين ثلاثة ، تريد : أو درهمين ، أو ثلاثة . انتهى ، وفيه حذف حرف العطف من غير دليل عليه . وقال التبريزي : الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل ، لأن الثلث الأول وقت العتمة ، والاستثناء وارد على المأمور به ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل إلا قليلاً ، ثم جعل نصفه بدلاً من قليلاً ، فصار القليل مفسراً بالنصف من الثلثين ، وهو قليل من الكل . فقوله : ) أَوْ نَقُصُّ مِنْهُ ( : أي من المأمور به ، وهو قيام الثلث ، ( قَلِيلاً ( : أي ما دون نصفه ،
المزمل : ( 4 ) أو زد عليه . . . . .
( أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ( ، أي على الثلثين ، فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين . وقال أبو عبد الله الرازي : قد أكثر الناس في تفسيره هذه الآية ، وعندي فيه وجهان ملخصان ، وذكر كلاماً طويلاً ملفقاً يوقف عليه من كتابه . وتقدّم تفسير الترتيل في آخر الإسراء .
المزمل : ( 5 ) إنا سنلقي عليك . . . . .
( قَوْلاً ثَقِيلاً ( : هو القرآن ، وثقله بما اشتمل عليه من التكاليف الشاقة ، كالجهاد ومداومة الأعمال الصالحة . قال الحسن : إن الهذ خفيف ، ولكن العمل ثقيل . وقال أبو العالية : والقرطبي : ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده . وقيل : ثقله ما كان يحل بجسمه ( صلى الله عليه وسلم ) ) حالة تلقيه الوحي ، حتى كانت ناقته تبرك به ذلك الوقت ، وحتى كادت رأسه الكريمة أن ترض فخذ زيد بن ثابت . وقيل : كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساني . قال ابن عباس : كلاماً عظيماً . وقيل : ثقيل في الميزان يوم القيامة ، وهو إشارة إلى العمل به . وقيل : كناية عن بقائه على وجه الدهر ، لأن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه .
المزمل : ( 6 ) إن ناشئة الليل . . . . .
( إن ناشئة الليل ( ، قال ابن عمر وأنس ابن مالك وعليّ بن الحسين : هي ما بين المغرب والعشاء . وقالت عائشة ومجاهد : هي القيام بعد اليوم ، ومن قام أول الليل قبل اليوم ، فلم يقم ناشئة الليل . وقال ابن جبير وابن زيد : هي لفظة حبشية ، نشأ الرجل : قام من الليل ، فناشئة على هذا جمع ناشىء ، أي قائم . وقال ابن جبير وابن زيد أيضاً وجماعة : ناشئة الليل : ساعاته ، لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء . وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن وأبو مجلز : ما كان بعد العشاء فهو ناشئة ، وما كان قبلها فليس بناشئة . قال ابن عباس : كانت صلاتهم أول الليل ، وقال هو وابن الزبير : الليل كله ناشئة . وقال الكسائي : ناشئة الليل أوله . وقال الزمخشري : ناشئة الليل : النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة ، أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض . قال الشاعر : نشأنا إلى خوص برى فيها السرى
وألصق منها مشرفات القماحد

" صفحة رقم 355 "
أو : قيام الليل ، على أن الناشئة مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعله كالعاقبة . انتهى . وقرأ الجمهور : وطاء بكسر الواو وفتح الطاء ممدوداً . وقرأ قتادة وشبل ، عن أهل مكة : بكسر الواو وسكون الطاء والهمزة مقصورة . وقرأ ابن محيصن : بفتح الواو ممدوداً ، والمعنى أنها أشد مواطأة ، أي يواطىء القلب فيها اللسان ، أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص . ومن قرأ ) وَطْأً ( : أي أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل ، أو أثقل وأغلظ على المصلي من صلاة النهار ، كما جاء : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر ) . وقال الأخفش : أشد قياماً . وقال الفراء : أثبت قراءة وقياماً . وقال الكلبي : أشد نشاطاً للمصلي لأنه في زمان راحته . وقيل : أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة ، والليل وقت فراغ ، فالعبادة تدوم . ) وَأَقْوَمُ قِيلاً ( : أي أشد استقامة على الصواب ، لأن الأصوات هادئة فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه . قال قتادة ومجاهد : أصوب للقراءة وأثبت للقول ، لأنه زمان التفهم . وقال عكرمة : أتم نشاطاً وإخلاصاً وبركة . وحكى ابن شجرة : أعجل إجابة للدعاء . وقال زيد بن أسلم : أجدر أن يتفقه فيها القارىء .
المزمل : ( 7 ) إن لك في . . . . .
وقرأ الجمهور : ) سَبْحاً ( : أي تصرّفاً وتقلباً في المهمات ، كما يتردّد السابح في الماء . قال الشاعر : أبا حوالكم شرق البلاد وغربها
ففيها لكم يا صاح سبح من السبح
وقيل : سبحاً سبحة ، أي نافلة . وقرأ ابن يعمر وعكرمة وابن أبي عبلة : سبخاً بالخاء المنقوطة ومعناه : خفة من التكاليف ، والتسبيخ : التخفيف ، وهو استعارة من سبخ الصوف إذا نفشه ونشر أجزاءه ، فمعناه : انتشار الهمة وتفرّق الخاطر بالشواغل . وقيل : فراغاً وسعة لنومك وتصرّفك في حوائجك . وقيل : المعنى إن فات حزب الليل بنوم أو عذر . فليخلف بالنهار ، فإن فيه سبحاً طويلاً . قال صاحب اللوامح : وفسر ابن يعمر وعكرمة سبخاً بالخاء معجمة . وقال : نوماً ، أي تنام بالنهار لتستعين به على قيام الليل . وقد تحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى ، لكنهما فسراها ، فلا يجاوز عنه . انتهى . وفي الحديث : ( لا تسبخي بدعائك ) ، أي لا تخففي . وقال الشاعر : فسبخ عليك الهم واعلم بأنه
إذا قدّر الرحمن شيئاً فكائن
وقال الأصمعي : يقال سبح الله عنك الحمى ، أي خففها . وقيل : السبخ : المد ، يقال : سبخي قطنك : أي مديه ، ويقال لقطع القطن سبائخ ، الواحدة سبيخة ، ومنه قول الأخطل : فأرسلوهنّ يذرين التراب كما
يذري سبائخ قطن ندف أوتار
المزمل : ( 8 ) واذكر اسم ربك . . . . .
( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ ( : أي دم على ذكره ، وهو يتناول كل ذكر من تسبيح وتهليل وغيرهما ، وانتصب ) تَبْتِيلاً ( على أنه مصدر على غير الصدر ، وحسن ذلك كونه فاصلة . وقرأ الأخوان وابن عامر وأبو بكر ويعقوب : رب بالخفض على البدل من ربك ؛ وباقي السبعة : بالرفع ؛ وزيد بن عليّ : بالنصب ؛
المزمل : ( 9 ) رب المشرق والمغرب . . . . .
والجمهور : المشرق والمغرب موحدين ؛ وعبد الله وأصحابه وابن عباس : بجمعهما . وقال الزمخشري ، وعن ابن عباس : على القسم ، يعني : خفض رب بإضمار حرف القسم ، كقولك : الله لأفعلن ، وجوابه : لا إله إلا هو ، كما تقول : والله لا أحد في الدار إلا زيد . انتهى . ولعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس ، إذ فيه إضمار الجار في القسم ، ولا يجوز عند البصريين إلا في لفظة الله ، ولا يقاس

" صفحة رقم 356 "
عليه . ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية فلا تنفيء إلا بما وحدها ، ولا تنفي بلا إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيراً وبماض في معناه قليلاً ، نحو قول الشاعر : ردوا فوالله لا زرناكم أبدا
ما دام في مائنا ورد لورّاد
والزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويز والتسليم ، والذي ذكره النحويون هو نفيها بما نحو قوله : لعمرك ما سعد بخلة آثم
ولا نأنأ يوم الحفاظ ولا حصر
) فَاتَّخِذُوهُ وَكِيلاً ( ، لأن من انفرد بالألوهية لم يتخذ وكيلاً إلا هو .
المزمل : ( 10 ) واصبر على ما . . . . .
( وَاصْبِرْ ( ، ( وَاهْجُرْهُمْ ( : قيل منسوخ بآية السيف .
المزمل : ( 11 ) وذرني والمكذبين أولي . . . . .
( وَذَرْنِى وَالْمُكَذّبِينَ ( : قيل نزلت في صناديد قريش ، وقيل : في المطعمين يوم بدر ، وتقدّمت أسماؤهم في سورة الأنفال ، وتقدّم شرح مثل هذا في ) فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ ). ) أُوْلِى النَّعْمَةِ ( : أي غضارة العيش وكثرة المال والولد ، والنعمة بالفتح : التنعم ، وبالكسر : الأنعام وما ينعم به ، وبالضم : المسرّة ، يقال : نعم ونعمة عين . ) وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً ( : وعيد لهم بسرعة الانتقام منهم ، والقليل : موافاة آجالهم . وقيل : وقعة بدر .
المزمل : ( 12 ) إن لدينا أنكالا . . . . .
( إِنَّ لَدَيْنَا ( : أي ما يضاد نعمتهم ، ( أَنكَالاً ( : قيوداً في أرجلهم . قال الشعبي : لم تجعل في أرجلهم خوفاً من هروبهم ، ولكن إذا أرادوا أن يرتفعوا استقلت بهم . وقال الكلبي : الأنكال : الأغلال ، والأول أعرف في اللغة ، ومنه قول الخنساء : دعاك فقطعت أنكاله
وقد كن قبلك لا تقطع
) وَجَحِيماً ( : ناراً شديدة الايقاد .
المزمل : ( 13 ) وطعاما ذا غصة . . . . .
( وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ ( ، قال ابن عباس : شوك من نار يعترض في حلوقهم ، لا يخرج ولا ينزل . وقال مجاهد وغيره : شجرة الزقوم . وقيل : الضريع وشجرة الزقوم . ) يَوْمٍ ( منصوب بالعامل في الدنيا ، وقيل : بذرني ،
المزمل : ( 14 ) يوم ترجف الأرض . . . . .
( تَرْجُفُ ( : تضطرب . وقرأ الجمهور : ) تَرْجُفُ ( بفتح التاء مبنياً للفاعل ؛ وزيد بن علي : بضمها مبنياً للمفعول ، ( كَثِيباً ( : أي رملاً مجتمعاً ، ( مَّهِيلاً ( : أي رخواً ليناً . قيل : ويقال : مهيل ومهيول ، وكيل ومكيول ، ومدين ومديون ، الإتمام في ذوات الياء لغة تميم ، والحذف لأكثر العرب .
المزمل : ( 15 - 16 ) إنا أرسلنا إليكم . . . . .
ولما هدد المكذبين بأهوال القيامة ، ذكرهم بحال فرعون وكيف أخذه الله تعالى ، إذ كذب موسى عليه السلام ، وأنه إن دام تكذيبهم أهلكهم الله تعالى فقال : ) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ ( ، والخطاب عام للأسود والأحمر . وقيل : لأهل مكة ، ( رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ ( ، كما قال : ) وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلآء ). وشبه إرساله إلى أهل مكة بإرسال موسى إلى فرعون على التعيين ، لأن كلاً منهما ربا في قومه واستحقروا بهما ، وكان عندهم علم بما جرى من غرق فرعون ، فناسب أن يشبه الإرسال بالإرسال . وقيل : الرسول بلام التعريف ، لأنه تقدم ذكره فأحيل عليه . كما تقول : لقيت رجلاً فضربت الرجل ، لأن المضروب هو الملقى ، والوبيل : الرديء العقبى ، من قولهم : كلأ وبيل : أي وخيم لا يستمرأ لثقله ، أي لا ينزل في المريء .
قوله عز وجل : ) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَار ( سقط : علم أن لن تحصوه فثاب عليكم فاقرؤوا ما نيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من ) َ ).

" صفحة رقم 357 "
( سقط : فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة و آتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم )
المزمل : ( 17 ) فكيف تتقون إن . . . . .
( يَوْماً ( منصوب بتتقون ، منصوب نصب المفعول به على المجاز ، أي كيف تستقبلون هذا اليوم العظيم الذي من شأنه كذا وكذا ؟ والضمير في ) يَجْعَلْ ( لليوم ، أسند إليه الجعل لما كان واقعاً له على سبيل المجاز . وقال الزمخشري : ) يَوْماً ( مفعول به ، أي فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهو له إن بقيتم على الكفر ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً ؟ انتهى . وتتقون مضارع اتقى ، واتقى ليس بمعنى وقى حتى يفسره به ، واتقى يتعدى إلى واحد ، ووقى يتعدى إلى اثنين . قال تعالى : ) وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( ، ولذلك قدره الزمخشري : تقون أنفسكم يوم القيامة ، لكنه ليس تتقون بمعنى تقون ، فلا يتعدى بعديته ، ودس في قوله : ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً الاعتزال . قال : ويجوز أن يكون ظرفاً ، أي فيكف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا ؟ قال : ويجوز أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم ، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة ؟ والجزاء لأن تقوى الله خوف عقابه . انتهى . وقرأ الجمهور : ) يَوْماً ( منوناً ، ( يَجْعَلْ ( بالياء ؛ والجملة من قوله : ) يَجْعَلْ ( صفة ليوم ، فإن كان الضمير في ) يَجْعَلْ ( عائداً على اليوم فواضح وهو الظاهر ؛ وإن عاد على الله ، كما قال بعضهم ، فلا بد من حذف ضمير يعود إلى اليوم ، أي يجعل فيه كقوله : ) يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ ). وقرأ زيد بن عليّ : بغير تنوين : نجعل بالنون ، فالظرف مضاف إلى الجملة ، والشيب مفعول ثان ليجعل ، أي يصير الصبيان شيوخاً ، وهو كناية عن شدة ذلك اليوم . ويقال في اليوم الشديد : يوم يشيب نواصي الأطفال ، والأصل فيه أن الهموم إذا تفاقمت أسرعت بالشيب . قال المتنبي : والهم يخترم الجسيم نحافة
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
وقال قوم : ذلك حقيقة تشيب رؤوسهم من شدة الهول ، كما قد يرى الشيب في الدنيا من الهم المفرط ، كهول البحر ونحوه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يوصف اليوم بالطول ، وأن الاطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة . وقال السدي : الولدان : أولاد الزنا . وقيل : أولاد المشركين ، والظاهر العموم ، أي يشيب الصغير من غير كبر ، وذلك حين يقال لآدم : يا آدم قم فابعث بعث النار . وقيل : هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق .
المزمل : ( 18 ) السماء منفطر به . . . . .
( السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ( ، قال الفراء : يعني المظلة تذكر وتؤنث ، فجاء منفطر على التذكير ، ومنه قول الشاعر : فلو رفع السماء إليه قوما
لحقنا بالسماء وبالسحاب
وعلى القول بالتأنيث ، فقال أبو علي الفارسي : هو من باب الجراد المنتشر ، والشجر الأخضر ، وأعجاز نخل منقعر . انتهى ، يعني أنها من باب اسم الجنس الذي بينه وبين مفرده تاء التأنيث وأن مفرده سماء ، واسم الجنس يجوز فيه التذكير والتأنيث ، فجاء منفطر على التذكير . وقال أبو عمرو بن العلاء ، وأبو عبيدة والكسائي ، وتبعهم القاضي منذر بن سعيد : مجازها السقف ، فجاء عليه منفطر ، ولم يقل منفطرة . وقال أبو علي أيضاً : التقدير ذات انفطار كقولهم : امرأة مرضع ، أي ذات رضاع ، فجرى على طريق التسبب . وقال الزمخشري : أو السماء شيء منفطر ، فجعل منفطر صفة لخبر محذوف مقدر بمذكر وهو شيء ، والانفطار : التصدع والانشقاق ؛ والضمير في به الظاهر أنه يعود على اليوم ، والباء للسبب ، أي بسبب شدة ذلك اليوم ، أو ظرفية ، أي فيه . وقال مجاهد : يعود على الله ، أي بأمره

" صفحة رقم 358 "
وسلطانه . والظاهر أن الضمير في ) وَعْدَهُ ( عائد على اليوم ، فهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي أنه تعالى وعد عباده هذا اليوم ، وهو يوم القيامة ، فلا بد من إنجازه . ويجوز أن يكون عائداً على الله تعالى ، فيكون من إضافة المصدر إلى الفاعل ، وإن لم يجر له ذكر قريب ، لأنه معلوم أن الذي هذه مواعيده هو الله تعالى .
المزمل : ( 19 ) إن هذه تذكرة . . . . .
( إِنَّ هَاذِهِ ( : أي السورة ، أو الأنكال وما عطف عليه ، والأخذ الوبيل ، أو آيات القرآن المتضمنة شدة القيامة ، ( تَذْكِرَةٌ ( : أي موعظة ، ( فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً ( بالتقرب إليه بالطاعة ، ومفعول شاء محذوف يدل عليه الشرط ، لأن من شرطية ، أي فمن شاء أن يتخذ سبيلاً اتخذه إلى ربه ، وليست المشيئة هنا على معنى الإباحة ، بل تتضمن معنى الوعد والوعيد .
المزمل : ( 20 ) إن ربك يعلم . . . . .
( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى ( : تصلي ، كقوله : ) قُمِ الَّيْلَ ). لما كان أكثر أحوال الصلاة القيام عبر به عنها ، وهذه الآية نزلت تخفيفاً لما كان استمرار استعماله من أمر قيام الليل ، إما على الوجوب ، وإما على الندب ، على الخلاف الذي سبق ؛ ) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ ( : أي زماناً هو أقل من ثلثي الليل ، واستعير الأدنى ، وهو الأقرب للأول ، لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز ، وإذا بعدت كثر ذلك . وقرأ الجمهور : ) مِن ثُلُثَىِ ( بضم اللام ؛ والحسن وشيبة وأبو حيوة وابن السميفع وهشام وابن مجاهد ، عن قنبل فيما ذكر صاحب الكامل : بإسكانها ، وجاء ذلك عن نافع وابن عامر فيما ذكر صاحب اللوامح . وقرأ العربيان ونافع : ونصفه وثلثه ، بجرهما عطفاً على ) إِنَّ رَبَّكَ ( ؛ وباقي السبعة وزيد بن علي : بالنصب عطفاً على ) أَدْنَى ( ، لأنه منصوب على الظرف ، أي وقتاً أدنى من ثلثي الليل . فقراءة النصب مناسبة للتقسيم الذي في أول السورة ، لأنه إذا قام الليل إلا قليلاً صدق عليه ) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ ( ، لأن الزمان الذي لم يقم فيه يكون الثلث وشيئاً من الثلثين ، فيصدق عليه قوله : ) إِلاَّ قَلِيلاً ). وأما قوله : ) وَنِصْفَهُ ( فهو مطابق لقوله أولاً : ) نّصْفَهُ ). وأما ثلثه فإن قوله : ) أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ( قد ينتهي النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلث الليل . وأما قوله : ) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ( ، فإنه إذا زاد على النصف قليلاً ، كان الوقت أقل من الثلثين ، فيكون قد طابق قوله : ) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ ( ، ويكون قوله تعالى : ) نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ( شرحاً لمبهم ما دل عليه قوله : ) قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ، وعلى قراءة النصب .
قال الحسن وابن جبير : معنى تحصوه : تطيقوه ، أي قدر تعالى أنهم يقدرون الزمان على ما مر في أول السورة ، فلم يطيقوا قيامه لكثرته وشدته ، فخفف تعالى عنهم فضلاً منه ، لا لعلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الأوقات . وأما قراءة الجر ، فالمعنى أنه قيام مختلف ؛ مرة أدنى من الثلثين ، ومرة أدنى من النصف ، ومرة أدنى من الثلث ، وذلك لتعذر معرته البشر مقادير الزمان مع عذر النوم . وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى ، والبشر لا يحصون ذلك ، أي لا يطيقون مقادير ذلك ، فتاب عليهم ، أي رجع بهم من الثقل إلى الخفة وأمرهم بقيام ما تيسر . وعلى القراءتين يكون علمه تعالى بذلك على حسب الوقوع منهم ، لأنهم قاموا تلك المقادير في أوقات مختلفة قاموا أدنى من الثلثين ونصفاً وثلثاً ، وقاموا أدنى من النصف وأدنى من الثلث ، فلا تنافي بين القراءتين . وقرأ الجمهور : ) وَثُلُثَهُ ( بضم اللام ؛ وابن كثير في رواية شبل : بإسكانها ؛ وطائفة : معطوف على الضمير المستكن في ) تَقُومُ ( ، وحسنة الفصل بينهما . وقوله : ) وَطَائِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ( دليل على أنه لم يكن فرضاً على الجميع ، إذ لو كان فرضاً ، لكان التركيب : والذين معك ، إلا إن اعتقد أنهم كان منهم من يقوم في بيته ، ومنهم من يقوم معه ، فيمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع .
( وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ( : أي هو وحده تعالى العالم بمقادير الساعات . قال الزمخشري : وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه يقدر هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير . انتهى . وهذا مذهبه ، وإنما استفيد الاختصاص من سياق الكلام لا من تقديم المبتدأ . لو قلت : زيد يحفظ القرآن أو يتفقه في كتاب سيبويه ، لم يدل تقديم المبتدأ على الاختصاص . وأن مخففة من الثقيلة ، والضمير في ) نحصوه ( ، الظاهر أنه عائد على المصدر المفهوم من يقدر ، أي أن لن تحصوا تقدير ساعات الليل والنهار ، لا تحيطوا بها على الحقيقة . وقيل : الضمير يعود على القيام المفهوم من قوله : ) بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ). قيل : فيه دليل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به . وقيل : رجع بكم من ثقل إلى خف ، ومن عسر إلى عسر ، ورخص

" صفحة رقم 359 "
لكم في ترك القيام المقدر . ) فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ ( : عبر بالقراءة عن الصلاة لأنها بعض أركانها ، كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود ، أي فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل . وقيل : وهذا ناسخ للأول ، ثم نسخاً جميعاً بالصلوات الخمس . وهذا الأمر بقوله : ) فاقرؤا ( ، قال الجمهور : أمر إباحة ، وقال ابن جبير وجماعة : هو فرض لا بد منه ، ولو خمسين آية . وقال الحسن وابن سيرين : قيام الليل فرض ، ولو قدر حلب شاة . وقيل : هو أمر بقراءة القرآن بعينها ، لا كناية عن الصلاة . وإذا كان المراد : فاقرؤا في الصلاة ما تيسر ، فالظاهر أنه لا يتعين ما يقرأ ، بل إذا قرأ ما تيسر له وسهل عليه أجزأه وقدره ، وأبو حنيفة بآية ، حكاه عنه الماوردي ؛ وبثلاث . حكاه ابن العربي ؛ وعين مالك والشافعي ما تيسر ، قالا : هو فاتحة الكتاب ، لا يعدل عنها ولا يقتصر على بعضها .
( الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى ( : بيان لحكمة النسخ ، وهي تعذر القيام على المرضى ، والضاربين في الأرض للتجارة ، والمجاهدين في سبيل الله ، ( فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ( ، كرر ذلك على سبيل التوكيد . ثم أمر بعمودي الإسلام البدني والمالي ، ثم قال : ) وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ( : العطف يشعر بالتغاير ، فقوله : ) وَإِذْ أَخَذْنَا ( أمر بأداء الواجب ، ( وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ ( : أمر بأداء الصدقات التي يتطوع بها . وقرأ الجمهور : ) هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ( بنصبهما ، واحتمل هو أن يكون فصلاً ، وأن يكون تأكيداً لضمير النصب في ) تَجِدُوهُ ). ولم يذكر الزمخشري والحوفي وابن عطية في إعراب هو إلا الفصل . وقال أبو البقاء : هو فصل ، أو بدل ، أو تأكيد . فقوله : أو بدل ، وهم لو كان بدلاً لطابق في النصب فكان يكون إياه . وقرأ أبو السمال وابن السميفع : هو خير وأعظم ، برفعهما على الابتداء أو الخبر . قال أبو زيد : هو لغة بني تميم ، يرفعون ما بعد الفاصلة ، يقولون : كان زيد هو العاقل بالرفع ، وهذا البيت لقيس بن ذريح وهو : نحن إلى ليلى وأنت تركتها
وكنت عليها بالملا أنت أقدر
قال أبو عمرو الجرمي : أنشد سيبويه هذا البيت شاهداً للرفع والقوافي مرفوعة . ويروى : أقدر . وقال الزمخشري : وهو فصل وجاز وإن لم يقع بين معرفتين ، لأن أفعل من أشبه في امتناعه من حرف التعريف المعرفة . انتهى . وليس ما ذكر متفقاً عليه . ومنهم من أجازه ، وليس أفعل من أحكام الفصل ومسائله ، والخلاف الوارد فيها كثير جداً ، وقد جمعنا فيه كتاباً سميناه بالقول الفصل في أحكام الفصل ، وأودعنا معظمه شرح التسهيل من تأليفنا .

" صفحة رقم 360 "
74
( سورة المدثر )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ياأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كان لاٌّ يَاتِنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ كَلاَّ وَالْقَمَرِ وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِّلْبَشَرِ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِى جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الاٌّ خِرَةَ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( )

" صفحة رقم 361 "
المدثر : ( 1 ) يا أيها المدثر
تدثر : لبس الدثار ، وهو الثوب الذي فوق الشعار ، والشعار : الثوب الذي يلي الجسد ، ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( الأنصار شعار والناس دثار ) . النقر : الصوت ، قال الشاعر : أخفضه بالنقر لما علوته
ويرفع طرفاً غير خاف غضيض
وقال الراجز :
أنا ابن ماوية إذ جد النقر
يريد النقر ، فنقل الحركة ، فالناقور فاعول منه ، كالجاسوس مأخوذ من التجسس . عبس يعبس عبساً وعبوساً : قطب ، والعبس : ما تعلق بأذناب الإبل من أبعارها وأبوالها . قال أبو النجم : كأن في أذنابهن الشوّل
من عبس الضيف قرون الإبل
بسر : قبض ما بين عينيه وأربد وجهه ، قال : صحبنا تميماً غداة الجفار
بشهباً ملومة باسره
وأهل اليمن يقولون : بسر المركب وأبسر إذا وقف ، وقد أبسرنا ، وتقول العرب : وجه باسر بين البسور ، إذا تغير واسود ، لاحه البسر : غير خلقته ، قال : تقول ما لاحك يا مسافر
يا ابنة عمي لاحنى الهواجر
وقال آخر :
وتعجب هند إن رأتني شاحباً
تقول لشيء لوحته السمائم
وقال الأخفش : اللوح : شدة العطش ، لاحه العطش ولوحه غيره .
وقال الشاعر :
سقتني على لوح من الماء شربة
سقاها به الله الرهام الغواديا
ويقال : التاح ، أي عطا . القسورة : الرماة والصيادون ، قاله ابن كيسان ؛ أو الأسد ، قاله جماعة من اللغويين ، قال

" صفحة رقم 362 "
مضمر تحدره الأبطال
كأنه القسورة الريبال
أو الرجال الشداد ، قال لبيد : إذا ما هتفنا هتفة في ندينا
أتانا الرجال الصائدون القساور
أو ظلمة أول الليل لا ظلمة آخره ، قاله ابن الأعرابي وثعلب .
( رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَاذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم ).
هذه السورة مكية ، قال ابن عطية بإجماع . وفي التحرير ، قال مقاتل : إلا آية وهي : ) وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً ). ومناسبتها لما قبلها أن في ما قبلها ) ذَرْنِى وَالْمُكَذّبِينَ ( ، وفيه ) إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ ( ، فناسب ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ ( ، وناسب ذكر يوم القيامة بعد ، وذكر بعض المكذبين في قوله : ) ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ).
قال الجمهور : لما فزع من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض ورعب منه ، رجع إلى خديجة فقال : زملوني دثروني ، نزلت ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ ). قال النخعي وقتادة وعائشة : نودي وهو في حال تدثره ، فدعى بحال من أحواله . وروي أنه كان تدثر في قطيفة . قيل : وكان يسمع من قريش ما كرهه ، فاغتم وتغطى بثوبه مفكراً ، فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه . وقال عكرمة معناه : يا أيها المدثر للنبوة وأثقالها ، كما قال في المزمل . وقرأ الجمهور : ) الْمُدَّثّرُ ( بشد الدال . وأصله المتدثر فأدغم ، وكذا هو في حرف أبي على الأصل . وقرأ عكرمة : بتخفيف الدال ، كما قرىء بتخفيف الزاي في المزمل ، أي دثر نفسه . وعن عكرمة أيضاً : فتح التاء اسم مفعول ، وقال : دثرت هذا الأمر وعصب بك .
المدثر : ( 2 ) قم فأنذر
) قُمْ فَأَنذِرْ ( : أي قم من مضجعك ، أو قم بمعنى الأخذ في الشيء ، كما تقول : قام زيد يضرب عمراً ، أي أخذ ، وكما قال :
علام قام يشتمني لئيم
أي أخذ ، والمعنى قم قيام تصميم وجد ، ( فَأَنذِرْ ( : أي حذر عذاب الله ووقائعه ، والإنذار عام بجميع الناس وبعثه إلى الخلق .
المدثر : ( 3 ) وربك فكبر
) وَرَبَّكَ فَكَبّرْ ( : أي فعظم كبرياءه . وقال الزمخشري : واختص ربك بالتكبير ، وهو الوصف بالكبرياء ، وأن يقال : الله أكبر . انتهى . وهذا على مذهبه من أن تقديم المفعول على الفعل يدل على الاختصاص ، قال : ودخلت الفاء لمعنى الشرط ، كأنه قيل : وما كان فلا تدع تكبيره . انتهى . وهو قريب مما قدره النحاة في قولك : زيدا فاضرب ، قالوا تقديره : تنبه فاضرب زيداً ، فالفاء هي جواب الأمر ، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط ، وإما الشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة .
المدثر : ( 4 ) وثيابك فطهر
) وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ ( : الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات ، لأن

" صفحة رقم 363 "
طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة ، ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة ، والقول بأنها الثياب حقيقة هو قول ابن سيرين وابن زيد والشافعي ، ومن هذه الآية ذهب الشافعي إلى وجوب غسل النجاسة من ثياب المصلي . وقيل : تطهيرها : تقصيرها ، ومخالفة العرب في تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر ، قال الشاعر : ثم راحوا عبق المسك بهم
يلحفون الأرض هداب الأزر
ولا يؤمن من أصابتها النجاسة وفي الحديث : ( أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما كان أسفل من ذلك ففي النار ) . وذهب الجمهور إلى أن الثياب هنا مجاز . فقال ابن عباس والضحاك : تطهيرها أن لا تكون تتلبس بالقذر . وقال ابن عباس وابن جبير أيضاً : كنى بالثياب عن القلب ، كما قال امرؤ القيس :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي
أي قلبي من قلبك وعلى الطهارة من القذر ، وأنشد قول غيلان بن سلمة الثقفي : إني بحمد الله لا ثوب غادر
لبست ولا من خزية أتقنع
وقيل : كناية عن طهارة العمل ، المعنى : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد وابن زيد . وقال ابن زيد : إذا كان الرجل خبيث العمل قالوا : فلان خبيث الثياب ؛ وإذا كان حسن العمل قالوا : فلان طاهر الثياب ، ونحو هذا عن السدي ، ومنه قول الشاعر : لا هم إن عامر بن جهم
أو ذم حجا في ثياب دسم
أي : دنسة بالمعاصي ، وقيل : كنى عن النفس بالثياب ، قاله ابن عباس . قال الشاعر :
فشككت بالرمح الطويل ثيابه
وقال آخر : ثياب بني عوف طهارى نقية
وأوجههم بيض سافر غران
أي : أنفسهم . وقيل : كنى بها عن الجسم . قالت ليلى وقد ذكرت إبلاً : رموها بأثواب خفاف فلا نرى
لها شبهاً إلا النعام المنفرا
أي : ركبوها فرموها بأنفسهم . وقيل : كناية عن الأهل ، قال تعالى : ) هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ ( ، والتطهر فيهن اختيار المؤمنات العفائف . وقيل : وطئهن في القبل لا في الدبر ، في الطهر لا في الحيض ، حكاه ابن بحر . وقيل :

" صفحة رقم 364 "
كناية عن الخلق ، أي وخلقك فحسن ، قاله الحسن والقرطبي ، ومنه قوله : ويحيى ما يلائم سوء خلق
ويحيى طاهر الأثواب حر
أي : حسن الأخلاق .
المدثر : ( 5 ) والرجز فاهجر
وقرأ الجمهور : والرجز بكسر الراء ، وهي لغة قريش ؛ والحسن ومجاهد والسلمي وأبو جعفر وأبو شيبة وابن محيصن وابن وثاب وقتادة والنخعي وابن أبي إسحاق والأعرج وحفص : بضمها ، فقيل : هما بمعنى واحد ، يراد بهما الأصنام والأوثان . وقيل : الكسر للبين والنقائص والفجور ، والضم لصنمين أساف ونائلة . وقال عكرمة ومجاهد والزهري : للأصنام عموماً . وقال ابن عباس : الرجز : السخط ، أي اهجر ما يؤدي إليه . وقال الحسن : كل معصية ، والمعنى في الأمر : اثبت ودم على هجره ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان بريئاً منه . وقال النخعي : الرجز : الإثم . وقال القتبي : العذاب ، أي اهجر ما يؤدي إليه .
المدثر : ( 6 ) ولا تمنن تستكثر
وقرأ الجمهور : ) وَلاَ تَمْنُن ( ، بفك التضعيف ؛ والحسن وأبو السمال : بشد النون . قال ابن عباس وغيره : لا تعط عطاء لتعطي أكثر منه ، كأنه من قولهم : منّ إذا أعطى . قال الضحاك : هذا خاص به ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ومباح ذلك لأمته ، لكنه لا أجر لهم . وعن ابن عباس أيضاً : لا تقل دعوت فلم أجب . وعن قتادة : لا تدل بعملك . وعن ابن زيد : لا تمنن بنبوتك ، تستكثر بأجر أو كسب تطلبه منهم . وقال الحسن : تمنن على الله بجدك ، تستكثر أعمالك ويقع لك بها إعجاب ، وهذه الأقوال كلها من المنّ تعداد اليد وذكرها . وقال مجاهد : ) وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ( ما حملناك من أعباء الرسالة ، أو تستكثر من الخير ، من قولهم : حبل متين : أي ضعيف . وقيل : ولا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه . وقرأ الجمهور : تستكثر برفع الراء ، والجملة حالية ، أي مستكثراً . قال الزمخشري : ويجوز في الرفع أن تحذف أن ويبطل عملها ، كما روي : أحضر الوغى بالرفع . انتهى ، وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه ، لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولنا مندوحة عنه مع صحة الحال ، أي مستكثراً . وقرأ الحسن وابن أبي عبلة : بجزم الراء ، ووجهه أنه بدل من تمنن ، أي لا تستكثر ، كقوله : ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ ( في قراءة من جزم ، بدلاً من قوله : ) يَلْقَ ( ، وكقوله : متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
تجد حطباً جزًلا وناراً تأججا
ويكون من المن الذي في قوله تعالى : ) لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى ( ، لأن من شأن المان أن يستكثر ما يعطي أن يراه كثيراً ويعتد به ؛ وأجاز الزمخشري فيه وجهين ، أحدهما : أن تشبه ثرو بعضد فتسكن تخفيفاً ؛ والثاني : أن يعتبر حال الوقف ، يعني فيجري الوصل مجرى الوقف ، وهذان لا يجوز أن يحمل القرآن عليهما مع وجود ما هو راجح عليهما ، وهو المبدل . وقرأ الحسن أيضاً والأعمش : تستكثر بنصب الراء ، أي لن تحقرها . وقرأ ابن مسعود : أن تستكثر ، بإظهار أن .
المدثر : ( 7 ) ولربك فاصبر
) وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ ( : أي لوجه ربك أمره بالصبر ، فيتناول الصبر على تكاليف النبوة ، وعلى أداء طاعة الله ، وعلى أذى الكفار . قال ابن زيد : على حرب الأحمر والأسود ، فكل مصبور عليه ومصبور عنه يندرج في الصبر .
المدثر : ( 8 ) فإذا نقر في . . . . .
وقال الزمخشري : والفاء في قوله : ) فَإِذَا نُقِرَ ( للتسبب ، كأنه قيل : فاصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه .
المدثر : ( 9 ) فذلك يومئذ يوم . . . . .
وقال الزمخشري : والفاء في ) فَذَلِكَ ( للجزاء . فإن قلت : بم انتصب إذا ،

" صفحة رقم 365 "
وكيف صح أن يقع يومئذ ظرفاً ليوم عسير ؟ قلت : انتصب إذا بما دل عليه الجزاء ، لأن المعنى : ) فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ ( ، عسر الأمر على الكافرين ؛ والذي أجاز وقوع يومئذ ظرفاً ليوم عسير أن المعنى : فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير ، لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور . ويجوز أن يكون يومئذ مبنياً مرفوع المحل بدلاً من ذلك ، ويوم عسير خبر ، كأنه قيل : فيوم النقر يوم عسير . فإن قلت : فما فائدة قوله : ) غَيْرُ يَسِيرٍ ( ، وعسير مغن عنه ؟ قلت : لما قال ) عَلَى الْكَافِرِينَ ( فقصر العسر عليهم ، قال ) غَيْرُ يَسِيرٍ ( ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً ، فيجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم . ويجوز أن يراد به عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً ، كما يرجى بيسير العسير من أمور الدنيا . انتهى . وقال الحوفي : ) فَإِذَا ( ، إذا متعلقة بأنذر ، أي فأنذرهم إذا نقر في الناقورة ، قال أبو البقاء : يجري على القول الأخفش أن تكون إذا مبتدأ والخبر فذلك والفاء زائدة . فأما يومئذ فظرف لذلك ،
المدثر : ( 10 ) على الكافرين غير . . . . .
وأجاز أبو البقاء أن يتعلق على الكافرين بيسير ، أي غير يسير ، أي غير سهل على الكافرين ؛ وينبغي أن لا يجوز ، لأن فيه تقديم معمول العامل المضاف إليه غير على العامل ، وهو ممنوع على الصحيح ؛ وقد أجازه بعضهم فيقول : أنا بزيد غير راض .
المدثر : ( 11 ) ذرني ومن خلقت . . . . .
( ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ( : لا خلاف أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، فروي أنه كان يلقب بالوحيد ، أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته . والظاهر انتصاب وحيداً على الحال من الضمير المحذوف العائد على من ، أي خلقته منفرداً ذليلاً قليلاً لا مال له ولا ولد ، فآتاه الله تعالى المال والولد ، فكفر نعمته وأشرك به واستهزأ بدينه . وقيل : حال من ضمير النصب في ذرني ، قاله مجاهد ، أي ذرني وحدي معه ، فأنا أجزيك في الانتقام منه ؛ أو حال من التاء في خلقت ، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقي أحد ، فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه . وقيل : وحيداً لا يتبين أبوه . وكان الوليد معروفاً بأنه دعي ، كما تقدم في قوله تعالى : ) عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ( ، وإذا كان يدعى وحيداً ، فلا يجوز أن ينتصب على الذم ، لأنه لا يجوز أن يصدقه الله تعالى في أنه وحيداً لا نظير له . ورد ذلك بأنه لما لقب بذلك صار علماً ، والعلم لا يفيد في المسمى صفة ، وأيضاً فيمكن حمله على أنه وحيد في الكفر والخبث والدناءة .
المدثر : ( 12 ) وجعلت له مالا . . . . .
( وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً ( ، قال ابن عباس : كان له بين مكة والطائف إبل وحجور ونعم وجنان وعبيد وجوار . وقيل : كان صاحب زرع وضرع وتجارة . وقال النعمان بن بشير : المال المدود هو الأرض لأنها مدت . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هو الريع المستغل مشاهرة ، فهو مد في الزمان لا ينقطع . وقيل : هو مقدار معين واضطربوا في تعيينه . فما قيل : ألف دينار ، وقيل : ألف ألف دينار ، وكل هذا تحكم .
المدثر : ( 13 ) وبنين شهودا
) وَبَنِينَ شُهُوداً ( : أي حضوراً معه بمكة لا يظعنون عنه لغناهم فهو مستأنس بهم ، أو شهوداً : أي رجالاً يشهدون معه المجامع والمحافل ، أو تسمع شهادتهم فيما يتحاكم فيه ؛ واختلف في عددهم ، فذكر منهم : خالد وهشام وعمارة ، وقد أسلموا ؛ والوليد والعاصي وقيس وعبد شمس . قال مقاتل : فما زال الوليد بعد هذه الآية وبعد نزولها في نقص في ماله وولده حتى هلك .
المدثر : ( 14 ) ومهدت له تمهيدا
) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ( : أي وطأت وهيأت وبسطت له بساطاً حتى أقام ببلدته مطمئناً يرجع إلى رأيه . وقال ابن عباس : وسعت له ما بين اليمن إلى الشام . وقال مجاهد : مهدت له المال بعضه فوق بعض ، كما يمهد الفراش .
المدثر : ( 15 ) ثم يطمع أن . . . . .
( ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ( : أي على ما أعطيته من المال والولد .
المدثر : ( 16 ) كلا إنه كان . . . . .
( كَلاَّ ( : أي ليس يكون كذلك مع كفره بالنعم . وقال الحسن وغيره : ثم يطمع أن أدخله الجنة ، لأنه كان يقول : إن كان محمداً صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي . ) ثُمَّ يَطْمَعُ ( ، قال الزمخشري : استعباد لطمعه واستنكار ، أي لا مزيد على ما أوتي كثرة وسعة ، ( كَلاَّ ( : قطع لرجائه وردع . انتهى . وطمعه في الزيادة دليل على مبشعه وحبه للدنيا . ) إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً ( : تعليل للرّدع على وجه الاستئناف ، كأن قائلاً قال : لم لا يزاد ؟ فقال إنه كان يعاند آيات المنعم وكفر بذلك ، والكافر لا يستحق المزيد ؛ وإنما جعلت الآيات بالنسبة إلى الأنعام لمناسبة قوله : ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً ( إلى آخر ما آتاه الله ، والأحسن أن يحمل على آيات القرآن لحديثه في القرآن وزعمه أنه

" صفحة رقم 366 "
سحر .
المدثر : ( 17 ) سأرهقه صعودا
) سَأُرْهِقُهُ ( : أي سأكلفه وأعنته بمشقة وعسر ، ( صَعُوداً ( : عقبة في جهنم ، كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب ثم يعود ، والصعود في اللغة : العقبة الشاقة ، وتقدّم شرح عنيد في سورة إبراهيم عليه السلام .
المدثر : ( 18 ) إنه فكر وقدر
) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ( : روي أن الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال : إن له لحلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن فرعه لجناة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو وما يعلى ، ونحو هذا من الكلام ، فخالفوه وقالوا : هو شعر ، فقال : والله ما هو بشعر ، قد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه ، قالوا : فهو كاهن ، قال : والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، قالوا : هو مجنون ، قال : والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا المجنون وخنقه ، قالوا : هو سحر ، قال : أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه . وروي هذا بألفاظ غير هذا ويقرب من حيث المعنى ، وفيه : وتزعمون أنه كذب ، فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب ؟ فقالوا : في كل ذلك اللهم لا ، ثم قالوا : فما هو ؟ ففكر ثم قال : ما هو إلا ساحر . أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثره عن مثل مسيلمة وعن أهل بابل ، فارتج النادي فرحاً وتفرّقوا متعجبين منه . وروي أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام . ودخل إلى بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مراراً ، فجاءه أبو جهل فقال : يا وليد ، أشعرت أن قريشاً قد ذمّتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة ، وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه ؟ وقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد ، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم ، ففتنه أبو جهل فافتتن وقال : أفعل . ) إِنَّهُ فَكَّرَ ( : تعليل للوعيد في قوله : ) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ). قيل : ويجوز أن يكون ) إِنَّهُ فَكَّرَ ( بدلاً من قوله : ) إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً ( ، بياناً لكنه عناده وفكر ، أي في القرآن ومن أتى به ، ( وَقَدَّرَ ( : أي في نفسه ما يقول فيه .
المدثر : ( 19 - 20 ) فقتل كيف قدر
) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( ، قتل : لعن ، وقيل : غلب وقهر ، وذلك من قوله :
لسهميك في أعسار قلب مقتل
أي مذلل مقهور بالحب ، فلعن دعاء عليه بالطرد والإبعاد وغلب ، وذلك إخبار بقهره وذلته ، و ) كَيْفَ قَدَّرَ ( معناه : كيف قدر ما لا يصح تقديره وما لا يسوغ أن يقدره عاقل ؟ وقيل : دعاء مقتضاه الاستحسان والتعجب . فقيل ذلك لمنزعه الأول في مدحه القرآن ، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه ، فيجري مجرى قول عبد الملك بن مروان : قاتل الله كثيراً ، كأنه رآنا حين قال كذا . وقيل : ذلك لإصابته ما طلبت قريش منه . وقيل : ذلك ثناء عليه على جهة الاستهزاء . وقيل : ذلك حكاية لما كرروه من قولهم : قتل كيف قدّر ، تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله ، وهذا فيه بعد . وقولهم : قاتلهم الله ، مشهور في كلام العرب أنه يقال عند استعظام الأمر والتعجب منه ، ومعناه : أنه قد بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ويدعى عليه من حساده ، والاستفهام في ) كَيْفَ قَدَّرَ ( في معنى : ما أعجب تقديره وما أغربه ، كقولهم : أي رجل زيد ؟ أي ما أعظمه .
وجاء التكرار بثم ليدل على أن الثانية أبلغ من الأولى للتراخى الذي بينهما ، كأنه دعى عليه أولاً ورجى أن يقلع عن ما كان يرومه فلم يفعل ، فدعى عليه ثانياً ،
المدثر : ( 21 ) ثم نظر
) ثُمَّ نَظَرَ ( : أي فكر ثانياً . وقيل : نظر إلى وجوه الناس ،
المدثر : ( 22 ) ثم عبس وبسر
) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( : أي قطب وكلح لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول . وقيل : قطب في وجه رسول الله
e
المدثر : ( 23 ) ثم أدبر واستكبر
. ) ثُمَّ أَدْبَرَ ( : رجع مدبراً ، وقيل : أدبر عن الحق ، ( وَاسْتَكْبَرَ ( ، قيل : تشارس مستكبراً ، وقيل : استكبر عن الحق ، وصفه بالهيئات التي تشكل بها حين أراد أن يقول : ما قال كل ذلك على سبيل الاستهزاء ، وأن ما يقوله كذب وافتراء ، إذ لو كان ممكناً ، لكان له هيئات غير هذه من فرح القلب وظهور السرور والجذل والبشر في وجهه ، ولو كان حقاً لم يحتج إلى هذا الفكر لأن الحق أبلج يتضح بنفسه من غير إكداد فكر ولا إبطاء تأمّل . ألا

" صفحة رقم 367 "
ترى إلى ذلك الرجل وقوله حين رأي رسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فعلمت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، وأسلم من فوره . وقيل : ثم نظر فيما يحتج به للقرآن ، فرأى ما فيه من الإعجاز والإعلام بمرتبة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ودام نظره في ذلك . ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( ، دلالة على تأنيه وتمهله في تأمّله ، إذ بين ذلك تراخ وتباعد . وكان العطف في ) وَبَسَرَ ( وفي ) وَاسْتَكْبَرَ ( ، لأن البسور قريب من العبوس ، فهو كأنه على سبيل التوكيد والاستكبار يظهر أنه سبب للادبار ، إذ الاستكبار معنى في القلب ، والإدبار حقيقة من فعل الجسم ، فهما سبب ومسبب ، فلا يعطف بثم ؛ وقدّم المسبب على السبب لأنه الظاهر للعين ، وناسب العطف بالواو ؛ وكان العطف في
المدثر : ( 24 ) فقال إن هذا . . . . .
فقال بالفاء دلالة على التعقيب ، لأنه لما خطر بباله هذا القول بعد تطلبه ، لم يتمالك أن نطق به من غير تمهل . ومعنى ) يُؤْثَرُ ( : يروي وينقل ، قال الشاعر : لقلت من القول ما لا يزا
ل يؤثر عني به المسند
وقيل : ) يُؤْثَرُ ( أي يختار ويرجح على غيره من السحر فيكون من الإيثار ، ومعنى ) إِلاَّ سِحْرٌ ( : أي شبيه بالسحر .
المدثر : ( 25 ) إن هذا إلا . . . . .
( إِنْ هَاذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ( : تأكيد لما قبله ، أي يلتقط من أقوال الناس ، ويظهر أن كفر الوليد إنما هو عناد . ألا ترى ثناءه على القرآن ، ونفيه عنه جميع ما نسبوا إليه من الشعر والكهانة والجنون ، وقصته مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين قرأ عليه أوائل سورة فصلت إلى قوله تعالى : ) فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ( ، وكيف ناشدة الله بالرحم أن يسكت ؟
المدثر : ( 26 ) سأصليه سقر
) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( ، قال الزمخشري : بدل من ) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ). انتهى . ويظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة ، منهما فتوعد على سبيل التوعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما ، فتوعد على كونه عنيداً لآيات الله بإرهاق صعود ، وعلى قوله بأن القرآن سحر يؤثر بإصلائه سقر ، وتقدّم الكلام على سقر في أواخر سورة القمر .
المدثر : ( 27 ) وما أدراك ما . . . . .
( وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( : تعظيم لهولها وشدتها ،
المدثر : ( 28 ) لا تبقي ولا . . . . .
( لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ ( : أي لا تبقي على من ألقي فيها ، ولا تذر غاية من العذاب إلا أوصلته إليه .
المدثر : ( 29 ) لواحة للبشر
) لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ ( ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور : معناه مغيرة للبشرات محرقة للجلود مسوّدة لها ، والبشر جمع بشرة ، وتقول العرب : لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسوّدته . وقال الحسن وابن كيسان : لوّاحة بناء مبالغة من لاح إذا ظهر ، والمعنى أنها تظهر للناس ، وهم البشر ، من مسيرة خمسمائة عام ، وذلك لعظمها وهولها وزجرها ، كقوله تعالى : ) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ( ، وقوله : ) وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى ). وقرأ الجمهور : ) لَوَّاحَةٌ ( بالرفع ، أي هي لوّاحة . وقرأ العوفي وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي عبلة : لواحة بالنصب على الحال المؤكدة ، لأن النار التي لا تبقي ولا تذر لا تكون إلا مغيرة للإبشار . وقال الزمخشري : نصباً على الاختصاص للتهويل .
المدثر : ( 30 - 31 ) عليها تسعة عشر
) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ( : التمييز محذوف ، والمتبادر إلى الذهن أنه ملك . ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك ؟ فقال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمّهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين ، فأنزل الله تعالى : ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَةً ( أي ما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون ، وأنزل الله تعالى في أبي جهل ) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ). وقيل : التمييز المحذوف صنفاً من الملائكة ، وقيل : نقيباً ، ومعنى عليها يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها ، فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث أن هؤلاء هم النقباء . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ( يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ) ؟ وقد ذكر المفسرون من نعوت هؤلاء الملائكة وخلقهم وقوتهم ، وما أقدرهم الله تعالى عليه من الأفعال ما الله أعلم بصحته ، وكذلك ذكر أبو عبد الله الرازي حكماً على زعمه في كون هؤلاء الملائكة على هذا العدد المخصوص يوقف

" صفحة رقم 368 "
عليها في تفسيره .
وقرأ الجمهور : ) تِسْعَةَ عَشَرَ ( مبنيين على الفتح على مشهور اللغة في هذا العدد . وقرأ أبو جعفر وطلحة بن سليمان : بإسكان العين ، كراهة توالي الحركات . وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطيب وإبراهيم بن قنة : بضم التاء ، وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات ، ولا يتوهم أنها حركة إعراب ، لأنها لو كانت حركة إعراب لأعرب عشر . وقرأ أنس أيضاً : تسعة بالضم ، أعشر بالفتح . وقال صاحب اللوامح : فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ثم أجراه مجرى تسعة عشر ، وعنه أيضاً تسعة وعشر بالضم ، وقلب الهمزة من أعشر واواً خالصة تخفيفاً ، والباء فيهما مضمومة ضمة بناء لأنها معاقبة للفتحة ، فراراً من الجمع بين خمس حركات على جهة واحدة . وعن سليمان بن قنة ، وهو أخو إبراهيم : أنه قرأ تسعة أعشر بضم التاء ضمة إعراب وإضافته إلى أعشر ، وأعشر مجرور منون وذلك على فك التركيب . قال صاحب اللوامح : ويجيء على هذه القراءة ، وهي قراءة من قرأ أعشر مبنياً أو معرباً من حيث هو جمع ، أن الملائكة الذين هم على النار تسعون ملكاً . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . قال الزمخشري : وقرىء تسعة أعشر جمع عشير ، مثل يمين وأيمن . انتهى . وسليمان بن قنة هذا هو الذي مدح أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو القائل : مررت على أبيات آل محمد
فلم أر أمثالاً لها يوم حلت
وكانوا ثمالاً ثم عادوا رزية لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَةً ( : أي جعلناهم خلقاً لا قبل لأحد من الناس بهم ، ( وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( : أي سبب فتنة ، وفتنة مفعول ثان لجعلنا ، أي جعلنا تلك العدّة ، وهي تسعة عشر ، سبباً لفتنة الكفار ، فليس فتنة مفعولاً من أجله ، وفتنهم هي كونهم أظهروا مقاومتهم في مغالبتهم ، وذلك على سبيل الاستهزاء . فإنهم يكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها . ) لِيَسْتَيْقِنَ ( : هذا مفعول من أجله ، وهو متعلق بجعلنا لا بفتنة . فليست الفتنة معلولة للاستيقان ، بل المعلول جعل العدّة سبباً لفتنة ) الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( ، وهم اليهود والنصارى . إنّ هذا القرآن هو من عند الله ، إذ هم يجدون هذه العدّة في كتبهم المنزلة ، ويعلمون أن الرسول لم يقرأها ولا قرأها عليه أحد ، ولكن كتابة يصدّق كتب الأنبياء ، إذ كل ذلك حق يتعاضد من عند الله تعالى . قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد ، وبورود الحقائق من عند الله يزداد كل ذي إيمان إيماناً ، ويزول الريب عن المصدّقين من أهل الكتاب وعن المؤمنين . وقيل : إنما صار جعلها فتنة لأنهم يستهزئون ويقولون : لم لم يكونوا عشرين ؟ وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود ؟ ويقولون هذا العدد القليل ، يقوون بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلى قيام الساعة .
وقال الزمخشري : فإن قلت : قد جعل افتتان الكافرين بعدّة الزبانية سبباً لاستيقان أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين ، فما وجه صحة ذلك ؟ قلت : ما جعل افتتانهم بالعدّة سبباً لذلك ، وإنما العدّة نفسها هي التي جعلت سبباً ، وذلك أن المراد بقوله : ) وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( : وما جعلنا عدّتهم إلا تسعة عشر ؛ فوضع ) فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( موضع تسعة عشر ، لأن حال هذه العدّة الناقصة واحداً من عقد العشرين ، أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزىء ولا يذعن إذعان المؤمن ، وإن خفي عليه وجه الحكمة ، كأنه قيل : ولقد جعلنا عدّتهم عدّة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين . انتهى ، وهو سؤال عجيب وجواب فيه تحريف كتاب الله تعالى ، إذ زعم أن معنى ) إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( : إلا تسعة عشر ، وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا من له أدنى ذكاء ؛ وكفى ردّاً عليه تحريف كتاب الله ووضع ألفاظ مخالفة لألفاظ ومعنى مخالف لمعنى . وقيل : ) لِيَسْتَيْقِنَ ( متعلق بفعل مضمر ، أي فعلنا ذلك ليستيقن . ) وَلاَ يَرْتَابَ ( : توكيد لقوله ) لِيَسْتَيْقِنَ ( ، إذ إثبات اليقين ونفي الارتياب أبلغ وآكد في الوصف لسكون النفس السكون التام .
و ) الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( ، قال الحسين بن

" صفحة رقم 369 "
الفضل : السورة مكية ، ولم يكن بمكة نفاق ، وإنما المرض في الآية : الاضطراب وضعف الإيمان . وقيل : هو إخبار بالغيب ، أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة : ) مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً ). لما سمعوا هذا العدد لم يهتدوا وحاروا ، فاستفهم بعضهم بعضاً عن ذلك استبعاداً أن يكون هذا من عند الله ، وسموه مثلاً استعارة من المثل المضروب استغراباً منهم لهذا العدد ، والمعنى : أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب ؟ ومرادهم إنكار أصله وأنه ليس من عند الله ، وتقدّم إعراب مثل هذه الجملة في أوائل البقرة .
( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ).
الكاف في محل نصب ، وذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى ، أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى ، يضل الكافرين فيشكون فيزيدهم كفراً وضلالاً ، ويهدي المؤمنين فيزيدهم إيماناً . ) وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( : إعلام بأن الأمر فوق ما يتوهم ، وأن الجزاء إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها ، والسماء عامرة بأنواع من الملائكة . وفي الحديث : ( أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً ) . ) وَمَا هِىَ ( : أي النار ، قاله مجاهد ، أو المخاطبة والنذارة ، أو نار الدنيا ، أو الآيات التي ذكرت ، أو العدّة التسعة عشر ، أو الجنود ، أقوال راجحها الأول وهي سقر ، ذكر بها البشر ليخافوا ويطيعوا . وقد جرى ذكر النار أيضاً في قوله : ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ الْمَلَائِكَةَ ). ) إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ( : أي الذين أهلوا للتذكر والاعتبار .
المدثر : ( 32 ) كلا والقمر
) كَلاَّ ( ، قال الزمخشري : كلا إنكار بعد أن جعلها ذكرى ، أن يكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون . انتهى . ولا يسوغ هذا في حق الله تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر ، ثم ينكر أن تكون لهم ذكرى ، وإنما قوله : ) لّلْبَشَرِ ( عام مخصوص . وقال الزمخشري : أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذير . وقيل : ردع لقول أبي جهل وأصحابه أنهم يقدرون على مقاومة خزنة جهنم . وقيل : ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة . وقال الفراء : هي صلة للقسم ، وقدرها بعضهم بحقاً ، وبعضهم بألا الاستفتاحية ، وقد تقدم الكلام عليها في آخر سورة مريم عليها السلام .
( وَالْقَمَرِ (
المدثر : ( 33 ) والليل إذ أدبر
) وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ( : أي ولى ، ويقال دبر وأدبر بمعنى واحد . أقسم تعالى بهذه الأشياء تشريفاً لها وتنبيهاً على ما يظهر بها وفيها من عجائب الله وقدرته ، وقوام الوجود بإيجادها . وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن العزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر : إذا ظرف زمان مستقبل دبر بفتح الدال ؛ وابن جبير والسلمي والحسن : بخلاف عنهم ؛ وابن سيرين والأعرج وزيد بن علي وأبو شيخ وابن محيصن ونافع وحمزة وحفص : إذ ظرف زمان ماض ، أدبر رباعياً ؛ والحسن أيضاً وأبو رزين وأبو رجاء وابن يعمر أيضاً والسلمي أيضاً وطلحة أيضاً والأعمش ويونس بن عبيد ومطر : إذا بالألف ، أدبر بالهمز ، وكذا هو في مصحف عبد الله وأبيّ ، وهو مناسب لقوله : ) إِذَا أَسْفَرَ ( ، ويقال : كأمس الدابر وأمس المدبر بمعنى واحد . وقال يونس بن حبيب : دبر : انقضى ، وأدبر : تولى . وقال قتادة : دبر الليل : ولى . وقال الزمخشري : ودبر بمعنى أدبر ، كقبل بمعنى أقبل . وقيل : هو من دبر

" صفحة رقم 370 "
الليل النهار : أخلفه .
المدثر : ( 34 ) والصبح إذا أسفر
وقرأ الجمهور : أسفر رباعياً ؛ وابن السميفع وعيسى بن الفضل : سفر ثلاثياً ، والمعنى : طرح الظلمة عن وجهه .
المدثر : ( 35 - 36 ) إنها لإحدى الكبر
) إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ ( : الظاهر أن الضمير في إنها عائد على النار . قيل : ويحتمل أن يكون للنذارة ، وأمر الآخرة فهو للحال والقصة . وقيل : إن قيام الساعة لإحدى الكبر ، فعاد الضمير إلى غير مذكور ، ومعنى إحدى الكبر : الدواهي الكبر ، أي لا نظير لها ، كما تقول : هو أحد الرجال ، وهي إحدى النساء ، والكبر : العظائم من العقوبات .
وقال الراجز : يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر
داهية الدهر وصماء الغير
والكبر جمع الكبرى ، طرحت ألف التأنيث في الجمع ، كما طرحت همزته في قاصعاء فقالوا قواصع . وفي كتاب ابن عطية : والكبر جمع كبيرة ، ولعله من وهم الناسخ . وقرأ الجمهور : لإحدى بالهمز ، وهي منقلبة عن واو أصله لوحدى ، وهو بدل لازم . وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير : بحذف الهمزة ، وهو حذف لا ينقاس ، وتخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين بين . والظاهر أن هذه الجملة جواب للقسم . وقال الزمخشري : أو تعليل لكلا ، والقسم معترض للتوكيد . انتهى .
وقرأ الجمهور : ) نَذِيراً ( ، واحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار ، كالنكير بمعنى الإنكار ، فيكون تمييزاً : أي لإحدى الكبر إنذاراً ، كما تقول : هي إحدى النساء عفافاً . كما ضمن إحدى معنى أعظم ، جاء عنه التمييز . وقال الفراء : هو مصدر نصب بإضمار فعل ، أي أنذر إنذاراً . واحتمل أن يكون اسم فاعل بمعنى منذر . فقال الزجاج : حال من الضمير في إنها . وقيل : حال من الضمير في إحدى ، ومن جعله متصلاً بقم في أول السورة ، أو ب : فأنذر في أول السورة ، أو حالاً من الكبر ، أو حالاً من ضمير الكبر ، فهو بمعزل عن الصواب . قال أبو البقاء : والمختار أن يكون حالاً مما دلت عليه الجملة تقديره : عظمت نذيراً . انتهى ، وهو قول لا بأس به . قال النحاس : وحذفت الهاء من نذيراً ، وإن كان للنار على معنى النسب ، يعني ذات الإنذار . وقال علي بن سليمان : أعني نذيراً . وقال الحسن : لأنذر ، إذ هي من النار . قال ابن عطية : وهذا القول يقتضي أن نذيراً حال من الضمير في إنها ، أو من قوله : ) لإِحْدَى ). قال أبو رزين : نذير هنا هو الله تعالى ، فهو منصوب بإضمار فعل ، أي ادعوا نذيراً . وقال ابن زيد : نذير هنا هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فهو منصوب بفعل مضمر ، أي ناد ، أو بلغ ، أو أعلن . وقرأ أبيّ وابن أبي عبلة : نذير بالرفع . فإن كان من وصف النار ، جاز أن يكون خبراً وخبر مبتدأ محذوف ، أي هي نذير . وإن كان من وصف الله أو الرسول ، فهو على إضمار هو .
المدثر : ( 37 ) لمن شاء منكم . . . . .
والظاهر أن لمن بدل من البشر بإعادة الجار ، وأن يتقدم منصوب بشاء ضمير يعود على من . وقيل : الفاعل ضمير يعود على الله تعالى ، أي لمن شاء هو ، أي الله تعالى . وقال الحسن : هو وعيد ، نحو قوله تعالى : ) فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ). قال ابن عطية : هو بيان في النذارة وإعلام بأن كل أحد يسلك طريق الهدى والحق إذا حقق النظر ، إذ هو بعينه يتأخر عن هذه الرتبة بغفلته وسوء نظره .
المدثر : ( 38 ) كل نفس بما . . . . .
ثم قوى هذا المعنى بقوله تعالى : ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ).
وقال الزمخشري : ) أَن يَتَقَدَّمَ ( في موضع الرفع بالابتداء ، و ) لِمَن شَاء ( خبر مقدم عليه ، كقولك لمن توضأ : أن يصلي ، ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر . والمراد بالتقدم والتأخر : السبق إلى الخير والتخلف عنه ، وهو كقوله : ) فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ). انتهى ، وهو معنى لا يتبادر إلى الذهن وفيه حذف

" صفحة رقم 371 "
قيل : والتقدم : الإيمان ، والتأخر : الكفر . وقال السدي : أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها ، أو يتأخر عنها إلى الجنة . وقال الزجاج : أن يتقدم إلى المأمورات ، أو يتأخر عن المنهيات ، والظاهر العموم في كل نفس . وقال الضحاك : كل نفس حقيق عليها العذاب ، ولا يرتهن الله تعالى أحداً من أهل الجنة ، ورهينة بمعنى رهن ، كالشتيمة بمعنى الشتم ، وليست بمعنى مفعول لأنها بغير تاء للمذكر والمؤنث ، نحو : رجل قتيل وامرأة قتيل ، فالمعنى : كل نفس بما كسبت رهن ، ومنه قول الشاعر : أبعد الذي بالنعف نعف كويكب
رهينة رمس ذي تراب وجندل
أي : رمس رهن ، والمعنى : أن كل نفس رهن عند الله غير مفكوك . وقيل : الهاء في رهينة للمبالغة . وقيل : على تأنيث اللفظ لا على الإنسان ، والذي أختاره أنها مما دخلت فيه التاء ، وإن كان بمعنى مفعول في الأصل كالنطيحة ، ويدل على ذلك أنه لما كان خبر عن المذكر كان بغير هاء ، قال تعالى : ) كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ). فأنت ترى حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغير تاء ، وحيث كان خبراً عن المؤنث أتى بالتاء ، كما في هذه الآية . فأما الذي في البيت فأنث على معنى النفس .
المدثر : ( 39 ) إلا أصحاب اليمين
) إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ( ، قال ابن عباس : هم الملائكة . وقال عليّ : هم أطفال المسلمين . فعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعاً ، أي لكن أصحاب اليمين في جنات . وقال الحسن وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ، ليسوا بمرتهنين لأنهم أدوا ما كان عليهم ، وهذا كقول الضحاك الذي تقدم . وقال الزمخشري : ) إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ( ، فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم ، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق . انتهى . وظاهر هذا أنه استثناء متصل
المدثر : ( 40 - 42 ) في جنات يتساءلون
في جنات ، أي هم ) فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ ( : أي يسأل بعضهم بعضاً ، أو يكون يتساءل بمعنى يسأل ، أي يسألون عنهم غيرهم ، كما يقال : دعوته وتداعوته بمعناه . وعلى هذين التقديرين كيف جاء ) مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( بالخطاب للمجرمين ، وفي الكلام حذف ، المعنى : أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً ، أو يسألون غيرهم عن من غاب من معارفهم ، فإذا عرفوا أنهم مجرمون في النار قالوا لهم ، أو قالت لهم الملائكة : هكذا قدره بعضهم ، والأقرب أن يكون التقدير : يتساءلون عن المجرمين قائلين لهم بعد التساؤل : ) مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ).
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف طابق قوله : ) مَا سَلَكَكُمْ ( ؟ وهو سؤال للمجرمين ، قوله : ) يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ( ؟ وهو سؤال عنهم ، وإنما كان يطابق ذلك لو قيل يتساءلون عن المجرمين ما سلككم ؟ قلت : ) مَا سَلَكَكُمْ ( ليس ببيان للتساؤل عنهم ، وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم ، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون : قلنا لهم ) مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( ، ( قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ ( ، إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار ، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه . انتهى ، وفيه تعسف . والأظهر أن السائلين هم المتسائلون ، وما سلككم على إضمار القول كما ذكرنا ، وسؤالهم سؤال توبيخ لهم وتحقير ، وإلا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار .
المدثر : ( 43 - 47 ) قالوا لم نك . . . . .
والجواب أنهم لم يكونوا متصفين بخصائل الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثم ارتقوا من ذلك إلى الأعظم وهو الكفر والتكذيب بيوم الجزاء ، كقولهم : ) فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( ، ثم قال : ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ). واليقين : أي يقيناً على إنكار يوم الجزاء ، أي وقت الموت . وقال ابن عطية : واليقين عندي صحة ما كانوا يكذبون من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخر . وقال المفسرون : اليقين : الموت ، وذلك عندي هنا متعقب ، لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي . وإنما اليقين الذي عنوا في هذه الآية الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت ، وإنما يتفسر اليقين بالموت في قوله تعالى : ) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ).
المدثر : ( 48 ) فما تنفعهم شفاعة . . . . .
( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ( : ليس المعنى أنهم يشفع لهم فلا تنفع شفاعة من يشفع لهم ، وإنما

" صفحة رقم 372 "
المعنى نفي الشفاعة فانتفى النفع ، أي لا شفاعة شافعين لهم فتنفعهم من باب :
على لاحب لا يهتدي بمناره
أي : لا منار له فيهتدي به . وتخصيصهم بانتفاء شفاعة الشافعين يدل على أنه قد تكون شفاعات وينتفع بها ، ووردت أحاديث في صحة ذلك .
المدثر : ( 49 ) فما لهم عن . . . . .
( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ ( : وهي مواعظ القرآن التي تذكر الآخرة ، ( مُعْرِضِينَ ( : أي والحال المنتظرة هذه الموصوفة .
المدثر : ( 50 ) كأنهم حمر مستنفرة
ثم شبههم بالحمر المستنفرة في شدة إعراضهم ونفارهم عن الإيمان وآيات الله تعالى . وقرأ الجمهور : ) حُمُرٌ ( بضم الميم ؛ والأعمش : بإسكانها . قال ابن عباس : المراد الحمر الوحشية ، شبههم تعالى بالحمر مذمة وتهجيناً لهم . وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم : ) مُّسْتَنفِرَةٌ ( بفتح الفاء ،
المدثر : ( 51 ) فرت من قسورة
والمعنى : استنفرها : فزعها من القسورة ؛ وباقي السبعة : بكسرها ، أي نافرة نفر ، واستنفر بمعنى عجب واستعجب وسر واستسخر ، ومنه قول الشاعر : أمسك حمارك إنه مستنفر
في إصر أحمرة عهدن لعرّب
ويناسب الكسر قوله : ) فَرَّتْ ). وقال محمد بن سلام : سألت أبا سرار العتوي ، وكان أعرابياً فصيحاً ، فقلت : كأنهم حمر ماذا مستنفرة طردها قسورة ؟ فقلت : إنما هو ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ( ، قال : أفرّت ؟ قلت : نعم ، قال : فمستنفرة إذن . قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة : القسورة : الرماة . وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة وجمهور من اللغويين : الأسد . وقال ابن جبير : رجال القنص ، وهو قريب من القول الأول ، وقاله ابن عباس أيضاً . وقال ابن الأعرابي : القسورة أول الليل ، والمعنى : فرّت من ظلمة الليل ، ولا شيء أشدّ نفاراً من حمر الوحش ، ولذلك شبهت بها العرب الإبل في سرعة سيرها وخفتها .
المدثر : ( 52 ) بل يريد كل . . . . .
( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىء مّنْهُمْ ( : أي من المعرضين عن عظات الله وآياته ، ( أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ( : أي منشورة غير مطوية تقرأ كالكتب التي يتكاتب بها ، أو كتبت في السماء نزلت بها الملائكة ساعة كتبت رطبة لم تطو بعد ، وذلك أنهم قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : لن نتبعك حتى يؤتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه : من رب العالمين إلى فلان بن فلان ، يؤمر فيها باتباعك ، ونحوه ) لَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ ). وروي أن بعضهم قال : إن كان يكتب في صحف ما يعمل كل إنسان ، فلتعرض تلك الصحف علينا ، فنزلت هذه الآية . وقرأ الجمهور : ) صُحُفاً ( بضم الصاد والحاء ، ( مُّنَشَّرَةً ( مشدّداً ؛ وابن جبير : بإسكانها منشرة مخففاً ، ونشر وأنشر مثل نزل وأنزل . شبه نشر الصحيفة بإنشار الله الموتى ، فعبر عنه بمنشرة من أنشرت ، والمحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففاً ثلاثياً ، ويقال في الميت : أنشره الله فنشر هو ، أي أحياه فحيي .
المدثر : ( 53 ) كلا بل لا . . . . .
( كَلاَّ ( : ردع عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات ، ( بَل لاَّ يَخَافُونَ الاْخِرَةَ ( ، ولذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف . وقرأ الجمهور : ) يَخَافُونَ ( بياء الغيبة ؛ وأبو حيوة : بتاء الخطاب التفاتاً .
المدثر : ( 54 - 56 ) كلا إنه تذكرة
) كَلاَّ ( : ردع عن إعراضهم عن التذكرة ، ( إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ( : ذكر في إنه وفي ذكره ، لأن التذكرة ذكر . وقرأ نافع وسلام ويعقوب : تذكرة بتاء الخطاب ساكنة الذال ؛ وباقي السبعة وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى والأعرج : بالياء . وروي عن أبي حيوة : يذكرون بياء الغيبة وشد الذال . وروي عن أبي جعفر : تذكرون بالتاء وإدغام التاء في الذال . ) هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى ( : أي أهل أن يتقي ويخاف ، وأهل أن يغفر . وروى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فسر هذه الآية فقال : ( يقول لكم ربكم جلت قدرته وعظمته : أنا أهل أن أتقى ، فلا يجعل يتقى إله غيري ، ومن اتقى أن يجعل معي إلهاً غيري فأنا أغفر له ) . وقال الزمخشري : في قوله تعالى ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( ، يعني : إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه ، لأنهم مطبوع على قلوبهم معلوم أنهم لا يؤمنون إختياراً .

" صفحة رقم 373 "
75
( سورة القيامة )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْألُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الاٌّ خِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى ( ) ) 2
القيامة : ( 1 ) لا أقسم بيوم . . . . .
برق بكسر الراء : فزع ودهش ، وأصله من برق الرجل ، إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ، ومنه قول ذي الرمّة : ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت
لعينيه ميّ سافراً كاد يبرق
قال الأعشى : وكنت أرى في وجه مية لمحة
فأبرق مغشياً عليّ مكانياً
وبرق بفتح الراء : شق بصره ، وهو من البريق ، أي لمع بصره من شدّة شخوصه . الوزر : ما يلجأ إليه من

" صفحة رقم 374 "
حصن أو جبل أو غيرهما ، قال الشاعر : لعمرك ما للفتى من وزر
من الموت يدركه والكبر
النضرة : النعمة وجمال البشرة وطراوتها ، قال الشاعر : أبى لي قبر لا يزال مقابلي
وضربة فاس فوق رأسي فاقره
أي : مؤثرة . التراقي جمع ترقوة : وهي عظام الصدر ، ولكل إنسان ترقونان ، وهو موضع الحشرجة ، قال دريد بن الصمة : ورب عظيمة دافعت عنهم
وقد بلغت نفوسهم التراقي
رقي يرقى من الرقية ، وهي ما يستشفى به للمريض من الكلام المعد لذلك . تمطى : تبختر في مشيته ، وأصله من المطا وهو الظهر ، أي يلوي مطاه تبختراً . وقيل : أصله تمطط : أي تمدّد في مشيته ، ومد منكبيه ، قلبت الطاء فيه حرف علة كراهة اجتماع الأمثال ، كما قالوا : تظني من الظن ، وأصله تظنن ، والمطيطا : التبختر ومد اليدين في المشي ، والمطيط : الماء الخاثر في أسفل الحوض ، لأنه يتمطط فيه ، أي يمتد ؛ وعلى هذا الاشتقاق لا يكون أصله من المط لاختلاف المادتين ، إذ مادة المطا م ط و ، ومادة تمطط م ط ط . سدى : مهمل ، يقال إبل سدى : أي مهملة ترعى حيث شاءت بلا راع ، وأسديت الشيء : أي أهملته ، وأسديت حاجتي : ضيعتها . قال الشاعر : فأقسم بالله جهد اليمين
ما خلق الله شيئاً سدى
وقال أبو بكر بن دريد في المقصورة : لم أر كالمزن سواما بهلا
تحسبها مرعية وهي سدى
) لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الاْخِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى ).

" صفحة رقم 375 "
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : أن في آخر ما قبلها قوله : ) كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الاْخِرَةَ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( ، وفيها كثير من أحوال القيامة ، فذكر هنا يوم القيامة وجملاً من أحوالها .
القيامة : ( 2 ) ولا أقسم بالنفس . . . . .
وتقدّم الكلام في ) لاَ أُقْسِمُ ). والخلاف في لا ، والخلاف في قراآتها في أواخر الواقعة . أقسم تعالى بيوم القيامة لعظمه وهو له .
القيامة : ( 4 ) بلى قادرين على . . . . .
و ) لاَ أُقْسِمُ ( ، قيل : لا نافية ، نفى أن يقسم بالنفس اللوّامة وأقسم بيوم القيامة ، نص على هذا الحسن ؛ والجمهور : على أن الله أقسم بالأمرين . واللوّامة ، قال الحسن : هي التي تلوم صاحبها في ترك الطاعة ونحوها ، فهي على هذا ممدوحة ، ولذلك أقسم الله بها . وروي نحوه عن ابن عباس وعن مجاهد ، تلوم على ما فات وتندم على الشر لم فعلته ، وعلى الخير لم لم تستكثر منه . وقيل : النفس المتقية التي تلوم النفوس في يوم القيامة على تقصيرهنّ في التقوى . وقال ابن عباس وقتادة : هي الفاجرة الخشعة اللوّامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها ، فهي على هذا ذميمة ، ويحسن نفي القسم بها . والنفس اللوّامة : اسم جنس بهذا الوصف . وقيل : هي نفس معينة ، وهي نفس آدم عليه السلام ، لم تزل لائمة له على فعله الذي أخرجه من الجنة . قال ابن عطية : وكل نفس متوسطة ليست بمطمئنة ولا أمّارة بالسوء فإنها لوّامة في الطرفين ، مرّة تلوم على ترك الطاعة ، ومرّة تلوم على فوت ما تشتهي ، فإذا اطمأنت خلصت وصفت . انتهى . والمناسبة بين القسمين من حيث أحوال النفس من سعادتها وشقاوتها وظهور ذلك في يوم القيامة ، وجواب القسم محذوف يدل عليه يوم القيامة المقسم به وما بعده من قوله : ) أَيَحْسَبُ ( الآية ، وتقديره لتبعثن . وقال الزمخشري : فإن قلت : قوله تعالى : ) فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ، والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي ، وكان قد أنشد قول امرىء القيس : لا وأبيك ابنة العامري
لا يدعي القوم إني أفرّ
وقول غوية بن سلمى : ألا نادت أمامة باحتمالي
لتحزنني فلا بك ما أبالي
قال : فهلا زعمت أن لا التي للقسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له ، وقدرت المقسم عليه المحذوف ههنا منفياً ، نحو قولك : ) لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( ، لا تتركون سدى ؟ قلت : لو قصروا الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ ، ولكنه لم يقسم . ألا ترى كيف لقي ) لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ ( بقوله : ) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ ( ، وكذلك ) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( ، ( إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ ( ؟ ثم قال الزمخشري : وجواب القسم ما دل عليه قوله : ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( ، وهو لتبعثن . انتهى ، وهو تقدير النحاس . وقول من قال جواب القسم هو : ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ ). وما روي عن الحسن أن الجواب : ) بَلَى قَادِرِينَ ( ، وما قيل أن لا في القسمين لنفيهما ، أي لا أقسم على شيء ، وأن التقدير : أسألك أيحسب الإنسان ؟ أقوال لا تصلح أن يرد بها ، بل تطرح ولا يسود بها الورق ، ولولا أنهم سردوها في الكتب لم أنبه عليها . والإنسان هنا الكافر المكذب بالبعث . روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يا محمد ، حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره ؟ فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن به ، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها ، فنزلت . وقيل : نزلت في أبي جهل ، كان يقول : أيزعم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها فيعيدها خلقا

" صفحة رقم 376 "
جديداً ؟
وقرأ الجمهور : ) نَّجْمَعَ ( بنون ، ( عِظَامَهُ ( نصباً ؛ وقتادة : بالتاء مبنياً للمفعول ، عظامه رفعاً ، والمعنى : بعد تفرّقها واختلاطها بالتراب وتطيير الرياح إياها في أقاصي الأرض . وقوله : ) أَيَحْسَبُ ( استفهام تقرير وتوبيخ ، حيث ينكر قدرة الله تعالى على إعادة المعدوم . ) بَلَى ( : جواب للاستفهام المنسخب على النفي ، أي بلى نجمهعا . وذكر العظام ، وإن كان المعنى إعادة الإنسان وجمع أجزائه المتفرقة ، لأن العظام هي قالب الخلق . وقرأ الجمهور : ) قَادِرِينَ ( بالنصب على الحال من الضمير الذي في الفعل المقدر وهو يجمعها ؛ وابن أبي عبلة وابن السميفع : قادرون ، أي نحن قادرون . ) عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ ( : وهي الأصابع ، أكثر العظام تفرّقاً وأدقها أجزاء ، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها ، وهذا عند البعث . وقال ابن عباس والجمهور : المعنى نجعلها في حياته هذه بعضة ، أو عظماً واحداً كخف البعير لا تفاريق فيه ، أي في الدنيا فتقل منفعته بها ، وهذا القول فيه توعد ، والمعنى الأول هو الظاهر والمقصود من رصف الكلام . وذكر الزمخشري هذين القولين بألفاظ منمقة على عادته في حكاية أقوال المتقدمين . وقيل : ) قَادِرِينَ ( منصوب على خبر كان ، أي بلى كنا قادرين في الابتداء .
القيامة : ( 5 ) بل يريد الإنسان . . . . .
( بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ بَلِ ( : إضراب ، وهو انتقال من كلام إلى كلام من غير إبطال . والظاهر أن ) يُرِيدُ ( إخبار عن ما يريده الإنسان . وقال الزمخشري : ) بَلْ يُرِيدُ ( عطف على ) أَيَحْسَبُ ( ، فيجوز أن يكون قبله استفهاماً ، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر ، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب . انتهى . وهذه التقادير الثلاثة لا تظهر ، وهي متكلفة ، بل المعنى : الإخبار عن الإنسان من غير إبطال لمضمون الجملة السابقة ، وهي نجمعها قادرين ، لنبين ما هو عليه الإنسان من عدم الفكر في الآخرة وأنه معني بشهواته ؛ ومفعول ) يُرِيدُ ( محذوف يدل عليه التعليل في ) لِيَفْجُرَ ). قال مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي : معنى الآية : أن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبداً قدماً راكباً رأسه مطيعاً أمله ومسوفاً بتوبته . قال السدي أيضاً : ليظلم على قدر طاقته ، وعلى هذا فالضمير في ) أَمَامَهُ ( عائد على الإنسان ، وهو الظاهر . وقال ابن عباس : ما يقضي أن الضمير عائد على يوم القيامة أن الإنسان في زمان وجوده أمام يوم القيامة ، وبين يديه يوم القيامة خلفه ، فهو يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي يوم القيامة ، وهو لا يعرف القدر الذي هو فيه ؛ والأمام ظرف مكان استعير هنا للزمان ، أي ليفجر فيما بين يديه ويستقبله من زمان حياته .
القيامة : ( 6 ) يسأل أيان يوم . . . . .
( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( : أي متى يوم القيامة ؟ سؤال استهزاء وتكذيب وتعنت .
القيامة : ( 7 ) فإذا برق البصر
وقرأ الجمهور : ) بَرِقَ ( بكسر الراء ؛ وزيد بن ثابت ونصر بن عاصم وعبد الله بن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وابن مقسم ونافع وزيد بن علي وأبان عن عاصم وهارون ومحبوب ، كلاهما عن أبي عمرو ، والحسن والجحدري : بخلاف عنهما بفتحها . قال أبو عبيدة : برق بالفتح : شق . وقال ابن إسحاق : خفت عند الموت . قال مجاهد : هذا عند الموت . وقال الحسن : هو يوم القيامة . وقرأ أبو السمال : بلق باللام عوض الراء ، أي انفتح وانفرج ، يقال : بلق الباب وأبلقته وبلقته : فتحته ، هذا قول أهل اللغة إلا الفراء فإنه يقول : بلقه وأبلقه إذا أغلفه . وقال ثعلب : أخطأ الفراء في ذلك ، إنما هو بلق الباب وأبلقه إذا فتحه . انتهى . ويمكن أن تكون اللام بدلاً من الراء ، فهما يتعاقبان في بعض الكلام ، نحو قولهم : نثرة ونثلة ، ووجر ووجل .
القيامة : ( 8 ) وخسف القمر
وقرأ الجمهور : ) وَخَسَفَ ( مبنياً للفاعل ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويزيد بن قطيب وزيد بن علي : مبنياً للمفعول . يقال : خسف القمر وخسفه الله ، وكذلك الشمس . قال أبو عبيدة وجماعة من أهل اللغة : الخسوف والكسوف بمعنى واحد . وقال ابن أبي أويس : الكسوف ذهاب بعض الضوء ، والخسوف جميعه .
القيامة : ( 9 ) وجمع الشمس والقمر
) وَجُمِعَ الشَّمْس

" صفحة رقم 377 "
ُ وَالْقَمَرُ ( : لم تلحق علامة التأنيث ، لأن تأنيث الشمس مجان ، أو لتغليب التذكير على التأنيث . وقال الكسائي : حمل على المعنى ، والتقدير : جمع النوران أو الضياآن ، ومعنى الجمع بينهما ، قال عطاء بن يسار : يجمعان فيلقيان في النار ، وعنه يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في البحر ، فيكونان نار الله الكبرى . وقيل : يجمع بينهما في الطلوع من المغرب ، فيطلعان أسودين مكورين . وقال علي وابن عباس : يجعلان في نور الحجب ، وقيل : يجتمعان ولا يتفرقان ، ويقربان من الناس فيلحقهم العرق لشدة الحر ، فكأن المعنى : يجمع حرهما . وقيل : يجمع بينهما في ذهابه الضوء ، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار .
القيامة : ( 10 ) يقول الإنسان يومئذ . . . . .
وقرأ الجمهور : ) الْمَفَرُّ ( بفتح الميم والفاء ، أي أين الفرار ؟ وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب ، والحسن بن زيد ، وابن عباس والحسن وعكرمة وأيوب السختياني وكلثوم بن عياض ومجاهد وابن يعمر وحماد بن سلمة وأبو رجاء وعيسى وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزهري : بكسر الفاء ، وهو موضع الفرار . وقرأ الحسن : بكسر الميم وفتح الفاء ، ونسبها ابن عطية للزهري ، أي الجيد الفرار ، وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في الآلات وفي صفات الخيل ، نحو قوله :
مكر مفر مقبل مدبر معاً
القيامة : ( 11 ) كلا لا وزر
والظاهر أن قوله : ) كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( من تمام قول الإنسان . وقيل : هو من كلام الله تعالى ، لا حكاية عن الإنسان . ) كَلاَّ ( : ردع عن طلب المفر ، ( لاَ وَزَرَ ( : لا ملجأ ، وعبر المفسرون عنه بالجبل . قال مطرف بن الشخير : هو كان وزر فرار العرب في بلادهم ، فلذلك استعمل ؛ والحقيقة أنه الملجأ من جبل أو حصن أو سلاح أو رجل أو غيره .
القيامة : ( 12 ) إلى ربك يومئذ . . . . .
( إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ ( : أي إلى حكمه يومئذ تقول أين المفر ، ( الْمُسْتَقَرُّ ( : أي الاستقرار ، أو موضع استقرار من جنة أو نار إلى مشيئته تعالى ، يدخل من شاء الجنة ، ويدخل من شاء النار .
القيامة : ( 13 ) ينبأ الإنسان يومئذ . . . . .
( بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( ، قال عبد الله وابن عباس : بما قدم في حياته وأخر من سنة يعمل بها بعده . وقال ابن عباس أيضاً : بما قدم من المعاصي وأخر من الطاعات . وقال زيد بن أسلم : بما قدم من ماله لنفسه ، وبما أخر منه للوارث . وقال النخعي ومجاهد : بأول عمله وآخره . وقال الضحاك : بما قدم من فرض وأخر من فرض ؛ والظاهر حمله على العموم ، أي يخبره بكل ما قدم وكل ما أخر مما ذكره المفسرون ومما لم يذكروه .
القيامة : ( 14 ) بل الإنسان على . . . . .
( بَصِيرَةٌ ( : خبر عن الإنسان ، أي شاهد ، قاله قتادة ، والهاء للمبالغة . وقال الأخفش : هو كقولك : فلإن عبرة وحجة . وقيل : أنث لأنه أراد جوارحه ، أي جوارحه على نفسه بصيرة . وقيل : بصيرة مبتدأ محذوف الموصوف ، أي عين بصيرة ، وعلى نفسه الخبر . والجملة في موضع خبر عن الإنسان ، والتقدير عين بصيرة ، وإليه ذهب الفراء وأنشد : كأن على ذي العقل عيناً بصيرة
بمقعده أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلهممن الخوف لا تخفى عليهم سرائره
وعلى هذا نختار أن تكون بصيرة فاعلاً بالجار والمجرور ، وهو الخبر عن الإنسان . ألا ترى أنه قد اعتمد بوقوعه خبراً

" صفحة رقم 378 "
عن الإنسان ؟ وعلى هذا فالتاء للتأنيث . وتأول ابن عباس البصيرة بالجوارح أو الملائكة الحفظة .
القيامة : ( 15 ) ولو ألقى معاذيره
والمعاذير عند الجمهور الأعذار ، فالمعنى : لو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه فإنه هو الشاهد عليها والحجة البينة عليها . وقيل : المعاذير جمع معذرة . وقال الزمخشري : قياس معذرة معاذر ، فالمعاذير ليس بجمع معذرة ، إنما هو اسم جمع لها ، ونحو المناكير في المنكر . انتهى . وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع ، وإنما هو من أبنية جمع التكسير ، فهو كذاكير وملاميح والمفرد منهما لمحة وذكر ؛ ولم يذهب أحد إلى أنهما من أسماء الجموع ، بل قيل : هما جمع للمحة وذكر على قياس ، أو هما جمع لمفرد لم ينطق به ، وهو مذكار وملمحة . وقال السدي والضحاك : المعاذير : الستور بلغة اليمن ، واحدها معذار ، وهو يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة الذنب . وقاله الزجاج أيضاً ، أي وإن رمى مستورة يريد أن يخفي عمله ، فنفسه شاهدة عليه . وأنشدوا في أن المعاذير الستور قول الشاعر : ولكنها ضنت بمنزل ساعة
علينا وأطت فوقها بالمعاذر
وقيل : البصيرة : الكاتبان يكتبان ما يكون من خير أو شر ، أي وإن تستر بالستور ؛ وإذا كانت من العذر ، فمعنى ) وَلَوْ أَلْقَى ( : أي نطق بمعاذيره وقالها . وقيل : ولو رمى بأعذاره واستسلم . وقال السدي : ولو أدى بحجة وعذر . وقيل : ولو أحال بعضهم على بعض ، كقوله تعالى : ) لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ( ؛ والعذرة والعذرى : المعذرة ، قال الشاعر :
ها إن ذي عذرة إن لا تكن نفعت
وقال فيها : ولا عذر لمجحود .
القيامة : ( 16 - 19 ) لا تحرك به . . . . .
( لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ ( : الظاهر والمنصوص الصحيح في سبب النزول أنه خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على ما سنذكر إن شاء الله تعالى . وقال القفال : هو خطاب للإنسان المذكور في قوله : ) يُنَبَّأُ الإِنسَانُ ( ، وذلك حال تنبئه بقبائح أفعاله ، يعرض عليه كتابه فيقال له : اقرأ كتابك ، كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً . فإذا أخذ في القراءة تلجلج من شدّة الخوف وسرعة القراءة ، فقيل له : ) لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( ، فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك . ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ( عليك ، ( فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ ( بأنك فعلت تلك الأفعال . ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( : أي بيان أمره وشرح عقوبته . وحاصل قول هذا القول أنه تعالى يقرر الكافر على جميع أفعاله على التفصيل ، وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة .
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج من التنزيل شدّة ، وكان بما يحرك شفتيه مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه لحينه ، فنزلت . وقال الضحاك : السبب أنه كان عليه الصلاة والسلام كان يخاف أن ينسى القرآن ، فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق ، فنزلت . وقال الشعبي : كان لحرصه عليه الصلاة والسلام على أداء الرسالة والاجتهاد في عبادة الله ربما أراد النطق ببعض ما أوحي إليه قبل كمال إيراد الوحي ، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه ، وجاءت هذه الآية في هذا المعنى . والضمير في به للقرآن دل عليه مساق الآية . ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ( : أي في صدرك ، ( وَقُرْءانَهُ ( : أي قراءتك إياه ، والقرآن مصدر كالقراءة ، قال الشاعر

" صفحة رقم 379 "
ضحوا بأشمط عنوان السجود به
يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
وقيل : وقرآنه : وتأليفه في صدرك ، فهو مصدر من قرأت : أي جمعت ، ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد : ما قرأت سلاقط ، وقال الشاعر : ذراعي بكرة أدماء بكر
هجان اللون لم تقرأ جنينا
) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ( : أي الملك المبلغ عنا ، ( فَأَتْبَعَ ( : أي بذهنك وفكرك ، أي فاستمع قراءته ، قاله ابن عباس . وقال أيضاً هو قتادة والضحاك : فاتبع في الأوامر والنواهي . وفي كتاب ابن عطية ، وقرأ أبو العالية : فإذا قرته فاتبع قرته ، بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف في الثلاثة ، ولم يتكلم على توجيه هذه القراءة الشاذة ، ووجه اللفظ الأول أنه مصدر ، أي إن علينا جمعه وقراءته ، فنقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة وحذفها فبقي قرته كما ترى . وأمّا الثاني فإنه فعل ماض أصله فإذا قرأته ، أي أردت قراءته ؛ فسكن الهمزة فصار قرأته ، ثم حذف الألف على جهة الشذوذ ، كما حذفت في قول العرب : ولو تر ما الصبيان ، يريدون : ولو ترى ما الصبيان ، وما زائدة . وأمّا اللفظ الثالث فتوجيهه توجيه اللفظ الأول ، أي فإذا قرأته ، أي أردت قراءته ، فاتبع قراءته بالدرس أو بالعمل . ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( ، قال قتادة وجماعة : أن نبينه لك ونحفظكه . وقيل : أن تبنيه أنت . وقال قتادة أيضاً : أن نبين حلاله وحرامه ومجمله ومفسره .
وفي التحرير والتحبير قال ابن عباس : ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ( : أي حفظه في حياتك ، وقراءته : تأليفه على لسانك . وقال الضحاك : نثبته في قلبك بعد جمعه لك . وقيل : جمعه بإعادة جبريل عليك مرة أخرى إلى أن يثبت في صدرك . ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ( ، قال ابن عباس : أنزلناه إليك ، فاستمع قراءته ، وعنه أيضاً : فإذا يتلى عليكك فاتبع ما فيه . وقال قتادة : فاتبع حلاله واجتنب حرامه . وقد نمق الزمخشري بحسن إيراده تفسير هذه الآية فقال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا لقن الوحي ، نازع جبريل القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه ، فأمر بأن يستنصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي إليه وحيه ، ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه . والمعنى : لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ . ) لِتَعْجَلَ بِهِ ( : لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلت منك ، ثم علل النهي عن العجلة بقوله : ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ( في صدرك وإثبات قراءته في لسانك . ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ( : جعل قراءة جبريل قراءته ، والقرآن القراءة ، فاتبع قراءته : فكن مقفياً له فيه ولا تراسله ، وطامن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ ، فنحن في ضمان تحفيظه . ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( : إذا أشكل عليك شيء من معانيه ، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعاً ، كما ترى بعض الحراص على العلم ونحوه ، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه . انتهى .
وذكر أبو عبد الله الرازي في تفسيره : أن جماعة من قدماء الروافض زعموا أن القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص منه ، وأنهم احتجوا بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وما قبلها ، ولو كان التركيب من الله تعالى ما كان الأمر كذلك . ثم ذكر الرازي مناسبات على زعمه يوقف عليها في كتابه ، ويظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه تعالى لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضاً عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه ، ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ، فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله ومن يرغب عنها .
وبضدها تتميز الأشياء
ولما كان عليه الصلاة والسلام ، لمثابرته على ذلك ، كان يبادر للتحفظ بتحريك لسانه أخبره تعالى أنه يجمعه له ويوضحه .
القيامة : ( 20 - 21 ) كلا بل تحبون . . . . .
كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة . لما فرغ من خطابه

" صفحة رقم 380 "
عليه الصلاة والسلام ، رجع إلى حال الإنسان السابق ذكره المنكر البعث ، وأن همه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة ، إذ هو منكر لذلك . وقرأ الجمهور : ) بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ ( بتاء الخطاب ، لكفار قريش المنكرين البعث ، و ) كَلاَّ ( : رد عليهم وعلى أقوالهم ، أي ليس كما زعمتم ، وإنما أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا حتى تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها . وقال الزمخشري : ) كَلاَّ ( ردع ، وذكر في كتابه ما يوقف عليه فيه . وقرأ مجاهد والحسن وقتادة والجحدري وابن كثير وأبو عمرو : بياء الغيبة فيهما .
القيامة : ( 22 - 23 ) وجوه يومئذ ناضرة
ولما وبخهم بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة ، تخلص إلى شيء من أحوال الآخرة فقال : ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ( ، وعبر بالوجه عن الجملة . وقرأ الجمهور : ) نَّاضِرَةٌ ( بألف ، وزيد بن علي : نضرة بغير ألف . وقرأ ابن عطية : ) وُجُوهِ ( رفع بالابتداء ، وابتدأ بالنكرة لأنها تخصصت بقوله : ) يَوْمَئِذٍ ( و ) نَّاضِرَةٌ ( خبر ) وُجُوهِ ). وقوله : ) إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ ( جملة هي في موضع خبر بعد خبر . انتهى . وليس ) يَوْمَئِذٍ ( تخصيصاً للنكرة ، فيسوغ الابتداء بها ، لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ، إنما يكون ) يَوْمَئِذٍ ( معمول لناضرة . وسوغ جواز الابتداء بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل ، و ) نَّاضِرَةٌ ( الخبر ، و ) نَّاضِرَةٌ ( صفة . وقيل : ) نَّاضِرَةٌ ( نعت لوجوه ، و ) إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ ( الخبر ، وهو قول سائغ . ومسألة النظر ورؤية الله تعالى مذكورة في أصول الدين ودلائل الفريقين ، أهل السنة وأهل الاعتزال ، فلا نطيل بذكر ذلك هنا . ولما كان الزمخشري من المعتزلة ، ومذهبه أن تقديم المفعول يدل على الاختصاص ، قال هنا : ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر في محشر يجمع الله فيه الخلائق ، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه محال ، فوجب حمله على معنى لا يصح معه الاختصاص ، والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، يريد معنى التوقع والرجاء ، ومنه قول القائل : وإذا نظرت إليك من ملك
والبحر دونك زدتني نعماء
وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون مقائلهم تقول : عيينتي ناظرة إلى الله وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم ، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه . انتهى . وقال ابن عطية : ذهبوا ، يعني المعتزلة ، إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة ، أو إلى ثوابه أو ملكه ، فقدروا مضافاً محذوفاً ، وهذا وجه سائغ في العربية . كما تقول : فلان ناظر إليك في كذا : أي إلى صنعك في كذا . انتهى . والظاهر أن إلى في قوله : ) إِلَى رَبّهَا ( حرف جر يتعلق بناظرة . وقال بعض المعتزلة : إلى هنا واحد الآلاء ، وهي النعم ، وهي مفعول به معمول لناظرة بمعنى منتظرة .
القيامة : ( 24 - 25 ) ووجوه يومئذ باسرة
) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( : يجوز أن يكون ) وُجُوهِ ( مبتدأ خبره ) بَاسِرَةٌ ( وتظن خبر بعد خبر وأن تكون باسرة صفة وتظن الخبر . والفاقرة قال ابن المسيب قاصمة الظهر ، وتظن بمعنى توقن أو يغلب على اعتقادها وتتوقع ) أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( : فعل هو في شدة داهية تقصم . وقال أبو عبيدة : فاقرة من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار .
القيامة : ( 26 - 27 ) كلا إذا بلغت . . . . .
( كَلاَّ ( : ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة وتذكير لهم بما يؤولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده وينتقل منها إلى الآجلة ، والضمير في ) بَلَغَتِ ( عائد إلى النفس الدال عليها سياق الكلام ، كقول حاتم : لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
وتقول العرب : أرسلت ، يريدون جاء المطر ، ولا نكاد نسمعهم يقولون السماء . وذكرهم تعالى بصعوبة الموت ، وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها . وقيل : مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون القائل حاضروا المريض طلبوا له من يرقي ويطب ويشفي ، وغير ذلك مما يتمناه له أهله ، قاله ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة ، وهو استفهام

" صفحة رقم 381 "
حقيقة . وقيل : هو استفهام إبعاد وإنكار ، أي قد بلغ مبلغاً لا أحد يرقيه ، كما عند الناس : من ذا الذي يقدر أن يرقي هذا المشرف على الموت قاله عكرمة وابن زيد . واحتمل أن يكون القائل الملائكة ، أي من يرقي بروحه إلى السماء ؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ قاله ابن عباس أيضاً وسليمان التيمي . وقيل : إنما يقولون ذلك لكراهتهم الصعود بروح الكافر لخبثها ونتنها ، ويدل عليه قوله بعد : ) فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى ( الآية . ووقف حفص على ) مِنْ ( ، وابتدأ ) رَاقٍ ( ، وأدغم الجمهور . قال أبو علي : لا أدري ما وجه قراءته . وكذلك قرأ : ) بَلْ رَانَ ). انتهى . وكان حفصاً قصد أن لا يتوهم أنها كلمة واحدة ، فسكت سكت لطيفاً ليشعر أنهما كلمتان . وقال سيبويه : إن النون تدغم في الراء ، وذلك نحو من راشد ؛ والإدغام بغنة وبغير غنة ، ولم يذكر البيان . ولعل ذلك من نقل غيره من الكوفيين ، وعاصم شيخ حفص يذكر أنه كان عالماً بالنحو . وأمّا ) بَلْ رَانَ ( فقد ذكر سيبويه أن اللام البيان فيها ، والإدغام مع الراء حسنان ، فلما أفرط في شأن البيان في ) بَلْ رَانَ ( ، صار كالوقف القليل .
القيامة : ( 28 ) وظن أنه الفراق
) وَظَنَّ ( ، أي المريض ، ( أَنَّهُ ( : أي ما نزل به ، ( الْفِرَاقُ ( : فراق الدنيا التي هي محبوبته ، والظن هنا على بابه . وقيل : فراق الروح الجسد .
القيامة : ( 29 ) والتفت الساق بالساق
) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( ، قال ابن عباس والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد : استعارة لشدّة كرب الدنيا في آخر يوم منها ، وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها ، لأنه بين الحالين قد اختلطا به ، كما يقول : شمرت الحرب عن ساق ، استعارة لشدتها . وقال ابن المسيب والحسن : هي حقيقة ، والمراد ساقا الميت عندما لفا في الكفن . وقال الشعبي وقتادة وأبو مالك : التفافهما لشدّة المرض ، لأنه يقبض ويبسط ويركب هذه على هذه . وقال الضحاك : أسوق حاضريه من الإنس والملائكة ؛ هؤلاء يجهزونه إلى القبر ، وهؤلاء يجهزون روحه إلى السماء . وقيل : التفافهما : موتهما أولاً ، إذ هما أول ما تخرج الروح منهما فتبردان قبل سائر الأعضاء . وجواب إذا محذوف تقديره وجد ما عمله في الدنيا من خير وشر .
القيامة : ( 30 ) إلى ربك يومئذ . . . . .
( إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( : المرجع والمصير ، والمساق مفعل من السوق ، فهو اسم مصدر ، إمّا إلى جنة ، وإمّا إلى نار . ) فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى ( ، الجمهور : إنها نزلت في أبي جهل وكادت أن تصرح به في قوله : ) يَتَمَطَّى ). فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم ، وكان يكثر منها . وتقدم أيضاً أنه قيل في قوله : ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( أنها نزلت في أبي جهل . وقال الزمخشري : يعني الإنسان في قوله : ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ). ألا ترى إلى قوله : ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( ، وهو معطوف على قوله : ) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( : أي لا يؤمن بالبعث ؟
القيامة : ( 31 ) فلا صدق ولا . . . . .
( فَلاَ صَدَّقَ ( بالرسول والقرآن ، ( وَلاَ صَلَّى ). ويجوز أن يراد : فلا صدق ماله ، يعني فلا زكاة . انتهى . وكون ) فَلاَ صَدَّقَ ( معطوفاً على قوله : ) يَسْئَلُ ( فيه بعد ، ولا هنا نفت الماضي ، أي لم يصدق ولم يصل ؛ وفي هذا دليل على أن لا تدخل على الماضي فتنصبه ، ومثله قوله : وأي خميس لا أتانا نهابه
وأسيافنا يقطرن من كبشه دما
وقال الراجز : إن تغفر اللهم تغفر جما
وأيّ عبد لك لا ألما

" صفحة رقم 382 "
وصدق : معناه برسالة الله . وقال يوم : هو من الصدقة ، وهذا الذي يظهر نفي عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب ، كقوله : ) لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ ). وحمل ) فَلاَ صَدَّقَ ( على نفي التصديق بالرسالة ، فيقتضي أن يكون ) وَلَاكِن كَذَّبَ ( تكراراً . ولزم أن يكون لكن استدراكاً بعد ) وَلاَ صَلَّى ( لا بعده ) فَلاَ صَدَّقَ ( ، لأنه كان يتساوى الحكم في ) فَلاَ صَدَّقَ ( وفي ) كَذَّبَ ( ، ولا يجوز ذلك ،
القيامة : ( 32 ) ولكن كذب وتولى
إذ لا يقع لكن بعد متوافقين . ) وتولي ( : أعرض عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكذب بما جاء به .
القيامة : ( 33 ) ثم ذهب إلى . . . . .
( ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ ( : أي قومه ، ( يَتَمَطَّى ( : يبختر في مشيته .
القيامة : ( 34 - 35 ) أولى لك فأولى
روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لبب أبا جهل يوماً في البطحاء وقال له : ( إن الله يقول لك أولى فأولى لك ) ، فنزل القرآن على نحوها ، وقالت الخنساء : هممت بنفسي كل الهمو
م فأولى لنفسي أولى لها
وتقدم الكلام على ) أُوْلِى ( شرحاً وإعراباً في قوله تعالى : ) فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ( في سورة القتال ، وتكراره هنا مبالغة في التهديد والوعيد .
القيامة : ( 36 ) أيحسب الإنسان أن . . . . .
ولما ذكر حاله في الموت وما كان من حاله في الدنيا ، قرر له أحواله في بدايته ليتأمّلها ، فلا ينكر معها جواز البعث من القبور .
القيامة : ( 37 ) ألم يك نطفة . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أَلَمْ يَكُ ( بياء الغيبة ؛ والحسن : بتاء الخطاب على سبيل الالتفات . وقرأ الجمهور : تمنى ، أي النطفة يمنيها الرجل ؛ وابن محيصن والجحدري وسلام ويعقوب وحفص وأبو عمر : بخلاف عنه بالياء ، أي يمنى هو ، أي المني ، فخلق الله منه بشراً مركباً من أشياء مختلفة .
القيامة : ( 38 ) ثم كان علقة . . . . .
( فَسَوَّى ( : أي سواه شخصاً مستقلاً .
القيامة : ( 39 ) فجعل منه الزوجين . . . . .
( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ ( : أي النوعين أو المزدوجين من البشر ، وفي قراءة زيد بن عليّ : الزّوجان بالألف ، وكأنه على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع أحواله .
القيامة : ( 40 ) أليس ذلك بقادر . . . . .
وقرأ أيضاً : يقدر مضارعاً ، والجمهور : ) بِقَادِرٍ ( اسم فاعل مجرور بالباء الزائدة .
( أَلَيْسَ ذَلِكَ ( : أي الخالق المسوي ، ( بِقَادِرٍ ( ، وفيه توقيف وتوبيخ لمنكر البعث . وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان : بسكون الياء من قوله : ) أَن يُحْيِىَ ( ، وهي حركة إعراب لا تنحذف إلا في الوقف ، وقد جاء في الشعر حذفها . وقرأ الجمهور : بفتحها . وجاء عن بعضهم يحيي بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء . قال ابن خالويه : لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحيي ، قالوا لسكون الياء الثانية ، ولا يعتدون بالفتحة في الياء لأنها حركة إعراب غير لازمة . وأما الفراء فاحتج بهذا البيت :
تمشي بسده بينها فتعيى
يريد : فتعيي ، والله تعالى أعلم .

" صفحة رقم 383 "
76
( سورة الدهر )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً إِنَّ الاٌّ بْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاٌّ رَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأانِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً إِنَّ هَاؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( ) ) 2
الإنسان : ( 1 ) هل أتى على . . . . .
الأمشاج : الاخلاط ، واحدها مشج بفتحتين ، أو مشج كعدل ، أو مشيج كشريف وأشراف ، قاله ابن الأعرابي ، وقال رؤبة

" صفحة رقم 384 "
يطرحن كل معجل بساج
لم يكس جلداً من دم أمشاج
وقال الهذلي : كأن النصل والفوقين منها
خلاف الريش سيط به مشيج
وقال الشماخ : طوت أحشاء مرتجة لوقت
على مشج سلالته مهين
ويقال : مشج يمشج مشجاً إذا خلط ، ومشيج : كخليط ، وممشوج : كمخلوط . مزج الشيء بالشيء : خلطه ، وقال الشاعر : كأن سبيئة من بيت رأس
يكون مزاجها عسل وماء
استطار الشيء : انتشر ، وتقول العرب : استطار الصدع في القارورة وشبهها واستطال ، ومنه قول الشاعر : فبانت وقد أسأرت في الفؤا
د صدعاً على نأيها مستطيرا
وقال الفراء : مستطير : مستطيل . ويقال : يوم قمطرير وقماطر واقمطرّ ، فهو مقمطر إذا كان صعباً شديداً ، وقال الزاجز : قد جعلت شبوة تزبئر
تكسو إستها لحماً وتقمطر
وقال الشاعر : ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها
وبج بها اليوم الشديد القماطر
وقال الزجاج : القمطرير : الذي يعيش حتى يجتمع ما بين عينيه ، ويقال : أقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها ، فاشتقه من القطر وجعل الميم زائدة ، وقال أسد بن ناعصة : واصطليت الحروب في كل يوم
باسد الشر قمطرير الصباح
واختلف في هذا الوزن ، وأكثر النحاة لا يثبت افمعلّ في أوزان الأفعال . الزمهرير : أشد البرد ، وقال ثعلب : هو القمر بلغة طي ، وأنشد قول الراجز :

" صفحة رقم 385 "
وليلة ظلامها قد اعتكر
قطعتها والزمهرير ما زهر
القارورة : إناء رقيق صاف توضع فيه الأشربة ، قيل : ويكون من الزجاج . الزنجبيل ، قال الدينوري : نبت في أرض عمان عروق تسري وليس بشجر ، يؤكل رطباً ، وأجوده ما يحمل من بلاد الصين ، كانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعاً في اللسان إذا مزج بالشراب فيتلذذون به ، قال الشاعر : كأن جنباً من الزنجبيل بات
بفيها وارياً مستورا
وقال المسيب بن علس :
وكأن طعم الزنجبيل به إذا ذقته وسلافة الخمر
السلسبيل والسلسل والسلسال : ما كان من الشراب غاية في السلاسة ، قاله الزجاج . وقال ابن الأعرابي : لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن . ثم ظرف مكان للبعد .
( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً إِنَّ الاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاْرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ).
هذه السورة مكية في قول الجمهور . وقال مجاهد وقتادة : مدنية . وقال الحسن وعكرمة : مدنية إلا آية واحدة فإنها مكية وهي : ) وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً ). وقيل : مدنية إلا من قوله : ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ ( الخ ، فإنه مكي ، حكاه الماوردي . ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدّاً لا تحتاج إلى شرح .
( هَلُ ( حرف استفهام ، فإن دخلت على الجملة الاسمية لم يمكن تأويله بقد ، لأن قد من خواص الفعل ، فإن دخلت على الفعل فالأكثر أن تأتي للاستفهام المحض . وقال ابن عباس وقتادة : هي هنا بمعنى قد . قيل : لأن الأصل أهل ، فكأن الهمزة حذفت واجتزىء بها في الاستفهام ، ويدل على ذلك قوله : سائل فوارس يربوع لحلتها
أهل رأونا بوادي النتّ ذي الأكم
فالمعنى : أقد أتى على التقدير والتقريب جميعاً ، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب حين من الدهر لم يكن كذا ، فإنه يكون الجواب : أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكور . وما تليت عند أبي بكر ، وقيل : عند عمر رضي الله تعالى عنهما قال : ليتها تمت ، أي ليت تلك الحالة تمت ، وهي كونه شيئاً غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف . والإنسان هنا جنس بني

" صفحة رقم 386 "
آدم ، والحين الذي مرّ عليه ، إما حين عدمه ، وإما حين كونه نطفة . وانتقاله من رتبة إلى رتبة حتى حين إمكان خطابه ، فإنه في تلك المدة لا ذكر له ، وسمي إنساناً باعتبار ما صار إليه . وقيل : آدم عليه الصلاة والسلام ، والحين الذي مر عليه هي المدة التي بقي فيها إلى أن نفخ فيه الروح . وعن ابن عباس : بقي طيناً أربعين سنة ، ثم صلصالاً أربعين ، ثم حمأ مسنوناً أربعين ، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة ، وسمي إنساناً باعتبار ما آل إليه . والجملة من ) لَمْ يَكُنِ ( في موضع الحال من الإنسان ، كأنه قيل : غير مذكور ، وهو الظاهر أو في موضع الصفة لحين ، فيكون العائد على الموصوف محذوفاً ، أي لم يكن فيه .
الإنسان : ( 2 ) إنا خلقنا الإنسان . . . . .
( إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ ( : هو جنس بني آدم لأن آدم لم يخلق ) مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ( : أخلاط ، وهو وصف للنطفة . فقال ابن مسعود وأسامة بن زيد عن أبيه : هي العروق التي في النطفة . وقال ابن عباس ومجاهد والربيع : هو ماء الرجل وماء المرأة اختلطا في الرحم فخلق الإنسان منهما . وقال الحسن : اختلاط النطفة بدم الحيض ، فإذا حبلت ارتفع الحيض . وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة وقتادة : أمشاج منتقلة من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك إلى إنشائه إنساناً . وقال ابن عباس أيضاً والكلبي : هي ألوان النطفة . وقيل : أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء ، والنطفة أريد بها الجنس ، فلذلك وصفت بالجمع كقوله : ) عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ ( ، أو لتنزيل كل جزء من النطفة نطفة . وقال الزمخشري : نطفة أمشاج ، كبرمة إعسار ، وبرد أكياس ، وهي ألفاظ مفرد غير جموع ، ولذلك وقعت صفات للأفراد . ويقال أيضاً : نطفة مشج ، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيراً له ، بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما . انتهى . وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالاً لا يكون مفرداً . قال سيبويه : وليس في الكلام أفعال إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع ، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه . ) نَّبْتَلِيهِ ( : نختبره بالتكليف في الدنيا ؛ وعن ابن عباس : نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة ، فعلى هذا هي حال مصاحبة ، وعلى أن المعنى نختبره بالتكليف ، فهي حال مقدرة لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتلياً له بالتكليف في ذلك الوقت . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ناقلين له من حال إلى حال فسمي ذلك الابتلاء على طريق الاستعارة . انتهى . وهذا معنى قول ابن عباس . وقيل : نبتليه بالإيحان والكون في الدنيا ، فهي حال مقارنة . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير الأصل . ) فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( نبتليه ، أي جعله سميعاً بصيراً هو الابتلاء ، ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير ، والمعنى يصح بخلافه ، وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين ، وهما كناية عن التمييز والفهم ، إذ آلتهما سبب لذلك ، وهما أشرف الحواس ، تدرك بهما أعظم المدركات .
الإنسان : ( 3 ) إنا هديناه السبيل . . . . .
ولما جعله بهذه المثابة ، أخبر تعالى أنه هداه إلى السبيل ، أي أرشده إلى الطريق ، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك ، إذ أرشدناه طريق الهدى . وقال مجاهد : سبيل السعادة والشقاوة . وقال السدي : سبيل الخروج من الرحم . وقال الزمخشري : أي مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً ، وإذ دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع كان معلوماً منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة . انتهى ، وهو على طريق الإلتزام . وقرأ الجمهور : ) أَمَّا ( بكسر الهمزة فيهما ؛ وأبو السمال وأبو العاج ، وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك : بفتحها فيهما ، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب ، وهي التي عدها بعض الناس في حروف العطف

" صفحة رقم 387 "
وأنشدوا : يلحقها إما شمال عرية
وإما صبا جنح العشي هبوب
وقال الزمخشري : وهي قراءة حسنة ، والمعنى : إما شاكراً بتوفيقنا ، وإما كفوراً فبسوء اختياره . انتهى . فجعلها إما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط ، ولذلك تلقاها بفاء الجواب ، فصار كقول العرب : إما صديقاً فصديق ؛ وانتصب شاكراً وكفوراً على الحال من ضمير النصب في ) هَدَيْنَاهُ ). وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونا حالين من السبيل ، أي عرفناه السبيل ، إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً ، كقوله : ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( ، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً . انتهى . ولما كان الشكر قل من يتصف به قال شاكراً : ولما كان الكفر كثر من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر جاء كفوراً بصيغة المبالغة .
الإنسان : ( 4 ) إنا أعتدنا للكافرين . . . . .
ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد . وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة : ) سَلَاسِلَ ( ممنوع الصرف وقفاً ووصلاً . وقيل عن حمزة وأبي عمر : الوقف بالألف . وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف ، واختلف عنهم في الوقف ، وكذا عن البزي . وقرأ باقي السبعة : بالتنوين وصلاً وبالألف المبدلة منه وقفاً ، وهي قراءة الأعمش ، قيل : وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وهي لغة الشعراء ، ثم كثر حتى جرى في كلامهم ، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا : صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار ، أشبه المفرد فجرى فيه الصرف ، وقال بعض الرجاز : والصرف في الجمع أتى كثيرا
حتى ادعى قوم به التخييرا
والصرف ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة ، وفي مصحف أبي وعبد الله ، وكذا قوارير . وروى هشام عن ابن عامر : سلاسل في الوصل ، وسلاسلاً بألف دون تنوين في الوقف . وروي أن من العرب من يقول : رأيت عمراً بالألف في الوقف .
الإنسان : ( 5 - 6 ) إن الأبرار يشربون . . . . .
( مِن كَأْسٍ ( : من لابتداء الغاية ، ( كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ( ، قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ، ويختم لهم بالمسك . وقيل : هو على التشبيه ، أي طيب رائحة وبرد كالكافور . وقال الكلبي : كافوراً اسم عين في الجنة ، وصرفت لتوافق الآي . وقرأ عبد الله : قافوراً بالقاف بدل الكاف ، وهما كثيراً ما يتعاقبان في الكلمة ، كقولهم : عربي قح وكح ، و ) عَيْناً ( بدل من ) كَافُوراً ( مفعولاً بيشربون ، أي ماء عين ، أو بدل من محل من كأس على حذف مضاف ، أي يشربون خمراً خمر عين ، أو نصب على الاختصاص . ولما كانت الكأس مبدأ شربهم أتى بمن ؛ وفي ) يَشْرَبُ بِهَا ( : أي يمزج شرابهم بها أتى بالباء الدالة على الإلصاق ، والمعنى : يشرب عباد الله بها الخمر ، كما تقول : شربت الماء بالعسل ، أو ضمن يشرب معنى يروى فعدى بالباء . وقيل : الباء زائدة والمعنى يشرب بها ، وقال الهذلي : شربن بماء البحر ثم ترفعت
متى لجج خضر لهن نئيج
قيل : أي شربن ماء البحر . وقرأ ابن أبي عبلة : بشربها ؛ وعباد الله هنا هم المؤمنون ، ( يُفَجّرُونَهَا ( : يثقبونها بعود

" صفحة رقم 388 "
قصب ونحوه حيث شاءوا ، فهي تجري عند كل واحد منهم ، هكذا ورد في الأثر . وقيل : هي عين في دار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) تنفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين .
الإنسان : ( 7 ) يوفون بالنذر ويخافون . . . . .
( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ( في الدنيا ، وكانوا يخافون . وقال الزمخشري : ) يُوفُونَ ( جواب من عسى يقول ما لهم يرزقون ذلك . انتهى . فاستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز ، وأتى بعد عسى بالمضارع غير مقرون بأن ، وهو قليل أو في شعر . والظاهر أن المراد بالنذر ما هو المعهود في الشريعة أنه نذر . قال الأصم وتبعه الزمخشري : هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات ، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان لما أوجبه الله تعالى عليه أوفى . وقيل : النذر هنا عام لما أوجبه الله تعالى ، وما أوجبه العبد فيدخل فيه الإيمان وجمع الطاعات .
الإنسان : ( 8 ) ويطعمون الطعام على . . . . .
( عَلَى حُبّهِ ( : أي على حب الطعام ، إذ هو محبوب للفاقة والحاجة ، قاله ابن عباس ومجاهد ؛ أو على حب الله : أي لوجهه وابتغاء مرضاته ، قاله الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني . والأول أمدح ، لأن فيه الإيثار على النفس ؛ وأما الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر . وقال الحسن بن الفضل : على حب الطعام ، أي محبين في فعلهم ذلك ، لا رياء فيه ولا تكلف . ) مِسْكِيناً ( : وهو الطواف المنكسر في السؤال ، ( وَيَتِيماً ( : هو الصبي الذي لا أب له ، ( وَأَسِيراً ( : والأسير معروف ، وهو من الكفار ، قاله قتادة . وقيل : من المسلمين تركوا في بلاد الكفار رهائن وخرجوا لطلب الفداء . وقال ابن جبير وعطاء : هو الأسير من أهل القبلة . وقيل : ) وَأَسِيراً ( استعارة وتشبيه . وقال مجاهد وابن جبير وعطاء : هو المسجون . وقال أبو حمزة اليماني : هي الزوجة ؛ وعن أبي سعيد الخدري : هو المملوك والمسجون . وفي الحديث : ( غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك ) .
الإنسان : ( 9 ) إنما نطعمكم لوجه . . . . .
( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ( : هو على إضمار القول ، ويجوز أن يكونوا صرحوا به خطاباً للمذكورين ، منعاً منهم وعن المجازاة بمثله أو الشكر ، لأن إحسانهم مفعول لوجه الله تعالى ، فلا معنى لمكافأة الخلق ، وهذا هو الظاهر . وقال مجاهد : أما أنهم ما تكلموا به ، ولكن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم به . ) لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء ( : أي بالأفعال ، ( وَلاَ شُكُوراً ( : أي ثناء بالأقوال ؛ وهذه الآية قيل نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وذكر النقاش في ذلك حكاية طويلة جداً ظاهرة الاختلاف ، وفيها إشعار للمسكين واليتيم والأسير ، يخاطبون بها ببيت النبوة ، وإشعار لفاطمة رضي الله عنها تخاطب كل واحد منهم ، ظاهرها الاختلاف لسفساف ألفاظها وكسر أبياتها وسفاطة معانيها .
الإنسان : ( 10 ) إنا نخاف من . . . . .
( يَوْماً عَبُوساً ( : نسبة العبوس إلى اليوم مجاز . قال ابن عباس : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من عينيه عرق كالقطران .
الإنسان : ( 11 ) فوقاهم الله شر . . . . .
وقرأ الجمهور : ) فَوَقَاهُمُ ( بخفة القاف ؛ وأبو جعفر : بشدها ؛ ) وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً ( : بدل عبوس الكافر ، ( وَسُرُوراً ( : فرحاً بدل حزنه ، لا تكاد تكون النظرة إلا مع فرح النفس وقرة العين .
الإنسان : ( 12 ) وجزاهم بما صبروا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَجَزَاهُمْ ( ؛ وعليّ : وجازاهم على وزن فاعل ، ( جَنَّةً وَحَرِيراً ( : بستاناً فيه كل مأكل هنيء ، ( وَحَرِيراً ( فيه ملبس بهي ، وناسب ذكر الحرير مع الجنة لأنهم أوثروا على الجوع والغذاء .
الإنسان : ( 13 - 14 ) متكئين فيها على . . . . .
( لاَ يَرَوْنَ فِيهَا ( : أي في الجنة ، ( شَمْساً ( : أي حر شمس ولا شدة برد ، أي لا شمس فيها فترى فيؤذي حرها ، ولا زمهرير يرى فيؤذي بشدته ، أي هي معتدلة الهواء . وفي الحديث : ( هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر ) . وقيل : لا يرون فيها شمساً ولا قمراً ، والزمهرير في لغة طيء القمر .
وقرأ الجمهور : ) وَدَانِيَةً ( ، قال الزجاج : هو حال عطفاً على ) مُتَّكِئِينَ ). وقال أيضاً : ويجوز أن يكون صفة للجنة ، فالمعنى : وجزاهم جنة دانية . وقال الزمخشري : ما معناه أنها حال مطعوفة على حال وهي لا يرون ، أي غير رائين ، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم ، كأنه قيل : وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقر ودنوّ الظلال عليهم . وقرأ أبو حيوة : ودانية بالرفع ، واستدل به الأخفش على جواز رفع اسم الفاعل من غير أن يعتمد ، نحو قولك : قائم الزيدون ، ولا حجة فيه لأن الأظهر أن يكون ) ظِلَالُهَا ( مبتدأ ) وَدَانِيَةً ( خبر له . وقرأ الأعمش : ودانياً عليهم ، وهو كقوله : ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ). وقرأ أبيّ : ودان مرفوع ، فهذا يمكن أن يستدل به الأخفش . ) وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا ( ، قال قتادة ومجاهد وسفيان : إن كان الإنسان قائماً ، تناول الثمر دون كلفة ؛ وإن قاعداً أو مضطعجاً فكذلك ، فهذا تذليلها ، لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك . فأما على قراءة الجمهور : ) وَدَانِيَةً ( بالنصب ، كان ) وَذُلّلَتْ ( معطوفاً على دانية لأنها في تقدير المفرد ، أي

" صفحة رقم 389 "
ومذللة ، وعلى قراءة الرفع كان من عطف جملة فعلية على جملة اسمية . ويجوز أن تكون في موضع الحال ، أي وقد ذللت رفعت دانية أو نصبت .
قوله عز وجل : ) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ تَنزِيلاً فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً إِنَّ هَاؤُلاَء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ).
الإنسان : ( 15 - 16 ) ويطاف عليهم بآنية . . . . .
لما وصف تعالى طعامهم وسكناهم وهيئة جلوسهم ، ذكر شرابهم ، وقدم ذكر الآنية التي يسقون منها ، والآنية جمع إناء ، وتقدم شرح الأكواب . وقرأ نافع والكسائي : قواريراً قواريراً بتنوينهما وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً ؛ وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وحفص : بمنع صرفهما ؛ وابن كثير : بصرف الأول ومنع الصرف في الثاني . وقال الزمخشري : وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق لأنه فاصلة ، وفي الثاني لاتباعه الأول . انتهى . وكذا قال في قراءة من قرأ سلاسلاً بالتنوين : إنه بدل من حرف الإطلاق ، أجرى الفواصل مجرى أبيات الشعر ، فكما أنه يدخل التنوين في القوافي المطلقة إشعاراً بترك الترنم ، كما قال الراجز :
يا صاح ما هاج الدموع الذرّفن
فهذه النون بدل من الألف ، إذ لو ترنم لوقف بألف الإطلاق . ) مِن فِضَّةٍ ( : أي مخلوقة من فضة ، ومعنى ) كَانَتْ ( : أنه أوجدها تعالى من قوله : ) كُنْ فَيَكُونُ ( تفخيماً لتلك الخقلة العجيبة الشأن الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها وشفيف القوارير وصفائها ، ومن ذلك قوله : ) كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ). وقرأ الأعمش : قوارير من فضة بالرفع ، أي هو قرارير . وقرأ الجمهور : ) قَدَّرُوهَا ( مبنياً للفاعل ، والضمير للملائكة ، أو للطواف عليهم ، أو المنعمين ، والتقدير : على قدر الأكف ، قاله الربيع ؛ أو على قدر الري ، قاله مجاهد . وقال الزمخشري : ) قَدَّرُوهَا ( صفة لقرارير من فضة ، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم ، فجاءت كما قدروها . وقيل : الضمير للطائفين بها يدل عليه قوله : ) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ ( ، على أنهم قدروا شرابها على قدر الري ، وهو ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته ، لا يفضل عنها ولا يعجز . وعن مجاهد : لا يفيض ولا يغيض . انتهى . وقرأ عليّ وابن عباس والسلمي والشعبي وابن أبزي وقتادة وزيد بن عليّ والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير وأبو حيوة وعباس عن أبان ، والأصمعي عن أبي عمرو ، وابن عبد الخالق عن يعقوب : قدروها مبنياً للمفعول . قال أبو علي : كأن اللفظ قدروا عليها ، وفي المعنى قلب لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدرت عليهم ، فهي مثل قوله : ) مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ ( ، ومثل قول العرب : إذا طلعت الجوزاء ألقى العود على الحرباء . وقال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قدر منقولاً من قدر ، تقول : قدرت الشيء وقدرنيه فلان إذا جعلك قادراً عليه ، ومعناه : جعلوا قادرين لها كما شاءوا ، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا . انتهى .
وقال أبو حاتم : قدرت الأواني على قدر ريهم ، ففسر بعضهم قول أبي حاتم هذا ، قال : فيه حذف على حذف ، وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها ، ثم حذف على فصار قدر ريهم

" صفحة رقم 390 "
مفعول لم يسم فاعله ، ثم حذف قدر فصار ريهم قائماً مقامه ، ثم حذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها ، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله ، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدر النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل . انتهى . والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديراً ، فحذف المضاف وهو الذي ، وأقيم الضمير مقامه فصار التقدير : قدروا منها ؛ ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قدّروها ، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف واتساع في المجرور .
الإنسان : ( 17 - 18 ) ويسقون فيها كأسا . . . . .
والظاهر أن الكأس تمزج بالزنجبيل ، والعرب تستلذة وتذكره في وصف رضاب أفواه النساء ، كما أنشدنا لهم في الكلام على المفردات . وقال الزمخشري : تسمى العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها . انتهى . وقال قتادة : الزنجبيل اسم لعين في الجنة ، يشرب منها المقربون صرفاً ، ويمزج لسائر أهل الجنة . وقال الكلبي : يسقى بجامين ، الأول مزاجه الكافور ، والثاني مزاجه الزنجبيل . وعيناً بدل من كأس على حذف ، أي كأس عين ، أو من زنجبيل على قول قتادة . وقيل : منصوب على الاختصاص . والظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلاً بمعنى توصف بأنها سلسلة في الاتساع سهلة في المذاق ، ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة ، لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية . وقد روي عن طلحة أنه قرأه بغير ألف ، جعله علماً لها ، فإن كان علماً فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسبة للفواصل ، كما قال ذلك بعضهم في سلاسلاً وقواريراً ؛ ويحسن ذلك أنه لغة بعض العرب ، أعني صرف ما لا يصرفه أكثر العرب . وقال الزمخشري : وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية . انتهى . وكان قد ذكر فقال : شراب سلسل وسلسال وسلسيل ، فإن كان عنى أنه زيد حقيقة فليس بجيد ، لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة في علم النحو ؛ وإن عنى أنها حرف جاء في سنح الكلمة وليس في سلسيل ولا في سلسال ، فيصح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفاً في المادة .
وقال بعض المعربينّ : سلسبيلاً أمر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولأمته بسؤال السبيل إليها ، وقد نسبوا هذا القول إلى علي كرم الله وجهه ، ويجب طرحه من كتب التفسير . وأعجب من ذلك توجيه الزمخشري له واشتغاله بحكايته ، ويذكر نسبته إلى عليّ كرم الله وجهه ورضي عنه . وقال قتادة : هي عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن إلى الجنان . وقال عكرمة : عين سلس ماؤها . وقال مجاهد : عين جديرة الجرية سلسلة سهلة المساغ . وقال مقاتل : عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاءوا
الإنسان : ( 19 ) ويطوف عليهم ولدان . . . . .
وتقدّم شرح ) مُّخَلَّدُونَ ( وتشبيه الولدان باللؤلؤ المنثور في بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في المساكن في خدمة أهل الجنة يجيئون ويذهبون . وقيل : شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا أنثر من صدفه ، فإنه أحسن في العين وأبهج للنفس . وجواب
الإنسان : ( 20 ) وإذا رأيت ثم . . . . .
( إِذَا رَأَيْتَهُمْ ( : ) نَعِيماً ( ، ومفعول فعل الشرط محذوف ، حذف اقتصاراً ، والمعنى : وإذا رميت ببصرك هناك ، وثم ظرف العامل فيه رأيت . وقيل : التقدير : وإذا رأيت ما ثم ، فحذف ما كما حذف في قوله : ) لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ( ، أي ما بينكم . وقال الزجاج ، وتبعه الزمخشري فقال : ومن قال معناه ما ثم فقد أخطأ ، لأن ثم صلة لما ، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة . انتهى . وليس بخطأ مجمع عليه ، بل قد أجاز ذلك الكوفيون ، وثم شواهد من لسان العرب كقوله : فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
أي : ومن يمدحه ، فحذف الموصول وأبقى صلته . وقال ابن عطية : وثم ظرف العامل فيه رأيت أو معناه

" صفحة رقم 391 "
التقدير : رأيت ما ثم حذفت ما . انتهى . وهذا فاسد ، لأنه من حيث جعله معمولاً لرأيت لا يكون صلة لما ، لأن العامل فيه إذ ذاك محذوف ، أي ما استقر ثم . وقرأ الجمهور : ثم بفتح الثاء ؛ وحميد الأعرج : ثم بضم التاء حرف عطف ، وجواب إذا على هذا محذوف ، أي وإذا رميت ببصرك رأيت نعيماً ؛ والملك الكبير قيل : النظر إلى الله تعالى . وقال السدّي : استئذان الملائكة عليهم . وقال أكثر المفسرين : الملك الكبير : اتساع مواضعهم . وقال الكلبي : كبيراً عريضاً يبصر أدناهم منزلة في الجنة مسيرة ألف عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقاله عبد الله بن عمر ، وقال : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام ، كلهم مختلف شغله من شغل أصحابه . وقال الترمذي ، وأظنه الترمذي الحكيم لا أبا عيسى الحافظ صاحب الجامع : هو ملك التكوين والمشيئة ، إذا أراد شيئاً كان قوله تعالى : ) لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا ( ، وقيل غير هذه الأقوال .
الإنسان : ( 21 - 22 ) عاليهم ثياب سندس . . . . .
وقرأ عمر وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة وجمهور السبعة : ) عَالِيَهُمْ ( بفتح الياء ؛ وابن عباس : بخلاف عنه ؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة : بسكونها ، وهي رواية أبان عن عاصم . وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن عليّ : بالياء مضمومة ؛ وعن الأعمش وأبان أيضاً عن عاصم : بفتح الياء . وقرأ : عليهم حرف جر ، ابن سيرين ومجاهد وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضاً ؛ وقرأت عائشة رضي الله عنها : علتهم بتاء التأنيث فعلاً ماضياً ، فثياب فاعل . ومن قرأ بالياء مضمومة فمبتدأ خبره ثياب ؛ ومن قرأ عليهم حرف جر فثياب مبتدأ ؛ ومن قرأ بنصب الياء وبالتاء ساكنة فعلى الحال ، وهو حال من المجرور في ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ( ، فذوا لحال الطوف عليهم والعامل يطوف . وقال الزمخشري : وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في ) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ( ، أو في ) حَسِبْتَهُمْ ( ، أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب ، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب . ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب . انتهى . إما أن يكون حالاً من الضمير في ) حَسِبْتَهُمْ ( ، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول ، وهذا عائد على ) وِلْدانٌ ( ، ولذلك قدر عاليهم بقوله : عالياً لهم ، أي للولدان ، وهذا لا يصح لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمطوف عليهم من قوله : ) وَحُلُّواْ وَسَقَاهُمْ ( ، وإن هذا كان لكم جزاء ، وفك الضمائر يجعل هذا كذا وذاك كذا مع عدم الاحتياج والاضطرار إلى ذلك لا يجوز . وأما جعله حالاً من محذوف وتقديره أهل نعيم ، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف ، وثياب مرفوع على الفاعلية بالحال . وقال ابن عطية : ويجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم . انتهى . وعال وعالية اسم فاعل ، فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب . وقرأ الجمهور : ثياب بغير تنوين على الإضافة إلى سندس .
وقرأ ابن عبلة وأبو حيوة : عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق ، برفع الثلاثة ، برفع سندس بالصفة لأنه جنس ، كما تقول : ثوب حرير ، تريد من حرير ؛ وبرفع خضر بالصفة أيضاً لأن الخضرة لونها ؛ ورفع استبرق بالعطف عليها ، وهو صفة أقيمت مقام الموصوف تقديره : وثياب استبرق ، أي من استبرق . وقرأ الحسن وعيسى ونافع وحفص : خضر برفعهما . وقرأ العربيان ونافع في رواية : خضر بالرفع صفة لثياب ، وإستبرق جر عطفاً على سندس . وقرأ ابن كثير وأبو بكر : بجر خضر صفة لسندس ، ورفع إستبرق عطفاً على ثياب . وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو : بخلاف عنهما ؛ وحمزة والكسائي : ووصف اسم الجنس الذي بينه وبين واحده تاء التأنيث ، والجمع جائز فصيح كقوله تعالى : ) وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ ( ، وقال : ) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ( ، فجعل الحال جمعاً ، وإذا كانوا قد جمعوا صفة اسم الجنس

" صفحة رقم 392 "
الذي ليس بينه وبين واحده تاء التأنيث المحكي بأل بالجمع ، كقولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، حيث جمع وصفهما ليس بسديد ، بل هو جائز أورده النحاة مورد الجواز بلا قبح .
وقرأ ابن محيصن : ) وَإِسْتَبْرَقٍ ( ، وتقدم ذلك والكلام عليه في الكهف . وقال الزمخشري : هنا وقرىء واستبرق نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي ، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ، تقول : الاستبرق إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب . وقرىء : واستبرق ، بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى باستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضاً لأنه معرب مشهور تعريبه ، وأن أصله استبره . انتهى . ودل قوله : إلا أن يزعم ابن محيصن ، وقوله : بعد وقرىء واستبرق بوصل الألف والفتح ، أن قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف ؛ والمنقول عنه في كتب القراآت أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف . وقال أبو حاتم : لا يجوز ، والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً ، ويومئذ ذلك دخول لام المعرفة عليه ، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة . انتهى . ونقول : إن ابن محيصن قارىء جليل مشهور بمعرفة العربية ، وقد أخذ عن أكابر العلماء ، ويتطلب لقراءته وجه ، وذلك أنه يجعل استفعل من البريق . وتقول : برق واستبرق ، كعجب واستعجب .
ولما كان قوله : ) خُضْرٍ ( يدل على الخضرة ، وهي لون ذلك السندس ، وكانت الخضرة مما يكون لشدتها دهمة وغبش ، أخبر أن في ذلك اللون بريقاً وحسناً يزيل غبشته . فاستبرق فعل ماض ، والضمير فيه عائد على السندس أو على الاخضرار الدال عليه قوله : ) خُضْرٍ ). وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف العربية وتوهيم ضابط ثقة ) أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ( ، وفي موضع آخر ) مّن ذَهَبٍ ( ، أي يحلون منهما على التعاقب أو على الجمع بينهما ، كما يقع للنساء في الدنيا . قال الزمخشري وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران ، سوار من ذهب وسوار من فضة . انتهى . فقوله بالمعصم إما أن يكون مفعول أحسن ، وإما أن يكون بدلاً منه ، وإمّا أن يكون مفعول أحسن ، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور . فإن كان الأول ، فلا يجوز لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول افعل للتعجب ، لا تقول : ما أحسن بزيد ، تريد : ما أحسن زيداً ، وإن كان الثاني ، ففي مثل هذا الفصل خلاف . والمنقول عن سيبويه أنه لا يجوز ، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه عما فيه الخلاف .
( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ( ، طهور صفة مبالغة في الطهارة ، وهي من فعل لازم ؛ وطهارتها بكونها لم يؤمر باجتنابها ، وليست كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس ؛ أو لكونها لم تدس برجل دنسة ، ولم تمس بيد وضرة ، ولم توضع في إناء لم يعن بتنظيفه . ذكره بأبسط من هذا الزمخشري ثم قال : أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة ، لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك . انتهى . وهذا الآخر قاله أبو قلابة والنخعيّ وإبراهيم التيمي ، قالوا : لا تنقلب إلى البول ، بل تكون رشحاً من الأبدان أطيب من المسك . ) إِنَّ هَذَا ( : أي النعيم السرمدي ، ( كَانَ لَكُمْ جَزَاء ( : أي لأعمالكم الصالحة ، ( وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ( : أي مقبولاً مثاباً . قال قتادة : لقد شكر الله سعياً قليلاً ، وهذا على إضمار يقال لهم . وهذا القول لهم هو على سبيل التهنئة والسرور لهم بضد ما يقال للمعاقب : إن هذا بعملك الرديء ، فيزداد غماً وحزناً .
الإنسان : ( 23 - 24 ) إنا نحن نزلنا . . . . .
ولما ذكر أولاً حال الإنسان وقسمه إلى العاصي والطائع ، ذكر ما شرف به نبيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال : ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( ، وأمره بالصبر بحكمه ، وجاء التوكيد بأن لمضمون الخبر ومدول المخبر عنه ، وأكد الفعل بالمصدر . ) وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً ( ، قال قتادة : نزلت في أبي جهل ، قال : إن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه ، فأنزل الله تعالى : ) وَلاَ تُطِعِ ( الآية . والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما ، لأنه يستلزم النهي عن أحدهما ، لأن في طاعتهما طاعة أحدهما . ولو قال : لا تضرب زيداً وعمراً ، لجاز أن يكون نهياً عن ضربهما جميعاً ، لا عن ضرب أحدهما . وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو ، والكفور ، وإن كان إثماً ، فإن فيه مبالغة في الكفر . ولما كان وصف الكفور مبايناً للموصوف لمجرّد الإثم ، صلح التغاير فحسن العطف . وقيل : الآثم عتبة ، والكفور الوليد ، لأن عتبة كان ركاباً للمآثم متعاطياً لأنواع الفسوق ؛ وكان الوليد غالباً في الكفر ، شديد الشكيمة في العتوّ .
الإنسان : ( 25 ) واذكر اسم ربك . . . . .
( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً ( : يعني صلاة الصبح ، ( وَأَصِيلاً ( : الظهر والعصر .
الإنسان : ( 26 ) ومن الليل فاسجد . . . . .
( وَمِنَ الَّيْلِ ( : المغرب

" صفحة رقم 393 "
والعشاء . وقال ابن زيد وغيره : كان ذلك فرضاً ونسخ ، فلا فرض إلا الخمس . وقال قوم : هو محكم على وجه الندب .
الإنسان : ( 27 ) إن هؤلاء يحبون . . . . .
( إِنَّ هَؤُلآء ( : إشارة إلى الكفرة . ) يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( : يؤثرونها على الدنيا . ) وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ ( : أي أمامهم ، وهو ما يستقبلون من الزمان . ) يَوْماً ثَقِيلاً ( : استعير الثقل لليوم لشدته ، وهوله من ثقل الجرم الذي يتعب حامله .
الإنسان : ( 28 ) نحن خلقناهم وشددنا . . . . .
وتقدم شرح الأسر في سورة القتال . ) وَإِذَا شِئْنَا ( : أي تبديل أمثالهم بإهلاكهم ، ( بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ ( ممن يطيع . وقال الزمخشري : وحقه أن يجيء بإن لا بإذا ، كقوله : ) وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ( ، ( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ). انتهى . يعني أنهم قالوا إن إذا للمحقق وإن للممكن ، وهو تعالى لم يشأ ، لكنه قد توضع إذا موضع إن ، وإن موضع إذا ، كقوله : ) أفإن مت فهم الخالدون ).
الإنسان : ( 29 ) إن هذه تذكرة . . . . .
( إِنَّ هَاذِهِ ( : أي السورة ، أو آيات القرآن ، أو جملة الشريعة ليس على جهة التخيير ، بل على جهة التحذير من اتخاذ غير سبيل الله . وقال الزمخشري : لمن شاء ممن اختار الخير لنفسه والعاقبة ، واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة .
الإنسان : ( 30 ) وما تشاؤون إلا . . . . .
( وَمَا تَشَاءونَ ( : الطاعة ، ( إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( ، يقسرهم عليها . ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً ( بأحوالهم وما يكون منهم ، ( حَكِيماً ( حيث خلقهم مع علمه بهم . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال . وقرأ العربيان وابن كثير : وما يشاءون بياء الغيبة ؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب ؛ ومذهب أهل السنة أنه نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في أنفسهم ، ولا يرد هذا وجود ما لهم من الاكتساب . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما محل ) أَن يَشَاء اللَّهُ ( ؟ قلت : النصب على الظرف ، وأصله : إلا وقت مشيئة الله ، وكذلك قرأ ابن مسعود : إلا ما يشاء الله ، لأن ما مع الفعل كان معه . انتهى . ونصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلا المصدر المصرح به ، كقولك : أجيئك صياح الديك ، ولا يجيزون : أجيئك أن يصيح الديك ، ولا ما يصيح الديك ؛ فعلى هذا لا يجوز ما قاله الزمخشري .
الإنسان : ( 31 ) يدخل من يشاء . . . . .
( يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ ( : وهم المؤمنون . وقرأ الجمهور : ) وَالظَّالِمِينَ ( نصباً بإضمار فعل يفسره قوله : ) أَعَدَّ لَهُمْ ( ، وتقديره : ويعذب الظالمين ، وهو من باب الاشتغال ، جملة عطف فعلية على جملة فعلية . وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة : والظالمون ، عطف جملة اسمية على فعلية ، وهو جائز حسن . وقرأ عبد الله : وللظالمين بلام الجر ، وهو متعلق بأعد لهم توكيداً ، ولا يجوز أن يكون من باب الاشتغال ، ويقدر فعل يفسره الفعل الذي بعده ، فيكون التقدير : وأعد للظالمين أعدّ لهم ، وهذا مذهب الجمهور ، وفيه خلاف ضعيف مذكور في النحو ، فتقول : بزيد مررت به ، ويكون التقدير : مررت بزيد مررت به ، ويكون من باب الاشتغال . والمحفوظ المعروف عن العرب نصب الاسم وتفسير مررت المتأخر ، وما أشبهه من جهة المعنى فعلاً ماضياً .

" صفحة رقم 394 "
7
( سورة المرسلات )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً والنَّاشِرَاتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نُهْلِكِ الاٌّ وَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاٌّ خِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَجْعَلِ الاٌّ رْضَ كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالاٌّ وَّلِينَ فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( ) ) 2
المرسلات : ( 1 ) والمرسلات عرفا
فرجت الشيء : فتحته فانفرج ، قال الراجز :
الفارجو باب الأمير المبهم
كفت : ضم وجمع ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : ( اكفتوا صبيانكم ) . ومنه قيل ليقبع الغرقد : كفت وكفته ، والكفات اسم لما يكفت ، كالضمام والجماع ؛ يقال : هذا الباب جماع الأبواب ، وقال الصمصامة بن الطرماح

" صفحة رقم 395 "
فأنت اليوم فوق الأرض حي
وأنت غدا تضمك في كفات
وقال أبو عبيدة : الكفات : الوعاء . شمخ : ارتفع . الشرر : ما تطاير من النار متبدّداً في كل جهة ، واحده شرارة ، ولغة تميم : شرار بالألف واحده شرارة . القصر : الدار الكبيرة المشيدة ، والقصر : قطع من الخشب قدر الذراع وفوقه ودونه يستعد به للشتاء ، واحده قصرة ؛ والقصر ، بفتح الصاد : أعناق الإبل والنخل والناس ، واحده قصرة ؛ وبكسر القاف وفتح الصاد جمع قصرة ، كحلقة من الحديد وحلق ، والله تعالى أعلم .
( وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً والنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً والنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَواقِعٌ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقّتَتْ لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ).
هذه السورة مكية . وحكي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل أن فيها آية مدنية وهي : ) وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ ). ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدّاً ، وهو أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذب الظالمين ، فهذا وعد منه صادق ، فأقسم على وقوعه في هذه فقال : ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ). ولما كان المقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها ، وقع الخلاف في تعيين تلك الموصوفات . فقال ابن مسعود وأبو هريرة وأبو صالح ومقاتل والفرّاء : ) وَالْمُرْسَلَاتِ ( : الملائكة ، أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي ، فبالتعاقب على العباد طرفي النهار . وقال ابن عباس وجماعة : الأنبياء ، ومعنى عرفاً : إفضالاً من الله تعالى على عباده ، ومنه قول الشاعر :
لا يذهب العرف بين الله والناس
وانتصابه على أنه مفعول له ، أي أرسلن للإحسان والمعروف ، أو متتابعة تشبيهاً بعرف الفرس في تتابع شعره وأعراف الخيل . وتقول العرب : الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه متتابعين ، وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه ، وانتصابه على الحال . وقال ابن مسعود أيضاً وابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة : الرّياح . وقال الحسن : السحاب . وقرأ الجمهور : ) عُرْفاً ( بسكون الراء ، وعيسى : بضمها .
المرسلات : ( 2 ) فالعاصفات عصفا
) فَالْعَاصِفَاتِ ( ، قال ابن مسعود : الشديدات الهبوب . وقيل : الملائكة تعصف بأرواح الكفار ، أي تزعجها بشدّة ، أو تعصف في مضيها كما تعصف الرّياح تحققاً في امتثال أمره . وقيل : هي الآيات المهلكة ، كالزلازل والصواعق والخسوف .
المرسلات : ( 3 ) والناشرات نشرا
) والنَّاشِراتِ ( ، قال السدّي وأبو صالح ومقاتل : الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال . وقال الربيع : الملائكة تنشر الناس من قبورهم . وقال ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة : الرّياح تنشر رحمة الله ومطره . وقال أبو صالح : الأمطار تحيي الأرض بالنبات . وقال الضحاك : الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد ، فعلى هذا تكون الناشرات على معنى النسب ، أي ذات النشر .
المرسلات : ( 4 ) فالفارقات فرقا
) فَالْفَارِقَاتِ ( ، قال ابن عباس وابن مسعود وأبو صالح ومجاهد والضحاك : الملائكة تفرق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام . وقال قتادة والحسن وابن كيسان : آيات القرآن فرقت بين الحلال والحرام . وقال مجاهد أيضاً : الرّياح تفرق بين السحاب فتبدّده . وقيل : الرسل ، حكاه الزجاج . وقيل : السحاب الماطر تشبيهاً بالناقة الفاروق ، وهي الحامل التي تجزع حين تضع . وقيل : العقول تفرق بين الحق والباطل ،

" صفحة رقم 396 "
والصحيح والفاسد .
المرسلات : ( 5 ) فالملقيات ذكرا
) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ( ، قال ابن عباس وقتادة والجمهور : الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وقال قطرب : الرسل تلقي ما أنزل عليها إلى الأمم . وقال الرّبيع : آيات القرآن ألقيت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
واختار الزمخشري من الأقوال أن تكون ) وَالْمُرْسَلَاتِ ( إلى آخر الأوصاف : إما للملائكة ، وإما للرّياح .
المرسلات : ( 6 ) عذرا أو نذرا
فللملائكة تكون عذراً للمحققين ، أو نذراً للمبطلين ؛ وللرّياح يكون المعنى : فألقين ذكراً ، إما عذراً للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها ، وإما إنذاراً للذين يغفلون عن الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء ، وجعلن ملقيات للذكر لكونهن سبباً في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن ، أو كفرت ، قاله الزمخشري . والذي أراه أن المقسم به شيئان ، ولذلك جاء العطف بالواو في ) والنَّاشِراتِ ( ، والعطف بالواو يشعر بالتغاير ، بل هو موضوعه في لسان العرب . وأما العطف بالفاء إذا كان في الصفات ، فيدل على أنها راجعة إلى العاديات ، وهي الخيل ؛ وكقوله : يا لهف زيابة للحارث فالصا
بح فالغانم فالآيب
فهذه راجعة لموصوف واحد وهو الحارث . فإذا تقرر هذا ، فالظاهر أنه أقسم أولاً بالرياح ، فهي مرسلاته تعالى ، ويدل عليه عطف الصفة بالفاء ، كما قلنا ، وأن العصف من صفات الريح في عدّة مواضع من القرآن . والقسم الثاني فيه ترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة ، ويكون ) فَالْفَارِقَاتِ ( ، ( فَالْمُلْقِيَاتِ ( من صفاتهم ، كما قلنا في عطف الصفات وإلقاؤهم الذكر ، وهو ما أنزل الله ، يصح إسناده إليهم . وقرأ الجمهور : ) فَالْمُلْقِيَاتِ ( اسم فاعل خفيف ، أي نطرقه إليهم ؛ وابن عباس : مشدد من التلقية ، وهي أيضاً إيصال الكلام إلى المخاطب . يقال : لقيته الذكر فتلقاه . وقرأ أيضاً ابن عباس ، فيما ذكره المهدوي : بفتح اللام والقاف مشددة اسم مفعول ، أي تلقته من قبل الله تعالى .
وقرأ إبراهيم التيمي والنحويان وحفص : ) عُذْراً أَوْ نُذْراً ( بسكون الذالين ؛ وزيد بن ثابت وابن خارجة وطلحة وأبو جعفر وأبو حيوة وعيسى والحسن : بخلاف ؛ والأعشى ، عن أبي بكر : بضمهما ؛ وأبو جعفر أيضاً وشيبة وزيد بن علي والحرميان وابن عامر وأبو بكر : بسكونها في عذراً وضمها في نذراً ، فالسكون على أنهما مصدران مفردان ، أو مصدران جمعان . فعذراً جمع عذير بمعنى المعذرة ، ونذراً جمع نذير بمعنى الإنذار . وانتصابهما على البدل من ) ذِكْراً ( ، كأنه قيل : فالملقيات عذراً أو نذراً ، أو على المفعول من أجله ، أو على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي عاذرين أو منذرين . ويجوز مع الإسكان أن يكونا جمعين على ما قررناه . وقيل : يصح انتصاب ) عُذْراً أَوْ نَذِيراً ( على المفعول به بالمصدر الذي هو ) ذِكْراً ( ، أي فالملقيات ، أي فذكروا عذراً ، وفيه بعد لأن المصدر هنا لا يراد به العمل ، إنما يراد به الحقيقة لقوله : ) أَءلْقِىَ عَلَيْهِ الذّكْرُ ). والإعذار هي بقيام الحجة على الخلق ، والإنذار هو بالعذاب والنقمة .
المرسلات : ( 7 ) إنما توعدون لواقع
) إِنَّمَا تُوعَدُونَ ( : أي من الجزاء بالثواب والعقاب ، ( لَوَاقِعٌ ( : وما موصولة ، وإن كانت قد كتبت موصولة بأن . وهذه الجملة هي المقسم عليها . وقرأ الجمهور : ) أَوْ نُذْراً ( بواو التفصيل ؛ وإبراهيم التيمي : ونذراً بواو العطف .
المرسلات : ( 8 ) فإذا النجوم طمست
) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ( : أي أذهب نورها فاستوت مع جرم السماء ، أو عبر عن إلحاق ذواتها بالطمس ، وهو انتثارها وانكدارها ، أو أذهب نورها ثم انتثرت ممحوقة النور .
المرسلات : ( 9 ) وإذا السماء فرجت
) وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ ( : أي صار فيها فروج بانفطار . وقرأ عمرو بن ميمون : طمست ، فرجت ، بشد الميم والراء ؛ والجمهور : بخفهما .
المرسلات : ( 10 ) وإذا الجبال نسفت
) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ( : أي فرقتها الرياح ، وذلك بعد التسيير وقبل كونها هباء .
المرسلات : ( 11 ) وإذا الرسل أقتت
وقرأ الجمهور : ) أُقّتَتْ ( بالهمز وشد القاف ؛ وبتخفيف القاف والهمز النخعي والحسن وعيسى وخالد . وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وعيسى أيضاً وأبو عمرو : بالواو وشد القاف . قال عيسى : وهي لغة سفلى مضر . وعبد الله والحسن وأبو جعفر : بواو واحدة وخف القاف ؛ والحسن أيضاً : وقتت

" صفحة رقم 397 "
بواوين على وزن فوعلت ، والمعنى : جعل لها وقت منتظر فحان وجاء ، أو بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة ، والواو في هذا كله أصل والهمزة بدل . قال الزمخشري : ومعنى توقيت الرسل : تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم ، وجواب إذا محذوف لدلالة ما قبله عليه وتقديره : إذا كان كذا وكذا وقع ما توعدون .
المرسلات : ( 12 ) لأي يوم أجلت
) لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ ( : تعظيم لذلك اليوم ، وتعجيب لما يقع فيه من الهول والشدة . والتأجيل من الأجل ، أي ليوم عظيم أخرت ،
المرسلات : ( 13 ) ليوم الفصل
) لِيَوْمِ الْفَصْلِ ( : أي بين الخلائق .
المرسلات : ( 15 ) ويل يومئذ للمكذبين
) وَيْلٌ ( : تقدم الكلام فيه في أول ثاني حزب من سورة البقرة ، يومئذ : يوم إذ طمست النجوم وكان ما بعدها .
المرسلات : ( 16 ) ألم نهلك الأولين
وقرأ الجمهور : ) نُهْلِكِ الاْوَّلِينَ ( بضم النون ، وقتادة : بفتحها . قال الزمخشري : من هلكه بمعنى أهلكه . قال العجاج :
ومهمه هالك من تعرجا
وخرج بعضهم هالك من تعرجاً على أن هالكاً هو من اللازم ، ومن موصول ، فاستدل به على أن الصفة المشبهة باسم الفاعل قد يكون معمولهاً موصولاً .
المرسلات : ( 17 ) ثم نتبعهم الآخرين
وقرأ الجمهور : ) نُتْبِعُهُمُ ( بضم العين على الاستئناف ، وهو وعد لأهل مكة . ويقوي الاستئناف قراءة عبد الله : ثم سنتبعهم ، بسين الاستقبال ؛ والأعرج والعباس عن أبي عمرو : بإسكانها ؛ فاحتمل أن يكون معطوفاً على ) نُهْلِكِ ( ، واحتمل أن يكون سكن تخفيفاً ، كما سكن ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ ( ، فهو استئناف . فعلى الاستئناف يكون الأولين الأمم التي تقدمت قريشاً أجمعاً ، ويكون الآخرين من تأخر من قريش وغيرهم . وعلى التشريك يكون الأولين قوم نوح وإبراهيم عليهما السلام ومن كان معهم ، والآخرين قوم فرعون ومن تأخر وقرب من مدة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والإهلاك هنا إهلاك العذاب والنكال ،
المرسلات : ( 18 ) كذلك نفعل بالمجرمين
ولذلك جاء ) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( ، فأتى بالصفة المقتضية لإهلاك العذاب وهي الإجرام .
المرسلات : ( 20 ) ألم نخلقكم من . . . . .
ولما ذكر إفناء الأولين والآخرين ، ذكر ووقف على أصل الخلقة التي يقتضي النظر فيها تجويز البعث ، ( مّن مَّاء مَّهِينٍ ( : أي ضعيف هو مني الرجل والمرأة ،
المرسلات : ( 21 ) فجعلناه في قرار . . . . .
( فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ( : وهو الرحم ،
المرسلات : ( 22 ) إلى قدر معلوم
) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( : أي عند الله تعالى ، وهو وقت الولادة .
المرسلات : ( 23 ) فقدرنا فنعم القادرون
وقرأ عليّ بن أبي طالب : فقدرنا بشد الدال من التقدير ، كما قال : ) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ( ؛ وباقي السبعة : بخفها من القدرة ؟
المرسلات : ( 25 - 26 ) ألم نجعل الأرض . . . . .
وانتصب ) أَحْيَاء وَأَمْواتاً ( بفعل يدل عليه ما قبله ، أي يكفت أحياء على ظهرها ، وأمواتاً في بطنها . واستدل بهذا من قال : إن النباش يقطع ، لأن بطن الأرض حرز للكفن ، فإذا نبش وأخذ منه فهو سارق . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : نكفتكم أحياء وأمواتاً ، فينتصبا على الحال من الضمير لأنه قد علم أنها كفات الإنس . انتهى .
المرسلات : ( 27 ) وجعلنا فيها رواسي . . . . .
و ) رَوَاسِىَ ( : جبالاً ثابتات ، ( شَامِخَاتٍ ( : مرتفعات ، ومنه شمخ بأنفه : ارتفع ، شبه المعنى بالجرم . ) وَأَسْقَيْنَاكُم ( : جعلناه سقياً لمزراعكم ومنافعكم .
( انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْء وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ).
المرسلات : ( 29 ) انطلقوا إلى ما . . . . .
يقال للمكذبين : ) انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ( : أي من العذاب .
المرسلات : ( 30 - 31 ) انطلقوا إلى ظل . . . . .
( انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ ( : أمر ، قراءة الجمهور تكراراً أو بيان للمنطلق إليه . وقرأ رويس عن يعقوب : بفتح

" صفحة رقم 398 "
اللام على معنى الخبر ، كأنهم لما أمروا امتثلوا فانطلقوا ، إذ لا يمكنهم التأخير ، إذ صاروا مضطرين إلى الانطلاق ؛ ) ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ ( ، قال عطاء : هو دخان جهنم . وروي أنه يعلو من ثلاثة مواضع ، يظن الكفار أنه مغن من النار ، فيهرعون إليه فيجدونه على أسوإ وصف . وقال ابن عباس : يقال ذلك لعبدة الصليب . فالمؤمنون في ظل الله عز وجل ، وهم في ظل معبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب ، والشعب : ما تفرق من جسم واحد . ) لاَّ ظَلِيلٍ ( : نفي لمحاسن الظل ، ( وَلاَ يُغْنِى ( : أي ولا يغني عنهم من حر اللهب شيئاً .
المرسلات : ( 32 ) إنها ترمي بشرر . . . . .
( إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ ( : الضمير في إنها لجهنم . وقرأ الجمهور : ) بِشَرَرٍ ( ، وعيسى : بشرار بألف بين الراءين ، وابن عباس وابن مقسم كذلك ، إلا أنه كسر الشين ، فاحتمل أن يكون جمع شرر ، أي بشرار من العذاب ، وأن يكون صفة أقيمت مقام موصوفها ، أي بشرار من الناس ، كما تقول : قوم شرار جمع شر غير أفعل التفضيل ، وقوم خيار جمع خير غير أفعل التفضيل ؛ ويؤنث هذا فيقال للمؤنث شرة وخيره بخلافهما ، إذا كانا للتفضيل ، فلهما أحكام مذكورة في النحو . وقرأ الجمهور : ) كَالْقَصْرِ ( ؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحسن وابن مقسم : بفتح القاف والصاد ؛ وابن جبير أيضاً والحسن أيضاً : كالقصر ، بكسر القاف وفتح الصاد ؛ وبعض القراء : بفتح القاف وكسر الصاد ؛ وابن مسعود : بضمهما ، كأنه مقصور من القصور ، كما قصروا النجم والنمر من النجوم والنمور ، قال الراجز :
فيها عنابيل أسود ونمر
وتقدم شرح أكثر هذه القراآت في المفردات .
المرسلات : ( 33 ) كأنه جمالة صفر
وقرأ الجمهور ، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ) جمالات ( بكسر الجيم وبالألف والتاء ، جمع جمال جمع الجمع وهي الإبل ، كقولهم : رجالات قريش ؛ وابن عباس وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء : بخلاف عنهم كذلك ، إلا أنهم ضموا الجيم ، وهي جمال السفن ، الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات والقوى ، ثم جمع على جمل وجمال ، ثم جمع جمال ثانياً جمع صحة فقالوا : جمالات . وقيل : الجمالات : قلوص الجسور . وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي ، وهارون عنه : جمالة بكسر الجيم ، لحقت جمالاً التاء لتأنيث الجمع ، كحجر وحجارة . وقرأ ابن عباس والسلمي والأعمش وأبو حيوة وأبو نحرية وابن أبي عبلة ورويس : كذلك ، إلا أنهم ضموا الجيم . قال ابن عباس وابن جبير : الجمالات : قلوص السفن ، وهي حباله العظام ، إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام . وقال ابن عباس أيضاً : الجمالات : قطع النحاس الكبار ، وكان اشتقاق هذه من اسم الجملة . وقرأ الحسن : صفر ، بضم الفاء ؛ والجمهور : بإسكانها ، شبه الشرر أولاً بالقصر ، وهو الحصن من جهة العظم ومن جهة الطول في الهواء ؛ وثانياً بالجمال لبيان التشبيه . ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان ، وهي القصور ؟ قال الشاعر : فوقفت فيها ناقتي فكأنها
فدن لأقصى حاجة المتلوم
ومن قرأ بضم الجيم ، فالتشبيه من جهة العظم والطول . والصفرة الفاقعة أشبه بلون الشرر ، قاله الجمهور : وقيل : صفر سود ، وقيل : سود تضرب إلى الصفرة . وقال عمران بن حطان الرقاشي : دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم
بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى

" صفحة رقم 399 "
المرسلات : ( 35 ) هذا يوم لا . . . . .
وقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن علي وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية : ) لّلْمُكَذّبِينَ هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ ( ، بفتح الميم ؛ والجمهور : برفعها . قال ابن عطية : لما أضاف إلى غير متمكن بناه فهي فتحة بناء ، وهي في موضع رفع . وقال صاحب اللوامح : قال عيسى : هي لغة سفلى مضر ، يعني بناءهم يوم مع لا على الفتح ، لأنهم جعلوا يوم مع لا كالاسم الواحد ، فهو في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ . انتهى . والجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه ، وإنما هذا مذهب كوفي . قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نصباً صحيحاً على الظرف ، فيصير هذا إشارة إلى ما تقدمه من الكلام دون إشارة إلى يوم ، ويكون العامل في نصب يوم نداء تقدمه من صفة جهنم ، ورميها بالشرر في يوم لا ينطقون ، فيكون يومئذ كلام معترض لا يمنع من تفريغ العامل للمعمول ، كما كانت ) فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ). انتهى . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ظرفاً ، وتكون الإشارة بهذا إلى رميها بشرر . وقال الزمخشري : ونصبه الأعمش ، أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ ، وهنا نفي نطقهم . وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم نطقوا في مواضع من هذا اليوم ، وذلك باعتبار طول اليوم ، فيصح أن ينفي القول فيه في وقت ويثبت في وقت ، أو نفي نطقهم بحجة تنفع وجعل نطقهم بما لا ينفع كلا نطق .
المرسلات : ( 36 ) ولا يؤذن لهم . . . . .
وقرأ القراء كلهم فيما أعلم : ) وَلاَ يُؤْذَنُ ( مبنياً للمفعول . وحكى أبو علي الأهوازي أن زيد بن علي قرأ : ولا يأذن ، مبنياً للفاعل ، أي الله تعالى ، ( فَيَعْتَذِرُونَ ( : عطف على ) وَلاَ يُؤْذَنُ ( داخل في حيز نفي الإذن ، أي فلا إذن فاعتذار ، ولم يجعل الاعتذار متسبباً عن الإذن فينصب . وقال ابن عطية : ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي ، والوجهان جائزان . انتهى . فجعل امتناع النصب هو تشابه رؤوس الآي وقال : والوجهان جائزان ، فظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وأن معناهما واحد ، وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسبباً بل صريح عطف ، والنصب يكون فيه متسبباً فافترقا . وذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أن قد يرفع الفعل ويكون معناه المنصوب بعد الفاء وذلك قليل ، وإنما جعل النحويون معنى الرفع غير معنى النصب رعياً للأكثر في كلام العرب ، وجعل دليله ذلك ، وهذه الآية كظاهر كلام ابن عطية ، وقد رد ذلك عليه ابن عصفور وغيره .
المرسلات : ( 38 ) هذا يوم الفصل . . . . .
( هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ ( للكفار ، ( وَالاْوَّلِينَ ( : قوم نوح عليه السلام وغيرهم من الكفار الذين تقدم زمانهم على زمان المخاطبين ، أي جمعناكم للفصل بين السعداء والأشقياء .
المرسلات : ( 39 ) فإن كان لكم . . . . .
( فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ ( : أي في هذا اليوم ، كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين الله وأولياءه ، ( فَكِيدُونِ ( اليوم ، وهذا تعجيز لهم وتوبيخ .
المرسلات : ( 41 ) إن المتقين في . . . . .
ولما كان في سورة الإنسان ذكر نزراً من أحوال الكفار في الآخرة ، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها ، جاء في هذه السورة الإطناب في وصف الكفار والإيجاز في وصف المؤمنين ، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين . وقرأ الجمهور : ) فِى ظِلَالٍ ( جمع ظل ؛ والأعمش : في ظلل جمع ظلة .
المرسلات : ( 43 ) كلوا واشربوا هنيئا . . . . .
( كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( : خطاب لهم في الآخرة على إضمار القول ، ويدل عليه ) بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ).
المرسلات : ( 46 ) كلوا وتمتعوا قليلا . . . . .
( كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ ( : خطاب للكفار في الدنيا ، ( قَلِيلاً ( : أي زماناً قليلاً ، إذ قصارى أكلكم وتمتعكم الموت ، وهو خطاب تهديد لمن أجرم من قريش وغيرهم .
المرسلات : ( 48 ) وإذا قيل لهم . . . . .
( وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ ( : من قال إنها مكية ، قال هي في قريش ؛ ومن قال إن هذه الآية مدنية ، قال هي في المنافقين . وقال مقاتل : نزلت في ثقيف ، قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : حط عنا الصلاة فإنا لا ننحني إنها مسبة ، فأبى وقال : ( لا خير في دين لا صلاة فيه ) . ومعنى اركعوا : اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وحيه . وقيل : الركوع هنا عبارة عن الصلاة ؛ وخص من أفعالها الركوع ، لأن العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود .
المرسلات : ( 49 ) ويل يومئذ للمكذبين
وجاه في هذه السورة بعد كل جملة قوله : ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ( ، لأن كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء من أحوال الآخرة وتقريرات من أحوال الدنيا ، فناسب أن نذكر الوعيد عقيب كل جملة منها للمكذب بالويل في يوم الآخرة .
المرسلات : ( 50 ) فبأي حديث بعده . . . . .
والضمير في ) بَعْدِهِ ( عائد على القرآن ، والمعنى أنه قد تضمن من

" صفحة رقم 400 "
الإعجاز والبلاغة والإخبار المغيبات وغير ذلك مما احتوى عليه ما لم يتضمنه كتاب إلهي ، فإذا كانوا مكذبين به ، فبأي حديث بعده يصدقون به ؟ أي لا يمكن تصديقهم بحديث بعد أن كذبوا بهذا الحديث الذي هو القرآن . وقرأ الجمهور : ) يُؤْمِنُونَ ( بياء الغيبة ؛ ويعقوب وابن عامر في رواية : بتاء الخطاب .

" صفحة رقم 401 "
78
( سورة النبأ )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ أَلَمْ نَجْعَلِ الاٌّ رْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِّلطَّاغِينَ مَأاباً لَّابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزَآءً وِفَاقاً إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا كِذَّاباً وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً وَكَأْساً دِهَاقاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَاباً جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَأاباً إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُرَاباً ( ) ) 2
النبأ : ( 1 ) عم يتساءلون
السبات ، قال ابن قتيبة : السبات أصله القطع والمدّ ، فالنوم قطع الأشغال الشاقة ، ومن المدّ قول الشاعر : وإن سبتته مال حبلاً كأنه
سدى وأملات من نواسج خثعما
أي : إن مدت شعرها مال والتف كالتفاف السدي بأيدي نساء ناسجات . الوهاج : المتوقد المتلالي . المعصر ، قال الفراء : السحاب الذي يجلب المطر ، ولما يجتمع مثل الجارية المعصر ، قد كادت تحيض ولما تحض ، وقال نحوه ابن قتيبة ، وقال أبو النجم العجلي

" صفحة رقم 402 "
تمشي الهوينا مائلاً خمارها
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها
الثج ، قال ثعلب : أصله شدّت الانصباب . وقال الأزهري : مطر ثجاج : شديد الانصباب ، ثج الماء وثججته ثجاً وثجوجاً : يكون لازماً بمعنى الانصباب وواقعاً بمعنى الصب . قال الشاعر في وصف الغيث :
إذا رمقت فيها رحى مرجحنه
تنعج ثجاجاً عزير الحوافل
ألفافاً جمع لف ، ثم جمع لف على ألفاف . الكواعب جمع كاعب : وهي التي برز نهدها ، ومنه كعب الزجل لبروزه ، ومنه الكعبة . قال عاصم بن قيس المنقري :
وكم من حصان قد حوينا كريمة
ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر
الدهاق : الملأى ، مأخوذ من الدهق ، وهو ضغط الشيء وشده باليد كأنه لامتلأته انضغط . وقيل : الدهاق : المتتابعة ، قال الشاعر :
أتانا عامر يبغي قرانا
فأترعنا له كأساً دهاقاً
وقال آخر :
لأنت إلى الفؤاد أحب قربا
من الصادي إلى كأس دهاق
) عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْواباً وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً ).
هذه السورة مكية . وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما بعث ، جعل المشركون يتساءلون بينهم فيقولون : ما الذي أتى به ؟ ويتجادلون فيما بعث به ، فنزلت . ومناسبتها لما ذكر قبلها ظاهرة . لما ذكر ) فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( ، أي بعد الحديث الذي هو القرآن ، وكانوا يتجادلون فيه ويسائلون عنه ، قال : ) عَمَّ يَتَسَاءلُونَ ). وقرأ الجمهور : ) عَمَّ ( ؛ وعبد الله وأبيّ وعكرمة وعيسى : عما بالألف ، وهو أصل عم ، والأكثر حذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر وأضيف إليها . ومن إثبات الألف قوله :
على ما قام يشتمني لئيم
كخنزير تمرغ في رماد
وقرأ الضحاك وابن كثير في رواية : عمه بهاء السكت ، أجرى الوصل مجرى الوقف ، لأن الأكثر في الوقف على ما

" صفحة رقم 403 "
الاستفهامية هو بإلحاق هاء السكت ، إلا إذا أضيفت إليها فلا بد من الهاء في الوقف ، نحو : بحي مه . والاستفهام عن هذا فيه تفخيم وتهويل وتقرير وتعجيب ، كما تقول : أي رجل زيد ؟ وزيد ما زيد ، كأنه لما كان عديم النظير أو قليله خفيّ عليك جنسه فأخذت تستفهم عنه . ثم جرد العبارة عن تفخيم الشيء ، فجاء في القرآن ، والضمير في ) يَتَسَاءلُونَ ( لأهل مكة . ثم أخبر تعالى أنهم ) يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( ، وهو أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وما جاء به من القرآن . وقيل : الضمير لجميع العالم ، فيكون الاختلاف تصديق المؤمن وتكذيب الكافر . وقيل : المتسأل فيه البعث ، والاختلاف فيه عم متعلق بيتساءلون . ومن قرأ عمه بالهاء في الوصل فقد ذكرنا أنه يكون أجرى الوصل مجرى الوقف ، وعن النبأ متعلق بمحذوف ، أي يتساءلون عن النبأ . وأجاز الزمخشري أن يكون وقف على عمه ، ثم ابتدأ بيتسألون عن النبأ العظيم على أن يضمر لعمه يتساءلون ، وحذفت لدلالة ما بعدها عليه ، كشيء مبهم ثم يفسر . وقال ابن عطية : قال أكثر النحاة قوله ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( متعلق بيتساءلون ، الظاهر كأنه قال : لم يتساءلون عن النبأ العظيم ؟ وقال الزجاج : الكلام تام في قوله ) عَمَّ يَتَسَاءلُونَ ( ، ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب فيقول : يتساءلون عن النبأ ، فاقتضى إيجاز القرآن وبلاغته أن يبادر المحتج بالجواب الذي يقتضيه الحال ، والمجاورة اقتضاء بالحجة وإسراعاً إلى موضع قطعهم . وقرأ عبد الله وابن جبير : يسألون بغير تاء وشد السين ، وأصله يتساءلون بتاء الخطاب ، فأدغم التاء الثانية في السين .
النبأ : ( 4 ) كلا سيعلمون
) كَلاَّ ( : ردع للمتسائلين . وقرأ الجمهور : بياء الغيبة فيهما . وعن الضحاك : الأول بالتاء على الخطاب ، والثاني بالياء على الغيبة . وهذا التكرار توكيد في الوعيد وحذف ما يتعلق به العلم على سبيل التهويل ، أي سيعلمون ما يحل بهم .
النبأ : ( 6 ) ألم نجعل الأرض . . . . .
ثم قررهم تعالى على النظر في آياته الباهرة وغرائب مخلوقاته التي ابتدعها من العدم الصرف ، وأن النظر في ذلك يفضي إلى الإيمان بما جاءت به الرسل من البعث والجزاء ، فقال : ) أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً ( ، فبدأ بما هم دائماً يباشرونه ، والمهاد : الفراش الموطأ . وقرأ الجمهور : ) مِهَاداً ( ؛ ومجاهد وعيسى وبعض الكوفيين : مهداً ، بفتح الميم وسكون الهاء ، ولم ينسب ابن عطية عيسى في هذه القراءة . وقال ابن خالويه : مهداً على التوحيد ، مجاهداً وعيسى الهمداني وهو الحوفي ، فاحتمل أن يكون قول ابن عطية وبعض الكوفيين كناية عن عيسى الهمداني . وإذا أطلقوا عيسى ، أو قالوا عيسى البصرة ، فهو عيسى بن عمر الثقفي . وتقدم الكلام في المهاد في البقرة في أول حزب ، ( وَاذْكُرُواْ اللَّهَ ).
النبأ : ( 7 ) والجبال أوتادا
) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( : أي ثبتنا الأرض بالجبال ، كما ثبت البيت بالأوتاد . قال الأفوه : والبيت لا ينبني إلا له عمد
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
النبأ : ( 8 ) وخلقناكم أزواجا
) أَزْواجاً ( : أي أنواعاً من اللون والصورة واللسان . وقال الزجاج وغيره : مزدوجين ، ذكراً وأنثى .
النبأ : ( 9 ) وجعلنا نومكم سباتا
) سُبَاتاً ( : سكوناً وراحة . سبت الرجل : استراح وترك الشغل ، والسبات علة معروفة يفرط على الإنسان السكوت حتى يصير قاتلاً ، والنوم شبيه به إلا في الضرر . وقال قتادة : النائم مسبوت لا يعقل ، كأنه ميت .
النبأ : ( 10 ) وجعلنا الليل لباسا
) لِبَاساً ( : أي يستترون به عن العيون فيما لا يحبون أن يظهر عليه .
النبأ : ( 11 ) وجعلنا النهار معاشا
) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ ( : قابل النوم بالنهار ، إذ فيه اليقظة . ) مَعَاشاً ( : وقت عيش ، وهو الحياة تتصرفون فيه في حوائجكم .
النبأ : ( 12 ) وبنينا فوقكم سبعا . . . . .
( سَبْعاً ( : أي سموات ، ( شِدَاداً ( : محكمة الخلق قوية لا تتأثر بمرور الأعصار إلا إذا أراد الله عز وجل . وقال الشاعر : فلما جئته أعلى محلي
وأجلسني على السبع الشداد
النبأ : ( 13 ) وجعلنا سراجا وهاجا
) سِرَاجاً ( : هو الشمس ، ( وَهَّاجاً ( : حاراً مضطرم الاتقاد . وقال عبد الله بن عمرو . الشمس في السماء الرابعة ، إلينا ظهرها ، ولهيبها يضطرم علواً .
النبأ : ( 14 ) وأنزلنا من المعصرات . . . . .
( مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ( ، قال أبي والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وقتادة ومقاتل : هي

" صفحة رقم 404 "
السموات . وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع والضحاك : السحاب القاطرة ، مأخوذ من العصر ، لأن السحاب ينعصر فيخرج منه الماء . وقيل : السحاب التي فيها الماء ولم تمطر . وقال ابن كيسان : سميت بذلك من حيث تغيث ، فهي من العصرة ، ومنه قوله : ) وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ). والعاصر : المغيث ، فهو ثلاثي ؛ وجاء هنا من أعصر : أي دخلت في حين العصر ، فحان لها أن تعصر ، وأفعل للدخول في الشيء . وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة : الرياح لأنها تعصر السحاب ، جعل الإنزال منها لما كانت سبباً فيه . وقرأ ابن الزبير وابن عباس والفضل بن عباس أخوه وعبد الله بن يزيد وعكرمة وقتادة : بالمعصرات ، بالياء بدل من . قال ابن عطية : فهذا يقوي أنه أراد الرياح . وقال الزمخشري : فيه وجهان : أن يراد بالرياح التي حان لها أن تعصر السحاب ، وأن يراد السحاب ، لأنه إذا كان الأنزال منها فهو بها ، كما تقول : أعطى من يده درهماً ، وأعطى بيده درهماً . ) ثَجَّاجاً ( : منصباً بكثرة ، ومنه أفضل الحج العج والثج : أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدى . وقرأ الأعرج : ثجاحاً بالحاء : آخراً ، ومساجح الماء : مصابه ، والماء ينثجح في الوادي .
النبأ : ( 15 ) لنخرج به حبا . . . . .
( حَبّاً وَنَبَاتاً ( : بدأ بالحب لأنه الذي يتقوت به ، كالحنطة والشعير ، وثنى بالنبات فشمل كل ما ينبت من شجر وحشيش ودخل فيه الحب .
النبأ : ( 16 ) وجنات ألفافا
) أَلْفَافاً ( : ملتفة ، قال الزمخشري : ولا واحد له ، كالأوزاع والأخياف . وقيل : الواحد لف : قال صاحب الإقليد : أنشدني الحسن بن علي الطوسي : جنة لف وعيش مغدق
وندامى كلهم بيض زهر
ولو قيل : هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً . انتهى . ولا حاجة إلى هذا القول ولا إلى وجاهته ، فقد ذكر في المفردات أن مفرده لف بكسر اللام ، وأنه قول جمهور أهل اللغة .
النبأ : ( 17 ) إن يوم الفصل . . . . .
( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ ( : هو يوم القيامة يفصل فيه بين الحق والباطل ، ( كَانَ مِيقَاتاً ( : أي في تقدير الله وحكمه تؤقت به الدنيا وتنتهي عنده أو حداً للخلائق ينتهون إليه .
النبأ : ( 18 ) يوم ينفخ في . . . . .
( يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ ( : بدل من يوم الفصل . قال الزمخشري : أو عطف بيان ، وتقدم الكلام في الصور . وقرأ أبو عياض : في الصور بفتح الواو جمع صورة ، أي يرد الله الأرواح إلى الأبدان ؛ والجمهور : بسكون الواو . و ) فَتَأْتُونَ ( من القبور إلى الموقف أمماً ، كل أمة بإمامها . وقيل : جماعات مختلفة . وذكر الزمخشري حديثاً في كيفيات قبيحة لعشرة أصناف يخلقون عليها ، وسبب خلقه من خلق على تلك الكيفية الله أعلم بصحته .
النبأ : ( 19 ) وفتحت السماء فكانت . . . . .
وقرأ الكوفيون : ) وَفُتِحَتْ ( : خف ؛ والجمهور : بالتشديد ، ( فَكَانَتْ أَبْواباً ( تنشق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في الجدرات . وقيل : ينقطع قطعاً صغاراً حتى تكون كالألواح ، الأبواب المعهود . وقال الزمخشري : ) فُتِحَتْ فَكَانَتْ أَبْواباً ( : أي كثرت أبوابها لنزول الملائكة ، كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة ، كقوله : ) وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً ( ، كأن كلها عيون تنفجر . وقيل : الأبواب : الطرق والمسالك ، أي تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقاً لا يسدها شيء .
النبأ : ( 20 ) وسيرت الجبال فكانت . . . . .
( فَكَانَتْ سَرَاباً ( : أي تصير شيئاً كلا شيء لتفرق أجزائها وانبثاث جواهرها . انتهى . وقال ابن عطية : عبارة عن تلاشيها وفنائها بعد كونها هباء منبثاً ، ولم يرد أن الجبال تشبه الماء على بعد من الناظر إليها . وقال الواحدي : على حذف مضاف ، أي ذات أبواب .
قوله عز وجل : ) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لّلطَّاغِينَ مَئَاباً لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزَاء وِفَاقاً إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً وَكُلَّ شَىْء أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً وَكَأْساً دِهَاقاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً جَزَاء مّن رَّبّكَ عَطَاء حِسَاباً رَّبّ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ مَئَاباً إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ

" صفحة رقم 405 "
يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً ).
النبأ : ( 21 ) إن جهنم كانت . . . . .
( مِرْصَاداً ( : مفعال من الرصيد ، ترصد من حقت عليه كلمة العذاب . وقال مقاتل : مجلساً للأعداء وممراً للأولياء ، ومفعال للمذكر والمؤنث بغير تاء وفيه معنى النسب ، أي ذات رصد ، وكل ما جاء من الأخبار والصفات على معنى النسب فيه التكثير واللزوم . وقال الأزهري : المرصاد : المكان الذي يرصد فيه العدو . وقال الحسن : إلا أن على النار المرصاد . فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجىء بجواز احتبس . وقرأ أبو عمر والمنقري وابن يعمر : أن جهنم ، يفتح الهمزة ؛ والجمهور : بكسرها
النبأ : ( 22 ) للطاغين مآبا
) مَئَاباً ( : مرجعاً .
النبأ : ( 23 ) لابثين فيها أحقابا
وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وابن وثاب وعمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وسورة وروح : لبثين ، بغير ألف بعد اللام ؛ والجمهور : بألف بعدها ، وفاعل يدل على من وجد منه الفعل ، وفعل على من شأنه ذلك ، كحاذر وحذر . ) أَحْقَاباً ( : تقدم الكلام عليه في الكهف عند : ) أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً ( ، والمعنى هنا : حقباً بعد حقب ، كلما مضى تبعه آخر إلى غير نهاية ، ولا يكاد يستعمل الحقب إلا حيث يراد تتابع الأزمنة ، كقول أبي تمام : لقد أخذت من دار ماوية الحقب
أنحل المغاني لليلى أم هي نهب
ويجوز أن يتعلق للطاغين بمرصاداً ، ويجوز أن يتعلق بمآبا . ولبثين حال من الطاغين ، وأحقاباً نصب على الظرف . وقال الزمخشري : وفيه وجه آخر ، وهو أن يكون من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب إذا أخطأ الرزق فهو حقب ، وجمعة أحقاب ، فينتصب حالاً عنهم ، يعني لبثين فيها حقبين جحدين .
النبأ : ( 24 ) لا يذوقون فيها . . . . .
وقوله : ) يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً ( تفسير له ، والاستثناء منقطع ، يعني : لا يذوقون فيها برداً ورَوحاً ينفس عنهم حر النار ، ولا شراب يسكن من عطشهم ، ولكن يذوقون فيها ) حَمِيماً وَغَسَّاقاً ). انتهى . وكان قد قدم قبل هذا الوجه ما نصه : ويجوز أن يراد لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين برداً ولا شراباً
النبأ : ( 25 ) إلا حميما وغساقا
إلا حميماً وغساقاً ، ثم يبد لوم بعد الأحقاب غير الحميم ، والغاق من جنس آخر من العذاب . انتهى . وهذا الذي قاله هو قول للمتقدمين ، حكاه ابن عطية . قال : وقال آخرون إنما المعنى لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين برداً ولا شراباً ، فهذه الحال يلبثون أحقاباً ، ثم يبقى العذاب سرمداً وهم يشربون أشربة جهنم . والذي يظهر أن قوله : ) لاَ يَذُوقُونَ ( كلام مستأنف وليس في موضع الحال ، و ) إِلاَّ حَمِيماً ( استثناء متصل من قوله : ) وَلاَ شَرَاباً ( ، وإن ) أَحْقَاباً ( منصوب على الظرف حملاً على المشهور من لغة العرب ، لا منصوب على الحال على تلك اللغة التي ليست مشهورة . وقول من قال : إن الموصوفين باللبث أحقاباً هم عصاة المؤمنين ، أواخر الآي يدفعه ؛ وقول مقاتل : إن ذلك منسوخ بقوله : ) فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ( ، فاسد . والظاهر ، وهو قول الجمهور ، أن البرد هو مس الهواء القرّ ، أي لا يمسهم منه ما يستلذ ويكسر شدة الحر . وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي : البرد هنا النوم ، والعرب تسمية بذلك لأنه يبرد سورة العطش ، ومن كلامهم : منع البرد البرد ، وقال الشاعر : فلو شئت حرمت النساء سواكم
وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا
النقاخ : الماء ، والبرد : النوم . وفي كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل ، والذوق على هذين القولين مجاز . وقال ابن عباس : البرد : الشراب البارد المستلذ ، ومنه قول حسان بن ثابت : يسقون من ورد البريض عليهم
برداً يصفق بالرحيق السلسل

" صفحة رقم 406 "
ومنه قول الآخر : أماني من سعدى حسان كأنما
سقتك بها سعدى على ظمأ بردا
والذوق على هذا حقيقة ، والنحويون ينشدون على هذا بيت حسان . بردى ، بفتح الراء والدال بعدها ألف التأنيث : وهو نهر في دمشق . وتقدم شرح الحميم والغساق ، وخلف القرّاء في شدة الشين وخفتها .
النبأ : ( 26 ) جزاء وفاقا
) وِفَاقاً ( : أي لأعمالهم وكفرهم ، وصف الجزاء بالمصدر لوافق ، أو على حذف مضاف ، أي ذا وفاق . وقال الفراء : هو جمع وفق . وقرأ الجمهور : بخف الفاء ؛ وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : بشدها من وفقه كذا .
النبأ : ( 27 ) إنهم كانوا لا . . . . .
( لاَ يَرْجُونَ ( : لا يخافون أو لا يؤمنون ، والرجاء والأمل مفترقان ، والمعنى هنا : لا يصدقون بالحساب ، فهم لا يؤمنون ولا يخافون .
النبأ : ( 28 ) وكذبوا بآياتنا كذابا
وقرأ الجمهور : ) كِذَّاباً ( بشد الذال مصدر كذب ، وهي لغة لبعض العرب يمانية . يقولون في مصدر فعل فعالاً ، وغيرهم يجعل مصدره على تفعيل ، نحو تكذيب . ومن تلك اللغة قول الشاعر : لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي
وعن حاجة قضاؤها من شفائيا
ومن كلام أحدهم وهو يستفتي الحلق أحب إليك أم القصار ، يريد التقصير ، يعني في الحج . وقال الزمخشري : وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره ، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال : لقد فسرتها فساراً ما سمع بمثله . وقرأ علي وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى بخلاف عنه بخف الذال . قال صاحب اللوامح علي وعيسى : البصرة ، وعوف الأعرابي : كذاباً ، كلاهما بالتخفيف ، وذلك لغة اليمن بأن يجعلوا مصدر كذب مخففاً ، كذاباً بالتخفيف مثل كتب كتاباً ، فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه ، مثل أعطيته عطاء . انتهى . وقال الأعشى : فصدقتها وكذبتها
والمرء ينفعه كذابه
وقال الزمخشري : هو مثل قوله : ) أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( يعني : وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً ، أو تنصبه بكذبوا لا يتضمن معنى كذبوا ، لأن كل مكذب بالحق كاذب ؛ وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه : وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة ، أو كذبوا بها مكاذبين لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب ، فعل من يغالب في أمر فيبلغ فيه أقصى جهده . انتهى . والأظهر الإعراب الأول وما سواه تكلف ، وفي كتاب ابن عطية وكتاب اللوامح . وقرأ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز : وفي كتاب ابن خالويه عمر بن عبد العزيز والماجشون ، ثم اتفقوا كذاباً بضم الكاف وشد الذال ، فخرج على أنه جمع كاذب وانتصب على الحال المؤكدة ، وعلى أنه مفرد صفة لمصدر ، أي تكذيباً كذاباً مفرطاً في التكذيب .
النبأ : ( 29 ) وكل شيء أحصيناه . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَكُلَّ شىْء ( بالنصب : وأبو السمال : بالرفع ، وانتصب ) كِتَاباً ( على أنه مصدر من معنى ) أَحْصَيْنَاهُ ( أي إحصاء ، أو يكون ) أَحْصَيْنَاهُ ( في معنى كتبناه . والتجوز إما في المصدر وإما في الفعل وذلك لالتقائهما في معنى الضبط ، أو على أنه مصدر في موضع الحال ، أو مكتوباً في اللوح وفي مصحف الحفظة . ) وَكُلَّ شىْء ( عام مخصوص ، أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب ، وهي جملة اعتراض معترضة ،
النبأ : ( 30 ) فذوقوا فلن نزيدكم . . . . .
وفذوقوا مسبب عن كفرهم بالحساب ، فتكذيبهم بالآيات . وقال عبد الله بن عمر : وما نزلت في أهل النار آية أشد من هذه ، ورواه أبو بردة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
النبأ : ( 31 - 35 ) إن للمتقين مفازا
ولما ذكر شيئاً من حال أهل النار ، ذكر ما

" صفحة رقم 407 "
لأهل الجنة فقال : ) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ( : أي موضع فوز وظفر ، حيث زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة . و ) حَدَائِقَ ( بدل من ) مَفَازاً ( وفوزاً ، فيكون أبدل الجرم من المعنى على حذف ، أي فوز حدائق ، أي بها . ) دِهَاقاً ( ، قال الجمهور : مترعة . وقال مجاهد وابن جبير : متتابعة . وقرأ الجمهور : ) وَلاَ كِذباً ( بالتشديد ، أي لا يكذب بعضهم بعضاً . وقرأ الكسائي بالتخفيف ، كاللفظ الأول في قوله تعالى : ) وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً ( ، مصدر كذب ومصدر كاذب . قال الزمخشري : ) جَزَاء ( : مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله : ) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ( ، كأنه قال : جازى المتقين بمفاز وعطاء نصب بجزاء نصب المفعول به ، أي جزاءهم عطاء . انتهى . وهذا لا يجوز لأنه جعله مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة التي هي ) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ( ، والمصدر المؤكد لا يعمل ، لأنه ليس ينحل بحرف مصدري والفعل ، ولا نعلم في ذلك خلافاً .
النبأ : ( 36 ) جزاء من ربك . . . . .
وقرأ الجمهور : ) حِسَاباً ( ، وهو صفة لعطاء ، أي كافياً من قولهم : أحسبني الشيء : أي كفاني . وقال مجاهد : معنى حساباً هنا بتقسيط على الأعمال ، أو دخول الجنة برحمة الله والدرجات فيها على قدر الأعمال ، فالحساب هنا بموازنة الأعمال . وقرأ ابن قطيب : حساباً ، بفتح الحاء وشد السين . قال ابن جني : بني فعالاً من أفعل ، كدراك من أدرك . انتهى ، فمعناه محسباً ، أي كافياً . وقرأ شريح بن يزيد الحمصي وأبو البرهشيم : بكسر الحاء وشد السين ، وهو مصدر مثل كذاب أقيم مقام الصفة ، أي إعطاء محسباً ، أي كافياً . وقرأ ابن عباس وسراح : حسناً بالنون من الحسن ، وحكى عنه المهدوي حسباً بفتح الحاء وسكون السين والباء ، نحو قولك : حسبك كذا ، أي كافيك .
النبأ : ( 37 ) رب السماوات والأرض . . . . .
وقرأ عبد الله وابن أبي إسحاق والأعمش وابن محيصن وابن عامر وعاصم : رب والرحمن بالجر ؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان برفعهما ؛ والأخوان : رب بالجر ، والرحمن بالرفع ، وهي قراءة الحسن وابن وثاب والأعمش وابن محيصن بخلاف عنهما في الجر على البدل من ربك ، والرحمن صفة أو بدل من رب أو عطف بيان ، وهل يكون بدلاً من ربك فيه نظر ، لأن البدل الظاهر أنه لا يتكرر فيكون كالصفات ، والرفع على إضمار هو رب ، أو على الابتداء ، وخبره ) لاَّ يَمْلِكُونَ ( ، والضمير في ) لاَّ يَمْلِكُونَ ( عائد على المشركين ، قاله عطاء عن ابن عباس ، أي لا يخاطب المشركون الله . أما المؤمنون فيشفعون ويقبل الله ذلك منهم . وقيل : عائد على المؤمنين ، أي لا يملكون أن يخاطبوه في أمر من الأمور لعلمهم أن ما يفعله عدل منه . وقيل : عائد على أهل السموات والأرض . والضمير في منه عائد عليه تعالى ، والمعنى أنهم لا يملكون من الله أن يخاطبوه في شيء من الثواب . والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرف الملاك ، فيزيدون فيه أو ينقصون منه .
النبأ : ( 38 ) يوم يقوم الروح . . . . .
والعامل في ) يَوْمٍ ( إما ) لاَّ يَمْلِكُونَ ). وقد تقدم الخلاف في ) الرُّوحُ ( ، أهو جبريل أم ملك أكبر الملائكة خلقة ؟ أو خلق على صورة بني آدم ، أو خلق حفظة على الملائكة ، أو أرواح بني آدم ، أو القرآن وقيامه ، مجاز يعني به ظهور آثاره الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه . والظاهر عود الضمير في ) لاَّ يَتَكَلَّمُونَ ( على ) الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ ). وقال ابن عباس : عائد على الناس ، فلا يتكلم أحد إلا بإذن منه تعالى . ونطق بالصواب . وقال عكرمة : الصواب : لا إله إلا الله ، أي قالها في الدنيا . وقال الزمخشري : هما شريطتان : أن يكون المتكلم منهم مأذوناً لهم في الكلام ، وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى لقوله تعالى : ) وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ). انتهى .
النبأ : ( 39 ) ذلك اليوم الحق . . . . .
( ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ( : أي كيانه ووجوده ، ( فَمَن شَاء ( : وعيد وتهديد ،
النبأ : ( 40 ) إنا أنذرناكم عذابا . . . . .
والخطاب في ) أَنذَرْنَاكُمْ ( لمن حضر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، واندرج فيه من يأتي بعدهم ، ( عَذَاباً ( : هو عذاب الآخرة لتحقق وقوعه ، وكل آت قريب . ) يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء ( : عام في المؤمن والكافر . ) مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ( من خير أو شر لقيام الحجة له وعليه . وقال الزمخشري ، وقاله قبله عطاء : المرء هو الكافر لقوله : ) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ( ، والكافر ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم . ومعنى ) مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ( من الشر

" صفحة رقم 408 "
لقوله : ) وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ). وقال ابن عباس وقتادة والحسن : المرء هنا المؤمن ، كأنه نظر إلى مقابله في قوله : ) وَيَقُولُ الْكَافِرُ ). وقرأ الجمهور : ) الْمَرْء ( بفتح الميم ؛ وابن أبي إسحاق بضمها ؛ وضعفها أبو حاتم ، ولا ينبغي أن تضعف لأنها لغة يتبعون حركة الميم لحركة الهمزة فيقولون : مرؤ ومرأ ومرء على حسب الإعراب ، وما منصوب بينظر ومعناه : ينتظر ما قدّمت يداه ، فما موصولة . ويجوز أن يكون ينظر من النظر ، وعلق عن الجملة فهي في موضع نصب على تقدير إسقاط الخافض ، وما استفهامية منصوبة تقدّمت ، وتمنيه ذلك ، أي تراباً في الدنيا ، ولم يخلق أو في ذلك اليوم . وقال أبو هريرة وعبد الله بن عمر : إن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص من بعضها لبعض ، ثم يقول لها بعد ذلك : كوني تراباً ، فتعود جميعها تراباً ، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله . وقيل : الكافر هنا إبليس ، إذا رأى ما حصل للمؤمنين من الثواب قال : ) الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً ( كآدم الذي خلق من تراب واحتقره هو أوّلاً . وقيل : ) تُراباً ( : أي متواضعاً لطاعة الله تعالى ، لا جباراً ولا متكبراً .

" صفحة رقم 409 "
79
( سورة النازعات )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الاٌّ يَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاٌّ عْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاٌّ خِرَةِ وَالاٍّ وْلَى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالاٌّ رْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ( ) ) 2
النازعات : ( 1 - 5 ) والنازعات غرقا
أغرق في الشيء : بالغ فيه وأنهاه ، وأغرق النازع في القوس : بلغ غاية المد حتى ينتهي إلى النصل . والاستغراق : الاستيعاب ، والغرقى : قشرة البيضة . نشط البعير والإنسان ربطه وأنشطه : حله ، ومنه : وكأنما أنشط من عقال . ونشط : ذهب من قطر إلى قطر ، ولذلك قيل لبقر الوحش النواشط ، لأنهن يذهبن بسرعة من مكان إلى مكان ، ومنه قول الشاعر ، وهو هميان بن قحافة : أرى همومي تنشط المناشطا
الشام بي طوراً وطوراً واسطا

" صفحة رقم 410 "
وكأن هذه اللفظة مأخوذة من النشاط . وقال أبو زيد : نشطت الحبل أنشطه نشطاً : عقدته أنشوطة ، وأنشطته : حللته ، وأنشطت الحبل : مددته . وقال الليث : أنشطته بأنشوطة : أي وثقته ، وأنشطت العقال : مددت أنشوطته فانحلت ، ويقال : نشط بمعنى أنشط ، والأنشوطة : عقدة يسهل إنحلالها إذا جدبت كعقدة التكة . وجف القلب وجيفاً : اضطرب من شدّة الفزع ، وكذلك وجب وجيباً . وفي كتاب لغات القرآن المروي عن ابن عباس ، واجفة : خائفة ، بلغة همدان . الحافرة ، يقال : رجع فلان في حافرته : أي في طريقه التي جاء منها ، فحفرها : أي أثر فيها بمشيه فيها ، جعل أثر قدميه حفراً ، وتوقعها العرب على أول أمر يرجع إليه من آخره ، ومنه قول الشاعر : أحافرة على صلع وشيب
معاذ الله من سفه وعار
أي : أأرجع إلى الصبا بعد الصلع والشيب ؟ الناخرة : المصوتة بالريح المجوّفة ، والنخرة بمعناها ، كطامع وطمع ، وحاذر وحذر ، قاله الفراء وأبو عبيد وأبو حاتم وجماعة . وقيل : النخرة : البالية المتعفنة الصائرة رميماً . نخر العود والعظم : بلي وتفتت ، فمعناه مغاير للناخرة ، وهو قول الأكثرين . وقال أبو عمرو بن العلاء : الناخرة : التي لم تنخر بعد ، والنخرة : التي قد بليت . قال الراجز لفرسه : أقدم أخانهم على الأساوره
ولا تهولنك رؤوس نادره
فإنما قصرك ترب الساهره
حتى تعود بعدها في الحافره
من بعد ما صرت عظاماً ناخره
وقال الشاعر : وأخليتها من مخها فكأنها
قوارير في أجوافها الريح تنخر
ويروى : تصفر ونخرة الريح ، بضم النون : شدّة هبوبها ، والنخرة أيضاً : مقدم أنف الفرس والحمار والخنزير ، يقال : هشم نخرته . الساهرة : وجه الأرض والفلاة ، وصفت بما يقع فيها وهو السهر للخوف . وقال أمية بن أبي الصلت : وفيها لحم ساهرة وبحر
وما فاهوا به لهم مقيم
وقال أبو بكر الهذلي : يرتدن ساهرة كأن جميمها
وعميمها أسداف ليل مظلم
والساهور كالغلاف للقمر يدخل فيه إذا كسف . وقال أمية بن أبي الصلت : وبث الخلق فيها إذ دحاها
فهم قطانها حتى التنادي

" صفحة رقم 411 "
وقيل : دحاها : سواها ، قال زيد بن عمرو : وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخراً ثقالا
دحاها فلما استوت شدّها
بأيد وأرسى عليها الجبالا
الطامّة : الدّاهية التي تطم على الدّواهي ، أي تعلو وتغلب . وفي أمثالهم : أجرى الوادي فطمّ على القرى ، ويقال : طمّ السيل الركية إذا دفنها ، والطم : الدّفن والعلو .
( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ أَءذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الاْيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاْخِرَةِ وَالاْوْلَى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَى ).
هذه السورة مكية . ولما ذكر في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة ، أقسم في هذه على البعث يوم القيامة . ولما كانت الموصوفات المقسم بها محذوفات وأقيمت صفاتها مقامها ، وكان لهذه الصفات تعلقات مختلفة اختلفوا في المراد بها ، فقال عبد الله وابن عباس ؛ ) النازعات ( : الملائكة تنزع نفوس بني آدم ، و ) وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً ( : إغراقاً ، وهي المبالغة في الفعل ، أو غرق في جهنم ، يعني نفوس الكفار ، قاله عليّ وابن عباس . وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق . وقال السدّي وجماعة : تنزع بالموت إلى ربها ، وغرقاً : أي إغراقاً في الصدر . وقال السدي أيضاً : النفوس تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها ، ولها نزع عند الموت . وقال عطاء وعكرمة : القسي أنفسها تنزع بالسهام . وقال عطاء أيضاً : الجماعات النازعات بالقسي وغيرها إغراقاً . وقال مجاهد : المنايا تنزع النفوس . وقيل : النازعات : الوحش تنزع إلى الكلأ ، حكاه يحيى بن سلام . وقيل : جعل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب ، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب ، قاله في الكشاف .
( وَالنَّاشِطَاتِ ( ، قال ابن عباس ومجاهد : الملائكة تنشط النفوس عند الموت ، أي تخلها وتنشط بأمر الله إلى حيث كان . وقال ابن عباس أيضاً وقتادة والحسن والأخفش : النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، تذهب وتسير بسرعة . وقال مجاهد أيضاً : المنايا . وقال عطاء : البقر الوحشية وما جرى مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر . وقال ابن عباس أيضاً : النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج . وقيل : التي تنشط للإزهاق .
( وَالسَّابِحَاتِ ( ، قال عليّ ومجاهد : الملائكة تتصرّف في الآفاق بأمر الله ، تجيء وتذهب . وقال قتادة والحسن : النجوم تسبح في الأفلاك . وقال أبو روق : الشمس والقمر والليل والنهار . وقال عطاء وجماعة : الخيل ، يقال للفرس سابح . وقيل : السحاب لأنها كالعائمة في الهواء . وقيل : الحيتان دواب البحر فما دونها وذلك من عظم المخلوقات ، فيبدي أنه تعالى أمدّ في الدنيا نوعاً من الحيوان ، منها أربعمائة في البر وستمائة في البحر . وقال عطاء أيضاً : السفن . وقال مجاهد أيضاً : المنايا تسبح في نفوس الحيوان .
( فَالسَّابِقَاتِ ( ، قال مجاهد : الملائكة سبقت بني آدم بالخير والعمل الصالح ، وقاله أبو روق . وقال ابن مسعود : أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين

" صفحة رقم 412 "
يقبضونها ، وقد عاينت السرور شوقاً إلى لقاء الله تعالى . وقال عطاء : الخيل ، وقيل : النجوم ، وقيل : المنايا تسبق الآمال . ) فَالْمُدَبّراتِ ( ، قال ابن عطية لا أحفظ خلافاً أنها الملائكة ، ومعناه أنها التي تدبر الأمور التي سخرها الله تعالى وصرفها فيها ، كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات . انتهى . وقيل : الملائكة الموكلون بالأحوال : جبريل للوحي ، وميكائيل للمطر ، وإسرافيل للنفخ في الصور ، وعزرائيل لقبض الأرواح . وقيل : تدبيرها : نزولها بالحلال والحرام . وقال معاذ : هي الكواكب السبعة ، وإضافة التدبير إليها مجاز ، أي يظهر تقلب الأحوال عند قرانها وتربيعها وتسديسها وغير ذلك .
ولفق الزمخشري من هذه الأقوال أقوالاً اختارها وأدارها أولاً على ثلاثة : الملائكة أو الخيل أو النجوم . ورتب جميع الأوصاف على كل واحد من الثلاثة ، فقال : أقسم سحابة بطوائف الملائكة التي هي تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف التي تنشطها ، أي تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها ، أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم ؛ كما رسم لهم غرقاً ، أي إغراقاً في النزع ، أي تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها وأظافرها . أو أقسم بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها إلى آخر ما نقلناه ؛ ثم قال : من قولك : ثور ناشط ، إذا خرج من بلد إلى بلد ، والتي تسبح في جريتها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر ، وإسناد التدبير إليها لأنها من أسبابه . أو أقسم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب ، وإغراقها في النزع أن تقطع الفلك كله حتى تنحط من أقصى المغرب ، والتي تخرج من برج إلى برج ، والتي تسبح في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمراً في علم الحساب .
وقيل : النازعات : أيدي الغزاة أو أنفسهم تنزع القسي بإغراق السهام والتي تنشط الإرهاق . انتهى . والذي يظهر أن ما عطف بالفاء هو من وصف المقسم به قبل الفاء ، وأن المعطوف بالواو وهو مغاير لما قبله ، كما قرّرناه في المرسلات ، على أنه يحتمل أن يكون المعطوف بالواو ومن عطف الصفات بعضها على بعض . والمختار في جواب القسم أن يكون محذوفاً وتقديره : لتبعثن لدلالة ما بعده عليه ، قاله الفراء . وقال محمد بن عليّ الحكيم الترمذي : الجواب : ) إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَى ( ، والمعنى فيما اقتصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى عليه السلام وفرعون . قال ابن الانباري : وهذا قبيح لأن الكلام قد طال .
النازعات : ( 6 - 7 ) يوم ترجف الراجفة
وقيل : اللام التي تلقى بها القسم محذوفة من قوله : ) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ( ، أي ليوم كذا ، ( تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ( ، ولم تدخل نون التوكيد لأنه قد فصل بين اللام المقدرة والفعل ؛ وقول أبي حاتم هو علي التقديم والتأخير ، كأنه قال : ) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ). ) وَالنَّازِعَاتِ ( ، قال ابن الأنباري : خطأ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام . وقيل : التقدير : ) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ( ، ( وَالنَّازِعَاتِ ( على التقديم والتأخير أيضاً وليس بشيء . وقيل : الجواب : ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ( ، لأنه في تقدير قد أتاك وليس بشيء ، وهذا كله إعراب من لم يحكم العربية ، وحذف الجواب هو الوجه ، ويقرب القول بحذف اللام من ) يَوْمَ تَرْجُفُ ). قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد : هما الصيحتان ، أي النفختان ، الأولى تميت كل شيء ، وفي الثانية تحيي . وقال مجاهد أيضاً : الواجفة : الزلزلة ، والرادفة : الصيحة . وقال ابن زيد : الواجفة : الأرض ، والرادفة : الساعة ، والعامل في يوم اذكر مضمرة ، أو لتبعثن المحذوف ؛ واليوم متسع تقع فيه النفختان ، وهم يبعثون في بعض ذلك اليوم المتسع ، وتتبعها حال . قيل : أو مستأنف .
النازعات : ( 8 ) قلوب يومئذ واجفة
واجفة : مضطربة ، ووجيف القلب يكون من الفزع ويكون من الإشفاق ، ومنه قول قيس بن الخطيم : إن بني حجباً وأسرتهم
أكبادنا من ورائهم تجف
) قُلُوبٍ ( : مبتدأ ، ( وَاجِفَةٌ ( : صفة تعمل في ) يَوْمَئِذٍ ( ، ( أَبْصَارُهَا ( : أي أبصار أصحاب القلوب ، ( خَاشِعَةٌ ( : مبتدأ وخبر في موضع

" صفحة رقم 413 "
خبر ) قُلُوبٍ ). وقال ابن عطية : رفع قلوب بالابتداء ، وجاز ذلك ، وهي نكرة لأنها قد تخصصت بقوله : ) يَوْمَئِذٍ ). انتهى . ولا تتخصص الأجرام بظروف الزمان ، وإنما تخصصت بقوله : ) وَاجِفَةٌ ).
النازعات : ( 10 ) يقولون أئنا لمردودون . . . . .
( يَقُولُونَ ( : حكاية حالهم في الدنيا ، والمعنى : هم الذين يقولون . و ) الْحَافِرَةِ ( ، قال مجاهد : فاعلة بمعنى مفعولة . وقيل : على النسب ، أي ذات حفر ، والمراد القبور ، أي لمردودون أحياء في قبورنا . وقال زيد بن أسلم : الحافرة : النار . وقيل : جمع حافرة بمعنى القدم ، أي أحياء نمشي على أقدامنا ونطأ بها الأرض . وقال ابن عباس : الحياة الثانية هي أول الأمر ، وتقول التجار : النقد في الحافرة ، أي في ابتداء السوم . وقال الشاعر : آليت لا أنساكم فاعلموا
حتى ترد الناس في الحافرة
وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : في الحفرة بغير ألف ؛ والجمهور : بالألف . وقيل : هما بمعنى واحد . وقيل : هي الأرض المنبتة المتغيرة بأجساد موتاها ، من قولهم : حفرت أسنانه إذا تآكلت وتغيرت .
النازعات : ( 11 ) أئذا كنا عظاما . . . . .
وقرأ عمر وأبي وعبد الله وابن الزبير وابن عباس ومسروق ومجاهد والأخوان وأبو بكر : ناخرة بألف ؛ وأبو رجاء والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة والسلمي وابن جبير والنخعي وقتادة وابن وثاب وأيوب وأهل مكة وشبل وباقي السبعة : بغير ألف .
النازعات : ( 12 ) قالوا تلك إذا . . . . .
( قَالُواْ تِلْكَ إِذاً ( : أي الردة إلى الحافرة إن رددنا ، ( كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ( : أي قالوا ذلك لتكذيبهم بالغيب ، أي لو كان هذا حقاً ، لكانت ردتنا خاسرة ، إذ هي إلى النار . وقال الحسن : خاسرة : كاذبة ، أي ليست بكافية ، وهذا القول منهم استهزاء . وروي أن بعض صناديد قريش قال ذلك .
النازعات : ( 13 ) فإنما هي زجرة . . . . .
( فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ( لما تقدم . ) يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ ( : تضمن قولهم استبعاد النشأة الثانية واستضعاف أمرها ، فجاء قوله : ) فَإِنَّمَا ( مراعاة لما دل عليه استبعادهم ، فكأنه قيل : ليس بصعب ما تقولون ، فإنما هي نفخة واحدة ،
النازعات : ( 14 ) فإذا هم بالساهرة
فإذا هم منشورون أحياء على وجه الأرض . قال ابن عباس : الساهرة أرض من فضة يخلقها الله تعالى . وقال وهب بن منبه : جبل بالشام يمده الله تعالى يوم القيامة لحشر الناس . وقال أبو العالية وسفيان : أرض قريبة من بيت المقدس . وقال ابن عباس : أرض مكة . وقال قتادة : جهنم ، لأنه لا نوم لمن فيها . رأى أن الضمائر قبلها إنما هي للكفار ففسرها بجهنم . وقيل : الأرض السابعة يأتي بها الله يحاسب عليها الخلائق .
النازعات : ( 15 ) هل أتاك حديث . . . . .
ولما أنكروا البعث وتمردوا ، شق ذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقص تعالى عليه قصة موسى عليه السلام ، وتمرد فرعون على الله عز وجل حتى ادعى الربوبية ، وما آل إليه حال موسى من النجاة ، وحال فرعون من الهلاك ، فكان ذلك مسلاة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وتبشيراً بهلاك من يكذبه ، ونجاته هو من أذاهم . فقال تعالى : ) هَلُ أَتَاكَ ( ، توقيفاً له على جمع النفس لما يلقيه إليه ،
النازعات : ( 16 ) إذ ناداه ربه . . . . .
وتقدم الكلام في الوادي المقدس ، والخلاف في القراآت في ) طُوًى ).
النازعات : ( 17 ) اذهب إلى فرعون . . . . .
( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ ( : تفسير للنداء ، أو على إضمار القول ،
النازعات : ( 18 ) فقل هل لك . . . . .
( فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ( : لطف في الاستدعاء لأن كل عاقل يجيب مثل هذا السؤال بنعم ، وتزكى : تتحلى بالفضائل وتتطهر من الرذائل ، والزكاة هنا يندرج فيها الإسلام وتوحيد الله تعالى . وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بخلاف تزكى وتصدى ، بشد الزاي والصاد ؛ وباقي السبعة : بخفها . وتقول العرب : هل لك في كذا ، أو هل إلى كذا ؟ فيحذفون القيد الذي تتعلق به إلى ، أي هل لك رغبة أو حاجة إلى كذا ؟ أو سبيل إلى كذا ؟ قال الشاعر : فهل لكم فيها إليّ فإنني
بصير بما أعيا النطاسي حذيما

" صفحة رقم 414 "
النازعات : ( 19 ) وأهديك إلى ربك . . . . .
( وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى ( : هذا تفسير للتزكية ، وهي الهداية إلى توحيد الله تعالى ومعرفته ، ( فَتَخْشَى ( : أي تخافه ، لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة ، ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ). وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر ، وفي الكلام حذف ، أي فذهب وقال له ما أمره به ربه ،
النازعات : ( 20 ) فأراه الآية الكبرى
وأتبع ذلك بالمعجزة الدالة على صدقه . ) فَأَرَاهُ الاْيَةَ الْكُبْرَى ( : وهي العصا واليد ، جعلهما واحدة ، لأن اليد كأنها من جملة العصا لكونها تابعة لها ، أو العصا وحدها لأنها كانت المقدمة ، والأصل واليد تبع لها ، لأنه كان يتقيها بيده . وقيل له ) ادْخُلِ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ ).
النازعات : ( 21 ) فكذب وعصى
) فَكَذَّبَ ( : أي فرعون موسى عليه السلام وما أتى به من المعجز ، وجعل ذلك من باب السحر ، ( وَعَصَى ( الله تعالى بعدما علم صحة ما أتى به موسى ، وإنما أوهم أنه سحر .
النازعات : ( 22 ) ثم أدبر يسعى
) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ( ، قيل : أدبر حقيقة ، أي قام من مكانه فاراً بنفسه . وقال الجمهور : هو كناية عن إعراضه عن الإيمان . ) يَسْعَى ( : يجتهد في مكايدة موسى عليه السلام .
النازعات : ( 23 ) فحشر فنادى
) فَحَشَرَ ( : أي جمع السحرة وأرباب دولته ، ( فَنَادَى ( : أي قام فيهم خطيباً ، أو فنادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه .
النازعات : ( 24 ) فقال أنا ربكم . . . . .
( فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( ، قال ابن عطية : قول فرعون ذلك نهاية في المخرقة ، ونحوها باق في ملوك مصر وأتباعهم . انتهى . وإنما قال ذلك لأن ملك مصر في زمانه كان اسماعيلياً ، وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية ملوكهم ، وكأن أول من ملكها منهم المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله ، ولاهم العاضد وطهر الله مصر من هذا المذهب الملعون بظهورالملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن سادي ، رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام خيراً .
النازعات : ( 25 ) فأخذه الله نكال . . . . .
( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاْخِرَةِ وَالاْوْلَى ( ، قال ابن عباس : الآخرة قوله : ) مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى ( ، والأولى قوله : ) أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ). وقيل العكس ، وكان بين قولتيه أربعون سنة . وقال الحسن وابن زيد : نكال الآخرة بالحرق ، والأولى يعني الدنيا بالغرق . وقال مجاهد : عذاب آخرة حياته وأولادها . وقال أبو زرين : الأولى كفره وعصيانه ، والآخرة قوله : ) أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ). وقال مجاهد عبارة عن أول معاصيه ، وآخرها : أي نكل بالجميع ، وانتصب نكال على المصدر والعامل فيه ) فَأَخَذَهُ ( لأنه في معناه وعلى رأي المبرد : بإضمار فعل من لفظه ، أي نكل نكال ، والنكال بمعنى التنكيل ، كالسلام بمعنى التسليم . وقال الزمخشري : ) نَكَالَ الاْخِرَةِ ( هو مصدر مؤكد ، ك ) وَعَدَ اللَّهُ ( ، و ) صِبْغَةَ اللَّهِ ( ، كأنه قيل : نكل الله به نكال الآخرة والأولى . انتهى . والمصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة يقدر له عامل من معنى الجملة .
النازعات : ( 26 ) إن في ذلك . . . . .
( إِنَّ فِى ذَلِكَ ( : فيما جرى لفرعون وأخذه تلك الأخذ ، ( لَعِبْرَةً ( : لعظة ، ( لّمَن يَخْشَى ( : أي لمن يخاف عقوبة الله يوم القيامة وفي الدنيا .
قوله عز وجل : ) أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاِنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ).
النازعات : ( 27 ) أأنتم أشد خلقا . . . . .
الخطاب الظاهر أنه عام ، والمقصود الكفار منكر والبعث ، وقفهم على قدرته تعالى . ) أَشَدُّ خَلْقاً ( : أي أصعب إنشاء ، ( أَمِ السَّمَاء ( ، فالمسؤول عن هذا يجيب ولا بد السماء ، لما يرى من ديمومة بقائها وعدم تأثيرها .
النازعات : ( 28 ) رفع سمكها فسواها
ثم بين تعالى كيفية خلقها . ) رَفَعَ سَمْكَهَا ( : أي جعل مقدارها بها في العلوّ مديداً رفيعاً مقدار خمسمائة عام ، والسمك : الارتفاع الذي بين سطح السماء التي تليها وسطحها الأعلى الذي يلى ما فوقها ، ( فَسَوَّاهَا ( : أي جعلها ملساء مستوية ، ليس فيها مرتفع ولا منخفض ، أو تممها وأتقن إنشاءها بحيث أنها محكمة الصنعة .
النازعات : ( 29 ) وأغطش ليلها وأخرج . . . . .
( وَأَغْطَشَ ( : أي أظلم ، ( لَيْلَهَا ). ) وَأَخْرَجَ ( : أبرز ضوء شمسها ، كقوله تعالى : ) وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( ، وقولهم : وقت الضحى : الوقت الذي تشرق فيه الشمس . وأضيف الليل والضحى إلى السماء ، لأن الليل ظلها ، والضحى هو نور سراجها .
النازعات : ( 30 - 33 ) والأرض بعد ذلك . . . . .
( وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ ( : أي بعد خلق السماء وما فعل فيها ، ( دَحَاهَا ( :

" صفحة رقم 415 "
أي بسطها ، فخلق الأرض ثم السماء ثم دحا الأرض . وقرأ الجمهور : ) والاْرْضِ ( ، ( وَالْجِبَالَ ( بنصبهما ؛ والحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال : برفعهما ؛ وعيسى : برفع الأرض . وأضيف الماء والمرعى إلى الأرض لأنهما يظهران منها . والجمهور : ) مَّتَاعًا ( بالنصب ، أي فعل ذلك تمتيعاً لكم ؛ وابن أبي عبلة : بالرفع ، أي ذلك متاع . وقال الزمخشري : فإن قلت : فهلا أدخل حرف العطف على أخرج ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون معنى ) دَحَاهَا ( : بسطها ومهدها للسكنى ، ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكل والمشرب وإمكان القرار عليها . والثاني : أن يكون أخرج حالاً بإضمار قد ، كقوله : ) أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ). انتهى . وإضمار قد قول للبصريين ومذهب الكوفيين . والأخفش : أن الماضي يقع حالاً ، ولا يحتاج إلى إضمار قد ، وهو الصحيح . ففي كلام العرب وقع ذلك كثيراً . انتهى . ) وَمَرْعَاهَا ( : مفعل من الرعي ، فيكون مكاناً وزماناً ومصدراً ، وهو هنا مصدر يراد به اسم المفعول ، كأنه قيل : ومرعيها : أي النبات الذي يرعى . وقدم الماء على المرعى لأنه سبب في وجود المرعى ، وشمل ) وَمَرْعَاهَا ( ما يتقوت به الآدمي والحيوان غيره ، فهو في حق الآدمي استعارة ، ولهذا قيل : دل الله سبحانه وتعالى بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض حتى الملح ، لأنه من الماء .
النازعات : ( 34 ) فإذا جاءت الطامة . . . . .
( فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ ( ، قال ابن عباس والضحاك : القيامة . وقال ابن عباس أيضاً والحسن : النفخة الثانية .
النازعات : ( 35 ) يوم يتذكر الإنسان . . . . .
وقال القاسم : وقت سوق أهل الجنة إليها ، وأهل النار إليها ، وهو معنى قول مجاهد . ) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى ( : أي عمله الذي كان سعى فيه في الدنيا .
النازعات : ( 36 - 37 ) وبرزت الجحيم لمن . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَبُرّزَتِ ( مبني للمفعول مشدد الراء ، ( لِمَن يَرَى ( بياء الغيبة : أي لكل أحد ، فيشكر المؤمن نعمة الله . وقيل : ) لِمَن يَرَى ( هو الكافر ؛ وعائشة وزيد بن علي وعكرمة ومالك بن دينار : مبنياً للفاعل مخففاً وبتاء ، يجوز أن يكون خطاباً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي لمن ترى من أهلها ، وأن يكون إخبار عن الجحيم ، فهي تاء التأنيث . قال تعالى : ) إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ). وقال أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن أبي عمرو : وبرزت مبنياً ومخففاً ، و ) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ( : بدل من ) فَإِذَا ( ؛ وجواب إذا ، قال الزمخشري : فإن الأمر كذلك . وقيل : عاينوا وعلموا . ويحتمل أن يكون التقدير : انقسم الراؤون قسمين ، والأولى أن يكون الجواب : فأما وما بعده ، كما تقول : إذا جاءك بنو تميم ، فأما العاصي فأهنه ، وأما الطائع فأكرمه .
( طَغَى ( : تجاوز الحد في عصيانه ،
النازعات : ( 38 - 39 ) وآثر الحياة الدنيا
) وَءاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ( على الآخرة ، وهي مبتدأ أو فصل . والعائد على من من الخبر محذوف على رأي البصريين ، أي المأوى له ، وحسن حذفه وقوع المأوى فاصلة . وأما الكوفيون فمذهبهم أن أل عوض من الضمير . وقال الزمخشري : والمعنى فإن الجحيم مأواه ، كما تقول للرجل : غض الطرف ، تريد طرفك ؛ وليس الألف واللام بدلاً من الإضافة ، ولكن لما علم أن الطاغي هو صاحب المأوى ، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره ، تركت الإضافة . ودخول حرف التعريف في المأوى ، والطرف للتحريف لأنهما معرفان . انتهى . وهو كلام لا يتحصل منه الرابط العائد على المبتدأ ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين ، ولم يقدر ضميراً محذوفاً ، كما قدره البصريون ، فرام حصول الربط بلا رابط .
النازعات : ( 40 ) وأما من خاف . . . . .
( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ ( : أي مقاماً بين يدي ربه يوم القيامة للجزاء ؛ وفي إضافة المقام إلى الرب تفخيم للمقام وتهويل عظيم واقع من النفوس موقعاً عظيماً . قال ابن عباس : خافه عندما هم بالمعصية فانتهى عنها . ) وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ( : أي عن شهوات النفس ، وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بمحمود . قال سهل : لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين . وقال بعض الحكماء : إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه . وقال عمران الميرتليّ : فخالف هواها واعصها إن من يطع
هوى نفسه تنزع به كل منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده وترم به في مصرع أي مصرع
وقال الفضيل : أفضل الأعمال خلاف الهوى ، وهذا التفضيل هو عام في أهل الجنة وأهل النار . وعن ابن عباس

" صفحة رقم 416 "
نزل ذلك في أبي جهل ومصعب بن عمير العبدري ، رضي الله تعالى عنه . وعنه أيضاً : ) فَأَمَّا مَن طَغَى ( ، فهو أخ لمصعب بن عمير ، أسر فلم يشدوا وثاقه ، وأكرموه وبيتوه عندهم ؛ فلما أصبحوا حدثوا مصعباً ، فقال : ما هو لي بأخ ، شدوا أسيركم ، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً فأوثقوه . ) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ ( فمصعب بن عمير ، وقى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بنفسه يوم أُحد حين تفرّق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه ، وهي السهام . فلما رآه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) متشحطاً في دمه قال : ( عند الله أحتسبك ) ، وقال لأصحابه : ( لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما ، وإن شراك نعله من ذهب ) . قيل : واسم أخيه عامر . وفي الكشاف ، وقيل : الآيتان نزلتا في أبي عزير بن عمير ومصعب بن عمير ، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزير يوم أُحد ، ووقى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه . انتهى .
النازعات : ( 42 - 44 ) يسألونك عن الساعة . . . . .
( يَسْأَلُونَكَ ( : أي قريش ، وكانوا يلحون في البحث عن وقت الساعة ، إذ كان يتوعدهم بها ويكثر من ذلك ، فنزلت هذه الآية . ) أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( : متى إقامتها ؟ أي متى يقيهما الله ويثبتها ويكونها ؟ وقيل : أيان منتهاها ومستقرها ؟ كما أن مرسى السفينة ومستقرها حيث تنتهي إليه . ) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ( ، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يسأل عن الساعة كثيراً ، فلما نزلت هذه الآية . انتهى . والمعنى : في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها ؟ أي لست من ذلك في شيء ، ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ ). ) إِلَى رَبّكَ مُنتَهَاهَا ( : أي انتهاء علم وقتها ، لم يؤت علم ذلك أحداً من خلقه . وقيل : ) فِيمَ ( إنكار لسؤالهم ، أي فيم هذا السؤال ؟ ثم قال : ) أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ( ، وعلامة من علاماتها ، فكفاهم بذلك دليلاً على دنوها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها ، ولا معنى لسؤالهم عنها .
( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( : أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة الذي لا فائدة لهم في علمه ، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون إنذارك لطفاً به في الخشية منها . انتهى . وهذا القول حكاه الزمخشري وزمكه بكثرة ألفاظه ، وهو تفكيك للكلام وخروج عن الظاهر المتبادر إلى الفهم ، ولم يخله من دسيسة الاعتزال .
النازعات : ( 45 ) إنما أنت منذر . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مُنذِرُ مَن ( بالإضافة . وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وأبو عمر في رواية وابن مقسم : منذر بالتنوين . وقال الزمخشري : وقرىء منذرر بالتنوين ، وهو الأصل والإضافة تخفيف ، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال ؛ فإذا أريد الماضي ، فليس إلا الإضافة ، كقولك : هو منذر زيد أمس . انتهى . أما قوله : وهو الأصل ، يعني التنوين ، فهو قول قد قاله غيره ممن تقدم . وقد قررنا في هذا الكتاب ، وفيما كتبناه في هذا العلم أن الأصل الإضافة ، لأن العمل إنما هو بالشبه ، والإضافة هي أصل في الأسماء . وأما قوله : فإذا أريد الماضي ، فليس إلا الإضافة ، فهذا فيه تفصيل وخلاف مذكور في علم النحو . وخص ) مَن يَخْشَاهَا ( لأنه هو المنتفع بالإنذار .
النازعات : ( 46 ) كأنهم يوم يرونها . . . . .
( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا ( : تقريب وتقرير لقصر مقامهم في الدنيا . ) لَمْ ( : لم يقيموا في الدنيا ، ( يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً ( : يوم أو بكرته ، وأضاف الضحى إلى العشية لكونها طرفي النهار . بدأ بذكر أحدهما ، فأضاف الآخر إليه تجوّزاً واتساعاً ، وحسن الإضافة كون الكلمة فاصلة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

" صفحة رقم 417 "
80
( سورة عبس )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَآءَهُ الاٌّ عْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ( ط ) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الاٌّ رْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ( )
عبس : ( 1 - 2 ) عبس وتولى
تصدّى : تعرّض ، قال الراعي : تصدى لو ضاح كأن جبينه
سراج الدجى يجيء إليه الأساور
وأصله : تصدّد من الصدد ، وهو ما استقبلك وصار قبالتك ، يقال : داري صدد داره : أي قبالتها . وقيل : من الصدى ، وهو العطش . وقيل : من الصدى ، وهو الصوت الذي تسمعه إذا تكلمت من بعد في خلاء كالجبل ، والمصاداة : المعارضة . السفرة : الكتبة ، الواحد سافر ، وسفرت المرأة : كشفت النقاب ، وسفرت بين القوم أسفر سفارة : أصلحت بينهم ، قاله الفراء ، الواحد سفير ، والجمع سفراء . قال الشاعر : فما أدع السفارة بين قومي
وما أسعى بغش إن مشيت

" صفحة رقم 418 "
القضب ، قال الخليل ، الفصفصة الرطبة ، ويقال بالسين ، فإذا يبست فهي القت . قال : والقضب اسم يقع على ما يقع من أغصان الشجرة ليتخذ منها سهام أو قسي . الغلب جمع غلباء ، يقال : حديقة غلباء : غليظة الشجر ملتفة ، واغلولب العشب : بلغ والتف بعضه ببعض ، ورجل أغلب : غليظ الرقبة ، والأصل في هذا الوصف استعماله في الرقاب ، ومنه قول عمرو بن معدي كرب : يسعى بها غلب الرقاب كأنهم
بزل كسين من الشعور جلالا
الأبّ : المرعى لأنه يؤبّ ، أي يؤم وينتجع ، والأبّ والأم أخوان . قال الشاعر : جذمنا قيس ونجد دارنا
ولنا الأبّ به والمكرع
وقيل : ما يأكله الآدميون من النبات يسمى الحصيد ، وما أكله غيرهم يسمى الأب ، ومنه قول الصحابة يمدح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : له دعوة ميمونة ريحها الصبا
بها ينبت الله الحصيدة والأبا
الصاخة ، قال الخليل : صيحة تصخ الآذان صخاً ، أي تصمها لشدة وقعتها . وقيل : مأخوذة من صخه بالحجر إذا صكه . وقال الزمخشري : أصاخ لحديثه مثل أصاخ له . الغبرة : الغبار . القترة : سواد كالدخان . وقال أبو عبيدة : القتر في كلام العرب : الغبار ، جمع القترة . وقال الفرزدق : متوّج برداء الملك يتبعه
فوج ترى فوقه الرايات والقترا
) عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الاْعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الاْرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاِنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ).
هذه السورة مكية . وسبب نزولها مجيء ابن أم مكتوم إليه / ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقد ذكر أهل الحديث وأهل التفسير قصته . ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر ) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( ، ذكر في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه الإنذار ، وهم الذين كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يناجيهم في أمر الإسلام : عتبة بن ربيعة وأبو جهل وأبي وأمية ، ويدعوهم إليه .
( أَن جَاءهُ ( : مفعول من أجله ، أي لأن جاءه ، ويتعلق بتولى على مختار البصريين في الأعمال ، وبعبس على مختار أهل الكوفة . وقرأ الجمهور ؛ ) عَبَسَ ( مخففاً ، ( ءانٍ ( بهمزة واحدة ؛ وزيد بن علي : بشد الباء ؛ وهو

" صفحة رقم 419 "
والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى : أآن بهمزة ومدة بعدها ؛ وبعض القراء : بهمزتين محققتين ، والهمزة في هاتين القراءتين للاستفهام ، وفيهما يقف على تولى . والمعنى : ألأن جاءه كاد كذا . وجاء بضمير الغائب في ) عَبَسَ وَتَوَلَّى ( إجلالاً له عليه الصلاة والسلام ، ولطفاً به أن يخاطبه لما في المشافهة بتاء الخطاب مما لا يخفى . وجاء لفظ ) الاْعْمَى ( إشعاراً بما يناسب من الرفق به والصغو لما يقصده ، ولابن عطية هنا كلام أضربت عنه صفحاً .
عبس : ( 3 - 4 ) وما يدريك لعله . . . . .
والضمير في ) لَعَلَّهُ ( عائد على ) الاْعْمَى ( ، أي يتطهر بما يتلقن من العلم ، أو ) يُذْكَرِ ( : أي يتعظ ، ( فَتَنفَعَهُ ( ذكراك ، أي موعظتك . والظاهر مصب ) يُدْرِيكَ ( على جملة الترجي ، فالمعنى : لا تدري ما هو مترجى منه من تزك أو تذكر . وقيل : المعنى وما يطلعك على أمره وعقبى حاله .
ثم ابتدأ القول : ) لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ( : أي تنمو بركته ويتطهر لله . وقال الزمخشري : وقيل : الضمير في ) لَعَلَّهُ ( للكافر ، يعني أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام ، أو يذكر فتقر به الذكرى إلى قبول الحق ، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن . انتهى . وهذا قول ينزه عنه حمل القرآن عليه . وقرأ الجمهور : ) أَوْ يَذَّكَّرُ ( بشد الذال والكاف ، وأصله يتذكر فأدغم ؛ والأعرج وعاصم في رواية : أو يذكر ، بسكون الذال وضم الكاف . وقرأ الجمهور : ) فَتَنفَعَهُ ( ، برفع العين عطفاً على ) أَوْ يَذَّكَّرُ ( ؛ وعاصم في المشهور ، والأعرج وأبو حيوة أبي عبلة والزعفراني : بنصبهما . قال ابن عطية : في جواب التمني ، لأن قوله : ) أَوْ يَذَّكَّرُ ( في حكم قوله ) لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ). انتهى . وهذا ليس تمنياً ، إنما هو ترج وفرق بين الترجي والتمني . وقال الزمخشري : وبالنصب جواباً للعل ، كقوله : ) فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى ). انتهى . والترجي عند البصريين لا جواب له ، فينصب بإضمار أن بعد الفاء . وأما الكوفيون فيقولون : ينصب في جواب الترجي ، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك في قوله : ) فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى ( في قراءة حفص ، ووجهنا مذهب البصريين في نصب المضارع .
عبس : ( 5 ) أما من استغنى
) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ( : ظاهره من كان ذا ثروة وغنى . وقال الكلبي : عن الله . وقيل : عن الإيمان بالله . قيل : وكونه بمعنى الثروة لا يليق بمنصب النبوة ، ويدل على ذلك أنه لو كان من الثروة لكان المقابل : وأما من جاءك فقيراً حقيراً .
عبس : ( 6 ) فأنت له تصدى
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والأعرج وعيسى والأعمش وجمهور السبعة : ) تَصَدَّى ( بخف الصاد ، وأصله يتصدى فحذف ؛ والحرميان : بشدها ، أدغم التاء في الصاد ؛ وأبو جعفر : تصدى ، بضم التاء وتخفيف الصاد ، أي يصدك حرصك على إسلامه . يقال : تصدى الرجل وصديته ، وهذا المستغنى هو الوليد ، أو أمية ، أو عتبة وشيبة ، أو أمية وجميع المذكورين في سبب النزول ، أقوال . قال القرطبي : وهذا كله غلط من المفسرين ، لأنه أمية والوليد كانا بمكة ، وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما ، وماتا كافرين ، أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر ، ولم يقصد قط أمية المدينة ، ولا حضر معه مفرداً ولا مع أحد . انتهى . والغلط من القرطبي ، كيف ينفي حضور ابن أم مكتوم معهما ؟ وهو وهم منه ، وكلهم من قريش ، وكان ابن أم مكتوم بها : والسورة كلها مكية بالإجماع . وكيف يقول : وابن أم مكتوم بالمدينة ؟ كان أولاً بمكة ، ثم هاجر إلى المدينة ، وكانوا جميعهم بمكة حين نزول هذه الآية . وابن أم مكتوم هو عبد الله بن سرح بن مالك بن ربيعة الفهري ، من بني عامر بن لؤي ، وأم مكتوم أم أبيه عاتكة ، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها .
عبس : ( 7 ) وما عليك ألا . . . . .
( وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ( : تحقير لأمر الكافر وحض على الإعراض عنه وترك الاهتمام به ، أي : وأي شيء عليك في كونه لا يفلح ولا يتطهر من دنس الكفر ؟
عبس : ( 8 ) وأما من جاءك . . . . .
( وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى ( : أي يمشي بسرعة في أمر دينه ،
عبس : ( 9 ) وهو يخشى
) وَهُوَ يخشى ( : أي يخاف الله ، أو يخاف الكفار وأذاهم ، أو يخاف العثار والسقوط لكونه أعمى ، وقد جاء بلا قائد يقوده .
عبس : ( 10 ) فأنت عنه تلهى
) تَلَهَّى ( : تشتغل ، يقال : لها عن الشيء يلهى ، إذا اشتغل عنه . قيل : وليس من اللهو الذي هو من ذوات الواو . انتهى . ويمكن أن يكون منه ، لأن ما يبنى على فعل من ذوات الواو وتنقلب واوه ياء لكسرة ما قبلها ، نحو : شقي يشقى ، فإن كان مصدره جاء بالياء ، فيكون من مادة غير مادة اللهو . وقرأ الجمهور : ) تَلَهَّى ( ؛ والبزي عن ابن كثير : عنه وتلهى ، بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل ؛ وأبو جعفر : بضمها مبنياً للمفعول ، أي يشغلك دعاء الكافر للإسلام ؛ وطلحة : بتاءين ؛ وعنه بتاء واحدة وسكون اللام .
عبس : ( 11 ) كلا إنها تذكرة
) كَلاَّ إِنَّهَا ( : أي سورة القرآن والآيات ، ( تَذْكِرَةٌ ( : عظة ينتفع بها .
عبس : ( 12 ) فمن شاء ذكره
) فَمَن شَاء

" صفحة رقم 420 "
ذَكَرَهُ ( : أي فمن شاء أن يذكر هذه الموعظة ذكره ، أتى بالضمير مذكراً لأن التذكرة هي الذكر ، وهي جملة معترضة تتضمن الوعد والوعيد ، ( فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً ( ، واعترضت بين تذكرة وبين صفته ، أي تذكرة : كائنة .
عبس : ( 13 ) في صحف مكرمة
) فَى صُحُفٍ ( ، قيل : اللوح المحفوظ ، وقيل : صحف الأولياء المنزلة ، وقيل : صحف المسلمين ، فيكون إخباراً بمغيب ، إذ لم يكتب القرآن في صحف زمان ، كونه عليه السلام بمكة ينزل عليه القرآن ، مكرمة عند الله ،
عبس : ( 14 - 15 ) مرفوعة مطهرة
ومرفوعة في السماء السابعة ، قاله يحيى بن سلام ، أو مرفوعة عن الشبه والتناقض ، أو مرفوعة المقدار . ) مُّطَهَّرَةٍ ( : أي منزهة عن كل دنس ، قاله الحسن . وقال أيضاً : مطهرة من أن تنزل على المشركين . وقال الزمخشري : منزهة عن أيدي الشياطين ، لا تمسها إلا أيدي ملائكة مطهرة . ) سَفَرَةٍ ( : كتبة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ . انتهى . ) بِأَيْدِى سَفَرَةٍ ( ، قال ابن عباس : هم الملائكة لأنهم كتبة . وقال أيضاً : لأنهم يسفرون بين الله تعالى وأنبيائه . وقال قتادة : هم القراء ، وواحد السفرة سافر . وقال وهب : هم الصحابة ، لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعليم والعلم .
عبس : ( 17 ) قتل الإنسان ما . . . . .
( قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( ، قيل : نزلت في عتبة بن أبي لهب ، غاضب أباه فأسلم ، ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالاً وجهزه إلى الشام ، فبعث إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه كافر برب النجم إذا هوى . وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( اللهم ابعث عليه كلبك يأكله ) . فلما انتهى إلى الغاضرة ذكر الدعاء ، فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حياً ، فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله . فأقبل الأسد إلى الرجال ووثب ، فإذا هو فوقه فمزقه ، فكان أبوه يندبه ويبكي عليه ، وقال : ما قال محمد شيئاً قط إلا كان ، والآية ، وإن نزلت في مخصوص ، فالإنسان يراد به الكافر . وقتل دعاء عليه ، والقتل أعظم شدائد الدنيا . ) مَا أَكْفَرَهُ ( ، الظاهر أنه تعجب من إفراط كفره ، والتعجب بالنسبة للمخلوقين ، إذ هو مستحيل في حق الله تعالى ، أي هو ممن يقال فيه ما أكفره . وقيل : ما استفهام توقيف ، أي : أي شيء أكفره ؟ أي جعله كافراً ، بمعنى لأي شيء يسوغ له أن يكفر .
عبس : ( 18 ) من أي شيء . . . . .
( مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ ( : استفهام على معنى التقرير على حقارة ما خلق منه .
عبس : ( 19 ) من نطفة خلقه . . . . .
ثم بين ذلك الشيء الذي خلق منه فقال : ) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ( : أي فهيأه لما يصلح له . وقال ابن عباس : أي في بطن أمه ، وعنه قدر أعضاءه ، وحسناً ودميماً وقصيراً وطويلاً وشقياً وسعيداً . وقيل : من حال إلى حال ، نطفة ثم علقة ، إلى أن تم خلقه .
عبس : ( 20 ) ثم السبيل يسره
) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ( : أي ثم يسر السبيل ، أي سهل . قال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي : سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان ، وتيسيره له هو هبة العقل . وقال مجاهد والحسن وعطاء وابن عباس في رواية أبي صالح عنه : السبيل العام اسم الجنس في هدى وضلال ، أي يسر قوماً لهذا ، كقوله : ) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ( الآية ، وقوله تعالى : ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( ؛ وعن ابن عباس : يسره للخروج من بطن أمه .
عبس : ( 21 ) ثم أماته فأقبره
) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ( : أي جعل له قبراً صيانة لجسده أن يأكله الطير والسباع . قبره : ذفنه ، وأقبره : صيره بحيث يقبر وجعل له قبراً ، والقابر : الدافن بيده . قال الأعشى : لو أسندت ميتاً إلى قبرها
عاش ولم ينقل إلى قابر
عبس : ( 22 ) ثم إذا شاء . . . . .
( ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ ( : أي إذا أراد إنشاره أنشره ، والمعنى : إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه الله ، وهو يوم القيامة . وفي كتاب اللوامح شعيب بن الحبحاب : شاء نشره ، بغير همز قبل النون ، وهما لغتان في الأحياء ؛ وفي كتاب ابن عطية : وقرأ شعيب بن أبي حمزة : شاء نشره .
عبس : ( 23 ) كلا لما يقض . . . . .
( كَلاَّ ( : ردع للإنسان عن ما هو فيه من الكفر والطغيان . ) لَمَّا يَقْضِ ( : يفي من أول مدة تكليفه إلى حين إقباره ، ( مَا أَمَرَهُ ( به الله تعالى ، فالضمير في يقض للإنسان . وقال ابن فورك : لله تعالى ، أي لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان ، بل أمره بما لم يقض له .
عبس : ( 24 ) فلينظر الإنسان إلى . . . . .
ولما عدّد تعالى نعمه في نفس الإنسان ، ذكر النعم فيما به قوام حياته ، وأمره بالنظر إلى طعامه وكيفيات الأحوال التي اعتورت على طعامه حتى صار بصدد أن يطعم . والظاهر أن الطعام هو المطعوم ، وكيف ييسره الله تعالى بهذه الوسائط المذكورة من صب الماء وشق الأرض والإنبات ، وهذا قول الجمهور . وقال أبيّ وابن

" صفحة رقم 421 "
عباس ومجاهد والحسن وغيرهم : ) إِلَى طَعَامِهِ ( : أي إذا صار رجيعاً ليتأمل عاقبة الدنيا على أي شيء يتفانى أهلها .
عبس : ( 25 ) أنا صببنا الماء . . . . .
وقرأ الجمهور : إنا بكسر الهمزة ؛ والأعرج وابن وثاب والأعمش والكوفيون ورويس : ) أَنَاْ ( بفتح الهمزة ؛ والحسين بن عليّ رضي الله تعالى عنهما : أني بفتح الهمزة مما لا ؛ فالكسر على الاستئناف في ذكر تعداد الوصول إلى الطعام ، والفتح قالوا على البدل ، ورده قوم ، لأن الثاني ليس الأول . قيل : وليس كما ردوا لأن المعنى : فلينظر الإنسان إلى إنعامنا في طعامه ، فترتب البدل وصح . انتهى . كأنهم جعلوه بدل كل من كل ، والذي يظهر أنه بدل الاشتمال . وقراءة أبي ممالا على معنى : فلينظر الإنسان كيف صببنا . وأسند تعالى الصب والشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب ، وصب الماء هو المطر .
عبس : ( 26 ) ثم شققنا الأرض . . . . .
والظاهر أن الشق كناية عن شق الفلاح بما جرت العادة أن يشق به . وقيل : شق الأرض هو بالنبات .
عبس : ( 27 ) فأنبتنا فيها حبا
) حَبّاً ( : يشمل ما يسمى حباً من حنطة وشعير وذرة وسلت وعدس وغير ذلك .
عبس : ( 28 ) وعنبا وقضبا
) وَقَضْباً ( ، قال الحسن : العلف ، وأهل مكة يسمون القت القضب . وقيل : الفصفصة ، وضعف لأنه داخل في الأب . وقيل : ما يقضب ليأكله ابن آدم غضاً من النبات ، كالبقول والهليون . وقال ابن عباس : هو الرطب ، لأنه يقضب من النخل ، ولأنه ذكر العنب قبله .
عبس : ( 30 ) وحدائق غلبا
) غُلْباً ( ، قال ابن عباس : غلاظاً ، وعنه : طوالاً ؛ وعن قتادة وابن زيد : كراماً ؛
عبس : ( 31 ) وفاكهة وأبا
) وَفَاكِهَةٍ ( : ما يأكله الناس من ثمر الشجر ، كالخوخ والتين ؛ ) وَأَبّاً ( : ما تأكله البهائم من العشب . وقال الضحاك : التبن خاصة . وقال الكلبي : كل نبات سوى الفاكهة رطبها ، والأب : يابسها .
عبس : ( 33 ) فإذا جاءت الصاخة
) الصَّاخَّةُ ( : اسم من أسماء القيامة يصم نبأها الآذان ، تقول العرب : صختهم الصاخة ونابتهم النائبة ، أي الداهية . وقال أبو بكر بن العربي : الصاخة هي التي تورث الصمم ، وأنها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة ، كقوله : أصمهم سرّهم أيام فرقتهم
فهل سمعتم بسرّ يورث الصمما
وقول الآخر :
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا
ولعمر الله إن صيحة القيامة مسمعه تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة . انتهى .
عبس : ( 34 ) يوم يفر المرء . . . . .
( يَوْمَ يَفِرُّ ( : بدل من إذا ، وجواب إذا محذوف تقديره : اشتغل كل إنسان بنفسه ، يدل عليه :
عبس : ( 37 ) لكل امرئ منهم . . . . .
( لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( ، وفراره من شدّة الهول يوم القيامة ، كما جاء من قول الرسل : ( نفسي نفسي ) . وقيل : خوف التبعات ، لأن الملابسة تقتضي المطالبة . يقول الأخ : لم تواسني بمالك ، والأبوان قصرت في برنا ، والصحابة أطمتني الحرام وفعلت وصنعت ، والبنون لم تعلمنا وترشدنا . وقرأ الجمهور : ) يُغْنِيهِ ( : أي عن النظر في شأن الآخر من الإغناء ؛ والزهري وابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السميقع : يعنيه بفتح الياء والعين المهملة ، من قولهم : عناني الأمر : قصدني .
عبس : ( 38 ) وجوه يومئذ مسفرة
) مُّسْفِرَةٌ ( : مضيئة ، من أسفر الصبح : أضاء ،
عبس : ( 40 - 41 ) ووجوه يومئذ عليها . . . . .
و ) تَرْهَقُهَا ( : تغشاها ، ( قَتَرَةٌ ( : أي غبار . والأولى ما يغشاه من العبوس عند الهم ، والثانية من غبار الأرض . وقيل : ) غَبَرَةٌ ( : أي من تراب الأرض ، وقترة : سواد كالدخان . وقال زيد بن أسلم : الغبرة : ما انحطت إلى الأرض ، والقترة : ما ارتفعت إلى السماء . وقرأ الجمهور : قترة ، بفتح التاء ؛ وابن أبي عبلة : بإسكانها .

" صفحة رقم 422 "
81
( سورة التكوير )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالاٍّ فُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ فَأيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ) ) 2
التكوير : ( 1 ) إذا الشمس كورت
انكدرت النجوم : انتثرت . وقال أبو عبيدة : انصبت كما تنصب القعاب إذا كسرت . قال العجاج يصف صقراً : أبصر حرمات فلاة فانكدر
تقصي البازي إذا البازي كسر
العشار جمع عشراء ، وهي الناقة التي مر لحملها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع في تمام السنة . التعطيل : التفريغ والإهمال . الوحش : حيوان البر الذي ليس في طبعه التآنس ببني آدم . الموءودة : البنت التي تدفن حية : وأصله من النقل ، كأنها تنقل من التراب حتى تموت ، ومنه اتئد : أي توقر وأثقل ولا تخف . الكشط : التقشير ، كشطت جلد الشاة : سلخته عنها . الخنس جمع خانس ، والخنوس : الانقباض والاستخفاء . تقول خنس بين القوم وانخنس . الكنس جمع كانس وكانسه ، يقال : كنس إذا دخل الكناس ، وهو المكان الذي تأوي إليه الظباء . والخنس : تأخر الأنف عن الشفة مع ارتفاع قليل من الأرنبة . عسعس ، قال الفراء : عسعس الليل وعسس ، إذا لم يبق منه القليل . وقال الخليل : عسعس الليل : أقبل وأدبر . قال المبرد : هو من الأضداد . وقال علقمة بن قرط : حتى إذا الصبح لها تنفسا
وانجاب عنها ليلها وعسعسا

" صفحة رقم 423 "
وقال رؤبة : يا هند ما أسرع ما تعسعسا
من بعدما كان فتى فرعرعا
التنفس : خروج النسيم من الجوف ، واستعير للصبح ومعناه : امتداده حتى يصير نهاراً واضحاً . الظنين : المتهم ، فعيل بمعنى مفعول ، ظننت الرجل : اتهمته ، والظنين : البخيل ، قال الشاعر : أجود بمكنون الحديث وإنني
بسرّك عن ما سألتني لضنين
) إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَءاهُ بِالاْفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ فَأيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها في غاية الظهور . وتكوير الشمس ، قال ابن عباس : إدخالها في العرش . وقال مجاهد وقتادة والحسن : ذهاب ضوئها . وقال الربيع بن خثيم : رمى بها ، ومنه : كورته فتكوّر . وقال أبو صالح : نكست ؛ وعن ابن عباس أيضاً : أظلمت ؛ وعن مجاهد : اضمحلت . وقيل : غوّرت ؛ وقيل : يلف بعضها ببعض ويرمى بها في البحر . وقال أبو عبيدة : كورت مثل تكوير العمامة . وقال القرطبي : من كار العمامة على رأسه يكورها ، أي لأنها وجمعها ، فهي تكور ، ثم يمحي ضوءها ، ثم يرمي بها . وقال الزمخشري : فإن قلت : ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية ؟ قلت : بل على الفاعلية ، رافعها فعل مضمر يفسره ) كُوّرَتْ ( ، لأن إذا يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط . انتهى . ومن طريقته أنه يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً ، ولا مشاحة في الاصطلاح . وليس ما ذكر من الإعراب مجمعاً على تحتمه عند النحاة ، بل يجوز رفع الشمس على الابتداء عند الأخفش والكوفيين ، لأنهم يجيزون أن تجيء الجملة الاسمية بعد إذا ، نحو : إذا زيد يكرمك فأكرمه .
التكوير : ( 2 ) وإذا النجوم انكدرت
) انكَدَرَتْ ( ، عن ابن عباس : تساقطت ؛ وعنه أيضاً : تغيرت فلم يبق لها ضوء لزوالها عن أماكنها ، من قولهم : ماء كدر : أي متغير .
التكوير : ( 3 ) وإذا الجبال سيرت
وتسيير الجبال : أي عن وجه الأرض ، أو سيرت في الجو تسيير السحاب ، كقوله : ) وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ( ، وهذا قبل نسفها ، وذلك في أول هول يوم القيامة .
التكوير : ( 4 ) وإذا العشار عطلت
والعشار : أنفس ما عند العرب من المال ، وتعطيلها : تركها مسيبة مهملة ، أو عن الحلب لاشتغالهم بأنفسهم ، أو عن أن يحمل عنها الفحول ؛ وأطلق عليها عشاراً باعتبار ما سبق لها ذلك . قال القرطبي : وهذا على وجه المثل ، لأنه في القيامة لا يكون عشراء ، فالمعنى : أنه لو كان عشراء لعطلها أهلها واشتغلوا بأنفسهم . وقيل : إذا قاموا من القبور شاهدوا الوحوش والدواب محشورة وعشارهم فيها التي كانت كرائم أموالهم ، لم يعبؤا بها لشغلهم بأنفسهم . وقيل : العشار : السحاب ، وتعطيلها من الماء فلا تمطر . والعرب تسمي السحاب بالحامل . وقيل : العشار : الديار تعطل فلا تسكن . وقيل : العشار : الأرض التي يعشر زرعها ، تعطل فلا تزرع .
وقرأ الجمهور : ) عُطّلَتْ ( بتشديد الطاء ؛ ومضر عن اليزيدي : بتخفيفها ، كذا في كتاب ابن خالويه ، وفي كتاب اللوامح عن ابن كثير ، قال في اللوامح ، وقيل : هو وهم إنما هو عطلت بفتحتين بمعنى تعطلت ، لأن التشديد فيه التعدي ، يقال : منه عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه ، وعطلت المرأة فهي عاطل إذا لم يكن عليها الحلى ، فلعل هذه القراءة عن ابن كثير لغة استوى فيها فعلت وأفعلت ، والله أعلم . انتهى . وقال امرؤ القيس :

" صفحة رقم 424 "
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش
إذا هي نصته ولا بمعطل
التكوير : ( 5 ) وإذا الوحوش حشرت
) حُشِرَتْ ( : أي جمعت من كل ناحية . فقال ابن عباس : جمعت بالموت ، فلا تبعث ولا يحضر في القيامة غير الثقلين . وعنه وعن قتادة وجماعة : يحشر كل شيء حتى الذباب . وعنه : تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها لبعض ، ثم يقتص للجماء من القرناء ، ثم يقال لها موتي فتموت . وقيل : إذا قضى بينها ردت تراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته ، كالطاووس ونحوه . وقال أبيّ : في الدنيا في أول الهول تفر في الأرض وتجتمع إلى بني آدم تآنساً بهم . وقرأ الجمهور : ) حُشِرَتْ ( بخف الشين ؛ والحسن وعمرو بن ميمون : بشدها .
التكوير : ( 6 ) وإذا البحار سجرت
) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ ( : تقدم أقوال العلماء في سجر البحر في الطور ، والبحر المسجور ، وفي كتاب لغات القراآت ، سجرت : جمعت ، بلغة خثعم . وقال هنا ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : ملكت وقيد اضطرابها حتى لا تخرج على الأرض من الهول ، فتكون اللفظة مأخوذة من ساجور الكلب . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بخف الجيم ؛ وباقي السبعة : بشدها .
قال ابن عطية : وذهب قوم إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن آدم وأحواله عند الموت . فالشمس نفسه ، والنجوم عيناه وحواسه ، وهذا قول ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب الله تعالى . انتهى . وهذا مذهب الباطنية ، ومذاهب من ينتمي إلى الإسلام من غلاة الصوفية ، وقد أشرنا إليهم في خطبة هذا الكتاب ؛ وإنما هؤلاء زنادقة تستروا بالانتماء إلى ملة الإسلام . وكتاب الله جاء بلسان عربي مبين ، لا رمز فيه ولا لغز ولا باطن ، ولا إيماء لشيء مما تنتحله الفلاسفة ولا أهل الطبائع . ولقد ضمن تفسيره أبو عبد الله الرازي المعروف بابن خطيب الري أشياء مما قاله الحكماء عنده وأصحاب النجوم وأصحاب الهيئة ، وذلك كله بمعزل عن تفسير كتاب الله عز وجل . وكذلك ما ذكره صاحب التحرير والتحبير في آخر ما يفسره من الآيات من كلام من ينتمي إلى الصوف ويسميها الحقائق ، وفيها ما لا يحل كتابته ، فضلاً عن أن يعتقد ، نسأل الله تعالى السلامة في ديننا وعقائدنا وما به قوام ديننا ودنيانا .
التكوير : ( 7 ) وإذا النفوس زوجت
) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوّجَتْ ( : أي المؤمن مع المؤمن والكافر مع الكافر ، كقوله : ) وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً ( ، قاله عمر وابن عباس ؛ أو نفوس المؤمنين بأزواجهم من الحور العين وغيرهن ، قاله مقاتل بن سليمان ؛ أو الأزواج الأجساد ، قاله عكرمة والضحاك والشعبي . وقرأ عاصم في رواية : زووجت على فوعلت ، والمفاعلة تكون بين اثنين . والجمهور : بواو مشددة .
التكوير : ( 8 - 9 ) وإذا الموؤودة سئلت
وقال الزمخشري : وأد يئد ، مقلوب من آد يؤد إذا أثقل . قال الله تعالى : ) وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا ( ، لأنه إثقال بالتراب . انتهى . ولا يدعي في وأد أنه مقلوب من آد ، لأن كلاً منهما كامل التصرف في الماضي والأمر والمضارع والمصدر واسم الفاعل واسم المفعول ، وليس فيه شيء من مسوغات ادعاء القلب . والذي يعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهد له بالأصالة والآخر ليس كذلك ، أو كونه مجرداً من حروف الزيادة والآخر فيه مزيداً وكونه أكثر تصرفاً والآخر ليس كذلك ، أو أكثر استعمالاً من الآخر ، وهذا على ما قرروا أحكم في علم التصريف . فالأول كيثس وأيس ، والثاني كطأمن واطمأن ، والثالث كشوايع وشواع ، والرابع كلعمري ورعملي .
وقرأ الجمهور : ) الْمَوْءودَةُ ( ، بهمزة بين الواوين ، اسم مفعول . وقرأ البزي في رواية : الموؤدة ، بهمزة مضمومة على الواو ، فاحتمل أن يكون الأصل الموؤدة كقراءة الجمهور ، ثم نقل حركة الهمزة إلى الواو بعد حذف الهمزة ، ثم الواو المنقول إليها الحركة . واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد ؛ فالاصل مأوودة ، فحذف إحدى الواوين على الخلاف الذي فيه المحذوف واو المد أو الواو التي هي عين ، نحو : مقوول ، حيث قالوا : مقول . وقرىء الموودة ، بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة ، أعني التسهيل بالحذف ، ونقل حركتها إلى الواو . وقرأ الأعمش : المودة ، بكسون الواو على وزن الفعلة ، وكذا وقف لحمزة بن مجاهد . ونقل القراء أن حمزة يقف عليها كالموودة لأجل الخط لأنها رسمت كذلك ، والرسم سنة متبعة . وقرأ الجمهور : ) سُئِلَتْ ( مبنياً للمفعول ، ( بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( : كذلك وخف الياء وبتاء التأنيث فيهما ، وهذا السؤال هو لتوبيخ الفاعلين للوأد ، لأن سؤالها يؤول إلى سؤال

" صفحة رقم 425 "
الفاعلين . وجاء قتلت بناء على أن الكلام إخبار عنها ، ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت لقيل : قتلت . وقرأ الحسن والأعرج : سئلت ، بكسر السين ، وذلك على لغة من قال : سأل بغير همز . وقرأ أبو جعفر : بشد الياء ، لأن الموؤدة اسم جنس ، فناسب التكثير باعتبار الأشخاص . وقرأ ابن مسعود وعلي وابن عباس وجابر بن زيد وأبو الضحى ومجاهد : سألت مبنياً للفاعل ، قتلت بسكون اللام وضم التاء ، حكاية لكلامها حين سئلت . وعن أبيّ وابن مسعود أيضاً والربيع بن خيثم وابن يعمر : سألت مبنيا للفاعل . ) بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( : مبنياً للمفعول بتاء التأنيث فيهما إخباراً عنهما ، ولو حكي كلامها لكان قتلت بضم التاء .
وكان العرب إذا ولد لأحدهم بنت واستحياها ، ألبسها جبة من صوف أو شعر وتركها ترعى الإبل والغنم ، وإذا أراد قتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال لأمها : طيبيها ولينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر حفرة أو بئراً في الصحراء ، فيذهب بها إليها ويقول لها انظري فيها ؛ ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى يستوي بالأرض . وقيل : كانت الحامل إذا قرب وضعها حفرت حفرة فتمخضت على رأسها ، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت ابناً حبسته . وقد افتخر الفرزدق ، وهو أبو فراس همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية ، بجده صعصعة ، إذ كان منع وأد البنات فقال : ومنا الذي منع الوائدات
فأحيا الوئيد ولم يوئد
التكوير : ( 10 ) وإذا الصحف نشرت
) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ( : صحف الأعمال كانت مطوية على الأعمال ، فنشرت يوم القيامة ليقرأ كل إنسان كتابه . وقيل : الصحف التي تتطاير بالإيمان والشمائل بالجزاء ، وهي صحف غير صحف الأعمال . وقرأ أبو رجاء وقتادة والحسن والأعرج وشيبة وأبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم : نشرت بخف الشين ؛ وباقي السبعة : بشدّها .
التكوير : ( 11 - 12 ) وإذا السماء كشطت
وكشط السماء : طيها كطي السجل . وقيل : أزيلت كما يكشط الجلد عن الذبيحة . وقرأ عبد الله : قشطت بالقاف ، وهما كثيراً ما يتعاقبان ، كقولهم : عربي قح وكح ، وتقدّمت قراءته قافوراً ، أي كافوراً . وقرأ نافع وابن عامر وحفص : ) سُعّرَتْ ( بشد العين ؛ وباقي السبعة : بخفها ، وهي قراءة عليّ . قال قتادة : سعرها غضب الله تعالى وذنوب بني آدم ، وجواب إذا وما عطفت عليه
التكوير : ( 14 ) علمت نفس ما . . . . .
( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ( : ونفس تعم في الإثبات من حيث المعنى ، ما أحضرت من خير تدخل به الجنة ، أو من شر تدخل به النار . وقال ابن عطية : ووقع الإفراد لينبه الذهن على حقارة المرء الواحد وقلة دفاعه عن نفسه . انتهى .
وقرئت هذه السورة عند عبد الله ، فلما بلغ القارىء ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ( ، قال عبد الله : ( وانقطاع ظهراه ) .
التكوير : ( 15 - 16 ) فلا أقسم بالخنس
) بِالْخُنَّسِ ( ، قال الجمهور : الدراري السبعة : الشمس والقمر ، وزحل ، وعطارد ، والمريخ ، والزهرة ، والمشتري . وقال : على الخمسة دون الشمس والقمر ، تجري الخمسة مع الشمس والقمر ، وترجع حتى تخفى مع ضوء الشمس ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : تخنس في جريها التي يتعهد فيها ترى العين ، وهي جوار في السماء ، وهي تكنس في أبراجها ، أي تستتر . وقال علي أيضاً والحسن وقتادة : هي النجوم كلها لأنها تخنس وتكنس بالنهار حين تختفي . وقال الزمخشري : أي تخنس بالنهار وتكنس بالليل ، أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها . انتهى . وقال عبد الله والنخعي وجابر بن زيد وجماعة : المراد ) بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ( : بقر الوحش ، لأنها تفعل هذه الأفعال في كنائسها . وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك : هي الظباء ، والخنس من صفة الأنوق لأنها يلزمها الخنس ، وكذا بقر الوحش .
التكوير : ( 17 ) والليل إذا عسعس
) عَسْعَسَ ( بلغة قريش ، وقال الحسن : أقبل ظلامه ، ويرجحه مقابلته بقوله :
التكوير : ( 18 ) والصبح إذا تنفس
) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ( ، فهما حالتان . وقال المبرد : أفسم بإقباله وإدباره وتنفسه كونه يجيء معه روح ونسيم ، فكأنه نفس له على المجاز .
التكوير : ( 19 ) إنه لقول رسول . . . . .
( إنَّهُ ( : أي إن هذا المقسم عليه ، أي إن القرآن ) لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( ؛ الجمهور : على أنه جبريل عليه السلام . وقيل : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكريم صفة تقتضي نفي المذام كلها وإثبات صفات المدح اللائقة به .
التكوير : ( 20 - 21 ) ذي قوة عند . . . . .
( ذِى قُوَّةٍ ( : كقوله : ) شَدِيد

" صفحة رقم 426 "
ُ الْقُوَى ). ) عِندَ ذِى ( : الكينونة اللائقة من شرف المنزلة وعظم المكانة . وقيل : العرش متعلق بمكين مطاع . ثم إشارة إلى ) عِندَ ذِى الْعَرْشِ ( : أي إنه مطاع في ملائكة الله المقربين يصدرون عن أمره . وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو البرهثم وابن مقسم : ثم ، بضم الثاء : حرف عطف ، والجمهور : ) ثُمَّ ( بفتحها ، ظرف مكان للبعيد . وقال الزمخشري : وقرىء ثم تعظيماً للأمانة وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة . انتهى . وقال صاحب اللوامح : بمعنى مطاع وأمين ، وإنما صارت ثم بمعنى الواو بعد أن مواضعتها للمهلة والتراخي عطفاً ، وذلك لأن جبريل عليه السلام كان بالصفتين معاً في حال واحدة ، فلو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى ، ( ثَمَّ أَمِينٍ ( عند انفصاله عنهم ، حال وحيه على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لجاز أن لو ورد به أثر انتهى . ) أَمِينٌ ( : مقبول القول يصدق فيما يقوله ، مؤتمن على ما يرسل به من وحي وامتثال أمر .
التكوير : ( 22 ) وما صاحبكم بمجنون
) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ( : نفى عنه ما كانوا ينسبونه إليه ويبهتونه به من الجنون .
التكوير : ( 23 - 24 ) ولقد رآه بالأفق . . . . .
( وَلَقَدْ رَءاهُ ( : أي رأى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) جبريل عليه السلام ، وهذه الرؤية بعد أمر غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض في صورته له ستمائة جناح . وقيل : هي الرؤية التي رآه فيها عند سدرة المنتهى ، وسمى ذلك الموضع أفقاً مجازاً . وقد كانت له عليه السلام ، رؤية ثانية بالمدينة ، وليست هذه . ووصف الأفق بالمبين لأنه روي أنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس ، قاله قتادة وسفيان . وأيضاً فكل أفق في غاية البيان . وقيل : في أفق السماء الغربي ، حكاه ابن شجرة . وقال مجاهد : رآه نحو جياد ، وهو مشرق مكة . وقرأ عبد الله وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم ، ومن السبعة النحويان وابن كثير : بظنين بالظاء ، أي بمتهم ، وهذا نظير الوصف السابق بأمين . وقيل : معناه بضعيف القوة على التبليغ من قولهم : بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء ، وكذا هو بالظاء في مصحف عبد الله . وقرأ عثمان وابن عباس أيضاً والحسن وأبو رجاء والأعرج وأبو جعفر وشيبة وجماعة غيرهم وباقي السبعة : بالضاد ، أي ببخيل يشح به لا يبلغ ما قيل له ويبخل ، كما يفعل الكاهن حتى يعطى حلوانه . قال الطبري : وبالضاد خطوط المصاحف كلها .
التكوير : ( 25 ) وما هو بقول . . . . .
( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ( : أي الذي يتراءى له إنما هو ملك لا مثل الذي يتراءى للكهان .
التكوير : ( 26 - 27 ) فأين تذهبون
) فَأيْنَ تَذْهَبُونَ ( : استضلال لهم ، حيث نسبوه مرة إلى الجنون ، ومرة إلى الكهانة ، ومرة إلى غير ذلك مما هو بريء منه . وقال الزمخشري : كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق : أي تذهب ؟ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل . انتهى . ) ذُكِرَ ( : تذكرة وعظة ، ( لِمَن شَاء ( : بدل من ) لّلْعَالَمِينَ ( ، ثم عذق مشيئة العبيد بمشيئة الله تعالى .
التكوير : ( 28 ) لمن شاء منكم . . . . .
قال ابن عطية : ثم خصص تعالى من شاء الاستقامة بالذكر تشريفاً وتنبيهاً وذكراً لتلبسهم بأفعال الاستقامة .
التكوير : ( 29 ) وما تشاؤون إلا . . . . .
ثم بين تعالى أن تكسب العبد على العموم في استقامة وغيرها إنما يكون مع خلق الله تعالى واختراعه الإيمان في صدر المرء . انتهى . وقال الزمخشري : وإنما أبدلوا منهم لأن الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم ، وإن كانوا موعوظين جميعاً . ) وَمَا تَشَاءونَ ( الاستقامة يا من يشاؤها إلا بتوفيق الله تعالى ولطفه ، ما تشاءونها أنتم يا من لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجاته . انتهى . ففسر كل من ابن عطية والزمخشري المشيئة على مذهبه . وقال الحسن : ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها .

" صفحة رقم 427 "
82
( سورة الانفطار )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِىأَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الاٌّ بْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالاٌّ مْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( ) ) 2
الإنفطار : ( 3 ) وإذا البحار فجرت
) بعثرت المتاع : قلبته ظهراً لبطن ، وبعثرت الحوض وبحثرته : هدمته وجعلت أعلاه أسفله .
( إذا السماء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت ، وإذا البحار فجرت ، وإذا القبور بعثرت ، علمت نفس ما قدمت وأخرت ، يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك ، كلا بل تكذبون بالدين ، وإن عليكم لحافظين ، كراماً كاتبين ، يعلمون ما تفعلون ، إن الأبرار لفي نعيم ، وإن الفجار لفي جحيم ، يصلونها يوم الدين ، وما هم عنها بغائبين ، وما أدراك ما يوم الدين ، ثم ما أدريك ما يوم الدين ، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله ).
هذه السورة مكية . وانفطارها تقدم الكلام فيه ، وانتثار الكواكب : سقوطها من مواضعها كالنظام . وقرأ الجمهور : ) فُجّرَتْ ( بتشديد الجيم ؛ ومجاهد والربيع بن خيثم والزعفراني والثوري : بخفها ، وتفجيرها من امتلائها ، فتفجر من أعلاها وتفيض على ما يليها ، أو من أسفلها فيذهب الله ماءها حيث أراد . وعن مجاهد : فجرت مبنياً للفاعل مخففاً بمعنى : بغت لزوال البرزخ نظراً إلى قوله تعالى : ) لاَّ يَبْغِيَانِ ( ، لأن البغي والفجر متقابلان .
الإنفطار : ( 4 ) وإذا القبور بعثرت
) بُعْثِرَتْ ( ، قال ابن عباس : بحثت . وقال السدي : أثيرت لبعث الأموات . وقال الفراء : أخرج ما في بطنها من الذهب والفضة . وقال الزمخشري : بعثر وبحثر بمعنى واحد ، وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما ، والمعنى : بحثت وأخرج موتاها . وقيل : لبراءة المبعثرة ، لأنها بعثرت أسرار المنافقين . انتهى . فظاهر قوله أنهما مركبان أن مادتهما ما ذكر ، وأن الراء ضمت إلى هذه المادة ، والأمر ليس كما يقتضيه كلامه ، لأن الراء ليست من حروف الزيادة ، بل هما مادتان مختلفتان وإن اتفقا من حيث المعنى . وأما أن إحداهما مركبة من كذا فلا ، ونظيره قولهم : دمث ودمثر وسب وسبطر .
الإنفطار : ( 5 ) علمت نفس ما . . . . .
( مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ( : تقدم الكلام على شبهه في سورة القيامة .
الإنفطار : ( 6 ) يا أيها الإنسان . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مَا غَرَّكَ ( ، فما استفهامية . وقرأ ابن جبير والأعمش : ما أغرك

" صفحة رقم 428 "
بهمز ، فاحتمل أن يكون تعجباً ، واحتمل أن تكون ما استفهامية ، وأغرك بمعنى أدخلك في الغر . وقال الزمخشري : من قولك غر الرجل فهو غار ، إذا غفل من قولك بينهم العدو وهم غارون ، وأغرة غيره : جعله غاراً . انتهى . وروي أنه عليه الصلاة والسلام قرأ : ) مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( ، فقال : جهله وقاله عمر رضي الله تعالى عنه وقرأ أنه كان ظلوماً جهولاً ، وهذا يترتب في الكافر والعاصي . وقال قتادة : عدوه المسلط عليه ، وقيل : ستر الله عليه . وقيل : كرم الله ولطفه يلقن هذا الجواب ، فهذا لطف بالعاصي المؤمن . وقيل : عفوه عنه إن لم يعاقبه أول مرة . وقال الفضيل رضي الله عنه : ستره المرخى . وقال ابن السماك : يا كاتم الذنب أما تستحي
والله في الخلوة رائيكا
غرك من ربك إمهاله
وستره طول مساويكا
وقال الزمخشري : في جواب الفضيل ، وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ . بالاغترار : بالستر ، وليس باعتذار كما يظنه الطماع ، ويظن به قصاص الحشوية ، ويروون عن أئمتهم إنما قال : ) بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( دون سائر صفاته ، ليلقن عبده الجواب حتى يقول : غرني كونه الكريم . انتهى . وهو عادته في الطعن على أهل السنة .
الإنفطار : ( 7 ) الذي خلقك فسواك . . . . .
( فَسَوَّاكَ ( : جعلك سوياً في أعضائك ، ( فَعَدَلَكَ ( : صيرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وطلحة والأعمش وعيسى وأبو جعفر والكوفيون : بخف الدال ؛ وباقي السبعة : بشدها . وقراءة التخفيف إما أن تكون كقراءة التشديد ، أي عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت ، وإما أن يكون معناه فصرفك . يقال : عدله عن الطريق : أي عدلك عن خلقة غيرك إلى خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق ، أو فعدلك إلى بعض الأشكال والهيئات .
الإنفطار : ( 8 ) في أي صورة . . . . .
والظاهر أن قوله : .
( في أي صُورَةٍ ( يتعلق بربك ، أي وضعك في صورة اقتضتها مشيئة من حسن وطول وذكورة ، وشبه ببعض الأقارب أو مقابل ذلك . وما زائدة ، وشاء في موضع الصفة لصورة ، ولم يعطف ) رَكَّبَكَ ( بالفاء كالذي قبله ، لأنه بيان لعدلك ، وكون في أي صورة متعلقاً بربك هو قول الجمهور . وقيل : يتعلق بمحذوف ، أي ركبك حاصلاً في بعض الصور . وقال بعض المتأولين : إنه يتعلق بقوله : ) فَعَدَلَكَ ( ، أي : لك في صورة ، أي صورة ؛ وأي تقتضي التعجيب والتعظيم ، فلم يجعلك في صورة خنزير أو حمار ؛ وعلى هذا تكون ما منصوبة بشاء ، كأنه قال : أي تركيب حسن شاء ركبك ، والتركيب : التأليف وجمع شيء إلى شيء . وأدغم خارجة عن نافع ركبك كلا ، كأبي عمرو في إدغامه الكبير .
الإنفطار : ( 9 ) كلا بل تكذبون . . . . .
وكلا : ردع وزجر لما دل عليه ما قبله من اغترارهم بالله تعالى ، أو لما دل عليه ما بعد كلا من تكذيبهم بيوم الجزاء والدين أو شريعة الإسلام . وقرأ الجمهور : ) بَلْ تُكَذّبُونَ ( بالتاء ، خطاباً للكفار ؛ والحسن وأبو جعفر وشيبة وأبو بشر : بياء الغيبة .
الإنفطار : ( 10 ) وإن عليكم لحافظين
) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ( : استئناف إخبار ، أي عليهم من يحفظ أعمالهم ويضبطها . ويظهر أنها جملة حالية ، والواو واو الحال ، أي تكذبون بيوم الجزاء .
الإنفطار : ( 11 ) كراما كاتبين
والكاتبون : الحفظة يضبطون أعمالكم لأن تجازوا عليها ، وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء . وقرأ الجمهور : ) يَصْلَوْنَهَا ( ، مضارع صلى مخففاً ؛ وابن مقسم : مشدّداً مبنياً للمفعول .
الإنفطار : ( 12 ) يعلمون ما تفعلون
) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( ، فيكتبون ما تعلق به الجزاء . قال الحسن : يعلمون ما ظهر دون حديث النفس . وقال سفيان : إذا هم العبد بالحسنة أو السيئة ، وجد الكاتبان ريحها . وقال الحسين بن الفضل : حيث قال يعلمون ولم يقل يكتبون دل على أنه لا يكتب الجميع فيخرج عنه السهو والخطأ وما لا تبعة فيه .
الإنفطار : ( 16 ) وما هم عنها . . . . .
( وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ( : أي عن الجحيم ، أي لا يمكنهم الغيبة ، كقوله : ) وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ). وقيل : إنهم مشاهدوها في البرزخ . لما أخبر عن صلبهم يوم القيامة ، أخبر بانتفاء غيبتهم عنها قبل الصلي ، أي يرون مقاعدهم من النار .
الإنفطار : ( 17 ) وما أدراك ما . . . . .
( وَمَا أَدْرَاكَ ( : تعظيم لهول ذلك اليوم .
الإنفطار : ( 19 ) يوم لا تملك . . . . .
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو : ) يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ ( برفع الميم ، أي هو يوم ، وأجاز الزمخشري فيه أن يكون بدلاً مما قبله . وقرأ محبوب عن أبي عمرو : يوم لا

" صفحة رقم 429 "
تملك على التنكير منوناً مرفوعاً فكه عن الإضافة وارتفاعه على هو يوم ، ولا تملك جملة في موضع الصفة ، والعائد محذوف ، أي لا تملك فيه . وقرأ زيد بن علي والحسن وأبو جعفر وشيبة والأعرج وباقي السبعة : يوم بالفتح على الظرف ، فعند البصريين هي حركة إعراب ، وعند الكوفيين يجوز أن تكون حركة بناء ، وهو على التقديرين في موضع رفع خبر المحذوف تقديره : الجزاء يوم لا تملك ، أو في موضع نصب على الظرف ، أي يدانون يوم لا تملك ، أو على أنه مفعول به ، أي اذكر يوم لا تملك . ويجوز على رأي من يجيز بناءه أن يكون في موضع رفع خبر المبتدأ محذوف تقديره : هو . ) يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ( : عام كقوله : ) فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً ). وقال مقاتل : لنفس كافرة شيئاً من المنفعة . ) وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( ، قال قتادة : وكذلك هو اليوم ، لكنه هناك لا يدعي أحد منازعة ، ولا يمكن هو أحداً مما كان ملكه في الدنيا .

" صفحة رقم 430 "
83
( سورة المطففين )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَائِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاٌّ بْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الاٌّ بْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الاٌّ رَآئِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَاؤُلاَءِ لَضَآلُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الاٌّ رَآئِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ( ) ) 2
المطففين : ( 2 - 3 ) الذين إذا اكتالوا . . . . .
التطفيف النقصان وأصله من الطفيف وهو النزل الحقير والمطفف الآخذ في وزن أو كيل طفيفاً أي شيئاً حقيراً خفياً . ران غطى وغشى كالصدإ يغشى السيف . قال الشاعر : وكم ران من ذنب على قلب فاجر
فتاب من الذنب الذي ران فانجلا
وأصل الرين الغلبة يقال رانت الخمر على عقل شاربها وران الغشى على عقل المريض . قال أبو زبيد :
ثم لما رآه رانت به الخمر وأن لا يرينه بانتقاء

" صفحة رقم 431 "
وقال أبو زيد يقال رين بالرجل يران به ريناً إذا وقع فيما لا يستطيع منه الخروج . الرحيق قال الخليل أجود الخمر . وقال الأخفش والزجاج الشراب الذي لا غش فيه . قال حسان :
بردى يصفق بالرحيق السلسل
نافس في الشيء رغب فيه ونفست عليه بالشيء أنفس نفاسة إذا بخلت به عليه ولم تحب أن يصير إليه . التسنيم أصله الارتفاع ومنه تسنيم القبر وسنام البعير وتسنمته علوت سنامه . الغمز الإشارة بالعين والحاجب .
( وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ الَّذِينَ يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدّينِ وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ).
هذه السورة مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل ، مدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل أيضاً . وقال ابن عباس وقتادة : مدنية إلا من ) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ ( إلى آخرها ، فهو مكي ، ثمان آيات . وقال السدي : كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة ، له مكيلان ، يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص ، فنزلت . ويقال : أنها أول سورة أنزلت بالمدينة . وقال ابن عباس : نزل بعضها بمكة ، ونزل أمر التطفيف بالمدينة لأنهم كانوا أشد الناس فساداً في هذا المعنى ، فأصلحهم الله بهذه السورة . وقيل : نزلت بين مكة والمدينة ليصلح الله تعالى أمرهم قبل ورود رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والمناسبة بين السورتين ظاهرة . لما ذكر تعالى السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه ، ذكر ما أعد لبعض العصاة ، وذكرهم بأخس ما يقع من المعصية ، وهي التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئاً في تثمير المال وتنميته .
( إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ ( : قبضوا لهم ، ( وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ ( ، أقبضوهم . وقال الفراء : من وعلى يعتقبان هنا ، اكتلت على الناس ، واكتلت من الناس . فإذا قال : اكتلت منك ، فكأنه قال : استوفيت منك ؛ وإذا قال : اكتلت عليك ؛ فكأنه قال : أخذت ما عليك ، والظاهر أن على متعلق باكتالوا كما قررنا . وقال الزمخشري : لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم ، أبدل على مكان من للدلالة على ذلك ؛ ويجوز أن يتعلق بيستوفون ، أي يستوفون على الناس خاصة ، فأما أنفسهم فيستوفون لها . انتهى . وكال ووزن مما يتعدى بحرف الجر ، فتقول : كلت لك ووزنت لك ، ويجوز حذف اللام ، كقولك : نصحت لك ونصحتك ، وشكرت لك وشكرتك ؛ والضمير ضمير نصب ، أي كالوا لهم أو وزنوا لهم ، فحذف حرف الجر ووصل الفعل بنفسه ، والمفعول محذوف وهو المكيل والموزون . وعن عيسى وحمزة : المكيل له والموزون له محذوف ، وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع الذي هو الواو . وقال الزمخشري : ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً للمطففين ، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد ، وذلك أن المعنى : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا أعطوهم أخسروا . وإن جعلت الضمير للمطففين ، انقلب إلى قولك : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام متنافر ، لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر . انتهى . ولا تنافر فيه بوجه ، ولا فرق بين أن يؤكد الضمير وأن لا يؤكد ، والحديث واقع في الفعل . غاية ما في هذا أن متعلق الاستيفاء ، وهو على الناس ، مذكور وهو في ) كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ ( ، محذوف للعلم به لأنه معلوم أنهم لا يخسرون الكيل والميزان إذا كان لأنفسهم ، إنما يخسرون ذلك لغيرهم . وقال الزمخشري : فإن قلت : هل لا . قيل أو اتزنوا ، كما قيل أو وزنوهم ؟ قلت : كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء

" صفحة رقم 432 "
والسرقة ، لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء ، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً . ) يُخْسِرُونَ ( : ينقصون . انتهى . ويخسرون معدّى بالهمزة ، يقال : خسر الرجل وأخسره غيره .
المطففين : ( 4 - 6 ) ألا يظن أولئك . . . . .
( أَلا يَظُنُّ ( : توقيف على أمر القيامة وإنكار عليهم في فعلهم ذلك ، أي ) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ( ، وهو يوم القيامة ، ويوم ظرف ، العامل فيه مقدر ، أي يبعثون يوم يقوم الناس . ويجوز أن يعمل فيه مبعوثون ، ويكون معنى ) لِيَوْمِ ( : أي لحساب يوم . وقال الفراء : هو بدل من يوم عظيم ، لكنه بني وقرىء ) يَوْمَ يَقُومُ ( بالجر ، وهو بدل من ) لِيَوْمِ ( ، حكاه أبو معاد . وقرأ زيد بن عليّ : يوم بالرفع ، أي ذلك يوم ، ويظن بمعنى يوقن ، أو هو على وضعه من الترجيح . وفي هذا الإنكار والتعجب ، ووصف اليوم بالعظم ، وقيام الناس لله خاضعين ، ووصفه برب العالمين ، دليل على عظم هذا الذنب وهو التطفيف .
المطففين : ( 7 - 9 ) كلا إن كتاب . . . . .
( كَلاَّ ( : ردع لما كانوا عليه من التطفيف ، وهذا القيام تختلف الناس فيه بحسب أحوالهم ، وفي هذا القيام إلجام العرق للناس ، وأحوالهم فيه مختلفة ، كما ورد في الحديث . والفجار : الكفار ، وكتابهم هو الذي فيه تحصيل أعمالهم . ) وسجين ( ، قال الجمهور : فعيل من السجن ، كسكير ، أو في موضع ساجن ، فجاء بناء مبالغة ، فسجين على هذا صفة لموضع المحذوف . قال ابن مقبل : ورفقة يضربون البيض ضاحية
ضرباً تواصت به الأبطال سجينا
وقال الزمخشري : فإن قلت : ) أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ ( ، أصفة هو أم اسم ؟ قلت : بل هو اسم علم منقول من وصف كحاتم ، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف . انتهى . وكان قد قدم أنه كتاب جامع ، وهو ديوان الشر ، دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس ، وهو : ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( : مسطور بين الكتابة ، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه ، والمعنى : أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان . انتهى . واختلفوا في سجين إذا كان مكاناً اختلافاً مضطرباً حذفنا ذكره . والظاهر أن سجيناً هو كتاب ، ولذلك أبدل منه ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ). وقال عكرمة : سجين عبارة عن الخسار والهوان ، كما تقول : بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الجمود . وقال بعض اللغويين : سجين ، نونه بدل من لام ، وهو من السجيل ، فتلخص من أقوالهم أن سجين نونه أصلية ، أو بدل من لام . وإذا كانت أصلية ، فاشتقاقه من السجن . وقيل : هو مكان ، فيكون ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( خبر مبتدأ محذوف ، أي هو كتاب . وعني بالضمير عوده على ) كِتَابَ الْفُجَّارِ ( ، أو على ) سِجّينٍ ( على حذف ، أي هو محل ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( ، و ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( تفسير له على جهة البدل أو خبر مبتدأ . والضمير المقدر الذي هو عائد على ) سِجّينٍ ( ، أو كناية عن الخسار والهوان ، هل هو صفة أو علم ؟ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ ( : أي ليس ذلك مما كنت تعلم . مرقوم : أي مثبت كالرقم لا يبلى ولا يمحى . قال قتادة : رقم لهم : بشر ، لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد . وقال ابن عباس والضحاك : مرقوم : مختوم بلغة حمير ، وأصل الرقم الكتابة ، ومنه قول الشاعر : سأرقم في الماء القراح إليكم
على بعدكم إن كان للماء راقم
وتبين من الإعراب السابق أن ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( بدل أو خبر مبتدأ محذوف . وكان ابن عطية قد قال : إن سجيناً موضع ساجن على قول الجمهور ، وعبارة عن الخسار على قول عكرمة ، من قال : ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ). من قال بالقول الأول في سجين ، فكتاب مرتفع عنده على خبر إن ، والظرف الذي هو ) لَفِى سِجّينٍ ( ملغى . ومن قال في سجين بالقول الثاني ، فكتاب مرقوم على خبر ابتداء مضمر التقدير هو ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( ، ويكون هذا الكتاب مفسراً لسجين ما هو . انتهى .

" صفحة رقم 433 "
فقوله : والظرف الذي هو ) لَفِى سِجّينٍ ( ملغى قول لا يصح ، لأن اللام التي في ) لَفِى سِجّينٍ ( داخلة على الخبر ، وإذا كانت داخلة على الخبر ، فلا إلغاء في الجار والمجرور ، بل هو الخبر . ولا جائز أن تكون هذه اللام دخلت في ) لَفِى سِجّينٍ ( على فضلة هي معمولة للخبر أو لصفة الخبر ، فيكون الجار والمجرور ملغى لا خبراً ، لأن كتاب موصوف بمرقوم فلا يعمل ، ولأن مرقوماً الذي هو صفة لكتاب لا يجوز أن تدخل اللام في معموله ، ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف ، فتعين بهذا أن قوله : ) لَفِى سِجّينٍ ( هو خبر إن .
المطففين : ( 11 - 13 ) الذين يكذبون بيوم . . . . .
( الَّذِينَ يُكَذّبُونَ ( : صفة ذم ، ( كُلُّ مُعْتَدٍ ( : متجاوز الحد ، ( أَثِيمٍ ( : صفة مبالغة . وقرأ الجمهور : ) إِذَا ( ؛ والحسن : أئذا بهمزة الاستفهام . والجمهور : ) تُتْلَى ( بتاء التأنيث ؛ وأبو حيوة وابن مقسم : بالياء . قيل : ونزلت في النضر بن الحرث .
المطففين : ( 14 ) كلا بل ران . . . . .
( بَلْ رَانَ ( ، قرىء بإدغام اللام في الراء ، وبالإظهار وقف حمزة على بل وقفاً خفيفاً يسير التبيين الإظهار . وقال أبو جعفر بن الباذش : وأجمعوا ، يعني القراء ، على إدغام اللام في الراء إلا ما كان من سكت حفص على بل ، ثم يقول : ) رَانَ ( ، وهذا الذي ذكره ليس كما ذكر من الإجماع . ففي كتاب اللوامح عن قالون : من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء ، نحو قوله : ) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ( ، ( بَل رَّبُّكُمْ ). وفي كتاب ابن عطية ، وقرأ نافع : ) بَلْ رَانَ ( غير مدغم ، وفيه أيضاً : وقرأ نافع أيضاً بالإدغام والإمالة . وقال سيبويه : اللام مع الراء نحو : أسفل رحمه البيان والإدغام حسنان . وقال الزمخشري : وقرى بإدغام اللام في الراء ، وبالإظهار والإدغام أجود ، وأميلت الألف وفخمت . انتهى . وقال سيبويه : فإذا كانت ، يعني اللام ، غير لام المعرفة ، نحو لام هل وبل ، فإن الإدغام في بعضها أحسن ، وذلك نحو : هل رأيت ؟ فإن لم تدغم فقلت : هل رأيت ؟ فهي لغة لأهل الحجاز ، وهي غريبة جائزة . انتهى . وقال الحسن والسدي : هو الذنب على الذنب . وقال الحسن : حتى يموت قلبه . وقال السدي : حتى يسود القلب . وفي الحديث نحو من هذا . فقال الكلبي : طبع على قلوبهم . وقال ابن سلام : غطى . ) مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ، قال ابن عطية : وعلق اللوم بهم فيما كسبوه ، وإن كان ذلك بخلق منه تعالى واختراع ، لأن الثواب والعقاب متعلقان بكسب العبد .
المطففين : ( 15 ) كلا إنهم عن . . . . .
والضمير في قوله : ) إنَّهُمْ ( ، فمن قال بالرؤية ، وهو قول أهل السنة ، قال إن هؤلاء لا يرون ربهم ، فهم محجوبون عنه . واحتج بهذه الآية مالك على سبيله الرؤية من جهة دليل الخطاب ، وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص . وقال الشافعي : لما حجب قوماً بالسخط ، دل على أن قوماً يرونه بالرضا . ومن قال بأن لا رؤية ، وهو قول المعتزلة ، قال : إنهم يحجبون عن ربهم وغفرانه . نتهى . وقال أنس بن مالك : لما حجب أعداءه فلم يروه ، تجلى لأوليائه حتى رأوه ، وقال الزمخشري : ) فَاقِرَةٌ كَلاَّ ( ردع عن الكسب الراثن على قلوبهم ، وكونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم ، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم . قال الشاعر : إذا اعتروا باب ذي عيبة رحبوا
والناس ما بين مرحوب ومحجوب
وعن ابن عباس وقتادة وابن أبي مليكة : محجوبين عن رحمته . وعن ابن كيسان : عن كرامته . انتهى . وعن مجاهد : المعنى محجوبون عن كرامته ورحمته ، وعن ربهم متعلق بمحجوبون ، وهو العامل في يومئذ ، والتنوين تنوين العوض من الجملة المحذوفة ، ولم تتقدّم جملة قريبة يكون عوضاً منها ، لكنه تقدم ) يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( ، فهو عوض من هذه الجملة ، كأنه قيل : يوم إذ يقوم الناس .
المطففين : ( 16 ) ثم إنهم لصالوا . . . . .
ثم هم مع الحجاب عن الله هم صالوا النار ، وهذه ثمرة الحجاب .
المطففين : ( 17 ) ثم يقال هذا . . . . .
( ثُمَّ يُقَالُ ( : أي تقول لهم خزنة النار . ) هَاذَا ( ، أي العذاب وصلي النار وهذا اليوم ، ( الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ). قال ابن عطية : ) هَاذَا الَّذِى ( ، يعني الجملة مفعول لم يسم فاعله لأنه قول بني له الفعل الذي هو يقال . انتهى . وتقدم الكلام على نحو هذا في أول البقرة في قوله تعالى : ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارْضِ ).
قوله عز وجل : ) كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الاْرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ

" صفحة رقم 434 "
النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الاْرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ).
المطففين : ( 18 ) كلا إن كتاب . . . . .
لما ذكر تعالى أمر كتاب الفجار ، عقبه بذكر كتاب ضدهم ليتبين الفرق . عليون : جمع واحده عليّ ، مشتق من العلو ، وهو المبالغة ، قاله يونس وابن جني . قال أبو الفتح : وسبيله أن يقال علية ، كما قالوا للغرفة علية ، فلما حذفت التاء عوضوا منها الجمع بالواو والنون . وقيل : هو وصف للملائكة ، فلذلك جمع بالواو والنون . وقال الفراء : هو اسم موضوع على صفة الجمع ، ولا واحد له من لفظه ، كقوله : عشرين وثلاثين ؛ والعرب إذا جمعت جمعاً ، ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية ، قالوا في المذكر والمؤنث بالواو والنون . وقال الزجاج : أعرب هذا الاسم كإعراب الجمع ، هذه قنسرون ، ورأيت قنسرين . وعليون : الملائكة ، أو المواضع العلية ، أو علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما علمته الملائكة وصلحاء الثقلين ، أو علو في علو مضاعف ، أقوال ثلاثة للزمخشري .
وقال أبو مسلم : ) كِتَابَ الاْبْرَارِ ( : كتابة أعمالهم ، ( لَفِى عِلّيّينَ ).
المطففين : ( 20 ) كتاب مرقوم
ثم وصف عليين بأنه ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( فيه جميع أعمال الأبرار . وإذا كان مكاناً فاختلفوا في تعيينه اختلافاً مضطرباً رغبنا عن ذكره . وإعراب ) لَفِى عِلّيّينَ ( ، و ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( كإعراب ) لَفِى سِجّينٍ ( ، و ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ). وقال ابن عطية : و ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( في هذه الآية خبر إن والظرف ملغى . انتهى . هذا كما قال في ) لَفِى سِجّينٍ ( ، وقد رددنا عليه ذلك وهذا مثله .
المطففين : ( 21 ) يشهده المقربون
والمقربون هنا ، قال ابن عباس وغيره : هم الملائكة أهل كل سماء ،
المطففين : ( 23 ) على الأرائك ينظرون
) يُنظَرُونَ ( ، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد : إلى ما أعد لهم من الكرامات . وقال مقاتل : إلى أهل النار . وقيل : ينظر بعضهم إلى بعض .
المطففين : ( 24 ) تعرف في وجوههم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) تَعْرِفُ ( بتاء الخطاب ، للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو للناظر . ) نَضْرَةَ النَّعِيمِ ( ، نصباً . وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب والزعفراني : تعرف مبنياً للمفعول ، نضرة رفعاً ؛ وزيد بن عليّ : كذلك ، إلا أنه قرأ : يعرف بالياء ، إذ تأنيث نضرة مجازي ؛ والنضرة تقدّم شرحها في قوله : ) نَضْرَةً وَسُرُوراً ).
المطففين : ( 25 - 26 ) يسقون من رحيق . . . . .
( مَّخْتُومٍ ( ، الظاهر أن الرحيق ختم عليه تهمماً وتنظفاً بالرائحة المسكية ، كما فسره ما بعده . وقيل : تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة . وقرأ الجمهور : ) خِتَامُهُ ( : أي خلطه ومزاجه ، قاله عبد الله وعلقمة . وقال ابن عباس وابن جبير والحسن : معناه خاتمته ، أي يجد الرائحة عند خاتمة الشراب ، رائحة المسك . وقال أبو عليّ : أي إبزاره المقطع وذكاء الرائحة مع طيب الطعم . وقيل : يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك . وفي الصحاح : الختام : الطين الذي يختم به ، وكذا قال مجاهد وابن زيد : ختم إناؤه بالمسك بدل الطين ، وقال الشاعر : كأن مشعشعاً من خمر بصرى
نمته البحث مشدود الختام
وقرأ عليّ والنخعي والضحاك وزيد بن عليّ : وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي : خاتمه ، بعد الخاء ألف وفتح التاء ، وهذه بينة المعنى ، إنه يراد بها الطبع على الرحيق . وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي : كسر التاء ، أي آخره مثل قوله : ) وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ ( ، وفيه حذف ، أي خاتم رائحته المسك ؛ أو خاتمه الذي يختم به ويقطع .
المطففين : ( 27 ) ومزاجه من تسنيم
) مِن تَسْنِيمٍ ( ، قال عبد الله وابن عباس : هو أشرف شراب الجنة ، وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة . وقال الزمخشري : ) تَسْنِيمٍ ( : علم لعين بعينها ، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه .
المطففين : ( 28 ) عينا يشرب بها . . . . .
و ) عَيْناً ( نصب على المدح . وقال الزجاج : على الحال . انتهى . وقال الأخفش : يسقون عيناً ، ( يَشْرَبُ بِهَا ( : أي يشربها أو منها ، أو ضمن يشرب معنى يروى بها أقوال . ) الْمُقَرَّبُونَ ( ، قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح : يشربها المقربون

" صفحة رقم 435 "
صرفاً ويمزج للأبرار . ومذهب الجمهور : الأبرار هم أصحاب اليمين ، وأن المقرّبين هم السابقون . وقال قوم : الأبرار والمقرّبون في هذه الآية بمعنى واحد يقع لكل من نعم في الجنة .
المطففين : ( 29 - 30 ) إن الذين أجرموا . . . . .
وروي أن علياً وجمعاً معه من المؤمنين مروا بجمع من كفار قريش ، فضحكوا منهم واستخفوا بهم عبثاً ، فنزلت : ) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ ( ، قبل أن يصل عليّ رضي الله تعالى عنه إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكفار مكة هؤلاء قيل هم : أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ؛ والمؤمنون : عمار ، وصهيب ، وخباب ، وبلال ، وغيرهم من فقراء المؤمنين . والظاهر أن الضمير في ) مَرُّواْ ( عائد على ) الَّذِينَ أَجْرَمُواْ ( ، إذ في ذلك تناسق الضمائر لواحد . وقيل : للمؤمنين ، أي وإذا مرّ المؤمنون بالكافرين يتغامز الكافرون ، أي يشيرون بأعينهم .
المطففين : ( 31 ) وإذا انقلبوا إلى . . . . .
و ) فَكِهِينَ ( : أي متلذذين بذكرهم وبالضحك منهم . وقرأ الجمهور : فاكهين بالألف ، أي أصحاب فاكهة ومزح وسرور باستخفافهم بأهل الإيمان ؛ وأبو رجاء والحسن وعكرمة وأبو جعفر وحفص : بغير ألف ،
المطففين : ( 32 ) وإذا رأوهم قالوا . . . . .
والضمير المرفوع في ) رَأَوْهُمْ ( عائد على المجرمين ، أي إذا رأوا المؤمنين نسبوهم إلى الضلال ، وهم محقون في نسبتهم إليه .
المطففين : ( 33 ) وما أرسلوا عليهم . . . . .
( وَمَا أُرْسِلُواْ ( على الكفار ، ( حَافِظِينَ ). وفي الإشارة إليهم بأنهم ضالون إثارة للكلام بينهم . وكان في الآية بعض موادعة ، أي إن المؤمنين لم يرسلوا حافظين على الكفار ، وهذا على القول بأن هذا منسوخ بآية السيف . وقال الزمخشري : وإنهم لم يرسلوا عليهم حافظين ، إنكاراً لصدّهم إياهم عن الشرك ، ودعائهم إلى الإسلام ، وجدهم في ذلك .
المطففين : ( 34 ) فاليوم الذين آمنوا . . . . .
ولما تقدّم ذكر يوم القيامة قيل : ) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( ، واليوم منصوب بيضحكون منهم في الآخرة ، وينظرون حال من الضمير في يضحكون ، أي يضحكون ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والعذاب بعد العزة والنعيم . وقال كعب لأهل الجنة : كوى ينظرون منها إلى أهل النار . وقيل : ستر شفاف بينهم يرون منه حالهم .
المطففين : ( 36 ) هل ثوب الكفار . . . . .
( هَلْ ثُوّبَ ( : أي هل جوزي ؟ يقال : ثوبه وأثابه إذا جازاه ، ومنه قول الشاعر : سأجزيك أو يجزيك عني مثوب
وحسبك أن يثني عليك وتحمد
وهو استفهام بمعنى التقرير للمؤمنين ، أي هل جوزوا بها ؟ وقيل : ) هَلْ ثُوّبَ ( متعلق بينظرون ، وينظرون معلق بالجملة في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر الذي هو إلى . وقرأ الجمهور : ) هَلْ ثُوّبَ ( بإظهار لام هل ؛ والنحويان وحمزة وابن محيصن : بإدغامها في الثاء ؛ وفي قوله : ) مَا كَانُواْ ( حذف تقديره جزاء أو عقاب : ) مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ).

" صفحة رقم 436 "
84
( سورة الانشقاق )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الاٌّ رْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِىأَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لاَ يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( ) ) 2
الإنشقاق : ( 1 - 6 ) إذا السماء انشقت
الكدح : جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها ، من كدح جلده إذا خدشه ، قال ابن مقيل : وما الدهر إلا تارتان فمنهما
أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقال آخر : ومضت بشاشة كل عيش صالح
وبقيت أكدح للحياة وأنصب
حار : رجع ، قال الشاعر : وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
الشفق : الحمرة بعد مغيب الشمس حين تأتي صلاة العشاء الآخرة . قيل : أصله من رقة الشيء ، يقال شيء شفق : أي لا يتماسك لرقته ، ومنه أشفق عليه : رق قلبه ، والشفقة : الاسم من الشفاق ، وكذلك الشفق . قال الشاعر

" صفحة رقم 437 "
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا
والموت أكرم نزال على الحرم
وسق : ضم وجمع ، ومنه الوسق : الأصواع المجموعة ، وهي ستون صاعاً ، وطعام موسوق : أي مجموع ، وإبل مستوسقة ، قال الشاعر : أن لنا قلائصاً حقائقا
مستوسقات لو يجدن سائقا
اتسق ، قال الفراء : اتساق القمر : امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر ، وهو افتعال من الوسق الذي هو الجمع ، يقال : وسقته . فاتسق ، ويقال : أمر فلان متسق : أي مجتمع على الصلاح منتظم . طبقاً عن طبق : حال بعد حال ، والطبق : ما طابق غيره ، وأطباق الثرى : ما تطابق منه ، ومنه قيل للغطاء الطبق . قال الأعرج بن حابس : إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره
وساقني طبق منه إلى طبق
وقال امرؤ القيس : ديمة هطلاء فيها وطف
طبق للأرض تجري وتذر
) إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الاْرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِىء عَلَيْهِمُ الْقُرْءانُ لاَ يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ).
هذه السورة مكية ، واتصالها بما قبلها ظاهر . قال ابن عباس : انشقت تنشق : أي تتصدع بالغمام ، وقاله الفراء والزجاج . وقيل : تنشق لهول يوم القيامة ، كقوله : ) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ). وقرأ الجمهور : بسكون تاء انشقت وما بعدها وصلاً ووقفاً . وقرأ عبيد بن عقيل ، عن أبي عمرو : بإشمام الكسر وقفاً بعدما لم تختلف في الوصل إسكاناً . قال صاحب اللوامح : فهذا من التغييرات التي تلحق الروي في القوافي ، وفي هذا الإشمام بيان أن هذه التاء من علامة ترتيب الفعل للإناث ، وليست مما تنقلب في الأسماء ، فصار ذلك فارقاً بين الاسم والفعل فيمن وقف على ما في الأسماء بالتاء ، وذلك لغة طيىء ؛ وقد حمل في المصاحف بعض التاءات على ذلك ، انتهى . وقال ابن خالويه : إذا السماء انشقت بكسر التاء ، عبيد عن أبي عمرو . وقال ابن عطية ، وقرأ أبو عمرو : ) وَانشَقَّتِ ( ، يقف على التاء كأنه يشمها شيئاً من الجر ، وكذلك في أخواتها . قال أبو حاتم : سمعت أعرابياً فصيحاً في بلاد قيس يكسر هذه التاءات ، وهي لغة . انتهى . وذلك أن الفواصل قد تجري مجرى القوافي . فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي ، تكسر في الفواصل ؛ ومثال كسرها في القوافي قول كثير عزة :

" صفحة رقم 438 "
وما أنا بالداعي لعزة بالردى
ولا شامت أن نعل عزة زلت
وكذلك باقي القصيدة . وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف ، كقوله تعالى : ) الظُّنُونَاْ ( ، و ) الرَّسُولاَ ( في سورة الأحزاب . وحمل الوصف على حالة الوقف أيضاً موجود في الفواصل . ) وَأَذِنَتْ ( : أي استمعت وسمعت أمره ونهيه ، وفي الحديث : ( ما أذن الله بشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن ) . وقال الشاعر : صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقال قعنب : إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا
وما هم أذنوا من صالح دفنوا
وقال الحجاف بن حكيم :
أذنت لكم لما سمعت هريركم
وأذنها : انقيادها الله تعالى حين أراد انشقاقها ، فعل المطيع إذا ورد عليه أمر المطاع أنصت وانقاد ، كقوله تعالى : ) قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ). ) وَحُقَّتْ ( ، قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير : وحق لها أن تسمع . وقال الضحاك : أطاعت وحق لها أن تطيع . وقال قتادة : وحق لها أن تفعل ذلك ، وهذا الفعل مبني للمفعول ، والفاعل هو الله تعالى ، أي وحق الله تعالى عليها الاستماع . ويقال : فلان محقوق بكذا وحقيق بكذا ، والمعنى : أنه لم يكن في جرم السماء ما يمنع من تأثير القدرة في انشقاقه وتفريق أجزائه وإعدامه . قيل : ويحتمل أن يريد : وحق لها أن تنشق لشدة الهول وخوف الله تعالى . وقال الزمخشري : وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع ، ومعناه : الإيذان بأن القادر الذات يجب أن يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك ، انتهى . وفي قوله القادر الذات دسيسة الاعتزال ، وما أولع هذا الرجل بمذهب الاعتزال ، يدسه متى أمكنه في كل ما يتكلم به .
( وَإِذَا الاْرْضُ مُدَّتْ ( ، قال مجاهد : سويت . وقال الضحاك : بسطت باندكاك جبالها ، ومنه الحديث : ) فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ). ) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ( ، قال ابن جبير والجمهور : ألقت ما في بطنها من الأموات ، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء . وقيل : تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها . وقال الزجاج : ومن الكنوز ، وضعف هذا بأن ذلك يكون وقت خروج الدجال ، وإنما تلقى يوم القيامة الموتى . ) وَتَخَلَّتْ ( : أي عن ما كان فيها ، لم تتمسك منهم بشيء . وجاء تخلت : أي تكلفت أقصى جهدها في الخلو . كما تقول : تكرم الكريم : بلغ جهده في الكرم وتكلف فوق ما في طبعه ، ونسبة ذلك إلى الأرض نسبة مجازيه ، والله تعالى هو الذي أخرج تلك الأشياء من باطنها . وجواب إذا محذوف ، فإما أن يقدره الذي خرج به في سورة التكوير أو الانفطار ، أو ما يدل عليه : ) إِنَّكَ كَادِحٌ ( ، أي لاقى كل إنسان كدحه . وقال الأخفش والمبرد : هو ملاقيه ، إذا انشقت السماء فأنت ملاقيه . وقيل : ) الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ( ، على حذف الفاء تقديره : فيا أيها الإنسان . وقيل : ) وَأَذِنَتْ ( على زيادة الواو ؛ وعن الأخفش : ) إِذَا السَّمَاء ( مبتدأ ، خبره ) وَإِذَا الاْرْضُ ( على زيادة الواو ، والعامل فيها على قول الأكثرين : الجواب إما المحذوف الذي قدروه ، وإما الظاهر الذي قيل إنه جواب . قال ابن عطية : وقال بعض النحويين : العامل انشقت ، وأبى ذلك كثير من أئمتهم ، لأن إذا مضافة إلى انشقت ، ومن يجيز ذلك تضعف عنده

" صفحة رقم 439 "
الإضافة ويقوى معنى الجزاء ، انتهى . وهذا القول نحن نختاره ، وقد استدللنا على صحته فيما كتبناه ، والتقدير : وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض . وقيل : لا جواب لها إذ هي قد نصبت باذكر نصب المفعول به ، فليست شرطاً .
( وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا ( : أي في إلقاء ما في بطنها وتخليها . والإنسان : يراد به الجنس ، والتقسيم بعد ذلك يدل عليه . وقال مقاتل : المراد به الأسود بن عبد الأسد بن هلال المخزومي ، جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث ، فقال أبو سلمة : والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة . فقال الأسود فأين : الأرض والسماء وما جال الناس ؟ انتهى . وكان مقاتلاً يريد أنها نزلت في الأسود ، وهي تعم الجنس . وقيل : المراد أبيّ بن خلف ، كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) والإصرار على الكفر . وأبعد من ذهب إلى أنه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمعنى : إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده واحتمال الضر من الكفار ، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل ، وهو غير ضائع عنده .
( إِنَّكَ كَادِحٌ ( : أي جاهد في عملك من خير وشر إلى ربك ، أي طول حياتك إلى لقاء ربك ، وهو أجل موتك ، ( فَمُلَاقِيهِ ( : أي جزاء كدحك من ثواب وعقاب . قال ابن عطية : فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها ، والتقدير : فأنت ملاقيه ، ولا يتعين ما قاله ، بل يصح أن يكون معطوفاً على كادح عطف المفردات . وقال الجمهور : الضمير في ملاقيه عائد على ربك ، أي فملاقي جزائه ، فاسم الفاعل معطوف على اسم الفاعل .
الإنشقاق : ( 8 ) فسوف يحاسب حسابا . . . . .
( حِسَاباً يَسِيراً ( قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : يقرر ذنوبه ثم يتجاوز عنه . وقال الحسن : يجازي بالحسنة ويتجاوز عن السيئة . وفي الحديث : ( من حوسب عذب ) ، فقالت عائشة : ألم يقل الله تعالى ) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ( ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ( إنما ذلك العرض ، وأما من نوقش الحساب فيهلك ) .
الإنشقاق : ( 9 ) وينقلب إلى أهله . . . . .
( وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ ( : أي إلى من أعد الله له في الجنة من نساء المؤمنات ومن الحور العين ، أو إلى عشيرته المؤمنين ، فيخبرهم بخلاصه وسلامته ، أو إلى المؤمنين ، إذ هم كلهم أهل إيمان . وقرأ زيد بن علي : ويقلب مضارع قلب مبنياً للمفعول .
الإنشقاق : ( 10 ) وأما من أوتي . . . . .
( وَرَاء ظَهْرِهِ ( : روي أن شماله تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره ، فيأخذ كتابه بها . قال ابن عطية : وأما من ينفذ عليه الوعيد من عصاتهم ، يعني عصاة المؤمنين ، فإنه يعطى كتابه عند خروجه من النار . وقد جوز قوم أن يعطاه أولاً قبل دخوله النار ، وهذه الآية ترد على هذا القول ، انتهى . والظاهر من الآية أن الإنسان انقسم إلى هذين القسمين ولم يتعرض للعصاة الذين يدخلهم الله النار .
الإنشقاق : ( 11 ) فسوف يدعو ثبورا
) يَدْعُو ثُبُوراً ( : يقول : واثبوراه ، والثبور : الهلاك ، وهو جامع لأنواع المكاره .
الإنشقاق : ( 12 ) ويصلى سعيرا
وقرأ قتادة وأبو جعفر وعيسى وطلحة والأعمش وعاصم وأبو عمرو وحمزة : ) وَيَصْلَى ( بفتح الياء مبنياً للفاعل ؛ وباقي السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج : بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة ؛ وأبو الأشهب وخارجة عن نافع ، وأبان عن عاصم ، وعيسى أيضاً والعتكي وجماعة عن أبي عمرو : بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام ، بني للمفعول من المتعدي بالهمزة ، كما بني ويصلى المشدد للمفعول من المتعدي بالتضعيف .
الإنشقاق : ( 13 ) إنه كان في . . . . .
( إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ( : أي فرحاً بطراً مترفاً لا يعرف الله ولا يفكر في عاقبته لقوله تعالى : ) لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( ، بخلاف المؤمن ، فإنه حزين مكتئب يتفكر في الآخرة .
الإنشقاق : ( 14 ) إنه ظن أن . . . . .
( إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ( : أي أن لن يرجع إلى الله ، وهذا تكذيب بالبعث .
الإنشقاق : ( 15 ) بلى إن ربه . . . . .
( بَلَى ( : إيجاب بعد النفي ، أي بلى ليحورن . ) إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً ( : أي لا تخفي عليه أفعاله ، فلا بد من حوره ومجازاته .
الإنشقاق : ( 16 ) فلا أقسم بالشفق
) فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ( : أقسم تعالى بمخلوقاته تشريفاً لها وتعريضاً للاعتبار بها ، والشفق تقدم شرحه . وقال أبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة : هو البياض الذي يتلوه الحمرة . وروى أسد بن عمرو أن أبا حنيفة رجع عن قوله هذا إلى قول الجمهور . وقال مجاهد والضحاك وابن أبي نجيح : إن الشفق هنا كأنه لما عطف عليه الليل قال ذلك . قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف ،

" صفحة رقم 440 "
انتهى . وعن مجاهد : هو الشمس ؛ وعن عكرمة : ما بقي من النهار .
الإنشقاق : ( 17 ) والليل وما وسق
) وَمَا وَسَقَ ( : ما ضم من الحيوان وغيره ، إذ جميع ذلك ينضم ويسكن في ظلمة الليل . وقال ابن عباس : ) وَمَا وَسَقَ ( : أي ما غطى عليه من الظلمة . وقال مجاهد : وما ضم من خير وشر . وقال ابن جبير : وما ساق وحمل . وقال ابن بحر : وما عمل فيه ، ومنه قول الشاعر : فيوماً ترانا صالحين وتارة
تقوم بنا كالواسق المتلبب
وقال ابن الفضل : لف كل أحد إلى الله ، أي سكن الخلق إليه ورجع كل إلى ما رآه لقوله : ) لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ).
الإنشقاق : ( 19 ) لتركبن طبقا عن . . . . .
وقرأ عمر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان وابن كثير : بتاء الخطاب وفتح الباء . فقيل : خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي حالاً بعد حال من معالجة الكفار . وقال ابن عباس : سماء بعد سماء في الإسراء . وقيل : عدة بالنصر ، أي لتركبن أمر العرب قبيلاً بعد قبيل وفتحاً بعد فتح كما كان ووجد بعد ذلك . وقال الزمخشري : وقرىء ) لَتَرْكَبُنَّ ( على خطاب الإنسان ) فِى الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ). وقال ابن مسعود المعنى : لتركبن السماء في أهوال القيامة حالاً بعد حال ، تكون كالمهل وكالدهان وتنفطر وتنشق ، فالتاء للتأنيث ، وهو إخبار عن السماء بما يحدث لها ، والضمير الفاعل عائد على السماء . وقرأ عمر وابن عباس أيضاً : بالياء من أسفل وفتح الباء على ذكر الغائب . قال ابن عباس : يعني نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : الضمير الغائب يعود على القمر ، لأنه يتغير أحوالاً من إسرار واستهلال وإبدار . وقال الزمخشري : ليركبن الإنسان . وقرأ عمر وابن عباس أيضاً وأبو جعفر والحسن وابن جبير وقتادة والأعمش وباقي السبعة : بتاء الخطاب وضم الباء ، أي لتركبن أيها الإنسان . وقال الزمخشري : ولتركبن بالضم على خطاب الجنس ، لأن النداء للجنس ، فالمعنى : لتركبن الشدائد : الموت والبعث والحساب حالاً بعد حال ، أو يكون الأحوال من النطفة إلى الهرم ، كما تقول : طبقة بعد طبقة . قال نحوه عكرمة . وقيل : عن تجىء بمعنى بعد . وقيل : المعنى لتركبن هذه الأحوال أمة بعد أمة . ومنه قول العباس بن عبد المطلب في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : وأنت لما ولدت أشرقت الأر
ض وضاءت بنورك الأفق
تنقل من صالب إلى رحم
إذا مضى عالم بدا طبق
وقال مكحول وأبو عبيدة : المعنى لتركبن سنن من قبلكم . وقال ابن زيد : المعنى لتركبن الآخرة بعد الأولى . وقرأ عمر أيضاً : ليركبن بياء الغيبة وضم الباء . قيل : أراد به الكفار لا بيان توبيخهم بعده ، أي يركبون حالاً بعد أخرى من المذلة والهوان في الدنيا والآخرة . وقرأ ابن مسعود وابن عباس : لتركبن بكسر التاء ، وهي لغة تميم . قيل : والخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقرىء بالتاء وكسر الباء على خطاب النفس ، وطبق الشيء مطابقة لأن كل حال مطابقة للأخرى في الشدة . ويجوز أن تكون اسم جنس ، واحدة طبقة ، وهي المرتبة من قولهم : هم على طبقات . و ) عَن طَبقٍ ( في موضع الصفة لقوله : ) طَبَقاً ( ، أو في موضع الحال من الضمير في ) لَتَرْكَبُنَّ ). وعن مكحول ، كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه .
الإنشقاق : ( 20 ) فما لهم لا . . . . .
( فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( : تعجب من انتفاء إيمانهم وقد وضحت الدلائل .
الإنشقاق : ( 21 ) وإذا قرئ عليهم . . . . .
( لاَ يَسْجُدُونَ ( : لا يتواضعون ويخضعون ، قاله قتادة . وقال عكرمة : لا يباشرون بجباههم المصلى . وقال محمد بن كعب : لا يصلون .
الإنشقاق : ( 22 ) بل الذين كفروا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) يَكْذِبُونَ ( مشدداً ؛ والضحاك وابن أبي عبلة : مخففاً وبفتح الياء .
الإنشقاق : ( 23 ) والله أعلم بما . . . . .
( بِمَا يُوعُونَ ( : بما بجمعون من الكفر والتكذيب ، كأنهم يجعلونه في أوعية وعيت العلم وأوعيت المتاع ، قال نحوه ابن زيد . وقال ابن عباس : بما تضمرون من عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) )

" صفحة رقم 441 "
والمؤمنين . وقال مجاهد : بما يكتمون من أفعالهم . وقرأ أبو رجاء : بما يعون ، من وعى يعي .
الإنشقاق : ( 25 ) إلا الذين آمنوا . . . . .
( إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( : أي سبق لهم في علمه أنهم يؤمنون . ) غَيْرُ مَمْنُونٍ ( : غير مقطوع . وقال ابن عباس : ) مَمْنُونٍ ( : معدد عليهم ، محسوب منغص بالمن ، وتقدم الكلام على ذلك في فصلت ، والله الموفق .

" صفحة رقم 442 "
85
( سورة البروج )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الاٍّ خْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( ) ) 2
البروج : ( 1 ) والسماء ذات البروج
الأخدود : الخد في الأرض ، وهو الشق ونحوهما بناء ، ومعنى الخق والأخقوق ، ومنه :
فساحت قوائمه في أخافيق جردان
) وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذَوَا الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : لما ذكر أنه تعالى أعلم بما يجمعون للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وللمؤمنين من المكر ، والخداع ، وإذاية من أسلم بأنواع من الأذى ، كالضرب ، والقتل ، والصلب ، والحرق بالشمس ، وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه ؛ ذكر أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم يعذبون بالنار ، وأن أولئك الذين أعرضوا على النار كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم أو يحرموا ، وأن أولئك الذين عذبوا عباد الله ملعونون ،

" صفحة رقم 443 "
فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش ملعونون . فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذب .
( ذَاتِ الْبُرُوجِ ( ، قال ابن عباس والجمهور : هي المنازل التي عرفتها العرب ، وهي اثنا عشر على ما قسمته ، وهي التي تقطعها الشمس في سنة ، والقمر في ثمانية وعشرين يوماً . وقال عكرمة والحسن ومجاهد : هي القصور . وقال الحسن ومجاهد أيضاً : هي النجوم . وقيل : عظام الكواكب ، سميت بروجاً لظهورها . وقيل : هي أبواب السماء ؛ وقد تقدم ذكر البروج في سورة الحجر .
البروج : ( 2 ) واليوم الموعود
) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ( : هو يوم القيامة ، أي الموعود به .
البروج : ( 3 ) وشاهد ومشهود
) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ( : هذان منكران ، وينبغي حملهما على العموم لقوله : ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ( ، وإن كان اللفظ لا يقتضيه ، لكن المعنى يقتضيه ، إذ لا يقسم بنكرة ولا يدري من هي . فإذا لوحظ فيها معنى العموم ، اندرج فيها المعرفة فحسن القسم . وكذا ينبغي أن يحمل ما جاء من هذا النوع نكرة ، كقوله : ) وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ ( ، ولأنه إذا حمل ) وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ ( على العموم دخل فيه معنيان : الكتب الإلهية ، كالتوراة والإنجيل والقرآن ، فيحسن إذ ذاك القسم به .
ولما ذكر واليوم الموعود ، وهو يوم القيامة باتفاق ، وروي ذلك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ناسب أن يكون المقسم به من يشهد في ذلك اليوم ومن يشهد عليه . إن كان ذلك من الشهادة ، وإن كان من الحضور ، فالشاهد : الخلائق الحاضرون للحساب ، والمشهود : اليوم ، كما قال تعالى : ) ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ( ، كان موعوداً به فصار مشهوداً ، وقد اختلفت أقوال المفسرين في تعيينهما .
وعن ابن عباس : الشاهد : الله تعالى ؛ وعنه وعن الحسن بن علي وعكرمة : الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار : آدم عليه السلام وذريته ؛ وعن ابن عباس أيضاً والحسن : الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة ، وفي كل قوم منها المشهود يوم القيامة ؛ وعن علي وابن عباس وأبي هريرة والحسن وابن المسيب وقتادة : وشاهد يوم الجمعة ؛ وعن ابن المسيب : يوم التروية ؛ وعن علي أيضاً : يوم القيامة ؛ وعن النخعي : يوم الأضحى . ومشهود في هذه الأقوال يوم عرفة ؛ وعن ابن عمر : يوم الجمعة ، ومشهود يوم النحر ؛ وعن جابر : يوم الجمعة ، ومشهود الناس ؛ وعن محمد بن كعب : ابن آدم ، ومشهود الله تعالى ؛ وعن ابن جبير : عكس هذا ؛ وعن أبي مالك : عيسى ، ومشهود أمته ، وعن علي : يوم عرفة ، ومشهود يوم النحر ؛ وعن الترمذي : الحكيم الحفظة ، ومشهود عليهم : الناس ؛ وعن عبد العزيز بن يحيى : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ومشهود عليه أمته ؛ وعنه : الأنبياء ، ومشهود أممهم ؛ وعن ابن جبير ومقاتل الجوارح يوم القيامة ، ومشهود أصحابها . وقيل : هما يوم الاثنين ويوم الجمعة . وقيل : الملائكة المتعاقبون وقرآن الفجر . وقيل : النجم والليل والنهار . وقيل : الله والملائكة وأولو العلم ، ومشهود به الوحدانية ، و ) إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ). وقيل : مخلوقاته تعالى ، ومشهود به وحدانيته . وقيل : هما الحجر الأسود والحجج . وقيل : الليالي والأيام وبنو آدم . وقيل : الأنبياء ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ وهذه أقوال سبعة وعشرون لكل منها متمسك ، وللصوفية أقوال غير هذه . والظاهر ما قلناه أولاً ، وجواب القسم قيل محذوف ، فقيل : لتبعثن ونحوه . وقال الزمخشري : يدل عليه ) قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ ). وقيل : الجواب مذكور فقيل : ) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ ). وقال المبرد : ) إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ ).
البروج : ( 4 ) قتل أصحاب الأخدود
وقيل : قتل وهذا نختاره وحذفت اللام أي لقتل ، وحسن حذفها كما حسن في قوله : ) وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( ، ثم قال : ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( ، أي لقد أفلح من زكاها ، ويكون الجواب دليلاً على لعنة الله على من فعل ذلك وطرده من رحمة الله ، وتنبيهاً لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم ، على أنهم ملعونون بجامع ما اشتركا فيه من تعذيب المؤمنين . وإذا كان ) قَتْلَ ( جواباً للقسم ، فهي جملة خبرية ، وقيل : دعاء ، فكون الجواب غيرها . وقرأ الحسن وابن مقسم بالتشديد ، والجمهور بالتخفيف .
وذكر المفسرون في أصحاب الأخدود أقوالاً فوق العشرة ، ولكل قول منها قصة طويلة كسلنا عن كتابتها في كتابنا هذا ؛ ومضنها أن ناساً من الكفار خدوا أخدوداً في الأرض وسجروه ناراً وعرضوا المؤمنين عليها ، فمن رجع عن دينه تركوه ، ومن أصرّ على الإيمان أحرقوه ؛ وأصحاب الأخدود هم المحرقون للمؤمنين . وقال الربيع وأبو العالية وابن إسحاق : بعث الله على المؤمنين ريحاً فقبضت أرواحهم أو

" صفحة رقم 444 "
نحو هذا ، وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود ، فعلى هذا يكون القتل حقيقة لا بمعنى اللعن ، ويكون خبراً عن ما فعله الله بالكفار والذين أرادوا أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم . وقول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دل عليه القصص الذي ذكروه .
البروج : ( 5 ) النار ذات الوقود
وقرأ الجمهور : ) النَّارِ ( بالجر ، وهو بدل اشتمال ، أو بدل كل من كل على تقدير محذوف ، أي أخدود النار . وقرأ قوم النار بالرفع . قيل : وعلى معنى قتلهم ، ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين ، وقتل على حقيقته . وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى : الوقود بضم الواو وهو مصدر ، والجمهور : بفتحها ، وهو ما يوقد به . وقد حكى سيبويه أنه بالفتح أيضاً مصدر كالضم .
البروج : ( 6 ) إذ هم عليها . . . . .
والظاهر أن الضمير في ) إِذْ هُمْ ( عائد على الذين يحرقون المؤمنين ،
البروج : ( 7 ) وهم على ما . . . . .
وكذلك في ) وَهُمْ ( على قول الربيع يعود على الكافرين ، ويكون هم أيضاً عائداً عليهم ، ويكون معنى ) عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ( : ما يريدون من فعلهم بالمؤمنين . وقيل : أصحاب الأخدود محرق ، وتم الكلام عند قوله : ) ذَاتِ الْوَقُودِ ( ، ويكون المراد بقوله : ) وَهُمْ ( قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات ، وإذا العامل فيه قتل ، أي لعنوا وقعدوا على النار ، أو على ما يدنو منها من حافات الأخدود ، كما قال الأعشى : تشب لمقرورين يصطليانها
وبات على النار الندى والمحلق
) شُهُودٌ ( : يشهد بعضهم لبعض عند الملك ، أي لم يفرط فيما أمر به ، أو شهود يوم القيامة على ما فعلوا بالمؤمنين ، يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم .
البروج : ( 8 - 9 ) وما نقموا منهم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) نَقَمُواْ ( بفتح القاف ؛ وزيد بن عليّ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بكسرها ، أي ما عابوا ولا أنكروا الإيمان ، كقوله : ) هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ ( ، وكقول قيس الرقيات : ما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون أن غضبوا
جعلوا ما هو في غاية الحسن قبيحاً حتى نقموا عليه ، كما قال الشاعر : ولا عيب فيها غير شكلة عينها
كذاك عتاق الطير شكلاً عيونها
وفي المنتخب : إنما قال ) إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ ( ، لأن التعذيب إنما كان واقعاً على الإيمان في المستقبل ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى ، فكأنه قال : إلا أن يدعوا على إيمانهم . انتهى . وذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به ، وهو كونه تعالى عزيزاً غالباً قادراً يخشى عقابه ، حميداً منعماً يجب له الحمد على نعمته ، له ملك السموات والأرض وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقريراً لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغي .
( وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ ( : وعيد لهم ، أي إنه علم ما فعلوا فهو يجازيهم .
البروج : ( 10 ) إن الذين فتنوا . . . . .
والظاهر أن ) الَّذِينَ فَتَنُواْ ( عام في كل من ابتلى المؤمنين والمؤمنات بتعذيب أو أذى ، وأن لهم عذابين : عذاباً لكفرهم ، وعذاباً لفتنتهم . وقال الزمخشري : يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة ، وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود ، ومعنى فتنوهم : عذبوهم بالنار وأحرقوهم ، ( فَلَهُمْ ( في الآخرة ) عَذَابَ جَهَنَّمَ ( بكفرهم ، ( وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ( : وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق ، أو لهم عذاب جهنم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق في الدنيا لما روى أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم ، انتهى . وينبغي أن لا يجوز هذا الذي جوّزه ، لأن في الآية ) ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ ( ، وأولئك المحرقون لم ينقل لنا أن أحداً منهم تاب ، بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر . وقال ابن عطية : ) ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ ( يقوي أن الآيات في قريش ، لأن هذا اللفظ في قريش

" صفحة رقم 445 "
أحكم منه في أولئك الذين قد علموا أنهم ماتوا على كفرهم . وأما قريش فكان فيهم وقت نزول الآية من تاب وآمن ، انتهى . وكذلك قوله :
البروج : ( 11 ) إن الذين آمنوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( ، المراد به العموم لا المطروحون في النار ،
البروج : ( 12 ) إن بطش ربك . . . . .
والبطش : الأخذ بقوة .
البروج : ( 13 ) إنه هو يبدئ . . . . .
( يُبْدِىء وَيُعِيدُ ( ، قال ابن زيد والضحاك : يبدىء الخلق بالإنشاء ، ويعيده بالحشر . وقال ابن عباس : عام في جميع الأشياء ، أي كلّ ما يبدأ وكل ما يعاد . وقال الطبري : يبدىء العذاب ويعيده على الكفار ؛ ونحوه عن ابن عباس قال : تأكلهم النار حتى يصيروا فحماً ، ثم يعيدهم خلقاً جديداً . وقرىء : يبدأ من بدأ ثلاثياً ، حكاه أبو زيد .
البروج : ( 14 ) وهو الغفور الودود
ولما ذكر شدّة بطشه ، ذكر كونه ، غفوراً ساتراً لذنوب عباده ، ودوداً لطيفاً بهم محسناً إليهم ، وهاتان صفتا فعل . والظاهر أن الودود مبالغة في الوادّ ؛ وعن ابن عباس : المتودد إلى عباده بالمغفرة . وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له ، وأنشد : وأركب في الروع عريانة
ذلول الجماع لقاحاً ودودا
أي : لا ولد لها تحن إليه . وقيل : الودود فعول بمعنى مفعول ، كركوب وحلوب ، أي يوده عباده الصالحون .
البروج : ( 15 ) ذو العرش المجيد
) ذُو الْعَرْشِ ( : خص العرش بإضافة نفسه تشريفاً للعرش وتنبيهاً على أنه أعظم المخلوقات . وقرأ الجمهور : ) ذُو ( بالواو ؛ وابن عامر في رواية : ذي بالياء ، صفة لربك . وقال القفال : ) ذُو الْعَرْشِ ( : ذو الملك والسلطان . ويجوز أن يراد بالعرش : السرير العالي ، ويكون خلق سريراً في سمائه في غاية العظمة ، بحيث لا يعرف عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه ، انتهى . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان : ) الْمَجِيدِ ( بخفض الدال ، صفة للعرش ، ومجادته : عظمه وعلوّه ومقداره وحسن صورته وتركيبه ، فإنه قيل : العرش أحسن الأجسام صورة وتركيباً . ومن قرأ : ذي العرش بالياء ، جاز أن يكون المجيد بالخفض صفة لذي ، والأحسن جعل هذه المرفوعات أخباراً عن هو ، فيكون
البروج : ( 16 ) فعال لما يريد
) فَعَّالٌ ( خبراً . ويجوز أن يكون ) الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ ( صفتين للغفور ، و ) فَعَّالٌ ( خبر مبتدأ وأتى بصيغة فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة ، والمعنى : أن كل ما تعلقت به إرادته فعله لا معترض عليه .
البروج : ( 17 ) هل أتاك حديث . . . . .
( هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ( : تقرير لحال الكفرة ، أي قد أتاك حديثهم ، وما جرى لهم مع أنبيائهم ، وما حل بهم من العقوبات بسبب تكذيبهم ، فكذلك يحل بقريش من العذاب مثل ما حل بهم . والجنود : الجموع المعدّة للقتال .
البروج : ( 18 ) فرعون وثمود
) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ( : بدل من ) الْجُنُودِ ( ، وكأنه على حذف مضاف ، أي جنود فرعون ، واختصر ما جرى لهم إذ هم مذكورون في غير ما سورة من القرآن . وذكر ثمود لشهرة قصتهم في بلاد العرب وهي متقدّمة ، وذكر فرعون لشهرة قصته عند أهل الكتاب وعند العرب الجاهلية أيضاً . ألا ترى إلى زهير بن أبي سلمى وقوله : ألم تر أن الله أهلك تبعا
وأهلك لقمان بن عاد وعاديا
وأهلك ذا القرنين من قبل ما لوى
وفرعون جباراً طغى والنجاشيا
وكان فرعون من المتأخرين في الهلاك ، فدل بقصته وقصة ثمود على أمثالهما من قصص الأمم المكذبين وهلاكهم .
البروج : ( 19 ) بل الذين كفروا . . . . .
( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( : أي من قومك ، ( فِى تَكْذِيبٍ ( : حسداً لك ، لم يعتبروا بما جرى لمن قبلهم حين كذبوا أنبياءهم . ) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ ( : أي هو قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون وثمود ومن كان محاطاً به ، فهو محصور في غاية لا يستطيع دفعاً ، والمعنى : دنو هلاكهم .
البروج : ( 21 ) بل هو قرآن . . . . .
ولما ذكر أنهم في تكذيب ، وأن التكذيب عمهم حتى صار كالوعاء لهم ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد كذبوه

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدليل البديل

مجلد1 ومجلد 2. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغز... مجلد3.و 4. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغزالي أ... مجلد 5.و6. إحياء علوم الدين محمد...