Translate

السبت، 28 مايو 2022

مجلد 23. ز24.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

 

23.  مجلد 23. تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 112 "
إلا على مذهب أبي الحسن في قوله : إن ركبا جمع راكب . وقال أيضاً الزمخشري : وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث ، لأنهن توابع لرجالهن . انتهى . وغيره يجعله من باب التغليب والنهي ، ليس مختصاً بانصبابه على قوم ونساء بقيد الجمعية من حيث المعنى ، وإن كان ظاهر اللفظ ذلك ، بل المعنى : لا يسخر أحد من أحد ، وإنما ذكر الجمع ، والمراد به كل فرد فرد ممن يتناوله عموم البدل . فكأنه إذا سخر الواحد ، كان بمجلسه ناس يضحكون على قوله ، أو بلغت سخريته ناساً فضحكوا ، فينقلب الحال إلى جماعة . ) عَسَى أَن يَكُونُواْ ( : أي المسخور منهم ، ( خَيْراً مّنْهُمْ ( : أي من الساخرين بهم . وهذه الجملة مستأنفة ، وردت مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه ، أي ربما يكون المسخور منه عند الله خيراً من الساخر ، لأن العلم بخفيات الأمور إنما هو لله تعالى . وعن ابن مسعود : لو سخرت من كلب ، خشيت أن أحول كلباً .
( وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء ( : روي أن عائشة وحفصة ، رضي الله تعالى عنهما ، رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها ، فقالت عائشة لحفصة : انظري إلى ما يجر خلفها ، كأنه لسان كلب . وعن عائشة ، أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية ، وكانت قصيرة . وعن أنس : كان نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) يعيرن أم سلمة بالقصر . وقالت صفية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها : هلا قلت إن أبي هارون ، وإن عمي موسى ، وإن زوجي محمد ؟ وقرأ عبد الله وأبي : عسوا أن يكونوا ، وعسين أن يكن ، فعسى ناقصة ، والجمهور : عسى فيهما تامّة ، وهي لغتان : الإضمار لغة تميم ، وتركه لغة الحجاز .
( وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( : ضم الميم في تلمزوا ، الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو . وقال أبو عمرو : هي عربية ؛ والجمهور ؛ بالكسر ، واللمز بالقول والإشارة ونحوه مما يفهمه آخر ، والهمز لا يكون إلا باللسان ، والمعنى : لا يعب بعضكم بعضاً ، كما قال : فاقتلوا أنفسكم ، كأن المؤمنين نفس واحدة ، إذ هم إخوة كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، وكالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى . ومفهوم أنفسكم أن له أن يعيب غيره ، مما لا يدين بدينه . ففي الحديث : ( اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس ) . وقيل : المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به ، لأن من فعل ما استحق اللمز ، فقد لمز نفسه .
( وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاْلْقَابِ ( : اللقب إن دل على ما يكرهه المدعو به ، كان منهياً ، وأما إذا كان حسناً ، فلا ينهى عنه . وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير . وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب ، فنزلت الآية بسبب ذلك . وفي الحديث : ( كنوا أولادكم ) . قال عطاء : مخافة الألقاب . وعن عمر : ( أشيعوا الكنى فإنها سنة ) . انتهى ، ولا سيما إذا كانت الكنية غريبة ، لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنى بها في عصره ، فإنه يطير بها ذكره في الآفاق ، وتتهادى أخباره الرفاق ، كما جرى في كنيتي بأبي حيان ، واسمي محمد . فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر ، مما يقع فيه الاشتراك ، لم أشتهر تلك الشهرة ، وأهل بلادنا جزيرة الأندلس كثيراً ما يلقبون الألقاب ، حتى قال فيهم أبو مروان الطنبي : يا أهل أندلس ما عندكم أدب
بالمشرق الأدب النفاخ بالطيب
يدعى الشباب شيوخاً في مجالسهم
والشيخ عندكم يدعى بتلقيب
فمن علماء بلادنا وصالحيهم من يدعى الواعي وباللص وبوجه نافخ ، وكل هذا يحرم تعاطيه . قيل : وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه ، وليس فيه قصد استخفاف ولا

" صفحة رقم 113 "
أذى . قالوا : وقد قال ابن مسعود لعلقمة : وتقول أنت ذلك يا أعور . وقال ابن زيد : أي لا يقول أحد لأحد يا يهودي بعد إسلامه ، ولا يا فاسق بعد توبته ، ونحو ذلك . وتلاحى ابن أبي حدرد وكعب بن مالك ، فقال له مالك : يا أعرابي ، يريد أن يبعده من الهجرة ، فقال له الآخر : يا يهودي ، يريد المخاطبة لليهود في يثرب .
( بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ ( : أي بئس اسم تنسبونه بعصيانكم نبزكم بالألقاب ، فتكونون فساقاً بالمعصية بعد إيمانكم ، أو بئس ما يقوله الرجل لأخيه يا فاسق بعد إيمانه . وقال الرماني : هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسوق والإيمان . انتهى . وقال الزمخشري : نحو قول الرماني ، قال : استقباح الجمع بعد الإيمان ، والفسق الذي يأباه الإيمان ، وهذه نزغة اعتزالية . وقال الزمخشري : الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللوم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته وحقيقة ما سمي من ذكره وارتفع بين الناس ، كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن تذكروا بالفسق . ) وَمَن لَّمْ يَتُبْ ( : أي عن هذه الأشياء ) فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( : تشديد وحكم بظلم من لم يتب .
الحجرات : ( 12 ) يا أيها الذين . . . . .
( اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ ( : أي لا تعملوا على حسبه ، وأمر تعالى باجتنابه ، لئلا يجترىء أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل وتمييز بين حقه وباطله . والمأمور باجتنابه هو بعض الظن المحكوم عليه بأنه إثم ، وتمييز المجتنب من غيره أنه لا يعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر ، كمن يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث ، كالدخول والخروج إلى حانات الخمر ، وصحبة نساء المغاني ، وإدمان النظر إلى المرد . فمثل هذا يقوي الظن فيه أنه ليس من أهل الصلاح ، ولا إثم فيه ، وإن كنا لا نراه يشرب الخمر ، ولا يزني ، ولا يعبث بالشبان ، بخلاف من ظاهره الصلاح فلا يظن به السوء . فهذا هو المنهي عنه ، ويجب أن يزيله . والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب . وقال الزمخشري : والهمزة فيه بدل عن الواو ، كأنه يثم الأعمال ، أي يكسرها بإحباطه ، وهذا ليس بشيء ، لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز . تقول : أثم يأثم فهو آثم ، والإثم والآثام ، فالهمزة أصل وليست بدلاً عن واو . وأما يثم فأصله يوثم ، وهو من مادة أخرى . وقيل : الاثم متعلق بتكلم الظان . أما إذا لم يتكلم ، فهو في فسحة ، لأنه لا يقدر على رفع الخواطر التي يبيحها قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( الحزم سوء الظن ) . وقرأ الجمهور : ولا تجسسوا بالجيم . وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء وهما متقاربان ، نهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه . وقيل لابن مسعود : هل لك في فلان تقطر لحيته خمراً ؟ فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به . وفي الحديث : ( أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم ) ، وقد وقع عمر رضي الله تعالى عنه في حراسته على من كان في ظاهره ريبة ، وكان دخل عليه هجماً ، فلما ذكر له نهي الله تعالى عن التجسس ، انصرف عمر .
( وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ( ، يقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله ؛ والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة من الاغتيال ، وهي ذكر الرجل بما يكره مما هو فيه . وفي الحديث : ( سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما الغيبة فقال : أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع ، فقال : يا رسول الله وإن كان حقاً ؟ قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إذا قلت باطلاً فذلك البهتان ) ، وفي الصحيحين فقد بهته . وقال ابن عباس : الغيبة أدام كلاب الناس . وقالت عائشة عن امرأة : ما رأيت أجمل منها ، إلا أنها قصيرة . فقال لها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( اغتبتيها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرتيه ) . وحكى الزهراوي عن جابر ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب الله عليه ، والذي يغتاب فلا يتاب عليه حتى يستحل

" صفحة رقم 114 "
وعرض المسلم مثل دمه في التحريم ) . وفي الحديث المستفيض : ( فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم ) . ولا يباح من هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه ، من تجريح الشهود والرواة ، والخطاب إذا استنصح من يخطب إليه من يعرفهم ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم ، ومنه :
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
) أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ( ، قال الزمخشري : تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه ، وفيه مبالغات شتى ، منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها : جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها : أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتاً . انتهى . وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليه الطبع ، وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل ، وهو أحق أن يجاب ، لأنه بصير عالم ، والطبع أعمى جاهل . انتهى . وقال أبو زيد السهيلي : ضرب المثل لأخذه العرض يأكل اللحم ، لأن اللحم ستر على العظم ، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر .
وقال تعالى : ) مَيْتًا ( ، لأن الميت لا يحس ، وكذلك الغائب لا يسمع ما يقول فيه المغتاب ، ثم هو في التحريم كآكل لحم الميت . انتهى . وروي في الحديث : ( ما صام من أكل لحوم الناس ) . وقال أبو قلابة الرياشي : سمعت أبا عاصم يقول : ما اغتبت أحداً منذ عرفت ما في الغيبة . وقيل : لعمر بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك ، قال : إياه فارحموا . وقال رجل للحسن : بلغني أنك تغتابني ، قال : لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي . وانتصب ميتاً على الحال من لحم ، وأجاز الزمخشري أن ينتصب عن الأخ ، وهو ضعيف ، لأن المجرور بالإضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كان له موضع من الإعراب ، نحو : أعجبني ركوب الفرس مسرجاً ، وقيام زيد مسرعاً . فالفرس في موضع نصب ، وزيد في موضع رفع . وقد أجاز بعض أصحابنا أنه إذا كان الأول جزأ أو كالجزء ، جاز انتصاب الحال من الثاني ، وقد رددنا عليه ذلك فيما كتبناه في علم النحو . ) فَكَرِهْتُمُوهُ ( ، قال الفراء : أي فقد كرهتموه ، فلا تفعلون . وقيل : لما وقفهم على التوبيخ بقوله : ) أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ( ، فأجاب عن هذا : لأنهم في حكم من يقولها ، فخوطبوا على أنهم قالوا لا ، فقيل لهم : فكرهتموه ، وبعد هذا يقدر فلذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك . وعلى هذا التقدير يعطف قوله : ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( ، قاله أبو علي الفارسي ، وفيه عجرفة العجم .
وقال الزمخشري : ولما قررهم عز وجل بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه ، عقب ذلك بقوله : ) فَكَرِهْتُمُوهُ ( ، أي فتحققت بوجوب الإقرار عليكم بأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره لإباء البشرية عليكم أن تجحدوا كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أيضاً أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين . انتهى ، وفيه أيضاً عجرفة العجم . والذي قدره الفراء أسهل وأقل تكلفاً ، وأجرى على قواعد العربية . وقى ل : لفظه خبر ، ومعناه الأمر ، تقديره : فاكرهوه ، ولذلك عطف عليه ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( ، ووضع الماضي موضع الأمر في لسان العرب كثير ، ومنه اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه ، أي ليتق الله ، ولذلك انجزم يثب على جواب الأمر .
وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية . جاء الأمر أولاً باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم ، وهو الظن ؛ ثم نهى ثانياً عن طلب تحقق ذلك الظن ، فيصير علماً بقوله : ) وَلاَ تَجَسَّسُواْ ( ؛ ثم نهى ثالثاً عن ذكر ذلك إذا علم ، فهذه أمور ثلاثة مترتبة ، ظنّ فعلم بالتجسس فاغتياب . وضمير النصف في كرهتموه ، الظاهر أنه عائد على الأكل . وقيل : على الميت . وقرأ أبو سعيد الخدري ، وأبو حيوة : فكرّهتموه ، الظاهر أنه عائد على الأكل . وقيل : على الميت . وقرأ أبو سعيد الخدري ، وأبو حيوة : فكرّهتموه ، بضم الكاف وتشديد الراء ؛ ورواها الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والجمهور : بفتح الكاف وتخفيف الراء ، وكره يتعدى إلى واحد ، فقياسه إذا ضعف أن يتعدى إلى اثنين ، كقراءة الخدري ومن معه ، أي جعلتم فكرهتموه . فأما قوله : ) وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ( فعلى التضمين بمعنى بغض ، وهو يتعدى لواحد ، وبإلى إلى آخر ، وبغض منقول بالتضعيف من بغض الشيء إلى زيد

" صفحة رقم 115 "
والظاهر عطف ) عَبْدُ اللَّهِ ( على ما قبله من الأمر والنهي . قوله عز وجل :
) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير ( سقط : إلى آخر الآية ) ٌ ).
الحجرات : ( 13 ) يا أيها الناس . . . . .
قيل : غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة ، فنزلت . وعن ابن عباس ، سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يا ابن فلانة ؛ فوبخه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقال له : ( إنك لا تفضل أحداً إلا في الدين والتقوى ) . ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضاً . ) مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( : أي من آدم وحواء ، أو كل أحد منكم من أب وأم ، فكل واحد منكم مساوٍ للآخر في ذلك الوجه ، فلا وجه للتفاخر . ) وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ ( : وتقدم الكلام على شيء من ذلك في المفرادت . وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب ، والأسباط في بني إسرائيل . وقيل : الشعوب : عرب اليمن من قحطان ، والقبائل : ربيعة ومضر وسائر عدنان . وقال قتادة ، ومجاهد ، والضحاك : الشعب : النسب الأبعد ، والقبيلة : الأقرب ، قال الشاعر : قبائل من شعوب ليس فيهم
كريم قد يعدّ ولا نجيب
وقيل : الشعوب : الموالي ، والقبائل : العرب . وقال أبو روق : الشعوب : الذين ينسبون إلى المدائن والقرى ، والقبائل : الذين ينسبون إلى آبائهم . انتهى . وواحد الشعوب شعب ، بفتح الشين . وشعب : بطن من همدان ينسب إليه عامر الشعبي من سادات التابعين ، والنسب إلى الشعوب شعوبية ، بفتح الشين ، وهم الأمم التي ليست بعرب . وقيل : هم الذين يفضلون العجم على العرب ، وكان أبو عبيدة خارجياً شعوبياً ، وله كتاب في مناقب العرب ، ولابن غرسبة رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب ، وقد رد عليه ذلك علماء الأندلس برسائل عديدة . وقرأ الجمهور : ) لِتَعَارَفُواْ ( ، مضارع تعارف ، محذوف التاء ؛ والأعمش : بتاءين ؛ ومجاهد ، وابن كثير في رواية ، وابن محيصن : بإدغام التاء في التاء ؛ وابن عباس ، وأبان عن عاصم : لتعرفوا ، مضارع عرف ؛ والمعنى : أنكم جعلكم الله تعالى ما ذكر ، كي يعرف بعضكم بعضاً في النسب ، فلا ينتمي إلى غير آبائه ، لا التفاخر بالآباء والأجداد ، ودعوى التفاضل ، وهي التقوى . وفي خطبته عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة : ( إنما الناس رجلان ، مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله ) ، ثم قرأ الآية . وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله ) . وما زال التفاخر بالأنساب في الجاهلية والإسلام ، وبالبلاد ، وبالبلاد وبالمذاهب وبالعلوم وبالصنائع ، وأكثره بالأنساب : وأعجب شيء إلى عاقل
فروع عن المجد مستأخره

" صفحة رقم 116 "
إذا سئلوا ما لهم من علا
أشاروا إلى أعظم ناخره
ومن ذلك : افتخار أولاد مشايخ الزوايا الصوفية بآبائهم ، واحترام الناس لهم بذلك وتعظيمهم لهم ، وإن كان الأولاد بخلاف الآباء في الدين والصلاح . وقرأ الجمهور : إن ، بكسر الهمزة ؛ وابن عباس : بفتحها ، وكان قرأ : لتعرفوا ، مضارع عرف ، فاحتمل أن تكون أن معمولة لتعرفوا ، وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر ، وهو أجود من حيث المعنى . وأما إن كانت لام كي ، فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوباً وقبائل لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى . فإن جعلت مفعول لتعرفوا محذوفاً ، أي لتعرفوا الحق ، لأن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ساغ في لام لتعارفوا أن تكون لام كي .
الحجرات : ( 14 ) قالت الأعراب آمنا . . . . .
( قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا ( ، قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة ، قبيلة تجاور المدينة ، أظهروا الإسلام وقلوبهم دخلة ، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا . وقيل : مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا آمنا فاستحققنا الكرامة ، فردّ الله تعالى عليهم بقوله : ) قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( ، أكذبهم الله في دعوى الإيمان ، ولم يصرح بإكذابهم بلفظه ، بل بما دل عليه من انتفاء إيمانهم ، وهذا في أعراب مخصوصين . فقد قال الله تعالى : ) وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( الآية .
( وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( ، فهو اللفظ الصادق من أقوالكم ، وهو الاستسلام والانقياد ظاهراً ، ولم يواطىء أقوالكم ما في قلوبكم ، فلذلك قال : ) وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( : وجاء النفي بلما الدالة على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار ، وتبين أن قوله : ) لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي ، بل متصلاً بزمان الإخبار أيضاً ، لأنك إذا نفيت بلم ، جاز أن يكون النفي قد انقطع ، ولذلك يجوز أن تقول : لم يقم زيد وقد قام ، وجاز أن يكون النفي متصلاً بزمن الإخبار . فإذا كان متصلاً بزمن الإخبار ، لم يجز أن تقول : وقد قام ، لتكاذب الخبرين . وأما لما ، فإنها تدل على نفي الشيء متصلاً بزمان الإخبار ، ولذلك امتنع لما يقم زيد وقد قام للتكاذب . والظاهر أن قوله : ) لَّمّاً يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( ليس له تعلق بما قبله من جهة الإعراب . وقال الزمخشري : فإن قلت : هو بعد قوله : ) قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة ؛ قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله : ) لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( هو تكذيب دعواهم ، وقوله : ) وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم : ) وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم ، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قوله : ) قُولُواْ ). انتهى .
والذي يظهر أنهم أمروا أن يقولوا : ) قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( غير مقيد بحال ، وأن ) وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ ( إخبار غير قيد في قولهم . وقال الزمخشري : وما في لما من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد . انتهى ، ولا أدري من أي وجه يكون ما نفي بلما يقع بعد ولما ، إنما تنفي ما كان متصلاً بزمان الإخبار ، ولا تدل على ما ذكر ، وهي جواب لقد فعل ، وهب أن قد تدل على توقع الفعل . فإذا نفي ما دل على التوقع ، فكيف يتوهم أنه يقع بعد : ) وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( بالإيمان والأعمال ؟ وهذا فتح لباب التوبة . وقرأ الجمهور : ) لاَ يَلِتْكُمْ ( ، من لات يليت ، وهي لغة الحجاز . والحسن والأعرج وأبو عمرو : ولا يألتكم ، من ألت ، وهي لغة غطفان وأسد .
الحجرات : ( 15 ) إنما المؤمنون الذين . . . . .
( ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ ( ، ثم تقتضي التراخي ، وانتفاء الريبة يجب أن يقارن الإيمان ، فقيل : من ترتيب الكلام لا من ترتيب الزمان ، أي ثم أقول لم يرتابوا . وقيل : قد يخلص الإيمان ، ثم يعترضه ما يثلم إخلاصه ، فنفي ذلك ، فحصل التراخي ، أو أريد انتفاء الريبة في الأزمان المتراخية المتطاولة ، فحاله في ذلك كحاله في الزمان الأول الذي آمن فيه . ) أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( : أي في قولهم آمنا ، حيث طابقت ألسنتهم عقائدهم ، وظهرت ثمرة ذلك عليهم بالجهاد بالنفس والمال . وفي سبيل الله يشمل جميع الطاعات البدنية والمالية ، وليسوا كأعراب بني أسد في قولهم آمنا ، وهم كاذبون في ذلك .
الحجرات : ( 16 ) قل أتعلمون الله . . . . .
( قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ ( ، هي منقولة من : علمت به ، أي شعرت به ، ولذلك تعدّت إلى واحد

" صفحة رقم 117 "
بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر لما ثقلت بالتضعيف ، وفي ذلك تجهيل لهم ، حيث ظنوا أن ذلك يخفى على الله تعالى . ثم ذكر إحاطة علمه بما في السموات والأرض .
الحجرات : ( 17 ) يمنون عليك أن . . . . .
ويقال : منّ عليهم بيد أسداها إليه ، أي أنعم عليه . المنة : النعمة التي لا يطلب لها ثواب ، ثم يقال : منّ عليه صنعه ، إذا اعتده عليه منة وإنعاماً ، أي يعتدون عليك أن أسلموا ، فإن أسلموا في موضع المفعول ، ولذلك تعدى إليه في قوله : ) قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَامَكُمْ ). ويجوز أن يكون أسلموا مفعولاً من أجله ، أي يتفضلون عليك بإسلامهم . ) أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ ( بزعمكم ، وتعليق المن بهدايتهم بشرط الصدق يدل على أنهم ليسوا مؤمنين ، إذ قد بين تعالى كذبهم في قولهم آمنا بقوله : ) قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ). وقرأ عبد الله وزيد بن عليّ ، إذ هداكم ، جعلا إذ مكان إن ، وكلاهما تعليل ، وجواب الشرط محذوف ، أي ) إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ، فهو المانّ عليكم .
الحجرات : ( 18 ) إن الله يعلم . . . . .
وقرأ ابن كثير وأبان عن عاصم : يعلمون ، بياء الغيبة ، والجمهور : بتاء الخطاب .

" صفحة رقم 118 "
50
( سورة ق )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قوَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاٌّ رْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِىأَمْرٍ مَّرِيجٍ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالاٌّ رْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَالِكَ الْخُرُوجُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الاٌّ يْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاٌّ وَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَلٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاّتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ وَكَم

" صفحة رقم 119 "
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الاٌّ رْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( )
ق : ( 1 ) ق والقرآن المجيد
بسقت النخلة بسوقاً : طالت ، قال الشاعر : لنا خمر وليست خمر كرم
ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السماء ذهبن طولا
وفات ثمارها أيدي الجناة
وبسق فلان على أصحابه : أي علاهم ، ومنه قول ابن نوفل في ابن هبيرة : يا ابن الذين بمجدهم
بسقت على قيس فزاره
ويقال : بسقت الشاة : ولدت ، وأبسقت الناقة : وقع في ضرعها اللبأ قبل النتاج فهي مبسق ، ونوق مباسق . حاد عن الشيء : مال عنه ، حيوداً وحيدة وحيدودة . الوريد : عرق كبير في العنق ، يقال : إنهما وريدان عن يمين وشمال . وقال الفراء : هو ما بين الحلقوم والعلباوين . وقال الأثرم : هو نهر الجسد ، هو في القلب : الوتين ، وفي الظهر : الأبهر ، وفي الذراع والفخذ : الأكحل والنسا ، وفي الخنصر : الأسلم . وقال الزمخشري : والوريدان عرقان مكتنفان بصحفتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين ، يردان من الرأس إليه ، سمي وريداً لأن الروح ترده . قال : كان وريديه رشا صلب ) ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَىْء عَجِيبٌ مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاْرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذالِكَ الْخُرُوجُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ وَثَمُودُ

" صفحة رقم 120 "
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الاْيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ).
هذه السورة مكية ، قال ابن عطية : بإجماع من المتأولين . وقال صاحب التحرير : قال ابن عباس ، وقتادة : مكية إلا آية ، وهي قوله تعالى : ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الآية . ومناسبتها لآخر ما قبلها ، أنه تعالى أخبر أن أولئك الذين قالوا آمنا ، لم يكن إيمانهم حقاً ، وانتفاء إيمانهم دليل على إنكار نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال : ) بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ ). وعدم الإيمان أيضاً يدل على إنكار البعث ، فلذلك أعقبه به . وق حرف هجاء ، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولاً متعارضة ، لا دليل على صحة شيء منها ، فأطرحت نقلها في كتابي هذا .
( وَالْقُرْءانِ ( مقسم به و ) الْمَجِيدِ ( صفته ، وهو الشريف على غيره من الكتب ، والجواب محذوف يدل عليه ما بعده ، وتقديره : أنك جئتهم منذراً بالبعث ، فلم يقبلوا .
ق : ( 2 ) بل عجبوا أن . . . . .
( بَلْ عَجِبُواْ ( ، وقيل : ما ردوا أمرك بحجة . وقال الأخفش ، والمبرد ، والزجاج : تقديره لتبعثن . وقيل : الجواب مذكور ، فعن الأخفش قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ؛ وعن ابن كيسان ، والأخفش : ما يلفظ من قول ؛ وعن نحاة الكوفة : بل عجبوا ، والمعنى : لقد عجبوا . وقيل : إن في ذلك لذكرى ، وهو اختيار محمد بن علي الترمذي . وقيل : ما يبدل القول لديّ ، وهذه كلها أقوال ضعيفة . وقرأ الجمهور : قاف بسكون الفاء ، ويفتحها عيسى ، ويكسرها الحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال ؛ وبالضم : هارون وابن السميفع والحسن أيضاً ؛ فيما نقل ابن خالويه . والأصل في حروف المعجم ، إذا لم تركب مع عامل ، أن تكون موقوفة . فمن فتح قاف ، عدل إلى الحركات ؛ ومن كسر ، فعلى أصل التقاء الساكنين ؛ ومن ضم ، فكما ضم قط ومنذ وحيث .
( بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ ( : إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب ، وهو أن ينذرهم بالخوف رجل منهم قد عرفوا صدقه وأمانته ونصحه ، فكان المناسب أن لا يعجبوا ، وهذا مع اعترافهم بقدرة الله تعالى ، فأي بعد في أن يبعث من يخوف وينذر بما يكون في المآكل من البعث والجزاء . والضمير في ) بَلْ عَجِبُواْ ( عائد على الكفار ، ويكون قوله : ) فَقَالَ الْكَافِرُونَ ( تنبيهاً على القلة الموجبة للعجب ، وهو أنهم قد جبلوا على الكفر ، فلذلك عجبوا . وقيل : الضمير عائد على الناس ، قيل : لأن كل مفطور يعجب من بعثة بشر رسولاً من الله ، لكن من وفق نظر فاهتدى وآمن ، ومن خذل ضل وكفر ؛ وحاج بذلك العجب والإشارة بقولهم : ) هَاذَا شَىْء عَجِيبٌ ( ، الظاهر أنها إلى مجيء منذر من البشر . وقيل : إلى ما تضمنه الإنذار ، وهو الإخبار بالبعث . وقال الزمخشري : وهذا إشارة إلى المرجع . انتهى ، وفيه بعد .
ق : ( 3 ) أئذا متنا وكنا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أئذأ ( بالاستفهام ، وهم على أصولهم في تحقيق الثانية وتسهيلها والفصل بينهما . وقرأ الأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وابن وثاب ، والأعمش ، وابن عتبة عن ابن عامر : إذا بهمزة واحدة على صورة الخبر ، فجاز أن يكون استفهاماً حذفت منه الهمزة ، وجاز أن يكونوا عدلوا إلى الخبر وأضمر جواب إذا ، أي إذا متنا وكنا تراباً رجعنا . وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب رجع بعيد على تقدير حذف الفاء ، وقد أجاز بعضهم في جواب الشرط ذلك إذا كان جملة اسمية ، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة . وأما في قراءة الاستفهام ، فالظرف منصوب بمضمر ، أي : أنبعث إذا متنا ؟ وإليه الإشارة بقوله ذلك ، أي البعث .
( ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ، أي مستبعد في الأوهام والفكر . وقال الزمخشري : وإذا منصوب بمضمر معناه : أحين نموت ونبلى نرجع ؟ انتهى . وأخذه من قول ابن جني ، قال ابن جني : ويحتمل أن يكون المعنى : أئذا متنا بعد رجعنا ، فدل رجع بعيد على هذا الفعل ، ويحل محل الجواب لقولهم أئذا . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع ، وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث ، والوقف قبله على هذا التفسير حسن . فإن قلت : فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع ؟ قلت : ما دل عليه المنذر من المنذر به ، وهو البعث . انتهى . وكون ذلك رجع بعيد بمعنى مرجوع ، وأنه من كلام الله تعالى ، لا من كلامهم ، على ما شرحه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب .
ق : ( 4 ) قد علمنا ما . . . . .
( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاْرْضَ مِنْهُمْ ( : أي من لحومهم وعظامهم وآثارهم ، قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور ، وهذا فيه رد لاستبعادهم الرجع ، لأن من كان عالماً بذلك

" صفحة رقم 121 "
كان قادراً على رجعهم . وقال السدي : أي ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم ، وهذا يتضمن الوعيد . ) وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( : أي حافظ لما فيه جامع ، لا يفوت منه شيء ، أو محفوظ من البلى والتغير . وقيل : هو عبارة عن العلم والإحصاء . وفي الخبر الثابت أن الأرض تأكل ابن آدم الأعجب الذنب ، وهو عظم كالخردلة منه يركب ابن آدم .
ق : ( 5 ) بل كذبوا بالحق . . . . .
( بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ ( : وقدروا قبل هذا الإضراب جملة يكون مضروباً عنها ، أي ما أجادوا والنظر ، بل كذبوا . وقيل : لم يكذبوا المنذر ، بل كذبوا ، والغالب أن الإضراب يكون بعد جملة منفية . وقال الزمخشري : بل كذبوا : إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم ، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات . انتهى . وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأول ، وكلاهما بعد ذلك الجواب الذي قدرناه جواباً للقسم ، فلا يكون قبل الثانية ما قدروه من قولهم : ما أجادوا النظر ، ( بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ ( ، والحق : القرآن ، أو البعث ، أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو الإسلام ، أقوال . وقرأ الجمهور : ) لَمَّا جَاءهُمْ ( : أي لم يفكروا فيه ، بل بأول ما جاءهم كذبوا ؛ والجحدري : لما جاءهم ، بكسر اللام وتخفيف الميم ، وما مصدرية ، واللام لام الجر ، كهي في قولهم كتبته لخمس خلون أي عند مجيئهم إياه . ) فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ ( ، قال الضحاك ، وابن زيد : مختلط : مرة ساحر ، ومرة شاعر ، ومرة كاهن . قال قتادة : مختلف . وقال الحسن : ملتبس . وقال أبو هريرة : فاسد . ومرجت أمانات الناس : فسدت ، ومرج الدين : اختلط . قال أبو واقد : ومرج الدين فأعددت له
مسرف الحارك محبوك الكند
وقال ابن عباس : المريج : الأمر المنكر ، وعنه أيضاً مختلط ، وقال الشاعر : فجالت والتمست لها حشاها
فخر كأنه خوط مريج
والأصل فيه الاضطراب والقلق . مرج الخاتم في أصبعي ، إذا قلق من الهزال . ويجوز أن يكون الأمر المريج ، باعتبار انتقال أفكارهم فيما جاء به المنذر قائلاً عدم قبولهم أول إنذاره إياهم ، ثم العجب منهم ، ثم استعباد البعث الذي أنذر به ، ثم التكذيب لما جاء به .
ق : ( 6 ) أفلم ينظروا إلى . . . . .
( أَفَلَمْ يَنظُرُواْ ( حين كفروا بالبعث وبما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى آثار قدرة الله تعالى في العالم العلوي والسفلي ، ( كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ( مرتفعة من غير عمد ، ( وَزَيَّنَّاهَا ( بالنيرين وبالنجوم ، ( وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ( : أي من فتوق وسقوف ، بل هي سليمة من كل خلل .
ق : ( 7 ) والأرض مددناها وألقينا . . . . .
( وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا ( : بسطناها ، ( وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ ( ، أي جبالاً ثوابت تمنعها من التكفؤ ، ( مِن كُلّ زَوْجٍ ( : أي نوع ، ( بَهِيجٍ ( : أي حسن المنظر بهيج ، أي يسر من نظر إليه .
ق : ( 8 ) تبصرة وذكرى لكل . . . . .
وقرأ الجمهور : ) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى ( بالنصب ، وهما منصوبان بفعل مضمر من لفظهما ، أي بصر وذكر . وقيل : مفعول من أجله . وقرأ زيد بن علي : تبصرة بالرفع ، وذكر معطوف عليه ، أي ذلك الخلق على ذلك الوصف تبصرة ، والمعنى : يتبصر بذلك ويتذكر ، ( كُلٌّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( : أي راجع إلى ربه مفكر في بدائع صنعه .
ق : ( 9 ) ونزلنا من السماء . . . . .
( مَاء مُّبَارَكاً ( : أي كثير المنفعة ، ( وَحَبَّ الْحَصِيدِ ( : أي الحب الحصيد ، فهو من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، كما يقوله البصريون ، والحصيد : كل ما يحصد مما له حب ، كالبر والشعير .
ق : ( 10 ) والنخل باسقات لها . . . . .
( بَاسِقَاتٍ ( : أي طوالاً في العلو ، وهو منصوب على الحال ، وهي حال مقدرة ، لأنها حالة الإنبات ، لم تكن طوالاً . وباسقات جمع . ) وَالنَّخْلَ ( اسم جنس ، فيجوز أن يذكر ، نحو قوله : ) نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ( ، وأن يؤنث نحو قوله تعالى : ) نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( ، وأن يجمع باعتبار إفراده ، ومنه باسقات ، وقوله : ) وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ ). والجمهور : باسقات بالسين . وروى قطبة بن مالك ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أنه قرأ : باصقات بالصاد ، وهي

" صفحة رقم 122 "
لغة لبني العنبر ، يبدلون من السين صاداً إذا وليتها ، أو فصل بحرف أو حرفين ، خاء أو عين أو قاف أو طاء . ) لَّهَا طَلْعٌ ( : تقدم شرحه عند ) مِن طَلْعِهَا قِنْوانٌ دَانِيَةٌ ).
) نَّضِيدٌ ( : أي منضود بعضه فوق بعض ، بريد كثرة الطلع وتراكمه ، أي كثرة ما فيه من الثمر . وأول ظهور الثمر في الكفرى هو أبيض ينضد كحب الرمان ، فما دام ملتصقاً بعضه ببعض فهو نضيد ، فإذا خرج من الكفرى تفرق فليس بنضيد .
ق : ( 11 ) رزقا للعباد وأحيينا . . . . .
و ) رِزْقاً ( نصب على المصدر ، لأن معنى : وأنبتنا رزقنا ، أو على أنه مفعول له . وقرأ الجمهور : ) مَيْتًا ( بالتخفيف ؛ وأبو جعفر ، وخالد : بالتثقيل ، والإشارة في ذلك إلى الإحياء ، أي الخروج من الأرض أحياء بعد موتكم ، مثل ذلك الحياة للبلدة الميت ، وهذه كلها أمثلة وأدلة على البعث .
وذكر تعالى في السماء ثلاثة : البناء والتزين ونفي الفروج ، وفي الأرض ثلاثة : المد وإلقاء الرواسي والإنبات . قابل المد بالبناء ، لأن المد وضع والبناء رفع . وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب ، لارتكاز كل واحد منهما . والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج ، فلا شق فيها . ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقي أصله ، وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة ، وعلى ما اختلط من جنسين ، فبعض الثمار فاكهة لا قوت ، وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت .
ق : ( 12 - 14 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
ولما ذكر تعالى قوله : ) بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ ( ، ذكر من كذب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، تسلية لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتقدم الكلام على مفردات هذه الآية هذه الآية وقصص من ذكر فيها . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وطلحة ، ونافع : الأيكة بلام التعريف ؛ والجمهور : ليكة . ) كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ( : أي كلهم ، أي جميعهم كذب ؛ وحمل على لفظ كل ، فأفرد الضمير في كذب . وقال الزمخشري : يجوز أن يراد به كل واحد منهم . انتهى . والتنوين في كل تنوين عوض من المضاف إليه المحذوف . وأجاز محمد بن الوليد ، وهو من قدماء نحاة مصر ، أن يحذف التنوين من كل جعله غاية ، ويبنى على الضم ، كما يبنى قبل وبعد ، فأجاز كل منطلق بضم اللام دون تنوين ، ورد ذلك عليه الأخفش الصغير ، وهو علي بن سليمان . ) فَحَقَّ وَعِيدِ ( : أي وجب تعذيب الأمم المكذبة وإهلاكهم ، وفي ذلك تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتهديد لقريش ومن كذب الرسول .
قوله عز وجل : ) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ).
ق : ( 15 ) أفعيينا بالخلق الأول . . . . .
( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( : وهو إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج ، وتقدم تفسير عيي في قوله تعالى : ) وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ ). وقرأ الجمهور : أفعيينا ، بياء مكسورة بعدها ياء ساكنة ، ماضي عيي ، كرضي . وقرأ ابن أبي عبلة ، والوليد بن مسلم ، والقورصبي عن أبي جعفر ، والسمسار عن شيبة ، وأبو بحر عن نافع : بتشديد الياء من غير إشباع في الثانية ، هكذا قال أبو القاسم الهذلي في كتاب الكامل . وقال ابن خالويه في كتاب شواذ القراآت له : أفعينا بتشديد الياء . ابن أبي عبلة ، وفكرت في توجيه هذه القراءة ، إذ لم يذكر أحد توجيهها ، فخرجتها على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي ، فقال : عي في عيي ، وحي في حيي . فلما أدغم ، ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه ، ولم يفك الإدغام فقال : عيناً ، وهي لغة لبعض بكر بن وائل ، يقولون في رددت ورددنا : ردت وردنا ، فلا يفكون ، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشدّدة مفتوحة . فلو كان نا ضمير نصب ، لاجتمعت العرب على الإدغام ، نحو : ردّنا زيد . وقال الحسن : الخلق الأول آدم عليه السلام ، والمعنى : أعجزنا عن الخلق الأول ، فنعجز عن الخلق الثاني ، وهذا توقيف للكفار ، وتوبيخ وإقامة الحجة الواضحة عليهم . ) بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ ( : أي خلط وشبهة وحيرة ، ومنه قول علي : يا جار إنه لملبوس عليك ،

" صفحة رقم 123 "
اعرف الحق تعرف أهله . ) مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( : أي من البعث من القبور .
ق : ( 16 ) ولقد خلقنا الإنسان . . . . .
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ ( : هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث ، والإنسان إسم جنس . وقيل : آدم . ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ ( : قرب علم به وبأحواله ، لا يخفى عليه شيء من خفياته ، فكأن ذاته قريبة منه ، كما يقال : الله في كل مكان ، أي بعلمه ، وهو منزه عن الأمكنة . و ) حَبْلِ الْوَرِيدِ ( : مثل في فرط القرب ، كقول العرب : هو مني مقعد القابلة ، ومقعد الإزار . قال ذو الرمة :
والموت أدنى لي من الوريد
والحبل : العرق الذي شبه بواحد الحبال ، وإضافته إلى الوريد للبيان ، كقولهم : بعير سانية . أو يراد حبل العاتق ، فيضاف إلى الوريد ، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد ، والعامل في إذ أقرب . وقيل : اذكر ، قيل : ويحسن تقدير اذكر ، لأنه أخبر خبراً مجرداً بالخلق والعلم بخطرات الأنفس ، والقرب بالقدرة والملك .
ق : ( 17 ) إذ يتلقى المتلقيان . . . . .
فلما تم الإخبار ، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر ، وتعين وروده عند السامع . فمنها : ) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ ( ، ومنها مجيء سكرة الموت ، ومنها : النفخ في الصور ، ومنها : مجيء كل نفس معها سائق وشهيد . والمتلقيان : الملكان الموكلان بكل إنسان ؛ ملك اليمين يكتب الحسنات ، وملك الشمال يكتب السيئآت . وقال الحسن : الحفظة أربعة ، اثنان بالنهار واثنان بالليل . وقعيدة : مفرد ، فاحتمل أن يكون معناه : مقاعد ، كما تقول : جليس وخليط : أي مجالس ومخالط ، وأن يكون عدل من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، كعليم . قال الكوفيون : مفرد أقيم مقام اثنين ، والاجود أن يكون حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، أي عن اليمين قعيد ، كما قال الشاعر : رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريئاً ومن أجل الطوى رماني
على أحسن الوجهين فيه ، أي كنت منه برياً ، ووالدي برياً . ومذهب المبرد أن التقدير عن اليمين قعيد ، وعن الشمال ، فأخر قعيد عن موضعه . ومذهب الفراء أن لفظ قعيد يدل على الاثنين والجمع ، فلا يحتاج إلى تقدير .
ق : ( 18 ) ما يلفظ من . . . . .
وقرأ الجمهور : ) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ ( ، وظاهر ما يلفظ العموم . قال مجاهد ، وأبو الحوراء : يكتب عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه . وقال الحسن ، وقتادة : يكتبان جميع الكلام ، فيثبت الله تعالى من ذلك الحسنات والسيئات ، ويمحو غير ذلك . وقيل : هو مخصوص ، أي من قول خير أو شر . وقال : معناه عكرمة ، وما خرج عن هذا لا يكتب . واختلفوا في تعيين قعود الملكين ، ولا يصح فيه شيء . ) رَقِيبٌ ( : ملك يرقب . ) عَتِيدٌ ( : حاضر ، وإذا كان على اللفظ رقيب عتيد ، فأحرى على العمل . وقال الحسن : فإذا مات ، طويت صحيفته . وقيل : له يوم القيامة اقرأ كتابك .
ق : ( 19 ) وجاءت سكرة الموت . . . . .
( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ( : هو معطوف على ) إِذْ يَتَلَقَّى ( ، وسكرة الموت : ما يعتري الإنسان عند نزاعه ، والباء في ) بِالْحَقّ ( للتعدية ، أي جاءت سكرة الموت الحق ، وهو الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله ، من سعادة الميت أو شقاوته ، أو للحال ، أي ملتبسه بالحق . وقرأ ابن مسعود : سكران جمعاً . ) ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( : أي تميل . تقول : أعيش كذا وأعيش كذا ، فمتى فكر في قرب الموت ، حاد بذهنه عنه وأمل إلى مسافة بعيدة من الزمن . ومن الحيد : الحذر من الموت ، وظاهر تحيد أنه خطاب للإنسان الذي جاءته سكرة الموت . وقال الزمخشري : الخطاب للفاجر . تحيد : تنفر وتهرب .
ق : ( 20 ) ونفخ في الصور . . . . .
( ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ ( ، هو على حذف : أي وقت ذلك يوم الوعيد . والإشارة إلى مصدر نفخ ، وأضاف اليوم إلى الوعيد ، وإن كان يوم الوعد والوعيد معاً على سبيل التخويف .
ق : ( 21 ) وجاءت كل نفس . . . . .
وقرأ الجمهور : معها ؛ وطلحة : بالحاء مثقلة ، أدغم العين في

" صفحة رقم 124 "
الهاء ، فانقلبتا حاء ؛ كما قالوا : ذهب محم ، يريد معهم ، ( سَائِقٌ ( : جاث على السير ، ( وَشَهِيدٌ ( : يشهد عليه . قال عثمان بن عفان ، ومجاهد وغيره : ملكان موكلان بكل إنسان ، أحدهما يسوقه ، والآخر من حفظه يشهد عليه . وقال أبو هريرة : السائق ملك ، والشهيد النبي . وقيل : الشهيد : الكتاب الذي يلقاه منشوراً ، والظاهر أن قوله : ) سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( اسما جنس ، فالسائق : ملائكة موكلون بذلك ، والشهيد : الحفظة وكل من يشهد . وقال ابن عباس ، والضحاك : السائق ملك ، والشهيد : جوارح الإنسان . قال ابن عطية : وهذا يبعد عن ابن عباس ، لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي ، وقوله : كل نفس يعم الصالحين ، فإنما معناه : وشهيد بخيره وشره . ويقوى في شهيد اسم الجنس ، فشهد بالخير الملائكة والبقاع ، ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ) . وقال أبو هريرة : السائق ملك ، والشهيد العمل . وقال أبو مسلم : السائق شيطان ، وهو قول ضعيف . وقال الزمخشري : ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر يشهد عليه بعمله ؛ أو ملك واحد جامع بين الأمرين ، كأنه قيل : كأنه قيل : ملك يسوقه ويشهد عليه ويحل معها سائق النصب على الحال من كل لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة ، هذا كلام ساقط لا يصدر عن مبتدىء في النحو ، لأنه لو نعت كل نفس ، لما نعت إلا بالنكرة ، فهو نكرة على كل حال ، فلا يمكن أن يتعرف كل ، وهو مضاف إلى نكرة .
قوله عز وجل : ) لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) .
ق : ( 22 ) لقد كنت في . . . . .
قرأ الجمهور : ) لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ ( ، بفتح التاء ، والكاف في كنت وغطاءك وبصرك ؛ والجحدري : بكسرها على مخاطبة النفس . وقرأ الجمهور : ) عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ( ، بفتح التاء والكاف ، حملاً على لفظ كل من التذكير ؛ والجحدري ، وطلحة بن مصرّف : عنك غطاءك فبصرك ، بالكسر مراعاة للنفس أيضاً ، ولم ينقل الكسر في الكاف صاحب اللوامح إلا عن طلحة وحده . قال صاحب اللوامح : ولم أجد عنه في ) لَّقَدْ كُنتَ ). فإن كسر ، فإن الجميع شرع واحد ؛ وإن فتح ) لَّقَدْ كُنتَ ( ، فحمل على كل أنه مذكر . ويجوز تأنيث كل في هذا الباب لإضافته إلى نفس ، وهو مؤنث ، وإن كان كان كذلك ، فإنه حمل بعضه على اللفظ وبعضه على المعنى ، مثل قوله : ) فَلَهُ أَجْرُهُ ( ، ثم قال : ) وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ). انتهى .
قال ابن عباس ، وصالح بن كيسان ، والضحاك : يقال للكافر الغافل من ذوي النفس التي معها السائق والشهيد ، إذا حصل بين يدي الرحمن ، وعاين الحقائق التي لا يصدق بها في الدنيا ، ويتغافل عن النظر فيها : ) لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَاذَا ( : أي من عاقبة الكفر . فلما كشف الغطاء عنك ، احتدّ بصرك : أي بصيرتك ؛ وهذا

" صفحة رقم 125 "
كما تقول : فلان حديد الذهن . وقال مجاهد : هو بصر العين ، أي احتدّ التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة . وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله ، وهو في كتاب ابن عطية . وكنى بالغطاء عن الغفلة ، كأنها غطت جميعه أو عينيه ، فهو لا يبصر . فإذا كان في القيامة ، زالت عنه الغفلة ، فأبصر ما كان لم يبصره من الحق .
ق : ( 23 ) وقال قرينه هذا . . . . .
( وَقَالَ قَرِينُهُ ( : أي من زبانية جهنم ، ( هَاذَا ( : العذاب الذي لدي لهذا الإنسان الكافر ، ( عَتِيدٌ ( : حاضر ، ويحسن هذا القول إطلاق ما على ما لا يعقل . وقال قتادة : قرينه : الملك الموكل بسوقه ، أي هذا الكافر الذي أسوقه لديّ حاضر . وقال الزهراوي : وقيل قرينه : شيطانه ، وهذا ضعيف ، وإنما وقع فيه أن القرين في قوله : ) رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف . ولفظ القرين اسم جنس ، فسائقه قرين ، وصاحبه من الزبانية قرين ، ومماشي الإنسان في طريقة قرين . وقيل : قرينه هنا : عمله قلباً وجوارحاً . وقال الزمخشري : وقال قرينه : هو الشيطان الذي قيض له في قوله ) نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( ، يشهد له قوله تعالى : ) قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( ، ( هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ ( ، هذا شيء لدي ، وفي ملكتي عتيد لجهنم . والمعنى : أن ملكاً يسوقه ، وآخر يشهد عليه ، وشيطاناً مقروناً به يقول : قد أعتدته لجهنم وهيأته لها بإغواي وإضلالي . انتهى ، وهذا قول مجاهد . وقال الحسن ، وقتادة أيضاً : الملك الشهيد عليه . وقال الحسن أيضاً : هو كاتب سيئاته ، وما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد وموصولة ، والظرف صلتها . وعتيد ، قال الزمخشري : بدل أو خير بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف . انتهى . وقرأ الجمهور : عتيد بالرفع ؛ وعبد الله : بالنصب على الحال ، والأولى إذ ذاك أن تكون ما موصولة .
ق : ( 24 - 26 ) ألقيا في جهنم . . . . .
( أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ ( : الخطاب من الله للملكين : السائق والشهيد . وقيل : للملكين من ملائكة العذاب ، فعلى هذا الألف ضمير الاثنين . وقال مجاهد وجماعة : هو قول إما للسائق ، وإما للذي هو من الزبانية ، وعلى أنه خطاب للواحد . وقال المبرد معناه : ألق ألق ، فثنى . وقال الفراء : هو من خطاب الواحد بخطاب الاثنين . وقيل : الألف بدل من النون الخفيفة ، أجرى الوصل مجرى الوقف ، وهذه أقوال مرغوب عنها ، ولا ضرورة تدعو إلى الخروج عن ظاهر اللفظ لقول مجاهد . وقرأ الحسن : ألقين بنون التوكيد الخفيفة ، وهي شاذة مخالفة لنقل التواتر بالألف . ) كُلَّ كَفَّارٍ ( : أي يكفر النعمة والمنعم ؛ ) عَتِيدٌ ( ، قال قتادة : منحرف عن الطاعة . وقال الحسن : جاحد متمرد . وقال السدي : المساق من العند ، وهو عظم يعرض في الحلق . وقال ابن بحر : المعجب بما فيه .
( مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ ( ، قال قتادة ومجاهد وعكرمة : يعني الزكاة . وقيل : بخيل . وقيل : مانع بني أخيه من الإيمان ، كالوليد بن المغيرة ، كان يقول لهم : من دخل منكم فيه لم أنفعه بشيء ما عشت ، والأحسن عموم الخير في المال وغيره . ) مُرِيبٍ ( ، قال الحسن : شاك في الله أو في البعث . وقيل : متهم الذي جوزوا فيه أن يكون منصوباً بدلاً من كل كفار ، وأن يكون مجروراً بدلاً من كفار ، وأن يكون مرفوعاً بالابتداء مضمناً معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في خبره ، وهو فألقياه . والظاهر تعلقه بما قبله على جهة البدل ، ويكون فألقياه توكيداً . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون صفة من حيث يختص كفار بالأوصاف المذكورة ، فجاز وصفه بهذه المعرفة . انتهى . وهذا ليس بشيء لو وصفت النكرة بأوصاف كثيرة لم يجز أن توصف بالمعرفة .
ق : ( 27 ) قال قرينه ربنا . . . . .
( قَالَ قرِينُهُ ( : لم تأت هذه الجملة بالواو ، بخلاف ) وَقَالَ قَرِينُهُ ( قبله ، لأن هذه استؤنفت كما استؤنفت الجمل في حكاية التقاول في مقاولة موسى وفرعون ، فجرت مقاولة بين الكافر وقرينه ، فكأن الكافر قال ربي هو أطغاني ، ( قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ). وأما ) وَقَالَ قَرِينُهُ ( فعطف لدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول ، أعني مجيء كل نفس مع الملكين . وقول قرينه : ما قال له ، ومعنى ما أطغيته : تنزيه لنفسه من أنه أثر فيه ، ( وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ ( : أي من نفسه لا مني ، فهو الذي استحب العمى على الهدى ، كقوله : ) وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن

" صفحة رقم 126 "
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( ، وكذب القرين ، قد أطغاه بوسوسته وتزيينه .
ق : ( 28 ) قال لا تختصموا . . . . .
( قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ ( : استئناف أيضاً مثل قال قرينه ، كأن قائلاً قال : ما قال الله تعالى ؟ فقيل : ) لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ ( أي في دار الجزاء وموقف الحساب . ) وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ( لمن عصاني ، فلم أترك لكم حجة .
ق : ( 29 ) ما يبدل القول . . . . .
( مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ ( : أي عندي ، فما أمضيته لا يمكن تبديله . وقال الفراء : ما يكذب لدي لعلمي بجميع الأمور . وقدمت : يجوز أن يكون بمعنى تقدمت ، أي قد تقدم قولي لكم ملتبساً بالوعيد ، أو يكون قدم المتعدية ، وبالوعيد هو المفعول ، والباء زائدة ، والتقديم كان في الدنيا ، ونهيهم عن الاختصام في الآخرة ، فاختلف الزمانان . فلا تكون الجملة من قوله : ) وَقَدْ قَدَّمْتُ ( حالاً إلا على تأويل ، أي وقد صح عندكم أني قدمت ، وصحة ذلك في الآخرة ، فاتفق زمان النهي عن الاختصام ، وصحة التقديم بالحال على هذا التأويل مقارنة . ) وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( : تقدم شرح مثله في أواخر آل عمران ، والمعنى : لا أعذب من لا يستحق العذاب .
ق : ( 30 ) يوم نقول لجهنم . . . . .
وقرأ يوم يقول ، بياء الغيبة الأعرج ، وشيبة ، ونافع ، وأبو بكر ، والحسن ، وأبو رجاء ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وباقي السبعة : بالنون ؛ وعبد الله ، والحسن ، والأعمش أيضاً : يقال مبنياً للمفعول وانتصاب يوم بظلام ، أو بأذكر ، أو بأنذر كذلك . قال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب بنفخ ، كأنه قيل : ونفخ في الصور يوم نقول ، وعلى هذا يشار بذلك إلى يوم يقول . انتهى ، وهذا بعيد جداً ، قد فصل على هذا القول بين العامل والمعمول بجمل كثيرة ، فلا يناسب هذا القول فصاحة القرآن وبلاغته . و ) هَلِ امْتَلاَتِ ( : تقرير وتوقيف ، لا سؤال استفهام حقيقة ، لأنه تعالى عالم بأحوال جهنم . قيل : وهذا السؤال والجواب منها حقيقة . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي نقول لخزنة جهنم ، قاله الرماني . وقيل : السؤال والجواب من باب التصوير الذي يثبت المعنى ، أي حالها حال من لو نطق بالجواب لسائله لقال كذا ، وهذا القول يظهر أنها إذ ذاك لم تكن ملأى . فقولها : ) مِن مَّزِيدٍ ( ، سؤال ورغبة في الزيادة والاستكثار من الداخلين فيها . وقال الحسن ، وعمرو ، وواصل : كانت ملأى وقت السؤال ، فلا تزداد على امتلائها ، كما جاء في الحديث وهل ترك لنا عقيل من دار أي ما تركه ومزيد يحتمل أن يكون مصدر أو اسم مفعول .
ق : ( 31 - 33 ) وأزلفت الجنة للمتقين . . . . .
( غَيْرَ بَعِيدٍ ( : مكاناً غير بعيد ، وهو تأكيد لأزلفت ، رفع مجاز القرب بالوعد والإخبار . فانتصاب غير على الظرف صفة قامت مقام مكان ، فأعربت بإعرابه . وأجاز الزمخشري أن ينتصب غير بعيد على الحال من الجنة . قال : وتذكيره يعني بعيد ، لأنه على زنة المصدر ، كالزئير والصليل ، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث . انتهى . وكونه على وزن المصدر ، لا يسوغ أن يكون المذكر صفة للمؤنث . وقال الزمخشري أيضاً : أو على حذف الموصوف ، أي شيئاً غير بعيد . انتهى . وكأنه يعني إزلافاً غير بعيد ، هذا إشارة للثواب .
وقرأ الجمهور : ) مَّا تُوعَدُونَ ( ؛ خطاب للمؤمنين ؛ وابن كثير ، وأبو عمرو : بياء الغيبة ، أي هذا القول هو الذي وقع الوعد به ، وهي جملة اعتراضية بين المبدل منه والبدل . و ) لِكُلّ أَوَّابٍ ( : هو البدل من المتقين . ) مَّنْ خَشِىَ ( : بدل بعد بدل تابع ) لِكُلّ ( ، قاله الزمخشري . وإنما جعله تابعاً ) لِكُلّ ( ، لا بدلاً من ) لّلْمُتَّقِينَ ( ، لأنه لا يتكرر الإبدال من مبدل منه واحد . قال : ويجوز أن يكون بدلاً من موصوف أواب وحفيظ ، ولا يجوز أن يكون في حكم أواب وحفيظ ، لأن من لا يوصف به ، ولا يوصف من بين سائر الموصولات إلا بالذي . انتهى . يعني بقوله : في حكم أو أب : أن يجعل من صفته ، وهذا حكم صحيح . وأما قوله : ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي ، فالحصر ليس بصحيح ، قد وصفت العرب بما فيه أل ، وهو موصول ، نحو القائم والمضروب ، ووصفت بذو الطائية ، وذات في المؤنث . ومن كلامهم : بالفضل ذو فضلكم الله به ، والكرامة ذات أكرمك الله به ، يريد بالفضل الذي فضلكم والكرامة التي أكرمكم ، ولا يريد الزمخشري خصوصية الذي ، بل فروعه من المؤنث والمثنى والمجموع على اختلاف لغات ذلك . وجوز أن تكون من موصولة مبتدأ خبره القول المحذوف ، تقديره : يقال لهم ادخلوها ، لأن من في معنى الجمع ، وأن تكون شرطية ، والجواب الفعل المحذوف ، أي فيقال : وأن يكون منادى ، كقولهم : من لا يزال محسناً أحسن إليّ ، وحذف حرف النداء للتقريب . وقال

" صفحة رقم 127 "
ابن عطية : يحتمل أن تكون من نعتاً . انتهى ، وهذا لا يجوز ، لأن من لا ينعت بها ، وبالغيب حال من المفعول ، أي وهو غائب عنه ، وإنما أدركه بالعلم الضروري ، إذ كل مصنوع لا بد له من صانع . ويجوز أن تكون صفة لمصدر خشي ، أي خشية خشيه ملتبسة بالغيب ، حيث خشي عقابه وهو غائب ، أو خشيه بسبب الغيب الذي أوعده به من عذابه . وقيل : في الخلوة حيث لا يراه أحد ، فيكون حالاً من الفاعل . وقرن بالخشية الرحمن بناء على الخاشي ، حيث علم أنه واسع الرحمة ، وهو مع ذلك يخشاه .
ق : ( 34 ) ادخلوها بسلام ذلك . . . . .
( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ( : أي سالمين من العذاب ، أو مسلماً عليكم من الله وملائكته . ) ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ ( : كقوله : ) فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( : أي مقدرين الخلود ، وهو معادل لقوله في الكفار : ) ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ ).
ق : ( 35 ) لهم ما يشاؤون . . . . .
( لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا ( : أي ما تعلقت به مشيئاتهم من أنواع الملاذ والكرمات ، كقوله تعالى : ) وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ). ) وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( : زيادة ، أو شيء مزيد على ما تشاءون ، ونحوه : ) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ( ، وكما جاء في الحديث : ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ما اطلعتهم عليه ) ، ومزيد مبهم ، فقيل : مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها . وقيل : أزواج من حور الجنة . وقيل : تجلى الله تعالى لهم حتى يرونه .
قوله عز وجل : ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الاْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ).
ق : ( 36 ) وكم أهلكنا قبلهم . . . . .
أي كثيراً . ) أَهْلَكْنَا ( : أي قبل قريش . ) هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ( ، لكثرة قوتهم وأموالهم . وقرأ الجمهور : ) فَنَقَّبُواْ ( ، بفتح القاف مشددة ، والظاهر أن الضمير في نقبوا عائد على كم ، أي دخلوا البلاد من أنقابها . والمعنى : طافوا في البلاد . وقيل : نقروا وبحثوا ، والتنقيب : التنقير والبحث . قال امرؤ القيس في معنى التطواف : وقد نقبت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
وروي : وقد طوفت . وقال الحارث بن خالدة : نقبوا في البلاد من الموت
وجالوا في الأرض كل مجال
وفنقبوا متسبب عن شدة بطشهم ، فهي التي أقدرتهم على التنقيب وقوتهم عليه . ويجوز أن يعود الضمير في فنقبوا على قريش ، أي فنقبوا في أسفارهم في بلاد القرون ، فهل رأوا محيصاً حتى يؤملوه لأنفسهم ؟ ويدل على عود الضمير على أهل مكة قراءة ابن عباس ، وابن يعمر ، وأبي العالية ، ونصر بن يسار ، وأبي حيوة ، والأصمعي عن أبي عمرو : بكسر القاف مشدّدة على الأمر لأهل مكة ، أي فسيحوا في البلاد وابحثوا . وقرىء : بكسر القاف خفيفة ، أي نقبت أقدامهم وأخفاف إبلهم ، أو حفيت لكثرة تطوافهم في البلاد ، من نقب خف البعير إذا انتقب ودمى . ويحتمل أن يكون ) هَلْ مِن مَّحِيصٍ ( على إضمار القول ، أي يقولون هل من محيص من الهلاك ؟ واحتمل أن لا يكون ثم قول ، أي لا محيص

" صفحة رقم 128 "
من الموت ، فيكون توفيقاً وتقريراً .
ق : ( 37 ) إن في ذلك . . . . .
( إِنَّ فِى ذَلِكَ ) : أي في إهلاك تلك القرون ، ( لِذِكْرِى ( : لتذكرة واتعاظاً ، ( لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( : أي واع ، والمعنى : لمن له عقل وعبر عنه بمحله ، ومن له قلب لا يعي ، كمن لا قلب له . وقرأ الجمهور : ) أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ( ، مبنياً للفاعل ، والسمع نصب به ، أي أو أصغى سمعه مفكراً فيه ، و ) شَهِيدٌ ( : من الشهادة ، وهو الحضور . وقال قتادة : لمن كان له ، قيل : من أهل الكتاب ، فيعتبر ويشهد بصحتها لعلمه بذلك من التوراة ، فشهيد من الشهادة . وقرأ السلمي ، وطلحة ، والسدي ، وأبو البر هثيم : أو ألقى مبنياً ، للمفعول ، السمع : رفع به ، أي السمع منه ، أي من الذي له قلب . وقيل : المعنى : أو لمن ألقي غيره السمع وفتح له أذنه ولم يحضر ذهنه ، أي الملقي والفاتح والملقى له والمفتوح أذنه حاضر الذهن متفطن . وذكر لعاصم أنها قراءة السدي ، فمقته وقال : أليس يقول يلقون السمع ؟
ق : ( 38 ) ولقد خلقنا السماوات . . . . .
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : نزلت في اليهود تكذيباً لهم في قولهم : إنه تعالى استراح من خلق السموات والأرض ، ( فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ( : يوم السبت ، واستلقى على العرش ، وقيل : التشبيه الذي وقع في هذه الأمة إنما أخذ من اليهود . ) وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ( : احتمل أن تكون جملة حالية ، واحتمل أن تكون استئنافاً ؛ واللغوب : الإعياء . وقرأ الجمهور : بضم اللام ، وعلي ، والسلمي ، وطلحة ، ويعقوب ، بفتحها ، وهما مصدران ، الأول مقيس وهو الضم ، وأما الفتح فغير مقيس ، كالقبول والولوع ، وينبغي أن يضاف إلى تلك الخمسة التي ذكرها سيبويه ، وزاد الكسائي الوزوع فتصير سبعة .
ق : ( 39 - 40 ) فاصبر على ما . . . . .
( فَاصْبِرْ ( ، قيل : منسوخ بآية السيف ، ( عَلَى مَا يَقُولُونَ ( : أي اليهود وغيرهم من الكفار قريش وغيرهم ، ( وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ ( ، أي فصلّ ، ( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ( ، هي صلاة الصبح ، ( وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( : هي صلاة العصر ، قاله قتادة وابن زيد والجمهور . وقال ابن عباس : قبل الغروب : الظهر والعصر . ) وَمِنَ الَّيْلِ ( : صلاة العشاءين ، ( وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( : ركعتان قبل المغرب . وفي صحيح مسلم ، عن أنس ما معناه : أن الصحابة كانوا يصلونها قبل المغرب . وقال قتادة : ما أدركت أحداً يصليها إلا أنساً وأبا برزة الأسلمي . وقال بعض التابعين : كان الصحابة يهبون إليهما كما يهبون إلى المكتوبة . وقال ابن زيد : هي العشاء فقط . وقال مجاهد : هي صلاة الليل . ) وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( ، قال أبو الأحوص : هو التسبيح في أدبار الصلوات . وقال عمر ، وعليّ ، وأبو هريرة ، والحسن ، والشعبي ، وإبراهيم ، ومجاهد ، والأوزاعي : هما ركعتان بعد المغرب . وقال ابن عباس : هو الوتر بعد العشاء . وقال ابن عباس ، ومجاهد أيضاً ، وابن زيد : النوافل بعد الفرائض . وقال مقاتل : ركعتان بعد العشاء ، يقرأ في الأولى : ) قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( ، وفي الثانية : ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ). وقرأ ابن عباس ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وعيسى ، والأعمش ، وطلحة ، وشبل ، وحمزة ، والحرميان : وإدبار بكسر الهمزة ، وهو مصدر ، تقول : أدبرت الصلاة ، انقضت ونمت . وقال الزمخشري وغيره : معناه ووقت انقضاء السجود ، كقولهم : آتيك خفوق النجم . وقرأ الحسن والأعرج وباقي السبعة : بفتحها ، جمع دبر ، كطنب وأطناب ، أي وفي أدبار السجود : أي أعقابه . قال أوس بن حجر : على دبر الشهر الحرام فأرضنا
وما حولها جدب سنون تلمع
ق : ( 41 ) واستمع يوم يناد . . . . .
( وَاسْتَمِعْ ( : أمر بالاستماع ، والظاهر أنه أريد به حقيقة الاستماع ، والمستمع له محذوف تقديره : واستمع لما أخبر به من حال يوم القيامة ، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به ، كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لمعاذ : ( يا معاذ اسمع ما أقول لك ) ، ثم حدثه بعد ذلك . وانتصب ) يَوْمٍ ( بما دل عليه ذلك . ) يَوْمُ الْخُرُوجِ ( : أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور . وقيل : مفعول استمع محذوف تقديره : نداء المنادي . وقيل تقديره : نداء الكافر بالويل والثبور . وقيل : لا يحتاج إلى مفعول ، إذ حذف اقتصاراً ، والمعنى : كن مستمعاً ، ولا تكن غافلاً معرضاً . وقيل معنى واستمع : وانتظر

" صفحة رقم 129 "
والخطاب لكل سامع . وقيل : للرسول ، أي ارتقبه ، فإن فيه تبين صحة ما قلته ، كما تقول لمن تعده بورود فتح : استمع كذا وكذا ، أي كن منتظراً له مستمعاً ، فيوم منتصب على أنه مفعول به . وقرأ ابن كثير : المنادى بالياء وصلاً ووقفاً ، ونافع ، وأبو عمرو ؛ بحذف الياء وقفاً ، وعيسى ، وطلحة ، والأعمش ، وباقي السبعة : بحذفها وصلاً ووقفاً اتباعاً لخط المصحف ، ومن أثبتها فعلى الأصل ، ومن حذفها وقفاً فلأن الوقف تغيير يبدل فيه التنوين ألفاً نصباً ، والتاء هاء ، ويشدّد المخفف ، ويحذف الحرف في القوافي . والمنادي في الحديث : ( أن ملكاً ينادي من السماء أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة هلموا إلى الحشر والوقوف بين يدي الله تعالى ) . ) مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( : وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق . قيل : والمنادي إسرافيل ، ينفخ في الصور وينادي . وقيل : المنادي جبريل . وقال كعب ، وقتادة وغيرهما : المكان صخرة بيت المقدس ، قال كعب : قربها من السماء بثمانية عشر ميلاً ، كذا في كتاب ابن عطية ، وفي كتاب الزمخشري : باثني عشر ميلاً ، وهي وسط الأرض . انتهى ، ولا يصح ذلك إلا بوحي .
ق : ( 42 ) يوم يسمعون الصيحة . . . . .
( يَوْمَ يَسْمَعُونَ ( : بدل من ) يَوْمٍ يُنَادِى ( ، و ) الصَّيْحَةَ ( : صيحة المنادي . قيل : يسمعون من تحت أقدامهم . وقيل : من تحت شعورهم ، وهي النفخة الثانية ، و ) بِالْحَقّ ( متعلق بالصيحة ، والمراد به البعث والحشر . ) ذالِكَ ( : أي يوم النداء والسماع ، ( يَوْمُ الْخُرُوجِ ( من القبور ، وقيل : الإشارة بذلك إلى النداء ، واتسع في الظرف فجعل خبراً عن المصدر ، أو يكون على حذف ، أي ذلك لنداء نداء يوم الخروج ، أو وقت النداء يوم الخروج .
ق : ( 44 ) يوم تشقق الأرض . . . . .
وقرأ نافع ، وابن عامر : تشقق بشدّ الشين ؛ وباقي السبعة : بتخفيفها . وقرىء : تشقق بضم التاء ، مضارع شققت على البناء للمفعول ، وتنشق مضارع انشقت . وقرأ زيد بن علي : تشقق بفك الإدغام ، ذكره أبو عليّ الأهوازي في قراءة زيد بن عليّ من تأليفه ، ويوم بدل من يوم الثاني . وقيل : منصوب بالمصدر ، وهو الخروج . وقيل : المصير ، وانتصب ) سِرَاعاً ( على الحال من الضمير في عنهم ، والعامل تشقق . وقيل : محذوف تقديره يخرجون ، فهو حال من الواو في يخرجون ، قاله الحوفي . ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملاً في ) يَوْمَ تَشَقَّقُ ). ) ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( : فصل بين الموصوف وصفته بمعمول الصفة ، وهو علينا ، أي يسير علينا ، وحسن ذلك كون الصفة فاصلة . وقال الزمخشري : ) عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( ، تقديم الظرف يدل على الاختصاص ، يعني لا يتيسر مثل ذلك اليوم العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن ، كما قال : ) مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ). انتهى ، وهو على طريقه في أن تقديم المفعول وما أشبهه من دلالة ذلك على الاختصاص ، وقد بحثنا معه في ذلك في سورة الفاتحة في ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ).
ق : ( 45 ) نحن أعلم بما . . . . .
( نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ( : هذا وعيد محض للكفار وتهديد لهم ، وتسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( : بمتسلط حتى تجبرهم على الإيمان ، قاله الطبري . وقيل : التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم . ) فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( : لأن من لا يخاف الوعيد لكونه غير مصدّق بوقوعه لا يذكر ، إذ لا تنفع فيه الذكرى ، كما قال : ) وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( ، وختمت بقوله : ) فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ ( ، افتتحت ب ) ق وَالْقُرْءانِ ).

" صفحة رقم 130 "
51
( سورة الذاريات )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالذَارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرَاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْألُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالاٌّ سْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِىأَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ وَفِى الاٌّ رْضِ ءَايَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِىأَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالاٌّ رْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُم

" صفحة رقم 131 "
كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالاٌّ رْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ إِنِّء لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ } )
الذاريات : ( 1 - 4 ) والذاريات ذروا
الحبك : الطرائق ، مثل حبك الرمل والماء القائم إذا ضربته الريح ، وكذلك حبك الشعر آثار تثنيه وتكسره قال الشاعر : مكلل بأصول النجم ينسجه
ريح خريق لضاحي مائه حبك
والدرع محبوكة لأن حلقها مطرق طرائق ، وواحدها حبيكة ، كطريقة وطرق ، أو حباك ، كمثال ومثل ، قال الراجز : كأنما حللها الحوّاك
طنفسة في وشيها حباك
ويقال : حباك للظفيرة التي يشد بها خطار القصب بكرة ، وهي مستطيلة تصنع في ترحيب الغراسات المصطفة . وقال ابن الأعرابي : حبكت الشيء : أحكمته وأحسنت عمله . قال الفراء : الحبك : تكسر كل شيء . وقال غيره : المحبوك : الشديد الخلق من فرس وغيره . قال امرؤ القيس : قد غدا يحملني في أنفه
لاحق الأطلين محبوك ممر
الهجود : النوم . السمن : معروف ، وهو امتلاء الجسد بالشحم واللحم . يقال : سمن سمناً فهو سمين ، شذوا في المصدر واسم الفاعل ، والقياس سمن وسمن . وقالوا : سامن ، إذا حدث له السمن . الذنوب : الدلو العظيمة ، قال الراجز : إنا إذا نازلنا غريب
له ذنوب ولنا ذنوب
وإن أبيتم فلنا القليب
وأنشده الزمخشري : لنا ذنوب ولكم ذنوب

" صفحة رقم 132 "
ويطلق ، ويراد به الحظ والنصيب ، قال علقمة بن عبدة :
وفي كل حي قد خبطت بنعمة
فحق لشاس من نداك ذنوب
ونسبه الزمخشري لعمرو بن شاس ، وهو وهم في ديوان علقمة . وكان الحارث بن أبي شمر الغساني أسر شاساً أخا علقمة ، فدخل إليه علقمة ، فمدحه بالقصيدة التي فيها هذا البيت ، فلما وصل إلى هذا البيت في الإنشاد قال الحرث : نعم وأذنبه ، وقال حسان :
لا يبعدن ربيعة بن مكرم
وسقى الغوادي قبره بذنوب
وقال آخر :
لعمرك والمنايا طارقات
لكل بني أب منها ذنوب
) وَالذرِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءاخِذِينَ مَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ السَّمَاء وَالاْرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال فذكر بالقرآن من يخاف وعيد . وقال أول هذه بعد القسم : ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ ).
) وَالذرِيَاتِ ( : الرياح : . ) فَالْحَامِلَاتِ ( السحاب . ) فَالْجَارِيَاتِ ( الفلك . ) فَالْمُقَسّمَاتِ ( : الملائكة ، هذا تفسير عليّ كرم الله وجهه على المنبر ، وقد سأله ابن الكواء ، قاله ابن عباس . وقال ابن عباس أيضاً : ) فَالْحَامِلَاتِ ( هي السفن الموقرة بالناس وأمتاعهم . وقيل : الحوامل من جميع الحيوان . وقيل : الجاريات : السحاب بالرياح . وقيل : الجواري من الكواكب ، وأدغم أبو عمرو وحمزة ) وَالذرِيَاتِ ( في ذال ) ذَرْواً ( ، وذروها : تفريقها للمطر أو للتراب . وقرىء : بفتح الواو وتسمية للمحمول بالمصدر . ومعنى ) يُسْراً ( : جرياً ذا يسر ، أي سهولة . فيسراً مصدر وصف به على تقدير محذوف ، فهو على رأي سيبويه في موضع الحال . ) أمْراً ( تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها ، فأمراً مفعول به . وقيل : مصدر منصوب على الحال ، أي مأموره ، ومفعول المقسمات محذوف . وقال مجاهد : يتولى أمر العباد جبريل للغلظة ، وميكائيل للرحمة ، وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل للنفخ . وجاء في الملائكة : فالمقسمات على معنى الجماعات . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد الرياح لا غير ، لأنها تنشىء

" صفحة رقم 133 "
السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجو جرياً سهلاً ، وتقسم الأمطار بتصريف الرياح . انتهى . فإذا كان المدلول متغايراً ، فتكون أقساماً متعاقبة . وإذا كان غير متغاير ، فهو قسم واحد ، وهو من عطف الصفات ، أي ذرت أول هبوبها التراب والحصباء ، فأقلت السحاب ، فجرت في الجو باسطة للسحاب ، فقسمت المطر . فهذا كقوله : يا لهف زيابة للحارث الص
ابح فالغانم فالآيب
أي : الذي صبح العدو فغنم منهم ، فآب إلى قومه سالماً غانماً . والجملة المقسم عليها ، وهي جواب القسم ، هي
الذاريات : ( 5 ) إنما توعدون لصادق
) إِنَّمَا تُوعَدُونَ ( ، وما موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي توعدونه . ويحتمل أن تكون مصدرية ، أي أنه وعدكم أو وعيدكم ، إذ يحتمل توعدون الأمرين أن يكون مضارع وعد ومضارع أوعد ، ويناسب أن يكون مضارع أوعد لقوله : ) فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ، ولأن المقصود التخويف والتهويل . ومعنى صدقة : تحقق وقوعه ، والمتصف بالصدق حقيقة هو المخبر . وقال تعالى : ) ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ( : أي مصدوق فيه . وقيل : ) لَصَادِقٌ ( ، ووضع اسم الفاعل موضع المصدر ، ولا حاجة إلى هذا التقدير . وقال مجاهد : الأظهر أن الآية في الكفار ، وأنه وعيد محض .
الذاريات : ( 6 ) وإن الدين لواقع
) وَإِنَّ الدّينَ ( : أي الجزاء ، ( لَوَاقِعٌ ( : أي صادر حقيقة على المكلفين من الإنس والجن .
الذاريات : ( 7 ) والسماء ذات الحبك
والظاهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السموات . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : هي السماء السابعة . وقيل : السحاب الذي يظل الأرض .
( ذَاتِ الْحُبُكِ ( : أي ذات الخلق المستوي الجيد ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة والربيع . وقال الحسن ، وسعيد بن جبير : ) ذَاتِ الْحُبُكِ ( : أي الزينة بالنجوم . وقال الضحاك : ذات الطرائق ، يعني من المجرة التي في السماء . وقال ابن زيد : ذات الشدة ، لقوله : ) سَبْعاً شِدَاداً ). وقيل : ذات الصفاقة . وقرأ الجمهور : الحبك بضمتين ؛ وابن عباس ، والحسن : بخلاف عنه ، وأبو مالك الغفاري ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو السمال ، ونعيم عن أبي عمرو : بإسكان الباء ؛ وعكرمة : بفتحها ، جمع حبكة ، مثل : طرفة وطرف . وأبو مالك الغفاري ، والحسن : بخلاف عنه ، بكسر الحاء والباء ؛ وأبو مالك الغفاري ، والحسن أيضاً ، وأبو حيوة : بكسر الحاء وإسكان الباء ، وهو تخفيف فعل المكسور هما وهو اسم مفرد لا جمع ، لأن فعلاً ليس من أبنية الجموع ، فينبغي أن يعد مع إبل فيما جاء من الأسماء على فعل بكسر الفاء والعين ؛ وابن عباس أيضاً ، وأبو مالك : بفتحهما . قال أبو الفضل الرازي : فهو جمع حبكة ، مثل عقبة وعقب . انتهى . والحسن أيضاً : الحبك بكسر الحاء وفتح الباء ، وقرأ أيضاً كالجمهور ، فصارت قراءته خمساً : الحبك الحبك الحبك الحبك الحبك . وقرأ أبو مالك أيضاً : الحبك بكسر الحاء وضم الباء ، وذكرها ابن عطية عن الحسن ، فتصير له ست قراءات . وقال صاحب اللوامح ، وهو عديم النظير في العربية : في أبنيتها وأوزانها ، ولا أدري ما رواه . انتهى . وقال ابن عطية : هي قراءة شاذة غير متوجهة ، وكأنه أراد كسرها ، ثم توهم الحبك قراءة الضم بعد أن كسر الحاء وضم الباء ، وهذا على تداخل اللغات ، وليس في كلام العرب هذا البناء . انتهى .
وعلى هذا تأول النحاة هذه القراءات ، والأحسن عندي أن تكون مما اتبع فيه حركة الحاء لحركة ذات في الكسرة ، ولم يعتد باللام الساكنة ، لأن الساكن حاجز غير حصين . وجواب القسم :
الذاريات : ( 8 ) إنكم لفي قول . . . . .
( إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ، والظاهر أنه خطاب عام للمسلم والكافر ، كما أن جواب القسم السابق يشملهما ، واختلافهم كونهم مؤمناً بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكتابه وكافراً . وقال ابن زيد : خطاب للكفرة ، فيقولون : ساحر

" صفحة رقم 134 "
شاعر كاهن مجنون ، وقال الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستوياً ، إنما يكون متناقضاً مختلفاً . وقيل : اختلافهم في الحشر ، منهم من ينفيه ، ومنهم من يشك فيه . وقيل : اختلافهم : إقرارهم بأن الله تعالى أوجدهم وعبادتهم غيره والأقوال التي يقولونها في آلهتهم .
الذاريات : ( 9 ) يؤفك عنه من . . . . .
( يُؤْفَكُ ( : أي يصرف عنه ، أي عن القرآن والرسول ، قاله الحسن وقتادة . ) مَنْ أُفِكَ ( : أي من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم لقوله : لا يهلك على الله إلا هالك . وقيل : من صرف في سابق علم الله تعالى أنه مأفوك عن الحق لا يرعوي . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون ، أو للذي أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه ، فمنهم شاك ومنهم جاحد . ثم قال : يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك . وقيل : المأفوك عنه محذوف ، وعن هنا للسبب ، والضمير عائد على ) قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ، أي يصرف بسببه من أراد الإسلام بأن يقول : هو سحر هو كهانة ، حكاه الزهراوي والزمخشري ، وأورده على عادته في إبداء ما هو محكي عن غيره أنه مخترعه . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعود على ) قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ، والمعنى : يصرف عنه بتوفيق الله إلى الإسلام من غلبت سعادته ، وهذا على أن يكون في قول مختلف للكفار ، إلا أن عرف الاستعمال في إفكه الصرف من خير إلى شر ، فلذلك لا تجده إلا في المذمومين . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وقرأ ابن جبير وقتادة : من أفك مبنياً للفاعل ، أي من أفك الناس عنه ، وهم قريش . وقرأ زيد بن علي : يأفك عنه من أفك ، أي يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه . وعنه أيضاً : يأفك عنه من أفك ، أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب . وقرىء : يؤفن عنه من أفن بالنون فيهما ، أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا نهكه حلباً .
الذاريات : ( 10 ) قتل الخراصون
) قُتِلَ الْخَرصُونَ ( : أي قتل الله الخراصين ، وهم المقدرون ما لا يصح .
الذاريات : ( 11 ) الذين هم في . . . . .
( فِى غَمْرَةٍ ( : في جهل يغمرهم ، ( سَاهُونَ ( : غافلون عن ما أمروا به .
الذاريات : ( 12 ) يسألون أيان يوم . . . . .
( أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ ( : أي متى وقت الجزاء ؟ سؤال تكذيب واستهزاء ، وتقدمت قراءة من كسر الهمزة في قوله : ) أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( ، ( أيان يَوْمِ الدّينِ ( ، فيكون الظرف محلاً للمصدر ،
الذاريات : ( 13 ) يوم هم على . . . . .
وانتصب يوم هم بمضمر تقديره : هو كائن ، أي الجزاء ، قاله الزجاج ، وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو يومهم ، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير متمكن ، وهي الجملة الإسمية . ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة والزعفراني . ) يَوْمَ هُم ( بالرفع ، وإذا كان ظرفاً جاز أن تكون الحركة فيه حركة إعراب وحركة بناء ، وتقدم الكلام على إضافة الظرف المستقبل إلى الجملة الإسمية في غافر في قوله تعالى : ) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ). وقال بعض النحاة : يومهم بدل من ) يَوْمِ الدّينِ ( ، فيكون هنا حكاية من كلامهم على المعنى ، ويقولون ذلك على سبيل الاستهزاء . ولو حكى لفظ قولهم ، لكان التركيب : يوم نحن على النار يفتنون .
الذاريات : ( 14 ) ذوقوا فتنتكم هذا . . . . .
( ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ ( : أي يقال لهم ذوقوا . ) هَاذَا الَّذِى ( : مبتدأ وخبر . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون هذا بدلاً من فتنتكم ، أي ذوقوا هذا العذاب . انتهى ، وفيه بعد ، والاستقلال خير من البدل . ومعنى تفتنون : تعذبون في النار .
الذاريات : ( 15 ) إن المتقين في . . . . .
ولما ذكر حال الكفار ، ذكر حال المؤمنين ، وانتصب آخذين على الحال ، أي قابليه راضين به ، وذلك في الجنة . وقال ابن عباس :
الذاريات : ( 16 ) آخذين ما آتاهم . . . . .
( ءاخِذِينَ ( : أي في دنياهم ، ( مَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ ( من أوامره ونواهيه وشرعه ، فالحال محكية لتقدمها في الزمان على كونهم في الجنة .
الذاريات : ( 17 ) كانوا قليلا من . . . . .
والظاهر أن ) قَلِيلاً ( ظرف ، وهو في الأصل صفة ، أي كانوا في قليل من الليل . وجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً ، وما زائدة في كلا الإعرابين . وفسر أنس بن مالك ذلك فقال : كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء ، ولا يدل لفظ الآية على الاقتصار على هذا التفسير . وقال الربيع بن خيثم : كانوا يصيبون من الليل حظاً . وقال مطرف ، ومجاهد ، وابن أبي نجيح : قل ليلة أتت عليهم هجوعاً كلها . وقال الحسن : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً . وقال الضحاك : ) كَانُواْ قَلِيلاً ( ، أي في عددهم ، وثم خبر كان ، ثم ابتدأ ) مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( ، فما نافية ، وقليلاً وقف حسن ، وهذا القول فيه تفكيك للكلام ، وتقدم معمول العامل المنفي بما على عامله ، وذلك لا يجوز عند البصريين ، ولو كان ظرفاً أو مجروراً . وقد أجاز ذلك بعضهم ، وجاء في الشعر قوله :

" صفحة رقم 135 "
إذا هي قامت حاسراً مشمعلة
يحسب الفؤاد رأسها ما تقنع
فقدم رأسها على ما تقنع ، وهو منفي بما ، وجوزوا أن تكون ما مصدرية في موضع رفع بقليلاً ، أي كانوا قليلاً هجوعهم ، وهو إعراب سهل حسن ، وأن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف تقديره : ) كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ ( من الوقت الذي يهجعون فيه ، وفيه تكلف . ومن الليل يدل على أنهم مشغولون بالعبادة في أوقات الراحات ، وسكون الأنفس من مشاق النهار .
الذاريات : ( 18 ) وبالأسحار هم يستغفرون
) وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ، فيه ظهور على أن تهجدهم يتصل بالأسحار ، فيأخدون في الاستغفار مما يمكن أن يقع فيه تقصير وكأنهم أجرموا في تلك الليالي ، والأسحار مظنة الاستغفار . وقال ابن عمرو الضحاك : يستغفرون : يصلون . وقال الحسن : يدعون في طلب المغفرة ، والظاهر أن قيام الليل
الذاريات : ( 19 ) وفي أموالهم حق . . . . .
وهذا الحق في المال هو من المندوبات ، وأكثر ما تقع زيادة الثواب بفعل المندوب . وقال القاضي منذر بن سعيد : هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وضعف بأن السورة مكية ، وفرض الزكاة بالمدينة . وقيل : كان فرضاً ، ثم نسخ وضعف بأنه تعالى لم يشرع شيئاً بمكة قبل الهجرة من أخد الأموال . والسائل : الذي يستعطي ، والمحروم : لغة الممنوع من الشيء ، قال علقمة : ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمة
أنى توجه والمحروم محروم
وأما في الآية ، فالذي يحسب غنياً فيحرم الصدقة لتعففه . وقيل : الذي تبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان . وقال ابن عباس : المحارب الذي ليس له في الإسلام سهم مال . وقال زيد بن أسلم : هو الذي أجيحت ثمرته . وقيل : الذي ماتت ماشيته . وقال عمر بن عبد العزيز : هو الكلب . وقيل : الذي لا ينمي له مال . وقيل : المحارف الذي لا يكاد يكسب . وقيل غير ذلك ، وكل هذه الأقوال على سبيل التمثيل لا التعيين ، ويجمعها أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه .
الذاريات : ( 20 ) وفي الأرض آيات . . . . .
( وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ ( تدل على الصانع وقدرته وتدبيره من حيث هي كالبساط لما فوقها ، وفيها الفجاج للسلاك ، وهي متجزئة من سهل ووعر وبحر وبر ، وقطع متجاورات من صلبة ورخوة ومنبتة وسبخة ، وتلقح بأنواع النبات ، وفيها العيون والمعادن والدواب المنبتة في بحرها وبرها المختلفة الأشكال . وقرأ قتادة : آية على الإفراد ، ( لّلْمُوقِنِينَ ( : وهم الذين نظروا النظر الصحيح ، وأداهم ذلك إلى إيقان ما جاءت به الرسل ، فأيقنوا لم يدخلهم ريب .
الذاريات : ( 21 ) وفي أنفسكم أفلا . . . . .
( وَفِى أَنفُسِكُمْ ( حال ابتدائها وانتقالها من حال إلى حال ، وما أودع في شكل الإنسان من لطائف الحواس ، وما ترتب على العقل الذي أوتيه من بدائع العلوم وغريب الصنائع ، وغير ذلك مما لا ينحصر .
الذاريات : ( 22 ) وفي السماء رزقكم . . . . .
( وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ ( ، قال الضحاك ومجاهد وابن جبير : المطر والثلج ، لأنه سبب الأقوات ، وكل عين دائمة من الثلج . وقال مجاهد أيض وواصل الأحدب : أراد القضاء والقدر ، أي الرزق عند الله يأتي به كيف شاء ، ( وَمَا تُوعَدُونَ ( : الجنة ، أو هي النار ، أو أمر الساعة ، أو من خير وشر ، أو من ثواب وعقاب ، أقوال المراد بها التمثيل لا التعيين . وقرأ ابن محيصن : أرزاقكم على الجمع ،
الذاريات : ( 23 ) فورب السماء والأرض . . . . .
والضمير في إنه عائد على القرآن ، أو إلى الدين الذي في قوله : ) وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ ( ، أو إلى اليوم المذكور في قوله : ) أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ ( ، أو إلى الرزق ، أو إلى الله ، أو إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أقوال منقولة . والذي يظهر أنه عائد على الإخبار السابق من الله تعالى فيما تقدم في هذه السورة من صدق الموعود ووقوع الجزاء ، وكونهم في ) قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( ، و ) قُتِل

" صفحة رقم 136 "
الْخَرصُونَ ( ، وكينونة المتقين في الجنة على ما وصف ، وذكر أوصافهم وما ذكر بعد ذلك ، ولذلك شبه في الحقيقة بما يصدر من نطق الإنسان بجامع ما اشتركا فيه من الكلام . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والأعم 5 : بخلاف عن ثلاثتهم . مثل بالرفع : صفة لقوله : ) لَحَقُّ ( ؛ وباقي السبعة ، والجمهور : بالنصب ، وقيل : هي فتحة بناء ، وهو نعت كحاله في قراءة من رفع . ولما أضيف إلى غير متمكن بنى ، وما على هذا الإعراب زائدة للتوكيد ، والإضافة هي إلى أنكم تنطقون . وقال المازني : بنى مثل ، لأنه ركب مع ما ، فصار شيئاً واحداً ، ومثله : ويحما وهيما وابنما ، قال حميد بن ثور : ألا هيما مما لقيت وهيما
وويحاً لمن لم يلق منهن ويحما
قال : فلولا البناء لكان منوناً ، وقال الشاعر : فأكرم بنا أو أماً وأكرم بنا ابنما انتهى هذا التخريج . وابنما ليس ابنا بني مع ما ، بل هذا من باب زيادة الميم فيه ، واتباع ما في الآخر ، إذ جعل في الميم الإعراب . تقول : هذا ابنم ، ورئت ابنما ، ومررت بابنم ، وليست ما في الثلاث في ابنما مركبة مع ما ، كما قال : الفتحة في ابنما حركة إعراب ، وهو منصوب على التمييز ، وأنشد النحويون في بناء الاسم مع الحرف قول الراجز :
أثور ما أصيدكم أو ثورين
أم تيكم الجماء ذات القرنين
وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : إنه لحق حقاً مثل ما أنكم ، فحركته حركة إعراب . وقيل : انتصب على أنه حال من الضمير المستكن في ) لَحَقُّ ). وقيل : حال من لحق ، وإن كان نكرة ، فقد أجاز ذلك الجرمي وسيبويه في مواضع من كتابه . والنطق هنا عبارة عن الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني . ويقول الناس : هذا حق ، كما أنك ههنا وهذا حق ، كما أنك ترى وتسمع ، وهذا كما في الآية . وما زائدة بنص الخليل ، ولا يحفظ حذفها ، فتقول : ذا حق كأنك ههنا ، والكوفيون يجعلون مثلاً محلى ، فينصبونه على الظرف ، ويجيزون زيد مثلك بالنصب ، فعلى مذهبهم يجوز أن تكون مثل فيها منصوباً على الظرف ، واستدلالهم والرد عليهم مذكور في النحو . ومن كلام بعض الأعراب : من ذا الذي أغضب الخليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين .
قوله عز وجل ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاْلِيمَ وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ وَهُوَ مُلِيمٌ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ

" صفحة رقم 137 "
الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ).
الذاريات : ( 24 ) هل أتاك حديث . . . . .
( هَلُ أَتَاكَ ( : تقرير لتجتمع نفس المخاطب ، كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب ، فتقرره هل سمع ذلك أم لا ، فكأنك تقتضي أن يقول لا . ويستطعمك الحديث ، وفيه تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإنما عرفه بالوحي ، وضيف الواحد والجماعة فيه سواء . وبدأ بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وإن كانت متأخرة عن قصة عاد ، هزماً للعرب ، إذ كان أباهم الأعلى ، ولكون الرسل الذين وفدوا عليه جاءوا بإهلاك قوم لوط ، إذ كذبوه ، ففيه وعيد للعرب وتهديد واتعاظ وتسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على ما يجري عليه من قومه . ووصفهم بالمكرمين لكرامتهم عند الله تعالى ، كقوله تعالى في الملائكة : ) بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( ، قاله الحسن ، فهي صفة سابقة فيهم ، أو لإكرام إبراهيم إياهم ، إذ خدمهم بنفسه وزوجته سارة وعجل لهم القرا . وقيل : لكونه رفع مجالسهم في صفة حادثة . وقرأ عكرمة : المكرمين بالتشديد ، وأطلق عليهم ضيف ، لكونهم في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم ، أو لحسبانه لذلك . وتقدم ذكر عددهم في سورة هود .
الذاريات : ( 25 ) إذ دخلوا عليه . . . . .
وإذ معمولة للمكرمين إذا كانت صفة حادثة بفعل إبراهيم ، وإلا فبما في ضيف من معنى لفعل ، أو بإضمار اذكر ، وهذه أقوال منقولة . وقرأ الجمهور : قالوا سلاماً ، بالنصب على المصدر الساد مسد فعله المستغنى به .
( قَالَ سَلَامٌ ( بالرفع ، وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره : عليكم سلام . قصد أن يجيبهم بأحسن مما حيوه أخذاً بأدب الله تعالى ، إذ سلاماً دعاء . وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي أمري سلام ، وسلام جملة خبرية قد تحصل مضمونها ووقع . وقال ابن عطية : ويتجه أن يعمل في سلاماً قالوا ، على أن يجعل سلاماً في معنى قولاً ، ويكون المعنى حينئذ : أنهم قالوا تحية ؛ وقولاً معناه سلاماً ، وهذا قول مجاهد . وقرأ ابن وثاب ، والنخعي ، وابن جبير ، وطلحة : قال سلم ، بكسر السين وإسكان اللام ، والمعنى : نحن سلم ، أو أنتم سلم ، وقرئا مرفوعين . وقرىء : سلاماً قالوا سلماً ، بنصبهما وكسر سين الثاني وسكون لامه . ) قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( ، قال أبو العالية : أنكر سلامهم في تلك الأرض وذلك الزمان . وقيل : لا نميزهم ولا عهد لنا بهم . وقيل : كان هذا سؤالهم ، كأنه قال : أنتم قوم منكرون ، فعرّفوني من أنتم . وقوم خبر مبتدأ محذوف قدره أنتم ، والذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لا يخاطبهم بذلك ، إذ فيه من عدم الإنس ما لا يخفى ، بل يظهر أنه يكون التقدير : هؤلاء قوم منكرون . وقال ذلك مع نفسه ، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه بحيث لا يسمع ذلك الأضياف .
الذاريات : ( 26 ) فراغ إلى أهله . . . . .
( فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ ( : أي مضى أثناء حديثه ، مخفياً مضيه مستعجلاً ؛ ) فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( : ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يبادر بالقرا من غير أن يشعر به الضيف ، حذراً من أن يمنعه أن يجيء بالضيافة . وكونه عطف ، فجاء على فراغ يدل على سرعة مجيئه بالقرا ، وأنه كان معداً عنده لمن يرد عليه . وقال في سورة هود : ) فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ( ، وهذا يدل أيضاً على أنه كان العجل سابقاً شيه قبل مجيئهم . وقال قتادة : كان غالب ماله البقر ، وفيه دليل على أنه يحضر للضيف أكثر مما يأكل . وكان عليه الصلاة والسلام مضيافاً ، وحسبك وقف للضيافة أوقافاً تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها .
الذاريات : ( 27 ) فقربه إليهم قال . . . . .
( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ( : فيه أدب المضيف من تقريب القرا لمن يأكل ، وفيه العرض على الأكل ؛ فإن في ذلك تأنيساً للأكل ، بخلاف من قدم طعاماً ولم يحث على أكله ، فإن الحاضر قد يتوهم أنه قدمه على سبيل التجمل ، عسى أن يمتنع الحاضر من الأكل ، وهذا موجود في طباع بعض الناس . حتى أن بعضهم إذا لج الحاضر وتمادى في الأكل ، أخذ من أحسن ما أحضر وأجزله ، فيعطيه لغلامه برسم رفعه لوقت آخر يختص هو بأكله . وقيل : الهمزة في ألا

" صفحة رقم 138 "
للإنكار ، وكأنه ثم محذوف تقديره : فامتنعوا من الأكل ، فأنكر عليهم ترك الأكل فقال : ) أَلا تَأْكُلُونَ ). وفي الحديث : ( إنهم قالوا إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه ، فقال لهم : وإني لا أبيحه لكم إلا بثمن ، قالوا : وما هو ؟ قال : أن تسموا الله عز وجل عند الابتداء وتحمدوه عند الفراغ من الأكل ، فقال بعضهم لبعض : بحق اتخذه الله خليلاً ) .
الذاريات : ( 28 ) فأوجس منهم خيفة . . . . .
( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ( : أي فلما استمروا على الامتناع من الأكل ، أوجس منهم خيفة ، وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه ، وللطعام حرمة وذمام ، والامتناع منه وحشة . فخشي إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن امتناعهم من أكل طعامهم إنما هو لشر يريدونه ، فقالوا لا تخف ، وعرفوه أنهم ملائكة . وعن ابن عباس : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب . وعلمهم بما أضمر في نفسه من الخوف ، إنما يكون باطلاع الله ملائكته على ما في نفسه ، أو بظهور أمارته في الوجه ، فاستدلوا بذلك على الباطن . وعن يحيى بن شداد : مسح جبريل عليه السلام بجناحه العجل ، فقام يدرج حتى لحق بأمه . ) بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( : أي سيكون عليماً ، وفيه تبشير بحياته حتى يكون من العلماء . وعن الحسن : عليم نبي ؛ والجمهور : على أن المبشر به هو إسحاق بن سارة . وقال مجاهد : هو إسماعيل . وقيل : علم أنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب ، ووقعت البشارة بعد التأنيس والجلوس ، وكانت البشارة بذكر ، لأنه أسر للنفس وأبهج ، ووصفه بعليم لأنها الصفة التي يختص بها الإنسان الكامل إلا بالصورة الجميلة والقوة .
الذاريات : ( 29 ) فأقبلت امرأته في . . . . .
( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ ( : أي إلى بيتها ، وكانت في زاوية تنظر إليهم وتسمع كلامهم . وقيل : ) فَأَقْبَلَتِ ( ، أي شرعت في الصياح . قيل : وجدت حرارة الدم ، فلطمت وجهها من الحياء . والصرة ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وسفيان : الصيحة . قال الشاعر : فألحقنا بالهاديات ودونه
حواجرها في صرة لم تزيل
وقال قتادة وعكرمة : الرنة . قيل : قالت أوّه بصياح وتعجب . وقال ابن بحر : الجماعة ، أي من النسوة تبادروا نظراً إلى الملائكة . وقال الجوهري : الصرة : الصيحة والجماعة والشدة . ) فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ( : أي لطمته ، قاله ابن عباس ، وكذلك كما يفعله من يرد عليه أمر يستهو له ويتعجب منه ، وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء . وقال السدي وسفيان : ضربت بكفها جبهتها ، وهذا مستعمل في الناس حتى الآن . ) وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( : أي إنا قد اجتمع فيها أنها عجوز ، وذلك مانع من الولادة ، وأنها عقيم ، وهي التي لم تلد قط ، فكيف ألد ؟ تعجبت من ذلك .
الذاريات : ( 30 ) قالوا كذلك قال . . . . .
( قَالُواْ كَذَلِكِ ( : أي مثل القول الذي أخبرناك به ، ( قَالَ رَبُّكِ ( : وهو القادر على إيجاد ما يستبعد . وروي أن جبريل عليه السلام قال لها : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت ، فإذا جذوعه مورقة مثمرة . ) إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ ( : أي ذو الحكمة . ) الْعَلِيمُ ( بالمصالح .
ولما علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنهم ملائكة ، وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله تعالى رسلاً ،
الذاريات : ( 31 - 32 ) قال فما خطبكم . . . . .
قال ) فَمَا خَطْبُكُمْ ( إلى : ) قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( : أي ذوي جرائم ، وهي كبار المعاصي من كفر وغيره .
الذاريات : ( 33 ) لنرسل عليهم حجارة . . . . .
( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ ( : أي لنهلكهم بها ، ( حِجَارَةً مّن طِينٍ ( : وهو السجيل ، طين يطبخ كما يطبخ الآجر حتى يصير في صلابة كالحجارة .
الذاريات : ( 34 ) مسومة عند ربك . . . . .
( مُّسَوَّمَةً ( : معلمة ، على كل واحد منها اسم صاحبه . وقيل : معلمة أنها من حجارة العذاب . وقيل : معلمة أنها ليست من حجارة الدنيا ، ( لِلْمُسْرِفِينَ ( : وهم المجاوزون الحد في الكفر .
الذاريات : ( 35 - 37 ) فأخرجنا من كان . . . . .
( فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا ( : في القرية التي حل العذاب بأهلها . ) غَيْرَ بَيْتٍ ( : هو بيت لوط عليه السلام ، وهو لوط وابنتاه فقط ، وقيل : ثلاثة عشر نفساً . وقال الرماني : الآية تدل على أن الإيمان هو الإسلام ، وكذا قال الزمخشري ، وهما معتزليان .
( وَتَرَكْنَا فِيهَا ( : أي في القرية ، ( ءايَةً ( : علامة . قال ابن جريج : حجراً كبيراً جدًّا منضوداً . وقيل : ماء أسود منتن . ويجوز أن يكون فيها عائداً على الإهلاكة التي أهلكوها ، فإنها من أعاجيب الإهلاك ،

" صفحة رقم 139 "
بجعل أعالي القرية أسافل وإمطار الحجارة .
الذاريات : ( 38 ) وفي موسى إذ . . . . .
والظاهر أن قوله : ) وَفِى مُوسَى ( معطوف على ) وَتَرَكْنَا فِيهَا ( : أي في قصة موسى . وقال الزمخشري وابن عطية : ) وَفِى مُوسَى ( يكون عطفاً على ) وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ ). ) وَفِى مُوسَى ( ، وهذا بعيد جدًّا ، ينزه القرآن عن مثله . وقال الزمخشري أيضاً : أو على قوله ، ( وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً ( ، على معنى : وجعلنا في موسى آية ، كقوله : علفتها تبناً وماء بارداً انتهى ، ولا حاجة إلى إضمار ) وَتَرَكْنَا ( ، لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور ) وَتَرَكْنَا ).
الذاريات : ( 39 ) فتولى بركنه وقال . . . . .
( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ( : أي ازور وأعرض ، كما قال : ) وَنَأَى بِجَانِبِهِ ). وقيل : بقوته وسلطانه . وقال ابن زيد : بركنه : بمجموعه . وقال قتادة : بقومه . ) وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( : ظن أحدهما ، أو تعمد الكذب ، وقد علم أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حقاً . وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو ، ويدل على ذلك أنه قد قالهما ، قال : ) إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ، و ) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( ، واستشهد أبو عبيدة بقول جرير :
أثعلبة الفوارس أو رباحا
عدلت بهم طهية والحشايا
ولا ضرورة تدعو إلى جعل أو بمعنى الواو ، إذ يكون قالهما ، وأبهم على السامع ، فأو للإبهام .
الذاريات : ( 40 ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم . . . . .
( هُوَ مُلِيمٌ ( : أي أتى من المعاصي ما يلام عليه .
الذاريات : ( 41 ) وفي عاد إذ . . . . .
( الْعَقِيمَ ( التي لا خير فيها ، من الشتاء مطر ، أو لقاح شجر . وفي الصحيح : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور . فقول من ذهب إلى أنها الصبا ، أو الجنوب ، أو النكباء ، وهي ريح بين ريحين ، نكبت عن سمت القبلة ، فسميت نكباء ، ليس بصحيح ، لمعارضته للنص الثابت عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنها الدبور .
الذاريات : ( 42 ) ما تذر من . . . . .
( مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ ( : وهو عام مخصوص ، كقوله : ) تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبّهَا ( : أي مما أراد الله تدميره وإهلاكه من ناس أو ديار أو شجر أو نبات ، لأنها لم يرد الله بها إهلاك الجبال والآكام والصخور ، ولا العالم الذي لم يكن من قوم عاد . ) إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( : جملة حالية ، والرميم تقدّم تفسيره في يس ، وهنا قال السدّي : التراب ، وقتادة : الهشيم ، ومجاهد : البالي ، وقطرب : الرماد ، وابن عيسى : المنسحق الذي لا يرم ، جعل الهمزة في أرم للسلب . روي أن الريح كانت تمر بالناس ، فيهم الرجل من قوم عاد ، فتنزعه من بينهم وتهلكه .
الذاريات : ( 43 ) وفي ثمود إذ . . . . .
( تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ ( ، قال الحسن : هذا كان حين بعث إليهم صالح ، أمروا بالإيمان بما جاء به ، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم ، ثم إنهم عتوا بعد ذلك ، ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عن ما أمروا به ، فهو مطابق لفظاً ووجود . وقال الفراء : هذا الأمر بالتمتع كان بعد عقر الناقة ، والحين ثلاثة أيام التي أوعدوا في تمامها بالعذاب . فالعتو كان قد تقدم قبل أن يقال لهم تمتعوا ، ولا ضرورة تدعو إلى قول الفراء ، إذ هو غير مرتب في الوجود .
الذاريات : ( 44 ) فعتوا عن أمر . . . . .
وقرأ الجمهور : الصاعقة ؛ وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما ، والكسائي : الصعقة ، وهي الصيحة هنا . وقرأ الحسن : الصاعقة ؛ وزيد بن علي كقراءة الكسائي . ) وَهُمْ يَنظُرُونَ ( : أي فجأة ، وهم ينظرون بعيونهم ، قاله الطبري : وكانت نهاراً . وقال مجاهد : ) وَهُمْ يَنظُرُونَ ( ينتظرون ذلك في تلك الأيام الثلاثة التي أعلموه فيها ، ورأوا علاماته في قلوبهم ، وانتظار العذاب أشد من العذاب .
الذاريات : ( 45 ) فما استطاعوا من . . . . .
( فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ ( ، لقوله : ) فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( ، ونفي الاستطاعة أبلغ من نفي القدرة . ) وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ ( ، أبلغ من نفي الانتصار : أي فما قدروا على الهرب ، ولا كانوا ممن ينتصر لنفسه فيدفع ما حل به . وقيل : ) مِن قِيَامٍ ( ، هو من قولهم : ما يقوم به إذا عجز عن دفعه ، فليس المعنى انتصاب القامة ، قاله قتادة .
الذاريات : ( 46 ) وقوم نوح من . . . . .
وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : ) وَقَوْمِ ( بالجر عطفاً على ما تقدم ، أي وفي قوم نوح ، وهي قراءة عبد الله . وقرأ باقي السبعة ، وأبو عمرو في رواية : بالنصب . قيل : عطفاً على الضمير في ) فَأَخَذَتْهُمُ ( ؛ وقيل : عطفاً على ) فَنَبَذْنَاهُمْ ( ، لأن معنى كل منهما : فأهلكناهم . وقيل : منصوب بإضمار فعل تقديره : وأهلكنا قوم نوح ، لدلالة معنى الكلام عليه .

" صفحة رقم 140 "
وقيل : باذكر مضمرة . وروى عبد الوارث ، ومحبوب ، والأصمعي عن أبي عمرو ، وأبو السمال ، وابن مقسم : وقوم نوح بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي أهلكناهم .
قوله عز وجل : ) وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءاخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ ).
الذاريات : ( 47 ) والسماء بنيناها بأيد . . . . .
أي : وبنينا السماء ، فهو من باب الاشتغال ، وكذا وفرشنا الأرض . وقرأ أبو السمال ، ومجاهد ، وابن مقسم : برفع السماء ورفع الأرض على الابتداء . ) بِأَيْدٍ ( : أي بقوة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وهو كقوله : ) دَاوُودُ ذَا الاْيْدِ ). ) وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( : أي بناءها ، فالجملة حالية ، أي بنيناها موسعوها ، كقوله : جاء زيد وإنه لمسرع ، أي مسرعاً ، فهي بحيث أن الأرض وما يحيط من الماء والهواء كالنقطة وسط الدائرة . وقال ابن زيد قريباً من هذا وهو : أن الوسع راجع إلى السماء . وقيل : لموسعون قوة وقدرة ، أي لقادرون من الوسع ، وهو الطاقة . وقال الحسن : أوسع الرزق بالمطر والماء .
الذاريات : ( 48 - 49 ) والأرض فرشناها فنعم . . . . .
( فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( ، و ) خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( ، قال مجاهد : إشارة إلى المتضادات والمتقابلات ، كالليل والنهار ، والشقاوة والسعادة ، والهدى والضلال ، والسماء والأرض ، والسواد والبياض ، والصحة والمرض ، والكفر والإيمان ، ونحو ذلك ، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة التي توجد الضدين ، بخلاف ما يفعل بطبعه ، كالتسخين والتبريد . ومثل الحسن بأشياء مما تقدم وقال : كل اثنين منها زوج ، والله تعالى فرد لا مثل له . وقال ابن زيد وغيره : ) مِن كُلّ شَىْء ( : أي من الحيوان ، ( خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( : ذكراً وأنثى . وقيل : المراد بالشيء الجنس ، وما يكون تحت الجنس نوعان : فمن كل جنس خلق نوعين من الجواهر ، مثل النامي والجامد . ومن النامي المدرك والنبات ، ومن المدرك الناطق والصامت ، وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه . ) لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( : أي بأني باني السماء وفارش الأرض وخالق الزوجين ، تعالى أن يكون له زوج . أو تذكرون أنه لا يعجزه حشر الأجساد وجمع الأرواح . وقرأ أبي : تتذكرون ، بتاءين وتخفيف الذال . وقيل : إرادة أن تتذكروا ، فتعرفوا الخالق وتعبدوه .
الذاريات : ( 50 ) ففروا إلى الله . . . . .
( فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( : أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله ، وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار ، لينبه على أن وراء الناس عقاب وعذاب . وأمر حقه أن يفر منه ، فجمعت لفظة ففروا بين التحذير والاستدعاء . وينظر إلى هذا المعنى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ) ، قاله ابن عطية ، وهو تفسير حسن . وقال الزمخشري : إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ، ووحدوه ولا تشركوا به شيئاً . وكرر ) إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ، عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل ، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما . ألا ترى إلى قوله : ) لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا ( ؟ والمعنى : قل يا محمد ففروا إلى الله . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال . وقد رددنا عليه في تفسير ) لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ( في موضع هذه الآية .
الذاريات : ( 52 ) كذلك ما أتى . . . . .
( كَذالِكَ ( : أي أمر الأمم السابقة عند مجيء الرسل إليهم ، مثل الأمر من الكفار الذين بعثت إليهم ، وهو التكذيب . ) سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( : أو للتفصيل ، أي قال بعض ساحر ، وقال بعض مجنون ، وقال بعض كلاهما ، ألا ترى إلى قوم نوح عليه الصلاة والسلام لم يقولوا عنه إنه ساحر ، بل قالوا به جنة ، فجمعوا في الضمير ودلت أو على التفصيل ؟
الذاريات : ( 53 ) أتواصوا به بل . . . . .
( أَتَوَاصَوْاْ بِهِ ( : أي بذلك القول ، وهو توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة على تكذيب الأنبياء ، مع افتراق أزمانهم ، ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( : أي لم يتواصوا به ، لأنهم لم يكونوا في زمان واحد ، بل جمعتهم علة واحدة ، وهي كونهم طغاة ، فهم مستعلون في الأرض ، مفسدون فيها

" صفحة رقم 141 "
عاتون .
الذاريات : ( 54 ) فتول عنهم فما . . . . .
( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( : أي أعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة ، فلم يجيبوا . ) فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ( : إذ قد بلغت ونصحت .
الذاريات : ( 55 ) وذكر فإن الذكرى . . . . .
( وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( : تؤثر فيهم وفيمن قدر الله أن يؤمن ، وما دل عليه الظاهر من الموادعة منسوخ بآية السيف . وعن عليّ ، كرم الله وجهه : لما نزل ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( ، حزن المسلمون وظنوا أنه أمر بالتولي عن الجميع ، وأن الوحي قد انقطع ، نزلت ) وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( ، فسروا بذلك . ) إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( : أي ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ ( الطائعين ، قاله زيد بن أسلم وسفيان ، ويؤيده رواية ابن عباس ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) :
الذاريات : ( 56 ) وما خلقت الجن . . . . .
( وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين ) . وقال علي وابن عباس : ) إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( : إلا لآمرهم بعبادتي ، وليقروا لي بالعبادة . فعبر بقوله : ) لِيَعْبُدُونِ ( ، إذ العبادة هي مضمن الأمر ، فعلى هذا الجن والإنس عام . وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : إلا معدين ليعبدون ، وكأن الآية تعديد نعمه ، أي خلقت لهم حواس وعقولاً وأجساماً منقادة ، نحو : العبادة ، كما تقول : هذا مخلوق لكذا ، وإن لم يصدر منه الذي خلق له ، كما تقول : القلم مبري لأن يكتب به ، وهو قد يكتب به وقد لا يكتب به ، وقال الزمخشري : إلا لأجل العبادة ، ولم أرد من جميعهم إلا إياها . فإن قلت : لو كان مريداً للعبادة منهم ، لكانوا كلهم عباداً . قلت : إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها ، لأنه خلقهم ممكنين ، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريداً لها ، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وقال مجاهد : ) إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( : ليعرفون . وقال ابن زيد : لأحملهم في العبادة على الشقاوة والسعادة . وقال الربيع بن أنس : إلا للعبادة ، قال : وهو ظاهر اللفظ . وقيل : إلا ليذلوا لقضائي . وقال الكلبي : إلا ليوحدون ، فالمؤمن يوحده في الشدة والرخاء ، والكافر في الشدة . وقال عكرمة : ليطيعون ، فأثيب العابد ، وأعاقب الجاحد . وقال مجاهد أيضاً : إلا للأمر والنهي .
الذاريات : ( 57 - 58 ) ما أريد منهم . . . . .
( مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ ( : أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم . ) وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ( : أي أن يطعموا خلقي ، فهو على حذف مضاف ، فالإضافة إلى الضمير تجوز ، قاله ابن عباس . وقيل : ) أَن يُطْعِمُونِ ( : أن ينفعون ، فذكر جزأ من المنافع وجعله دالاً على الجميع . وقال الزمخشري : يريد إن شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، لأن ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا في تحصيل معايشهم وأرزاقهم بهم ؛ فإما مجهز في تجارة يبغي ربحاً ، أو مرتب في فلاحة ليقتل أرضاً ، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته ، أو محتطب ، أو محتش ، أو مستق ، أو طابخ ، أو خابز ، أو ما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق . فأما مالك ملاك العبيد فقال لهم : اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم ، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم ، وأنا غني عنكم وعن مرافقكم ، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي ، فما هو إلا أن انا وحدي . انتهى ، وهو تكثير وخطابة . وقرأ ابن محيصن : ) الرَّزَّاقُ ( ، كما قرأ : ) وَفِى السَّمَاء ( : اسم فاعل ، وهي قراءة حميد . وقرأ الأعمش ، وابن وثاب : ) الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ( بالجر ، صفة للقوة على معنى الاقتدار ، قاله الزمخشري ، أو كأنه قال : ذو الأيد ، وأجاز أبو الفتح أن تكون صفة لذو وخفض على الجوار ، كقولهم : هذا جحر ضب خرب .
الذاريات : ( 59 ) فإن للذين ظلموا . . . . .
( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( : هم أهل مكة وغيرهم من الكفار الذين كذبوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ذنوباً : أي حظاً ونصيباً ، ( مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ( : من الأمم السابقة التي كذبت الرسل في الإهلاك والعذاب . وعن قتادة : سجلاً من عذاب الله مثل سجل أصحابهم . وقال الجوهري : الذنوب : الدلو الملأى ماء ، ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة وجمعها العدد ، وفي الكثير ذنائب . والذنوب : الفرس الطويل الذنب ، والذنوب : النصيب ، والذنوب : لحم أسفل المتن . وقال ابن الأعرابي : يقال يوم ذنوب : أي طويل الشر لا ينقضي .
الذاريات : ( 60 ) فويل للذين كفروا . . . . .
( فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ( ، قيل : يوم بدر . وقيل : يوم القيامة ) الَّذِى يُوعَدُونَ ( : أي به ، أو يوعدونه .

" صفحة رقم 142 "
52
( سورة الطور )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِى رَقٍّ مَّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِىأَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَاذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْألُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُوا

" صفحة رقم 143 "
ْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( )
الطور : ( 1 ) والطور
الرق ، بالفتح والكسر : جلد رقيق يكتب فيه ، وجمعه رموق . والرق بالكسر : المملوك . مار الشيء : ذهب وجاء . وقال الأخفش : وأبو عبيدة : تكفأ ، وأنشد الأعشى : كأن مشيتها من بين جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجل
ويروى : مرو السحابة . الدع : الدفع في الضيق بشدّة وإهانة . السموم : الريح الحارة التي تدخل المسام ، ويقال : سم يومنا فهو مسموم ، والجمع سمائم . وقال ثعلب : شدّة الحر ، أو شدّة البرد في النهار . وقال أبو عبيدة : السموم بالنهار ، وقد يكون بالليل ؛ والحرور بالليل ، وقد يكون بالنهار . وقد يستعمل السموم في لفح البرد ، وهو في لفح الحر والشمس أكثر . المنون : الدهر ، وريبه : حوادثه . وقيل : اسم للموت . المسيطر : المتسلط . وحكى أبو عبيدة : سطرت عليّ ، إذا اتخذتني خولاً ، ولم يأت في كلام العرب اسم على مفيعل إلا خمسة : مهيمن ومحيمر ومبيطر ومسيطر ومبيقر . فالمحيمر اسم جبل ، والبواقي أسماء فاعلين ، والله تعالى أعلم .
( وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِى رَقّ مَّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، إذ في آخر تلك : ) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ( ، وقال هنا : ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ).
الطور : الجبل ، والظاهر أنه اسم جنس ، لا جبل معين ، وفي الشأم جبل يسمى الطور ، وهو طور سيناء . فقال نوف البكالي : إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال . قيل : وهو الذي كلم الله عليه موسى ، عليه الصلاة والسلام .
الطور : ( 2 ) وكتاب مسطور
والكتاب المسطور : القرآن ، أو المنتسخ من اللوح المحفوظ ، أو التوراة ، أو هي الإنجيل والزبور ، أو الكتاب الذي فيه أعمال الخلق ، أو الصحف التي تعطى يوم القيامة بالإيمان والشمائل ، أقوال آخرها للفراء ، ولا ينبغي أن يحمل شيء منها على التعيين ، إنما تورد على الاحتمال .
الطور : ( 3 ) في رق منشور
وقرأ أبو السمال : في رِق ، بكسر الراء ، ( مَّنْشُورٍ ( : أي مبسوط . وقيل : مفتوح لا ختم عليه . وقيل : منشور لائح . وعن ابن عباس : منشور ما بين المشرق والمغرب .
الطور : ( 4 ) والبيت المعمور
) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ( ، قال علي وابن عباس وعكرمة : هو بيت في السماء

" صفحة رقم 144 "
مسامت الكعبة يقال له الضراح ، والضريح أيضاً ، وهو الذي ذكر في حديث الإسراء ، قال جبريل : هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم . وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : في كل سماء بيت معمور ، وفي كل أرض كذلك . وسأل ابن الكوا علياً ، رضي الله تعالى عنه فقال : بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح . وقال الحسن : البيت المعمور : الكعبة ، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف ، فإن عجز من الناس أتمه الله بالملائكة .
الطور : ( 5 ) والسقف المرفوع
) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( : السماء ، قال ابن عباس : هو العرش ، وهو سقف الجنة .
الطور : ( 6 ) والبحر المسجور
) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( ، قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحمد بن كعب والأخف 5 : هو البحر الموقد ناراً . وروي أن البحر هو جهنم . وقال قتادة : البحر المسجور : المملوء ، وهذا معروف من اللغة ، ورجحه الطبري بوجود ماء البحر كذلك ، ولا ينافي ما قاله مجاهد ، لأن سجرت التنور معناه : ملأته بما يحترق . وقال ابن عباس : المسجور : الذي ذهب ماؤه . وروى ذو الرمة الشاعر ، عن ابن عباس قال : خرجت أمة لتستقي ، فقالت : إن الحوض مسجور : أي فارغ ، وليس لذي الرمة حديث إلا هذا ، فيكون من الأضداد . ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة . وقال ابن عباس أيضاً : المسجور : المحبوس ، ومنه ساجور الكلب : وهي القلادة من عود أو حديد تمسكه ، ولولا أن البحر يمسك ، لفاض على الأرض . وقال الربيع : المسجور : المختلط العذب بالملح . وقيل : المفجور ، ويدل عليه : ) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجّرَتْ ). والجمهور : على أن البحر المقسم به هو بحر الدنيا ، ويؤيده : ) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ ). وعن علي وابن عمر : أنه في السماء تحت العرش فيه ماء غليظ يقال له بحر الحياة ، يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً ، فينبتون في قبورهم . وقال قتيبة بن سعيد : هو جهنم ، وسماها بحراً لسعتها وتموجها . كما جاء في الفرس : وإن وجدناه لبحراً . قيل : ويحتمل أن تكون الجملة في القسم بالطور والبحر والبيت ، لكونها أماكن خلوة مع الله تعالى ، خاطب منها ربهم رسله .
فالطور ، قال فيه موسى : ) أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ( ، والبيت المعمور لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والبحر المسجور ليونس ، قال : ) لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ ( ، فشرفت هذه الأماكن بهذه الأسباب . والقسم بكتاب مسطور ، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان لهم مع الله في هذه الأماكن كلام . واقترانه بالطور دل على ذلك . والقسم بالسقف المرفوع لبيان رفعة البيت المعمور . انتهى . ونكر وكتاب ، لأنه شامل لكل كتاب أنزله الله شمول البدل ، ويحتمل أن يكون شمول العموم ، كقوله : ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ). وكونه في رق ، يدل على ثبوته ، وأنه لا يتخطى الرؤوس . ووصفه بمنشور يدل على وضوحه ، فليس كالكتاب المطوي الذي لا يعلم ما انطوى عليه ، والمنشور يعلم ما فيه ، ولا يمنع من مطالعة ما تضمنه ؛ والواو الأولى واو القسم ، وما بعدها للعطف .
الطور : ( 7 ) إن عذاب ربك . . . . .
والجملة المقسم عليها هي قوله : ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ). وفي إضافة العذاب لقوله : ) رَبَّكَ ( لطيفة ، إذ هو المالك والناظر في مصلحة العبد

" صفحة رقم 145 "
فبالإضافة إلى الرب ، وإضافته لكاف الخطاب أمان له ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ وإن العذاب لواقع هو بمن كذابه ، ولواقع على الشدة ، وهو أدل عليها من لكائن . ألا ترى إلى قوله : ) إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( ، وقوله : ) وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ( ، كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حل به ؟ وعن جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في أسارى بدر ، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب : ) وَالطُّورِ ( إلى ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ( ، فكأنما صدع قلبي ، فأسلمت خوفاً من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب . وقرأ زيد بن علي : واقع بغير لام . قال قتادة : يريد عذاب الآخرة للكفار ، أي لواقع بالكفار .
ومن غريب ما يحكى أن شخصاً رأى في النوم في كفه مكتوباً خمس واوات ، فعبر له بخير ، فسأل ابن سيرين ، فقال : تهيأ لما لا يسر ، فقال له : من أين أخذت هذا ؟ فقال : من قوله تعالى : ) وَالطُّورِ ( إلى ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ( ، فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص . وانتصب يوم بدافع ، قاله الحوفي ، وقال مكي : لا يعمل فيه واقع ، ولم يذكر دليل المنع . وقيل : هو منصوب بقوله : ) لَوَاقِعٌ ( ،
الطور : ( 8 ) ما له من . . . . .
وينبغي أن يكون ) مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ( على هذا جملة اعتراض بين العامل والمعمول .
الطور : ( 9 ) يوم تمور السماء . . . . .
قال ابن عباس : ) تَمُورُ ( : تضطرب . وقال أيضاً : تشقق . وقال الضحاك : يموج بعضها في بعض .
الطور : ( 10 ) وتسير الجبال سيرا
وقال مجاهد : تدور . ) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ( ، هذا في أول الأمر ، ثم تنسف حتى تصير آخراً ) كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ).
الطور : ( 11 - 12 ) فويل يومئذ للمكذبين
) فَوَيْلٌ ( : عطف على جملة تتضمن ربط المعنى وتأكيده ، والخوض : التخبط في الباطل ، وغلب استعماله في الاندفاع في الباطل .
الطور : ( 13 ) يوم يدعون إلى . . . . .
( يَوْمَ يُدَعُّونَ ( ، وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم . وقرأ علي وأبو رجاء والسلمي وزيد بن علي : يدعون ، بسكون الدال وفتح العين : من الدعاء ، أي يقال لهم : هلموا إلى النار ، وادخلوها ) دَعًّا ( : مدعوعين ،
الطور : ( 14 ) هذه النار التي . . . . .
يقال لهم : ) هَاذِهِ النَّارُ ). لما قيل لهم ذلك ، وقفوا بعد ذلك على الجهتين اللتين يمكن دخول الشك في أنها النار ،
الطور : ( 15 ) أفسحر هذا أم . . . . .
وهي : إما أن يكون سحر يلبس ذات المرئي ، وإما أن يكون في نظر الناظر اختلال ، فأمرهم بصليها على جهة التقريع .
الطور : ( 16 ) اصلوها فاصبروا أو . . . . .
ثم قيل لهم على قطع رجائهم : ) فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ ( : عذابكم حتم ، فسواء صبركم وجزعكم لا بد من جزاء أعمالكم ، قاله ابن عطية .
وقال الزمخشري : ) أَفَسِحْرٌ هَاذَا ( ، يعني كنتم تقولون للوحي : هذا سحر . . ) أَفَسِحْرٌ هَاذَا ( ، يريد : أهذا المصداق أيضاً سحر ؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى . ) أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ ( : كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ، يعني : أم أنتم عمي عن المخبر عنه ، كما كنتم عمياً عن الخبر ؟ وهذا تقريع وتهكم . فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله : ) إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ؟ قلت : لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة ، وبأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير . فأما الصبر على العذاب ، الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع . انتهى . وسحر : خبر مقدم ، وهذا : مبتدأ ، وسواء : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي الصبر والجزع . وقال أبو البقاء : خبر مبتدأ محذوف ، أي صبركم وتركه سواء .
الطور : ( 17 - 18 ) إن المتقين في . . . . .
ولما ذكر حال الكفار ، ذكر حال المؤمنين ، ليقع الترهيب والترغيب ، وهو إخبار عن ما يؤول إليه حال المؤمنين ، أخبروا بذلك . ويجوز أن يكون من جملة القول للكفار ، إذ ذلك زيادة في غمهم وتنكيد لهم ، والأول أظهر . وقرأ الجمهور : فكهين ، نصباً على الحال ، والخبر في ) جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ). وقرأ خالد : بالرفع على أنه خبر إن ، وفي جنات متعلق به . ومن أجاز تعداد الخبر ، أجاز أن يكونا خبرين . ) وَوَقَاهُمْ ( معطوف على ) فِي جَنَّاتِ ( ، إذ المعنى : استقروا في جنات ، أو على ) ءاتَاهُمُ ( ، وما مصدرية ، أي فكهين بإيتائهم ربهم النعيم ووقايتهم عذاب الجحيم . وجوز أن تكون الواو في ووقاهم واو الحال ، ومن شرط قد في الماضي ، قال : هي هنا مضمرة ، أي وقد وقاهم . وقرأ أبو حيوة : ووقاهم ، بتشديد القاف .
الطور : ( 19 ) كلوا واشربوا هنيئا . . . . .
( كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( على إضمار القول : أي يقال لهم : ) هَنِيئَاً ). قال الزمخشري : أكلاً وشرباً هنيئاً ، أو طعاماً وشراباً هنيئاً ، وهو الذي لا تنغيص فيه . ويجوز أن يكون مثله في قوله :

" صفحة رقم 146 "
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت
أعني : صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل ، مرتفعاً به ما استحلت ، كما يرتفع بالفعل ، كأنه قيل : هنا عزة المستحل من أعراضنا . وكذلك معنى هنيئاً ههنا : هنأكم الأكل والشرب ، أو هنأكم ما كنتم تعملون ، أي جزاء ما كنتم تعملون ، والباء مزيدة كما في : ) كَفَى بِاللَّهِ ( ، والباء متعلقة بكلوا واشربوا ، إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب . انتهى . وتقدم لنا الكلام مشبعاً على ) هَنِيئَاً ( في سورة النساء . وأما تجويزه زيادة الباء ، فليست زيادتها مقيسة في الفاعل ، إلا في فاعل كفى على خلاف فيها ؛ فتجويز زيادتها في الفاعل هنا لا يسوغ . وأما قوله : إن الباء تتعلق بكلوا واشربوا ، فلا يصح إلا على الأعمال ، فهي تتعلق بأحدهما .
الطور : ( 20 ) متكئين على سرر . . . . .
وانتصب ) مُتَّكِئِينَ ( على الحال . قال أبو البقاء : من الضمير في ) كُلُواْ ( ، أو من الضمير في ) وَوَقَاهُمْ ( ، أو من الضمير في ) ءاتَاهُمُ ( ، أو من الضمير في ) فَاكِهِينَ ( ، أو من الضمير في الظرف . انتهى . والظاهر أنه حال من الظرف ، وهو قوله : ) فِي جَنَّاتِ ). وقرأ أبو السمال : على سرر ، بفتح الراء ، وهي لغة لكلب في المضعف ، فراراً من توالي ضمتين مع التضعيف . وقرأ عكرمة : ) بِحُورٍ عِينٍ ( على الإضافة .
الطور : ( 21 ) والذين آمنوا واتبعتهم . . . . .
والظاهر أن قوله : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( مبتدأ ، وخبره ) ألحقناه ). وأجاز أبو البقاء أن يكون ) مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ( في موضع نصب على تقدير : وأكرمنا الذين آمنوا . ومعنى الآية ، قال الجمهور وابن عباس وابن جبير وغيرهما : أن المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يكونون في مراتب آبائهم ، وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال مثلهم كرامة لآبائهم . فبإيمان متعلق بقوله : ) وَأَتْبَعْنَاهُم ). وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته وإن كان لم يبلغها بعمله ليقر بها عينه ) ثم قرأ الآية . وقال ابن عباس والضحاك : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار ، وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين . انتهى . فيكون بإيمان متعلقاً بألحقنا ، أي ألحقنا بسبب الإيمان الآباء بهم ذرياتهم ، وهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف ، فهم في الجنة مع آبائهم ، وإذا كان أبناء الكفار ، الذين لم يبلغوا حدّ التكليف في الجنة ، كما ثبت في صحيح البخاري ، فأحرى أولاد المؤمنين . وقال الحسن : الآية في الكبار من الذرية . وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار . وعن ابن عباس أيضاً : الذين آمنوا : المهاجرون والأنصار ، والذرية : التابعون . وعنه أيضاً : إن كان الآباء أرفع درجة ، رفع الله الأبناء إليهم ، فالآباء داخلون في اسم الذرية . وقال النخعي : المعنى : أعطيناهم أجورهم من غير نقص ، وجعلنا ذريتهم كذلك .
وقال الزمخشري : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( ، معطوف على حور عين . أي قرناهم بالحور العين ؛ وبالذين آمنوا : أي بالرفقاء والجلساء منهم ، كقوله تعالى : ) إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ( ، فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وأتبعناهم ذرياتهم . ثم ذكر حديث ابن عباس ، ثم قال : فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، وبمزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم بهم ونسلهم . ثم قال : بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم : أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ، ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم ، وإن كانوا لا يستأهلونها ، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم ، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم . فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان ؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة . ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم . انتهى .
ولا يتخيل أحد أن ) وَالَّذِينَ ( معطوف على ) بِحُورٍ عِينٍ ( غير هذا الرجل ، وهو تخيل أعجميّ مخالف لفهم العربي القح ابن عباس وغيره . والأحسن من هذه الأقوال قول ابن عباس ، ويعضده الحديث الذي رواه ، لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى هل الجنة . وذكر من جملة إحسانه أنه يرعى

" صفحة رقم 147 "
المحسن في المسيء . ولفظة ) أَلْحَقْنَا ( تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال . وقرأ أبو عمرو : وأتبعناهم ؛ وباقي السبعة : واتبعتهم ؛ وأبو عمرو : وذرياتهم جمعاً نصباً ؛ وابن عامر : جمعاً رفعاً ؛ وباقي السبعة : مفرداً ؛ وابن جبير : وأتبعناهم ذريتهم ، بالمدّ والهمز .
وقرأ الجمهور : ) أَلَتْنَاهُمْ ( ، بفتح اللام ، من ألات ؛ والحسن وابن كثير : بكسرها ؛ وابن هرمز : آلتناهم ، بالمد من آلت ، على وزن أفعل ؛ وابن مسعود وأبي : لتناهم من لات ، وهي قراءة طلحة والأعمش ؛ ورويت عن شبل وابن كثير ، وعن طلحة والأعمش أيضاً : لتناهم بفتح اللام . قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال ، وأنكر أيضاً آلتناهم بالمد ، وقال : لا يروى عن أحد ، ولا يدل عليها تفسير ولا عربية ، وليس كما ذكر ، بل قد نقل أهل اللغة آلت بالمد ، كما قرأ ابن هرمز . وقرىء : وما ولتناهم ، ذكره ابن هارون . قال ابن خالويه : فيكون هنا الحرف من لات يليت ، وولت يلت ، وألت يألت ، وألات يليت ، ويؤلت ، وكلها بمعنى نقص . ويقال : ألت بمعنى غلظ . وقام رجل إلى عمر رضي الله عنه فوعظه ، فقال رجل : لا تألت أمير المؤمنين ، أي لا تغلظ عليه . والظاهر أن الضمير في ألتناهم عائد على المؤمنين . والمعنى : أنه تعالى يلحق المقصر بالمحسن ، ولا ينقص المحسن من أجر شيئاً ، وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور . وقال أبي زيد : الضمير عائد على الأبناء . ) مّنْ عَمَلِهِم ( : أي الحسن والقبيح ، ويحسن هذا الاحتمال قوله : ) كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ( : أي مرتهن وفيه ،
الطور : ( 22 ) وأمددناهم بفاكهة ولحم . . . . .
( وَأَمْدَدْنَاهُم ( : أي يسرنا لهم شيئاً فشيئاً حتى يكر ولا ينقطع .
الطور : ( 23 ) يتنازعون فيها كأسا . . . . .
( يَتَنَازَعُونَ فِيهَا ( أي يتعاطون ، قال الأخطل : نازعته طيب الراح الشمول وقد
صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
أو يتنازعون : يتجاذبون تجاذب ملاعبة ، إذ أهل الدنيا لهم في ذلك لذة ، وكذلك في الجنة . وقرأ الجمهور : ) لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ( ، برفعهما ؛ وابن كثير ، وأبو عمرو : بفتحهما ، واللغو : السقط من الكلام ، كما يجري بين شراب الخمر في الدنيا . والتأثيم : الإثم الذي يلحق شارب الخمر في الدنيا .
الطور : ( 24 ) ويطوف عليهم غلمان . . . . .
( غِلْمَانٌ لَّهُمْ ( : أي مماليك . ) مَّكْنُونٌ ( : أي في الصدف ، لم تنله الأيدي ، قاله ابن جبير ، وهو إذ ذاك رطب ، فهو أحسن وأصفى . ويجوز أن يراد بمكنون : مخزون ، لأنه لا يخزن إلا الغالي الثمن .
الطور : ( 25 - 27 ) وأقبل بعضهم على . . . . .
والظاهر أن التساؤل هو في الجنة ، إذ هذه كلها معاطيف بعضها على بعض ، أي يتساءلون عن أحوالهم وما نال كل واحد منهم ؛ ويدل عليه ) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ( : أي بهذا النعيم الذي نحن فيه . وقال ابن عباس : تساؤلهم إذا بعثوا في النفخة الثانية ، حكاه الطبري عنه . ) مُشْفِقِينَ ( : رقيقي القلوب ، خاشعين لله . وقرأ أبو حيوة : ووقانا بتشديد القاف ، والسموم هنا النار ؛ وقال الحسن : اسم من أسماء جهنم .
الطور : ( 28 ) إنا كنا من . . . . .
( مِن قَبْلُ ( : أي من قبل لقاء الله والمصير إليه . ) نَدْعُوهُ ( نعبده ونسأله الوقاية من عذابه ، ( إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ ( : المحسن ، ( الرَّجِيمِ ( : الكثير الرحمة ، إذا عبد أثاب ، وإذا سئل أجاب . أو ) نَدْعُوهُ ( من الدعاء . وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي : أنه بفتح الهمزة ، أي لأنه ، وباقي السبعة : إنه بكسر الهمزة ، وهي قراءة الأعرج وجماعة ، وفيها معنى التعليل .
قوله عز وجل : ) فَذَكّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَاذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِن

" صفحة رقم 148 "
ُ ( سقط : رحمة ) رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ).
الطور : ( 29 ) فذكر فما أنت . . . . .
لما تقدم إقسام الله تعالى على وقوع العذاب ، وذكر أشياء من أحوال المعذبين والناجين ، أمره بالتذكير ، إنذاراً للكافر ، وتبشيراً للمؤمن ، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته ، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون ، إذا كانا طريقين إلى الإخبار ببعض المغيبات ، وكان للجن بهما ملابسة للإنس . وممن كان ينسبه إلى الكهانة شيبة بن ربيعة ، وممن كان ينسبه إلى الجنون عقبة بن أبي معيط . وقال الزمخشري : ) فَذَكّرْ ( فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبطنك قولهم كاهن أو مجنون ، ولا تبال به ، فإنه قول باطل متناقض . فإن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى على عقله ؛ وما أنت ، بحمد الله تعالى وإنعامه عليك بصدق النبوة ورصافة العقل ، أحد هذين . انتهى . وقال الحوفي : ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( متعلق بما دل عليه الكلام ، وهو اعتراض بين اسم ما وخبرها ، والتقدير : ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن . قال أبو البقاء : الباء في موضع الحال ، والعامل في بكاهن أو مجنون ، والتقدير : ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك . انتهى . وتكون حالاً لازمة لا منتقلة ، لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبساً بنعمة ربه . وقيل : ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( مقسم بها ، كأنه قيل : ونعمة ربك ما أنت كاهن ولا مجنون ، فتوسط المقسم به بين الاسم والخبر ، كما تقول : ما زيد والله بقائم .
الطور : ( 30 ) أم يقولون شاعر . . . . .
ولما نفى عنه الكهانة والجنون اللذين كان بعض الكفار ينسبونهما إليه ، ذكر نوعاً آخر مما كانوا يقولونه .
روي أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة ، وكثرت آراؤهم فيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حتى قال قائل منهم ، وهم بنو عبد الدار ، قاله الضحاك : تربصوا به ريب المنون ، فإنه شاعر سيهلك ، كما هلك زهير والنابغة والأعشى ، فافترقوا على هذه المقالة ، فنزلت الآية في ذلك . وقول من قال ذلك هو من نقص الفطرة بحيث لا يدرك الشعر ، وهو الكلام الموزون على طريقة معروفة من النثر الذي ليس هو على ذلك المضمار ، ولا شك أن بعضهم كان يدرك ذلك ، إذ كان فيهم شعراء ، ولكنهم تمالؤوا مع أولئك الناقصي الفطرة على قولهم : هو شاعر ، حجداً الآيات الله بعد استيقانها . وقرأ زيد بن علي : يتربص بالياء مبنياً للمفعول به ، ( رَيْبَ ( : مرفوع ، وريب المنون : حوادث الدهر ، فإنه لا يدوم على حال ، قال الشاعر : تربص بها ريب المنون لعلها
تطلق يوماً أو يموت حليلها
وقال الهندي : أمن المنون وريبها تتوجع
والدهر ليس بمعتب من يجزع
الطور : ( 31 ) قل تربصوا فإني . . . . .
( قُلْ تَرَبَّصُواْ ( : هو أمر تهديد من المتربصين هلاككم ، كما تتربصون هلاكي .
الطور : ( 32 ) أم تأمرهم أحلامهم . . . . .
( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ ( : عقولهم بهذا ، أي بقولهم كاهن وشاعر ومجنون ، وهو قول متناقض ، وكانت قريش تدعى أهل الأحلام والنهي . وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل ؟ فقال : تلك عقول كادها الله ، أي لم يصحبها التوفيق . ) أَمْ تَأْمُرُهُمْ ( ، قيل : أم بمعنى الهمزة ، أي أتأمرهم ؟ وقدرها مجاهد ببل ، والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة .
( أَم

" صفحة رقم 149 "
هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( : أي مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحق . وقرأ مجاهد : بل هم ، مكان : ) أَمْ هُمُ ( ، وكون الأحلام آمرة مجازاً لما أدت إلى ذلك ، جعلت آمرة كقوله : ) هَاذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا ). وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال : كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف .
الطور : ( 33 ) أم يقولون تقوله . . . . .
تقوله : اختلقه من قبل نفسه ، كما قال : ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ ). وقال ابن عطية : تقوله معناه : قال عن الغير أنه قاله ، فهو عبارة عن كذب مخصوص . انتهى . ) بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ ( : أي لكفرهم وعنادهم ،
الطور : ( 34 ) فليأتوا بحديث مثله . . . . .
ثم عجزهم بقوله تعالى : ) فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ( : أي مماثل للقرآن في نظمه ورصفه من البلاغة ، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات ، والحكم إن كانوا صادقين في أنه تقوله ، فليقولوا هم مثله ، إذ هو واحد منهم ، فإن كانوا صادقين فليكونوا مثله في التقوّل . فقرأ الجحدري وأبو السمّال : ) بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( ، على الإضافة : أي بحديث رجل مثل الرسول في كونه أمياً لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده ، أو مثله في كونه واحداً منهم ، فلا يجوز أن يكون مثله في العرب فصاحة ، فليأت بمثل ما أتى به ، ولن يقدر على ذلك أبداً .
الطور : ( 35 ) أم خلقوا من . . . . .
( أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء ( : أي من غير شيء حي كالجماد ، فهم لا يؤمرون ولا ينهون ، كما هي الجمادات عليه ، قاله الطبري . وقيل : ) مِنْ غَيْرِ شَىْء ( : أي من غير علة ولا لغاية عقاب وثواب ، فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون ، وهذا كما تقول : فعلت كذا وكذا من غير علة : أي لغير علة ، فمن للسبب ، وفي القول الأول لابتداء الغاية . وقال الزمخشري : ) أَمْ خَلَقُواْ ( : أم أحدثوا ؟ وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم ؛ ) مِنْ غَيْرِ شَىْء ( : من غير مقدر ، أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق ؟ ) بَل لاَّ يُوقِنُونَ ( : أي إذا سئلوا : من خلقكم وخلق السموات والأرض ؟ قالوا : الله ، وهم شاكون فيما يقولون لا يوقنون . أم خلقوا من غير رب ولا خالق ؟ أي أم أحدثوا وبرزوا للوجود من غير إله يبرزهم وينشئهم ؟ ) أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ( لأنفسهم ، فلا يعبدون الله ، ولا يأتمرون بأوامره ، ولا ينتهون عن مناهيه . والقسمان باطلان ، وهم يعترفون بذلك ، فدل على بطلانهم . وقال ابن عطية : ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم ، أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ؟
الطور : ( 36 ) أم خلقوا السماوات . . . . .
ثم خصص من تلك الأشياء السموات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات ، ثم حكم عليهم بأنهم لا يوقنون ولا ينظرون نظراً يؤديهم إلى اليقين .
الطور : ( 37 ) أم عندهم خزائن . . . . .
( أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ ( ، قال الزمخشري : خزائن الرزق ، حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ، أو : أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة ؟ ) أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ( : الأرباب الغالبون حتى يدبرون أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم . وقال ابن عطية : أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور ، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله تعالى . وقال الزهراوي : وقيل يريد بالخزائن : العلم ، وهذا قول حسن إذا تؤمل وبسط . وقال الرماني : خزائنه تعالى : مقدوراته . انتهى . والمسيطر ، قال ابن عباس : المسلط القاهر . وقرأ الجمهور : المصيطرون بالصاد ؛ وهشام وقنبل وحفص : بخلاف عنه بالسين ، وهو الأصل ؛ ومن أبدلها صاداً ، فلأجل حرف الاستعلاء وهو الطاء ، وأشم خلق عن حمزة ، وخلاد عنه بخلاف عنه الزاي .
الطور : ( 38 ) أم لهم سلم . . . . .
( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ ( منصوب إلى السماء ، ( يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ( : أي عليه أو منه ، إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض ، وقدره الزمخشري : صاعدين فيه ، ومفعول يستمعون محذوف تقديره : الخبر بصحة ما يدعونه ، وقدره الزمخشري : ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون . ) بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( : أي بحجة واضحة بصدق استماعهم مستمعهم ،
الطور : ( 40 ) أم تسألهم أجرا . . . . .
( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً ( على الإيمان بالله وتوحيده واتباع شرعه ، ( فَهُمُ ( من ذلك المغرم الثقيل اللام ) مُّثْقَلُونَ ( ، فاقتضى زهدهم في اتباعك .
الطور : ( 41 ) أم عندهم الغيب . . . . .
( أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ ( : أي اللوح المحفوظ ، ( فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( : أي يثبتون ذلك للناس شرع ، وذلك عبادة الأوثان وتسييب

" صفحة رقم 150 "
السوائب وغير ذلك من سيرهم . وقيل : المعنى فهم يعلمون متى يموت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) الذي يتربصون به ، ويكتبون بمعنى : يحكمون . وقال ابن عباس : يعني أم عندهم اللوح المحفوظ ، فهم يكتبون ما فيه ويخبرون .
الطور : ( 42 ) أم يريدون كيدا . . . . .
( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ( : أي بك وبشرعك ، وهو كيدهم به في دار الندوة ، ( فَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( : أي فهم ، وأبرز الظاهر تنبيهاً على العلة ، أو الذين كفروا عام فيندرجون فيه ، ( هُمُ الْمَكِيدُونَ ( : أي الذين يعود عليهم وبال كيدهم ، ويحيق بهم مكرهم ، وذلك أنهم قتلوا يوم بدر ، وسمى غلبتهم كيداً ، إذ كانت عقوبة الكيد .
الطور : ( 43 ) أم لهم إله . . . . .
( أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ ( يعصمهم ويدفع عنهم في صدور إهلاكهم ، ثم نزه تعالى نفسه ، ( عَمَّا يُشْرِكُونَ ( به من الأصنام والأوثان .
الطور : ( 44 ) وإن يروا كسفا . . . . .
( وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء ( : كانت قريش قد اقترحت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فيما اقترحت من قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ، فأخبر تعالى أنهم لو رأوا ذلك عياناً ، حسب اقتراحهم ، لبلغ بهم عتوهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه ، وقالوا : هو سحاب مركوم ، تراكم بعضه على بعض ممطرنا ، وليس بكسف ساقط للعذاب .
الطور : ( 45 ) فذرهم حتى يلاقوا . . . . .
( فَذَرْهُمْ ( : أمر موادعة منسوخ بآية السيف . وقرأ الجمهور : ) حَتَّى يُلَاقُواْ ( ؛ وأبو حيوة : حتى يلقوا ، مضارع لقي ، ( يَوْمَهُمُ ( : أي يوم موتهم واحداً واحداً ، والصعق : العذاب ، أو يوم بدر ، لأنهم عذبوا فيه ، أو يوم القيامة ، أقوال ، ثالثها قول الجمهور ، لأن صعقته تعم جميع الخلائق . وقرأ الجمهور : يصعقون ، بفتح الياء . وقرأ عاصم وابن عامر وزيد بن عليّ وأهل مكة : في قول شبل بن عبادة ، وفتحها أهل مكة ، كالجمهور في قول إسماعيل . وقرأ السلمي : بضم الياء وكسر العين ، من أصعق رباعياً .
الطور : ( 47 ) وإن للذين ظلموا . . . . .
( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( : أي لهؤلاء الظلمة ، ( عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ ( : أي دون يوم القيامة وقبله ، وهو يوم بدر والفتح ، قاله ابن عباس وغيره . وقال البراء بن عازب وابن عباس أيضاً : هو عذاب القبر . وقال الحسن وابن زيد : مصائبهم في الدنيا . وقال مجاهد : هو الجوع والقحط ، سبع سنين .
الطور : ( 48 ) واصبر لحكم ربك . . . . .
( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ( : عبارة عن الحفظ والكلاءة ، وجمع لأنه أضيف إلى ضمير الجماعة ، وحين كان الضمير مفرداً ، أفرد العين ، قال تعالى : ) وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ). وقرأ أبو السمال : بأعيننا ، بنون واحدة مشدّدة . ) وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ ( ، قال أبو الأحوص عوف بن مالك : هو التسبيح المعروف ، وهو قول سبحان الله عند كل قيام . وقال عطاء : حين تقوم من كل مجلس ، وهو قول ابن جبير ومجاهد . وقال ابن عباس : حين تقوم من منامك . وقيل : هو صلاة التطوع . وقيل : الفريضة . وقال الضحاك : حين تقوم إلى الصلاة تقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك . وقال زيد بن أسلم : حين تقوم من القائلة والتسبيح ، إذ ذاك هو صلاة الظهر . وقال ابن السائب : اذكر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة .
الطور : ( 49 ) ومن الليل فسبحه . . . . .
( وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ ( : قبل صلاة المغرب والعشاء . ) وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( : صلاة الصبح . وعن عمرو وعليّ وأبي هريرة والحسن : إنها النوافل ، ( وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( : ركعتا الفجر . وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب : وأدبار ، بفتح الهمزة ، بمعنى : وأعقاب النجوم .

" صفحة رقم 151 "
53
( سورة النجم )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالاٍّ فُقِ الاٌّ عْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى أَفَرَءَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاٍّ خْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاٍّ نثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاٌّ نفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الاٌّ خِرَةُ والاٍّ ولَى وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الاٍّ نثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الاٌّ رْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُو

" صفحة رقم 152 "
َ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاٍّ خْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاٍّ ولَى وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى هَاذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الاٍّ وْلَى أَزِفَتِ الاٌّ زِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ } )
النجم : ( 1 ) والنجم إذا هوى
المرّة : القوة من أمررت الحبل ، إذا أحكمت فتله . وقال قطرب : تقول العرب لكل جزل الرأي خصيف العقل إنه لذو مرّة ، قال : وإني لذو مرّة مرّة
إذا ركبت خالة خالها
تدلى العذق تدلياً : امتد من علو إلى جهة السفل ، فيستعمل في القرب من العلو ، قاله الفراء وابن الأعرابي . قال أسامة الهذلي : تدلى علينا وهو زرق حمامة
إذا طحلب في منتهى القيظ هامد
القاب والقيب ، والقّادة والقيد : المقدار . القوس معروف وهو : آلة لرمي السهام ، وتختلف أشكاله . السدرة : شجرة النبق . الضيزى : الجائرة من ضازه يضيزه إذا ضامه . قال الشاعر : ضازت بنو أسد بحكمهم
إذ يجعلون الرأس كالذنب
وأصلها ضوزى على وزن فعلى ، نحو : حبلى وأنثى وريا ، ففعل بها ما فعل ببيض لتسلم الياء ، ولا يوجد فعلى بكسر الفاء في الصفات ، كذا قال سيبويه . وحكى ثعلب : مشية جبكى ، ورجل كيصى . وحكى غيره : امرأة عزمى ، وامرأة سعلى ؛ والمعروف : عزماة وسعلاة . وقال الكسائي : ضاز يضيز ضيزى ، وضاز يضوز ضوزى ، وضأز يضأز ضأزاً . اللمم : ما قل وصغر ، ومنه اللمم : المس من الجنون ، وألمّ بالمكان : قل لبثه فيه ، وألمّ بالطعام : قل أكله منه . وقال المبرد : أصل اللمم أن يلم بالشيء من غير أن يركبه ، يقال : ألم بكذا ، إذا قاربه ولم يخالطه . وقال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في المقاربة والدنو ، يقال : ألم يفعل كذا ، بمعنى : كاد يفعل . قال جرير : بنفسي من تجنيه عزيز
عليّ ومن زيارته لمام
وقال آخر :

" صفحة رقم 153 "
لقاء أخلاء الصفا لمام
الأجنة : جمع جنين ، وهو الولد في البطن ، سمي بذلك لاستتاره ، والاجتنان : الاستتار . أكدى : أصله من الكدية ، يقال لمن حفر بئراً ثم وصل إلى حجر لا يتهيأ له فيها حفر : قد أكدى ، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم ، ولمن طلب شيئاً فلم يبلغ آخره . قال الحطيئة : فأعطى قليلاً ثم أكدى عطاءه
ومن يبذل المعروف في الناس يحمد
وقال الكسائي وغيره : أكدى الحافر ، إذا بلغ كدية أو جبلاً ولا يمكنه أن يحفر ، وحفر فأكدى : إذا وصل إلى الصلب ، ويقال : كديت أصابعه إذا كلت من الحفر ، وكدا البيت : قلّ ريعه . وقال أبو زيد : أكدى الرجل : قلّ خيره . أقنى ، قال الجوهري : قنى يقنى قنى ، كغنى يغنى غنى ، ويتعدّى بتغيير الحركة ، فتقول : قنيت المال : أي كسبته ، نحو شترت عين الرجل وشترها الله ، ثم تعدى بعد ذلك بالهمزة أو التضعيف ، فتقول : أقناه الله مالاً ، وقناه الله مالاً ، وقال الشاعر : كم من غني أصاب الدهر ثروته
ومن فقير تقنى بعد الإقلال
أي : تقنى المال ، ويقال : أقناه الله مالاً ، وأرضاه من القنية . قال أبو زيد : تقول العرب لمن أعطى مائة من المعز : أعطى القنى ، ومن أعطى مائة من الضأن : أعطى الغنى ، ومن أعطى مائة من الإبل : أعطى المنى . الشعرى : هو الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء ، وطلوعه في شدة الحر ، ويقال له : مرزم الجوزاء ، وهما الشعريان : العبور التي في الجوزاء ، والشعرى الغميصاء التي في الذراع ، وتزعم العرب أنهما أختا سهيل . قال الزمخشري : وتسمى كلب الجبار ، وهما شعريان : الغميصاء والعبور ، ومن كذب العرب أن سهيلاً والشعرى كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانياً ، فاتبعته الشعرى العبور ، فعبرت المجرة ، فسميت العبور ، وأقامت الغميصاء لأنها أخفى من الأخرى . أزف : قرب ، قال كعب بن زهير : بان الشباب وهذا الشيب قد أزفا
ولا أرى لشباب بائن خلفا
وقال النابغة الذبياني : أزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأن قد
ويروى : أفد الترحل . سمد : لهى ولعب ، قال الشاعر : ألا أيها الإنسان إنك سامد
كأنك لا تفنى ولا أنت هالك

" صفحة رقم 154 "
وقال آخر : قيل قم فانظر إليهم
ثم دع عنك السمودا
وقال أبو عبيدة : السمود : الغناء بلغة حمير ، يقولون : يا جارية اسمدي لنا : أي غني لنا .
( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الاْخِرَةُ والاْولَى ).
هذه السورة مكية . ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، لأنه قال : ) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ( : أي اختلق القرآن ، ونسبوه إلى الشعر وقالوا : هو كاهن ومجنون ؛ فأقسم تعالى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما ضل ، وأن ما يأتي به هو وحي من الله ، وهي أول سورة أعلن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بها في الحرم ، والمشركون يستمعون ، فيها سجد ، وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب ، فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال : يكفي هذا . وسبب نزولها قول المشركين : إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) يختلق القرآن . وأقسم تعالى بالنجم ، فقال ابن عباس ومجاهد والفراء والقاضي منذر بن سعيد : هو الجملة من القرآن إذا نزلت ، وقد نزل منجماً في عشرين سنة . وقال الحسن ومعمر بن المثنى : هو هنا اسم جنس ، والمراد النجوم إذا هوت : أي غربت ، قال الشاعر : فباتت تعد النجم في مستجره
سريع بأيدي الآكلين حمودها
أي : تعد النجوم . وقال الحسن وأبو حمزة الثمالي : النجوم إذا انتثرت في القيامة . وقال ابن عباس أيضاً : هو انقض في أثر الشياطين ، وهذا تساعده اللغة . وقال الأخفش : والنجم إذا طلع ، وهويه : سقوطه على الأرض . وقال ابن جبير الصادق : هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهويه : نزوله ليلة المعراج . وقيل : النجم معين . فقال مجاهد وسفيان : هو الثريا ، وهويها : سقوطها مع الفجر ، وهو علم عليها بالغلبة ، ولا تقول العرب النجم مطلقاً إلا للثريا ، ومنه قول العرب : طلع النجم عشاء
فابتغى الراعي كساء
طلع النجم غديه
فابتغي الراعي كسيه
وقيل : الشعرى ، وإليها الإشارة بقوله : ) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى ( ، والكهان والمنجمون يتكلمون على المغيبات عند طلوعها . وقيل : الزهرة ، وكانت تعبد . وقيل : ) وَالنَّجْمِ ( : هم الصحابة . وقيل : العلماء مفرد أريد به الجمع ،
النجم : ( 2 ) ما ضل صاحبكم . . . . .
وهو في

" صفحة رقم 155 "
اللغة خرق الهوى ومقصده السفل ، إذ مصيره إليه ، وإن لم يقصد إليه . وقال الشاعر :
هوى الدلو اسلمها الرشا
ومنه : هوى العقاب . ) صَاحِبُكُمْ ( : هو محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والخطاب لقريش : أي هو مهتد راشد ، وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي .
النجم : ( 3 ) وما ينطق عن . . . . .
( وَمَا يَنطِقُ ( : أي الرسول عليه الصلاة والسلام ، ( عَنِ الْهَوَى ( : أي عن هوى نفسه ورأيه .
النجم : ( 4 - 5 ) إن هو إلا . . . . .
( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ ( من عند الله ، ( يُوحَى ( إليه . وقيل : ) وَمَا يَنطِقُ ( : أي القرآن ، عن هوى وشهوة ، كقوله : ) هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ ). ) إِنْ هُوَ ( : أي الذي ينطق به . أو ) إِنْ هُوَ ( : أي القرآن . ) عِلْمِهِ ( : الضمير عائد على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فالمفعول الثاني محذوف ، أي علمه الوحي . أو على القرآن ، فالمفعول الأول محذوف ، أي علمه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) شَدِيدُ الْقُوَى ( : هو جبريل ، وهو مناسب للأوصاف التي بعده ، وقاله ابن عباس وقتادة والربيع . وقال الحسن : ) شَدِيدُ الْقُوَى ( : هو الله تعالى ، وهو بعيد .
النجم : ( 6 ) ذو مرة فاستوى
) ذُو مِرَّةٍ ( : ذو قوة ، ومنه لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوى . وقيل : ذو هيئة حسنة . وقيل : هو جسم طويل حسن . ولا يناسب هذان القولان إلا إذا كان شديد القوى هو جبريل عليه السلام . ) فَاسْتَوَى ( : الضمير لله في قوله الحسن ،
النجم : ( 7 ) وهو بالأفق الأعلى
وكذا ) وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ( لله تعالى ، على معنى العظمة والقدرة والسلطان . وعلى قول الجمهور : ) فَاسْتَوَى ( : أي جبريل في الجو ، ( وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ( ، إن رآه الرسول عليه الصلاة والسلام بحراء قد سد الأفق له ستمائة جناح ، وحينئذ دنا من محمد حتى كان قاب قوسين ، وكذلك هو المرئي في النزلة الأخرى بستمائة جناح عند السدرة ، قاله الربيع والزجاج . وقال الطبري : والفراء : المعنى فاستوى جبريل ؛ وقوله : ) وَهُوَ ( ، يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي هذا التأويل العطف على الضمير المرفوع من غير فصل ، وهو مذهب الكوفيين . وقد يقال : الضمير في استوى للرسول ، وهو لجبريل ، والأعلى لعمه الرأس وما جرى معه . وقال الحسن وقتادة : هو أفق مشرق الشمس .
وقال الزمخشري : ) فَاسْتَوَى ( : فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي ، وكان ينزل في صورة دحية ، وذلك أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها ، فاستوى له بالأفق الأعلى ، وهو أفق الشمس ، فملأ الأفق . وقيل : ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، مرة في الأرض ، ومرة في السماء .
النجم : ( 8 - 9 ) ثم دنا فتدلى
) ثُمَّ دَنَا ( من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ( فَتَدَلَّى ( : فتعلق عليه في الهوى . وكان مقدار مسافة قربه منه مثل ) قَابَ قَوْسَيْنِ ( ، فحذفت هذه المضافات ، كما قال أبو علي في قوله :
وقد جعلتني من خزيمة أصبعا
أي : ذا مسافة مقدار أصبع ، ( أَوْ أَدْنَى ( على تقديركم ، كقوله : ) أَوْ يَزِيدُونَ ).
النجم : ( 10 ) فأوحى إلى عبده . . . . .
( إِلَى عَبْدِهِ ( : أي إلى عبد الله ، وإن لم يجر لاسمه عز وجل ذكر ، لأنه لا يلبس ، كقوله : ) مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا ). ) مَا أَوْحَى ( : تفخيم للوحي الذي أوحي إليه قبل

" صفحة رقم 156 "
انتهى . وقال ابن عطية : ) ثُمَّ دَنَا ( ، قال الجمهور : أي جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام عند حراء . وقال ابن عباس وأنس في حديث الإسراء : ما يقتضي أن الدنو يستند إلى الله تعالى . وقيل : كان الدنو إلى جبريل . وقيل : إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي دنا وحيه وسلطانه وقدرته ، والصحيح أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل بدليل قوله : ) وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( ، فإنه يقتضي نزلة متقدمة . وما روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) رأى ربه قبل ليلة الإسراء . ودنا أعم من تدلى ، فبين هيئة الدنو كيف كانت قاب قدر ، قال قتادة وغيره : معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر . وقال الحسن ومجاهد : من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض . وقال أبو رزين : ليست بهذه القوس ، ولكن قدر الذراعين . وعن ابن عباس : أن القوس هنا ذراع تقاس به الأطوال . وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز .
( فَأَوْحَى ( : أي الله ، ( إِلَى عَبْدِهِ ( : أي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قاله ابن عباس . وقيل : ) إِلَى عَبْدِهِ ( جبريل ، ( مَا أَوْحَى ( : إبهام على جهة التعظيم والتفخيم ، والذي عرف من ذلك فرض الصلوات . وقال الحسن : فأوحى جبريل إلى عبد الله ، محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ما أوحى ، كالأول في الإبهام . وقال ابن زيد : فأوحى جبريل إلى عبد الله ، محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ما أوحاه الله تعالى إلى جبريل عليه السلام . وقال الزمخشري : ) مَا أَوْحَى ( : أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك .
النجم : ( 11 ) ما كذب الفؤاد . . . . .
( مَا كَذَبَ ( فؤاد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما رآه ببصره من صورة جبريل : أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ، يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ، ولم يشك في أن ما رآه حق . انتهى . وقرأ الجمهور : ما كذب مخففاً ، على معنى : لم يكذب قلب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) الشيء الذي رآه ، بل صدقه وتحققه نظراً ، وكذب يتعدى . وقال ابن عباس وأبو صالح : رأى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) الله تعالى بفؤاده . وقيل : ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه ، بل صدقه وتحققه ، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى .
وعن ابن عباس وعكرمة وكعب الأحبار : أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) رأى ربه بعيني رأسه ، وأبت ذلك عائشة رضي الله تعالى عنها ، وقالت : أنا سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن هذه الآيات ، فقال لي : ( هو جبريل عليه السلام فيها كلها ) . وقال الحسن : المعنى ما رأى من مقدورات الله تعالى وملكوته . وسأل أبو ذر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : هل رأيت ربك ؟ فقال : ( نورانى أراه ) . وحديث عائشة قاطع لكل تأويل في اللفظ ، لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن ، وليست نصاً في الرؤية بالبصر ، بلا ولا بغيره . وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن الياس وهشام عن ابن عامر : ما كذب مشدداً . وقال كعب الأحبار : إن الله قسم الرؤية والكلام بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) مرتين . وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : لقد وقف شعري من سماع هذا ، وقرأت : ) لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ ( ، وذهبت هي وابن مسعود وقتادة والجمهور إلى أن المرئي مرتين هو جبريل ، مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى .
النجم : ( 12 ) أفتمارونه على ما . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أَفَتُمَارُونَهُ ( : أي أتجادلونه على شيء رآه ببصره وأبصره ، وعدى بعلى لما في الجدال من المغالبة ، وجاء يرى بصيغة المضارع ، وإن كانت الرؤية قد مضت ، إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد . وقرأ علي وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي : بفتح التاء وسكون الميم ، مضارع مريت : أي جحدت ، يقال : مريته حقه ، إذا جحدته ، قال الشاعر :

" صفحة رقم 157 "
لثن سخرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخاً ما كان يمريكا
وعدى بعلى على معنى التضمين . وكانت قريش حين أخبرهم ( صلى الله عليه وسلم ) ) بأمره في الإسراء ، كذبوا واستخفوا ، حتى وصف لهم بيت المقدس وأمر غيرهم ، وغير ذلك مما هو مستقصى في حديث الإسراء . وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه ، والشعبي فيما ذكر شعبة : بضم التاء وسكون الميم ، مضارع أمريت . قال أبو حاتم : وهو غلط .
النجم : ( 13 ) ولقد رآه نزلة . . . . .
( وَلَقَدْ رَءاهُ ( : الضمير المنصوب عائد على جبريل عليه السلام ، قال ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع . ) نَزْلَةً أُخْرَى ( : أي مرة أخرى ، أي نزل عليه جبريل عليه السلام مرة أخرى في في صورة نفسه ، فرآه عليها ، وذلك ليلة المعراج . وأخرى تقتضي نزلة سابقة ، وهي المفهومة من قوله : ) ثُمَّ دَنَا ( جبريل ، ( فَتَدَلَّى ( : وهو الهبوط والنزول من علو . وقال ابن عباس وكعب الأحبار : الضمير عائد على الله ، على ما سبق من قولهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) رأى ربه مرتين . وانتصب نزلة ، قال الزمخشري : نصب الظرف الذي هو مرة ، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل . وقال الحوفي وابن عطية : مصدر في موضع الحال . وقال أبو البقاء : مصدر ، أي مرة أخرى ، أو رؤية أخرى .
النجم : ( 14 ) عند سدرة المنتهى
) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى ( ، قيل : هي شجرة نبق في السماء السابعة . وقيل : في السماء السادسة ، ثمرها كقلال هجر ، وورقها كآذان الفيلة . تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله تعالى في كتابه ، يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها . والمنتهى موضع الانتهاء ، لأنه ينتهي إليها علم كل عالم ، ولا يعلم ما وراءها صعداً إلا الله تعالى عز وجل ؛ أو ينتهي إليها كل من مات على الإيمان من كل جيل ؛ أو ينتهي إليها ما نزل من أمر الله تعالى ، ولا تتجاوزها ملائكة العلو وما صعد من الأرض ، ولا تتجاوزها ملائكة السفل ؛ أو تنتهي إليها أرواح الشهداء ؛ أو كأنها في منتهى الجنة وآخرها ؛ أو تنتهي إليها الملائكة والأنبياء ويقفون عندها ؛ أو ينتهي إليها علم الأنبياء ويغرب علمهم عن ما وراءها ؛ أو تنتهي إليها الأعمال ؛ أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة ، أقوال تسعة .
النجم : ( 15 ) عندها جنة المأوى
) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ( : أي عند السدرة ، قيل : ويحتمل عند النزلة . قال الحسن : هي الجنة التي وعدها الله المؤمنين . وقال ابن عباس : بخلاف عنه ؛ وقتادة : هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء ، وليست بالتي وعد المتقون جنة النعيم . وقيل : جنة : مأوى الملائكة . وقرأ علي وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحمد بن كعب وقتادة : جنه ، بهاء الضمير ، وجن فعل ماض ، والهاء ضمير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي عندها ستره إيواء الله تعالى وجميل صنعه . وقيل : المعنى ضمه المبيت والليل . وقيل : جنه بظلاله ودخل فيه . وردّت عائشة وصحابة معها هذه القراءة وقالوا : أجن الله من قرأها ؛ وإذا كانت قراءة قرأها أكابر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فليس لأحد ردّها . وقيل : إن عائشة رضي الله تعالى عنها أجازتها . وقراءة الجمهور : ) جَنَّةُ الْمَأْوَى ( ، كقوله في آية أخرى : ) فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً ).
النجم : ( 16 ) إذ يغشى السدرة . . . . .
( إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( : فيه بإبهام الموصول وصلته تعظيم وتكثير للغاشي الذي يغشاه ، إذ ذاك أشياء لا يعلم وصفها إلا الله تعالى . وقيل : يغشاها الجم الغفير من الملائكة ، يعبدون الله عندها . وقيل : ما يغشى من قدرة الله تعالى ، وأنواع الصفات التي يخترعها لها . وقال ابن مسعود وأنس ومسروق ومجاهد وإبراهيم : ذلك جراد من ذهب كان يغشاها . وقال مجاهد : ذلك تبدل أغصانها درّاً وياقوتاً . وروي في الحديث : ( رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله تعالى ) . وأيضاً : يغشاها رفرف أخضر ، وأيضاً : تغشاها ألوان لا أدري ما هي . وعن أبي هريرة : يغشاها نور الخلاق . وعن الحسن : غشيها نور رب العزة

" صفحة رقم 158 "
فاستنارت . وعن ابن عباس : غشيها رب العزة ، أي أمره ، كما جاء في صحيح مسلم مرفوعاً ، فلما غشيها من أمر الله ما غشي ، ونظير هذا الإبهام للتعظيم : ) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( ، ( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ).
النجم : ( 17 ) ما زاغ البصر . . . . .
( مَا زَاغَ الْبَصَرُ ( ، قال ابن عباس : ما مال هكذا ولا هكذا . وقال الزمخشري : أي أثبت ما رآه إثباتاً مستيقناً صحيحاً من غير أن يزيغ بصره أو يتجاوزه ، إذ ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها ، ( وَمَا طَغَى ( : وما جاوز ما أمر برؤيته . انتهى . وقال غيره : ) وَمَا طَغَى ( : ولا تجاوز المرئي إلى غيره ، بل وقع عليه وقوعاً صحيحاً ، وهذا تحقيق للأمر ، ونفي للريب عنه .
النجم : ( 18 ) لقد رأى من . . . . .
( لَقَدْ رَأَى مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى ( ، قيل : الكبرى مفعول رأى ، أي رأى الآيات الكبرى والعظمى التي هي بعض آيات ربه ، أي حين رقي إلى السماء رأى عجائب الملكوت ، وتلك بعض آيات الله . وقيل : ) مِنْ آيَاتِ ( هو في موضع المفعول ، والكبرى صفة لآياته ربه ، ومثل هذا الجمع يوصف بوصف الواحدة ، وحسن ذلك هنا كونها فاصلة ، كما في قوله : ) لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى ( ، عند من جعلها صفة لآياتنا . وقال ابن عباس وابن مسعود : أي رفرف أخضر قد سد الأفق . وقال ابن زيد : رأي جبريل في الصورة التي هو بها في السماء .
النجم : ( 19 ) أفرأيتم اللات والعزى
) أَفَرَءيْتُمُ ( : خطاب لقريش . ولما قرر الرسالة أولاً ، وأتبعه من ذكر عظمة الله وقدرته الباهرة بذكر التوحيد والمنع عن الإشراك بالله تعالى ، وقفهم على حقارة معبوداتهم ، وهي الأوثان ، وأنها ليست لها قدرة . واللات : صنم كانت العرب تعظمه . قال قتادة : كان بالطائف . وقال أبو عبيدة وغيره : كان في الكعبة . وقال ابن زيد : كان بنخلة عند سوق عكاظ . قال ابن عطية : وقول قتادة أرجح ، ويؤيده قوله الشاعر : وفرت ثقيف إلى لاتها
بمنقلب الخائب الخاسر
انتهى .
ويمكن الجمع بأن تكون أصناماً سميت باسم اللات فأخبر كل عن صنم بمكانه . والتاء في اللات قيل أصلية ، لام الكلمة كالباء من باب ، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء ، لأن مادة ليت موجودة . فإن وجدت مادة من ل و ت ، جاز أن تكون منقلبة من واو . وقيل : التاء للتأنيث ، ووزنها فعلة من لوى ، قيل : لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة ، أو يلتوون عليها : أي يطوفون ، حذفت لامها . وقرأ الجمهور : اللات خفيفة التاء ؛ وابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية : بشدها . قال ابن عباس : كان هذا رجلاً بسوق عكاظ ، يلت السمن والسويق عند صخرة . وقيل : كان ذلك الرجل من بهز ، يلت السويق للحجاج على حجر ، فلما مات ، عبدوا الحجر الذي كان عنده ، إجلالاً لذلك الرجل ، وسموه باسمه . وقيل : سمي برجل كان يلت عنده السمن بالدب ويطمعه الحجاج . وعن مجاهد : كان رجل يلت السويق بالطائف ، وكانوا يعكفون على قبره ، فجعلوه وثناً . وفي التحرير : أنه كان صنماً تعظمه العرب . وقيل : حجر ذلك اللات ، وسموه باسمه . وعن ابن جبير : صخرة بيضاء كانت العرب تعبدها وتعظمها . وعن مجاهد : شجيرات تعبد ببلادها ، انتقل أمرها إلى الصخرة . انتهى ملخصاً . وتلخص في اللات ، أهو صنم ، أو حجر يلت عليه ، أو صخرة يلت عندها ، أو قبر اللات ، أو شجيرات ثم صخرة ، أو اللات نفسه ، أقوال ، والعزى صنم . وقيل : سموه لغطفان ، وأصلها تأنيث الأعز ، بعث إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خالد بن الوليد فقطعها ، وخرجت منها شيطانة ، ناشرة شعرها ، داعية ويلها ، واضعة يدها على رأسها ؛ فجعل يضر بها بالسيف حتى قتلها ، وهو يقول : يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك

" صفحة رقم 159 "
ورجع فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( تلك العزى ولن تعبد أبدأ ) . وقال أبو عبيدة : كانت العزى ومناة بالكعبة . انتهى . ويدل على هذا قول أبي سفيان في بعض الحروب للمسلمين : لنا عزى ، ولا عزى لكم . وقال ابن زيد : كانت العزى بالطائف . وقال قتادة : كانت بنخلة ، ويمكن الجمع ، فإنه كان في كل مكان منها صنم يسمى بالعزى ، كما قلنا في اللات ، فأخبر كل واحد عن ذلك الصنم المسمى ومكانه .
النجم : ( 20 - 21 ) ومناة الثالثة الأخرى
) وَمَنَواةَ ( : قيل : صخرة كانت لهذيل وخزاعة ، وعن ابن عباس : لثقيف . وقيل : بالمشكك من قديد بين مكة والمدينة ، وكانت أعظم هذه الأوثان قدراً وأكثرها عدداً ، وكانت الأوس والخزرج تهل لها هذا اضطراب كثير في الأوثان ومواضعها ، والذي يظهر أنها كانت ثلاثتها في الكعبة ، لأن المخاطب بذلك في قوله : ) أَفَرَءيْتُمُ ( هم قريش . وقرأ الجمهور : ومناة مقصوراً ، فقيل : وزنها فعلة ، سميت مناة لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها : أي تراق . وقرأ ابن كثير : ومناءة ، بالمد والهمز . قيل : ووزنها مفعلة ، فالألف منقلبة عن واو ، نحو : مقالة ، والهمزة أصل مشتقة من النوء ، كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها ، والقصر أشهر . قال جرير : أزيد مناة توعد بأس تيم
تأمل أين تاه بك الوعيد
وقال آخر في المد والهمز : ألا هل أتى تيم بن عبد مناءة
على النأي فيما بيننا ابن تميم
واللات والعزى ومناة منصوبة بقوله : ) أَفَرَءيْتُمُ ( ، وهي بمعنى أخبرني ، والمفعول الثاني الذي لها هو قوله : ) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( على حد ما تقرر في متعلق أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني ، ولم يعد ضمير من جملة الاستفهام على اللات والعزى ومناة ، لأن قوله : ) وَلَهُ الاْنثَى ( هو في معنى : وله هذه الإناث ، فأغنى عن الضمير . وكانوا يقولون في هذه الأصنام : هي بنات الله ، فالمعنى : ألكم النوع المحبوب المستحسن الموجود فيكم ، وله النوع المذموم بزعمكم ؟ وهو المستثقل . وحسن إبراز الأنثى كونه نصاً في اعتقادهم أنهن إناث ، وأنهن بنات الله تعالى ، وإن كان في لحاق تاء التأنيث في اللات وفي مناة ، وألف التأنيث في العزى ، ما يشعر بالتأنيث ، لكنه قد سمى المذكر بالمؤنث ، فكان في قوله : ) الاْنثَى ( نص على اعتقاد التأنيث فيها . وحسن ذلك أيضاً كونه جاء فاصلة ، إذ لو أتى ضميراً ، فكان التركيب ألكم الذكر وله هن ، لم تقع فاصلة . وقال الزجاج : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها ، فيقول : أخبروني عن آلهتكم ، هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السالفة ؟ انتهى . فجعل المفعول الثاني لأفرأيتم جملة الاستفهام التي قدرها ، وحذفت لدلالة الكلام السابق عليها ، وعلى تقديره يبقى قوله : ) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( متعلقاً بما قبله من جهة المعنى ، لا من جهة المعنى الإعراب ، كما قلناه نحن . ولا يعجبني قول الزجاج : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها ، ولو قال : وجه اتصال هذه ، أو وجه انتظام هذه مع ما قبلها ، لكان الجيد في الأدب ، وإن كان يعني هذا المعنى .
وقال ابن عطية : ) أَفَرَءيْتُمُ ( خطاب لقريش ، وهي من رؤية العين ، لأنه أحال على أجرام مرئية ، ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء لم تتعد . انتهى . ويعني بالأجرام : اللات والعزى ومناة ، وأرأيت التي هي استفتاء تقع على الأجرام

" صفحة رقم 160 "
نحو : أرأيت زيداً ما صنع ؟ وقوله : ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء ، يعني الذي تقول النحاة فيه إنها بمعنى أخبرني ، لم تتعد ؛ والتي هي بمعنى الاستفتاء تتعدى إلى اثنين ، أحدهما منصوب ، والآخر في الغالب جملة استفهامية . وقد تكرر لنا الكلام في ذلك ، وأوله في سورة الأنعام . ودل كلام ابن عطية على أنه لم يطالع ما قاله الناس في أرأيت إذا كانت استفتاء على اصطلاحه ، وهي التي بمعنى أخبرني . والظاهر أن ) الثَّالِثَةَ الاْخْرَى ( صفتان لمناة ، وهما يفيدان التوكيد . قيل : ولما كانت مناة هي أعظم هذه الأوثان ، أكدت بهذين الوصفين ، كما تقول : رأيت فلاناً وفلاناً ، ثم تذكر ثالثاً أجل منهما فتقول : وفلاناً الآخر الذي من شأنه . ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات ، وذلك نص في الآية ، ومنه قول ربيعة بن مكرم :
ولقد شفعتهما بآخر ثالث
انتهى .
وقول ربيعة مخالف للآية ، لأن ثالثاً جاء بعد آخر . وعلى قول هذا القائل أن مناة هي أعظم هذه الأوثان ، يكون التأكيد لأجل عظمها . ألا ترى إلى قوله : ثم تذكر ثالثاً أجل منهما وقال الزمخشري : والأخرى ذم ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله تعالى : ) قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاْولَاهُمْ ( : أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم . ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى . انتهى . ولفظ آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعا للذم ولا للمدح ، إنما يدلان على معنى غير ، إلا أن من شرطهما أن يكونا من جنس ما قبلهما . لو قلت : مررت برجل وآخر ، لم يدل إلا على معنى غير ، لا على ذم ولا على مدح . وقال أبو البقاء : والأخرى توكيد ، لأن الثالثة لا تكون إلا أخرى . انتهى . وقيل : الأخرى صفة للعزى ، لأنها ثانية اللات ؛ والثانية يقال لها الأخرى ، وأخرت لموافقة رؤوس الآي . وقال الحسن بن الفضل : فيه تقديم وتأخير تقديره : والعزى الأخرى ، ومناة الثالثة الذليلة ، وذلك لأن الأولى كانت وثناً على صورة آدمي ، والعزى صورة نبات ، ومناة صورة صخرة . فالآدمي أشرف من النبات ، والنبات أشرف من الجماد . فالجماد متأخر ، ومناة جماد ، فهي في أخريات المراتب .
النجم : ( 22 ) تلك إذا قسمة . . . . .
والإشارة بتلك إلى قسمتهم ، وتقديرهم : أن لهم الذكران ، ولله تعالى البنات . وكانو يقولون : إن هذه الأصنام والملائكة بنات الله تعالى .
قال ابن عباس وقتادة : ضيزى : جائرة ؛ وسفيان : منقوصة ؛ وابن زيد : مخالفة ؛ ومجاهد ومقاتل : عوجاء ؛ والحسن : غير معتدلة ؛ وابن سيرين : غير مستوية ، وكلها أقوال متقاربة في المعنى . وقرأ الجمهور : ) ضِيزَى ( من غير همز ، والظاهر أنه صفة على وزن فعلى بضم الفاء ، كسرت لتصح الياء . ويجوز أن تكون مصدراً على وزن فعلى ، كذكرى ، ووصف به . وقرأ ابن كثير : ضئزى بالهمز ، فوجه على أنه مصدر كذكرى . وقرأ زيد بن علي : ضيزى بفتح الضاد وسكون الياء ، ويوجه على أنه مصدر ، كدعوى وصف به ، أو وصف ، كسكرى وناقة خرمى . ويقال : ضوزى بالواو وبالهمز ، وتقدّم في المفردات حكاية لغة الهمز عن الكسائي . وأنشد الأخفش : فإن تنأ عنها تقتضيك وإن تغب
فسهمك مضؤوز وأنفك راغم
النجم : ( 23 ) إن هي إلا . . . . .
( إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ( : تقدّم تفسير نظيرها في سورة هود ، وفي سورة الأعراف . وقرأ الجمهور : ) إِن يَتَّبِعُونَ ( بياء الغيبة ؛ وعبد الله وابن عباس وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر : بتاء الخطاب ، ( إِلاَّ الظَّنَّ ( : وهو ميل النفس إلى أحد معتقدين من غير حجة ، ( وَمَا تَهْوَى ( : أي تميل إليه بلذة ، وإنما تهوى أبداً ما هو غير الأفضل ، لأنها مجبولة على حب الملاذ ، وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة العقل . ) وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى ( :

" صفحة رقم 161 "
توبيخ لهم ، والذي هم عليه باطل واعتراض بين الجملتين ، أي يفعلون هذه القبائح ؛ والهدى قد جاءهم ، فكانوا أولى من يقبله ويترك عبادة من لا يجدي عبادته .
النجم : ( 24 ) أم للإنسان ما . . . . .
( أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى ( : هو متصل بقوله : ) وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ ( ، بل للإنسان ، والمراد به الجنس ، ( مَا تَمَنَّى ( : أي ما تعلقت به أمانيه ، أي ليست الأشياء والشهوات تحصل بالأماني ، بل لله الأمر . وقولكم : إن آلهتكم تشفع وتقرب زلفى ، ليس لكم ذلك . وقيل : أمنيتهم قولهم : ) وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ). وقيل : قول الوليد بن المغيرة : ) لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ). وقيل : تمنى بعضهم أن يكون النبي .
النجم : ( 25 ) فلله الآخرة والأولى
) فَلِلَّهِ الاْخِرَةُ والاْولَى ( : أي هو مالكهما ، فيعطي منهما ما يشاء ، ويمنع من يشاء ، وليس لأحد أن يبلغ منهما إلا ما شاء الله . وقدّم الآخرة على الأولى ، لتأخرها في ذلك ، ولكونها فاصلة ، فلم يراع الترتيب الوجودي ، كقوله : ) وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَالاْولَى ).
) وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الاْنثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَإِذْ ).
النجم : ( 26 ) وكم من ملك . . . . .
( وَكَمْ ( : هي خبرية ، ومعناها هنا : التكثير ، وهي في موضع رفع بالابتداء ، والخبر ) لاَ تُغْنِى ( ؛ والغنى : جلب النفع ودفع الضر ، بحسب الأمر الذي يكون فيه الغنى . وكم لفظها مفرد ، ومعناها جمع . وقرأ الجمهور : ) شَفَاعَتُهُمْ ( ، بإفراد الشفاعة وجمع الضمير ؛ وزيد بن علي : شفاعته ، بإفراد الشفاعة والضمير ؛ وابن مقسم : شفاعاتهم ، بجمعهما ، وهو اختيار صاحب الكامل ، أي القاسم الهذلي . وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور لأنها مصدر ، ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد ، لم تغن شفاعتهم عنه شيئاً . فإذا كانت الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله ورضاه ، أي يرضاه أهلاً للشفاعة ، فكيف تشفع الأصنام لمن يعبدها ؟
النجم : ( 27 ) إن الذين لا . . . . .
ومعنى تسمية الاْنثَى : كونهم يقولون إنهم بنات الله ، ( وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ ( : هم العرب منكر والبعث .
النجم : ( 28 ) وما لهم به . . . . .
( وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئاً ( : أي ما يدركه العلم لا ينفع فيه الظن ، وإنما يدرك بالعلم واليقين . قيل : ويحتمل أن يكون المراد بالحق هنا هو الله تعالى ، أي الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون ، ويدل عليه ذلك بأن الله هو الحق .
النجم : ( 29 ) فأعرض عن من . . . . .
( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ( ، موادعة منسوخة بآية السيف . ) وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ( : أي لم تتعلق إرادته بغيرها ، فليس له فكر في سواها ، كالنضر بن الحارث والوليد بن المغيرة . والذكر هنا : القرآن ، أو الإيمان ، أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أقوال . ) عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ( : هو سبب الأعراض ، لأن من لا يصغي إلى قول ، كيف يفهم معناه ؟ فأمر ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالإعراض عن من هذه حاله ، ثم ذكر سبب التولي عن الذكر ، وهو حصر إرادته في الحياة الدنيا . فالتولي عن الذكر سبب للإعراض عنهم ، وإيثار الدنيا سبب التولي عن الذكر ،
النجم : ( 30 ) ذلك مبلغهم من . . . . .
وذلك إشارة إلى تعلقهم بالدنيا وتحصيلها . ) مَبْلَغُهُمْ ( : غايتهم ومنتهاهم من العلم ، وهو ما تعلقت به علومهم من مكاسب الدنيا ، كالفلاحة والصنائع ، لقوله تعالى : ) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ). ولما ذكر ما هم عليه ، أخبر تعالى بأنه عالم بالضال والمهتدي ، وهو مجازيهما . وقال الزمخشري : وقوله : ) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ ( : اعتراض . انتهى ، وكأنه يقول : هو اعتراض بين ) فَأَعْرَضَ ( وبين ) إِنَّ رَبَّكَ ( ، ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض . وقيل : ذلك إشارة إلى جعلهم الملائكة بنات الله . وقال الفراء : صغر رأيهم وسفه أحلامهم ، أي غاية عقولهم ونهاية علومهم أن آثروا الدنيا على الآخرة . وقيل : ذلك إشارة إلى الظن ، أي غاية ما يفعلون أن يأخذوا بالظن . وقوله : ) إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ( في معرض التسلية ،

" صفحة رقم 162 "
إذ كان من خلقه عليه الصلاة والسلام الحرص على إيمانهم ، وفي ذلك وعيد للكفار ، ووعد للمؤمنين .
النجم : ( 31 ) ولله ما في . . . . .
( وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( : أخبر أن من في العالم العلوي والعالم السفلي ملكه تعالى ، يتصرف فيهما بما شاء . واللام في ) لِيَجْزِىَ ( متعلقة بما دل عليه معنى الملك ، أي يضل ويهدي ليجزي . وقيل : بقوله : ) بِمَن ضَلَّ ( ، و ) بِمَنِ اهْتَدَى ( ، واللام للصيرورة ، والمعنى : إن عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما علموا ، أي بعقاب ما علموا ، والحسنى : الجنة . وقيل : التقدير بالأعمال الحسنى ، وحين ذكر جزاء المسيء قال : بما علموا ، وحين ذكر جزاء المحسن أتى بالصفة التي تقتضي التفضل ، وتدل على الكرم والزيادة للمحسن ، كقوله تعالى : ) وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ، والأحسن تأنيث الحسنى . وقرأ زيد بن علي : لنجزي ونحزي بالنون فيهما .
النجم : ( 32 ) الذين يجتنبون كبائر . . . . .
وتقدّم الكلام في الكبائر في قوله تعالى : ) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( في سورة النساء . والذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر ، والفواحش معطوف على كبائر ، وهي ما فحش من الكبائر ، أفردها بالذكر لتدل على عظم مرتكبها . وقال الزمخشري : والكبائر : الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . ) إِلاَّ اللَّمَمَ ( : استثناء منقطع ، لأنه لم يدخل تحت ما قبله ، وهو صغار الذنوب ، أو صفة إلى كبائر الإثم غير اللمم ، كقوله : ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ ( ، أي غير الله ) لَفَسَدَتَا ). وقيل : يصح أن يكون استثناء متصلاً ، وهذا يظهر عند تفسير اللمم ما هو ، وقد اختلفوا فيه اختلافاً ، فقال الخدري : هو النظرة والغمزة والقبلة . وقال السدي : الخطرة من الذنب . وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي والكلبي : كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حداً ولا عذاباً . وقال ابن عباس أيضاً وابن زيد : ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام .
وعن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه : أن سبب الآية قول الكفار للمسلمين : قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا ، فنزلت ، وهي مثل قوله : ) وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ). وقيل : نزلت في نبهان التمار ، وحديثه مشهور . وقال ابن عباس وغيره : العلقة والسقطة دون دوام ، ثم يتوب منه . وقال الحسن : والزنا والسرقة والخمر ، ثم لا يعود . وقال ابن المسيب : ما خطر على القلب . وقال نفطويه : ما ليس بمعتاد . وقال الرماني : الهم بالذنب ، وحديث النفس دون أن يواقع . وقيل : نظرة الفجأة . ) إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ( ، حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر . وقال الزمخشري : والكبائر بالتوبة . انتهى ، وفيه نزغة الاعتزال .
( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ( : قيل نزلت في قوم من اليهود عظموا أنفسهم ، وإذا مات طفل لهم قالوا : هذا صديق عند الله . وقيل : في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم ، والظاهر أنه خطاب عام ، وأعلم على بابها من التفضيل . وقال مكي : بمعنى عالم بكم ، ولا ضرورة إلى إخراجها عن أصل موضوعها . كان مكياً راعى عمل أعلم في الظرف الذي هو : ) إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ ( ، والظاهر أن المراد بأنشأكم : أنشأ أصلكم ، وهو آدم . ويجوز أن يراد من فضلة الأغذية التي منشؤها من الأرض ، ( فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( : أي لا تنسبوها إلى زكاء الأعمال والطهارة عن المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها ، فقد علم الله منكم الزكي والتقي قبل إخراجكم من صلب آدم ، وقبل إخراجكم من بطون أمهاتكم .
وكثيراً ما ترى من المتصلحين ، إذا حدثوا ، كان وردنا البارحة كذا ، وفاتنا من وردنا البارحة ، أو فاتنا وردنا ، يوهمون الناس أنهم يقومون بالليل . وترى لبعضه في جبينه سواداً يوهم أنه من كثرة السجود ، ولبعضهم احتضار النية حالة الإحرام ، فيحرك يديه مراراً ، ويصعق حتى ينزعج من بجانبه ، وكأنه يخطف شيئاً بيديه وقت التحريكة الأخيرة ، يوهم أنه يحافظ على تحقيق النية . وبعضهم يقول في

" صفحة رقم 163 "
حلفه : وحق البيت الذي زرت ، يعلم أنه حاج ، وإذا لاح له فلس يثب عليه وثوب الأسد على الفريسة ، ولا يلحقه شيء من الواسوس ، ولا من إحضار النية في أخذه ، وتراه يحب الثناء عليه بالأوصاف الجميلة التي هو عارضها . وقيل : المعنى لا يزكي بعضكم بعضاً تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو تزكية بالقطع . وأما التزكية لإثبات الحقوق فجائزة للضرورة .
والجنين : ما كان في البطن ، فإذا خرج سمي ولداً أو سقطاً . وقوله : ) فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ( تنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطن الأم في غاية الظلمة ، ومن علم حاله وهو مجنّ ، لا يخفى عليه حاله وهو ظاهر . ) بِمَنِ اتَّقَى ( : قيل الشرك . وقال علي : عمل حسنة وارعوى عن معصية .
قوله عز وجل : ) أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفِي الاْخِرَةِ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الاوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاْخْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاْولَى وَثَمُودَاْ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَى هَاذَا نَذِيرٌ مّنَ النُّذُرِ الاْوْلَى أَزِفَتِ الاْزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ ).
النجم : ( 33 ) أفرأيت الذي تولى
) أَفَرَأَيْتَ ( الآية ، قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان قد سمع قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وجلس إليه ووعظه ، فقرب من الإسلام ، وطمع فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ثم إنه عاتبة رجل من المشركين ، فقال له : أتترك ملة آبائك ؟ ارجع إلى دينك واثبت عليه ، وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة ، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال . فوافقه الوليد على ذلك ، ورجع عن ما هم به من الإسلام ، وضل ضلالاً بعيداً ، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل ، ثم أمسك عنه وشح . وقال الضحاك : هو النضر بن الحرث ، أعطى خمس فلايس لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه ، وضمن له أن يحمل عنه مآثم رجوعه . وقال السدي : نزلت في العاصي بن وائل السهمي ، كان ربما يوافق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في بعض الأمور . وقال محمد بن كعب : في أبي جهل بن هشام ، قال : والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق . وروي عن ابن عباس والسدي أنها نزلت في عثمان بن عفان ، رضي الله تعالى عنه ؛ كان يتصدق ، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح نحواً من كلام القائل للوليد بن المغيرة الذي بدأنا به . وذكر القصة بتمامها الزمخشري ، ولم يذكر في سبب النزول غيرها . قال ابن عطية : وذلك كله عندي باطل ، وعثمان رضي الله عنه منزه عن مثله . انتهى .
وأفرأيت هنا بمعنى : أخبرني ، ومفعولها الأول الموصول ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي : ) عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ ). و ) تَوَلَّى ( : أي أعرض عن الإسلام . وقال الزمخشري : ) تَوَلَّى ( : ترك المركز يوم أحد . انتهى . لما جعل الآية نزلت في عثمان ، فسر التولي بهذا . وإذا ذكر التولي غير مقيد في القرآن ، فأكثر استعماله أنه استعارة عن عدم الدخول في الإيمان .
النجم : ( 34 ) وأعطى قليلا وأكدى
) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى ( ، قال ابن عباس : أطاع قليلاً ثم عصى . وقال مجاهد : أعطى قليلاً من نفسه

" صفحة رقم 164 "
بالاستماع ، ثم أكدى بالانقطاع . وقال الضحاك : أعطى قليلاً من ماله ثم منع . وقال مقاتل : أعطى قليلاً من الخير بلسانه ثم قطع .
النجم : ( 35 ) أعنده علم الغيب . . . . .
( أعنده عِلْمُ الْغَيْبِ ( : أي أعلم من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر ، فإنه المتحمل عنه ينتفع بذلك ، فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيره ، أم هو جاهل ؟ وقال الزمخشري : ) فَهُوَ يَرَى ( : فهو يعلم أن ما قاله أخوه من احتمال أوزاره حق . وقيل : يعلم حاله في الآخرة . وقال الزجاج : يرى رفع مأثمه في الآخرة . وقيل : فهو يرى أن ما سمعه من القرآن باطل . وقال الكلبي : أنزل عليه قرآن ، فرأى ما منعه حق . وقيل : ) فَهُوَ يَرَى ( : أي الأجزاء ، واحتمل يرى أن تكون بصرية ، أي فهو يبصر ما خفي عن غيره مما هو غيب ، واحتمل أن يكون بمعنى يعلم ، أي فهو يعلم الغيب مثل الشهادة .
النجم : ( 36 - 38 ) أم لم ينبأ . . . . .
( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ ( : أي بل ألم يخبر ؟ ) بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى ( ، وهي التوراة . ) وَإِبْراهِيمَ ( : أي وفي صحف إبراهيم التي أنزلت عليه ، وخص هذين النبيين عليهما أفضل الصلاة والسلام . قيل : لأنه ما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بأبيه وابنه وعمه وخاله ، والزوج بامرأته ، والعبد بسيده . فأول من خالفهم إبراهيم ، ومن شريعة إبراهيم إلى شريعة موسى ( صلى الله عليه وسلم ) ) عليهما ، كانوا لا يأخذون الرجل بجريمة غيره . ) الَّذِى وَفِى ( ، قرأ الجمهور : وفي بتشديد الفاء . وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي : بتخفيفها ، ولم يذكر متعلق وفي ليتناول كل ما يصلح أن يكون متعلقاً له ، كتبليغ الرسالة والاستقلال بأعباء الرسالة ، والصبر على ذبح ولده ، وعلى فراق اسماعيل وأمه ، وعلى نار نمروذ وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه . وكان يمشي كل يوم فرسخاً يرتاد ضيفاً ، فإن وافقه أكرمه ، وإلا نوى الصوم . وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفى به . وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً . وقال ابن عباس والربيع : وفي طاعة الله في أمر ذبح ابنه . وقال الحسن وقتادة : وفي بتبليغ الرسالة والمجاهدة في ذات الله . وقال عكرمة : وفي هذه العشر الآيات : ) أَن لا تَزِرُ ( فما بعدها . وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : وفي ما افترض عليه من الطاعة على وجهها ، وكملت له شعب الإيمان والإسلام ، فأعطاه الله براءته من النار . وقال ابن عباس أيضاً : وفي شرائع الإسلام ثلاثين سهماً ، يعني : عشرة في براءة التائبون الخ ، وعشرة في قد أفلح ، وعشرة في الأحزاب إن المسلمين . وقال أبو أمامة : ورفعه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي أربع صلوات في كل يوم . وقال أبو بكر الوراق : قام بشرط ما ادّعى ، وذلك أن الله تعالى قال له : أسلم ، قال : أسلمت لرب العالمين ، فطالبه بصحة دعواه ، فابتلاه في ما له وولده ونفسه ، فوجده وافياً . انتهى ، وللمفسرين أقوال غير هذه . وينبغي أن تكون هذه الأقوال أمثلة لما وفي ، لا على سبيل التعيين ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، وهي بدل من ما في قوله : ) بِمَا فِى صُحُفِ ( ، أو في موضع رفع ، كأن قائلاً قال : ما في صحفهما ، فقيل : ) لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( ، وتقدم شرح ) لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ).
النجم : ( 39 - 40 ) وأن ليس للإنسان . . . . .
( وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( : الظاهر أن الإنسان يشمل المؤمن والكافر ، وأن الحصر في السعي ، فليس له سعي غيره ، وقال عكرمة : كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى ، وأما هذه الأمّة فلها سعي غيرها ، يدل عليه حديث سعد بن عبادة : هل لأمي ، إن تطوعت عنها ؟ قال : نعم . وقال الربيع : الإنسان هنا الكافر ، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره . وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله : ) وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ( ، فقال : ليس له بالعدل إلا ما سعى ، وله بالفضل ما شاء الله ، فقبل عبد الله رأس الحسين . وما روي عن ابن عباس أنها منسوخة لا يصح ، لأنه خبر لم يتضمن تكليفاً ؛ وعند الجمهور : إنها محكمة . قال ابن عطية : والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله : ) لِلإِنسَانِ ). فإذا حققت الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا ، لم تجده إلا سعيه ، وما تم بعد من رحمة بشفاعة ، أو رعاية أب صالح ، أو ابن صالح ، أو تضعيف حسنات ، أو تعمد بفضل ورحمة دون هذا كله ، فليس هو للإنسان ، ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو حقيقة . واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحد عن أحد بعد موته

" صفحة رقم 165 "
ببدن أو مال ، وفرق بعض العلماء بين البدن والمال . انتهى .
والسعي : التكسب ، ويرى مبني للمفعول ، أي سوف يراه حاضراً يوم القيامة . وفي عرض الأعمال تشريف للمحسن وتوبيخ للمسيء ،
النجم : ( 41 ) ثم يجزاه الجزاء . . . . .
والضمير المرفوع في يجزاه عائد على الإنسان ، والمنصوب عائد على السعي ، والجزاء مصدر . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسره بقوله : ) الْجَزَاء الاوْفَى ). وإذا كان تفسيراً للمصدر المنصوب في يجزاه ، فعلى ماذا انتصابه ؟ وأما إذا كان بدلاً ، فهو من باب بدل الظاهر من الضمير الذي يفسره الظاهر ، وهي مسألة خلاف ، والصحيح المنع .
النجم : ( 42 ) وأن إلى ربك . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ ( وما بعدها من ) وَأَنَّهُ ( ، وأن بفتح الهمزة عطفاً على ما قبلها . وقرأ أبو السمال : بالكسر فيهن ، وفي قوله : ) الاوْفَى ( وعيد للكافر ووعد للمؤمن ، ومنتهى الشيء : غايته وما يصل إليه ، أي إلى حساب ربك والحشر لأجله ، كما قال : ) وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( : أي إلى جزائه وحسابه ، أو إلى ثوابه من الجنة وعقابه من النار ؛ وهذا التفسير المناسب لما قبله في الآية . وعن أبي ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في قوله تعالى : ) وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( ، لا فكرة في الرب . وروى أنس عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إذا ذكر الرب فانتهوا ) .
النجم : ( 43 ) وأنه هو أضحك . . . . .
( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( : الظاهر حقيقة الضحك والبكاء . قال مجاهد : أضحك أهل الجنة ، وأبكى أهل النار . وقيل : كنى بالضحك عن السرور ، وبالبكاء عن الحزن . وقيل : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر . وقيل : أحيا بالإيمان ، وأبكى بالكفر . وقال الزمخشري : ) أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( : خلق قوتي الضحك والبكاء . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال ، إذ أفعال العباد من الضحك والبكاء وغيرهما مخلوقة للعبد عندهم ، لا لله تعالى ، فلذلك قال : خلق قوتي الضحك والكباء .
النجم : ( 45 ) وأنه خلق الزوجين . . . . .
( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ ( المصطحبين من رجل وامرأة وغيرهما من الحيوان ،
النجم : ( 46 ) من نطفة إذا . . . . .
( مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ( : أي إذا تدفق ، وهو المني . يقال : أمنى الرجل ومنى . وقال الأخفش : إذا يمنى : أي يخلق ويقدر من مني الماني ، أي قدر المقدر .
النجم : ( 47 ) وأن عليه النشأة . . . . .
( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاْخْرَى ( : أي إعادة الأجسام : أي الحشر بعد البلى ، وجاء بلفظ عليه المشعرة بالتحتم لوجود الشيء لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله : ) عَلَيْهِ ( بوجودها لا محالة ، وكأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه ، وتقدم الخلاف في قراءة النشأة في سورة العنكبوت . وقال الزمخشري : وقال ) عَلَيْهِ ( ، لأنها واجبة عليه في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال .
النجم : ( 48 ) وأنه هو أغنى . . . . .
( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( : أي أكسب القنية ، يقال : قنيت المال : أي كسبته ، وأقنيته إياه : أي أكسبته إياه ، ولم يذكر متعلق أغنى وأقنى لأن المقصود نسبة هذين الفعلين له تعالى . وقد تكلم المفسرون على ذلك فقالوا اثني عشر قولاً ، كقولهم : أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه ، وكل قول منها لا دليل على تعينه ، فينبغي أن تجعل أمثلة .
النجم : ( 49 ) وأنه هو رب . . . . .
والشعرى التي عبدت هي العبور . وقال السدّي : كانت تعبدها حمير وخزاعة . وقال غيره : أول من عبدها أبو كبشة ، أحد أجداد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، من قبل أمهاته ، وكان اسمه عبد الشعرى ، ولذلك كان مشركو قريش يسمونه عليه السلام : ابن أبي كبشة ، ومن ذلك كلام أبي سفيان : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة . ومن العرب من كان يعظمها ولا يعبدها ، ويعتقد تأثيرها في العالم ، وأنها من الكواكب الناطقة ، يزعم ذلك المنجمون ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ، وهي تقطع السماء طولاً ، والنجوم تقطعها عرضاً . وقال مجاهد وابن زيد : هو مرزم الجوزاء .
النجم : ( 50 ) وأنه أهلك عادا . . . . .
( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاْولَى ( : جاء بين أن وخبرها لفظ هو ، وذلك في قوله : ) وَأَنْ هُوَ أَضْحَكَ ( ، ( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ ( ، ( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى ( ، ( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى ). ففي الثلاثة الأول ، لما كان قد يدعي ذلك بعض

" صفحة رقم 166 "
الناس ، كقول نمروذ : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى ( ، احتيج إلى تأكيد في أن ذلك إنما هو لله لا غيره ، فهو الذي يضحك ويبكي ، وهو المميت المحيي ، والمغني ، والمقني حقيقة ، وإن ادّعى ذلك أحد فلا حقيقة له . وأما ) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى ( ، فلأنها لما عبدت من دون الله تعالى ، نص على أنه تعالى هو ربها وموجدها . ولما كان خلق الزوجين ، والإنشاء الآخر ، وإهلاك عاد ومن ذكر ، لا يمكن أن يدعي ذلك أحد ، لم يحتج إلى تأكيد ولا تنصيص أنه تعالى هو فاعل ذلك . وعاد الأولى هم قوم هود ، وعاد الأخرى إرم . وقيل : الأولى : القدماء لأنهم أول الأمم هلاكاً بعد قوم نوح عليه السلام . وقيل : الأولى : المتقدّمون في الدنيا الأشراف ، قاله الزمخشري . وقال ابن زيد والجمهور : لأنها في وجه الدهر وقديمه ، فهي أولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة . وقال الطبري : وصفت بالأولى ، لأن عاداً الآخرة قبيلة كانت بمكة مع العماليق ، وهو بنو لقيم بن هزال . وقال المبرد : عاد الأخيرة هي ثمود ، والدليل عليه قول زهير :
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
ذكره الزهراوي . وقيل : عاد الأخيرة : الجبارون . وقيل : قبل الأولى ، لأنهم كانوا من قبل ثمود . وقيل : ثمود من قبل عاد . وقيل : عاد الأولى : هو عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح ؛ وعاد الثانية : من ولد عاد الأولى . وقرأ الجمهور : ) عَاداً الاْولَى ( ، بتنوين عاداً وكسره لالتقائه ساكناً مع سكون لام الأولى وتحقيق الهمزة بعد اللام . وقرأ قوم كذلك ، غير أنهم نقلوا حركة الهمزة إلى اللام وحذفوا الهمزة . وقرأ نافع وأبو عمرو : بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة ، وعاد هذه القراءة للمازني والمبرد . وقالت العرب في الابتداء بعد النقل : الحمر ولحمر ، فهذه القراءة جاءت على الحمر ، فلا عيب فيها ، وهمز قالون عين الأولى بدل الواو الساكنة . ولما لم يكن بين الضمة والواو حائل ، تخيل أن الضمة على الواو فهمزها ، كما قال :
أحب المؤقدين إليّ مؤسى
وكما قرأ بعضهم : على سؤقه ، وهو توجيه شذوذ ، وفي حرف أبي عاد غير مصروف جعله اسم قبيلة ، فمنعه الصرف للتأنيث والعملية ، والدليل على التأنيث وصفه بالأولى .
النجم : ( 51 ) وثمود فما أبقى
وقرأ الجمهور : وثمودا مصروفاً ، وقرأه غير مصروف : الحسن وعاصم وعصمة . ) فَمَا أَبْقَى ( : الظاهر أن متعلق أبقى يرجع إلى عاد وثمود معاً ، أي فما أبقى عليهم ، أي أخذهم بذنوبهم . وقيل : ) فَمَا أَبْقَى ( : أي فما أبقى منهم عيناً تطرف . وقال ذلك الحجاج بن يوسف حين قيل له إن ثقيفاً من نسل ثمود ، فقال : قال الله تعالى : ) وَثَمُودَاْ فَمَا أَبْقَى ( ، وهؤلاء يقولون : بقيت منهم بقية ، والظاهر القول الأول ، لأن ثمود كان قد آمن منهم جماعة بصالح عليه السلام ، فما أهلكهم الله مع الذين كفروا به .
النجم : ( 52 ) وقوم نوح من . . . . .
( وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ ( : أي من قبل عاد وثمود ، وكانوا أول أمة كذبت من أهل الأرض ، ونوح عليه السلام أول الرسل . والظاهر أن الضمير في ) أَنَّهُمْ ( عائد على قوم نوح ، وجعلهم ) أَظْلَمَ وَأَطْغَى ( لأنهم كانوا في غاية العتو والإيذاء لنوح عليه السلام ، يضربونه حتى لا يكاد يتحرك ، ولا يتأثرون لشيء مما يدعوهم إليه . وقال قتادة : دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، كلما هلك قرن نشأ قرن ، حتى كان الرجل يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه ، يحذره منه ويقول : يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا ولنا مثلك يومئذ ، فإياك أن تصدقه ، فيموت الكبير على الكفر ، وينشأ الصغير على وصية أبيه . وقيل : الضمير في إنهم عائد على من تقدم عاد وثمود وقوم نوح ، أي كانوا أكفر من قريش وأطغى ، ففي ذلك تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وهم يجوز أن يكون تأكيداً للضمير المنصوب ، ويجوز أن يكون فصلاً ، لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل ، وحذف المفضول بعد الواقع خبراً لكان ، لأنه جار مجرى خبر المبتدأ ، وحذفه فصيح فيه

" صفحة رقم 167 "
فكذلك في خبر كان .
النجم : ( 53 ) والمؤتفكة أهوى
) وَالْمُؤْتَفِكَةَ ( : هي مدائن قوم لوط بإجماع من المفسرين ، وسميت بذلك لأنها انقلبت ، ومنه الإفك ، لأنه قلب الحق كذباً ، أفكه فأئتفك . قيل : ويحتمل أن يراد بالمؤتفكة : كل ما انقلبت مساكنه ودبرت أماكنه . ) أَهْوَى ( : أي خسف بهم بعد رفعهم إلى السماء ، رفعها جبريل عليه السلام ، ثم أهوى بها إلى الأرض . وقال المبرد : جعلها تهوي . وقرأ الحسن : والمؤتفكات جمعاً ، والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة ، وأخر العامل لكونه فاصلة . ويجوز أن يكون ) وَالْمُؤْتَفِكَةَ ( معطوفاً على ما قبله ، و ) أَهْوَى ( جملة في موضع الحال يوضح كيفية إهلاكهم ، أي وإهلاك المؤتفكة مهوياً لها .
النجم : ( 54 ) فغشاها ما غشى
) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( : فيه تهويل للعذاب الذي حل بهم ، لما قلبها جبريل عليه السلام اتبعت حجارة غشيتهم . واحتمل أن يكون فعل المشدد بمعنى المجرد ، فيتعدى إلى واحد ، فيكون الفاعل ما ، كقوله تعالى : ) فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ ).
النجم : ( 55 ) فبأي آلاء ربك . . . . .
( فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَى ( : الباء ظرفية ، والخطاب للسامع ، وتتمارى : تتشكك ، وهو استفهام في معنى الإنكار ، أي آلاؤه ، وهي النعم لا يتشكك فيها سامع ، وقد سبق ذكر نعم ونقم ، وأطلق عليها كلها آلاء لما في النقم من الزجر والوعظ لمن اعتبر . وقرأ يعقوب وابن محيصن : ربك تمارى ، بتاء واحدة مشددة . وقال أبو مالك الغفاري : إن قوله : ) أَن لا تَزِرُ ( إلى قوله : ) تَتَمَارَى ( هو في صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام .
النجم : ( 56 ) هذا نذير من . . . . .
( هَاذَا نَذِيرٌ ( ، قال قتادة ومحمد بن كعب وأبو جعفر : الإشارة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، افتتح أول السورة به ، واختتم آخرها به . وقيل : الإشارة إلى القرآن . وقال أبو مالك : إلى ما سلف من الأخبار عن الأمم ، أي هذا إنذار من الإنذارات السابقة ، والنذير يكون مصدراً أو اسم فاعل ، وكلاهما من أنذر ، ولا يتقاسان ، بل القياس في المصدر إنذار ، وفي اسم الفاعل منذر ؛ والنذر إما جمع للمصدر ، أو جمع لاسم الفاعل . فإن كان اسم فاعل ، فوصف النذر بالأولى على معنى الجماعة .
ولما ذكر إهلاك من تقدّم ذكره ، وذكر قوله : ) هَاذَا نَذِيرٌ ( ، ذكر أن الذي أنذر به قريب الوقوع
النجم : ( 57 ) أزفت الآزفة
فقال : ) أَزِفَتِ الاْزِفَةُ ( : أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله : ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ( ، وهي القيامة .
النجم : ( 58 ) ليس لها من . . . . .
( لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ( : أي نفس كاشفة تكشف وقتها وتعلمه ، قاله الطبري والزجاج . وقال القاضي منذر بن سعيد : هو من كشف الضر ودفعه ، أي ليس لها من يكشف خطبها وهو لها . انتهى . ويجوز أن تكون الهاء في كاشفة للمبالغة . وقال الرماني وجماعة : ويحتمل أن يكون مصدراً ، ( كالعاقبة ( ، ( وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( ، أي ليس لها كشف من دون الله . وقيل : يحتمل أن يكون التقدير حال كاشفة .
النجم : ( 59 ) أفمن هذا الحديث . . . . .
( أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ ). وهو القرآن ، ( تَعْجَبُونَ ( فتنكرون ،
النجم : ( 60 ) وتضحكون ولا تبكون
) وَتَضْحَكُونَ ( مستهزئين ، ( وَلاَ تَبْكُونَ ( جزعاً من وعيده .
النجم : ( 61 ) وأنتم سامدون
) وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ( ، قال مجاهد : معرضون . وقال عكرمة : لاهون . وقال قتادة : غافلون . وقال السدّي : مستكبرون . وقال ابن عباس : ساهون . وقال المبرد : جامدون ، وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلاً عنه . وروي أنه عليه الصلاة والسلام لم ير ضاحكاً بعد نزولها .
النجم : ( 62 ) فاسجدوا لله واعبدوا
فاسجدوا : أي صلوا له ، ( وَاعْبُدُواْ ( : أي أفردوه بالعبادة ، ولا تعبدوا اللات والعزى ومناة والشعرى وغيرها من الأصنام . وخرّج البغوي بإسناد متصل إلى عبد الله ، قال : أول سورة نزلت فيها السجدة النجم ، فسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وسجد من خلفه إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً ، والرجل أمية بن خلف . وروي أن المشركين سجدوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وفي حرف أبي وعبد الله : تضحكون بغير واو . وقرأ الحسن : تعجبون تضكحون ، بغير واو وبضم التاء وكسر الجيم والحاء . وفي قوله : ) وَلاَ تَبْكُونَ ( ، حض على البكاء عند سماع القرآن . والسجود هنا عند كثير من أهل العلم

" صفحة رقم 168 "
منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، ووردت به أحاديث صحاح ، وليس يراها مالك هنا . وعن زيد بن ثابت : أنه قرأ بها عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فلم يسجد ، والله تعالى أعلم .

" صفحة رقم 169 "
54
( سورة القمر )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءَايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الاٌّ نبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الاٌّ جْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الاٌّ رْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُواْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاٌّ شِرُ إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَد يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ

" صفحة رقم 170 "
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( )
القمر : ( 1 ) اقتربت الساعة وانشق . . . . .
الجدث : القبر ، وتبدل ثاؤه فاء فيقال : جدف ، كما أبدلوا في ثم فقالوا : فم . انهمر الماء : نزل بقوة غزيراً ، قال الشاعر : راح تمريه الصبا ثم تنحى
فيه شؤبوب جنوب منهمر
الدسر : المسامير التي تشدّ بها السفينة ، واحدها دسار ، نحو كتاب وكتب . ويقال : دسرت السفينة ، إذا شددتها بالمسامير . وقال الليث وصاحب الصحاح : الدسر : خيوط تشدّ بها ألواح السفينة . الصرصر : الشديدة الصوت ، أو البرد ، إما من صرير الباب ، وهو تصويته ، أو من الصر الذي هو البرد ، وهو بناء متأصل على وزن فعلل عند الجمهور . العجز : مؤخر الشيء . المنقعر : المنقلع : من أصله ، قعرت الشجرة قعراً : قلعتها من أصلها فانقعرت ، والبئر : نزلت حتى انتهيت إلى قعرها ، والإناء : شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره ، وأقعرته البئر : جعلت لها قعراً . الأشر : البطر . وقرأ : أشر بالكسر يأشر أشراً ، فهو أشر وآشر وأشران ، وقوم أشارى ، مثل : سكران وسكارى . سقر : علم لجهنم مشتق من سقرته النار بالسين ، وصقرته بالصاد إذا لوّحته . قال ذو الرمّة : إذا دابت الشمس اتقى صقراتها
بأفنان مربوع الصريمة معيل
وامتنعت سقر من الصرف للعلمية ، والتأنيث تنزلت حركة وسطه تنزل الحرف الرابع في زينب .
( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَىْء نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ).
هذه السورة مكية في قول الجمهور . وقيل : هي مما نزل يوم بدر . وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات ، أولها : ) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ ( ، وآخرها : ) أَدْهَى وَأَمَرُّ ). وسبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إن كنت صادقاً فشق لنا القمر

" صفحة رقم 171 "
فرقتين ، ووعدوه بالإيمان إن فعل . وكانت ليلة بدر ، فسأل ربه ، فانشق القمر نصف على الصفا ونصف على قيقعان . فقال أهل مكة : آية سماوية لا يعمل فيها السحر . فقال أبو جهل : اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي ، فإن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح ، وإلا فقد سحر محمد أعيننا . فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر ، فأعرض أبو جهل وقال : ) سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ). وعن ابن عباس : شق القمر شقين ، شطرة على السويداء وشطرة على الحديبية . وعنه : انشق القمر بمكة مرتين . وعنه : انفلق فلقتين ، فلقة ذهبت وفلقة بقيت .
ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها ظاهرة ، قال : ) أَزِفَتِ الاْزِفَةُ ( ، وقال : ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ). وممن عاين انشقاق القمر ابن مسعود جبير بن مطعم ، وأخبر به ابن عمر وأنس وحذيفة وابن عباس . وحين أرى الله الناس انشقاق القمر ، قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اشهدوا ) ، وقال المشركون إذ ذاك : سحرنا محمد . وقال بعضهم : سحر القمر . والأمة مجمعة على خلاف من زعم أن قوله : ) وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( معناه : أنه ينشق يوم القيامة ، ويرده من الآية قوله : ) وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ). فلا يناسب هذا الكلام أن يأتي إلا بعد ظهور ما سألوه معيناً من انشقاق القمر . وقيل : سألوا آية في الجملة ، فأراهم هذه الآية السماوية ، وهي من أعظم الآيات ، وذلك التأثير في العالم العلوي . وقرأ حذيفة : وقد انشق القمر ، أي اقتربت ، وتقدم من آيات اقترابها انشقاق القمر ، كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه . وخطب حذيفة بالمدائن ، ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت ، وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم ، ولا التفات إلى قول الحسن أن المعنى : إذ جاءت الساعة انشق القمر بعد النفخة الثانية ، ولا إلى قول من قال : إن انشقاقه عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه في أثنائها ، فالمعنى : ظهر الأمر ، فإن العرب تضرب بالقمر مثلاً فيما وضح ، كما يسمى الصبح فلقاً عند انفلاق الظلمة عنه ، وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق . قال النابغة : فلما أدبروا ولهم دوي
دعانا عند شق الصبح داعي
وهذه أقوال فاسدة ، ولولا أن المفسرين ذكروها ، لأضربت عن ذكرها صفحاً .
القمر : ( 2 ) وإن يروا آية . . . . .
( وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ ( ، وقرىء : وإن يروا مبنياً للمفعول : أي من شأنهم وحالتهم أنهم متى رأوا ما يدل على صدق الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الآيات الباهرة أعرضوا عن الإيمان به وبتلك الآية . وجاءت الجملة شرطية ليدل على أنهم في الاستقبال على مثل حالهم في الماضي ، ويقولوا : ) سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ( : أي دائم ، ومنه قول الشاعر : ألا إنما الدنيا ليال وأعصر
وليس على شيء قويم بمستمر
لما رأوا الآيات متوالية لا تنقطع ، قالوا ذلك . وقال أبو العالية والضحاك والأخفش : مستمر : مشدود موثق من مرائر الحبل ، أي سحر قد أحكم ، ومنه قول الشاعر : حتى استمرت على سر مريرته
صدق العزيمة لا رياً ولا ضرعا
وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء ، واختاره النحاس : مستمر : مار ذاهب زائل عن قريب ، عللوا بذلك أنفسهم . وقيل مستمر : شديد المرارة ، أي مستبشع عندنا مر ، يقال : مر الشيء وأمر ، إذا صار مراً ، وأمر غيره

" صفحة رقم 172 "
ومره ، يكون لازماً ومتعدياً . وقيل : مستمر : يشبه بعضه بعضاً ، أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخيلات . وقيل : مستمر : مار من الأرض إلى السماء ، أي بلغ من سحره أنه سحر القمر .
القمر : ( 3 ) وكذبوا واتبعوا أهواءهم . . . . .
( وَكَذَّبُواْ ( : أي بالآيات وبمن جاء بها ، أي قالوا هذا سحر مستمر سحرنا محمد . ) وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ ( : أي شهوات أنفسهم وما يهوون . ) وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ( ، بكسر القاف وضم الراء : مبتدأ أو خبر . قال مقاتل : أي له غاية ينتهي إليها . وقال الكلبي : مستقرّ له حقيقة ، فما كان في الدنيا فسيظهر ، وما كان في الآخرة فسيعرف . وقال قتادة : معناه أن الخير يستقر بأهل الخير ، والشر بأهل الشر . وقيل : يستقر الحق ظاهراً ثابتاً ، والباطل زاهقاً ذاهباً . وقيل : كل أمر من أمرهم وأمره يستقر على خذلان أو نصرة في الدنيا وسعادة ، أو شقاوة في الآخرة . وقرأ شيبة : مستقر بفتح القاف ، ورويت عن نافع ؛ وقال أبو حاتم : لا وجه لفتح القاف . انتهى . وخرجت على حذف مضاف ، أي ذو استقرار ، وزمان استقرار . وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي : مستقر بكسر القاف والراء معاً صفة لأمر . وخرجه الزمخشري على أن يكون وكل عطفاً على الساعة ، أي اقتربت الساعة ، واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله ، وهذا بعيد لطول الفصل بجمل ثلاث ، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب ، نحو : أكلت خبزاً وضربت زيداً ، وأن يجيء زيد أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحماً ، فيكون ولحماً عطفاً على خبزاً ، بل لا يوجد مثله في كلام العرب . وخرجه صاحب اللوامح على أنه خبر لكل ، فهو مرفوع في الأصل ، لكنه جر للمجاورة ، وهذا ليس بجيد ، لأن الخفض على الجوار في غاية الشذوذ ، ولأنه لم يعهد في خبر المبتدأ ، إنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده ، والأسهل أن يكون الخبر مضمراً لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : ) وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ( بالغوه ، لأن قبله : ) وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ ( : أي وكل أمر مستقر لهم في القدر من خير أو شر بالغه هم . وقيل : الخبر حكمة بالغة ، أي وكل أمر مستقر حكمة بالغة . ويكون :
القمر : ( 4 ) ولقد جاءهم من . . . . .
( وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( اعتراض بين المبتدأ وخبره .
( وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء ( : أي من الأخبار الواردة في القرآن في إهلاك من كذب الأنبياء وما يؤولون إليه في الآخرة ، ( مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( : أي ازدجار رادع لهم عن ما هم فيه ، أو موضع ازدجار وارتداع ، أي ذلك موضع ازدجار ، أو مظنة له . وقرىء مزجر ، بإبدال تاء الافتعال زاياً وإدغام الزاي فيها . وقرأ زيد بن علي : مزجر اسم فاعل من أزجر ، أي صار ذا زجر ، كأعشب : أي صار ذا عشب .
القمر : ( 5 ) حكمة بالغة فما . . . . .
وقرأ الجمهور : ) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ( برفعهما ، وجوزوا أن تكون حكمة بدلاً من مزدجر أو من ما ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وتقدم قول من جعله خبراً عن كل في قراءة من قرأ مستقر بالجر . وقرأ اليماني : حكمة بالغة بالنصب فيهما حالاً من ما ، سواء كانت ما موصولة أم موصوفة تخصصت بالصفة ، ووصفت الحكمة ببالغة لأنها تبلغ غيرها . ) فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ ( مع هؤلاء الكفرة .
القمر : ( 6 ) فتول عنهم يوم . . . . .
ثم سلى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( أي أعرض عنهم ، فإن الإنذار لا يجدي فيهم . ثم ذكر شيئاً من أحوال الآخرة وما يؤولون إليه ، إذ ذاك متعلق باقتراب الساعة ، فقال : ) يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِىَ ( ، والناصب ليوم اذكر مضمرة ، قاله الرماني ، أو يخرجون . وقال الحسن : المعنى : فتول عنهم إلى يوم ، وهذا ضعيف من جهة اللفظ ومن جهة المعنى . أما من جهة اللفظ فحذف إلى ، وأما من جهة المعنى فإن توليه عنهم ليس مغياً بيوم يدع الداع . وجوزوا أن يكون منصوباً بقوله : ) فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ ( ، ويكون ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( اعتراضاً ، وأن يكون منصوباً بقوله : ) يَقُولُ الْكَافِرُونَ (

" صفحة رقم 173 "
ومنصوباً على إضمار انتظر ، ومنصوباً بقوله : ) فَتَوَلَّ ( ، وهذا ضعيف جدّاً ، ومنصوباً بمستقر ، وهو بعيد أيضاً . وحذفت الواو من يدع في الرسم اتباعاً للنطق ، والياء من الداع تخفيفاً أجريت أل مجرى ما عاقبها ، وهو التنوين . فكما تحذف معه حذفت معها ، والداع هو إسرافيل ، أو جبرائيل ، أو ملك غيرهما موكل بذلك ، أقوال . وقرأ الجمهور : ) نُّكُرٍ ( بضم الكاف ، وهو صفة على فعل ، وهو قليل في الصفات ، ومنه رجل شلل : أي خفيف في الحاجة ، وناقة أجد ، ومشية سجح ، وروضة أنف . وقرأ الحسن وابن كثير : وشبل بإسكان الكاف ، كما قالوا : شغل وشغل ، وعسر وعسر . وقرأ مجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي : نكر فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ، أي جهل فنكر . وقال الخليل : النكر نعت للأمر الشديد ، والوجل الداهية ، أي تنكره النفوس لأنها لم تعهد مثله ، وهو يوم القيامة . قال مالك بن عوف النضري : أقدم محاج أنه يوم نكر
مثلي على مثلك يحمي ويكر
القمر : ( 7 ) خشعا أبصارهم يخرجون . . . . .
وقرأ قتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والجمهور : خشعاً جمع تكسير ؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي : خاشعاً بالإفراد . وقرأ أبيّ وابن مسعود : خاشعة ، وجمع التكسير أكثر في كلام العرب . وقال الفراء وأبو عبيدة : كله جائز . انتهى ، ومثال جمع التكسير قول الشاعر : بمطرد لذن صحاح كعربه
وذي رونق عضب يقد الوانسا
ومثال الإفراد قوله : ورجال حسن أو جههم
من أياد بن نزار بن معد
وقال آخر :
ترمي الفجاج به الركبان معترضاً
أعناق بزلها مرخى لها الجدل
وانتصب خشعاً وخاشعا وخاشعة على الحال من ضمير يخرجون ، والعامل فيه يخرجون ، لأنه فعل متصرف ، وفي هذا دليل على بطلان مذهب الجرمى ، لأنه لا يجوز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفاً . وقد قالت العرب : شتى تؤب الحلبة ، فشتى حال ، وقد تقدمت على عاملها وهو تؤب ، لأنه فعل متصرف ، وقال الشاعر :
سريعاً يهون الصعب عند أولي النهي
إذا برجاء صادق قابلوه البأسا
فسريعاً حال ، وقد تقدمت على عاملها ، وهو يهون . وقيل : هو حال من الضمير المجرور في عنهم من قوله : ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( وقيل : هو مفعول بيدع ، أي قوماً خشعاً ، أو فريقاً خشعاً ، وفيه بعد . ومن أفرد خاشعاً وذكر ،

" صفحة رقم 174 "
فعلى تقدير تخشع أبصارهم ؛ ومن قرأ خاشعة وأنث ، فعلى تقدير تخشع ؛ ومن قرأ خشعاً جمع تكسير ، فلأن الجمع موافق لما بعده ، وهو أبصارهم ، وموافق للضمير الذي هو صاحب الحال في يخرجون ، وهو نظير قولهم : مررت برجال كرام آباؤهم . وقال الزمخشري : وخشعاً على يخشعن أبصارهم ، وهي لغة من يقول : أكلوني البراغيث ، وهم طيء . انتهى . ولا يجري جمع التكسير مجرى جمع السلامة ، فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة .
وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب ، فكيف يكون أكثر ، ويكون على تلك اللغة النادرة القليلة ؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفراد مذكراً ومؤنثاً وجمع التكسير ، قال : لأن الصفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها جميع ذلك ، والجمع موافق للفظها ، فكان أشبه . انتهى . وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمع مجموعاً بالواو والنون نحو : مررت بقوم كريمين آباؤهم . والزمخشري قاس جمع التكسير على هذا الجمع السالم ، وهو قياس فاسد ، ويزده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد ، كما ذكرناه عن سيبويه ، وكما دل عليه كلام الفراء ؛ وجوز أن يكون في خشعاً ضمير ، وأبصارهم بدل منه . وقرىء : خشع أبصارهم ، وهي جملة في موضع الحال ، وخشع خبر مقدم ، وخشوع الأبصار كناية عن الذلة ، وهي في العيون أظهر منها في سائر الجوارح ؛ وكذلك أفعال النفس من ذلة وعزة وحياء وصلف وخوف وغير ذلك .
( كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ( : جملة حالية أيضاً ، شبههم بالجراد في الكثرة والتموج ، ويقال : جاءوا كالجراد في الجيش الكثير المتموج ، ويقال : كالذباب . وجاء تشبيههم أيضاً بالفراش المبثوث ، وكل من الجراد والفراش في الخارجين يوم الحشر شبه منهما . وقيل : يكونون أولاً كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون ، لأن الفراش لا جهة له يقصدها ، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر والداعي ، فهما تشبيهان باعتبار وقتين ، قال معناه مكي بن أبي طالب .
القمر : ( 8 ) مهطعين إلى الداع . . . . .
( مُهْطِعِينَ ( ، قال أبو عبيدة : مسرعين ، ومنه قوله : بدجلة دارهم ولقد أراهم
بدجلة مهطعين إلى السماع
زاد غيره : مادّي أعناقهم ، وزاد غيره : مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد ، إما لخوف أو طمع ونحوه . وقال قتادة : عامدين . وقال الضحاك : مقبلين . وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت . وقال ابن عباس : ناظرين . ومنه قول الشاعر : تعبدني نمر بن سعد وقد أرى
ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وقيل : خافضين ما بين أعينهم . وقال سفيان : خاشعة أبصارهم إلى السماء . ) يَوْمٌ عَسِرٌ ( ، لما يشاهدون من مخايل هوله ، وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه .
القمر : ( 9 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ( : أي قبل قريش ، ( قَوْمُ نُوحٍ ( وفيه وعيد لقريش وضرب مثل لهم . ومفعول كذبت محذوف ، أي كذبت الرسل ، فكذبوا نوحاً عليه السلام . لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأساً ، كذبوا نوحاً لأنه من جملة الرسل . ويجوز أن يكون المحذوف نوحاً أول مجيئه إليهم ، فكذبوه تكذيباً يعقبه تكذيب . كلما مضى منهم قرن مكذب ، تبعه قرن مكذب . وفي لفظ عبدنا تشريف وخصوصية بالعبودية ، كقوله تعالى : ) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ( ، ( سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ). ) وَقَالُواْ مَجْنُونٌ ( : أي هو مجنون . لما رأوا الآيات الدالة على صدقه قالوا : هو مصاب الجن ، لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إلى الجنون ، أي

" صفحة رقم 175 "
يقول ما لا يقبله عاقل ، وذلك مبالغة في تكذيبهم .
( وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ ( ، الظاهر أن قوله : ) وَازْدُجِرَ ( من أخبار الله تعالى ، أي انتهروه وزجروه بالسبب والتخويف ، قاله ابن زيد وقرأ : ) لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ نُوحٌ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ ). قيل : والمعنى أنهم فعلوا به ما يوجب الانزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم إلى الإيمان وعدل إلى الدعاء عليهم . وقال مجاهد : وازدجر من تمام قولهم ، أي قالوا وازدجر : أي استطير جنوناً ، أي ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته .
القمر : ( 10 ) فدعا ربه أني . . . . .
وقرأ ابن إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن عليّ ، ورويت عن عاصم : إني بكسر الهمزة ، على إضمار القول على مذهب البصريين ، أو على إجراء الدعاء مجرى القول على مذهب الكوفيين . وقرأ الجمهور : بفتحها ، أي بأني مغلوب ، أي غلبني قومي ، فلم يسمعوا مني ، ويئست من إجابتهم لي . ) فَانتَصِرْ ( : أي فانتقم بعذاب تبعثه عليهم . وإنما دعا عليهم بعد ما يئس منهم وتفاقم أمرهم ، وكان الواحد من قومه يخنقه إلى أن يخر مغشياً عليه ، وقد كان يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، ومتعلق ) فَانتَصِرْ ( محذوف . وقيل : التقدير فانتصر لي منهم بأن تهلكهم . وقيل : فانتصر لنفسك ، إذ كذبوا رسولك فوقعت الإجابة . وللمتصوفة قول في ) مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ( حكاه ابن عطية ، يوقف عليه في كتابه .
القمر : ( 11 ) ففتحنا أبواب السماء . . . . .
( فَفَتَحْنَا ( : بيان أن الله تعالى انتصر منهم وانتقم . قيل : ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين ، فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم . ) أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء ( : جعل الماء كأنه آلة يفتح بها ، كما تقول : فتحت الباب بالمفتاح ، وكأن الماء جاء وفتح الباب ، فجعل المقصود ، وهو الماء ، مقدّماً في الوجود على فتح الباب المغلق . ويجوز أن تكون الباء للحال ، أي ملتبسة بماء منهمر . وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب : ففتحنا مشدّداً ؛ والجمهور : مخففاً ، ( أَبْوابَ السَّمَاء ( ، هذا عند الجمهور مجاز وتشبيه ، لأن المطر كثره كأنه نازل من أبواب ، كما تقول : فتحت أبواب القرب ، وجرت مزاريب السماء . وقال عليّ ، وتبعه النقاش : يعني بالأبواب المجرة ، وهي سرع السماء كسرع العيبة . وذهب قوم إلى أنها حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء ، ومثله مروي عن ابن عباس ، قال : أبواب السماء فتحت من غير سحاب ، لم تغلق أربعين يوماً . قال السدي : ) مُّنْهَمِرٍ ( : أي كثير . قال الشاعر : أعينيّ جودا بالدموع الهوامر
على خير باد من معد وحاضر
القمر : ( 12 - 13 ) وفجرنا الأرض عيونا . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَفَجَّرْنَا ( بتشديد الجيم ؛ وعبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم : بالتخفيف ؛ والمشهور أن العين لفظ مشترك . والظاهر أنها حقيقة في العين الباصرة ، مجاز في غيرها ، وهو في غير الماء مجاز مشهور ، غالب وانتصب عيوناً على التمييز ، جعلت الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من : وفجرنا عيون الأرض ، ومن منع مجيء التمييز من المفعول أعربه حالاً ، ويكون حالاً مقدرة ، وأعربه بعضهم مفعولاً ثانياً ، كأنه ضمن ) وَفَجَّرْنَا ( : صيرنا بالتفجير ، ( الاْرْضَ عُيُوناً ). وقيل : وفجرت أربعين يوماً . وقرأ الجمهور : ) فَالْتَقَى المَاء ( ، وهو اسم جنس ، والمعنى : ماء السماء وماء الأرض . وقرأ عليّ والحسن ومحمد بن كعب والجحدري : الماآن . وقرأ الحسن أيضاً : الماوان . وقال الزمخشري : وقرأ الحسن ماوان ، بقلب الهمزة واواً ، كقولهم : علباوان . انتهى . شبه الهمزة التي هي بدل من هاء في الماء بهمزة الإلحاق في علبا . وعن الحسن أيضاً : المايان ، بقلب الهمزة ياء ، وفي كلتا القراءتين شذوذ . ) عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( : أي على حالة ورتبة قد فصلت في الأزل . وقيل : على مقادير قد رتبت وقت التقائه ، فروى أن ماء الأرض كان على سبعة عشر ذراعاً ، ونزل ماء السماء على تكملة أربعين ذراعاً . وقيل : كان ماء الأرض أكثر . وقيل : كانا متساويين ، نزل من السماء قدر ما خرج من الأرض .
وقيل : ) عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( : في اللوح

" صفحة رقم 176 "
أنه يكون ، وهو هلاك قوم نوح عليه السلام بالطوفان ، وهذا هو الراجح ، لأن كل قصة ذكرت بعد هذه القصة ذكر الله هلاك مكذبي الرسل فيها ، فيكون هذا كناية عن هلاك قوم نوح ، ولذلك ذكر نجاة نوح بعدها في قوله : ) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ). وقرأ أبو حيوة : قدر بشد الدال ؛ والجمهور ؛ بتخفيفها ، وذات الألواح والدسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليها السلام . ويفهم من هذين الوصفين أنها السفينة ، فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوب عنه ، ونحوه : قميصي مسرودة من حديد ، أي درع ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه . ولو جمعت بين الصفة والموصوف فيه ، لم يكن بالفصيح والدسر المسامير ، قاله الجمهور . وقال الحسن وابن عباس : مقاديم السفينة لأنها تدسر الماء ، أي تدفعه ، والدسر : الدفع . وقال مجاهد وغيره : بطن السفينة . وعنه أيضاً : عوارض السفينة . وعنه أيضاً : أضلاع السفينة ، تجري في ذلك الماء المتلقي بحفظ منا وكلاءة ، بحيث نجا من كان فيها وغرق غيرهم .
القمر : ( 14 ) تجري بأعيننا جزاء . . . . .
وقال مقاتل بن سليمان : ) بِأَعْيُنِنَا ( : بوحينا . وقيل : بأمرنا . وقيل : بأوليائنا . يقال : فلان عين من عيون الله تعالى : أي ولي من أوليائه . وقيل : بأعين الماء التي أنبعناها . وقيل : من حفظها من الملائكة سماهم أعيناً . وقرأ زيد بن علي وأبو السمال : بأعينا بالإدغام ؛ والجمهور : بالفك . ) جَزَاء ( : أي مجازاة ، ( لّمَن كَانَ كُفِرَ ( : أي لنوح عليه السلام ، إذ كان نعمة أهداها الله إلى قومه لأن يؤمنوا فكفروها ، المعنى : أنه حمله في السفينة ومن آمن معه كان جزاء له على صبره على قومه المئين من السنين ، ومن كناية عن نوح . قيل : يعني بمن كفر لمن جحدت نبوته . وقال ابن عباس ومجاهد : من يراد به الله تعالى ، كأنه قال : غضباً وانتصاراً لله تعالى ، أي انتصر لنفسه ، فأغرق الكافرين ، وأنجى المؤمنين ، وهذان التأويلان في من على قراءة الجمهور . كفر : مبنياً للمفعول . وقرأ مسلمة بن محارب : بإسكان الفاء خفف فعل ، كما قال الشاعر :
لو عصر منه البان والمسك انعصر
يريد : لو عصر . وقرأ زيد بن رومان وقتادة وعيسى : كفر مبنياً للفاعل ، فمن يراد به قوم نوح : أي إن ما نشأ من تفتيح أبواب السماء بالماء ، وتفجر عيون الأرض ، والتقاء الماءين من غرق قوم نوح عليه الصلاة والسلام ، كان جزاء لهم على كفرهم . وكفر : خبر لكان ، وفي ذلك دليل على وقوع الماضي بغير قد خبراً لكان ، وهو مذهب البصريين وغيرهم . يقول : لا بد من قد ظاهرة أو مقدرة ، على أنه يجوز إن كان هنا زائدة ، أي لمن كفر ،
القمر : ( 15 ) ولقد تركناها آية . . . . .
والضمير في ) تَّرَكْنَاهَا ( عائد على الفعلة والقصة . وقال قتادة والنقاش وغيرهما : عائد على السفينة ، وأنه تعالى أبقى خشبها حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة . وقال قتادة : وكم من سفينة بعدها صارت رماداً وقرأ الجمهور : ) مُّدَّكِرٍ ( ، بإدغام الذال في الدال المبدلة من تاء الافتعال ؛ وقتادة : فيما نقل ابن عطية بالذال ، أدغمه بعد قلب الثاني إلى الأول . وقال صاحب كتاب اللوامح قتادة : فهل من مذكر ، فاعل من التذكير ، أي من يذكر نفسه أو غيره بما مضى من القصص . انتهى . وقرىء : مدتكر على الأصل .
القمر : ( 16 ) فكيف كان عذابي . . . . .
( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ( : تهويل لما حل بقوم نوح من العذاب وإعظام له ، إذ قد استأصل جميعهم وقطع دابرهم ، فلم ينسل منهم أحد ؛ أي كيف كان عاقبة إنذاري ؟ والنذر : جمع نذير وهو الإنذار ، وفيه توقيف لقريش على ما حل بالمكذبين أمثالهم . وكان ، إن كانت ناقصة ، كانت كيف في موضع خبر

" صفحة رقم 177 "
كان ؛ وإن كانت تامة ، كانت في موضع نصب على الحال . والاستفهام هنا لا يراد به حقيقته ، بل المعنى على التذكير بما حل بهم .
القمر : ( 17 ) ولقد يسرنا القرآن . . . . .
( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ( : أي سهلنا ، ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ( : أي للإذكار والاتعاظ ، لما تضمنه من الوعظ والوعد والوعيد . ) فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( ، قال ابن زيد : من متعظ . وقال قتادة : فهل من طالب خير ؟ وقال محمد بن كعب : فهل من مزدجر عن المعاصي ؟ وقيل : للذكر : للحفظ ، أي سهلناه للحفظ ، لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلامة اللفظ ، وعروه عن الحشو وشرف المعاني وصحتها ، فله تعلق بالقلوب . ) فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( : أي من طالب لحفظه ليعان عليه ، وتكون زواجره وعلومه حاضرة في النفس . وقال ابن جبير : لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن . وقيل : يسرنا : هيأنا ) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ( ، كقولهم : يسر ناقته للسفر إذا رحلها ، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه ، قال الشاعر : وقمت إليه باللجام ميسرا
هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
قوله عز وجل : ) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاْشِرُ إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ).
القمر : ( 18 - 19 ) كذبت عاد فكيف . . . . .
تقدمت قصة عاد مطولة ومتوسطة ، وهنا ذكرها تعالى موجزة ، كما ذكر قصة نوح عليه السلام موجزة . ولما لم يكن لقوم نوح علم ، ذكر قوم مضافاً إلى نوح . ولما كانت عاد علماً لقوم هود ، ذكر العلم ، لأنه أبلغ في الذكر من التعريف بالإضافة . وتكرر التهويل بالاستفهام قبل ذكر ما حل بهم وبعده ، لغرابة ما عذبوا به من الريح ، وانفرادهم بهذا النوع من العذاب ، ولأن الاختصار داعية الاعتبار والتدبر والصرصر الباردة ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة . وقيل ، المصوتة والجمهور : على إضافة يوم إلى نحس ، وسكون الحاء . وقرأ الحسن : بتنوين يوم وكسر الحاء ، جعله صفة لليوم ، كقوله تعالى : ) فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ). ) مُّسْتَمِرٌّ ( ، قال قتادة : استمر بهم حتى بلغهم جهنم . وعن الحسن والضحاك : كان مراً عليهم . وروي أنه كان يوم الأربعاء ، والذي يظهر أنه ليس يوماً معيناً ، بل أريد به الزمان والوقت ، كأنه قيل : في وقت نحس . ويدل على ذلك أنه قال في سورة فصلت : ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ). وقال في الحاقة : ) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ( ، إلا أن يكون ابتداء الريح في يوم الأربعاء ، فعبر بوقت الابتداء ، وهو يوم الأربعاء ، فيمكن الجمع بينها .
القمر : ( 20 ) تنزع الناس كأنهم . . . . .
( تَنزِعُ النَّاسَ ( : يجوز أن يكون صفة للريح ، وأن يكون حالاً منها ، لأنها وصفت فقربت من المعرفة . ويحتمل أن يكون تنزع مستأنفاً ، وجاء الظاهر

" صفحة رقم 178 "
مكان المضمر ليشمل ذكورهم وإناثهم ، إذ لو عاد بضمير المذكورين ، لتوهم أنه خاص بهم ، أي تقلعهم من أماكنهم . قال مجاهد : يلقى الرجل على رأسه ، فتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه . وقيل : كانوا يصطفون آخذي بعضهم بأيدي بعض ، ويدخلون في الشعاب ، ويحفرون الحفر فيندسون فيها ، فتنزعهم وتدق رقابهم . والجملة التشبيهية حال من الناس ، وهي حال مقدرة . وقال الطبري : في الكلام حذف تقديره : فتتركهم . ) كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ ( : فالكاف في موضع نصب بالمحذوف شبههم ، بأعجاز النخل المنقعر ، إذ تساقطوا على الأرض أمواتاً وهم جثث عظام طوال . والأعجاز : الأصول بلا فروع قد انقلعت من مغارسها . وقيل : كانت الريح تقطع رؤوسهم ، فتبقى أجساداً بلا رؤوس ، فأشبهت أعجاز النخل التي انقلعت من مغرسها . وقرأ أبو نهيك : أعجز على وزن أفعل ، نحو ضبع وأضبع . والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث ، وإنما ذكر هنا لمناسبة الفواصل ، وأنث في قوله : ) أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( في الحاقة لمناسبة الفواصل أيضاً .
القمر : ( 24 - 25 ) فقالوا أبشرا منا . . . . .
وقرأ أبو السمال ، فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل ، وأبو عمرو والداني : برفعهما . فأبشر : مبتدأ ، وواحد صفته ، والخبر نتبعه . ونقل ابن خالويه ، وصاحب اللوامح ، وابن عطية رفع أبشر ونصب واحداً عن أبي السمال . قال صاحب اللوامح : فأما رفع أبشر فبإضمار الخبر بتقدير : أبشر منا يبعث إلينا ، أو يرسل ، أو نحوهما ؟ وأما انتصاب واحداً فعلى الحال ، إما مما قبله بتقدير : أبشر كائن منا في الحال توحده ، وإما مما بعده بمعنى : نتبعه في توحده ، أو في انفراده . وقال ابن عطية : ورفعه إما على إضمار فعل مبني للمفعول ، التقدير : أينبأ بشر ؟ وإما على الابتداء ، والخبر في قوله : ) نَّتَّبِعُهُ ( ، وواحداً على هذه القراءة حال إما من الضمير في نتبعه ، وإما من المقدر مع منا ، كأنه يقول : أبشر كائن منا واحداً ؟ وفي هذا نظر . وقولهم ذلك حسد منهم واستبعاد أن يكون نوع البشر يفضل بعضه بعضاً هذا الفضل ، فقالوا : نكون جمعاً ونتبع واحداً ، ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ويفيض نور الهدى على من رضيه . انتهى .
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف أنكروا أن يتبعوا بشراً منهم واحداً ؟ قلت : قالوا : أبشراً إنكاراً ؟ لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكونوا من جنس أعلى من جنس البشر ، وهم الملائكة ، وقالوا منا ، لأنه إذا كان منهم ، كانت المماثلة أقوى ، وقالوا واحداً إنكاراً ، لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً ، وأرادوا واحداً من أبنائهم ليس بأشرفهم ولا أفضلهم ، ويدل عليه . ) الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ ( : أي أأنزل عليه الوحي من بيننا ؟ وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة . انتهى ، وهو حسن ، على أن فيه تحميل اللفظ ما لا يحتمله . ) إِنَّا إِذَا ( : أي إن اتبعناه ، فنحن في ضلال : أي بعد عن الصواب وحيرة . وقال الضحاك : في تيه . وقال وهب : بعد عن الحق ، ( وَسُعُرٍ ( : أي عذاب ، قاله ابن عباس . وعنه وجنون يقال : ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة ، وقال الشاعر : كأن بها سعراً إذا العيس هزها
زميل وإزجاء من السير متعب
وقال قتادة : وسعر : عناء . وقال ابن بحر : وسعر جمع سعير ، وهو وقود النار ، أي في في خطر كمن هو في النار . انتهى . وروي أنه كان يقول لهم : إن لم تتبعوني ، كنتم في ضلال عن الحق وسعر : أي نيران ، فعكسوا عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذاً كما تقول . ثم زادوا في الإنكار والاستبعاد فقالوا : ) أَءلْقِىَ ( : أي أأنزل ؟ قيل : وكأنه يتضمن العجلة في الفعل ، والعرب تستعمل هذا الفعل ، ومنه : ) وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى ( ، ( إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ). والذكر هنا : الوحي والرسالة وما جاءهم من الحكمة والموعظة . ثم قالوا : ليس الأمر كما تزعم بل هو القرآن . ) أَشِرٌ ( : أي بطر ،

" صفحة رقم 179 "
يريد العلوّ علينا ، وأن يقتادنا ويتملك طاعتنا . وقرأ قتادة وأبو قلابة : بل هو الكذاب الأشر ، بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشد الراء ، وكذا الأشر الحرف الثاني . وقرأ الحرف الثاني مجاهد ، فيما ذكر صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي الأشر بثلاث ضمات وتخفيف الراء . ويقال : أشر وأشر ، كحذر وحذر ، فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لضمة الشين . وحكى الكسائي عن مجاهد : ضم الشين . وقرأ أبو حيوة : هذا الحرف الآخر الأشر أفعل تفضيل ، وإتمام خير ، وشر في أفعل التفضيل قليل . وحكى ابن الأنباري أن العرب تقول : هو أخير وهو أشر . قال الراجز .
بلال خير الناس وابن الأخير
وقال أبو حاتم : لا تكاد العرب تتكلم بالأخير والأشر إلا في ضرورة الشعر ، وأنشد قول رؤبة بلال البيت .
القمر : ( 26 ) سيعلمون غدا من . . . . .
وقرأ علي والجمهور : سيعلمون بياء الغيبة ، وهو من إعلام الله تعالى لصالح عليه السلام ؛ وابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش : بتاء الخطاب : أي قل لهم يا صالح وعداً يراد به الزمان المستقبل ، لا اليوم الذي يلي يوم خطابهم ، فاحتمل أن يكون يوم العذاب الحال بهم في الدنيا ، وأن يكون يوم القيامة ، وقال الطرماح : ألا عللاني قبل نوح النوائح
وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي في غد
إذا راح أصحابي ولست برائح
أراد وقت الموت ، ولم يرد غداً بعينه . وفي قوله : ) سَيَعْلَمُونَ غَداً ( تهديد ووعيد ببيان انكشاف الأمر ، والمعنى : أنهم هم الكذابون الأشرون . وأورد ذلك مورد الإبهام والاحتمال ، وإن كانوا هم المعنيين بقوله تعالى ، حكاية عن قول نوح عليه الصلاة والسلام : ) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ( ، والمعنى به قومه ، وكذا قول شعيب عليه السلام : ) سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ( ؛ وقول الشاعر : فلئن لقيتك خاليين لتعلمن
أني وأيك فارس الأحزاب
وإنما عنى أنه فارس الأحزاب ، لا الذي خاطبه .
القمر : ( 27 ) إنا مرسلو الناقة . . . . .
( إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ ( : أي ابتلاء واختباراً ، وآنس بذلك صالحاً . ولما هددهم بقوله : ) سَيَعْلَمُونَ غَداً ( ، وكانوا قد ادعوا أنه كاذب ، قالوا : ما الدليل على صدقك ؟ قال الله تعالى : ) إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ ( : أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها . ) فَارْتَقِبْهُمْ ( : أي فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون ، ( وَاصْطَبِرْ ( على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله .
القمر : ( 28 ) ونبئهم أن الماء . . . . .
( وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء ( : أي ماء البئر الذي لهم ، ( قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ( : أي بين ثمود وبين الناقة غلب ثمود ، فالضمير في بينهم لهم وللناقة . أي لهم شرب يوم ، وللناقة شرب يوم . وقرأ الجمهور : قسمة بكسر القاف ؛ ومعاذ عن أبي عمرو : بفتحها . ) كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ( أي محضور لهم وللناقة . وتقدمت قصة الناقة مستوفاة ، فأغنى عن إعادتها ، وهنا محذوف ، أي فكانوا على هذه الوتيرة من قسمة الماء ، فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة .
القمر : ( 29 ) فنادوا صاحبهم فتعاطى . . . . .
( فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ ( ، وهو قدار بن سالف ، ( فَتَعَاطَى ( : هو مطاوع عاطى ، وكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضاً ، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده . ولما كانوا راضين ، نسب ذلك إليهم في قوله : ) فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ ( ، وفي قوله : ) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ).
القمر : ( 31 ) إنا أرسلنا عليهم . . . . .
والصيحة التي أرسلت عليهم .
يروي أن جبريل عليه السلام صاح في طرف منازلهم ، فتفتتوا وهمدوا

" صفحة رقم 180 "
وصاروا ) كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ( وهو ما تفتت وتهضم من الشجر . والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة ، فإنه تتفتت منه حالة العمل وتتساقط أجزاء مما يعمل به ، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان ، تطأه البهائم فيتهشم . وقرأ الجمهور : بكسر الظاء ؛ وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وأبو عمرو بن عبيد : بفتحها ، وهو موضع الاحتظار . وقيل : هو مصدر ، أي كهشيم الاحتظار ، وهو ما تفتت حالة الاحتظار . والحظيرة تصنعها العرب وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب . والخظر : المنع ؛ وعن ابن عباس وقتادة ، أن المحتظر هو المحترق . قال قتادة : كهشيم محترق ؛ وعن ابن جبير : هو التراب الذي يسقط من الحائط البالي . وقيل : المحتظر بفتح الظاء هو الهشيم نفسه ، فيكون من إضافة الموصوف إلى صفته ، كمسجد الجامع على من تأوله كذلك ، وكان هنا قيل : بمعنى صار .
قوله عز وجل : ) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ الَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ).
القمر : ( 33 - 34 ) كذبت قوم لوط . . . . .
تقدمت قصة لوط عليه السلام وقومه . والحاصب من الحصباء ، وهو المعنيّ بقوله تعالى : ) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ ). ) إِلا ءالَ لُوطٍ ( ، قيل : إلا ابنتاه ، و ) بِسَحَرٍ ( : هو بكرة ، فلذلك صرف ،
القمر : ( 35 ) نعمة من عندنا . . . . .
وانتصب ) نِعْمَتَ ( على أنه مفعول من أجله ، أي نجيناهم لإنعامنا عليهم أو على المصدر ، لأن المعنى : أنعمنا بالتنجية إنعاماً . ) كَذالِكَ نَجْزِى ( : أي مثل ذلك الإنعام والتنجية نجزي ) مَن شَكَرَ ( إنعامنا وأطاع وآمن .
القمر : ( 36 ) ولقد أنذرهم بطشتنا . . . . .
( وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا ( : أي أخذتنا لهم بالعذاب ، ( فَتَمَارَوْاْ ( : أي تشككوا وتعاطوا ذلك ، ( بِالنُّذُرِ ( : أي بالإنذار ، أو يكون جمع نذير .
القمر : ( 37 ) ولقد راودوه عن . . . . .
( فَطَمَسْنَا ( ، قال قتادة : الطمس حقيقة جر جبريل عليه السلام على أعينهم جناحه ، فاستوت مع وجوههم . وقال أبو عبيدة : مطموسة بجلد كالوجه . قيل : لما صفقهم جبريل عليه السلام بجناحه ، تركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب ، حتى أخرجهم لوط عليه السلام . وقال ابن عباس والضحاك : هذه استعارة ، وإنما حجب إدراكهم ، فدخلوا المنزل ولم يروا شيئاً ، فجعل ذلك كالطمس . وقرأ الجمهور : فطمسنا بتخفيف الميم ؛ وابن مقسم : بتشديدها . ) فَذُوقُواْ ( : أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا .
القمر : ( 38 ) ولقد صبحهم بكرة . . . . .
( وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً ( : أي أول النهار وباكره ، لقوله : ) مُشْرِقِينَ ( و ) مُّصْبِحِينَ ). وقرأ الجمهور : بكرة بالتنوين ، أراد بكرة من البكر ، فصرف . وقرأ زيد بن علي : بغير تنوين . ) عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ ( : أي لم يكشفه عنهم كاشف ، بل اتصل بموتهم ، ثم بما بعد ذلك من عذاب القبر ، ثم عذاب جهنم .
القمر : ( 39 ) فذوقوا عذابي ونذر
) فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ ( : توكيد وتوبيخ ذلك عند الطمس ، وهذا عند تصبيح العذاب . قيل : وفائدة تكرار هذا ، وتكرار
القمر : ( 40 ) ولقد يسرنا القرآن . . . . .
( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ( ، التجرد عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ، للاتعاظ واستئناف التيقظ إذا سمعوا الحث على ذلك لئلا تستولي عليهم الغفلة ، وهكذا حكم التكرير لقوله : ) فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( عند كل نعمة عدها في سورة الرحمن . وقوله : ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ( عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات ، وكذلك تكرير القصص في أنفسها ، لتكون العبرة حاضرة للقلوب ، مذكورة في كل أوان .
القمر : ( 41 ) ولقد جاء آل . . . . .
( وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ( : هم موسى

" صفحة رقم 181 "
وهارون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون ، أو يكون جمع نذير المصدر بمعنى الإنذار .
القمر : ( 42 ) كذبوا بآياتنا كلها . . . . .
( كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( هي التسع ، والتوكيد هنا كهو في قوله : ) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءايَاتِنَا كُلَّهَا ). والظاهر أن الضمير في : ) كَذَّبُواْ ( ، وفي : ) فَأَخَذْنَاهُمْ ( عائد على آل فرعون . وقيل : هو عائد على جميع من تقدم من الأمم ذكره ، وتم الكلام عند قوله : ) النُّذُرُ ). ) فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ ( : لا يغالب ، ( مُّقْتَدِرٍ ( : لا يعجز شيء .
القمر : ( 43 ) أكفاركم خير من . . . . .
( أَكُفَّارُكُمْ ( : خطاب لأهل مكة ، ( خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ ( : الإشارة إلى قوم نوح وهود وصالح ولوط ، وإلى فرعون ، والمعنى : أهم خير في القوّة وآلات الحروب والمكانة في الدنيا ، أو أقل كفؤاً وعناداً ؟ فلأجل كونهم خيراً لا يعاقبون على الكفر بالله ، وقفهم على توبيخهم ، أي ليس كفاركم خيراً من أولئكم ، بل هم مثلهم أو شرّ منهم ، وقد علمتم ما لحق أولئك من الهلاك المستأصل لما كذبوا الرسل . ) أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزُّبُرِ ( : أي ألكم في الكتب الإلهية براءة من عذاب الله تعالى ؟ قاله الضحاك وعكرمة وابن زيد .
القمر : ( 44 ) أم يقولون نحن . . . . .
( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ ( أي واثقون بجماعتنا ، منتصرون بقوتنا ، تقولون ذلك على سبيل الإعجاب بأنفسكم . وقرأ الجمهور : أم يقولون ، بياء الغيبة التفاتاً ، وكذا ما بعده للغائب . وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهشيم : بتاء الخطاب للكفار ، اتباعا لما تقدم من خطابهم .
القمر : ( 45 ) سيهزم الجمع ويولون . . . . .
وقرأوا : ستهزم الجمع ، بفتح التاء وكسر الزاي وفتح العين ، خطاباً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ وأبو حيوة أيضاً ويعقوب : بالنون مفتوحة وكسر الزاي وفتح العين ؛ والجمهور : بالياء مبنياً للمفعول ، وضم العين . وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة أيضاً : بفتح الياء مبنياً للفاعل ونصب العين : أي سيهزم الله الجمع . والجمهور : ) وَيُوَلُّونَ ( بياء الغيبة ؛ وأبو حيوة وداود بن أبي سالم ، عن أبي عمرو : بتاء الخطاب . والدبر هنا : اسم جنس ، وجاء في موضع آخر ) لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ( ، وهو الأصل ، وحسن اسم الجنس هنا كونه فاصلة . وقال الزمخشري : ) وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( : أي الأدبار ، كما قال : كلوا في بعض بطنكم تعفوا . وقرىء : الأدبار . انتهى ، وليس مثل بطنكم ، لأن مجيء الدبر مفرداً ليس بحسن ، ولا يحسن لإفراد بطنكم . وفي قوله تعالى : ) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ( عدة من الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بهزيمة جمع قريش ؛ والجمهور : على أنها مكية ، وتلاها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مستشهداً بها . وقيل : نزلت يوم بدر .
القمر : ( 46 ) بل الساعة موعدهم . . . . .
( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ( : انتقل من تلك الأقوال إلى أمر الساعة التى عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتال . ) وَالسَّاعَةُ أَدْهَى ( : أي أفظع وأشد ، والداهية الأمر : المنكر الذي لا يهتدى لدفعه ، وهي الرزية العظمى تحل بالشخص . ) وَأَمَرُّ ( من المرارة : استعارة لصعوبة الشيء على النفس .
القمر : ( 47 ) إن المجرمين في . . . . .
( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ ( : أي في حيرة وتخبط في الدنيا . ) وَسُعُرٍ ( : أي احتراق في الآخرة ، جعلوا فيه من حيث مصيرهم إليه . وقال ابن عباس : وخسران وجنون ، والسعر : الجنون ، وتقدم مثله في قصة صالح عليه السلام .
القمر : ( 48 ) يوم يسحبون في . . . . .
( يَوْمَ يُسْحَبُونَ ( : يجرون ) فِى النَّارِ ( ، وفي قراءة عبد الله : إلى النار . ) عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ ( : أي مقولاً لهم : ) ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ). وقرأ محبوب عن أبي عمرو : مسقر ، بإدغام السين في السين . قال ابن مجاهد : إدغامه خطأ لأنه مشدد . انتهى . والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ، ثم أدغم .
القمر : ( 49 ) إنا كل شيء . . . . .
( إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( ، قراءة الجمهور : كل شيء بالنصب . وقرأ أبو السمال ، قال ابن عطية وقوم من أهل السنة : بالرفع . قال أبو الفتح : هو الوجه في العربية ، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة . وقال قوم : إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف ، وأن ما بعده يصلح للخبر ، وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر ، اختير النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف ، ومنه هذا الموضع ، لأن في قراءة الرفع يتخيل أن الفعل وصف ، وأن الخبر يقدر . فقد

" صفحة رقم 182 "
تنازع أهل السنة والقدرية الاستدلال بهذه الآية . فأهل السنة يقولون : كل شيء فهو مخلوق لله تعالى بقدرة دليله قراءة النصب ، لأنه لا يفسر في مثل هذا التركيب إلا ما يصح أن يكون خبراً لو وقع الأول على الابتداء . وقالت القدرية : القراءة برفع كل ، وخلقناه في موضع الصفة لكل ، أي إن أمرنا أو شأننا كل شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار ، على حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك . وقال الزمخشري : ) كُلّ شَىْء ( منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر . وقرىء : كل شيء بالرفع ، والقدر والقدر هو التقدير . وقرىء : بهما ، أي خلقنا كل شيء مقدراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة ، أو مقدراً مكتوباً في اللوح ، معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه . انتهى . قيل : والقدر فيه وجوه : أحدها : أن يكون بمعنى المقدار في ذاته وصفاته . والثاني : التقدير ، قال تعالى : ) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ). وقال الشاعر :
وما قدّر الرحمن ما هو قادر
أي ما هو مقدور . والثالث : القدر الذي يقال مع القضاء ، يقال : كان ذلك بقضاء الله وقدره ، والمعنى : أن القضاء ما في العلم ، والقدر ما في الإرادة ، فالمعنى في الآية : ) خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( : أي بقدرة مع إرادة . انتهى .
القمر : ( 50 ) وما أمرنا إلا . . . . .
( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَةٌ ( : أي إلا كلمة واحدة وهي : كن كلمح بالبصر ، تشبيه بأعجل ما يحس ، وفي أشياء أمر الله تعالى أوحي من ذلك ، والمعنى : أنه إذا أراد تكوين شيء لم يتأخر عن إرادته .
القمر : ( 51 ) ولقد أهلكنا أشياعكم . . . . .
( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ ( : أي الفرق المتشايعة في مذهب ودين .
القمر : ( 52 ) وكل شيء فعلوه . . . . .
( وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ ( : أي فعلته الأمم المكذبة ، محفوظ عليهم إلى يوم القيامة ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد . ومعنى ) فِى الزُّبُرِ ( : في دواوين الحفظة .
القمر : ( 53 ) وكل صغير وكبير . . . . .
( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ( من الأعمال ، ومن كل ما هو كائن ، ( مُّسْتَطَرٌ ( : أي مسطور في اللوح . يقال : سطرت واستطرت بمعنى . وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وعصمة عن أبي بكر : بشد راء مستطر . قال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون من طرّ النبات ، والشارب إذا ظهر وثبت بمعنى : كل شيء ظاهر في اللوح مثبت فيه . ويجوز أن يكون من الاستطار ، لكن شدّد الراء للوقف على لغة من يقول : جعفرّ ونفعلّ بالتشديد وقفاً . انتهى ، ووزنه على التوجيه الأول استفعل ، وعلى الثاني افتعل .
القمر : ( 54 ) إن المتقين في . . . . .
وقرأ الجمهور : ونهر على الإفراد ، والهاء مفتوحة ؛ والأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان : بسكونها ، والمراد به الجنس ، إن أريد به الأنهار ، أو يكون معنى ونهر : وسعة في الأرزاق والمنازل ، ومنه قول قيس بن الحطيم : ملكت بها كفي فأنهرت فتقها
يرى قائم من دونها ما وراءها
أي : أوسعت فتقها . وقرأ زهير العرقبي والأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني : بضم النون والهاء ، جمع نهر ، كرهن ورهن ، أو نهر كأسد وأسد ، وهو مناسب لجمع جنات . وقيل : نهر جمع نهار ، ولا ليل في الجنة ، وهو بعيد
القمر : ( 55 ) في مقعد صدق . . . . .
. ) فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ( : يجوز أن يكون ضد الكذب ، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به ، وأن يكون من قولك : رجل صدق : أي خير وجود وصلاح . وقرأ الجمهور : في مقعد ، على الإفراد ، يراد به اسم الجنس ؛ وعثمان البتي : في مقاعد على الجمع ؛ وعند تدل على قرب المكانة من الله تعالى ، والله تعالى أعلم .

" صفحة رقم 183 "
55
( سورة الرحمن )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ وَالاٌّ رْضَ وَضَعَهَا لِلاٌّ نَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاٌّ كْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَىِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالاٌّ عْلَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاٌّ قْدَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَىِّ ءَالا

" صفحة رقم 184 "
1764 ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَآمَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَىءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ } )
الرحمن : ( 1 - 2 ) الرحمن
النجم : النبات الذي لا ساق له ، من نجم : أي ظهر وطلع . الأنام : الحيوان . العصف : ورق الزرع . الريحان : كل مشموم طيب الريح من النبات . المرجان : الخرز الأحمر ، وقيل : صغار الدر ، واللؤلؤ كباره ، واللؤلؤ بناء غريب . قيل : لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة ؛ اللؤلؤ ، والجؤجؤ ، والدؤدؤ ، واليؤيؤ طائر ، والبؤبؤ . والنفوذ : الخروج من الشيء بسرعة . الشواظ : اللهب الخالص بغير دخان . وقال حسان : هجوتك فاختضعت لها بذل
بقافية تأجج كالشواظ
وقال رؤبة :
ونار حرب تسعر الشواظا
وتضم شينه وتكسر . النحاس ، قال الخليل : والنحاس هو الدخان الذي لا لهب له ، وهو معروف في كلام العرب . قال نابغة بني جعدة : تضيء كضوء سراج السليط
لم يجعل الله فيه نحاساً
وقال الكسائي : النحاس هو النار الذي له ريح شديد ، وقيل : الصفر المذاب ، وتضم نونه وتكسر . الوردة : الشديدة الحمرة ، يقال : فرد ورد ، وحجرة وردة . الدهان : الجلد الأحمر . أنشد القاضي منذر بن سعد ، رحمه الله : تبعن الدهان الحمر كل عشية
بموسم بدر أو بسوق عكاظ

" صفحة رقم 185 "
الناصية : مقدم الرأس . آن : نهاية في الحر . الأفنان ، جمع فنن : وهو الغصن ، أو جمع فن : وهو النوع . قال الشاعر : ومن كل أفنان اللذاذة والصبى
لهوت به والعيش أخضر ناضر
وقال نابغة بني ذبيان : بكاء حمامة تدعو هديلا
مفجعة على فنن تغني
الجني : ما يقطف من الثمرة ، وهو فعل بمعنى مفعول ، كالقبض بمعنى مقبوض . قاصرات الطرف : قصرت ألحاظهن على أزواجهنّ . قال الشاعر : من القاصرات الطرف لو دب محول
من الذر فوق الأثب منها لأثرا
الطمث : دم الحيض ودم الافتضاض . الياقوت : حجر معروف ، وقيل : لا تؤثر فيه النار ، قال الشاعر : وطالما أصلى الياقوت جمر غضى
ثم انطفى الجمر والياقوت ياقوت
الادهمام : السواد . النضح : فوران الماء . المقصورة : المحبوسة ، ويقال : قصيرة وقصورة : أي مخدرة . وقال كثير : وأنت التي حببت كل قصيرة
إليّ ولم تشعر بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد
قصار الخطا شر النساء البحاتر
الخيمة معروفة ، وهي بيت المرتحل من خشب وتمام وسائر الحشيش ، وإذا كان من شعر فهو بيت ، ولا يقال له خيمة ، ويجمع على خيام وخيم . قال جرير : متى كان الخيام بذي طلوح
سقيت الغيث أيتها الخيام
الرفرف : ما يدلى من الأسرة من غالي الثياب . وقال الجوهري : ثياب خضر تتخذ منها المجالس ، الواحدة رفرفة ، واشتقاقه من رف إذا ارتفع ، ومنه رفرفة الطائر لتحريك جناحيه وارتفاعه في الهواء ، وسمي الطائر رفرافاً ، ورفرف جناحيه : حركهما ليقع على الشيء ، ورفرف السحاب : هسد به . العبقري : منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنه بلد الجن ، فينسبون إليه كل شيء عجيب . قال زهير :

" صفحة رقم 186 "
بخيل عليها جنة عبقرية
جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا
وقال امرؤ القيس : كأن صليل المرء حين يشذه
صليل زيوف ينتقدن بعبقرا
وقال ذو الرمة : حي كأن رياض العف ألبسها
من وشي عبقر تحليل وتنجيد
وقال الخليل : العبقري : كل جليل نفيس من الرجال والنساء وغيرهم . الجلال : العظمة . قال الشاعر : خبر ما قد جاءنا مستعمل
جل حتى دق فيه الأجل
) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ وَالاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاْكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ).
هذه السورة مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول ابن مسعود . وعن ابن عباس : القولان ، وعنه : سوى آية هي مدنية ، وهي : ) يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الآية . وسبب نزولها فيما قال مقاتل : أنه لما نزل ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ ( الآية ، قالوا : ما نعرف الرحمن ، فنزلت : ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ). وقيل : لما قالوا ) إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ ( ، أكذبهم الله تعالى وقال : ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ). وقيل : مدنية نزلت ، إذ أبى سهيل بن عمرو وغيره أن يكتب في الصلح : ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ).
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما ذكر مقر المتقين في جنات ونهر عند مليك مقتدر ، ذكر شيئاً من آيات الملك وآثار القدرة ، ثم ذكر مقر الفريقين على جهة الإسهاب ، إذ كان في آخر السورة ذكره على جهة الاختصار والإيجاز . ولما ذكر قوله : ) عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( ، فأبرز هاتين الصفتين بصورة التنكير ، فكأنه قيل : من المتصف بذلك ؟ فقال : ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( ، فذكر ما نشأ عن صفة الرحمة ، وهو تعلى م القرآن الذي هو شفاء للقلوب . والظاهر أن ) الرَّحْمَنُ ( مرفوع على الابتداء ، ( وَعَلَّمَ الْقُرْءانَ ( خبره . وقيل : ) الرَّحْمَنُ ( آية بمضمر ، أي الله الرحمن ، أو الرحمن ربنا ، وذلك آية ؛ و ) عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( استئناف إخبار . ولما عدّد نعمه تعالى ، بدأ من نعمه بما هو أعلى رتبها ، وهو تعليم القرآن ، إذ هو عماد الدين ونجاة من استمسك به .
الرحمن : ( 3 - 4 ) خلق الإنسان
ولما ذكر تعليم القرآن

" صفحة رقم 187 "
ولم يذكر المعلم ، ذكره بعد في قوله : ) خَلَقَ الإِنسَانَ ( ، ليعلم أنه المقصود بالتعليم . ولما كان خلقه من أجل الدين وتعليمه القرآن ، كان كالسبب في خلقه تقدّم على خلقه . ثم ذكر تعالى الوصف الذي يتميز به الإنسان من المنطق المفصح عن الضمير ، والذي به يمكن قبول التعليم ، وهو البيان . ألا ترى أن الأخرس لا يمكن أن يتعلم شيئاً مما يدرك بالنطق ؟ وعلم متعدّية إلى اثنين ، حذف أولهما لدلالة المعنى عليه ، وهو جبريل ، أو محمد عليهما الصلاة والسلام ، أو الإنسان ، أقوال . وتوهم أبو عبد الله الرازي أن المحذوف هو المفعول الثاني ، قال : فإن قيل : لم ترك المفعول الثاني ؟ وأجاب بأن النعمة في التعليم ، لا في تعليم شخص دون شخص ، كما يقال : فلان يطعم الطعام ، إشارة إلى كرمه ، ولا يبين من يطعمه . انتهى . والمفعول الأول هو الذي كان فاعلاً قبل النقل بالتضعيف أو الهمزة في علم وأطعم .
وأبعد من ذهب إلى أن معنى ) عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( : جعله علامة وآية يعتبر بها ، وهذه جمل مترادفة ، أخبار كلها عن الرحمن ، جعلت مستقلة لم تعطف ، إذ هي تعداد لنعمه تعالى . كما تقول : زيد أحسن إليك ، خوّلك : أشار بذكرك ، والإنسان اسم جنس . وقال قتادة الإنسان : آدم عليه السلام . وقال ابن كيسان : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن زيد والجمهور : ) البَيَانَ ( : المنطق ، والفهم : الإبانة ، وهو الذي فضل به الإنسان على سائر الحيوان . وقال قتادة : هو بيان الحلال والشرائع ، وهذا جزء من البيان العام . وقال محمد بن كعب : ما يقول وما يقال له . وقال الضحاك : الخير والشر . وقال ابن جريج : الهدى . وقال يمان : الكتابة . ومن قال : الإنسان آدم ، فالبيان أسماء كل شيء ، أو التكلم بلغات كثيرة أفضلها العربية ، أو الكلام بعد أن خلقه ، أو علم الدنيا والآخرة ، أو الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء ، أقوال ، آخرها منسوب لجعفر الصادق .
الرحمن : ( 5 ) الشمس والقمر بحسبان
ولما ذكر تعالى ما أنعم به على الإنسان من تعليمه البيان ، ذكر ما امتن به من وجود الشمس والقمر ، وما فيهما من المنافع العظيمة للإنسان ، إذ هما يجريان على حساب معلوم وتقدير سوي في بروجهما ومنازلهما . والحسبان مصدر كالغفران ، وهو بمعنى الحساب ، قاله قتادة . وقال الضحاك وأبو عبيدة : جمع حساب ، كشهاب وشهبان . قال ابن عباس وأبو مالك وقتادة : لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج ، وغير ذلك حسبانات شتى . وقال ابن زيد : لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً يريد من مقادير الزمان . وقال مجاهد : الحسبان : الفلك المستدير ، شبهه بحسبان الرحى ، وهو العود المستدير الذي باستدارته تستدير المطحنة . وارتفع الشمس على الابتداء وخبره بحسبان ، فأما على حذف ، أي جري الشمس والقمر كائن بحسبان . وقيل : الخبر محذوف ، أي يجريان بحسبان ، وبحسبان متعلق بيجريان ، وعلى قول مجاهد : تكون الباء في بحسبان ظرفية ، لأن الحسبان عنده الفلك .
الرحمن : ( 6 ) والنجم والشجر يسجدان
ولما ذكر تعالى ما أنعم به من منفعة الشمس والقمر ، وكان ذلك من الآيات العلوية ، ذكر في مقابلتهما من الآثار السفلية النجم والشجر ، إذ كانا رزقاً للإنسان ، وأخبر أنهما جاريان على ما أراد الله بهما ، من تسخيرهما وكينونتهما على ما اقتضته حكمته تعالى . ولما ذكر ما به حياة الأرواح من تعليم القرآن ، ذكر ما به حياة الأشباح من النبات الذي له ساق ، وكان تقديم النجم ، وهو مالا ساق له ، لأنه أصل القوت ، والذي له ساق ثمره يتفكه به غالباً . والظاهر أن النجم هو الذي شرحناه ، ويدل عليه اقترانه بالشجر . وقال مجاهد وقتادة والحسن : النجم : اسم الجنس من نجوم السماء . وسجودهما ، قال مجاهد والحسن : ذلك في النجم بالغروب ونحوه ، وفي الشجر بالظل واستدارته . وقال مجاهد أيضاً : والسجود تجوز ، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل . والجمل الأول فيها ضمير يربطها بالمبتدأ ، وأما في هاتين الجملتين فاكتفى بالوصل المعنوي عن الوصل اللفظي ، إذ معلوم أن الحسبان هو حسبانه ، وأن السجود له لا لغيره ، فكأنه قيل : بحسبانه ويسجدان له . ولما أوردت هذه الجمل

" صفحة رقم 188 "
مورد تعديد النعم ، رد الكلام إلى العطف في وصل ما يناسب وصله ، والتناسب الذي بين هاتين الجملتين ظاهر ، لأن الشمس والقمر علويان ، والنجم والشجر سفليان .
الرحمن : ( 7 ) والسماء رفعها ووضع . . . . .
( وَالسَّمَاء رَفَعَهَا ( : أي خلقها مرفوعة ، حيث جعلها مصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين ينزلون بالوحي على أنبيائه ، ونبه بذلك على عظم شأنه وملكه . وقرأ الجمهور : ) وَالسَّمَاء ( ، بالنصب على الاشتغال ، روعي مشاكلة الجملة التي تليه وهي ) يَسْجُدَانِ ). وقرأ أبو السمال : والسماء بالرفع ، راعى مشاكلة الجملة الابتدائية . وقرأ الجمهور : ) وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( ، فعلاً ماضياً ناصباً الميزان ، أي أقره وأثبته . وقرأ إبراهيم : ووضع الميزان ، بالخفض وإسكان الضاد . والظاهر أنه كل ما يوزن به الأشياء وتعرف مقاديرها ، وإن اختلفت الآلات ، قال معناه ابن عباس والحسن وقتادة ، جعله تعالى حاكماً بالسوية في الأخذ والإعطاء . وقال مجاهد والطبري والأكثرون : الميزان : العدل ، وتكون الآلات من بعض ما يندرج في العدل . بدأ أولاً بالعلم ، فذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن ؛ ثم ذكر ما به التعديل في الأمور ، وهو الميزان ، كقوله : ) وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ( ، ليعلموا الكتاب ويفعلوا ما يأمرهم به الكتاب .
الرحمن : ( 8 ) ألا تطغوا في . . . . .
( أَن لا تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ ( : أي لأن لا تطغوا ، فتطغوا منصوب بأن . وقال الزمخشري : أو هي أن المفسرة . وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون أن مفسرة ، فيكون تطغوا جزماً بالنهي . انتهى ، ولا يجوز ما قالاه من أن أن مفسرة ، لأنه فات أحد شرطيها ، وهو أن يكون ما قبلها جملة فيها معنى القول . ) وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( جملة ليس فيها معنى القول . والطغيان في الميزان هو أن يكون بالتعمد ، وأما مالا يقدر عليه من التحرير بالميزان فمعفو عنه .
الرحمن : ( 9 ) وأقيموا الوزن بالقسط . . . . .
ولما كانت التسوية مطلوبة جداً ، أمر الله تعالى فقال : ) وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ ). وقرأ الجمهور : ) وَلاَ تُخْسِرُواْ ( ، من أخسر : أي أفسد ونقص ، كقوله : ) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( ؛ أي ينقصون . وبلال بن أبي بردة وزيد بن علي : تخسر بفتح التاء ، يقال : خسر يخسر ، وأخسر يخسر بمعنى واحد ، كجبر وأجبر . وحكى ابن جني وصاحب اللوامح ، عن بلال : فتح التاء والسين مضارع خسر بكسر السين ، وخرجها الزمخشري على أن يكون التقدير : في الميزان ، فحذف الجار ونصب ، ولا يحتاج إلى هذا التخريج . ألا ترى أن خسر جاء متعدياً كقوله تعالى : ) خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ( ، و ) خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةَ ( ؟ وقرىء أيضاً : تخسروا ، بفتح التاء وضم السين . لما منع من الزيادة ، وهي الطغيان ، نهى عن الخسران الذي هو نقصان ، وكرر لفظ الميزان ، تشديداً للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه .
الرحمن : ( 10 ) والأرض وضعها للأنام
ولما ذكر السماء ، ذكر مقابلتها فقال : ) وَالاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ ( : أي خفضها مدحوة على الماء لينتفع بها . وقرأ الجمهور : والأرض بالنصب ؛ وأبو السمال : بالرفع . والأنام ، قال ابن عباس : بنو آدم فقط . وقال أيضاً هو وقتادة وابن زيد والشعبي : الحيوان كله . وقال الحسن : الثقلان ، الجن والإنس .
الرحمن : ( 11 ) فيها فاكهة والنخل . . . . .
( فِيهَا فَاكِهَةٌ ( : ضروب مما يتفكه به . وبدأ بقوله : ) فَاكِهَةٍ ( ، إذ هو من باب الابتداء بالأدنى والترقي إلى الأعلى ، ونكر لفظها ، لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما يذكر بعدها . ثم ثنى بالنخل ، فذكر الأصل ولم يذكر ثمرتها ، وهو الثمر لكثرة الانتفاع بها من ليف وسعف وجريد وجذوع وجمار وثمر .
الرحمن : ( 12 ) والحب ذو العصف . . . . .
ثم أتى ثالثاً بالحب الذي هو قوام عيش الإنسان في أكثر الأقاليم ، وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه ، ووصفه بقوله : ) ذُو الْعَصْفِ ( تنبيهاً على إنعامه عليهم بما يقوتهم من الحب ، ويقوت بهائمهم من ورقه الذي هو التبن . وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم ، وبينهما النخل والحب ، ليحصل ما به يتفكه ، وما به يتقوت ، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة . وذكر النخل باسمها ، والفاكهة دون شجرها ، لعظم المنفعة بالنخل من جهات متعددة ، وشجرة الفاكهة بالنسبة إلى ثمرتها حقيرة ، فنص على ما يعظم به الانتفاع من شجرة النخل ومن الفاكهة دون شجرتها .
وقرأ الجمهور : ) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ( ، برفع الثلاثة عطفاً على المرفوع قبله ؛ وابن عامر وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بنصب الثلاثة ، أي وخلق الحب . وجوزوا أن يكون ) وَالرَّيْحَانُ ( حالة الرفع وحالة النصب على

" صفحة رقم 189 "
حذف مضاف ، أي وذو الريحان حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ؛ وحمزة والكسائي والأصمعي ، عن أبي عمرو : والريحان بالجر ، والمعنى : والحب ذو العصف الذي هو علف البهائم ، والريحان الذي هو مطعم الناس ، ويبعد دخول المشموم في قراءة الجر ، وريحان من ذوات الواو . وأجاز أبو علي أن يكون اسماً ، ووضع موضع المصدر ، وأن يكون مصدراً على وزن فعلان كاللبان . وأبدلت الواو ياء ، كما أبدلوا الياء واواً في أشاوى ، أو مصدراً شاذاً في المعتل ، كما شذ كبنونة وبينونة ، فأصله ريوحان ، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصار ريحان ، ثم حذفت عين الكلمة ، كما قالوا : ميت وهين .
الرحمن : ( 13 ) فبأي آلاء ربكما . . . . .
ولما عدد تعالى نعمه ، خاطب الثقلين بقوله : ) فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( ، أي أن نعمه كثيرة لا تحصى ، فبأيها تكذبان ؟ أي من هذه نعمه لا يمكن أن يكذب بها . وكان هذا الخطاب للثقلين ، لأنهما داخلان في الأنام على أصح الأقوال . ولقوله : ) خَلَقَ الإِنسَانَ ( ، و ) خُلِقَ الْجَانَّ ( ؛ ولقوله : ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ ( ، وقد أبعد من جعله خطاباً للذكر والأنثى من بني آدم . وأبعد من هذا قول من قال : إنه خطاب على حد قوله : ) أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ ( ، ويا حرسيّ اضربا عنقه ، يعني أنه خطاب للواحد بصورة الاثنين ، فبأي منوناً في جميع السورة ، كأنه حذف منه المضاف إليه وأبدل منه ) رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( بدل معرفة من نكرة ، وآلاء تقدم في الأعراف أنها النعم ، واحدها إلى وألا وإلى وألى .
الرحمن : ( 14 - 15 ) خلق الإنسان من . . . . .
( خَلَقَ الإِنسَانَ ( : لما ذكر العالم الأكبر من السماء والأرض وما أوجد فيها من النعم ، ذكر مبدأ من خلقت له هذه النعم ، والإنسان هو آدم ، وهو قول الجمهور . وقيل : للجنس ، وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق من الصلصال . وإذا أريد بالإنسان آدم ، فقد جاءت غايات له مختلفة ، وذلك بتنقل أصله ؛ فكان أولاً تراباً ، ثم طيناً ، ثم حمأ مسنوناً ، ثم صلصالاً ، فناسب أن ينسب خلقه لكل واحد منها . والجان هو أبو الجن ، وهو إبليس ، قاله الحسن . وقال مجاهد : هو أبو الجن ، وليس بإبليس . وقيل : الجان اسم جنس ، والمارج : ما اختلط من أصفر وأحمر وأخضر ، أو اللهب ، أو الخالص ، أو الحمرة في طرف النار ، أو المختلط بسواد ، أو المضطرب بلا دخان ، أقوال ، ومن الأولى لابتداء الغاية ، والثانية في ) مّن نَّارٍ ( للتبعيض . وقيل للبيان والتكرار في هذه الفواصل : للتأكيد والتنبيه والتحريك ، وهي موجودة في مواضع من القرآن . وذهب قوم منهم ابن قتيبة إلى أن هذا التكرار إنما هو لاختلاف النعم ، فكرر التوقيف في كل واحد منها .
الرحمن : ( 16 - 17 ) فبأي آلاء ربكما . . . . .
وقرأ الجمهور : ) رَبّ ( ، و ) رَبّ ( بالرفع ، أي هو رب ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بالخفض بدلاً من ربكما ، وثنى المضاف إليه لأنهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما ، قاله مجاهد . وقيل : مشرقا الشمس والقمر ومغرباهما . وعن ابن عباس : للشمس مشرق في الصيف مصعد ، ومشرق في الشتاء منحدر ، تنتقل فيهما مصعدة ومنحدرة . انتهى . فالمشرقان والمغربان للشمس . وقيل : المشرقان : مطلع الفجر ومطلع الشمس ، والمغربان مغرب الشفق ومغرب الشمس . ولسهل التستري كلام في المشرقين والمغربين شبيه بكلام الباطنية المحرفين مدلول كلام الله ، ضربنا عن ذكره صفحاً . وكذلك ما وقفنا عليه من كلام الغلاة الذين ينسبون للصوفية ، لأنا لا نستحل نقل شيء منه . وقد أولغ صاحب كتاب التحرير والتحبير بحسب ما قاله هؤلاء الغلاة في كل آية آية ، ويسمي ذلك الحقائق ، وأرباب القلوب وما ادعوا فهمه في القرآن فأغلوا فيه ، لم يفهمه عربي قط ، ولا أراده الله تعالى بتلك الألفاظ ، نعوذ بالله من ذلك .
الرحمن : ( 19 - 20 ) مرج البحرين يلتقيان
مرج البحرين : تقدم الكلام على ذلك في الفرقان . قال ابن عطية : وذكر الثعلبي في مرج البحرين ألغازاً وأقوالاً باطنة لا يلتفت إلى شيء منها . انتهى ، والظاهر التقاؤهما ، أي يتجاوزان ، فلا فصل بين الماءين في رؤية العين . وقيل : يلتقيان في كل سنة مرة . وقيل : معدان للالتقاء ، فحقهما أن يلتقيا لولا البرزخ بينهما . ) بَرْزَخٌ ( : أي حاجز من قدرة الله تعالى ، ( لاَّ يَبْغِيَانِ ( : لا يتجاوزان حدهما ، ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممارجة . وقيل : البرزخ : أجرام الأرض ، قاله قتادة ؛ وقيل : لا يبغيان : أي على الناس والعمران ، وعلى هذا والذي قبله يكون من البغي . وقيل : هو من بغى ، أي طلب ، فالمعنى : لا يبغيان حالاً غير الحال التي خلقا عليها

" صفحة رقم 190 "
وسخرا لها . وقيل : ماء الأنهار لا يختلط بالماء الملح ، بل هو بذاته باق فيه . وقال ابن عطية : والعيان لا يقتضيه . انتهى ، يعني أنه يشاهد الماء العذب يختلط بالملح فيبقي كله ملحاً ، وقد يقال : إنه بالاختلاط تتغير أجرام العذب حتى لا تظهر ، فإذا ذاق الإنسان من الملح المنبث فيه تلك الأجزاء الدقيقة لم يحس إلا الملوحة ، والمعقول يشهد بذلك ، لأن تداخل الأجسام غير ممكن ، لكن التفرق والالتقاء ممكن . وأنشد القاضي منذر بن سعيد البلوطي ، رحمه الله تعالى : وممزوجة الأمواه لا العذب غالب
على الملح طيباً لا ولا الملح يعذب
الرحمن : ( 22 ) يخرج منهما اللؤلؤ . . . . .
وقرأ الجمهور : ) يَخْرُجُ ( مبنياً للفاعل ؛ ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة : مبنياً للمفعول ؛ والجعفي ، عن أبي عمرو : بالياء مضمومة وكسر الراء ، أي يخرج الله ؛ وعنه وعن أبي عمرو ، وعن ابن مقسم : بالنون . واللؤلؤ والمرجان نصب في هاتين القراءتين . والظاهر في ) مِنْهُمَا ( أن ذلك يخرج من الملح والعذب . وقال بذلك قوم ، حكاه الأخفش . ورد الناس هذا القول ، قالوا : والحس يخالفه ، إذ لا يخرج إلا من الملح ، وعابوا قول الشاعر : فجاء بها ما شئت من لطيمة
على وجهها ماء الفرات يموج
وقال الجمهور : إنما يخرج من الأجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة ، فناسب إسناد ذلك إليهما ، وهذا مشهور عند الغواصين . وقال ابن عباس وعكرمة : تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر ، لأن الصدف وغيرها تفتح أفواهها للمطر ، فلذلك قال ) مِنْهُمَا ). وقال أبو عبيدة : إنما يخرج من الملح ، لكنه قال ) مِنْهُمَا ( تجوزاً . وقال الرماني : العذب فيها كاللقاح للملح ، فهو كما يقال ؛ الولد يخرج من الذكر والأنثى . وقال ابن عطية ، وتبع الزجاج من حيث هما نوع واحد ، فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما ، وإن كانت تختص عند التفصيل المبالغ بأحدهما ، كما قال : ) سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ( ، وإنما هو في إحداهن ، وهي الدنيا إلى الأرض . وقال الزمخشري نحواً من قول ابن عطية ، قال : فإن قلت : لم قال ) مِنْهُمَا ( ، وإنما يخرجان من الملح قلت : لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ، جاز أن يقال : يخرجان منهما ، كما يقال : يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميع البحر ، ولكن من بعضه . وتقول : خرجت من البلد ، وإنما خرجت من محلة من محالة ، بل من دار واحدة من دوره . وقيل : لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب . انتهى . وقال أبو علي الفارسي : هذا من باب حذف المضاف ، والتقدير : يخرج من أحدهما ، كقوله تعالى : ) عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( : أي من إحدى القريتين . وقيل : هما بحران ، يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان . وقال أبو عبد الله الرازي : كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس ، ومن أعلم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب ، وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من المالح . ولكن لم قلتم إن الصدف لا يخرج بأمر الله من الماء العذب إلى الماء الملح وكيف يمكن الجزم به والأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد ، فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم ؟ واللؤلؤ ، قال ابن عباس والضحاك وقتادة : كبار الجوهر ؛ والمرجان صغاره . وعن ابن عباس أيضاً ، وعلي ومرة الهمداني عكس هذا . وقال أبو عبد الله وأبو مالك : المرجان : الحجر الأحمر . وقال الزجاج : حجر شديد البياض . وحكي القاضي أبو يعلى أنه ضرب من اللؤلؤ ، كالقضبان ، والمرجان : اسم أعجميّ معرب . قال ابن دريد : لم أسمع فيه نقل متصرف ، وقال الأعشى : من كل مرجانة في البحر أحرزها
تيارها ووقاها طينها الصدف

" صفحة رقم 191 "
قيل : أراد اللؤلؤة الكبيرة . وقرأ طلحة : اللؤلؤ بكسر اللام الثالثة ، وهي لغة . وعبد اللولي : تقلب الهمزة المتطرفة ياء ساكنة بعد كسرة ما قبلها ، وهي لغة ، قاله أبو الفضل الرازي .
الرحمن : ( 24 ) وله الجوار المنشآت . . . . .
( وَلَهُ الجوار ( : خص تعالى الجواري بأنها له ، وهو تعالى له ملك السموات والأرض وما فيهن ، لأنهم لما كانوا هم منشئيها ، أسندها تعالى إليه ، إذ كان تمام منفعتها إنما هو منه تعالى ، فهو في الحقيقة مالكها . والجواري : السفن . وقرأ عبد الله والحسن وعبد الوارث ، عن أبي عمرو : بضم الراء ، كما قالوا في شاك شاك . وقرأ الجمهور ؛ ) المنشآت ( بفتح الشين ، اسم مفعول : أي أنشأها الله ، أو الناس ، أو المرفوعات الشراع . وقال مجاهد : ما له شراع من المنشآت ، وما لم يرفع له شراع ، فليس من المنشآت . والشراع : القلع . والأعمش وحمزة وزيد بن علي وطلحة وأبو بكر : بخلاف عنه ، بكسر الشين : أي الرافعات الشراع ، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن ، أو التي تنشىء السفر إقبالاً وإدباراً . وشدد الشين ابن أبي عبلة والحسن المنشأة ، وحد الصفة ، ودل على الجمع الموصوف ، كقوله : ) فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَةٌ ( ، وقلب الهمزة ألفاً على حد قوله :
إن السباع لتهدي في مرابضها
يريد : لتهدأ ، التاء لتأنيث الصفة ، كتبت تاء على لفظها في الوصل . ) كَالاْعْلَامِ ( : أي كالجبال والآكام ، وهذا يدل على كبر السفن حيث شبهها بالجبال ، وإن كانت المنشآت تنطلق على السفينة الكبيرة والصغيرة .
الرحمن : ( 26 - 27 ) كل من عليها . . . . .
وعبر بمن في قوله : ) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا ( تغليباً لمن يعقل ، والضمير في ) عَلَيْهَا ( قليل عائد على الأرض في قوله : ) وَالاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ ( ، فعاد الضمير عليها ، وإن كان بعد لفظها . والفناء عبارة عن إعدام جميع الموجودات من حيوان وغيره ، والوجه يعبر به عن حقيقة الشيء ، والجارجة منتفية عن الله تعالى ، ونحو كل شيء هالك إلا وجهه . وتقول صعاليك مكة : أين وجه عربي كريم يجود عليّ ؟ وقرأ الجمهور : ذو بالواو ، وصفة للوجه ؛ وأبي وعبد الله : ذي بالياء ، صفة للرب . والظاهر أن الخطاب في قوله : ) وَجْهُ رَبّكَ ( للرسول ، وفيه تشريف عظيم له ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : الخطاب لكل سامع . ومعنى ) ذُو الْجَلْالِ ( : الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم ، أو الذي يتعجب من جلاله ، أو الذي عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده .
الرحمن : ( 29 ) يسأله من في . . . . .
( يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : أي حوائجهم ، وهو ما يتعلق بمن في السموات من أمر الدين وما استعبدوا به ، ومن في الأرض من أمر دينهم ودنياهم . وقال أبو صالح : من في السموات : الرحمة ، وسن في الأرض : المغفرة والرزق . وقال ابن جريج : الملائكة الرزق لأهل الأرض ، والمغفرة وأهل الأرض يسألونهما جميعاً . والظاهر أن قوله : يسأله استئناف إخبار . وقيل : حال من الوجه ، والعامل فيه يبقى ، أي هو دائم في هذه الحال . انتهى ، وفيه بعد . ومن لا يسأل ، فحاله تقتضي السؤال ، فيصح إسناد السؤال إلى الجميع باعتبار القدر المشترك ، وهو الافتقار إليه تعالى .
( كُلَّ يَوْمٍ ( : أي كل ساعة ولحظة ، وذكر اليوم لأن الساعات واللحظات في ضمنه . ) هُوَ فِى شَأْنٍ ( ، قال ابن عباس : في شأن يمضيه من الخلق والرزق والإحياء والإماتة . وقال عبيد بن عمير : يجيب داعياً ، ويفك عانياً ، ويتوب على قوم ، ويغفر لقوم . وقال سويد بن غفلة : يعتق رقاباً ، ويعطي رغاماً ويقحم عقاباً . وقال ابن عيينة : الدهر عند الله يومان ، أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا ، فشأنه فيه الأمر والنهى والإمانة والإحياء ؛ والثاني الذي هو يوم القيامة ، فشأنه فيه الجزاء والحساب . وعن مقاتل : نزلت في اليهود ، فقالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً . وقال الحسين بن الفضل ، وقد سأله عبد الله بن طاهر عن قوله : ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ( : وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة فقال : شؤون يبديها ، لا شؤون يبتديها . وقال ابن بحر : هو في يوم الدنيا في الابتلاء ، وفي يوم القيامة في الجزاء . وانتصب ) كُلَّ يَوْمٍ ( على الظرف ، والعامل فيه العامل في قوله : ) فِى شَأْنٍ ( ، وهو مستقر المحذوف ، نحو : يوم الجمعة زيد قائم .
قوله عز وجل : ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ تُكَذّبَانِ يامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا

" صفحة رقم 192 "
تَنتَصِرَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدّهَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ).
الرحمن : ( 31 ) سنفرغ لكم أيها . . . . .
لما ذكر تعالى ما أنعم به من تعليم العلم وخلق الإنسان والسماء والأرض وما أودع فيهما وفناء ما على الأرض ، ذكر ما يتعلق بأحوال الآخرة الجزاء وقال : ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ ( : أي ننظر في أموركم يوم القيامة ، لا أنه تعالى كان له شغل فيفرغ منه . وجرى على هذا كلام العرب في أن المعنى : سيقصد لحسابكم ، فهو استعارة من قول الرجل لمن يتهدده : سأفرغ لك ، أي سأتجرد للإيقاع بك من كل ما شغلني عنه حتى لا يكون لي شغل سواه ، والمراد التوفر على الانتقام منه . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون التوعد بعذاب في الدنيا ، والأول أبين . انتهى ، يعني : أن يكون ذلك يوم القيامة . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا ويبلغ آخرها ، وتنتهي عند ذلك شؤون الخلق التي أرادها بقوله : ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ( ، فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل . انتهى . والذي عليه أئمة اللغة أن فرغ تستعمل عند انقضاء الشغل الذي كان الإنسان مشتغلاً به ، فلذلك احتاج قوله إلى التأويل على أنه قد قد قيل : إن فرغ يكون بمعنى قصد واهتم ، واستدل على ذلك بما أنشده ابن الأنباري لجرير : الآن وقد فرغت إلى نمير
فهذا حين كنت لهم عذابا
أي : قصدت . وأنشد النحاس :
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل
وفي الحديث : ( فرغ ربك من أربع ) ، وفيه : ( لأتفرغن إليك يا خبيث ) ، يخاطب به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إرب العقبة يوم بيعتها : أي لأقصدن إبطال أمرك ، نقل هذا عن الخليل والكسائي والفراء . وقرأ الجمهور : سنفرغ بنون العظمة وضم الراء ، من فرغ بفتح الراء ، وهي لغة الحجاز ؛ وحمزة والكسائي وأبو حيوة وزيد بن علي : بياء الغيبة ؛ وقتادة والأعرج : بالنون وفتح الراء ، مضارع فرغ بكسرها ، وهي تميمية ؛ وأبو السمال وعيسى : بكسر النون وفتح الراء . قال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر ؛ والأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما ؛ وابن أبي عبلة والزعفراني : بضم الياء وفتح الراء ، مبنياً للمفعول ؛ وعيسى أيضاً : بفتح النون وكسر الراء ؛ والأعراج أيضاً : بفتح الياء والراء ، وهي رواية يونس والجعفي وعبد الوارث عن أبي عمرو . والثقلان : الإنس والجن ، سميا بذلك لكونهما ثقيلين على وجه الأرض ، أو لكونهما مثقلين بالذنوب ، أو لثقل الإنس . وسمي الجن ثقلاً لمجاورة الإنس ، والثقل : الأمر العظيم . وفي الحديث : ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ) ، سميا بذلك لعظمهما وشرفهما .
الرحمن : ( 33 ) يا معشر الجن . . . . .
والظاهر أن قوله : ) يا معشر

" صفحة رقم 193 "
الآية من خطاب الله إياهم يوم القيامة ، ( أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ). وقيل : يقال لهم ذلك . قال الضحاك : يفرون في أقطار الأرض لما يرون من الهول ، فيجدون الملائكة قد أحاطت بالأرض ، فيرجعون من حيث جاءوا ، فحينئذ يقال لهم ذلك . وقيل : هو خطاب في الدنيا ، والمعنى : إن استطعتم الفرار من الموت . وقال ابن عباس : ) إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ( بأذهانكم وفكركم ، ( أَن تَنفُذُواْ ( ، فتعلمون علم ) أَقْطَارِ ( : أي جهات ) السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ). قال الزمخشري : ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ ( ، كالترجمة لقوله : ) أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ ( ، ( إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ( أن تهربوا من قضائي ، وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي فافعلوا ؛ ثم قال : لا تقدرون على النفوذ ) إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ( ، يعني : بقوة وقهر وغلبة ، وأنى لكم ذلك ، ونحوه : ) وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء ). انتهى . ) فَانفُذُواْ ( : أمر تعجيز . وقال قتادة : السلطان هنا الملك ، وليس لهم ملك . وقال الضحاك أيضاً : بينما الناس في أسواقهم ، انفتحت السماء ونزلت الملائكة ، فتهرب الجن والإنس ، فتحدق بهم الملائكة . وقرأ زيد بن علي : إن استطعتما ، على خطاب تثنية الثقلين ومراعاة الجن والإنس ؛ والجمهور : على خطاب الجماعة إن استطعتم ، لأن كلاً منهما تحته أفراد كثيرة ، كقوله : ) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ).
الرحمن : ( 35 ) يرسل عليكما شواظ . . . . .
( يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ شُوَاظٌ ( ، قال ابن عباس : إذا خرجوا من قبورهم ، ساقهم شواظ إلى المحشر . والشواظ : لهب النار . وقال مجاهد : اللهب الأحمر المنقطع . وقال الضحاك : الدخان الذي يخرج من اللهب . وقرأ الجمهور : شواظ ، بضم الشين ؛ وعيسى وابن كثير وشبل : بكسرها . والجمهور ؛ ) وَنُحَاسٌ ( : بالرفع ؛ وابن أبي إسحاق والنخعي وابن كثير وأبو عمرو : بالجر ؛ والكلبي وطلحة ومجاهد : بكسر نون نحاس والسين . وقرأ ابن جبير : ونحس ، كما تقول : يوم نحس . وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق أيضاً : ونحس مضارعاً ، وماضيه حسه ، أي قتله ، أي ويحس بالعذاب . وعن ابن أبي إسحاق أيضاً : ونحس بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير ؛ وحنظلة بن نعمان : ونحس بفتح النون وكسر السين ؛ والحسن وإسماعيل : ونحس بضمتين والكسر . وقرأ زيد بن علي : نرسل بالنون ، عليكما شواظاً بالنصب ، من نار ونحاساً بالنصب عطفاً على شواظاً . قال ابن عباس وابن جبير والنحاس : الدخان ؛ وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد : هو الصفر المعروف ، والمعنى : يعجز الجن والإنس ، أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا ، فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه .
الرحمن : ( 37 ) فإذا انشقت السماء . . . . .
( فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء ( : جواب إذا محذوف ، أي فما أعظم الهول ، وانشقاقها : انفطارها يوم القيامة . ) فَكَانَتْ وَرْدَةً ( : أي محمرة كالورد . قال ابن عباس وأبو صالح : هي من لون الفرس الورد ، فأنث لكون السماء مؤنثة . وقال قتادة : هي اليوم زرقاء ، ويومئذ تغلب عليها الحمرة كلون الورد ، وهي النوار المعروف ، قاله الزجاج ، ويريد كلون الورد ، وقال الشاعر : فلو كانت ورداً لونه لعشقتني
ولكن ربي شانني بسواديا
وقال أبو الجوزاء : وردة صفراء . وقال : أما سمعت العرب تسمي الخيل الورد ؟ قال الفراء : أراد لون الفرس الورد ، يكون في الربيع إلى الصفرة ، وفي الشتاء إلى الحمرة ، وفي اشتداد البرد إلى الغبرة ، فشبه تلون السماء بتلون الوردة

" صفحة رقم 194 "
من الخيل ، وهذا قول الكلبي . ) كَالدّهَانِ ( ، قال ابن عباس : الأديم الأحمر ، ومنه قول الأعشى : وأجرد من كرام الخير طرف
كأن على شواكله دهاناً
وقال الشاعر : كالدهان المختلفة ، لأنها تتلون ألواناً . وقال الضحاك : كالدهان خالصة ، جمع دهن ، كقرط وقراط . وقيل : تصير حمراء من حرارة جهنم ، ومثل الدهن لذوبها ودورانها . وقيل : شبهت بالدهان في لمعانها . وقال الزمخشري : ) كَالدّهَانِ ( : كدهن الزيت ، كما قال : ) كَالْمُهْلِ ( ، وهو دردي الزيت ، وهو جمع دهن ، أو اسم ما يدهن به ، كالحرام والأدام ، قال الشاعر : كأنهما مزادتا متعجل
فريان لما سلعا بدهان
وقرأ عبيد بن عمير : وردة بالرفع بمعنى : فحصلت سماء وردة ، وهو من الكلام الذي يسمى التجريد ، كقوله : فلئن بقيت لأرحلن بغزوة
نحو المغانم أو يموت كريم
انتهى .
الرحمن : ( 39 ) فيومئذ لا يسأل . . . . .
( فَيَوْمَئِذٍ ( : التنوين فيه للعوض من الجملة المحذوفة ، والتقدير : فيوم إذ انشقت السماء ، والناصب ليومئذ ) لاَ يُسْأَلُ ( ، ودل هذا على انتفاء السؤال ، ووقفوهم أنهم مسئولون وغيره من الآيات على وقوع السؤال . فقال عكرمة وقتادة : هي مواطن يسأل في بعضها . وقال ابن عباس : حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ وتقرير ، وحيث نفي فهي استخبار محض عن الذنب ، والله تعالى أعلم بكل شيء . وقال قتادة أيضاً : كانت مسألة ، ثم ختم على الأفواه وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يعملون . وقال أبو العالية وقتادة : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : ولا جأن بالهمز ، فراراً من التقاء الساكنين ، وإن كان التقاؤهما على حده .
الرحمن : ( 41 ) يعرف المجرمون بسيماهم . . . . .
وقرأ حماد بن أبي سليمان : بسيمائهم ؛ والجمهور : ) بِسِيمَاهُمْ ( ، وسيما المجرمين : سواد الوجوه وزرقة العيون ، قاله الحسن ، ويجوز أن يكون غير هذا من التشويهات ، كالعمى والبكم والصمم . ) فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ ( ، قال ابن عباس : يؤخذ بناصيته وقدميه فيوطأ ، ويجمع كالحطب ، ويلقى كذلك في النار . وقال الضحاك : يجمع بينهما في سلسلة من وراء ظهره . وقيل : تسحبهم الملائكة ، تارة تأخذ بالنواصي ، وتارة بالأقدام . وقيل : بعضهم سحباً ، بالناصية ، وبعضهم سحباً بالقدم ؛ ويؤخذ متعد إلى مفعول بنفسه ، وحذف هذا الفاعل والمفعول ، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل مضمناً معنى ما يعدى بالباء ، أي فيسحب بالنواصي والأقدام ، وأل فيهما على مذهب الكوفيين عوض من الضمير ، أي بنواصيهم وأقدامهم ، وعلى مذهب البصريين الضمير محذوف ، أي بالنواصي والأقدام منهم .
الرحمن : ( 43 - 44 ) هذه جهنم التي . . . . .
( هَاذِهِ جَهَنَّمُ ( : أي يقال لهم ذلك على طريق التوبيخ والتقريع . ) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا ( : أي يتردّدون بين نارها وبين ما غلى فيها من مائع عذابها . وقال قتادة : الحميم يغلي منذ خلق الله جهنم ، وآن : أي منتهى الحر والنضج ، فيعاقب بينهم وبين تصلية النار ، وبين شرب الحميم . وقيل : إذا استغاثوا من النار ، جعل غياثهم الحميم . وقيل : يغمسون في واد في جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ، ثم يخرجون منه ، وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً . وقرأ علي والسلمي : يطافون ؛ والأعمش وطلحة وابن

" صفحة رقم 195 "
مقسم : يطوفون بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة . وقرىء : يطوفون ، أي يتطوفون ؛ والجمهور : يطوفون مضارع طاف .
الرحمن : ( 46 ) ولمن خاف مقام . . . . .
قوله تعالى : ) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( ، قال ابن الزبير : نزلت في أبي بكر . ) مَقَامَ رَبّهِ ( مصدر ، فاحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل ، أي قيام ربه عليه ، وهو مروي عن مجاهد ، قال : من قوله : ) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( ، أي حافظ مهيمن ، فالعبد يراقب ذلك ، فلا يجسر على المعصية . وقيل : الإضافة تكون بأدنى ملابسة ، فالمعنى أنه يخاف مقامه الذي يقف فيه العباد للحساب ، من قوله : ) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( ، وفي هذه الإضافة تنبيه على صعوبة الموقف . وقيل : مقام مقحم ، والمعنى : ولمن خاف ربه ، كما تقول : أخاف جانب فلان يعني فلاناً . والظاهر أن لكل فرد فرد من الخائفين ) جَنَّتَانِ ( ، قيل : إحداهما منزله ، والأخرى لأزواجه وخدمه . وقال مقاتل : جنة عدن ، وجنة نعيم . وقيل : منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته . وقيل : هما للخائفين ؛ والخطاب للثقلين ، فجنة للخائف الجني ، وجنة للخائف الإنسي . وقال أبو موسى الأشعري : جنة من ذهب للسابقين ، وجنة من فضة للتابعين . وقال الزمخشري : ويجوز أن يقال : جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي ، لأن التكليف دائر عليهما . وأن يقال : جنة يبات بها ، وأخرى تضم إليها على وجه التفضل لقوله وزيادة ؛
الرحمن : ( 48 ) ذواتا أفنان
وخص الأفنان بالذكر جمع فنن ، وهي الغصون التي تتشعب عن فروع الشجر ، لأنها التي تورق وتثمر ، ومنها تمتد الظلال ، ومنها تجنى الثمار . وقيل : الأفنان جمع فن ، وهي ألوان النعم وأنواعها ، وهي قول ابن عباس ، والأول قال قريباً منه مجاهد وعكرمة ، وهو أولى ، لأن أفعالاً في فعل أكثر منه في فعل بسكون العين ، وفن يجمع على فنون .
الرحمن : ( 50 ) فيهما عينان تجريان
) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( ، قال ابن عباس : هما عينان مثل الدنيا أضعافاً مضاعفة . وقال : تجريان بالزيادة والكرامة على أهل الجنة . وقال الحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحداهما التسنيم ، والأخرى السلسبيل . وقال ابن عطية : إحداهما من ماء ، والأخرى من خمر . وقيل : تجريان في الأعالي والأسافل من جبل من مسك .
الرحمن : ( 52 ) فيهما من كل . . . . .
( زَوْجَانِ ( ، قال ابن عباس : ما في الدنيا من شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة ، حتى شجر الحنظل ، إلا أنه حلواً . انتهى . ومعنى زوجان : رطب ويابس ، لا يقصر هذا عن ذاك في الطيب واللذة . وقيل : صنفان ، صنف معروف ، وصنف غريب . وجاء الفصل بين قوله : ) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( وبين قوله : ) فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ ( بقوله : ) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ). والأفنان عليها الفواكه ، لأن الداخل إلى البستان لا يقدم إلا للتفرج بلذة ما فيه بالنظر إلى خضرة الشجر وجري الأنهار ، ثم بعد يأخذ في اجتناء الثمار للأكل .
الرحمن : ( 54 ) متكئين على فرش . . . . .
وانتصب ) مُتَّكِئِينَ ( على الحال من قوله : ) وَلِمَنْ خَافَ ( ، وحمل جمعاً على معنى من . وقيل : العامل محذوف ، أي يتنعمون متكئين . وقال الزمخشري : أي نصب على المدح ، والاتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب ، والمعنى : ) مُتَّكِئِينَ ( في منازلهم ) عَلَى فُرُشٍ ). وقرأ الجمهور : وفرش بضمتين ؛ وأبو حيوة : بسكون الراء . وفي الحديث : ( قيل لرسول لله ( صلى الله عليه وسلم ) ) هذه البطائن من استبرق ، كيف الظهائر ؟ قال : هي من نور يتلألأ ) ، ولو صح هذا لم يجز أن يفسر بغيره . وقيل : من سندس . قال الحسن والفراء : البطائن هي الظهائر . وروي عن قتادة ، وقال الفراء : قد تكون البطانة الظهارة ، والظهارة البطانة ، لأن كلاً منهما يكون وجهاً ، والعرب تقول : هذا وجه السماء ، وهذا بطن السماء .
قوله عز وجل : ) وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَىّ الاء تُكَذّبَانِ تُكَذّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ حُورٌ مَّقْصُوراتٌ فِى الْخِيَامِ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ فَبِأَىّ ءالاء

" صفحة رقم 196 "
رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ).
الرحمن : ( 55 ) فبأي آلاء ربكما . . . . .
قال ابن عباس : تجتنيه قائماً وقاعداً ومضطجعاً ، لا يرد يده بعد ولا شوك وقرأ عيسى : بفتح الجيم وكسر النون ، كأنه أمال النون ، وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ ، كما أمال أبو عمرو ) حَتَّى نَرَى اللَّهَ ). وقرىء : وجنى بكسر الجيم . والضمير في ) فِيهِنَّ ( عائد على الجنان الدال عليهن جنتان ، إذ كل فرد فرد له جنتان ، فصح أنها جنان كثيرة ، وإن كان الجنتان أريد بهما حقيقة التثنية ، وأن لكل جنس من الجن والإنس جنة واحدة ، فالضمير يعود على ما اشتملت عليه الجنة من المجالس والقصور والمنازل . وقيل : يعود على الفرش ، أي فيهن معدات للاستماع ، وهو قول حسن قريب المأخذ . وقال الزمخشري : فيهن في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والجنى . انتهى ، وفيه بعد . وقال الفراء : كل موضع من الجنة جنة ، فلذلك قال : ) فِيهِنَّ ( ،
الرحمن : ( 56 ) فيهن قاصرات الطرف . . . . .
والطرف أصله مصدر ، فلذلك وحد . والظاهر أنهن اللواتي يقصرون أعينهن على أزواجهن ، فلا ينظرن إلى غيرهم . قال ابن زيد : تقول لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك . وقيل : الطرف طرف غيرهن ، أي قصرن عيني من ينظر إليهن عن النظر إلى غيرهن .
( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ ( ، قال ابن عباس : لم يفتضهن قبل أزواجهن . وقيل : لم يطأهن على أي وجه . كان الوطء من افتضاض أو غيره ، وهو قول عكرمة . والضمير في ) قَبْلَهُمْ ( عائد على من عاد عليه الضمير في ) مُتَّكِئِينَ ). وقرأ الجمهور : بكسر ميم يطمثهن في الموضعين ؛ وطلحة وعيسى وأصحاب عبد الله وعليّ : بالضم . وقرأ ناس : بضم الأول وكسر الثاني ، وناس بالعكس ، وناس بالتخيير ، والجحدري : بفتح الميم فيهما ، ونفي وطئهن عن الإنس ظاهر وأما عن الجن ، فقال مجاهد والحسن : قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن ، إذ لم يذكر الزوج الله تعالى ، فنفى هنا جميع المجامعين . وقال ضمرة بن حبيب : الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم ، فنفي الافتضاض عن البشريات والجنيات .
الرحمن : ( 58 ) كأنهن الياقوت والمرجان
قال قتادة : ) كَأَنَّهُنَّ ( على صفاء الياقوت وحمرة المرجان ، لو أدخلت في الياقوت سلكاً ، ثم نظرت إليه ، لرأيته من ورائه . انتهى . وفي الترمذي : أن المرأة من نساء الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة مخها . وقال ابن عطية : الياقوت والمرجان من الأشياء التى يرتاح بحسنها ، فشبه بهما فيما يحسن التشبيه به ، فالياقوت في إملاسه وشفوفه ، والمرجان في إملاسه وجمال منظره ، وبهذا النحو من النظر سمت العرب النساء بذلك ، كدرة بنت أبي لهب ، ومرجانة أم سعيد . انتهى .
الرحمن : ( 60 ) هل جزاء الإحسان . . . . .
( هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ ( في العمل ، ( إِلاَّ الإحْسَانُ ( في الثواب ؟ وقيل : هل جزاء التوحيد إلا الجنة ؟ وقرأ ابن أبي إسحاق : إلا الحسان يعني : بالحسان الحور العين .
الرحمن : ( 62 ) ومن دونهما جنتان
) وَمِن دُونِهِمَا ( : أي من دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر ، ( جَنَّتَانِ ( لأصحاب اليمين ، والأوليان هما للسابقين ، قاله ابن زيد والأكثرون . وقال الحسن : الأوليان للسابقين ، والأخريان للتابعين . وقال ابن عباس : ) وَمِن دُونِهِمَا ( في القرب للمنعمين ، والمؤخرتا الذكر أفضل من الأوليين . يدل على ذلك أنه وصف عيني هاتين بالنضخ ، وتينك بالجري فقط ؛ وهاتين بالدهمة

" صفحة رقم 197 "
من شدة النعمة ، وتينك بالأفنان ، وكل جنة ذات أفنان . ورجح الزمخشري هذا القول فقال : للمقربين جنتان من دونهم من أصحاب اليمين ادهامتا من شدة الخضرة ، ورجح غيره القول الأول بذكر جري العينين والنضخ دون الجري ، وبقوله فيهما : ) مِن كُلّ فَاكِهَةٍ ( ، وفي المتأخرتين : ) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ ( ، وبالاتكاء على ما بطائنه من ديباج وهو الفرش ، وفي المتأخرتين الاتكاء على الرفرف ، وهو كسر الخباء ، والفرش المعدة للاتكاء أفضل ، والعبقري : الوشي ، والديباج أعلى منه ، والمشبه بالياقوت والمرجان أفضل في الوصف من خيرات حسان ، والظاهر النضخ بالماء ، وقال ابن جبير : بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة ، كما ينضخ رش المطر . وعنه أيضاً بأنواع الفواكه والماء .
الرحمن : ( 68 ) فيهما فاكهة ونخل . . . . .
( وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( عطف فاكهة ، فاقتضى العطف أن لا يندرجا في الفاكهة ، قاله بعضهم . وقال يونس بن حبيب وغيره : كررهما وهما من أفضل الفاكهة تشريفاً لهما وإشارة بهما ، كما قال تعالى : ) وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ). وقيل : لأن النخل ثمره فاكهة وطعام ، والرمان فاكهة ودواء ، فلم يخلصا للتفكه .
الرحمن : ( 70 ) فيهن خيرات حسان
) فِيهِنَّ خَيْراتٌ ( ، جمع خيرة : وصف بني على فعلة من الخير ، كما بنوا من الشر فقالوا : شرة . وقيل : مخفف من خيرة ، وبه قرأ بكر بن حبيب وأبو عثمان النهدي وابن مقسم ، أي بشدّ الياء . وروي عن أبي عمرو بفتح الياء ، كإنه جمع خايرة ، جمع على فعلة ، وفسر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأم سلمة ذلك فقال : ( خيرات الأخلاق حسان الوجوه ) .
الرحمن : ( 72 ) حور مقصورات في . . . . .
( حُورٌ مَّقْصُوراتٌ ( : أي قصرن في أماكنهن ، والنساء تمدح بذلك ، إذ ملازمتهن البيوت تدل على صيانتهن ، كما قال قيس بن الأسلت : وتكسل عن جاراتها فيزرنها
وتغفل عن أبياتهن فتعذر
قال الحسن : لسن بطوافات في الطرق ، وخيام الجنة : بيوت اللؤلؤ . وقال عمر بن الخطاب : هي در مجوف ، ورواه عبد الله عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الرحمن : ( 74 ) لم يطمثهن إنس . . . . .
( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ ( : أي قبل أصحاب الجنتين ، ودل عليهم ذكر الجنتين .
الرحمن : ( 76 ) متكئين على رفرف . . . . .
( مُتَّكِئِينَ ( ، قال الزمخشري : نصب على الاختصاص . ) عَلَى رَفْرَفٍ ( ، قال ابن عباس وغيره : فضول المجلس والبسط . وقال ابن جبير : رياض الجنة من رف البيت تنعم وحسن . وقال ابن عيينة : الزرابي . وقال الحسن وابن كيسان : المرافق . وقرأ الفراء وابن قتيبة : المجالس . وعبقري ، قال الحسن : بسط حسان فيها صور وغير ذلك يصنع بعبقر . وقال ابن عباس : الزرابي . وقال مجاهد : الديباج الغليظ . وقال ابن زيد : الطنافس . قال الفراء : الثخان منها . وقرأ الجمهور : ) عَلَى رَفْرَفٍ ( ، ووصف بالجمع لأنه اسم جنس ، الواحد منها رفرفة ، واسم الجنس يجوز فيه أن يفرد نعته وأن يجمع لقوله : ) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ( ، وحسن جمعه هنا مقابلته لحسان الذي هو فاصلة . وقال صاحب اللوامح ، وقرأ عثمان بن عفان ، ونصر بن عاصم ، والجحدري ، ومالك بن دينار ،

" صفحة رقم 198 "
وابن محيصن ، وزهير العرقبي وغيره : رفارف جمع لا ينصرف ، خضر بسكون الضاد ، وعباقري بكسر القاف وفتح الياء مشددة ؛ وعنهم أيضاً : ضم الضاد ؛ وعنهم أيضاً : فتح القاف . قال : فأما منع الصرف من عباقري ، وهي الثياب المنسوبة إلى عبقر ، وهو موضع تجلب منه الثياب على قديم الأزمان ، فإن لم يكن بمجاورتها ، وإلا فلا يكون يمنع التصرف من ياءي النسب وجه إلا في ضرورة الشعر . انتهى . وقال ابن خالويه : على رفارف خضر ، وعباقري النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) والجحدري وابن محيصن . وقد روي عمن ذكرنا على رفارف خضر وعباقري بالصرف ، وكذلك روي عن مالك بن دينار . وقرأ أبو محمد المروزي ، وكان نحوياً : على رفارف خضار ، يعني : على وزن فعال . وقال صاحب الكامل : رفارف جمع ، عن ابن مصرف وابن مقسم وابن محيصن ، واختاره شبل وأبو حيوة والجحدري والزعفراني ، وهو الاختيار لقوله : ) خُضْرٍ ( ، وعباقري بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين ، ابن مقسم وابن محيصن ، وروي عنهما التنوين . وقال ابن عطية ، وقرأ زهير العرقبي : رفارف بالجمع والصرف ، وعنه : عباقري بفتح القاف والياء ، على أن اسم الموضع عباقر بفتح القاف ، والصحيح في اسم الموضع عبقر . انتهى . وقال الزمخشري ، وروى أبو حاتم : عباقري بفتح القاف ومنع الصرف ، وهذا لا وجه لصحته . انتهى . وقد يقال : لما منع الصرف رفارف ، شاكله في عباقري ، كما قد ينون ما لا ينصرف للمشاكلة ، يمنع من الصرف للمشاكلة . وقرأ ابن هرمز : خضر بضم الضاد . قال صاحب اللوامح : وهي لغة قليلة . انتهى ، ومنه قول طرفة : أيها الفتيان في مجلسنا
جردوا منها وراداً وشقر
وقال آخر : وما انتميت إلى خور ولا كسف
ولا لئام غداة الروع أوزاع
فشقر جمع أشقر ، وكسف جمع أكسف .
الرحمن : ( 78 ) تبارك اسم ربك . . . . .
وقرأ الجمهور : ) ذِى الْجَلَالِ ( : صفة لربك ؛ وابن عامر وأهل الشام : ذو صفة للاسم ، وفي حرف . أبي عبد الله وأبيّ : ذي الجلال ، كقراءتهما في الموضع الأول ، والمراد هنا بالاسم المسمى . وقيل : اسم مقحم ، كالوجه في ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ( ، ويدل عليه إسناد ) تَبَارَكَ ( لغير الاسم في مواضع ، كقوله : ) تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( ، ( تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاء ( ، ( تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ). وقد صح الإسناد إلى الاسم لأنه بمعنى العلو ، فإذا علا الاسم ، فما ظنك بالمسمى ؟
ولما ختم تعالى نعم الدنيا بقوله : ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ ( ، ختم نعم الآخرة بقوله : ) تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ( وناسب

" صفحة رقم 199 "
هنالك ذكر البقاء والديمومة له تعالى ، إذ ذكر فناء العالم ؛ وناسب هنا ذكر ما اشتق من البركة ، وهي النمو والزيادة ، إذ جاء ذلك عقب ما امتن به على المؤمنين ، وما آتاهم في دار كرامته من الخير وزيادته وديمومته ، ويا ذا الجلال والإكرام من الصفات التي جاء في الحديث أن يدعى الله بها ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام ) .

" صفحة رقم 200 "
56
( سورة الواقعة )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الاٌّ رْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَائِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الاٌّ خِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لاًّصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ خِرِينَ ( )

" صفحة رقم 201 "
الواقعة : ( 1 - 2 ) إذا وقعت الواقعة
رجت الأرض : زلزلت وحركت تحريكاً شديداً بحيث تنهدم الأبنية وتخر الجبال . بست الجبال : فتتت ، وقيل : سيرت ، من قولهم : بس الغنم : ساقها ، ويقال : رجت الأرض وبست الجبال لازمين . المشأمة : من الشؤم ، أو من اليد الشؤمى ، وهي الشمال . الثلاثة : الجماعة ، كثرت أو قلت . وقال الزمخشري : الأمّة من الناس الكثيرة ، وقال الشاعر : وجاءت إليهم ثلاثة خندفية
بجيش كتيار من السيل مزبد
الموضونة : المنسوجة بتركيب بعض أجزائها على بعض ، كحلق الدرع . قال الأعشى : ومن نسج داود موضونة
تسير مع الحي عيراً فعيرا
ومنه : وضين الناقة ، وهو خزامها ، لأنه موضون : أي مفتول . قال الراجز : إليك تغدو قلقاً وضينها
معترضاً في بطنها جنينها
مخالفاً دين النصارى دينها
الإبريق : إفعيل من البريق ، وهو إناء للشرب له خرطوم . قيل : وأذن ، وهو من أواني الخمر عند العرب ، قال الشاعر :

" صفحة رقم 202 "
كأن إبريقهم ظبي على شرف
مقدّم فسبا الكتان ملثوم
وقال عدي بن زيد : وندعو إلى الصباح فجاءت
قينة في يمينها إبريق
صدع القوم بالخمر : لحقهم الصداع في رؤوسهم منها . وقيل : صدعوا : فرقوا . السدر : تقدّم الكلام عليه في سورة سبأ . المخضود : المقطوع شوكه . قال أمية بن أبي الصلت : إن الحدائق في الجنان ظليلة
فيها الكواعب سدرها مخضود
الطلح : شجر الموز ، وقيل : شجر من العضاة كثير الشوك . المسكوب : المصبوب . العروب : المتحببة إلى زوجها . الترب : اللذة ، وهو من يولد هو وآخر في وقت واحد ، سميا بذلك لمسهما التراب في وقت واحد ، والله تعالى أعلم .
( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الاْرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مّنَ الاْوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لاِصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مّنَ الاْوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ). هذه السورة مكية ، ومناسبتها لما قبلها تضمن العذاب للمجرمين ، والنعيم للمؤمنين . وفاضل بين جنتي بعض المؤمنين وجنتي بعض بقوله : ) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( ، فانقسم العالم بذلك إلى كافر ومؤمن مفضول ومؤمن فاضل ؛ وهكذا جاء ابتداء هذه السورة من كونهم أصحاب ميمنة ، وأصحاب مشأمة ، وسباق وهم المقربون ، وأصحاب اليمين والمكذبون المختتم بهم آخر هذه السورة .
وقال ابن عباس : الواقعة من أسماء القيامة ، كالصاخة والطامّة والآزفة ، وهذه الأسماء تقتضي عظم شأنها ، ومعنى ) وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( : أي وقعت التي لا بد من وقوعها ، كما تقول : حدثت الحادثة ، وكانت الكائنة ؛ ووقوع الأمر نزوله ، يقال : وقع ما كنت أتوقعه : أي نزل ما كنت أترقب نزوله . وقال الضحاك : ) الْوَاقِعَةُ ( : الصيحة ، وهي النفخة في الصور . وقيل : ) الْوَاقِعَةُ ( : صخرة بيت المقدس تقع يوم القيامة .

" صفحة رقم 203 "
والعامل في إذا الفعل بعدها على ما قررناه في كتب النحو ، فهو في موضع خفض بإضافة إذا إليها احتاج إلى تقدير عامل ، إذ الظاهر أنه ليس ثم جواب ملفوظ به يعمل بها . فقال الزمخشري : فإن قلت : بم انتصب إذا ؟ قلت : بليس ، كقولك : يوم الجمعة ليس لي شغل ، أو بمحذوف يعني : إذا وقعت ، كان كيت وكيت ، أو بإضمار أذكر . انتهى .
أما نصبها بليس فلا يذهب نحوي ولا من شدا شيئاً من صناعة الإعراب إلى مثل هذا ، لأن ليس في النفي كما ، وما لا تعمل ، فكذلك ليس ، وذلك أن ليس مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان . والقول بأنها فعل هو على سبيل المجاز ، لأن حد الفعل لا ينطبق عليها . والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث ، فإذا قلت : يوم الجمعة أقوم ، فالقيام واقع في يوم الجمعة ، وليس لا حدث لها ، فكيف يكون لها عمل في الظرف ؟ والمثال الذي شبه به ، وهو يوم القيامة ، ليس لي شغل ، لا يدل على أن يوم الجمعة منصوب بليس ، بل هو منصوب بالعامل في خبر ليس ، وهو الجار والمجرور ، فهو من تقديم معمول الخبر على ليس ، وتقديم ذلك مبني على جواز تقديم الخبر الذي لليس عليها ، وهو مختلف فيه ، ولم يسمع من لسان العرب : قائماً ليس زيد . وليس إنما تدل على نفي الحكم الخبري عن الخبري عن المحكوم عليه فقط ، فهي كما ، ولكنه لما اتصلت بها ضمائر الرفع ، جعلها ناس فعلاً ، وهي في الحقيقة حرف نفي كما النافية .
ويظهر من تمثيل الزمخشري إذاً بقوله : يوم الجمعة ، أنه سلبها الدلالة على الشرط الذي هو غالب فيها ، ولو كانت شرطاً ، وكان الجواب الجملة المصدرة بليس ، لزمت الفاء ، إلا إن حذفت في شعر ، إذ ورد ذلك ، فنقول : إذا أحسن إليك زيد فلست تترك مكافأته . ولا يجوز لست بغير فاء ، إلا إن اضطر إلى ذلك . وأما تقديره : إذا وقعت كان كيت وكيت ، فيدل على أن إذا عنده شرطية ، ولذلك قدر لها جواباً عاملاً فيها . وأما قوله : بإضمار اذكر ، فإنه سلبها الظرفية ، وجعلها مفعولاً بها منصوبة باذكر .
و ) كَاذِبَةٌ ( : ظاهره أنه اسم فاعل من كذب ، وهو صفة لمحذوف ، فقدره الزمخشري : نفس كاذبة ، أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله ، وتكذب في تكذيب الغيب ، لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات ، لقوله تعالى : ) فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ( ، ( لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( ) وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ ( ، واللام مثلها في قوله : ) يَقُولُ يالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى ( ، إذ ليس لها نفس تكذبها وتقول لها : لم تكذبي ، كما لها اليوم نفوس كثيرة يقلن لها : لم تكذبي ، أو هي من قولهم : كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم ، إذا شجعته على مباشرته ، وقالت له : إنك تطيقه وما فوقه ، فتعرض له ولا تبال على معنى : أنها وقعة لا تطاق بشدة وفظاعة ، وأن لا نفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور ، وتزين له احتمالها وإطاقتها ، لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذل . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ( ؟ والفراش مثل في الضعف . انتهى ، وهو تكثير وإسهاب . وقدره ابن عطية حال كاذبة ، قال : ويحتمل الكلام على هذا معنيين : أحدهما كاذبة ، أي مكذوب فيما أخبر به عنها ، فسماها كاذبة لهذا ، كما تقول : هذه قصة كاذبة ، أي مكذوب فيها . والثاني : حال كاذبة ، أي لا يمضي وقوعها ، كما تقول : فلان إذا حمل لم يكذب . وقال قتادة والحسن المعنى : ليس لها تكذيب ولا رد ولا منثوية ، فكاذبة على هذا مصدر ، كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين . والجملة من قوله : ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( على ما قدّره الزمخشري من أن إذا معمولة لليس يكون ابتداء السورة ، إلا إن اعتقد أنها جواب لإذا ، أو منصوبة باذكر ، فلا يكون ابتداء كلام . وقال ابن عطية : في موضع الحال ، والذي يظهر لي أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه .
الواقعة : ( 3 ) خافضة رافعة
وقرأ الجمهور : ) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ( برفعهما ، على تقدير هي ؛ وزيد بن علي والحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني واليزيدي في اختياره بنصبهما . قال ابن خالوية : قال الكسائي : لولا أن اليزيدي سبقني إليه لقرأت به ، ونصبهما على الحال . قال ابن عطية : بعد الحال التي هي ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( ، ولك أن تتابع الأحوال ، كما لك أن تتابع أخبار المبتدأ . والقراءة الأولى أشهر وأبدع معنى ، وذلك أن موقع الحال من الكلام موقع ما لو لم يذكر لاستغنى عنه ، وموقع الجمل التي يجزم الخبر بها موقع ما

" صفحة رقم 204 "
يتهم به . انتهى . وهذا الذي قاله سبقه إليه أبو الفضل الرازي . قال في كتاب اللوامح : وذو الحال الواقعة والعامل وقعت ، ويجوز أن يكون ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( حال أخرى من الواقعة بتقدير : إذا وقعت صادقة الواقعة ، فهذه ثلاثة أحوال من ذي حال ، وجازت أحوال مختلفة عن واحد ، كما جازت عنه نعوت متضادة وأخبار كثيرة عن مبتدأ واحد . وإذا جعلت هذه كلها أحوالاً ، كان العامل في ) إِذَا وَقَعَتِ ( محذوفاً يدل عليه الفحوى بتقدير يحاسبون ونحوه . انتهى . وتعداد الأحوال والأخبار فيه خلاف وتفصيل ذكر في النحو ، فليس ذلك مما أجمع عليه النحاة .
قال الجمهور : القيامة تنفظر له السماء والأرض والجبال ، وتنهد له هذه البنية برفع طائفة من الأجرام وبخفض أخرى ، فكأنها عبارة عن شدة الهول والاضطراب . وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك : الصيحة تخفض قوتها لتسمع الأدنى ، وترفعها لتسمع الأقصى . وقال قتادة وعثمان بن عبد الله بن سراقة : القيامة تخفض أقواماً إلى النار ، وترفع أقواماً إلى الجنة ؛ وأخذ الزمخشري هذه الأقوال على عادته وكساها بعض ألفاظ رائعة ، فقال : ترفع أقواماً وتضع آخرين ، أما وصفاً لها بالشدة ، لأن الواقعات العظام كذلك يرتفع فيها ناس إلى مراتب ويتضع ناس ؛ وأما أن الأشقياء يحطون إلى الدركات ، والسعداء يحطون إلى الدرجات ؛ وأما أنها تزلزل الأشياء عن مقارها لتخفض بعضاً وترفع بعضاً ، حيث تسقط السماء كسفاً ، وتنتثر الكواكب وتنكدر ، وتسير الجبال فتمر في الجو مر السحاب . انتهى .
الواقعة : ( 4 - 5 ) إذا رجت الأرض . . . . .
( إِذَا رُجَّتِ ( ، قال ابن عباس : زلزلت وحركت بجذب . وقال أيضاً هو وعكرمة ومجاهد : ) بست ( : فتتت ، وقيل : سيرت . وقرأ زيد بن علي : ) إِذَا رُجَّتِ ( ، و ) بست ( مبنياً للفاعل ، ( وَإِذَا رُجَّتِ ( بدل من ) إِذَا وَقَعَتِ ( ، وجواب الشرط عندي ملفوظ به ، وهو قوله : ) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( ، والمعنى إذا كان كذا وكذا ، فأصحاب الميمنة ما أسعدهم وما أعظم ما يجازون به ، أي إن سعادتهم وعظم رتبتهم عند الله تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم . وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة ، أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال ، لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض . انتهى . ولا يجوز أن ينتصب بهما معاً ، بل بأحدهما ، لأنه لا يجوز أن يجتمع مؤثران على أثر واحد . وقال ابن جني وأبو الفضل الرازي : ) إِذْ رُجَّتِ ( في موضع رفع على أنه خبر للمبتدأ الذي هو ) إِذَا وَقَعَتِ ( ، وليست واحدة منهما شرطية ، بل جعلت بمعنى وقت ، وما بعد إذا أحوال ثلاثة ، والمعنى : وقت وقوع الواقعة صادقة الوقوع ، خافضة قوم ، رافعة آخرين وقت رج الأرض . وهكذا ادعى ابن مالك أن إذا تكون مبتدأ ، واستدل بهذا . وقد ذكرنا في شرح التسهيل ما تبقى به إذا على مدلولها من الشرط ،
الواقعة : ( 6 ) فكانت هباء منبثا
وتقدم شرح الهباء في سورة الفرقان . ) مُّنبَثّاً ( : منتشراً . منبتاً بنقطتين بدل الثاء المثلثة ، قراءة الجمهور ، أي منقطعاً .
الواقعة : ( 7 ) وكنتم أزواجا ثلاثة
) وَكُنتُمْ ( : خطاب للعالم ، ( أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً ( : أصنافاً ثلاثة ، وهذه رتب للناس يوم القيامة .
الواقعة : ( 8 ) فأصحاب الميمنة ما . . . . .
( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( ، قال الحسن والربيع : هم الميامين على أنفسهم . وقيل : الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم . وقيل : أصحاب المنزلة السنية ، كما تقول : هو مني باليمين . وقيل : المأخوذ بهم ذات اليمين ، أو ميمنة آدم المذكورة في حدث الإسراء في الاسودة .
الواقعة : ( 9 ) وأصحاب المشأمة ما . . . . .
( وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ ( : هم من قابل أصحاب الميمنة في هذه الأقوال ، فأصحاب مبتدأ ، ما مبتدأ ثان استفهام في معنى التعظيم ، وأصحاب الميمنة خبر عن ما ، وما بعدها خبر عن أصحاب ، وربط الجملة بالمبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه ، وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتعظيم ، وما تعجب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة ، والمعنى : أي شيء هم .
الواقعة : ( 10 ) والسابقون السابقون
) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( : جوزوا أن يكون مبتدأ وخبراً ، نحو قولهم : أنت أنت ، وقوله : أنا أبو النجم ، وشعري شعري ، أي الذين انتهوا في السبق ، أي الطاعات ، وبرعوا فيها وعرفت حالهم . وأن يكون السابقون تأكيداً لفظياً ، والخبر فيما بعد ذلك ؛ وأن يكون السابقون مبتدأ والخبر فيما بعده ، وتقف على قوله : ) وَالسَّابِقُونَ ( ، وأن يكون متعلق السبق الأول مخالفاً للسبق الثاني . والسابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة ، فعلى هذا جوزوا أن يكون السابقون خبراً لقوله : ) وَالسَّابِقُونَ ( ، وأن يكون صفة والخبر فيما بعده . والوجه الأول ، قال ابن عطية : ومذهب سيبويه أنه يعني السابقون خبر الابتداء ، يعني خبر والسابقون ، وهذا كما

" صفحة رقم 205 "
تقول : الناس الناس ، وأنت أنت ، وهذا على تفخيم الأمر وتعظيمه . انتهى . ويرجح هذا القول أنه ذكر أصحاب الميمنة متعجباً منهم في سعادتهم ، وأصحاب المشأمة متعجباً منهم في شقاوتهم ، فناسب أن يذكر السابقون مثبتاً حالهم معظماً ، وذلك بالإخبار أنهم نهاية في العظمة والسعادة ، والسابقون عموم في السبق إلى أعمال الطاعات ، وإلى ترك المعاصي . وقال عثمان بن أبي سودة : السابقون إلى المساجد . وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين . وقال كعب : هم أهل القرآن . وفي الحديث : ( سئل عن السابقين فقال هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم ) .
الواقعة : ( 11 ) أولئك المقربون
) أُوْلَائِكَ ( : إشارة إلى السابقين المقربين الذين علت منازلهم وقربت درجاتهم في الجنة من العرش .
الواقعة : ( 12 ) في جنات النعيم
وقرأ الجمهور : ) فِي جَنَّاتِ ( ، جمعاً ؛ وطلحة : في جنات مفرداً .
الواقعة : ( 13 - 14 ) ثلة من الأولين
وقسم السابقين المقربين إلى ) ثُلَّةٌ مّنَ الاْوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ ). وقال الحسن : السابقون من الأمم ، والسابقون من هذه الأمة . وقالت عائشة : الفرقتان في كل أمة نبي ، في صدرها ثلة ، وفي آخرها قليل . وقيل : هما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، كانوا في صدر الدنيا ، وفي آخرها أقل . وفي الحديث : ( الفرقتان في أمتي ، فسابق في أول الأمة ثلة ، وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل ) ، وارتفع ثلة على إضمارهم .
الواقعة : ( 15 ) على سرر موضونة
وقرأ الجمهور : ) عَلَى سُرُرٍ ( بضم الراء ؛ وزيد ابن علي وأبو السمال : بفتحها ، وهي لغة لبعض بني تميم وكلب ، يفتحون عين فعل جمع فعيل المضعف ، نحو سرير ، وتقدم ذلك في والصافات . ) مَّوْضُونَةٍ ( ، قال ابن عباس : مرمولة بالذهب . وقال عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت .
الواقعة : ( 16 ) متكئين عليها متقابلين
) مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا ( : أي على السرر ، ومتكئين : حال من الضمير المستكن في ) عَلَى سُرُرٍ ( ، ( مُّتَقَابِلِينَ ( : ينظر بعضهم إلى بعض ، وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء بطائنهم من غل إخواناً .
الواقعة : ( 17 ) يطوف عليهم ولدان . . . . .
( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ ( : وصفوا بالخلد ، وإن كان من في الجنة مخلداً ، ليدل على أنهم يبقون دائماً في سن الولدان ، لا يكبرون ولا يتحولون عن شكل الوصافة . وقال مجاهد : لا يموتون . وقال الفراء : مقرطون بالخلدات ، وهي ضروب من الأقراط .
الواقعة : ( 18 ) بأكواب وأباريق وكأس . . . . .
( وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ ( ، قال : من خمر سائلة جارية معينة .
الواقعة : ( 19 ) لا يصدعون عنها . . . . .
( لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ( ، قال الأكثرون : لا يلحق رؤوسهم الصداع الذي يلحق من خمر الدنيا . وقرأت على أستاذنا العلامة أبي جعفر بن الزبير ، رحمه الله تعالى ، قول علقمة في صفة الخمر : تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها
ولا يخالطها في الرأس تدويم
فقال : هذه صفة أهل الجنة . وقيل : لا يفرقون عنها بمعنى : لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب ، كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق ، كما جاء : فتصدع السحاب عن المدينة : أي فتفرق . وقرأ مجاهد : لا يصدعون ، بفتح الياء وشد الصاد ، أصله يتصدعون ، أدغم التاء في الصاد : أي لا يتفرقون ، كقوله : ) يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ). والجمهور ؛ بضم الياء وخفة الصاد ؛ والجمهور : بجر ) وَفَاكِهَةٍ ( ؛ ولحم وزيد بن علي : برفعهما ، أي ولهم ؛ والجمهور : ) وَلاَ يُنزِفُونَ ( مبنياً للمفعول . قال مجاهد وقتادة وجبير والضحاك : لا تذهب عقولهم سكراً ؛ وابن أبي إسحاق : بفتح الياء وكسر الزاي ، نزف البئر : استفرغ ماءها ، فالمعنى : لا تفرغ خمرهم . وابن أبي إسحاق أيضاً وعبد الله والسلمي والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى : بضم

" صفحة رقم 206 "
الياء وكسر الزاي : أي لا يفنى لهم شراب ،
الواقعة : ( 20 ) وفاكهة مما يتخيرون
) مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ( : يأخذون خيره وأفضله ،
الواقعة : ( 21 ) ولحم طير مما . . . . .
( مّمَّا يَشْتَهُونَ ( : أي يتمنون .
الواقعة : ( 22 ) وحور عين
وقرأ الجمهور : ) وَحُورٌ عِينٌ ( برفعهما ؛ وخرج عليّ على أن يكون معطوفاً على ) وِلْدانٌ ( ، أو على الضمير المستكن في ) مُتَّكِئِينَ ( ، أو على مبتدأ محذوف هو وخبره تقديره : لهم هذا كله ، ( وَحُورٌ عِينٌ ( ، أو على حذف خبر فقط : أي ولهم حور ، أو فيهما حور . وقرأ السلمي والحسن وعمرو بن عبيد وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة والمفضل وأبان وعصمة والكسائي : بجرهما ؛ والنخعي : وحير عين ، بقلب الواو ياء وجرهما ، والجر عطف على المجرور ، أي يطوف عليهم ولدان بكذا وكذا وحور عين . وقيل : هو على معنى : وينعمون بهذا كله وبحور عين . وقال الزمخشري : عطفاً على ) جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( ، كأنه قال : هم في جنات وفاكهة ولحم وحور . انتهى ، وهذا فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض ، وهو فهم أعجمي . وقرأ أبي وعبد الله : وحوراً عيناً بنصبهما ، قالوا : على معنى ويعطون هذا كله وحوراً عيناً . وقرأ قتادة : وحور عين بالرفع مضافاً إلى عين ؛ وابن مقسم : بالنصب مضافاً إلى عين ؛ وعكرمة : وحوراء عيناء على التوحيد اسم جنس ، وبفتح الهمزة فيهما ؛ فاحتمل أن يكون مجروراً عطفاً على المجرور السابق ؛ واحتمل أن يكون منصوباً ؛ كقراءة أبي وعبد الله وحوراً عيناً .
الواقعة : ( 23 ) كأمثال اللؤلؤ المكنون
ووصف اللؤلؤ بالمكنون ، لأنه أصفى وأبعد من التغير . وفي الحديث : ( صفاؤهنّ كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي ) . وقال تعالى : ) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ( ، وقال الشاعر ، يصف امرأة بالصون وعدم الابتذال ، فشبهها بالدرة المكنونة في صدفتها فقال : قامت ترأى بين سجفي كلة
كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
أو درّة صدفية غواصها
بهج متى يرها يهل ويسجد
الواقعة : ( 24 ) جزاء بما كانوا . . . . .
( جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( : روي أن المنازل والقسم في الجنة على قدر الأعمال ، ونفس دخول الجنة برحمة الله تعالى وفضله لا بعمل عامل ، وفيه النص الصحيح الصريح : لا يدخل أحد الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ، قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني بفضل منه ورحمة ) .
الواقعة : ( 25 ) لا يسمعون فيها . . . . .
( لَغْواً ( : سقط القول وفحشه ، ( وَلاَ تَأْثِيماً ( : ما يؤثم أحداً
الواقعة : ( 26 ) إلا قيلا سلاما . . . . .
والظاهر أن ) إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ( استثناء منقطع ، لأنه لم يندرج في اللغو ولا التأثيم ، ويبعد قول من قال استثناء متصل . وسلاماً ، قال الزجاج : هو مصدر نصبه ) قِيلاً ( ، أي يقول بعضهم لبعض ) سَلَاماً سَلَاماً ). وقيل : نصب بفعل محذوف ، وهو معمول قيلاً ، أي قيلاً أسلموا سلاماً . وقيل : ) سَلاَماً ( بدل من ) قِيلاً ). وقيل : نعت لقيلا بالمصدر ، كأنه قيل : إلا قيلاً سالماً من هذه العيوب .
الواقعة : ( 28 ) في سدر مخضود
) فِى سِدْرٍ ( : في الجنة شجر على خلقه ، له ثمر كقلال هجر طيب الطعم والريح . ) مَّخْضُودٍ ( : عار من الشوك . وقال مجاهد : المخضود : الموقر الذي تثني أغصانه كثرة حمله ، من خضد الغصن إذا أثناه .
الواقعة : ( 29 ) وطلح منضود
وقرأ الجمهور : ) وَطَلْحٍ ( بالحاء ؛ وعليّ وجعفر بن محمد وعبد الله : بالعين ، قرأها على المنبر . وقال عليّ وابن عباس وعطاء ومجاهد : الطلح : الموز . وقال الحسن : ليس بالموز ، ولكنه شجر ظله بارد رطب . وقيل : شجر أم غيلان ، وله نوّار كثير طيب الرائحة . وقال السدّي : شجر يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل . والمنضود : الذي نضد من أسفله إلى أعلاه ، فليست له ساق تظهر .
الواقعة : ( 30 ) وظل ممدود
) وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( : لا يتقلص . بل منبسط لا ينسخه شيء . قال مجاهد : هذا الظل من سدرها وطلحها .
الواقعة : ( 31 ) وماء مسكوب
) وَمَاء مَّسْكُوبٍ ( ، قال سفيان وغيره : جار في أخاديد . وقيل : منساب لا يتعب فيه بساقية ولا رشاء .
الواقعة : ( 32 - 33 ) وفاكهة كثيرة
) لاَّ مَقْطُوعَةٍ ( : أي هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات ، كفاكهة الدنيا ، ( وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ( : أي لا يمنع من تناولها بوجه ، ولا يحظر عليها كالتي في الدنيا . وقرىء : وفاكهة كثيرة برفعهما ، أي وهناك فاكهة ،
الواقعة : ( 34 ) وفرش مرفوعة
وفرش : جمع فراش . وقرأ الجمهور : بضم الراء ؛ وأبو حيوة : بسكونها مرفوعة ، نضدت حتى ارتفعت ، أو رفعت على الأسرة . والظاهر أن الفراش هو ما يفترش للجلوس عليه والنوم . وقال أبو عبيدة

" صفحة رقم 207 "
وغيره : المراد بالفرش النساء ، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش ، ورفعهن في الأقدار والمنازل .
الواقعة : ( 35 ) إنا أنشأناهن إنشاء
والضمير في ) أَنشَأْنَاهُنَّ ( عائد على الفرش في قول أبي عبيدة ، إذ هنّ النساء عنده ، وعلى ما دل عليه الفرش إذا كان المراد بالفرش ظاهر ما يدل عليه من الملابس التي تفرش ويضطجع عليها ، أي ابتدأنا خلقهن ابتداء جديداً من غير ولادة . والظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق ، ويكون ذلك مخصوصاً بالحور اللاتي لسن من نسل آدم ، ويحتمل أن يريد إنشاء الإعادة ، فيكون ذلك لبنات آدم .
الواقعة : ( 36 - 38 ) فجعلناهن أبكارا
) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً ( : والعرب ، قال ابن عباس : العروب المتحببة إلى زوجها ، وقاله الحسن ، وعبر ابن عباس أيضاً عنهن بالعواشق ، ومنه قول لبيد : وفي الخدور عروب غير فاحشة
ريا الروادف يغشى دونها البصر
وقال ابن زيد : العروب : المحسنة للكلام . وقرأ حمزة ، وناس منهم شجاع وعباس والأصمعي ، عن أبي عمرو ، وناس منهم خارجة وكردم وأبو خليد عن نافع ، وناس منهم أبو بكر وحماد وأبان عن عاصم : بسكون الراء ، وهي لغة تميم ؛ وباقي السبعة : بضمها . ) أَتْرَاباً ( في الشكل والقد ، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في ) أَنشَأْنَاهُنَّ ( عائد على الحور العين المذكورة قبل ، لأن تلك قصة قد انقطعت ، وهي قصة السابقين ، وهذه قصة أصحاب اليمين . واللام في ) أَصْحَابُ ( متعلقة بأنشأناهن .
الواقعة : ( 39 ) ثلة من الأولين
) ثُلَّةٌ مّنَ الاْوَّلِينَ ( : أي من الأمم الماضية ،
الواقعة : ( 40 ) وثلة من الآخرين
) وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( : أي من أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولا تنافي بين قوله : ) وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( وقوله قبل : ) وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( ، لأن قوله : ) مّنَ الاْخِرِينَ ( هو في السابقين ، وقوله ) وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( هو في أصحاب اليمين .
( ) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءَابَآؤُنَا الاٌّ وَّلُونَ قُلْ إِنَّ الاٌّ وَّلِينَ وَالاٌّ خِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لاّكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِأونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَاذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَءَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاٍّ ولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَءَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَارِعُونَ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ أَءَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (
الواقعة : ( 41 ) وأصحاب الشمال ما . . . . .
اليحموم الأسود البهيم ، الحنث قال الخطابي هو في كلام العرب العدل الثقيل شبه الاثم به ، الهيم جمع أهيم وهيماء

" صفحة رقم 208 "
والهيام داء معطش يصيب الإبل فتشرب حتى تموت أو تسقم سقماً شديداً قال : فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد
صداها ولا يقضي عليها هيامها
( والهيم ) جمه هيام ، وهو الرمل بفتح الهاء وهو المشهور ، وقال ثعلب : بضمها قال : هو الرمل الذي لا يتماسك ، فبالفتح كسحاب وسحب ، ثم خفف وفعل به ما فعل ، بجمع أهيم من قلب ضمته كسرة لتصح الياء ، أو بالضم ، يكون قد جمع على فعل ، كقراد وقرد ، ثم سكنت ضمة الراء فصار فعلا ، ثم فعل به ما فعل ببيض ، أمنى الرجل النطفة ومناها قذفها من إحليله ، المزن السحاب ، قال الشاعر : فلا مزنة ودقت ودقها
ولا أرض أبقل إبقالها
أوريت النار من الزناد قدحتها ، وورى الزند نفسه ، والزناد حجرين ، أو من حجر وحديدة ومن شجر ، لا سيما في الشجر الرخو ، كالمرخ والعفار والكلح ، والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما بالآخر ، ويسمون الأعلى الزند ، والأسفل الزندة ، شبهوهما بالعجل والطروقة ، أقوى الرجل دخل في الأرض ، القوا وهي القفر كأصحر دخل في الصحراء ، وأقوى من أقام أياماً يأكل شيئاً ، وأقوت الدار : صارت قفراء ، قال الشاعر : يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
إدهن لاين ، وهاود فيما لا يحمل عند المدهن ، وقال الشاعر : الحزم والقوة خبر من
الإدهان والفهة والهاع
( الحلقوم ) مجرى الطعام ، ( الروح ) الاستراحة ، ( الريحان ) تقدم في سورة الرحمن ) وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ، في سموم وحميم ، وظل من يحموم ، وظل من يحموم ، لا بارد ولا كريم ، إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ، وكانوا يصرون على الحنث العظيم ، وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون ، أو آباؤنا الأولون ، قل إن الأولين والآخرين ، لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ، ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ، لآكلون من شجر من زقوم ، فمالئون منها البطون ، فشاربون عليه من الحميم ، فشابون شرب الهيم ، هذا نزلهم يوم الدين ، نحن خلقناكم فلولا تصدقون ، أفرأيتم ما تمنون ، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ، نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين ، على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ، ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ، أفرأيتم ما تحرثون ، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ، لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون ، إنا لمغرمون ، بل نحن محرومون ، أفرأيتم الماء الذي تشربون ، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ، لو نشاء جعلناه أجاجاً فلوى تشكرون ، أفرأيتم النار التي تورون ، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ، نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين ، فسبح باسم ربك العظيم ( لما ذكر حال السابقين ،

" صفحة رقم 209 "
وأتبعهم بأصحاب الميمنة ، ذكر حال أصحاب المشئمة فقال : ) وَأَصْحَابُ الشّمَالِ ( ، وتقدّم إعراب نظير هذه الجملة ، وفي هذا الاستفهام تعظيم مصابهم .
الواقعة : ( 42 ) في سموم وحميم
) فِى سَمُومٍ ( : في أشدّ حر ، ( وَحَمِيمٍ ( : ماء شديد السخونة .
الواقعة : ( 43 ) وظل من يحموم
) وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ ( ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو مالك وابن زيد والجمهور : دخان . وقال ابن عباس أيضاً : هو سرادق النار المحيط بأهلها ، يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم . وقال ابن كيسان : اليحموم من أسماء جهنم . وقال ابن زيد أيضاً وابن بريدة : هو جبل في النار أسود ، يفزع أهل النار إلى ذراه ، فيجدونه أشد شيء وأمر .
الواقعة : ( 44 ) لا بارد ولا . . . . .
( لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ( : صفتان للظل نفيتا ، سمي ظلاً وإن كان ليس كالظلال ، ونفي عنه برد الظل ونفعه لمن يأوي إليه . ) وَلاَ كَرِيمٍ ( : تتميم لنفي صفة المدح فيه ، وتمحيق لما يتوهم في الظل من الاسترواح إليه عند شدّة الحر ، أو نفي لكرامة من يستروح إليه . ونسب إليه مجازاً ، والمراد هم ، أي يستظلون إليه وهم مهانون . وقد يحتمل المجلس الرديء لنيل الكرامة ، وبدىء أولاً بالوصف الأصلي الذي هو الظل ، وهو كونه من يحموم ، فهو بعض اليحموم . ثم نفى عنه الوصف الذي يبغي له الظل ، وهو كونه لا بارداً ولا كريماً . وقد يجوز أن يكون ) لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ( صفة ليحموم ، ويلزم منه أن يكون الظل موصوفاً بذلك . وقرأ الجمهور : ) لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ( بجرهما ؛ وابن عبلة : برفعهما : أي لا هو بارد ولا كريم ، على حد قوله :
فأبيت لا حرج ولا محروم
أي لا أنا حرج .
الواقعة : ( 45 ) إنهم كانوا قبل . . . . .
( إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ ( : أي في الدنيا ، ( مُتْرَفِينَ ( : فيه ذم الترف والتنعم في الدنيا ، والترف طريق إلى البطالة وترك التفكر في العاقبة .
الواقعة : ( 46 ) وكانوا يصرون على . . . . .
( وَكَانُواْ يُصِرُّونَ ( : أي يداومون ويواظبون ، ( عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ ( ، قال قتادة والضحاك وابن زيد : الشرك ، وهو الظاهر . وقيل : ما تضمنه قوله : ) وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ( الآية من التكذيب بالبعث . ويبعده : ) وَكَانُواْ يِقُولُونَ ( ، فإنه معطوف على ما قبله ، والعطف يقتضي التغاير ، فالحنث العظيم : الشرك .
الواقعة : ( 47 ) وكانوا يقولون أئذا . . . . .
فقولهم : ) أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءابَاؤُنَا الاْوَّلُونَ ( : تقدم الكلام عليه في والصافات ، وكرر الزمخشري هنا وهمه فقال : فإن قلت : كيف حسن العطف على المضمر في ) لَمَبْعُوثُونَ ( من غير تأكيد بنحن ؟ قلت : حسن للفاصل الذي هو الهمزة ، كما حسن في قوله : ) مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَاؤُنَا ( ، الفصل لا المؤكدة للنفي . انتهى . ورددنا عليه هنا وهناك إلى مذهب الجماعة في أنهم لا يقدرون بين همزة الاستفهام وحرف العطف فعلاً في نحو : ) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ( ، ولا اسماً في نحو :
الواقعة : ( 48 ) أو آباؤنا الأولون
) أَوَ ءابَاؤُنَا ( ، بل الواو والفاء لعطف ما بعدهما على ما قبلهما ، والهمزة في التقدير متأخرة عن حرف العطف . لكنه لما كان الاستفهام له صدر الكلام قدمت .
الواقعة : ( 49 ) قل إن الأولين . . . . .
ولما ذكر تعالى استفهامهم عن البعث على طريق الاستبعاد والإنكار ، أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يخبرهم ببعث العالم ، أولهم وآخرهم ، للحساب ، وبما يصل إليه المكذبون للبعث من العذاب .
الواقعة : ( 50 ) لمجموعون إلى ميقات . . . . .
والميقات : ما وقت به الشيء ، أي حد ، أي إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم ، والإضافة بمعنى من ، كخاتم حديد .
الواقعة : ( 51 ) ثم إنكم أيها . . . . .
( ثُمَّ إِنَّكُمْ ( : خطاب لكفار قريش ، ( أَيُّهَا الضَّالُّونَ ( عن الهدى ، ( الْمُكَذّبُونَ ( للبعث . وخطاب أيضاً لمن جرى مجراهم في ذلك .
الواقعة : ( 52 ) لآكلون من شجر . . . . .
( لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ ( : من الأولى لابتداء الغاية أو للتبعيض ؛ والثانية ، إن كان من زقوم بدلاً ، فمن تحتمل الوجهين ، وإن لم تكن بدلاً ، فهي لبيان الجنس ، أي من شجر الذي هو زقوم . وقرأ الجمهور : من شجر ؛ وعبد الله : من شجرة .
الواقعة : ( 53 ) فمالئون منها البطون
) فَمَالِئُونَ مِنْهَا ( : الضمير في منها عائد على شجر ، إذ هو اسم جنس يؤنث ويذكر ، وعلى قراءة عبد الله ، فهو واضح .
الواقعة : ( 54 ) فشاربون عليه من . . . . .
( فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ ( ، قال الزمخشري : ذكر على لفظ الشجر ، كما أنث على المعنى في منها . قال : ومن قرأ : من شجرة من زقوم ، فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثانى على تأويل الزقوم لأنه يفسرها ، وهي في معناه . وقال ابن عطية : والضمير في عليه عائد على المأكول ، أو على الأكل . انتهى . فلم يجعله عائداً على شجر .
الواقعة : ( 55 ) فشاربون شرب الهيم
وقرأ نافع وعاصم وحمزة : ) شُرْبَ ( بضم الشين ، وهو مصدر . وقيل : اسم لما يشرب ؛ ومجاهد وأبو عثمان النهدي : بكسرها ، وهو بمعنى المشروب ، اسم لا مصدر ، كالطحن والرعي ؛ والأعرج وابن المسيب وسبيب بن الحبحاب ومالك بن دينار وابن جريج وباقي السبعة : بفتحها ، وهو مصدر مقيس . والهيم ، قال ابن عباس ومجاهد

" صفحة رقم 210 "
وعكرمة والضحاك : جمع أهيم ، وهو الجمل الذي أصابه الهيام ، وقد فسرناه في المفردات . وقيل : جمع هيماء . وقيل : جمع هائم وهائمة ، وجمع فاعل على فعل شاذ ، كباذل وبذل ، وعائد وعوذ ؛ والهائم أيضاً من الهيام . ألا ترى أن الجمل أذا أصابه ذلك هام على وجهه وذهب ؟ وقال ابن عباس وسفيان : الهيم : الرمال التى لا تروى من الماء ، وتقدم الخلاف في مفرده ، أهو الهيام بفتح الهاء ، أم بالضم ؟ والمعنى : أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي كالمهل ، فإذا ملأوا منه البطون ، سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاهم ، فيشربونه شرب الهيم ، قاله الزمخشري .
وقال أيضاً : فإن قلت : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسه ؟ قلت : ليستا بمتفقتين من حيث أن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة ، وقطع الأمعاء أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك ، كما تشرب الهيم الماء ، أمر عجيب أيضاً ؛ فكانتا صفتين مختلفتين . انتهى . والفاء تقتضي التعقيب في الشربين ، وأنهم أولاً لما عطشوا شربوا من الحميم ظناً أنه يسكن عطشهم ، فازداد العطش بحرارة الحميم ، فشربوا بعده شرباً لا يقع به ريّ أبداً ، وهو مثل شرب الهيم ، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد ، اختلفت صفتاه فعطف ، والمقصود الصفة . والمشروب منه في ) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ( محذوف لفهم المعنى تقديره : فشاربون منه شرب الهيم .
الواقعة : ( 56 ) هذا نزلهم يوم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) نُزُلُهُمْ ( بضم الزاي . وقرأ ابن محيصن وخارجة ، عن نافع ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس ، كلهم عن أبي عمرو : بالسكون ، وهو أول ما يأكله الضيف ، وفيه تهكم بالكفار ، وقال الشاعر : وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا
جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
) يَوْمِ الدّينِ ( : أي يوم الجزاء .
الواقعة : ( 57 ) نحن خلقناكم فلولا . . . . .
( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ ( بالإعادة وتقرون بها ، كما أقررتم بالنشأة الأولى ، وهي خلقهم . ثم قال : ) فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ ( بالإعادة وتقررن بها كما أقررتم ، فهو حض على التصديق . ) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( ، أو : ) فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ بِهِ ( ،
الواقعة : ( 58 - 59 ) أفرأيتم ما تمنون
ثم حض على التصديق على وجه تقريعهم بسياق الحجج الموجبة للتصديق ، وكان كافراً ، قال : ولم أصدق ؟ فقيل له : أفرأيت كذا مما الإنسان مفطور على الإقرار به ؟ فقال : ) أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ ( ، وهو المني الذي يخرج من الإنسان ، إذ ليس له في خلقه عمل ولا إرادة ولا قدرة . وقال الزمخشري : ) يخلقونه ( : تقدرونه وتصورونه . انتهى ، فحمل الخلق على التقدير والتصوير ، لا على الإنشاء . ويجوز في ) يَخْشَى أَءنتُمْ ( أن يكون مبتدأ ، وخبره ) تَخْلُقُونَهُ ( ، والأولى أن يكون فاعلاً بفعل محذوف ، كأنه قال : أتخلقونه ؟ فلما حذف الفعل ، انفصل الضمير وجاء ) أَفَرَءيْتُمُ ( هنا مصرحاً بمفعولها الأول . ومجيء جملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني على ما هو المقرر فيها ، إذا كانت بمعنى أخبرني . وجاء بعد أم جملة فقيل : أم منقطعة ، وليست المعادلة للهمزة ، وذلك في أربعة مواضع هنا ، ليكون ذلك على استفهامين ، فجواب الأول لا ، وجواب الثاني نعم ، فتقدر أم على هذا ، بل أنحن الخالقون فجوابه نعم . وقال قوم من النحاة : أم هنا معادلة للهمزة ، وكان ما جاء من الخبر بعد نحن جيء به على سبيل التوكيد ، إذ لو قال : أم نحن ، لوقع الاكتفاء به دون ذكر الخبر . ونظير ذلك جواب من قال : من في الدار ؟ زيد في الدار ، أو زيد فيها ، ولو اقتصر في الجواب على زيد لاكتفى به . وقرأ الجمهور : ) مَّا تُمْنُونَ ( بضم التاء ؛ وابن عباس وأبو السمال : بفتحها .
الواقعة : ( 60 - 61 ) نحن قدرنا بينكم . . . . .
والجمهور : ) قَدَّرْنَآ ( ، بشد الدال ؛ وابن كثير : يخفها ، أي قضينا وأثبتنا ، أو رتبنا في التقدم والتأخر ، فليس موت العالم دفعة واحدة ، بل بترتيب لا يتعدى .
ويقال : سبقته

" صفحة رقم 211 "
على الشيء : أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه ، والمعنى : ) وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ ( : أي نحن قادرون على ذلك ، لا تغلبوننا عليه ، إن أردنا ذلك . وقال الطبري : المعنى نحن قادرون ، ( قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ( ، ( عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ ( : أي بموت طائفة ونبدلها بطائفة ، هكذا قرناً بعد قرن . انتهى . فعلى أن نبدل متعلق بقوله : ) نَحْنُ قَدَّرْنَا ( ، وعلى القول الأول متعلق ) بِمَسْبُوقِينَ ( ، أي لا نسبق . ) عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ ( ، وأمثالكم جمع مثل ، ( وَنُنشِئَكُمْ فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ ( من الصفات : أي نحن قادرون على أن نعدمكم وننشىء أمثالكم ، وعلى تغيير أوصافكم مما لا يحيط به فكركم . وقال الحسن : من كونكم قردة وخنازير ، قال ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد . ويجوز أن يكون ) أَمْثَالَكُم ( جمع مثل بمعنى الصفة ، أي نحن قادرون على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقاً وخلقاً ، ( وَنُنشِئَكُمْ ( في صفات لا تعلمونها .
الواقعة : ( 62 ) ولقد علمتم النشأة . . . . .
( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاْولَى ( : أي علمتم أنه هو الذي أنشأكم ، أولاً أنشأنا إنساناً . وقيل : نشأة آدم ، وأنه خلق من طين ، ولا ينكرها أحد من ولده . ) فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ( : حض على التذكير المؤدي إلى الإيمان والإقرار بالنشأة الآخرة . وقرأ الجمهور : تذكرون بشد الذال ؛ وطلحة يخفها وضم الكاف ، قالوا : وهذه الآية دالة على استعمال القياس والحض عليه . انتهى ، ولا تدل إلا على قياس الأولى ، لا على جميع أنواع القياس .
الواقعة : ( 63 ) أفرأيتم ما تحرثون
) أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ( : ما تذرونه في الأرض وتبذرونه ،
الواقعة : ( 64 ) أأنتم تزرعونه أم . . . . .
( تَزْرَعُونَهُ أَمْ ( : أي زرعاً يتم وينبت حتى ينتفع به ، والحطام : اليابس المتفتت الذي لم يكن له حب ينتفع به .
الواقعة : ( 65 ) لو نشاء لجعلناه . . . . .
( فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ( ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : تعجبون . وقال عكرمة : تلاومون . وقال الحسن : تندمون . وقال ابن زيد : تنفجعون ، وهذا كله تفسير باللازم . ومعنى تفكهون : تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة ، ورجل فكه : منبسط النفس غير مكترث بشيء ، وتفكه من أخوات تخرج وتحوب . وقرأ الجمهور : ) فَظَلْتُمْ ( ، بفتح الظاء ولام واحدة ؛ وأبو حيوة وأبو بكر في رواية القيكي عنه : بكسرها . كما قالوا : مست بفتح الميم وكسرها ، وحكاها الثوري عن ابن مسعود ، وجاءت عن الأعمش . وقرأ عبد الله والجحدري : فظللتم على الأصل ، بكسر اللام . وقرأ الجحدري أيضاً : بفتحها ، والمشهور ظللت بالكسر . وقرأ الجمهور : ) تَفَكَّهُونَ ( ؛ وأبو حرام : بالنون بدل الهاء . قال ابن خالويه : تفكه : تعجب ، وتفكن : تندم .
الواقعة : ( 66 ) إنا لمغرمون
) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ( ، قبله محذوف : أي يقولون . وقرأ الجمهور : إنا ؛ والأعمش والجحدري وأبو بكر : أئنا بهمزتين ، ( لَمُغْرَمُونَ ( : أي معذبون من الغرام ، وهو أشد العذاب ، قال : إن يعذب يكن غراماً وإن
يعط جزيلاً فإنه لا يبالي
أو لمحملون الغرم في النفقة ، إذ ذهب عنا غرم الرجل وأغرمته .
الواقعة : ( 67 ) بل نحن محرومون
) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( : محدودون ، لاحظ لنا في الخير .
الواقعة : ( 68 ) أفرأيتم الماء الذي . . . . .
( الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ ( : هذا الوصف يغني عن وصفه بالعذاب . ألا ترى مقابله ، وهو الأجاج ؟
الواقعة : ( 70 ) لو نشاء جعلناه . . . . .
ودخلت اللام في ) لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ( ، وسقطت في قوله : ) جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ( ، وكلاهما فصيح . وطول الزمخشري في مسوغ ذلك ، وملخصه : أن الحرف إذا كان في مكان ، وعرف واشتهر في ذلك المكان ، جاز حذفه لشهرة أمره . فإن اللام علم لارتباط الجملة الثانية بالأولى ، فجاز حذفه استغناء بمعرفة السامع . وذكر في كلامه أن الثاني امتنع لامتناع الأول ، وليس كما ذكر ، إنما هذا قول ضعفاء المعربين . والذي ذكره سيبويه : أنها حرف لما كان سيقع لوقوع الأول . ويفسد قول أولئك الضعفاء قولهم : لو كان إنساناً لكان حيواناً ، فالحيوانية لا تمتنع لامتناع الإنسانية . ثم قال : ويجوز أن يقال : إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة ، وأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب ، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم ، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب .
الواقعة : ( 72 ) أأنتم أنشأتم شجرتها . . . . .
والظاهر أن ) شَجَرَتَهَا ( ، المراد منه الشجر الذي يقدح منه النار . وقيل : المراد بالشجرة نفس النار ، كأنه يقول : نوعها أو جنسها ،

" صفحة رقم 212 "
فاستعار الشجرة لذلك ، وهذا قول متكلف .
الواقعة : ( 73 - 74 ) نحن جعلناها تذكرة . . . . .
( نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ( : أي لنار جهنم ، ( وَمَتَاعاً لّلْمُقْوِينَ ( : أي النازلين الأرض القوا ، وهي القفر . وقيل : للمسافرين ، وهو قريب مما قبله ؛ وقول ابن زيد : الجائعين ، ضعيف جداً . وقدم من فوائد النار ما هو أهم وآكد من تذكيرها بنار جهنم ، ثم أتبعه بفائدتها في الدنيا . وهذه الأربعة التي ذكرها الله تعالى ووقفهم عليها ، من أمر خلقهم وما به قوام عيشهم من المطعوم والمشروب . والنار من أعظم الدلائل على البعث ، وفيها انتقال من شيء إلى شيء ، وإحداث شيء من شيء ، ولذلك أمر في آخرها بتنزيهه تعالى عما يقول الكافرون . ووصف تعالى نفسه بالعظيم ، إذ من هذه أفعاله تدل على عظمته وكبريائه وانفراده بالخلق والإنشاء .
قوله عز وجل : ) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةٍ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضَّالّينَ فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ).
الواقعة : ( 75 - 76 ) فلا أقسم بمواقع . . . . .
قرأ الجمهور : ) فَلاَ أُقْسِمُ ( ، فقيل : لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله : ) لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ( ، والمعنى : فاقسم . وقيل : المنفي المحذوف ، أي فلا صحة لما يقول الكفار . ثم ابتدأ أقسم ، قاله سعيد بن جبير وبعض النحاة ؛ ولا يجوز ، لأن في ذلك حذف اسم لا وخبرها ، وليس جواباً لسائل سأل ، فيحتمل ذلك ، نحو قوله ) لا ( لمن قال : هل من رجل في الدار ؟ وقيل : توكيد مبالغة ما ، وهي كاستفتاح كلام شبهه في القسم ، إلا في شائع الكلام القسم وغيره ، ومنه .
فلا وأبي أعدائها لا أخونها
والأولى عندي أنها لام أشبعت فتحتها ، فتولدت منها ألف ، كقوله :
أعوذ بالله من العقراب
وهذا وإن كان قليلاً ، فقد جاء نظيره في قوله : ) فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ ( بياء بعد الهمزة ، وذلك في قراءة هشام ، فالمعنى : فلأقسم ، كقراءة الحسن وعيسى ، وخرج قراءة الحسن أبو الفتح على تقدير مبتدأ محذوف ، أي فلأنا أقسم ، وتبعه على ذلك الزمخشري . وإنما ذهبا إلى ذلك لأنه فعل حال ، وفي القسم عليه خلاف . فالذي اختاره ابن عصفور وغيره أن فعل الحال لا يجوز أن يقسم عليه ، فاحتاجوا إلى أن يصوروا المضارع خبراً لمبتدأ محذوف ، فتصير الجملة اسمية ، فيقسم عليها . وذهب بعض النحويين إلى أن جواز القسم على فعل الحال ، وهذا الذي اختاره فتقول : والله ليخرج زيد ، وعليه قول الشاعر :

" صفحة رقم 213 "
ليعلم ربي أن بيتي واسع
وقال الزمخشري : في قراءة الحسن ، ولا يصح أن تكون اللام لام قسم لأمرين ، أحدهما : أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح ؛ والثاني : أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال . انتهى . أما الأمر الأول ففيه خلاف ، فالذي قاله قول البصريين ، وأما الكوفيون فيختارون ذلك ، ولكن يجيزون تعاقبهما ، فيجيزون لأضربن زيداً ، واضربن عمراً . وأما الثاني فصحيح ، لكنه هو الذي رجح عندنا أن تكون اللام في لا أقسم لام القسم ، وأقسم فعل حال ، والقسم قد يكون جواباً للقسم ؛ كما قال تعالى : ) وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى ). فاللام في ) وَلَيَحْلِفَنَّ ( جواب قسم ، وهو قسم ، لكنه لما لم يكن حلفهم حالاً ، بل مستقبلاً ، لزمت النون ، وهي مخلصة المضارع للاستقبال . وقرأ الجمهور : ) بِمَواقِعِ ( جمعاً ؛ وعمر وعبد الله وابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي : بموقع مفرداً ، مراداً به الجمع . قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم : هي نجوم القرآن التي أنزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويؤيد هذا القول قوله : ) إِنَّهُ لَقُرْءانٌ ( ، فعاد الضمير على ما يفهم من قوله : ) بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( ، أي نجوم القرآن . وقيل : النجوم : الكواكب ومواقعها . قال مجاهد وأبو عبيدة : عند طلوعها وغروبها . وقال قتادة : مواقعها : مواضعها من السماء . وقال الحسن : مواقعها عند الانكدار يوم القيامة . وقيل : عند الانفضاض أثر العفاري ، ومن تأول النجوم على أنها الكواكب ، جعل الضمير في إنه يفسره سياق الكلام ، كقوله : ) حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ).
وفي إقسامه تعالى بمواقع النجوم سر في تعظيم ذلك لا نعلمه نحن ، وقد أعظم ذلك تعالى فقال : ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ). والجملة المقسم عليها قوله : ) إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ ( ، وفصل بين القسم وجوابه ؛ فالظاهر أنه اعتراض بينهما ، وفيه اعتراض بين الصفة والموصوف بقوله : ) لَّوْ تَعْلَمُونَ ). وقال ابن عطية : ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ( تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به ، وليس هذا باعتراض بين الكلامين ، بل هذا معنى قصد التهمم به ، وإنما الاعتراض قوله : ) لَّوْ تَعْلَمُونَ ). انتهى .
الواقعة : ( 77 ) إنه لقرآن كريم
وكريم : وصف مدح ينفي عنه مالا يليق به . وقال الزمخشري : ) كَرِيمٌ ( : حسن مرضي في جنسه من الكتب ، أو نفاع جم المنافع ، أو كريم على الله تعالى .
الواقعة : ( 78 ) في كتاب مكنون
) فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( : أي مصون . قال ابن عباس ومجاهد : الكتاب الذي في السماء . وقال عكرمة : التوراة والإنجيل ، كأنه قال : ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه ، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة . وقيل : ) فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( : أي في مصاحف للمسلمين مصونة من التبديل والتغيير ، ولم تكن إذ ذاك مصاحف ، فهو إخبار بغيب .
الواقعة : ( 79 ) لا يمسه إلا . . . . .
والظاهر أن قوله : ) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ( وصف لقرآن كريم ، فالمطهرون هم الملائكة . وقيل : ) لاَّ يَمَسُّهُ ( صفة لكتاب مكنون ، فإن كان الكتاب هو الذي في السماء ، فالمطهرون هم الملائكة أيضاً : أي لا يطلع عليه من سواهم ، وكذا على قول عكرمة : هم الملائكة ، وإن أريد بكتاب مكنون الصحف ، فالمعنى : أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على طهارة من الناس . وإذا كان ) الْمُطَهَّرُونَ ( هم الملائكة ، ( فَلا يَمَسُّهُ ( نفي ، ويؤيد المنفي ما يمسه على قراءة عبد الله . وإذا عنى بهم المطهرون من الكفر والجنابة ، فاحتمل أن يكون نفياً محضاً ، ويكون حكمه أنه لا يمسه إلا المطهرون ، وإن كان يمسه غير المطهر ، كما جاء : ) لا تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ( ، أي الحكم هذا ، وإن كان قد يقع العضد . واحتمل أن يكون نفياً أريد به النهي ، فالضمة في السين إعراب . واحتمل أن يكون نهياً فلو فك ظهر الجزم ، ولكنه لما أدغم كان مجزوماً في التقدير ، والضمة فيه لأجل ضمة الهاء ، كما جاء في الحديث : ( إنا لم نرده عليك ) ، إلا إنا جزم ، وهو مجزوم ، ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا من المجزوم المدغم المتصل بالهاء ضمير المذكر إلا الضم . قال ابن عطية : والقول بأن لا يمسه نهي ، قول فيه ضعف

" صفحة رقم 214 "
وذلك أنه إذا كان خبراً ، فهو في موضع الصفة
الواقعة : ( 80 ) تنزيل من رب . . . . .
وقوله بعد ذلك ) تَنزِيلَ ( صفة ، فإذا جعلناه نهياً ، جاء معناه أجنبياً معترضاً بين الصفات ، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره . وفي حرف ابن مسعود ما يمسه ، وهذا يقوي ما رجحته من الخبر الذي معناه حقه وقدره أن لا يمسه إلا طاهر . انتهى .
ولا يتعين أن يكون ) تَنزِيلَ ( صفة ، بل يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فيحسن إذ ذاك أن يكون ) لاَّ يَمَسُّهُ ( نهياً . وذكروا هنا حكم مس المصحف ، وذلك مذكور في الفقه ، وليس في الآية دليل على منع ذلك . وقرأ الجمهور : ) الْمُطَهَّرُونَ ( اسم مفعول من طهر مشدّداً ؛ وعيسى : كذلك مخففاً من أطهر ، ورويت عن نافع وأبي عمرو . وقرأ سلمان الفارسي : المطهرون ، بخف الطاء وشد الهاء وكسرها : اسم فاعل من طهر ، أي المطهرين أنفسهم ؛ وعنه أيضاً المطهرون بشدهما ، أصله المتطهرون ، فأدغم التاء في الطاء ، ورويت عن الحسن وعبد الله بن عوف . وقرىء : المتطهرون . وقرىء : تنزيلاً بالنصب ، أي نزل تنزيلاً ،
الواقعة : ( 81 ) أفبهذا الحديث أنتم . . . . .
والإشارة في : ) أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ ( للقرآن ، و ) أَنتُمْ ( : خطاب للكفار ، ( مُّدْهِنُونَ ( ، قال ابن عباس : مهاودون فيما لا يحل . وقال أيضاً : مكذبون .
الواقعة : ( 82 ) وتجعلون رزقكم أنكم . . . . .
( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ( : أي شكر ما رزقكم الله من إنزال القرآن عليكم تكذيبكم به ، أي تضعون مكان الشكر التكذيب ، ومن هذا المعنى قول الراجز : مكان شكر القوم عند المنن
كي الصحيحات وفقء الأعين
وقرأ عليّ وابن عباس : وتجعلون شكركم ، وذلك على سبيل التفسير لمخالفته السواد . وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنؤه ما رزق فلان فلاناً ، بمعنى : ما شكره . قيل : نزلت في الأنواء ، ونسبة السقيا إليها ، والرزق : المطر ، فالمعنى : ما يرزقكم الله من الغيب . وقال ابن عطية : أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر ، هذا بنوء كذا وكذا ، وهذا بنوء الأسد ، وهذا بنوء الجوزاء ، وغير ذلك . وقرأ الجمهور : ) تُكَذّبُونَ ( من التكذيب ؛ وعليّ والمفضل عن عاصم : من الكذب ، فالمعنى من التكذيب أنه ليس من عند الله ، أي القرآن أو المطر ، حيث ينسبون ذلك إلى النجوم . ومن الكذب قولهم : في القرآن سحر وافتراء ، وفي المطر من الأنواء .
الواقعة : ( 83 - 84 ) فلولا إذا بلغت . . . . .
( فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ( ، قال الزمخشري : ترتيب الآية : فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين ، فلولا الثانية مكررة للتوكيد ، والضمير في ترجعونها للنفس . وقال ابن عطية : توقيف على موضع عجز يقتضي النظر فيه أن الله مالك كل شيء . ) وَأَنتُمْ ( : إشارة إلى جميع البشر ، ( حِينَئِذٍ ( : حين إذ بلغت الحلقوم ، ( تَنظُرُونَ ( : أي إلى النازع في الموت . وقرأ عيسى : حينئذ بكسر النون اتباعاً لحركة الهمزة في إذ ،
الواقعة : ( 85 - 87 ) ونحن أقرب إليه . . . . .
( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ( بالعلم والقدرة ، ( وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ( : من البصيرة بالقلب ، أو ) أَقْرَبُ ( : أي ملائكتنا ورسلنا ، ( وَلَكِنَّا لاَ تُبْصِرُونَ ( : من البصر بالعين . ثم عاد التوقيف والتقدير ثانية بلفظ التخصيص . والمدين : المملوك . قال الأخطل : ربت ورباني في حجرها ابن مدينة قيل : ابن مملوكة يصف عبداً ابن أمة ، وآخر البيت :
تراه على مسحانة يتوكل والمعنى : فلولا ترجعون النفس البالغة إلى الحلقوم إن كنتم غير مملوكين وغير مقهورين . ) إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد ، إذ كانوا فيما ذهبوا إليه من أن القرآن سحر وافتراء ، وأن ما نزل من المطر

" صفحة رقم 215 "
هو بنوء ، كذا تعطيل للصانع وتعجيز له . وقال ابن عطية : قوله ) تَرْجِعُونَهَا ( سد مسد جوابها ، والبيانات التي تقتضيها التخصيصات ، وإذا من قوله : ) فَلَوْلاَ إِذَا ( ، وإن المتكررة ، وحمل بعض القول بعضاً إيجازاً واقتصاراً . انتهى . وتقول : ) إِذَا ( ليست شرطية ، فتسد ) تَرْجِعُونَهَا ( مسد جوابها ، بل هي ظرف غير شرط معمول لترجعونها المحذوف بعد فلولا ، لدلالة ترجعونها في التخصيص الثاني علي ، فجاء التخصيص الأول مقيداً بوقت بلوغ الحلقوم ، وجاء التخصيص الثاني معلقاً على انتفاء مربوبيتهم ، وهم لا يقدرون على رجوعها ، إذ مربوبيتهم موجودة ، فهم مقهورون لا قدرة لهم .
( فَأَمَّا إِن كَانَ ( : أي المتوفى ، ( مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( : وهم السابقون .
الواقعة : ( 88 - 90 ) فأما إن كان . . . . .
وقرأ الجمهور ؛ ) فَرَوْحٌ ( ، بفتح الراء ؛ وعائشة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ونوح القارىء ، والضحاك ، والأشهب ، وشعيب بن الحبحاب ، وسليمان التيمي ، والربيع بن خيثم ، ومحمد بن عليّ ، وأبو عمران الجوني ، والكلبي ، وفياض ، وعبيد ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، ويعقوب بن صيان ، وزيد ، ورويس عنه : بضمها . قال الحسن : الروح : الرحمة ، لأنها كالحياة للمرحوم . وقال أيضاً : روحه تخرج في ريحان . وقيل : الروح : البقاء ، أي فهذان له معاً ، وهو الخلود مع الرزق . وقال مجاهد : الريحان : الرزق . وقال الضحاك : الاستراحة . وقال أبو العالية وقتادة والحسن أيضاً : الريحان ، هذا الشجر المعروف في الدنيا ، يلقى المقرب ريحاناً من الجنة . وقال الخليل : هو ظرف كل بقلة طيبة فيها أوائل النور . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، في الحسن والحسين ، رضي الله تعالى عنهما : ( هما ريحانتاي من الدنيا ) .
وقال ابن عطية : الريحان : مما تنبسط به النفوس ، ( فَرَوْحٌ ( : فسلام ، فنزل الفاء جواب أما تقدم . أما وهي في تقدير الشرط ، وإن كان من المقربين ، وإن كان من أصحاب اليمين ، وإن كان من المكذبين الضالين شرط ؛ وإذا اجتمع شرطان ، كان الجواب للسابق منهما . وجواب الثاني محذوف ، ولذلك كان فعل الشرط ماضي للفظ ، أو مصحوباً بلم ، وأغنى عنه جواب أما ، هذا مذهب سيبويه . وذهب أبو عليّ الفارسي إلى أن الفاء جواب إن ، وجواب أما محذوف ، وله قول موافق لمذهب سيبويه . وذهب الأخفش إلى أن الفاء جواب لأمّا ، والشرط معاً ، وقد أبطلنا هذين المذهبين في كتابنا المسمى بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل ، والخطاب في ذلك للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي لا ترى فيهم يا محمد إلا السلامة من العذاب . ثم لكل معتبر من أمّته ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبل لمن يخاطبه : ) مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ).
الواقعة : ( 91 ) فسلام لك من . . . . .
فقال الطبري : المعنى : فسلام لك أنت من أصحاب اليمين . وقال قوم : المعنى : فيقال لهم : مسلم لك إنك من أصحاب اليمين . وقيل : فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي يسلمون عليك ، كقوله : ) إِلاَّ قَلِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ).
الواقعة : ( 92 ) وأما إن كان . . . . .
والمكذبون الضالون هم أصحاب المشأمة ، أصحاب الشمال .
الواقعة : ( 93 ) فنزل من حميم
وقرأ الجمهور : وتصلية رفعاً ، عطفاً على ) فَنُزُلٌ ( ؛ وأحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو : بحر عطفاً على ) مِنْ حَمِيمٍ ).
الواقعة : ( 94 - 95 ) وتصلية جحيم
ولما انقضى الإخبار بتقسيم أحوالهم وما آل إليه كل قسم منهم ، أكد ذلك بقوله : ) إِنَّ هَذَا ( : أي إن هذا الخبر المذكور في هذه السورة ) هُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( ، فقيل : هو من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة ، كما تقول : هذا يقين اليقين وصواب الصواب ، بمعنى أنها نهاية في ذلك ، فهما بمعنى واحد أضيف على سبيل المبالغة . وقيل : هو من إضافة الموصوف إلى صفته جعل الحق مبايناً لليقين ، أي الثابت المتيقن .
الواقعة : ( 96 ) فسبح باسم ربك . . . . .
ولما تقدم ذكر الأقسام الثلاثة مسهباً الكلام فيهم ، أمره تعالى بتنزيهه عن ما لا يليق به من الصفات . ولما أعاد التقسيم موجزاً الكلام فيه ، أمره أيضاً بتنزيهه وتسبيحه ، والإقبال على عبادة ربه ، والإعراض عن أقوال الكفرة المنكرين للبعث والحساب والجزاء . ويظهر أن سبح يتعدى تارة بنفسه ، كقوله : ) سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( ، ويسبحوه ؛ وتارة بحرف الجر ، كقوله : ) فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ( ، والعظيم يجوز أن يكون صفة لاسم ، ويجوز أن يكون صفة لربك .

" صفحة رقم 216 "
5
( سورة الحديد )
) 2
) سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ هُوَ الاْوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الاْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء ).
قال النقاش وغيره : هذه السورة مدنية بإجماع من المفسرين . وقال غيره ، كالزمخشري : هي مكية . وقال ابن عطية : لا خلاف ، إن فيها قرآناً مدنياً ، لكن يشبه صدرها أن يكون مكياً .
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة ، لأنه تعالى أمر بالتسبيح ، ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله والتزمه كل من في السموات والأرض ، وأتى سبح بلفظ الماضي ، ويسبح بلفظ المضارع ، وكله يدل على الديمومة والاستمرار ، وإن ذلك ديدن من في السموات والأرض .
الحديد : ( 1 ) سبح لله ما . . . . .
والتسبيح هنا عند الأكثرين بمعنى التنزيه المعروف في قولهم : سبحان الله ، فقيل : هو حقيقة في الجميع ، وقيل : فيمن يمكن التسبيح منهم ، وقيل : مجاز ، بمعنى : أن أثر الصنعة فيها ينبه الرائي على التسبيح . وقيل : التسبيح هنا الصلاة ، ففي الجماد بعيد ، وفي الكافر سجود ظله صلاته ، وفي المؤمن ذلك سائغ ، واللام في ) لِلَّهِ ( ، إما أن تكون بمنزلة اللام في : نصحت لزيد ، يقال : سبح الله ، كما يقال ؛ نصحت زيداً ، فجيء باللام لتقوية وصول الفعل إلى المفعول ؛ وإما أن تكون لام التعليل ، أي أحدث التسبيح لأجل الله ، أي لوجهه خالصاً .
الحديد : ( 2 ) له ملك السماوات . . . . .
( يحيي ويميت ( : جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب لقوله : ) لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ). لما أخبر بأنه له الملك ، أخبر عن ذاته بهذين الوصفين العظيمين اللذين بهما تمام التصرف في الملك ، وهو إيجاد ما شاء وإعدام ما شاء ، ولذلك أعقب بالقدرة التي بها الإحياء والإماتة . وجوز أن يكون خبر مبتدأ ، أي هو يحيي ويميت . وأن يكون حالاً ، وذو الحال الضمير في له ، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور .
الحديد : ( 3 ) هو الأول والآخر . . . . .
( هُوَ الاْوَّلُ ( : الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة ، ( وَالاْخِرُ ( : أي الدائم الذي ليس له نهاية منقضية . وقيل : الأول الذي كان قبل كل شيء ، والآخر الذي يبقى بعد هلاك كل شيء . ) وَالظَّاهِرُ ( بالأدلة ونظر العقول في صفته ، ( وَالْبَاطِنُ ( لكونه غير مدرك بالحواس . وقال أبو بكر الورّاق : الأول بالأزلية ، والآخر بالأبدية . وقيل : ) الظاهر ( العالي على كل شيء ، الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه ؛ ) وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ( : الذي بطن كل شيء ، أي علم باطنه . وقال الزمخشري ؛ فإن قلت : فما معنى الواو ؟ قلت : الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين

" صفحة رقم 217 "
الأولية والآخرية ؛ والثانية على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ؛ وأما الوسطى فعل أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين . فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن . جامع الظهور بالأدلة والخفاء ، فلا يدرك بالحواس ؛ وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .
الحديد : ( 4 ) هو الذي خلق . . . . .
( يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الاْرْضِ ( من المطر والأموات وغير ذلك ، ( وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ( من النبات والمعادن وغيرها ، ( وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء ( من الملائكة والرحمة والعذاب وغيره ، ( وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ( من الملائكة وصالح الأعمال وسيئها ، ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ( : أي بالعلم والقدرة . قال الثوري : المعني علمه معكم ، وهذه آية أجمعت الأمّة على هذا التأويل فيها ، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات ، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها . وقال بعض العلماء : فيمن يمتنع من تأويل ما لا يمكن حمله على ظاهره ، وقد تأول هذه الآية ، وتأول الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، لو اتسع عقله لتأول غير هذا مما هو في معناه .
الحديد : ( 5 ) له ملك السماوات . . . . .
وقرأ الجمهور ؛ ) تُرْجَعُ ( ، مبنياً للمفعول ؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج : مبنياً للفاعل ؛ والأمور عام في جميع الموجودات ، أعراضها وجواهرها . وتقدم شرح ما قبل هذا وما بعده ، فأغنى عن إعادته .
( ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ هُوَ الَّذِى يُنَزّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ ).
الحديد : ( 7 ) آمنوا بالله ورسوله . . . . .
لما ذكر تعالى تسبيح العالم له ، وما احتوى عليه من الملك ، والتصرف ، وما وصف به نفسه من الصفات العلا ، وختمها بالعالم بخفيات الصدور ، أمر تعالى عباده المؤمنين بالثبات على الإيمان وإدامته ، والنفقة في سبيل الله تعالى . قال الضحاك : نزلت في غزوة تبوك . ) مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ( : أي ليست لكم بالحقيقة ، وإنما انتقلت إليكم من غيركم . وكما وصلت إليكم تتركونها لغيركم ، وفيه تزهيد فيما بيد الناس ، إذ مصيره إلى غيره ، وليس له منه إلا ما جاء في الحديث : ( يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ) . وقيل لأعرابي : لمن هذه الإبل ؟ فقال : هي لله تعالى عندي . أو يكون المعنى : إنه تعالى أنشأ هذه الأموال ، فمتعكم بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها ، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء ، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى .
ثم ذكر تعالى ما للمؤمن المنفق من الأجر ، ووصفة بالكرم ليصرعه في أنواع الثواب . قيل : وفيه إشارة إلى عثمان بن عفان ، حيث بذل تلك النفقة العظيمة في جيش العسرة ،
الحديد : ( 8 ) وما لكم لا . . . . .
ثم قال : ) وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( ، وهو استفهام على سبيل التأنيب والإنكار : أي كيف لا تثبتون على الإيمان ؟ ودواعي ذلك موجودة ، وذلك ركزة فيكم من دلائل العقل . وموجب ذلك من السمع في قوله : ) وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ( لهذا الوصف الجليل . وقد تقدم أخذ الميثاق عليكم بالإيمان ، فدواعي الإيمان موجودة ، وأسبابه حاصلة ، فلا مانع منه ، ولا عذر في تركه . و ) لاَ تُؤْمِنُونَ ( حال ، كما تقول : ما لك لا تقوم تنكر عليه انتفاء قيامه ؟

" صفحة رقم 218 "
) وَالرَّسُولِ ( : الواو واو الحال ، فالجملة بعده حال ، وقد أخذ حال ثالثة ، وهذا الميثاق قيل : هو الذي أخذ عليهم حين الإخراج من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام . وقيل : ما نصب من الأدلة وركز في العقول من النظر فيها .
( إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( : شرط وجوابه محذوف ، أي إن كنتم مؤمنين لموجب مّا ، فهذا هو الموجب لإيمانكم ، أو إن كنتم ممن يؤمن ، فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه ؟ وهي دعاء الرسول وأخذ الميثاق . وقال الطبري : إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فالآن . وقرأ الجمهور : ) وَقَدْ أَخَذَ ( مبنياً للفاعل ، ( مِيثَاقَكُمْ ( بالنصب ؛ وأبو عمرو : مبنياً للمفعول ، ميثاقكم رفعاً . وقال ابن عطية : في قوله : ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( وإنما المعنى أن قوله : ) وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( يقتضي أن يقدر بأثره ، فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة . ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( : أي إن دمتم على ما بدأتم به .
الحديد : ( 9 ) هو الذي ينزل . . . . .
ولما ذكر توطئة ما يوجب الإيمان دعاء الرسول إياهم للإيمان ، ذكر أنه تعالى هو المنزل على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما دعا به إلى الإيمان ، وذلك الآيات البينات المعجزات ، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أي الله تعالى ، إذ هو المخبر عنه ، أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنه أقرب . وقرىء في السبعة : ) يُنَزّلٍ ( مضارعاً ، فبعض ثقل وبعض خفف . وقراءة الحسن : بالوجهين ؛ وزيد بن علي والأعما : أنزل ماضياً ، ووصف نفسه تعالى بالرأفة والرحمة تأنيساً لهم .
الحديد : ( 10 ) وما لكم ألا . . . . .
ولما كان قد أمرهم بالإيمان والإنفاق ، ثم ترك تأنيبهم على ترك الإيمان مع حصول موجبه ، أنبهم على ترك الإنفاق في سبيل الله مع قيام الداعي لذلك ، وهو أنهم يموتون فيخلفونه . ونبه على هذا الموجب بقوله : ) وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( وهذا من أبلغ البعث على الإنفاق . وأن لا تنفقوا تقديره : في أن لا تنفقوا ، فموضعه جر أو نصب على الخلاف ، وأن ليست زائدة ، بل مصدرية . وقال الأخفش : في قوله : ) وَمَا لَنَا أَن لا نُّقَاتِلْ ( ، إنها زائدة عاملة تقديره عنده : وما لنا لا نقاتل ، فلذلك على مذهبه في تلك هنا تكون أن ، وتقديره : وما لكم لا تنفقون ، وقد رد مذهبه في كتب النحو .
( لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ( ، قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، إذ كان أول من أسلم وهاجر وأنفق رضي الله تعالى عنه ، وكذا من تابعه في السبق في ذلك ، ولذلك قال : ) أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً ). وقيل : نزلت بسبب أن ناساً من الصحابة أنفقوا نفقات جليلة حتى قيل : إن هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق . وهذه الجملة تضمنت تباين ما بين المنفقين . وقرأ الجمهور : ) مِن قَبْلِ الْفَتْحِ ( ؛ وزيد بن علي ، قيل : بغير من . والفتح مكة ، وهو المشهور ، وقول قتادة وزيد بن أسلم ومجاهد . وقال أبو سعيد الخدري والشعبي : هو فتح الحديبة ، وقد تقدم في أول سورة الفتح كونه فتحاً ، ورفعه أبو سعيد إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبة . والظاهر أن ) مِنْ ( فاعل ) لاَ يَسْتَوِى ( ، وحذف مقابله ، وهو من أنفق من بعد الفتح وقاتل ، لوضوح المعنى .
( أُوْلَائِكَ ( : أي الذين أنفقوا قبل الفتح وقبل انتشار الإسلام وفشوّه واستيلاء السلمين على أم القرى ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين جاء في حقهم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) . وأبعد من ذهب إلى الفاعل بلا يستوي ضمير يعود على الإنفاق ، أي لا يستوي ، هو الإنفاق ، أي جنسه ، إذ منه ما هو قبل الفتح وبعده ؛ ومن أنفق مبتدأ ، وأولئك مبتدأ خبره ما بعده ، والجملة في موضع خبر من ، وهذا فيه تفكيك للكلام ، وخروج عن الظاهر لغير موجب . وحذف المعطوف لدلالة المقابل كثيرة ، فأنفق لا سيما المعطوف الذي يقتضيه وضع الفعل ، وهو يستوي . وقرأ الجمهور : ) وَكُلاًّ ( بالنصب ، وهو المفعول الأول لوعد . وقرأ ابن عامر وعبد الوارث من طريق المادر أي : وكل بالرفع والظاهر أنه مبتدأ ، والجملة بعده في موضع الخبر ، وقد أجاز ذلك الفراء وهشام ، وورد في

" صفحة رقم 219 "
السبعة ، فوجب قبوله ؛ وإن كان غيرهما من النحاة قد خص حذف الضمير الذي حذف من مثل وعد بالضرورة . وقال الشاعر : وخالد تحمد ساداتنا
بالحق لا تحمد بالباطل
يريده : تحمده ساداتنا ، وفر بعضهم من جعل وعد خبراً فقال : كل خبر مبتدأ تقديره : وأولئك كل ، ووعد صفة ، وحذف الضمير المنصوب من الجملة الواقعة صفة أكثر من حذفه منها إذا كانت خيراً ، نحو قوله : وما أدري أغيرهم تناء
وطول العهد أم مال أصابوا
يريد : أصابوه ، فأصابوه صفة لمال ، وقد حذف الضمير العائد على الموصوف والحسنى : تأنيث الأحسن ، وفسره مجاهد وقتادة بالجنة . والوعد يتضمن ذلك في الآخرة ، والنصر والغنيمة في الدنيا . ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيرٌ ( : فيه وعد ووعيد .
الحديد : ( 11 ) من ذا الذي . . . . .
وتقدم الكلام على مثل قوله : ) مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ( ، إعراباً وقراءة وتفسيراً ، في سورة البقرة . وقال ابن عطية : هنا الرفع يعني في يضاعفه على العطف ، أو على القطع والاستئناف . وقرأ عاصم : فيضاعفه بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام ، وفي ذلك قلق . قال أبو علي ، يعني الفارسي : لأن السؤال لم يقع على القرض ، وإنما وقع السؤال على فاعل القرض ، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ، لكن هذه الفرقة ، يعني من القراء ، حملت ذلك على المعنى ، كأن قوله : ) مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ ( بمنزلة أن لو قال : أيقرض الله أحد فيضاعفه ؟ انتهى .
وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أنه إنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ليس بصحيح ، بل يجوز إذا كان الاستفهام بأدواته الاسمية نحو : من يدعوني فأستجيب له ؟ وأين بيتك فأزورك ؟ ومتى تسير فأرافقك ؟ وكيف تكون فأصحبك ؟ فالاستفهام هنا واقع عن ذات الداعي ، وعن ظرف المكان وظرف الزمان والحال ، لا عن الفعل . وحكى ابن كيسان عن العرب : أين ذهب زيد فنتبعه ؟ وكذلك : كم مالك فنعرفه ؟ ومن أبوك فنكرمه ؟ بالنصب بعد الفاء . وقراءة فيضاعفه بالنصب قراءة متواترة ، والفعل وقع صلة للذي ، والذي صفة لذا ، وذا خبر لمن . وإذا جاز النصب في نحو هذا ، فجوازه في المثل السابقة أحرى ، مع أن سماع بن كيسان ذلك محكياً عن العرب يؤيد ذلك . والظاهر أن قوله : ) وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( هو زيادة على التضعيف المترتب على القرض ، أي وله مع التضعيف أجر كريم .
قوله عز وجل : ) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِك ( سقط : سقط إلى آخر الصفحة ) َ ).

" صفحة رقم 220 "
( سقط : الله وغركم بالله الغرور ، فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ومأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير )
الحديد : ( 12 ) يوم ترى المؤمنين . . . . .
العامل في يوم ما عمل في لهم ؛ التقدير : ومستقر له أجر كريم يوم ترى ، أو اذكر يوم ترى إعظاماً لذلك اليوم . والرؤية هنا رؤية عين ، والنور حقيقة ، وهو قول الجمهور ، وروي في ذلك عن ابن عباس وغيره آثار ، وأن كل مظهر من الإيمان له نور ، فيطفىء نور المنافق ، ويبقى نور المؤمن ، وهم متفاوتون في النور . منهم من يضيء ، كما بين مكة وصنعاء ، ومن نوره كالنخلة السحوق ، ومن يضيء له ما قرب قدميه . ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويبين مرة ، وذلك على قدر الأعمال . وقال الضحاك : النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه . والظاهر أن النور يتقدم لهم بين أيديهم ، ويكون أيضاً بأيمانهم ، فيظهر أنهما نوران : نور ساع بين أيديهم ، ونور بأيمانهم ؛ فذلك يضيء الجهة التي يؤمونها ، وهذا يضيء ما حواليهم من الجهات . وقال الجمهور : النور أصله بأيمانهم ، والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك النور . وقيل : الباء بمعنى عن ، أي عن أيمانهم ، والمعنى : في جميع جهاتهم . وعبر عن ذلك بالأيمان تشريفاً لها . وقال الزمخشري : وإنما قال ) بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ( ، لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم . وقرأ الجمهور : ) وَبِأَيْمَانِهِم ( ، جمع يمين ؛ وسهل بن شعيب السهمي ، وأبو حيوة : بكسر الهمزة ، وعطف هذا المصدر على الظرف لأن الظرف متعلق بمحذوف ، أي كائناً بين أيديهم ، وكائناً بسبب أيمانهم .
( بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ( : جملة معمولة لقول محذوف ، أي تقول لهم الملائكة : الذين يتلقونهم جنات ، أي دخول جنات . قال ابن عطية : ) خَالِدِينَ فِيهَا ( ، إلى آخر الآية ، مخاطبة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . انتهى . ولا مخاطبة هنا ، بل هذا من باب الالتفات من ضمير الخطاب في ) بُشْرَاكُمُ ( إلى ضمير الغيبة في ) خَالِدِينَ ). ولو جرى على الخطاب ، لكان التركيب خالداً أنتم فيها ، والالتفات من فنون البيان
الحديد : ( 13 ) يوم يقول المنافقون . . . . .
( يَوْمَ يَقُولُ ( بدل من ) يَوْمَ تَرَى ). وقيل : معمول لأذكر . قال ابن عطية : ويظهر لي أن العامل فيه ) ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ، ومجيء معنى الفوز أفخم ، كأنه يقول : إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا ، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم . انتهى . فظاهر كلامه وتقديره أن يوم منصوب بالفوز ، وهو لا يجوز ، لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته ، فلا يجوز إعماله . فلو أعمل وصفة ، وهو العظيم ، لجاز ، أي الفوز الذي عظم ، أي قدره ) يَوْمَ يَقُولُ ).
) انظُرُونَا ( : أي انتظرونا ، لأنهم لما سبقوكم إلى المرور على الصراط ، وقد طفئت أنوارهم ، قالوا ذلك . قال الزمخشري : ) انظُرُونَا ( : انتظرونا ، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تذف بهم وهؤلاء مشاة ، أو انظروا إلينا ، لأنهم إذا انظروا إليهم استقبلوهم بوجوهم والنور بين أيديهم فيستضيئون به . انتهى . فجعل انظرونا بمعنى انظروا إلينا ، ولا يتعدى النظر هذا في لسان العرب إلا بإلى لا بنفسه ، وإنما وجد متعدياً بنفسه في الشعر . وقرأ زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة : أنظرونا من أنظر رباعياً ، أي أخرونا ، أي اجعلونا في آخركم ، ولا تسبقونا بحيث تفوتوننا ، ولا نلحق بكم . ) نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ( : أي نصب منه حتى نستضيء به . ويقال : اقتبس الرجل واستقبس : أخذ من نار غيره قبساً . ) قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ ( : القائل المؤمنون ، أو الملائكة . والظاهر أن ) وَرَاءكُمْ ( معمول لا رجعوا . وقيل : لا محل له من الأعراب لأنه بمعنى ارجعوا ، كقولهم : وراءك أوسع لك ، أي ارجع تجد مكاناً أوسع لك . وارجعوا أمر توبيخ وطرد ، أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا الفوز فالتمسوه هناك ، أو ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نوراً ، أي بتحصيل سببه وهو الإيمان ، أو تنحوا عنا ، ( فَالْتَمِسُواْ نُوراً ( غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه . وقد علموا أن لا نور وراءهم ، وإنما هو إقناط لهم .
( فَضُرِبَ بَيْنَهُم ( : أي بين المؤمنين والمنافقين ، ( بِسُورٍ ( : بحاجز . قال ابن زيد : هو الأعراف

" صفحة رقم 221 "
وقيل : حاجز غيره . وقرأ الجمهور : فضرب مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن علي وعبيد بن عمير : مبنياً للفاعل ، أي الله ، ويبعد قول من قال : إن هذا السور هو الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس ، وهو مروي عن عبادة بن الصامت وابن عباس وعبد الله بن عمر وكعب الأحبار ، ولعله لا يصح عنهم . والسور هو الحاجز الدائر على المدينة للحفظ من عدو . والظاهر في باطنه أن يعود الضمير منه على الباب لقربه . وقيل : على السور ، وباطنه الشق الذي لأهل الجنة ، وظاهره ما يدانيه من قبله من جهته العذاب .
الحديد : ( 14 ) ينادونهم ألم نكن . . . . .
( يُنَادُونَهُمْ ( : استئناف إخبار ، أي ينادون المنافقون المؤمنين ، ( أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ( : أي في الظاهر ، ( قَالُواْ بَلَى ( : أي كنتم معنا في الظاهر ، ( وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ ( : أي عرضتم أنفسكم للفتنة بنفاقكم ، ( وَتَرَبَّصْتُمْ ( أي بأيمانكم حتى وافيتم على الكفر ، أو تربصتم بالمؤمنين الدوائر ، قاله قتادة ، ( وَارْتَبْتُمْ ( : شككتم في أمر الدين ، ( وَغرَّتْكُمُ الاْمَانِىُّ ( : وهي الأطماع ، مثل قولهم : سيهلك محمد هذا العام ، تهزمه قبيلة قريش مستأخرة الأحزاب إلى غير ذلك ، أو طول الآمال في امتداد الأعمار ، ( حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ ( ، وهو الموت على النفاق ، والغرور : الشيطان بإجماع . وقرأ سماك بن حرب : الغرور ، وتقدم ذلك .
الحديد : ( 15 ) فاليوم لا يؤخذ . . . . .
( فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ ( أيها المنافقون ، والناصب لليوم الفعل المنفي بلا ، وفيه حجة على من منع ذلك ، ( وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، في الحديث : ( إن الله تعالى يعزر الكافر فيقول له : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا ، أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار ؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول الله تبارك وتعالى : قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأ نت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك ) . وقرأ الجمهور : لا يؤخذ ؛ وأبو جعفر والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو : بالتاء لتأنيث الفدية . ) هِىَ مَوْلَاكُمْ ( ، قيل : أولى بكم ، وهذا تفسير معنى . وكانت مولاهم من حيث أنها تضمهم وتباشرهم ، وهي تكون لكم مكان المولى ، ونحوه قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد هي ناصركم ، أي لا ناصر لكم غيرها . والمراد نفي الناصر على البتات ، ونحوه قولهم : أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع ، ومنه قوله تعالى : ) يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ ). وقيل : تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار .
قوله عز وجل : ) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن ).

" صفحة رقم 222 "
الحديد : ( 16 - 17 ) ألم يأن للذين . . . . .
عن عبد الله : ملت الصحابة ملة ، فنزلت ) أَلَمْ يَأْنِ ). وعن ابن عباس : عوتبوا بعد ثلاث عشرة سنة . وقيل : كثر المزاح في بعض شباب الصحابة فنزلت . وقرأ الجمهور : ) الم ( ؛ والحسن وأبو السمال : ألما . والجمهور : ) يَأْنِ ( مضارع أنى حان ؛ والحسن : يئن مضارع أن حان أيضاً ، والمعنى : قرب وقت الشيء . ) أَن تَخْشَعَ ( : تطمئن وتخبت ، وهو من عمل القلب ، ويظهر في الجوارح . وفي الحديث : ( أول ما يرفع من الناس الخشوع ) . ) لِذِكْرِ اللَّهِ ( : أي لأجل ذكر الله ، كقوله : ) إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ). قيل : أو لتذكير الله إياهم . وقرأ الجمهور : وما نزل مشدداً ؛ ونافع وحفص : مخففاً ؛ والحجدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس ، وعباس عنه : مبنياً للمفعول مشدداً ؛ وعبد الله : أنزل بهمزة النقل مبنياً للفاعل . والجمهور : ) وَلاَ يَكُونُواْ ( بياء الغيبة ، عطفاً على ) أَن تَخْشَعَ ( ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر ، وعن شيبة ، ويعقوب وحمزة في رواية عن سليم عنه : ولا تكونوا على سبيل الالتفات ، إما نهياً ، وإما عطفاً على ) أَن تَخْشَعَ ). ) كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ ( ، وهم معاصرو موسى عليه السلام من بني إسرائيل . حذر المؤمنون أن يكونوا مثلهم في قساوة القلوب ، إذ كانوا إذا سمعوا التوراة رقوا وخشعوا ، ( فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاْمَدُ ( : أي انتظار الفتح ، أو انتظار القيامة . وقيل : أمد الحياة . وقرأ الجمهور : الأمد مخفف الدال ، وهي الغاية من الزمان ؛ وابن كثير : بشدها ، وهو الزمان بعينه الأطول . ) فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ( : صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعة .
( فَانظُرْ إِلَىءاثَارِ رَحْمَةِ ( : يظهر أنه تمثيل لتليين القلوب بعد قسوتها ، ولتأثير ذكر الله فيها . كما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة ، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلة ، يظهر فيها أثر الطاعات والخشوع .
الحديد : ( 18 ) إن المصدقين والمصدقات . . . . .
وقرأ الجمهور : ) الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ ( ، بشدّ صاديهما ؛ وابن كثير وأبو بكر والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون : بخفهما ؛ وأبيّ : بتاء قبل الصاد فيهما ، فهذه وقراءة الجمهور من الصدقة ، والخف من التصديق ، صدّقوا رسوله الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيما بلغ عن الله تعالى . قال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف قوله : ) وَأَقْرِضُواُ ( ؟ قلت : على معنى الفعل في المصدّقين ، لأن اللام بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى اصدّقوا ، كأنه قيل : إن الذين اصدقوا وأقرضوا . انتهى . واتبع في ذلك أبا علي الفارسي ، ولا يصح أن يكون

" صفحة رقم 223 "
معطوفاً على المصدقين ، لأن المعطوف على الصلة صلة ، وقد فصل بينهما بمعطوف ، وهو قلوه : ) وَالْمُصَّدّقَاتِ ). ولا يصح أيضاً أن يكون معطوفاً على صلة أل في المصدقات لاختلاف الضمائر ، إذ ضمير المتصدّقات مؤنث ، وضمير وأقرضوا مذكر ، فيتخرج هنا على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه ، لأنه قيل : والذين أقرضوا ، فيكون مثل قوله : فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
يريد : ومن يمدحه ، وصديق من أبنية المبالغة . قال الزجاج : ولا يكون فيما أحفظ إلا من ثلاثي . وقيل : يجيء من غير الثلاثي كمسيك ، وليس بشيء ، لأنه يقال : مسك وأمسك ، فمسيك من مسك .
الحديد : ( 19 ) والذين آمنوا بالله . . . . .
( وَالشُّهَدَاء ( : الظاهر أنه مبتدأ خبره ما بعده ، فيقف على الصديقون ، وإن شئت فهو من عطف الجمل ، وهذا قول ابن عباس ومسروق والضحاك . إن الكلام تام في قوله : ) الصّدّيقُونَ ( ، واختلف هؤلاء ، فبعض قال : الشهداء هم الأنبياء ، يشهدون للمؤمنين بالصدّيقية لقوله : ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ ( الآية ؛ وبعض قال : هم الشهداء في سبيل الله تعالى ، استأنف الخبر عنهم ، فكأنه جعلهم صنفاً مذكوراً وحده لعظم أجرهم . وقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة : والشهداء معطوف على الصديقون ، والكلام متصل ، يعنون من عطف المفرادت ، فبعض قال : جعل الله كل مؤمن صديقاً وشهيداً ، قاله مجاهد . وفي الحديث ، من رواية البراء : ( مؤمنو أمتي شهداء ) ، وإنما ذكر الشهداء السبعة تشريفاً لهم لأنهم في أعلى رتب الشهادة ، كما خص المقتول في سبيل الله من السبعة بتشريف تفرد به ، وبعض قال : وصفهم بالصديقية والشهادة من قوله تعالى : ) لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ). ) لَهُمْ أَجْرُهُمْ ( : خبر عن الشهداء فقط ، أو عن من جمع بين الوصفين على اختلاف القولين . والظاهر في نورهم أنه حقيقة . وقال مجاهد وغيره : عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى .
الحديد : ( 20 ) اعلموا أنما الحياة . . . . .
( اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ( : أخبر تعالى بغالب أمرها من اشتمالها على أشياء لا تدوم ولا تجدي ، وأما ما كان من الطاعات وضروري ما يقوم به الأود ، فليس مندرجاً في هذه الآية . ) لَعِبٌ وَلَهْوٌ ( ، كحالة المترفين من الملوك . ) وَزِينَةٌ ( : تحسين لما هو خارج عن ذات الشيء . ) وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ ( : قراءة الجمهور بالتنوين ونصب بينكم ، والسلمى بالإضافة . ) وَتَكَاثُرٌ ( بالعدد والعدد على عادة الجاهلية ، وهذه كلها محقرات ، بخلاف أمر الآخرة ، فإنها مشتملة على أمور حقيقية عظام . قال الزمخشري : وشبه تعالى حال الدنيا وسرعة تقضيها ، مع قلة جدواها ، بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل ، وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليهم العاهة ، فهاج واصفر وصار حطاماً ، عقوبة لهم على جحودهم ، كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين . انتهى .
وقال ابن عطية : ) كَمَثَلِ ( في موضع رفع صفة لما تقدّم . وصورة هذا المثال أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك ، فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس ، ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط ، فينشف ويضعف ويسقم ، وتصيبه النوائب في ماله ودينه ، ويموت ويضمحلّ أمره ، وتصير أمواله لغيره وتغير رسومه ، فأمره مثل مطر أصاب أرضاً فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق ، ثم هاج ، أي يبس واصفر ، ثم تحطم ، ثم تفرق بالرياح واضمحل . انتهى . قيل : الكفار : الزراع ، من كفر الحب ، أي ستره في الأرض ، وخصوا بالذكر لأنهم أهل البصر بالنبات والفلاحة ، فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة . وقيل : من الكفر بالله ، لأنهم أشدّ تعظيماً للدنيا وإعجاباً بمحاسنها ؛ وحطام : بناء مبالغة كعجاب . وقرىء : مصفاراً . ولما ذكر ما يؤول إليه أمر الدنيا من الفناء ، ذكر ما هو ثابت دائم من أمر الآخرة من العذاب الشديد ، ومن رضاه الذي هو سبب النعيم .
قوله عز وجل : ) سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاْرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ ).
الحديد : ( 21 ) سابقوا إلى مغفرة . . . . .
ولما ذكر تعالى ما في الآخرة من المغفرة ، أمر بالمسابقة إليها ، والمعنى : سابقوا إلى سبب مغفرة ، وهو الإيمان وعمل الطاعات . وقد مثل بعضهم المسابقة في أنواع ؛ فقال عبد الله : كونوا في أول صفة في القتاد . وقال أنس : اشهدوا تكبيرة

" صفحة رقم 224 "
الإحرام مع الإمام . وقال علي : كن أول داخل في المسجد وآخر خارج . واستدل بهذا السبق على أن أول أوقات الصلوات أفضل ، وجاء لفظ سابقوا كأنهم في مضمار يجرون إلى غاية مسابقين إليهم . ) عَرْضُهَا ( : أي مساحتها في السعة ، كما قال : فذو دعاء عريض ، أو العرض خلاف الطول . فإذا وصف العرض بالبسطة ، عرف أن الطول أبسط وأمد . ) أُعِدَّتْ ( : يدل على أنها مخلوقة ، وتكرر ذلك في القرآن يقوي ذلك ، والسنة ناصة على ذلك ، وذلك يرد على المعتزلة في قولهم : إنها الآن غير مخلوقة وستخلق . ) ذالِكَ ( : أي الموعود من المغفرة والجنة ، ( فَضَّلَ اللَّهُ ( : عطاؤه ، ( يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( : وهم المؤمنون .
الحديد : ( 22 ) ما أصاب من . . . . .
( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ ( : أي مصيبة ، وذكر فعلها ، وهو جائز التذكير والتأنيث ، ومن التأنيث ) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا ). ولفظ مصيبة يدل على الشر ، لأن عرفها ذلك . قال ابن عباس ما معناه : أنه أراد عرف المصيبة ، وهو استعمالها في الشر ، وخصصها بالذكر لأنها أهم على البشر . والمصيبة في الأرض مثل القحط والزلزلة وعاهة الزرع ، وفي الأنفس : الأسقام والموت . وقيل : المراد بالمصيبة الحوادث كلها من خير وشر ، ( إِلاَّ فِى كِتَابٍ ( : هو اللوح المحفوظ ، أي مكتوبة فيه ، ( مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ( : أي نخلقها . برأ : خلق ، والضمير في نبرأها الظاهر أنه يعود على المصيبة ، لأنها هي المحدث عنها ، وذكر الأرض والأنفس هو على سبيل محل المصيبة . وقيل : يعود على الأرض . وقيل : على الأنفس ، قاله ابن عباس وقتادة وجماعة . وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر . قال ابن عطية : وهي كلها معارف صحاح ، لأن الكتاب السابق أزليّ قبل هذه كلها . انتهى . ) إِنَّ ذالِكَ ( : أي يحصل كل ما ذكر في كتاب وتقديره ، ( عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( : أي سهل ، وإن كان عسيراً على العباد .
الحديد : ( 23 - 24 ) لكي لا تأسوا . . . . .
ثم بين تعالى الحكمة في إعلامنا بذلك الذي فعله من تقدير ذلك ، وسبق قضائه به فقال : ) لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ ( : أي تحزنوا ، ( عَلَى مَا فَاتَكُمْ ( ، لأن العبد إن أعلم ذلك سلم ، وعلم أن ما فاته لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه ، فلذلك لا يحزن على فائت ، لأنه ليس بصدد أن يفوته ، فهون عليه أمر حوادث الدنيا بذلك ، إذ قد وطن نفسه على هذه العقيدة . ويظهر أن المراد بقوله : ) لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ ( : أن يلحق الحزن الشديد على ما فات من الخير ، فيحدث عنه التسخط وعدم الرضا بالمقدور . ) وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ ( : أن يفرح الفرح المؤدي إلى البطر المنهي عنه في قوله تعالى : ) لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( ، فإن الحزن قد ينشأ عنه البطر ، ولذلك ختم بقوله : ) وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ). فالفرح بما ناله من حطام الدنيا يلحقه في نفسه الخيلاء والافتخار والتكبر على الناس ، فمثل هذا هو المنهي عنه . وأما الحزن على ما فات من طاعة الله ، والفرح بنعم الله والشكر عليها والتواضع ، فهو مندوب إليه .
وقال ابن عباس : ليس أحد إلا يحزن ويفرح ، ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبراً ، ومن أصاب خيراً جعله شكراً . انتهى ، يعني هو المحمود . وقال الزمخشري : فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح . قلت : المراد : الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر ، والتسليم لأمر الله تعالى ، ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح المطغي الملهي عن الشكر . فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر ، فلا بأس به . انتهى . وقرأ الجمهور : بما آتاكم : أي أعطاكم ؛ وعبد الله : أوتيتم ، مبنياً للمفعول : أي أعطيتم ؛ وأبو عمرو : أتاكم : أي جاءكم .
( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ( : أي هم الذين يبخلون ، أو يكون الذين مبتدأ محذوف الخبر على جهة الإبهام تقديره : مذمومون ، أو موعودون بالعذاب ، أو مستغنى عنهم ، أو على إضمار ، أعني فهو في موضع نصب ، أو في موضع نصب صفة لكل مختال ، وإن كان نكرة ، فهو مخصص نوعاً مّا ، فيسوغ لذلك وصفة بالمعرفة . قال ابن عطية : هذا مذهب الأخفش . انتهى .
عظمت الدنيا في أعينهم ، فبخلوا أن يؤدوا منها حقوق الله تعالى ، وما كفاهم ذلك حتى أمروا الناس بالبخل ورغبوهم في الإمساك ، والظاهر أنهم أمروا الناس حقيقة . وقيل : كانوا قدوة فيه ، فكأنهم يأمرون به . ) وَمَن يَتَوَلَّ ( عن ما أمر الله به . وقرأ الجمهور : ) فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ ( ؛ وقرأ نافع وابن عامر : بإسقاط هو ، وكذا في

" صفحة رقم 225 "
مصاحف المدينة والشام ، وكلتا القراءتين متواترة . فمن أثبت هو ، فقال أبو علي الفارسي : يحسن أن يكون فصلاً ، قال : ولا يحسن أن يكون ابتداء ، لأن حذف الابتداء غير سائغ . انتهى . يعني أنه في القراءة الأخرى حذف ، ولو كان مبتدأ لم يجز حذفه ، لأنك إذا قلت : إن زيداً هو الفاضل ، فأعربت هو مبتدأ ، لم يجز حذفه ، لأن ما بعده من قولك الفاضل صالح أن يكون خبراً لأن ، فلا يبقى دليل على حذف هو الرابط . ونظيره : ) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ ( ، لا يجوز حذف هم ، لأن ما بعده يصلح أن يكون صلة ، فلا يبقى دليل على المحذوف . وما ذهب إليه أبو علي ليس بشيء ، لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وتركيب إحداهما على الأخرى ، وليس كذلك . ألا ترى أنه يكون قراءتان في لفظ واحد ، ولكل منهما توجيه يخالف الآخر ، كقراءة من قرأ : ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ( بضم التاء ، والقراءة الأخرى : ) بِمَا وَضَعَتْ ( بتاء التأنيث فضم التاء يقتضي أن الجملة من كلام أم مريم ، وتاء التأنيث تقتضي أنها من كلام الله تعالى ، وهذا كثير في القراءات المتواترة . فكذلك هذا يجوز أن يكون هو مبتدأ في قراءة من أثبته ، وإن كان لم يرد في القراءة الأخرى ، ولكل من التركيبين في الإعراب حكم يخصه .
الحديد : ( 25 ) لقد أرسلنا رسلنا . . . . .
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ ( : الظاهر أن الرسل هنا هم من بني آدم ، والبينات : الحجج والمعجزات . ) وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ ( : الكتاب اسم جنس ، ومعهم حال مقدرة ، أي وأنزلنا الكتاب صائراً معهم ، أي مقدراً صحبته لهم ، لأن الرسل منزلين هم والكتاب . ولما أشكل لفظ معهم على الزمخشري ، فسر الرسل بغير ما فسرناه ، فقال : ) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا ( ، يعنى : الملائكة ، إلى الأنبياء بالحجج والمعجزات ، ( وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ ( : أي الوحي ، ( وَالْمِيزَانَ ). وروي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان ، فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به . ) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( ، قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة . وروي : ومعه المسن والمسحاة . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض ، أنزل الحديد والنار والماء والملح . انتهى . وأكثر المتأولين على أن المراد بالميزان : العدل ، فقال ابن زيد وغيره : أراد بالموازين : المعرفة بين الناس ، وهذا جزء من العدل . ) لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ( : الظاهر أنه علة لإنزال الميزان فقط ، ويجوز أن يكون علة لإنزال الكتاب والميزان معاً ، لأن القسط هو العدل في جميع الأشياء من سائر التكاليف ، فإنه لا جور في شيء منها ، ولذلك جاء : ) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ).
) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( : عبر عن إيجاده بالإنزال ، كما قال : ) وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ). وأيضاً فإن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تلقى من السماء ، جعل الكل نزولاً منها ، قاله ابن عطية . وقال الجمهور : أراد بالحديد جنسه من المعادن . وقال ابن عباس : نزل آدم من الجنة ومعه السندان والكلبتان والميقعة . ) فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ( : أي السلاح الذي يباشر به القتال ، ( وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ( : في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم ؛ فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها . ) وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ ( علة لإنزال الكتاب والميزان والحديد . ) مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ ( بالحجج والبراهين المنتزعة من الكتاب المنزل ، وبإقامة العدل ، وبما يعمل من آلة الحرب للجهاد في سبيل الله . قال ابن عطية : أي ليعلمه موجوداً ، فالتغير ليس في علم الله ، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود . وقوله : ) بِالْغَيْبِ ( معناه : بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه ، فآمن بها لقيام الأدلة عليها .
ولما قال تعالى : ) مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ ( ، ذكر تعالى أنه غني عن نصرته بقدرته وعزته ، وأنه إنما كلفهم الجهاد لمنفعة أنفسهم ، وتحصيل ما يترتب لهم من الثواب . وقال ابن عطية : ويترتب معنى الآية بأن الله تعالى أخبر بأنه أرسل رسله ، وأنزل كتباً وعدلاً مشروعاً ، وسلاحاً يحارب به من عاند ولم يهتد بهدي الله ، فلم يبق عذر . وفي الآية ، على هذا التأويل ، حث على القتال .
قوله عز وجل : ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَءاتَيْنَاهُ الإنجِيلَ وَجَعَلْنَا

" صفحة رقم 226 "
فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّة ( سقط : الآية كاملة ) ً ).
الحديد : ( 26 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . . .
لما ذكر تعالى إرسال الرسل جملة ، أفرد منهم في هذه الآية نوحاً وإبراهيم ، عليهما السلام ، تشريفاً لهما بالذكر . أما نوح ، فلأنه أول الرسل إلى من في الأرض ؛ وأما إبراهيم ، فلأنه انتسب إليه أكثر الأنبياء عليهم السلام ، وهو معظم في كل الشرائع . ثم ذكر أشرف ما حصل لذريتهما ، وذلك النبوة ، وهي التي بها هدي الناس من الضلال ؛ ) وَالْكِتَابِ ( ، وهي الكتب الأربعة : التوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، وهي جميعها في ذرية إبراهيم عليه السلام ، وإبراهيم من ذرية نوح ، فصدق أنها في ذريتهما . وفي مصحف عبد الله : والنبية مكتوبة بالياء عوض الواو . وقال ابن عباس : ) وَالْكِتَابِ ( : الخط بالقلم ، والظاهر أن الضمير في منهم عائد على الذرية . وقيل : يعود على المرسل إليهم لدلالة ذكر الإرسال والمرسلين عليهم . ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العلل بذلك ، انقسموا إلى مهتد وفاسق ، وأخبر بالفسق عن الكثير منهم .
الحديد : ( 27 ) ثم قفينا على . . . . .
( ثُمَّ قَفَّيْنَا ( : أي اتبعنا وجعلناهم يقفون من تقدم ، ( عَلَىءاثَارِهِمْ ( : أي آثار الذرية ، ( بِرُسُلِنَا ( : وهم الرسل الذين جاءوا بعد الذرية ، ( وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ( : ذكره تشريفاً له ، ولانتشار أمته ، ونسبه لأمه على العادة في الإخبار عنه . وتقدمت قراءة الحسن : الإنجيل ، بفتح الهمزة في أول سورة آل عمران . قال أبو الفتح : وهو مثال لا نظير له . انتهى ، وهي لفظة أعجمية ، فلا يلزم فيها أن تكون على أبنية كلم العرب . وقال الزمخشري : أمره أهون من أمر البرطيل ، يعني أنه بفتح الباء وكأنه عربي ؛ وأما الإنجيل فأعجمي . وقرىء : رآفة على وزن فعالة ، ( وَجَعَلْنَا ( : يحتمل أن يكون المعنى وخلقنا ، كقوله : ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( ، ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا ، فيكون ) فِى قُلُوبِ ( : في موضع المفعول الثاني لجعلنا . ) وَرَهْبَانِيَّةً ( معطوف على ما قبله ، فهي داخلة في الجمل . ) ابتَدَعُوهَا ( : جملة في موضع الصفة لرهبانية ، وخصت الرهبانية بالابتداع ، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها ، بخلاف الرهبانية ، فإنها أفعال بدن مع شيء في القلب ، ففيها موضع للتكسب . قال قتادة : الرأفة والرحمة من الله ، والرهبانية هم ابتدعوها ؛ والرهبانية : رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهنّ واتخاد الصوامع . وجعل أبو علي الفارسي ) وَرَهْبَانِيَّةً ( مقتطعة من العطف على ما قبلها من ) رَأْفَةً وَرَحْمَةً ( ، فانتصب عنده ) وَرَهْبَانِيَّةً ( على إضمار فعل يفسره ما بعده ، فهو من باب الاشتغال ، أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها . واتبعه الزمخشري فقال : وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها ، يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها . انتهى ، وهذا إعراب المعتزلة ، وكان أبو عليّ معتزلياً . وهم يقولون : ما كان مخلوقاً لله لا يكون مخلوقاً للعبد ، فالرأفة والرحمة من خلق الله ، والرهبانية من ابتداع الإنسان ، فهي مخلوقة له . وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية ، لأن مثل هذا هو مما يجوز فيه الرفع بالابتداء ، ولا يجوز الابتداء هنا بقوله : ) وَرَهْبَانِيَّةً ( ، لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة .
وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق : ففرقة قاتلت الملوك على

" صفحة رقم 227 "
الدين فغلبت وقتلت ؛ وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه ولم تقاتل ، فأخذها الملوك ينشرونهم بالمناشير فقتلوا ، وفرقة خرجت إلى الفيافي ، وبنت الصوامع والديارات ، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت . والرهبانية : الفعلة المنسوبة إلى الرهبان ، وهو الخائف بني فعلان من رهب ، كالخشيان من خشي . وقرىء : ورهبانية بالضم . قال الزمخشري : كأنها نسبة إلى الرهبان ، وهو جمع راهب ، كراكب وركبان . انتهى . والأولى أن يكون منسوباً إلى رهبان وغير بضم الراء ، لأن النسب باب تغيير . ولو كان منسوباً إلى رهبان الجمع لرد إلى مفرده ، فكان يقال : راهبية ، إلا إن كان قد صار كالعلم ، فإنه ينسب إليه على لفظه كالأنصار . والظاهر أن ) إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوانِ ( الله استثناء متصل من ما هو مفعول من أجله ، وصار المعنى : أنه تعالى كتبها عليهم ابتغاء مرضاته ، وهذا قول مجاهد ، ويكون كتب بمعنى قضى . وقال قتادة وجماعة : المعنى : المعنى : لم يفرضها عليهم ، ولكنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان الله تعالى ، فالاستثناء على هذا منقطع ، أي لكن ابتدعوها لابتغاء رضوان الله تعالى . والظاهر أن الضمير في ) رَعَوْهَا ( عائد على ما عاد عليه في ) ابتَدَعُوهَا ( ، وهو ضمير ) الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ( ، أي لم يرعوها كما يجب على الناذر رعاية نذره ، لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه . وقال نحوه ابن زيد ، قال : لم يدوموا على ذلك ، ولا وفوه حقه ، بل غيروا وبدلوا ، وعلى تقدير أن فيهم من رعى يكون المعنى : فما رعوها بأجمعهم . وقال ابن عباس وغيره : الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم . وقال الضحاك وغيره : الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين لها . ) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ( : وهم أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام . ) وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( : وهم الذين لم يرعوها .
الحديد : ( 28 ) يا أيها الذين . . . . .
( يا أيها الذين آمنوا ( : الظاهر أنه نداء لمن آمن من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فمعنى آمنوا : دوموا واثبتوا ، وهكذا المعنى في كل أمر يكون المأمور ملتبساً بما أمر به . ) يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ ( ، قال أبو موسى الأشعري : كفلين : ضعفين بلسان الحبشة . انتهى ، والمعنى : أنه يؤتكم مثل ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله : ) أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ ( ، إذ أنتم مثلهم في الإيمانين ، لا تفرقوا بين أحد من رسله . وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين ، وادعوا الفضل عليهم ، فنزلت . وقيل : النداء متوجه لمن آمن من أهل الكتاب ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ، آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، يؤتكم الله كفلين ، أي نصيبين من رحمته ، وذلك لإيمانكم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإيمانكم بمن قبله من الرسل . ) وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ( : وهو النور المذكور في قوله : ) يَسْعَى نُورُهُم ( ، ويغفر لكم ما أسلفتم من الكفر والمعاصي . ويؤيد هذا المعنى ما ثبت في الصحيح : ( ثلاثة يؤتهم الله أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ) ، الحديث .
ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا أنهم لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة ، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ، ولم يكسبهم فضلاً قط . وإذا كان النداء لمؤمني هذه الأمة والأمر لهم ، فروي أنه لما نزل هذا الوعد لهم حسدهم أهل الكتاب ، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها ، وتزعم أنهم أحباء الله وأهل رضوانه ، فنزلت هذه الآية معلمة أن الله تعالى فعل ذلك وأعلم به . ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون .
الحديد : ( 29 ) لئلا يعلم أهل . . . . .
وقرأ الجمهور : ) لّئَلاَّ يَعْلَمَ ( ، ولا زائدة كهي في قوله : ) مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ ( ، وفي قوله : ) أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( في بعض التأويلات . وقرأ خطاب بن عبد الله : لأن لا يعلم ؛ وعبد الله وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة : على اختلاف ليعلم ؛ والجحدري : لينيعلم ، أصله لأن يعلم ، قلب الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغم النون في الياء بغير غنة ، كقراءة خلف أن يضرب بغير غنة . وري ابن مجاهد عن الحسن : ليلاً مثل ليلى اسم المرأة ، يعلم برفع الميم أصله لأن لا بفتح لام الجر وهي لغة ، فحذفت الهمزة ، اعتباطاً ، وأدغمت النون في اللام ، فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها ، فأبدلوا من الساكنة ياء فصار

" صفحة رقم 228 "
ليلاً ، ورفع الميم ، لأن إن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع ، إذ الأصل لأنه لا يعلم . وقطرب عن الحسن أيضاً : لئلا بكسر اللام وتوجيهه كالذي قبله ، إلا أنه كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر . وعن ابن عباس : كي يعلم ، وعنه : لكيلا يعلم ، وعن عبد الله وابن جبير وعكرمة : لكي يعلم . وقرأ الجمهور : أن لا يقدرون بالنون ، فإن هي المخففة من الثقيلة ؛ وعبد الله بحذفها ، فإن الناصبة للمضارع ، والله تعالى أعلم .

" صفحة رقم 229 "
58
( سورة المجادلة )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِىإِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِىأَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِىإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

" صفحة رقم 230 "
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أَءَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَائِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ فِى الاٌّ ذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِىإِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَائِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَائِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( )
المجادلة : ( 1 ) قد سمع الله . . . . .
فسح في المجلس : وسع لغيره . ) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ ).
هذه السورة مدنية . قال الكلبي : إلا قوله : ) مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ). وعن عطاء : العشر الأول منها مدني وباقيها مكي . قرأ الجمهور : ) قَدْ سَمِعَ ( بالبيان ؛ وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن : بالإدغام ، قال خلف بن هشام البزار : سمعت الكسائي يقول : من قرأ قد سمع ، فبين الدال عند السين ، فلسانه أعجمي ليس بعربي ، ولا يلتفت إلى هذا القول ؛ فالجمهور على البيان . والتي تجادل خولة بنت ثعلبة ، ويقال بالتصغير ، أو خولة بنت خويلد ، أو خولة بنت حكيم ، أو خولة بنت دليج ، أو جميلة ، أو خولة بنت الصامت ، أقوال للسلف . وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة . وقيل : سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته . قالت زوجته : يا رسول الله ، أكل أوس شبابي ونثرت له بطني ، فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني ، فقال لها : ( ما أراك إلا قد حرمت عليه ) ، فقالت : يا

" صفحة رقم 231 "
رسول الله لا تفعل ، فإني وحيدة ليس لي أهل سواه ، فراجعها بمثل مقالته فراجعته ، فهذا هو جدالها ، وكانت في خلال ذلك تقول : اللهم إن لي منه صبية صغاراً ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا . فهذا هو اشتكاؤها إلى الله ، فنزل الوحي عند جدالها .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : سبحان من وسع سمعه الأصوات . كان بعض كلام خولة يخفى عليّ ، وسمع الله جدالها ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى أوس وعرض عليه كفارة الظهار : ( العتق ) ، فقال : ما أملك ، و ( الصوم ) ، فقال : ما أقدر ، و ( الاطعام ) ، فقال : لا أجد إلا أن تعينني ، فأعانه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بخمسة عشر صاعاً ودعا له ، فكفر بالإطعام وأمسك أهله . وكان عمر ، رضي الله تعالى عنه ، يكرم خولة إذا دخلت على ه ويقول : قد سمع الله لها . وقال الزمخشري : معنى قد : التوقع ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمجادلة كانا متوقعين أن يسمع الله مجادلتها وشكواها ، وينزل في ذلك ما يفرح عنها . انتهى .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : يظهرون بشدّهما ؛ والأخوان وابن عامر : يظاهرون مضارع ظاهر ؛ وأبيّ : يتظاهرون ، مضارع تظاهر ؛ وعنه : يتظهرون ، مضارع تظهر ؛ والمراد به كله الظهار ، وهو قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، يريد في التحريم ، كأنه إشارة إلى الركوب ، إذ عرفه في ظهور الحيوان . والمعنى أنه لا يعلوها كما لا يعلو أمّه ، ولذلك تقول العرب في مقابلة ذلك : نزلت عن امرأتي ، أي طلقتها . وقوله : ) مّنكُمْ ( ، إشارة إلى توبيخ العرب وتهجين عادتهم في الظهار ، لأنه كان من إيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم .
المجادلة : ( 2 ) الذين يظاهرون منكم . . . . .
وقرأ الجمهور : ) أُمَّهَاتِهِمْ ( ، بالنصب على لغة الحجاز ؛ والمفضل عن عاصم : بالرفع على لغة تميم ؛ وابن مسعود : بأمهاتهم ، بزيادة الباء . قال الزمخشري : في لغة من ينصب . انتهى . يعني أنه لا تزاد الباء في لغة تميم ، وهذا ليس بشيء ، وقد رد ذلك على الزمخشري . وزيادة الباء في مثل : ما زيد بقائم ، كثير في لغة تميم ، والزمخشري تبع في ذلك أبا عليّ الفارسي رحمه الله . ولما كان معنى كظهر أمي : كأمي في التحريم ، ولا يراد خصوصية الظهر الذي هو من الجسد ، جاء النفي بقوله : ) مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ( ، ثم أكد ذلك بقوله : ) أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ ( : أي حقيقة ، ( إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ ( وألحق بهنّ في التحريم أمّهات الرضاع وأمّهات المؤمنين أزواج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والزوجات لسن بأمّهات حقيقة ولا ملحقات بهنّ . فقول المظاهر منكر من القول تنكره الحقيقة وينكره الشرع ، وزور : كذب باطل منحرف عن الحق ، وهو محرم تحريم المكروهات جدّاً ، فإذا وقع لزم ، وقد رجى تعالى بعده بقوله : ) وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( مع الكفارة . وقال الزمخشري : ) وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( لما سلف منه إذ تاب عنه ولم يعد إليه . انتهى ، وهي نزغة اعتزالية .
والظاهر أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها . فلو قال : أنت عليّ كظهر أختي أو ابنتي ، لم يكن ظهاراً ، وهو قول قتادة والشعبي وداود ، ورواية أبي ثور عن الشافعي . وقال الجمهور : الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي في قول هو ظهار ، والظاهر أن الذمي لا يلزمه ظهاره لقوله : ) مّنكُمْ ( ، أي من المؤمنين وبه قال أبو حنيفة والشافعي لكونها ليست من نسائه . وقال مالك : يلزمه ظهاره إذا نكحها ، ويصح من المطلقة الرجعية . وقال : المزني لا يصح . وقال بعض العلماء : لا يصح ظهار غير المدخول بها ، ولو ظاهر من أمته التي يجوز له وطئها ، لزمه عند مالك . وقال

" صفحة رقم 232 "
أبو حنيفة والشافعي : لا يلزم ، وسبب الخلاف هو : هل تندرج في نسائهم أم لا ؟ والظاهر صحة ظهار العبد لدخوله في يظهرون منكم ، لأنه من جملة المسلمين ، وإن تعذر منه العتق والإطعام ، فهو قادر على الصوم . وحكى الثعلبي عن مالك أنه لا يصح ظهاره ، وليست المرأة مندرجة في الذين يظهرون ، فلو ظاهرت من زوجها لم يكن شيئاً . وقال الحسن بن زياد : تكون مظاهرة . وقال الأوزاعي وعطاء وإسحاق وأبو يوسف : إذا قالت لزوجها أنت عليّ كظهر فلانة ، فهي يمين تكفرها . وقال الزهري : أرى أن تكفر كفارة الظاهر ، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها .
المجادلة : ( 3 ) والذين يظاهرون من . . . . .
والظاهر أن قوله تعالى : ) ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ( : أن يعودوا للفظ الذي سبق منهم ، وهو قول الرجل ثانياً : أنت مني كظهر أمي ، فلا تلزم الكفارة بالقول ، وإنما تلزم بالثاني ، وهذا مذهب أهل الظاهر . وروي أيضاً عن بكير بن عبد الله بن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة : وهو قول الفراء . وقال طاووس وقتادة والزهري والحسن ومالك وجماعة : ) لِمَا قَالُواْ ( : أي للوطء ، والمعنى : لما قالوا أنهم لا يعودون إليه ، فإذا ظاهر ثم وطىء ، فحينئذ يلزمه الكفارة ، وإن طلق أو ماتت . وقال أبو حنيفة ومالك أيضاً والشافعي وجماعة : معناه يعودون لما قالوا بالعزم على الإمساك والوطء ، فمتى عزم على ذلك لزمته الكفارة ، طلق أو ماتت . قال الشافعي : العود الموجب للكفارة أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار ، ويمضي بعده زمان يمكن أن يطلقها فيه فلا يطلق . وقال قوم : المعنى : والذين يظهرون من نسائهم في الجاهلية ، أي كان الظهار عادتهم ، ثم يعودون إلى ذلك في الإسلام ، وقاله القتبي . وقال الأخفش : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : فتحرير رقبة لما قالوا ، وهذا قول ليس بشيء لأنه يفسد نظم الآية .
( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ( ، والظاهر أنه يجزىء مطلق رقبة ، فتجزىء الكافرة . وقال مالك والشافعي : شرطها الإسلام ، كالرقبة في كفارة القتل . والظاهر إجزاء المكاتب ، لأنه عبد ما بقي عليه درهم ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه : وإن عتق نصفي عبدين لا يجزىء . وقال الشافعي : يجزىء . ) مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ( : لا يجوز للمظاهر أن يطأ حتى يكفر ، فإن فعل عصى ، ولا يسقط عنه التكفير . وقال مجاهد : يلزمه كفارة أخرى . وقيل : تسقط الكفارة الواجبة عليه ، ولا يلزمه شيء . وحديث أوس بن الصامت يرد على هذا القول ، وسواء كانت الكفارة بالعتق أم الصوم أم الإطعام . وقال أبو حنيفة : إذا كانت بالإطعام ، جاز له أن يطأ ثم يطعم ، وهو ظاهر قوله : ) فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ( ، إذ لم يقل فيه : ) مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ( ، وقيد ذلك في العتق والصوم . والظاهر في التماس الحقيقة ، فلا يجوز تماسهما قبلة أو مضاجعة أو غير ذلك من وجوه الاستمتاع ، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي . وقال الأكثرون : هو الوطء ، فيجوز له الاستمتاع بغيره قبل التكفير ، وقاله الحسن والثوري ، وهو الصحيح من مذهب الشافعي . والضمير في ) يَتَمَاسَّا ( عائد على ما عاد عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها . ) ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ( : إشارة إلى التحرير ، أي فعل عظة لكم لتنتهوا عن الظهار .
المجادلة : ( 4 ) فمن لم يجد . . . . .
( فَمَن لَّمْ يَجِدْ ( : أي الرقبة ولا ثمنها ، أو وجدها ، أو ثمنها ، وكان محتاجاً إلى ذلك ، فقال أبو حنيفة : يلزمه العتق ولو كان محتاجاً إلى ذلك ، ولا ينتقل إلى الصوم ، وهو الظاهر . وقال الشافعي : ينتقل إلى الصوم . والشهران بالأهلة ، وإن جاء أحدهما ناقصاً ، أو بالعدد لا بالأهلة ، فيصوم إلى الهلال ، ثم شهراً بالهلال ، ثم يتم الأول بالعدد . والظاهر وجوب التتابع ، فإن أفطر بغير عذر استأنف ، أو بعذر من سفر ونحوه . فقال ابن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي ومالك والشافعي : في أحد قوليه يبني . وقال النخعي وابن جبير والحكم بن عيينة والثوري وأصحاب الرأي والشافعي : في أحد قوليه . والظاهر أنه إن وجد الرقبة بعد أن شرع في الصوم ، أنه يصوم ويجزئه ، وهو مذهب مالك والشافعي . وقال أبو حنيفة وأصحابه : يلزمه العتق ، ولو وطىء في خلال الصوم بطل التتابع ويستأنف ، وبه قال مالك وأبو حنيفة . وقال الشافعي : يبطل إن جامع نهاراً لا ليلاً .
( فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ ( لصوم لزمانة به ، أو كونه يضعف به ضعفاً شديداً ، كما جاء في حديث أوس لما قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ فقال : والله يا رسول الله إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني . والظاهر مطلق الإطعام ، وتخصصه ما كانت العادة في الإطعام وقت

" صفحة رقم 233 "
النزول ، وهو ما يشبع من غير تحديد بمدّ . ومذهب مالك أنه مد وثلث بالمدّ النبوي ، ويجب استيعاب العدد ستين عند مالك والشافعي ، وهو الظاهر . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه . ) ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ ( ، قال ابن عطية : إشارة إلى الرجعة والتسهيل في الفعل من التحرير إلى الصوم والإطعام . ثم شدّد تعالى بقوله : ) وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ( : أي فالزموها وقفوا عندها . ثم توعد الكافرين بهذا الحكم الشرعي . وقال الزمخشري : ذلك البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها ، لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه التي شرعها في الظهار وغيره ، ورفض ما كنتم عليه من جاهليتكم ، ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ( التي لا يجوز تعديها ، ( وَلِلْكَافِرِينَ ( الذين لا يتبعونها ولا يعملون عليها ) عَذَابٌ أَلِيمٌ ). انتهى .
المجادلة : ( 5 - 6 ) إن الذين يحادون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( : نزلت في مشركي قريش ، أخزوا يوم الخندق بالهزيمة ، كما أخزى من قاتل الرسل من قبلهم . ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ، ذكر المحادّين المخالفين لها ، والمحادة : المعاداة والمخالفة في الحدود . ) كتبوا ( ، قال قتادة : أخزوا . وقال السدي : لعنوا . قيل : وهي لغة مذحج . وقال ابن زيد وأبو روق : ردّوا مخذولين . وقال الفراء : غيظوا يوم الخندق . ) كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( : أي من قاتل الأنبياء . وقيل : يوم بدر . وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا . وعن أبي عبيدة : التاء بدل من الدال ، أي كبدوا : أصابهم داء في أكبادهم . قيل : والذين من قبلهم منافقو الأمم . قيل : وكبتوا بمعنى سيكبتون ، وهي بشارة للمؤمنين بالنصر . وعبر بالماضي لتحقق وقوعه ، وتقدّم الكلام في مادة كبت في آل عمران .
( وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ ( على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وصحة ما جاء به . ) وَلِلْكَافِرِينَ ( : أي الذين يحادّونه ، ( عَذَابٌ مُّهِينٌ ( : أي يهينهم ويذلهم . والناصب ليوم يبعثهم العامل في للكافرين أو مهين أو اذكر أو يكون على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء ؟ فقيل له : ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ ( : أي يكون يوم يبعثهم الله ، وانتصب ) جَمِيعاً ( على الحال : أي مجتمعين في صعيد واحد ، أو معناه كلهم ، إذ جميع يحتمل ذينك المعنيين ؛ ) فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ ( ، تخجيلاً لهم وتوبيخاً . ) أَحْصَاهُ ( بجميع تفاصيله وكميته وكيفيته وزمانه ومكانه . ) وَنَسُوهُ ( لاستحقارهم إياه واحتقارهم أنه لا يقع عليه حساب . ) شَهِيدٌ ( : لا يخفى عليه شيء .
المجادلة : ( 7 ) ألم تر أن . . . . .
وقرأ الجمهور : ما يكون بالياء ؛ وأبو جعفر وأبو حيوة وشيبة : بالتاء لتأنيث النجوى .
قال صاحب اللوامح : وإن شغلت بالجار ، فهي بمنزلة : ما جاءتني من امرأة ، إلا أن الأكثر في هذا الباب التذكير على ما في العامة ، يعني القراءة العامة ، قال : لأنه مسند إلى ) مِن نَّجْوَى ( وهو يقتضي الجنس ، وذلك مذكر . انتهى . وليس الأكثر في هذا الباب التذكير ، لأن من زائدة . فالفعل مسند إلى مؤنث ، فالأكثر التأنيث ، وهو القياس ، قال تعالى : ) وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايَاتِ رَبّهِمْ ( ، ( مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا ( ، ويكون هنا تامة ، ونجوى احتمل أن تكون مصدراً مضافاً إلى ثلاثة ، أي من تناجي ثلاثة ، أو مصدراً على حذف مضاف ، أي من ذوي نجوى ، أو مصدراً أطلق على الجماعة المتناجين ، فثلاثة : على هذين التقديرين . قال ابن عطية : بدل أو صفة . وقال الزمخشري : صفة . وقرأ ابن أبي عبلة ثلاثة وخمسة بالنصب على الحال ، والعامل يتناجون مضمرة يدل عليه نجوى . وقال الزمخشري : أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبها من المستكن فيه . وقال ابن عيسى : كل سرار نجوى . وقال ابن سراقة : السرار ما كان بين اثنين ، والنجوى ما كان بين أكثر . قيل : نزلت في المنافقين ، واختص الثلاثة والخمسة لأن المنافقين كانوا يتناجون على هذين العددين مغايظة لأهل الإيمان ؛ والجملة بعد إلا في المواضع الثلاثة في موضع الحال ، وكونه تعالى رابعهم وسادسهم ومعهم بالعلم وإدراك ما يتناجون به . وقال ابن عباس : نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية ، تحدّثوا فقال أحدهم : أترى الله يعلم ما نقول ؟ فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً ، فقال الثالث : إن كان يعلم بعضاً فهو يعلمه كله .
( وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ ( : إشارة إلى الثلاثة والخمسة ، والأدنى من الثلاثة الاثنين ، ومن الخمسة الأربعة ؛ ولا أكثر يدل على ما يلي الستة فصاعداً . وقرأ الجمهور : ) وَلاَ أَكْثَرَ ( عطفاً على لفظ المخفوض ؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب : بالرفع عطفاً على موضع نجوى إن أريد به

" صفحة رقم 234 "
المتناجون ، ومن جعله مصدراً محضاً على حذف مضاف ، أي ولا نجوى أدنى ، ثم حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه . ويجوز أن يكون ) وَلاَ أَدْنَى ( مبتدأ ، والخبر ) إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ ( ، فهو من عطف الجمل ، وقرأ الحسن أيضاً ومجاهد والخليل بن أحمد ويعقوب أيضاً : ولا أكبر بالباء بواحدة والرفع ، واحتمل الإعرابين : العطف على الموضع والرفع بالابتداء . وقرىء : ) يُنَبّئُهُمُ ( بالتخفيف والهمز ؛ وزيد بن علي : بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء ؛ والجمهور : بالتشديد والهمز وضم الهاء .
قوله عز وجل ) لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ ).
المجادلة : ( 8 - 9 ) ألم تر إلى . . . . .
نزلت ) أَلَمْ تَرَ ( في اليهود والمنافقين . كانوا يتناجون دون المؤمنين ، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم ، موهمين المؤمنين من أقربائهم أنهم أصابهم شر ، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أقرباؤهم . فلما كثر ذلك منهم ، شكا المؤمنون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين ، فلم ينتهوا ، فنزلت ، قاله ابن عباس . وقال مجاهد : نزلت في اليهود . وقال ابن السائب : في المنافقين . وقرأ الجمهور : ) وَيَتَنَاجَوْنَ ( ؛ وحمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ورويس : وينتجون مضارع انتجى . ) بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ ( : كانوا يقولون : السام عليك ، وهو الموت ؛ فيرد عليهم : وعليكم . وتحية الله لأنبيائه : ) وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ). ) لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ( : أي إن كان نبياً ، فما له لا يدعو علينا حتى نعذب بما نقول ؟ فقال تعالى : ) حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ).
ثم نهى المؤمنين أن يكون تناجيهم مثل تناجي الكفار ، وبدأ بالإثم لعمومه ، ثم بالعدوان لعظمته في النفوس ، إذ هي ظلامات العباد . ثم ترقى إلى ما هو أعظم ، وهو معصية الرسول عليه الصلاة والسلام ، وفي هذا طعن على المنافقين ، إذ كان تناجيهم في ذلك . وقرأ الجمهور : ) فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ ( ، وأدغم ابن محيصن التاء في التاء . وقرأ الكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس : فلا تنتجوا مضارع انتجى ؛ والجمهور : بضم عين العدوان ؛ وأبو حيوة بكسرها حيث وقع ؛ والضحاك : ومعصيات الرسول على الجمع . والجمهور : على الإفراد . وقرأ عبد الله : إذا انتجيتم فلا تنتجوا .
المجادلة : ( 10 ) إنما النجوى من . . . . .
وأل في ) إِنَّمَا النَّجْوَى ( للعهد في نجوى الكفار ) بِالإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ( ، وكونها ) مِنَ الشَّيْطَانِ ( ، لأنه هو الذي يزينها لهم ، فكأنها منه .
( لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( : كانوا يوهمون المؤمنين أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا . ) وَلَيْسَ ( : أي التناجي أو الشيطان أو الحزن ، ( بِضَارّهِمْ ( : أي المؤمنين ، ( إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( : أي بمشيئته ، فيقضي بالقتل أو الغلبة . وقال ابن زيد : هي نجوى قوم من المسلمين يقصدون مناجاة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وليس لهم حاجة ولا ضرورة . يريدون التبجح بذلك ، فيظن المسلمون أن ذلك في أخبار بعد وقاصداً نحوه . وقال عطية العوفي : نزلت في المناجاة التي يراها المؤمن في النوم تسوءه ، فكأنه نجوى يناجي بها . انتهى . ولا يناسب هذا القول ما قبل الآية ولا ما

" صفحة رقم 235 "
بعدها ، وتقدمت القراءتان في نحو : ) لِيَحْزُنَ ). وقرىء : بفتح الياء والزاي ، فيكون ) الَّذِينَ ( فاعلاً ، وفي القراءتين مفعولاً .
المجادلة : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . .
ولما نهى تعالى المؤمنين عن ما هو سبب للتباغض والتنافر ، أمرهم بما هو سبب للتواد والتقارب ، فقال : ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الآية . قال مجاهد وقتادة والضحاك : كانوا يتنافسون في مجلس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض . وقال ابن عباس : المراد مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب . وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان الصحابة يتشاحون على الصف الأول ، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة ، فنزلت . وقرأ الجمهور : ) تَفَسَّحُواْ ( ؛ وداود بن أبي هند وقتادة وعيسى : تفاسحوا . والجمهور : في المجلس ؛ وعاصم وقتادة وعيسى : ) فِى الْمَجَالِسِ ). وقرىء : في المجلس بفتح اللام ، وهو الجلوس ، أي توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه . والظاهر أن الحكم مطرد في المجالس التي للطاعات ، وإن كان السبب مجلس الرسول . وقيل : الآية مخصوصة بمجلس الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكذا مجالس العلم ؛ ويؤيده قراءة من قرأ ) فِى الْمَجَالِسِ ( ، ويتأول الجمع على أن لكل أحد مجلساً في بيت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وانجزم ) يَفْسَحِ اللَّهُ ( على جواب الأمر في رحمته ، أو في منازلكم في الجنة ، أو في قبوركم ، أو في قلوبكم ، أو في الدنيا والآخرة ، أقوال .
( وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ ( : أي انهضوا في المجلس للتفسح ، لأن مريد التوسعة على الوارد يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع . أمروا أولاً بالتفسح ، ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إذا ائتمروا . وقال الحسن وقتادة والضحاك : معناه : إذا دعوا إلى قتال وصلاة أو طاعة نهضوا . وقيل : إذا دعوا إلى القيام عن مجلس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) نهضوا ، إذ كان عليه الصلاة والسلام أحياناً يؤثر الانفراد في أمر الإسلام . وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن عامر ونافع وحفص : بضم السين في اللفظين ؛ والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة : بكسرها . والظاهر أن قوله : ) وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ( معطوف على ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، والعطف مشعر بالتغاير ، وهو من عطف الصفات ، والمعنى : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات ، فالوصفان لذات واحدة . وقال ابن مسعود وغيره : تم الكلام عند قوله : ) مّنكُمْ ( ، وانتصب ) وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ( بفعل مضمر تقديره : ويخص الذين أوتوا العلم درجات ، فللمؤمنين رفع ، وللعلماء درجات .
المجادلة : ( 12 ) يا أيها الذين . . . . .
( بين يدي نجواكم ( استعارة ، والمعنى قبل نجواكم ، وعن ابن عباس وقتادة أن قوما من المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للرسول ، عليه الصلاة والسلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) سمحا لا يرد أحدا فنزلت مشددة عليهم أمر المناجاة ، وهذا الحكم قيل : نسخ قبل العمل به . وقال قتادة : عمل به ساعة من نهار . وقال مقاتل : عشرة أيام . وقال علي كرم الله وجهه : ما عمل به أحد غيري ، أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، وناجيت عشر مرار أتصدق في كل مرة بدرهم ، ثم ظهرت مشقة ذلك على الناس فنزلت الرخصة في ترك الصدقة . وقرئ ( صدقات ) بالجمع . وقال ابن عباس : هي منسوخة بالآية التي بعدها وقيل : بآية الزكاة .
المجادلة : ( 13 ) أأشفقتم أن تقدموا . . . . .
( أأشفقتم ( أخفتم من ذهاب المال في الصدقة ، أو من العجز عن وجودها تتصدقون به . فإذا لم تفعلوا ما أمرتم به ، وتاب الله عليكم عذركم ، ورخص لكم في أن لا تفعلوا فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وأفعال الطاعات . وقرأ عياش

" صفحة رقم 236 "
عن أبي عمر وخبير : بما يعملون بالياء من تحت ، والجمهور بالتاء .
قوله عز وجل ) خَبِيرٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ ( سقط : إلى آخر الآية ) ).
المجادلة : ( 14 ) ألم تر إلى . . . . .
( الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ ( : هم المنافقون ، والمغضوب عليهم : هم اليهود ، عن السدي ومقاتل ، أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال لأصحابه : ( يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان ) ، فدخل عبد الله بن أبي بن سلول ، وكان أزرق أسمر قصيراً ، خفيف اللحية ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( علام تشتمني أنت وأصحابك ) ؟ فحلف بالله ما فعل ، فقال عليه الصلاة والسلام له : ( فعلت ) ، فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه ، فنزلت . والضمير في ) مَّا هُم ( عائد على ) الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ ( ، وهم المنافقون : أي ليسوا منكم أيها المؤمنون ، ( وَلاَ مِنْهُمْ ( : أي ليسوا من الذين تولوهم ، وهم اليهود . وما هم استئناف إخبار بأنهم مذبذبون ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكفار بقلبه ) . وقال ابن عطية : يحتمل تأويلاً آخر ، وهو أن يكون قوله : ) مَّا هُم ( يريد به اليهود ، وقوله : ) وَلاَ مِنْهُمْ ( يريد به المنافقين ، فيجيء فعل المنافقين على هذا التأويل أحسن ، لأنهم تولوا مغضوباً عليهم ، ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ، ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صواباً . انتهى . والظاهر التأويل الأول ، لأن الذين تولوا هم المحدث عنهم . والضمير في ) وَيَحْلِفُونَ ( عائد عليهم ، فتتناسق الضمائر لهم ولا تختلف . وعلى هذا التأويل يكون ) مَّا هُم ( استئنافاً ، وجاز أن يكون حالاً من ضمير ) تَوَلَّوْاْ ). وعلى احتمال ابن عطية ، يكون ) مَّا هُم ( صفة لقوم . ) وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ ( ، إما أنهم ما سبوا ، كما روي في سبب النزول ، أو على أنهم مسلمون . والكذب هو ما ادعوه من الإسلام . ) وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( : جملة حالية يقبح عليهم ، إذ حلفوا على خلاف ما أبطنوا ، فالمعنى : وهم عالمون متعمدون له .
المجادلة : ( 15 ) أعد الله لهم . . . . .
والعذاب الشديد : المعد لهم في الآخرة . وقرأ الجمهور : ) أَيْمَانِهِمْ ( جمع يمين ؛ والحسن : إيمانهم ، بكسر الهمزة : أي ما يظهرون من الإيمان ،
المجادلة : ( 16 ) اتخذوا أيمانهم جنة . . . . .
( جَنَّةُ ( : أي ما يتسترون به ويتقون المحدود ، وهو الترس ، ( فَصَدُّواْ ( : أي أعرضوا ، أو صدوا الناس عن الإسلام ، إذ كانوا يثبطون من لقوا عن الإسلام ويضعفون أمر الإيمان وأهله ، أو صدوا المسلمين عن قتلهم بإظهار الإيمان ، وقتلهم هو سبيل الله فيهم ، لكن ما أظهروه من الإسلام صدوا به المسلمين عن قتلهم .
المجادلة : ( 17 ) لن تغني عنهم . . . . .
( لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا ( : تقدم الكلام على هذه الجملة في أوائل آل عمران .
المجادلة : ( 18 ) يوم يبعثهم الله . . . . .
( فَيَحْلِفُونَ لَهُ ( : أي لله تعالى . ألا ترى إلى قولهم : ) وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( ؟ ) كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ( أنهم مؤمنون ، وليسوا بمؤمنين . والعجب منهم ، كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على عالم الغيب والشهادة ، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم ؟ والمقصود أنهم مقيمون على الكذب ، قد تعودوه حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كان في الدنيا ، ( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء ( : أي شيء نافع لهم .
المجادلة : ( 19 ) استحوذ عليهم الشيطان . . . . .
( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ( : أي أحاط بهم من كل جهة ، وغلب على نفوسهم واستولى عليها

" صفحة رقم 237 "
وتقدمت هذه المادة في قوله تعالى : ) أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ( في النساء ، وأنها من حاذ الحمار العانة إذا ساقها ، وجمعها غالباً لها ، ومنه كان أحوذياً نسيج وحده . وقرأ عمر : استحاذ ، أخرجه على الأصل والقياس ، واستحوذ شاذ في القياس فصيح في الاستعمال . ) فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ( : فهم لا يذكرونه ، لا بقلوبهم ولا بألسنتهم ؛ و ) حِزْبُ الشَّيْطَانِ ( : جنده ، قاله أبو عبيدة .
المجادلة : ( 20 ) إن الذين يحادون . . . . .
( أُوْلَئِكَ فِى الاْذَلّينَ ( : هي أفعل التفضيل ، أي في جملة من هو أذل خلق الله تعالى ، لا ترى أحداً أذل منهم .
المجادلة : ( 21 ) كتب الله لأغلبن . . . . .
وعن مقاتل : لما فتح الله مكة للمؤمنين ، والطائف وخيبر وما حولهم ، قالوا : نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم ، فقال عبد الله بن أبي : أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها ؟ والله إنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك ، فنزلت : ) كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( : ) كِتَابَ ( : أي في اللوح المحفوظ ، أو قضى . وقال قتادة : بمعنى قال ، ( وَرُسُلِى ( : أي من بعثت منهم بالحرب ومن بعثت منهم بالحجة . ) إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ ( : ينصر حزبه ، ( عَزِيزٌ ( : يمنعه من أن يذل .
المجادلة : ( 22 ) لا تجد قوما . . . . .
( لاَّ تَجِدُ قَوْماً ( ، قال الزمخشري ، من باب التخييل : خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوماً مؤمنين يوادون المشركين ، والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه أن يمتنع ، ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله . وزاد ذلك تأكيداً بقوله : ) وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ ). انتهى . وبدأ بالآباء لأنهم الواجب على الأولاد طاعتهم ، فنهاهم عن موادتهم . وقال تعالى : ) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ( ، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب ، ثم أتى ثالثاً بالإخوان لأنهم بهم التعاضد ، كما قيل : أخاك أخاك إن من لا أخاً له
كساع إلى الهيجاء بغير سلاح
ثم رابعاً بالعشيرة ، لأن بها التناصر ، وبهم المقاتلة والتغلب والتسرع إلى ما دعوا إليه ، كما قال : لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهاناً
وقرأ الجمهور : ) كِتَابَ ( مبنياً للفاعل ، ( فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( نصباً ، أي كتب الله . وأبو حيوة والمفضل عن عاصم : كتب مبنياً للمفعول ، والإيمان رفع . والجمهور : ) أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ( على الإفراد ؛ وأبو رجاء : على الجمع ، والمعنى : أثبت الإيمان في قلوبهم وأيدهم بروح منه تعالى ، وهو الهدى والنور واللطف . وقيل : الروح : القرآن . وقيل : جبريل يوم بدر . وقيل : الضمير في منه عائد على الإيمان ، والإنسان في نفسه روح يحيا به المؤمن ، والإشارة بأولئك كتب إلى الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله . قيل : والآية نزلت في أبي حاطب بن أبي بلتعة . وقيل : الظاهر أنها متصلة بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود . وقيل : نزلت في ابن أبيّ وأبي بكر الصديق ، رضى الله تعالى عنه ، كان منه سب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فصكه أبو بكر صكة سقط منها ، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : ( أوفعلته ) ؟ قال : نعم ، قال : ( لا تعد ) ، قال : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته . وقيل : في أبي عبيدة بن الجراح ، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أُحد ، وفي

" صفحة رقم 238 "
أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وفي مصعب بن عمير قتل أخاه بن عمير يوم أُحد . وقال ابن شوذب : يوم بدر ، وفي عمر قتل خاله العاصي بن هشام يوم بدر ، وفي عليّ وحمزة وعبيد بن الحارث ، قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة يوم بدر . وقال الواقدي في قصة أبي عبيدة أنه قتل أباه ، قال : كذلك يقول أهل الشام ، وقد سألت رجالاً من بني فهر فقالوا : توفي أبوه قبل الإسلام . انتهى ، يعنون في الجاهلية قبل ظهور الإسلام . وقد رتب المفسرون . ) وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ( على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومصعب وعمر وعليّ وحمزة وعبيد مع أقربائهم ، والله تعالى أعلم .

" صفحة رقم 239 "
59
( سورة الحشر )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِىأَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاًّوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى الاٌّ بْصَارِ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاٌّ غْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاٌّ دْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ

" صفحة رقم 240 "
لاّنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنكَ إِنِّىأَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لاَ يَسْتَوِىأَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاٌّ مْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاٌّ سْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } )
الحشر : ( 1 ) سبح لله ما . . . . .
اللينة ، قال الأخفش : كأنه لون من النخيل ، أي ضرب منه ، وأصلها لونه ، قلبوا الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، وأنشد : قد شجاني الأصحاب لما تغنوا
بفراق الأحباب من فوق لينه
انتهى . وجمعها لين ، كتمرة وتمر ، وقد كسروه على ليان ، وتكسير ما بينه وبين واحده هاء التأنيث شاذ ، كرطبة ورطب ، شذوا فيه فقالوا : أرطاب وقال الشاعر : وسالفة كسحوق الليان
أضرم فيها الغوى السعر
وقال أبو الحجاج الأعلم : الليان جمع لينة ، وهي النخلة . انتهى ، وتأتى أقوال المفسرين في اللينة . أوجف البعير : حمله على الوجيف ، وهو السير السريع . تقول : وجف البعير يجف وجفاً ووجيفاً ووجفاناً قال العجاج :
ناج طواه الاين مما وجفا
وقال نصيب : ألا رب ركب قد قطعت وجيفهم
إليك ولولا أنت لم يوجف الركب

" صفحة رقم 241 "
) سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاِوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم ( سقط : الآية كاملة ) ).
هذه السورة مدنية . وقيل : نزلت في بني النضير ، وتعد من المدينة لتدانيها منها . وكان بنو النضير صالحوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، على أن لا يكونوا عليه ولا له . فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة ، لا ترد له راية . فلما هزم المسلمون يوم أُحد ، ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة ، فحالفوا عليه قريشاً عند الكعبة ، فأخبر جبريل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بذلك ، فأمر بقتل كعب ، فقتله محمد بن مسلمة غيلة ، وكان أخاه من الرضاعة . وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري ، منصرفه من بئر معونة ؛ فهموا بطرح الحجر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فعصمه الله تعالى .
فلما قتل كعب ، أمر عليه الصلاة والسلام بالمسير إلى بني النضير ، وكانوا بقرية يقال لها الزهرة . فساروا ، وهو عليه الصلاة والسلام على حمار مخطوم بليف ، فوجدهم ينوحون على كعب ، وقالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم مر أمرك ، فقال : ( اخرجوا من المدينة ) ، فقالوا : الموت أقرب لنا من ذلك ، وتنادوا بالحرب . وقيل : استمهلوه عشرة أيام ليتجهزوا للخروج . ودس المنافق عبد الله بن أبيّ وأصحابه أن لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم ، وإن أخرجتم لنخرجن معكم . فدرّبوا على الأزفة وحصنوها ، ثم أجمعوا على الغدر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقالوا : اخرج في ثلاثين من أصحابك ، ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك ، فإن صدقوا آمنا كلنا ، ففعل ، فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون ؟ اخرج في ثلاثة ، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ، ففعلوا ، فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك . فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها ، وكان مسلماً ، فأخبرته بما أرادوا ، فأسرع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، فساره بخبرهم قبل أن يصل الرسول إليهم .
فلما كان من الغد ، غدا عليهم بالكتائب ، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين ، فطلبوا الصلح ، فأبى عليهم إلا الجلاء ، على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع ، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات ، إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أحطب ، فلحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة بالحيرة ، وقبض أموالهم وسلاحهم ، فوجد خمسين درعاً وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفاً . وكان ابن أبي قد قال لهم : معي ألفان من قومي وغيرهم ، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان . فلما نازلهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان .
ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضاً ، ذكر أيضاً ما حل باليهود من غضب الله عليهم وجلائهم ، وإمكان الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام ممن حاد الله ورسوله ورام الغدر بالرسول عليه الصلاة والسلام وأظهر العداوة بحلفهم مع قريش .
وتقدم الكلام في تسبيح الجمادات التي يشملها العموم المدلول عليه بما ،
الحشر : ( 2 ) هو الذي أخرج . . . . .
( مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( : هم قريظة ، وكانت قبيلة عظيمة توازن في القدر والمنزلة بني النضير ، ويقال لهما

" صفحة رقم 242 "
الكاهنان ، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون ، نزلوا قريباً من المدينة في فتن بني إسرائيل ، انتظاراً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى في كتابه . ) مِن دِيَارِهِم ( : يتعلق بأخرج ، و ) مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( يتعلق بمحذوف ، أي كائنين من أهل الكتاب . وصحت الإضافة إليهم لأنهم كانوا ببرية لا عمران فيها ، فبنوا فيها وأنشأوا . واللام في ) لاِوَّلِ الْحَشْرِ ( تتعلق بأخرج ، وهي لام التوقيت ، كقوله : ) لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( ، والمعنى : عند أول الحشر ، والحشر : الجمع للتوجيه إلى ناحية مّا . والجمهور : إلى أن هؤلاء الذين أخرجوا هم بنو النضير . وقال الحسن : هم بنو قريظة ؛ ورد هذا بأن بني قريظة ما حشروا ولا أجلوا وإنما قتلوا ، وهذا الحشر هو بالنسبة لإخراج بني النضير . وقيل الحشر هو حشر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الكتائب لقتالهم ، وهو أول حشر منه لهم ، وأول قتال قاتلهم . وأول يقتضي ثانياً ، فقيل : الأول حشرهم للجلاء ، والثاني حشر عمر لأهل خيبر وجلاؤهم . وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بجلاء أهل خيبر بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا يبقين دينان في جزيرة ) . وقال الحسن : أراد حشر القيامة ، أي هذا أوله ، والقيام من القبور آخره . وقال عكرمة والزهري : المعنى : الأول موضع الحشر ، وهو الشام . وفي الحديث ، أنه عليه الصلاة والسلام قال لبني النضير : ( اخرجوا ) ، قالوا : إلى أين ؟ قال : ( إلى أرض المحشر ) . وقيل : الثاني نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وهذا الجلاء كان في ابتداء الإسلام ، وأما الآن فقد نسخ ، فلا بد من القتل والسبي أو ضرب الجزية .
( مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ( ، لعظم أمرهم ومنعتهم وقوتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم . ) وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ ( تمنعهم حصونهم من حرب الله وبأسه . ولما كان ظن المؤمنين منفياً هنا ، أجري مجرى نفي الرجاء والطمع ، فتسلط على أن الناصبة للفعل ، كما يتسلط الرجاء والطمع . ولما كان ظن اليهود قوياً جداً يكاد أن يلحق بالعلم تسلط على أن المشددة ، وهي التي يصحبها غالباً فعل التحقيق ، كعلمت وتحققت وأيقنت ، وحصونهم الوصم والميضاة والسلاليم والكثيبة . وقال الزمخشري : فإن قلت : أي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ، وبين النظم الذي جاء عليه ؟ قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في انفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم . انتهى ، يعني أن حصونهم هو المبتدأ ، ومانعتهم الخبر ، ولا يتعين هذا ، بل الراجح أن يكون حصونهم فاعلة بمانعتهم ، لأن في توجيهه تقديماً وتأخيراً ، وفي إجازة مثله من نحو : قائم زيد ، على الابتداء ، والخبر خلاف ؛ ومذهب أهل الكوفة منعه .
( فَاتَاهُمُ اللَّهُ ( : أي بأسه ، ( مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ( : أي لم يكن في حسابهم ، وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف ، قاله السدي وأبو صالح وابن جريج ، وذلك مما أضعف قوتهم . ) وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ( ، فسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة حتى نزلوا على حكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ ( ، قال قتادة : خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا ، وخربوا هم من داخل ونحوه . قال الضحاك والزجاج وغيرهما : كانوا كلما خرب المسلمون من حصونهم ، هدموا هم من البيوت ، خربوا الحصن . وقال الزهري وغيره : كانوا ، لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل ، لا يدعون خشبة حسنة ولا سارية إلا قلعوها وخربوا البيوت عنها ، فيكون قوله : ) وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ ( إسناد التخريب إليها من حيث كان المؤمنون محاصرتهم إياهم داعية إلى ذلك . وقيل : شحوا على بقائها سليمة ، فخربوها إفساداً . وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمر : ويخربون مشدّداً ؛ وباقي السبعة مخففاً ، والقراءتان بمعنى واحد عدى خرب اللازم بالتضعيف وبالهمزة . وقال صاحب الكامل في القراآت ؛ التشديد الاختيار على التكثير . وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب بمعنى هدم وأفسد ،

" صفحة رقم 243 "
وأخرب : ترك الموضع خراباً وذهب عنه . ) فَاعْتَبِرُواْ ( : تفطنوا لما دبر الله من إخراجهم بتسليط المؤمنين عليهم من غير قتال .
وقيل : وعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فقال : فكان كما قال ؛
الحشر : ( 3 ) ولولا أن كتب . . . . .
( وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَء لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا ( : أي لولا أنه تعالى قضى أنه سيجليهم من ديارهم ويبقون مدة يؤمن بعضهم ويولد لبعضهم من يؤمن ، لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي ، كما فعل بإخوانهم بني قريظة . وكان بنو النضير من الجيش الذين عصوا موسى في كونهم لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق ، تركوه لجماله وعقله . وقال موسى عليه السلام : لا تستحيوا منهم أحداً . فلما رجعوا إلى الشام ، وجدوا موسى عليه السلام قد مات . فقال لهم بنو إسرائيل : أننم عصاة ، والله لا دخلتم علينا بلادنا ، فانصرفوا إلى الحجاز ، فكانوا فيه ، فلم يجر عليهم الجلاء الذي أجلاه بخت نصر على أهل الشام . وكان الله قد كتب على بني إسرائيل جلاء ، فنالهم هذا الجلاء على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالسيف والقتل ، كأهل بدر وغيرهم .
ويقال : جلا القوم عن منازلهم وأجلاهم غيرهم . قيل : والفرق بين الجلاء والإخراج : أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد . وقال الماوردي : الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج قد يكون لواحد وجماعة . وقرأ الجمهور : الجلاء ممدوداً ؛ والحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح : مقصوراً ؛ وطلحة : مهموزاً من غير ألف كالبنأ . ) وَلَهُمْ فِى الاْخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ( : أي إن نجوا من عذاب الدنيا ، لم ينجوا في الآخرة .
الحشر : ( 4 - 5 ) ذلك بأنهم شاقوا . . . . .
وقرأ طلحة : ومن يشاقق بالإظهار ، كالمتفق عليه في الأنفال ؛ والجمهور ؛ بالإدغام . كان بعض الصحابة قد شرع في بعض نخل بني النضير يقطع ويحرق ، وذلك في صدر الحرب ، فقالوا : ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الإفساد ؟ فكفوا عن ذلك ، ونزل : ) مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ ( الآية رداً على بني النضير ، وإخباراً أن ذلك بتسويغ الله وتمكينه ليخربكم به ويذلكم . واللينة والنخلة اسمان بمعنى واحد ، قاله الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون . وقال الشاعر : كان قيودي فوقها عش طائر
على لينة سوقاً يهفو حيونها
وقال آخر : طراق الحوامي واقع فوق لينة
يدي ليلة في ولشه يترقرق
وقال ابن عباس وجماعة من أهل اللغة : هي النخلة ما لم تكن عجوة . وقال الثوري : الكريمة من النخل . وقال أبو عبيدة وسفيان : ما ثمرها لون ، وهو نوع من التمر يقال له اللون . قال سفيان : هو شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج . وقال أيضاً أبو عبيدة : اللين : ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني . وقال جعفر بن محمد : هي العجوة ، وقيل : هي السيلان ، وأنشد فيه : غرسوا لينة بمجرى معين
ثم حف النخيل بالآجام
وقيل : هي أغصان الأشجار للينها ، فعلى هذا لا يكون أصل الياء الواو . وقيل : هي النخلة القصيرة . وقال الأصمعي : هي الدفل ، وما شرطية منصوبة بقطعتم ، ومن لينة تبيين لإبهام ما ، وجواب الشرط ) فَبِإِذْنِ اللَّهِ ( : أي فقطعها أو تركها بإذن الله . وقرأ الجمهور ؛ ) قَائِمَةً ( ، أنث قائمة ، والضمير في ) تَرَكْتُمُوهَا ( على معنى ما . وقرأ عبد الله

" صفحة رقم 244 "
والأعمش وزيد بن علي : قوماً على وزن فعل ، كضرب جمع قائم . وقرىء : قائماً اسم فاعل ، فذكر على لفظ ما ، وأنث في على أصولها . وقرىء : أصلها بغير واو .
الحشر : ( 6 ) وما أفاء الله . . . . .
ولما جلا بنو النضير عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم ، طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر ، فنزلت : ) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( : بين أن أموالهم فيء ، لم يوجف عليها خيل ولا ركاب ولا قطعت مسافة ، إنما كانوا ميلين من المدينة مشوا مشياً ، ولم يركب إلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال عمر بن الخطاب : كانت أموال بني النضير لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خاصة ، ينفق منها على أهله نفقة سنته ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى . وقال الضحاك : كانت له عليه الصلاة والسلام ، فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ، ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا أبا دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة ، أعطاهم لفقرهم . وما في قوله : ) وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( شرطية أو موصولة ، وأفاء بمعنى : يفيء ، ولا يكون ماضياً في اللفظ والمعنى ، ولذلك صلة ما الموصولة إذا كانت الباء في خبرها ، لأنها إذ ذاك شبهت باسم الشرط . فإن كانت الآية نزلت قبل جلائهم ، كانت مخبرة بغيب ، فوقع كما أخبرت ؛ وإن كانت نزلت بعد حصول أموالهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كان ذلك بياناً لما يستقبل ، وحكم الماضي المتقدم حكمه . ومن في : ) مِنْ خَيْلٍ ( زائدة في المفعول يدل عليه الاستغراق ، والركاب : الإبل ، سلط الله رسوله عليهم وعلى ما في أيديهم ، كما كان يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم . وقال بعض العلماء : كل ما وقع على الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة .
الحشر : ( 7 ) ما أفاء الله . . . . .
( مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ( ، قال الزمخشري : لم يدخل العاطف على هذه الجملة ، لأنها بيان للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها . بين لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما يصنع بما أفاء الله عليه ، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوم على الأقسام الخمسة . انتهى . وقال ابن عطية : أهل القرى المذكورون في هذه الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة ، وحكمها مخالف لبني النضير ، ولم يحبس من هذه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لنفسه شيئاً ، بل أمضاها لغيره ، وذلك أنها في ذلك الوقت فتحت . انتهى . وقيل : إن الآية الأولى خاصة في بني النضير ، وهذه الآية عامة . وقرأ الجمهور : ) كَى لاَ يَكُونَ ( بالياء ؛ وعبد الله وأبو جعفر وهشام : بالتاء . والجمهور : ) دُولَةً ( بضم الدال ونصب التاء ؛ وأبو جعفر وأبو حيوة وهشام : بضمها ؛ وعلي والسلمي : بفتحها . قال عيسى بن عمر : هما بمعنى واحد . وقال الكسائي وحذاق البصرة : الفتح في الملك بضم الميم لأنها الفعلة في الدهر ، والضم في الملك بكسر الميم . والضمير في تكون بالتأنيث عائد على معنى ما ، إذ المراد به الأموال والمغانم ، وذلك الضمير هو اسم ) يَكُونَ ). وكذلك من قرأ بالياء ، أعاد الضمير على لفظ ما ، أي يكون الفيء ، وانتصب دولة على الخبر . ومن رفع دولة فتكون تامة ، ودولة فاعل ، وكيلا يكون تعليل لقوله : ) فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ( ، أي فالفيء وحكمه لله وللرسول ، يقسمه على ما أمره الله تعالى ، كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء بلغة يعيشون بها متداولاً بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم ، كما كان رؤساؤهم يستأثرون بالغنائم ويقولون : من عز بزّ ، والمعنى : كي لا يكون أخذه غلبة وأثرة جاهلية .
وروي أن قوماً من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا : لنا منها سهمنا ، فنزل : ) وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ). وعن الكلبي : أن رؤساً من المسلمين قالوا له : يا رسول الله ، خذ صفيك والربع ودعنا والباقي ، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية ، فنزل : ) وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ( الآية ، وهذا عام يدخل فيه قسمة ما أفاء الله والغنائم وغيرها ؛ حتى أنه قد استدل بهذا العموم على تحريم الخمر ، وحكم الواشمة والمستوشمة ، وتحريم المخيط للمحرم .
ومن غريب الحكايات في

" صفحة رقم 245 "
الاستنباط : أن الشافعي ، رحمه الله تعالى ، قال : سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فقال له عبد الله بن محمد بن هارون : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور ؟ فقال : قال الله تعالى : ) وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ). وحدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن خراش ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ) . وحدثنا سفيان بن عيينة ، عن مسعر بن كدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب ، أنه أمر بقتل الزنبور . انتهى . ويعني في الإحرام . بين أنه يقتدي بعمر ، وأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمر بالاقتداء به ، وأن الله تعالى أمر بقبول ما يقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
قوله عز وجل : ) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ ).
الحشر : ( 8 ) للفقراء المهاجرين الذين . . . . .
( لِلْفُقَرَاء ( ، قال الزمخشري : بدل من قوله : ) وَلِذِى الْقُرْبَى ( ، والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من ) لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ( ، والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله : ) وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( ، وأنه يترفع برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وعلا . انتهى . وإنما جعله الزمخشري بدلاً من قوله : ) وَلِذِى الْقُرْبَى ( ، لأنه مذهب أبي حنيفة ، والمعنى إنما يستحق ذو القربى الفقير . فالفقر شرط فيه على مذهب أبي حنيفة ، ففسره الزمخشري على مذهبه . وأما الشافعي ، فيرى أن سبب الاستحقاق هو القرابة ، فيأخذ ذو القربى الغني لقرابته .
وقال ابن عطية : ) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ ( بيان لقوله : ) وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ( ، وكررت لام الجر لما كانت الأولى مجرورة باللام ، ليبين بين الأغنياء منكم ، أي ولكن يكون للفقراء . انتهى . ثم وصف تعالى المهاجرين بما يقتضي فقرهم ويوجب الإشفاق عليهم . ) أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( : أي في إيمانهم وجهادهم قولاً وفعلاً .
الحشر : ( 9 ) والذين تبوؤوا الدار . . . . .
والظاهر أن قوله : ) وَالَّذِينَ ( معطوف على المهاجرين ، وهم الأنصار ، فيكون قد وقع بينهم الاشتراك فيما يقسم من الأموال . وقيل : هو مستأنف مرفوع بالابتداء ، والخبر ) هَاؤُلاَء يُحِبُّونَ ). أثنى الله تعالى بهذه الخصال الجليلة ، كما أنثى على المهاجرين بقوله : ) يَبْتَغُونَ فَضْلاً ( الخ ، والإيمان معطوف على الدار ، وهي المدينة ، والإيمان ليس مكاناً فيتبوأ . فقيل : هو من عطف الجمل ، أي واعتقدوا الإيمان وأخلصوا فيه ، قاله أبو عليّ ، فيكون كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً
أو يكون ضمن ) تبوؤا ( معنى لزموا ، واللزوم قدر مشترك في الدار والإيمان ، فيصح العطف . أو لما كان الإيمان قد شملهم ، صار كالمكان الذي يقيمون فيه ، لكن يكون ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز . قال الزمخشري : أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه

" صفحة رقم 246 "
مقامه ؛ أو سمى المدينة ، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان . وقال ابن عطية : والمعنى تبوؤا الدار مع الإيمان معاً ، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله : ) خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ( فتأمله . انتهى . ومعنى ) مِن قَبْلِهِمُ ( : من قبل هجرتهم ، ( حَاجَةً ( : أي حسداً ، ( مّمَّا أُوتُواْ ( : أي مما أعطي المهاجرون ، ونعم الحاجة ما فعله الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في إعطاء المهاجرين من أموال بني النضير والقرى .
( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( : من ذلك قصة الأنصاري مع ضيف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حيث لم يكن لهم إلا ما يأكل الصبية ، فأوهمهم أنه يأكل حتى أكل الضيف ، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : ( عجب الله من فعلكما البارحة ) ، فالآية مشيرة إلى ذلك . وروي غير ذلك في إيثارهم . والخصاصة : الفاقة ، مأخوذة من خصاص البيت ، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج : والفتوح ، فكأن حال الفقير هي كذلك ، يتخللها النقص والاحتياج . وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة : شح بكسر الشين . والجمهور : بإسكان الواو وتخفيف القاف وضم الشين ، والشح : اللؤم ، وهو كزازة النفس على ما عندها ، والحرص على المنع . قال الشاعر : يمارس نفساً بين جنبيه كرة
إذا همّ بالمعروف قالت له مهلاً
وأضيف الشح إلى النفس لأنه غريزة فيها . وقال تعالى : ) وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ ( ، وفي الحديث : ( من أدّى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برىء من الشح ) .
الحشر : ( 10 ) والذين جاؤوا من . . . . .
( وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ ( : الظاهر أنه معطوف على ما قبله من المعطوف على المهاجرين . فقال الفراء : هم الفرقة الثالثة من الصحابة ، وهو من آمن أو كفر في آخر مدّة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الجمهور : أراد من يجيء من التابعين ، فعلى القول الأول : يكون معنى ) مّن بَعْدِهِمْ ( : أي من بعد المهاجرين والأنصار السابقين بالإيمان ، وهؤلاء تأخر إيمانهم ، أو سبق إيمانه وتأخرت وفاته حتى انقرض معظم المهاجرين والأنصار . وعلى القول الثاني : يكون معنى ) مّن بَعْدِهِمْ ( : أي من بعد ممات المهاجرين ، مهاجريهم وأنصارهم . وإذا كان ) وَالَّذِينَ ( معطوفاً على المجرور قبله ، فالظاهر أنهم مشاركو من تقدّم في حكم الفيء .
وقال مالك بن أوس : قرأ عمر ) وَإِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ( الآية ، فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : ) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم ( ، فقال : وهذه لهؤلاء ، ثم قرأ : ) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( حتى بلغ ) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ ( إلى ) وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ ). ثم قال : لئن عشت لنؤتين الراعي ، وهو يسير نصيبه منها . وعنه أيضاً : أنه استشار المهاجرين والأنصار فيما فتح الله عليه من ذلك في كلام كثير آخره أنه تلا : ) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( الآية ، فلما بلغ ) أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( قال : هي لهؤلاء فقط ، وتلا : ) وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ ( الآية ، إلى قوله : ) رَءوفٌ رَّحِيمٌ ( ؛ ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك . وقال عمر رضي الله تعالى عنه : لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها ، كما قسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خيبر . وقيل : ) وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ ( مقطوع مما قبله ، معطوف عطف الجمل ، لا عطف المفردات ؛ فإعرابه : ) وَالَّذِينَ ( مبتدأ ، ندبوا بالدعاء للأولين ، والثناء عليهم ، وهم من يجيء بعد الصحابة إلى يوم القيامة ، والخبر ) يَقُولُونَ ( ، أخبر تعالى عنهم بأنهم لإيمانهم ومحبة أسلافهم ) يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا ( ، وعلى القول الأول يكون ) يَقُولُونَ ( استئناف إخبار ، قيل : أو حال .
الحشر : ( 11 - 12 ) ألم تر إلى . . . . .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ ( الآية : نزلت في عبد الله بن أبيّ ، ورفاعة بن التابوت ، وقوم من منافقي الأنصار ، كانوا بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله : ) يَقُولُونَ ( ، واللام في ) لإِخْوانِهِمْ ( للتبليغ ، والإخوة بينهم إخوة الكفر وموالاتهم ، ( وَلاَ

" صفحة رقم 247 "
نُطِيعُ فيكُمْ ( : أي في قتالكم ، ( أَحَدًا ( : من الرسول والمؤمنين ؛ أو ) لا نُطِيعُ فيكُمْ ( : أي في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة ، و ) لَنَنصُرَنَّكُمْ ( : جواب قسم محذوف قبل أن الشرطية ، وجواب أن محذوف ، والكثير في كلام العرب إثبات اللام المؤذنة بالقسم قبل أداة الشرط ، ومن حذفها قوله : ) وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ ( ، التقدير : ولئن لم ينتهوا لكاذبون ، أي في مواعيدهم لليهود ، وفي ذلك دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيب ، ولذلك لم يخرجوا حين أخرج بنو النضير ، بل أقاموا في ديارهم ، وهذا إذا كان قوله : ) لإِخْوانِهِمْ ( أنهم بنو النضير . وقيل : هم يهود المدينة ، والضمائر على هذين القولين . وقيل : فيها اختلاف ، أي لئن أخرج اليهود لا يخرج المنافقون ، ولئن قوتل اليهود لا ينصرهم المنافقون ، ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار ، وكأن صاحب هذا القول نظر إلى قوله : ) وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ( ، فقد أخبر أنهم لا ينصرونهم ، فكيف يأتي ) وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ( ؟ فأخرجه في حيز الإمكان ، وقد أخبر أنهم لا ينصرونهم ، فلا يمكن نصرهم إياهم بعد إخباره تعالى أنه لا يقع . وإذا كانت الضمائر متفقة ، فقال الزمخشري : معناه ولئن نصروهم على الفرض ، والتقدير كقوله : ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( ، وكما يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون . وقال ابن عطية : معناه : ولئن خالفوا ذلك فإنهم ينهزمون . انتهى . والظاهر أن الضمير في ) لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ( ، وفي ) ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( عائد على المفروض أنهم ينصرونهم ، أي ولئن نصرهم المنافقون ليولن المنافقون الأدبار ، ثم لا ينصر المنافقون . وقيل : الضمير في التولي عائد على اليهود ، وكذا في ) لاَ يُنصَرُونَ ). قال ابن عطية : وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله : ) لاَ يَخْرُجُونَ ( و ) لاَ يُنصَرُونَ ( لأنها راجعة على حكم القسم ، لا على حكم الشرط ، وفي هذا نظر . انتهى . وأي نظر في هذا ؟ وهذا جاء على الق