Translate

السبت، 28 مايو 2022

مجلد21.و22. تفسير البحر المحيط لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

 

21.     مجلد21. تفسير البحر المحيط لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 284 "
الطريقة تكون من الأرض والجبل ، كالقطعة العظيمة المتصلة طولاً . وقال الزمخشري : والجدد : الخطط والطرائق . وقال لبيد : أو مذهب جدد على الواحد ، ويقال : جدة الحمار للخطة السوداء التي على ظهره ، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه . انتهى . وقال الشاعر : كأن مبرات وجدة ظهره
كنائن يجري بينهن دليص
الجدة : الخط الذي في وسط ظهره ، يصف حمار وحش . الغربيب : الشديد السواد . لغب يلغب لغوباً : أعيا .
( الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ).
هذه السورة مكية . ولما ذكر تعالى في آخر السورة التي قبلها هلاك المشركين أعداء المؤمنين ، وأنزلهم منازل العذاب ، تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره لنعمائه ووصفه بعظيم آلائه ، كما في قوله : ) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ).
وقرأ الضحاك والزهري : فطر ، جعله فعلاً ماضياً ونصب ما بعده . قال أبو الفضل الرازي : فأما على إضمار الذي فيكون نعتاً لله عز وجل ، وأما بتقدير قد فيما قبله فيكون بمعنى الحال . انتهى . وحذف الموصول الاسمي لا يجوز عند البصريين ، وأما الحال فيكون حالاً محكية ، والأحسن عندي أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو فطر ، وتقدم شرح ) فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ، وأن المعنى خالقها بعد أن لم تكن ، والسموات والأرض عبارة عن العالم .
وقال أبو عبد الله الرازي : الحمد يكون في غالب الأمر على النعمة ، ونعم الله عاجلة ، و ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( ، إشارة إلى أن النعمة العاجلة ودليله : ) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ( ، و ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( ، إشارة إليها أيضاً ، وهي الاتقاء ، فإن الاتقاء والصلاح بالشرع والكتاب . والحمد في سورة سبأ إشارة إلى نعمة الإيجاد والحشر ، ودليله : ) يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الاْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ( منها ، وقوله : ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ ( ، وهنا إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة ، ودليله : ) وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ). ففاطر السموات والأرض شاقهما لنزول الأرواح من السماء ، وخروج الأجساد من الأرض دليله : ) جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ ( : أي في ذلك اليوم . فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى ، لأن كما فعل بأشياعهم من قبل بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب . ولما ذكر حالهم ذكر حال المؤمن وبشره بإرسال الملائكة إليهم مبشرين ، وأنه يفتح لهم أبواب الرحمة .
وقرأ الحسن : جاعل بالرفع ، أي هو جاعل ؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو : وجاعل رفعاً بغير تنوين ، الملائكة نصباً ، حذف التنوين لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن يعمر ، وخليد بن نشيط : جعل فعلاً ماضياً ، الملائكة نصباً ، وذلك بعد قراءته فاطر بألف ، والجر كقراءة من قرأ : ) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ

" صفحة رقم 285 "
الَّيْلَ سَكَناً ). وقرأ الحسن ، وحميد بن قيس : رسلاً بإسكان السين ، وهي لغة تميم . وقال الزمخشري : وقرىء الذي فطر السموات والأرض وجعل الملائكة . فمن قرأ : فطر وجعل ، فينبغي أن تكون هذه الجمل إخباراً من العبد إلى ما أسداه إلينا من النعم ، كما تقول : الفضل لزيد أحسن إلينا بكذا خولنا كذا ، يكون ذلك جهة بيان لفعله الجميل ، كذلك يكون في قوله : فطر ، جعل ، لأن في ذلك نعماً لا تحصى . ومن قرأ : وجاعل ، فالأظهر أنهما اسماً فاعل بمعنى المضي ، فيكونان صفة لله ، ويجيء الخلاف في نصب رسلاً . فمذهب السيرافي أنه منصوب باسم الفاعل ، وإن كان ماضياً لما لم يمكن إضافته إلى اسمين نصب الثاني . ومذهب أبي علي أنه منصوب بإضمار فعل ، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو . وأما من نصب الملائكة فيتخرج على مذهب الكسائي وهشام في جواز إعمال الماضي النصب ، ويكون إذ ذاك إعرابه بدلاً . وقيل : هو مستقبل تقديره : يجعل الملائكة رسلاً ، ويكون أيضاً إعرابه بدلاً . ومعنى رسلاً بالوحي وغيره من أوامره ، ولا يريد جميع الملائكة لأنهم ليسوا كلهم رسلاً . فمن الرسل : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، والملائكة المتعاقبون ، والملائكة المسددون حكام العدل وغيرهم ، كالملك الذي أرسله الله إلى الأعمى والأبرص والاقرع .
و ) أَجْنِحَةٍ ( جمع جناح ، صيغة جمع القلة ، وقياس جمع الكثرة فيه جنح على وزن فعل ، فإن كان لم يسمع كان أجنحة مستعملاً في القليل والكثير . وتقدم الكلام على مثنى وثلاث ورباع في أول النساء مشبعاً ، ولكن المفسرون تعرضوا لكلام فيه هنا ، فقال الزمخشري : مثنى وثلاث ورباع صفات الأجنحة ، وإنما لم تنصرف لتكرار العدل فيها ، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الإعداد من صيغ إلى صيغ أخر ، كما عدل عمر عن عامر ، وحذام عن حاذمة ، وعن تكرير إلى غير تكرير . وأما بالوصفية ، فلا تقترن الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها . ألا تراك تقول بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها ؟ انتهى . فجعل المانع للصرف هو تكرار العدل فيها ، والمشهور أنها امتنعت من الصرف للصفة والعدل . وأما قوله : ألا تراك ، فإنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أفعل وفي ثلاثة ، وليس بصحيح ، لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة ، بل اشترطوا فيه . فليس الشرط موجوداً في أربع ، لأن شرطه أن لا يقبل تاء التأنيث . وليس شرطه في ثلاثة موجوداً ، لأنه لم يجعل علة مع التأنيث . فقياس الزمخشري قياس فاسد ، إذ غفل عن شرط كون الصفة علة . وقال ابن عطية : عدلت عن حال التنكير ، فتعرفت بالعدل ، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف ، وقيل : للعدل والصفة . انتهى . وهذا الثاني هو المشهور ، والأول قول لبعض الكوفيين . والظاهر أن الملك الواحد من صنف له جناحان ، وآخر ثلاثة ، وآخر أربعة ، وآخر أكثر من ذلك ، لما روي أن لجبريل ستمائة جناح ، منها اثنان يبلغ بهما المشرق إلى المغرب . قال قتادة : وأخذ الزمخشري يتكلم على كيفية هذه الأجنحة ، وعلى صورة الثلاثة بما لا يجدي قائلاً : يطالع ذلك في كتابه . وقالت فرقة : المعنى أن في كل جانب من الملك جناحان ، ولبعضهم ثلاثة ، ولبعضهم أربعة ، وإلا فلو كانت ثلاثة لواحد ، لما اعتدلت في معتاد ما رأينا نحن من الأجنحة . وقيل : بل هي ثلاثة لواحد ، كما يوجد لبعض الحيوانات . والظاهر أن المراد من الأجنحة ما وضعت له في اللغة .
وقال أبو عبد الله الرازي : يزيل بحثه في قوله : ) الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ، وهو الذي حكينا عنه أن قوله : ) جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( ، أقل ما يكون لذي الجناح ، إشارة إلى الجهة ، وبيانه أن الله ليس شيء فوقه ، وكل شيء تحت قدرته ونعمته ، والملائكة لهم وجه إلى الله يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما أخذوه بإذن الله ، كما قال تعالى : ) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( ، وقوله : ) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( ، وقال تعالى في حقهم : ) فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً ( ، النازعات فهما جناحان ، وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة ، وفيهم من يفعله لا بواسطة . فالفاعل بواسطة فيهم من له ثلاث جهات ، ومنهم من له أربع جهات وأكثر . انتهى . وبحثه في هذه ، وفي ) فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( بحث

" صفحة رقم 286 "
عجيب ، وليس على طريقة فهم العرب من مدلولات الألفاظ التي حملها ما حمل . والظاهر أن مثنى وما بعده من صفات الأجنحة ، وقيل : ) أُوْلِى أَجْنِحَةٍ ( معترض ، ( ومثنى ( حال ، والعامل فعل محذوف يدل عليه ) بَعْدِهِ رُسُلاً ( ، أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع . قيل : وإنما جعلهم أولي أجنحة ، لأنه لما جعلهم رسلاً ، جعل لهم أجنحة ليكون أسرع لنفاد الأمر وسرعة إنفاذ القضاء . فإن المسافة التي بين السماء والأرض لا تقطع بالأقدام إلا في سنين ، فجعلت لهم الأجنحة حتى ينالوا المكان البعيد في الوقت القريب كالطير .
( يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاء ( : تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب من خبر الملائكة أولي أجنحة ، أي ليس هذا ببدع في قدرة الله ، فإنه يزيد في خلقه ما يشاء ، والظاهر عموم الخلق . وقال الفراء : هذا في الأجنحة التي للملائكة ، أي يزيد في خلق الملائكة الأجنحة . وقالوا : في هذه الزيادة الخلق الحسن ، أو حسن الصوت ، أو حسن الخط ، أو لملاحة في العينين أو الأنف ، أو خفة الروح ، أو الحسن ، أو جعودة الشعر ، أو العقل ، أو العلم ، أو الصنعة ، أو العفة في الفقراء ، والحلاوة في الفم ، وهذه الأقوال على سبيل التمثيل لا الحصر . والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق ، وقد شرحوا هذه الزيادة بالأشياء المستحسنة ، وما يشاء عام لا يخص مستحسناً دون غيره . وختم الآية بالقدرة على كل شيء يدل على ذلك ، والفتح والإرسال استعارة للإطلاق ، ( فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ ( مكان لا فاتح له ، والمعنى : أي شيء يطلب الله .
( مِن رَّحْمَةِ ( : أي نعمة ورزق ، أو مطر ، أو صحة ، أو أمن ، أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها . وما روي عن المفسرين المتقدمين من تفسير رحمة بشيء معين فليس على الحصر منه ، إنما هو مثال . قال الزمخشري : وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنه قال : من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية ، فلا يقدر أحد على إمساكها وحبسها ، وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه . انتهى . والعموم مفهوم من اسم الشرط ومن رحمة لبيان ذلك العام من أي صنف هو ، وهو مما اجتزىء فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط ، وتقديره : من الرحمات ، ومن في موضع الحال ، أي كائناً من الرحمات ، ولا يكون في موضع الصفة ، لأن اسم الشرط لا يوصف . والظاهر أن قوله : ) وَمَا يُمْسِكْ ( عام في الرحمة وفي غيرها ، لأنه لم يذكر له تبيين ، فهو باق على العموم في كل ما يمسك . فإن كان تفسيره ) مِن رَّحْمَةِ ( ، وحذفت لدلالة الأول عليه ، فيكون تذكير الضمير في ) فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ( حملاً على لفظ ما ، وأنث في ) مُمْسِكَ لَهَا ( على معنى ما ، لأن معناها الرحمة . وقرىء : فلا مرسل لها ، بتأنيث الضمير ، وهو دليل على أن التفسير هو ) مِن رَّحْمَةِ ( ، وحذف لدلالة ما قبله عليه . وعن ابن عباس : ) مِن رَّحْمَةِ ( : من باب توبة ، ( فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا ( : أي يتوبون إن شاؤوا وإن أبوا ، ( وَمَا يُمْسِكْ ( : من باب ، ( فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ ( من بعده ، فهم لا يتوبون . وعنه أيضاً : ) مِن رَّحْمَةِ ( : من هداية . قال الزمخشري : فإن قلت : فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس ؟ قلت : أراد بالتوبة : الهداية لها والتوفيق فيها ، وهو الذي أراده ابن عباس ، إن قاله فمقبول ، وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب ، وإن لم يشأ لم يتب فمردود ، لأن الله تعالى يشاء التوبة أبداً ، ولا يجوز عليه أن لا يشاء بها . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . ) مِن بَعْدِهِ ( : هو على حذف مضاف ، أي من بعد إمساكه ، كقوله : ) فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ( ، أي من بعد إضلال الله إياه ، لأن قبله وأضله الله على علم ، كقوله : ) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ( ، وقدره الزمخشري من بعد هداية الله ، وهو تقدير فاسد لا يناسب الآية ، جرى فيه على طريقة الاعتزال . ) وَهُوَ الْعَزِيزُ ( الغالب القادر على الإرسال والإمساك ، ( الْحَكِيمُ ( الذي يرسل ويمسك ما اقتضته حكمته .
( يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ( : خطاب لقريش ، وهو متجه لكل مؤمن وكافر ، ولا سيما من عبد غير الله ، وذكرهم بنعمه في إيجادهم . و ) اذْكُرُواْ ( : ليس أمراً بذكر اللسان ، ولكن به وبالقلب وبحفظ النعمة من كفرانها وشكرها ، كقولك لمن أنعمت عليه : اذكر أياديّ عندك ، تريد حفظها وشكرها ، والجميع مغمورون في نعمة الله . فالخطاب عام اللفظ ، وإن كان نزل ذلك بسبب قريش ، ثم استفهم على جهة التقرير . ) هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ( : أي فلا إله إلا الخالق ، ما تعبدون أنتم من الأصنام . وقرأ ابن وثاب ، وشقيق ، وأبو جعفر ، وزيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي : غير بالخفض ، نعتاً على اللفظ ، ( وَمِنْ خَالِق ( : ( سقط : مبتدأ )

" صفحة رقم 287 "
( سقط : ويرزقكم ) جوزوا أن يكون خبراً للمبتدأ ، وإن يكون صفته ، وأن يكون مستأنفاً ، والخبر على هذين الوجهين محذوف تقديره لكم . وقرأ شيبة ، وعيسى ، والحسن ، وباقي السبعة : ) مّن مَّاء غَيْرِ ( بالرفع ، وجوزوا أن يكون نعتاً على الموضع ، كما كان الخبر نعتاً على اللفظ ، وهذا أظهر لتوافق القراءتين ؛ وأن يكون خبراً للمبتدأ ، وأن يكون فاعلاً باسم الفاعل الذي هو خالق ، لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام ، فحسن إعماله ، كقولك : أقائم زيد في أحد وجهيه ؟ وفي هذا نظر ، وهو أن اسم الفاعل ، أو ما جرى مجراه ، إذا اعتمد على أداة الاستفهام وأجرى مجرى الفعل ، فرفع ما بعده ، هل يجوز أن تدخل عليه من التي للاستغراق فتقول : هل من قائم الزيدون ؟ كما تقول : هل قائم الزيدون ؟ والظاهر أنه لا يجوز . ألا ترى أنه إذا جرى مجرى الفعل ، لا يكون فيه عموم خلافه إذا أدخلت عليه من ، ولا أحفظ مثله في لسان العرب ، وينبغي أن لا يقدم على إجازة مثل هذا إلا بسماع من كلام العرب ؟ وقرأ الفضل بن إبراهيم النحوي : غير بالنصب على الاستثناء ، والخبر إما يرزقكم وإما محذوف ، ويرزقكم مستأنف ؛ وإذا كان يرزقكم مستأنفاً ، كان أولى لانتفاء صدق خالق على غير الله ، بخلاف كونه صفة ، فإن الصفة تقيد ، فيكون ثم خالق غير الله ، لكنه ليس برازق . ومعنى ) مّنَ السَّمَاء ( : بالمطر ، ( والاْرْضِ ( : بالنبات ، ( لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( : جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب . ) فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ( : أي كيف يصرفون على التوحيد إلى الشرك ، وأن يكذبوك إلى الأمور ، تقدم الكلام على ذلك .
( إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ( : شامل لجميع ما وعد من ثواب وعقاب وغير ذلك . وقرأ الجمهور : ) الْغُرُورِ ( بفتح الغين ، وفسره ابن عباس بالشيطان . وقرأ أبو حيوة ، وأبو السمال : بضمها جمع غار ، أو مصدراً ، كقوله : ) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ( ، وتقدم الكلام على ذلك في آخر لقمان . ) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ( : عداوته سبقت لابنا آدم ، وأي عداوة أعظم من أن يقول في بنيه : ) لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ، ( وَلاَضِلَّنَّهُمْ ( ؟ ) فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ( : أي بالمقاطعة والمخالفة باتباع الشرع . ثم بين أن مقصوده في دعاء حزبه إنما هو تعذيبهم في النار ، يشترك هو وهم في العذاب ، فهو حريص على ذلك أشد الحرص حتى يبين صدق قوله في : ) فلاغوينهم ( ، ( مَّفْرُوضاً وَلاَضِلَّنَّهُمْ ( ، لأن الاشتراك فيما يسوء مما قد يتسلى به بخلاف المنفرد بالعذاب . ثم ذكر الفريقين ، وما أعدّ لهما من العقاب والثواب . وبدأ بالكفار لمجاورة قوله : ) إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ ( ، فاتبع خبر الكافر بحاله في الآخرة . قال ابن عطية : واللام في ليكون لام الصيرورة ، لأنه لم يدعهم إلى السعير ، إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك . انتهى . ونقول : هو مما عبر فيه عن السبب بما تسبب عنه دعاؤهم إلى الكفر ، وتسبب عنه العذاب . و ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، ( وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ). مبتدآن ، وجوز بعضهم في ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( أن يكون في موضع خفض بدلاً ) مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( ، أو صفة ، وفي موضع نصب بدلاً من حزبه ، وفي موضع رفع بدلاً من ضمير ) لّيَكُونُواْ ( ، وهذا كله بمعزل من فصاحة التقسيم وجزالة التركيب .
( أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً ( : أي فرأى سوء عمله حسناً ، ومن مبتدأ موصول ، وخبره محذوف . فالذي يقتضيه النظر أن يكون التقدير : كمن لم يزين له ، كقوله : ) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ ( ، ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ( ، ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( ، ثم قال : ) كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ( ، وقاله الكسائي ، أي تقديره : تذهب نفسك عليهم حسرات لدلالة : ) فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ ). وقيل : التقدير : فرآه حسناً ، فأضله الله كمن هداه الله ، فحذف ذلك لدلالة : ) فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء ( ، وذكر هذين الوجهين الزجاج . وشرح الزمخشري هنا ) يُضِلُّ مَن يَشَاء ( على طريقته في غير موضع من كتابه ، من أن الإضلال هو خذلانه وتخليته وشأنه ، وأتى بألفاظ كثيرة في هذا المعنى . وقرأ الجمهور : ) أَفَمَن زُيّنَ مُّبِيناً لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاْمُورُ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء ( تسلية للرسول عن كفر قومه ، ووجوب التسليم لله في

" صفحة رقم 288 "
إضلاله من يشاء وهداية من يشاء . وقرأ الجمهور : ) فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ ( ، مبنياً للفاعل من ذهب ، ونفسك فاعل . وقرأ أبو جعفر ، وقتادة ، وعيسى ، والأشهب ، وشيبة ، وأبو حيوة ، وحميد والأعمش ، وابن محيصن : تذهب من أذهب ، مسند الضمير المخاطب ، نفسك : نصب ، ورويت عن نافع : والحسرة هم النفس على فوات أمر . وانتصب ) حَسَراتٍ ( على أنه مفعول من أجله ، أي فلا تهلك نفسك للحسرات ، وعليهم متعلق بتذهب ، كما تقول : هلك عليه حباً ، ومات عليه حزناً ، أو هو بيان للمتحسر عليه ، ولا يتعلق بحسرات لأنه مصدر ، فلا يتقدّم معموله . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون حالاً ، كأنه كلها صارت حسرات لفرط التحسر ، كما قال جرير : مشق الهواجر لحمهن مع السرى
حتى ذهبن كلاكلاً وصدرواً
يريد : رجعن كلاكلاً وصدوراً ، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها ، ومنه قوله : فعلى إثرهم تساقط نفسي
حسرات وذكرهم لي سقام
انتهى . وما ذكر من أن كلاكلاً وصدوراً حالان هو مذهب سيبويه . وقال المبرد : هو تمييز منقول من الفاعل ، أي حتى ذهبت كلاكلها وصدورها . ثم توعدهم بالعقاب على سوء صنعهم فقال : ) إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( : أي فيجازيهم عليه .
( وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَدَّلَ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ وَاللَّهُ ).
لما ذكر أشياء من الأمور السماوية وإرسال الملائكة ، ذكر أشياء من الأمور الأرضية : الرياح وإسالها ، وفي هذا احتجاج على منكري البعث . دلهم على المثال الذي يعاينونه ، وهو وإحياء الموتى سيان . وفي الحديث : ( أنه قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : كيف يحيي الله الموتى ، وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال : هل مررت بوادي أهلك محلاً ، ثم مررت به يهتز خضراً ؟ فقالوا : نعم ، فقال : فكذلك يحيي الله الموتى ، وتلك آيته في خلقه ) .
قيل : ) أُرْسِلَ ( في معنى يرسل ، ولذلك عطف عليه ) فَتُثِيرُ ). وقيل : جيء بالمضارع حكاية حال يقع فيها إثارة الرياح السحاب ، ويستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية

" صفحة رقم 289 "
ومنه فتصبح الأرض مخضرة . قال الزمخشري : وكذا يفعلون بكل فعل فيه نوع تمييز خصوصية بحال يستغرب ، أو يتهم المخاطب ، أو غير ذلك ، كما قال تأبط شراً : بأني قد لقيت الغول تهوي
بشهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلاد هش فخرت
صريعاً لليدين وللجران
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي يشجع فيها ابن عمه على ضرب الغول ، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها ، مشاهدة للتعجب من جراءته على كل هول ، وثباته عند كل شدّة . وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت ، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها . لما كان من الدلائل على القدرة الباهرة وقيل : فسقنا وأحيينا ، معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه . انتهى . وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : أي أرسل بلفظ الماضي . لما أسند إلى الله وما يفعله تعالى بقوله : كن ، لا يبقى زماناً ولا جزء زمان ، فلم يأت بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه ، ولأنه فرغ من كل شيء ، فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة . ولما أسند الإثارة إلى الريح ، وهي تؤلف في زمان ، قال : ) فَتُثِيرُ ( ، وأسند ) أُرْسِلَ ( إلى الغائب ، وفي ) فَسُقْنَاهُ ( ، و ) فَأَحْيَيْنَا ( إلى المتكلم ، لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ، ثم لما عرف قال : أنا الذي عرفتني سقت السحاب فأحييت الأرض . ففي الأول تعريف بالفعل العجيب ، وفي الثاني تذكير بالبعث . وفسقناه وفأحيينا بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين فتثير وأرسل . انتهى . وهذا الذي ذكر من الفرق بين أرسل وفتثير لا يظهر . ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة الروم : ) اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً ( ، وفي الأعراف : ) وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ ( ، كيف جاء في الإرسال بالمضارع ؟ وإنما هذا من التفنن في الكلام والتصرف في البلاغة . وأما الخروج من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه فهو من باب الالتفات ، وكذلك ما في الأعراف ) سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا كُلِى مِن كُلّ الثَّمَراتِ ). وأما قوله : وما يفعله تعالى إلى آخره ، وكل فعل ، وإن كان أسند إلى غيره مجازاً ، فهو فعله حقيقة ، فلا فرق بين ما يسنده إلى ذاته ، وبين ما يسند إلى غيره ، لأن جميع ذلك هو إيجاده وخلقه . والنشور ، مصدر نشر : الميت إذا حيي ، قال الأعشى : حتى يقول الناس مما رأوا
يا عجباً للميت الناشر
والنشور : مبتدأ ، والجار والمجرور قبله في موضع الجر ، والتشبيه وقع لجهات لما قلبت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها ، كذلك الأعضاء تقبل الحياة . أو كما أن الريح يجمع قطع السحاب ، كذلك تجمع أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء ؛ أو كما يسوق الرياح والسحاب إلى البلد الميت ، يسوق الروح والحياة إلى البدن . ) مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ( : أي المغالبة ، ( فَاللَّهُ الْعِزَّةُ ( : أي ليست لغيره ، ولا تتم إلا به ، والمغالب مغلوب . ونحا إليه مجاهد و قال : ) مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ( بعبادة الأوثان ، وهذا تمثيل لقوله : ) وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً ). وقال قتادة : ) مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ( وطريقها القويم ويحب نيلها ، ( فَاللَّهُ الْعِزَّةُ ( : أي به وعن أمره ، لاتنال عزته إلا بطاعته . وقال الفراء : من كان يريد علم العزة ، ( فَاللَّهُ الْعِزَّةُ ( : أي هو المتصف بها . وقيل : ) مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ( : أي لا يعقبها ذلة ويصار بها للذلة . وقال الزمخشري : كان الكافرون يتعززون بالأصنام ، كما قال عز وجل : ) وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً ). والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين ، كما قال : ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنّ

" صفحة رقم 290 "
َ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً ( ، فبين أن لا عزة إلا لله ولأوليائه وقال : ) الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ). انتهى . ولا تنافي بين قوله : ) فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً ( ، وإن كان الظاهر أنها له لا لغيره ، وبين قوله ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( وإن كان يقتضى الاشتراك ، لأن العزة في الحقيقة لله بالذات ، وللرسول بواسطة قربه من الله ، وللمؤمنين بواسطة الرسول . فالمحكوم عليه أولاً غير المحكوم عليه ثانياً . ومن اسم شرط ، وجملة الجواب لا بد أن يكون فيها ضمير يعود على اسم الشرط إذا لم يكن ظرفاً ، والجواب محذوف تقديره على حسب تلك الأقوال السابقة . فعلى قول مجاهد : فهو مغلوب ، وعلى قول قتادة : فيطلبها من الله ، وعلى قول الفراء : فلينسب ذلك إلى الله ، وعلى القول الرابع : فهو لا ينالها ؛ وحذف الجواب استغناء عنه بقوله : ) فَاللَّهُ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ( ، لدلالته عليه . والظاهر من هذه الأقوال قول قتادة : فليطلبها من العزة له يتصرف فيها كما يريد ، كما قال تعالى : ) وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ( ، وانتصب جميعاً على المراد ، والمراد عزة الدنيا وعزة الآخرة .
و ) الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( : التوحيد والتحميد و ذكر الله ونحو ذلك . وقال ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله . وقيل : ثناء بالخير على صالحي المؤمنين . وقال كعب : إن لسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر لدوياً حول العرش كدوي النحل بذكر صاحبها . وقرأ الجمهور : ) يَصْعَدُ ( ، مبنياً للفاعل من صعد ؛ ) الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( : مرفوعاً ، فالكلم جمع كلمة . وقرأ علي ، وابن مسعود ، والسلمي ، وإبراهيم : يصعد من أصعد ، الكلام الطيب على البناء للمفعول . انتهى . وقرأ زيد بن علي يصعد من صعد الكلام : رقي ، وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه ، لأنه تعالى ليس في جهة ، و لأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود ، لأن الصعود من الاجرام يكون ، وإنما ذلك كناية عن القبول ، ووصفه بالكمال . كما يقال : علا كعبة وارتفاع شأنه ، ومنه ترافعوا إلى الحاكم ، ورفع الأمر إليه ، وليس هناك علو في الجهة .
وقرأ الجمهور : والعمل الصالح يرفعهما . فالعمل مبتدأ ، ويرفعه الخبر ، وفاعل يرفعه ضمير يعود على العمل الصالح ، وضمير النصب يعود على الكلم ، أي يرفع الكلم الطيب ، قاله ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد والضحاك . وقال الحسن : يعرض القول على الفعل ، فإن وافق القول الفعل قبل ، وإن خالف رد . وعن ابن عباس نحوه ، قال : إذ اذكر الله العبد وقال كلا ما طيباً وأدّى فرائضه ، ارتفع قوله مع عمله ؛ وإذا قال ولم يؤدّ فرائضه ، رد قوله على عمله ؛ وقيل : عمله أولى به . قال ابن عطية : وهذا قول يرده معتقد أهل السنة ، ولا يصح عن ابن عباس . والحق أن القاضي لفرائضه إذ ذكر الله وقال كلاماً طيباً ، فإنه مكتوب له متقبل ، وله حسناته وعليه سيئآته ، والله يتقبل من كل من اتقى الشرك . وقال أبو صالح ، وشهر بن حوشب عكس هذا القول : ضمير الفاعل يعود على الكلم ، وضمير النصب على العمل الصالح ، أي يرفعه الكلم الطيب . وقال قتادة : إن الفاعل هو ضمير يعود على الله ، والهاء للعمل الصالح ، أي يرفعه الله إليه ، أي يقبله . وقال ابن عطية : هذا أرجح الأقوال . وعن ابن عباس : والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه ، فجعله على حذف مضاف . ويجوز عندي أن يكون العمل معطوفاً على الكلم الطيب ، أي يصعدان إلى الله ، ويرفعه استئناف إخبار ، أي يرفعهما الله ، ووحد الضمير لاشتراكهما في الصعود ، والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة ، فيكون لفظه مفرداً ، و المراد به التثنية ، فكأنه قيل : ليس صعودهما من ذاتهما ، بل ذلك برفع الله إياهما . وقرأ عيس ، وابن أبي عبلة : والعمل الصالح ، بنصبهما على الاشتغال ، فالفاعل ضمير الكلم أو ضمير الله ، ومكر لازم ، والسيئات نعت لمصدر محذوف ، أي المكرات السيئات ، أو المضاف إلى المصدر ، أي أضاف المكر إلى السيئات ، أو ضمن يمكرون معنى ، يكتسبون ، فنصب السيئات مفعولاً به . وإذا كانت السيئات نعتاً لمصدر ، أو لمضاف لمصدر ، فالظاهر أنه عنى به مكرات قريش في دار الندوة ، إذ تذاكروا إحدى ثلاث مكرات ، وهي المذكورة في الأنفال : إثباته ، أو قتله ، أو إخراجه ؛ و ) أُوْلَائِكَ ( إشارة إلى الذين مكروا تلك المكرات . ) يَبُورُ ( : أي يفسد و يهلك دون مكر الله بهم ، إذ أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر ، فجمع عليهم مكراتهم جميعاً وحقق فيهم قوله : ) وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ، وقوله : ) وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( ، وهو مبتدأ ، أو يبور خبره ، والجملة خبر عن قوله : ) وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ ). وأجاز الحوفي وأبو البقاء

" صفحة رقم 291 "
أن يكون هو فاصلة ، ويبور خبر ، ومكر أولئك والفاصلة لا يكون ما يكون ما بعدها فعلاً ، ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له ، فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلاً وردّ ذلك عليه .
( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ( : من حيث خلق أبينا آدم . ) ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ( : أي بالتناسل . ) ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ( : أي أصنافاً ذكراناً واناثاً ، كما قال : ) أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ). وقال قتادة : قدّر بينكم الزوجية ، وزوّج بعضكم بعضاً ، ومن في ) مِن مُّعَمَّرٍ ( زائدة ، وسماه بما يؤول إليه ، وهو الطويل العمر . والظاهر أن الضمير في ) مِنْ عُمُرِهِ ( عائد على معمر لفظاً ومعنى . وقال ابن عباس وغيره : يعود على معمر الذي هو اسم جنس ، والمراد غير الذي يعمر ، فالقول تضمن شخصين : يعمر أحدهما مائة سنة ، وينقص من الآخر . وقال ابن عباس أيضاً ، وابن جبير ، وأبو مالك : المراد شخص واحد ، أي يحصي ما مضى منه إذ مر حول كتب ذلك ثم حول ، فهذا هو النقص ، وقال الشاعر : حياتك أنفاس تعدّ فكلما
مضى نفس منك انتقصت به جزءا
وقال كعب الاحبار : معنى ) وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ( : لا يخترم بسببه قدره الله ، ولو شاء لأخر ذلك السبب . وروي أنه قال ، لما طعن عمر رضي الله عنه : لو دعا الله لزاد في أجله ، فأنكر المسامون عليه ذلك وقالوا : إن الله تعالى يقول : ) فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( ، فاحتج بهذه الآية . قال ابن عطية : وهو قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين ، وبنحوه تمسك المعتزلة . وقرأ الجمهور : ولا ينقص ، مبنياً للمفعول . وقرأ يعقوب ، وسلام ، وعبد الوارث ، وهرون ، كلاهما عن أبي عمرو : و لا ينقص ، مبنياً للفاعل . وقرأ الحسن : ) مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ ). قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ . وقال الزمخشري : يجوز أن يراد كتاب الله علم الله ، أو صحيفة الإنسان . انتهى .
( وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ ( : هذه آية أخرى يستدل بها على كل عاقل أنه مما لا مدخل لصنم فيه . وتقدم شرح : ) هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ( ، وشرح : ) وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ( في سورة الفرقان . وهنا بين القسمين صفة للعرب ، وبين قوله : ) سَائِغٌ شَرَابُهُ ). وقرأ الجمهور : سائغ ، اسم فاعل من ساغ . وقرأ عيسى : سيغ على وزن فيعل ، كميت ؛ وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم . وقرأ عيسى أيضاً : سيغ مخففاً من المشدد ، كميت مخفف ميت . وقرأ الجمهور : ملح ، وأبو نهيك وطلحة : بفتح الميم وكسر اللام ، وقال أبو الفضل الرازي : وهي لغة شاذة ، ويجوز أن يكون مقصوراً من مالح ، فحذف الألف تخفيفاً . وقد يقال : ماء ملح في الشذوذ ، وفي المستعمل : مملوح . وقال الزمخشري : ضرب البحرين ، العذب والملح ، مثلين للمؤمن والكافر . ثم قال على صفة الاستطراد في صفة البحرين وما علق بها : من نعمته وعطائه . ) وَمِن كُلّ ( ، من شرح الزمخشري : ألفاظاً من الآية تكررت في سورة النحل . ثم قال : ويحتمل غير طريقة الاستطراد ، وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين ، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر ، بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ ، وجرى الفلك فيه . وللكافر خلو من النفع ، فهو في طريقة قوله تعالى : ) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذالِكَ ( الآية . انتهى . ) لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( : يريد التجارات والحج والغزو ، أو كل سفر له وجه شرعي .
( يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ ( : تقدم شرح هذه الجمل . ولما ذكر أشياء كثيرة تدل على قدرته الباهرة ، من إرسال الرياح ، والإيجاد من تراب وما عطف عليه ، وإيلاج الليل في النهار ، وتسخير الشمس والقمر ؛ أشار إلى أن المتصف بهذه الأفعال الغريبة هو الله فقال : ) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ( ، وهي أخبار مترادفة ؛ والمبتدأ ) ذالِكُمْ ( ، و ) اللَّهُ رَبُّكُمُ ( خبران ، و ) لَهُ الْمُلْكُ ( جملة مبتدأ في قران قوله : ) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ). قال الزمخشري : ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة

" صفحة رقم 292 "
وعطف بيان ، وربكم خبر ، لولا أن المعنى يأباه . انتهى . أما كونه صفة ، فلا يجوز ، لأن الله علم ، والعلم لا يوصف به ، وليس اسم جنس كالرجل ، فتتخيل فيه الصفة . وأما قوله : لولا أن المعنى يأباه ، فلا يظهر أن المعنى يأباه ، لأنه يكون قد أخبر بأن المشار إليه بتلك الصفات والأفعال المذكورة ربكم ، أي مالكم ، أو مصلحكم ، وهذا معنى لائق سائغ ، والذين يدعون من دونه هي الأوثان . وقرأ الجمهور : تدعون ، بتاء الخطاب ، وعيسى ، وسلام ، ويعقوب : بياء الغيبة . وقال صاحب الكامل أبو القاسم بن جبارة : يدعون بالياء ، اللؤلؤي عن أبي عمرو وسلام ، والنهاوندي عن قتيبة ، وابن الجلاء عن نصير ، وابن حبيب وابن يونس عن الكسائي ، وأبو عمارة عن حفص . والقطمير ، تقدم شرحه . وقال جويبر عن رجاله ، والضحاك : هو القمع الذي في رأس التمرة . وقال مجاهد : لفافة النواة ؛ وقيل : الذي بين قمع التمرة والنواة ؛ وقيل : قشر الثوم ؛ وأياماً كان ، فهو تمثيل للقليل ، وقال الشاعر : وأبوك يخفف نعله متوركا
ما يملك المسكين من قطمير
) لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ ( ، لأنهم جماد ؛ ) وَلَوْ سَمِعُواْ ( ، هذا على سبيل الفرض ؛ ) مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ ( ، لأنهم لا يدعون لهم من الإلهية ، يتبرؤون منها . وقيل : ما نفعوكم ، وأضاف المصدر : في شرككم ، أي بإشراككم لهم مع الله في عبادتكم إياهم كقوله : ) مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ( ، فهي إضافة إلى الفاعل . وقوله : ) يَكْفُرُونَ ( ، يحتمل أن يكون بما يظهر هنالك من جمودها وبطئها عند حركة ناطق ، ومدافعة كل محتج ، فيجيء هذا على طريق التجوز ، كقول ذي الرمة : وقفت على ربع لمية ناطق
تخاطبني آثاره وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه
تكلمني أحجاره وملاعبه
) وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ( ، قال قتادة وغيره من المفسرين : الخبير هنا أراد به تعالى نفسه ، فهو الخبير الصادق الخبر ، نبأ بهذا ، فلا شك في وقوعه . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله : ) وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ( من تمام ذكر الأصنام ، كأنه قال : فلا يخبرك مثل من يخبرك عن نفسه ، أي لا يصدق في تبرئها من شرككم منها ، فيريد بالخبير على هذا المثل لهما ، كأنه قال : ولا ينبئك مثل خبير عن نفسه ، وهي قد أخبرت عن نفسها بالكفر بهؤلاء . وقال الزمخشري : لا يخبرك بالأمر مخبر ، هو مثل خبير عالم به ، يريد أن الخبير بالأمر هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به . والمعنى : أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق ، لأني خبير بما أخبر به . وقال في التجريد : يحتمل وجهين : أن يكون ذلك خطاباً للرسول لما أخبر بأن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده ، وهو أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار الله عنه ، قال تعالى : ) أَنَّهُمْ بِرَبّهِمْ يَكْفُرُونَ ( ، أي يكفرون بهم يوم القيامة ، وهذا القول مع كون المخبر عنه أمراً عجيباً هو كما قال ، لأن المخبر عنه خبير . والثاني : أن يكون خطاباً ليس مختصاً بأحد ، أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر ، لا ينبئك أيها السامع كائناً من كنت مثل خبير .
( ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا ( سقط : الآية كاملة ) ) ).

" صفحة رقم 293 "
( سقط : الآية كاملة )
هذه آية موعظة وتذكير ، وأن جميع الناس محتاجون إلى إحسان الله تعالى وإنعامه في جميع أحوالهم ، لا يستغنى أحد عنه طرفة عين ، وهو الغني عن العالم على الإطلاق . وعرّف الفقراء ليريهم شديد افتقارهم إليه ، إذ هم جنس الفقراء ، وإن كان العالم بأسره مفتقر إليه ، فلضعفهم جعلوا كأنهم جميع هذا الجنس ؛ ولو نكر لكان المعنى : أنتم ، يعني الفقراء ، وقوبل الفقراء بالغني ، ووصف بالحميد دلالة على أنه جواد منعم ، فهو محمود على ما يسديه من النعم ، مستحق للحمد . ولما ذكر أنه الغني على الإطلاق ، ذكر ما يدل على استفنائه عن العالم ، وأنه ليس بمحتاج إليهم فقال : ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ( : أي إن يشأ إذهابكم يذهبكم ، وفي هذا وعيد بإهلاكهم . ) وَمَا ذالِكَ ( : أي إذهابكم ، والإتيان بخلق جديد ) بِعَزِيزٍ ( ، أي بممتنع عليه ، إذ هو المتصف بالقدرة التامة ، فلا يمتنع عليه شيء مما يريده . ومعنى : ) بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( : بدلكم لقوله : ) وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ). وعن ابن عباس : يخلق بعدكم من يعبده ، لا يشرك به شيئاً . وقد جاء هذا المعنى من ذكر الإذهاب بعد وصفه تعالى بالغني في قوله تعالى : ) وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء ). وجاء أيضاً تعليق الإذهاب مختوماً آخر الآية بذكر القدرة الدالة على ذلك في قوله : ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً ).
روي أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين : اكفروا بمحمد وعليّ وزركم ، فنزلت . وأخبر تعالى ، لا يحمله أحد عن أحد . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : هذه الآية في الذنوب والجرائم . ويقال : وزر الشيء : حمله ، ووازرة : صفة لمحذوف ، أي نفس وازرة : حاملة ، وذكر الصفة ولم يذكر الموصوف مقتصراً عليه ، لأن المعنى : أن كل نفس لا ترى إلا حامله وزرها ، لا وزر غيرها ، فلا يؤاخذ نفساً بذنب نفس ، كما يأخذ جبابرة الدنيا الجاربالجار ، والصديق بالصدق ، والقريب بالقريب . وقال ابن عطية : ومن تطرف من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمته ، كفعل زياد ونحوه ، فإنما ذلك ظلم ، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بموازرة ومواصلة ، أو اطلاع على حاله وتقرير لها ، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب . انتهى . وكأن ابن عطية تأول أفعال زياد وما فعل في الإسلام ، وكانت سيرته قريبة من سيرة الحجاج ، ولا منافاة بين هذه الآية في العنكبوت ، لأن تلك في الضالين المضلين يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم ، فكل ذلك أثقالهم ، ما فيها من ثقل غيرهم شيء . ألا ترى : ) وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مّن شَىْء ( ؟
) وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ( : أي نفس مثقلة بحملها ، ( إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء ( : أي لا غياث يومئذ لمن استغاث ، ولا إعانة حتى أن نفساً قد أثقلتها الأوزار لو دعت إلى أن يخفف بعض وزرها لم تجب وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ فالآية قبلها في الدلالة على عدل الله في حكمه وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها وهذه في نفي الإعانة والحمل ما كان على الظهر في الأجرام فاستعير للمعاني كالذنوب ونحوها فيجعل كل محمول متصلاً بالظهر كقوله : ) وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ( ، كما جعل كل اكتساب منسوباً إلى اليد . وقرأ الجمهور : يحمل بالياء ، مبنياً للمفعول ؛ وأبو السمال عن طلحة ، وإبراهيم بن زادان عن الكسائي : بفتح التاء من فوق وكسر الميم ، وتقتضي هذه القراءة نصب شيء ، كما اقتضت قراءة الجمهور رفعه ، والفاعل بيحمل ضمير عائد على مفعول تدع المحذوف ، أي وإن تدع مثقلة نفساً أخرى إلى حملها ، لم تحمل منه شيئاً . واسم كان ضمير يعود على المدعو المفهوم من قوله : ) وَإِن تَدْعُ ( ، هذا معنى قول الزمخشري ، قال : وترك المدعو ليعم ويشمل كل مدعو . قال : فإن قلت : فكيف استفهام إضمار ، ولا يصح أن يكون العام ذا قربى للمثقل ؟ قلت : هو من العموم الكائن على طريق البدل . انتهى . وقال

" صفحة رقم 294 "
ابن عطية : واسم كان مضمر تقديره ولو كان . انتهى ، أي ولو كان الداعي ذا قربى من المدعو ، فإن المدعو لا يحمل منه شيئاً . وذكر الضمير حملاً على المعنى ، لأن قوله : ) مُثْقَلَةٌ ( ، لا يريد به مؤنث المعنى فقط ، بل كل شخص ، فكأنه قيل : وإن تدع شخصاً مثقلاً . وقرىء : ولو كان ذو قربى ، على أن كان تامة ، أي ولو حضر إذا ذاك ذو قربى ودعته ، لم يحمل منه شيئاً . وقالت العرب : قد كان لبن ، أي حضر وحدث . وقال الزمخشري : نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة ، لأن المعنى : على أن المثقلة إذا دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه ، وإن كان مدعوها ذا قربى ، وهو معنى صحيح ملتئم . ولو قلت : ولو وجد ذو قربى ، لتفكك وخرج عن اتساقه والتئامه . انتهى . وهو نسق ملتئم على التقدير الذي ذكرناه ، وتفسيره كان ، وهو مبني للفاعل ، يؤخذ المبني للمفعول تفسير معنى ، وليس مرادفاً ومرادفه ، حدث أو حضر أو وقع ، هكذا فسره النحاة .
ولما سبق ما تضمن الوعيد وبعض أهوال القيامة ، كان ذلك إنذاراً ، فذكر أن الإنذار إنما يجدي وينفع من يخشى الله . ) بِالْغَيْبِ ( : حال من الفاعل أو المفعول ، أي يخشون ربهم غافلين عن عذابه ، أو يخشون عذابه غائباً عنهم . وقيل : بالغيب في السر ، وقيل : بالغيب ، أي وهو بحال غيبه عنهم إنما هي رسالة . وقرأ الجمهور : ) وَمَن تَزَكَّى ( ، فعلاً ماضياً ، ( فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى ( : فعلاً ، مضارع تزكى ، أي ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي ، فإنما ثمرة ذلك عائدة عليه ، وهو إنما زكاته لنفسه لا لغيره ، والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة . وقرأ العباس عن أبي عمرو : ومن يزكى فإنما يزكى ، بالياء من تحت وشدّ الزاي فيهما ، وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى ، أدغمت التاء في الزاي ، كما أدغمت في الذال في قوله : ) يَذَّكَّرُونَ ). وقرأ ابن مسعود ، وطلحة : ومن ازكى ، بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في الابتداء ؛ وطلحة أيضاً : فإنما يزكى ، بإدغام التاء في الزاي . ) وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( : وعد لمن يزكى بالثواب .
( وَمَا يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ ( الآية : هي طعن على الكفرة وتمثيل . فالأعمى الكافر ، والبصير المؤمن ، أو الأعمى الصنم ، والبصير الله عز وجل وعلا ، أي لا يستوي معبودهم ومعبود المؤمنين . والظلمات والنور ، والظل والحرور : تمثيل للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب . والأحياء والأموات ، تمثيل لمن دخل في الإسلام ومن لم يدخل فيه . والحرور : شدّة حر الشمس . وقال الزمخشري : والحرور : السموم ، إلا أن السموم تكون بالنهار ، والحرور بالليل والنهار ؛ وقيل : بالليل . انتهى . وقال ابن عطية : قال رؤبة : الحرور بالليل ، والسموم بالنهار ، وليس كما قال ، وإنما الأمر كما حكى الفراء وغيره : أن السموم يختص بالنهار . ويقال : الحرور في حر الليل ، وفي حر النهار . انتهى . ولا يرد على رؤبة ، لأنه منه تؤخذ اللغة ، فأخبر عن لغة قومه . وقال قوم : الظل هنا : الجنة ، والحرور : جهنم ، ويستوي من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد . فدخول لا في النفي لتأكيد معناه لقوله : ) وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيّئَةُ ). وقال ابن عطية : دخول لا إنما هو على هيئة التكرار ، كأنه قال : ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات ، فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ، ودل مذكور الكلام على متروكه . انتهى . وما ذكر غير محتاج إلى تقديره ، لأنه إذا نفى استواء الظلمات والنور ، فأي فائدة في تقدير نفي استوائهما ثانياً وادعاء محذوفين ؟ وأنت تقول : ما قام زيد ولا عمرو ، فتؤكد بلا معنى النفي ، فكذلك هذا . وقرأ زادان عن الكسائي : وما تستوي الأحياء ، بتاء التأنيث ؛ والجمهور : بالياء ، وترتيب هذه المنفي عنها الاستواء في غاية الفصاحة . وذكر الأعمى والبصير مثلاً للمؤمن والكافر ، ثم البصير . ولو كان حديد النظر لا يبصر إلا في ضوء ، فذكر ما هو فيه الكافر من ظلمة الكفر ، وما هو فيه المؤمن من نور الإيمان . ثم ذكر مآلهما ، وهو الظل ، وهو أن المؤمن بإيمانه في ظل وراحة ، والكافر بكفره في حر وتعب .
ثم ذكر مثلاً آخر في حق المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير ، إذ الأعمى قد يشارك البصير في إدراك مّا ، والكافر غير مدرك إدراكاً نافعاً ، فهو كالميت ، ولذلك أعاد الفعل فقال : ) وَمَا يَسْتَوِى الاْحْيَاء وَلاَ الاْمْوَاتُ ( ، كأنه جعل مقام سؤال ، وكرر لا فيما ذكر لتأكيد المنافاة .

" صفحة رقم 295 "
فالظلمات تنافي النور وتضاده ، والظل والحرور كذلك ، والأعمى والبصير ليس كذلك ، لأن الشخص الواحد قد يكون بصيراً . ثم يعرض له العمى ، فلا منافاة إلا من حيث الوصف . والمنافاة بين الظل والحرور دائمة ، لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد ؛ فلما كانت المنافاة أتم ، أكد بالتكرار . وأما الأحياء والأموات من حيث أن الجسم الواحد يكون محلاً للحياة ، فيصير محلاً للموت . فالمنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ، لأن هذين قد يشتركان في إدراك مّا ، ولا كذلك الحي . والميت يخالف الحي في الحقيقة ، لا في الوصف ، على ما بين في الحكمة الإلهية . وقدّم الأشرف في مثلين ، وهو الظل والحر ؛ وآخر في مثلين ، وهما البصير والنور ، ولا يقال لأجل السجع ، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ ، بل فيه . وفي المعنى : والشاعر قد يقدّم ويؤخر لأجل السجع والقرآن . المعنى صحيح ، واللفظ فصيح ، وكانوا قبل المبعث في ضلالة ، فكانوا كالعمي ، وطريقهم الظلمة . فلما جاء الرسول ، واهتدى به قوم ، صاروا بصيرين ، وطريقهم النور ، وقدّم ما كان متقدّماً من المتصف بالكفر ، وطريقته على ما كان متأخراً من المتصف بالإيمان وطريقته . ثم لما ذكر المآل والمرجع ، قدّم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب ، كما جاء : سبقت رحمتي غضبي ، فقدّم الظل على الحرور .
ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى ، وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال : ) وَمَا يَسْتَوِى الاْحْيَاء ( : الذين آمنوا بما أنزل الله ، ( وَلاَ الاْمْوَاتُ ( : الذين تليت عليهم الآيات البينات ، ولم ينتفعوا بها . وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن ، فأخرهم لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافر . وأفرد الأعمى والبصير ، لأنه قابل الجنس بالجنس ، إذ قد يوجد في أفراد العميان ما يساوي به بعض أفراد البصراء ، كأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البصير البليد . فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به ، لا بين الأفراد . وجمعت الظلمات ، لأن طرق الكفر متعدّدة ؛ وأفرد النور ، لأن التوحيد والحق واحد ، والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد فقال : الظلمات لا تجد فيها ما يساوي هذا النور . وأما الأحياء والأموات ، فالتفاوت بينهما أكثر ، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حياً ، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات ، سواء قابلت الجنس بالجنس ، أم قابلت الفرد بالفرد . انتهى . من كلام أبي عبد الله الرازي ، وفيه بعض تلخيص .
ثم سلى رسوله بقوله : ) إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء ( : أي إسماع هؤلاء منوط بمشيئتنا ، وكنى بالإسماع عن الذي تكون عنه الإجابة للإيمان . ولما ذكر أنه ) مَا يَسْتَوِى الاْحْيَاء وَلاَ الاْمْوَاتُ ( ، قال : ) وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ ( : أي هؤلاء ، من عدم إصغائهم إلى سمع الحق ، بمنزلة من هم قد ماتوا فأقاموا في قبورهم . فكما أن من مات لا يمكن أن يقبل منك قول الحق ، فكذلك هؤلاء ، لأنهم أموات القلوب . وقرأ الأشهب ، والحسن بمسمع من ، على الإضافة ؛ والجمهور : بالتنوين . ) إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ( : أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر . فإن كان المنذر ممن أراد الله هدايته سمع واهتدى ، وإن كان ممن أراد الله ضلاله فما عليك ، لأنه تعالى هو الذي يهدي ويضل . و ) بِالْحَقّ ( : حال من الفاعل ، أي محق . أو من المفعول ، أي محقاً ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي إرسالاً بالحق ، أي مصحوباً . قال الزمخشري : أو صلة بشير ونذير ، فنذير على بشير بالوعد الحق ؛ ونذير بالوعيد . انتهى . ولا يمكن أن يتعلق بالحق هذا بشير ونذير معاً ، بل ينبغي أن يتأول كلامه على أنه أراد أن ثم محذوفاً ، والتقدير : بالوعد الحق بشيراً ، وبالوعيد الحق نذيراً ، فحذف المقابل لدلالة مقابله عليه .
( وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ مّن نَّذِيرٍ ( ، الأمة : الجماعة الكثيرة ، والمعنى : أن الدعاء إلى الله لم ينقطع عن كل أمة . أما بمباشرة من أنبيائهم وما ينقل إلى وقت بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والآيات التي تدل على أن قريشاً ما جاءهم نذير معناه لم يباشرهم ولا آباؤهم القريبين ، وأما أن النذارة انقطعت فلا . ولما شرعت آثار النذراة تندرس ، بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وما ذكره أهل علم الكلام من حال أهل الفترات ، فإن ذلك على حسب العرض لأنه واقع ، ولا توجد أمة على وجه الأرض إلا وقد علمت الدعوة إلى الله وعبارته . واكتفى بذكر نذير عن بشير ، لأنها مشفوعة بها في قوله : ) بَشِيراً وَنَذِيراً ( ، فدل ذلك على أنه مراد ، وحذف للدلالة عليه . ) وَإِن يُكَذّبُوكَ ( : مسلاة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتقدّم الكلام على نظير هذه الجمل في أواخر آل عمران . قوله : ) فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( ، توعد لقريش بما جرى لمكذبي رسلهم

" صفحة رقم 296 "
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِف ( سقط : الآية كاملة ) ٌ ).
لما قرر تعالى وحدانيته بأدلة قربها وأمثال ضربها ، أتبعها بأدلة سماوية وأرضية فقال : ) أَلَمْ تَرَ ( ، وهذا الاستفهام تقريري ، ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جداً . والخطاب للسامع ، وتر من رؤية القلب ، لأن إسناد إنزاله تعالى لا يستدل عليه إلا بالعقل الموافق للنقل ، وإن كان إنزال المطر مشاهداً بالعين ، لكن رؤية القلب قد تكون مسندة لرؤية البصر ولغيرها . وخرج من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله : ) فَأَخْرَجْنَا ( ، لما في ذلك من الفخامة ، إذ هو مسند للمعظم المتكلم . ولأن نعمة الإخراج أتم من نعمة الإنزال لفائدة الإخراج ، فأسند الأتم إلى ذاته بضمير المتكلم ، وما دونه بضمير الغائب . والظاهر أن الألوان ، إن أريد بها ما يتبادر إليه الذهن من الحمرة والصفرة والخضرة والسواد وغير ذلك ، والألوان بهذا المعنى أوسع وأكثر من الألوان بمعنى الأصباغ . وقرأ الجمهور : ) مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا ( ، على حد اختلف ألوانها . وقرأ زيد بن علي : مختلفة ألوانها ، على حد اختلفت ألوانها ، وجمع التكسير يجوز فيه أن تلحق التاء ، وأن لا تلحق . وقرأ الجمهور : ) جُدَدٌ ( ، بضم الجيم وفتح الدال ، جمع جدة . قال ابن بحر : قطع من قولك : جددت الشيء : قطعته . وقرأ الزهري : كقراءة الجمهور . قال صاحب اللوامح : جمع جدة ، وهي ما تخالف من الطريق في الجبال لون ما يليها . وعنه أيضاً ، بضم الجيم والدال : جمع جديدة وجدد وجدائد ، كما يقال في الاسم : سفينة وسفن وسفائن . قال أبو ذؤيب :
جون السراة أم جدائد أربع
وعنه أيضاً : بفتح الجيم والدال ، ولم يجزه أبو حاتم في المعنى ، ولا صححه أثراً . وقال غيره : هو الطريق الواضح المبين ، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض . وقال أبو عبيدة : يقال جدد في جمع جديد ، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية . وقال صاحب اللوامح : جدد جمع جديد بمعنى : آثار جديدة واضحة الألوان . انتهى . وقال : مختلف ألوانها ، لأن البياض والحمرة تتفاوت بالشدة والضعف ، فأبيض لا يشبه أبيض ، وأحمر لا يشبه أحمر ، وإن اشتركا في القدر المشترك ، لكنه مشكل . والظاهر عطف ) وَغَرَابِيبُ ( على ) حُمُرٌ ( ، عطف ذي لون على ذي لون . وقال الزمخشري : معطوف على ) بَيْضٌ ( أو على ) جُدَدٌ ( ، كأنه قيل : ومن الجبال مخطط ذو جدد ، ومنها ما هو على لون واحد . وقال بعد ذلك : ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله : ) وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ ( ، بمعنى : ذو جدد بيض وحمر وسود ، حتى تؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه ، كما قال : ) ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا ). ) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابّ وَالاْنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا ( يعني : ومنهم بعض مختلف ألوانه . وقرأ ابن السميفع : ألوانها . انتهى .
والظاهر أنه لما ذكر الغرابيب ، وهو الشديد السواد ، لم يذكر فيه مختلف ألوانه ، لأنه من حيث جعله شديد السواد ، وهو المبالغ في غاية السواد ، لم يكن له ألوان ، بل هذا لون واحد ، بخلاف البيض والحمر ، فإنها مختلفة . والظاهر أن قوله : ) بِيضٌ وَحُمْرٌ ( ليسا مجموعين بجدة واحدة ، بل المعنى : جدد بيض ، وجدد حمر ، وجدد

" صفحة رقم 297 "
غرابيب . ويقال : أسود حلكوك ، وأسود غربيب ، ومن حق الواضح الغاية في ذلك اللون أن يكون تابعاً . فقال ابن عطية : قدم الوصف الأبلغ ، وكان حقه أن يتأخر ، وكذلك هو في المعنى ، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيراً على هذا . وقال الزمخشري : الغربيب تأكيد للاسود ، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد ، كقولك : أصفر فاقع ، وأبيض يقق ، وما أشبه ذلك ؛ ووجهه أن يظهر المؤكد قبله ، فيكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر ، كقول النابغة :
والمؤمن العائذات الطير
وإنما يفعل لزيادة التوكيد ، حيث يدل على المعنى الواحد من طريق الإظهار والإضمار جميعاً . انتهى . وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجيز حذف المؤكد . ومن النحاة من منع ذلك ، وهو اختيار ابن مالك . وقيل : هو على التقديم والتأخير ، أي سود غرابيب . وقيل : سود بدل من غرابيب ، وهذا أحسن ، ويحسنه كون غرابيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيداً ، ومنه ما جاء في الحديث : ( أن الله يبغض الشيخ الغربيب ) ، يعني الذي يخضب بالسواد ، وقال الشاعر : العين طامحة واليد سابحة
والرجل لائحة والوجه غربيب
وقال آخر : ومن تعاجيب خلق الله غالية
البعض منها ملاحيّ وغربيب
وقرأ الجمهور : ) وَالدَّوَابّ ( ، مشدد الباء ؛ والزهري : بتخفيفها ، كراهية التضعيف ، إذ فيه التقاء الساكنين . كما همز بعضهم ) وَلاَ الضَّالّينَ ( ، فراراً من التقاء الساكنين ، فحذف هنا آخر المضعفين وحرك أول الساكنين . ومختلفة ، صفة لمحذوف ، أي خلق مختلف ألوانه كذلك ، أي كاختلاف الثمرات والجبال ؛ فهذا التشبيه من تمام الكلام قبله ، والوقف عليه حسن . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب ، كأنه قال : كما جاءت القدرة في هذا كله .
( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( : أي المخلصون لهذه العبر ، الناظرون فيها . انتهى . وهذا الاحتمال لا يصح ، لأن ما بعد إنما لا يمكن أن يتعلق بهذا المجرور قبلها ، ولو خرج مخرج السبب ، لكان التركيب : كذلك يخشى الله من عباده ، أي لذلك الاعتبار ، والنظر في مخلوقات الله واختلاف ألوانها يخشى . ولكن التركيب جاء بإنما ، وهي تقطع هذا المجرور عما بعدها ، والعلماء هم الذين علموه بصفاته وتوحيده وما يجوز عليه وما يجب له وما يستحيل عليه ، فعظموه وقدروه

" صفحة رقم 298 "
0 حق قدره ، وخشوه حق خشيته ، ومن ازداد به علماً ازداد منه خوفاً ، ومن كان علمه به أقل كان آمن ، وقد وردت أحاديث وآثار في الخشية . وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق ، وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه . ومن ادعى أن إنما للحصر قال : المعنى ما يخشى الله إلا العلماء ، فغيرهم لا يخشاه ، وهو قول الزمخشري . وقال ابن عطية : وإنما في هذه الآية تخصيص العلماء لا الحصر ، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضاً دونه ، وإنما ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه . انتهى .
وجاءت هذه الجملة بعد قوله : ) أَلَمْ تَرَ ( ، إذ ظاهره خطاب للرسول ، حيث عدد آياته وأعلام قدرته وآثار صنعته ، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس ، وما يستدل به عليه وعلى صفاته ، فكأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته . وقرأ الجمهور : بنصب الجلالة ورفع العلماء . وروي عن عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة عكس ذلك ، وتؤولت هذه القراءة على أن الخشية استعارة للتعظيم ، لأن من خشي وهابه أجل وعظم من خشيه وهاب ، ولعل ذلك لا يصح عنهما . وقد رأينا كتباً في الشواذ ، ولم يذكروا هذه القراءة ، وإنما ذكرها الزمخشري ، وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن جبارة في كتابه الكامل . ) إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ( : تعليل للخشية ، إذ العزة تدل على عقوبة العصاة وقهرهم ، والمغفرة على إنابة الطائعين والعفو عنهم .
( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ ( : ظاهره يقرأون ، ( كِتَابِ اللَّهِ ( : أي يداومون تلاوته . وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير : هذه آية القراء ، ويتبعون كتاب الله ، فيعملون بما فيه ؛ وعن الكلبي : يأخذون بما فيه . وقال السدي : هم أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ورضي عنهم وقال : ( عطاءهم المؤمنون ) . ولما ذكر تعالى وصفهم بالخشية ، وهي عمل القلب ، ذكر أنهم يتلون كتاب الله ، وهو عمل اللسان . ) وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ ( : وهو عمل الجوارح ، وينفقون : وهو العمل المالي . وإقامة الصلاة والإنفاق : يقصدون بذلك وجه الله ، لا للرياء والسمعة . ) تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ( : لن تكسد ، ولا يتعذر الربح فيها ، بل ينفق عند الله . ) لِيُوَفّيَهُمْ ( : متعلق بيرجون ، أو بلن تبور ، أو بمضمر تقديره : فعلوا ذلك ، أقوال . وقال الزمخشري : وإن شئت فقلت : يرجون في موضع الحال على وأنفقوا راجين ليوفيهم ، أي فعلو جميع ذلك لهذا الغرض . وخبر إن قوله : ) إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ( لأعمالهم ، والشكر مجاز عن الإثابة . انتهى . وأجورهم هي التي رتبها تعالى على أعمالهم ، وزيادته من فضله . قال أبو وائل : بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم . وقال الضحاك : بتفسيح القلوب ، وفي الحديث : ( بتضعيف حسناتهم ) . وقيل : بالنظر إلى وجهه . والكتاب : هو القرآن ، ومن : للتبين أو الجنس أو التبعيض ، تخريجات للزمخشري . ) وَمُصَدّقًا ( : حال مؤكدة لما ) بَيْنَ يَدَيْهِ ( من الكتب الإلهية : التوراة والانجيل والزبور وغيره ، وفيه إشارة إلى كونه وحياً ، لأنه عليه السلام لم يكن قارئاً كاتباً ، وأتى ببيان ما في كتب الله ، ولا يكون ذلك إلا من الله تعالى . ) إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ( : عالم بدقائق الأشياء وبواطنها ، بصير بما ظهر منها ، وحيث أهلك لوحيه ، واختارك برسالته وكتابه ، الله أعلم حيث يجعل رسالاته .
( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ( ، وثم قيل : بمعنى الواو ، وقيل : للمهلة ، إما في الزمان ، وإما في الإخبار على ما يأتي بيانه . والكتاب فيه قولان ، أحدهما : أن المعنى : أنزلنا الكتب الإلهية ، والكتاب على هذا اسم جنس . والمصطفون ، على ما يأتي بيانه أن المعنى : الأنبياء وأتباعهم ، قاله الحسن . وقال ابن عباس : هم هذه الأمة ، أورثت أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كل كتاب أنزله الله . وقال ابن جرير : أورثهم الإيمان ، فالكتب تأمر باتباع القرآن ، فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها ، يدل عليه : ) وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ ( ، ثم أتبعه بقوله : ) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ( ، فعلمنا أنهم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ كان معنى الميراث : انتقال شيء من قوم إلى قوم ، ولم تكن أمة انتقل إليها كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته . فإذا قلنا : هم الأنبياء وأتباعهم ، كان المعنى : أورثنا كل كتاب أنزل على نبي ، ذلك النبي وأتباعه . والقول الثاني : أن الكتاب هو القرآن ، والمصطفون أمة الرسول ، ومعنى أورثنا ، قال مجاهد : أعطينا ، لأن الميراث عطاء . ثم قسم الوارثين إلى هذه الأقسام

" صفحة رقم 299 "
الثلاثة ، قال مكي : فقيل هم المذكرون في الواقعة . فالسابق بالخيرات هو المقرب ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والظالم لنفسه أصحاب المشأمة ، وهو قول يروى معناه عن عكرمة والحسن وقتادة ، قالوا : الضمير في منهم عائد على العباد . فالظالم لنفسه الكافر والمنافق ، والمقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقي على الإطلاق ، وقالوا : هو نظير ما في الواقعة . والأكثرون على أن هؤلاء الثلاثة هم في أمة الرسول ، ومن كان من أصحاب المشأمة مكذباً ضالاً لا يورث الكتاب ولا اصطفاه الله ، وإنما الذي في الواقعة أصناف الخلق من الأولين والآخرين . قال عثمان ابن عفان : سابقنا أهل جهاد ، ومقتصدنا أهل حضرنا ، وظالمنا أهل بدونا ، لا يشهدون جمعة ولا جماعة . وقال معاذ : الظالم لنفسه : الذي مات على كبيرة لم يتب منها ، والمقتصد : من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها ، والمقتصد : من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها ، والسابق : من مات نائباً عن كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك . وقيل : الظالم لنفسه : العاصي المسرف ، والمقتصد : متقي الكبائر ، والسابق : المتقي على الإطلاق . وقال الحسن : الظالم : من خفت حسناته ، والمقتصد : من استوت ، والسابق : من رجحت . وقال الزمخشري : قسمهم إلى ظالم مجرم ، وهو المرجىء لأمر الله ، ومقتصد ، وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ؛ وسابق ، من السابقين . انتهى . وذكر في التجريد ثلاثة وأربعين قولاً في هؤلاء الأصناف الثلاثة . وقرأ أبو عمران الحوفي ، وعمر ابن أبي شجاع ، ويعقوب في رواية ، والقرآءة عن أبي عمر و : سباق ؛ والجمهور . سابق ، قيل : وقدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله . وقال الزمخشري : للإيذان بكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم ، وأن المقتصد قليل بالإضافة إليهم ، والسابقون أقل من القليل . انتهى . ) بِإِذُنِ اللَّهِ ( : بتيسيره وتمكنه ، أي أن سبقه ليس من جهة ذاته ، بل ذلك منه تعالى . والظاهر أن الإشارة بذلك إلى إيراث الكتاب واصطفاء هذه الأمة .
( وَجَنَّاتٍ ( على هذا مبتدأ ، و ) يَدْخُلُونَهَا ( الخبر . وجنات ، قرأءة الجمهور جمعاً بالرفع ، ويكون ذلك إخباراً بمقدار أولئك المصطفين . وقال الزمخشري ، وابن عطية : ) جَنَّاتُ ( بدل من ) الْفَضْلِ ). قال الزمخشري : فإن قلت : فكيف جعلت ) جَنَّاتِ عَدْنٍ ( بدلاً من ) الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك ؟ قلت : لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب ، فأبدلت عنه جنات عدن . انتهى . ويدل على أنه مبتدأ قراءة الجحدري وهارون ، عن عاصم . جنات ، منصوباً على الاشتغال ، أي يدخلون جنات عدن يدخلونها . وقرأ رزين ، وحبيش ، والزهري : جنة على الأفراد . وقرأ أبو عمرو : ويدخلونها مبنياً للمفعول ، ورويت عن ابن كثير والجمهور مبنياً للفاعل . والظاهر أن الضمير المرفوع في يدخلونها عائداً على الأصناف الثلاثة ، وهو يقول عبد الله بن مسعود ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وأبي الدرداء ، وعقبة بن عامر ، وأبي سعيد ، وعائشة ، ومحمد بن الحنيفة ، وجعفر الصادق ، وأبي إسحاق السبيعي ، وكعب الأحبار . وقرأ عمر هذه الآية ، ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له ) . ومن جعل ثلاثة الأصناف هي التي في الواقعة ، لأن الضمير في يدخلونها عائد عنده على المقتصد والسابق . وقال الزمخشري : هو عائد على السابق فقط ، ولذلك إشارة إلى السبق بعد التقسيم ، فذكر ثوابهم . والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر ، فليحذر المقتصد ، وليهلك الظالم لنفسه حذراً ، وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله ، ولا يغتر بما رواه عمر رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له ) ، فإن شرط ذلك صحة

" صفحة رقم 300 "
التوبة ، عسى الله أن يتوب عليهم . وقوله : إما يعذبهم ، وإما يتوب عليهم ، ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخداع . انتهى ، وهو على طريق المعتزلة . وقرأ الجمهور : ) يُحَلَّوْنَ ( بضم الياء وفتح الحاء وشد اللام ، مبنياً للمفعول . وقرىء : بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام ، من حليت المرأة فهي حال ، إذا لبست الحلى . ويقال : جيد حال ، إذا كان فيه الحلى ، وتقدم في سورة الحج الكلام على ) يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ). وقرأ الجمهور : ) الْحَزَنَ ( بفتحتين ؛ وقرىء : بضم الحاء وسكون الزاي ، ذكره جناح بن حبيش ، والحزن يعم جميع الأحزان ، وقد خص المفسرون هنا وأكثروا ، وينبغي أن يحمل ذلك على التمثيل لا على التعيين ، فقال أبو الدرداء : حزن : أهوال يوم القيامة ، وما يصيب هنالك من ظلم نفسه من الغم والحزن . وقال سمرة بن جندب : معيشة الدنيا الخير ونحوه . وقال قتادة : حزن الدنيا في الحوفة أن لا يتقبل أعمالهم . وقال مقاتل : حزن الانتقال ، يقولونها إذا استقروا فيها . وقال الكلبي : خوف الشيطان . وقال ابن زيد : حزن : تظالم الآخرة ، والوقوف عن قبول الطاعات وردها ، وطول المكث على الصراط . وقال القاسم بن محمد : حزن : زوال الغم وتقلب القلب وخوف العاقبة ، وقد أكثروا حتى قال بعضهم : كراء الدار ، ومعناه أنه يعم كل حزن من أحزان الدين والدنيا حتى هذا . ) إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( ، لغفور : فيه إشارة إلى دخول لأنها دار إقامة دائماً لا يرحل عنها . ) مِن فَضْلِهِ ( : من عطائه .
( لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ ( : أي تعب بدن ، ( وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( : أي تعب ، وهو لازم عن تعب البدن . وقال قتادة : اللغوب : الوضع . وقال الزمخشري : النصب : التعب والمشقة التي تصيب المنتصب المزاول له ، وأما اللغوب : فما يلحقه من الفتور بسبب النصب . فالنصب نفس المشقة والكلفة ، واللغوب نتيجته ، وما يحدث منه من الكلال والفترة . انتهى . فإن قلت : إذا انتفى السبب انتفى مسببه ، فما حكمه إذا نفي السبب وانتفى مسببه ؟ وأنت تقول : ما شبعت ولا أكلت ، ولا يحسن ما أكلت ولا شبعت ، لأنه يلزم من انتفاء الأكل انتفاء الشبع ، ولا ينعكس ، فلو جاء على هذا الأسلوب لكان التركيب لا يمسنا فيها إعياء ولا مشقة ؟ فالجواب : أنه تعالى بين مخالفة الجنة لدار الدنيا ، فإن أماكنها على قسمين : موضع يمس فيه المشاق والمتاعب كالبراري والصحارى ، وموضع يمس فيه الأعياء كالبيوت والمنازل التي فيها الصغار ، فقال : ) لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ ( ، لأنها ليست مظان المتاعب لدار الدنيا ؛ ) وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( : أي ولا نخرج منها إلى موضع نصب ونرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء . وقرأ الجمهور : لغوب ، بضم اللام ، وعلي بن أبي طالب والسلمي : بفتحها . قال الفراء : هو ما يلغب به ، كالفطور والسحور ، وجاز أن يكون صفة للمصدر المحذوف ، كأنه لغوب ، كقولهم : موت مائت . وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون مصدراً كالقبول ، وإن شئت جعلته صفة لمضمر ، أي أمر لغوب ، واللغوب أيضاً في غير هذا للأحمق . قال أعرابي أن فلاناً لغوب جاءت كتابي فاحتقرها ، أي أحمق ، فقيل له : لم أنثته ؟ فقال : أليس صحيفة ؟
) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُم ( سقط : الآية كاملة ) ْ ).

" صفحة رقم 301 "
( الآية كاملة )
لما ذكر حال المؤمنين ومقرهم ، ذكر حال الكافرين ، وهذا يدل على أن أولئك الثلاثة هم في الجنة ، ( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( هم مقابلوهم ، ( لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ ( : أي لا يجهز عليهم فيموتوا ، لأنهم إذا ماتوا بطلت حواسهم فاستراحوا . وقرأ الجمهور : ) فَيَمُوتُواْ ( ، بحذف النون منصوباً في جواب النفي ، وهو على أحد معنيي النصب ؛ فالمعنى انتفى القضاء عليهم ، فانتفى مسببه ، أي لا يقضى عليهم ولا يموتون ، كقولك : ما تأتينا فتحدثنا ، أي ما يكون حديث ، انتفى الإتيان ، فانتفى الحديث . ولا يصح أن يكون على المعنى الثاني من معنى النصب ، لأن المعنى : ما تأتينا محدثاً ، إنما تأتي ولا تحدث ، وليس المعنى هنا : لا يقضى عليهم ميتين ، إنما يقضى عليهم ولا يموتون . وقرأ عيسى ، والحسن : فيموتون ، بالنون ، وجهها أن تكون معطوفة على لا يقضى . وقال ابن عطية : وهي قراءة ضعيفة . انتهى . وقال أبو عثمان المازين : هو عطف ، أي فلا يموتون ، لقوله : ) وَلاَ يُؤْذُونَ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( ، أي فلا يعتذرون ولا يخفف عنهم نوع عذابهم . والنوع في نفسه يدخله أن يحيوا ويسعدوا . قال ابن عطية : وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو : ولا يخفف بإسكان الفاء شبه المنفصل بالمتصل ، كقوله :
فاليوم أشرب غير مستحقب
وقرأ الجمهور : ) نَجْزِى كُلَّ ( ، مبنياً للفاعل ، ونصب كل ؛ وأبو عمرو ، وأبو حاتم عن نافع : بالياء مبنياً للمفعول ، كل بالرفع . ) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ ( : بني من الصرخ يفتعل ، وأبدلت من التاء طاء ، وأصله يصرخون ، والصراخ : شدة الصياح ، قال الشاعر :
صرخت حبلى أسلمتها قبيلها
واستعمل في الاستغاثة لجهة المستغيث صوته ، قال الشاعر : وطول اصطراخ المرء في بعد قعرها
وجهد شقي طال في النار ما عوى
) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا ( : أي قائلين ربنا أخرجنا منها ، أي من النار ، وردنا إلى الدنيا . ) نَعْمَلْ صَالِحاً ( قال ابن عباس : نقل : لا إله إلا الله ، ( غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ( ، أي من الشرك ، ونمتثل أمر الرسل ، فنؤمن بدل الكفر ، ونطيع بدل المعصية . وقال الزمخشري : هل اكتفى بصالحاً ، كما اكتفى به في ) فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ( ؟ وما فائدة زيادة ) غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ( على أنه يوهم أنهم يعملون صالحاً آخر غير الصالح الذي علموه ؟ قالت : فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به ، وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي ، ولأنهم كانوا يحسنون صنعاً فقالوا : أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نحسبه صالحاً فنعمله . انتهى . روي أنهم يجابون بعد مقدار الدنيا : ) أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ ( ، وهو استفهام

" صفحة رقم 302 "
توبيخ وتوقيف وتقرير ، وما مصدرية ظرفية ، أي مدة يذكر . وقرأ الجمهور : ) مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ). وقرأ الأعمش : ما يذكر فيه ، من اذكر ، بالادغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظاً بها في الدرج . وهذه المدة ، قال الحسن : البلوغ ، يريد أنه أول حال التذكر ، وقيل : سبع عشرة سنة . وقال قتادة : ثمان عشرة سنة . وقال عمر بن عبد العزيز : عشرون . وقال ابن عباس : أربعون ؛ وقيل : خمسون . وقال علي : ستون ، وروي ذلك عن ابن عباس . ) وَجَاءكُمُ ( معطوف على ) أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ ( ، لأن معناه : قد عمرناكم ، كقوله : ) أَلَمْ نُرَبّكَ بِكَ فِينَا وَلِيداً ( ، وقوله : ) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( ، ثم قال : ) وَلَبِثْتَ فِينَا ( وقال ) وَوَضَعْنَا ( ، لأن المعنى قدر بيناك وشرحنا . والنذير جنس ، وهم الأنبياء ، كل نبي نذير أمته . وقرىء : النذر جمعاً ، وقيل : النذير : الشيب ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسفيان ، ووكيع ، والحسن بن الفضل ، والفراء ، والطبري . وقيل : موت الأهل والأقارب ؛ وقيل : كمال السفل .
فذوقوا ( : أي عذاب جهنم . وقرأ جناح بن حبيش : عالم منوناً ، غيب نصباً ؛ والجمهور : على الإضافة . ومجيء هذه الجملة عقيب ما قبلها هو أنه تعالى ذكر أن الكافرين يعذبون دائماً مدة كفرهم . كانت مدة يسيرة منقطعة ، فأخبر أنه تعالى ) ( : أي عذاب جهنم . وقرأ جناح بن حبيش : عالم منوناً ، غيب نصباً ؛ والجمهور : على الإضافة . ومجيء هذه الجملة عقيب ما قبلها هو أنه تعالى ذكر أن الكافرين يعذبون دائماً مدة كفرهم . كانت مدة يسيرة منقطعة ، فأخبر أنه تعالى ) عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ، فلا يخفى عليه ما تنطوي عليه الصدور من المضمرات . وكان يعلم من الكافر أنه تمكن الكفر في قلبه ، بحيث لو دام إلى الأبد ما آمن بالله ولا عبده . وخلائف : جمع خليفة ، وخلفاء : جمع خليف ويقال للمستخلف : خليفة وخليف ، وفي هذا تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم ، فلم يتعظوا بحال من تقدمهم من مكذبي الرسل وما حل بهم من الهلاك ، ولا اعتبروا بمن كفر ، ولم يتعظوا بمن تقدم . ) فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ( : أي عقاب كفره ، والظاهر أنه خطاب عام ؛ وقيل : لأهل مكة . والمقت : أشد الاحتقار والبغض والغضب ، والخسار : خسار العمر . كان العمر رأس مال ، فإن انقضى في غير طاعة الله ، فقد خسره واستعاض به بدل الربح بما يفعل من الطاعات سخط الله وغضبه ، بحيث صاروا إلى النار .
( قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ ( ، قال الحوفي : ألف الاستفهام ذلك للتقرير ، وفي التحرير : أرأريتم : المراد منه أخبروني ، لأن الاستفهام يستدعي ذلك . يقول القائل : أرأيت ماذا فعل زيد ؟ فيقول السامع : باع واشترى ، ولولا تضمنه معنى أخبروني لكان الجواب نعم أو لا . وقال ابن عطية : أرأيتم ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني . وقال الزمخشري : أروني بدل من أرأيتم لأن معنى أرأيتم أخبروني ، كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعن ما استحقوا به الإلهية والشركة ، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله ، أم لهم مع الله شركة في خلق السموات ؟ أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه ؟ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب ، أو يكون الضمير في ) ءاتَيْنَاهُمُ ( للمشركين لقوله : ) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً ( ، ( أَمْ ءاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مّن قَبْلِهِ ).
) بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم ( : وهم الرؤساء ، ( بَعْضًا ( : وهم الأتباع ، ( إِلاَّ غُرُوراً ( وهو قولهم : ) هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ). انتهى . أما قوله ) أَرُونِىَ ( بدل من ) أَرَءيْتُمْ ( فلا يصح ، لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بد من دخول الأداة على البدل ، وأيضاً فإبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم ، ثم البدل على نية تكرار العامل ، ولا يتأتى ذلك هنا ، لأنه لا عامل في أرأيتم فيتخيل دخوله على أروني . وقد تكلمنا في الأنعام على أرأيتم كلاماً شافياً . والذي أذهب إليه أن أرأيتم بمعنى أخبرني ، وهي تطلب مفعولين : أحدهما منصوب ، والآخر مشتمل على استفهام . تقول العرب : أرأيت زيداً ما صنع ؟ فالأول هنا هو ) شُرَكَاءكُمُ ( ، والثاني ) مَاذَا خَلَقُواْ ( ، وأروني جملة اعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد . ويحتمل أن يكون ذلك أيضاً من باب الإعمال ، لأنه توارد على ماذا حلقوا ، أرأيتم وأروني ، لأن أروني قد تعلق على مفعولها في قولهم : أما ترى ، أي ترى هاهنا ، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين . وقيل : يحتمل أن يكون أرأيتم استفهاماً حقيقياً ، وأروني أمر تعجيز للتبيين ، أي أعملتم هذه التي تدعونها كما هي وعلى ما هي عليه من العجز ، أو تتوهمون فيها قدرة ؟ فإن كنتم تعلمونها

" صفحة رقم 303 "
عاجزة ، فكيف تعبدونها ؟ أو توهمتم لها قدرة ، فأروني قدرتها في أي شيء هي ، أهي في الأرض ؟ كما قال بعضهم : إن الله إله في السماء ، وهؤلاء آلهة في الأرض . قالوا : وفيها من الكواكب والأصنام صورها ، أم في السموات ؟ كما قال بعضهم : إن السماء خلقت باستعانة الملائكة ، فالملائكة شركاء في خلقها ، وهذه الأصنام صورها ، أم قدرتها في الشفاعة لكم ؟ كما قال بعضهم : إن الملائكة ما خلقوا شيئاً ، ولكنهم مقربون عند الله ، فنعبدهم لتشفع لنا ، فهل معهم من الله كتاب فيه إذنه لهم بالشفاعة ؟ انتهى . وأضاف الشركاء إليهم من حيث هم جعلوهم شركاء الله ، أي ليس للأصنام شركة بوجه إلا بقولهم وجعلهم ، قيل : ويحتمل شركاءكم في النار لقوله : ) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ). والظاهر أن الضمير في ) ءاتَيْنَاهُمُ ( عائد على الشركاء ، لتناسب الضمائر ، أي هل مع ما جعل شركاء لله كتاب من الله فيه إن له شفاعة عنده ؟ فإنه لا يشفع إلا بإذنه . وقيل : عائد على المشركين ، ويكون التفاتاً خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة إعراضاً عنهم وتنزيلاً لهم منزلة الغائب الذي لا يحصل للخطاب ، ومعناه : أن عبادة هؤلاء أما بالعقل ، ولا عقل لمن يعبد ما لا يخلق من الأرض جزءاً من الأجزاء ولا له شرك في السماء ؛ وأما بالنقل ، ولم نؤت المشركين كتاباً فيه أمر بعبادة هؤلاء ، فهذه عبادة لا عقلية ولا نقلية . انتهى . وقرأ ابن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وحفص ، وأبان عن عاصم : ) عَلَى بَيّنَةٍ ( ، بالإفراد ؛ وباقي السبعة : بالجمع .
ولما بين تعالى فساد أمر الأصنام ووقف الحجة على بطلانها ، عقبة بذكر عظمته وقدرته ليتبين الشيء بضده ، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله فقال : ) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ ( : والظاهر أن معناه أن تنتقلا عن أماكنهما وتسقط السموات عن علوها . وقيل : معناه أن تزولا عن الدوران . انتهى . ولا يصح أن الأرض لا تدور . ويظهر من قول ابن مسعود : أن السماء لا تدور ، وإنما تجري فيها الكواكب . وقال : كفى بها زوالاً أن تدور ، ولو دارت لكانت قد زالت . وأن تزولا في موضع المفعول له ، وقدر لئلا تزولا ، وكراهة أن تزولا . وقال الزجاج : يمسك : يمنع من أن تزولا ، فيكون مفعولاً ثانياً على إسقاط حرف الجر ، ويجوز أن يكون بدلاً ، أي يمنع زوال السموات والأرض ، بدل اشتمال . ) وَلَئِن زَالَتَا ( : إن تدخل غالباً على الممكن ، فإن قدرنا دخولها على الممكن ، فيكون ذلك باعتبار يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال ، فإن ذلك ممكن ، ثم واقع بالخبر الصادق ، أي ولئن جاء وقت زوالهما . ويجوز أن يكون ذلك على سبيل الفرض ، أي ولئن فرضنا زوالهما ، فيكون مثل لو في المعنى . وقد قرأ ابن أبي عبلة : ولو زالتا ، وإن نافية ، وأمسكهما في معنى المضارع جواب للقسم المقدّر قبل لام التوطئة في لئن ، وإنما هو في معنى المضارع لدخول إن الشرطية ، كقوله : ) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ ءايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ). أي ما يتبعون ، وكقوله : ) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً ( : أي ليظلوا ، فيقدّر هذا كله مضارعاً لأجل إن الشرطية ، وجواب إن في هذه المواضع محذوف لدلالة جواب القسم عليه . قال الزمخشري : و ) ءانٍ ( جواب القسم في ) تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا ( ، سدّ مسدّ الجوابين . انتهى ، يعني أنه دل على الجواب المحذوف ، وإن أخذ كلامه على ظاهره لم يصح ، لأنه لو سدّ مسدّهما لكان له موضع من الإعراب باعتبار جواب الشرط ، ولا موضع له من الإعراب باعتبار جواب القسم . والشيء الواحد لا يكون معمولاً غير معمول . ومن في ) مّنْ أَحَدٍ ( لتأكيد الاستغراق ، ومن في ) مِن بَعْدِهِ ( لابتداء الغاية ، أي من بعد ترك إمساكه . وسأل ابن عباس رجلاً أقبل من الشام : من لقيت ؟ قال كعباً ، قال : وما سمعته يقول ؟ قال : إن السموات على منكب ملك ، قال : كذب كعب ، أما ترك يهوديته بعد ؟ ثم قرأ هذه الآية . وقال ابن مسعود لجندب البجلي ، وكان رجل : أي كعب

" صفحة رقم 304 "
الأحبار في كلام آخره ما تمكنت اليهودية في قلب وكادت أن تفارقه . وقالت طائفة : اتصافه بالحلم والغفران في هذه الآية إنما هو إشارة إلى أن السماء كادت تزول ، والأرض كذلك ، لإشراك الكفرة ، فيمسكها حكماً منه عن المشركين وتبرصاً ليغفر لمن آمن منهم ، كما قال في آخر آية أخرى : ) تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ). وقال الزمخشري : ) حَلِيمًا غَفُورًا ( ، غير معاجل بالعقوبة ، حيث يمسكها ، وكانتا جديرتين بأن تهدهد العظم كلمة الشرك ، كما قال ) تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ).
) وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الاْمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورا ( سقط : الآية كاملة ) ً ).
الضمير في ) وَأَقْسَمُواْ ( لقريش . ولما بين إنكارهم للتوحيد ، بين تكذيبهم للرسل . قيل : وكانوا يعلنون اليهود والنصارى حيث كذبوا رسلهم ، وقالوا : ) لَئِنْ ءاتَانَا رَّسُولٍ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى ( من إحدى الأمم . فلما بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كذبوه . ) لَئِن جَاءهُمْ ( : حكاية لمعنى كلامهم لا للفظهم ، إذ لو كان اللفظ ، لكان التركيب لئن جاءنا نذير من إحدى الأمم ، أي من واحدة مهتدية من الأمم ، أو من الأمة التي يقال فيها إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها ، كما قالوا : هو أحد الأحدين ، وهو أحد الأحد ، يريدون التفضيل في الدهاء والعقل بحيث لا نظير له ، وقال الشاعر : حتى استشاروا في أحد الأحد
شاهد يرادا سلاح معد
) فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ ( ، وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قاله ابن عباس ، وهو الظاهر . وقال مقاتل : هو انشقاق القمر . ) مَّا زَادَهُمْ ( : أي ما زادهم هو أو مجيئه . ) إِلاَّ نُفُورًا ( : بعداً من الحق وهرباً منه . وإسناد الزيادة إليه مجاز ، لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم نفوراً ، كقوله : ) فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( ، وصاروا أضل مما كانوا . وجواب لما : ) مَّا زَادَهُمْ ( ، وفيه دليل واضح على حرفية لما لا ظرفيتها ، إذ لو كانت ظرفاً ، لم يجز أن يتقدّم على عاملها المنفي بما ، وقد ذكرنا ذلك في قوله : ) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ ( ، وفي قوله : ) وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ ).

" صفحة رقم 305 "
والظاهر أن ) اسْتِكْبَاراً ( مفعول من أجله ، أيسبب النفور وهو الاستكبار ، ( وَمَكْرَ ( معطوف على ) وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً ( ، فهو مفعول من أجله أيضاً ، أي الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار ؛ ) والمكر السيء ( ، وهو الخداع الذي ترومونه برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والكيد له . وقال قتادة : المكر السيء هو الشرك . وقيل : ) وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً ( بدل من ) نُفُورًا ( ، وقاله الأخفش . وقيل : حال ، يعني مستكبرين وماكرين برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمؤمنين ، ومكر السيء من إضافة الموصوف إلى صفته ، ولذلك جاء على الأصل : ) وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ ). وقيل : يجوز أن يكون ) وَمَكْرَ ( معطوفاً على ) إِلاَّ نُفُورًا ). وقرأ الجمهور : ومكر السيء ، بكسر الهمزة ؛ والأعمش ، وحمزة : بإسكانها ، فإما إجراء للوصل مجرى الوقف ، وإما إسكاناً لتوالي الحركات وإجراء للمنفصل مجرى المتصل ، كقوله : لنا ابلان . وزعم الزجاج أن هذه القراءة لحن . قال أبو جعفر : وإنما صار لحناً لأنه حذف الإعراب منه . وزعم محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر ، لأن حركات الإعراب دخلت للفرق بين المعاني ، وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش يقرأ بهذا ، وقال : إنما كان يقف على من أدّى عنه ، والدليل على هذا أنه تمام الكلام ، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعربه ، والحركة في الثاني أثقل منها في الأوّل لأنها ضمة بين كسرتين . وقال الزجاج أيضاً : قراءة حمزة ومكر السيء موقوفاً عند الحذاق بياءين لحن لا يجوز ، وإنما يجوز في الشعر للاضطرار . وأكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد ، والاحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والاضطرار ، والوصل بنية الوقف ، قال : فإذا ساغ ما ذكرناه في هذه القراءة من التأويل ، لم يسغ أن يقال لحن . وقال ابن القشيري : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أنه قرىء به فلا بد من جوازه ، ولا يجوز أن يقال لحن . وقال الزمخشري : لعله اختلس فظن سكوناً ، أو وقف وقفة خفيفة ، ثم ابتدأ ) وَلاَ يَحِيقُ ). وروي عن ابن كثير : ومكر السيء ، بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة ، وهو مقلوب السيء المخفف من السيء ، كما قال الشاعر : ولا يجزون من حسن بسي
ولا يجزون من غلظ بلين
وقرأ ابن مسعود : ومكراً سيئاً ، عطف نكرة على نكرة ؛ ) وَلاَ يَحِيقُ ( : أي يحيط ويحل ، ولا يستعمل إلا في المكروه . وقرىء : يحيق بالضم ، أي بضم الياء ؛ المكر السيء : بالنصب ، ولا يحيق الله إلا بأهله ، أما في الدنيا فعاقبة ذلك على أهله . وقال أبو عبد الله الرازي : فإن قلت : كثيراً نرى الماكر يفيده مكره ويغلب خصمه بالمكر ، والآية تدل على عدم ذلك . فالجواب من وجوه : أحدها : أن المكر في الآية هو المكر بالرسول من العزم على القتل والإخراج ، ولا يحيق إلا بهم حيث قتلوا ببدر . وثانيها : أنه عامّ ، وهو الأصح ، فإنه عليه السلام نهى عن المكر وقال : ( لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً ، فإنه تعالى يقول : ) وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( ، فعلى هذا يكون ذلك الممكور به أهلاً فلا يزد نقصاً ) . وثالثها : أن الأمور بعواقبها ، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر ، ففي الحقيقة هو الفائز ، والماكر هو الهالك . انتهى .
وقال كعب لابن عباس في التوراة ( من حفر حفرة لأخيه وقع فيها ) ، فقال له ابن عباس : إنا وجدنا هذا في كتاب الله ، ( وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ). انتهى .
وفي أمثال العرب ( من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً ) . و ) قُل لِلَّذِينَ ( : إنزال العذاب على الذين كفروا برسلهم من الأمم ، وجعل استقبالهم لذلك انتظاراً له منهم . وسنة الأولين أضاف فيه المصدر . وفي ) لِسُنَّةِ اللَّهِ ( إضافة إلى الفاعل ، فأضيفت أولاً إليهم لأنها سنة بهم ، وثانياً إليه لأنه هو الذي سنها . وبين تعالى الانتقام من مكذبي الرسل عادة لا يبدلها بغيرها ولا

" صفحة رقم 306 "
يحولها إلى غير أهلها ، وإن كان ذلك كائن لا محالة . واستشهد عليهم مما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم ، في رحلتهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الماضين ، وعلامات هلاكهم وديارهم ، كديار ثمود ونحوها ، وتقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة الروم . وهناك ) كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ( : استئناف إخبار عن ما كانوا عليه ، وهنا : ) وَكَانُواْ ( : أي وقد كانوا ، فالجملة حال ، فهما مقصدان . ) وَمَا كَانُواْ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ ( : أي ليفوته ويسبقه ، ( مِن شَىْء ( : أي شيء ، و ) مِنْ ( لاستغراق الأشياء ) إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ( : فبعلمه يعلم جميع الأشياء ، فلا يغيب عن علمه شيء ، وبقدرته لا يتعذر عليه شيء .
ثم ذكر تعالى حلمه تعالى على عباده في تعجيل العقوبة فقال : ) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ ( : أي من الشرك وتكذيب الرسل ، وهو المعنى في الآية التي في النحل ، وهو قوله : ) بِظُلْمِهِمْ ( ، وتقدّم الكلام على نظير هذه الآية في النحل ، وهناك ) عَلَيْهَا ( ، وهنا على ) ظَهْرِهَا ( ، والضمير عائد على الأرض ، إلا أن هناك يدل عليه سياق الكلام ، وهنا يمكن أن يعود على ملفوظ به ، وهو قوله : ) فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ ). ولما كانت حاملة لمن عليها ، استعير لها الظهر ، كالدابة الحاملة للأثقال ، ولأنه أيضاً هو الظاهر بخلاف باطنها . فإنه ) كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ( : توعد للمكذبين ، أي فيجازيهم بأعمالهم .

" صفحة رقم 307 "
( سورة يس )
بسم الله الرحمن الرحيم
) يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون

" صفحة رقم 308 "
أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما جميع لدينا محضرون وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وإذا قيل لهم أنفقوا من ما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (
يس : ( 1 ) يس
قمح البعير رأسه : رفعه أثر شرب الماء ، ويأتي الكلام فيه مستوفى العرجون : عود العذق من بين الشمراخ إلى منبته من النخلة ، وقال الزجاج : ' هو فعلون من الانعراج أو الانعطاف ' . الجدث : القبر ، وسمع فيه جدف بإبدال الثاء فاء ، كما قالوا : فم في ثم ، وكما ابدلوا من الفاء ثاء قالوا في معفور معثور ، وهو ضرب من الكمأة . المسخ : تحويل من صورة إلى صورة منكرة ، الرميم : البالي المفتت .
( يس والقرآن الحكيم أنك لمن المرسلين ، على صراط مستقيم ، تنزيل العزيز الرحيم ، لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ، لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ، إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ، وجعلنا من بين أي يهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ، وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ، إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ، إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في أمام مبين ).
هذه الصورة مكية إلا أن فرقة زعمت أن قوله : ) ونكتب ما قدموا وآثارهم ( [ يس : 12 ] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم ، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول . وليس زعما صحيحا ، وقيل : إلا قوله : ) وإذا

" صفحة رقم 309 "
قمح البعير رأسه : رفعه أثر شرب الماء ، ويأتي الكلام فيه مستوفى العرجون : عود العذق من بين الشمراخ إلى منبته من النخلة ، وقال الزجاج : ' هو فعلون من الانعراج أو الانعطاف ' . الجدث : القبر ، وسمع فيه جدف بإبدال الثاء فاء ، كما قالوا : فم في ثم ، وكما ابدلوا من الفاء ثاء قالوا في معفور معثور ، وهو ضرب من الكمأة . المسخ : تحويل من صورة إلى صورة منكرة ، الرميم : البالي المفتت .
( يس والقرآن الحكيم أنك لمن المرسلين ، على صراط مستقيم ، تنزيل العزيز الرحيم ، لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ، لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ، إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ، وجعلنا من بين أي يهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ، وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ، إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ، إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في أمام مبين ).
هذه الصورة مكية إلا أن فرقة زعمت أن قوله : ) ونكتب ما قدموا وآثارهم ( [ يس : 12 ] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم ، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول . وليس زعما صحيحا ، وقيل : إلا قوله : ) وإذا

" صفحة رقم 310 "
قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله ( [ يس : 47 ] الآية وتقدم الكلام في الحروف المقطعة في أول البقرة . قال ابن جبير هنا : إنه اسم من أسماء محمد - ( صلى الله عليه وسلم ) - ودليله ( إنك من المرسلين ) ، قال السيد الحميري : يا نفس لا تمخضي بالود جاهدة
على المودة إلا آل ياسينا
وقال ابن عباس معناه : ' يا أنسان بالحبشية ' . وعنه : ' هو في لغة طيىء ، وذلك أنهم يقولون إيسان بمعنى إنسان ويجمعونه على أياسين فهذا منه ' . وقالت فرقة : ( يا ) حرف نداء . والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه . وقال الزمخشري : ' إن صح أن معناه يا إنسان في لغة طيىء ، فوجهه أن يكون أصله : يا أنيسين ، فكثر النداء على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره ، كما قالوا في القسم م / الله في أيمن الله ' . انتهى . والذي نقل عن العرب في تصغيرهم إنسان أنيسيان بياء بعدها ألف ، فدل على أنه أصله أنيسان ، لآن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها ، ولا نعلمهم قالوا في تصغيرة : أنيسين . وعلى تقدير أنه بقية أنيسين فلا يجوز ذلك ، لا أن يبنى على الضم ولا يبقى موقوفا ، لأنه منادى مقبل عليه مع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير ويمتنع ذلك في حق النبوة . وقوله : ' كما قالوا في القسم م الله في أيمن الله ' . هذا قول ومن النحويين من يقول : إن م حرف قسم وليس مبقي من أيمن . وقرىء بفتح الياء وإمالتها محضا وبين اللفظين . وقرأ الجمهور بسكون النون مدغمة في الواو ، ومن السبعة الكسائي وأبو بكر وورش وابن عامر . مظهرة عند باقي السبعة . وقرأ الجمهور بسكون النون بفتح النون . وقال قتادة : ' ( يس ) قسم ' قال أبو حاتم : فقياس هذا القول فتح النون ، كما تقول : الله لأفعلن كذا . وقال النجاج : ' النصب كأنه قال اتل يس وهذا على مذهب سيبوية أنه اسم للسورة ' . وقرأ الكلبي بضم النون وقال : ' هي بلغة طيىء يا إنسان ' ، وقرأ السماك وابن أبي إسحاق أيضا بكسرها . قيل : والحركة لالتقاء الساكنين ، فالفتح كائن طلبا للتخفيف . والضم كحيث . والكسر على أصل التقائهما . وإذا قيل إنه قسم فيجوز أن يكون معربا بالنصب على ما قال أبو حاتم . والرفع على الابتداء نحو أمانة الله لأقومن . والجر على إضمار حرف الجر ، وهو جائز عند الكوفيين . و ( الحكيم ) إما فعيل بمعنى مفعل كما تقول عقدت العسل فهو عقيد أي معقد وإما للمبالغة من حاكم وإما على معنى السبب . أى : ذي حكمة ( على صراط ) خبر ثان أو في موضع الحال منه - عليه السلام - أو من ( المرسلين ) أو متعلق بالمرسلين . والصراط المستقيم : شريعة الإسلام . وقرأ طلحة والأشهب وعيسى بخلاف عنهما وابن عامر وحمزة الكسائي ( تنزيل ) بالنصب على المصدر . وباقي السبعة وأبو بكر وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج والأعمش بالرفع خبر مبتدأ محذوف . أي : هو تنزيل . وأبو حيوة واليزيدي والقورصي عن أبي جعفر وشبية بالخفض إما على البدل من ( القرآن ) وإما على الوصف بالمصدر ( لتنذر ) متعلق ب ( تنزيل ) أو ب ( أرسلنا ) مضمرة . ( ما أنذر ) قال عكرمة : بمعنى الذي ، أي الشيء الذي أنذره آباؤهم من العذاب ف ( ما ) مفعول ثان . كقوله : ) إنا أنذرناكم عذابا قريبا ( [ النبأ : 40 ] ، قال ابن عطية : ' ويحتمل أن يكون ( ما ) مصدرية . أي : ما أنذر آباءهم والآباء على هذا : هم الآقدمون من ولد إسماعيل وكانت النذارة فيهم . و ( فهم ) على هذا للتأويل بمعنى فإنهم ، دخلت الفاء ، لقطع الجملة من الجملة الواقعة صلة فتتعلق بقوله ( إنك لمن المرسلين لتنذر ) كما تقول أرسلنك إلى فلان لتنذره ، فإنه غافل أو فهو غافل . وقال قتادة : ' ( ما ) نافية . أى : إن آباءهم لم ينذروا ف ( آباؤهم ) على هذا هم القريبون منهم . و ( ما أنذر ) في موضع الصفة . أي : غير منذر آباؤهم و ( فهم غافلون ) متعلق بالنفي . أي : لم ينذروا فهم

" صفحة رقم 311 "
غافلون على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم وباعتبار الآباء في القدم والقرب يزول التعارض بين الإنذار ونفيه . ( لقد حق القول على أكثرهم ) المشهور أن القول : ( لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) وقيل : لقد سبق في علمه وجوب العذاب ، وقيل : حق . القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبان برهانه ، فأكثرهم لا يؤمنون بعد ذلك . والظاهر أن قوله ) غنا دجعلنا في أعناقهم أغلالا ( لآية هو حقيقة لا استعارة . لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون أخبر عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار . قال ابن عطية : ' وقوله ) فأغشيناهم فهم لا يبصرون ( يضعف هذا ، لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله ' . انتهى . ولا يضعف هذا . ألا ترى إلى قوله : ) ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا ( [ الإسراء : 97 ] ووقوله : ) قال رب لم حشرتني أعمى ( [ طه : 125 ] وإما أن يكون قوله : ) فبصرك اليوم حديد ( [ ق : 22 ] كناية عن إدراكه ما يؤول إليه حتى كأنه يبصره . وقال الجمهور ذلك استعارة . قال ابن عباس وابن إسحاق : ' استعارة لحالة الكفرة الذين أرادوا الرسول بسوء ، جعل الله هذا لهم مثلا في كفه إياهم عنه ومنعهم من أذاه حين بيتوه ' وقال الضحاك والفراء : ' استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله ، كما قال : ) ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ( [ الإسراء : 29 ] . وقال عكرمة : ' نزلت حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم ، وفي غير ذلك من المواطن ، فمنعه الله ' وهذا قريب من ابن عباس ، فروي : ' أن أبا جهل حمل حجرا ليدفع به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يصلي فانثنت يداه إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر في يده قد لزق فما فكوه إلا بجهد فأخذ آخر ، فلما دنا الرسول طمس الله بصره فلم يره فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه ' . فجعل الغل يكون استعارة عن منع أبي جهل وغيره في هذه القصة . ولما كان أصحاب أبي جهل راضين بما أراد أن يفعل فنسب ذلك إلى الجمع . وقالت فرقة : استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه . قال ابن عطية : ' وهذا أرجح الأقوال لأنه تعالى لما ذكر أنهم يؤمنون لما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من منع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغلولين ' . انتهى . وقال الزمخشري : ' مثل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى دعواهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم له ، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا خلفهم في أن لا تأمل لهم ، ولا يبصرون أنهم متعامون عن النظر في آيات الله تعالى ' . انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال . ألا ترى إلى قول أهل السنة : استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان . وقول الزمخشري : ' ومثل تصميمهم ونسبته الأفعال التي يعدها إليهم لا إلى الله ' . والغل : ما أحاط بالعنق على معنى التعنيف ، والتضييق ، والتعذيب ، والأسر ، ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة على معنى التعليل ، والظاهر : عود الضمير في ( فهي ) إلى الأغلال ، لأنها هي المذكورة والمحدث عنها . قال ابن عطية : ' هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان . والذقن : مجتمع اللحيين فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء ، وذلك هو الإقماح . وهو نحو الإقناع في الهيئة . وقال الزمخشري : الإغلال ، وأصله إلى الأذقان مكروزة إليها ، وذلك أن طوق الغل الذي هو عنق المغلول يكون في ملتقى طرفية تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن فلا تخليه يطأطىء رأسه ويوطىء رأسه ويوطىء فداله فلا يزال مقمحا ' . انتهى وقال الفراء : ' القمح الذي يغض بصره بعد رفع رأسه ' . وقال الزجاج نحوه ، قال : ' يقال قمح البعير رأسه عن ري وقمح هو ' . وقال أبو عبيدة : ' قمح قموحا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب والجمع قماح . ومنه قول بشر يصف ميتة أحدهم ليدفنها : ونحن على جوانبها قعود
نغض الطرف كالإبل القماح

" صفحة رقم 312 "
وقال الليث : ' هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود ' . وقال الزجاج للكانونين شهرا قماح لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رؤوسها لشدة برده . وأنشد أبو زيد بيت الهذلي : فتى ما ابن الأغر إذا شتونا
وحب الزاد في شهري قماح
رواه بضم القاف ، وابن السكيت بكسرها ، وهما لغتان . ' وسميا شهري قماح ، لكراهة كل ذي كبد شرب الماء فيه ' . وقال الحسن : ' القامح الطافح ببصره إلى موضع قدمه ' . وقال مجاهد : ' الرافع الرأس الواضع يده على فيه ' . وقال الطبري : ' الضمير في ( فهي ) عائد على الأيدي وإن لم يتقدم لها ذكر لوضوح مكانها من المعنى . وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين ، ولذلك سمي الغل جامعة لجمعه اليد والعنق . وأرى على كرم الله وجهه الناس الإقماح فجعل يديه تحت لحيية وألصقهما ورفع رأسه ' . وقال الزمخشري : ' جعل الإقماح نتيجة قوله فهي ( إلى الأذقان ) ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرا ، على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطل الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج ' . انتهى . وقرأ عبد الله وعكرمة والنخعي وابن وثاب وطلحة وحمزة والكسائي وابن كثير وحفص ( سدا ) بفتح السين فيهما والجمهور بالضم وتقدم شرح السد في الكهف . وقرأ الحمهور ( فأغشيناهم ) بالغين منقوطة . وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن يعمر وعكرمة والنخعي وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي ويزيد بن المهلب وأبو حنيفة وابن مقسم بالعين من العشاء ، وهو ضعف البصر جعلنا عليها غشاوة . ( وسواء عليهم ) الآية تقدم الكلام على نظيرها تفسيرا وإعرابا في أول البقرة . ( إنما تنذر ) تقدم ) لتنذر قوما ( [ يس : 6 ] لكنه لما كان محتوما عليهم أن لا يؤمنوا حتى قال ( وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) لم يجد الإنذار لانتفاء منفعته فقال ( إنما تنذر ) أي : إنذارا ينفع ( من اتبع الذكر ) وهو القرآن قال قتادة : ' أو الوعظ ' ( وخشي الرحمن ) أي : المتصف بالرحمة مع أن الرحمة مع أن الرحمة قد تعود إلى الرجاء لكنه مع علمه برحمته هو يخشاه خوفا من أن يسلبه ما أنعم به عليه ( بالغيب ) أي : بالخلوة عند مغيب الإنسان عن غيوب البشر . ولما أحدث فيه النذارة ( بشر بمغفرة ) لما سلف ( وأجر كريم ) على ما أسلف من العمل الصالح ، وهو الجنة . ولما ذكر تعالى الرسالة ، وهي أحد الأصول الثلاثة التي بها يصير المكلف مؤمنا ذكر الحشر وهو أحد الأصول الثلاثة والثالث : هو توحيد . فقال ( إنا نحن نحيي الموتى ) أي : بعد مماتهم . وأبعد الحسن والضحاك في قوله : إحياؤهم : إخراجهم من الشرك إلى الإيمان ( ونكتب ما قدموا ) كناية عن المجازاة . أي : ونحصي . فعبر عن إحاطة علمه بأعمالهم بالكتابة التي تضبط بها الأشياء . وقرأ زر ومسروق ( ويكتب ما قدموا وآثارهم ) بالياء مبنيا للمفعول . و ( ما قدموا ) من الأعمال ( وآثارهم ) خطاهم إلى المساجد . وقال : السير الحسنة والسيئة . وقيل ( ما قدموا ) من السيئات ( وآثارهم ) من الأعمال . وقال الزمخشري : ' ونكتب ما أسلفوا من الأعمال الصالحات غيرها ، وما هلكوا عنه من أثر حسن كعلم علموه ، وكتاب صنفوه ، أو حبيس أحبسوه ، أو بناء بنوه من مسجد أورباط أو قنطرة أو نحو ذلك . أوسيىء كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين ، وسكة على المسلمين ، وسكة أحدثها فيها تحيرهم ، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاء ، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة ، يستن بها ونحوه قوله عز وجل ) ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ( [ القيامة : 13 ] من آثاره ' . انتهى . وقرأ الجمهور ( وكل شيء ) بالنصب على الاشتغال . وقرأ أبو السمال بالرفع على الابتداء . والإمام المبين : اللوح المحفوظ . قاله مجاهد وقتادة وابن زيد . وقالت فرقة : أراد صحف الأعمال .
( واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ، إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون ، قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون ، قالوا ربنا يعلم إنا إليكم

" صفحة رقم 313 "
لمرسلون ، وما علينا إلا البلاغ المبين ، قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم ، قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون ، وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ، وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ، أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون ، إني إذا لفي ضلال مبين ، إني آمنت بربكم فاسمعون ، قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون ، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ).
تقدم الكلام على اضرب مع المثل في قوله : ) أن يضرب مثلا ما بعوضة ( [ البقرة : 26 ] والقرية : انطاكية فلا خلاف في قصة أصحاب القرية ( إذ جاءها المسلون ) هم ثلاثة جمعهم في المجيء وإن اختلفوا في زمن المجيء ( إذ أرسلنا إليهم اثنين ) الظاهر من ( أرسلنا ) أنهم أنبياء أرسلهم الله ، ويدل عليه قوله المرسل إليهم ( ما أنتم إلا بشر مثلنا ) وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله الله . وهذا قول ابن عباس وكعب . وقال قتادة : ' وغيرهم من الحواريين بعثم عيسى - عليه السلام - حين رفع وصلب الذي ألقي عليه الشبه فافترق الحواريون في الآفاق فقص الله قصة الذين ذهبوا إلى أنطاكية وكان أهلها عباد أصنام صادق وصدوق قاله وهب وكعب الأحبار ' ، وحكى النقاش بن سمعان ويحنا . وقال مقاتل : ' تومان ويونس ' . ( فكذبوهما ) أي : دعواهم إلى الله وأخبرا بأنهما رسول الله فكذبوهما ( فعززنا بثالث ) أي : قوينا وشددنا قاله مجاهد وابن قتيبة . وقال : يقال تعزز لحم الناقة إذا صلب ' . وقال غيره : يقال المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدها ، ويقال للأرض الصلبة القرآن هذا على قراءة تشديد الزاي ، وهي قراءة الجمهور . وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو بكر والمفضل وأبان بالتخفيف . قال أبو علي : : ' فغلبنا ' ، انتهى وذلك من قولهم : : من عزني وقوله تعالى ) وعزني في الخطاب ( ، وقرأ عبد الله ( بالثالث ) بألف ولام . والثالث . شمعون الصفا قاله ابن عباس . وقال كعب ووهب ' شلوم ' . وقيل : يونس . وحذف مفعول ( فعززنا ) مشددا . أي : قويناهما بثالث . مخففا . فغلبناهم . أي : بحجة ثالث وما يلطف به من التوصل إلى الدعاء إلى الله حتى من الملك على ما ذكر في قصتهم . وستأتي هي أو بعض منها إن شاء الله وجاء أولا ( مرسلون ) بغير لام ، لأنه ابتداء أخبار فلا يحتاج إلى توكيد بعد المحاورة ( لمرسلون ) بلام التوكيد لأنه جواب عن إنكار ، وهؤلاء أمة أنكرت النبوات بقولها ( وما أنزل الرحمن من شيء ) وراجعتهم الرسل بأن ردوا إلى الله ، وقنعوا بعلمه ، وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط ، وما عليهم من هداهم وضلالهم ، وفي هذا وعيد لهم . ووصف البلاغ بالمبين وهو الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الميت ) قالوا إنا تطيرنا بكم ( أي : تشاءمنا . قلال مقاتل : ' احتبس عليهم المطر ' . وقال آخر : ' أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل ' ، قال ابن عطية : ' والظاهر أن تطير هؤلاء كان ما سبب ما دخل فيهم من اختلاف الكلمة ، وافتتان الناس . وهذا على نحو تطير قريش بمحمد - ( صلى الله عليه وسلم ) - وعلى نحو ما خوطب به موسى - عليه السلام - ' وقال الزمخشري : ' وذلك أنهم كرهوا دينهم ، ونفرت منه نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه ، وقبلته طباعهم ، وتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه ، فإن أصابتهم نعمة ، أو بلاء قالوا ببركة هذا ، وبشؤم هذا ، كما حكى الله عن القبط ) وإن نصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ( [ الأعراف : 131 ] وعن مشركي مكة ) وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ( [ النساء 78 ] انتهى . وعن قتادة : ' إن أصابنا شيء كان من أجلكم ( لنرجمنكم ) بالحجارة . قاله قتادة ( عذاب أليم ) هو الحريق . ( قالوا طائركم معكم ) أي : حظكم وما صار لكم من خير أو شر معكم . أي من أفعالكم ليس هو من أجلنا بل بكفركم . وقرأ الحسن وابن هرمز وعمرو بن عبيد وزر بن حبيش ( طيركم ) بياء ساكنة بعد الطاء . وقرأ الحسن فيما نقل ( أطيركم ) مصدر ' أطير '

" صفحة رقم 314 "
الذي أصله تطير ، فأدغمت التاء في الطاء فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر . وقرأ الجمهور ( طائركم ) على وزن فاعل وقرأ الجمهور ( ا~ن ذكرتم ) بهمزتين ، الأولى : همزة الاستفهام . والثالنية : همزة إن الشرطية ، فخففها الكوفيين وابن عامر . وسهلها باقي السبعة . وقرا زر بهمزتين مفتوحتين ، وهي قرأة أبو جعفر وطلحة إلا أنها لبناء الثانية بين بين . وقال الشاعر في تحقيقها : أإن كنت داود بن أحوى مرحلا
فلست بداع لأبن عمك محرما
والماجشوني : وهو أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة المدني بهمزة واحدة مفتوحة . والحسن بهاء مكسورة . وأبو عمرو في رواية وزر أيضا بمدة قبل الهمزة المفتوحة . واستقل اجتماعهما ففصل بينهما بألف . وقرأ أبو جعفر أيضا والحسن أيضا وقتادة وعيسى الهمداني والأعمش ( أين ) بهمزة مفتوحة وياء ساكنة وفتح النون ظرف مكان . وروي هذا عن عيسى الثقفي أيضا . فالقراءة الأولى على معنى إن ذكرتم تتطيرون بجعل المحذوف مصب الاستفاهم على مذهب سيبوبة . ويجعله للشرط على مذهب يونس . فإن قدرته مضارعا كان مجزوما . والقراءة الثانية على معنى : ألأن ذكرتم تطيرتم فإن مفعول من أجله وكذلك الهمزة الواحدة المفتوحة ، والتي بمدة قبل الهمزة المفتوحة . وقراءة الهمزة المكسورة وحدها فحرف شرط بمعنى الإخبار . أي : إن ذكرتم تطيرتم . والقراءة الثانية الأخيرة ( أين ) فيها ظرف ، أداة الشرط حذف جزاؤه للدلالة عليه . وتقديره : أين ذكرتم صحبكم طائركم . ويدل عليه قوله ( طائركم معكم ) ومن جوز تقديم الجزاء على الشرط وهم الكوفيون وأبو زيد والمبرد يجوز أن يكون الجواب ( طائركم معكم ) وكان أصله : أين ذكرتم فطائركم معكم . فلما قدم حذفت الفاء . وقرأ الجمهور ( ذكرتم ) بتشديد الكاف . وأبو جعفر وخالد بن الياس وطلحة وحسن وقتادة وأبو حيوة والعمش من طريق زائدة والأصمعي عن نافع بتخفيفها ( بل أنتم قوم مسرفون ) مجاوزون الحد في ضلالكم فمن ثم أتاكم الشؤم : ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) اسمه : حبيب ، قاله ابن عباس ، وأبو مجلز ، وكعب الأحبار ، ومجاهد ، ومقاتل ، قيل : وهو ابن إسرائيل وكان قصارا . وقيل : كان ينحت الأصنام . ويمكن أن يكون جامعا لهذه الصنائع و ( من أقصى المدينة ) أي : من أبعد مواضعها ، فقيل : كان في خارج المدينة يعاني زرعا له . وقيل : كان في غار يعبد ربه وقيل : كان مجذوما فميز له أقصى باب من أبوابها عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضرة فلما دعاه الرسل إلى عبادة الله قال هل من آية ؟ قالوا نعم : ندعوا ربنا القادر يفرج عنك ما بك فقال : إن هذا لعجيب لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع يفرجه ربكم في غداة واحدة . قالوا : نعم ، وربنا على ما يشاء قدير وهذه لا تنفع شيء ولا تضر فآمن ، ودعوا ربهم فكشف الله ما به كأن لم يكن به بأس ، فأقبل على التكسب فإذا مشى تصدق بكسبه ، نصف لعياله ، ونصف يطعمه . فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهم فقال ( يا قوم اتبعوا المرسلين ) وحبيب هذا ممن آمن برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبينهما ستمائة سنة كما آمن به تبع الأكبر ، وورقة بن نوفل ، وغيرهما . ولم يؤمن بني غيره أحد إلا بعد ظهوره . وقال ابن أبي ليلى ' سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين علي بن أبي طالب ، وصاحب يس ومؤمن آلا فرعون ' . وأورد الزمخشري قول ابن أبي ليلى حديثا عن رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - وتقدم قبل من حاله أنه كان مجذوما عبد الصنام سبعين فالله أعلم ' . وهنا تقدم ( من أقصى المدينة ) وفي القصص تأخر وهو من التفنن في البلاغة ( رجل يسعى ) يمشي على قدميه ( قال يا قوم اتبعوا المرسلين ) الظاهر أنه لا يقول ذلك إلا بعد تقدم إيمانه كما سبق في قصة . وقيل : جاء عيسى وسمع قولهم وفهمه فيما فهمه . روي : ' أنه تعقب أمرهم وسبره بان قال لهم : أتطلبون أجرا على دعوتكم ؟ قالوا : لا فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم

" صفحة رقم 315 "
واحتج عليهم بقوله ( اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ) أي : وهم على هدى من الله . أمرهم أولا باتباع المرسلين . أي : هم رسل الله إليكم ، فاتبعوهم . ثم أمرهم ثانيا بجملة جامعة في الترغيب في كونهم لا ينقص منهم من حطام دنياهم شيء ، وفي كونهم يهتدون بهداهم فيشتملون على خيري الدنيا والاخرة . وقد أجاز بعض النحويين في ( من ) أن تكون بدلا من ( المرسلين ) ظهر فيه العامل كما ظهر فيه إذا كان حرف جر كقوله تعالى : ) لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم ( [ الزخرف : 33 ] والجمهور لا يعربون ما صرح فيه بالعامل الرافع والناصب بدلا ، بل يجعلون ذلك مخصوصا بحرف الجر ، وإذا كان الرافع والناصب سموا ذلك بالتتبيع لا بالبدل ، وفي قوله ( اتبعوا من لا يسألكم أجرا ) دليل على نقص من يأخذ أجرا على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة كالصلاة . ولما أمرهم باتباع المرسلين أخذ يبدي الدليل في اتباعهم وعبادة الله فأبرزه في صورة نصحه لنفسه ، وهو يريد نصحهم ليتلطف بهم ويراد بهم ، ولأنه أدخل في امحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا مل يريد لنفسه فوضع قوله ( ومالي لا أعبد الذي فطرني ) موضع ( ومالكم لا تعبدون الذي فطركم ، ولذلك قال ( وإليه ترجعون ) ولولا أنه قصد ذلك لقال وإليه أرجع . ثم أتبع الكلام كذلك مخاطبا لنفسه ، فقال ( أأتخذ من دونه ى لهة ) قاصرة عن كل شيء لا تنفع ولا تضر ، فإن أرادكم الله بضر وشفعت لكم لم تنفع شفاعتهم ، ولم يقدروا على إنقاذكم فيه . أولا بانتفاء الجاه عن كون شفاعتهم لا تنفع ، ثم ثانيا بانتفاء القدرة فعبر بانتفاء الإنقاذ عنه إذ هو نتيجته . وفتح ياء المتكلم في ( يردني ) مع طلحة السمان . كذا في كتاب ابن عطية . وفي كتاب ابن خالوية طلحة بن مطرف ، وعيسى الهمداني ، وأبو جعفر ، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو . وقال الزمخشري : ' وقرىء ( إن يردني الرحمن بضر ) بمعنى ان يجعلني موردا للضر . انتهى . وهذا والله أعلم رأي في كتب القراءات ( يردني ) بفتح الياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعديا بالياء المعدية كالهمزة ، فلذلك أدخل عليه همزة التعدية ونصب به اثنين . والذي في كتب القراء الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطا ونطقا لالتقاء الساكنين . قال في كتاب ابن خالوية : ' بفتح ياء الإضافة ' ، وقال في اللوامح : ( إن يردني الرحمن ) بالفتح وهو أصل الياء عند البصرية ، ولكن هذه محذوفة يعني البصرية . أي المثبتة بالخط البربري بالبصر لكونها مكتوبة بخلاف المحذوفة خطا ولفظا فلا ترى بالبصر ' . ( إني إذا ) إن لم أعبد الذي فطرني واتخذت آلهة من دونه في حيرة واضحة لكل ذي عقل صحيح . ثم صرح بإيمانه وصدع بالحق فقال مخاطبا لقومه ( إني آمنت بربكم ) أي : الذي كفرتم به ( فاسمعون ) أي : اسمعوا قولي وأطيعون . فقد نبهتكم على الحق ، وأن العبادة لا تكون إلا لمن منه نشأتكم ، وإليه مرجعكم ، والظاهر : أن الخطاب بالكاف والميم وبالواو وهو لقومه . والأمر على جهة المبالغة والتنبيه ، قاله ابن عباس وكعب ووهب . وقيل : خاطب بقوله ( فاسمعون ) الرسل على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ للأمر عندهم . وقيل : الخطاب في ( بربكم ) وفي ( فاسمعون ) للرسل لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل فقال ذلك ، أي : اسمعوا إيماني واشهدوا لي به . ( قيل ادخل الجنة ) ظاهرة : أنه أمر حقيقي . وقيل : معناه وجبت لك الجنة فهو خبر بأنه قد استحق دخولها ، ولا يكون إلا بعد البعث , ولم يأت في القرآن أنه قتل فقال الحسن : ' لما أراد قومه قتله رفعه الله غلى السماء فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السموات وهلاك الجنة فإذا أعاد الله الجنة دخلها ' . وقيل : لما قال ذلك رفعوه إلى الملك فطول معهم الكلام ليشغلهم عن قتل الرسل إلى أن صرح لهم بإيمانه فوثبوا عليه فقتلوه بوطء الأرجل حتى خرج قلبه من دبره وألقي في

" صفحة رقم 316 "
بئر وهي الرس ' . وقال السدي : ' رموه بالحجارة وهو يقول : اللهم اهد قومي حتى مات ' . وقال الكلبي : ' رموه في حفرة وردوا التراب عليه فمات ' . وعن الحسن : حرقوه حرقا ، وعلقوه في باب المدينة وقبره في سور أنطاكية . وقيل : نشروه بالمناشير حتى خرج من بين رجليه . وعن قتادة : ' أدخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق ' . أراد قوله تعالى : ) بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين ( [ آل عمران : 169 ، 170 ] وفي النسخة التي طالعنا من تفسير ابن عطية ما نصه . وقرأ الجمهور ( فاسمعون ) بفتح النون ، قال أبو حاتم : ' هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر فإما حذف النون وإما كسرها على جهة البناء ' . انتهى . يعني ياء المتكلم والنون للوقاية . وقوله : وقرأ الجمهور ، وهم فاحش ، ولا يكون والله أعلم إلا من الناسخ ، بل القراء مجمعون فيما أعلم على كسر النون سبعتهم وشواذهم إلا ما روي عن عصمة عن عاصم من فتح النون ذكره في الكامل مؤلف أبي القاسم الهذلي ولعل ذلك وهم من عصمة ، وقال ابن عطية : ' هنا محذوف تواترات به الأحاديث والروايات وهو أنهم قتلوه ، فقيل له عند موته ادخل الجنة ، وذلك - والله أعلم - بأن عرض عليه مقعده منها ، وتحقق أنه من ساكنيها ، فرأى ما أقر عينه ، فلما حصل ذلك تمنى أن يعلم قومه بذلك ' . انتهى . وقول ( قيل ادخل الجنة ) كأنه جواب لسائل عن حالة عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه ، فقيل ( ادخل الجنة ) ولم يأت التركيب قيل له ، لأنه معلوم أنه المخاطب . وتمنيه علم قومه بذلك هو مرتب على تقدير سؤال عن ما وجد من قوله عند ذلك ، استيفاقا ، ونصحا لهم . أي : لو علموا ذلك لآمنوا بالله . وفي الحديث : ' نصح قومه حيا وميتا : تمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ في أمره ، وهو على صواب فيندموا ، ويحزنهم ذلك ، ويبشر بذلك . وموجود في طباع البشر أن من أصاب خيرا في غير موطنه ود أن يعلم بذلك جيرانه وأترابه الذين نشأ فيهم . وبلغنا أن الوزير ذنك الدين المسيري وكان وزيرا لملك مصر راح إلى قريته التي كان منها وهي مسير وهي من أصغر قرى مصر فقيل له في ذلك ، فقال : أردت أن يراني عجائز مسير في هذه الحالة التي أنا فيها . قال الشاعر : والعز مطلوب وملتمس
وأحبه ما نيل في الوطن
والظاهر : أن ( ما ) في قوله ( بما غفر لي ربي ) مصدرية . جوزوا أن يكون بمعنى الذي والعائد محذوف . تقديره : بالذي غفره لي ربي من الذنوب . وليس هذا بجيد ، إذ يؤول إلى تمنى علمهم بالذنوب المغفرة . والذي يحسن تمنى علمهم بمغفرة ذنوبه ، وجعله من المكرمين . وأجاز الفراء أن تكون ( ما ) استفهاما ، وقال الكسائي : ' لو صح هذا يعني الاستفهام لقال بم من غير ألف ' . وقال الفراء : ' يجوز أن يقال بما بالألف وأنشد فيه أبياتا ' . وقال الزمخشري : ' ويحتمل أن تكون استفهامية ، يعني : بأي شيء غفر لي ربي ؟ يريد ما كان منه معهم من المصابرة لإعزاز دين الله حتى قيل : إن قولك ( بما غفر لي ربي ) يريد ما كان منه معهم بطرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزا فقال : قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت ' . انتهى . والمشهور أن إثبات الألف في ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر مختص بالضرورة نحو قوله : على ما قام يشتمني لئيم
كخنزير تمرغ في رماد
وحذفها هو المعروف في الكلام نحو قوله : على م يقول الرمح يثقل كاهلي
إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت

" صفحة رقم 317 "
وقرىء ( من المكرمين ) مشدد الراء مفتوح الكاف . والجمهور بإسكان الكاف وتخفيف الراء .
( وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين ، إن كانت الا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ، يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ، ألم يرو كم أهلكنا من القرون أنهم غليهم لا يرجعون ، وإن كل لما جميع لدينا محضرون ، وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون ، وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ، سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ، وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقير العزيز العليم ، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ، وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ، وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون ، إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين ).
أخبر تعالى بإهلاك قوم حبيب بصيحة واحدة ، صاح بهم جبريل . وفي ذلك توعد لقريش أن يصيبهم ما أصابهم إذ هم المضروب لهم المثل . وأخبر تعالى أنه ينزل عليهم لإهلاكهم ( جندا من السماء ) كالحجارة والريح وغير ذلك ، وكانوا أهون عليه . وقوله ( من بعده ) يدل على ابتداء الغاية . أي : لم يرسل إليهم رسولا ولا عاتبهم بعد قتله ، بل عاجلهم بالهلاك . والظاهر : أن ( ما ) في قوله ( وما كنا منزلين ) نافية . فالمعنى قريب من معنى الجملة قبلها . أي : وما كان يصح في حكمنا أن ننزل في إهلاكهم جندا من السماء ، لأنه تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض كما قال ) فكلا أخذنا بذنبه ( [ العنكبوت 40 ] الآية . وقالت فرقت ( ما ) اسم معطوف على ( جند ) ، قال ابن عطية : ' أي : من جند ومن الذي منا منزلين على الأمم مثلهم ' . انتهى . وهو تقدير لا يصح ، لأن ( من ) في ( من جندد ) زائدة . ومذهب البصريين غير الأخفش أن لزيادتها شرطين ، أحدهما . أن يكون قبلها نفي أو نهي أو استفهام والثاني : أن يكون بعدها نكرة . وإن كان كذلك فلا يجوز أن يكون المعطوف على النكرة معرفة . لا يجوز ما ضربت من رجل ولا زيد . وإنه لا يجوز ولا من زيد . وهو . قدر المعطوف بالذي وهو معرفة فلا يعطف على النكرة المرورة بمن الزائدة . وقال أبو البقاء : ' ويجوز أن تكون ( ما ) زائدة . أي وقد كنا منزلين ' . وقوله ليس بشيء . وقرأ ( إن كانت إلا صيحة ) بنصب الصيحة . و ( كان ) ناقصة واسمها مضمر . أي : أن كانت الأخذة أو العقوبة . وقرأ أبو جعفر وشيبة ومعاذ بن الحارث القارىء ( صيحة ) ' بالرفع في الموضعين على أن ( كانت تامة . أي : ما حدثت أو وقعت إلا صيحة . وكان الأصل لا يلحق التاء ، لأنه إذا كان الفعل مسندا إلى ما بععد إلا من المؤنث لم تلحق العلامة للتأنيث ، فيقول : ما قام إلا هند . ولا يجوز ما قامت إلا هند عند أصحابنا إلا في الشعر . وجوزه بعضهم في الكلام على قلة ومثله قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء والجحدري وقتادة وأبي حيوة وابن أبي عبلة وأبي بحرية ) لا ترى غلا مساكنهم ( [ الأحقاف : 25 ] بالتاء والقراءة المشهورة بالياء . وقول ذي الرمة : وما بقيت إلا الضلوع الجراشع
وقول الآخر : ما ربرئت من ريبة وذم
في حربنا إلا بنات العم
فأنكر أبو حاتم وكثير من النحويين هذه القراءة بسبب لحوق تاء التأنيث ( فإذا هم خامدون ) أي : فاجأهم الخمود إثر

" صفحة رقم 318 "
الصيحة لم يتأخر . وكنى بالخمود عن سكوتهم بعد حياتهم كنار خمدت بعد توقدها . ونداء الحسرة على معنى هذا وقت حضورك وظهورك هذا تقدير نداء مثل هذا عند سيبوية . وهو منادى منكور على قراءة الجمهور . وقرأ أبي وابن عباس وعلي بن الحسين والضحاك ومجاهد والحسن ( يا حسرة العباد ) على الإضافة ، فيجوز أن تكون الحسرة منهم على ما فاتهم . ويجوز أن تكون الحسرة من غيرهم عليهم لما فاتهم من أتباع الرسل حين أحضروا للعذاب ، وطباع البشر تتأثر عند معانيه عذاب غيرهم وتتحسر عليهم . وقرأ أبو الزناد وعبد الله بن ذكوان المدني وابن هرمز وابن جندب ( يا حسره على العباد ) بسكون الهاء في الحالين . حمل فيه الوصل على الوقف . ووقفوا على الهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التأهة كالتأوة ثم وصلوا على تلك الحال ، قاله صاحب اللوامح ، وقال بانب خالوية ' ( يا حسرة على العباد ) بغير تنوين قاله ابن عباس ' . انتهى ووجهه أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف التي هي بدل من ياء المتكلم في النداء كما اجتزأ بالكسرة عن الياء فيه . وقد قرىء ( يا حسرتا ) بالألف أي : يا حسرتي . ويكون من الله على سبيل الآستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم وفرط إنكاره وتعجيبه منه . والظاهر : أن العباد هم مكذبو الرسل تحسرت عليهم الملائكة . قاله الضحاك ، وقال الضحاك أيضا : ' المعنى . يا حسرة الملائكة على عبادنا الرسل حتى لم ينفعهم الإيمان لهم ' وقال ا [ و العالية : ' المراد بالعباد : الرسل الثلاثة . وكأن هذا التحسر هو من الكفار حين رأوا عذاب اللله تلهفوا على ما فاتهم . قال ابن عطية : ' وقوله ( ما يأتيهم ) الآية بدفع هذا التأويل ' . انتهى قال الزجاج : ' الحسرة : أمر يركب الإنسان من كثرة الندم على ما لا نهاية له حتى يبقى حسيرا ' . وقيل : المنادى محذوف . وانتصب ( حسرة ) على المصدر . أي : يا هؤلاء تحسروا حسرة . وقيل : ( يا حسرة على العباد ) من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لما وثب القوم لقتله . وقيل : هو من قول الرسل الثلاثة ، قالوا ذلك حين قتلوا ذلك الرجل ، وحل بهم العذاب ، قالوا يا حسرة على هؤلاء ، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد آمنوا ' . انتهى . فالألف واللام للعهد إذا قلنا : إن العباد المراد بهم الرسل الثلاثة أو من أرسلوا إليه ، وهم الهالكون بسبب كفرهم وتكذيبهم إياهم . والظاهر أنها لتعريف جنس الكفار المكذبين . وتلخص : أن المتحسر الملائكة ، أو الله تعالى ، أو المؤمنون ، أو الرسل الثلاثة ، أو ذلك الرجل . أقوال ( ما يأتيهم ) إلى آخر الآية . تمثيل لقريش ، وهم الذين عاد عليهم الضمير في قوله ( ألم يروا كم أهلكنا ) ، قال ابن عطية : ' و ( كم ) هنا خبرية و ( أنهم ) بدل منها ، والرؤية رؤية البصر ' . انتهى . فهذا لا يصح لأنها إذا كانت خبرية فهي في موضع نصب ب ( أهلكنا ) ولا يسوغ فيها ، إلا ذلك . وإذا كان كذلك امتنع لأن يكون ( أنهم ) بدل منها لأن البدل على نية تكرار العامل ولو سلطت ( أهلكنا ) على ( أنهم ) لم يصح . ألا ترى أنك لو قلت . أهلكنا انتفاء رجوعهم أو أهلكنا كونهم لا يرجعون . لم يكن كلاما ، لكن ابن عطية توهم أن ( يروا ) مفعوله ( كم ) فتوهم أن قولهم ( أنهم لا يرجعون ) بدل لأنه يسوغ أن يتسلط عليه ، فتقول : ألم يروا أنهم لا يرجعون . وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية . وقال الزجاج : ' هو بدل من الجملة . والمعنى : ألم يروا أن القرون التي أهلكناها إليهم لا يرجعون ، لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى النهي ' . وهذا الذي قاله الزجاج ليس بشيء ، لأنه ليس بدلا صناعيا . وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صنعة النحو . وقال أبو البقاء : ' أنهم إليهم انتهى . وليس بشيء ، لأن ( كم ) ليس بمعمول ل ( يروا ) ونقل عن الفراء أنه يعمل ( يروا ) في الجملتين من غير إبدال وقولهم في الجملتين تجوز لأن ( أنهم ) وما بعده ليس بجملة ولم يبين كيفية هذا العمل . وقال الزمخشري : ( ألم يروا ) ألم يعلموا وهو معلق عن العمل في ( كم ) لا يعمل فيها عامل قبلها ، كانت للاستفاهم أو للخبر ، لأن أصلها الاستفهام إلا أن معناها نافذ في الجملة . كما نفذ في قولك : الم يروا أن زيدا لمنطلق . وإن لم تعمل في لفظه و ( أنهم إليهم لا يرجعون ) بدل من ( أهلكنا ) على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين

" صفحة رقم 319 "
إليهم ' . انتهى . فجعل ( يروا ) بمعنى يعلموا ، وعلقها على العمل في ( كم ) وقوله : ' لأن ( كم ) لا يعمل فيها ما قبلها كانت للاستفهام أو للخبر ' . وهذا ليس على إطلاقه ، لأن العامل إذا كان حرف جر ، أو أسما مضافا ، جاز أن يعمل فيها نحوكم . على كم جذع بيتك ؟ وأين كم رئيس صحبت ؟ وعلى كم فقير تصدقت ؟ أرجو الثواب ؟ وأين كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه ؟ قوله : ' أو للخبر ' الخبرية فيها لغتان الفصيحة كما ذكر ، لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار . واللغة الأخرى حكاها الأخفش يقولون فيها : ملكت كم غلام . أي : ملكت كثيرا من الغلمان . فكما يجوز أن يتقدم العامل على كثير كذلك يجوز أن يتقدم على كم ، لأنها بمعناها . وقوله : ' لأن أصلها الاستفهام ' ليس أصلها الاستفهام ، بل كل واحدة أصل في بابها لكنها لفظ مشترك بين الاستفهام والخبر . وقوله : ' إلا أن معناها نافذ في الجملة ' . يعني : معنى ( يروا ) نافذ في الجملة ، لأن جعلها معلقة وشرح ب ( يعلموا ) . وقوله كما تقدم في قولك - ألم يروا ان زيدا لمنطلق . فإن زيدا لمنطلق معمول من حيث المعنى ل ( يروا ) ولو كان عاملا من حيث اللفظ لم تدخل اللام وكانت أن مفتوحة كإن وفي خبرها اللام من الأدوات التي تعلق أفعال القلوب . وقوله : ' وأنهم لا يرجعون ' إلى آخر كلامه . لا يصح أن يكون بدلا لا على اللفظ ولا على المعنى . أما على اللفظ ، فإنه زعم أن ( يروا ) معلقة فيكون ( كم ) استفهاما وهو معمول ل ( أهلكنا ) و ( أهلكنا ) لا يتسلط على ( أنهم إليهم لا يرجعون ) وتقدم لنا ذلك . وأما على المعنى فلا يصح أيضا ، لأنه قال تقديره : أي على المعنى ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم ، فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك فلا يكون بدل كل من كل ، ولا بعضا من الإهلاك ، ولا يكون بدل بعض من كل ، ولا يكون بدل اشتمال ، لأن بدل الاشتمال يصح أن يضاف إلى ما أبدل منه . وكذلك بدل بعض من كل وهذا لا يصح هنا ، لا تقول : ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم وفي بدل الاشتمال نحو . أعجبني الجارية ملاحتها . وسرق زيد ثوبه يصح : أعجبني ملاحة الجارية . وسرق ثوب زيد . وتقدم لنا الكلام على إعراب مثل هذه الجملة في قوله : ) ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ( [ الأنعام : 6 ] في سورة الأنعام والذي تقتضيه صناعة العربية أن ( أنهم ) معمول المحذوف ودل عليه المعنى . وتقديره : قضينا أو حكمنا أنهم إليهم لا ذلك على أن قراءة الفتح مقطوعة عن ما قبلها من جهة الإعراب لتتفق القراءتان ولا تختلفا . والضمير في ( أنهم ) عائد على معنى ( كم ) وهم القرون . و ( إليهم ) عائد على من أسند إليه ( يرو ) وهم قريش . فالمعنى : أنهم لا يرجعون إلى من في الدنيا وقيل : الضمير في ( انهم ) عائد على من أسند إليه ( يروا ) وفي ( إليهم ) عائد على المهلكين . والمعنى : أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة . أي : أهلكناهم ، وقطعنا نسلهم . والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم . وقرأ عبد الله ( ألم يروا من أهلكنا ) ( أنهم ) هلى هذا بدل اشتمال . وفي قولهم ( أنهم لا يرجعون ) رد على القائلين بالرجعة . وقيل لابن عباس : إن قوما يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة فقال : ليس القوم نحن إذا نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه ' . وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر بتثقيل ( لما ) وباقي السبعة بتخفيفا . فمن ثقلها كانت عنده بمعنى إلا و ( إن ) نافية . أي : ما كل . أي : كلهم إلا ( جميع لدينا محضرون ) . أي : محشرون . قاله قتادة . وقال ابن سلام : ' معذبون ' ، وقيل : التقدير لمن ما وليس بشيء ومن خفف ( لما ) جعل ( إن ) المخففة من الثقيلة و ( ما ) زائدة . أي : إن كل لجميع ، وهذا على مذهب البصريين . وأما الكوفيون ف ( إن ) عندهم نافية واللام بمعنى إلا و ( ما ) زائدة . و ( لما ) المشددة بمعنى غلآ ثابت في لسان العرب بنقل الثقات ، فلا يلتفت إلى زعم الكسائي لأنه لا يعرف ذلك . وقال أبو عبد الله الرازي : ' في كون لما بمعنى إلا معنى مناسب ، وهو أن لما كأنها حرفا نفي جميعا وهما لم وما فتأكد النفي وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا فاستعمل أحدهما مكان الآخرة ' انتهى . . وهذا أخذه من قول الفراء في ألا في الاستثناء أنها مركبة من إن ولا إلا أن الفراء جعل أن المخففة من الثقيلة وما الزائدة . أي : عن كل لجميع ، وهذا على مذهب البصريين . وأما الكوفيون و ( إن ) عندهم مافية والللام بمعنى إلا و ( ما ) زائدة . ولما المشددة بمعنى إلا ثابت حرف مفي ، وهو قول مردود عند النحاة ركيك وما تركب منه وزاد تحريفا أرك منه . و ( كل ) بمعنى الإحاطة . و ( جميع ) فعيل بمعنى

" صفحة رقم 320 "
مفعول ويدل على الاجتماع . و ( جميع ) ( محضرون ) هنا على المعنى كما أفرد منتصر على اللفظ ، وكلاهما بعد جميع يراعى فيه الفواصل . وجاءت هذه الجملة بعد ذكر للإهلاك تبيينا أنه تعالى ليس من أهله يترك بل بعد إهلاكهم جمع ، وحساب ، وثواب ، وعقاب ، ولذلك أعقب هذا بما يدل على الحشر من قوله ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ) وما بعده من الآيات . وبدأ بالأرض ، لأنه مستقرهم ، حركة وسكونا ، حياة وموتا . وموت الأرض : جدبها ، وإحياؤها بالغيث . والضمير في ( لهم ) عائد على كفار قريش ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر ، و ( أحييناهم ) استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية ، وكذلك نسلخ . وقيل : ( أحييناها ) في موضع الحال ، والعامل فيها ( آية ) بما فيها من معنى الإعلام ويكون ( آية ) خبرا مقدما و ( الأرض الميتة ) مبتدأ ، فالنية بآية التأخير . والتقدير : والأرض الميتة آية لهم محياة ، كقولك : قائم زيد مسرعا . أي : زيد قائم مسرعا . و ( لهم ) متعلق بآية لا صفة ، وقال الزمخشري : ' ويجوز أن يوصف الأرض والليل بالفعل ، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض وليل بإحيائهما فعوملا معاملة النكرات في وصفها بالأفعال ' . ونحوه : ولقد أمر على اللئيم يسبني
انتهى . وهذا هدم لما استقر عند أئمة النحو من أن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة . ولا دليل لمن ذهب إلى ذلك وأما يسبنى فحال . أي : سابا لي . وقد تبع الزمخشري ابن مالك على ذلك في التسهيل من تأليف . وفي هذه الجمل تعدد نعم إحياؤها بحيث تصير مخضرة ، تبهج النفس والعين ، وإخراج الحب منها ، حيث صار ما يعيشون به في المكان الذي هم فيه مستقرون لا في السماء ولا في الهواء ، وجعل الحبات لأنهم أكلوا من الحب وربما تاقت النفس غلى النقلة فالأرض يوجد منها الحب ، والشجر يوجد منه الثمر ، وتفجير العيون يحصل به الاعتماد على تحصيل الزرع والثمر ، ولو كان من السماء لم يدر أين يغرس ولا يقع المطر . وقرأ جناح بن حبيش ( وفجرنا ) بالتخفيف . والجمهور بالتشديد . ومن ثمره ) بفتحتين . وطلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي بضمتين . والأعمش بضم الثاء وسكون الميم . والضمير في ( ثمره ) عائد على الماء ، قيل : لدلالة العيون عليه ، ولكونه على حذف مضاف . أي : من ماء العيون . وقيل على النخيل واكتفى به للعلم في اشتراك الأعيان فيما علق به النخيل من أكل ثكره أو يراد من ثمر المذكور وهو الجنات كما قال الشاعر : فيها خطوط من سواد وبلق
كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له : كيف قلت بعيون كأنه والذي تقدم خطوط ؟ فقال : أرت كان ذاك . وقيل : عائد إلى التفجير الدال عليه ( وفجرنا ) الآية أقرب مذكور . وعنى ب ( ثمره ) فوائده كما تقول ثمرة التجارة الربح . وقال الزمخشري : ' وأصله : من ثمرنا . كما قال ( وجعلنا ) ( وفجرنا ) فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات . والمعنى : ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر ، ومما عملته أيديهم من الغرس ، والسقي ، والآبار ، وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه . وبأن أكله يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه . وفيه آثار من كد بني آدم . ويجوز أن تكون ( ما ) نافية على أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ، ولا يقدرون على خلقه . وقرأ الجمهور ( وما علمته ) بالضمير فإن كانت ( ما ) موصولة فالضمير عائد عليها وإن كانت نافية فالضمير عائد على الثمر . وقرأ طلحة وعيسى وحمزة والكسائي وأبو بكر بغير ضمير . مفعول ( علمت ) على التقديرين محذوفة . وجوز في هذه القراءة أن تكون ( ما ) مصدرية . أي : وعمل أيديهم . وهو مصدر أريد به المعمول فيعود إلى معنى الموصول . ولما عدد تعالى هذه النعم حض على الشكر فقال ( أفلا تشكرون ) ثم نزه تعالى نفسه عن كل ما يلحد به ملحد ، أو يشرك به مشرك ، فذكر إنشاء الزواج وهي الأنواع من جميع الأشياء مما تنبت الأرض من النخل والشجر والزرع

" صفحة رقم 321 "
والثمر وغير ذلك . وكل صنف زوج ، مختلف لونا وطعما وشكلا وصغرا وكبرا ( ومن أنفسهم ) ذكورا وإناثا ( مما يعلمون ) أي : أنواعا مما لا يعلمون أعلموا بوجوده ولم يعلموا ما هو ، إذ لا يتعلق علمهم بما هيته أمر محتاج إليه في دين ولا دنيا . وفي إعلامه بكثرة مخلوقاته دليل على اتساع ملكه ، وعظم قدرته . ولما ذكر تعالى الاستدلال بأحوال الأرض وهي المكان الكلي ذكر الاستدلال بالليل والنهار وهو الزمان الكلي وبينهما مناسبة ، لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر ، والزمان لا تستغني عنه الأعراض ، لأن كل عرض فهو في زمان ومثله مذكور في قوله : ) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ( [ فصلت : 37 ] ثم قال بعده ) ومن آياته أنك ترى الأرض هامدة ( [ فصلت : 39 ] الآية وبدأ هناك بالزمان ، لأن المقصود إثبات الوحدانية بدليل قوله ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ) الآية . ثم الحشر بقوله ( إن الذي أحياها لمحيي الموتى ) وهذا المقصود الحشر أولا ، لأن ذكره فيها أكثر ، وذكر التوحيد في فصلت أكثر بدليل قوله ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض ) انتهى . وهو من كلام أبي عبد الله الرازي وفيه تلخيص . و ( نسلخ ) معناه : نكشط ونقشر ، وهو استعارة لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل . و ( مظلمون ) داخلون في الظلام كما ثقول أعتمنا وأسحرنا ، دخلنا في العتمة وفي السحر . واستدل قوم بهذا على أن الليل اصل والنهار فرع طارىء عليه ، ومستقر الشمس بين يدي العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها كما جاء في حديث أبي ذر ( ويقال لها اطلعي من حيث طلعت فإذا كان طلوعها من مغربها يقال لها اطلعي من حيث غربت فذلك حين ) لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ( [ الأنعام : 158 ] ، وقال ابن عباس : ' إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه استوت تحت العرش إلى ان تطلع ' . وقال الحسن : ' للشمس في السنة ثلاثمائة وستون مطلعا ، تنزل كل يوم مطلعا ، ثم لا تنزل إلى الحول وهي تجري في فلك المنازل ، أو يوم القيامة ، أو غيبوبتها ، لأنها تجري كل وقت إلى حد محدد تغرب فيه ، أو أحد مطالعها في المنقلبين ، لأنهما نهايتها مطالعها فإذا استقر وصولها كرت راجعة وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين ' . ونحا إلى هذا ابن قتيبة أو وقوفها عند الزوال كل يوم ، ودليل استقرارها وقوف ذلك الظلام حينئذ . وقال الزمخشري : ' بمستقر لها لحد لها مؤقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في ى خر السنة . شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره أو كمنتهى لها من المشاق والمغارب لأنها تتقصاها مشرقا مشرقا ، ومغربا مغربا ، حتى تبلغ أقصاها ، ثم ترجع فلذلك حدها ومستقرها لأنها تعدوه أو لا يعدلها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا وهو المغرب . وقيل : مستقرها : محلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها فاستقرت عليه ، وهو آخر السنة . وقيل : الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها ، وهو يوم القيامة ، وقال أبو عبد الله الرازي : ما ملخصه : ' في المستقر وجوه في الزمان وفي المكان ، ففي الزمان الليل ، أو السنة ، أو يوم القيامة . وفي المكان : غاية ارتفاعها في الصيف ، وانخفاضها في الشتاء ، ويجري إلى ذلك الموضع فترجع ، أو غاية مشارقها ، فلها في كل يوم مشرق إلى سنة أشهر ، ثم تعود على تلك المقنطرات ، وهذا هو ما تقدم في الارتفاع ، فإن اختلاف المشارق ، سبب اختلاف الارتفاع ، أو وصولها إلى بيتها في الأسد أو الدائرة التي عليها حركتها حيث لا تميل عن منطقة البروج على مرور الشمس . ويحتمل أن يقال : تجري مجرى مستقرها فإن أصحاب الهيئة قالوا : الشمس في فلك والفلك يدور فيدير الشمس ، فالشمس تجري مجرى مستقرها ' . انتهى . وقرىء ( إلى مستقرها ) ، وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة وعطاء بن رباح وزين العابدين والباقر وابنه الصادق وابن أبي عبدة ( لا مستقر لها ) نفيا . مبنيا على الفتح . فيقتضي انتفاء كل مستقر وذلك في الدنيا ، أي : هي تجري دائما فيها لا تستقر إلا ابن أبي عبلة فإنه قرأ برفع ( مستقر ) وتنويه على

" صفحة رقم 322 "
إعمالها إعمال ليس . نحو قول الشاعر : تعز فلا شيء على الأرض باقيا
ولا وزر مما قضى الله واقيا
الإشارة بذلك غلى جري الشمس . أي : ذلك الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق ، تقدير ( العزيز ) الغالب بقدرته على كل مقدور ، المحيط علما بكل معلوم . وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر وابن محيصن والحسن بخلاف عنه ( والقمر ) بالرفع على الابتداء . وباقي السبعة بالنصب على الاشتغال . . و ( قدرناه ) على حذف مضاف . أي : قدرنا سيره . و ( منازل ) طرف أي منازلة . وقيل : قدرنا نوره فيزيد مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية ، وينقص في المنازل الاستقبالية ، وقيل ( قدرناه ) جعلنا أنه أجرى عكس منازل أنوار الشمس ، ولا يحتاج إلى حذف حرف الصفة فإن جرم القمر المظلم ينزل فيه النور لقبول عكس ضياء الشمس مثل المرآة المجلوة إذا قوبل بها الشعاع ، وهذه المنازل معروفة عند العرب ، وهي ثمانية وعشرون منزلة القمر كل ليلة في واحدة منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو لا بتفاوت يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين ، ثم يسير ليلتين إذا نقص الشهر ، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة وهي : الشرطين ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، ، الدبرة ، الصرفة ، العواء ، السماك ، العفر ، الزباني ، الإكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرع الدلو المقدم ، فرع الدلو المؤخر ، بطن الحوت ، ويقال له : الرشاء ، فإذا كان في ى خر منازله دق واستقوس واصفر فشبه بالعرجون القديم من ثلاثة الأوجه ، وقرأ سليمان التيمي ( كالعرجون ) بكسر العين وفتح الجيم . والجمهور بضمهما . وهما لغتان كالبريون . و ( القديم ) ما مر عليه زمان طويل . وقيل : أقل عدة الموصوف بالقدم حول ، فلو قال رجل : كل مملوك لي قديم فهو حر ، أو كتب ذلك في وصية ، عتق منهم من مضى له حول وأكثر ' . انتهى . والقدم : أمر نسبي وقد يطلق على ما ليس له سنة ، ولا سنتان ، فلا يقال : العالم قديم وإنما تعتبر العادة في ذلك . ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ) ( ينبغي لها ) مستعملة فيما لا يمكن خلافه . أي : لم يجعل لها قدرة على ذلك ، وهذا الإدراك المنبغي هو : قال الزمخشري : ' إن الله تعالى جعل لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسما من الزمان ، وضرب له حدا معلوما ، ودبر أمرهما على التعاقب ، فلا ينبغي للشمس أن يستهل لها ، ولا يصح ولا يستقيم لوقوع التدبير على العاقبة . وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان على حياله أن يدرك القمر ، فتجتمع معه في وقت واحد ، وتدخله في سلطانه ، فتطمس نوره ، ولا يسبق الليل النهار : يعني : آية الليل آية النهار ، وهما النيران ، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك ، وينقص ما ألف فيجمع بين الشمس والقمر ، فتطلع الشمس من مغربها ' . انتهى . وقال ابن عباس والضحاك : ' إذا طلعت لم يكن للقمر ضوء وإذا طلع لم يكن للشمس ضوء ' . وقال مجاهد : ' لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر ' . وقال قتادة : ' لكل أحد حد لا يعدوه ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا ' . وقال ابن عباس ايضا : ' إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل لا يشتركان فيها ' ، وقال الحسن : ' لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة . أي : لا تبقي الشمس حتى يطلع الفجر ولكن إذا غربت طلع ' . وقال يحيى بن سلام : ' لا تدركه ليلة البدر خاصة لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها ' . وقيل : ' لا يمكنها أن تدركه في سرعته ، لأن دائرة فلك القمر داخله في فلك عطارد داخل في فلك الزهرة ، وفلك الزهرة داخل في فلك الشمس ، فإذا كان طريق الشمس أبعععد قطع القمر جميع أجزاء فلكه ، أي : من البروج الاثني عشر في زمان تقطع الشمس فيه برجا واحدا من فلكه .

" صفحة رقم 323 "
وقال النحاس : ' ما قيل فيه وأبينه أن مسير القمر مسير سريع والشمس لا تدركه في السير ' . انتهى . وهو ملخص القول الذي قبله ( ولا الليل سابق النهار ) لا يعارض قوله ) يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ( [ الأعراف 54 ] لأن ظاهر قوله ( يطلبه حثيثا ) ن النهار سابق أيضا ، فيوافق الظاهر . وفهم أبو عبد الله الرازي من قوله ( يطلبه حثيثا ) أن النهار يطلب الليل ، والليل سابقة . وفهم من قوله ( ولا الليل سايق النهار ) أن الليل مسبوق لا سابق فأورده سؤالا . وقال : كيف يكون الليل سابقا مسبوقا ؟ وأجاب أن المراد من الليل هنا سلطان الليل ، وهو القمر ، وهو لا يسبق الشمس . بالحركة اليومية السريعة والمراد من الليل هناك : نفس الليل ، وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه ' . انتهى . وعرض له هذا السؤال لكونه جعل الضمير الفاعل في ( يطلبه ) عائدا على النهار ، وضمير المفعول عائدا على ( الليل ) والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل ، لأنه كان قبل دخول همزة النقل ( يغشى الليل النهار ) وضمير المفعول عائد على النهار ، لأنه المفعول قبل النقل وبعده ، وقرأ عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير الخطفي ( سابق ) بغير تنوين ( النهار ) بالنصب ، قال المبرد : ' سمعته يقرأ ما هذا ؟ قال : أردت سابق النهار فحذفت ، لأنه أخف ' . انتهى . وحذف التنوين فيه لالتقاء الساكنين وتقدم شرح ) وكل في فلك يسبحون ( [ الأنبياء : 33 ] في سورة الأنبياء والظاهر من الذرية أنه يراد به الأبناء ومن نشأ منهم . وقيل : ينطلق على الآباء وعلى الأبناء . قاله أبو عثمان ، وقال ابن عطية : ' هذا تخلط ولا يعرف هذا في اللغة ' انتهى . وتقدم الكلام في الذرية في آل عمران . والظاهر : أن الضمير في ( لهم ) وفي ( ذرياتهم ) عائد على شيء واحد ، فالمعنى : أنه تعالى حمل ذريات هؤلاء وهم آباؤهم الأقدمون في سفينة نوح - عليه السلام - قاله ابن عباس ، وجماعة . ومن مثله للسفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة ، أو أريد بقوله ( ذرياتهم ) حذف مضاف . أي : ذريات جنسهم ، وأريد بالذرية : من لا يطيق المشي والركوب من الذرية والضعفاء و ( الفلك ) ، اسم جنس من عليهم بذلك . وكون الفلك مرادا به الجنس . قاله ابن عباس أيضا ، ومجاهد والسدي ومن مثله الإبل وسائر ما يركب . وقيل : الضميران مختلفان . أي : ذرية القرون الماضية قاله علي بن سليمان . وكان آية لهؤلاء ، إذ هم نسل تلك الذرية ، وقيل : الذرية : النطف و ( الفلك المشحون ) بطون النساء . ذكره الماوردي ، ونسب إلى علي بن أبي طالب . وهذا لا يصح ، لأنه من نوع تفسير الباطنية ، وغلاة المتصوفة الذين يفسرون كتاب الله على شيء لا يدل عليه اللفظ بجهة من جهات الدلالة ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويدل على أنه أريد ظاهر الفلك قوله ( وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ) يعني : الإبل والخيل والبغال والحمير . والمماثلة في أنه مركوب مبلغ للأوطان فقط . هذا إذا كان الفلك جنسا ، ولأما إن أريد به سفينة نوح فالمماثلة تكون في كونها سفنا مثلها ، وهي الموجودة في بني آدم ويبعد قول من قال ' الذرية في الفلك : قوم نوح في سفينته والمثل : الأجل وما يركب ' . لأنه يدفعه قوله ( وإن نشأ نغرقهم ) ، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش وزيد بن علي وأبان بن عثمان ( ذرياتهم ) بالجمع وكسر زيد وأبان الذال وباقي السبعة وطلحة وعيسى بالإفراد ، وقال الزمخشري ( ذريتهم أولادهم ومن يهمهم حمله ' . وقيل : اسم الذرية يقع على النساء لأنهن مزارعها ، وفي الحديث : ' أنه نهى عن قتل الذراري يعني النساء ' . ( من مثله ) من مثل الفلك ( ما يركبون ) من الإبل وهي سفائن البر . وقيل ( الفلك المشحون ) سفينة نوح ، ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها ، أنه حمل فيها آباؤهم الأقدمون ، وفي أصلابهم هم وذرياتهم ، وإنما ذكر ذلارياتهم دونهم ، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم ، وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح ، و ( من مثله ) من مثل ذلك الفلك ( ما يركبون ) من السفن ' . انتهى . وقال أبو عبد الله الرازي : ' إنما خص الذريات بالذكر ، لأن الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم . أي : لم يكن الحمل حملا لهم وإنما كان حملا لما في أصلابهم من المؤمنين ' . وقال أيضا : ' الضمير في ' وآية لهم ' عائد على العباد في قوله ( يا حسرة على العباد ) ثم قال بعععد ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ) ( وآية لهم الليل وآية لهم أنا حملنا ذريتهم ) ذريات العباد ، ولا يلزم أن يكون الضمير في الموضعين المعنيين فهو كقوله : ) لا تقتلوا أنفسكم ( ] النساء ] إنما يريد . لا يقتل بعضكم بعضا ، فكذلك هذا ( وآية لهم ) أي : آية كل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم ، أو ذرية بعض منهم ' . انتهى . والظاهر في قوله

" صفحة رقم 324 "
( وخلقنا ) أنه أريد الإنشاء والاختراع ، فالمراد الإبل وما يركب ، وتكون ( من ) للبيان ، وإن كان ما يصنعه الإنسان قد ينسب إلى الله خلقا ، لكن الأكثر ما ذكرنا ، وإذا أريد به السفن تكون ( من ) للتبعيض ، و ( لهم ) الظاهر عوده على ما عاد عليه ( وآية لهم ) لأنه المحدث عنهم . وجوز أن يعود على الذرية والظاهر : أن الضمير في ( مثله ) عائد على ( الفلك ) ، وقيل : يعود على معلوم غير مذكور . وتقديره : من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ) كما قالوا في قوله ( من ثمره ) أي : من ثمر ما ذكرنا . وقرأ الحسن ( نغرقهم ) مشددا . والجمهور مخففا . والصريخ : فعيل بمعنى صاروخ . أي : مستغيث . بمعنى مصرخ أي مغيث لهم ولا معين ، وقال الزمخشري : ' ( فلا صريخ لهم ) أي : فلا إغاثة لهم ' . انتهى . كأنه جعله مصدرا من أفعل ويحتاج إلى نقل أن صريخا يكون مصدرا بمعنى صراخ والظاهر : أن قوله ( فلا صريخ لهم ) أي : لا مغيث لهؤلاء الذين شاء الله إغراقهم ( ولا هم منقذون ) أي : ينجون من الموت بالغرق نفي أولا الصريخ وهو خاص ، ثم نفى ثانيا إنقاذهم انتهى . وليس بحسن ولا أحسن . والفاء في ( فلا صريخ لهم ) تعلق الجملة بما قبلها تعليقا واضحا ، وترتبط به ربطا لائحا ، والخلاص من العذاب بما يدفعه من أصله ، فنفي بقوله ( فلا صريخ لهم ) وما يرفعه بعععد وقوعه فنفي بقوله ( ولا هم ينقذون ) وانتصب ( رحمة ) على الاستثناء المفرغ للمفعول من أجله . أي : لرحمة منا . وقال الكسائي والزجاج : ' إلى حين ' . أي : إلى حين الموت . قاله قتادة . وقال الزمخشري : ' إما الرحمة منا ، وليتمتع بالحياة إلى حين . أي : إلى أجل يموتون فيه لا بد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق ' . انتهى . وإنما قال : ' لا بد لهم من موت الغرق ' ، لأنه تعالى قال ( وإن نشأ ) أي : إغراقهم ( نغرقهم ) فمن شاء أغراقه لا بد أن يموت بالغرق . والظاهر : أن ( رحمة ) ( ومتاعا إلى حين ) يكون للذين ينقذون ، فلا يفيد الدوام بل ينقذه الله رحمة له ، ويمتعه إلى حين ثم يمينه . وقيل : فيه تقسيم إلا رحمة لمن علم أنه يؤمن فينقذه الله رحمة ، ومن علم أنه لا يؤمن بمنعه زمانا ويزداد إثما .
( وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما وما خلفكم لعلكم ترحمون ، وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ، وإذا قيل لهم اتقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين ، ويقولن متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ، ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون ، فلا يستطيعون نوصية ولا إلى أهلهم يرجعون ، ونفخ فس السور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ، قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ، وإن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ، فاليوم لا تظلم نفس ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون (
الضمير في ( لهم ) لقريش . و ( ما بين أيديكم ) قال قتادة ومقاتل : ' عذاب الأمم قبلكم ' ( وما خلفكم ) عذاب الآخرة ' ز . وقال مجاهد : عكسه . وقال الحسن : ' خوفوا بما مضى من ذنوبهم وما يأتي منها ' ، وقال مجاهد أيضا كقول الحسن : ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر ' ( لعلكم ترحمون ) وجواب ( إذغ ) محذوف يدل عليه ما بعده . أي : أعرضوا ( وما تأتيهم من آية ) أي : دأبهم الإعراض عند كل آية تأتيهم ( وإذا قيل لهم أنفقوا ) لما أسلم حواشي الكفار من أقربائهم ومواليهم من المستضعفين قطعوا عنهم ما كانوا يواسونهم به ، وكان ذلك بمكة أولا قبل نزول آيات القتال ، فندبهم المؤمنون إلى صلة قراباتهم فقالوا ( أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ) وقيل : سحق قريش بسبب أذية المساكين من مؤمن وغيره فندبهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى النفقة عليهم فقالوا هذا القول . وقيل : قال فقراء المؤمنين أعطونا ما زعمتم من أموالكم إنها لله فحرموهم وقالوا

" صفحة رقم 325 "
ذلك على سبيل الاستهزاء . وقال ابن عباس : ' كان بمكة زنادقة إذا أمروا بالصدقة ، قالوا : لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن ، أو كانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأفعال بمشيئة الله لو شاء الله لأغني فلانا ، ولو شاء لأعزه ، ولو شاء لكان كذا فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولون . وقال القشيري : ' نزلت في قوم من الزنادقة لا يؤمنون بالصانع ، استهزاء بالمسلمين بهذا القول . وقال الحسن : ' ( وإذا قيل لهم ) : اليهود أمروا بإطعام الفقراء . وجواب ( لو نشاء ) قوله ( أطعمهم ) وورود الموجب بغير لام فصيح ، ومنه ( أن لو نشاء أصبناهم ) ) لو نشاء جعلناه أجاجا ( [ الواقعة 70 ] والأكثر مجيئة باللام . والتصريح بالموضعين من الكفر والإيمان ، دليل على أن المقول لهم هم الكافرون . والقائل لهم هم المؤمنون وإن كل وصف حامل صاحبه على ما صدر منه إذ كل إناء بالذي فيه يرشح . وأمروا بالانفاق مما رزقكم الله ، وهو عام في الإطعام وغيره فأجابوه بغاية المخالفة ، لأن نفي إطعامهم يقتضي نفي الإنفاق العام ، فكأنهم قالوا : لا ننفق ولا أقل الأشياء التي كانوا يسمحون بها ، ويؤثرون بها على أنفسهم وهو الإطعام الذي به يفتخرون ، وهذا على سبيل المبالغة ، كمن يقول لشخص : أعط لزيد دينارا فيقول : لا أعطيه درهما . فهذا أبلغ من لا أعطيه دينارا . والظاهر : أن قوله ( إن أنتم إلا في ضلال مبين ) من تمام كلام الكفار يخاطبون المؤمنين . أي : حيث طلبتم أن تطعموا من لا يريد الله إطعامه إذ لو أراد الله إطعامه لأطعمه هو . ويجوز أن يكون من قول الله لهم . استأنف زجرهم به ، أو من قول المؤمنين لهم ، ثم حكى تعالى عنهم ما يقولون على سبيل الاستهزاء والتعجيل لما توعدون به . أي : متى يوم القيامة الذي أنتم توعدوننا به ، أو متى هذا العذاب الذي تهددوننا به . وهو سبيل على سبيل الاستهزاء منهم لما أمروا بالتقوى ولا يتقي إلا مما يخاف وهم غير مؤمنين . سألوا متى يقع هذا الذي تخوفونا به استهزاء منهم . ( ما ينظرون ) أي : ما ينتظرون . ولما كانت هذه الصيحة لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها ، وهذه هي النفخة الأولى ، تأخذهم فيهلكون ، وهم يتخاصمون . أي : في معاملاتهم وأسواقهم وفي أماكنهم من غير إمهال لتوصية ولا رجوع إلى أهل . وفي الحديث : ' تقوم الساعة والرجلان قد نشر أثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتى تقوم ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى حتى تقوم ' وقيل : ( لا يرجعون ) إلى أهلهم قولا . وقيل : ولا إلى أهلهم يرجعون أبدا . وقرأ أبي ( يختصمون ) على الأصل والحرميان وأبو عمرو والأعرج وشبل وابن فنطنطين بإدغام التاء في الصاد ونقل حركتها إلى الخاء ، وأبو عمرو أيضا . وقالون يخالف بالاختلاس وتشديد الصاد . وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصم . وباقي السبعة بكسر الخاء وشد الصاد . وفرقة بكسر الياء اتباعا لكسرة الخاء وشد الصاد . وقرأ ابن محيصن ( يرجعون ) بضم الياء وفتح الجيم ، وقرأ الأعرج في ( الصور ) بفتح الواو . والجمهور بإسكانها . وقرىء ( من الأجداف ) بالفاء بدل الثاء ، وقرأ الجمهور بالثاء و ( ينسلون ) بكسر السين . وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بخلاف عنه يبضمها . وهذه النفخة هي الثانية التي يقوم الناس أحياء عنها ، ولا تنافر بين ( ينسلون ) وبين ) فإذا هم قيام ينظرون ( [ الزمر 68 ] لأنه لا ينسل إلا قائما ، ولأن تفاوت الزمانين يجعله كأنه زمان واحد . وقرأ ابن أبي ليلى ( يا ويلتنا ) بتاء التأنيث . وعنه أيضا ( يا ويلتى ) بالتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة ومعنى هذه القراءة : أن كل واحد منهم يقول يا ويلتى . والجمهور و ( من بعثنا ) ( من ) استفهام . و ( بعث ) فعل ماض . وعلي وابن عباس والضحاك وأبو نهيك ( من ) حرف جر و ( بعثنا ) مجرور به . و ( المرقد ) استعارة عن مضجع الميت . واحتمل أن يكون مصدرا . أي : من رقادنا وهو أجود . أو يكون مكانا ، فيكون المفرد فيه يراد به الجمع ، أي : من مراقدنا . وما روي عن أبي كعب ومجاهد وقتادة : ' من أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر ' فقالوا : هو غير صحيح الإسناد .
وقيل : قالوا ( من مرقدنا ) لأن عذاب

" صفحة رقم 326 "
القبر كان كالرقاد في جنب ما صاروا إليه من عذاب جهنم.
والظاهر أن هذا ابتداء كلام ، فقيل : من الله ، وعلى سبيل التوبيخ والتوقيف على إنكارهم.
وقال الفراء : من قول الملائكة.
وقال قتادة ، ومجاهد : من قول المؤمنين للكفار ، على سبيل التقريع.
وقال ابن زيد : من قول الكفرة ، أو البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا ، قالوا ذلك.
والاستفهام بمن سؤال عن الذي بعثهم ، وتضمن قوله : { هذا ما وعد الرحمن } ، ذكر الباعث ، أي الرحمن الذي وعدكموه ، وما يجوز أن تكون مصدرية على سمة الموعود ، والمصدر فيه بالوعد والصدق ، وبمعنى الذي ، أي هذا الذي وعده الرحمن.
لما ذكر تعالى أهوال يوم القيامة ، أعقب ذلك بحال السعداء والأشقياء.
والظاهر أنه إخبار لنا بما يكونون فيه إذا صاروا إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب.
وقيل : هو حكاية ما يقال في ذلك اليوم ، وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود له في النفوس ، وترغيب إلى الحرص عليه وفيما يثمره؛ والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهم عن كل ما يخطر بالبال.
وقال قريباً منه مجاهد ، وبعضهم خص هذا الشغل بافتضاض الأبكار ، قاله ابن عباس؛ وعنه أيضاً : سماع الأوتار.
وعن الحسن : شغلوا عن ما فيه أهل النار.
وعن الكلبي : عن أهاليهم من أهل النار ، لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا.
وعن ابن كيسان : الشغل : التزاور.
وقيل : ضيافة الله ، وأفرد الشغل ملحوظاً فيه النعيم ، وهو واحد من حيث هو نعيم.
وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : بضم الشين وسكون الغين؛ وباقي السبعة بضمها؛ ومجاهد ، وأبو السمال ، وابن هبيرة فيما نقل ابن خالويه عنه : بفتحتين؛ ويزيد النحوي ، وابن هبيرة ، فيما نقل أبو الفضل الرازي : بفتح الشين وإسكان الغين.

" صفحة رقم 327 "
وقرأ الجمهور ( فاكهون ) بالألف ، والحسن ، وأبو جعفر ، وقتادة ، وأبو حيوة ، ومجاهد ، وشيبة ، وأبو رجاء ، ويحيى بن صبيح ، ونافع في رواية بغير ألف .
وطلحة ، والأعمش ( فاكهين ) بالألف وبالياء نصبا على الحال . و ( في شغل ) هو الحبر . فبالألف أصحاب فاكهة ، كما يقال : لابن ، وتامر ، وشاحم ولاحم . وبغير ألف معناه : فرحون طربون . مأخوذ من الفكاهة . وهي المزحة ، وقرىء ( فكهين ) بغير ألف وبالياء . وقرىء ( فكهون ) بضم الكاف يقال : رجل فكه وفكه نحو يدس ويدس ، ويجوز في ( هم ) أن يكون مبتدأ وخبره ( في ضلال ) و ( متكئون ) خبر ثان ل ( إن ) أو يكون تأكيدا للضمير المستكن في شغل المنتقل إليه من العامل فيه . وعلى هذا الوجه والذي قبله يكون الأزواج قد شاركوهم في التفكة ، والشغل ، والاتكاء على الأرائك ، وذلك من جهة المنطوق . وعلى الأول شاركوهم في الظلال والاتكاء على الأرائك من حيث المنطوق وهن قد شاركنهم في التفكة والشغل من حيث المعنى . وقرأ الجمهور ( في ظلال ) ، قال ابن عطية : ' وهو جمع ظل إذا الجنة لا شمس فيها ، وإنما هواؤها سجسج ، كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس ' . انتهى ، وجمع فعل على فعال في الكثرة نحو ذئب وذئاب . وأما أن وقت الجنة كوقت الإسفار قبل طلوع الشمس ، فيحتاج هذا إلى نقل صحيح ، وكيف يكون ذلك وفي الحديث ما يدل على حوراء من حور الجنة لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا ، أو نحو من هذا . قال : ' ويحتمل أن يكون جمع ظلة ' قال أبو علي ' كبرمة وبرام ' ، وقال منذر بن سعيد : ' جمع ظلة بكسر الظاء ' ، قال ابن عطية : ' وهي لغة في ظلة ' . انتهى . فيكون مثل لقحة ولقاح ، وفعال لا ينقاس في فعلة بل يحفظ . وقرأ عبدالله ، والسلمي ، وطلحة وحمزة ، والكسائي ( في ظل ) جمع ظلة وجمع فعلة على فعل مقيس . وهي عبارة عن الملابس ، والمراتب من الحجال ، والستور ، ونحوها من الأشياء التي تظل . وقرأ عبد الله ( متكئين ) نصب على الحال و ( يدعون ) مضارع ادعى ، وهو افتعل من دعا ، ومعناه : ولهم ما يتمنون . وقال أبو عبيدة : ' العرب تقول ادع على ما شئت بمعنى تمن علي . وتقول فلان في خير ما تمنى ، قال الزجاج : ' وهو من الدعاء ، أي : ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم ، وقيل : ' يدعون به لأنفسهم ' . وقيل : ' يتداعونه لقوله ارتموه وتراموه . وقرأ الجمهور ( سلام ) بالرفع ، قيل : وهو صفة ل ( ما ) أي : مسلم لهم وخالص ' انتهى . ولا يصح إن كان ( ما ) بمعنى الذي لأنها تكون إذ ذاك معرفة ، و ( سلام ) نكرة ولا تنعت المعرفة بالنكرة ، فإن كانت ( ما ) نكرة موصوفة جاز إلا أنه لا يكون فيه عموم كحالها بمعنى الذي . وقيل : ( سلام ) مبتدأ ويكون خبره ذلك الفعل الناصب لقوله ( قولا ) أي : سلام يقال قولا ( من رب رحيم ) أو يكون ( عليكم ) محذوفا . أي : سلام عليكم قولا من رب رحيم ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو سلام ، وقال الزمخشري : ' ( سلام قولا ) بدل من ( ما يدعون ) كأنه قال لهم سلام ، يقال لهم قولا من جهة رب رحيم . والمعنى : أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة ، مبالغة في تعظيمهم . وذلك متمناهم ( ولهم ) ذلك لا يمنعونه . قال ابن عباس : ' والملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين ' . انتهى . وإذا كان ( سلام ) بدلا من ( ما يدعون ) كان ( ما يدعون ) خصوصا ، والظاهر : أنه عموم في كل ما يدعون ، وإذا كان عموما لم يكن ( سلام ) بدلا منه . وقيل ( سلام ) خبر ( ما يدعون ) و ( ما يدعون ) مبتدأ . أي : ولهم ما يدعون . سلام خالص لا شرب فيه . و ( قولا ) مصدر مؤكد كقوله ( ولهم ما يدعون سلام ) أي : عدة من ( رحيم ) ، قال الزمخشري : ' والأوجه أن ينتصب على الاختصاص وهو من مجازه ' . انتهى ويكون ( لهم ) متعلقا على هذا الإعراب ب ( سلام ) ، وقرأ محمد بن كعب القرظي ( سلم ) بكسر السين وسكون اللام ومعناه سلام وقال أبو فضل الرازي : ' مسالم لهم . أي : ذلك مسالم ' ، وقرأ أبي ، وعبد الله ، وعيسى والقنوي ، ( سلاما ) بالنصب على المصدر . وقال الزمخشري : ' نصب على الحال . أي : لهم مرادهم خالصا . ( وامتازوا اليوم ) أي : انفردوا عن المؤمنين لأن المحشر جنع البر والفاجر ، فأمر المجرمون بأن يكونوا على حدة من المؤمنين . والظاهر : أن ثم قولا محذوفا . لما ذكر تعالى ما يقال للمؤمنين في قوله ( سلام قولا من رب رحيم ) قيل : ويقال للمجرمين امتازوا . ولما امتثلوا ما أمروا به ، قال

" صفحة رقم 328 "
لهم على جهة التوبيخ والتقريع ( ألم اعهد إليكم ) وقفهم على عهده إليهم ومخالفتهم إياه . وعن الضحاك : ' ولكل كافر بيت ' من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى فعلى هذا معناه أن بعضهم من بعض ' . وعن قتادة : ' اعتزلوا عن كل خير . والعهد الوصية . عهد إليه : إذا وصاه . وعهد الله إليهم : ما ركز فيهم من أدلة العقل ، وأنزل إليهم من أدلة السمع . وعبادة الشيطان : طاعته فيما يغويه ويزينه . وقرأ الجمهور ( أعهد ) بفتح الهمزة والهاء ، وقرأ طلحة والهذيل بن شرحبيل الكوفي بكسر الهمزة . قاله صاحب اللوامح : ' وقال لغة تميم وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين حروف المضارعة . يعني نعهد وتعهد ' وقال ابن خالوية : ' ألم أعهد ، يحيى بن وثاب ألم أحد لغة تميم ' . وقال ابن عطية : ' وقرأ بن وثاب ( ألم أعهد ) بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء . وروي عن ابن وثاب : ' ألم ( أعهد ) بكسر الهاء . يقال : عهد يعهد ' . انتهى . وقوله : ' بكسر الميم والهمزة ' يعني : أن كسر الميم يدل على كسر الهمزة لأن الحركة التي في الميم هي حركة نقل الهمزة المكسورة ، وحذفت الهمزة حين نقلت حركتها إلى الساكن قبلها ، وهو الميم ( اعهد ) بالهمزة المقطوعة المكسورة لفظا لأن هذا لا يجوز . وقال الزمخشري : ' وقرىء ( اعهد ) بكسر الهمزة . وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء وأعهد بكسر الهاء . وقد جوز الزجتج ان يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب وأحهد بالحاء وأحد وهي لغة تميم ومنه قولهم : دحا محا ' انتهى . وقوله : ' إلا في الياء ' . لغة لبعض كلب : أنهم يكسرون أيضا في لياء يقولون هل يعلم وقوله : دحا محا ' يريدون دعها معها ، أدغموا العين في الحاء ، والإشارة بهذا إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن . وقرأ نافع وعاصم ( جبلا ) بكسر الجيم والباء وتشدديد اللام . وهي قراءة أبي حيوة ، وسهيل ، وأبي جعفر ، وشيبة ، وأبي رجاء ، والحسن بخلاف عنه ، وقرأ العربيان ، والهذيل بن شرحبيل ، بضم الجيم وإسكان الباء . وباقي السبعة بضمها وتخفيف اللام . والحسن بن أبي إسحاق ، والزهري ، وابن هرمز ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وحفص بن حميد ، بضمتين وتشديد اللام . والأشهب العقيلي ، واليماني ، وحماد بن مسلمة عن عاصم بكسر الجيم وسكون الباء ، والأعمش ( جبلا ) بكسرتين وتخفيف اللام . وقرىء ( جبلا ) بكسر الجيم ، وفتح الباء وتخفيف اللام . جمع جبلة ، نحو : ' فطره وفطر فهذه سبع لغات قرىء بها . وقرأ علي بن أبي طالب وبعض الخراسانيين ( جبلا ) بكسر الجيم بعدها ياء ى خر الحروف . واحد الأجيال . و ( الجبل ) بالباء بواحدة من أسفل الأمة العظيمة . وقال الضحاك : ' أقله عشرة آلاف ' . خاطب تعالى الكفار بما فعل معهم الشيطان ، تقريعا لهم . وقرأ الجمهور ( أفلم تكونوا ) بتاء الخطاب . وطلحة وعيسى بياء الغيبة عائدا على ( جبل ) ويروى : ' انهم يجحدون ويخاصمون ، فيشهد عليهم جيرانهم وعشائرهم ، وأهاليهم فيحلفون ما كانوا مشركين ، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم ' . وفي الحديث . ' يقول العبد يوم القيامة . إني لا أجيز علي شاهد إلا من نفسي ، فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقال بعدا لكن وسحقا ، فعنكن كنت أناضل ' . وقرىء ( يختم ) مبنيا للمفعول ( وتتكلم أيديهم ) بتاءين وقرىء ( ولتكلمنا أيديهم ولتشهد ) بلام الأمر والجزم . وعلى أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة . وروى عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ ( ولتكلمنا أيديهم ولتشهد ) بلام كي ، والنصب على معنى : وكذلك يختم على أفواههم . والظاهر : أن الأعين : هي الأعضاء المبصرة . والمعنى : لأعميناهم فلا يرون كيف يمشون ؟ قاله الحسن وقتادة ويؤيده مناسبة المسخ فهم في قبضة القدرة وبروج العذاب إن شاءه الله لهم . وقال ابن عباس : ' أراااد عين البصائر ، والمعنى : ولو نشاء لختمت عليهم بالكفر فلا يهتدي منهم أحد أبدا . والطمس : إذهاب الشيء وأثره جملة حتى كأنه لم يوجد فإن أريد بالأعين الحقيقة ، فالظاهر : أنه يطمس بمعنى يمسخ حقيقة ، ويجوز أن يكون الطمس : يراد به العمى من غير إذهاب العضو وأثره ، وقرأ الجمهور ( فاستبقوا ) فعلا ماضيا ، معطوفا على ( لطمسنا ) وهوعلى الفرض . و ( الصراط ) منصوب على

" صفحة رقم 329 "
تقدير إلى حذفت ، ووصل الفعل . والأصل : ( فاستبقوا إلى صراط ) أو مفعولا به على تضمين ( استبقوا ) معنى : ' تبادروا ' . وجعله مسبوقا لا مسبوقا إليه الفعل إلا بوساطة في ' إلا في شذوذ ، كما أنشد سيبوبة : لدن بهز الكف يعسل متنه
فيه كما عسل الطريق الثعلب
ومذهب بن الطراوة : ' أن الصراط والطريق ، والمخرم وما أشبهها من الظروف المكانية ليست مختصة ' . فعلى مذهبه يسوغ ما قاله الزمخشري . وقرأ عيسى ( فاستبقوا ) على الأمر ، وهو على إضمار القول . أي : فيقال لهم : استبقوا الصراط وهذا على سبيل التعجيز ، إذا لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين ( فإنى يبصرون ) أي : كيف يبصر من طمس على عينه ، والظاهر : أن المسخ حقيقة ، وهو تبديل صورهم شنيعة . قال ابن عباس : ' لمسخناهم قردة وخنازير كما تقدم في بني إسرائيل ' . وقيل : حجارة . وقال الحسن وقتادة وجماعة : ' لأقعدناهم وأزمناهم فلا يستطعيون تصرفا ' ، والظاهر : أن هذا لو كان يكون في الدنيا . وقال ابن سلام : ' هذا التوعد كله يوم القيامة ' ، وقرأ الحسن ( على مكانتهم ) بالإفراد وهي المكان كالمقامة والمقام . وقرأ الجمهور ، وأبو بكر ، بالجمع . والجمهور ( مضيا ) بضم الميم . وأبو حيوة وأحمد بن جبير الأنطاكي ، عن الكسائي بكسرها اتباعا لحركة الضااد كالعتبي والقتبي وزنه . فعول التقت واو ساكنة وياء فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لتصح الياء . وقرىء ( مضيا ) بفتح الميم ، فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل كالرسيم والوجيف . ولما ذكر تعالى الطمس والمسخ على تقدير المشبه ، ذكر تعالى دليلا على باهر قدرته في تنكيس المعمر وأن ذلك لا يفعله إلا هو تعالى وتنكيسه قلبه وجعله على عكس ما خلقه أولا ، وهو أنه خلقه على ضعف في جسد ، وخلو من عقل وعلم ، ثم جعله يتزايد وينتقل من حال إلى حال أن يبلغ أشده ، وتستكمل قوته ، ويعقل ويعلم ما له وما عليه . فإذا انتهى نكسه في الخلق ، فيتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبا في ضعف جسده ، وقلة عقله ، وخلو من الفهم ، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله . وفي هذا كله دليل على ان من فعل هذه الأفاعيل قادر على أن يطمس ، وأن يفعل بهم ما أراد . وقرأ الجمهور ( ننكسه ) مشددا . وعاصم وحمزة مخففا . وقرأ نافع وابن ذكوان ، وأبو عمرو في رواية عباس ( تعقلون ) بتاء الخطاب . وباقي السبعة بياء الغيبة . ( وما علمناه الشعر ) الضمير في ( علمناه ) للرسول - ( صلى الله عليه وسلم ) - كانوا يقولون فيه شاعر . وروي أن القائل عقبة بن أبي معيط فنفى الله ضلك عنه ، وقولهم فيه شاعر . أما من كان في طبعه الشعر ، فقوله مكابرة وإيهام للجاهل بالشعر وأما من ليس في طبعه ، فقوله جهل محض ، وأين هو من الشعر ؟ والشعر إنما هو كلام موزون مقفي يدل على معنى تنتخبه الشعراء من كثرة التخييل ، وتزويق الكلام ، وغير ذلك مما يتورع المتدين عن إنشاده فضلا عن إنشائه ، وكان عليه السلام لا يقول الشعر وإذا أنشد بيتا أحرز المعنى دون وزنه كما أنشد : ستبدي بلك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك من لم تزود بالأخبار
وقيل من أشعر الناس فقال الذي يقول :

" صفحة رقم 330 "
ألم ترياني كلما جئت طارقا
وجدت بها وإن تطيب طيبا
أتجعل نهبي ونهب العبد
بين الأقرع وعيينة
وأنشد يوما : كفي بالإسلام والشيب ناهيا
فقال أبو بكر وعمرو : نشهد أنك رسول الله إنما قال الشاعر : كفى الشيب والإسلام . وربما أنشد البيت متزنا في النادر . وروى عنه ، أنشد بيت ابن رواحة : ببيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
ولا يدل غجراء البيت على لسانه متزنا أنه يعلم الشعر ، وقد وقع في كلامه - عيه السلام - ما يدخله الوزن كقوله : أنا النبي لا كذب
انا ابن عبد المطلب
وكذلك قوله : هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
وهو كلام من جنس كلامه الذي يتكلم به على طبيعته من غير صنعة فيه ، ولا قصد لوزن ، ولا تكلف . كما يوجد في القرآن شيء موزون ، ولا يعد شعرا . كقوله تعالى : ) لن تنالوا البر حتى تنفقوا ما تحبون ( [ آل عمران : 92 ] وقوله : ) فمن شاء ليؤمن وشاء فليكفر ( [ الكهف : 29 ] وفي كثير من النثر الذي تنشئه الفصحاء . ولا يسمى ذلك شعرا ، ولا يخطر ببال المنشي ولا السامع أنه شعر . ( وما ينبغي له ) أي : ولا يمكن له ، ولا يصح ، ولا يناسب ، لأنه - عليه السلام - في طريق جد محض ، والشعر أكثره في طريق هزل ، وتحسين لما ليس حسنا ، وتقبيح لما ليس قبيحا ، ومغالاة مفرطة ، جعله تعالى لا يقرض الشعر ، كما جعله أميالا يخط ، لتكون الحجة أثبت ، والشبهة أدحض . وقيل : في هذه الآية دلالة على غضاضة الشعر وقد قال عليه السلام : ' ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي ' . وذهب قوم إلى أنه غضاضة فيه ، وغنما منعه الله نبه - عليه الصلاة والسلام - وإن كان حلية جليلة ليجيء القرآن منقبله أغرب فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرى ن هذا من تلك ، القوة قال : ابن عطية : ' وليس الأمر عندي كذلك وقد كان - عليه السلام - من الفصاحة والبيان . في النثر في الرتبة العليا ، ولكن كلام الله يبين بإعجازه ، ويندر بوصفه ، ويخرجه إحاطة علم الله عن كل كلام ، وإنما منع الله نبيه من الشعر ، ترفيعا له عن ما في قول الشعراء من التبخييل والتزويق للقول . وأما القرآن فهو ذكر بحقائق وبراهين ، فما هو بقول شاعر . وهذا كان أسلوب كلامه - عليه السلام - قولا واحدا . انتهى . والضمير ( له ) للرسول . أي : وما ينبغي الشعر لرسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - وأبعد من ذهب إلى أنه عائد على القرآن . أي : وما ينبغي الشعر للقرآن ولم يجر له ذكر ، لكن له انيقول يدل الكلام عليه ، ويبينه عود الضمير عليه في قوله ( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) أ ] : كتاب سماوي يقرأ في المحاريب ، وينال

" صفحة رقم 331 "
بتلاوته ، والعمل به ، ما فيه فوز الدارين . فكم بينه وبين الشعر الذي أكثره من همزات الشياطين . وقرأ نافع وابن عامر ( لتنذر ) بتاء الخطاب للرسول . وباقي السبعة بالياء للغيبة ، فاحتمل أن يعود على الرسول ، واحتمل ا ، يعود على القرآن . وقرأ اليماني ( لينذر ) بالياء مبنيا للمفعول ، ونقلها ابن خالوية عن الجحدري ، وقال عن أبي السمال واليماني : ' إنهما قرأ ( لينذر ) بفتح الياء والذال مضارع نذر بكسر الذال إذا علم بالشيء فاستعد له . ( من كان حيا ) أي : غافلا ، قاله الضحاكى لأن الغافل كالميت ويريد به من حتم عليه بالإيمان ، وكذلك قابله بقوله ( ويحق القول ) أي : كلمة العذاب على الكافرين المحتوم لهم بالموافاة على الكفر . ) أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيديهم أنعاما فهم لها مالكون ، وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ، ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون ، واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون ، لا يستطعون نصرهم وهم لهم جند محضرون ، فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ، أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم ، قل يحييها الذي انشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ، أوليس الذي خلق السموات وألرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ).
الإخبار وتنبيه الإستفهام لقريش وإعراضها عن عبادة الله ، وعكوفها على عبادة الأصنام . ولما كانت الأشياء المصنوعة لا يباشرها إلا باليد عبر لهم بما يقرب من أفهامهم بقوله ( مما عملت أيدينا ) أي : مما تولينا عمله ، ولا يمكن لغيرنا أن يعلمه ، فبقدرتنا وإرادتنا برزت هذه الأشياء ، لم يشركنا فيها أحد . والباري تعالى منزه عن اليد التي هي الجارحة وعن كل ما اقتضي التشبيه بالمحدثات . وذكر الأنعام لها ، لأنها كانت جل أموالهم ، ونبه على ما يجعل لهم من منافعها ( لها مالكون ) أي : ملكناها إياهم ، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك ، مختصون بالانتفاع بها ، أو ( مالكون ) ضابطون لها ، قاهرونها . من قوله : أصبحت لا أحمل السلاح ولا
أملك رأس البعير إن نفرا
أي : لا أضبطه ، وهو من جملة النعم الظاهرة فلولا تذليله تعالى إياها وتسخيره لم يقدر عليها ، ألا ترى إلى ما ند منها ألا يكاد يقدر على رده ، لذلك أمر بتسبيح الله راكبها ، وشكره على هذه النعمة ، بقوله : ) سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ( [ الزخرف : 13 ] وقرأ الجمهور ( ركوبهم ) وهو فعول بمعنى مفعول كالحضور والحلوب والقذوع وهو مما لا ينقاس . وقرأ أبي وعائشة ( ركوبتهم ) بالتاء وهي فعولة بمعنى مفعولة . وقال الزمخشري : ' وقيل : الركوبة جمع ' . انتهى . ويعني اسم جمع ، لأن فعولة ، فينبغي أن يعتقد فيها أنها اسم مفرد لا جنع تكسير ، ولا أسم جمع . أي : مركوبتهم ، كالحلوبة بمعنى المحلوبة . وقرأ الحسن ، وأبو البر هيثم ، والأعمش ( ركوبهم ) بضم الراء وبغير تاء ، وهو مصدر حذف مضافه . أي : ذو ركوبهم أو فحسن منافعها ركوبهم ، فيحذف ذو ، أو يحذف منافع . قال ابن خالوية : ' العرب تقول : ناقة ركوب حلوب . وركوبة حلوبة ، وركباة حلباة ، وركبوب حلبوب وركبى حلبى وركبوتا حلبوتا ، كل ذلك محكي . وأنشد :

" صفحة رقم 332 "
ركبانة حلبانة زفوف
تخلط بين وبر وصوف
وأجمل المنافع هنا ، وفصلها في قوله ( وجعل لكم من جلود الأنعام ) الآية والمشارب : جمع مشرب ، وهو أما مصدر . أي : شرب أو موضع الشرب . ثم عنفهم واستجهلهم في اتخاذهم آلهة لطلب الاستنصار ( لا يستطيعون ) أي : الآلهة نصر متخذيهم . وهذا هو الظاهر لما اتخذوا آلهة للاستنصار بهم رد تعالى عليهم بأنهم ليس لهم قدرة على نصرهم . وقال ابن عطية : ' ويحتمل أن يكون الضمير في ( يستطيعون ) عائدا للكفار ، وفي ( نصرهم ) للأصنام ' . انتهى . والظاهر : أن الضمير في ( هم ) عائد على ما هو الظاهر في ( لا يستطيعون ) أي : والآلهة للكفار ( جند محضرون ) في الآخرة عند الحساب على جهة التوبيخ والنقمة . وسماهم جندا ، إذا هم معدون للنقمة من عابديهم ، وللتوبيخ . أو محضرون لعذابهم ، لأنهم يجعلون وقودا للنار . قيل : ويجوز أن يكون الضمير في ( وهم ) عائدا على الكفار ، وفي ( لهم ) عائدا على الأصنام . أي : وهم الأصنام ( جند محضرون ) متعصبون لهم ، متحيرون ، يذبون عنهم ، يعني في الدنيا . ومع ذلك لا يستطيعون أي : الكفار التناصر . وههذا القول مركب على أن الضمير في ( لا يستطيعون ) للكفار . ثم آنس تعالى نبيه بقوله ( فلا يحزنك قولهم ) أي : لا يهمك تكذيبهم ، وأذاهم ، وجفاؤهم . وتوعد الكفار بقوله ( إنا نعلم ما يسرون وما يعنلون ) فنجازيهم على ذلك . ( أو لم ير الإنسان ) قبح تعالى إنكار الكفرة البعث حيث قرر أن عنصره الذي خلق منه هو مطفة ماء مهين ، خارج من مخرج النجاسة ، أفضى به مهانة أصله إلى أن يخاصم الباري تعالى ، ويقول : من يحيى الميت بعد ما رم مع علمه أنه منشأ من موات . وقائل ذلك العاصي بن وائل ، أو أمية بن خلف ، أو أبي بن خلف . أقوال . أصحها أنه أبي بن خلف . رواه ابن وهب عن مالك ، وقال ابن إسحاق وغيره . والقول : أنه أمية قاله مجاهد ، وقتادة ، ويحتمل أن كلا منهم واقع ذلك منه . وقد كان لأبي مع الرسول مراجعات ومقامات . ' جاء بالعظم الرميم بمكة ففتته في وجهه كريم وقال من يحيى هذا يا محمد ؟ فقال : الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم ' ثم نزلت الآية . وأبي هذا قتله رسول اله - ( صلى الله عليه وسلم ) - بيده يوم أحد بالرحبة ، فخرجت من عنقه . ووهم من نسب غلى ابن عباس ان الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي ابن سلول ، لأن السورة مكية بإجماع ولأن عبد الله بن أبي لم يهاجر قط هذه المهاجرة . وبين قوله ( فإذا هو خصيم مبين ) وبين ( خلقناه من نطفة ) جمل محذوفة تبين أكثرها في قوله في سورة المؤمنين ) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ( [ المؤمنون : 13 ] وغنما أعتقب قوله ( فإذا هو خصيم مبين ) الوصف الذي ى ل إليه من التمييز ، والإدراك الذي يتأتى معه الخصام . أي : فإذا هو بععدما كان نطفة ، رجل مميز منطيق ، قادر على الخصام ، مبين معرب عما في نفسه . ( وضرب لنا مثلا ونسى خلقه ) أي : نشأته من النطفة فذهل عنها ، ( خلقه ) أي نشأته , وسمي قوله ( من يحيي العظام وهي رميم ) لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل ، وهي إنكار قدرة الله على إحياء الموتى كما هم عاجزون عن ذلك . وقال الزمخشري : ' والرميم : اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرمة والرفاة ، فلا يقال لم لم يؤنث وقد وقع خبراً لمؤنث ، ولا هو فعيل أو مفعول ؟ انتهى . واستدل بقوله ( قل يحييها ) على أن الحياة تحلها . وهذا الاستدلال ظاهر ومن قال ان الحياة لا تحلها ، قال المراد بغحياء العظام ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حسن حساس . ( وهو بكل خلق عليم ) يعلم كيفيات ما يخلق لا يتعاظمه شيء من المنشآت والمعادات جنسا ، ونوعا ، دقة وجلالة . ( الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ) ذكر ما هو أغرب من خلق الإنسان من النطفة وهو إبراز الشيء من ضده وذلك

" صفحة رقم 333 "
أبدع شيء وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر ألا ترى أن الماء يطفىء النار ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء . والأعراب توري النار من الشجر الأخضر وأكثرها من المرخ ، والعفار . وفي أمثالهم : ' في كل شيء نار ، واستمجد المرخ والعفار ' . يقطع الرجل منهما غصنين - مثل السواكين - وهما أخضران ، يقطر منهما الماء ، فيستحق المرخ وهو ذكر والعفار وهي أنثي ، ينقدح النار بإذن الله عز وجل . وعن ابن عباس : ' ليس شجر إلا وفيه نار إلا العفار ' . وقرأ الجمهور ( الأخضر ) وقرىء ( الخضراء ) وأهل الحجاز يؤنثون الجنس المميز واحده بالتاء . وأهل نجد يذكرون ألفاظا ، واستثنيت في كتب النحو . ثم ذكر ما هو أبدع وأغرب من خلق الأنسان من نطفة ، ومن غعادة الموتى وهو إنشاء هذه المخلوقات العظيمة الغريبة من صرف عدم العدم إلى الوجود فقال ( أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ) وقرأ الجمهور ( بقادر ) بباء الجر داخله على اسم الفاعل . وقرأ الجحدري ، وابن أبي إسحاق ، والأعرج ، وسلام ، ويعقوب ، ( بقدر ) فعلا مضارعا . أي : من قدر على خلق السموات والأرض من عظم شأنهما كان على خلق الأناس قادرا والضمير في ( مثلهم ) عائد على الناس . قاله الرماني ، وقال جماعة من المفسرين : ' عائد على السموات والأرض ' وعاد الضمير عليهما كضمير من يعقل من حيث كانت متضمنه من يعقل من الملائكة والثقلين . وقال الزمخشري : ' مثلهم ' يحتمل معنيين ، أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة بالإضافة إلى السموات والأرض . أو أن يعيدهم لأن المصادر مثل للمبتدأ وليس به ' . انتهى . ويقول : إن المعاد هو عين المبتدأ ولو كان مثله لم يسم ذلك إعادة ، بل يكون إنشاء مستأنفا . وقرأ الجمهور ( الخلاق ) بصيغة المبالغة لكثرة مخلوقاته . وقرأ الحسن ، والجحدري ، ومالك بن دينار ، وزيد بن علي ( الخالق ) اسم فاعل ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) تقدم شرح مثل هذه الجملة . والخلاف في ( فيكون ) من حيث القراءة نصبا ورفعا . ( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ) تنزيه عام له تعالى من جميع النقائص . وقرأ الجمهور ( ملكوت ) وطلحة والأعمش ( ملكه ) على وزن شجرة . ومعناه : ضبط كل شيء والقدرة عليه . وقرىء ( مملكة ) على وزن مفعلة . وقرىء ( ملك ) والمعنى : أنه متصرف فيه على ما أراد وقضى . والجمهور ( ترجعون ) مبنيا للمفعول وزيد بن علي مبنيا للمفعول للفاعل .

" صفحة رقم 334 "
( سورة الصافات )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزَاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَاهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الاٌّ عْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ ءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَقَالُواْ إِن هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءَابَآؤُنَا الاٌّ وَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ وَقَالُواْ ياوَيْلَنَا هَاذَا يَوْمُ الدِّينِ هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَءِنَّا لَتَارِكُوءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو الْعَذَابَ الاٌّ لِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَائِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا

" صفحة رقم 335 "
تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاٍّ ولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِىأَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لاّكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ فَهُمْ عَلَىءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاٌّ وَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاٌّ خِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاٌّ خَرِينَ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَءِفْكاً ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَىءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاٌّ سْفَلِينَ } )
الصافات : ( 1 ) والصافات صفا
الزجر : الدفع عن الشيء بتسليط وصياح . والزجرة : الصيحة ، من قولك : زجر الراعي الإبل والغنم ، إذا صاح عليهما فرجعت لصوته ، قال الشاعر : زجر أبي عروة السباع إذا
أشفق أن يختلطن بالغنم
يريد تصويته بها . الثاقب : الشديد النفاذ . اللازب : اللازم ما جاوره واللاصق به . اللذيذ : المستطاب ، يقال لذا لشيء يلذ ، فهو لذيذ ولذ على وزن فعل ، كطلب . قال الشاعر : تلذ بطعمه وتخال فيه
إذا نبهتها بعد المنام

" صفحة رقم 336 "
وقال : ولذ كطعم الصرخدي تركته
بأرض العدا من خشية الحدثان
يريد النوم .
وقال : بحديثك اللذي الذي لو كلمت
أسد الفلاة به أتين سراعاً
الغول : اسم عام في الأذى ، تقول : غاله كذا وكذا ، إذا ضره في خفاء ، ومنه : الغيلة في العقل ، والغيلة في الرضاع ، وغاله الشيء : أهلكه وأفسده ، ومنه : الغول التي في أكاذيب العرب وفي أمثالهم : الغضب غول الحلم . وقال الشاعر : مضى أولونا ناعمين بعيشهم
جميعاً وغالتني بمكة غول
أي : عاقتني عوائق ، وقال : وما زالت الخمر تغتالنا
وتذهب بالأول فالأول
نزفت الشارب الخمر وأنزف هو : ذهب عقله من السكر ، فهو نزيف ومنزف ، الثلاثي متعد والرباعي لازم ، نحو : كبيت الرجل وأكب ، وقشعت الريح السحاب ، وقشع هواي : أي دخلا في الكب والقشع . قال الشاعر ، وهو الأسود : لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم
لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
ونزف الشارب ، بضم الزاي ، ويقال : نزف المطعون : ذهب دمه كله ، مبنياً للمفعول ، ونزحت الركية حتى نزفتها : لم يبق فيها ماء ، ويقال : أنزف الرجل بعد شرابه ، فانزف مشترك بين سكر ونفد . البيض : معروف ، وهو اسم جنس ، الواحد بيضة ، وسمي بذلك لبياضه ، ويجمع على بيوض . قال الشاعر : بتيهاء قفر والمطي كأنها
قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها
الزقوم : شجرة مسمومة لها لبن ، إن مس جسم إنسان تورم ومات منه في أغلب الأمر ، تنبت في البلاد المجدبة المجاورة للصحراء . والتزقم : البلع على شدة وجهد . شاب الشيء بالشيء يشوبه شوباً : خلطه ومزجه . راغ يروغ : مال في خفية من روغة الثعلب . زف : أسرع ، وأزف : دخل في الزفيف ، فهمزته به ليست للتعدية ، وأزفه : حمله على الزفيف . قال

" صفحة رقم 337 "
الأصمعي : فالهمزة فيه للتعدية . وقال الشاعر ، وهو الفرزدق :
فجاء فزيع الشول قبل افالها
يزف وجاءت خلفه وهي زفف
) وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَاهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَّبُّ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الاْعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ).
هذه السورة مكية ، ومناسبة أولها لآخر يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته على إحياء الموتى ، وأنه هو منشئهم ، وإذا تعلقت إرادته بشيء ، كان ذكر تعالى وحدانيته ، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة وجوداً وعدماً إلا بكون المريد واحداً ، وتقدم الكلام على ذلك في قوله : ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ ).
وأقسم تعالى بأشياء من مخلوقاته فقال : ) تُرْجَعُونَ وَالصَّافَّاتِ ). قال ابن مسعود ، وقتادة ، ومسروق : هم الملائكة ، تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً ؛ وقيل : تصف أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله . وقيل : من يصف من بني آدم في قتال في سبيل الله ، أو في صلاة وطاعة . وقيل : والطير صافات . والزاجرات ، قال مجاهد ، والسدي : الملائكة تزجر السحاب وغيرها من مخلوقات الله تعالى . وقال قتادة : آيات القرآن لتضمنه النواهي الشرعية ؛ وقيل : كل ما زجر عن معاصي الله . والتاليات : القارئات . قال مجاهد : الملائكة يتلون ذكره . وقال قتادة : بنو آدم يتلون كلامه المنزل وتسبيحه وتكبيره . وقال مجاهد : الملائكة يتلون ذكره . قال الزمخشري : ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات ، فالزاجرات بالموعظة والنصائح ، فالتاليات آيات الله ، والدارسات شرائعه ؛ أو بنفوس قراء القرآن في سبيل الله التي تصف الصفوف ، وتزجر الخيل للجهاد ، وتتلوا الذكر مع ذلك لا يشغلها عنه تلك الشواغل . انتهى . وقال ما معناه : إن الفاء العاطفة في الصافات ، إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله : يا لهف زيابة للحارث الصابح ، فالغانم ، فالآيب ، أي الذي صبح فغنم فآب ؛ وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه ، كقولك : خذ الأفضل فالأفضل ، واعمل الأحسن فالأجمل ؛ وإما على ترتيب موصوفاتها في ذلك ، كقولك : رحم الله المحلقبين فالمقصرين . فأما هنا ، فإن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتيب الصافات في التفاضل ، فإذا كان الموحد الملائكة ، فيكون الفضل للصف ، ثم الزجر ، ثم التلاوة ؛ وإما على العكس ، وإن تليت الموصوف ، فترتب في الفضل ، فتكون الصافات ذوات فضل ، والزاجرات أفضل ، والتاليات أبهر فضلاً ، أو على العكس . انتهى . ومعنى العكس في المكانين : أنك ترتقي من أفضل إلى فاضل إلى مفضول ؛ أو تبدأ بالأدنى ، ثم بالفاضل ، ثم بالأفضل . وأدغم ابن مسعود ، ومسروق ، والأعمش ، وأبو عمرو ، وحمزة : التاآت الثلاثة . والجملة المقسم عليها تضمنت وحدانيته تعالى ، أي هو واحد من جميع الجهات التي ينظر فيها المتفكرون خبر بعد خبر ، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وهو أمدح ، أي هو رب .
وذكر المشارق لأنها مطالع الأنوار ، والإبصار بها أكلف ، وذكرها يغني عن ذكر المغارب ، إذ ذاك مفهوم من المشارق ، والمشارق ثلاثمائة وستون مشرقاً ، وكذلك المغارب . تشرق الشمس كل يوم من مشرق منها وتغرب في مغرب ، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين .

" صفحة رقم 338 "
وثني في ) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( ، باعتبار مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما . وقال ابن عطية : أراد تعالى مشارق الشمس ومغاربها ، وهي مائة وثمانون في السنة ، فيما يزعمون ، من أطول أيام السنة إلى أقصرها .
ثم أخبر تعالى عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب ، وانتظام التزيين أن جعلها حفظاً وحذراً من الشيطان . انتهى . والزينة مصدر كالسنة ، واسم لما يزان به الشيء ، كالليقة اسم لما يلاق به الدواة . وقرأ الجمهور : ) بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ( بالإضافة ، فاحتمل المصدر مضافاً للفاعل ، أي بأن زانت السماء الكواكب ، ومضافاً للمفعول ، أي بأن زين الله الكواكب . واحتمل أن يكون ما يزان به ، والكواكب بيان للزينة ، لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به ، أو مما زينت الكواكب من إضاءتها وثبوتها . وقرأ ابن مسعود ، ومسروق : بخلاف عنه ؛ وأبو زرعة ، وابن وثاب ، وطلحة : بزينة منوناً ، الكواكب بالخفض بدلاً من زينة . وقرأ ابن وثاب ، ومسروق : بخلاف عنهما ؛ والأعمش ، وطلحة ، وأبو بكر : بزينه منوناً ، الكواكب نصباً ، فاحتمل أن يكون بزينة مصدراً ، والكواكب مفعول به ، كقوله : ) أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ). واحتمل أن يكون الكواكب بدلاً من السماء ، أي زينا كواكب السماء . وقرأ زيد بن علي بتنوين زينة ، ورفع الكواكب على خبر مبتدأ ، أي هو الكواكب ، أو على الفاعلية بالمصدر ، أي بأن زينت الكواكب . ورفع الفاعل بالمصدر المنون ، زعم الفراء أنه ليس بمسموع ، وأجاز البصريون ذلك على قلة . وقال ابن عباس : ) بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ( : بضوء الكواكب ؛ قيل : ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة ، كشكل الثريا ، وبنات نعش ، والجوزاء ، وغير ذلك ، ومطالعها ومسايرها . وخص ) السَّمَاء الدُّنْيَا ( بالذكر ، لأنها التي تشاهد بالأبصار ؛ والحفظ من الشياطين ، إنما هو فيها وحدها . وانتصب ) وَحِفْظاً ( على المصدر ، أي وحفظناها حفظاً ، أو على المفعول من أجله على زيادة الواو ، أو على تأخير العامل ، أي ولحفظها زيناها بالكواكب ، وحملاً على معنى ما تقدم ، لأن المعنى : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً : وكل هذه الأقوال منقولة ، والمارد تقدم شرحه في قوله : ) شَيْطَاناً مَّرِيداً ( في النساء ، وهناك جاء ) مَّرِيداً ( ، وهنا ) مَّارِدٍ ( ، مراعاة للفواصل .
( لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الاْعْلَى ( : كلام منقطع مبتدأ اقتصاصاً لما عليه حال المسترقة للسمع ، وأنهم لا يقدرون أن يستمعوا أو يسمعوا ، وهم مقذوفون بالشهب مبعدون عن ذلك ، إلا من أمهل حتى خطف الخطفة واسترق استراقة ، فعندها تعاجله الملائكة باتباع الشهاب الثاقب . ولا يجوز أن يكون لا يسمعون صفة ولا استئنافاً جواباً لسائل سأل لم يحفظ من الشياطين ، لأن الوصف كونهم لا يسمعون ، أو الجواب لا معنى للحفظ من الشياطين على تقديرهما ، إذ يصير المعنى مع الوصف : وحفظاً من كل شيطان مارد غير سامع أو مسمع ، وكذلك لا يستقيم مع كونه جواباً . وقول من قال : إن الأصل لأن لا يسمعوا ، فحذفت اللام وإن ، فارتفع الفعل ، قول متعسف يصان كلام الله عنه . وقرأ الجمهور : لا يسمعون : نفي سماعهم ، وإن كانوا يسمعون بقوله : ) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ( ، وعداه بإلى لتضمنه معنى الإصغاء . وقرأ ابن عباس بخلاف عنه ؛ وابن وثاب ، وعبد الله بن مسلم ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : بشد السين والميم بمعنى لا يتسمعون ، أدغمت التاء في السين ، وتقتضي نفي التسمع . وظاهر الأحاديث أنهم يتسمعون حتى الآن ، لكنهم لا يسمعون ؛ وإن سمع أحد منهم شيئاً لم يفلت حرساً وشهباً من وقت بعثة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وكان الرجم في الجاهلية أحق ، فأما كانت ثمرة التسمع هو السمع ، وقد انتفى السمع بنفي التسمع في هذه القراءة لانتفاء ثمرته ، وهو السمع . و ) الْمَلإِ الاْعْلَى ( يعم الملائكة ، والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض . وقال ابن عباس : هم أشراف الملائكة ، وعنه كتابهم .
( وَيَقْذِفُونَ ( : يرمون ويرجمون ، ( مِن كُلّ جَانِبٍ ( : أي من كل جهة يصعدون إلى السماء منها ، والمرجوم بها هي التي يراها الناس تنقض ، وليست بالكواكب الجارية في السماء ، لأن تلك لا ترى حركتها ، وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا ، قاله مكي والنقاش . وقرأ محبوب عن ابن عمرو ويقذفون مبنياً للفاعل ، ودحوراً مصدر في موضع الحال . قال مجاهد : مطرودين ، أو مفعول من أجله ، أي ولو يقذفون للطرد ، أو مصدر ليقذفون ، لأنه متضمن معنى الطرد ، أي ويدحرون من كل جانب دحوراً

" صفحة رقم 339 "
لو ويقذفون من كل جانب قذفاً . فإما أن يكون التجوز في ويقذفون ، وإما في دحوراً . وقرأ عليّ ، والسلمي ، وابن أبي عبلة ، والطبراني عن رجاله عن أبي جعفر : دحوراً ، بنصب الدال ، أي قذفاً دحوراً ، بنصب الدال . ويجوز أن يكون مصدراً ، كالقبول والولوغ ، إلا أن هذه ألفاظ ذكر أنها محصورة . والواضب : الدائم ، قاله السدّي وأبو صالح ، وتقدّم في سورة النحل . ويقال : وصب الشيء وصوباً : دام . وقال مجاهد : الموجع ، ومنه الوصب ، كأن المعنى : أنهم في الدنيا مرجومون ، وفي الآخرة معذبون . ويجوز أن يكون هذا العذاب الدائم لهم في الدنيا ، وهو رجمهم دائماً ، وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع .
( إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ( : من بدل من الضمير في لا يسمعون ، ويجوز أن يكون منصوباً على الاستثناء ، أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف . وقرأ الجمهور : خطف ثلاثياً بكسر الطاء . وقرأ الحسن ، وقتادة : بكسر الخاء والطاء مشددة . قال أبو حاتم : ويقال هي لغة بكر بن وائل وتميم بن مرة . وقرىء : خطف بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة ، ونسبها ابن خالويه إلى الحسن وقتادة وعيسى ، وعن الحسن أيضاً التخفيف . وأصله في هاتين القراءتين اختطف ، ففي الأول لما سكنت للإدغام ، والخاء ساكنة ، كسرت لالتقاء الساكنين ، فذهبت ألف الوصل وكسرت الطاء اتباعاً لحركة الخاء . وعن ابن عباس : خطف بكسر الخاء والطاء مخففة ، اتبع حركة الخاء لحركة الطاء ، كما قالوا نعم . وقرىء : فاتبعه ، مخففاً ومشدداً . والثاقب ، قال السدي وقتادة : هو النافذ بضوئه وشعاعه المنير .
( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَقَالُواْ إِن هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ مُّبِينٌ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءابَاؤُنَا الاْوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ داخِرُونَ فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ وَقَالُواْ ياوَيْلَنَا هَاذَا يَوْمُ الدّينِ هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ).
الاستفتاء نوع من السؤال ، والهمزة ، وإن خرجت إلى معنى التقرير ، فهي في الأصل لمعنى الاستفهام ، أي فاستخبرهم ، والضمير لمشركي مكة . وقيل : نزلت في أبي الأشد بن كلدة ، وكني بذلك لشدة بطشه وقوته . وعادل في هذا الاستفهام التقريري في الأشدية بينهم وبين من خلق من غيرهم من الأمم والجن والملائكة والأفلاك والأرضين . وفي مصحف عبد الله : أم من عددنا ، وهو تفسير لمن خلقنا ، أي من عددنا من الصافات وما بعدها من المخلوقين . وغلب العاقل على غيره في قوله : ) مَّنْ خَلَقْنَا ( ، واقتصر على الفاعل في ) خَلَقْنَا ( ، ولم يذكر متعلق الخلق اكتفاء ببيان ما تقدمه ، وكأنه قال : أم من خلقنا من غرائب المصنوعات وعجائبها . وقرأ الأعمش : أمن بتخفيف الميم دون أم ، جعله استفهاماً ثانياً تقريراً أيضاً ، فهما جملتان مستقلتان في التقرير ، ومن مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره أشد . فعلى أم من هو تقرير واحد ونظيره : ) أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ). قال الزمخشري : وأشد خلقاً يحتمل أقوى خلقاً ، من قولهم : شديد الخلق ، وفي خلقه شدة ، وأصعب خلقاً . وأشد خلقاً وأشقه يحتمل أقوى خلقاً من قولهم : شديد الخلق ، وفي خلقه شدة ، على معنى الرد ، لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى . وإن من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ، ولم يصعب عليه اختراعها ، كان خلق الشر عليه أهون . وخلقهم من طين لازب ، إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة ، لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة ؛ أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب . فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله ؟ قالوا : ) أَءذَا كُنَّا تُرَابًا ( ، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث . انتهى . والذي يظهر الاحتمال الأول . وقيل : ) أَم مَّنْ خَلَقْنَا ( من الأمم الماضية ، كقوله : ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ( ، وقوله : ) وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً ( ، وأضاف : الخلق من الطين إليهم ، والمخلوق منه هو

" صفحة رقم 340 "
أبوهم آدم ، إذ كانوا نسله . وقال الطبري : خلق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء ، وهذا كله إذا خلط صار طيناً لازباً يلزم ما جاوره . وعن ابن عباس : اللازب بالجر ، أي الكريم الجيد .
وقرأ الجمهور : ) بَلْ عَجِبْتَ ( ، بتاء الخطاب ، أي من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة ، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ، ومما تريهم من آثار قدرة الله ، أو عجبت من إنكارهم البعث ، وهم يسخرون من أمر البعث . أو عجبت من إعراضهم عن الحق وعماهم عن الهدى ، وأن يكونوا كافرين مع ما جئتم به من عند الله . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وابن سعدان ، وابن مقسم : بياء المتكلم . ورويت عن عليّ ، وعبد الله ، وابن عباس ، والنخعي ، وابن وثاب ، وطلحة ، وشقيق ، والأعمش . وأنكر شريح القاضي هذه القراءة . وقال : الله لا يعجب ، فقال إبراهيم : كان شريح معجباً بعلمه ، وعبد الله أعلم منه ، يعني عبد الله ابن مسعود . والظاهر أن ضمير المتكلم هو لله تعالى ، والعجب لا يجوز على الله تعالى ، لأنه روعة تعتري المتعجب من الشيء . وقد جاء في الحديث إسناد العجب إلى الله تعالى ، وتؤول على أنه صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه . فالمعنى : بل عجبت من ضلالتهم وسوء عملهم ، وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن فيها من شرعي وهداي متعجباً . وقال الزمخشري : أي بلغ من عظيم آياتي وكثرة خلائقي أني عجبت منها ، فكيف بعبادي وهؤلاء ، لجهلهم وعنادهم ، يسخرون من آياتي ؟ أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله ، وهم يسخرون بمن يصف الله بالقدرة عليه ، قال : ويجرد العجب لمعنى الاستعظام ، أو يخيل العجب ويفرض . وقيل : هو ضمير الرسول ، أي قل بل عجبت . قال مكي ، وعليّ بن سليمان : وهم يسخرون من نبوتك والحق الذي عندك .
( وَإِذَا ذُكّرُواْ ( ووعظوا ، ( لاَ يَذْكُرُونَ ( ، ولا يتعظون . وذكر جناح بن حبيش : ذكروا ، بتخفيف الكاف . روي أن ركانة رجلاً من المشركين من أهل مكة ، لقيه الرسول في جبل خال يرعى غنماً له ، وكان من أقوى الناس ، فقال له : ( يا ركانة ، أرأيت إن صرعتك أتؤمن من بي ) ؟ قال : نعم ، فصرعه ثلاثاً ، ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها ، فلم يؤمن ، وجاء إلى مكة فقال : يا بني هاشم ، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض ، فنزلت فيه وفي نظرائه : ) وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً يَسْتَسْخِرُونَ ). قال مجاهد ، وقتادة : يسخرون ، يكون استفعل بمعنى المجرد . وقيل : فيه معنى الطلب ، أي يطلبون أن يكونوا ممن يسخرون . وقال الزمخشري : يبالغون في السخرية ، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها . وقرىء : يستسحرون ، بالحاء المهملة ، وهو عبارة عن ما قال ركانة لأسحر الرسول . والإشارة بهذا إلى ما ظهر على يديه ، عليه السلام ، من الخارق المعجز .
وتقدم الخلاف في كسر ميم ) مِتْنَا ( وضمها . ومن قرأ : ) أئذا ( بالاستفهام ، فجواب إذا محذوف ، أي نبعث ، ويدل عليه إنا لمبعوثون ، أو يعرى عن الشرط ويكون ظرفاً محضاً ، ويقدر العامل : أنبعث إذا متنا ؟ وقرأ الجمهور : ) لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءابَاؤُنَا ( بفتح الواو في أو . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وابن عامر ، ونافع في رواية قالون : بالسكون ، فهي حرف عطف ، ومن فتح قالوا وحرف عطف دخلت عليه همزة الاستفهام . قال الزمخشري : ) أَوَ ءابَاؤُنَا ( معطوف على محل إن واسمها ، أو على الضمير في مبعوثون . والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام ، والمعنى : أيبعث أيضاً آباؤنا ؟ على زيادة الاستبعاد ، يعنون أنهم أقدم ، فبعثهم أبعد وأبطل . انتهى . أما قوله معطوف على محل إن واسمها فمذهب سيبويه خلافه ، لأن قولك : إن زيداً قائم وعمرو ، فيه مرفوع على الابتداء ، وخبره محذوف . وأما قوله : أو على الضمير في ) مَّبْعُوثُونَ ( إلى آخره ، فلا يجوز عطفه على الضمير ، لأن همزة الاستفهام لا تدخل إلا على الجمل ، لا على المفرد ، لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملاً في المفرد بوساطة حرف العطف ، وهمزة الاستفهام لا يعمل فيما بعدها ما قبلها . فقوله : ) أَوَ ءابَاؤُنَا ( مبتدأ ، خبره محذوف تقديرهه مبعوثون ، ويدل عليه ما قبله . فإذا

" صفحة رقم 341 "
قلت : أقام زيد أو عمرو ، فعمرو مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا ، واستفهامهم تضمن إنكاراً واستبعاداً ، فأمر الله نبيه أن يجيبهم بنعم .
( وَأَنتُمْ داخِرُونَ ( : أي صاغرون ، وهي جملة حالية ، العامل فيها محذوف تقديره نعم تبعثون ، وزادهم في الجواب أن بعثهم وهم ملتبسون بالصغار والذل . وقرأ ابن وثاب : نعم بكسر العين ، وتقدم الخلاف فيها في سورة الأعراف ، وهي كناية عن البعثة ، فإنما بعثتهم ) زَجْرَةٌ ( : أي صيحة ، وهي النفخة الثانية . لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازاً . وقال الزمخشري : هي مبهمة يوضحها خبرها . انتهى . وكثيراً ما يقول هو وابن مالك أن الضمير يفسره الخبر ، وجعل من ذلك ابن مالك ) إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( ، وتكلمنا معه في ذلك في شرح التسهيل . وقال الزمخشري : فإنما جواب شرط مقدر ، وتقديره : إذا كان ذلك ، فما هي إلا زجرة واحدة . انتهى . وكثيراً ما تضمن جملة الشرط قبل فاء إذا ساغ ، تقديره : ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ، ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي ، وما ذكر معهما على قول بعضهم ، أما ابتداء فلا يجوز حذفه .
و ) يُنظَرُونَ ( : من النظر ، أي فإذا هم بصراء ينظرون ، أو من الانتظار ، أي فإذا هم ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به . والظاهر أن قوله : ) يا ويلنا ( من كلام بعض الكفار لبعض ، إلى آخر الجملتين ، أقروا بأنه يوم الجزاء ، وأنه يوم الفصل ، وخاطب بعضهم بعضاً . ووقف أبو حاتم على قوله : ) يا ويلنا ( ، وجعل ) وَقَالُواْ ياوَيْلَنَا هَاذَا يَوْمُ الدّينِ ( إلى آخره من قول الله لهم أو الملائكة . وقيل : ) هَاذَا يَوْمُ الدّينِ ( من كلام الكفرة ، و ) هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ ( ليس من كلامهم ، وإنما المعنى يقال لهم هذا يوم الفصل . ويوم الدين : يوم الجزاء والمعاوضة ، ويوم الفصل : يوم الفرق بين فرق الهدى وفرق الضلال . وفي ) الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ( توبيخ لهم وتقريع .
( احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَالَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَءنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ جَاء بِالْحَقّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابَ الاْلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ).
) احْشُرُواْ ( : خطاب من الله للملائكة ، أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض ، أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات ، قاله ابن عباس ، ورجحه الرماني . وأنواعهم وضرباؤهم ، قاله عمرو ابن عباس أيضاً ، أو أشباههم من العصاة ، وأهل الزنا مع أهل الزنا ، وأهل السرقة ، أو قرناؤهم الشياطين . وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي : ) وَأَزْواجُهُمْ ( ، مرفوعاً عطفاً على ضمير ظلموا ، أي وظلم أزواجهم . ) فَاهْدُوهُمْ ( : أي عرفوهم وقودوهم إلى طريق النار حتى يصطلوها ، والجحيم طبقة من طبقات جهنم . ) وَقِفُوهُمْ ( ، كما قال : ) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ ( ، وهو توبيخ لهم ، ( أَنَّهُمْ ). وقرأ عيسى : أنهم ، بفتح الهمزة . قال عبد الله : يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم ، وعنه أيضاً : يسألون عن لا إله إلا الله . وقال الجمهور : وعن أعمالهم ، ويوقفون على قبحها . وفي الحديث : ( لا تزول قد ما عبد حتى يسأل عن خمس شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله كيف اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن ما عمل فيما علم ) . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى على نحو ما فسره بقوله : ) مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ( ، أي إنهم مسئولون عن امتناعهم عن التناصر ، وهذا على سبيل التوبيخ في الامتناع . وقال الزمخشري : هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعدما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين . وقال الثعلبي : ) مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ( ، جواب أبي جهل حين قال

" صفحة رقم 342 "
في بدر : ) نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ). وقرىء : لا تناصرون ، بتاء واحدة وبتاءين ، وبإدغام إحداهما في الأخرى .
( بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ( : أي قد أسلم بعضهم بعضاً ، وخذله عن عجز ، وكل واحد منهم مستسلم غير منتصر . ) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ( ، قال قتادة : هم جن وإنس ، وتساؤلهم على معنى التقريع والندم والسخط . قالوا : أي قالت الإنس للجن . قال مجاهد ، وابن زيد : أو ضعفة الإنس الكفرة لكبرائهم وقادتهم . و ) الْيَمِينِ ( : الجارحة ، وليست مرادة هنا . فقيل : استعيرت لجهة الخير ، أو للقوة والشدة ، أو لجهة الشهوات ، أو لجهة التمويه والإغواء وإظهار أنها رشد ، أو الحلف . ولكل من هذه الاستعارات وجه .
فأما استعارتها لجهة الخير ، فلان الجارحة أشرف العضوين وأيمنها ، وكانوا يتمنون بها حتى في السانح ، ويصافحون ويماسخون ويناولون ويزاولون بها أكثر الأمور ، ويباشرون بها أفاضل الأشياء ، وجعلت لكاتب الحسنات ، ولأخذ المؤمن كتابه بها ، والشمال بخلاف ذلك . وأما استعارتها للقوة والشدة ، فإنها يقع بها البطش ، فالمعنى : أنكم تعروننا بقوتكم وتحملوننا على طريق الضلال . وأما استعارتها لجهة الشهوات ، فلأن جهة اليمين هي الجهة الثقيلة من الإنسان وفيها كبده ، وجهة شماله فيها قلبه ومكره ، وهي أخف ، والمنهزم يرجع على شقه الأيسر ، إذ هو أخف شقيه . وأما استعارتها لجهة التمويه والإغواء ، فكأنهم شبهوا أقوال المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة ، كأن التمويه في إغوائهم أظهر ما يحمدونه . وأما الحلف ، فإنهم يحلفون لهم ويأتونهم إتيان المقسمين على حسن ما يتبعونهم فيه .
( قَالُواْ ( ، أي المخاطبون ، إما الجن وإما قادة الكفر : ) بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( : أي لم نقركم على الكفر ، بل أنتم من ذواتكم أبيتم الإيمان . وقال الزمخشري : وأعرضتم مع تمكنكم واختباركم ، بل كنتم قوماً على الكفر غير ملجئين ، وما كان لنا عليكم من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختباركم ، بل كنتم قوماً مختارين الطغيان . انتهى . ولفظة التمكن والاختيار ألفاظ المعتزلة جرياً على مذهبهم . ) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا ( : أي لزمنا قول ربنا ، أي وعيده لنا بالعذاب . والظاهر أن قوله : ) إِنَّا لَذَائِقُونَ ( ، إخبار منهم أنهم ذائقون العذاب جميعهم ، الرؤساء ، والأتباع . وقال الزمخشري : فلزمنا قول ربنا : ) إِنَّا لَذَائِقُونَ ( ، يعني وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة ، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة . ولو حكى الوعيد كما هو لقال : إنكم لذائقون ، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم ، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم ، ونحوه قول القائل :
لقد زعمت هوازن قل مالي
ولو حكى قولها لقال : قل مالك ، ومنه قول المحلف للحالف : لأخرجن ، ولنخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف ، والتاء لإقبال المحلف على الحلف . انتهى . ) فَأَغْوَيْنَاكُمْ ( : دعوناكم إلى الغي ، فكانت فيكم قابلية له فغويتم . ) إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ( : فأردنا أن تشاركونا في الغي . ) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ( : أي يوم إذ تساؤلوا وتراجعوا في القول ، وهذا إخبار منه تعالى ، كما اشتركوا في الغي ، اشتركوا فيما ترتب عليه من العذاب . ) إِنَّا كَذَلِكَ ( : أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بكل مجرم ، فيترتب على إجرامه عذابه . ثم أخبر عنهم بأكبر إجرامهم ، وهو الشرك بالله ، واستكبارهم عن توحيده ، وإفراده بالآلهية . ثم ذكر عنهم ما قدحوا به في الرسول ، وهو نسبته إلى الشعر والجنون ، وأنهم ليسوا بتاركي آلهتهم له ولما جاء به ، فجمعوا بين

" صفحة رقم 343 "
إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة . وقولهم : ) لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ( : تخليط في كلامهم ، وارتباك في غيهم . فإن الشاعر هو عنده من الفهم والحذق وجودة الإدراك ما ينظم به المعاني الغريبة ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة ، ومن كان مجنوناً لا يصل إلى شيء من ذلك .
ثم أضرب تعالى عن كلامهم ، وأخبر بأن جاء الحق ، وهو إثبات الذي لا يلحقه إضمحلال ، فليس ما جاء به شعراً ، بل هو الحق الذي لا شك فيه . ثم أخبر أنه صدق من تقدمه من المرسلين ، إذ هو وهم على طريقة واحدة في دعوى الأمم إلى التوحيد وترك عبادة غيره . وقرأ عبد الله : وصدق بتخفيف الدال ، المرسلون بالواو رفعاً ، أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم . وقرأ الجمهور : ) لَذَائِقُونَ الْعَذَابَ ( ، بحذف النون للإضافة ؛ وأبو السمال ، وأبان ، عن ثعلبة ، عن عاصم : بحذفها لالتقاء لام التعريف ونصب العذاب . كما خذف بعضهم التنوين لذلك في قراءة من قرأ أحد الله ، ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ : لذائق منوناً ، العذاب بالنصب ، ويخرج على أن التقدير جمع ، وإلأ لم يتطابق المفرد وضمير الجمع في ) إِنَّكُمْ ( ، وقول الشاعر : فألفيته غير مستعتب
ولا ذاكر الله إلا قليلاً
وقرىء : لذائقون بالنون ، العذاب بالنصب ، وما ترون إلا جزاء مثل عملكم ، إذ هو ثمرة عملكم . ) إلاّ عباد الله المخلصين ، أولئك لهم رزق معلوم ، فواكه وهم مكرمون ، في جنات النعيم ، على سرر متقابلين ، يطاف عليهم بكأس من معين ، بيضاء لذة للشاربين ، لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ، وعندهم قاصرات الطرف عين ، كأنهم بيض مكنون ، فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، قال قائل منهم إني كان لي قرين ، يقول أإنك لمن المصدقين ، أإذا متنا وكنا تراباً وعظام أإنا لمدينون ، قال هل أنتم مطّلعون ، فاطلع فرآه في سواء الجحيم ، قال تالله إن كدت لتردين ، ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ، أفما نحن بميتين ، إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين ، إن هذا لهو الفوز العظيم ، لمثل هذا فليعمل العاملون .
( إلا عباد الله ( : استثناء منقطع . لما ذكر شيئاً من أحوال الكفار وعذابهم ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم . و ) الْمُخْلَصِينَ ( : صفة مدح ، لأن كونهم عباد الله ، يلزم منه أن يكونوا مخلصين . ووصف ) رّزْقِ ( بمعلوم ، أي عندهم . فقد قرت عيونهم بما يستدر عليهم من الرزق ، وبأن شهواتهم تأتيهم بحسبها . وقال الزمخشري : معلوم بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر . وقيل : معلوم الوقت كقوله : ) وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ). وعن قتادة : الرزق المعلوم : الجنة . وقوله : ) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( يأباه . انتهى . ) فَواكِهُ ( بدل من ) رّزْقِ ( ، وهي ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة ، يعني أن رزقهم كله فواكه لاستغنائهم عن حفظ الصحة بالأقوات لأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد ، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ . وقرأ ابن مقسم : مكرمون ، بفتح الكاف مشدد الراء .
ذكر أولاً الرزق ، وهو ما يتلذذ به الأجسام . وثانياً الإكرام ، وهو ما يتلذذ به النفوس ، ورزق بإهانة تنكيد . ثم ذكر المحل الذي هم فيه ، وهو جنات النعيم . ثم أشرف المحل ، وهو السرر . ثم لذة التآنس بأن بعضهم يقابل بعضاً ، وهو أتم السرور آنسة . ثم المشروب ، وأنهم لا يتناولون ذلك بأنفسهم ، بل يطاف عليهم بالكؤوس . ثم وصف ما يطاف عليهم به من الطيب وانتفاء المفاسد . ثم ذكر تمام اللذة الجسمانية ، وختم بها كما بدأ باللذة الجسمانية من الرزق ، وهي أبلغ الملاذ ، وهي التآنس بالنساء .
وقرأ الجمهور : ) عَلَى سُرُرٍ ( ، بضم الراء ؛ وأبو السمال : بفتحها ، وهي لغة بعض تميم ؛ وكلب يفتحون ما كان جمعاً على فعل من

" صفحة رقم 344 "
المضعف إذا كان اسماً . واختلف النحويون في الصفة ، فمنهم من قاسها على الاسم ففتح ، فيقول ذلك بفتح اللام على تلك اللغة الثانية في الاسم . ومنهم من خص ذلك بالاسم ، وهو مورد السماع في تلك اللغة . وقيل : التقابل لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض . وفي الحديث : ( أنه في أحيان ترفع عنهم ستور فينظر بعضهم إلى بعض ولا محالة أن أكثر أحيانهم فيها قصورهم ) . و ) يُطَافُ ( : مبني للمفعول وحذف الفاعل ، وهو المثبت في آية أخرى في قوله : ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ ( ، ( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ ( ، ولعلهم من مات من أولاد المشركين قبل التكليف . ففي صحيح البخاري أنهم خدم أهل الجنة . والكاس : ما كان من الزجاجة فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ، ولا يسمى كأساً إلا وفيه ذلك . وقد سمى الخمر نفسها كأساً ، تسمية للشيء باسم محله ، قال الشاعر : وكأس شربت على لذة
وأخرى تداويت منها بها
وقال ابن عباس ، والضحاك ، والأخفش : كل كأس في القرآن فهو خمر . وقيل : الكأس هيئة مخصوصة في الأواني ، وهو كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض ، ولا يراعى كونه لخمر أولاً . ) مّن مَّعِينٍ ( : أي من شراب معين ، أو من ثمد معين ، وهو الجاري على وجه الأرض كما يجري الماء . و ) بَيْضَاء ( : صفة للكأس أو للخمر . وقال الحسن : خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن . وفي قراءة عبد الله : صفراء ، كما قال بعض المولدين : صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
لو مسها حجر مسته سراء
و ) لَذَّةٍ ( : صفة بالمصدر على سبيل المبالغة ، أو على حذف ، أي ذات لذة ، أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ . ) لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( ، قال ابن عباس ، وقتادة : هو صداع في الرأس . وقال ابن عباس أيضاً ، ومجاهد ، وابن زيد : وجع في البطن . انتهى . والاسم يشمل أنواع الفساد الناشئة عن شرب الخمر ، فينتفي جميعها من مغص ، وصداع ، وخمار ، وعربدة ، ولغو ، وتأثيم ، ونحو ذلك . ولما كان السكر أعظم مفاسدها ، أفرده بالذكر فقال ؛ ) وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ). وقرأ الحرميان ، والعربيان : بضم الياء وفتح الزاي هنا ، وفي الواقعة : وبذهاب العقل ، فسره ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وحمزة ، والكسائي : بكسرها فيهما ؛ وعاصم : بفتحها هنا وكسرها في الواقعة ؛ وابن أبي إسحاق : بفتح الياء وكسر الزاي ؛ وطلحة : بفتح الياء وضم الزاي . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد : ) قَاصِراتُ الطَّرْفِ ( : قصرن الطرف على أزواجهن ، لا يمتد طرفهن إلى أجنبي بقوله تعالى : ) عُرُباً ( ، وقال الشاعر : من القاصرات الطرف لو ( دب محول من الذر فوق الخد منها لأثرا
والعين : جمع عيناء ، وهي الواسعة العين في جمال . ) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ( : شبههن ، قال الجمهور : ببيض النعام المكنون في عشه ، وهو الأدحية ولونها بياض به صفرة حسنة ، وبها تشبه النساء فقال :
مضيئات الخدود ومنه قول امرىء القيس :
وبيضة خدر لا يرام خباؤها
تمتعت من لهو بها غير معجل

" صفحة رقم 345 "
كبكر مغاناة البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحلل
وقال السدي ، وابن جبير : شبه ألوانهن بلون قشر البيضة الداخل ، وهو غرقىء البيضة ، وهو المكنون في كن ، ورجحه الطبري وقال : وأما خارج قشر البيضة فليس بمكنون . وعن ابن عباس ، البيض المكنون : الجوهر المصون ، واللفظ ينبو عن هذا القول . وقالت فرقة : هو تشبيه عام جملة المرأة بجملة البيضة ، أراد بذلك تناسب أجزاء المرأة ، وأن كل جزء منها نسبته في الجودة إلى نوعه نسبة الآخر من أجزائها إلى نوعه ؛ فنسبة شعرها إلى عينها مستوية ، إذ هما غاية في نوعها ، والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء ، لأنها من حيث حسنها في النظر واحد ، كما قال بعض الأدباء يتغزل :
تناسبت الأغضاء فيه فلا ترى
بهن اختلافاً بل أتين على قدر
وتساؤلهم في الجنة سؤال راحة وتنعم ، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا والإيمان وثمرته . و ) فَأَقْبَلَ ( : معطوف على ) يُطَافُ عَلَيْهِمْ ( ، والمعنى : يشربون فيتحدثون على الشراب ، كعادة الشراب في الدنيا .
قال الشاعر :
وما بقيت من اللذات إلا
أحاديث الكرام على المدام
وجيء به ماضياً لصدق الإخبار به ، فكأنه قد وقع . ثم حكى تعالى عن بعضهم ما حكى ، يتذكر بذلك نعمه تعالى عليه ، حيث هداه إلى الإيمان واعتقاد وقوع البعث والثواب والعقاب ، وهو مثال للتحفظ من قرناء السوء والبعد منهم . قال ابن عباس وغيره : كان هذا القائل وقرينه من البشر . وقالت فرقة : هما اللذان في قوله : ) لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً ). وقال مجاهد : كان إنسياً وجنياً من الشياطين الكفرة . وقرأ الجمهور : ) مِنْ الْمُصَدّقِينَ ( ، بتخفيف الصاد ، من التصديق ؛ وفرقة : بشدها ، من التصدق . قال قرة بن ثعلبة النهراني : كانا شريكين بثمانية آلاف درهم ، يعبد الله أحدهما ، ويقصر في التجارة والنظر ؛ والآخر كان مقبلاً على ماله ، فانفصل من شريكه لتقصيره ، فكلما اشترى داراً أو جارية أو بستاناً ونحوه ، عرضه على المؤمن وفخر عليه ، فيتصدق المؤمن بنحو من ذلك ليشتري به في الجنة ، فكان من أمرهما في الآخرة ما قصد الله . وقال الزمخشري : نزلت في رجل تصدق بماله لوجه الله ، فاحتاج ، فاستجدى بعض إخوانه ، فقال : وأين مالك ؟ فقال : تصدقت به ليعوضني الله في الآخرة خيراً منه ، فقال : ) أَءنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ ( بيوم الدين ، أو من المتصدقين لطلب الثواب ؟ والله لا أعطيك شيئاً .
( أَءنَّا لَمَدِينُونَ ( ، قال ابن عباس ، وقتادة والسدي : لمجازون محاسبون ؛ وقيل : لمسوسون مديونون . يقال : دانه : ساسه ، ومنه الحديث : ( العاقل من دان نفسه ) . والظاهر أن الضمير في ) قَالَ هَلْ أَنتُمْ ( عائد على قائل في قوله : ) قَالَ قَائِلٌ ). قيل : وفي الكلام حذف تقديره : فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة : إن قرينك هذا في جهنم يعذب ، فقال عند ذلك : ) هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ ). والخطاب في ) هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ ( يجوز أن يكون للملائكة ، وأن يكون لرفقائه في الجنة الذين كان هو وإياهم يتساؤلون ، أو لخدمته ، وهذا هو الظاهر . لما كان قرينه ينكر البعث ، علم أنه في النار فقال : ) هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ ( إلى النار لأريكم ذلك القرين ؟ وعلى هذا القول لا يحتاج الكلام إلى حذف ، ولا لقول الملائكة : إن قرينك في جهنم يعذب . قيل : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار . وقيل : القائل ) هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ ( الله تعالى . وقيل : بعض الملائكة يقول لأهل الجنة : بل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار . وقرأ الجمهور : ) مُّطَّلِعُونَ ( ، بتشديد الطاء المفتوحة وفتح النون ، واطلع بشد الطاء فعلاً ماضياً . وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي : مطلعون ، بإسكان الطاء وفتح النون ، فأطلع بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلاً ماضياً مبنياً

" صفحة رقم 346 "
للمفعول ، وهي قراءة ابن عباس وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبي سراج . وقرىء : فأطلع ، مشدداً مضارعاً منصوباً على جواب الاستفهام . وقرىء : مطلعون ، بالخفيف ، فاطلع مخففاً فعلاً ماضياً ، وفاطلع مخففاً مضارعاً منصوباً . وقرأ أبو البر هيثم ، وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عن عمار : مطلعون ، بتخفيف الطاء وكسر النون ، فاطلع ماضياً مبنياً للمفعول ؛ ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره . لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم . والوجه مطلعي ، كما قال ، أو مخرجي هم ، ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع ، وأنشد الطبري على هذا قول الشاعر : وما أدري وظني كل ظن
أمسلمني إلى قومي شراحي
قال الفراء : يريد شراحيل . وقال الزمخشري : يريد مطلعون إياي ، فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله :
هم الفاعلون الخير والآمرونه
أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما ، كأنه قال : تطلعون ، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر . انتهى . والتخريج الثاني تخريخ أبي الفتح ، وتخريجه الأول لا يجوز ، لأنه ليس من مواضع الضمير المنفصل ، فيكون المتصل وضع موضعه ، لا يجوز هند زيد ضارب إياها ، ولا زيد ضارب إياي ، وكلام الزمخشري يدل على جوازه ، فالأولى تخريج أبي الفتح ، وقد جاء منه :
أمسلمني إلى قومي شراحي
وقول الآخر : فهل فتى من سراة القوم يحملني
وليس حاملني إلا ابن حمال
وقال الآخر :
وليس بمعييني
فهذه أبيات ثبت التنوين فيها مع ياء المتكلم ، فكذلك ثبتت نون الجمع معها إجراء للنون مجرى التنوين ، لاجتماعهما في السقوط للإضافة . ويقال : طلع علينا فلان واطلع بمعنى واحد . ومن قرأ : فاطلع مبنياً للمفعول ، فضميره القائل الذي هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو متعد بالهمزة ، إذ يقول : طلع زيد وأطلعه غيره . وقال صاحب اللوامح : طلع واطلع ، إذا بدا وظهر ؛ واطلع اطلاعاً ، إذا أقبل وجاء مبنياً ، ومعنى ذلك : هل أنتم مقبلون ؟ فأقبل . وإن أقيم المصدر فيه مقام الفاعل

" صفحة رقم 347 "
بتقديره فاطلع الاطلاع ، أو حرف الجر المحذوف ، أي فاطلع به ، لأنه اطلع لازم ، كما أن أقبل كذلك . انتهى . وقد ذكرنا أن أطلع عدى بالهمزة من طلع اللازم ، وأما قوله : أو حرف الجر المحذوف ، أي فاطلع ، به فهذا لا يجوز ، لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه ، لأنه نائب عن الفاعل . فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله ، فكذلك هذا . لو قلت : زيد ممدود أو مغضوب ، تريد به أو عليه ، لم يجز . و ) سَوَاء الْجَحِيمِ ( : وسطها ، تقول : تعبت حتى انقطع سوائي . قال ابن عباس : سمي سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب ، يعني سواء الجحيم .
وقال خليل العصري : رآه : تبدلت حاله ، فلولا ما عرفه الله به لم يعرفه ، قال له عند ذلك : ) تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ( : أي لتهلكني بإغوائك . وإن مخففة من الثقيلة ، يلقي بها القسم ؛ وتالله قسم فيه التعجب من سلامته منه إذا كان قرينه قارب أن يرديه . ) وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى ( : وهي توفيقه للإيمان والبعد من قرين السوء ، ( لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( للعذاب ، كما أحضرته أنت . ) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ ( ، قرأ زيد بن عليّ : بمائتين ، والظاهر أنه من كلام القائل : يسمع قرينه على جهة التوبيخ له ، أي لسنا أهل الجنة بميتين ، لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا ، بخلاف أهل النار ، فإنهم في كل ساعة يتمنون فيها الموت .
( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( ، كحال أهل النار ، بل نحن منعمون دائماً . ويكون في خطابه ذلك منكلاً له ، مقرعاً محزناً له أنعم الله به عليه من دخول الجنة ، معلماً له بتباين حاله في الآخرة بحاله . كما كانتا تتباينان في الدنيا من أنه ليس بعد الموت جزاء ظهر له خلافه ، يعذب بكفره بالله وإنكار البعث . ويجوز أن يكون خطاباً من القائل لرفقائه ، لما رأى ما نزل بقرينه ، وقفهم على نعمه تعالى في ديمومة خلودهم في الجنة ونعيمهم فيها . ويتصل قوله : ) إِنَّ هَذَا ( إلى قوله : ) الْعَامِلُونَ ( بهذا التأويل أيضاً ، لا واضحاً خطاباً لرفقائه . ويجوز أن يكون تم كلامه عند قوله : ) لَتُرْدِينِ ( ، ويكون ) أَفَمَا نَحْنُ ( إلى ) بِمُعَذَّبِينَ ( من كلامه وكلام رفقائه ، وكذلك ) إِنَّ هَذَا ( إلى ) الْعَامِلُونَ ( : أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه من النعيم والنجاة من النار . وقيل : هو من قول الله تعالى ، تقريراً لقولهم وتصديقاً له وخطاباً لرسول الله وأمّته ، ويقوي هذا قوله : ) لِمِثْلِ هَاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ( ، والآخرة ليست بدار عمل ، ولا يناسب ذلك قول المؤمن في الآخرة إلا على تجوز ، كأنه يقول : لمثل هذا ينبغي أن يعمل العاملون . وقال الزمخشري : الذي عطف عليه الفاء محذوف معناه : أنحن مخلدون ؟ أي منعمون ، فما نحن بميتين ولا معذبين . انتهى . وتقدم من مذهبه أنه إذا تقدمت همزة الاستفهام ، وجاء بعدها حرف العطف بضمير ما ، يصح به إقرار الهمزة والحرف في محلهما اللذين وقعا فيهما ، ومذهب الجماعة أن حرف العطف هو المقدم في التقدير ، والهمزة بعده ، ولكنه لما كانت الهمزة لها صدر الكلام قدمت ، فالتقدير عند الجماعة . فأما وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة ، وتقدم الكلام معه في ذلك .
( أَذالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءابَاءهُمْ ضَالّينَ فَهُمْ عَلَىءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاْوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاْخَرِينَ ).
لما انقضت قصة المؤمن وقرينه ، وكان ذلك على سبيل الاستطراد من شيء إلى شيء ، عاد إلى ذكر الجنة والرزق الذي أعده الله فيها لأهلها فقال : أذلك الرزق ) خَيْرٌ نُّزُلاً ( ؟ والنزل ما يعد للأضياف ، وعادل بين ذلك الرزق وبين ) شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ).

" صفحة رقم 348 "
فلاستواء الرزق المعلوم يحصل به اللذة والسرور ، وشجرة الزقوم يحصل بها الألم والغم ، فلا اشتراك بينهما في الخيرية . والمراد تقرير قريش والكفار وتوقيفهم على شيئين ، أحدهما فاسد . ولو كان الكلام استفهاماً حقيقة لم يجز ، إذ لا يتوهم أحد أن في شجرة الزقوم خيراً حتى يعادل بينهما وبين رزق الجنة . ولكن المؤمن ، لما اختار ما أدّى إلى رزق الجنة ، والكافر اختار ما أدّى إلى شجرة الزقوم ، قيل ذلك توبيخاً للكافرين وتوقيفاً على سوء اختيارهم . ) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لّلظَّالِمِينَ ( ، قال قتادة ، ومجاهد ، والسدي : أبو جهل ونظراؤه ، لما نزلت قال للكفار ، يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار ، وهي تأكلها وتذهبها ، ففتنوا بذلك أنفسهم وجملة أتباعهم . وقال أبو جهل : إنما الزقوم : التمر بالزبد ، ونحن نتزقمه . وقيل : منبتها في قعر جهنم ، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها . واستعير الطلع ، وهي النخلة ، لما تحمل هذه الشجرة ، وشبه طلعها بثمر شجرة معروفة يقال لثمرها رؤوس الشياطين ، وهي بناحية اليمن يقال لها الاستن ، وذكرها النابغة في قوله : تحيد من استن سود أسافله
مشي الإماء الغوادي تحمل الحزما
وهو شجر خشن مر منكر الصورة ، سمت ثمره العرب بذلك تشبها برؤوس الشياطين ، ثم صار أصلاً يشبه به . وقيل : هو شجرة يقال لها الصوم ، ذكرها ساعدة بن حوبة الهذلي في قوله : موكل بشدوف الصوم يرقبها
من المناظر مخطوف الحشازرم
وقيل : الشياطين صنف من الحيات ذوات أعراف ، ومنه : عنجرو تحلف حين أحلف
كمثل شيطان الحماط أعرف
وقيل : شبه بما اشتهر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها ، وإن كانت غير مرئية ، ولذلك يصورون الشيطان في أقبح الصور . وإذا رأوا أشعث منتفش الشعر قالوا : كأنه وجه شيطان ، وكأن رأسه رأس شيطان ، وهذه بخلاف الملك ، يشبهون به الصورة الحسنة . وكما شبه امرؤ القيس المسنونة الزرق بأنياب الغول في قوله :
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وإن كان لم يشاهد تلك الأنياب ، وهذا كله تشبيه تخييلي . والضمير في منها يعود على الشجرة ، أي من طلعها . وقرأ الجمهور : ) لَشَوْباً ( بفتح الشين ؛ وشيبان النحوي : بضمها . وقال الزجاج : الفتح للمصدر والضم للاسم ، يعني أنه فعل بمعنى مفعول ، أي مشوب ، كالنقص بمعنى المنقوص . وفسر بالخلط والحميم الماء السخن جداً ، وقيل : يراد به هنا شرابهم الذي هو طينة الخبال صديدهم وما ساح منهم . ولما ذكر أنهم يملؤون بطونهم من شجرة الزقوم للجوع الذي

" صفحة رقم 349 "
يلحقهم ، أو لإكراههم على الأكل وملء البطون زيادة في عذابهم ، ذكر ما يسقون لغلبة العطش ، وهو ما يمزج لهم من الحميم . ولما كان الأكل يعتقبه ملء البطن ، كان العطف بالفاء في قوله : ) فَمَا ). ولما كان الشرب يكثر تراخيه عن الأكل ، أتي بلفظ ثم المقتضية المهلة ، أو لما امتلأت بطونهم من ثمرة الشجرة ، وهو حار ، أحرق بطونهم وعطشهم ، فأخر سقيهم زماناً ليزدادوا بالعطش عذاباً إلى عذابهم ، ثم سقوا ما هو أحر وآلم وأكره .
( حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ ( : لما ذهب بهم من منازلهم التي أسكنوها في النار إلى شجرة الزقوم للأكل والتملؤ منها والسقي من الحميم ونواحي رجوعهم إلى منازلهم ، دخلت ثم لدلالة على ذلك ، والرجوع دليل على الانتقال في وقت الأكل والشرب إلى مكان غير مكانهما ، ثم ذكر تعالى حالهم في تقليد آبائهم . والضمير لقريش وأن ذلك التقليد كان سبباً لاستحقاقهم تلك الشدائد ، أي وجدوا آباءهم ضالين ، فاتبعوهم على ضلالتهم ، مسرعين في ذلك لا يثبطهم شيء . ثم أخبر بضلال أكثر من تقدم من الأمم ، هذا وما خلت أزمانهم من إرسال الرسل ، وإنذارهم عواقب التكذيب . وفي قوله : ) فَانظُرْ ( ما يقتضي إهلاكهم وسوء عاقبتهم ، واستثنى المخلصين من عباده ، وهم الأقل المقابل لقوله : ) أَكْثَرُ الاْوَّلِينَ ( ، والمعنى : إلا عباد الله ، فإنهم نجوا . ولما ذكر ضلال الأولين ، وذكر أولهم شهرة ، وهم قوم نوح ، عليه السلام ، تضمن أشياء منها : الدعاء على قومه ، وسؤاله النجاة ، وطلب النصرة . وأجابه تعالى في كل ذلك إجابة بلغ بها مراده . واللام في ) فَلَنِعْمَ ( جواب قسم كقوله :
يميناً لنعم السيدان وجدتما
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره : فلنعم المجيبون نحن ، وجاء بصيغة الجمع للعظمة والكبرياء لقوله : ) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ( و ) الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( ، قال السدي : الغرق ، ومنه تكذيب الكفرة وركوب الماء ، وهو له ، وهم فصل متعين للفصيلة لا يحتمل غيره . قال ابن عباس ، وقتادة : أهل الأرض كلهم من ذرية نوح . وفي الحديث : ( أنه عليه السلام قرأ ) وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ( فقال : سام وحام ويافث ) . وقال الطبري : العرب من أولاد سام ، والسودان من أولاد حام ، والترك وغيرهم من أولاد يافث . وقالت فرقة : أبقى الله ذرية نوح ومد في نسله ، وليس الناس منحصرين في نسله ، بل في الأمم من لا يرجع إليه .
( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ ( : أي في الباقين غابر الدهر ؛ ومفعول تركنا محذوف تقديره ثناء حسناً جميلاً في آخر الدهر ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وسلام . رفع بالابتداء مستأنف ، سلم الله عليه ليقتدي بذلك البشر ، فلا يذكره أحد من العالمين بسوء . سلم تعالى عليه جزاء على ما صبر طويلاً ، من أقوال الكفرة وإذايتهم له . وقال الزمخشري : ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ ( ، هذه الكلمة ، وهي ) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاْخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاْخَرِينَ ( : أي من كان مكذباً له من قومه ، لما ذكر تحياته ونجاة أهله ، إذ كانوا مؤمنين ، ذكر هلاك غيرهم بالغرق .

" صفحة رقم 350 "
) وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْراهِيمَ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَءفْكاً ءالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَىءالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاْسْفَلِينَ ).
والظاهر عود الضمير في ) مِن شِيعَتِهِ ( على نوح ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، أي ممن شايعه في أصول الدين والتوحيد ، وان اختلفت شرائعهما ، أو اتفق أكثرهما ، أو ممن شايعه في التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين . وكان بين نوح وإبراهيم ألفا سنة وستمائة وأربعون سنة ، وبينهما من الأنبياء هود وصالح ، عليهما السلام . وقال الفراء : الضمير فى ) مِن شِيعَتِهِ ( يعود على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والأعرف أن المتأخر في الزمان هو شيعة للمتقدم ، وجاء عكس ذلك في قول الكميت : وما لي إلا آل أحمد شيعة
ومالي إلا مشعب الحق مشعب
جعلهم شيعة لنفسه . وقال الزمخشري : فإن قلت : بم يتعلق الظرف ؟ قلت : بما في الشيعة من معنى المشايعة ، يعني : وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم ، أو بمحذوف ، وهو اذكر . انتهى . أما التخريج الأول فلا يجوز ، لأن فيه الفضل بين العامل والمعمول بأجنبي ، وهو قوله : ) لإِبْراهِيمَ ( ، لأنه أجنبي من شيعته ومن إذ ، وزاد المنع ، إذ قدره ممن شايعه حين جاء لإبراهيم . وأيضاً فلام التوكيد يمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها . لو قلت : إن ضار بالقادم علينا زيداً ، وتقديره : ضارباً زيداً لقادم علينا ، لم يجز . وأما تقديره اذكر ، فهو المعهود عند المعربين . ومجيئه ربه بقلب سليم : إخلاصه الدين لله ، وسلامة قلبه : براءته من الشرك والشك والنقائص التي تعتري القلوب من الغل والحسد والخبث والمكر والكبر ونحوها . قال عروة بن الزبير : لم يعلن شيئاً قط . وقيل : سليم من الشرك ولا معنى للتخصيص . وأجازوا في نصب ) أئفكاً ( وجوها : أحدها : أن يكون مفعولاً بتريدون ، والتهديد لأمته ، وهو استفهام تقرير ، ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه ، وذكره الزمخشري قال : فسر الإفك بقوله : آلهة من دون الله ، على أنها إفك في أنفسهم . والثاني : أن يكون مفعولا من أجله أي : تريدون آلهة من دون الله فكاً ، وآلهة مفعول به ، وقدمه عناية به ، وقدم المفعول له على المفعول به ، لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم ، وبدأ بهذا الوجه الزمخشري . والثالث : أن يكون حالاً ، أي أتريدون آلهة من دون الله آفكين ؟ قاله الزمخشري ، وجعل المصدر حالاً لا يطرد إلا مع أما في نحو : أما علماً فعالم .
( تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ ( : استفهام توبيخ وتحذير وتوعد ، أي : أي شيء ظنكم بمن هو يستحق لأن تعبدوه ، إذ هو رب العالمين حتى تركتم عبادته وعدلتم به الأصنام ؟ أي : أيّ شيء ظنكم بفعله معكم من عقابكم ، إذ قد عبدتم غيره ؟ كما تقول : أسأت آل فلان ، فما ظنك به أن يوقع بك خيراً ما أسأت إليه ؟ ولما وبخهم على عبادة غير الله ، أراد أن يريهم أن أصنامهم لا تنفع ولا تضر ، فعهد إلى ما يجعله منفرداً بها حتى يكسرها ويبين لهم حالها وعجزها . ) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ ( ، والظاهر أنه أراد علم الكواكب ، وما يعزي إليها من التأثيرات التي جعلها الله لها . والظاهر أن نظره كان فيها ، أي في علمها ، أو في كتابها الذي اشتمل على أحوالها وأحكامها . قيل : وكانوا يعانون ذلك ، فأتاهم من الجهة التي يعانونها ، وأوهمهم بأنه استدل بأمارة في علم النجوم أنه سقيم ، أي يشارف السقم . قيل : وهو الطاعون ، وكان أغلب الأسقام عليهم إذ ذاك ، وخافوا العدوي

" صفحة رقم 351 "
وهربوا منه إلى عيدهم ، ولذلك قال : ) فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ ( ، قال معناه ابن عباس ، وتركوه في بيت الأصنام ففعل ما فعل . وقيل : كانوا أهل رعاية وفلاحة ، وكانوا يحتاجون إلى علم النجوم . وقيل : أرسل إليهم ملكهم أن غداً عيدنا ، فاحضر معنا ، فنظر إلى نجم طالع فقال : إن يطلع مع سقمي . وقيل : معنى ) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ ( ، أي فيما نجم إليه من أمور قومه وحاله معهم ، ومعنى : ) فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ ( ، أي لكفرهم به واحتقارهم له ، وقوله : ) إِنّى سَقِيمٌ ( ، من المعاريض ، عرض أنه يسقم في المآل ، أي يشارف السقم . قيل : وهو الطاعون ، وكان أغلب ، وفهموا منه أنه ملتبس بالسقم ، وابن آدم لا بد أن يسقم ، والمثل : كفى بالسلامة داء . قال الشاعر : فدعوت ربي بالسلامة جاهدا
ليصحني فإذا السلامة داء
ومات رجل فجأة ، فاكتنف عليه الناس فقالوا : مات وهو صحيح ، فقال أعرابي : أصحيح من الموت في عنقه ؟ ) فَرَاغَ إِلَىءالِهَتِهِمْ ( : أي أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة ، كقوله : ) أَيْنَ شُرَكَائِىَ ( ، وعرض الأكل عليها . واستفهامها عن النطق هو على سبيل الهزء ، لكونها منحطة عن رتبة عابديها ، إذ هم يأكلون وينطقون . وروي أنهم كانوا يضعون عندها طعاماً ، ويعتقدون أنها تصيب منه شيئاً ، وإنما يأكله خدمتها . ) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ( : أي أقبل عليهم مستخفياً ضارباً ، فهو مصدر فى موضع الحال ، أو يضربهم ضرباً ، فهو مصدر فعل محذوف ، أو ضمن فراغ عليهم معنى ضربهم ، وباليمين : أي يمين يديه . قال ابن عباس : لأنها أقوى يديه أو بقوته ، لأنه قيل : كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها وهي الفأس . وقيل : سبب الحلف الذي هو : ) وَتَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ).
وقرأ الجمهور : ) يَزِفُّونَ ( ، بفتح الياء ، من زف : أسرع ، أو من زفاف العروس ، وهو التمهل في المشية ، إذ كانوا في طمأنينة أن ينال أصنامهم شيء لعزتهم . وقرأ حمزة ، ومجاهد ، وابن وثاب ، والأعمش : بضم الياء ، من أزف : دخل في الزفيف ، فهي للتعدي ، قاله الأصمعي . وقرأ مجاهد أيضاً ، وعبد الله بن يزيد ، والضحاك ، ويحيى بن عبد الرحمن المقري ، وابن أبي عبلة : يزفون مضارع زف بمعنى أسرع . وقال الكسائي ، والفراء : لا نعرفها بمعنى زف . وقال مجاهد : الوزيف : السيلان . وقرىء : يزفون مبنياً للمفعول . وقرىء : يزفون بسكون الزاى ، من زفاه إذا حداه ، فكان بعضهم يزفو بعضاً لتسارعهم إليه . وبين قوله : ) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ( وبين قوله : ) فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ( جمل محذوفة هي مذكورة في سورة اقترب ، ولا تعارض بين قوله : ) فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ( وبين سؤالهم ) مَن فَعَلَ هَاذَا بِئَالِهَتِنَا ( ، وأخبار من عرض بأنه إبراهيم كان يذكر أصنامهم ، لأن هذا الإقبال كان يقتضي تلك الجمل المحذوفة ، أي فأقبلوا إليه ، أي إلى الإنكار عليه في كسر أصنامهم وتأنيبه على ذلك . وليس هذا الإقبال من عندهم ، بل بعد مجيئهم من عندهم جرت تلك المفاوضات المذكورة في سورة اقترب .
واستسلف الزمخشري في كلامه أشياء لم تتضمنها الآيات ، صارت الآيات عنده بها كالمتناقضة . قال ، حيث ذكر ههنا : إنهم أدبروا عنه خيفة العدوى ، فلما أبصروه يكسر أصنامهم ، أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويقعوا به . وذكرتم أنهم سألوا عن الكاسر حتى قيل : سمعنا إبراهيم يذمهم ، فلعله هو الكاسر . ففي إحداهما أنهم شاهدوه يكسرها ، وفي الآخرى أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر . انتهى . ما أبدى من التناقض ، وليس في الآيات ما يدل على أنهم أبصروه يكسرهم ، فيكون فيه كالتناقض . ولما قرر أنه كالتناقض قال : قلت فيه وجهان : أحدهما : أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفراً منهم دون جمهورهم وكبرائهم ، فلما رجع الجمهور والعلية من عندهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة ، اشمأزوا من ذلك وسألوا من فعل هذا بها ؟ لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة ، ولكن على سبيل التورية والتعريض بقولهم : سمعنا فتى يذكرهم

" صفحة رقم 352 "
لبعض الصوارف . والثاني : أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد ، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم ، وسؤالهم عن الكاسر ، وقولهم : ) قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ ). انتهى . وهذا الوجه الثاني الذي ذكر هو الصحيح .
( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ( : استفهام توبيخ وإنكار عليهم ، كيف هم يعبدون صوراً صوّروها بأيديهم وشكلوها على ما يريدون من الأشكال ؟ ) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ( : الظاهر أن ما موصولة بمعنى الذي معطوفة على الضمير في خلقكم ، أي أنشأ ذواتكم وذوات ما تعملون من الأصنام ، والعمل هنا هو التصوير والتشكيل ، كما يقول : عمل الصائغ الخلخال ، وعمل الحداد القفل ، والنجار الخزانة ؛ ويحمل ذلك على أن ما بمعنى الذي يتم الاحتجاج عليهم ، بأن كلاً من الصنم وعابده هو مخلوق لله تعالى ، والعابد هو المصور ذلك المعبود ، فكيف يعبد مخلوق مخلوقاً ؟ وكلاهما خلق الله ، وهو المنفرد بإنشاء ذواتهما . والعابد مصور الصنم معبوده . وما في : ) وَمَا تَنْحِتُونَ ( بمعنى الذي ، فكذلك في ) وَمَا تَعْمَلُونَ ( ، لأن نحتهم هو عملهم . وقيل : ما مصدرية ، أي خلقكم وعملكم ، وجعلوا ذلك قاعدة على خلق الله أفعال العباد . وقد بدد الزمخشري تقابل هذه المقالة بما يوقف عليه في كتابه . وقيل : ما استفهام إنكاري ، أي : وأي شيء تعملون في عبادتكم أصناماً تنحتونها ؟ أي لا عمل لكم يعتبر . وقيل : ما نافية ، أي وما أنتم تعملون شيئاً في وقت خلقكم ولا تقدرون على شيء . وكون ما مصدرية واستفهامية ونعتاً ، أقوال متعلقة خارجة عن طريق البلاغة . ولما غلبهم إبراهيم ، عليه السلام ، بالحجة ، مالوا إلى الغلبة بقوة الشوكة والجمع فقالوا : ) ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً ( ، أي في موضع إيقاد النار . وقيل : هو المنجنيق الذي رمي عنه . وأرادوا به كيداً ، فأبطل الله مكرهم ، وجعلهم الأخسرين الأسفلين ، وكذا عادة من غلب بالحجة رجع إلى الكيد .
2 ( ) وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يابُنَىَّ إِنِّىأَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِىإِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ

" صفحة رقم 353 "
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاٌّ خِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الْغَالِبُونَ وَءَاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاٌّ خِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآئِكُمُ الاٌّ وَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاٌّ خِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاٌّ خَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَأامَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } )
الصافات : ( 99 ) وقال إني ذاهب . . . . .
تل الرجلُ الرجَل : صرعه على شقه ، وقيل : وضعه بقوة . وقال ساعدة بن جؤية : وتل .
تليلاً للجبين وللفم
والجبينان : ما اكتف من هنا ومن هنا ، وشذ جمع الجبين على أجبن ، وقياسه في القلة أجبنة ، ككثيب وأكثبة ، وفي الكثرة : جبنات وجبن ، ككثبات وكثب . الذبح : اسم ما يذبح ، كالرعي اسم ما يرعى . أبق : هرب . ساهم : قارع . المدحض : المقلوب . الحوت : معروف . ألام : أتى بما يلام عليه ، قال الشاعر : وكم من ميلم لم يصب بملامة
ومتبع بالذنب ليس له ذنب

" صفحة رقم 354 "
العراء : الأرض الفيحاء لا شجر فيها ولا يعلم ، قال الشاعر : رفعت رجلاً لا أخاف عثارها
ونبذت بالمين العراء ثيابي
اليقطين : يفعيل كاليفصيد ، من قطن : أقام بالمكان ، وهو بالمكان ، وهو ما كان من الشجر لا يقوم على ساق من عود ، كشجر البطيخ والحنظل والقثاء . الساحة : الفناء ، وجمعها سوح ، قال الشاعر : فكان سيان أن لا يسرحوا نعما
أو يسرحوه بها واغبرت السوح
) وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى سَيَهْدِينِ رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يابُنَىَّ بَنِى إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْراهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ ).
لما سلمه الله منهم ومن النار التي ألقوه فيها ، عزم على مفارقتهم ، وعبر بالذهاب إلى ربه عن هجرته إلى أرض الشام . كما قال : ) إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى ( ، ليتمكن من عبادة ربه ويتضرع له من غير أن يلقي من يشوش عليه ، فهاجر من أرض بابل ، من مملكة نمرود ، إلى الشأم . وقيل : إلى أرض مصر . ويبعد قول من قال : ليس المراد بذهابه الهجرة ، وإنما مراده لقاء الله بعد الإحراق ، ظانا منه أنه سيموت في النار ، فقالها قبل أن يطرح في النار . و ) سَيَهْدِينِ ( : أي إلى الجنة ، نحا إلى هذا قتادة ، لأن قوله : ) رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ ( يدفع هذا القول ، والمعتقد أنه يموت في النار لا يدعو بأن يهب الله له ولداً صالحاً . ) سَيَهْدِينِ ( : يوفقني إلى ما فيه صلاحي . ) مّنَ الصَّالِحِينَ ( : أي ولداً يكون في عداد الصالحين . ولفظ الهبة غلب في الولد ، وإن كان قد جاء في الأخ ، كقوله : ) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ). واشتملت البشارة على ذكورية المولود وبلوغه سن الحلم ووصفه بالحلم ، وأي حلم أعظم من قوله ، وقد عرض عليه أبوه الذبح : ) سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ( ؟
) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ ( ، بين هذه الجملة والتي قبلها محذوف تقديره : فولد له وشب . ) فَلَمَّا بَلَغَ ( : أي أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد : والسعى هنا : العمل والعبادة والمعونة . وقال قتادة : السعي على القدم ، يريد سعياً متمكناً ، وفيه قال الزمخشري : لا يصح تعلقه ببلغ به بلوغهما معاً حد السعي ولا بالسعي ، لأن أصله المصدر لا يتقدم عليه ، فنفى أن يكون بياناً ، كأنه لما قال : ) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ ( ، أي الحد الذي يقدر فيه على السعي ، قيل : مع من ؟ فقال : مع أبيه ، والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس وأعطفهم عليه وعلى غيره وبما عنف عليه في الاستسعاء ، فلا يحتمله ، لأنه لم يستحكم قوله ، ولم يطلب عوده ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة . انتهى .
( قَالَ يَاءادَمُ بَنِى ( : نداء شفقة وترحم . ) إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ ( : أي بأمر من الله ، ويدل عليه : ) افْعَلْ مَا ). ورؤيا الأنبياء

" صفحة رقم 355 "
وحي كاليقظة ، وذكره له الرؤيا تجسير على احتمال تلك البلية العظيمة . وشاوره بقوله : ) فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ( ، وإن كان حتماً من الله ليعلم ما عنده من تلقي هذا الامتحان العظيم ، ويصبره إن جزع ، ويوطن نفسه على ملاقاة هذا البلاء ، وتسكن نفسه لما لا بد منه ، إذ مفاجأة البلاء قبل الشعور به أصعب على النفس ، وكان ما رآه في المنام ولم يكن في اليقظة ، كرؤيا يوسف عليه السلام ، ورؤيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) دخول المسجد الحرام ، ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناماً سواء في الصدق متظافرتان عليه . قيل : إنه حين بشرت الملائكة بغلام حليم قال : هو إذن ذبيح الله . فلما بلغ حد السعي معه قيل له : أوف بنذرك . قيل : رآى ليلة التروية قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا . فلما أصبح ، روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح . أمن الله هذا الحلم ، فمن ثم سمي يوم التروية . فلما أمس رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله ، فمن ثم سمي يوم عرفة . ثم رأى مثله في الليلة الثالثة ، فهمّ بنحرة ، فسمي يوم النحر .
وقرأ الجمهور : ) تَرَى ( ، بفتح التاء والراء ؛ وعبد الله ، والأسود بن يزيد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، ومجاهد ، وحمزة ، والكسائي : بضم التاء وكسر الراء ؛ والضحاك ، والأعمش أيضاً بضم التاء وفتح الراء . فالأول من الرأي ، والثاني ماذا ترينيه وما تبديه لأنظر فيه ؟ والثالث ما الذي يخيل إليك ويوقع في قلبك ؟ وانظر معلقة ، وماذا استفهام . فإن كانت ذا موصولة بمعنى الذي ، فما مبتدأ ، والفعل بعد ذا صلة . وإن كانت ذا مركبة ، ففي موضع نصب بالفعل بعدها . والجملة ، واسم الاستفهام الذي هو معمول للفعل بعده في موضع نصب لانظر . ولما كان خطاب الأب ) أَوْ بَنِى ( ، على سبيل الترحم ، قال : هو ) يا أبت ( ، على سبيل التعظيم والتوقير . ) قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ ( : أي ما تؤمره ، حذفه وهو منصوب ، وأصله ما تؤمر به ، فحذف الحرف ، واتصل الضمير منصوباً ، فجاز حذفه لوجود شرائط الحذف فيه . وقال الزمخشري : أو أمرك ، على إضافة الصدر إلى المفعول الذي لم يسم فاعله ، وفي ذلك خلاف ؛ هل يعتقد في المصدر العامل أن يجوز أن يبني للمفعول ، فيكون ما بعده مفعولاً لم يسم فاعله ، أم يكون ذلك ؟ ) سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ( : كلام من أوتي الحلم والصبر والامتثال لأمر الله ، والرضا بما أمر الله .
( فَلَمَّا أَسْلَمَا ( : أي لأمر الله ، ويقال : استسلم وسلم بمعناه . وقرأ الجمهور : أسلما . وقرأ عبد الله ، وعلي ، وابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وجعفر بن محمد ، والأعمش ، والثوري : سلما : أي فوضا إليه في قضائه وقدره . وقرىء : استسلما ، ثلاث قراءات . وقال قتادة في أسلما : أسلم هذا ابنه ، وأسلم هذا نفسه ، فجعل أسلما متعدياً ، وغيره جعله لازماً بمعنى : انقاذ الأمر الله وخضعا له . ) وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( : أي أوقعه على أحد جنبيه في الأرض مباشراً الأمر بصبر وجلد ، وذلك عند الصخرة التي بمنى ؛ وعن الحسن : في الموضع المشرف على مسجد منى ؛ وعن الضحاك : في المنحر الذي ينحر فيه اليوم . وجواب لما محذوف يقدر بعد ) وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( ، أي أجز لنا أجرهما ، قاله بعض البصريين ؛ أو بعد ) الرُّءيَا ( ، أي كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما وحمدهما الله على ما أنعم به إلى ألفاظ كثيرة ذكرها الزمخشري على عادته في خطابته ؛ أو قبل ) وَتَلَّهُ ( تقديره : ) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ ). قال ابن عطية : وهو قول الخليل وسيبويه ، وهو عندهم كقول امرىء القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحي
وقال الكوفيون : الجواب مثبت ، وهو : ) وَنَادَيْنَاهُ ( على زيادة الواو . وقالت فرقة : هو ) وَتَلَّهُ ( على زيادة الواو . وذكر

" صفحة رقم 356 "
الزمخشري في قصة إبراهيم وابنه ، وما جرى بينهما من الأقوال والأفعال فصولاً ، الله أعلم بصحتحها ، يوقف عليها في كتابة . وأن مفسرة ، أي ) قَدْ صَدَّقْتَ ). وقرأ زيد ابن علي : وناديناه قد صدقت ، بحذف أن ؛ وقرىء : صدقت ، بتخفيف الدال . وقرأ فياض : الريا ، بكسر الراء والإدغام وتصديق الرؤيا . قال الزمخشري : بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه ، لكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضي فيه ، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم . ألا ترى أنه لا يسمى عاصياً ولا مفرطاً ؟ بل يسمى مطيعاً ومجتهداً ، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم . وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل ، ولا قبل أو ان الفعل في شيء ، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام فيه . وقال ابن عطية : ) قَدْ صَدَّقْتَ ( ، يحتمل أن يريد يقلبك على معنى : كانت عندك رؤياك صادقة حقاً من الله فعلمت بحسبها حين آمنت بها ، واعتقدت صدقها . ويحتمل أن يريد : صدقت بقلبك ما حصل عن الرؤيا في نفسك ، كأنه قال : قد وفيتها حقها من العمل . انتهى . ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ ( : تعليل لتخويل ما خولهما الله من الفرج بعد الشدة ، والظفر بالبغية بعد اليأس .
( إِنَّ هَذَا ( : أي ما أمر به إبراهيم من ذبح ابنه ، ( لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ ( : أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون وغيرهم ، أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها . ) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ ( ، قال ابن عباس : هو الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه ، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل . وقال أيضاً هو والحسن : فدي بوعل أهبط عليه من سرو . وقال الجمهور : كبش أبيض أقرن أقنى ، ووصف بالعظم . قال مجاهد : لأنه متقبل يقيناً . وقال عمرو بن عبيد : لأنه جرت السنة به ، وصار ديناً باقياً إلى آخر الدهر . وقال الحسن بن الفضل : لأنه كان من عند الله . وقال أبو بكر الوراق : لأنه لم يكن عن نسل ، بل عن التكوين . وقال ابن عباس ، وابن جبير : عظمته كونه من كباش الجنة ، رعى فيها أربعين خريفاً . وفي قوله : ) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( دليل على أن إبراهيم لم يذبح ابنه ، وقد فدي . وقالت فرقة : وقع الذبح وقام بعد ذلك . قال ابن عطية : وهذا كذب صراح . وقالت فرقة : لم ير إبراهيم في منامه الإمرار بالشفرة فقط ، فظن أنه ذبح مجهز ، فنفذ لذلك . فلما وقع الذي رآه وقع النسخ ، قال : ولا اختلاف ، فإن إبراهيم عليه السلام ، أمرّ الشفرة على حلق ابنه فلم تقطع . انتهى . والذي دل عليه القرآن أنه ) وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( فقط ، ولم يأت في حديث صحيح أنه أمرّ الشفرة على حلق ابنه . ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ ( إلى : ) الْمُؤْمِنِينَ ( ، تقدم تفسير نظيره في آخر قصة نوح ، قبل قصة إبراهيم هنا ، وقال هنا كذلك دون إنا ، اكتفاء بذكر ذلك قبل وبعد .
( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مّنَ الصَّالِحِينَ ( : الظاهر أن هذه بشارة غير تلك البشارة ، وأن الغلام الحليم المبشر به إبراهيم هو إسماعيل ، وأنه هو الذبيح لا إسحاق ؛ وهو قول ابن عباس ، وابن عمر ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ومحمد بن كعب القرظي ، والشعبي ، والحسن ، ومجاهد ، وجماعة من التابعين ؛ واستدلوا بظاهره هذه الآيات وبقوله عليه السلام : أنا ابن الذبيحين ، وقول الأعرابي له : يا ابن الذبيحين : فتبسم عليه السلام ، يعني إسماعيل ، وأباه عبد الله . وكان عبد المطلب نذر ذبح أحد ولده ، فخرج السهم على عبد الله ، فمنعه أخواله وقالوا له : افد ابنك بمائة من الإبل ، ففداه بها . وفيما أوحي الله لموسى في حديث طويل . وأما إسماعيل ، فإنه جاد بدم نفسه . وسأل عمر بن عبد العزيز يهودياً أسلم عن ذلك فقال : إن يهودياً ليعلم ، لكهنم يحسدونكم معشر العرب ، وكان قرنا الكبش منوطين في الكعبة . وسأل الأصمعي أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي ، أين عزب عنك عقلك ؟ ومتى كان إسحاق بمكة ؟ وهو الذي بنى البيت مع أبيه ، والمنحر بمكة ؟ انتهى . ووصفه تعالى بالصبر في قوله : ) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ ( ،

" صفحة رقم 357 "
وهو صبره على الذبح ؛ وبصدق الوعد في قوله : ) إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ( ، لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به . وذكر الطبري أن ابن عباس قال : الذبيح إسماعيل ، ويزعم اليهود أنه إسحاق ، وكذبت اليهود . ومن أقوى ما يستدل به أن الله تعالى بشر إبراهيم بإسحاق ، وولد إسحاق يعقوب . فلو كان الذبيح إسحاق ، لكان ذلك الإخبار غير مطابق للواقع ، وهو محال في إخبار الله تعالى . وذهبت جماعة إلى أن الذبيح هو إسحاق ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، وابن مسعود ، وعلي ، وعطاء ، وعكرمة ، وكعب ، وعبيد بن عمير ، وابن عباس في رواية ، وكان أمر ذبحه بالشأم . وقال عطاء ومقاتل : ببيت المقدس ؛ وقيل : بالحجاز ، جاء مع أبيه على البراق . وقال عبيد بن عمير ، وابن عباس في رواية : وكان أمر ذبحه بالشأم ، كان بالمقام . وقال ابن عباس : والبشارة في قوله : ) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ( ، هي بشارة نبوته . وقالوا : أخبر تعالى عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولداً ، ثم أتبع تلك البشارة بغلام حليم ، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به ، ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف ، عليهما السلام : من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله إبن إبراهيم خليل الله . ومن جعل الذبيح إسحاق ، جعل هذه البشارة بشارة بنبوته ، كما ذكرنا عن ابن عباس . وقالوا : لا يجوز أن يبشره الله بولادته ونبوته معاً ، لأن الامتحان بذبحه لا يصح مع علمه بأنه سيكون نبياً . ومن جعله إسماعيل ، جعل البشارة بولده إسحاق . وانتصب نبياً على الحال ، وهي حال مقدرة . فإن كان إسحاق هو الذبيح ، وكانت هذه البشارة بولادة إسحاق ، فقد جعل الزمخشري ذلك محل سؤال . فإن قلت : فرق بين هذا وقوله : ) فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( ، وذلك أن المدخول موجود مع وجود الدخول ، والخلود غير موجود معهما ، فقدرت مقدرين للخلود ، فكان مستقيماً . وليس كذلك المبشر به ، فإنه معلوم وقت وجود البشارة ، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله ، لأن الحال حلية لا تقوم إلا بالمحلي . وهذا المبشر به الذي هو إسحاق ، حين وجد لم توجد النبوة أيضاً بوجوده ، بل تراخت عنه مدة طويلة ، فكيف يجعل نبياً حالاً مقدرة ؟ والحال صفة للفاعل والمفعول عند وجود الفعل منه أو به . فالخلود ، وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة ، فتقديرها صفتهم ، لأن المعنى : مقدرين الخلود . وليس كذلك النبوة ، فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق . قلت : هذا سؤال دقيق السلك ضيق المسلك ، والذي يحل الإشكال أنه لا بد من تقدير مضاف محذوف وذلك قوله : ) وَبَشَّرْنَاهُ ( بوجود إسحاق نبياً ، أي بأن يوجد مقدرة نبوته ، فالعامل في الحال الوجود ، لا فعل البشارة ؛ وبذلك يرجع نظير قوله تعالى : ) فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( ، ( مّنَ الصَّالِحِينَ ( ، حال ثانية ، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ ، لأن كل نبي لا بد أن يكون من الصالحين . انتهى .
( وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ ( : أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا ، وبأن أخرجنا أنبياء بني إسرائيل من صلبه . ) وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ ( : فيه وعيد لليهود ومن كان من ذريتهما لم يؤمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ومن ذريتهم محسن وظالم وفيه دليل على أن البرقد يلد الفاضل ، ولا يلحقه من ذلك عيب ولا منقصة .
( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الْغَالِبُونَ وَءاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاْخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهُ رَبُّكُمُ الاْوَّلِينَ قَالَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاْخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ).
) الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( : تعبد القبط لهم ، ثم خوفهم من جيش فرعون ، ثم البحر بعد ذلك ، والضمير في ) وَنَصَرْنَاهُمْ ( عائد على موسى وهارون وقومهما ؛ وقيل : عائد على موسى وهارون فقط ، تعظيماً لهما بكناية الجماعة . و ) هُمْ ( : يجوز أن يكون فصلاً وتوكيداً أو بدلاً . و ) الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ( : التوراة ، كما قال تعالى : ) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ (

" صفحة رقم 358 "
و ) الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( : هو الإسلام وشرع الله . و ) إِلْيَاسَ ( ، قال ابن مسعود وقتادة : هو إدريس عليه السلام . ونقلوا عن ابن مسعود ، وابن وثاب ، والأعمش ، والمنهال بن عمر ، والحكم بن عتيبة الكوفي أنهم قرأوا : وإن إدريس لمن المرسلين ، وهو محمولة عندي على تفسيره ، لأن المستفيض عن ابن مسعود أنه قرأ : ) وَإِنَّ إِلْيَاسَ ( ، وأيضاً تفسيره إلياس بأنه إدريس لعله لا يصح عنه ، لأن إدريس في التاريخ المنقول كان قبل نوح . وفي سورة الأنعام ذكر إلياس ، وأنه ذرية إبراهيم ، أو من ذرية نوح على ما يحتمله قوله تعالى : ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا ( ، ( وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ ( ، وذكر في جملة هذه الذرية إلياس ، وقيل : إلياس من أولاد هارون . قال الطبري : هو إلياس بن ياسين ابن فنحاص بن العيزار بن هارون . وقرأ الجمهور : ) وَإِنَّ إِلْيَاسَ ( ، بهمزة قطع مكسورة . وقرأ عكرمة ، والحسن : بخلاف عنهما ؛ والأعرج ، وأبو رجاء ، وابن عامر ، وابن محيصن : بوصل الألف ، فاحتمل أن يكون وصل همزة القطع ، واحتمل أن يكون اسمه ياسا ، ودخلت عليه أل ، كما دخلت على أليسع . وفي حرف أبي ومصحفه : وإن إيليس ، بهمزة مكسورة ، بعدها ياء ساكنة ، بعدها لام مكسورة ، بعدها ياء ساكنة وسين مفتوحة . وقرىء : وإن أدراس ، لغة في إدريس ، كأبراهام في إبراهيم .
( أَتَدْعُونَ بَعْلاً ( : أي أتعبدون بعلاً ، وهو علم لصنم لهم ، قاله الضحاك والحسن وابن زيد . قيل : وكان من ذهب ، طوله عشرون ذراعاً ، وله أربعة أوجه ، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء ، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة ، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس ، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام ، وبه سميت مدينتهم بعلبك . وقال عكرمة ، وقتادة : البعل : الرب بلغة اليمن . وسمع ابن عباس رجلاً ينشد ضالة ، فقال له رجل : أنا بعلها ، فقال ابن عباس : الله أكبر ، أتدعون بعلاً ؟ ويقال : من بعل هذه الدار ، أي ربها ؟ والمعنى على هذا : أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله ؟ وقالت فرقة : إن بعلاً اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها . وقرىء : أتدعون بعلاء ، بالمد على وزن حمراء ، ويؤنس هذه القراءة قول من قال : إنه اسم امرأة .
وقرأ الكوفيون ، وزيد بن عليّ : ) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابَائِكُمُ ( ، بالنصب في الثلاثة بدلاً من ) أَحْسَنُ ( ، أو عطف بيان إن قلنا إن إضافة التفضيل محضة ؛ وباقي السبعة بالرفع ، أي هو الله ؛ أو يكون استئنافاً مبتدأ وربكم خبره . وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب ، وإذا قطع رفع . ) فَكَذَّبُوهُ ( : أي كذبه قومه ، إما في قوله : ) اللَّهُ رَبُّكُمُ ( هذه النسب ، أو فكذبوه فيما جاء به من عند الله من الأمر بالتوحيد وترك الصنم والايمان بما جاءت به الرسل . ومحضرون : مجموعون للعذاب . ) إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( : استثناء يدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه ، فهو استثناء متصل من ضمير ) فَكَذَّبُوهُ ( ، ولا يجوز أن يكون استثناء من ) فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( ، لأنهم كانوا يكونون مندرجين فيمن كذب ، ويكونون ) عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( ، وذلك لا يمكن ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعاً ، إذ يصير المعنى : لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون للعذاب ، ولا مسيس لهؤلاء الممسوسين بالآية التي فيها قصة إلياس هذه .
وقرأ زيد بن عليّ ، ونافع ، وابن عامر : على آل ياسين . وزعموا أن آل مفصولة في المصحف ، وياسين اسم لإلياس . وقيل : اسم لأبي إلياس ، لأنه إلياس بن ياسين ، وآل ياسين هو ابنه إلياس . وقيل : ياسين هو اسم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ باقي السبعة : ) عَلَى ( ، بهمزة مكسورة ، أي الياسين ، جمع المنسوبين إلى الياس معه ، فسلم عليهم . وهذا يدل على أن من قومه من كان اتبعه على الدين ، وكل واحد ممن نسب إليه كأنه إلياس ، فلما جمعت ، خففت ياء النسبة بحذف إحداهما كراهة التضعيف ، فالتفى ساكنان : الياء فيه وحرف العلة الذي للجمع ، فحذفت لالتقائهما ، كما قالوا : الأشعرون والأعجمون والخبيبون والمهلبون . وحكى أبو عمرو أن منادياً نادى يوم الكلاب : ههلك اليزيديون . وقال الزمخشري : لو كانا جمعاً ، لعرف بالألف واللام . وقرأ أبو رجاء ، والحسن : على الياسين ، بوصل الألف على أنه جمع يراد به إلياس وقومه المؤمنون ، وحذفت ياء النسب ، كما قالوا : الأشعرون ، والألف

" صفحة رقم 359 "
واللام دخلت على الجمع ، واسمه على هذا ياس . وقرأ ابن مسعود ، ومن ذكر معه أنه قرأ إدريس : سلام على إدراسين . وعن قتادة : وإن إدريس . وقرأ : على إدريس . وقرأ ابن عليّ : إيليس ، كقراءته وإن إيليس لمن المرسلين . ) أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً ( : هي امرأة لوط ، وكانت كافرة ، إما مستترة بالكفر ، وإما معلنة به . وكان نكاح الوثنيات عندهم جائزاً . ) مُّصْبِحِينَ ( : أي داخلين في الأصباح . والخطاب في ) وَإِنَّكُمْ ( لقريش ، وكانت متاجرهم إلى الشأم على مدائن قوم لوط . ) أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( ، فتعتبرون بما جرى على من كذب الرسل .
( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَئَامَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ).
يونس بن متى من بني إسرائيل . وروي أنه نبىء وهو ابن ثمان وعشرين سنة ، بعثه الله إلى قومه ، فدعاهم للإيمان فخالفوه ، فوعدهم بالعذاب ، فأعلمهم الله بيومه ، فحدده يونس لهم . ثم إن قومه لما رأوا مخايل العذاب قبل أن يباشرهم تابوا وآمنوا ، فتاب الله عليهم وصرف العذاب عنهم . وتقدم شرح قصته ، وأعدنا طرف منها ليفيد ما بين الذكرين . قيل : ولحق يونس غضب ، فأبق إلى ركوب السفينة فراراً من قومه ، وعبر عن الهروب بالإباق ، إذ هو عبد الله ، خرج فار من غير إذن من الله . وروي عن ابن مسعود أنه لما أبعدت السفينة في البحر ، ويونس فيها ، ركدت . فقال أهلها : إن فيها لمن يحبس الله السفينة بسببه ، فلنقترع . فأخذوا لكل سهم ، على أن من طفا سهمه فهو ، ومن غرق سهمه فليس إياه ، فطفا سهم يونس . فعلوا ذلك ثلاثاً ، تقع القرعة عليه ، فأجمعوا على أن يطرحوه . فجاء إلى ركن منها ليقع منها ، فإذا بدابة من دواب البحر ترقبه وترصد له . فانتقل إلى الركن الآخر ، فوجدها حتى استدار بالمركب وهي لا تفارقه ، فعلم أن ذلك من عند الله ، فترامي إليها فالتقمته . ففي قصة يونس عليه السلام هنا جمل محذوفة مقدرة قبل ذكر فراره إلى الفلك ، كما في قصته في سورة الأنبياء في قوله : ) إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً ( هو ما بعد هذا ، وقوله : ) فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ ( ، جمل محذوفة أيضاً . وبمجموع القصص يتبين ما حذف في كل قصة منها .
( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ( : من المغلوبين ، وحقيقته من المزلقين عن مقام الظفر في الاسهام . وقرىء : ) وَهُوَ مُلِيمٌ ( ، بفتح الميم ، وقياسه ملوم ، لأنه من لمته ألومه لوماً ، فهو من ذوات الواو ، ولكنه جيء به على أليم ، كما قالوا : مشيب ومدعى في مشوب ، ومدعو بناء على شيب ودعى . ) مِنَ الْمُسَبّحِينَ ( : من الذاكرين الله تعالى بالتسبيح والتقديس . والظاهر أنه يريد ما ذكر في قوله في سورة الأنبياء : ) فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ). وقال ابن جبير : هو قوله سبحان الله . وقالت فرقة : تسبيحه صلاة التطوع ؛ فقال ابن عباس ، وقتادة ، وأبو العالية : صلاته في وقت الرخاء تنفعه في وقت الشدة . وقال الضحاك بن قيس على منبره : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة ، إن يونس كان عبداً ذاكراً ، فلما أصابته الشدة نفعه ذلك . قال الله عز وجل : ) فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ ( ، ( لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ). وقال الحسن : تسبيحه : صلاته في بطن الحوت . وروي أنه كان يرفع لحم الحوت بيديه يقول : لأبنين لك مسجداً حيث لم ينبه أحد قبلي .
وروي أن الحوت

" صفحة رقم 360 "
سافر مع السفينة رافعاً رأسه ليتنفس ويونس يسبح ، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر ، فلفظه سالماً لم يتغير منه شيء ، فأسلموا . والظاهر أن قوله للبث في بطنه إلى يوم البعث ، وعن قتادة : لكان بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة . وذكر في مدة لبثه في بطن الحوت أقوالاً متكاذبة ، ضربناً عن ذكرها صفحاً . ) وَهُوَ سَقِيمٌ ( : روي أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد ، قاله ابن عباس والسدي . وقال ابن عباس ، وأبو هريرة ، وعمرو بن ميمون : اليقطين : القرع خاصة ، قيل : وهي التي أنبتها الله عليه ، وتجمع خصالاً ، برد الظل ، ونعومة الملمس ، وعظم الورق ، والذباب لا يقربها . قيل : وماء ورقه إذا رش به مكان لم يقربه ذباب ، وقال أمية بن أبي الصلت : فأنبت يقطيناً عليه برحمة
من الله لولا الله ألفى ضياعياً
وفيما روي : إنك لتحب القرع ، قال : أجل ، هي شجرة أخي يونس . وقيل : هي شجرة الموز ، تغطى بورقها ، واستظل بأغصانها ، وأفطر على ثمارها . ومعنى ) أَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً ( ، في كلام العرب : ما كان على ساق من عود ، فيحتمل أن يكون الله أنبتها ذات ساق يستظل بها وبورقها ، خرقاً للعادة ، فنبت وصح وحسن وجهه ، لأن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده .
( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( ، قال الجمهور : رسالته هذه هي الأولى التي أبق بعدها ، ذكرها آخر القصص تنبيهاً على رسالته ، ويدل عليه : ) فَئَامَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ ( ، وتمتيع تلك الأمة هو الذي أغضب يونس عليه السلام حتى أبق . وقال ابن عباس ، وقتادة : هي رسالة أخرى بعد أن نبذه بالعراء ، وهي إلى أهل نينوى من ناحية الموصل . وقال الزمخشري : المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه ، وهم أهل نينوى . وقيل : هو إرسال ثان بعد ما جري إليه إلى الأولين ، أو إلى غيرهم . وقيل : أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى ، لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيماً فيهم ، فقال لهم : إن الله باعث إليكم نبياً . وقرأ الجمهور : ) أَوْ ( ، قال ابن عباس بمعنى بل . وقيل : بمعنى الواو وبالواو ، وقرأ جعفر بن محمد . وقيل : للإبهام على المخاطب . وقال المبرد وكثير من البصريين : المعنى على نظر البشر ، وحزرهم أن من وراءهم قال : هم مائة ألف أو يزيدون ، وهذا القول لم يذكر الزمخشري غيره . قال : أو يزيدون في مرأى الناظر ، إذا رآها الرائي قال : هي مائة ألف أو أكثر . والغرض الوصف بالكثرة ، والزيادة ثلاثون ألفاً ، قاله ابن عباس ؛ أو سبعون ألفاً ، قاله ابن جبير ؛ أو عشرون ألفاً ، رواه أبي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإذا صح بطل ما سواه .
( فَئَامِنُواْ ( : روي أنهم خرجوا بالأطفال والأولاد والبهائم ، وفرقوا بينها وبين الأمهات ، وناحوا وضجوا وأخلصوا ، فرفع الله عنهم . والتمتع هنا هو بالحياة ، والحين آجالهم السابقة في الأزل ، قاله قتادة والسدي . والضمير في ) فَاسْتَفْتِهِمْ ( ، قال الزمخشري : معطوف على مثله في أول السورة ، وإن تباعدت بينهما المسافة . أمر رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولاً ، ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض ، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى . انتهى . ويبعد ما قاله من العطف .
وإذا كانوا عدوا الفصل بجملة مثل قولك : كل لحماً واضرب زيداً وخبزاً ، من أقبح التركيب ، فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة ؟ فالقول بالعطف لا يجوز ، والاستفتاء هنا سؤال على جهة التوبيخ والتقريع على قولهم البهتان على الله ، حيث جعلوا لله الإناث في قولهم : الملائكة بنات الله ، مع كراهتهم لهن ، ووأدهم إياهن ، واستنكافهم من ذكرهن . وارتكبوا ثلاثة أنواع من الكفر : التجسيم ، لأن الولادة مختصة بالأجسام ؛ وتفضيل أنفسهم ، حيث نسبوا أرفع الجنسين لهم وغيره لله تعالى ؛ واستهانتهم بمن هو مكرم عند الله ، حيث أنثوهم ، وهم الملائكة .
بدأ أولاً بتوبيخهم على تفضيل أنفسهم بقوله : ) أَلِرَبّكَ الْبَنَاتُ ( ، وعدل عن قوله : ) ألربكم ( ، لما في ترك الإضافة إليهم من تحسينهم وشرف نبيه بالإضافة إليه . وثنى بأن نسبة الأنوثة إلى الملائكة يقتضي المشاهدة

" صفحة رقم 361 "
فأنكر عليهم بقوله : ) الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ( : أي خلقناهم وهم لا يشهدون شيئاً من حالهم ، كما قال في الأخرى : ) أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ ( وكما قال ) مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ). ثم أخبر عنهم ثالثاً بأعظم الكفر ، وهو ادعاؤهم أنه تعالى قد ولد ، فبلغ إفكهم إلى نسبة الولد . ولما كان هذا فاحشاً قال : ) وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ). واحتمل أن تخص هذه الجملة بقولهم ولد الله ، ويكون تأكيد لقوله : ) مِّنْ إِفْكِهِمْ ( ، واحتمل أن يعم هذا القول . فإن قلت : لم قال : ) وَهُمْ شَاهِدُونَ ( ، فخص علمهم بالمشاهدة ؟ قلت : ما هو إلا استهزاء وتجهيل كقوله : ) أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ ( ، وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة ، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم ولا بإخبار صادق ، لا بطريق استدلال ولا نظر . ويجوز أن يكون المعنى أنهم يقولون ذلك ، كالقائل قولاً عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم ، كأنهم قد شاهدوا خلقه . وقرأ : ) وَلَدَ اللَّهُ ( : أي الملائكة ولده ، والولد فعل بمعنى مفعول يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث . تقول : هذه ولدي ، وهؤلاء ولدي . انتهى .
وقرأ الجمهور : ) اصْطَفَى ( ، بهمزة الاستفهام ، على طريقة الإنكار والاستبعاد . وقرأ نافع في رواية إسماعيل وابن جماز وجماعة ، وإسماعيل عن أبي جعفر وشيبة : بوصل الألف ، وهو من كلام الكفار . حكى الله تعالى شنيع قولهم ، وهو أنهم ما كفاهم أن قالوا ولد الله ، حتى جعلوا ذلك الولد بنات الله ، والله تعالى اختارهم على البنين . وقال الزمخشري : بدلاً عن قولهم ولد الله ، وقد قرأ بها حمزة والأعمش ، وهذه القراءة ، وإن كان هذا محملها ، فهي ضعيفة ؛ والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها ، وذلك قوله : ) وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ، ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ). فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين سببين ، وليست دخيلة بين نسيبين ، بل لها مناسبة ظاهرة مع قولهم ولد الله . وأما قوله : ) وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ، فهي جملة اعتراض بين مقالتي الكفر ، جاءت للتشديد والتأكيد في كون مقالتهم تلك هي من إفكهم . ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( : تقريع وتوبيخ واستفهام عن البرهان والحجة . وقرأ طلحة بن مصرف : تذكرون ، بسكون الذال وضم الكاف . ) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ ( : أي حجة نزلت عليكم من السماء ، وخبر بأن الملائكة بنات الله . ) فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ ( ، الذي أنزل عليكم بذلك ، كقوله : ) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً ( ، فهو يتكلم بما كانوا به يشركون .
( وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاْوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ).
الظاهر أن الجنة هم الشياطين ، وعن الكفار في ذلك مقالات شنيعة . منها أنه تعالى صاهر سروات الجن ، فولد منهم الملائكة ، وهم فرقة من بني مدلج ، وشافه بذلك بعض الكفار أبا بكر الصديق . ) وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ ( : أي الشياطين ، أنها محضرة أمر الله من ثواب وعقاب ، قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : إذا فسرت الجنة بالشياطين ، فيجوز أن يكون الضمير في ) إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( لهم . والمعنى أن الشياطين عالمون أن الله يحضرهم النار ويعذبهم ، ولو كانوا مناسبين له ، أو شركاء في وجوب الطاعة ، لما عذبهم . وقيل : الضمير في ) وَجَعَلُواْ ( لفرقة من كفار قريش والعرب ، والجنة : الملائكة ، سموا

" صفحة رقم 362 "
بذلك لاجتنابهم وخفائهم . وقال الزمخشري : وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعاً منهم وتصغيراً لهم ، وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم ، وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار ، وهو من صفات الأجرام ، لا يصح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك . انتهى .
( وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ ( : أي الملائكة ، ( أَنَّهُمْ ( : أي الكفرة المدعين نسبة بين الملائكة وبين الله تعالى ، محضرون النار ، يعذبون بما يقولون . وأضيف ذلك إلى علم من نسبوا لذلك ، مبالغة في تكذيب الناسبين . ثم نزه تعالى نفسه عن الوصف الذي لا يليق به ، ( إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ ( ، فإنهم يصفونه بصفاته . وأما من المحضرون ، أي إلا عباد الله ، فإنهم ناجون مدة العذاب ، وتكون جملة التنزيه اعتراضاً على كلا القولين ، فالاستثناء منقطع . والظاهر أن الواو في ) وَمَا تَعْبُدُونَ ( للعطف ، عطفت ما تعبدون على الضمير في إنكم ، وأن الضمير في عليه عائد على ما ، والمعنى : قل لهم يا محمد : وما تعبدون من الأصنام ما أنتم وهم ، وغلب الخطاب . كما تقول : أنت وزيد تخرجان عليه ، أي على عبادة معبودكم . ) بِفَاتِنِينَ ( : أي بحاملين بالفتنة عبادة ، إلا من قدر الله في سابق علمه أنه من أهل النار . والضمير في ) عَلَيْهِ ( عائد على ما على حذف مضاف ، كما قلنا ، أي على عبادته . وضمن فاتنين معنى : حاملين بالفتنة ، ومن مفعولة بفاتنين ، فرغ له العامل إذ لم يكن بفاتنين مفعولاً . وقيل : عليه بمعنى : أي ما أنتم بالذي تعبدون بفاتنين ، وبه متعلق بفاتنين ، المعنى : ما أنتم فاتنين بذلك الذي عبدتموه إلا من سبق عليه القدر أنه يدخل النار . وجعل الزمخشري الضمير في عليه عائداً على الله ، قال فإن قلت : كيف يفتنونهم على الله ؟ قلت : يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم من قولك : فتن فلان على فلان امرأته ، كما تقول : أفسدها عليه وخيبها عليه . ويجوز أن تكون الواو في ) وَمَا تَعْبُدُونَ ( بمعنى مع مثلها في قولهم : كل رجل وضيعته . فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته ، جاز أن يسكت على قوله : ) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ( ، لأن قوله : ) وَمَا تَعْبُدُونَ ( ساد مسد الخبر ، لأن معناه فإنكم مع ما تعبدون ، والمعنى : فإنكم مع آلهتكم ، أي فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونهم . ثم قال ) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ( : أي على ما تعبدون ، ( بِفَاتِنِينَ ( : بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال ، إلا من هو ضال منكم . انتهى . وكون الواو في ) وَمَا تَعْبُدُونَ ( واو مع غير متبادر إلى الذهن ، وقطع ) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ( عن إنكم وما تعبدون ليس بجيد ، لأن اتصافه به هو السابق إلى الفهم مع صحة المعنى ، فلا ينبغي العدول عنه .
وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة : صالوا الجحيم بالواو ، وهكذا في كتاب الكامل للهذلي . وفي كتاب ابن خالويه عنهما : صال مكتوباً بغير واو ، وفي كتاب ابن عطية . وقرأ الحسن : صالوا مكتوباً بالواو ؛ وفي كتاب اللوامح وكتاب الزمخشري عن الحسن : صال مكتوباً بغير واو . فمن أثبت الواو فهو جمع سلامة سقطت النون للإضافة . حمل أولاً على لفظ من فأفرد ، ثم ثانياً على معناها فجمع ، كقوله : ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ( ، حمل في يقول على لفظ من ، وفي وما هم على المعنى ، واجتمع الحمل على اللفظ ، والمعنى في جملة واحدة ، وهي صلة للموصول ، كقوله : ) إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ ). وقول الشاعر :
وأيقظ من كان منكم نياماً
ومن لم يثبت الواو احتمل أن يكون جمعاً ، وحذفت الواو خطأ ، كما حذفت في حالة الوصل لفظاً لأجل التقاء الساكنين . واحتمل أن يكون صال مفرداً حذفت لامه تخفيفاً ، وجرى الإعراب في عينه ، كما حذف من قوله : ) إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ( ، ( وَلَهُ الْجَوَارِ ( ، برفع النون والجوار ، وقالوا : ما باليت به بالة ، أي بالية من بالى ، كعافية من عافى ، فحذفت لام باليت وبالية . وقالوا بالة وبال ، بحذف اللام فيهما . وقال الزمخشري : وقد وجه نحواً من الوجهين السابقين وجعلهما أولاً وثالثاً فقال : والثاني أن يكون أصله صائل على القلب ، ثم يقال : صال في صائل ، كقولهم : شاك في شائك . انتهى . ) الْجَحِيمِ وَمَا مِنَّا ( : أي أحد ، ( إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( : أي مقام في العبادة والانتهاء إلى أمر الله ، مقصور عليه لا يتجاوزه . كما روي : فمنهم راكع لا يقيم ظهره ، وساجد لا يرفع رأسه ، وهذا قول الملائكة ، وهو يقوي قول من جعل الجنة

" صفحة رقم 363 "
هم الملائكة تبرؤا عن ما نسب إليهم الكفرة من كونهم بنات الله ، وأخبروا عن حال عبوديتهم ، وعلى أي حالة هم فيها . وفي الحديث : ( أن السماء ما فيها موضع إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي ) ، وعن ابن مسعود : ( موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه ) ، وحذف المبتدإ مع من جيد فصيح ، كما مر في قوله : ) وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ ( ، أي وأن من أهل الكتاب أحد . وقال العرب : منا ظعن ومنا أقام ، يريد : منا فريق ظعن ومنا فريق أقام . وقال الزمخشري : وما منا أحد إلا له مقام معلوم ، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ، كقوله :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
بكفي كان من أرمي البشر
انتهى . وليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، لأن أحداً المحذوف مبتدأ . وإلا له مقام معلوم خبره ، ولأنه لا ينعقد كلام من قوله : وما منا أحد ، فقوله : ) إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( هو محط الفائدة . وإن تخيل أن ) إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( في موضع الصفة ، فقد نصوا على أن إلا لا تكون صفة إذا حذف موصوفها ، وأنها فارقت غير إذا ؛ كانت صفة في ذلك ، ليتمكن غيره في الوصف وقلة تمكن إلا فيه ، وجعل ذلك كقوله : أنا ابن جلا ، أي اين رجل جلا ؛ وبكفي كان ، أي رجل كان ، وهذا عند النحويين من أقبح الضرورات . ) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ( : أي أقدامنا في الصلاة ، أو أجنحتنا في الهواء ، أو حول العرش داعين للمؤمنين . وقال الزهراوي : قيل إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية ، ولا يصطف أحد من الملل غير المسلمين . ) وَأَنْ لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ ( : أي المنزهون الله عن ما نسب إليه الكفرة ، أو المنزهون بلفظ التسبيح ، أو المصلون . وينبغي أن يجعل قوله : ) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( من كلام الملائكة ، فتطرد الجمل وتنساق لقائل واحد ، فكأنه قيل : ولقد علمت الملائكة أن ناسبي ذلك لمحضرون للعذاب ؛ وقالوا : سبحان الله ، فنزهوا عن ذلك واستثنوا من أخلص من عباد الله ؛ وقالوا للكفرة : فإنكم وآلهتكم إلى آخره . وكيف نكون مناسبيه ، ونحن عبيد بين يديه ، لكل منا مقام من الطاعة ؟ إلى ما وصفوا به أنفسهم من رتبة العبودية . وقيل : ) وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( ، هو من قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي وما من المرسلين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله ، من قوله تعالى : ) عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً .
ثم ذكر أعمالهم ، وأنهم المصطفون في الصلاة المنزهون الله عن ما يقول أهل الضلال . والضمير في ) ليقولون ( لكفار قريش ، ( لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً ( : أي كتاباً من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، لأخلصنا العبادة لله ، ولم نكذب كما كذبوا . ) فَكَفَرُواْ بِهِ ( : أي فجاءهم الذكر الذي كانوا يتمنونه ، وهو أشرف الأذكار ، لأعجازه من بين الكتب . ) فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( عاقبة كفرهم ، وما يحل بهم من الانتقام . وأكدوا قولهم بأن المخففة وباللام كونهم كانوا جادين في ذلك ، ثم ظهر منهم التكذيب والنفور البليغ ، كقوله : ) فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ).
) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا ( : قرأ الجمهور بالإفراد لما انتظمت في معنى واحد عبر عنها بالإفراد . وقرأ الضحاك : بالجمع ، والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقامات الحجاج وملاحم القتال في الدنيا ، وعلوهم عليهم في الآخرة . وقال الحسن : ما غلب نبي في الحرب ، ولا قتل فيها . ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ( : أي إلى مدّة يسيرة ، وهي مدّة الكف عن القتال . وعن السدّي : إلى يوم بدر ، ورجحه الطبري . وقال قتادة : إلى موتهم . وقال ابن زيد : إلى يوم القيامة . ) وَأَبْصَارِهِمْ ( : أي انظر إلى عاقبة أمرهم ، فسوف

" صفحة رقم 364 "
يبصرونها وما يحل بهم من العذاب والأسر والقتل ، أو سوف يبصرونك وما يتم لك من الظفر بهم والنصر عليهم . وأمره بإبصارهم إشارة إلى الحالة المنتظرة الكائنة لا محالة ، وأنها قريبة كأنها بين ناظريه بحيث هو يبصرها ، وفي ذلك تسلية وتنفيس عنه عليه السلام . ) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( : استفهام توبيخ .
( فَإِذَا نَزَلَ ( هو ، أي العذاب ، مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذره ، فأنكروه بحيث أنذر بهجومه قومه وبعض صناعهم ، فلم يلتفتوا إلى إنذراه ، ولا أخذوا أهبته ، ولا دبروا أمرهم تدبير ينجيهم حتى أناخ بفنائهم ، فشن عليهم الغارة ، وقطع دابرهم . وكانت عادة مغازيهم أن يغيروا صباحاً ، فسميت الغارة صباحاً ، وإن وقعت في وقت آخر . وما فصحت هذه الآية ، ولا كانت له الروعة التي يحسن بها ، ويرونك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل ، قاله الزمخشري . وقرأ الجمهور : مبنياً للفاعل ؛ وابن مسعود : مبنياً للمفعول ؛ وساحتهم : هو القائم مقام الفاعل . ونزل ساحة فلان ، يستعمل فيما ورد على الإنسان من خير أو شر ؛ وسوء الصباح : يستعمل في حلول الغارات والرزايات ؛ ومثل قول الصارخ : يا صباحاه ؛ وحكم ساء هنا حكم بئس . وقرأ عبد الله : فبئس ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : فساء صباح المنذرين صباحهم . ) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ( : كرر الأمر بالتولي ، تأنيساً له عليه الصلاة والسلام ، وتسلية وتأكيد لوقوع الميعاد ؛ ولم يقيد أمره بالإبصار ، كما قيده في الأول ، إما لاكتفائه به في الأول فحذفه اختصاراً ، وإما لما في ترك التقييد من جولان الذهن فيما يتعلق به الإبصار منه من صنوف المساءات ، والإبصار منهم من صنوف المساآت . وقيل : أريد بالأول عذاب الدنيا ، وبالآخرة عذاب الآخرة .
وختم تعالى هذه السورة بتنزيهه عن ما يصفه المشركون ، وأضاف الرب إلى نبيه تشريفاً له بإضافته وخطابه ، ثم إلى العزة ، وهي العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين ، وكذلك قال الفقهاء من جهة أنها مربوبة . وقال محمد بن سحنون وغيره : من حلف بعزة الله تعالى إلى يريد عزته التي خلقت بين عباده ، وهي التي في قوله : ) رَبّ الْعِزَّةِ ( ، فليست بيمين . وقال الزمخشري : أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها ، كأنه قيل : ذو العزة ، كما تقول : صاحب صدق لاختصاصه بالصدق . انتهى . فعلى هذا تنعقد اليمين بعزة الله لأنها صفة من صفاته . قال : ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها ، لقوله : ) وَتُعِزُّ مَن تَشَاء ). وعن علي ، كرم الله وجهه : ( من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه : ) سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّةِ ( ، إلى آخر السورة .
( سورة ص )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم

" صفحة رقم 365 "
2 ( ) صوَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مٌّ نذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الاٌّ لِهَةَ إِلَاهاً وَاحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَاذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى الْمِلَّةِ الاٌّ خِرَةِ إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ أَءَنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُم مٌّ لْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاٌّ سْبَابِ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الاٌّ حَزَابِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاٌّ وْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لأيْكَةِ أُوْلَائِكَ الاٌّ حْزَابُ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّ سُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ( ) ) 2
ص : ( 1 ) ص والقرآن ذي . . . . .
لات : هي لا ، ألحقت بها التاء كما ألحقت في ثم ورب ، فقالوا : ثمت وربت ، وهي تعمل عمل ليس في مذهب سيبويه ، وعمل إن في مذهب الأخفش . فإن ارتفع ما بعدها ، فعلى الابتداء عنده ؛ ولها أحكام ذكرت في علم النحو ، ويأتي شيء منها هنا عند ذكر القراءات التي فيها . والمناص : المنجا والغوث ، يقال ناصه ينوصه : إذا فاته . قال الفراء : النوص : التأخر ، يقال ناص عن قرنه ينوص نوصاً ومناصاً : أي فر وزاغ ، وأنشد لامرىء القيس : أم ذكر سلمى ان نأتك كنوص
واستناص طلب المناص
قال حارثة بن بدر :
غمر الجراء إذا قصرت عنانه
بيدي استناص ورام جري المسحل

" صفحة رقم 366 "
وقال الجوهري : استناص : تأخر . وقال النحاس : ناص ينوص : تقدم . الوتد : معروف ، وكسر التاء أشهر من فتحها . ويقال : وتد واتد ، كما يقال : شغل شاغل . قال الأصمعي وأنشد : لاقت على الماء جذيلاً واتدا
ولم يكن يخلفها المواعدا
وقالوا : ودّ فأدغموه ، قال الشاعر : تخرج الودّ إذا ما أشحذت
وتواريه إذا ما تشتكر
وقالوا فيه : دت ، فأدغموا بإدال الدال تاء ، وفيه قلب الثاني للأول ، وهو قليل .
( ص وَالْقُرْءانِ ذِى الذّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّ نذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلَاهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْء عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىءالِهَتِكُمْ إِنَّ هَاذَا لَشَىْء يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى الْمِلَّةِ الاْخِرَةِ إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ أَءنزِلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُم مٌّ لْكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاْسْبَابِ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الاْحَزَابِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاْوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لئَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الاْحْزَابُ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّ سُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ).
هذه السورة مكية ، ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه لما ذكر عن الكفار أنهم كانوا يقولون : ) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاْوَّلِينَ ( ، لأخلصوا العبادة لله . وأخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به . بدأ في هذه السورة بالقسم بالقرآن ، لأنه الذكر الذي جاءهم ، وأخبر عنهم أنهم كافرون ، وأنهم في تعزز ومشاقة للرسول الذي جاء به ؛ ثم ذكر من أهلك من القرون التي شاقت الرسل ليتعظوا . وروي أنه لما مرض أبو طالب ، جاءت قريش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل ، فقام أبو جهل كي يمنعه ، وشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا ابن أخي ، ما تريد من قومك ؟ فقال : يا عم ، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب ، وتؤدّي إليهم الجزية بها العجم . قال : وما الكلمة ؟ قال : كلمة واحدة ، قال : وما هي ؟ قال : لا إله إلا الله ، قال فقاموا وقالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؟ قال : فنزل فيهم القرآن : ) ص وَالْقُرْءانِ ذِى الذّكْرِ ( ، حتى بلغ ، ( إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ).
قرأ الجمهور : صاد ، بسكون الدال . وقرأ أبي ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو السمال ، وابن أبي عبلة ، ونصر بن عاصم : صاد ، بكسر الدال ، والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين . وهو حرف من حروف المعجم نحو : قاف ونون . وقال الحسن : هو أمر من صادى ، أي عارض ، ومنه الصدى ، وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام ، أي عارض بعملك القرآن . وعنه أيضاً : صاديت : حادثت ، أي حادث ، وهو قريب من القول الأول . وقرأ عيسى ، ومحبوب عن أبي عمرو ، وفرقة : صاد ، بفتح الدال ، وكذا قرأ : قاف ونون ، بفتح الفاء والنون ، فقيل : الفتح لالتقاء الساكنين طلباً للتخفيف ؛ وقيل : انتصب على أنه مقسم به ، حذف منه حرف القسم نحو قوله : ألله لأفعلن ، وهو اسم للسورة ، وامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث ، وقد صرفها من قرأ صاد بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل

" صفحة رقم 367 "
وهو ابن أبي إسحاق في رواية . وقرأ الحسن أيضاً : صاد ، بضم الدال ، فإن كان اسماً للسورة ، فخبر مبتدأ محذوف ، أي هذه ص ، وهي قراءة ابن السميفع وهرونه الأعور ؛ وقرأ قاف ونون ، بضم الفاء والنون . وقيل : هو حرف دال على معنى من فعل أو من اسم ، فقال الضحاك : معناه صدق الله . وقال محمد بن كعب : مفتاح أسماء الله محمد صادق الوعد صانع المصنوعات . وقيل : معناه صدق محمد .
قال ابن عباس ، وابن جبير ، والسدّي : ذي الذكر : ذي الشرف الباقي المخلد . وقال قتادة : ذي التذكرة ، للناس والهداية لهم . وقيل : ذي الذكر ، للأمم والقصص والغيوب والشرائع وجواب القسم ، قيل : مذكور ، فقال الكوفيون والزجاج : هو قوله : ) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ). وقال الفراء : لا نجده مستقيماً في العربية لتأخره جداً عن قوله : ) وَالْقُرْءانِ ). وقال الأخفش : هو ) إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّ سُلَ ( ، وقال قوم : ) كَمْ أَهْلَكْنَا ( ، وحذف اللام أي لكم ، لما طال الكلام ؛ كما حذفت في ) وَالشَّمْسُ ( ، ثم قال : ) قَدْ أَفْلَحَ ( ، حكاه الفراء وثعلب ، وهذه الأقوال يجب اطراحها . وقيل : هو صاد ، إذ معناه : صدق محمد وصدق الله . وكون صاد جواب القسم ، قاله الفراء وثعلب ، وهذا مبني على تقدم جواب القسم ، واعتقاد أن الصاد يدل على ما ذكروه . وقيل : الجواب محذوف ، فقدره الحوفي : لقد جاءكم الحق ونحوه ، والزمخشري : إنه لمعجز ، وابن عطية : ما الأمر كما تزعمون ، ونحو هذا من التقدير . ونقل أن قتادة والطبري قالا : هو محذوف قبل ) بَلِ ( ، قال : وهو الصحيح ، وقدره ما ذكرنا عنه ، وينبغي أن يقدر ما أثبت هنا جواباً للقرآن حين أقسم به ، وذلك في قوله تعالى : ) يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ، ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله : ) وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّ نذِرٌ مّنْهُمْ ( ، وقال هناك : ) لِتُنذِرَ قَوْماً ( ، فالرسلة تتضمن النذارة والبشارة ، وبل للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى حالة تعزز الكفار ومشاقهم في قبول رسالتك وامتثال ما جئت به ، واعتراف بالحق .
وقرأ حماد بن الزبرقان ، وسورة عن الكسائي ، وميمون عن أبي جعفر ، والجحدري من طريق العقيلي : في غرة ، بالغين المعجمة والراء ، أي في غفلة ومشاقة . ) قَبْلَهُمْ ( : أي قبل هؤلاء ذوي المنعة الشديدة والشقاق ، وهذا وعيد لهم . ) فَنَادَوْاْ ( : أي استغاثوا ونادوا بالتوبة ، قاله الحسن ؛ أو رفعوا أصواتهم ، يقال : فلان أندى صوتاً : أي أرفع ، وذلك بعد معاينة العذاب ، فلم يك وقت نفع . وقرأ الجمهور : ) وَّلاَتَ حِينَ ( ، بفتح التاء ونصب النون ، فعلى قول سيبويه ، عملت عمل ليس ، واسمها محذوف تقديره : ولات الحين حين فوات ولا فرار . وعلى قول الأخفش : يكون حين اسم لات ، عملت عمل إن نصبت الإسم ورفعت الخبر ، والخبر مخذوف تقديره : ولات أرى حين مناص . وقرأ أبو السمال : ولات حين ، بضم التاء ورفع النون ؛ فعلى قول سيبويه : حين مناص اسم لات ، والخبر محذوف ؛ وعلى قول الأخفش : مبتدأ ، والخبر محذوف . وقرأ عيسى بن عمر : ولات حين ، بكسر التاء وجر النون ، خبر بعد لات ، وتخريجه مشكل ، وقد تمحل الزمخشري في تخريج الخبر في قوله : طلبوا صلحنا ولات حين أوان
فأجبنا أن لات حين بقاء
قال : شبه أوان بإذ في قوله :

" صفحة رقم 368 "
وأنت إذ صحيح في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض ، لأن الأصل : ولات أوان صلح . فإن قلت : فما تقول في حين مناص ، والمضاف إليه قائم ؟ قلت : نزل قطع المضاف والمضاف إليه ، وجعل تنوينه عوضاً من الضمير المحذوف ، ثم بنى الحين لكونه مضافاً إلى غير متمكن . انتهى . هذا التمحل ، والذي ظهر لي في تخريج هذه القراءة الشاذة ، والبيت النادر في جر ما بعد لات : أن الجر هو على إضمار من ، كأنه قال : لات من حين مناص ، ولات من أوان صلح ، كما جروا بها في قولهم : على كم جذع بيتك ؟ أي من جذع في أصح القولين ، وكما قالوا : لا رجل جزاه الله خيراً ، يريدون : لا من رجل ، ويكون موضع من حين مناص رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس ، كما تقول : ليس من رجل قائماً ، والخبر محذوف ، وهذا على قول سيبويه ، أو على أنه مبتدأ أو الخبر محذوف ، على قول الأخفش . وقال بعضهم : ومن العرب من يخفض بلات ، وأنشد الفراء : ولتندمن ولات ساعة مندم وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين ، أي ولات حين أوان ، حذف حين وأبقى أوان على جره . وقال أبو إسحاق : ولات أواننا ، فحذف المضاف إليه ، فوجب أن لا يعرب ، وكسره لالتقاء الساكنين ؛ وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري ، أخذه من أبي إسحاق الزجاج ، وأنشده المبرد : ولات أوان بالرفع . وعن عيسى : ولات حين ، بالرفع ، مناص : بالفتح . وقال صاحب اللوامح : فإن صح ذلك ، فلعله بنى حين على الضم ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، وأجراه مجرى قبل وبعد في الغاية ، وبنى مناص على الفتح مع لات ، على تقدير : لات مناص حين ، لكن لا إنما تعمل في النكرات في اتصالها بهن دون أن يفصل بينهما ظرف أو غيره ، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه . انتهى . وقرأ عيسى أيضاً : ولات بكسر التاء ، وحين بنصب النون ، وتقدم تخريج نصب حين . ولات روي فيها فتح التاء وضمها وكسرها والوقف عليها بالتاء ، قول سيبويه والفراء وابن كيسان والزجاج ، ووقف الكسائي والمبرد بالهاء ، وقوم على لا ، وزعموا أن التاء زيدت في حين ؛ واختاره أبو عبيدة وذكر أن رآه في الإمام مخلوطاً تاؤه بحين ، وكيف يصنع بقوله : ولات ساعة مندم ، ولات أوان . وقال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا ، قال بعضهم لبعض : مناص ، أي عليكم بالفرار ، فلما أتاهم العذاب قالوا : مناص ، فقال الله : ) وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ). قال القشيري : فعلى هذا يكون التقدير : فنادوا مناص ، فحذف لدلالة ما بعده عليه ، أي ليس الوقت وقت ندائكم به ، وفيه نوع تحكم ، إذ كل من هلك من القرون يقول مناص عند

" صفحة رقم 369 "
الاضطرار . انتهى . وقال الجرجاني : أي فنادوا حين لا مناص ، أي ساعة لا منجا ولا فوت . فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو ، كما تقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبراً مثل : جاء زيد راكباً ، ثم تقول : جاء زيد وهو راكب ، فحين ظرف لقوله : ) فَنَادَوْاْ ). انتهى . وكون أصل هذه الجملة : فنادوا حين لا مناص ، وأن حين ظرف لقوله : ) فَنَادَوْاْ ( دعوى أعجمية مخالفة لنظم القرآن ، والمعنى على نظمه في غاية الوضوح ، والجملة في موضع الحال ، فنادوا وهم لات حين مناص ، أي لهم .
ولما أخبر تعالى عن الكفار أنهم في عزة وشقاق ، أردف بما صدر عنهم من كلماتهم الفاسدة ، من نسبتهم إليه السحر والكذب . ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : ) وَقَالَ الْكَافِرُونَ ( ، أي : وقالوا تنبيهاً على الصفة التي أوجبت لهم العجب ، حتى نسبوا من جاء بالهدى والتوحيد إلى السحر والكذب . ) أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلَاهاً واحِداً ( ، قالوا : كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمورهم ؟ وجعل : بمعنى صير في القول والدعوى والزعم ، وذكر عجبهم مما لا يعجب منه . والضمير في ) وَعَجِبُواْ ( لهم ، أي استغربوا مجيء رسول من أنفسهم . وقرأ الجمهور : ) عُجَابٌ ( ، وهو بناء مبالغة ، كرجل طوال وسراع في طويل وسريع . وقرأ علي ، والسلمي ، وعيسى ، وابن مقسم : بشم الجيم ، وقالوا : رجل كرّام وطعام طياب ، وهو أبلغ من فعال المخفف . وقال مقاتل : عجاب لغة أزد شنوءة . والذين قالوا : ) أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلَاهاً واحِداً ( ، قال ابن عباس : صناديد قريش ، وهم ستة وعشرون .
( وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ ( : الظاهر انطلاقهم عن مجلس أبي طالب ، حين اجتمعوا هم والرسول عنده وشكوه على ما تقدّم في سبب النزول ؛ ويكون ثم محذوف تقديره : يتحاورون . ) أَنِ امْشُواْ ( ، وتكون أن مفسرة لذلك المحذوف ، وامشوا أمر بالمشي ، وهو نقل الأقدام عن ذلك المجلس . وقال الزمخشري : وأن بمعنى أي ، لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم ، فكان انطلاقهم مضمناً معنى القول والأمر بالمشي ، أي بعضهم أمر بعضاً . وقيل : أمر الأشراف أتباعهم وأعوانهم . ويجوز أن تكون أن مصدرية ، أي وانطلقوا بقولهم امشوا ، وقيل : الانطلاق هنا الاندفاع في القول والكلام ، وأن مفسرة على هذا ، والأمر بالمشي لا يراد به نقل الخطا ، إنما معناه : سيروا على طريقتكم ودوموا على سيرتكم . وقيل : ) امْشُواْ ( دعاء بكسب الماشية ، قيل : وهو ضعيف ، لأنه كان يلزم أن تكون الألف مقطوعة ، لأنه إنما يقال : أمشي الرجل إذا صار صاحب ماشية ؛ وأيضاً فهذا المعنى غير متمكن في الآية . وقال الزمخشري : ويجوز أنهم قالوا : امشوا ، أي أكثروا واجتمعوا ، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ؛ ومنه الماشية للتفاؤل . انتهى . وأمروا بالصبر على الآلهة ، أي على عبادتها والتمسك بها .
والإشارة بقوله : ) إِنَّ هَذَا ( أي ظهور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعلوه بالنبوة ، ( لَشَىْء يُرَادُ ( : أي يراد منا الانقياد إليه ، أو يريده الله ويحكم بإمضائه ، فليس فيه إلا الصبر ، أو أن هذا الأمر شيء من نوائب الدهر مراد منا ، فلا انفكاك عنه ، وأن دينكم لشيء يراد ، أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا معليه ، احتمالات أربعة . وقال القفال : هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف ، المعنى : أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير للدين ، وإنما غرضه أن يستولي علينا ، فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد . ) مَّا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى الْمِلَّةِ الاْخِرَةِ ( ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب ، ومقاتل : ملة النصارى ، لأن فيها التثليث ، ولا توحد . وقال مجاهد ، وقتادة : ملة العرب : قريش ونجدتها . وقال الفراء ، والزجاج : ملة اليهود والنصرانية ، أشركت اليهود بعزير ، وثلث النصارى . وقيل : في الملة الآخرة التي كنا نسمع أنها تكون في آخر الزمان ، وذلك أنه قبل المبعث ، كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين . ويدل على صحة هذا ما روي من أقوال الأحبار أولي الصوامع ، وما روي عن الكهان شق وسطيح وغيرهما ، وما كانت بنو إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم . وقيل : في الملة الآخرة ، أي لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة

" صفحة رقم 370 "
توحيد الله . ) إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ( : أي افتعال وكذب .
( عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل ( : أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم وينزل عليه الكتاب من بينهم ، وهذا الإنكار هو ناشىء عن حسد عظيم انطوت عليه صدورهم فنطقت به ألسنتهم . ) بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى ( : أي من القرآن الذي أنزلت على رسولي يرتابون فيه ، والإخبار بأنهم في شك يقتضي كذبهم في قولهم : ) إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ). ) بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ( : أي بعد ، فإذا ذاقوه عرفوا أن ما جاء به حق وزال عنهم الشك . ) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ ( : أي ليسوا متصرفين في خزائن الرحمة ، فيعطون ما شاؤوا ، ويمنعون من شاؤوا ما شاؤوا ، ويصطفون للرسالة من أرادوا ، وإنما يملكها ويتصرف فيها ) الْعَزِيزُ ( : الذي لا يغالب ، ( الْوَهَّابُ ( : ما شاء لمن شاء .
لما استفهم استفهام إنكار في قوله : ) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ ( ، وكان ذلك دليلاً على انتفاء تصرفهم في خزائن رحمة ربك ، أتى بالإنكار والتوبيخ بانتفاء ما هو أعم فقال : ) أَمْ لَهُم مٌّ لْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : أي ليس لهم شيء من ذلك . ) فَلْيَرْتَقُواْ ( : أي ألهم شيء من ذلك ، فليصعدوا ، ( فِى الاْسْبَابُ ( ، الموصولة إلى السماء ، والمعارج التي يتوصل بها إلى تدبير العالم ، فيضعون الرسالة فيمن اختاروا . ثم صغرهم وحقرهم ، فأخبر بما يؤول إليه أمرهم من الهزيمة والخيبة . قيل : وما زائدة ، ويجوز أن تكون صفة أريد به التعظيم على سبيل الهزء بهم ، أو التحقير ، لأن مال الصفة تستعمل على هذين المعنيين . و ) هُنَالِكَ ( : ظرف مكان يشار به للبعيد . والظاهر أنه يشار به للمكان الذي تفاوضوا فيه مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بتلك الكلمات السابقة ، وهو مكة ، فيكون ذلك إخباراً بالغيب عن هزيمتهم بمكة يوم الفتح ، فالمعنى أنهم يصيرون مهزومين بمكة يوم الفتح . وقيل : ) هُنَالِكَ ( ، إشارة إلى الإرتقاء في الأسباب ، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم . وقيل : أشير بهنالك إلى جملة الأصنام وعضدها ، أي هم جند مهزوم في هذه السبيل . وقال مجاهد ، وقتادة : الإشارة إلى يوم بدر ، وكان غيباً ، أعلم الله به على لسان رسوله . وقيل : الإشارة إلى حصر عام الخندق بالمدينة . وقال الزمخشري : وهنالك ، إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم من قولهم : لمن يندبه لأمر ليس من أهله ، لست هنالك . انتهى . و ) هُنَالِكَ ( ، يحتمل أن يكون في موضع الصفة لجند ، أي كائن هنالك ؛ ويحتمل أن يكون متعلقاً بمهزوم ، وجند خبر مبتدأ محذوف ، أي هم جند ، ومهزوم خبره . وقال أبو البقاء : جند مبتدأ ، وما زائدة ، وهنالك نعت ، ومهزوم الخبر . انتهى . وفيه بعد لفصله عن الكلام الذي قبله . ومعنى ) مّن الاْحَزَابِ ( : من جملة الأحزاب الذين تعصبوا في الباطل وكذبوا الرسل . ولما ذكر تعالى أنه أهلك قبل قريش قروناً كثيرة لما كذبوا رسلهم ، سرد منهم هنا من له تعلق بعرفانه . و ) ذُو الاْوْتَادِ ( : أي صاحب الأوتاد ، وأصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده . قال الأفوه العوذي : والبيت لا يبتنى إلا على عمد
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر ، كما قال الأسود : في ظل ملك ثابت الأوتاد

" صفحة رقم 371 "
قاله الزمخشري ، وأخذه من كلام غيره . وقال ابن عباس ، وقتادة ، وعطاء : كانت له أوتاد وخشب يلعب بها وعليها . وقال السدي : كان يقتل الناس بالأوتاد ، ويسمرهم في الأرض بها . وقال الضحاك : أراد المباني العظيمة الثابتة . وقيل : عبارة عن كثرة أخبيته وعظم عساكره . وقيل : كان يشج المعذب بين أربع سواري ، كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروبة فيها وتد من حديث ، ويتركه حتى يموت . روي معناه عن الحسن ومجاهد ، وقيل : كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض ، ويرسل عليه العقارب والحيات . وقيل : يشدهم بأربعة أوتاد ، ثم يرفع صخرة فتلقى عليه فتشدخه . وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، في رواية عطية : الأوتاد : الجنود ، يشدون ملكه ، كما يقوي الوتد الشيء . وقيل : بنى مناراً يذبح عليها الناس ، قاله ابن جبير . ) أُوْلَئِكَ الاْحْزَابُ ( : أي الذين تحزبوا على أنبيائهم ، كما تحزب قريش على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والظاهر أن الإشارة بأولئك إلى أقرب مذكور ، وهم قوم نوح ومن عطف عليهم ؛ وفيه تفخيم لشأنهم وإعلاء لهم على من تحزب على رسول الله ، أي هؤلاء العظماء لما كذبوا عوقبوا ، وكذلك أنتم .
( إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّ سُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ( : فوجب عقابهم . كذبت قوم نوح ، آذوا نوحاً فأغرقوا ؛ وقوم هود فأهلكوا بالريح ؛ وفرعون فأغرق ؛ وثمود بالصيحة ؛ وقوم لوط بالخسف ؛ والأيكة بعذاب الظلة . ومعنى ) إِن كُلٌّ ( : ما كان من قوم نوح فمن بعدهم ، ( فَحَقَّ عِقَابِ ( : أي وجب عقابهم ، فكذلك يحق عليكم أيها المكذبون بالرسول . قال الزمخشري : ) أُوْلَئِكَ الاْحْزَابُ ( ، قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم هم هم ، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب ، ولقد ذكرت تكذيبهم أولاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام ، ثم جاء بالجملة الاستثنائية ، فأوضحه فيها بأن كل واحد من الأحزاب كذب الرسل ، لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم ، فقد كذبوا جميعاً ، وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه ، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولاً ، وبالاستثناء ثانياً ، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشدّ العذاب وأبلغه . ثم قال : ) فَحَقَّ عِقَابِ ( : أي فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم . انتهى .
( ) وَمَا يَنظُرُ هَاؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الاٌّ يْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِىبَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَالِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَأابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الاٌّ رْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاٌّ رْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاٌّ لْبَابِ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّىأَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالاٌّ عْنَاقِ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاًّحَدٍ مِّن بَعْدِىإِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاٌّ صْفَادِ هَاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَأابٍ ( )

" صفحة رقم 372 "
ص : ( 15 ) وما ينظر هؤلاء . . . . .
372
الفواق ، بضم الفاء وفتحها : الزمان الذي ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع ، وفي الحديث : ( العبادة قدر فواق الناقة ) . وأفاقت الناقة إفاقة : اجتمعت الفيقة في ضرعها فهي مفيق ومفيقة ، عن أبي عمرو . والفيقة : اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ، ويجمع على أفواق ، وأفاويق جمع الجمع . وقال أبو عبيدة والفراء ومؤرج : الفواق ، بالفتح : الإفاقة والاستراحة . القط ، قال الفراء : الحظ والنصيب ، ومنه قيل للصك : القط ، وقال أبو عبيدة والكسائي : القط : الكتاب بالجوائز ، وقال الأعشى : ولا الملك النعمان يوم لقيته
بغبطته يعطي القطوط ويأفق
ويروى بأمته : أي بنعمته ، ويأفق : يصلح ، وهو في الكتاب أكثر استعمالاً . قال أمية بن أبي الصلت : قوم لهم ساحة أرض العراق وما
يجبى إليهم بها والقط والعلم
ويجمع أيضاً على قططة ، وفي القليل قط وأقطاط . تسور الحائط والسور وتسنمه والبعير : علا أعلاه . والسور : حائط المدينة ، وهو غير مهمور . الشطط : مجاوزة الحد وتخطي الحق . وقال أبو عبيدة : شططت على فلان وأشططت : جرت في الحكم . التسع : رتبة من العدد معروفة ، وكسر التاء أشهر من الفتح . النعجة : الأنثى من بقر الوحش ومن الضأن ، ويكنى بها عن المرأة . قال الشاعر :
هما نعجتان من نعاج تبالة
لذي جؤذرين أو كبعض لدى هكر
وقال ابن عون :
أنا أبوهن ثلاث هنه
رابعة في البيت صغراً هنه
ونعجتي خمساً توفيهنه
إلا فتى سجح يغذيهنه
عزة : غلبه ، يعزه عزاً ؛ وفي المثل : من عز برأي من غلب سلب . وقال الشاعر :
قطاة عزها شرك فباتت
تجاذبه وقد علق الجناح
الصافن من الخيل : الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه ، وقد يفعل ذلك برجله ، وهي علامة الفراهة ، وأنشد الزجاج :
ألف الصفون فما يزال كأنه
مما يقوم على الثلاث كسيرا

" صفحة رقم 373 "
وقال أبو عبيدة : الصافن : الذي يجمع يديه ويسويهما ، وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المتخيم . وقال القتبي : الصافن : الواقف في الخيل وغيرها . وفي الحديث : ( من سره أن يقوم الناس له صفوناً فليتبوأ مقعده من النار ) ، أي يديمون له القيام ، حكاه قطرب . وأنشد النابغة : لناقبة مضروبة بفنائها
عتاق المهارى والجياد الصوافن
وقال الفراء : على هذا رأيت العرب وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة . جاد الفرس : صار رابضاً ، يجود جودة بالضم ، فهو جواد للذكر والأنثى من خيل جياد وأجواد وأجاويد . وقيل : الطوال الأعناق من الجيد ، وهو العنق ، إذ هي من صفات فراهتها . وقيل : الجياد جمع جود ، كثوب وثياب . الرخاء : اللينة ، مشتقة من الرخاوة .
( وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا الاْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِىّ وَالإشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصّراطِ ).
) وَمَا يَنظُرُ ( : أي ينظر ، ( هَؤُلاء ( : إشارة إلى كفار قريش ، والإشارة بهؤلاء مقوية أن الإشارة باؤلئك هي للذين يلونها من قوم نوح وما عطف عليه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب لاستحضارهم بالذكر ، أو لأنهم كالحضور عند الله . انتهى . وفيه بعد ، وهو إخبار منه تعالى صدقه الوجود . والصيحة : ما نالهم من قتل وأسر وغلبة ، كما تقول ؛ صاح فيهم الدهر . وقال قتادة : توعدهم بصيحة القيامة والنفخ في الصور . وقيل : بصيحة يملكون بها في الدنيا . فالقول الأول فيه الانتظار من الرسول لشيء معين فيهم ، وعلى هذين القولين بمدرج عقوبة ، وتحت أمر خطر ما ينتظرون فيه إلا الهلكة . وقرأ الجمهور : ) مِن فَوَاقٍ ( ، بفتح الفاء ؛ والسلمي ، وابن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وطلحة : بضمها ، فقيل : هما بمعنى واحد ، كقصاص الشعر . وقال ابن زيد ، والسدي : بالفتح ، إفاقة من أفاق واستراح ، كجواب من أجاب . قال ابن عباس : ) مِن فَوَاقٍ ( : من ترداد . وقال مجاهد : من رجوع .
( عَجّل لَّنَا قِطَّنَا ( : نصيبنا من العذاب . وقال أبو العالية والكلبي : صحفنا بإيماننا . وقال السدي : المعنى : أرنا منازلنا من الجنة حتى نتابعك ، وعلى كل قول ، فإنما قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف والاستهزاء . ومعنى ) قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( : أي الذين يزعمون أنه واقع في العالم ، إذ هم كفرة لا يؤمنون بالبعث .
ولما كانت مقالتهم تقتضي الاستخفاف ، أمر تعالى نبيه بالصبر على أذاهم ، وذكر قصصاً للأنبياء : داود وسليمان وأبوب وغيرهم ، وما عرض لهم ، فصبروا حتى فرج الله عنهم ، وصارت عاقبتهم أحسن عاقبة . فكذلك

" صفحة رقم 374 "
أنت تصبر ، ويؤول أمرك إلى أحسن مآل ، وتبلغ ما تريد من إقامة دينك وإماتة الضلال . وقيل : ) اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ ( ، وعظم أمر مخالفتهم لله في أعينهم ، وذكرهم بقصة داود وما عرض له ، وهو قد أوتي النبوة والملك ، فما الظن بكم مع كفركم وعصيانكم ؟ انتهى . وهو ملتقط من كلام الزمخشري مع تغيير بعض ألفاظه لا تناسب منصب النبة . وقيل : أمر بالصبر ، فذكر قصص الأنبياء ليكون برهاناً على صحة نبوته . وقيل : ) اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ ( ، وحافظ على ما كلفت به من مصابرتهم ، وتحمل أذاهم ، واذكر داود وكرامته على الله ، وما عرض له ، ومالقي من عتب الله . ) ذَا الاْيْدِ ( : أي ذا القوة في الدين والشرع والصدع بأمر الله والطاعة لله ، وكان من ذلك قوياً في بدنه . والآوّاب : الرجّاع إلى طاعة الله ، قاله مجاهد وابن زيد . وقال السدي : المسبح . ووصفه بأنه أوأب يد على أن ذا الأيد معناه : القوة في الدين . ويقال : رجل أيد وأيد وذو أد وأياد : كل بمعنى ما يتقوى . و ) الإشراق ( : وقت الإشراق . قال ثعلب : شرقت الشمس ، إذا طلعت ؛ وأشرقت : إذا أضاءت وصفت . وفي الحديث ، أنه عليه السلام ، صلى صلاة الضحى وقال : ( يا أم هانىء ، هذه صلاة الإشراق ، وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل ) . وتقدّم كل الكلام في تسبيح الجبال في قصة داود في سورة الأنبياء ، وأتى بالمضارع باسم الفاعل دلالة على حدوث التسبيح شيئاً بعد شيء ، وحالاً بعد حال ؛ فكأن السامع محاضر تلك الجبال سمعها تسبح . ومثله قول الأعشى : لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار في بقاع تحرق
أي : تحرق شيئاً فشيئاً . ولو قال محرقة ، لم يدل على هذا المعنى . وقرأ الجمهور : ) وَالإشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ( ، بنصبهما ، عطفاً على الجبال يسبحن ، عطف مفعول على مفعول ، وحال على حال ، كقولك : ضربت هنداً مجردة ، ودعداً لابسة . وقرأ ابن أبي عبلة ، والجحدري : والطير محشورة ، برفعهما ، مبتدأ وخبر ، أو جاء محشورة باسم المفعول ، لأنه لم يرد أنها تحشر شيئاً ، إذ حاشرها هو الله تعالى ، فحشرها جملة واحدة أدل على القدرة . والظاهر عود الضمير في له على داود ، أي كل واحد من الجبل والطير لأجل داود ، أي لأجل تسبيحه . سبح لأنها كانت ترجع تسبيحه ، ووضع الأواب موضع المسبح . وقيل : الضمير عائد على الله ، أي كل من داود والجبال والطير أواب ، أي مسبح مرجع للتسبيح .
وقرأ الجمهور : ) وَشَدَدْنَا ( ، مخففاً : أي قوينا ، كقوله : ) سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ). والحسن ، وابن أبي عبلة : بشد الدال ، وهي عبارة شاملة لما وهبه الله تعالى من قوة وجند ونعمة ، فالتخصيص ببعض الأشياء لا يظهر . وقال السدي : بالجنود . قيل : كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مسلم يحرسونه ، وهذا بعيد في العادة ؛ وقيل : بهيبة قذفها الله له في قلوب قومه . و ) الْحِكْمَةَ ( هنا : النبوة ، أو الزبور ، أو الفهم في الدين ، أو كل كلام ، ولقن الحق أقوال . ) وَفَصْلَ الْخِطَابِ ( ، قال علي والشعبي : إيجاب اليمين على المدعى عليه ، والبينة على المدعي . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي : القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه . وقال الشعبي : كلمة أما بعد ، لأنه أول من تكلم بها وفصل بين كلامين . قال الزمخشري : لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه ، فصل بينه وبين ذكر الله بقوله : أما بعد . ويجوز أن يراد بالخطاب : القصد الذي ليس له فيه اختصار مخل ، ولا إشباع ممل ؛ ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) )

" صفحة رقم 375 "
، فصل لا نذر ولا هذر . انتهى . ولما كان تعالى قد كمل نفس نبيه داود بالحكمة ، أردفه ببيان كمال خلقه في النطق والعبادة فقال : ) وَفَصْلَ الْخِطَابِ ).
) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ ( : لما أنثى تعالى على داود عليه السلام بما أثنى ، ذكر قصته هذه ، ليعلم أن مثل قصته لا يقدح في الثناء عليه والتعظيم لقدره ، وإن تضمنت استغفاره ربه ، وليس في الاستغفار ما يشعر بارتكاب أمر يستغفر منه ، وما زال الاستغفار شعار الأنبياء المشهود لهم بالعصمة . ومجيء مثل هذا الاستفهام إنما يكون لغرابة ما يجيء معه من القصص ، كقوله : ) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ( ، فيتهيأ المخاطب بهذا الإستفهام لما يأتي بعده ويصغي لذلك . وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء ، ضربنا عن ذكرها صفحاً ، وتكلمنا على ألفاظ الآية . والنبأ : الخبر ، فالخبر أصله مصدر ، فلذلك تصلح للمفرد والمذكر وفروعهما ، وهنا جاء للجمع ، ولذلك قال : ) إِذْ تَسَوَّرُواْ ( : إذ دخلوا ، كما قال الشاعر : وخصم يعدون الدخول كأنهم
قروم غيارى كل أزهر مصعب
والظاهر أنهم كانوا جماعة ، فلذلك أتى بضمير الجمع . فإن كان المتحاكمان اثنين ، فيكون قد جاء معهم غيرهم على جهة المعاضدة أو المؤانسة ، ولا خلاف أنهم كانوا ملائكة ، كذا قال بعضهم . وقيل : كانا أخوين من بني إسرائيل لأب وأم ، والأول أشهر . وقيل : الخصم هنا اثنان ، وتجوز في العبارة فأخبر عنهما أخبار ما زاد على اثنين ، لأن معنى الجمع في التثنية . وقيل : معنى خصمان : فريقان ، فيكون تسوروا ودخلوا عائداً على الخصم الذي هو جمع الفريقين ، ويدل على أن خصمان بمعنى فريقان قراءة من قرأ : بغى بعضهم على بعض . وقال تعالى : ) هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبّهِمْ ( ، بمعنى : فأما إن هذا أخي . وما روي أنه بعث إليه ملكان ، فالمعنى : أن التحاكم كان بين اثنين ، ولا يمتنع أن يصحبهما غيرهما . وأطلق على الجميع خصم ، وعلى الفريقين خصمان ، لأن من جاء مع متخاصم لمعاضدة فهو في سورة خصم ، ولا يبعد أن تطلق عليه التسمية ، والعامل في الظرف ، وهو إذ أتاك ، قاله الحوفي ورد بأن إتيان النبأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا يقع إلا في عهده ، لا في عهد داود . وقال ابن عطية ، وأبو البقاء : العامل فيه نبأ ورد بما رد به ما قبله أن النبأ الواقع في عهد داود عليه السلام لا يصح إتيانه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وإذا أردت بالنبأ القصة في نفسها ، لم يكن ناصباً . وقيل : العامل فيه محذوف تقديره : وهل أتاك تخاصم الخصم ؟ قاله الزمخشري . ويجوز أن ينتصب بالخصم ، لما فيه من معنى الفعل . وإذ دخلوا بدل من إذ الأولى ؛ وقيل : ينتصب بتسوروا . وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في يوم عبادته ، فمنعهما ، فتسورا عليه المحراب ، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان .
قال ابن عباس : جزأ زمانه أربعة أجزاء : يوماً للعبادة ، ويوماً للقضاء ، ويوماً للاشتغال بخواص أموره ، ويوماً لجميع بني إسرائيل ، فيعظهم ويبكيهم . فجاءوه في غير القضاء ، ففزع منهم لأنهم نزلوا عليه من فوق ، وفي يوم الاحتجاب ، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه ، فخاف أن يؤذوه . وقيل : كان ذلك ليلاً ، ويحتمل أن يكون فزعه من أجل أن أهل ملكته قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان ، فينكون فزعه على فساد السيرة ، لا من الداخلين . وقال أبو الأحوص : فزع منهم لأنهما دخلا عليه ، وكل منهما آخذ برأس صاحبه . وقيل : فزع منهم لما رأى من تسورهم على موضع مرتفع جداً لا يمكن أن يرتقي إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد . وقيل : إنهما قالا : لم نتوصل إليك إلا بالتسور لمنع الحجاب ، وخفنا تفاقم الأمر بيننا ، فقبل داود عذرهم . ولما أدركوا منه الفزع قالوا : ) لاَ تَخَفْ ( ، أي لسنا ممن جاء إلا لأجل التحاكم . ) خَصْمَانِ ( : يحتمل أن يكون هذا موصولاً بقولهما : ) لاَ تَخَفْ ( ، بادر بإخبار ما جاءا إليه . ويحتمل أن يكون سألهم : ما أمركم ؟ فقالوا : خصمان ، أي نحن خصمان . ) بَغَى ( : أي

" صفحة رقم 376 "
جار ، ( بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( ، كما قال الشاعر : ولكن الفتى حمل بن بدر
بغى والبغي مرتعه وخيم
وقرأ أبو يزيد الجراد ، عن الكسائي : خصمان ، بكسر الخاء ؛ وفي أمرهم له ونهيهم ببعض فظاظة على الحكام ، حمل على ذلك ما هم فيه من التخاصم والتشاجر ، واستدعوا عدله من غير ارتياب في أنه يحكم بالعدل . وقرأ الجمهور : ) وَلاَ تُشْطِطْ ( ، مفكوكاً من أشط رباعياً ؛ وأبو رجاء ، وابن أبي عبلة ، وقتادة ، والحسن ، وأبو حيوة : تشطط ، من شط ثلاثياً . وقرأ قتادة أيضاً : تشط ، مدغماً من أشط . وقرأ زر : تشاطط ، بضم التاء وبالألف على وزن تفاعل ، مفكوكاً . وعن قتادة أيضاً : تشطط من شطط ، ( وَسَوَآء الصّراطِ ( : وسط طريق الحق ، لا ميل فيه من هنا ولا هنا .
( إِنَّ هَذَا أَخِى ( : هو قول المدعي منهما ، وأخي عطف بيان عند ابن عطية ، وبدل أو خبر لأن عند الزمخشري . والأخوّة هنا مستعارة ، إذ هما ملكان ، لكنهما لما ظهرا في صورة انسانين تكلما بالأخوّة ، ومجازها أنها إخوة في الدين والإيمان ، أو على معنى الصحبة والمرافقة ، أو على معنى الشركة والخلطة لقوله : ) وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَاء ( ، وكل واحدة من هذه الأخوات تقتضي منع الاعتداء ، ويندب إلى العدل . وقرأ الجمهور : ) تِسْعٌ وَتِسْعُونَ ( ، بكسر التاء فيهما . وقرأ الحسن ، وزيد بن علي : بفتحها . وقرأ الجمهور : ) نَعْجَةً ( ، بفتح النون ؛ والحسن ، وابن هرمز : بكسر النون ، وهي لغة لبعض بني تميم . قيل : وكنى بالنعجة عن الزوجة . ) فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ( : أي ردها في كفالتي . وقال ابن كيسان : اجعلها كفلي ، أي نصيبي . وقال ابن عباس : أعطنيها ؛ وعنه ، وعن ابن مسعود : تحول لي عنها ؛ وعن أبي العالية : ضمها إلي حتى أكفلها . ) وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ ( ، قال الضحاك : إن تكلم كان أفصح مني ، وإن حارب كان أبطش مني . وقال ابن عطية : كان أوجه مني وأقوى ، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي ، وقوته أعظم من قوتي . وقال الزمخشري : جاءني محجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أرده به . وأراد بالخطاب : مخاطبة المحاج المجادل ، أو أراد خطيب المرأة ، وخطبها هو فخاطبني خطاباً : أي غالبني في الخطبة ، فغلبني حيث زوجها دوني ؛ وقيل : غلبني بسلطانه ، لأنه لما سأله لم يستطع خلافه . قال الحافظ أبو بكر بن العربي : كان ببلادنا أمير يقال له سيري بن أبي بكر ، فكلمته في أن يسأل لي رجلاً حاجة ، فقال لي : أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غضب لها ؟ فقلت : أما إذا كان عدلاً فلا . وقرأ أبو حيوة ، وطلحة : وعزني ، بتخفيف الزاي . قال أبو الفتح : حذف الزاي الواحدة تخفيفاً ، كما قال أبو زبيد :
أحسن به فهز إليه شوس
وروي كذلك عن عاصم . وقرأ عبيد الله ، وأبو وائل ، ومسروق ، والضحاك ، والحسن ، وعبيد بن عمير : وعازني ، بألف وتشديد الزاي : أي وغالبني . والظاهر إبقاء لفظ النعجة على حقيقتها من كونها أنثى الضأن ، ولا يكنى بها عن المرأة ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك لأن ذلك الإخبار كان صادراً من الملائكة ، على سبيل التصوير للمسئلة والفرض لها مرة غير تلبس بشيء منها ، فمثلوا بقصة رجل له نعجة ، ولخليطه تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة ، فطمع في نعجة خليطة ، وأراد انتزاعها منه ؛ وحاجة في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده ، ويدل على ذلك قوله : ) وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَاء ( ، وهذا التصوير والتمثيل أبلغ في المقصود وأدل على المراد .
( قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ( : ليس هذا ابتداء من داود ،

" صفحة رقم 377 "
عليه السلام ، إثر فراغ لفظ المدعي ، ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور ما يجب ، فقيل ذلك على تقدير ، أي لئن كان ما تقول ، ( لَقَدْ ظَلَمَكَ ). وقيل : ثم محذوف ، أي فأقر المدعي عليه فقال : ) لَقَدْ ظَلَمَكَ ( ، ولكنه لم يحك في القرآن اعتراف المدّعي عليه ، لأنه معلوم من الشرائع كلها ، إذ لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدّعى عليه . فأما ما قاله الحليمي من أنه رأى في المدّعي مخايل الضعف والهضيمة ، فحمل أمره على أنه مظلوم ، كما تقول ، فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعى عليه ، فاستعجل بقوله : ) لَقَدْ ظَلَمَكَ ( ، فقوله ضعيف لا يعول عليه . وروي أن داود ، عليه السلام ، لما سمع كلام الشاكي قال للآخر : ما تقول ؟ فأقر فقال له : لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك ، وقال للثاني : ) لَقَدْ ظَلَمَكَ ( ؛ فتبسما عند ذلك وذهبا ، ولم يرهما لحينه ، ورأى أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه . وأضاف المصدر إلى المفعول ، وضمن السؤال معنى الإضافة ، أي بإضافة نعجتك على سبيل السؤال والطلب ، ولذلك عداه بإلى .
( وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَاء لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( : هذا من كلام داود ، ويدل على أن زمانه كان فيه الظلم والاعتداء كثيراً . والخلطاء : الشركاء الذين خلطوا أموالهم ، الواحد خليط . قصد داود بهذا الكلام الموعظة الحسنة ، والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة ، وأن يكره إليهم الظلم ، وأن يسلي المظلوم عن ما جرى عليه من خليطه ، وأن له في أكثر الخلطاء أسوة . وقرىء : ليبغي ، بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة ، وأصله : ليبغين ، كما قال :
اضرب عنك الهموم طارقها يريد : اضربن ، ويكون على تقدير قسم محذوف ذلك القسم ، وجوابه خير لأن . وعلى قراءة الجمهور ، يكون ليبغي خبراً لأن . وقرىء : ليبغ ، بحذف الياء كقوله :
محمد تفد نفسك كل نفس
أي : تفدي على أحد القولين . و ) قَلِيلٌ ( : خبره مقدّم ، وما زائدة تفيد معنى التعظيم والتعجب ، وهم مبتدأ . ) وَظَنَّ دَاوُودُ ( : لما كان الظن الغالب يقارب العلم ، استعير له ، ومعناه : وعلم داود وأيقن أنا ابتليناه بمحاكمة الخصمين . وأنكر ابن عطية مجيء الظن بمعنى اليقين . وقال : لسنا نجده في كلام العرب ، وإنما هو توقيف بين معتقدين غلب أحدهما على الآخر ، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ودلالة اليقين التام ، ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون : ظن بمعنى أيقن ، وطول ابن عطية في ذلك بما يوقف عليه في كتابه . وقرأ الجمهور : ) فَتَنَّاهُ ( ؛ وعمر بن الخطاب ، وأبو رجاء ، والحسن : بخلاف عنه ، شد التاء والنون مبالغة ؛ والضحاك : أفتناه ، كقوله :
لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت
وقتادة ، وأبو عمرو في رواية ؛ يخفف التاء والنون ، والألف ضمير الخصمين . ) فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ( ، راكعاً : حال ، والخرور : الهويّ إلى الأرض . فإما أنه عبر بالركوع عن السجود ، وإما أنه ذكر أول أحوال الخرور ، أي راكعاً ليسجد . وقال الحسن : لأنه لا يكون ساجداً حتى يركع . وقال الحسن بن الفضل : أخر من ركوعه ، أي سجد بعد أن كان راكعاً وقال قوم : يقال خر لمن ركع ، وإن لم ينته إلى الأرض . والذي يذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس ، دخلوا عليه من غير المدخل ، وفي غير وقت جلوسه للحكم ، وأنه فزع منهم ظاناً أنهم يغتالونه ، إذا كان منفرداً في محرابه لعبادة ربه . فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة ، وبرز منهم اثنان للتحاكم ، كما قص الله تعالى ، وأن داود عليه السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة إنقاذ من الله له أن يغتالوه ، فلم يقع ما كان طنه ، فاستغفر من ذلك الظن ، حيث أخلف ولم يكن يقع مظنونه ، وخر ساجداً ، أو رجع إلى الله تعالى فغفر له ذلك الظن ؛ ولذلك أشار بقوله : ) فَغَفَرْنَا لَهُ ذالِكَ ( ،

" صفحة رقم 378 "
ولم يتقدّم سوى قوله : ) وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ( ، ويعلم قطعاً أن الأنبياء ، عليهم السلام ، معصومون من الخطايا ، لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة أن لو جوزنا عليهم شيئاً من ذلك ، بطلت الشرائع ، ولم نثق بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم ، فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده تعالى ، وما حكى القصاص مما فيه غض عن منصب النبوة طرحناه ، ونحن كما قال الشاعر : ونؤثر حكم العقل في كل شبهة
إذا آثر الآخبار جلاس قصاص
) مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الاْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ ).
جعله تعالى داود خليفة في الأرض يدل على مكانته ، عليه السلام ، عنده واصطفائه ، ويدفع في صدر من نسب إليه شيئاً مما لا يليق بمنصب النبوّة . واحتمل لفظ خليفة أن يكون معناه : تخلف من تقدمك من الأنبياء ، أن يعلي قدرك بجعلك ملكاً نافذ الحكم ، ومنه قيل : خلفاء الله في أرضه . واستدل من هذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله ، ولا يلزم ذلك من الآية ، بل لزومه من جهة الشرع والإجماع . قال ابن عطية : ولا يقال خليفة الله إلا لرسول . وأما الخلفاء ، فكل واحد منهم خليفة الذي قبله ، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز ، كما قال قيس الرقيات : خليفة الله في بريته
حقت بذاك الأقلام والكتب
وقالت الصحابة لأبي بكر : خليفة رسول الله ، وبذلك كان يدعى مدته . فلما ولي عمر قالوا : خليفة خليفة رسول الله ، وطال الأمر وزاد أنه في المستقبل ، فدعوه أمير المؤمنين ، وقصر هذا الاسم على الخلفاء . انتهى . ) فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ ( : أمر بالديمومة ، وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس . فمن حيث هو معصوم لا يحكم إلا بالحق ، أمر أولاً بالحكم ؛ ولما كان الهوى قد يعرض لغير المعصوم ، أمر باجتنابه ، وذكر نتيجة اتباعه ، وهو إضلاله عن سبيل الله . و ) فَيُضِلَّكَ ( : جواب للنهي ، والفاعل في

" صفحة رقم 379 "
فيضلك ضمير ) الْهَوَى ( ، أو ضمير المصدر المفهوم من ) وَلاَ تَتَّبِعِ ( ، أي فيضلك اتباع الهوى . ولما ذكر ما ترتب على اتباع الهوى ، وهو الإضلال عن سبيل الله ، ذكر عقاب الضال . وقرأ الجمهور : ) يُضِلُّونَ ( ، بفتح الياء ، لأنهم لما أضلهم اتباع الهوى صاروا ضالين . وقرأ ابن عباس ، والحسن : بخلاف عنهما ؛ وأبو حيوة : بضم الياء ، وهذه القراءة أعم ، لأنه لا يضل الإضال في نفسه ؛ وقراءة الجمهور أوضح . و ) بِمَا نَسُواْ ( : متعلق بما تعلق به لهم ، ونسوا : تركوا ، و ) يَوْمٍ ( : يجوز أن يكون منصوب بنسوا ، أو بما تعلق به لهم ، ويكون النسيان عبارة عن ضلالهم عن سبيل الله . وانتصب ) بَاطِلاً ( على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي خلق باطلاً ، أو على الحال ، أي مبطلين ، أو ذوي باطل ، أو على أنه مفعول من أجله . معنى باطلاً : عبثاً .
( ذالِكَ ( : أي كون خلقها باطلاً ، ( ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( : أي مظنونهم ، وهؤلاء ، وإن كانوا مقرين بأن خالق السموات والأرض هو الله تعالى ، فهم من حيث أنكروا المعاد والثواب والعقاب ظانون أن خلق ذلك ليس بحكمة ، وأن خلق ذلك إنما هو عبث ؛ ولذلك قال تعالى : ) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ). فنبه على المعاد والرجوع إلى جزائه ، ثم ذكر ما بين المؤمن ، عامل الصالحات ، والمفسد من التباين ، وأنهما ليساسيين ، وقابل الصلاح بالفساد ، والتقوى بالفجور . قال ابن عباس : هي عامة في جميع المسلمين والكافرين . وقيل في قوم من مشركي قريش قالوا : نحن لنا في الآخرة أعظم مما لنا في الدنيا ، فأنزل الله هذه الآية . وقيل في جماعة من المؤمنين والكافرين معينين بارزوا يوم بدر علياً وحمزة وعبيدة بن الحرث ، رضي الله عنهم ، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة ؛ ووصف كلاً ناسبه . والاستفهام بأم في الموضعين استفهام إنكار ، والمعنى : أنه لا يستوي عند الله من أصلح ومن أفسد ، ولا من اتقى ومن فجر ، وكيف تكون التسوية بين من أطاع ومن عصي ؟ إذن كان يبطل الجزاء ، والجزاء لا محالة واقع ، والتسوية منتفية .
ولما انتفت التسوية ، بين ما تصلح به لمتبعه السعادة الأبدية ، وهو كتاب الله تعالى ، فقال : ) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ ( ، وارتفاعه على إضمار متبدأ ، أي هذا كتاب . وقرأ الجمهور : ) مُّبَارَكٌ ( ، على الصفة . وقرىء : مبارك ، على الحال اللازمة ، أي هذا كتاب . وقرأ الجمهور : ) لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ ( ، بياء الغيبة وشد الدال ، وأصله ليتدبروا . وقرأ عليّ بهذا الأصل . وقرأ أبو جعفر : بتاء الخطاب وتخفيف الدال ؛ وجاء كذلك عن عاصم والكسائي بخلاف عنهما ، والأصل : لتتدبروا بتاءين ، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي فيها ، أهي تاء المضارعة أم التاء التي تليها ؟ واللام في ليدبروا لام كي ، وأسند التدبر في الجميع ، وهو التفكر في الآيات ، والتأمل الذي يفضي بصاحبه إلى النظر في عواقب الأشياء . وأسند التذكر إلى أولي العقول ، لأن ذا العقل فيه ما يهديه إلى الحق وهو عقله ، فلا يحتاج إلا إلى ما يذكره فيتذكروا ، والمخصوص بالمدح محذوف ، التقدير : ) نِعْمَ الْعَبْدُ ( هو ، أي سليمان . وقرىء : نعم على الأصل ، كما قال :
نعم الساعون في القوم الشطر
أثنى تعالى عليه لكثرة رجوعه إليه ، أو لكثرة تسبيحه . ) إِذْ عُرِضَ ( ، الناصب لإذ ، قيل : ) أَوَّابٌ ( ، وقيل : اذكر على الاختلاف في تأويل هذه الآية . قال الجمهور : عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه له ، وقيل : ألف واحد ، فأجريت بين يديه عشياً ، فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها عن ذكر له ، فقال : ردوها عليّ . فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف لما كانت سبب الذهول عن ذلك الذكر ، فأبد له الله أسرع منها الريح . وقال قوم ، منهم الثعلبي : كانت بالناس مجاعة ، ولحوم الخيل لهم حلال ، فعقرها لتؤكل على سبيل القربة ، ونحر الهدى عندنا . انتهى . وفي هذه القصة ألفاظ فيها

" صفحة رقم 380 "
غض من منصب النبوّة كفينا عنه . والخير في قوله ) حُبَّ الْخَيْرِ ( : أي هذا القول يراد به الخيل . والعرب تسمي الخيل الخير ، قاله قتادة والسدي : وقال الضحاك ، وابن جبير : الخير هنا المال ، وانتصب حب الخير ، قيل : على المفعول به لتضمن أحببت معنى آثرت ، قاله الفرّاء . وقيل : منصوب على المصدر التشبيهي ، أي أحببت الخيل كحب الخير ، أي حباً مثل حب الخير . وقيل : عدى بعن فضمن معنى فعل يتعدى بها ، أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي ، أو جعلت حب الخير مغني عن ذكر ربي . وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان أن أحببت بمعنى : لزمت ، من قوله :
مثل بعير السوء إذ أحبا
وقالت فرقة : ) أَحْبَبْتُ ( : سقطت إلى الأرض ، مأخوذ من أحب البعير إذا أعي وسقط . قال بعضهم : حب البعير : برك ، وفلان : طأطأ رأسه . وقال أبو زيد : بعير محب ، وقد أحب إحباباً ، إذا أصابه مرض أو كسر ، فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت . قال ثعلب : يقال للبعير الحسير محب ، فالمعنى : قعدت عن ذكر ربي . وحب الخير على هذا مفعول من أجله ، والظاهر أن الضمير في ) تَوَارَتْ ( عائد على ) الصَّافِنَاتُ ( ، أي دخلت اصطبلاتها ، فهي الحجاب . وقيل : حتى توارت في المسابقة بما يحجبها عن النظر . وقيل : الضمير للشمس ، وإن لم يجر لها ذكر لدلالة العشي عليها . وقالت طائفة : عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة ، فأشار إليهم أني في صلاتي ، فأزالوها عنه حتى دخلت في الاصطبلات ؛ فقال هو لما فرغ من صلاته : ) إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ( ، أي الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي ، كأنه يقول : فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها ، ردوها عليّ فطفق يمسح أعرافها وسوقها محبة لها . وقال ابن عباس والزهري : مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف بل بيدية تكريماً لها ومحبة ، ورجحه الطبري . وقيل : بل غسلاً بالماء . وقال الثعلبي : إن هذا المسح كان في السوق والأعناق بوسم حبس في سبيل الله . انتهى . وهذا القول هو الذي يناسب مناصب الأنبياء ، لا القول المنسوب للجمهور ، فإن في قصته ما لا يليق ذكره بالنسبة للأنبياء .
و ) حَتَّى تَوَارَتْ ( : غاية ، فالفعل يكون قبلها متطاولاً حتى تصح الغاية ، فأحببت : معناه أردت المحبة . وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : ) رُدُّوهَا عَلَىَّ ( ؟ قلت : بمحذوف تقديره : قال ردوها عليّ ، فأضمروا ضمير ما هو جواب له ، كأن قائلاً قال : فماذا قال سليمان ؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاء ظاهراً . ثم ذكر الزمخشري لفظاً فيه غض من النبوة فتركته . وما ذهب إليه من هذا الإضمار لا يحتاج إليه ، إذ الجملة مندرجة تحت حكاية القول وهو : ) فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ ). فهذه الجملة وجملة ) رُدُّوهَا عَلَىَّ ( محكيتان بقال ، وطفق من أفعال المقاربة للشروع في الفعل ، وحذف غيرها لدلالة المصدر عليه ، أي فطفق يمسح مسحاً . وقرأ الجمهور : ) مَسْحاً ( : وزيد بن علي : مساحاً ، على وزن قتال ، والباء ) فِى بِالسُّوقِ ( زائدة ، كهي في قوله : ) فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ). وحكى سيبويه : مسحت برأسه ورأسه بمعنى واحد ، وتقدم الكلام على ذلك في المائدة . وقرأ الجمهور : بالسوق ، بغير همز على وزن فعل ، وهو جمع ساق ، على وزن فعل بفتح العين ، كأسد وأسد ؛ وابن كثير بالهمز ، قال أبو علي : وهي ضعيفة ، لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو وقدر أنها عليها فهمزت ، كما يفعلون بالواو المضمومة . ووجه همز السوق من السماع أن أبا حبة النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة ، وكان ينشد :
حب المؤقدين إلى مؤسى
انتهى . وليست ضعيفة ، لأن الساق فيه الهمزة ، ووزن فعل بسكون العين ، فجاءت هذه القراءة على هذه اللغة . وقرأ

" صفحة رقم 381 "
ابن محيصن : بهمزة بعدها الواو ، رواهما بكار عن قنبل . وقرأ زيد بن علي : بالساق مفرداً ، اكتفى به عن الجمع لأمن اللبس . ومن غريب القول أن الضمير في ردوها عائد على الشمس ، وقد اختلفوا في عدد هذه الخيل على أقوال متكاذبة ، سودوا الورق بذكرها .
( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَداً ( : نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالاً يجب براءة الأنبياء منها ، يوقف عليها في كتبهم ، وهي مما لا يحل نقلها ، وأما هي من أوضاع اليهود والزنادقة ، ولم يبين الله الفتنة ما هي ، ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان . وأقرب ما قيل فيه : أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن في الحديث الذي قال : ( لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن ، فلم تحمل إلا امرأة واحدة ، وجاءته بشق رجل ) . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( والذي نفسي بيده ، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون ) . فالمراد بقوله : ) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَداً ( هو هذا ، والجسد الملقى هو المولود شق رجل . وقال قوم : مرض سليمان مرضاً كالإغماء حتى صار على كرسيه جسداً كأنه بلا روح . ولما أمر تعالى نبيه عليه السلام بالصبر على ما يقول كفار قريش وغيرهم ، أمره بأن يذكر من ابتلي فصبر ، فذكر قصة داود وقصة سليمان وقصة أيوب ليتأسى بهم ، وذكر ما لهم عنده من الزلفى والمكانة ، فلم يكن ليذكر من يتأسى به ممن نسب المفسرون إليه ما يعظم أن يتفوه به ويستحيل عقلاً وجود بعض ما ذكروه ، كتمثل الشيطان بصورة نبي ، حتى يلتبس أمره عند الناس ، ويعتقدون أن ذلك المتصور هو النبي ، ولو أمكن وجود هذا ، لم يوثق بإرسال نبي ، وإنما هذه مقالة مسترقة من زنادقة السوفسطائية ، نسأل الله سلامة أذهاننا وعقولنا منها . ) ثُمَّ أَنَابَ ( : أي بعد امتحاننا إياه ، أدام الإنابة والرجوع .
( قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى ( : هذا أدب الأنبياء والصالحين من طلب المغفرة من الله هضماً للنفس وإظهاراً للذلة والخشوع وطلباً للترقي في المقامات ، وفي الحديث : ( إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ) ، والاستغفار مقدمة بين يدي ما يطلب المستغفر بطلب الأهم في دينه ، فيترتب عليه أمر دنياه ، كقول نوح في ما حكى الله عنه : ) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً ( الآية . والظاهر أن طلب الملك كان بعد هذه المحنة . وذكر المفسرون أنه أقام في ملكه عشرين سنة قبل هذا الابتلاء ، وأقام بعدها عشرين سنة ، فيمكن أنه كان في ملك قبل المحنة ، ثم سأل بعدها ملكاً مقيداً بالوصف الذي بعده ، وهو كونه لا ينبغي لأحد من بعده ، واختلفوا في هذا القيد ، فقال عطاء بن أبي رباح وقتادة : إلى مدة حياتي ، لا أسلبه ويصير إلى غيري . وقال ابن عطية : إنما قصد بذلك قصداً جائزاً ، لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد ، لا سيما بحسب المكانة والنبوة . وانظر إلى قوله : ) لاَّ يَنبَغِى ( ، إنما هي لفظة محتملة ليست تقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد . انتهى .
وقال الزمخشري : كان سليمان عليه السلام ناشئاً في بيت الملك والنبوة ووارثاً لهما ؛ فأراد أن يطلب من ربه معجزة ، فطلب على حسب إلفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ، ليكون ذلك دليلاً على نبوته ، قاهراً للمبعوث إليهم ، ولن يكون معجزة حتى تخرق العادات ، فذلك معنى قوله : ) لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى ). وقيل : كان ملكاً عظيماً ، فخاف أن يعطي مثله أحد ، فلا يحافظ على حدود الله فيه ، كما قالت الملائكة : ) أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ). وقيل : ملكاً لا أسلبه ، ولا يقوم فيه غيري مقامي . ويجوز أن يقال : علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين ، وعلم أنه لا يطلع بأحبابه غيره ، وأوجبت الحكمة استيهابه ، فأمره أن يستوهبه بأمر من الله على الصفة التي علم الله أن لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده . أو أراد أن يقول : ملكاً عظيماً ، فقال : ) لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى ( ، ولم يقصد بذلك إلا عظمة الملك وسعته ، كما تقول لفلان : ما ليس لأحد من الفضل والمال ، وربما كان للناس أمثال ذلك ، ولكنك تريد تعظيم ما عنده . انتهى .
ولما بالغ في صفة هذا الملك الذي طلبه ، أتى في صفته تعالى باللفظ الدال على المبالغة فقال : ) إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ( : أي الكثير الهبات ، لا يتعاظم عنده هبة . ولما طلب الهبة التي اختص بطلبها ، وهبه وأعطاه ما ذكر تعالى من قوله : ) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ ). وقرأ الجمهور : بالإفراد ؛ والحسن ، وأبو رجاء

" صفحة رقم 382 "
وقتادة ، وأبو جعفر : الرياح بالجمع ، وهو أعم لعظم ملك سليمان ، وإن كان المفرد بمعنى الجمع لكونه اسم جنس . ) تَجْرِى ( : يحتمل أن تكون جملة حالية ، أي جارية ، وأن تكون تفسيرية لقوله : ) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ ). ) بِأَمْرِهِ ( ؛ أي لا يمتنع عليه إذا أراد جريها . ) رُخَاء ( ، قال ابن عباس والحسن والضحاك : مطيعة . وقال مجاهد : طيبة . ) حَيْثُ أَصَابَ ( : أي حيث قصد وأراد ، حكى الزجاج عن العرب . أصاب الصواب فأخطأ الجواب : أي قصد . وعن رؤية أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة ، فخرج إليهما فقال : أين تصيبان ؟ فقال : هذه طلبتنا . ويقال : أصاب الله بك خيراً ، وأنشد الثعلبي : أصاب الكلام فلم يستطع
فأخطأ الجواب لدى المفصل
وقال وهب : حيث أصاب ، أي أراد . قيل : ويجوز أن يكون أصاب دخلت فيه همزة التعدية من صاب ، أي حيث وجه جنوده وجعلهم يصوبون صوب السحاب والمطر . وقيل : أصاب : أراد ، بلغة حمير . وقال قتادة : بلغة هجر . ) وَالشَّيَاطِينَ ( : معطوف على الريح و ) كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ ( : بدل ، وأتى ببنية المبالغة ، كما قال : ) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ( الآية ، وقال النابغة : إلا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها عن الفند
وجيش الجنّ إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
والمعطوف على العام عام ، فالتقدير : وكل غواص ، أي في البحر يستخرجون له الحلية ، وهو أول من استخرج الدر . ) وَءاخَرِينَ ( : عطف على كل ، فهو داخل في البدل ، إذ هو بدل كل من كل بدل التفصيل ، أي من الجنّ ، وهم المردة ، سخرهم له حتى قرنهم في الأصفاد لكفرهم . وقال النابغة في ذلك : فمن أطاعك فانفعه بطاعته
كما أطاعك وادلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
وتقدم تفسير ) مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ ( في آخر سورة إبراهيم عليه السلام ، وأوصاف من ملك سليمان في سورة النمل . ) هَاذَا عَطَاؤُنَا ( : إشارة لما أعطاه الله تعالى من الملك الضخم وتسخير الريح والإنس والجنّ والطير ، وأمره بأن يمنّ على من يشاء ويمسك عن من يشاء . وقفه على قدر النعمة ، ثم أباح له التصرف فيها بمشيئته ، وهو تعالى قد علم أنه لا يتصرف إلا بطاعة الله . قال الحسن وغيره ، قاله قتادة : إشارة إلى ما فعله الجن ، أي فامتن على من شئت منهم ، وأطلقه من وثاقه ، وسرحه من خدمته ، وامسك أمره كما تريد . وقال ابن عباس : إشارة إلى ما وهبه من النساء وأقدره عليهنّ من جماعهنّ ، ولعله لا يصح عن ابن عباس ، لأنه لم يجر هنا ذكر النساء ، ولا ما أوتي من القدرة على ذلك ، و ) بِغَيْرِ حِسَابٍ ( : في موضع الحال من ) عَطَاؤُنَا ( ، أي هذا عطاؤنا جماً كثيراً لا تكاد تقدر على حصر . ويجوز أن يكون ) بِغَيْرِ حِسَابٍ ( من تمام ) فَامْنُنْ ). أو أمسك : أي لا حساب عليك في إعطاء من شئت أو حرمانه ، وفي إطلاق من شئت من الشياطين أو إيثاقه .
وختم تعالى قصته بما ذكر في قصة والده ، وهو قوله : ) فَغَفَرْنَا لَهُ ذالِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا ). وقرأ الجمهور : ) وَحُسْنُ مَئَابٍ ( ، بالنصب عطفاً على ) الزلفى ). وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة : بالرفع ، ويقفان على ) عِندَنَا لَزُلْفَى ( ، ويبتدئانه ) وَحُسْنُ مَئَابٍ ( ، وهو مبتدأ ، خبره محذوف تقديره : وحسن مآب له .

" صفحة رقم 383 "
2 ( ) وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الاٌّ يْدِى وَالاٌّ بْصَارِ إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاٌّ خْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الاٌّ خْيَارِ هَاذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَأابٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الاٌّ بْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنَّ هَاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ هَاذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَأابٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النَّارِ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الاٌّ شْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الاٌّ عْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِىإِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِىإِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ مَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ ( ) ) 2
ص : ( 41 ) واذكر عبدنا أيوب . . . . .
الضغث : حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان ، وقيل : القبضة الكبيرة من القضبان ، ومنه قولهم : ضغث على إبالة ، والإبالة : الحزمة من الحطب ، والضغث : القبضة عليها من الحطب أيضاً ، ومنه قول الشاعر : وأسفل مني نهدة قد ربطتها
وألقيت ضغثاً من خلى متطيب
الحنث : فعل ماحلف على تركه ، وترك ما حلف على فعله ، الغساق : ما سال ، يقال : غسقت العين والجرح . وعن أبي عبيدة : أنه البارد المنتن ، بلغة الترك ؛ وقال الأزهري : الغاسق : البارد ، ولهذا قيل : ليل غاسق ، لأنه أبرد من النهار . الاقتحام : ركوب الشدة والدخول فيها ، والقحمة : الشدة .
( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنَّا وَذِكْرَى لاِوْلِى الاْلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الاْيْدِى وَالاْبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاْخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مّنَ الاْخْيَارِ ).
لما أمر نبيه بالصبر ، وذكر ابتلاء داود وسليمان ، وأثنى عليهما ، ذكر من كان أشدّ ابتلاء منهما ، وأنه كان في غاية الصبر ، بحيث أثنى الله عليه بذلك . وأيوب : عطف بيان أو بدل . قال الزمخشري : وإذ بدل اشتمال منه . وقرأ الجمهور : ) إِنّى ( بفتح الهمزة ، وعيسى : بكسرها ، وجاء بضمير التكلم حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه ، ولو لم يحك لقال : إنه مسه ، لأنه غائب ، وأسند المس إلى الشيطان . قال الزمخشري : لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سبباً فيما مسه الله به من النصب والعذاب ، نسبه إليه وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ، ولا يقدر عليه إلا هو . وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به البلاء ، فالتجأ إلى الله في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل . وذكر في سبب بلائه أن رجلاً استغاثه على ظالم ، فلم يغثه . وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر ، فداهنه ولم يفده . وقيل : أعجب بكثرة ماله . انتهى .
ولا يناسب مناصب الأنبياء ما ذكره الزمخشري من

" صفحة رقم 384 "
أن أيوب كانت منه طاعة للشيطان فيما وسوس به ، وأن ذلك كان سبباً لما مسه الله به من النصب والعذاب ، ولا أن رجلاً استغاثه على ظالم فلم يغثه ، ولا أنه داهن كافراً ، ولا أنه أعجب بكثرة ماله . وكذلك ما رووا أن الشيطان سلطه الله عليه حتى أذهب أهله وماله لا يمكن أن يصح ، ولا قدرة له على البشر إلا بإلقاء الوساوس الفاسدة لغير المعصوم . والذي نقوله : أنه تعالى ابتلى أيوب عليه السلام في جسده وأهله وماله ، على ما روي في الأخبار . وروى أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أن أيوب بقي في محنته ثماني عشرة سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم ، ولم يصبر عليه إلا امرأته ، ولم يبين لنا توالي السبب المقتضي لعلته . وأما إسناده المس إلى الشيطان ، فسبب ذلك أنه كان يعوده ثلاث من المؤمنين ، فارتد أحدهم ، فسأل عنه فقيل : ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين ، فحينئذ قال : ) مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ ( ، نزل لشفقته على المؤمنين .
مس الشيطان ذلك المؤمن حتى ارتد منزلة مسه لنفسه ، لأن المؤمن الخير يتألم برجوع المؤمن الخير إلى الكفر ؛ ولذلك جاء بعده : ) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ( ، حتى يغتسل ويذهب عنه البلاء ، فلا يرتد أحد من المؤمنين بسبب طول بلائه ، وتسويل الشيطان أنه تعالى لا يبتلي الأنبياء . وقيل : أشار بقوله : ) مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ ( إلى تعريضه لامرأته ، وطلبه أن تشرك بالله ، وكأنه بتشكي هذا الأمر كان عليه أشدّ من مرضه . وقرأ الجمهور : ) بِنُصْبٍ ( ، بضم النون وسكون الصاد ، قيل : جمع نصب ، كوثن ووثن ؛ وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو عمارة عن حفص ، والجعفي عن أبي بكر ، وأبو معاذ عن نافع : بضمتين ، وزيد بن علي ، والحسن ، والسدّي ؛ وابن عبلة ، ويعقوب ، والجحدري : بفتحتين ؛ وأبو حيوة ، ويعقوب في رواية ، وهبيرة عن حفص : بفتح النون وسكون الصاد . وقال الزمخشري : النصب والنصب ، كالرشد والرشد ، والنصب على أصل المصدر ، والنصب تثقيل نصب ، والمعنى واحد ، وهو التعب والمشقة . والعذاب : الألم ، يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب . انتهى .
وقال ابن عطية : وقد ذكر هذه القراءات ، وذلك كل بمعنى واحد معناه المشقة ، وكثيراً ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء . وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ ، والصواب أنها لغات بمعنى من قولهم : أنصبني الأمر ، إذا شق عليّ انتهى . وقال السدّي : بنصب في الجسد وعذاب في المال ، وفي الكلام حذف تقديره : فاستجبنا له وقلنا : ) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ( ، فركض ، فنبعت عين ، فقلنا له : ) هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ( فيه شقاؤك ، فاغتسل فبرأ ، ( وَوَهَبْنَا لَهُ ( ، ويدل على هذه المحذوفات معنى الكلام وسياقه . وتقدم الكلام في الركض في سورة الأنبياء . وعن قتادة والحسن ومقاتل : كان ذلك بأرض الجابية من الشأم .
ومعنى ) هَاذَا مُغْتَسَلٌ ( : أي ما يغتسل به ، ( وَشَرَابٌ ( ، أي ما تشربه ، فباغتسالك يبرأ ظاهرك ، وبشربك يبرأ باطنك . والظاهر أن المشار إليه كان واحداً ، والعين التي نبعت له عينان ، شرب من إحداهما واغتسل من الأخرى . وقيل : ضرب برجله اليمنى ، فنبعت عين حارة فاغتسل . وباليسرى ، فنبعت باردة فشرب منها ، وهذا مخالف لظاهر قوله : ) مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ ( ، فإنه يدل على أنه ماء واحد . وقيل : أمر بالركض بالرجل ، ليتناثر عنه كل داء بجسده . وقال القتبي : المغتسل : الماء الذي يغتسل به . وقال مقاتل : هو الموضع الذي يغتسل فيه . وقال الحسن : ركض برجله ، فنبعت عين ماء ، فاغتسل منها ، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعاً ، ثم ركض برجله ، فنبعت عين ، فشرب منها . قيل : والجمهور على أنه ركض ركضتين ، فنبعت له عينان ، شرب من إحداهما ، واغتسل من الأخرى . والجمهور : على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله ، وعافى المرضى ، وجمع عليه من شتت منهم . وقيل : رزقه أولاداً وذرية قدر ذريته الذين هلكوا ، ولم يردّ أهله الذين هلكوا بأعيانهم ، وظاهر هذه الهيئة أنها في الدنيا . وقيل ذلك وعد ، وتكون تلك الهيئة في الآخرة . وقيل : وهبه من كان حياً منهم ، وعافاه من الأسقام ، وأرغد لهم العيش ، فتناسلوا حتى تضاعف عددهم وصار مثلهم .
و ) رَحْمَةً ( ، ( وَذِكْرَى ( : مفعولان لهما ، أي أن الهبة كانت لرحمتنا إياه ، وليتذكر أرباب العقول ، وما يحصل للصابرين من الخير ، وما يؤول إليه من الأجر . وفي الكلام حذف تقديره : وكان حلف

" صفحة رقم 385 "
ليضربن امرأته مائة ضربة لسبب جرى منها ، وكانت محسنة له ، فجعلنا له خلاصاً من يمينه بقولنا : ) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ). قال ابن عباس : الضغث : عثكال النخل . وقال مجاهد : الأثل ، وهو نبت له شوك . وقال الضحاك : حزمة من الحشيش مختلفة . وقال الأخفش : الشجر الرطب ، واختلفوا في السبب الذي أوجب حلفه . ومحصول أقوالهم هو تمثل الشيطان لها في صورة ناصح أو مداو . وعرض لها شفاء أيوب على يديه على شرط لا يمكن وقوعه من مؤمن ، فذكرت ذلك له ، فعلم أن الذي عرض لها هو الشيطان ، وغضب لعرضها ذلك عليه فحلف . وقيل غير ذلك من الأسباب ، وهي متعارضة . فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها ، لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها ، وقد وقع مثل هذه الرخصة في الإسلام . أني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بمخدج قد خبث بأمة فقال : ( خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة ) . وقال بذلك بعض أهل العلم في الإيمان ، قال : ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة ، إما أطرافها قائمة ، وإما أعراضها مبسوطة ، مع وجود صورة الضربة . والجمهور على ترك القول في الحدود ، وأن البر في الإيمان لا يقع إلا بإتمام عدد الضربات . ووصف الله تعالى نبيه بالصبر . وقد قال : ) مَسَّنِىَ الضُّرُّ ( ، فدل على أن الشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الوصف بالصبر . وقد قال يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله على أن أيوب عليه السلام طلب الشفاء خيفة على قومه أن يوسوس إليهم الشيطان أنه لو كان نبياً لم يبتل ، وتألفاً لقومه على الطاعة ، وبلغ أمره في البلاء إلى أنه لم يبق منه إلا القلب واللسان . ويروى أنه قال في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتبع قلبي بصري ، ولم يمنعني ما ملكت يميني ، ولم آكل إلا ومعي يتيم ، ولم أبت شبعاناً ولا كاسياً ومعي جائع أو عريان ، فكشف الله عنه .
( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْراهِيمَ ( ، وقرأ ابن عباس وابن كثير وأهل مكة ، عبدنا على الإفراد ، وإبراهيم بدل منه ، أو عطف بيان . والجمهور على الجمع ، وما بعده من الثلاثة بدل أو عطف بيان . وقرأ الجمهور : ) أُوْلِى الاْيْدِى ( ، بالياء . قال ابن عباس ومجاهد : القوة في طاعة الله . وقيل : إحسانهم في الدين وتقدمهم عند الله على عمل صدق ، فهي كالأيدي ، وهو قريب مما قبله . وقيل : النعم التي أسداها الله إليهم من النبوة والمكانة . وقيل ) الاْيْدِى ( : الجوارح المتصرفة في الخير ، ( وَالاْبْصَارُ ( الثاقبة فيه .
قال الزمخشري : لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت ، فقيل في كل عمل : هذا مما عملت أيديهم ، وإن كان عملاً لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدي ، أو كان العمال جذماً لا أيدي لهم ، وعلى ذلك ورد قوله عز وعلا : ) أُوْلِى الاْيْدِى وَالاْبْصَارِ ( ، يريد : أولي الأعمال والفكر ؛ كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ، ولا يجاهدون في الله ؛ ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات ، ولا يستبصرون في حكم الزمني الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم ، والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم ؛ وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله ، ولا من المستبصرين في دين الله ، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منها . انتهى ، وهو تكثير . وقال أبو عبد الله الرازي : اليد آلة لأكثر الأعمال ، والبصر آلة لأقوى الإدراكات ، فحسن التعبير عن العمل باليد ، وعن الإدراك بالبصر . والنفس الناطقة لهو قوّتان : عاملة وعالمة ، فأولي الأيدي والأبصار إشارة إلى هاتين الحالتين . وقرأ عبد الله ، والحسن ، وعيسى ، والأعمش : الأيد بغير ياء ، فقيل : يراد الأيدي حذف الياء اجتزاء بالكسرة عنها ، ولما كانت أل تعاقب التنوين ، حذفت الياء معها ، كما حذفت مع التنوين ، وهذا تخريج لا يسوغ ، لأن حذف هذه الياء مع وجود أل ذكره سيبويه في الضرائر . وقيل : الأيدي : القوة في طاعة الله ، والأبصار : عبارة عن البصائر التي يبصرون بها الحقائق وينظرون بنور الله تعالى . وقال الزمخشري : وتفسير الأيدي من التأييد قلق غير متمكن ، وإنما كان قلقاً عنده لعطف الأبصار عليه ، ولا ينبغي أن يعلق ، لأنه فسر أولي الأيدي والأبصار بقوله : يريد أولي الأعمال والفكر . وقرىء : الأيادي ، جمع الجمع ، كأوطف وأواطف .
وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، ونافع ، وهشام : بخالصة ، بغير تنوين ، أضيفت إلى

" صفحة رقم 386 "
ذكرى . وقرأ باقي السبعة بالتنوين ، و ) ذِكْرِى ( بدل من ) بِخَالِصَةٍ ). وقرأ الأعمش ، وطلحة : بخالصتهم ، و ) أَخْلَصْناهُمْ ( : جعلناهم لنا خالصين وخالصة ، يحتمل ، وهو الأظهر ، أن يكون اسم فاعل به عن مزية أو رتبة أو خصلة خالصة لا شوب فيها ، ويحتمل أن كون مصدراً ، كالعاقبة ، فيكون قد حذف منه الفاعل ، أي أخلصناهم بأن أخلصوا ذكرى الدار ، فيكون ذكرى مفعولاً ، أو بأن أخلصنا لهم ذكرى الدار ، أو يكون الفاعل ذكرى ، أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، والدار في كل وجه من موضع نصب بذكرى ، وذكرى مصدر ، والدار دار الآخرة . قال قتادة : المعنى بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ، ودعا الناس إليها وحضهم عليها . وقال مجاهد : خلص لهم ذكرهم الدار الآخرة ، وخوفهم لها . والعمل بحسب ذلك . وقال ابن زيد : وهبنا لهم أفضل ما في الدار الآخرة ، وأخلصناهم به ، وأعطيناهم إياه . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالدار دار الدنيا ، على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس ، والحمد الباقي الذي هو الخلد المجازي ، فتجيء الآية في معنى قوله : ) لِسَانَ صِدْقٍ ( ، وقوله : ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ ). انتهى . وحكى الزمخشري هذا الاحتمال قولاً فقال : وقيل ) ذِكْرَى الدَّارِ ( : الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق . انتهى . والباء في بخالصة باء السبب ، أي بسبب هذه الخصلة وبأنهم من أهلها ، ويعضده قراءة بخالصهم ) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ ( ، أي المختارين من بين أبناء جنسهم ، ( الاْخْيَارِ ( : جمع خير ، وخير كميت وميت وأموات . وتقدم الكلام في اليسع في سورة الأنعام ، وذا الكفل في سورة الأنبياء . وعندنا ظرف معمول لمحذوف دل عليه المصطفين ، أي وأنهم مصطفون عندنا ، أو معمول للمصطفين ، وإن كان بأل ، لأنهم يتسمحون في الظرف والمجرور ما لا يتسمحون في غيرهما ، أو على التبيين ، أي أعني عندنا ، ولا يجوز أن يكون عندنا في موضع الخبر ، ويعني بالعندية : المكانة ، ولمن المصطفين : في موضع خبر ثان لوجود اللام ، لا يجوز أن زيداً قائم لمنطلق ، ( وَكُلٌّ ( : أي وكلهم ، من الأخيار .
( هَاذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَئَابٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الاْبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِندَهُمْ قَاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنَّ هَاذَا لَرِزْقُنَا مَالَهُ مِن نَّفَادٍ هَاذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَئَابٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْواجٌ هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النَّارِ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاْشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ).
لما أمره تعالى بالصبر على سفاهة قومه ، وذكر جملة من الأنبياء وأحوالهم ، ذكر ما يؤول إليه حال المؤمنين والكافرين من

" صفحة رقم 387 "
الجزاء ، ومقر كل واحد من الفريقين . ولما كان ما يذكره نوعاً من أنواع التنزيل ، قال : ) هَاذَا ذِكْرُ ( ، كأنه فصل بين ما قبله وما بعده . ألا ترى أنه لما ذكر أهل الجنة ، وأعقبه بذكر أهل النار قال : ) هَاذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ( ؟ وقال ابن عباس : هذا ذكر من مضى من الأنبياء . وقيل : ) هَاذَا ذِكْرُ ( : أي شرف تذكرون به أبداً . وقرأ الجمهور : ) جَنَّاتُ ( بالنصب ، وهو بدل ، فإن كان عدن علماً ، فبدل معرفة من نكرة ؛ وإن كان نكرة ، فبدل نكرة من نكر .
وقال الزمخشري : ) جَنَّاتِ عَدْنٍ ( معرفة لقوله : ) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ ( ، وانتصابها على أنها عطف بيان بحسن مآب ، ومفتحة حال ، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل . وفي مفتحة ضمير الجنات ، والأبواب بدل من الضمير تقديره : مفتحة هي الأبواب لقولهم : ضرب زيد اليد والرجل ، وهو من بدل الاشتمال . انتهى . ولا يتعين أن يكون جنات عدن معرفة بالدليل الذي استدل به وهو قوله : ) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى ( ، لأنه اعتقد أن التي صفة لجنات عدن ، ولا يتعين ما ذكره ، إذ يجوز أن تكون التي بدلاً من جنات عدن . ألا ترى أن الذي والتي وجموعهما تستعمل استعمال الأسماء ، فتلي العوامل ، ولا يلزم أن تكون صفة ؟ وأما انتصابها على أنها عطف بيان فلا يجوز ، لأن النحويين في ذلك على مذهبين : أحدهما : أن ذلك لا يكون إلا في المعارف ، فلا يكون عطف البيان إلا تابعاً لمعرفة ، وهو مذهب البصريين . والثاني : أنه يجوز أن يكون في النكرات ، فيكون عطف البيان تابعاً لنكرة ، كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة ، وهذا مذهب الكوفيين ، وتبعهم الفارسي . وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى هذا المصنف . وقد أجاز ذلك في قوله : ) مَّقَامِ إِبْراهِيمَ ( ، فأعربه عطف بيان تابعاً لنكرة ، وهو ) بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ ( ، و ) مَّقَامِ إِبْراهِيمَ ( معرفة ، وقد رددنا عليه ذلك في موضعه في آل عمران . وأما قوله : وفي مفتحة ضمير الجنات ، فجمهور النحويين أعربوا الأبواب مفعولاً لم يسم فاعله . وجاء أبو علي فقال : إذا كان كذلك ، لم يكن في ذلك ضمير يعود على جنات عدن . من الحالية أن أعرب مفتحة حالاً ، أو من النعت أن أعرب نعتاً لجنات عدن ، فقال : في مفتحة ضمير يعود على الجنات حتى ترتبط الحال بصاحبها ، أو النعت بمنعوته ، والأبواب بدل . وقال : من أعرب الأبواب مفعولاً ، لم يسم فاعله العائد على الجنات محذوف تقديره : الأبواب منها . وألزم أبو علي البدل في مثل هذا لا بد فيه من الضمير ، إما ملفوظاً به ، أو مقدراً . وإذا كان الكلام محتاجاً إلى تقديره واحد ، كان أولى مما يحتاج إلى تقديرين . وأما الكوفيون ، فالرابط عندهم هو أل لمقامه مقام الضمير ، فكأنه قال : مفتحة لهم أبوابها . وأما قوله : وهو من بدل الاشتمال ، فإن عنى بقوله : وهو قوله اليد والرجل ، فهو وهم ، وإنما هو بدل بعض من كل . وإن عنى الأبواب ، فقد يصح ، لأن أبواب الجنات ليست بعضاً من الجنات . وأما تشبيهه ما قدره من قوله : مفتحة هي الأبواب ، بقولهم : ضرب زيد اليد والرجل ، فوجهه أن الأبواب بدل من ذلك الضمير المستكن ، كما أن اليد والرجل بدل من الظاهر الذي هو زيد . وقال أبو إسحاق : وتبعه ابن عطية : مفتحة نعت لجنات عدن . وقال الحوفي : مفتحة حال ، والعامل فيها محذوف يدل عليه المعنى ، تقديره : يدخلونها . وقرأ زيد بن علي ، وعبد الله بن رفيع ، وأبو حيوة : جنات عدن مفتحة ، برفع التاءين : مبتدأ وخبر ، أوكل منهما خبر مبتدأ محذوف ، أي هو جنات عدن هي مفتحة . والاتكاء : من هيئات أهل السعادة يدعون فيها ، يدل على أن عندهم من يستخدمونه فيما يستدعون ، كقوله : ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ ).
ولما كانت الفاكهة يتنوع وصفها بالكثرة ، وكثرتها باختلاف أنواعها ، وكثرة كل نوع منها ؛ ولما كان الشراب نوعاً واحداً وهو الخمر ، أفرد : ) وَعِندَهُمْ قَاصِراتُ الطَّرْفِ ). قال قتادة : معناه على أزواجهن ، ( أَتْرَابٌ ( : أي أمثال على سنّ واحدة ، وأصله في بني آدم لكونهم مس أجسادهم التراب في وقت واحد ، والأفران أثبت في التحاب . والظاهر أن هذا الوصف هو بينهن ، وقيل : بين أزواجهن ، أسنانهن كأسنانهم . وقال ابن عباس : يريد الآدميات . وقال صاحب الغنيان : حور . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : وهذا

" صفحة رقم 388 "
ما يوعدون ، بياء الغيبة ، إذ قبله وعندهم ؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب على الالتفات ، والمعنى : هذا ما وقع به الوعد ليوم الجزاء . ) إِنَّ هَذَا ( : أي ما ذكر للمتقين مما تقدم ، ( لَرِزْقُنَا ( دائماً : أي لا نفاد له .
( هَاذَا وَإِنْ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَئَابٍ ( ، قال الزجاج : أي الأمر هذا ، وقال أبو علي : هذا للمؤمنين ، وقال أبو البقاء : مبتدأ محذوف الخبر ، أو خبر محذوف المبتدأ ، والطاغون هنا : الكفار ؛ وقال الجبائي : أصحاب الكبائر كفاراً كانوا أو لم يكونوا . وقال ابن عباس ، المعنى : الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي لهم شر مآب : أي مرجع ومصير . ) فَبِئْسَ الْمِهَادُ ( : أي هي ) هَاذَا ( في موضع رفع مبتدأ خبره ) جَهَنَّمَ ( ، ( وَغَسَّاقٌ ( ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي العذاب هذا ، وحميم خبر مبتدأ ، أو في موضع نصب على الاشتغال ، أي ليذوقوا . ) هَاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ ( : أي هو حميم ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي منه حميم ومنه غساق ، كما قال الشاعر : حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس
وغودر البقل ملوى ومحصود
أي : منه ملوى ومنه محصود ، وهذه الأعاريب مقولة منقولة . وقيل : هذا مبتدأ ، وفليذوقوه الخبر ، وهذا على مذهب الأخفش في إجازته : زيد فاضربه ، مستدلاً بقول الشاعر : وقائلة خولان فانكح فتاتهم
والغساق ، عن ابن عباس : الزمهرير ؛ وعنه أيضاً ، وعن عطاء ، وقتادة ، وابن زيد : ما يجري من صديد أهل النار ؛ وعن كعب : عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذي حمة من حية أو عقرب أو غيرهما ، يغمس فيها فيتساقط الجلد واللحم عن العظم ؛ وعن السدي : ما يسيل من دموعهم ؛ وعن ابن عمر : القيح يسيل منهم فيسقونه . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وقتادة ، وابن وثاب ، وطلحة ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، والفضل ، وابن سعدان ، وهارون عن أبي عمرو : بتشديد السين . فإن كان صفة ، فيكون مما حذف موصوفها ، وإن كان اسماً ، ففعال قليل في الأسماء ، جاء منه : الكلاء ، والجبان ، والفناد ، والعقار ، والخطار . وقرأ باقي السبعة : بتخفيف السين . وقرأ الجمهور : ) وَأَخَّرَ ( على الإفراد ، فقيل : مبتدأ خبره محذوف تقديره : ولهم عذاب آخر . وقيل : خبره في الجملة ، لأن قوله : ) أَزْواجٌ ( مبتدأ ، و ) مِن شَكْلِهِ ( خبره ، والجملة خبر . وآخر ، وقيل : خبره أزواج ، ومن شكله في موضع الصفة ، وجاز أن يخبر بالجمع عن الواحد من حيث هو درجات ، ورتب من العذاب ، أو سمى كل جزء من ذلك الآخر باسم الكل . وقال الزمخشري : وآخر ، أي وعذاب آخر ، أو مذوق آخر ؛ وأزواج صفة آخر ، لأنه يجوز أن يكون ضروباً أو صفة للثلاثة ، وهي : حميم وغساق وآخر من شكله . انتهى . وهو إعراب أخذه من الفراء . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، والجحدري ، وابن جبير ، وعيسى ، وأبو عمرو : وأخر على الجمع ، وهو مبتدأ ، ومن شكله في موضع الصفة ؛ وأزواج خبره ، أي ومذوقاً آخر من شكل هذا المذوق من مثله في الشدة والفظاعة ؛ ) أَزْواجٌ ( : أجناس . وقرأ مجاهد : من شكله ، بكسر الشين ؛ والجمهور : بفتحها ، وهما لغتان بمعنى المثل والضرب . وأما إذا كان بمعنى الفتح ، فبكسر الشين لا غير . وعن ابن مسعود : ) وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ ( : هو الزمهرير .
والظاهر أن قوله : هذا فوج مقتحم معكم ( ، من قول رؤسائهم بعضهم لبعض ، والفوج : الجمع الكثير ، ( ( ، من قول رؤسائهم بعضهم لبعض ، والفوج : الجمع الكثير ، ( مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ ( : أي النار ، وهم الأتباع ، ثم دعوا عليهم بقولهم : ) لاْمْرِ حَبّاً بِهِمُ ( ، لأن الرئيس إذا رأى الخسيس قد قرن معه في العذاب ، ساءه ذلك حيث وقع التساوي في العذاب ، ولم يكن هو السالم من العذاب وأتباعه في العذاب . ومر حباً معناه : ائت رحباً وسعة لا ضيقاً ، وهو منصوب بفعل يجب إضماره ، ولأن علوهم بيان للمدعو عليهم . وقيل : ) هَاذَا فَوْجٌ ( ، من كلام الملائكة خزنة النار ؛ وأن الدعاء على الفوج والتعليل بقوله : ) إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ( ، من كلامهم . وقيل : ) هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ ( ، من كلام الملائكة ، والدعاء على الفوج والإخبار بأنهم صالوا النار من

" صفحة رقم 389 "
كلام الرؤساء المتبوعين . ) قَالُواْ ( أي الفوج : ) لاَ مَرْحَباً بِكُمْ ( ، رد على الرؤساء ما دعوا به عليهم . ثم ذكروا أن ما وقعوا فيه من العذاب وصلى النار ، إنما هو بما ألقيتم إلينا وزينتموه من الكفر ، فكأنكم قدمتم لنا العذاب أو الصلى . وإذا كان ) لاَ مَرْحَباً بِهِمْ ( من كلام الخزنة ، فلم يجيء التركيب : قالوا : بل هؤلاء لا مرحباً بهم ، بل جاء بخطاب الأتباع للرؤساء ، لتكون المواجهة لمن كانوا لا يقدرون على مواجهتهم في الدنيا بقبيح أشفى لصدورهم ، حيث تسببوا في كفرهم ، وأنكى للرؤساء . ) فَبِئْسَ الْقَرَارُ ( : أي النار ؛ وهذه المرادة والدعاء كقوله : ) كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ). ولم يكتف الأتباع برد الدعاء على رؤسائهم ، ولا بمواجهتهم بقوله : ) أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ( ، حتى سألوا من الله أن يزيد رؤساءهم ضعفاً من النار ، والمعنى : من جملنا على عمل السوء حتى صار جزاءنا النار ، ( فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً ( ، كما جاء في قول الأتباع : ) رَبَّنَا ءاتِهِمْ ( ، أي بمعاداتهم ، ( ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ( ، ( رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّواْ قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ ).
ولما كان الرؤساء ضلالاً في أنفسهم وأضلوا اتباعهم ، ناسب أن يدعو عليهم بأن يزيدهم ضعفاً ، كما جاء : فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، فعلى هذا الضمير في قوله : ) قَالُواْ ( للاتباع ، ومن قدم : هم الرؤساء . وقال ابن السائب : ) قَالُواْ ربَّنَا ( إلى آخره ، قول جميع أهل النار . وقال الضحاك : ) مَن قَدَّمَ ( ، هو إبليس وقابيل . وقال ابن مسعود : الضعف حيات وعقارب . ) وَقَالُواْ ( : أي أشراف الكفار ، ( مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاْشْرَارِ ( : أي الأرذال الذين لا خير فيهم ، وليسوا على ديننا ، كما قال : ) وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ). وروي أن القائلين من كفار عصر الرسول / ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، هم : أبو جهل ، وأمية بن خلف ، وأصحاب القليب ، والذين لم يروهم : عمار ، وصهيب ، وسلمان ، ومن جرى مجراهم ، قاله مجاهد وغيره . قيل : يسألون أين عمار ؟ أين صهيب ؟ أين فلان ؟ يعدون ضعفاء المسلمين فيقال لهم : أولئك في الفردوس . وقرأ النحويان ، وحمزة : أين صهيب ؟ أين فلان ؟ يعدون ضعفاء المسلمين فيقال لهم : أولئك في الفردوس . وقرأ النحويان ، وحمزة : اتخذناهم وصلاً ، فقال أبو حاتم ، والزمخشري ، وابن عطية : صفة لرجال . قال الزمخشري : مثل قوله : ) كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاْشْرَارِ ). وقال ابن الأنباري : حال ، أي وقد اتخذناهم . وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، والحسن ، وقتادة ، وباقي السبعة : بهمزة الاستفهام ، لتقرير أنفسهم على هذا ، على جهة التوبيخ لها . والأسف ، أي اتخذناهم سخرياً ، ولم يكونوا كذلك . وقرأ عبد الله ، وأصحابه ، ومجاهد ، والضحاك ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي : سخرياً ، بضم السين ، ومعناها : من السخرة والاستخدام . وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وعيسى ، وابن محيصن ، وباقي السبعة : بكسر السين ، ومعناها : المشهور من السخر ، وهو الهزء . قال الشاعر : إني أتاني لسان لا أسر بها
من علو لا كذب فيها ولا سخر
وقيل : بكسر السين من التسخير . وأم إن كان اتخذناهم استفهاماً إما مصرحاً بهمزته كقراءة من قرأ كذلك ، أو مؤولاً بالاستفهام ، وحذفت الهمزة للدلالة . فالظاهر أنها متصلة لتقدم الهمزة ، والمعنى : أي الفعلين فعلنا بهم ، الاستسخار منهم أم ازدراؤهم وتحقيرهم ؟ وإن أبصارنا كانت تعلوا عنهم وتقتحم . ويكون استفهاماً على معنى الإنكار على أنفسهم ، للاستسخار والزيغ جميعاً . وقال الحسن : كل ذلك قد فعلوا ، اتخذوهم سخرياً ، وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم . وأن اتخذناهم ليس استفهاماً ، فأم منقطعة ، ويجوز أن تكون منقطعة أيضاً مع تقدم الاستفهام ، يكون كقولك : أزيد عندك أم عندك عمرو ؟ واستفهمت عن زيد ، ثم أضربت عن ذلك واستفهمت عن عمرو ، فالتقدير : بل أزاغت عنهم الأبصار . ويجوز

" صفحة رقم 390 "
أن يكون قولهم : ) أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابْصَارُ ( له تعلق بقوله : ) مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً ( ، لأن الاستفهام أولاً دل على انتفاء رؤيتهم إياهم ، وذلك دليل على أنهم ليسوا معه ، ثم جوزوا أن يكونوا معه ، ولكن أبصارهم لم ترهم . ) إِنَّ ذالِكَ أَيُّ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ ( : أي ثابت واقع لا بد أن يجري بينهم . وقرأ الجمهور : ) تَخَاصُمُ ( بالرفع مضافاً إلى أهل . قال ابن عطية : بدل من ) لَحَقُّ ). وقال الزمخشري : بين ما هو فقال : تخاصم منوناً ، أهل رفعاً بالمصدر المنون ، ولا يجيز ذلك الفراء ، ويجيزه سيبويه والبصريون . وقرأ ابن أبي عبلة : تخاصم ، أهل ، بنصب الميم وجر أهل . قال الزمخشري : على أنه صفة لذلك ، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس . وفي كتاب اللوامح : ولو نصب تخاصم أهل النار ، لجاز على البدل من ذلك . وقرأ ابن السميفع : تخاصم : فعلاً ماضياً ، أهل : فاعلاً ، وسمى تعالى تلك المفاوضة التي جرت بين رؤساء الكفار وأتباعهم تخاصماً ، لأنّ قولهم : ) لاَ مَرْحَباً بِهِمْ ( ، وقول الأتباع : ) بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ ( ، هو من باب الخصومة ، فسمى التفاوض كله تخاصماً لاستعماله عليه . ) قُلْ ( : يا محمد ، ( إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ ( : أي ) مُنذِرُ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَذَابِ ( ، وأن الله لا إله إلا الله ، لا ند له ولا شريك ، وهو الواحد القهار لكل شيء ، وأنه مالك العالم ، علوه وسفله ، العزيز الذي لا يغالب ، الغفار لذنوب من آمن به واتبع لدينه .
( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الاْعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِن يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَاءادَمُ إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدّينِ قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ ).
الضمير في قوله : ) قُلْ هُوَ نَبَأٌ ( يعود على ما أخبر به ( صلى الله عليه وسلم ) ) من كونه رسولاً منذراً داعياً إلى الله ، وأنه تعالى هو المنفرد بالألوهية ، المتصف بتلك الأوصاف من الوحدانية والقهر وملك العالم وعزته وغفرانه ، وهو خبر عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة . وقال ابن عباس : النبأ العظيم : القرآن . وقال الحسن : يوم القيامة . وقيل : قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد . وقال صاحب التحرير : سياق الآية وظاهرها أنه يريد بقوله : ) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ( ، ما قصه الله تعالى من مناظرة أهل النار ومقاولة الأتباع مع السادات ، لأنه من أحوال البعث ، وقريش كانت تنكر البعث

" صفحة رقم 391 "
والحساب والعقاب ، وهم عن ذلك معرضون . وقوله : ) مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الاْعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( : احتجاج على قريش بأن ما جاء به من عند الله لا من قبل نفسه . فإن من في الأرض ما له علم بمن في السماء إلا بإعلام الله تعالى ؛ وعلم المغيبات لا يوصل إليه إلا بإعلام الله تعالى ، وعلمه بأحوال أهل النار ، وابتداء خلق آدم لم يكن عنه علم بذلك ؛ فإخباره بذلك هو بإعلام الله والاستدلال بقصة آدم ، لأنه أول البشر خلقاً ، وبينه وبين الرسول عليه السلام أزمان متقادمة وقرون سالفة . انتهى ، وفي آخره بعض اختصار .
ثم احتج بصحة نبوته ، بأن ما ينبىء به عن الملأ الأعلى واختصامهم أمر لم يكن به به من علم قط . ثم علمه من غير الطريق الذي يسلكه المتعلمون ، بل ذلك مستفاد من الوحي ، وبالملأ متعلق بعلم ، وإذ منصوب به . وقال الزمخشري : بمحذوف ، لأن المعنى : ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم . ) وَإِذْ قَالَ ( بدل من ) إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( على الملأ الأعلى ، وهم الملائكة ، وأبعد من قال إنهم قريش ، واختصام الملائكة في أمر آدم وذريته في جعلهم في الأرض . وقالوا : ) أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ). قال ابن عباس : وقال الحسن : إن الله خالق خلقاً كنا أكرم منه وأعلم . وقيل : في الكفارات وغفر الذنوب ، فإن العبد إذا عمل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه في ذلك حتى يقضي الله بما يشاء . وفي الحديث : ( قال له ربه في نومه ، عليه السلام : فيم يختصمون ؟ فقلت : لا أدري ، فقال : في الكفارات وفي إسباغ الوضوء في السرات ونقل الخطأ إلى الجماعات ) .
وقال الزمخشري : كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك ، وكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط ، فيصح أن التقاول بين الملائكة وآدم وإبليس ، وهم الملأ الأعلى ؛ والمراد بالاختصام : التقاول . وقيل : الملأ الأعلى : الملائكة ، وإذ يختصمون : الضمير فيه للعرب الكافرين ، فبعضهم يقول : هي بنات الله ، وبعضهم : آلهة تعبد ، وغير ذلك من أقوالهم .
( ءانٍ يُوحِى إِلَىَّ ( : أي ما يوحى إليّ ، ( أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ ( : أي للإنذار ، حذف اللام ووصل الفعل والمفعول الذي لم يسم فاعله يجوز أن يكون ضميراً يدل عليه ، المعنى ، أي أن يوحى إليّ هو ، أي ما يوحى إلا الإنذار ، وأقيم إلى مقامه ، ويجوز أن يكون إنما هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، أي ما يوحى إليّ إلا الإنذار . وقرأ أبو جعفر : إلا إنما ، بكسر همزة إنما على الحكاية ، أي ما يوحى إليّ إلا هذه الجملة ، كأن قيل له : أنت نذير مبين ، فحكى هو المعنى ، وهذا كما يقول الإنسان : أنا عالم ، فيقال له : قلت إنك عالم ، فيحكى المعنى . وقال الزمخشري : وقرىء إنما بالكسر على الحكاية ، أي إلا هذا القول ، وهو أن أقول لكم ) أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ، فلا أدعي شيئاً آخر . انتهى . في تخريجه تعارض ، لأنه قال : أي إلا هذا القول ، فظاهره الجملة التي هي ) أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ، ثم قال : وهو أن أقول لكم إني نذير ، فالمقام مقام الفاعل هو أن أقول لكم ، وأن وما بعده في موضع نصب ، وعلى قوله : إلا هذا القول ، يكون في موضع رفع فيتعارضا . وتقدم أن ، إذ قال بدل من : إذ يختصمون ، هذا إذا كانت الخصومة في شأن من يستخلف في الأرض ، وعلى غيره من الأقوال يكون منصوباً باذكر .
ولما كانت قريش ، خالفوا الرسول ، عليه السلام ، بسبب الحسد والكبر . ذكر حال إبليس ، حيث خالف أمر الله بسبب الحسد والكبر وما آل إليه من اللعنة والطرد من رحمة الله ، ليزدجر عن ذلك من فيه شيء منهما . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف صح أن يقول لهم : ) إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا ( ، وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل ؟ قلت : وجهه أن يكون قد قال لهم : إني خالق خلقاً من صفة كيت وكيت ، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم . انتهى . والبشر هو آدم عليه السلام ، وذكر هنا أنه خلقه من طين ، وفي آل عمران : ) خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( ، وفي الحجر : ) مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ( ، وفي الأنبياء : ) مِنْ عَجَلٍ ( ؛ ولا منافاة في تلك المادة البعيدة ، وهي التراب ، ثم ما يليه وهو الطين ، ثم ما يليه وهو الحمأ المسنون ، ثم المادة تلي الحمأ وهو الصلصال ؛ وأما من عجل

" صفحة رقم 392 "
فمضى تفسير .
( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُواْ لادَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ( : تقدم الكلام على هذا في الحجر ، وهنا ) اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( ، وفي البقرة : ) أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( ، وفي الأعراف : ) لَمْ يَكُن مّنَ السَّاجِدِينَ ( ، وفي الحجر : ) أَبَى أَن يَكُونَ مّنَ السَّاجِدِينَ ( ، وفي الإسراء : ) قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ( ، وفي الكهف : ) كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ ). والإستثناء في جميع هذه الآيات يدل على أنه لم يسجد ، فتارة أكد بالنفي المحض ، وتارة ذكر إبايته عن السجود ، وهي الأنفة من ذلك ، وتارة نص على أن ذلك الامتناع كان سببه الاستكبار . والظاهر أن قوله : ) وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( أريد به كفره ذلك الوقت ، وإن لم يكن قبله كافراً ؛ وعطف على استكبر ، فقوى ذلك ، لأن الاستكبار عن السجود إنما حصل له وقت الأمر . ويحتمل أن يكون إخباراً منه بسبق كفره في الأزمنة الماضية في علم الله .
( قَالَ يَاءادَمُ إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ ( ، وفي الأعراف : ) مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ ( ، فدل أن تسجد هنا ، على أن لا في أن لا تسجد زائدة ، والمعنى أيضاً يدل على ذلك ، لأنه لا يستفهم إلا عن المانع من السجود ، وهو استفهام تقرير وتوبيخ . وما في ) لِمَا خَلَقْتُ ( ، استدل بها من يجيز إطلاق ما على آحاد من يعقل ، وأول بأن ما مصدرية ، والمصدر يراد به المخلوق ، لا حقيقة المصدر . وقرأ الجحدري : لما بفتح اللام وتشديد الميم ، خلقت بيدي ، على الإفراد ؛ والجمهور : على التثنية ؛ وقرىء بيديّ ، كقراءة بمصرخي ؛ وقال تعالى : ) مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ( بالجمع ، وكلها عبارة عن القدرة والقوة ، وعبر باليد ، إذ كان عند البشر معتاداً أن البطش والقوة باليد . وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن اليد صفة ذات . قال ابن عطية : وهو قول مرغوب عنه .
وقرأ الجمهور : ) أَسْتَكْبَرْتَ ( ، بهمزة الاستفهام ، وأم متصلة عادلت الهمزة . قال ابن عطية : وذهب كثير من النحويين إلى أن أم لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين ، وإنما تكون معادلة إذا دخلنا على فعل واحد ، كقولك : أزيد قام أم عمرو ؟ وقولك : أقام زيد أم عمرو ؟ فإذا اختلف الفعلان كهذه الآية ، فليست معادلة . ومعنى الآية : أحدث لك الاستكبار الآن ، أم كنت قديماً ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك ؟ وهذا على جهة التوبيخ . انتهى . وهذا الذي ذكره عن كثير من النحويين مذهب غير صحيح . قال سيبويه : وتقول أضربت زيداً أم قتلته فالبدء هنا بالفعل أحسن ، لأنك إنما تسأل عن أحدهما ، لا تدري أيهما كان ، ولا تسأل عن موضع أحدهما ، كأنك قلت : أي ذلك كان ؟ انتهى . فعادل بأم الألف مع اختلاف الفعلين . ) مِنَ الْعَالِينَ ( : ممن علوت وفقت . فأجاب بأنه من العالين ، حيث قال ) أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ ). وقيل : استكبرت الآن ، أو لم تزل مذ كنت من المستكبرين ؟ ومعنى الهمزة : التقرير . انتهى . وقرأت فرقة ، منهم ابن كثير وغيره : استكبرت ، بصلة الألف ، وهي قراءة أهل مكة ، وليست في مشهور ابن كثير ، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام حذفت لدلالة أم عليها ، كقوله :
بسبع رمين الجمر أم بثمان
واحتمل أن يكون إخباراً خاطبه بذلك على سبيل التقريع ، وأم تكون منقطعة ، والمعنى : بل أنت من العالين عند نفسك استخفافاً به . ) قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( : تقدم الكلام على ذلك في الأعراف . ) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا ( إلى قوله : ) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( : تقدم الكلام على مثل ذلك في الحجر ، إلا أن هنا ) لَعْنَتِى ( وهناك ) اللَّعْنَةَ ( أعم . ألا ترى إلى قوله : ) أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ( ؟ وأما بالإضافة ، فالعموم في اللعنة أعم ، واللعنات إنما تحصل من جهة أن عليه لعنة الله كانت عليه لعنة كل لاعن ، هذا من جهة المعنى ، وأما باللفظ فيقتضي التخصيص . ) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ ( : أقسم إبليس هنا بعزة الله ، وقال في الأعراف : ) فِيمَا أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ ( ، وفي الحجر : ) رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ ). وتقدم الكلام عليهما في موضعهما ، وأن من المفسرين من قال : إن الباء في : بما أغويتني ، وفي : فبما أغويتني ليست باء القسم . فإن كانت باء القسم ، فيكون ذلك في موطئين : فهنا : ) لاَغْوِيَنَّهُمْ ( ، وفي الأعراف : ) لاقْعُدَنَّ ( ، وفي الحجر : ) لازَيّنَنَّ ). وقرأ الجمهور : فالحق ، بنصبهما . أما الأول فمقسم به ، حذف منه الحرف كقوله : ) أمانة الله لأقومن ( ، والمقسم

" صفحة رقم 393 "
عليه ) لاَمْلاَنَّ ). ) وَالْحَقَّ أَقُولُ ( : اعتراض بين القسم وجوابه . قال الزمخشري : ومعناه : ولا أقول إلا الحق . انتهى ، لأن عنده تقدم المفعول يفيد الحصر . والحق المقسم به إما اسمه تعالى الذي في قوله : ) أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( ، أو الذي هو نقيض الباطل . وقيل : فالحق منصوب على الإغراء ، أي فالزموا الحق ، ولأملأن : جواب قسم محذوف . وقال الفراء : هو على معنى قولك : حقاً لا شك ، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء ، أي لأملأن جهنم حقاً . انتهى . وهذا المصدر الجائي توكيداً لمضمون الجملة ، لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة ، وذلك مخصوص بالجملة التي جزآها معرفتان جامدتان جموداً محضاً . وقال صاحب البسيط : وقد يجوز أن يكون الخبر نكرة ، قال : والمبتدأ يكون ضميراً نحو : هو زيد معروف ، وهو الحق بيننا ، وأنا الأمير مفتخراً ؛ ويكون ظاهراً كقولك : زيد أبوك عطوفاً ، وأخوك زيد معروفاً . انتهى . وقالت العرب : زيد قائم غير ذي شك ، فجاءت الحال بعد جملة ، والخبر نكرة ، وهي حال مؤكدة لمضمون الجملة ، وكأن الفراء لم يشترط هذا الذي ذكره أصحابنا من كون المبتدأ والخبر معروفين جامدين ، لأنه لا فرق بين تأكيد مضمون الجملة الابتدائية وبين تأكيد الجملة الفعلية . وقيل : التقدير فالحق الحق ، أي افعله . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والأعمش : بالرفع فيهما ، فالأول مبتدأ خبره محذوف ، قيل : تقديره فالحق أنا ، وقيل : فالحق مني ، وقيل : تقديره فالحق قسمي ، وحذف كما حذف في : لعمرك لأقومن ، وفي : يمين الله أبرح قاعداً ، أي لعمرك قسمي ويمين الله قسمي ، وهذه الجملة هي جملة القسم وجوابه : لأملأن . وأما ) وَالْحَقَّ أَقُولُ ( فمبتدأ أيضاً ، خبره الجملة ، وحذف العائد ، كقراءة ابن عباس : ) وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ). وقال ابن عطية : أما الأول فرفع على الابتداء ، وخبره في قوله : ) لاَمْلاَنَّ ( ، لأن المعنى : أن أملأ . انتهى . وهذا ليس بشيء ، لأن لأملأن جواب قسم ، ويجب أن يكون جملة ، فلا يتقدر بمفرد . وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرف مصدري ، والفعل حتى ينحل إليهما ، ولكنه لما صح له إسناد ما قدر إلى المبتدأ ، حكم أنه خبر عنه . وقرأ الحسن ، وعيسى ، وعبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر : بجرهم ، ويخرج على أن الأول مجرور بواو القسم محذوفة تقديره : فوالحق ، والحق معطوف عليه ، كما تقول : والله والله لأقومن ، وأقوال اعتراض بين القسم وجوابه . وقال الزمخشري : ) وَالْحَقَّ أَقُولُ ( : أي ولا أقول إلا الحق على حكاية لفظ المقسم به ، ومعناه التوكيد والتسديد ، وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع ، وهو وجه دقيق حسن . انتهى . وملخصه أنه أعمل القول في لفظ المقسم به على سبيل الحكاية نصباً أو رفع أو جراً . وقرأ مجاهد ، والأعمش : بخلاف عنهما ؛ وأبان بن تغلب ، وطلحة في رواية ، وحمزة ، وعاصم عن المفضل ، وخلف ، والعبسي : برفع فالحق ونصب والحق ، وتقدم إعرابهما . والظاهر أن قوله : ) أَجْمَعِينَ ( تأكيد للمحدث عنه والمعطوف عليه ، وهو ضمير إبليس ومن عطف عليه ، أي منك ومن تابعيك أجمعين . وأجاز الزمخشري أن يكون أجمعين تأكيداً للضمير الذي في منهم ، مقدر لأملأن جهنم من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس ، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم . انتهى . والضمير في عليه عائد على القرآن ، قاله ابن عباس . وقيل : عائد على الوحي . وقيل : على الدعاء إلى الله . ) وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ ( : أي المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله ، فانتحل النبوة والقول على الله . ) إِنْ هُوَ ( : أي القرآن ، ( إِلاَّ ذِكْرٌ ( : أي من الله ، ( لّلْعَالَمِينَ ( : الثقلين الإنس والجن . ) وَلَتَعْلَمُنَّ ( : أي عاقبة خبره لمن آمن به ومن أعرض عنه ، ( نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ ( ، قال ابن

" صفحة رقم 394 "
عباس وعكرمة وابن زيد : يعني يوم القيامة . وقال قتادة ، والفراء ، والزجاج : بعد الموت . وكان الحسن يقول : يا ابن آدم ، عند الموت يأتيك الخبر اليقين . وقيل : المعنى ليظهرن لكم حقيقة ما أقول . ) بَعْدَ حِينِ ( : أي في المستأنف ، إذا أخذتكم سيوف المسلمين ، وذلك يوم بدر ، وأشار إلى ذلك السدّي .

" صفحة رقم 395 "
( سورة الزمر )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَىإِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاًّجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الاٌّ نْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوإِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاٌّ خِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاٌّ لْبَابِ قُلْ ياعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ قُلْ إِنِّىأُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لاًّنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّىأَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِه

" صفحة رقم 396 "
ِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَالِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ياعِبَادِ فَاتَّقُونِ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَائِكَ هُمْ أُوْلُو الاٌّ لْبَابِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ لَاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الاٌّ رْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } )
الزمر : ( 1 ) تنزيل الكتاب من . . . . .
التكوير : اللف واللي ، يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها . خوله النعمة : أي أعطاه ابتداء من غير مجازاة ، ولا يقال في الجراء خول . قال زهير : هنالك إن يستخولوا المال يخولوا
ويروى يستخيلوا المال يخيلوا
وقال أبو النجم :

" صفحة رقم 397 "
أعطى فلم يبخل ولم يبخل
كوم الذرى من خول المخول
هاج الزرع : ثار من منابته ، وقيل : يبس . الحطام : الفتات بعد يبسه . القشعريرة : تقبض الجلد ، يقال : اقشعر جلده من الخوف : وقف شعره ، وهو مثل في شدة الخوف . الشكاسة : سوء الخلق وعسره .
( تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينِ أَلاَ لِلَّهِ الدّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ).
هذه السورة مكية ، وعن ابن عباس : إلا ) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( ، و ) قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ ). وعن مقاتل : إلا ) قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ ( ، وقوله : ) قُلْ ياعِبَادِ الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ). وعن بعض السلف : إلا ) قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ ( ، إلى قوله : ) تَشْعُرُونَ ( ، ثلاث آيات . وعن بعضهم : إلا سبع آيات ، من قوله : ) قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ ). ومناسبتها لآخر ما قلبها أنه ختم السورة المتقدمة بقوله : ) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( ، وبدأ هنا : ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ). وقال الفراء والزجاج : ) تَنزِيلَ ( مبتدأ ، و ) مِنَ اللَّهِ ( الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا تنزيل ، ومن الله متعلق بتنزيل ؛ وأقول إنه خبر ، والمبتدأ هو ليعود على قوله : ) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( ، كأنه قيل : وهذا الذكر ما هو فقيل : هو تنزيل الكتاب . وقال الزمخشري : أو غير صلة ، يعني من الله ، كقولك : هذا الكتاب من فلان إلى فلان ، وهو على هذا خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا تنزيل الكتاب . هذا من الله ، أو حال من تنزيل عمل فيها معنى الإشارة . انتهى . ولا يجوز أن يكون حالاً عمل فيها معنى الإشارة ، لأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هو فيه محذوفاً ، ولذلك ردوا على أبي العباس قوله في بيت الفرزذق :
وإذ ما مثلهم بشر
أن مثلهم منصوب بالخبر المحذوف وهو مقدر ، أي وأن ما في الوجود في حال مماثلتهم بشر . والكتاب يظهر أنه القرآن ، وكرر في قوله : ) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ( على جهة التفخيم والتعظيم ، وكونه في جملة غير السابقة ملحوظاً فيه إسناده إلى ضمير العظمة وتشريف من أنزل إليه بالخطاب وتخصيصه بالحق . وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي وعيسى : تنزيل بالنصب ، أي اقرأ والزم . وقال ابن عطية : قال المفسرون في تنزيل الكتاب هو القرآن ، ويظهر لي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله من الكتب ، وكأنه أخبر إخباراً مجرداً أن الكتاب الهادية الشارعة إنما تنزيلها من الله ، وجعل هذا الإخبار تقدمة وتوطئة لقوله : ) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ( ، والعزيز في قدرته ، الحكيم في ابتداعه . والكتاب الثاني هو القرآن ، لا يحتمل

" صفحة رقم 398 "
غير ذلك . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما المراد بالكتاب ؟ قلت : الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن ، وعلى الثاني أنه السورة . انتهى . وبالحق في موضع الحال ، أي ملتبساً بالحق ، وهو الصدق الثابت فيما أودعناه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد والتكاليف ، فهذا كله حق وصدق يجب اعتقاده والعمل ، به أو يكون بالحق : بالدليل على أنه من عند الله ، وهو عجز الفصحاء عن معارضته . وقال ابن عطية : أي متضمناً الحق فيه وفي أحكامه وفي أخباره ، أو بمعنى الاستحقاق وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى الله . انتهى ملخصاً .
ولما امتن تعالى على رسوله بإنزال الكتاب عليه بالحق ، وكان الحق إخلاص العبادة لله ، أمره تعالى بعبادته فقال : ) فَاعْبُدِ اللَّهَ ( ، وكأن هذا الأمر ناشىء عن إنزال الكتاب ، فالفاء فيه للربط ، كما تقول : أحسن إليك زيد فاشكره . ) مُخْلِصاً ( : أي ممحضاً ، ( لَّهُ الدّينِ ( : من الشرك والرياء وسائر ما يفسده . وقرأ الجمهور : الدين بالنصب . وقرأ ابن أبي عبلة : بالرفع فاعلاً بمخلصاً ، والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين ، أي الدين منك ، أو يكون أل عوضاً من الضمير ، أي دينك . وقال الزمخشري : وحق من رفعه أن يقرأ مخلصاً بفتح اللام ، كقوله تعالى : ) وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ ( ، حتى يطابق قوله : ) أَلاَ لِلَّهِ الدّينُ الْخَالِصُ ( ، والخالص والمخلص واحد ، إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي ، كقولهم : شعر شاعر . وأما من جعل مخلصاً حالاً من العابد ، وله الدين مبتدأ وخبر ، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك : لله الدين ، أي لله الدين الخالص . انتهى . وقد قدمنا تخريجه على أنه فاعل بمخلصاً ، وقدرنا ما يربط الحال بصاحبها ، وممن ذهب إلى أن له الدين مستأنف مبتدأ وخبر الفراء . ) أَلاَ لِلَّهِ الدّينُ الْخَالِصُ ( : أي من كل شائبة وكدر ، فهو الذي يجب أن تخلص له الطاعة ، لاطلاعه على الغيوب والأسرار ، ولخلوص نعمته على عباده من غير استجرار منفعة منهم . قال الحسن : الدين الخالص : الإسلام ؛ وقال قتادة : شهادة أن لا إله إلا الله .
( وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ ( : مبتدأ ، والظاهر أنهم المشركون ، واحتمل أن يكون الخبر قال المحذوف المحكى به قوله : ) مَا نَعْبُدُهُمْ ( ، أي والمشركون المتخذون من دون الله أولياء قالوا : ما نعبد تلك الأولياء ) إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( ، واحتمل أن يكون الخبر : ) إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ( ، وذلك القول المحذوف في موضع الحال ، أي اتخذوهم قائلين ما نعبدهم . وأجاز الزمخشري أن يكون الخبر ) إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ( ، وقالوا : المحذوفة بدل من اتخذوا صلة الذين ، فلا يكون له موضع من الإعراب ، وكأنه من بدل الاشتمال . وفي مصحف عبد الله : قالوا ما نعبدهم ، وبه قرأ هو وابن عباس ومجاهد وابن جبير ، وأجاز الزمخشري أن يكون ) وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ ( بمعنى المتخذين ، وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى ونحوهم ، والضمير في اتخذوا عائد على الموصول محذوف تقديره : والذين اتخذهم المشركون أولياء ، وأولياء مفعول ثان ، وهذا الذي أجازه خلاف الظاهر ، وهذه المقالة شائعة في العرب ، فقال ذلك ناس منهم في الملائكة وناس في الأصنام والأوثان . قال مجاهد : وقد قال ذلك قوم من اليهود في عزيز ، وقوم من النصارى في المسيح . وقرىء : ما نعبدهم بضم النون ، اتباعاً لحركة الباء .
( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ( : اقتصر في الرد على مجرد التهديد ، والظاهر أن الضمير في بينهم عائد على المتخذين ، والمتخذين والحكم بينهم هو بإدخال الملائكة وعيسى عليه السلام الجنة ، ويدخلهم النار مع الحجارة والخشب التي نحتوها وعبدوها من دون الله ، يعذبهم بها ، حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم . واختلافهم أن من عبدوه كالملائكة وعيسى كانوا متبرئين منهم لاعنين لهم موحدين لله . وقيل : الضمير في بينهم عائد على المشركين والمؤمنين ، إذا كانوا يلومونهم على عبادة الأصنام فيقولون : ) مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( ، والحكم إذ ذاك هو في يوم القيامة بين الفريقين .
( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( : كاذب في دعواه أن لله شريكاً ، كفار لأنعم الله حيث ، جعل مكان الشكر الكفر ، والمعنى : لا يهدي من ختم عليه بالموافاة على الكفر فهو عام ، والمعنى على الخصوص : فكم قد هدى من

" صفحة رقم 399 "
سبق منه الكذب والكفر . قال ابن عطية : لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره . وقال الزمخشري : المراد بمنع الهداية : منع اللطف تسجيلاً عليهم بأن لا لطف لهم ، وأنهم في علم الله من الهالكين . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال . وقرأ أنس بن مالك ، والجحدري ، والحسن ، والأعرج ، وابن يعمر : كذاب كفار . وقرأ زيد بن علي : كذوب وكفور .
ولما كان من كذبهم دعوى بعضهم أن الملائكة بنات الله ، وعبدوها عقبه بقوله : ) لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ( ، تشريفاً له وتبنياً ، إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بالتوالد المعروف ، ( لاَّصْطَفَى ( : أي اختار من مخلوقاته ما يشاء ولداً على سبيل التبني ، ولكنه تعالى لم يشأ ذلك لقوله : ) وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ( ، وهو عام في اتخاذ النسل واتخاذ الاصطفاء . ويدل على أن الاتخاذ هو التبني ، والاصطفاء قوله : ) مِمَّا يَخْلُقُ ( : أي من التي أنشأها واخترعها ؛ ثم نزه تعالى نفسه تنزيهاً مطلقاً فقال : ) سُبْحَانَهُ ( ، ثم وصف نفسه بالوحدانية والقهر لجميع العالم . وقال الزمخشري : يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ، ولم يصح لكونه محالاً ، ولم يتأت إلا أن يصطفى من خلقه بعضهم ، ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه ، وقد فعل ذلك بالملائكة ، فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم ، فزعمتم أنهم أولاده جهلاً منكم به وبحقيقة المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض ، كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد ، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه ، وهم الملائكة ، فليس مفهوماً من قوله : ) لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء ).
ولما نزه تعالى نفسه ووصف ذاته بالوحدة والقهر ، ذكر ما دل على ذلك من اختراع العالم العلوي والسفلي بالحق ، وتكوير الليل والنهار ، وتسخير النيرين وجريهما على نظام واحد ، واتساق أمرهما على ما أراد إلى أجل مسمى ، وهو يوم القيامة ، حيث تخرب بنية هذا العالم فيزول جريهما ، أو إلى وقت مغيبهما كل يوم وليلة ، أو وقت قوايسها كل شهر . والتكوير : تطويل منهما على الآخر ، فكأنه الآخر صار عليه جزء منه . قال ابن عباس : يحمل الليل على النهار . وقال الضحاك : يدخل الزيادة في أحدهما بالنقصان من الآخر . وقال أبو عبيدة : يدخل هذا على هذا . وقال الزمخشري : وفيه أوجه : منها أن الليل والنهار خلفة ، يذهب هذا ويغشى مكانه هذا ؛ وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف على اللابس اللباس ؛ ومنها أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه من مطامح الأبصار ؛ ومنها أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً ، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض . انتهى . ) أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( : العزيز الذي لا يغالب ، الغفار لمن تاب ، أو الحليم الذي لا يعجل ، سمى الحلم غفراناً مجازاً .
ولما ذكر ما دل على واحدانيته وقهره ، ذكر الإنسان ، وهو الذي كلف بأعباء التكاليف ، فذكر أنه أوجدنا من نفس واحدة ، وهي آدم عليه السلام ، وذلك أن حواء على ما روي خلقت من آدم ، فقد صار خلقاً من نفس واحدة لوساطة حواء . وقيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ، ثم خلق بعد ذلك حواء ، فعلى هذا كان خلقاً من آدم بغير واسطة . وجاءت على هذا القول على وضعها ، ثم للمهلة في الزمان ، وعلى القول الأول يظهر أن خلق حواء كان بعد خلقنا ، وليس كذلك . فثم جاء لترتيب الأخبار كأنه قيل : ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها ، فليس الترتيب في زمان الجعل . وقيل : ثم معطوف على الصفة التي هي واحدة ، أي من نفس وحدت ، أي انفردت .
( ثُمَّ جَعَلَ ( ، قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه قوله تعالى : ) ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( ، وما تعطيه من معنى التراخي ؟ قلت : هما آيتان من

" صفحة رقم 400 "
جملة الآيات التي عددها ، دالاً على وحدانيته وقدرته . تشعب هذا الفائت للحصر من نفس آدم وخلق حواء من قصيراه ، إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة ، والأخرى لم تجربها العادة ، ولم تخلق أنثى غير حواء من رجل ، فكانت أدخل في كونها آية ، وأجلب لعجب السامع ، فعطفها بثم على الآية الأولى ، للدلالة على مباينتها فضلاً ومزية ، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية ، فهو من التراخي في الحال والمنزلة ، لا من التراخي في الوجود . انتهى . وأما ) ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( ، فقد تقدّم الكلام على هذا الجعل في أول سورة النساء ، ووصف الأنعام بالإنزال مجازاً ما ، لأن قضاياه توصف بالنزول من السماء ، حيث كتب في اللوح : كل كائن يكون وأما لعيشها بالنبات والنبات ناشىء عن المطر والمطر نازل من السماء فكأنه تعالى أنزلها ، فيكون مثل قول الشاعر :
أسنمة الا بال في ربابه
أي : في سحابه ، وقال آخر :
صار الثريد في رؤوس العيدان
وقيل : خلقها في الجنة ثم أنزلها ، فعلى هذا يكون إنزال أصولها حقيقة . والأنعام : الإبل والبقر والضأن والمعز ، ( ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ ( ، لأن كلاً منها ذكر وأنثى ، والزوج ما كان معه آخر من جنسه ، فاذا انفرد فهو فرد ووتر . وقال تعالى : ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ).
قال ابن زيد : ) خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ ( : آخر من ظهر آدم وظهور الآباء . وقال عكرمة ومجاهد والسدي : رتبا ) خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ ( على المضغة والعلقة وغير ذلك . وأخذه الزمخشري فقال : حيواناً سوياً ، من بعد عظام مكسوة لحماً ، من بعد عظام عارية ، من بعد مضغ ، من بعد علق ، من بعد نطف . انتهى . وقرأ عيسى وطلحة : يخلقكم ، بإدغام القاف في الكاف ، والظلمات الثلاث : البطن والرحم والمشيمة ، وقيل : الصلب والرحم والبطن . ) ذالِكُمْ ( : إشارة إلى المتصف بتلك الأوصاف السابقة من خلق السموات وما بعد ذلك من الأفعال . ) فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( : أي كيف تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره ؟
) إِن تَكْفُرُواْ ( ، قال ابن عباس : خطاب للكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم . وعباده : هم المؤمنون ، ويؤيده قوله قبله : ) فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( ، وهذا للكفار ، فجاء ) إِن تَكْفُرُواْ ( خطاباً لهم ، ( فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ ( ، وعن عبادتكم ، إذ لا يرجع إليه تعالى منفعة بكم ولا بعبادتكم إذ هو الغني المطلق . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مخاطباً لجميع الناس ، لأنه تعالى غني عن جميعهم ، وهم فقراء إليه . انتهى . ولفظ عباده عام ، فقيل : المراد الخصوص ، وهم الملائكة ومؤمنو الإنس والجن . والرضا بمعنى الإرادة ، فعلى هذا صفة ذات . وقيل : المراد العموم ، كما دل عليه اللفظ ، والرضا مغاير للإرادة ، عبر به عن الشكر والإثابة ، أي لا يشكره لهم ديناً ولا يثيبهم به خيراً ، فالرضا على هذا صفة فعل بمعنى القبول والأثابة . قال ابن عطية : وتأمل الإرادة ، فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد ، والرضا حقيقته إنما هو فيما قد وقع ، واعتبر هذا في آيات القرآن تجده ، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارهم على جهة التجوز هذا بدل هذا . وقال الزمخشري : ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر ، فقال : هذا من العام الذى أريد به الخاص ، وما أراد إلا عباده الذين عناهم في قوله : ) إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( ، يريد

" صفحة رقم 401 "
المعصومين لقوله : ) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( ، تعالى الله عما يقول الظالمون . انتهى . فسمى عبد الله بن عباس ترجمان القرآن وأعلام أهل السنة بعض الغواة ، وأطلق عليهم اسم الظالمين ، وذلك من سفهه وجرأته ، كما قلت في قصيدتي التي ذكرت فيها ما ينقد عليه : ويشتم أعلام الأئمة ضلة
ولا سيما إن أو لجوه المضايقا
) وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ ( ، قال ابن عباس : يضاعف لكم ، وكأنه يريد ثواب الشكر ؛ وقيل : يقبله منكم . قال صاحب التحرير : قوة الكلام تدل على أن معنى تشكروا : تؤمنوا حتى يصير بإزاء الكفر ، والله تعالى قد سمى الأعمال الصالحة والطاعات شكراً في قوله : ) اعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودُ شَاكِراً ). انتهى . وتقدم الكلام على هذه الآية في سبأ . وقرأ النحويان ، وابن كثير : يرضه بوصل ضمة الهاء بواو ؛ وابن عامر وحفص : بضمة فقط ؛ وأبو بكر : بسكون الهاء ، قال أبو حاتم : وهو غلط لا يجوز . انتهى . وليس بغلط ، بل ذلك لغة لبني كلاب وبني عقيل . وقوله : ) وَلاَ تَزِرُ ( إلى : ) بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ، تقدم الكلام عليه .
( وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَتِهِ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاْلْبَابِ قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِ الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ).
الظاهر أن الإنسان هنا جنس الكافر ، وقيل : معين ، كعتبة بن ربيعة . ويدخل في الضر جميع المكاره في جسم أو أهل أو مال . ) دَعَا رَبَّهُ ( : استجار ربه وناداه ، ولم يؤمل في كشف الضر سواه ، ( مُنِيباً إِلَيْهِ ( : أي راجعاً إليه وحده في إزالة ذلك . ) ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ ( : أناله وأعطاه بعد كشف ذلك الضر عنه . وحقيقة خوله أن يكون من قولهم : هو خائله ، قال : إذا كان متعهداً حسن القيام عليه ، أو من خال يخول ، إذا إختال وافتخر ، وتقول العرب :
إن الغني طويل الذيل مياس
) نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو ( : أي ترك ، والظاهر أن ما بمعنى الذي ، أي نسى الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه . وقيل : ما بمعنى من ، أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل في كشف ضره . وقيل : ما مصدرية ، أي نسي كونه يدعو . وقيل : تم الكلام عند قوله : ) نَسِىَ ( ، أي نسي ما كان فيه من الضر . وما نافية ، نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصاً لله مقصوراً من قبل الضرر ، وعلى الأقوال السابقة . ) مِن قَبْلُ ( : أي من قبل تخويل النعمة ، وهو زمان الضرر . ) وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً ( : أي أمثالاً يضاد بعضها بعضاً ويعارض . قال قتادة : أي من الرجال يطيعونهم في المعصية . وقال غيره : أوثاناً ، وهذا من سخف عقولهم . حين مسى الضر دعوا الله ولم يلتجئوا في كشفه إلا إليه ؛ وحين كشف ذلك وخول النعمة أشركوا به ، فاللام لام العلة ، وقيل : لام العاقبة . وقرأ الجمهور : ) لِيُضِلَّ ( ، بضم الياء : أي ما اكتفى بضلال نفسه حتى جعل غيره يضل . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمر ، وعيسى : بفتحها ، ثم أتى بصيغة الأمر فقال : ) تَمَتَّعْ بِكُفْرِك

" صفحة رقم 402 "
َ قَلِيلاً ( : أي تلذذوا صنع ما شئت قليلاً ، أي عمراً قليلاً ، والخطاب للكافر جاعل الأنداد لله . ) إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( : أي من سكانها المخلدين فيها . وقال الزمخشري : وقوله ) تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ ( ، أي من باب الخذلان والتخلية ، كأنه قيل له : إذ قد أبيت قبل ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك . ويؤمر بتركه مبالغة خذلانه وتخليته وشأنه ، لأنه لا مبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمروا به ، ونظيره في المعنى : ) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ). انتهى .
ولما شرح تعالى شيئاً من أحوال الظالمين الضالين المشركين ، أردفه بشرح أحوال المهتدين الموحدين فقال : ) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ). وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والأعمش ، وعيسى ، وشيبة ، والحسن في رواية : أمن ، بتخفيف الميم . والظاهر أن الهمزة لاستفهام التقرير ، ومقابله محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب بقوله ) قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ ( ؟ ويدل عليه قوله : ) قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ). ومن حذف المقائل قول الشاعر : دعاني إليها القلب إني لأمرها
سميع فما أدري أرشد طلابها
تقديره : أم غيّ . وقال الفراء : الهمزة للنداء ، كأنه قيل : يا من هو قانت ، ويكون قوله قل خطابا له ، وهذا القول أجنبي مما قبله وما بعده . وضعف هذا القول أبو علي الفارسي ، ولا التفات لتضعيف الأخفش وأبي حاتم هذه القراءة . وقرأ باقي السبعة ، والحسن ، وقتادة ، والأعرج ، وأبو جعفر : أمّن ، بتشديد الميم ، وهي أم أدغمت ميمها في ميم من ، فاحتملت أم أن تكون متصلة ومعادلها محذوف قبلها تقديره : أهذا الكافر خير أم من هو قانت ؟ قال معناه الأخفش ، ويحتاج مثل هذا التقدير إلى سماع من العرب ، وهو أن يحذف المعادل الأول . واحتملت أم أن تكون منقطعة تتقدر ببل ، والهمزة والتقدير : بل أم من هو قانت صفته كذا ، كمن ليس كذلك . وقال النحاس : أم بمعنى بل ، ومن بمعنى الذي ، والتقدير : بل الذي هو قانت أفضل ممن ذكر قبله . انتهى . ولا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل ، بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة ، يدل عليه مقابله : ) إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ). والقانت : المطيع ، قاله ابن عباس ، وتقدم الكلام في القنوت في البقرة .
وقرأ الجمهور : ) سَاجِداً وَقَائِماً ( ، بالنصب على الحال ؛ والضحاك : برفعهما إما على النعت لقانت ، وإما على أنه خبر بعد خبر ، والواو للجمع بين الصفتين . ) يَحْذَرُ الاْخِرَةَ ( : أي عذاب الآخرة ، ( مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ ( : أي حصولها ، وقيل : نعيم الجنة ، وهذا المتصف بالقنوت إلى سائر الأوصاف ، قال مقاتل : عمار ، وصهيب ، وابن مسعود ، وأبو ذر . وقال ابن عمر : عثمان . وقال ابن عباس في رواية الضحاك : أبو بكر وعمر . وقال يحيى بن سلام : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والظاهر أنه من اتصف بهذه الأوصاف من غير تعيين . وفي الآية دليل على فضل قيام الليل ، وأنه أرجح من قيام النهار .
ولما ذكر العمل ذكر العلم فقال : ) قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( ، فدل أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين ، فكما لا يستوي هذان ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . والمراد بالعلم هنا : ما أدى إلى معرفة الله ونجاة العبد من سخطه . وقرأ : يذكر ، بإدغام تاء يتذكر في الذال . ) قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِ الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ ( ، وروي أنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا عن الهجرة إلى أرض الحبشة ، وعدهم تعالى فقال : ) لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ ). والظاهر تعلق في هذه بأحسنوا ، وأن المحسنين في الدنيا لهم في الآخرة حسنة ، أي حسنة عظيمة ، وهي الجنة ، قاله مقاتل ، والصفة محذوفة يدل عليها المعنى ، لأن من أحسن في الدنيا لا يوعد أن يكون له في الآخرة مطلق حسنة . وقال السدي : في

" صفحة رقم 403 "
هذه من تمام حسنة ، أي ولو تأخر لكان صفة ، أي الذين يحسنون لهم حسنة كائنة في الدنيا . فلما تقدم انتصب على الحال ، والحسنة التي لهم في الدنيا هي العافية والظهور وولاية الله تعالى .
ثم حض على الهجرة فقال : ) وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ( ، كقوله : ) أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ( ، أي لا عذر للمفرطين البتة ، حتى لو اعتلوا بأوطانهم ، وأنهم لا يتمكنون فيها من أعمال الطاعات ، قيل لهم : إن بلاد الله كثيرة واسعة ، فتحولوا إلى الأماكن التي تمكنكم فيها الطاعات . وقال عطاء : وأرض الله : المدينة للهجرة ، قيل : فعلى هذا يكون أحسنوا : هاجروا ، وحسنة : راحة من الأعداء . وقال قوم : أرض الله هنا : الجنة . قال ابن عطية : وهذا القول تحكم ، لا دليل عليه . انتهى . وقال أبو مسلم : لا يمتنع ذلك ، لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى ؛ ثم بين أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة ، وهي الخلود في الجنة ؛ ثم بين أن أرض الله واسعة لقوله : ) وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء ( ، وقوله : ) وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ).
ولما كانت رتبة الإحسان منتهى الرتب ، كما جاء : ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه . وكان الصبر على ذلك من أشق الأشياء ، وخصوصاً من فارق وطنه وعشيرته وصبر على بلاء الغربة . ذكر أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب ، أي لا يحاسبون في الآخرة ، كما يحاسب غيرهم ؛ أو يوفون ما لا يحصره حساب من الكثرة . ) قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينَ ( : أمره تعالى أن يصدع الكفار بما أمر به من عبادة الله ، يخلصها من الشوائب ، ( وَأُمِرْتُ ( : أي أمرت بما أمرت ، لأكون أول من أسلم ، أي انقاد لله تعالى ، ويعني من أهل عصره أو من قومه ، لأنه أول من حالف عباد الأصنام ، أو أول من دعوتهم إلى الإسلام إسلاماً ، أو أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ، لأكون مقتدى بي قولاً وفعلاً ، لا كالملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون ، أو أن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد ؟ قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما ، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء ، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء . وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين ، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت ، لأن أفعل لا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح ، كأنها زيدت عوضاً من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه ، كما عوض السين في اسطاع عوضاً من ترك الأصل الذي هو أطوع . والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله : ) وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ). انتهى . ويحتمل في أن أكون في ثلاثة المواضع أصله لأن أكون ، فيكون قد حذفت اللام ، والمأمور به محذوف ، وهو المصرح به هنا ) إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ). ) قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( : تقدّم الكلام على هذه الجملة مقول القول في سورة يونس .
لما أمره أولاً أن يخبر بأنه أمر بعبادة الله ، أمر ثانياً أن يخبر بأنه يعبد الله وحده . وتقديم الجلالة دال على الاهتمام بمن يعبد ، وعند الزمخشري يدل على الاختصاص ، قال : ولدلالته على ذلك ، قدم المعبود على فعل العبادة ، وأخره في الأول . فالكلام أولاً واقع في الفعل في نفسه وإيجاده ، وثانياً فيمن يفعل الفعل لأجله ، ولذلك رتب عليه قوله : ) فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ ). والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان والتخلية . انتهى . وقال غيره : ) فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ ( : صيغة أمر على جهة التهديد لقوله : ) قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ ). ) قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ ( : أي حقيقة الخسران ، ( الَّذِينَ خَسِرُواْ ( : أي هم الذين خسروا أنفسهم ، حيث صاروا من أهل النار ، وأهليهم الذين كانوا معهم في الدنيا ، حيث كانوا معهم في النار ، فلم ينتفعوا منهم بشيء ، وإن كان أهلوهم قد آمنوا ، فخسرانهم إياهم كونهم لا يجتمعون بهم ولا يرجعون إليهم . وقال قتادة : كأن الله قد أعد لهم أهلاً في الجنة فخسروهم ، وقال معناه ميمون بن مهران . وقال الحسن : هي الحور العين ، ثم ذكر ذلك الخسران وبالغ فيه في التنبيه عليه أولاً ، والإشارة إليه ، وتأكيده بالفعل ، وتعريفه بأل ، ووصفه بأنه المبين : أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل .
ولما ذكر خسرانهم أنفسهم وأهليهم ، ذكر حالهم في جهنم ، وأنه من فوقهم ظلل ومن تحت أرجلهم ظلل ، فيظهر أن النار تغشاهم من فوقهم ومن تحتهم ، وسمى ما تحتهم ظللاً لمقابلة ما فوقهم ، كما قال : ) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ

" صفحة رقم 404 "
أَرْجُلِهِمْ ( ، وقال لهم : ) مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ( وقيل : هي ظلل للذين هم تحتهم ، إذ النار طباق . وقيل : إنما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة ، فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيراً . ) ذالِكَ ( : أي ذلك العذاب ، يخوف الله به عباده : ليعلموا ما يخلصكم منه ، ثم ناداهم وأمرهم فقال : ) قَلِيلاً وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ ( : أي اتقوا عذابي .
( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الاْلْبَابِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ لَاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ ).
قال ابن زيد : نزلت ) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ ( في زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان وأبي ذر . وقال ابن إسحاق : الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، والزبير ، وذلك أنه لما أسلم أبو بكر ، سمعوا ذلك فجاؤوه وقالوا : أسلمت ؟ قال : نعم ، وذكرهم بالله ، فآمنوا بأجمعهم ، فنزلت فيهم ، وهي محكمة في الناس إلى يوم القيامة . والطاغوت : تقدم الكلام عليها في البقرة . وقرأ الحسن : الطواغيت جمعاً . ) أَن يَعْبُدُوهَا ( : أي عبادتها ، وهو بدل اشتمال . ) لَهُمُ الْبُشْرَى ( : أي من الله تعالى بالثواب . ) فَبَشّرْ عِبَادِ ( : هم المجتنبون الطاغوت إلى الله . وضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أنهم هم ، وليترتب على الظاهر الوصف ، وهو : ) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ( ، وهو عام في جميع الأقوال ، ( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( : ثناء عليهم بنفوذ بصائرهم وتمييزهم الأحسن ، فإذا سمعوا قولاً تبصروه . قيل : وأحسن القول : القرآن وما يرجع إليه . وقيل : القول : القرآن ، وأحسنه : ما فيه من صفح وعفو واحتمال ونحو ذلك . وقال قتادة : أحسن القول طاعة الله . وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم ، فيسمع الحديث فيه محاسن مساو ، وفيحدث بأحسن ما سمع ، ويكف عن ما سواه . و ) الَّذِينَ ( : وصف لعباد . وقيل : الوقف على عباد ، والذين مبتدأ خبره أولئك وما بعده .
( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ( : قيل نزلت في أبي جهل ، أي نفذ عليه الوعيد بالعذاب . والظاهر أنها جملة مستقلة ، ومن موصولة مبتدأ ، والخبر محذوف ، فقيل تقديره : يتأسف عليه ، وقيل : يتخلص منه . وقدره الزمخشري : فأنت تخلصه ، قال : حذف لدلالة أفأنت تنفذ عليه ؟ وقدر الزمخشري بين الهمزة والفاء جملة حتى تقر الهمزة في مكانها والفاء في مكانها ، فقال : التقدير : أأنت مالك أمرهم ؟ فمن حق عليه كلمة العذاب ، وهو قول انفرد به فيما علمناه . والذي تقوله النحاة أن الفاء للعطف وموضعها التقديم على الهمزة ، لكن الهمزة ، لما كان لها صدر الكلام ، قدمت ، فالأصل عندهم : فأمن حق عليه ، وعلى القول أنها جملة مستقلة يكون قوله : ) أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ ( ، استفهام توقيف ، وقدم فيه الضمير إشعاراً بأنك لست تقدر أن تنقذه من النار ، بل لا يقدر على ذلك أحد إلا الله . وذهبت فرقة ، منهم الحوفي والزمخشري ، إلى أن من شرطية ، وجواب الشرط أفأنت ، فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء ، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ، ووضع من في النار ، وهو ظاهر ، موضع المضمر ، إذ كان الأصل تنقذه ، وإنما أظهر تشهيراً لحالهم وإظهاراً لخسة منازلهم . قال الحوفي :

" صفحة رقم 405 "
وجيء بألف الاستفهام لما طال الكلام توكيداً ، ولولا طوله ، لم يجز الإتيان بها ، لأنه لا يصلح في العربية أن يأتي بألف الاستفهام في الاسم ، وألف أخرى في الجزاء . ومعنى الكلام : أفأنت تنقذه ؟ انتهى . وعلى هذا القول ، يكون قد اجتمع استفهام وشرط على قول الجماعة أن الهمزة قدمت من تأخر ، فيجيء الخلاف بين سيبويه ويونس : هل الجملة الأخيرة هي للمستفهم عنها أو هي جواب الشرط ؟ وعلى تقدير الزمخشري : لم تدخل الهمزة على اسم الشرط ، فلم يجتمع استفهام وشرط ، لأن الاستفهام عنده دخل على الجملة المحذوفة عنده ، وهو : أأنت مالك أمرهم ؟ وفمن معطوف على تلك الجملة المحذوفة ، عطفت جملة الشرط على جملة الاستفهام ، ونزل استحقاقهم العذاب ، وهم في الدنيا بمنزلة دخولهم النار ، ونزل اجتهاد الرسول عليه السلام في دعائهم إلى الإيمان منزلة انقاذهم من النار .
ولما ذكر حال الكفار في النار ، وأن الخاسرين لهم ظلل ، ذكر حال المؤمنين ، وناسب الاستدراك هنا ، إذ هو واقع بين الكافرين والمؤمنين ، فقال : ) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ ). ففي ذلك حض على التقوى ، لهم علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية ، أي بناء المنازل التي سويت على الأرض . والضمير في ) مِن تَحْتِهَا ( عائد على الجمعين ، أي من تحت الغرف السفلى والغرف العليا ، لا تفاوت بين أعلاها وأسفلها وانتصب ) وَعَدَ اللَّهُ ( على المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله ، إذ تضمنت معنى الوعد . ) أَلَمْ تَرَ ( : خطاب وتوقيف للسامع على ما يعتبر به من أفعال الله الدالة على فناء الدنيا واضمحلالها . ) فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ ( : أي أدخله مسالك وعيوناً . والظاهر أن ماء العيون هو من ماء المطر ، تحبسه الأرض ويخرج شيئاً فشيئاً . ) ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً ( ، ذكر منته تعالى علينا بما تقوم به معيشتنا . ) مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ( : من أحمر وأبيض وأصفر ، وشمل لفظ الزرع جميع ما يرزع من مقتات وغيره ، أو مختلفاً أصنافه من بر وشعير وسمسم وغير ذلك . ) ثُمَّ يَهِيجُ ( : يقارب الثمار ، ( فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ( : أي زالت خضرته ونضارته . وقرأ أبو بشر : ثم يجعله ، بالنصب في اللام . قال صاحب الكامل وهو ضعيف . انتهى . ) إِنَّ فِى ذَلِكَ ( : أي فيما ذكر من إنزال المطر وإخراج الزرع به وتنقلاته إلى حالة ، الحطامية ، ( لِذِكْرِى ( : أي لتذكرة وتنبيهاً على حكمة فاعل ذلك وقدرته .
( أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( : نزلت في حمزة ، وعلى ومن مبتدأ ، وخبره محذوف يدل عليه ) فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ( تقديره : كالقاسي المعرض عن الإسلام ، وأبو لهب وابنه كاتا من القاسية قلوبهم ، وشرح الصدر استعارة عن قبوله للإيمان والخير والنور والهداية . وفي الحديث : ( كيف انشراح الصدور ؟ قال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ، قلنا : وما علامة ذلك ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل الموت ) . ) فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللَّهِ ( : أي من أجل ذكره ، أي إذا ذكر الله عندهم قست قلوبهم . وقال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب . ) أُوْلَائِكَ ( : أي القاسية قلوبهم ، ( فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( : أي في حيرة واضحة ، لا تخفى على من تأملها .
( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ ).
عن ابن عباس ، أن قوماً من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، حدثنا بأحاديث حسان ، وبأخبار الدهر ، فنزل : ) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ). وعن ابن مسعود ، أن الصحابة ملؤوا مكة ، فقالوا له : حدثنا ، فنزلت . والابتداء باسم الله ، وإسناد نزل

" صفحة رقم 406 "
لضميره مبنياً عليه فيه تفخيم للمنزل ورفع منه ، كما تقول : الملك أكرم فلاناً ، هو أفخم من : أكرم الملك فلاناً . وحكمة ذلك البداءة بالأشراف من تذكر ما تسند إليه ، وهو كثير في القرآن ، كقوله : ) اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً ( /
و ) وكتاباً ( بدل من ) نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ). وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون حالاً . انتهى . وكان بناء على أن ) أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( معرفة لإضافته إلى معرفة . وأفعل التفضيل ، إذا أضيف إلى معرفة ، فيه خلاف . فقيل : إضافته محضة ، وقيل : غير محضة . و ) مُّتَشَابِهاً ( : مطلق في مشابهة بعضه بعضاً . فمعانيه متشابهة ، لا تناقض فيها ولا تعارض ، وألفاظه في غاية الفصاحة والبلاغة والتناسب ، بحيث أعجزت العظماء والبلغاء . وقرأ الجمهور : ) مَّثَانِيَ ( ، بفتح الياء ؛ وهشام ، وابن عامر ، وأبو بشر : بسكون الياء ، فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، واحتمل أن يكون منصوباً ، وسكن الياء على قول من يسكن الياء في كل الأحوال ، لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها . ومثاني يظهر أنه جمع مثنى ، ومعناه : موضع تثنية القصص والأحكام والعقائد والوعد والوعيد . وقيل : يثني في الصلاة بمعنى : التكرير والأعادة . انتهى . ووصف المفرد بالجمع ، لأن فيه تفاصيل ، وتفاصيل الشيء جملته . ألا ترى أنك تقول : القرآن سور وآيات ؟ فكذلك تقول : أحكام ومواعظ مكررات ، وأصله كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني ، حذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه . وأجاز الزمخشري أن يكون من باب برمة أعشار وثوب أخلاق ، وأن يكون تمييزاً عن متشابهاً ، فيكون منقولاً من الفاعل ، أي متشابهاً مثانية . كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائل ، وفائدة تثنيته وتكرره رسوخه في النفوس ، إذ هي أنفر شيء عن سماع الوعظ والنصيحة . والظاهر حمل القشعريرة على الحقيقة ، إذ هو موجود عند الخشية ، محسوس يدركه الإنسان من نفسه ، وهو حاصل من التأثر القلبي . وقيل : هو تمثيل تصوير لإفراط خشيتهم ، والمعنى : أنه حين يسمعونه يتلي ما فيه من آيات الوعيد ، عرتهم خشية تنقبض منها جلودهم .
ثم إذا ذكروا لله ورحمته لانت جلودهم ، أي زال عنها ذلك التقبض الناشىء عن خشية القلوب بزوال الخشية عنها ، وضمن تلين معنى تطمئن جلودهم لينة غير منقبضة ، وقلوبهم راجية غير خاشية ، ولذلك عداه بإلى . وكان في ذكر القلوب في هذه الجملة دليل على تأثرها عند السماع ، فاكتفى بقشعريرة الجلود عن ذكر خشية القلوب لقيام المسبب مقام السبب . فلما ذكر اللين ذكرهما ، وفي ذكر اللين دليل على المحذوف الذي هو رحمة الله ، كما كان في قوله : ) إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ( ، دليل بقوله : ) وَجِلَتْ ( عن ذكر المحذوف ، أي إذا ذكر وعيد الله وبطشه . وقال العباس بن عبد المطلب : قال النبي عليه السلام : ( من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها ) . وقال ابن عمر : وقد رأى ساقطاً من سماع القرآن فقال : إنا لنخشى الله ، وما نسقط هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم . وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن ، قيل لها : إن قوماً اليوم إذا اسمعوا القرآن خر أحدهم مغشياً عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذين بصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطاً رجليه ، ثم يقرأ عليه القرآن كله ، فإن رمى بنفسه فهو صادق . والإشارة بذلك إلى الكتاب ، أو إلى ذينك الوصفين من الاقشعرار واللين ، أي أثر هدى الله . ) أَفَمَن يَتَّقِى ( : أي يستقبل ، كما قال الشاعر : سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
أي : استقبلتنا بيدها لتقي بيدها وجهها أن يرى . والظاهر حمل بوجهه على حقيقته . لما كان يلقي في النار مغلولة

" صفحة رقم 407 "
يداه إلى رجليه مع عنقه ، لم يكن له ما يتقي به النار إلا وجهه . قال مجاهد : يجر على وجهه في النار ، ويجوز أن يعبر بالوجه عن الجملة . وقيل : المعنى وصف كثرة ما ينالهم من العذاب ، يتقيه أولاً بجوارحه ، فيتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارحه ، وفيه جواب ، وهو غاية العذاب . قال ابن عطية : وهذا المعنى عندي أبين بلاغة . في هذا المضمار يجري قول الشاعر : يلقي السيوف بوجهه وبنحره
ويقيم هامته مقام المغفر
لأنه إنما أراد عظم جرأته عليها ، فهو يلقاها بكل مجن ، وبكل شيء عنه ، حتى بوجهه وبنحره . انتهى . و ) سُوء الْعَذَابِ ( : أشده ، وخبر من محذوف قدره الزمخشري : كمن أمن العذاب ، وابن عطية : كالمنعمين في الجنة . ) وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ( : أي قال ذلك خزنة النار ، ( ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ ( : أي وبال ما كنتم ) تَكْسِبُونَ ( من الأعمال السيئة . ) كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( : تمثيل لقريش بالأمم الماضية ، وما آل إليه أمرهم من الهلاك . ) فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ( : من الجهة التي لا يشعرون أن العذاب يأتيهم من قبلها ، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها . كانوا في أمن وغبطة وسرور ، فإذا هم معذبون مخزيون ذليلون في الدنيا من ممسوخ ومقتول ومأسور ومنفي . ثم أخبر أن ما أعدلهم في الآخرة أعظم . وانتصب ) قُرْءاناً عَرَبِيّاً ( على الحال ، وهي حال مؤكدة ، والحال في الحقيقة هو عربياً ، وقرآنا توطئة له . وقيل : انتصب على المدح ، ونفى عنه العوج ، لأنه مستقيم يرى من الاختلاف والتناقض . وقال عثمان بن عفان : غير مضطرب . وقال ابن عباس : غير مختلف . وقال مجاهد : غير ذي لبس . وقال السدي : غير مخلوق . وقيل : غير ذي لحن . قال الزمخشري : فإن قلت : فهلا قيل مستقيماً أوغير معوج ؟ قلت : فيه فائدتان : إحدهما : نفى أن يكون فيه عوج قط ، كما قال : ) وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ). والثاني : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان . وقيل : المراد بالعوج : الشك واللبس ، وأنشد : وقد أتاك يقيناً غير ذي عوج
من الإله وقول غير مكذوب
انتهى . ولما ذكر تعالى أنه ضرب في القرآن ) مِن كُلّ مَثَلٍ ( : أي محتاج إليه ، ضرب هنا مثلاً لعابد آلهة كثيرة ، ومن يعبد الله وحده ، ومثل برجل مملوك اشترك فيه ملاك سيئو الأخلاق ، فهو لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم مقصوده ، إذ لا يتغاضى بعضهم لبعض لمشاحتهم ، وطلب كل منهم أن يقضي حاجته على التمام ، فلا يزال في عناء وتعب ولوم من كل منهم . ورجل آخر مملوك جمعيه لرجل واحد ، فهو معني بشغله لا يشغله عنه شيء ، ومالكه راض عنه إن قد خلص لخدمته وبذل جهده في قضاء حوائجه ، فلا يلقى من سيده إلا إحساناً ، وتقدم الكلام في نصب المثل وما بعده . وقال الكسائي : انتصب رجلاً على إسقاط الخافض ، أي مثلاً لرجل ، أو في رجل فيه ، أي في رقه مشتركاً ، وفيه صلة لشركاء . وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والزهري ، والحسن : بخلاف عنه ؛ والجحدري ، وابن كثير وأبو عمرو : سالما اسم فاعل من سلم ، أي خالصاً من الشركة . وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو رجاء ، وطلحة ، والحسن : بخلاف عنه ؛ وباقي السبعة : سلما بفتح السين واللام . وقرأ ابن جبير : سلما بكسر السين وسكون اللام ، وهما مصدر ان وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة . وقرىء : ورجل سالم ، برفعهما . وقال الزمخشري : أي وهناك رجل سالم لرجل . انتهى ، فجعل الخبر هناك . ويجوز أن يكون ورجل مبتدأ ، لأنه موضع تفصيل ، إذ قد تقدم ما يدل عليه ، فيكون كقول امرىء القيس : إذا ما بكى من خلفها انحرفت له
بشقّ وشق عندنا لم يحوّل

" صفحة رقم 408 "
وقال الزمخشري : وإنما جعله رجلاً ليكون أفطن لما شقى به أو سعد ، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك . وانتصب مثلاً على التمييز المنقول من الفاعل ، إذ التقدير : هل يستوي مثلهما ؟ واقتصر في التمييز على الواحد ، لأنه المقتصر عليه أو لا في قوله : ) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً ( ، ولبيان الجنس . وقرىء : مثلين ، فطابق حال الرجلين . وقال الزمخشري : ويجوز فيمن قرأ مثلين أن يكون الضمير في يستويان للمثلين ، لأن التقدير مثل رجل ، والمعنى : هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية ؟ كما يقول : كفى بهما رجلين . انتهى . والظاهر أنه يعود الضمير في يستويان إلى الرجلين ، فأما إذا جعلته عائداً إلى المثلين اللذين ذكر أن التقدير مثل رجل ورجل ، فإن التمييز إذ ذاك يكون قد فهم من المميز الذي هو الضمير ، إذ يصير التقدير : هل يستوي المثلان مثلين ؟ قل : ) الْحَمْدُ للَّهِ ( : أي الثناء والمدح لله لا لغيره ، وهو الذي ثبتت وحدانيته ، فهو الذي يجب أن يحمد ، ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( ، فيشركون به غيره . ولفظة الحمد لله تشعر بوقوع الهلاك بهم بقوله : ) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ).
ولما لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل الباهرة ، أخبر الجميع بأنهم ميتون وصائرون إليه ، وأن اختصامكم يكون بين يديه يوم القيامة ، وهو الحكم العدل ، فيتميز المحق من المبطل ، وهو عليه السلام وأتباعه المحقون الفائزون بالظفر والغلبة ، والكافرون هم المبطلون . فالضمير في وإنك خطاب للرسول ، وتدخل معه أمته في ذلك . والظاهر عود الضمير في ) وَإِنَّهُمْ ( على الكفار ، وغلب ضمير الخطاب في ) إِنَّكَ ( على ضمير الغيبة في إنهم ، ولذلك جاء ) تَخْتَصِمُونَ ( بالخطاب ، فتحتج أنت عليهم بأنك قد بلغت ، وكذبوا واجتهدت في الدعوة ، ولجوا في العناد . وقال أبو العالية : هم أهل القبلة ، يختصمون بينهم يوم القيامة في مظالمهم . وأبعد من ذهب إلى أن هذا الخصام سببه ما كان في قتل عثمان ، وما جرى بين علي ومعاوية بسبب ذلك ، رضى الله عنهم . وقيل : يختصم الجميع ، فالكفار يخاصم بعضهم بعضاً حتى يقال لهم : لا تختصموا لدي . والمؤمنون يتلقون الكافرين بالحجج ، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام . وقرأ ابن الزبير ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وعيسى ، واليماني ، وابن أبي غوث ، وابن أبي عبلة : إنك مائت وإنهم مائتون ، وهي تشعر بحدوث الصفة ؛ والجمهور : ميت وميتون ، وهي تشعر بالثبوت واللزوم كالحي .
2 ( ) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ ياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَق فَمَنِ اهْتَدَى

" صفحة رقم 409 "
فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ اللَّهُ يَتَوَفَّى الاٌّ نفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاٍّ خْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الاٌّ رْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَاؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَى كُل شَىْءٍ وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُل

" صفحة رقم 410 "
ْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّىأَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاٌّ رْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاٌّ رْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الاٌّ رْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِىءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ بَلَى وَلَاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاٌّ رْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } )
الزمر : ( 32 ) فمن أظلم ممن . . . . .
اشمأز ، قال أبو زيد : زعر . قال غيره : تقبض كراهة ونفوراً . قال الشاعر : إذا عض الثقات بها اشمأزت
وولته عشوزية زبونا
المقاليد : المفاتيح ، قيل : لا واحد لها من لفظها ، قاله التبريزي . وقيل : واحدها مقليد ، وقيل : مقلاد ، ويقال : إقليد وأقاليد ، والكلمة أصلها فارسية . الزمر : جمع زمرة ، قال أبو عبيد والأخفش : جماعات متفرقة ، بعضها إثر بعض . قال :
حتى احزألت زمر بعد زمر
ويقال : تزمر . والحفوف : الإحداق بالشيء ، قال الشاعر : تحفه جانب ضيق ويتبعه
مثل الزجاجة لم يكحل من الرمد
وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف ، وهو الجانب ، ومنه قول الشاعر :

" صفحة رقم 411 "
له لحظات عن حفافي سريره
إذا كرها فيها عقاب ونائل
) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَافِرِينَ وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ أَوْ ).
) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ ( : هذا تفسير وبيان للذين يكون بينهم الخصومة ، وهذا يدل على أن الاختصام السابق يكون بين المؤمنين والكافرين ، والمعنى : لا أجد في المكذبين أظلم ممن افترى على الله ، فنسب إليه الولد والصاحبة والشريك ، وحرّم وحلل من غير أمر الله ؛ ) وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ ( : وهو ما جاء به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ ) إِذْ جَاءهُ ( : أي وقت مجيئه ، فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ارتياء ولا نظر ، بل وقت مجيئه كذب به . ثم توعدهم توعداً فيه احتقارهم على جهة التوقيف ، وللكافرين مما قام فيه الظاهر مقام المضمر ، أي مثوى لهم ، وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذبيهم ، وهو الكفر . ) وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ اللَّهُ بِهَاذَا فَمَنْ أَظْلَمُ ). ) وَصَدَّقَ بِهِ ( مقابل لقوله : ) وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ ). والذي جنس ، كأنه قال : والفريق الذي جاء بالصدق ، ويدل عليه : ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( ، فجمع . كما أن المراد بقوله : ) فَمَنْ أَظْلَمُ ( ، يراد به جمع ، ولذلك قال ) مَثْوًى لّلْكَافِرِينَ ). وفي قراءة عبد الله : والذي جاؤا بالصدق وصدقوا به . وقيل : أراد والذين ، فحذفت منه النون ، وهذا ليس بصحيح ، إذ لو أريد الذين بلفظ الذي وحذفت منه النون ، لكان الضمير مجموعاً كقوله :
وإن الذي حانت بفلح دماؤهم
ألا ترى أنه إذا حذفت النون في المثنى كان الضمير مثنى ؟ كقوله :
أبني كليب أن عميّ اللذا
قتلا الملوك وفككا الأغلالا
وقيل : الذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : الذي جاء بالصدق جبريل ، والذي صدق به هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال عليّ ، وأبو العالية ، والكلبي ، وجماعة : الذي جاء بالصدق هو الرسول ، والذي صدق به هو أبو

" صفحة رقم 412 "
بكر . وقال أبو الأسود ، ومجاهد ، وجماعة : الذي صدق به وهو عليّ بن أبي طالب . وقال الزمخشري : والذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . جاء بالصدق وآمن به ، وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله : ) وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( ، ولذلك قال : ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( ، إلا أن هذا في الصفة ، وذلك في الاسم . ويجوز أن يريد : والفوج والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به ، وهو الرسول الذي جاء بالصدق ، وصحابته الذين صدقوا به . انتهى . وقوله : وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه . استعمل الضمير المنفصل في غير موضعه ، وإنما هو متصل ، فإصلاحه وأراده به ومن تبعه ، كما أراده بموسى وقومه : أي لعل قومه يهتدون ، إذ موسى عليه السلام مهتدٍ . فالمترجى هداية قومه ، لا هدايته ، إذ لا يترجى إلا ما كان مفقوداً لا موجوداً . وقوله : ويجوز إلخ ، فيه توزيع الصلة ، والفوج هو الموصول ، فهو كقوله : جاء الفريق الذي شرف وشرّف . والأظهر عدم التوزيع ، بل المعطوف على الصلة ، صلة لمن له الصلة الأولى .
وقرأ الجمهور : ) وَصَدَقَ ( مشدداً ؛ وأبو صالح ، وعكرمة بن سليمان ، ومحمد بن جحازة : مخففاً . قال أبو صالح : وعمل به . وقيل : استحق به اسم الصدق . قال ابن عطية : فعلى هذا إسناد الأفعال كلها إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكأن أمته في ضمن القول ، وهو الذي يحسن ) أُوْلَائِكَ الْمُتَّقُونَ ). انتهى . وقال الزمخشري : أي صدق به الناس ، ولم يكذبهم به ، يعني : أداه إليهم ، كما نزل عليه من غير تحريف . وقيل : معناه : وصار صادقاً به ، أي بسببه ، لأن القرآن معجزة ، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يديه ، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق ، فيصير لذلك صادقاً بالمعجزة . وقرىء : وصدق به . انتهى ، يعني : مبنياً للمفعول مشدداً . وقال صاحب اللوامح : جاء بالصدق من عند الله وصدق بقوله ، أي في قوله ، أو في مجيئه ، فاجتمع له الصفتان من الصدق : من صدقه من عند الله ، وصدقه بنفسه ، وذلك مبالغة في المدح . انتهى .
( لَهُم مَّا يَشَاءونَ ( : عام في كل ما تشتهيه أنفسهم وتتعلق به إرادتهم . و ) لِيُكَفّرَ ( : متعلق بالمحسنين ، أي الذين أحسنوا ليكفر ، أو بمحذوف ، أي يسر ذلك لهم ليكفر ، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير . و ) أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ ( : هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام . والتكفير يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ، والجزاء بالأحسن يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه ، فقيل : ذلك يكون إذا صدقوا الأنبياء فيما أتوابه . وقال مقاتل : يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ، ولا يجزيهم بالمساوي ، وهذا قول المرجئة ، يقولون : لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان . واحتج بهذه الآية ، وقام الظاهر مقام المضمر في المحسنين ، أي ذلك جزاؤهم ، فنبه بالظاهر على العلة المقتضية لحصول الثواب . والظاهر أن أسوأ أفعل تفضيل ، وبه قرأ الجمهور : وإذا كفر أسوأ أعمالهم ، فتكفير ما هو دونه أحرى . وقيل : أفعل ليس للتفضيل ، وهو كقولك : الأشج أعدل بني مروان ، أي عادل ، فكذلك هذا ، أي سيء الذين عملوا . ويدل على هذا التأويل قراءة ابن مقسم ، وحامد بن يحيى ، عن ابن كثير : أسوأ هنا ؛ وفي حم السجدة بألف بين الواو والهمزة جمع سوء ، ولا تفضيل فيه . والظاهر أن بأحسن أفعل تفضيل فقيل : لينظر إلى أحسن طاعاته فيجزي الباقي في الجزاء على قياسه ، وإن تخلف عنه بالتقصير . وقيل : بأحسن ثواب أعمالهم . وقيل : بأحسن من عملهم ، وهو الجنة ، وهذا ينبو عنه ) بِأَحْسَنِ الَّذِى ). وقال الزمخشري : أما التفضيل فيؤذن بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرات هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية ، والحسن الذي يعملون هو عند الله الأحسن لحسن إخلاصهم فيه ، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ ، وحسنهم بالأحسن . انتهى ، وهو على رأى المعتزلة ، ويكون قد استعمل أسوأ في التفضيل على معتقدهم ، وأحسن في التفضيل على ما هو عند الله ، وذلك توزيع في أفعل التفضيل ، وهو خلاف الظاهر .
قالت قريش : لئن لم ينته

" صفحة رقم 413 "
محمد عن تعييب آلهتنا وتعيينا ، لنسلطها عليه فتصيبه بخبل وتعتريه بسوء ، فأنزل الله : ) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ( : أي شر من يريده بشر ، والهمزة الداخلة على النفي للتقرير ، أي هو كاف عبده ، وفي إضافته إليه تشريف عظيم لنبيه . وقرأ الجمهور : عبده ، وهو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ أبو جعفر ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي : عباده بالجمع ، أي الأنبياء والمطيعين من المؤمنين ؛ ) وَيُخَوّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ( : وهو الأصنام . ولما بعث خالداً إلى كسر العزى ، قال له سادنها : إني أخاف عليك منها ، فلها قوة لا يقوم لها شيء . فأخذ خالد الفأس ، فهشم به وجهها ثم انصرف . وفي قوله : ) وَيُخَوّفُونَكَ ( ، تهكم بهم لأنهم خوفوه بما لا يقدر على نفع ولا ضرر . ونظير هذا التخويف قول قوم هو دله : ) إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء ). وقرىء : ) عَلَى عَبْدِهِ ( على الإضافة ، ويكافي عباده مضارع كفى ، ونصب عباده فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية ، كقولك : يجازي في يجزي ، وهو أبلغ من كفى ، لبنائه على لفظظ المبالغة ، وهو الظاهر لكثرة تردّد هذا المعنى في القرآن ، كقوله : ) فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ). ويحتمل أن يكون مهموزاً من المكافأة ، وهي المجازاة ، أي يجزيهم أجرهم .
ولما كان تعالى كافي عبده ، كان التخويف بغيره عبثاً باطلاً . ولما اشتملت الآية على مهتدين وضالين ، أخبر أن ذلك كله هو فاعله ، ثم قال : ) أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ( : أي غالب منيع ، ( ذِى انتِقَامٍ ( : وفيه وعيد لقريش ، ووعد للمؤمنين . ولما أقروا بالصانع ، وهو الله ، أخبرهم أنه تعالى هو المتصرف في نبيه بما أراد . فإن تلك الأصنام التي يدعونها آلهة من دونه لا تكشف ضراً ولا تمسك رحمة ، أي صحة وسعة في الرزق ونحو ذلك . وأرأيتم هنا جارية على وضعها ، تعدت إلى مفعولها الأول ، وهو ما يدعون . وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية ، وفيها العائد على ما ، وهو لفظ هن وأنث تحقيراً لها وتعجيزاً وتضعيفاً . وكان فيها من سمى تسمية الإناث ، كالعزى ومناة واللات ، وأضاف إرادة الله الضر إلى نفسه والرحمة إليها ، لأنهم خوفوه مضرتها ، فاستسلف منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله . ثم استخبرهم عن أصنامهم ، هل تدفع شرّاً وتجلب خيراً ؟ وقرأ الجمهور : كاشفات وممسكات على الإضافة ؛ وشيبة ، والأعرج ، وعمرو بن عبيد ، وعيسى : بخلاف عنه ؛ وأبو عمرو ، وأبو بكر ؛ بتنوينهما ونصب ما بعدهما . ولما تقرر أنه تعالى كافية ، وأن أصنامهم لا تضر ولا تنفع ، أمره تعالى أنه يعلم أنه تعالى هو حسبه ، أي كافية . والجواب في هذا الاستخبار محذوف ، والتقدير : فإنهم سيقولون : لا تقدر على شيء من ذلك . وقال مقاتل : استخبرهم فسكتوا . ) قُلْ ياأَهْلَ قَوْمٌ اعْمَلُواْ ( : تقدم الكلام على نظيرها .
( إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ اللَّهُ ).
لما كان عليه السلام يعظم عليه عدم إيمانهم ورجوعهم إلى ما أنزل الله تعالى عليه ، سلاه تعالى عن ذلك ، وأخبره أنه أنزل عليه الكتاب ، وهو القرآن ، مصحوباً بالحق ، وهو دين الإسلام ، للناس : أي لأجلهم ، إذ فيه تكاليفهم . ) فَمَنُ اهْتَدَى (

" صفحة رقم 414 "
فثواب هدايته إنما هو له ، ( وَمَن ضَلَّ ( : فعقاب ضلاله إنما هو عليه ، ( وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( : أي فتجبرهم على الإيمان . قال قتادة : بوكيل : بحفيظ . وقال الزمخشري : للناس : لأجل حاجتهم إليه ، ليبشروا وينذروا . فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية ، فلا حاجة لي إلى ذلك ، فأنا الغني . فمن اختار الهدى ، فقد نفع نفسه ؛ ومن اختار الضلالة ، فقد ضرها ، وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى . فإن التكليف مبني على الاختيار دون الإجبار . انتهى ، وهو على مذهب المعتزلة .
ولما ذكر تعالى أنه أنزل الكتاب على رسوله بالحق للناس ، نبه على أنه من آياته الكبرى يدل على الوحدانية ، لا يشركه في ذلك صنم وعلى غيره ، فقال : ) اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( ، والأنفس هي الأرواح . وقيل : النفس غير الروح ، قاله ابن عباس . فالروح لها تدبير عالم الحياة ، والنفس لها تدبيه عالم الإحساس . وفرقت فرقة بين نفس التمييز ونفس التخييل . والذي يدل عليه الحديث واللغة أن النفس والروح مترادفان ، وأن فراق ذلك من الجسد هو الموت . ومعنى يتوفى النفس : يميتها ، والتي : أي والأنفس التي لم تمت في منامها ، أي يتوفاها حين تنام ، تشبيهاً للنوام بالأموات . ومنه : ) وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ ). فبين الميت والنائم قدر مشترك ، وهو كونهما لا يميزان ولا يتصرفان . فيمسك من قضى عليها الموت الحقيقي ، ولا يردها في وقتها حية ؛ ويرسل النائمة لجسدها إلى أجل ضربه لموتها . وقيل : ) يَتَوَفَّى الاْنفُسَ ( : يستوفيها ويقبضها ، وهي الأنفس التي يكون معها الحياة والحركة . ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، وهي أنفس التمييز ، قالوا : فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة ، لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس . والنائم يتنفس ، وكون النفس تقبض ، والروح في الجسد حالة النوم ، بدليل أنه يتقلب ويتنفس ، هو قول الأكثرين . ودل على التغاير وكونها شيئاً واحداً هو قول ابن جبير وأحد قولي ابن عباس ؛ والخوض في هذا ، وطلب إدراك ذلك على جليته عناء ولا يوصل إلى ذلك . ) إِنَّ فِى ذَلِكَ ( : أي في توفي الأنفس مائتة ونائمة ، وإمساكها وإسالها إلى أجل ، ( لاَيَاتٍ ( : لعلامات دالة على قدرة الله وعلمه ، ( لِقَوْمٍ ( يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون . وقرأ الجمهور : ) قَضَى ( مبنياً للفاعل ، ( الْمَوْتُ ( : نصباً ؛ وابن وثاب ، والأعمش ، وطلحة ، وعيسى ، وحمزة ، والكسائي : مبنياً للمفعول ؛ الموت : رفعاً . فأم منقطعة تقدر ببل والهمزة ، وهو تقرير وتوبيخ . وكانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عندنا ، والشفاعة إنما هي لمن ارتضاه الله وبإذنه تعالى ، وهذا مفقود في آلهتهم . وأولو معناه : أيتخذونهم شفعاءهم بهذه المثابة من كونهم لا يعقلون ولا يملكون شيئاً ، وذلك عام النقص ، فكيف يشفع هؤلاء ؟ وتقدم لنا الكلام في أولو في سورة البقرة . وقال ابن عطية : متى دخلت ألف الاستفهام على واو العطف أو فائه أحدثت معنى التقرير . انتهى . وإذا كانوا لا يملكون شيئاً ، فكيف يملكون الشفاعة ؟ وقال الزمخشري : أي ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيئاً قط حتى يملكوا الشفاعة ، ولا عقل لهم . انتهى . فأتى بقوله : قط ، بعد قوله : لا يملكون ، وليس بفعل ماض ، وقط ظرف يستعمل مع الماضي لا مع غيره ، وقد تكرر للزمخشري هذا الاستعمال ، وليس باستعمال عربي .
( قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ( : فهو مالكها ، يأذن فيها لمن يشاء ثم أتى بعام وهو : ) لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ، فاندرج فيه ملك الشفاعة . ولما كانت الشفاعة من غيره موقوفة على إذنه ، كانت الشفاعة كلها له . ولما أخبر أنه له ملك السموات والأرض ، هددهم بقوله : ) ثُمَّ إِلَيْهِ ( ، فيعلمون أنهم لا يشفعون ، ويخيب سعيكم في عبادتهم . وقال الزمخشري : معناه له ملك السموات والأرض اليوم ، ثم إليه ترجعون يوم القيامة ، فلا يكون الملك في ذلك إلا له ، فله ملك الدنيا والآخرة .
( تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ ( : أي مفرداً بالذكر ، ولم يذكر مع آلهتهم . وقيل : إذا قيل لا إله إلا الله ، ( وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ( ، وهي الأصنام . والاشمئزاز والاستبشار متقابلان غاية ، لأن الاشمئزاز : امتلاء القلب غماً وغيظاً ، فيظهر أثره ، وهو الانقباض في الوجه ، والاستبشار : امتلاؤه سروراً ، فيظهر أثره ، وهو الانبساط ، والتهلل في الوجه . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما العامل في وإذا ذكر ؟ قلت : العامل في إذا الفجائية تقديره : وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا الاستبشار . وقال الحوفي : ) إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ، إذا مضافة إلى الابتلاء والخبر ، وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه ، والتقدير : إذا كان ذلك هم يستبشرون ، فيكون هم يستبشرون

" صفحة رقم 415 "
العامل في إذا ، المعنى : إذا كان ذلك استبشروا . انتهى . أما قول الزمخشري : فلا أعلمه من قول من ينتمي للنحو ، وهو أن الظرفين معمولان لعامل واحد ، ثم إذا الأولى ينتصب على الظرف ، والثانية على المفعول به . وأما قول الحوفي فبعيد جدًّا عن الصواب ، إذ جعل إذا ماضفة إلى الابتداء والخبر ، ثم قال : وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه ، فكيف تكون مضافة إلى الابتداء والخبر الذي هم يستبشرون ؟ وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحدث فيه ، وقد تقدم لنا في مواضع إذا التي للمفاجأة جواباً لإذا الشرطية ، وقد قررنا في علم النحو الذي كتبناه أن إذا الشرطية ليست مضافة إلى الجملة التي تليها ، وإن كان مذهب الأكثرين ، وأنها ليست بمعمولة للجواب ، وأقمنا الدليل على ذلك ، بل هي معمولة للفعل الذي يليها ، كسائر أسماء الشرطية الظرفية ، وإذا الفجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط ، كالفاء ؛ وهي معمولة لما بعدها . إن قلنا إنها ظرف ، سواء كان زماناً أو مكاناً . ومن قال إنها حرف ، فلا يعمل فيها شيء ، فإذا الأولى معمولة لذكرهم ، والثانية معمولة ليستبشرون . ولما أخبر عن سخافة عقولهم باشمئزازهم من ذكر الله ، واستبشارهم بذكر الأصنام ، أمره أن يدعو بأسماء الله العظمى من القدرة والعلم ونسبة الحكم إليه ، إذ غيره لا قدرة له ولا علم تام ولا حكم ، وفي ذلك وصف لحالهم السيىء ووعيد لهم وتسلية للرسول عليه السلام . وتقدم الكلام في ) اللَّهُمَّ ( في سورة آل عمران .
( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( : تقدم الكلام على تشبيهه في العقود . ) وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ ( : أي كانت ظنونهم في الدنيا متفرقة ، حسب ضلالاتهم وتخيلاتهم فيما يعتقدونه . فإذا عاينوا العذاب يوم القيامة ، ظهر لهم خلاف ما كانوا يظنون ، وما كان في حسابهم . وقال سفيان الثوري : ويل لأهل الرياء من هذه الآية . ) وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ ( : أي جزاء ما كانوا وما فيما كسبوا ، يحتمل أن تكون بمعنى الذي ، أي سيئات أعمالهم ، وأن تكون مصدرية ، أي سيئات كسبهم . والسيئات : أنواع ، العذاب سميت سيئات ، كما قال : ) وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ).
) فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَلَاكِنَّ ).
تقدم في غير آية كون الإنسان إذا مسه الضر التجأ إلى الله ، مع اعتقادهم الأوثان وعبادتها . فإذا أصابتهم شدة ، نبذوها ودعوا رب السموات والأرض ، وهذا يدل على تناقض آرائهم وشدة اضطرابها . والإنسان جنس وضر مطلق ، والنعمة عامة في جميع ما يسر ، ومن ذلك إزالة الضر . وقيل : الإنسان معين ، وهو حذيفة بن المغيرة . والظاهر أن ما في إنما كافة مهيئة لدخول إن على الجملة الفعلية ، وذكر الضمير في ) أُوتِيتُهُ ( ، وإن كان عائداً على النعمة ، لأن معناها مذكر ، وهو الأنعام أو المال ، على قول من شرح النعمة بالمال ، أو المعنى : شيئاً من النعمة ، أو لأنها تشتمل على مذكر ومؤنث ، فغلب المذكر . وقيل : ما موصولة ، والضمير عائد على ما ، أي قال : إن الذي أوتيته على علم مني ، أي بوجه المكاسب والمتاجر ، قاله قتادة ، وفيه إعجاب بالنفس وتعاظم مفرط . أو على علم من الله فيّ واستحقاق جزائه عند الله ، وفي هذا احتراز الله وعجز ومنّ على الله . أو على علم مني بأني سأعطاه لما فيّ من فضل واستحقاق ، بل هي فتنة إضراب عن دعواه أنه إنما أوتي على علم ، بل تلك النعمة فتنة وابتلاء . ذكر أولاً في ) أُوتِيتُهُ ( على المعنى ، إذ كانت ما مهيئة ، ثم عاد إلى اللفظ فأنث في قوله ) بَلْ هِىَ ( ، أو تكون هي عادت على الإتيان ، أي بل إتيانه النعمة فتنة . وكان العطف هنا بالفاء في فإذا ، بالواو في أول السورة لأنها وقعت مسببة عن قوله : ) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ ( ، أي يشمئزون عند ذكر الله ، ويستبشرون بذكر آلهتهم . فإذا مس أحدهم

" صفحة رقم 416 "
ضر دعا من اشمأز من ذكره دون من استبشر بذكره . ومناسبة السببية أنك تقول : زيد مؤمن ، فإذا مسه الضر التجأ إلى الله . فالسبب هنا ظاهر ، وزيد كافر ، فإذا مسه الضر التجأ إليه ، يقيم كفره مقام الإيمان في جعله سبباً للالتجاء ، يحكي عكس ما فيه الكافر . يقصد بذلك الإنكار والتعجب من فعله المتناقض ، حيث كفر بالله ثم التجأ إليه في الشدائد .
وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة ، بل ناسبت ما قبلها ، فعطفت عليه بالواو ، وإذا كانت فإذا متصلة بقوله : ) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ ( ، كما قلنا ، فما بينهما من الآي اعتراض يؤكد به ما بين المتصلين . فدعاء الرسول ربه بأمر منه وقوله : ) أَنتَ تَحْكُمُ ( ، وتعقيبه الوعيد ، تأكيد لاشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم . وقوله : ) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( يتناول لهم ، أو لكل ظالم ، إن جعل مطلقاً أو إياهم خاصة إن عنوا به . انتهى ، وهو ملتقط أكثره من كلام الزمخشري ، وهو متكلف في ربط هذه الآية بقوله : ) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ ( مع بعدما بينهما من الفواصل . وإذا كان أبو علي الفارسي لا يجيز الاعتراض بجملتين ، فكيف يجيزه بهذه الجمل الكثيرة ؟ والذي يظهر في الربط أنه لما قال : ) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( الآية ، كان ذلك إشعاراً بما ينال الظالمين من شدة العذاب ، وأنه يظهر لهم يوم القيامة من العذاب ما لم يكن في حسابهم ، أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه ، إذ كان إذا مسه دعا ربه ، فإذا أحسن إليه ، لم ينسب ذلك إليه . ثم إنه بعد وصف تلك النعمة أنها ابتلاء وفتنة ، كما بدا له في الآخرة من عمله الذي كان يظنه صالحاً ما لم يكن في حسابه من سوء العذاب المترتب على ذلك العمل ، ترتب الفتنة على تلك النعمة . ) وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( : أي إن ذلك استدراج وامتحان ) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( : أي قال مثل مقالتهم ) أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ). والظاهر أن قائلي ذلك جماعة من الأمم الكافرة الماضية ، كقارون في قوله : ) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى ). وقيل : الذين من قبلهم هم قارون وقومه ، إذ رضوا بمقالته ، فنسب القول إليهم جميعاً . وقرىء : قد قاله ، أي قال القول أو الكلام . ) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ ( : يجوز أن تكون ما نافية ، وهو الظاهر . وأن تكون استفهامية ، فيها معنى النفي . ) مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( : أي من الأموال . ) وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَء ( : إشارة إلى مشركي قريش ، ( سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ ( : جاء بسين الاستقبال التي هي أقل تنفيساً في الزمان من سوف ، وهو خبر غيب ، أبرزه الوجود في يوم بدر وغيره . قتل رؤساءهم ، وحبس عنه الرزق ، فلم يمطروا سبع سنين ؛ ثم بسط لهم ، فمطروا سبع سنين ، فقيل لهم : ألم تعلموا أنه لا قابض ولا باسط إلا الله تعالى ؟ .
( قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ ( : نزلت في وحشي قاتل حمزة ، قاله عطاء ؛ أو في قوم آمنوا عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما ، ففتنتهم قريش ، فافتتنوا وظنوا أن لا توبة لهم ، فكتب عمر لهم بهذه الآية ، قاله عمر والسدي وقتادة وابن إسحاق . وقيل : في قوم كفار من أهل الجاهلية قالوا : وما ينفعنا الإسلام وقد زنينا وقتلنا النف وأتينا كل كبيرة ؟ ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما شدد على الكفار وذكر ما أعد لهم من العذاب ، وأنهم لو كان لأحدهم ما في الأرض ومثله معه لافتدى به من عذاب الله ، ذكر ما في إحسانه من غفران الذنوب إذا آمن العبد ورجع إلى الله . وكثيراً تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف . وهذه الآية عام في كل كافر يتوب ، ومؤمن عاص يتوب ، تمحو الذنب توبته . وقال عبد الله ، وعلي ، وابن عامر : هذه أرجى آية في كتاب الله . وتقدم الخلاف في قراءة ) لاَ تَقْنَطُواْ ( في الحجر .
( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( : عام يراد به ما سوى الشرك ، فهو مقيد أيضاً بالمؤمن العاصي غير التائب بالمشيئة . وفي قوله : ) فِى عِبَادِى ( ، بإضافتهم إليه وندائهم ، إقبال وتشريف . و ) أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( : أي بالمعاصي ، والمعنى : إن ضرر تلك الذنوب إنما هو عائد عليهم ، والنهي عن القنوط يقتضي الأمر بالرجاء ، وإضافة الرحمة إلى الله التفات من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب ، لأن في إضافتها إليه سعة للرحمة إذا أضيفت إلى الله الذي هو أعظم الأسماء ، لأنه العلم المحتوي على معاني جميع الأسماء . ثم أعاد الاسم الأعظم ، وأكد الجملة بأن مبالغة في

" صفحة رقم 417 "
الوعد بالغفران ، ثم وصف نفسه بما سبق في الجملتين من الرحمة والغفران بصفتي المبالغة ، وأكد بلفظ هو المقتضي عند بعضهم الحصر . وقال الزمخشري : ) إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( ، شرط التوبة . وقد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن ، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكراً له فيما لم يذكر فيه ، لأن القرآن في حكم كلام واحد ، ولا يجوز فيه التناقض . انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة في أن المؤمن العاصي لا يغفر له إلا بشرط التوبة .
ولما كانت هذه الآية فيها فسحة عظيمة للمسرف ، أتبعها بأن الإنابة ، وهي الرجوع ، مطلوبة مأمور بها . ثم توعد من لم يتب بالعذاب ، حتى لا يبقى المرء كالممل من الطاعة والمتكل على العفران دون إنابة . وقال الزمخشري : وإنما ذكر الإنابة على إثر المغفرة ، لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة ، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
( وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ ( ، مثل قوله : ) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( ، وهو القرآن ، وليس المعنى أن بعضاً أحسن من بعض ، بل كله حسن . ) مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً ( ، أي فجأة ، ( وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ( : أي وأنتم غافلون عن حلوله بكم ، فيكون ذلك أشد في عذابكم .
( أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَىْء وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ).
روي أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق ، أتاه إبليس فقال له : تمتع من الدنيا ثم تب ، فأطاعه وأنفق ماله في الفجور . فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان ، فقال : ) أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ ( ، وذهب عمري في طاعة الشيطان ، وأسخطت ربي ، فندم حين لا ينفعه ، فأنزل الله خبره . ) أَن تَقُولَ ( : مفعول من أجله ، فقدره ابن عطية : أي أنيبوا من أجل أن تقول . وقال الزمخشري : كراهة أن تقول ، والحوفي : أنذرناكم مخافة أن تقول ، ونكر نفس لأنه أريد بها بعض الأنفس ، وهي نفس الكافر ، أو أريد الكثير ، كما قال الأعشى : ورب نفيع لو هتفت لنحوه
أتاني كريم ينقض الرأسى مغضبا
يريد أفواجاً من الكرام ينصرونه ، لا كريماً واحداً ؛ أو أريد نفس متميزة من الأنفس بالفجاج الشديد في الكفر ، أو بعذاب عظيم . قال هذه المحتملات الزمخشري ، والظاهر الأول . وقرأ الجمهور : يا حسرتا ، بإبدال ياء المتكلم ألفاً ، وأبو جعفر : يا حسرتا ، بياء الإضافة ، وعنه : يا حسرتي ، بالألف والياء جمعاً بين العوض والمعوض ، والياء مفتوحة أو سانة . وقال أبو الفضل الرازي في تصنيفه ( كتاب اللوامح ) : ولو ذهب إلى أنه أراد تثنية الحسرة مثل لبيك وسعديك ، لأن معناهما لب بعد لب وسعد بعد سعد ، فكذلك هذه الحسرة بعد حسرة ، لكثرة حسراتهم يومئذ ؛ أو أراد حسرتين فقط من قوت الجنة لدخول النار ، لكان مذهباً ، ولكان ألف التثنية في تقدير الياء على لغة بلحرث بن كعب . انتهى . وقرأ ابن كثير في الوقف : يا حسرتاه ، بهاء السكت . قال سيبويه : ومعنى نداء الحسرة والويل : هذا وقتك فاحضري . والجنب : الجانب ، ومستحيل على الله الجارحة ، فإضافة الجنب إليه مجاز . قال مجاهد ، والسدي : في أمر الله . وقال الضحاك : في ذكره ، يعني القرآن والعمل به .

" صفحة رقم 418 "
وقيل : في جهة طاعته ، والجنب : الجهة ، وقال الشاعر : أفي جنب تكنى قطعتني ملامة
سليمى لقد كانت ملامتها ثناء
وقال الراجز :
الناس جنب والأمير جنب
ويقال : أنا في جننب فلان وجانبه وناحيته ؛ وفلان لين الجنب والجانب . ثم قالوا : فرط في جنبه ، يريدون حقه . قال سابق البربري : أما تتقين الله في جنب عاشق
له كبد حرى عليك تقطع
وهذا من باب الكناية ، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه ، فقد أثبته فيه . ألا ترى إلى قوله : إن السماحة والمروءة والندى
في قبة ضربت على ابن الحشرج
ومنه قول الناس : لمكانك فعلت كذا ، يريدون : لأجلك ، وكذلك فعلت هذا من جهتك . وما في ما فرطت مصدرية ، أي على تفريطي في طاعة الله . ) وَإِن كُنتَ مِن السَّاخِرِينَ ( ، قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها . وقال الزمخشري : ومحل وإن كنت النصب على الحال ، كأنه قال : فرطت وأنا ساخر ، أي فرطت في حال سخريتي . انتهى . ويظهر أنه استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا ، لا حال . ) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى ( : أي خلق في الهداية بالإلجاء ، وهو خارج عن الحكمة ، أو بالألطاف ، ولم يكن من أهلها فيلطف به ، أو بالوحي ، فقد كان ، ولكنه أعرض ، ولم يتبعه حتى يهتدي . وإنما يقول هذا تحيراً في أمره ، وتعللاً بما يجدي عليه . كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحوه : لو هدانا الله لهديناكم . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وانتصب ) فَأَكُونَ ( على جواب التمني الدال عليه لو ، أو على كرة ، إذ هو مصدر ، فيكون مثل قوله : فما لك منها غير ذكرى وحسرة
وتسأل عن ركبانها أين يمموا
وقول الآخر :
للبس عباءة وتقر عيني
أحب إليّ من لبس الشفوف
والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني ، كانت أن واجبة الإضمار ، وكان الكون مترتباً على حصول المتمني ، لا متمني . وإذا كانت للعطف على كرة ، جاز إظهار أن وإضمارها ، وكان الكون متمني . ) بَلَى ( : هو حرف جواب لمنفي ، أو

" صفحة رقم 419 "
لداخل عليه همزة التقرير . ولما كان قوله : ) لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى ( وجوابه متضمناً نفي الهداية ، كأنه قال : ما هداني الله ، فقيل له : ) بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى ( مرشدة لك ، فكذبت . وقال الزمخشري : رد من الله عليه ومعناه : بلى قد هديت بالوحي . انتهى ، جرياً على قواعد المعتزلة . وقال ابن عطية : وحق بلى أن تجيء بعد نفي عليه تقرير ، وقوله : ) بَلَى ( جواب لنفي مقدر ، كأن النفس قالت : فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر ، أو قالت : فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا . انتهى . وليس حق بلى ما ذكر ، بل حقها أن تكون جواب نفي . ثم حمل التقرير على النفي ، ولذلك لم يحمله عليه بعض العرب ، وأجابه بنعم ، ووقع ذلك أيضاً في كلام سيبويه نفسه أن أجاب التقرير بنعم اتباعاً لبعض العرب . وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قرن الجواب بما هو جواب له ، وهو قوله : ) لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى ( ، ولم يفصل بينهما بآية ؟ قلت : لأنه لا يخلو ، إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن ، وإما أن تؤخر القرينة الوسطى . فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن ؛ وأما الثاني ، فلما فيه من نقض الترتيب ، وهو التحسر على التفريط في الطاعة ، ثم التعلل بفقد الهداية . ثم تمنى الرجعة ، فكان الصواب ما جاء عليه ، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب . انتهى ، وهو كلام حسن .
وقرأ الجمهور : ) قَدْ جَاءتْكَ ( ، بفتح الكاف وفتح تاء ما بعدها ، خطاباً للكافر ذي النفس . وقرأ ابن يعمر والجحدري ، وأبو حيوة ، والزعفراني ، وابن مقسم ، ومسعود بن صالح ، والشافعي عن ابن كثير ، ومحمد بن عيسى في اختياره وعن نصير ، والعبسي : بكسر الكاف والتاء ، خطاب للنفس ، وهي قراءة أبي بكر الصديق وابنته عائشة ، رضي الله عنهما ، وروتهما أم سلمة عن النبي / ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ الحسن ، والأعرج ، والأعمش : جأتك ، بالهمز من غير مد ، بوزن بعتك ، وهو مقلوب من جاءتك ، قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف ، كما سقطت في رمت وعرب . ولما ذكر مقالة الكافر ، ذكر ما يعرض له يوم القيامة من الإنذار بسوء منقلبة ، وفي ضمنه وعيد لمعاصريه ، عليه السلام . والرؤية هنا من رؤية البصر ، وكذبهم نسبتهم إليه تعالى البنات والصاحبة والولد ، وشرعهم ما لم يأذن به الله . والظاهر أنه عام في المكذبين على الله ، وخصه بعضهم بمشركي العرب وبأهل الكتابين . وقال الحسن : هم القدرية يقولون : إن شئنا فعلنا ، وإن شئنا لم نفعل . وقال القاضي : يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف شئنا فعلنا ، وإن شئنا لم نفعل . وقال القاضي : يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف الله بما لا يليق به نفياً وإثباتاً ، فأضاف إليه ما يجب أن لا يضاف إليه ، فالكل كذبوا على الله ؛ فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة واليهود والنصارى لا يجوز .
وقال الزمخشري : ) كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ ( : وصفوه بما لا يجوز عليه ، وهو متعال عنه ، فأضافوا إليه الولد والشريك ، وقالوا : ) شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( ، وقالوا : ) لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ( ، وقالوا : ) وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ( ، قوم يسفهونه بفعل القبائح . ويجوز أن يخلق خلقاً لا لغرض ، وقوله : لا لغرض ، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق ، ويجسمونه بكونه مرئياً مدركاً بالحاسة ، ويثبتون له يداً وقدماً وجنباً مستترين بالبلكفة ، ويجعلون له أنداداً بإثباتهم معه قدماً . انتهى ، وكلام من قبله على طريقة المعتزلة . والظاهر أن الرؤية من رؤية البصر ، وأن ) وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ( جملة في موضع الحال ، وفيها رد على الزمخشري ، إذ زعم أن حذف الواو من الجملة الاسمية في موضع المفعول الثاني ، وهو بعيد ، لأن تعلق البصر برؤية الأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلب . وقرىء : وجوههم مسودّة بنصبهما ، فوجوههم بدل بعض من كل . وقرأ أبي : أجوههم ، بإبدال الواو همزة ، والظاهر أن الاسوداد حقيقة ، كما مر في قوله : ) فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ). وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز ، وعبر بالسواد عن ارتداد وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم .
ولما ذكر تعالى حال الكاذبين على الله ، ذكر حال المتقين ، أي الكذب على الله وغيره ، مما يؤول بصاحبه إلى اسوداد وجهه ، وفي ذلك الترغيب في هذا الوصف الجليل الذي هو التقوى . قال السدي

" صفحة رقم 420 "
) بِمَفَازَتِهِمْ ( : بفلاحهم ، يقال : فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده ، وتفسير المفازة قوله : ) لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( ، كأنه قيل : وما مفازتهم ؟ قيل : لا يمسهم السوء ، أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم ، أو بسبب منجاتهم من قوله تعالى : ) فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ ( ، أي بمنجاة منه ، لأن النجاة من أعظم الفلاح ، وسبب منجاتهم العمل الصالح ، ولهذا فسر ابن عباس رضي الله عنه المفازة : بالأعمال الحسنة ؛ ويجوز بسبب فلاحهم ، لأن العمل الصالح سبب الفلاح ، وهو دخول الجنة . ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة ، لأنه سببها . فإن قلت : ) لاَ يَمَسُّهُمُ ( ، ما محله من الإعراب على التفسيرين ؟ قلت : أما على التفسير الأول فلا محل له ، لأنه كلام مستأنف ، وأما على الثاني فمحله النصب على الحال . انتهى . وقرأ الجمهور : بمفازتهم على الإفراد ، والسلمي ، والحسن ، والأعرج ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : على الجمع ، من حيث النجاة أنواع ، والأسباب مختلفة . قال أبو علي : المصادر تجمع إذا اختلفت أجناسها كقوله : ) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ). وقال الفراء : كلا القراءتين صواب ، تقول : قد تبين أمر الناس وأمور الناس . ولما ذكر تعالى الوعد والوعيد ، عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد ، فذكر أنه خالق كل شيء ، فدل على أعمال العباد لاندراجها في عموم كل شيء ، وأنه على كل الأشياء قائم لحفظها وتدبيرها .
( لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : قال ابن عباس : مفاتيح ، وهذه استعارة ، كما تقول : بيد فلان مفتاح هذا الأمر . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أن المقاليد لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير ) . وتأويله على هذا : أن لله هذه الكلمات ، يوحد بها ويمجد ، وهي مفاتيح خير السموات والأرض ، من تكلم بها من المتقين أصاب . ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ ( وكلماته توحيده وتمجيده ، ( أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ). وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( ؟ قلت : بقوله : ) وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( واعترض بينهما : بأن خالق الأشياء كلها ، وهو مهيمن عليها ، لا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين منها وما يستحقون عليها من الجزاء ، وأن ) لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ). قال أبو عبد الله الرازي : وهذا عندي ضعيف من وجهين : الأول : أن وقوع الفاصل الكثير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد . والثاني : أن قوله تعالى : ) وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ ( : جملة فعلية ، وقوله : ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( : جملة اسمية ، وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز ، والأقرب عندي أن يقال : إنه لما وصف بصفات الإلهية والجلالة ، وهو كونه خالق الأشياء كلها ، وكونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض ، وقال : الذين كفروا بهذه الآيات الظاهرة الباهرة هم الخاسرون . انتهى ، وليس بفاصل كثير . وقوله : وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز ، كلام من لم يتأمل لسان العرب ، ولا نظر في أبواب الاشتغال . وأما قوله : والأقرب عندي فهو مأخوذ من قول الزمخشري ، وقد جعل متصلاً بما يليه ، على أن كل شيء في السموات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه ، والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك ) أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ).
) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مّنَ الشَّاكِرِينَ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاواتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (
روي أنه قال للرسول عليه السلام : المشركون استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك ، وغير منصوب بأعبد . قال

" صفحة رقم 421 "
الأخفش : تأمروني ملغاة ، وعنه أيضاً : أفغير نصب بتأمروني لا بأعبد ، لأن الصلة لا تعمل فيما قبلها ، إذ الموصول منه حذف فرفع ، كما في قوله :
ألا أيها ذا الزاجري احضر الوغى
والصلة مع الموصول في موضع النصب بدلاً منه ، أي أفغير الله تأمرونني عبادته ؟ والمعنى : أتأمرونني بعبادة غير الله ؟ وقال الزمخشري : أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله : ) تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ ( ، لأنه في معنى تعبدون وتقولون لي : اعبده ، وأفغير الله تقولون لي اعبد ، فكذلك أفغير الله تقولون لي أن اعبده ، وأفغير الله تأمروني أن أعبد . والدليل على صحة هذا الوجه قراءات من قرأ أعبد بالنصب ، يعني : بنصب الدال بإضمار أن . وقرأ الجمهور : تأمروني ، بإدغام النون في نون الوقاية وسكون الياء ؛ وفتحها ابن كثير . وقرأ ابن عامر : تأمرنني ، بنونين على الأصل ؛ ونافع : تأمرني ، بنون واحدة مكسورة وفتح الياء . قال ابن عطية : وهذا على حذف النون الواحدة ، وهي الموطئة لياء المتكلم ، ولا يجوز حذف النون الأولى ، وهو لحن ، لأنها علامة رفع الفعل . انتهى . وفي المسألة خلاف ، منهم من يقول : المحذوفة نون الرفع ، ومنهم من يقول : نون الوقاية ، وليس بلحن ، لأن التركيب متفق عليه ، والخلاف جرى في أيهما حذف ، وختار أنها نون الرفع .
ولما كان الأمر بعبادة غير الله لا يصدر إلا من غبي جاهل ، نادهم بالوصف المقتضي ذلك فقال : ) أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ). ولما كان الإشراك مستحيلاً على من عصمه الله ، وجب تأويل قوله : ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ ( أيها السامع ، ومضى الخطاب على هذا التأويل . ويدل على هذا التأويل أنه ليس براجع الخطاب للرسول ، إفراداً لخطاب في ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ ( ، إذ لو كان هو المخاطب ، لكان التركيب : لئن أشركتما ، فيشمل ضمير هو ضمير الذين من قبله ، ويغلب الخطاب . وقال الزمخشري : فإن قلت : المومى إليهم جماعة ، فكيف قال : ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ ( على التوحيد ؟ قلت معناه : لئن أوحى إليك ، ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ مّثْلِهِ ( ، وأوحى إليك وإلى كل واحد منهم ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ ( ، كما تقول : كسانا حلة ، أي كل واحد منا . فإن قلت : كيف يصح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا يحبط أعمالهم ؟ قلت : هو على سبيل الفرض والمحالات يصح فرضها ثم ذكر كلاماً يوقف عليه في كتابه . ويستدل بهذه الآية على حبوط عمل المرتد من صلاة وغيرها . وأوحى : مبني للمفعول ، ويظهر أن الوحي هو هذه الجمل : من قوله : ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ إِلَىَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ ( وهذا لا يجوز على مذهب البصريين ، لأن الجمل لا تكون فاعلة ، فلا تقوم مقام الفاعل . وقال مقاتل : أوحى إليك بالتوحيد ، والتوحيد محذوف . ثم قال : ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( ، والخطاب للنبي عليه السلام خاصة . انتهى . فيكون الذي أقيم مقام الفاعل هو الجار والمجرور ، وهو إليك ، وبالتوحيد فضلة يجوز حذفها لدلالة ما قبلها عليها . وقرأ الجمهور : ) لَيَحْبَطَنَّ ( مبنياً للفاعل ، ( عَمَلُكَ ( : رفع به . وقرىء : ليحبطن بالياء ، من أحبط عمله بالنصب ، أي ليحبطن الله عملك ، أو الإشراك عملك . وقرىء بالنون أي : لنحبطن عملك بالنصب ، والجلالة منصوبة بقوله : فاعبد على حدّ قولهم : زيد فاضرب ، وله تقرير في النحو وكيف دخلت هذه الفاء . وقال الفراء : إن شئت نصبه بفعل مضمر قبله ، كأنه يقدر : اعبد الله فاعبده .
وقال الزمخشري : ) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ ( ، لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم ، كأنه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته ، بل إن كنت عاقلاً فاعبد الله ، فحذف الشرط وجعل تقدم المفعول عوضاً منه . انتهى . ولا يكون تقدم المفعول عوضاً من الشرط لجواز أن يجيء : زيد فعمراً اضرب . فلو كان عوضاً ، لم يجز الجمع بينهما . ) وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ ( لأنعمه التي أعظمها الهداية لدين الله . وقرأ عيسى : بل الله بالرفع ، والجمهور : بالنصب . ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( : أي ما عرفوه حق معرفته ، وما قدروه في أنفسهم حق تقديره ، إذ أشركوا معه غيره ، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة . وقرأ الأعمش : حق قدره بفتح الدال ؛ وقرأ الحسن ، وعيسى ، وأبو نوفل ،

" صفحة رقم 422 "
وأبو حيوة : وما قدروا بتشديد الدال ، حق قدره : بفتح الدال ، أي ما عظموه حقيقة تعظيمه . والضمير في قدروا ، قال ابن عباس : في كفار قريش ، كانت هذه الآية كلها محاورة لهم وردًّا عليهم . وقيل : نزلت في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله وجلاله ، فألحدوا وجسموا وجاءوا بكل تخليط . وهذه الجملة مذكورة في الأنعام وفي الحج وهنا .
ولما أخبر أنهم ما عرفوه حق معرفته ، نبههم على عظمته وجلاله شأنه على طريق التصوير والتخييل فقال : ) وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ). وقال الزمخشري : والغرض من هذا الكلام ، إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعة تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز . انتهى . ويعني : أو جهة مجاز معين ، والإخبار : التصوير ، والتخييل هو من المجاز . وقال غيره : الأصل في الكلام حمله على حقيقته ، فإن قام دليل منفصل على تعذر حمله عليها ، تعين صرفه إلى المجاز . فلفظ القبضة واليمين حقيقة في الجارحة ، والدليل العقلي قائم على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح لله تعالى ، فوجب الحمل على المجاز ، وذلك أنه يقال : فلان في قبضة فلان ، إذا كان تحت تدبيره وتسخيره ، ومنه : ) أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( ، فالمراد كونه مملوكاً لهم ، وهذه الدار في يد فلان ، وقبض فلان كذا ، وصار في قبضته ، يريدون خلوص ملكه ، وهذا كله مجاز مستفيض مستعمل . وقال ابن عطية : اليمين هنا والقبضة عبارة عن القدرة ، وما اختلج في الصدر من غير ذلك باطل . وما ذهب إليه القاضي ، يعني ابن الطيب ، من أنها صفات زائدة على صفات الذات ، قول ضعيف ، ويحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحصها العلم .
قال عز وجل : ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( : أي منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به . انتهى . وقال القفال : هذا كقول القائل : وما قدرني حق قدري ، وأنا الذي فعلت كذا وكذا ، أي لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت ، وجب أن لا تخطىء عن قدري ومنزلتي ، ونظيره : ) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( ، أي كيف تكفرون من هذه صفته وحال ملكه ؟ فكذا هنا ، ( وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( : أي زعموا أن له شركاء ، وأنه لا يقدر على إحياء الموتى ، مع أن الأرض والسموات في قبضة قدرته . انتهى . ) والاْرْضِ ( : أي والأرضون السبع ، ولذلك أكد بقوله : ) جَمِيعاً ( ، وعطف عليه ) والسموات ( ، وهو جمع ، والموضع موضع تفخيم ، فهو مقتض المبالغة . والقبضة : المرة الواحدة من القبض ، وبالضم : المقدار المقبوض بالكف ، ويقال في المقدار : قبضته بالفتح ، تسمية له بالقدر ، فاحتمل هنا هذا المعنى . واحتمل أن يراد المصدر على حذف مضاف ، أي ذوات قبضة ، أي يقبضهن قبضة واحدة ، فالأرضون مع سعتها وبسطتها لا يبلغن إلا قبضة كف ، وانتصب جميعاً على الحال . قال الحوفي : والعامل في الحال ما دل عليه قبضته انتهى . ولا يجوز أن يعمل فيه قبضته ، سواء كان مصدراً ، أم أريد به المقدار . وقال الزمخشري : ومع القصد إلى الجمع يعني في الأرض ، وأنه أريد بها الجمع قال : وتأكيده بالجميع ، أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء ذلك الخبر ، ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ، ولكن عن الأراضي كلهن . انتهى . ولم يذكر العامل في الحال ، ويوم القيامة معمول لقبضته . وقرأ الحسن : قبضته بالنصب . قال ابن خالويه : بتقدير في قبضته ، هذا قول الكوفيين . وأما أهل البصرة فلا يجيزون ذلك ، كما لا يقال : زيد داراً انتهى . وقال الزمخشري : جعلها ظرفاً مشبهاً للوقت بالمبهم . وقرأ عيسى ، والجحدري : مطويات بالنصب على الحال ، وعطف والسموات على الأرض ، فهي داخلة في حيز والأرض ، فالجميع قبضته . وقد استدل بهذه القراءة الأخفش على جواز : زيد قائماً في الدار ، إذ أعرب والسموات مبتدأ ، وبيمينه الخبر ، وتقدمت الحال والمجرور ، ولا حجة فيه ، إذ يكون والسموات معطوفاً على والأرض ، كما قلنا ، وبيمينه متعلق بمطويات ، ومطويات : من الطي الذي هو ضد النشر ، كما قال تعالى : ) تُوعَدُونَ يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء كَطَىّ السّجِلّ ( ، للكتاب وعادة طاوي السجل أن يطويه

" صفحة رقم 423 "
بيمينه . وقيل : قبضته ملكه بلا مدافع ولا منازع ، وبيمينه : وبقدرته .
قال الزمخشري : وقيل : مطويات بيمينه : مفنيات بقسمه ، لأنه أقسم أن يفنيها ؛ ثم أخذ ينحي على من تأول هذا التأويل بما يوقف عليه في كتابه ، وإنما قدر عظمته بما سبق إردافه أيضاً بما يناسب من ذلك ، إذ كان فيما تقدم ذكر حال الأرض والسموات يوم القيامة ، فقال : ) وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ( ، وهل النفخ في الصور ثلاث مرات أو نفختان ؟ قول الجمهور : فنفخة الفزع هي نفخة الصعق ، والصعق هنا الموت ، أي فمات من في الس