Translate

السبت، 28 مايو 2022

مجلد 9. و10. تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

 

9مجلد 9.   تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 301 "
وينبغي أن يكون ذلك على طريق التمثيل ، وأما على طريق الحصر فلا ، ولا يفهم من قوله : ومن يطع الله والرسول ظاهر اللفظ من الاكتفاء بالطاعة الواحدة ، إذ اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة لدخول المنافقين فيه ، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة ، بل يحمل على غير الظاهر بأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات ، وترك جميع المنهيات .
( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( أولئك : إشارة إلى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . لم يكتف بالمعية حتى جعلهم رفقاء لهم ، فالمطيع لله ولرسوله يوافقونه ويصحبونه ، والرفيق الصاحب ، سمي بذلك للارتفاق به . وعلى هذا يجوز أن ينتصب رفيقاً على الحال من أولئك ، أو على التمييز . وإذا انتصب على التمييز فيحتمل أن لا يكون منقولاً ، فيجوز دخول من عليه ، ويكون هو المميز . وجاء مفرداً إمّا لأن الرفيق مثل الخليط والصديق ، يكون للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد . وأمّا لإطلاق المفرد في باب التمييز اكتفاء ويراد به الجمع ، ويحسن ذلك هنا كونه فاصلة ، ويحتمل أن يكون منقولاً من الفاعل ، فلا يكون هو المميز والتقدير : وحسن رفيق أولئك ، فلا تدخل عليه مَن ويجوز أن يكون أولئك إشارة إلى مَن يطع الله والرسول ، وجمع على معنى من ويجوز في انتصاب رفيقاً إلا وجه السابقة .
وقرأ الجمهور : وحسُن بضم السين ، وهي الأصل ، ولغة الحجاز . وقرأ أبو السمال : وحسْن بسكون السين وهي لغة تميم . ويجوز : وحُسْن بسكون السين وضم الحاء على تقدير نقل حركة السين إليها ، وهي لغة بعض بني قيس . قال الزمخشري : وحسن أولئك رفيقاً فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقاً . ولاستقلاله بمعنى التعجب : وحسْن بسكون السين . يقول المتعجب . وحسْنُ الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى كلامه . وهو تخليط ، وتركيب مذهب على مذهب . فنقول : اختلفوا في فعل المراد به المدح والذم ، فذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فقط ، فلا يكون فاعلاً إلا بما يكون فاعلاً لهما . وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس ، فيجعل فاعلها كفاعلهما ، وذلك إذا لم يدخله معنى التعجب . وإلى جواز إلحاقه بفعل التعجب فلا يجري مجرى نعم وبئس في الفاعل ، ولا في بقية أحكامهما ، بل يكون فاعله ما يكون مفعولاً لفعل التعجب ، فيقول : لضربت يدك ولضربت اليد . والكلام على هذين المذهبين تصحيحاً وإبطالاً مذكور في علم النحو . والزمخشري لم يتبع واحداً من هذين المذهبين ، بل خلط وركب ، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش ، وأخذ التمثيل بقوله : وحسن الوجه وجهك ، وحسن الوجه وجهك من مذهب الفارسي . وأما قوله : ولاستقلاله بمعنى التعجب ، قرىء : وحسْن بسكون السين ، وذكر أن المتعجب يقول : وحسن وحسن ، فهذا ليس بشيء ، لأن الفرّاء ذكر أن تلك لغات للعرب ، فلا يكون التسكين ، ولا هو والنقل لأجل التعجب .
النساء : ( 70 ) ذلك الفضل من . . . . .
( ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ( الظاهر أن الإشارة إلى كينونة المطيع من النبيين ، ومن عطف عليهم ، لأنه هو المحكوم به في قوله : ) فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ ( وكأنه على تقدير سؤال أي : وما الموجب لهم استواؤهم مع النبيين في الآخرة ، مع أن الفرق بينهم في الدنيا بين ؟ فذكر أنَّ ذلك بفضله ، لا بوجوب عليه . ومع استوائهم معهم في الجنة فهم متباينون في المنازل .
وقيل : الإشارة إلى الثواب في قوله أجراً عظيماً . وقيل : إلى الطاعة . وقيل : إلى المرافقة . وقال الزمخشري : إنّ ما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله ، لأنه تفضل به عليهم تبعاً لثوابهم ، وذلك مبتدأ والفضل خبره ، ومِن الله حال ، ويجوز أن يكونَ الفضل صفةً ، والخبر من الله ، ويجوز أن يكونا خبرين على مذهب من يجيز ذلك .
( وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً ( لما ذكر الطاعة وذكر جزاء من يطيع أتى بصفة العلم التي

" صفحة رقم 302 "
تتضمن الجزاء أي : وكفى به مجازياً لمن أطاع . قال ابن عطية : فيه معنى أن تقول : فشملوا فعل الله وتفضله من الاعتراض عليه ، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره ، ولذلك دخلت الباء على اسم الله تعالى لتدل على الأمر الذي في قوله : وكفى ، انتهى . وقد بينا فساد قولَ مَن يدّعي أنَّ قولك : كفى بزيد معناه اكتف بزيد عند الكلام على قوله : ) وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً ). وقال الزمخشري : وكفى بالله عليماً ، بجزاء من أطاعه . أو أراد فصل المنعم عليهم ، ومزيتهم من الله لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه ، وكفى بالله عليماً بعباده ، فهو يوفقهم على حسب أحوالهم انتهى . وهي ألفاظ المعتزلة .
النساء : ( 71 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً ( مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر طاعته وطاعة رسوله ، وكان من أهم الطاعات إحياء دين الله ، أمر بالقيام بإحياء دينه ، وإعلاء دعوته ، وأمرهم أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة فقال : خذوا حذركم . فعلمهم مباشرة الحروب . ولما تقدم ذكر المنافقين ، ذكر في هذه الآية تحذير المؤمنين من قبول مقالاتهم وتثبيطهم عن الجهاد ، فنادى ولاً باسم الإيمان على عادته تعالى إذا أراد أن يأمر المؤمنين أو ينهاهم ، والحذر والحذر بمعنى واحد . قالوا : ولم يسمع في هذا التركيب الأخذ حذرك لأخذ حذرك . ومعنى خذ حذرك : أي استعد بأنواع ما يستعد به للقاء من تلقاه ، فيدخل فيه أخذ السلاح وغيره . ويقال : أخذ حذره إذا احترز من المخوف ، كأنه جعل الحذر آلته التي يتقي بها ويعتصم ، والمعنى : احترزوا من العدو . ثم أمر تعالى بالخروج إلى الجهاد جماعة جماعة ، وسرية بعد سرية ، أو كتيبة واحدة مجتمعة .
وقرأ الجمهور : فانفِروا بكسر الفاء فبهما . وقرأ الأعمش : بضمها فيهما ، وانتصاب ثبات وجميعاً على الحال ، ولم يقرأ ثبات فيما علمناه إلا بكسر التاء . وقال الفراء : العرب تخفض هذه التاء في النصب وتنصبها . أنشدني بعضهم : فلما جلاها بالأيام تحيزت
ثباتاً عليها ذلها واكتئابها
ينشد بكسر التاء وفتحها انتهى . وأوفى أو انفروا للتخيير . وقال ابن عباس : هذه الآية نسختها . ) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً ( قيل : وإنما عنى بذلك التخصيص إذ ليس يلزم النفر جماعتهم .
النساء : ( 72 ) وإن منكم لمن . . . . .
( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ ( الخطاب لعسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن جريج وابن زيد في آخرين : لمن ليبطئن هم المنافقون ، وجعلوا من المؤمنين باعتبار الجنس ، أو النسب ، أو الانتماء إلى الإيمان ظاهراً . وقال الكلبي : نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه . وقيل : هم ضعفه المؤمنين . ويبعد هذا القول قوله : عند مصيبة المؤمنين ) قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً ( وقوله : ) كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ( ومثل هذا لا يصدر عن مؤمن ، إنما يصدر عن منافق . واللام في ليبطئن لام قسم محذوف التقدير : للذي والله ليبطئن . والجملتان من القسم وجوابه صلة لمن ، والعائد الضمير المستكن في ليبطئن .
قالو : وفي هذه الآية رد على من زعم من قدماء النحاة أنه لا يجوز وصل الموصول بالقسم وجوابه إذا كانت جملة القسم قد عريت من ضمير ، فلا يجوز جاءني الذي أقسم بالله لقد قام أبوه ، ولا حجة فيها لأنّ جملة القسم محذوفة ، فاحتمل أن يكون فيها ضمير يعود على الموصول ، واحتمل أنْ لا يكون . وما كان يحتمل وجهين لا حجة فيه على تعيين أحدهما ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : ) وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ( في قراءة من نصب كلا وخفف ميم لما أي : وأن كلا للذي ليوفينهم على أحسن التخاريج . وقال ابن عطية : اللام في ليبطئن لام قسم عند الجمهور . وقيل : هي لام تأكيد بعد تأكيد انتهى . وهذا القول الثاني خطأ . وقرأ الجمهور : ليبطئن ، بالتشديد . وقرأ مجاهد : ليبطئن بالتخفيف . والقراءتان يحتمل أن

" صفحة رقم 303 "
يكون الفعل فيهما لازماً ، لأنهم يقولون : أبطأ وبطأ في معنى بطؤ ، ويحتمل أن يكون متعدياً بالهمزة أو التضعيف من بطؤ ، فعل اللزوم المعنى أنه يتثاقل ويثبط عن الخروج للجهاد ، وعلى التعدّي أكثر المفسرين .
( فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً ( المصيبة : الهزيمة . سميت بذلك لما يلحق الإنسان من العتب بتولية الإدبار وعدم الثبات . ومن العرب من يختار الموت على الهزيمة وقد قال الشاعر : إن كنت صادقة كما حدثتني
فنجوت منجى الحارث بن هشامترك الأحبة أن يقاتل عنهمونجا برأس طمره ولجام
عيره بالانهزام وبالفرار عن الأحبة . وقال آخر في المدح على الثبات في الحرب والقتل فيه : وقد كان فوت الموت سهلاً فرده
إليه الحفاظ المرء والخلق الوعرفأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر
وقيل : المصيبة القتل في سبيل الله ، سموا ذلك مصيبة على اعتقادهم الفاسد ، أو على أن الموت كله مصيبة كما سماه الله تعالى . وقيل : المصيبة الهزيمة والقتل . والشهيد هنا الحاضر معهم في معترك الحرب ، أو المقتول في سبيل الله ، يقوله المنافق استهزاء ، لأنه لا يعتقد حقيقة المشهادة في سبيل الله .
2 ( ) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ( ) ) 2
) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يالَيتَنِى لَيْتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (
النساء : ( 73 ) ولئن أصابكم فضل . . . . .
الفضل هنا : الظفر بالعدو والغنيمة . وقرأ الجمهور : ليقولن بفتح اللام . وقرأ الحسن : ليقولن بضم اللام ، أضمر فيه ضمير الجمع على معنى من . وقرأ ابن كثير وحفص . كأنْ لم تكن بتاء التأنيث ، والباقون بالياء . وقرأ الحسن ويزيد النحوي : فأفوزُ برفع الزاي عطفاً على كنت ، فتكون الكينونة معهم والفوز بالقسمة داخلين في التمني ، أو على الاستئناف أي فأنا أفوز . وقرأ الجمهور : بنصب الزاي ، وهو جواب التمني ، ومذهبُ جمهور البصريين : أنّ النصب بإضمار أن بعد الفاء ، وهي حرف عطف عطفت المصدر المنسبك من أن المضمرة والفعل المنصوب بها على مصدر متوهم . ومذهب الكوفيين : أنه انتصب بالخلاف ، ومذهب الجرمي : أنه انتصب بالفاء نفسها ، ويا عند قوم للنداء ، والمنادي محذوف تقديره : يا قوم ليتني . وذهب أبو علي : إلى أن يا للتنبيه ، وليس في الكلام منادى محذوف ، وهو الصحيح . وكأنْ هنا مخففة من الثقيلة ، وإذا وليتها الجملة الفعلية فتكون مبدوءة بقد ، نحو قوله : لا يهولنك اصطلاؤك للحر
ب فمحذورها كان قد ألما
أو بلم كقوله : ( كان لم يكن ) كان لم ( تغن بالأمس ) ووجدت في شعر عمار الكلبي ابتداءها في قوله : بددت منها الليالي شملهم
فكأن لما يكونوا قبل ثم

" صفحة رقم 304 "
وينبغي التوقف في جواز ذلك حتى يسمع من لسان العرب . وقال ابن عطية : وكأنْ مضمنة معنى التشبيه ، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر ، وإنما تجيء بعدها الجمل انتهى . وهذا الذي ذكره غير محرر ، ولا على إطلاقه . أما إذا خفقت ووليها ما كان يليها وهي ثقيلة ، فالأكثر والأفصح أن ترتفع تلك الجملة على الابتداء والخبر ، ويكون اسم كان ضمير شأن محذوفاً ، وتكون تلك الجملة في موضع رفع خبر كان . وإذا لم ينو ضمير الشأن جاز لها أن تنصب الاسم إذا كان مظهراً ، وترفع الخبر هذا ظاهر كلام سيبويه . ولا يخص ذلك بالشعر ، فنقول : كأن زيداً قائم . قال سيبويه : وحدثنا من يوثق به أنه سمع من العرب من يقول : إن عمر المنطلق وأهل المدينة يقرؤون : وأن كلا لما يخففون وينصبون كما قال : كأن ثدييه حقان ، وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل ، فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله ، كما لم يغير عمل لم يك ، ولم أبل حين حذف انتهى . فظاهر تشبيه سيبويه أن عمر المنطلق بقوله : كأن ثدييه حقان جواز ذلك في الكلام ، وأنه لا يختص بالشعر .
وقد نقل صاحب رؤوس المسائل : أن كأنْ إذا خفقت لا يجوز إعمالها عند الكوفيين ، وأن البصريين أجازوا ذلك . فعلى مذهب الكوفيين قد يتمشى قول ابن عطية في أنَّ كانْ المخففة ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر ، وأما على مذهب البصريين فلا ، لأنها عندهم لا بد لها من اسم وخبر .
والجملة من قوله : كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة اختلف المفسرون فيها ونحن نسرد كلام من وقفنا على كلامه فيها . فنقول : قال الزمخشري : اعتراض بين الفعل الذي هو ليقولن ، وبين مفعوله وهو يا ليتني ، والمعنى : كأنْ لم يتقدم له معكم مودة ، لأنّ المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر ، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن . والظاهر أنه تهكم ، لأنهم كانوا أعدى عدوّ للمؤمنين وأشدهم حسداً لهم ، فكيف يوصفون بالمودة إلا على وجه العكس تهكماً بحالهم ؟ وقال ابن عطية : المنافق يعاطي المؤمنين المودة ، ويعاهد على التزام كلف الإسلام ، ثم يتخلف نفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسوله ، ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين . فعلى هذا يجيء قوله تعالى : كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ، التفاتة بليغة واعتراضاً بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم . وقال الزجاج : هذه الجملة اعتراض ، أخبر تعالى بذلك لأنهم كانوا يوادون المؤمنين . وقال أيضاً ، وتبعه الماتريدي هذا على التقديم والتأخير تقديره : فإنْ أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً ، كأنْ لم تكن بينكم وبينه مودة ، ولئن أصابكم فضل من الله . قال الراغب : وذلك مستقبح ، فإنه لا يفصل بين الجملة وبعض ما يتعلق بجملة أخرى . وقال أيضاً : وتبعه أبو البقاء :

" صفحة رقم 305 "
موضع الجملة نصب على الحال كما تقول : مررت بزيد وكان لم يكن بينك وبينه معرفة ، فضلاً عن مودة . وقال أبو علي الفارسي : هذه الجملة من قول المنافقين الذين أقعدوهم عن الجهاد وخرجوا هم ، كأن لم تكن بينكم وبينه أي : وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) مودة فيخرجكم معهم لتأخذوا من الغنيمة ، ليبغضوا بذلك الرسول إليهم . وتبع أبو علي في ذلك مقاتلاً . قال مقاتل : معناه كأنه ليس من أهل ملتكم ولا مودة بينكم ، يريد : أنّ المبطىء قال لمن تخلف عن الغزو من المنافقين وضعفة المؤمنين ، ومن تخلف بإذن كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة فيخرجكم إلى الجهاد ، فتفوزون بما فاز . وقال أبو عبد الله الرازي : هو اعتراض في غاية الحسن ، لأن من أحب إنساناً فرح عند فرحه ، وحزن عند حزنه ، فإذا قلب القضية فذلك إظهار للعداوة . فنقول : حكى تعالى عن المنافق سروره وقت نكبة المسلمين ، ثم أراد أن يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاتته الغنيمة ، فقبل أن يذكر الكلام بتمامه ألقى قوله : كأن لم يكن بينكم وبينه ، والمراد التعجب . كأنه يقول تعالى : انظروا إلى ما يقوله هذا المنافق ، كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة أيها المؤمنون ولا مخالطة أصلاً ، فهذا هو المراد من الكلام .
وقال قتادة وابن جريج : قول المنافق : يا ليتني كنت معهم على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغبته .
وتلخص من هذه الأقوال أن هذه الجملة : إمّا أن يكون لها موضع من الإعراب نصب على الحال من الضمير المستكن في ليقولن ، أو نصب على المفعول بيقولن على الحكاية ، فيكون من جملة المقول ، وجملة المقول هو مجموع الجملتين : جملة التشبيه ، وجملة التمني . وضمير الخطاب للمتخلفين عن الجهاد ، وضمير الغيبة في وبينه للرسول . وعلى الوجه الأول ضمير الخطاب للمؤمنين ، وضمير الغيبة للقائل . وإمّا أن لا يكون لها موضع من الإعراب لكونها اعتراضاً في الأصل بين جملة الشرط وجملة القسم وأخرت ، والنية بها التوسط بين الجملتين . أو لكونها اعتراضاً بين : ليقولن ومعموله الذي هو جملة التمني ، ولبس اعتراضاً يتعلق بمضمون هذه الجملة المتأخرة ، بل يتعلق بمضمون الجملتين ، والضمير الذي للخطاب هو للمؤمنين ، وفي بينه للقائل . واعترض به بين أثناء الحملة الأخيرة ، ولم يتأخر بعدها وإنْ كان من حيث المعنى متأخراً إذ معناه متعلق بمضمون الجملتين ، لأن معمول القول النية به التقديم ، لكنه حسن تأخيره كونه وقع فاصلة . ولو تأخرت جملة الاعتراض لم يحسن لكونها ليست فاصلة ، والتقدير : ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة ، إذ صدر منه قوله وقت المصيبة : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً . وقوله : وقت الغنيمة يا ليتني كنت معهم ، وهذا قول من لم تسبق منه مودة لكم .
وفي الآيتين تنبيه على أنهم لا يعدّون من المنح إلا أغراض الدنيا ، يفرحون بما ينالون منها ، ولا من المحن إلا مصائبها فيتألمون لما يصيبهم منها كقوله تعالى : ) فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ( الآية . وتضمنت هذه الجملة أنواعاً من الفصاحة والبديع : دخول حرف الشرط على ما ليس بشرط في الحقيقة في قوله : إن كنتم تؤمنون . والإشارة في ذلك : خير أولئك الذين يعلم الله ، فأولئك مع الذين ، وحسن أولئك رفيقاً ، ذلك الفضل من الله . والاستفهام المراد به التعجب في : ألم تر إلى الذين يزعمون . والتجنيس المغاير في : أن يضلهم ضلالاً ، وفي : أصابتهم مصيبة ، وفي : وقل لهم في أنفسهم قولاً ، وفي : يصدّون عنك صدوداً ، وفي : ويسلموا تسليماً ، وفي : فإنْ أصابتكم مصيبة ، وفي : فأفوز فوزاً عظيماً . والاستعارة في : فإن تنازعتم ، أصل المنازعة الجذب باليد ، ثم استعير للتنازع في الكلام . وفي : ضلالاً بعيداً استعار البعد المختص بالأزمنة والأمكنة للمعاني المختصة بالقلوب لدوام القلوب عليها ، وفي : فيما شجر بينهم استعار ما اشتبك وتضايق من الشجر للمنازعة التي يدخل بها بعض الكلام في بعض استعارة المحسوس للمعقول وفي : أنفسهم حرجاً أطلق اسم الحرج الذي هو من وصف الشجر إذا تضايق على الأمر الذي يشق على النفس للمناسبة التي بينهما وهو من الضيق والتتميم ، وهو أن يتبع الكلام كلمة تزيد المعنى تمكناً وبياناً للمعنى المراد وهو في

" صفحة رقم 306 "
قوله قولاً بليغاً أي : يبلغ إلى قلوبهم ألمه أو بالغاً في زجرهم . وزيادة الحرف لزيادة المعنى في : من رسول أتت للاستغراق إذ لو لم تدخل لا وهم الواحد . والتكرار في : استغفر واستغفروا أنفسهم ، وفي أنفسهم واسم الله في مواضع . والالتفات في : واستغفر لهم الرسول . والتوكيد بالمصدر في : ويسلموا تسليماً . والتقسيم البليغ في قوله : من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وإسناد الفعل إلى ما لا يصح وقوعه منه حقيقة في : أصابتكم مصيبة ، وأصابكم فضل . وجعل الشيء من الشيء وليس منه لمناسبة في قوله : وإن منكم لمن ليبطئن . والاعتراض على قول الجمهور في قوله : كان لم يكن بينكم وبينه مودّة . والحذف في مواضع .
2 ( ) فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا بِالاٌّ خِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاأَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاٌّ خِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَاؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ( ) ) 2
النساء : ( 74 ) فليقاتل في سبيل . . . . .
إدراك الشيء الوصول إليه ونيله . البرج : الحصن . وقيل : القصر . والبروج : منازل القمر ، وكلها من برج إذا ظهر ، ومنه التبرج وهو إظهار المرأة محاسنها ، والبرج في العين اتساعها . المشيد : المصنوع بالشيد وهو الجص . يقال : شاد وشيد كرر العين للمبالغة ، ككسرت العود مرة وكسرته في مواضع ، وخرقت الثوب وخرقته إذا كان الخرق منه في مواضع . فعلى هذا يقال : شاد الجدار . ومنه قال والشاعر :
شاده مرمراً وجلله كلساً فللطير في ذراه وكور

" صفحة رقم 307 "
والمشيد : المطول المرفوع يقال : شيد وأشاد البناء رفعه وطوّله ، ومنه أشاد الرجل ذكر الرجل إذا رفعه . الفقه : الفهم . يقال : فقهت الحديث إذا فهمته ، وفقه الرجل صار فقيهاً .
( فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا بِالاْخِرَةِ ( قيل : نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن أحد . ويشرون بمعنى يشترون . والمعنى : أخلصوا الإيمان بالله ورسوله ، ثم جاهدوا في سبيل الله . وقيل : نزلت في المؤمنين بالجهاد من تخلف من ضعفة المؤمنين .
( وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ( ثم وعد من قاتل في سبيل الله بالأجر العظيم ، سواء استشهد ، أو غلب . واكتفى في الحالتين بالغاية ، لأن غاية المغلوب في القتال أن يقتل ، وغاية الذي يقتل أن يغلب ويغنم ، فأشرف الحالتين ما بدء به من ذكر الاستشهاد في سبيل الله ، ويليها أنْ يقتل أعداء الله ، ودون ذلك الظفر بالغنيمة ، ودون ذلك أن يغزو فلا يصيب ولا يصاب . ولفظ الجهاد في سبيل الله يشمل هذه الأحوال ، والأجر العظيم فسر بالجنة . والذي يظهر أنه مزيد ثواب من الله تعالى مثل كونهم أحياء عند ربهم يرزقون ، لأن الجنة موعود دخولها بالإيمان . وكان الذي فسره بالجنة ينظر إلى قوله تعالى : ) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ ( الآية . وقرأ الجمهور : فليقاتل بسكون لام الأمر . وقرأت فرقة : بكسرها على الأصل . وقرأ الجمهور : فيُقتل مبنياً للمفعول . وقرأ محارب بن دثار : فيقتل على بناء الفعل للفاعل . وأدغم يغلب في الفاء أبو عمرو والكسائي وهشام وخلاد بخلاف عنه ، وأظهرها باقي السبعة . وقرأ الجمهور : نؤتيه بالنون . وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف : يؤتيه بالياء .
النساء : ( 75 ) وما لكم لا . . . . .
( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ ( هذا الاستفهام فيه حثّ وتحريض على الجهاد في سبيل الله ، وعلى تخليص المستضعفين . والظاهر أنّ قوله : لا تقاتلون في موضع الحال ، وجوزوا أن يكون التقدير : وما لكم في أنْ لا تقاتلوا ، فلما حذف حرف الجر ، وحذف أنْ ، ارتفع الفعل ، والمستضعفين هو مطعوف على اسم الله أي : وفي سبيل المستضعفين . وقال المبرد والزجاج : هو معطوف على سبيل الله أي : في سبيل الله ، وفي خلاص المستضعفين . وقرأ ابن شهاب : في سبيل الله المستضعفين بغير واو عطف . فإما أن يخرج على إضمار حرف العطف ، وإما على البدل من سبيل الله أي : في سبيل الله سبيل المستضعفين لأنه سبيل الله تعالى . وأجاز الزمخشري أن يكون : والمستضعفين منصوباً على الاختصاص يعني : واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين ، لأن سبيل الله عام في كل خير ، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه انتهى كلامه . ولا حاجة إلى تكلف نصبه على الاختصاص ، إذ هو خلاف الظاهر .
ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال قريش وأذاهم ، إذ كانوا لا يستطيعون خروجاً ، ولا تطيب لهم على اوذى إقامة . ومن المستضعفين : عبد الله بن عباس وأمه ، وقد دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالنجاة للمستضعفين من المؤمنين وسمى منهم : الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة . وقوله : من الرجال والنساء والولدان تبيين للمستضعفين .
والظاهر أنّ الولدان المراد به الصبيان ، وهو جمع وليد . قيل : وقد كون جمع ولد ، كورل وورلان . ونبه على الولدان تسجيلاً بإفراط ظلم من ظلمهم ، وهم غير مكلفين ليتأذى بذلك آباؤهم ، ولأنهم كانوا يشركون آباءهم في الدعاء طلباً لرحمة الله تعالى ، وتخليصهم من أذى الكفار . وهم أقرب إلى الإجابة حيث لم تكن لهم ذنوب كما فعل قوم يونس ، وكما هي السنة في خروج الصبيان في العيد ، لأنه يطلق على العبد وليد ، وعلى الأمة وليدة وغلب المذكر على المؤنث إذ درج المؤنث في الجمع

" صفحة رقم 308 "
الاستسقاء . وقيل : المراد بقوله من الرجال والنساء الأحرار ، وبالولدان المذكرو ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرَجْنَا ( ليس لهم من القوة والمنعة من الظلم إلا بالدعاء والاستنصار بالله تعالى ، والقرية هنا مكة بإجماع .
وتكلموا في جريان الظالم وهو مذكر على القرية وهو مؤنث ، وهذا من واضح النحو . وقال الزمخشري : لو أنث فقيل : الظالمة ، أو جمع فقيل : الظالمين ، وأجاب عن ذلك وهذا لم يقرأ به ، فيحتاج إلى الكلام فيه . ولو تعرضنا لما يجوز في العربية في تراكيب القرآن لطال ذلك وخرجنا به عن طريقة التفسير . ووصف أهلها بالظلم إمّا لإشراكهم ، وإمّا لما حصل منهم من شدة الوطأة على المؤمنين وإذلالهم .
قال ابن عطية : والآية تتناول المؤمنين والأسرى ، وحواضر الشرك إلى يوم القيامة انتهى . ولما دعوا ربهم أجاب كثيراً منهم في الخروج ، فهاجر بعضهم إلى المدينة ، وفر بعضهم إلى الحبشة ، وبقي بعضهم إلى الفتح . والجمهور على أنّ الله تعالى استجاب دعاءهم ، فجعل لهم من لدنه خير وليّ وناصر وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فتولاهم أحسن التولي ، ونصرهم أقوى النصر . ولما خرج من مكة ولى عليهم عتاب بن أسيد وعمره أحد وعشرون سنة ، فرأوا منه الولاية والنصر كما سألوا . قال ابن عباس : كان ينصف الضعيف من القوي ، حتى كانوا أعز بها من الظلمة .
النساء : ( 76 ) الذين آمنوا يقاتلون . . . . .
( الَّذِينَ ءامَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ( لما أمر تعالى المؤمنين أولاً بالنفر إلى الجهاد ، ثم ثانياً بقوله : ) فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( ثم ثالثاً على طريق الحث والحض بقوله : ) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ ( أخبر في هذه الآية بالتقسيم أن المؤمن هو الذي يقاتل في سبيل الله ، وأن الكافر هو الذي يقاتل في سبيل الطاغوت ، ليبين للمؤمنين فرق ما بينهم وبين الكفار ، ويقويهم بذلك ويشجعهم ويحرضهم . وإنّ مَن قاتل في سبيل الله هو الذي يغلب ، لأن الله هو وليه وناصره . ومن قاتل في سبيل الله الطاغوت فهو المخذول المغلوب . والطاغوت هنا الشيطان لقوله : فقاتلوا أولياء الشيطان . وهنا محذوف ، التقدير : فقاتلوا أولياء الشيطان فإنكم تغلبونهم لقوتكم بالله ، ثم علل هذا المحذوف وهو غلبتكم إياهم بأنّ كيد الشيطان ضعيف ، فلا يقاوم نصر الله وتأييده ، وشتان بين عزم يرجع إلى إيمان بالله وبما وعد على الجهاد ، وعزم يرجع إلى غرور وأماني كاذبة . ودخلت كان في قوله : كان ضعيفاً إشعاراً بأنّ هذا الوصف سابق لكيد الشيطان ، وأنه لم يزل ضعيفاً . وقيل : هي بمعنى صار أي : صار ضعيفاً بالإسلام . وقول من زعم : أنها زائدة ، ليس بشيء . وقال الحسن : أخبرهم أنهم سيظهرون عليهم ، فلذلك كان ضعيفاً .
النساء : ( 77 ) ألم تر إلى . . . . .
( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ( خرّج النسائي في سنته عن ابن عباس : أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بمكة فقالوا : يا نبيّ الله كنا في عز ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة . فقال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ، فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا ، فأنزل الله هذه الآية . ونحو هذا روي عن قتادة والسدي ومقاتل . وروي عن ابن عباس أيضاً : نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمن المتقدم . قال أبو سليمان الدمشقي : كأنه يومىء إلى قصة الذين قالوا : ( ابعث لنا مليكاً ) . وقال مجاهد : نزلت في اليهود . وقال الحسن : في

" صفحة رقم 309 "
المؤمنين لقوله : يخشون الناس ، أي : مشركي مكة . والخشية هي ما طبع عليه البشر من المخافة ، لا على المخالفة . ونحو ما قال الحسن . قال الزمخشري : قال كعّ فريق منهم لا شكاً في الدين ولا رغبة عنه ، ولكن نفوراً عن الأخطار بالأرواح ، وخوفاً من الموت . وقال قوم : كان كثير من العرب استحسنوا الدخول في الدين على فرائضه التي قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها ، والموادعة ، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم وجزعوا له ، فنزلت .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأنه تعالى لما أمر بالقتال حين طلبوه وجب امتثال أمر الله ، فلما كعَّ عنه بعضهم قال تعالى : ألا تعجب يا محمد من ناس طلبوا القتال فأمروا بالموادعة ، فلما كتب عليهم فرق فريق وجزع . ومعنى كفوا أيديكم : أي عن القتال ، يدل عليه : فلما كتب عليهم القتال . وقال أبو عبد الله الرازي : لا يقال كفوا إلا للراغبين فيه ، وهم المؤمنون . وقيل : يريد المنافقين . وإنما قال : كفوا لأنهم كانوا يظهرون الرغبة فيه انتهى .
وقال أيضاً : ودلت الآية على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدماً على إيجاب الجهاد ، وهذا الترتيب هو المطابق لما في العقول ، لأن الصلاة عبارة عن التعظيم لأمر الله ، والزكاة عبارة عن الشفقة على خلق الله . ولا شك أنهما متقدمان على الجهاد . والفريق إمّا منافقون ، وإما مؤمنون ، أو ناس في الزمان المتقدم ، أو أسلموا قبل فرض القتال حسب اختلاف سبب النزول . والناس هنا أهل مكة قاله الجمهور ، أو كفار أهل الكتاب ومشركو العرب .
ولمّا حرف وجوب لوجوب على مذهب سيبويه ، وظرف زمان بمعنى حين على مذهب أبي علي . وإذا كانت حرفاً وهو الصحيح فجوابه إذا الفجائية ، وإذا كانت ظرفاً فيحتاج إلى عامل فيها فيعسر ، لأنه لا يمكن أن يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، ولا يمكن أن يعمل في لما الفعل الذي يليها ، لأنّ لمّا هي مضافة إلى الجملة بعدها . فقال بعضهم : العامل في لمّا معنى يخشون ، كأنه قيل : جزعوا . قال : وجزعوا هو العامل في إذا بتقدير الاستقبال . وهذه الآية مشكلة لأن فيها ظرفين أحدهما : لما مضى ، والآخر : لما يستقبل انتهى . والذي نختاره مذهب سيبويه في لمّا ، وأنها حرف . ونختار أنّ إذا الفجائية ظرف مكان يصح أن يجعل خبراً للاسم المرفوع بعده على الابتداء ، ويصح أن يجعل معمولاً للخبر . فإذا قلت : لما جاء زيد إذا عمرو قائم ، يجوز نصب قائم على الحال . وإذا حرف يصح رفعه على الخبر ، وهو عامل في إذا . وهنا يجوز أن يكون إذا معمولاً ليخشون ، ويخشون خبر فريق . ويجوز أن يكون خبراً ، ويخشون حال من فريق ، ومنهم على الوجهين صفة لفريق . ومن زعم أنَّ إذا هنا ظرف زمان لما يستقبل فقوله فاسد ، لأنه إن كان العامل فيها ما قبلها استحال ، لأن كتب ماض ، وإذا للمستقبل . وإن تسومح فجعلت إذا بمعنى إذْ صار التقدير : فلما كتب عليهم القتال في وقت خشية فريق منهم ، وهذا يفتقر إلى جواب لما ، ولا جواب لها . وإن كان العامل فيها ما بعدها ، احتاجت إلى جواب هو العامل فيها ، ولا جواب لها . والقول في إذا الفجائية : أهي ظرف زمان ؟ أم ظرف مكان ؟ أم حرف مذكور في علم النحو ؟ والكاف في كخشية الله في موضع نصب . قيل : على أنه نعت لمصدر محذوف أي : خشية كخشية الله . وعلى ما تقرر من مذهب سيبويه أنها على الحال من ضمير الخشية المحذوف ، أي : يخشونها الناس أي : يخشون الخشية الناس مشبهة خشية الله .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما محل كخشية الله من الإعراب ؟ ( قلت ) : محلها النصب على الحال من الضمير في يخشون ، أي : يخشون الناس مثل أهل خشية الله أي :

" صفحة رقم 310 "
مشبهين لأهل خشية الله . أو أشد خشية ، يعني : أو أشد خشية من أهل خشية الله . وأشد معطوف على الحال . ( فإن قلت ) : لم عدلت عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدره : يخشون خشية الله ، بمعنى مثل ما يخشى الله ؟ ( قلت ) : أبى ذلك قوله : أو أشد خشية ، لأنه وما عطف عليه في حكم واحد . ولو قلت : يخشون الناس أشدّ خشية لم يكن إلا حالاً عن ضمير الفريق ، ولم ينتصب انتصاب المصدر ، لأنك لا تقول : خشي فلان أشد خشية ، فتنصب خشية وأنت تريد المصدر ، إنما تقول : أشد خشية فتجرها ، وإذا نصبتها لم يكن أشد خشية إلا عبارة عن الفاعل حالاً منه ، اللهم إلا أنْ تجعل الخشية خاشية على حد قولهم : جد جده ، فتزعم أن معناه يخشون الناس خشية مثل خشية أشدّ خشية من خشية الله . ويجوز على هذا أن يكون محل أشدّ مجروراً عطفاً على خشية الله ، يريد : كخشية الله أو كخشية أشدّ خشية منها انتهى كلامه . وقد يصح خشية ، ولا يكون تمييزاً فيلزم من ذلك ما التزمه الزمخشري ، بل يكون خشية معطوفاً على محل الكاف ، وأشدّ منصوباً على الحال لأنه كان نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال والتقدير : يخشون الناس مثل خشية الله أو خشية أشد منها . وقد ذكرنا هذا التخريج في قوله تعالى : ) أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ( وأوضحناه هناك . وخشية الله مصدر مضاف إلى المفعول ، والفاعل محذوف أي : كخشيتهم الله . وأو على بابها من الشك في حق المخاطب ، وقيل : للإبهام على المخاطب . وقيل : للتخيير . وقيل : بمعنى الواو . وقيل : بمعنى بل . وتقدّم نظير هذه الأقوال في قوله : ) أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ( ولو قيل أنها للتنويه ، لكان قولاً يعني : أنّ منهم من يخشى الناس كخشية الله ، ومنهم من يخشاهم خشية تزيد على خشيتهم الله .
( وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ( الظاهر أن القائلين هذا : هم منافقون ، لأن الله تعالى إذا أمر بشيء لا يسأل عن علته من هو خالص الإيمان ، ولهذا جاء السياق بعده : ) وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ ( وهذا لا يصدر إلا من منافق . ولولا للتحضيض بمعنى هلاّ وهي كثيرة في القرآن . والأجل القريب هنا هو موتهم على فرشهم كذا قاله المفسرون . وذكر في حرف ابن مسعود : لولا أخرتنا إلى أجل قريب فنموت حتف أنفنا ولا نقتل ، فتسر بذلك الأعداء . ومن قال : إنه من قول المؤمنين ، فيكونون قد طلبوا التأخير في كتب القتال إلى وقت ظهور الإسلام وكثرته ، وهو بعيد . لأن لفظ لم رد في صدر أمر الله ، وعدم استسلامهم له مع قولهم : وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . وقال الزمخشري : لولا أخرتنا إلى أجل قريب استزادة في مدّة الكف ، واستمهال إلى وقت آخر كقوله : ) لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ). وقال الراغب : وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ، يجوز أن يكون تفوهوا به ، ويجوز أن يكون اعتقدوه وقالوا في أنفسهم ، فحكى تعالى ذلك عنهم تنبيهاً على أنهم لما استصعبوا ذلك دل استصعابهم على أنهم غير واثقين بأحوالهم .
( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاْخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ اتَّقَى ( تقدم الكلام على كون متاع الدنيا قليلاً في قوله : ) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ( وإنما قل : لأنه فان ، ونعيم الآخرة مؤبد ، فهو خير لمن اتقى الله وامتثل أمره في ما أحب ، وفي ما كان شاقاً من قتال وغيره . وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير : ولا يظلمون بالياء ، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب ، وهو التفات أي : لا تنقصون من أجور أعمالكم ومشاق التكاليف أدنى شيء ، فلا ترغبوا عن الأجر .
النساء : ( 78 ) أينما تكونوا يدرككم . . . . .
( أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ( أي : هذا التأخر الذي سألوه لا فائدة فيه ، لأنه لا منجي من الموت سواء أكان بقتل أم بغيره ، فلا فائدة في خور الطبع وحب الحياة . وتحتمل هذه الجملة أن يكون ذلك تحت معمول قل ، ويحتمل أن يكون إخباراً من الله مستأنفاً بأنه لا

" صفحة رقم 311 "
ينجو من الموت أحد . والبروج هنا القصور في الأرض ، قاله : مجاهد ، وابن جريج ، والجمهور . أو القصور من حديد ، روي عن ابن عباس . أو قصور في سماء الدنيا مبنية قاله : السدّي . أو الحصون والآكام والقلاع قاله : ابن عباس . أو البيوت التي تكون فوق الحصون قاله : بعضهم . أو بروح السماء التي هي منازل القمر قاله : الربيع أنس ، والثوري ، وحكاه ابن القاسم عن مالك . وقال : ألا ترى إلى قوله : ) وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ( وجعل فيها بروجاً ) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاء بُرُوجًا ( وقال زهير : ومن هاب أسباب المنية يلقها
ولو رام أسباب السماء بسلم
مشيدة مطولة قاله : أبو مالك ، ومقاتل ، وابن قتيبة ، والزجاج . أو مطلية بالشيد قاله : أبو سليمان الدمشقي . أو حصينة قاله : ابن عباس ، وقتادة . ومن قال : أنها بروج في السماء فلأنها بيض شبهها بالمبيض بالشيد ، ولهذا قال الذي هي قصور بيض في السماء مبنية .
والجزم في يدرككم على جواب الشرط ، وأينما تدل على العموم ، وكأنه قيل : في أي مكان تكونون فيه أدرككم الموت . ولو هنا بمعنى إن ، وجاءت لدفع توهم النجاة من الموت بتقدير : إن لو كانوا في بروج مشيدة ، ولإظهار استقصاء العموم في أينما . وقرأ طلحة بن سليمان : يدرككم برفع الكافين ، وخرجه أبو الفتح : على حذف فاء الجواب أي : فيدرككم الموت وهي قراءة ضعيفة . قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : حمل على ما يقع موقع أينما تكونوا ، وهو : أينما كنتم كما حمل ولا ناعب على ما يقع موقع ليسوا مصلحين ، وهو ليسوا بمصلحين . فرفع كما رفع زهير يقول : لا غائب ما لي ولا حرم . وهو قول نحوي سيبويهي انتهى . ويعني : أنه جعل يدرككم ارتفع لكون أينما تكونوا في معنى أينما كنتم ، بتوهم أنه نطق به . وذلك أنه متى كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ فإنه يجوز في المضارع بعده وجهان : أحدهما : الجزم على الجواب . والثاني : الرفع . وفي توجيه الرفع خلاف ، الأصح أنّه ليس الجواب ، بل ذلك على التقديم والتأخير ، والجواب محذوف . وإذا حذف الجواب فلا بد أن يكون فعل الشرط ماضي اللفظ ، فتخريج هذه القراءة على هذا يأباه كون فعل الشرط مضارعاً . وحمله علي ولا ناعب ليس بجيد ، لان ولا ناعب عطف على التوهم ، والعطف على لتوهم لا ينقاس . وقال الزمخشري أيضاً ويجوز أن يتصل بقوله : ) وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ( أي : لا تنقصون شيئاً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها . ثم ابتدأ بقوله : يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ، والوقف على هذا الوجه أينما تكونوا انتهى كلامه . وهذا تخريج ليس بمستقيم ، لا من حيث المعنى ، ولا من حيث الصناعة النحوية . أما من حيث المعنى فإنه لا يناسب أن يكون متصلاً بقوله : ولا تظلمون فتيلاً ، لأن ظاهر انتفاء الظلم إنما هو في الآخرة لقوله : ) قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاْخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ اتَّقَى ( وأما من حيث الصناعة النحوية فإنه على ظاهر كلامه يدل على أنَّ أينما تكونوا متعلق بقوله : ولا تظلمون ، ما فسره من قوله أي : لا تنقصون شيئماً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحرب أو غيرها ، وهذا لا يجوز ، لأن أينما اسم شرط ، فالعامل فيه إنما هو فعل الشرط بعده . ولأن اسم الشرط لا يتقدم عليه عامله ، فلا يمكن أن يعمل فيه ، ولا تظلمون . بل إذا جاء نحو : اضرب زيداً متى جاء ، لا يجوز أن يكون الناصب لمتى اضرب . فإن قال : يقدّر له جواب محذوف يدل عليه ما بله وهو : ولا تظلمون ، كما تقدر في اضرب زيداً : متى جاء ، فالتقدير : أينما تكونوا فلا تظلمون فتيلاً أي :

" صفحة رقم 312 "
فلا ينقص شيء من آجالكم وحذفه لدلالة ما قبله عليه . قيل له : لا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط بصيغة الماضي ، وفعل الشرط هنا مضارع . تقول العرب : أنت ظالم إن فعلت ، ولا تقل أنت ظالم إن تفعل . وقرأ نعيم بن ميسرة : مشيدة بكسر الياء وصفاً لها بفعل فاعلها مجازاً ، كما قال : قصيدة شاعرة ، وإنما الشاعر ناظمها .
( وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ ( قال ابن عباس : الضمير للمنافقين واليهود ، وقال الحسن : للمنافقين ، وقال السدي : لليهود . والظاهر أنه للمنافقين لأن مثل هذا لا يصدر من مؤمن ، واليهود لم يكونوا في طاعة الإسلام حتى يكتب عليهم القتال . وروي عن ابن عباس : أن الحسنة هنا هي السلامة والأمن ، والسيئة الأمراض والخوف . وعنه أيضاً : الحسنة الخصب والرخاء ، والسيئة الجدب والغلاء . وعنه أيضاً : الحسنة السراء ، والسيئة الضراء . وقال الحسن وابن زيد : الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر ، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد . وقيل : الحسنة الغنى ، والسيئة الفقر . والمعنى : أن هؤلاء المنافقين إذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى الله تعالى ، وأنها ليست باتباع الرسول ، ولا الإيمان به ، وإنّ تصبهم سيئة أضافوها إلى الرسول وقالوا : هي بسببه ، كما جاء في قوم موسى : ) وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ( وفي قوم صالح : ) قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ). وروى جماعة من المفسرين أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما قدم المدينة قال اليهود والمنافقون : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه .
( قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللَّهِ ( أمر الله نبيه أن يخبرهم أنَّ كلاً من الحسنة والسيئة إنما هو من عند الله ، لا خالق ولا مخترع سوا ، فليس الأمر كما زعمتم ، فالله تعالى وحده هو النافع الضار ، وعن إرادته تصدر جميع الكائنات .
( فَمَالِ هَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ( هذا استفهام معناه التعجب من هذه المقالة ، وكيف ينسب ما هو من عند الله لغير الله ؟ أي أن هؤلاء كانوا ينبغي لهم أن يكونوا ممن يتفهم الأشياء ، ويتوقفون عما يريدون أن يقولوا حتى يعرضوه على عقولهم . وبالغ تعالى في قلة فهمهم وتعلقهم ، حتى نفى مقاربه الفقه ، ونفى المقاربة أبلغ من نفي الفعل . وهذا النوع من الاستفهام يتضمن إنكار ما استفهم عن علته ، وأنه ينبغي أن يوجد مقابله . فإذا قيل : ما لك قائماً ، فهو إنكار للقيام ، ومتضمن أن يوجد مقابله . وإذا قيل : ما لك لا تقوم ، فهو إنكار لترك القيام ، ومتضمن أن يوجد مقابله . قيل في قوله : حديثاً ، أي القرآن لو تدبروه لبصرهم في الدين ، وأورثهم اليقين . وقال ابن بحر : لامهم على ترك التفقه فيما أعلمهم به وأدبهم في كتابه . ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله : فما ، ووقف الباقون على اللام في قوله : فمال ، اتباعاً للخط . ولا ينبغي تعمد ذلك ، لأن الوقف على فما فيه قطع عن الخبر ، وعلى اللام فيه قطع عن المجرور دون حرف الجر ، وإنما يكون ذلك لضرورة انقطاع النفس .
(
النساء : ( 79 ) ما أصابك من . . . . .
( مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ( )
) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ( الخطاب عام كأنه قيل : ما أصابك يا إنسان . وقيل : للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمراد غيره . وقال ابن بحر : هو خطاب للفريق في قوله : ) إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ ( قال : ولما كان لفظ الفريق مفرداً ، صح أن يخبر عنه بلفظ الواحد تارة ، وبلفظ الجمع تارة . وعليه قوله : تفرق أهلاً نابثين فمنهم
فريق أقام واستقل فريق

" صفحة رقم 313 "
هذا مقتضى اللفظ . وأما المعنى بالناس خاصتهم وعامتهم مراد بقوله : ما أصابك من حسنة . وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحسن ، وابن زيد ، والربيع ، وأبو صالح : معنى الآية أنه أخبر تعالى على سبيل الاستئناف والقطع أنَّ الحسنة منه بفضله ، والسيئة من الإنسان بذنوبه ، ومن الله بالخلق والاختراع . وفي مصحف ابن مسعود : فمن نفسك ، وإنما قضيتها عليك ، وقرأ بها ابن عباس . وحكى أبو عمرو : أنها في مصحف ابن مسعود ، وأنا كتبتها . وروي أن ابن مسعود وأبياً قرآ : وأنا قدرتها عليك . ويؤيد هذا التأويل أحاديث عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) معناها : ) إِنَّ مَا يُصَيبُ الاْنْسَانُ مِن ( وقالت طائفة : معنى الآية هو على قول محذوف تقديره : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ؟ يقولون : ما أصابك من حسنة الآية . والابتداء بقوله : ) أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ ( والوقف على قوله : فمن نفسك . وقالت طائفة : ما أصابك من حسنة فمن الله ، هو استئناف إخبار من الله أنَّ الحسنة منه وبفضله . ثم قال : وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، على وجه الإنكار والتقدير : وألف الاستفهام محذوفة من الكلام كقوله : ) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ ( أي : وتلك نعمة . وكذا ) بَازِغاً قَالَ هَاذَا رَبّى ( على أحد الأقوال ، والعرب تحذف ألف الاستفهام قال أبو خراش : رموني وقالوا يا خويلد لم ترع
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أي : أهم هم . وحكى هذا الوجه عن ابن الأنباري . وروى الضحاك عن ابن عباس أن الحسنة هنا ما أصاب المسلمين من الظفر والغنيمة يوم بدر ، والسيئة ما نكبوا به يوم أحد . وعن عائشة رضي الله عنها : ( ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب ، حتى الشوكة يشاكها ، حتى انقطاع نعله إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ) . وقال تعالى : ) وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فِيمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ).
وقد تجاذبت القدرية وأهل السنة الدلالة من هذه الآيات على مذاهبهم ، فتعلقت القدرية بالثانية وقالوا : ينبغي أن لا ينسب فعل السيئة إلى الله بوجه ، وجعلوا الحسنة والسيئة في الأولى بمعنى الخصب والجدب والغنى والفقر . وتعلق أهل السنة بالأولى وقالوا : ) قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللَّهِ ( عام يدل على أن الأفعال الظاهرة من العباد هي من الله تعالى ، وتأولوا الثانية وهي : مسألة يبحث عنها في أصول الدين . وقال القرطبي : هذه الآيات لا يتعلق بها إلا الجهال من الفريقين ، لأنّهم بنوا ذلك على أنّ السيئة هي المعصية ، وليست كذلك . والقدرية قالوا : ما أصابك من حسنة أي : من طاعة فمن الله ، وليس هذا اعتقادهم ، لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذاهبهم : أنّ الحسنة فعل المحسن ، والسيئة فعل المسيء . وأيضاً فلو كان لهم فيه حجة لكان يقول : ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ، لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعاً ، فلا تضاف إليه إلا بفعله لهما لا يفعل غيره ، نص على هذا الإمام أبو الحسن شيث بن إبراهيم بن محمد بن حيدر في كتابه المسمى بحزّ العلاصم في إفحام المخاصم .
وقال الراغب : إذا تؤمّل مورد الكلام وسبب النزول فلا تعلق لأحد الفريقين بالآية على

" صفحة رقم 314 "
وجه يثلج صدراً أو يزيل شكاً ، إذ نزلت في قوم أسلموا ذريعة إلى غنى وخصب ينالونه ، وظفر يحصلونه ، فكان أحدهم إذا نابتة نائبة ، أو فاته محبوب ، أو ناله مكروه ، أضاف سببه إلى الرسول متطيراً به . والحسنة هنا والسيئة كهما في : ) وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ ( وفي ) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ( انتهى . وقد طعن بعض الملاحدة فقال : هذا تناقض ، لأنه قال : قل كل من عند الله وقال عقيبه : ما أصابك من حسنة الآية . وقال الراغب : وهذا ظاهر الوهى ، لأن الحسنة والسيئة من الألفاظ المشتركة كالحيوان الذي يقع على الإنسان والفرس والحمار . ومن الأسماء المختلفة كالعين . فلو أنّ قائلاً قال : الحيوان المتكلم والحيوان غير المتكلم ، وأراد بالأول الإنسان ، وبالثاني الفرس أو الحمار ، لم يكن متناقضاً . وكذلك إذا قال : العين في الوجه ، والعين ليس في الوجه ، وأراد بالأولى الجارحة ، وبالثانية عين الميزان أو السحاب . وكذلك الآية أريد بهما في الأولى غير ما أريد في الثانية كما بيناه انتهى .
والذي اصطلح عليه الراغب بالمشتركة وبالمختلفة ليس اصطلاح الناس اليوم ، لأن المشترك هو عندهم كالعين ، والمختلفة هي المتباينة . والراغب جعل الحيوان من الأسماء المشتركة وهو موضوع للقدر المشترك ، وجعل العين من الأسماء المختلفة وهو في الاصطلاح اليوم من المشترك . قال بعض أهل العلم : والفرق بين من عند الله ، ومن الله : أنَّ من عند الله أعم . يقال : فيما كان برضاه وبسخطه ، وفيما يحصل ، وقد أمر به ونهى عنه ، ولا يقال : هو من الله إلا فيما كان برضاه وبأمره ، وبهذا النظر قال عمر : إنْ أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمن الشيطان انتهى . وعنى بالنفس هنا المذكورة في قوله : ) إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوء ( وقرأت عائشة رضي الله عنها : فمن نفسك بفتح الميم ورفع السين ، فمن استفهام معناه الإنكار أي : فمن نفسك حتى ينسب إليها فعل المعنى ما للنفس في الشيء فعل .
( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً ( أخبر تعالى أنه قد أزاح عللهم بإرساله ، فلا حجة لهم لقوله : ) وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( وللناس عام عربهم وعجمهم ، وانتصب رسولاً على الحال المؤكدة . وجوّز أن يكون مصدراً بمعنى إرسالاً ، وهو ضعيف .
( وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ( أي مطلعاً على ما يصدر منك ومنهم ، أو شهيداً على رسالتك . ولا ينبغي لمن كان الله شاهده إلا أن يطاع ويتبع ، لأنه جاء بالحق والصدق ، وشهد الله له بذلك .
وقد تضمنت هذه الآيات من البيان والبديع : الاستعارة في : يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، وفي : فسوف نؤتيه أجراً عظيماً لما يناله من النعيم في الآخرة ، وفي : سبيل الله ، وفي : سبيل الطاغوت ، استعار الطريق للاتباع وللمخالفة وفي : كفوا أيديكم أطلق كف اليد الذي هو مختص بالإجرام على الإمساك عن القتال . والاستفهام الذي معناه الاستبطاء والاستبعاد في : وما لكم لا تقاتلون . والاستفهام الذي معناه التعجب في : ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا . والتجوز بفي التي للوعاء عن دخولهم في : الجهاد . والالتفات في : فسوف نؤتيه في قراءة النون . والتكرار في : سبيل الله ، وفي : واجعل لنا من لدنك ، وفي : يقاتلون ، وفي : الشيطان ، وفي : وإن تصبهم ، وفي : ما أصابك وفي : اسم الله . والطباق اللفظي في : الذين آمنوا والذين كفروا . والمعنوي في : سبيل الله طاعة وفي سبيل الطاغوت معصية . والاختصاص في : إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ، وفي : والآخرة خير لمن اتقى . والتجوز بإسناد الفعل إلى غير فاعله في : يدرككم الموت ، وفي : إن تصبهم ، وفي : ما أصابك . والتشبيه في : كخشية . وإيقاع أفعل التفضيل حيث لا مشاركة في : خير لمن اتقى . والتجنيس المغاير في : يخشون وكخشية . والحذف في مواضع .
2 ( ) مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِض

" صفحة رقم 315 "
عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الاٌّ مْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الاٌّ مْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقِيتاً وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَسِيباً } )
النساء : ( 80 ) من يطع الرسول . . . . .
التبييت قال الأصمعي وأبو عبيدة وأبو العباس : كل أمر قضي بليل ، قيل : قد بيت . وقال الزجاج : كل أمر مكر فيه أو خيض بليل فقد بيت . وقال الشاعر : أتوني فلم أرض ما بيتوا
وكانوا أتوني بأمر نكر
وقال الأخفش : العرب تقول للشيء إذا قدر : بيت . وقال أبو رزين : بيت ألف . وقيل : هيىء وزور . وقيل : قصد ، ومنه قول الشاعر : لما تبيتنا أخا تميم
أعطى عطاء اللحز اللئيم
أي : قصدنا . وقيل : التبييت التبديل بلغة طيىء ، قال شاعرهم :
وتبييت قولي عند المليك قاتلك الله عبداً كفوراً التدبر : تأمل الأمر والنظر في إدباره وما يؤول إليه في عاقبته ، ثم استعمل في كل تأمل . والدبر : المال الكثير ، سمي بذلك لأنه يبقى للإعقاب وللإدبار قاله : الزجاج وغيره .
الإذاعةُ : إظهار الشيء وإفشاؤه يقال : ذاع ، يذيع ، وأذاع ، ويتعدى بنفسه وبالباء ، فيكون إذ ذاك أذاع في معنى الفعل المجرّد . قال أبو الأسود : أذاعوا به في الناس حتى كأنه
بعلياء نار أوقدت بثقوب
الاستنباط : الاستخراج ، والنبط الماء يخرج من البئر أول ما تحفر ، والانباط والاستنباط إخراجه . وقال الشاعر :

" صفحة رقم 316 "
نعم صادقاً والفاعل القائل الذي
إذا قال قولاً نبطاً الماء في الثرى
وقال ابن الأعرابي : يقال للرّجل إذا كان بعيد العز والمنعة ما يجد عدوه له : نبطاً . قال كعب : قريب تراه لا ينال عدوّه
له نبطاً آبى الهوان قطوب
والنبط الذين يستخرجون المياه والنبات من الأرض . وقال الفراء : نبط مثل استنبط ، ونبط الماء ينبُط بضم الباء وفتحها . التحريض : الحث . التنكيل : الأخذ بأنواع العذاب وترديده على المعذب ، وكأنه مأخوذ من النكل وهو : القيد . الكفل : النصيب ، والنصيب في الخير أكثر استعمالاً . والكفل في الشر أكثر منه في الخير . المقيت : المقتدر . قال الزبير بن عبد المطلب : وذي ضغن كففت النفس عنه
وكان على إساءته مقيتاً
أي مقتدراً . وقال السموءل : ليت شعري واشعرت إذا ما
قربوها منشورة ودعيت
أتى الفصل ثم عليّ إذا حو
سبت أني على الحساب مقيت
وقال أبو عبيدة : المقيت الحاضر . وقال ابن فارس : المقيت المقتدر ، والمقيت : الحافظ والشاهد . وقال النحاس : هو مشتق من القوت ، والقوت مقدار ما يحفظ به الإنسان من التلف . التحية قال عبد الله بن إدريس : هي الملك وأنشد : أوّم بها أبا قابوس حتى
أنيخ على تحيته بجندي

" صفحة رقم 317 "
وقال الأزهري : التحية بمعنى الملك ، وبمعنى البقاء ، ثم صارت بمعنى السلامة . انتهى . ووزنها تفعلة ، وليس الإدغام في هذا الوزن واجباً على مذهب المازني ، بل يجوز الإظهار كما قالوا : أعيبة بالإظهار ، وأعية بالإدغام في جمع عبي . وذهب الجمهور إلى أنه يجب الإدغام في تحية ، والكلام على المذهبين مذكور في كتب النحو .
( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ( قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من أحبني فقد أحب الله ) فاعترضت اليهود فقالوا : هذا محمد يأمر بعبادة الله ، وهو في هذا القول مدع للربوبية فنزلت . وفي رواية : قال المنافقون لقد قارب الشرك . وفي رواية : قالوا ما يريد هذا الرجل إلا أن يتخذ رباً كما اتخذت النصارى عيسى . وتعلق الطاعتين لأنّه لا يأمر إلا بما أمر الله به ، ولا ينهى إلا عن ما نهى الله عنه ، فكانت طاعته في ذلك طاعة الله . ومن تولى بنفاق أو أمر فما أرسلناك هذا التفات ، إذ لو جرى على الرسول لكان فما أرسله . والحافظ هنا المحاسب على الأعمال ، أو الحافظ للأعمال ، أو الحافظ من المعاصي ، أو الحافظ عن التولي ، أو المسلط من الحفاظ أقوال . وتتضمن هذه الآية الإعراض عمن تولى ، والترك رفقاً من الله ، وهي قبل نزول القتال .
النساء : ( 81 ) ويقولون طاعة فإذا . . . . .
( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ ( نزلت في المنافقين باتفاق . أي : أمرتهم بشيء قالوا طاعة ، أي : أمرنا طاعة ، أو منا طاعة . قال الزمخشري : ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة ، وهذا من قول المرتسم سمعاً وطاعة ، وسمع وطاعة ، ونحوه قول سيبويه . وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له : كيف أصبحت ؟ فيقول : حمداً لله وثناء عليه ، كأنه قال : أمري وشأني حمد الله . ولو نصب حمد الله وثناء عليه كان على الفعل ، والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها انتهى . ولا حاجة لذكر ما لم يقرأ به ولا لتوجيهه ولا لتنظيره بغيره ، خصوصاً في كتابه الذي وضعه على الاختصار لا على التطويل .
( فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ ( أي إذا خرجوا من عندك رووا وسووا أي : طائفة منهم غير الذي تقوله لك يا محمد من إظهار الطاعة ، وهم في الباطن كاذبون عاصون ، فعلى هذا الضمير في تقول عائد على الطائفة ، وهو قول ابن عباس . وقيل : يعود على الرسول أي : غير الذي تقوله وترسم به يا محمد ، وهو الخلاف والعصيان المشتمل عليه بواطنهم . ويؤيد هذا التأويل قراءة عبد الله بيت مبيت منهم يا محمد . وقرأ يحيى بن يعمر يقول : بالياء ، فيحتمل أن يكون الضمير للرسول ، ويكون التفاتاً إذ خرج من ضمير الخطاب في من عندك ، إلى ضمير الغيبة . ويحتمل أن يعود على الطائفة ، لأنها في معنى القوم أو الفريق ، وخص طائفته بالتبيين لأنه لم يكونوا ليجتمعوا كلهم في دار واحدة ، أو لأنه إخبار عن من علم الله أنه يبقى على كفره ونفاقه . وأدغم حمزة وأبو عمرو بيت طائفة ، وأظهر الباقون .
( وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ ( أي : يكتبه في صحائف أعمالهم حسبما تكتبه الحفظة ليجازوا به . وقال الزجاج : يكتبه في كتابه إليك ، أي : ينزله في القرآن ويعلم به ويطلع على سرهم . وقيل : يكتب يعلم عبر بالكتابة عن العلم ، لأنه من ثمراتها .
( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ( هذا مؤكد لقوله : ) وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ( أي لا تحدث نفسك بالانتقام منهم . وليس المعنى فاعرض عن دعوتهم إلى الإيمان وعن وعظهم . وقال الضحاك : معنى أعرض عنهم لا تخبر بأسمائهم فيجاهروك بالعداوة بعد المجاملة في القول ، ثم أمره بإدامة التوكل عليه ، هو ينتقم لك منهم ، وهذا أيضاً قبل نزول القتال .
النساء : ( 82 ) أفلا يتدبرون القرآن . . . . .
( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ ( قرأ الجمهور : يتدبرون بياء وتاء بعدها على الأصل . وقرأ ابن محيص : بإدغام التاء في الدال ، وهذا استفهام معناه الإنكار أي : فلا يتأملون ما نزل عليك من الوحي ولا يعرضون عنه ، فإنه في تدبره يظهر برهانه وسطع نوره ولا يظهر ذلك لمن أعرض عنه ولم يتأمله .
( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( الظاهر أن المضمر في فيه عائد على القرآن ، وهذا في علم البيان الاحتجاج النظري ، وقوم يسمونه المذهب الكلامي

" صفحة رقم 318 "
ووجه هذا الدليل أنه ليس من متكلم كلاماً طويلاً إلا وجد في كلامه اختلاف كثير ، إما في الوصف واللفظ ، وإما في المعنى بتناقض أخبار ، أو الوقوع على خلاف المخبر به ، أو اشتماله على ما لا يلتئم ، أو كونه يمكن معارضته . والقرآن العظيم ليس فيه شيء من ذلك ، لأنه كلام المحيط بكل شيء مناسب بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء ، وتظافر صدق أخبار ، وصحة معان ، فلا يقدر عليه إلا العالم بما لا يعلمه أحد سواه .
قال ابن عطية : فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافاً فالواجب أن يتهم نظره ، ويسأل من هو أعلم منه . وما ذهب إليه بعض الزنادقة المعاندين من أنّ فيه أحكاماً مختلفة وألفاظاً غير مؤتلفة فقد أبطل مقالتهم علماء الإسلام ، وما جاء في القرآن من اختلاف في تفسير وتأويل وقراءة وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وعام وخاص ومطلق ومقيد فليس هو المقصود في الآية ، بل هذه من علوم القرآن الدالة على اتساع معانيه ، وأحكام مبانيه . وذهب الزجاج إلى أنَّ الضمير في فيه عائد على ما يخبره به الله تعالى مما يبيتون ويسرون ، والمعنى : أنّك تخبرهم به على حد ما يقع ، وذلك دليل على أنه من عند الله غيب من الغيوب . وفي ذكر تدبر القرآن ردّ على من قال من الرافضة : إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
النساء : ( 83 ) وإذا جاءهم أمر . . . . .
( وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الاْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ ( روى مسلم من حديث ابن عباس عن عمر : ( أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما اعتزل نساءه ، فدخل عمر المسجد فسمع الناس يقولون : طلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) نساءه ، فدخل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فسأله : أطلقت نساءك ؟ قال : لا . فخرج فنادى : ألا إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يطلق نساءه ، فنزلت ) . وكان هو الذي استنبط الأمر ، وروى أبو صالح عن ابن عباس : أن الرسول كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت ، أو غلبت ، تحدثوا بذلك وأفشوه ولم يصبروا حتى يكون هو المحدث به ، فنزلت . والضمير في : جاءهم على المنافقين ، قاله ابن عباس والجمهور . أو على ناس من ضعفة المؤمنين قاله : الحسن والزجاج . ولم يذكر الزمخشري غيره أو عليهما نقله ابن عطية ، أو على اليهود قاله بعضهم . والأمر من الأمن أو الخوف فوز السرية بالظفر والغنيمة ، أو الخيبة والنكبة ، فيبادرون بإفشائه قبل أن يخبر الرسول بذلك . أو ما كان ينزل من الوحي بالوعظ بالظفر ، أو بتخفيف من جهة الكفار ، كان يسر النبي عليه السلام ذلك إليهم فيفشونه ، وكان في ذلك مضرّة على المسلمين ، أو ما يعزم عليه النبي من الوداعة والأمان لقوم ، والخوف الخبر يأتي أنّ قوماً يجمعون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيخاف المسلمون منهم قاله : الزجاج ، والماوردي ، وأبو سليمان الدمشقي . وقال ابن عطية : المعنى أنّ المنافقين كانوا يشرئبون إلى سماع ما يسوء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في سراياه ، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين ، أو فتح عليهم ، حقروها وصغروا شأنها انتهى . والضمير في به عائد على الأمر ، قيل : ويجوز أن يعود على الأمن أو الخوف ، ووحد الضمير لأن ، أو تقتضي أحدهما .
( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ( أي : ولو ردُّوا الأمرالذي بلغهم إلى الرسول وأولي الأمر وهم : الخلفاء الأربعة ومن يجري على سننهم ، قاله : ابن عباس ، أو أبو بكر ، وعمر خاصة ، قاله : عكرمة . أو أمراء السرايا قاله : السدي ، ومقاتل ، وابن زيد . أو العلماء من الصحابة قاله : الحسن ، وقتادة ، وابن جريج . والمعنى : لو أمسكوا عن الخوض فيما بلغهم ، واستقصوا الأمر من الرسول وأولي الأمر ، لعلم حقيقة ذلك الأمر الوارد من له

" صفحة رقم 319 "
بحث ونظر وتجربة ، فأخبروهم بحقيقة ذلك ، وأنّ الأمر ليس جارياً على أول خبر يطرأ .
قال الزمخشري : هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال والاستبطان للأمور ، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أمن وسلامة أو خوفٍ وخللٍ أذاعوا به ، وكانت إذاعتهم مفسدة . ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله ، وإلى أولي الأمر منهم وهم : كبار الصحابة البصراء بالأمور ، أو الذين كانوا يؤمرون منهم لعلمه ، لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستنبطونه أي : الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها . وقيل : كانوا يقفون من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء ، أو على خوف واستشعار ، فيذيعونه فينشر ، فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة ، ولو ردوه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم ، وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمه الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه ، وما يأتون ويدرون فيه . وقيل : كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن السرايا مظنوناً غير معلوم الصحة فيذيعونه ، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر ، وقالوا : نسكت حتى نسمعه منهم ، ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع ؟ لعلمه الذين يستنبطونه منهم لعلم صحته ، وهل هو مما يذيع هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر أي : يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم انتهى كلامه .
وهذه كلها تأويلات حسنة ، وأجراها على نسق الكلام هذا التأويل الأخير وهو : أنّ المعنى إذا طرأ خبر بأمن المسلمين أو خوف ، فينبغي أن لايشاع ، وأن يردّ إلى الرسول وأولي الأمر ، فإنهم يخبرون عن حقيقة الأمر فيعلمه من يسألهم ، ويستخرج ذلك من جهتهم ، لأنّ ما أخبر به الرسول وأولوا الأمر إذ هم مخبرون عنه حق لا شك فيه . وقال أبو بكر الرازي : في هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث ، لأنه أمر بردّ الحوادث إلى الرسول في حياته إذ كانوا بحضرته ، وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته ، والمنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه ، فثبت بذلك أنَّ من الأحكام ما هو مودع في النص قد كلف الوصول إلى علمه بالاستدلال والاستنباط . وطوَّل الرازي في هذه المسألة اعتراضاً وانفصالاً واستقرأ من الآية أحكاماً .
قال : ويدل على بطلان قول القائل بالإمامة : لأنه لو كان كل شيء من الأحكام منصوصاً عليه يعرفه الإمام لزال موضع الاستنباط ، وسقط الرد إلى أولي الأمر ، بل كان الواجب الرّد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص . وقال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير ما نصه في ذلك الكتاب : وقد لاح لي في هذه الآية أنّ في الكلام حذفاً وتقديماً وتأخيراً وأنَّ هذا الكلام متعلق بالذي قبله مردود إليه ، ويكون التقدير : أفلا يتدبرون القرآن ، ولو تدبروه لعلموا أنه من كلام الله ، والمشكل عليهم من متشابهه لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم يعني : لعلم معنى ذلك المتشابه الذين يستنبطونه منهم من أهل العلم بالكتاب إلا قليلاً ، وهو ما ستأثر الله به من علم كتابه ومكنون خطابه . ثم قال : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، والذي حسن لهم ذلك وزينه الشيطان ، ثم التفت إلى المؤمنين فقال : ) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ( وقد أشار إلى شيء من هذا أبو طالب المكي في كتابه المعروف بقوت القلوب ، وقال : إن قوله : ) إِلاَّ قَلِيلاً ( متصل بقوله ) لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ( وعلى هذا يكون الاستنباط استخراجاً من معنى اللفظ المتشابه بنوع من النظرة والاجتهاد والتفكر انتهى كلامه . وهو كما ترى تركيب ونظم غير تركيب القرآن ونظمه ، وكثيراً ما يذكر هذا الرجل في القرآن تقديماً وتأخيراً ، وأغرب من ذلك أنه يجعله من أنواع علم البيان ، وأصحابنا وحذاق النحويين يجعلونه من باب ضرائر الأشعار ، وشتان ما بين القولين . وقرأ أبو السمال : لعلمه بسكون اللام . قال ابن عطية : وذلك مثل شجر بينهم انتهى . وليس مثله لأنّ تسكين علم قياس مطرد في لغة تميم

" صفحة رقم 320 "
وشجر ليس قياساً مطرداً ، إنما هو على سبيل الشذوذ . وتسكين علم مثل التسكين في قوله : فإن تبله يضجر كما ضجر بازل
من الادم دبرت صفحتاه وغاربه
) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ( هذا خطاب للمؤمنين باتفاق من المتأولين قاله : ابن عطية . قال : والمعنى لولا هداية الله لكم وإرشاده لبقيتم على كفركم وهو اتباع الشيطان . وقيل : الفضل الرسول . وقيل : الإسلام . وقيل : القرآن . وقيل : في الرحمة أنها الوحي . وقيل : اللطف . وقيل : النعمة . وقيل : التوفيق . والظاهر أنّ الاستثناء هو من فاعل اتبعتم . قال الضحاك : هدى الكل منهم للإيمان ، فمنهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك ، ولا عنت له شبهة ارتياب ، وذلك هو القليل ، وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر ، فلولا فضل الله بتجريد الهداية لهم لضلوا واتبعوا الشيطان ، ويكون الفضل معيناً أي : رسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والقرآن ، لأن الكل إنما هدي بفضل الله على الإطلاق .
وقال قوم : إلا قليلاً إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم ، أدركوا بعقولهم معرفة الله ووحدوه قبل أن يبعث الرسول ، كزيد بن عمرو بن نفيل أدرك فساد ما عليه اليهود والنصارى والعرب ، فوحد الله وآمن به ، فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً إذ ليس مندرجاً في المخاطبين بقوله : لاتبعتم .
وقال قوم : الاستثناء إنما هو من الاتباع ، فقدره الزمخشري : إلا اتباعاً قليلاً ، فجعله مستثنى من المصدر الدال عليه الفعل وهو لاتبعتم . وقال ابن عطية : في تقدير أن يكون استثناء من الاتباع قال : أي لاتبعتم الشيطان كلكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها ، ففسره في الاستثناء بالمتبع فيه ، فيكون استثناء من المتبع فيه المحذوف لا من الاتباع ، ويكون استثناء مفرّعاً ، والتقدير : لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا قليلاً من الأشياء فلا تتبعونه فيه . فإن كان ابن عطية شرح من حيث المعنى فهو صحيح ، لأنه يلزم من الاستثناء الاتباع القليل أن يكون المتبع فيه قليلاً ، وإن كان شرح من حيث الصناعة النحوية فليس بجيد ، لأن قوله : إلا اتباعاً قليلاً ، لا يرادف إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها . وقال قوم : قوله إلا قليلاً عبارة عن العدم ، يريد : لاتبعتم الشيطان كلكم . قال ابن عطية : وهذا قول قلق ، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قلما تنبت كذا ، بمعنى لا تنبته . لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها ، ولكن ذكره الطبري انتهى . وهذا الذي ذكره ابن عطية صحيح ، ولكن قد جوزه هو في قوله : ) وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ولم يقلق عنده هناك ولا رده ، وقد رددناه عليه هناك فيطالع ثمة .
وقيل : إلا قليلاً مستثنى من قوله : أذاعوا به ، والتقدير : أذاعوا به إلا قليلاً ، قاله : ابن عباس وابن زيد ، واختاره : الكسائي ، والفراء ، وأبو عبيد ، وابن حرب ، وجماعة من النحويين ، ورجحه الطبري . وقيل : مستثنى من قوله : لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، قاله : الحسن ، وقتادة ، واختاره ابن عيينة . وقال مكي : ولولا فضل الله عليكم أي : رحمته ونعمته إذ عافاكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين الذين وصفهم بالتبييت ، والخلاف لاتبعتم الشيطان هو خطاب للذين قال لهم : ) خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ ( وقيل : الخطاب عام ، والقليل المستثنى هم أمة الرسول ، لأنهم قليل بالنسبة إلى الكفار . وفي الحديث الصحيح : ( ما أنتم إلا كالرقمة البيضاء في الثور الأسود ) .
النساء : ( 84 ) فقاتل في سبيل . . . . .
( فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ ( قيل : نزلت في بدر الصغرى . دعا الناس إلى الخروج ، وكان أبو سفيان وعادَ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) اللقاء فيها ، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت . فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد ، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده .

" صفحة رقم 321 "
ومناسبة هذه الآية هي : أنه لما ذكر في الآيات قبلها تثبيطهم عن القتال ، واستطرد من ذلك إلى أنَّ الموت يدرك كل أحد ولو اعتصم بأعظم معتصم ، فلا فائدة في الهرب من القتال ، وأتبع ذلك بما أتبع من سوء خطاب المنافقين للرسول عليه السلام ، وفعلهم معه من إظهار الطاعة بالقول وخلافها بالفعل ، وبكتهم في عدم تأملهم ما جاء به الرسول من القرآن الذي فيه كتب عليهم القتال ، عاد إلى أمر القتال . وهكذا عادة كلام العرب تكون في شيء ثم تستطرد من ذلك إلى شيء آخر له به مناسبة وتعلق ، ثم تعود إلى ذلك الأول .
والفاء هنا عاطفة جملة كلام على جملة كلام يليه ، ومن زعم أنّ وجه العطف بالفاء هو أن يكون متصلاً بقوله : ) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ ( أو بقوله : ) فَسَوْفَ يُؤْتِيهُ أَجْراً عَظِيماً ( وهو محمول على المعنى على تقدير شرط أي : إن أردت الفوز فقاتل . أو معطوفة على قوله : ) فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ ( فقد أبعد . وظاهر الأمر أنه خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وحده ، ويؤكده : لا تكلف إلا نفسك . وحمله الزمخشري على تقدير شرط ، قال : أي إن أفردوك وتركوك وحدك لا تكلف إلا نفسك وحدها أن تقدمها للجهاد ، فإنّ الله هو ناصرك لا الجنود ، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف انتهى . وسبقه إليه الزجاج قال : أمره بالجهاد وإن قاتل وحده ، لأنه ضمن له النصرة . وقال ابن عطية : لم نجد قط في خبر أنّ القتال فرض على النبي دون الأمة مرة ما ، فالمعنى والله أعلم أنه خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في اللفظ ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه : أي : أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له فقاتل في سبيل الله ، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر ، أن يجاهد ولو وحده ، ومن ذلك قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي ) وقول أبي بكر وقت الردة : ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي .
ومعنى لا تكلف إلا نفسك : أي : لا تكلف في القتال إلا نفسك ، فقاتل ولو وحدك . وقيل : المعنى إلا طاقتك ووسعك . والنفس يعبر بها عن القوّة يقال : سقطت نفسه أي قوته . وقرأ الجمهور : لا تكلف خبراً مبنياً للمفعول ، قالوا : والجملة في موضع الحال ، ويجوز أن يكون إخباراً من الله لنبيه ، لا حالاً شرع له فيها أنه لا يكلف أمر غيره من المؤمنين ، إنما يكلف أمر نفسه فقط . وقرىء : لا نكلف بالنون وكسر اللام ، ويحتمل وجهي الإعراب : الحال والاستئناف . وقرأ عبد الله بن عمر : لا تكلف بالتاء وفتح اللام ، والجزم على جواب الأمر . وأمره تعالى بحث المؤمنين على القتال ، وتحريك هممهم إلى الشهادة .
( عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( قال عكرمة وغيره : عسى من الله واجبه ، ومن البشر متوقعة مرجوّة . والذين كفروا : هم كفار قريش ، وقد كف الله تعالى بأسهم ، وبدا لأبي سفيان ترك القتال . وقال : هذا عام مجدب ، وما كان معهم إلا السويق ، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم . وقيل : كف البأس يكون عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام . وقيل : ذلك يوم الحديبية . وقيل : هي فيمن ضربت عليهم الجزية . والجمهور على ما قدمناه من أنّ ذلك كان عند خروجهم إلى بدر الصغرى . والظاهر في هذا أنه لا يتقيد كف بأس الذين كفروا بما ذكروا ، والتخصيص بشيء يحتاج إلى دليل .
( وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ( هذا تقوية لقلوب المؤمنين ، وأنّ بأس الله أشدّ من بأس الكفار . وقد رجى كف بأسهم ، ثم ذكر ما أعد لهم من النكال ، وأن اللَّه تعالى هو أشد عقوبة . فذكر قوّته وقدرته عليهم ، وما يؤول إليه أمرهم من التعذيب . قال الحسن وقتادة : وأشد تنكيلاً أي عقوبة فاصحة ، والأظهر أن أفعل التفضيل هنا على بابها . وقيل : هو من باب العسل أحلى من الخل ، لأن بأسهم بالنسبة إلى بأسه تعالى ليس بشيء .
النساء : ( 85 ) من يشفع شفاعة . . . . .
( مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا ( قال قوم : من يكن شفيعاً لوتر أصحابك يا محمد في الجهاد فيسعفهم في جهاد عدوّهم يكن له نصيب من الجهاد أو من

" صفحة رقم 322 "
يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين ، فتلك حسنة ، وله نصيب منها . وحملهم على هذا التأويل ما تقدم من ذكر القتال والأمر به ، وقال قريباً منه الطبري . وقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم : هي في حوائج الناس ، فمن يشفع لنفع فله نصيب ، ومن يشفع لضر فله كفل .
وقال الزمخشري : الشفاعة الحسنة هي التي روعي فيها حق مسلم ، ودفع عنه بها شر ، أو جلب إليه خير وابتغى بها وجه الله ، ولم يؤخذ عليها رشوة ، وكانت في أمر جائز لا في حد من حدود الله ، ولا حق من الحقوق . والسيئة ما كان بخلاف ذلك انتهى . وهذا بسط ما قاله الحسن ، قال : الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة ، والسيئة في المعاصي . وقيل : الشفاعة الحسنة هي الدعوة للمسلم لأنها في معنى الشفاعة إلى الله تعالى . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له ، وقال له الملك : ولك مثل ذلك النصيب ) ولدعوة على المسلم بضد ذلك . وقال ابن السائب ومقاتل : الشفاعة الحسنة هنا الصلح بين الاثنين ، والسيئة الإفساد بينهما والسعي بالنميمة . وقيل : الشفاعة الحسنة أن يشفع إلى الكافر حتى يوضح له من الحجج لعله يسلم ، والسيئة أن يشفع إلى المسلم عسى يرتد أو ينافق . والظاهر أنّ من للسبب أي : نصيب من الخير بسببها ، وكفل من الشر بسببها . وتقدم في المفردات أن الكفل النصيب . وسمي المجازي .
وقال أبان بن تغلب : الكفل المثل . وقال الحسن وقتادة : هو الوزر والإثم ، وغاير في النصيب فذكره بلفظ الكفل في الشفاعة السيئة ، لأنه أكثر ما يستعمل في الشر ، وإن كان قد استعمل في الخير لقوله : ) يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ( قالوا : وهو مستعار من كفل البعير ، وهو كساء يدار على سنامه ليركب عليه ، وسمي كفلاً لأنه لم يعم الظهر ، بل نصيباً منه .
( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء مُّقِيتاً ( أي : مقتدراً قاله السدّي وابن زيد والكسائي . وقال ابن عباس ومجاهد : حفيظاً وشهيداً . وقال عبد الله بن كثير : واصباً قيماً بالأمور . وقيل : المحيط . وقيل : الحسيب . وقيل : المجازي . وقيل : المواظب للشيء الدائم عليه . قال ابن كثير : وهو قول ابن عباس أيضاً . وهذه أقوال متقاربة لاستلزام بعضها معنى بعض . وقال الطبري في قوله : إني على الحساب مقيت ، إنه من غير هذه المعاني المتقدّمة ، وإنه بمعنى موقوت . وهذا يضعفه أن يكون بناء اسم الفاعل بمعنى بناء اسم المفعول . وقال غيره : معناه مقتدر .
النساء : ( 86 ) وإذا حييتم بتحية . . . . .
( وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ( الظاهر أن التحية هنا السلام ، وأنّ المسلم عليه مخير بين أن يرد أحسن منها ، أو أن يردها يعني مثلها ، فأو هنا للتخيير . وقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن زيد : بأحسن منها إذا كان مسلماً ، أو ردوها إذا كان يسلم عليك كافر فاردد ، وإن كان مجوسياً فتكون أو هنا للتنويع . والذي يظهر أنّ الكافر لا يرد عليه مثل تحيته ، لأن المشروع في الرد عليهم أن يقال لهم : وعليكم ، ولا يزادوا على ذلك ، فيكون قوله : وإذا حييتم معناه : وإذا حياكم المسلمون ، وإلى هذا ذهب . عطاء . وعن الحسن : ويجوز أن يقال للكافر : وعليك السلام ، ولا يقل : ورحمة الله ، فإنها استغفار ، وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم

" صفحة رقم 323 "
عليه : وعليك السلام ورحمة الله فقيل له ، فقال : أليس في رحمة الله يعيش ؟ وكأن من قال بهذا أخذ بعموم وإذا حييتم ، لكن ذلك مخالف للنص النبوي من قوله : ( فقولوا وعليكم ) وكيفية رد الأحسن أنه إذا قال : سلام عليك ، فيقول : عليك السلام ورحمة الله . فإذا قال : سلام عليك ورحمة الله قال : عليك السلام ورحمة الله وبركاته . فإذا قال المسلم هذا بكماله رد عليه مثله . وروي عن عمر ، وابن عباس ، وغيرهما : أن غاية السلام إلى البركة .
وفي الآية دليل على أنّ الرد واجب لأجل الأمر ، ولا يدل على وجوب البداءة ، بل هي سنة مؤكدة ، هذا مذهب أكثر العلماء . والجمهور على أنْ لا يبدأ أهل الكتاب بالسلام ، وشذ قوم فأباحوا ذلك . وقد طول الزمخشري وغيره بذكر فروع كثيرة في السلام ، وموضوعها علم الفقه . وذهب مجاهد : إلى تخصيص هذه التحية بالجهاد ، فقال : إذا حييتم في سفركم بتحية الإسلام ) فَلا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( فإن أحكام الإسلام تجري عليهم . وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك : أن هذه الآية في تشميت العاطس ، والرد على المشمت . وضعف ابن عطية وغيره من أصحاب مالك هذا القول . قال ابن عطية : لأنه ليس في الكلام على ذلك دلالة . أما أنّ الرد على المشمت مما يدخل بالقياس في معنى رد التحية ، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك ، انتهى . وذهب قوم إلى أنّ المراد بالتحية هنا الهداية واللطف ، وقال : حق من أعطى شيئاً من ذلك أن يعطى مثله أو أحسن منه . قال ابن خويز منداد : يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب ، وقد شحن بعض الناس تليفه هنا بفروع من أحكام القتال والسلام ، وتشميت العاطس ، والهدايا ، وموضوعها علم الفقه وذكروا أيضاً في ما يدخل في التحية مقارناً للسلام ، واللقاء والمصافحة ، وأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمر بها وفعلها مع السلام والمعانقة ، وأول من سنها إبراهيم عليه السلام ، والقبلة . وعن الحسن في قوله تعالى : ) رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( قال : كان الرجل يلقى أخاه فما يفارقه حتى يلزمه ويقبله . وعن عليّ قبلة الولد رحمة ، وقبلة المرأة شهوة ، وقبلة الوالدين برّ ، وقبلة الأخ دين ، وقبلة الإمام العادل طاعة ، وقبلة العالم إجلال الله تعالى . قال القشيري : في الآية تعليم لهم حسن العشرة وآداب الصحبة ، وأنَّ من حملك فضلاً صار ذلك في ذمتك قرضاً ، فإنْ زدت على فعله وإلا فلا تنقص عن مثله .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْء حَسِيباً ( أي : حاسباً من الحساب ، أو محسباً من الاحساب ، وهو الكفاية . فإما فعيل للمبالغة ، وإما بمعنى مفعل .
وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع أنواعاً الالتفات في قوله : فما أرسلناك . والتكرار في : من يطع فقد أطاع ، وفي : بيت ويبيتون ، وفي : اسم الله في مواضع ، وفي : أشد ، وفي : من يشفع شفاعة . والتجنيس المماثل في : يطع وأطاع ، وفي : بيت ويبيتون ، وفي : حييتم فحيوا . والمغاير في : وتوكل ووكيلاً ، وفي : من يشفع شفاعة ، وفي : وإذا حييتم بتحية . والاستفهام المراد به الإنكار في : أفلا يتدبرون . والطباق في : من الأمن أو الخوف ، وفي : شفاعة حسنة وشفاعة سيئة . والتوجيه في : غير الذي تقول . والاحتجاج النظري ويسمى المذهب الكلامي في : ولو كان من عند غير الله . وخطاب العين والمراد به الغير في : فقاتل . والاستعارة في : في سبيل الله ، وفي : أن يكف بأس . وافعل في : غير المفاضلة في أشد . وإطلاق كل على بعض في : بأس الذين كفروا واللفظ مطلق والمراد بدر الصغرى . والحذف في عدة مواضع تقتضيها الدلالة .
( ) اللَّهُ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن

" صفحة رقم 324 "
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىأَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } )
النساء : ( 87 ) الله لا إله . . . . .
لاركاس : الرد والرجع . قيل : من آخره على أوله ، والركس : الرجيع . ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في ( الروثة هذا ركس ) وقال أمية بن أبي الصلت : فأركسوا في حميم النار أنهم
كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا
وحكى الكسائي والنضر بن شميل : ركس وأركس بمعنى واحد أي : رجعهم . ويقال : ركَّس مشدّداً بمعنى أركس ، وارتكس هو أي ارتجع . وقيل : أركسه أوبقه قال : بشؤمك أركستني في الخنا
وأرميتني بضروب العنا

" صفحة رقم 325 "
وقيل : أضلهم . وقال الشاعر : وأركستني عن طريق الهدى
وصيرتني مثلاً للعدا
وقيل : نكسه . قاله الزجاج قال : ركسوا في فتنة مظلمة
كسواد الليل يتلوها فتن
الدية : ما غرم في القتل من المال ، وكان لها في الجاهلية أحكام ومقادير ، ولها في الشرع أحكام ومقادير ، سيأتي ذكر شيء منها . وأصلها : مصدر أطلق على المال المذكور ، وتقول : منه ودي ، يدي ، وديا ودية . كما تقول : وشى يشي ، وشيا وشية ، ومثاله من صحيح اللام : زنة وعدة .
التعمد والعمد : القصد إلى الشيء ) اللَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( قال مقاتل : نزلت فيمن شك في البعث ، فاقسم الله ليبعثه . ومناسبتها لما قبلها ظاهرة وهي : أنه تعالى لما ذكر أن الله كان على كل شيء حسيباً ، تلاه بالاعلام بوحدانية الله تعالى والحشر والبعث من القبور للحساب . ويحتمل أن يكون لا إله إلا هو خبر عن الله ، ويحتمل أن يكون جملة اعتراض ، والخبر الجملة المقسم عليها ، وحذف هنا القسم للعلم به . وإلى إما على بابها ومعناها : من الغاية ، ويكون الجمع في القبور ، أو يضمن معنى : ليجمعنكم معنى : ليحشرنكم ، فيعدى بإلى . قيل : أو تكون إلى بمعنى في ، كما أولوه في قول النابغة : فلا تتركني بالوعيد كأنني
إلى الناس مطلى به القار أجرب
أي : في الناس . وقيل : إلى بمعنى مع . والقيامة والقيام بمعنى واحد ، كالطلابة والطلاب . قيل : ودخلت الهاء للمبالغة لشدة ما يقع فيه من الهول ، وسمي بذلك إما لقيامهم من القبور ، أو لقيامهم للحساب . قال تعالى : ) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( ولما كان الحشر جائزاً بالعقل ، واجباً بالسمع ، أكده بالقسم قبله وبالجملة بعده من قوله : لا ريب فيه . واحتمل الضمير في فيه أن يعود إلى اليوم ، وهو الظاهر . وأن يعود على المصدر المفهوم من قوله تعالى : ليجمعنكم . وتقدم تفسير لا ريب فيه في أول البقرة .
( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ). هذا استفهام معناه النفي ، التقدير : لا أحد أصدق من الله حديثاً . وفسر الحديث بالخبر أو بالوعد قولان ، والأظهر هنا الخبر . قال ابن عطية : وذلك أنّ دخول الكذب في حديث البشر إنما علته الخوف أو الرجاء أو سوء السجية ، وهذه منفية في حق الله تعالى ، والصدق في حقيقته أن يكون ما يجري على لسان المخبر موافقاً لما في قلبه ، والأمر المخير عنه في وجوده انتهى . وقال الماتريدي : أي إنكم تقبلون حديث بعضكم من بعض مع احتمال صدقه وكذبه ، فإنْ تقبلوا حديث من يستحيل عليه الكذب في كل ما أخبركم به من طريق الأولى . وطوّل الزمخشري هنا إشعاراً بمذهبه فقال : لا يجوز عليه الكذب ، وذلك أنَّ الكذب مستقبل بصارف عن الإقدام عليه وهو قبحه الذي هو كونه كذباً وإخباراً عن الشيء بخلاف ما هو عليه ، فمن كذب لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يكذب ، ليجرّ منفعة ، أو يدفع مضرة ، أو هو غني عنه ، إلا أنه يجهل غناه ، أو هو جاهل بقبحه ، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في أخباره ، ولا يبالي بأنهما نطق ، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق . وعن بعض السفهاء : أنه عوتب على الكذب فقال : لو غرغرت لهراتك به ، ما فارقته . وقيل لكذاب : هل صدقت قط ؟ فقال : لولا أني صادق في قولي لا ، لقلتها . فكان الحكيم الغني الذي لا تجوز عليه الحاجات ، العالم بكل معلوم ، منزهاً عنه كما هو منزه عن سائر القبائح انتهى . وكلامه تكثير لا يليق بكتابه ، فإنه مختصر في التفسير .

" صفحة رقم 326 "
وقرأ حمزة والكسائي : أصدق بإشمام الصاد زاياً ، وكذا فيما كان مثله من صاد ساكنة بعدها دال ، نحو : يصدقون وتصدية . وأما إبدالها زاياً محضة في ذلك فهي لغة كلب . وأنشدوا : يزيد الله في خيراته
حامي الذمار عنده مضد مصدوقاته
يريد : عند مصدوقاته .
النساء : ( 88 ) فما لكم في . . . . .
( فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ( ذكروا في سبب نزولها أقوالاً طولوا بها وملخصها : أنّهم قوم أسلموا فاستوبؤا المدينة فخرجوا ، فقيل هم : أما لكم في الرسول أسوة ؟ أو ناس رجعوا من أحد لِما خرج الرسول ، وهذا في الصحيحين من قول زيد بن ثابت . أو ناس بمكة تكلموا بالإسلام وهم يعينون الكفار ، فخرجوا من مكة . قال الحسن ، ومجاهد : خرجوا الحاجة لهم ، فقال قوم من المسلمين ، اخرجوا إليهم فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عدوكم . وقال قوم : كيف نقتلهم وقد تكلموا بالإسلام ؟ رواه ابن عطية عن ابن عباس . أو قوم قدموا المدينة وأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك ، أو قوم أعلنوا الإيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة قاله : الضحاك . أو العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يساراً ، أو المنافقون الذين تكلموا في حديث الإفك .
وما كان من هذه الأقوال يتضمن أنهم كانوا بالمدينة ، يردّه قوله : ) حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( إلا إنْ حملت المهاجرة على هجرة ما نهى الله عنه ، والمعنى : أنه تعالى أنكر عليهم اختلافهم في نفاق من ظهر منه النفاق أي : من ظهر منه النفاق قطع بنفاقه ، ولو لم يكونوا بادياً نفاقهم ، لما أطلق عليه اسم النفاق . وفي المنافقين متعلق بما تعلق به لكم ، وهو كائن أي : أيّ شيء كائن لكم في شأن المنافقين . أو بمعنى فئتين أي : فرقتين في أمر المنافقين . وانتصب فئتين على الحال عند البصريين من ضمير الخطاب في لكم ، والعامل فيها العامل في لكم . وذهب الكوفيون إلى أنه منصوب على إضمار كان أي : كنتم فئتين . ويجيزون مالك الشاتم أي : كنت الشاتم ، وهذا عند البصريين لا يجوز ، لأنه عندهم حال ، والحال لا يجوز تعريفها .
( وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ ( أي : رجّعهم وردّهم في كفرهم قاله : ابن عباس ، واختار الفراء والزجاج : أوبقهم . روى عن ابن عباس : أو أضلهم ، قاله السدي . أو أهلكهم قاله قتادة ، أو نكسهم قاله الزجاج . وكلها متقاربة . ومن عبر به عن الإهلاك فإنه أخذ بلازم الإركاس . ومعنى بما كسبوا أي : بما أجراه الله عليهم من المخالفة ، وذلك الاركاس هو بخلق الله واختراعه ، وينسب للعبد كسباً .
وقال الزمخشري : والله أرسكهم أي : ردّهم في حكم المشركين كما كانوا بما كسبوا من ارتدادهم ، ولحوقهم بالمشركين ، واحتيالهم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . أو أركسهم في الكفر بأنْ خذلهم حتى ارتكبوا فيه لما علم من مرض قلوبهم انتهى . وهو جار على عقيدته الاعتزالية ، فلا ينسب الاركاس إلى الله حقيقة ، بل يؤوّله على معنى الخذلان وترك اللطف ، أو على الحكم بكونهم من المشركين . إذ هم فاعلو الكفر ومخترعوه ، لا الله تعالى الله عن قولهم .
وقرأ عبد الله : ركسهم ثلاثياً . وقرىء : ركسهم ركسوا فيها بالتشديد ، قال الراغب : الركس والنكس الرذل ، والركس أبلغ من النكس ، لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه ، والركس أصله ما رجع رجيماً بعد أن كان طعاماً فهو كالرجس وصف أعمالهم به ، كما قال : ) إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( وأركسه أبلغ من ركسه ، كما أنَّ أسقاه بلغ من سقاه انتهى . وهذه الجملة في موضع الحال ، أنكر تعالى عليهم اختلافهم في هؤلاء المنافقين في حال أنّ الله تعالى قد ردهم في الكفر ، ومن يرده الله إلى الكفر لا يختلف في كفره .
( أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا

" صفحة رقم 327 "
ْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ( هذا استفهام إنكار أي : من أراد الله ضلاله ، لا يريد أحد هدايته لئلا تقع إرادته مخالفة لإرادة الله تعالى ، ومَن قضى الله عليه بالضلال لا يمكن إرشاده ، ومن أضل الله اندرج فيه المركسون وغيرهم . ممن أضله الله فكأنه قيل : أتريدون أن تهدوا هؤلاء المنافقين ؟ ومن أضله الله تعالى من غيرهم واندراجهم في عموم من بعد قوله : والله أركسهم ، هو على سبيل التوكيد ، إذ ذكروا أوّلاً على سبيل الخصوص ، وثانياً على سبيل اندراجهم في العموم . وقال الزمخشري : أتريدون أن تجعلوا من جملة المهتدين ؟ من أضله الله من جعله من الضلال وحكم عليه بذلك ، أو خذله حتى ضل انتهى . وهو على طريقته الاعتزالية من أنه لا ينسب إلا ضلال إلى الله على سبيل الحقيقة .
( وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( أي : فلن تجد لهدايته سبيلاً . والمعنى : لخلق الهداية في قلبه ، وهذا هو المنفى . والهداية بمعنى الإرشاد والتبيين ، هي للرسل . وخرج من خطابهم إلى خطاب الرسول على سبيل التوكيد في حق المختلفين ، لأنه إذا لم يكن له ذلك ، فالأحرى أن لا يكون ذلك لهم . وقيل : من يحرمه الثواب والجنة لا يجد له أحد طريقاً إليهما . وقيل : من يهلكه الله فليس لأحد طريق إلى نجاته من الهلاك . وقيل : ومن يضلل الله فلن تجد له مخرجاً وحجة .
النساء : ( 89 ) ودوا لو تكفرون . . . . .
( وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ( مَن أثبت أن لو تكون مصدرية قدره : ودُّوا كفركم كما كفروا . ومَن جعل لو حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، جعل مفعول ودُّوا محذوفاً ، وجواب لو محذوفاً ، والتقدير : ودُّوا كفركم لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ، لسرُّوا بذلك . وسبب ودّهم ذلك إمّا حسداً لما ظهر من علوّ الإسلام كما قال في نظيرتها : ) حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ( وإمّا إيثاراً لهم أن يكونوا عباد أصنام لكونهم يرون المؤمنين على غير شيء ، وهذا كشف من الله تعالى لخبيث معتقدهم ، وتحذير للمؤمنين منهم . وفتكونون معطوف على قوله : تكفرون .
قال الزمخشري : ولو نصب على جواب التمني لجاز ، والمعنى : ودُّوا كفركم وكونكم معهم شرعاً واحداً فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباء انتهى . وكون التمني بلفظ الفعل ، ويكون له جواب فيه نظر . وإنما المنقول أنَّ الفعل ينتصب في جواب التمني إذا كان بالحرف نحو : ليت ، ولو وإلا ، إذا أشربتا معنى التمني ، أما إذا كان بالفعل فيحتاج إلى سماع من العرب . بل لو جاء لم تتحقق فيه الجوابية ، لأن ودّ التي تدل على التمني إنما متعلقها المصادر لا الذواب ، فإذا نصب الفعل بعد الفاء لم يتعين أن تكون فاء جواب ، لاحتمال أن يكون من باب عطف المصدر المقدر على المصدر الملفوظ به ، فيكون من باب : للبس عباءة وتقرّ عيني .
( فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( لما نص على كفرهم ، وأنَّهم تمنوا أن تكونوا مثلهم بانت عداوتهم لاختلاف الدّينين ، فهي تعالى أن يوالي منهم أحد وإن آمنوا ، حتى يظاهروا بالهجرة الصحيحة لأجل الإيمان ، لا لأجل حظ الدّنيا ، وإنما غياً بالهجرة فقط لأنها تتضمن الإيمان . وفي هذه الآية دليل على وجوب الهجرة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى المدينة ، ولم يزل حكمها كذلك إلى أن فتحت مكة ، فنسخ بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا ). وخالف الحسن البصري فقال بوجوبها ، وإن حكمها لم ينسخ ، وهو باق فتحرم الإقامة بعد الإسلام في دار الشرك . وإجماع أهل المذاهب على خلافه . قال القاضي أبو يعلى وغيره : من هو قادر على الهجرة ولا يقدر على إظهار دينه فهي تجب عليه لقوله تعالى : ) ). وخالف الحسن البصري فقال بوجوبها ، وإن حكمها لم ينسخ ، وهو باق فتحرم الإقامة بعد الإسلام في دار الشرك . وإجماع أهل المذاهب على خلافه . قال القاضي أبو يعلى وغيره : من هو قادر على الهجرة ولا يقدر على إظهار دينه فهي تجب عليه لقوله تعالى : ) أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا (

" صفحة رقم 328 "
ومن كان قادراً على إظهار دينه استحبت له ، ومن لا يقدر على إظهار دينه ولا على الحركة كالشيخ الفاني والزمن ، لا يستحب له .
( فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ( أي . فإن تولوا عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة فحكمهم حكم الكفار يقتلون حيث وجدوا في حل وحرم ، وجانبوهم مجانبة كلية ، ولو بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم .
النساء : ( 90 ) إلا الذين يصلون . . . . .
( إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ ( هذا استثناء من قوله : فخذوهم واقتلوهم ، والوصول هنا : البلوغ إلى قوم . وقيل : معناه ينتسبون قاله أبو عبيدة . وأنشد الأعشى : إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل
وبكر سبتها والأنوف رواغم
وقال النحاس : هذا غلط عظيم ، لأنه ذهب إلى أنه تعالى حظر أن يقاتلَ أحدُ بينه وبين المسلمين نسب والمشركون قد كان بينهم وبين المسلمين السابقين أنساب . يعني : وقد قاتل الرسول ومن معه من انتسب إليهم بالنسب الحقيقي ، فضلاً عن الانتساب . قال النحاس : وأشد من هذا الجهل قول من قال : إنه كان ثم نسخ ، لأن أهل التأويل مجمعون على أنّ الناسخ له براءة ، وإنما نزلت بعد الفتح ، وبعد أن انقطعت الحروب ، ووافقه على ذلك الطبري .
وقال القرطبي : حمل بعض أهل العلم معنى ينتسبون على الأمان ، أو أن ينتسب إلى أهل الأمان ، لا على معنى النسب الذي هو القرابة انتهى . قال عكرمة : إلى قوم هم قوم هلال بن عويمر الأسلمي ، وادع الرسول على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن لجأ إليهم فله مثل ما لهلال . وروي عن ابن عباس : أنهم بنو بكر بن زيد مناة . والجمهور على أنّهم خزاعة وذو خزاعة . وقال مقاتل : خزاعة وبنو مدلج . وقال ابن عطية : كان هذا الحكم في أول الإسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من الناس ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد هادن من العرب قبائل كرهط هلال بن عويمر الأسلمي ، وسراقة بن مالك بني جعشم ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف ، فقضت هذه الآية أنه من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى هؤلاء أهل العهد ، ودخل في عدادهم ، وفعل فعلهم من الموادعة ، وفعل فعلهم من الموادعة ، فلا سبيل عليه . قال عكرمة والسدي وابن زيد : ثمّ لما تقوى الإسلام وكثرنا صره نسخت هذه الآية والتي بعدها بما في سورة براءة انتهى . وقيل : هم خزاعة وخزيمة بن عبد مناف . والذين حصرت صدورهم هم ، بنو مدلج ، اتصلوا بقريش . وبه وعن ابن عباس : إنهم قوم من الكفار اعتزلوا المسلمين يوم فتح مكة ، فلم يكونوا مع لكافرين ، ولا مع المسلمين ، ثم نسخ ذلك بآية القتال .
وأصل الاستثناء أن يكون متصلاً ، وظاهر الآية وهذه الأقوال التي تقدّمت : أنه استثناء متصل . والمعنى : إلا الكفار الذين يصلون إلى قوم معاندين ، أو يصلون إلى قوم جاؤوكم غير مقاتلين ولا مقاتلي قومهم . إن كان جاؤوكم عطفاً على موضع صفة قوم ، وكلا العطفين جوز الزمخشري وابن عطية ، إلا أنهما اختار العطف على الصلة . قال ابن عطية بعد أن ذكر العطف على الصلة قال : ويحتمل أن يكون على قوله : بينكم وبينهم ميثاق ، والمعنى في العطفين مختلف انتهى . واختلافه أنّ المستثنى إمّا أن يكونا صنفين واصلاً إلى معاهد ، وجائياً كافاً عن القتال . أو صنفاً واحداً يختلف باختلاف من وصل إليه من معاهد أو كاف . قال ابن عطية : وهذا أيضاً حكم ، كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام ، فكان المشرك إذا جاء

" صفحة رقم 329 "
إلى دار الإسلام مسالماً كارهاً لقتال قومه مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه ، لا سبيل عليه . وهذه نسخت أيضاً بما في براءة انتهى .
وقال الزمخشري : الوجه العطف على العلة لقوله : ) فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ ( الآية بعد قوله : فخذوهم واقتلوهم ، فقرر أنّ كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض لهم ، وترك الإيقاع بهم . ( فإن قلت ) : كل واحد من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء ، واستحقاق ترك التعرّض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين ، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة قومٍ ، ويكونَ قوله : فإن اعتزلوكم تقريراً لحكم اتصالهم بالكافين ، واختلاطهم فيهم ، وجريهم على سننهم ؟ ( قلت ) : هو جائز ، ولكنَّ الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام انتهى . وإنما كان أظهروا وأجرى على أسلوب الكلام لأنّ المستثنى محدث عنه محكوم له بخلاف حكم المستثنى منه . وإذا عطفت على الصلة كان محدثاً عنه ، وإذا عطفت على الصفة لم يكن محدثاً عنه ، إنما يكون ذلك تقييداً في قوم الذين هم قيد في الصلة المحدث عن صاحبها ، ومتى دار الأمر بين أن تكون النسبة إسنادية في المعنى ، وبين أن تكون تقييدية ، كان حملُها على الإسنادية أولي للاستثقال الحاصل بها ، دون التقييدية هذا من جهة الصناعة النحوية . وأما من حيث ما يترتب على كل واحد من العطفين من المعنى ، فإنه يكون تركهم القتال سبباً لترك التعرّض لهم ، وهو سبب قريب ، وذلك على العطف على الصلة ، ووصولهم إلى من يترك القتال سبب لترك التعرض لهم ، وهو سبب بعيد ، وذلك على العطف على الصفة . ومراعاة السبب القريب أولى من مراعاة البعيد . وعلى أن الاستثناء متصل من مفعول : فخذوهم واقتلوهم ، والمعنى : أنه تعالى أوجب قتل الكافر إلا إذا كان معاهداً أو داخلاً في حكم المعاهد ، أو تاركاً للقتال ، فإنه لا يجوز قتلهم . وقول الجمهور : إن المستثنين كفار .
وقال أبو مسلم : إنه تعالى لما أوجبَ الهجرة على كل من أسلم ، استثنى مَن له عذر فقال : ) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ ( وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول بالهجرة والنصرة ، إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقاً إليه خوفاً من أولئك الكفار ، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد ، وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص ، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول وإلى الصحابة ، لأنه يخاف الله فيه ، ولا يقاتل الكفار أيضاً لأنهم أقاربه ، أو لأنه بقي أزواجه وأولاده بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه . فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم ، وإن كان لم توجد منهم الهجرة ، ولا مقاتلة الكفار انتهى . واختاره الراغب . وعلى قول أبي مسلم : يكون استثناء منقطعاً ، لأن المؤمنين لم يدخلوا تحت قوله : ) فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ).
وقال الماتريدي : إلا الذين يصلون أي : إن لحق المنافقون بمن لا ميثاق بينكم وبينهم فاقتلوهم حتى يتوبوا ويهاجروا ، وإن لحقوا بأهل الميثاق فلا تقاتلوهم ، أو جاؤوكم حصرت صدورهم هذا صفة لمن سبق ذكرهم ، فيكون الاستثناء عن الذين يصلون إلى أهل العهد ، إذا كان وصفهم أنْ تضيق صدورهم عن مقاتلة المؤمنين والكفار جميعاً ، إما لنفار طباعهم ، وإما لوفاء العهد ، وإما لكونهم في مهلة النظر ليتبينوا الحق من الباطل ، وعلى هذا وصف الله جميع المعاهدين الذين عزموا على الوفاء بالعهد : أنهم إنما قبلوا العهد والذمة لما تعذر عليهم قتال المسلمين وأبت نفوسهم معاونة المسلمين على قومهم ، فلم يسلموا حقيقة ، ولكن سالموا لقبول العهد انتهى . وقال القفال بعد ذكر من دخل في عهد مَن كان داخلاً في عهدكم ، فهو أيضاً داخل في العهد ، قال : وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرت الرسول عليه السلام ، فيتعذر عليهم ذلك المطلوب ، فيلجوا إلى قوم بينهم وبين الرسول عهد ، إلى أن يجدوا السبيل إليه انتهى .
وفي مصحف أبي وقراءته : ميثاق جاؤكم بغير واو . قال الزمخشري : ووجهه أن يكون جاؤوكم بياناً ل يصلون ، أو بدلاً ، أو استئنافاً ، أو صفة بعد صفة لقوم انتهى . وهي وجوه محتملة ، وفي بعضها ضعف . وهو البيان والبدل ، لأن البيان لا يكون في الأفعال ، ولأن البدل لا

" صفحة رقم 330 "
يتأتى لكونه ليس إياه ، ولا بعضاً ، ولا مشتملاً . ومعنى حصرت : ضاقت ، وأصل الحصر في المكان ، ثم توسع فيه حتى صار في القول . قال : ولقد تكنفني الوشاة فصادفوا
حصراً بسرك يا أميم ضنينا
وقيل : معناه كرهت . والمعنى : كرهوا قتالكم مع قومهم معكم . وقيل : معناه أنهم لا يقاتلونكم ولا يقاتلون قومهم معكم ، فيكونون لا عليكم ولا لكم . وقرأ الجمهور : حصرت . وقرأ الحسن وقتادة ويعقوب : حصرة على وزن نبقة ، وكذا قال المهدوي عن عاصم في رواية حفص . وحكى عن الحسن أنه قرأ : حصرات . وقرىء : حاصرات . وقرىء : حصرة بالرفع على أنه خبر مقدم ، أي : صدورهم حصرة ، وهي جملة اسمية في موضع الحال . فأما قراءة الجمهور فجمهور النحويين على أنَّ الفعل في موضع الحال . فمَن شرط دخول قد على الماضي إذا وقع حالاً زعم أنها مقدرة ، ومن لم ير ذلك لم يحتج إلى تقديرها ، فقد جاء منه ما لا يحصى كثرة بغير قد . ويؤيد كونه في موضع الحال قراءة من قرأ ذلك اسماً منصوباً ، وعن المبرد قولان : أحدهما : أنّ ثم محذوفاً هو الحال ، وهذا الفعل صفته أي : أو جاؤوكم قوماً حصرت صدورهم . والآخر : أنه دعاء عليهم ، فلا موضع له من الإعراب . ورد الفارسي على المبرد في أنه دعاء عليهم بأنا أمرنا أن نقول : اللهم أوقع بين الكفار العداوة ، فيكون في قوله : أو يقاتلوا قومهم ، في ما اقتضاه دعاء المسلمين عليهم . قال ابن عطية : ويخرج قول المبرد على أنّ الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم ، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقيرهم ، أي : هم أقل وأحقر ، ويستغني عنهم كما تقول إذا أردت هذا المعنى : لا جعل الله فلاناً علي ولا معي ، بمعنى : استغنى عنه ، واستقل دونه . وقال غير ابن عطية : أو تكون سؤالاً لموتهم ، على أنّ قوله : قومهم ، قد يعبر به عن من ليسوا منهم ، بل عن معاديهم . وأجاز أبو البقاء أن يكون حصرت في موضع جر صفة لقوم ، وأو جاؤوكم معترض . قال : يدل عليه قراءة من أسقط أو ، وهو أبى . وأجاز أيضاً أن يكون حصرت بدلاً من جاؤكم ، قال : بدل اشتمال ، لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره . وقال الزجاج : حصرت صدورهم خبر بعد خبر . قال ابن عطية : يفرق بين تقدير الحال ، وبين خبر مستأنف في قولك : جاء زيد ركب الفرس ، إنك إن أردت الحال بقولك : ركب الفرس ، قدرت قد . وإن أردت خبراً بعد خبر لم نحتج إلى تقديرها . وقال الجرجاني : تقديره إن جاؤكم حصرت ، فحذف إنْ ، وما ادعاه من الإضمار لا يوافق عليه ، أن يقاتلوكم تقديره : عن أن يقاتلوكم .
( وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ( هذا تقرير للمؤمنين على مقدار نعمته تعالى عليهم . أي : لو شاء لقواهم وجرأهم عليكم ، فإذا قد أنعم عليكم بالهدنة فاقبلوها . وهذا إذا كان المستثنون كفاراً ، فأما على قول من

" صفحة رقم 331 "
قال : إنهم مؤمنون ، فالمعنى أنه تعالى أظهر نعمته على المسلمين ، وأنه تعالى لو لم يهدهم لكانوا في جملة المسلطين عليكم .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف يجوز أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين ما كان مكافتهم إلا لقذف الله الرعب في قلوبهم ؟ ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه ، فكانوا مسلطين مقاتلين غير كافين ، فذلك معنى التسليط انتهى . وهذا على طريقته الاعتزالية . وهذا الذي قاله الزمخشري قاله أبو هاشم قبله . قال : أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء أن يفعل ، وتسليط الله المشركين على المؤمنين ليس بأمر منه ، وإنما هو بإزالة خوف المسلمين من قلوبهم ، وتقوية أسباب الجرأة عليهم . والغرض بتسليطهم عليهم لأمور ثلاثة : أحدها : تأديباً لهم وعقوبة لما اجترحوا من الذنوب . الثاني : ابتلاء لصبرهم واختباراً لقوة إيمانهم وإخلاصهم كما قال : ) وَلَنَبْلُوَنَّكُم ( الآية . الثالث : لرفع درجاتهم وتكثير حسناتهم . أو المجموع وهو أقرب للصواب انتهى .
وأمّا غيرهما من المعتزلة فقال الجبائي : قد بينا أن القوم الذين استثنوا مؤمنون لا كافرون ، وعلى هذا معنى الآية . ولو شاء الله لسلطهم عليكم بتقوية قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم إن أقدمتهم على مقاتلتهم على سبيل الظلم . وقال الكعبي : إنه تعالى أخبر أنه لو شاء فعل ، وهذا لا يفيد ، إلا أنه قادر على الظلم ، وهذا مذهبنا إلا أنا نقول : إنه تعالى لا يفعل الظلم ، وليس في الآية دلالة على أنه شاء ذلك وأراده ، انتهى كلامه .
وقال أهل السنة : في هذه الآية دليل على أنه تعالى لا يقبح منه تسليط الكافر على المؤمن وتقويته عليه .
وقرأ الجمهور : فيقاتلوكم بألف المفاعلة . وقرأ مجاهد وطائفة : فلقتلوكم على وزن ضربوكم . وقرأ الحسن والجحدري : فلقتلوكم بالتشديد ، واللام في لقاتلوكم لام جواب لو ، لأن المعطوف على الجواب جواب ، كما لو قلت : لو قام زيد لقام عمرو ولقام بكر . وقال ابن عطية : واللام في لسلطهم جواب لو ، وفي فلقاتلوكم لام المحاذاة والازدواج ، لأنها بمثابة الأولى لو لم تكن الأولى كنت تقول : لقاتلوكم انتهى . وتسميته هذه اللام لام المحاذاة والازدواج تسمية غريبة ، لم أر ذلك إلا في عبارة هذا الرجل ، وعبارة مكي قبله .
( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ( إذا كان المستثنون كفاراً فالاعتزال حقيقة لا يتهيأ إلا في حالة المواجهة في الحرب كأنه يقول : إذا اعتزلوكم بانفرادهم عن قومهم الذين يقاتلونكم فلا تقتلوهم . وقيل : أراد بالاعتزال هنا المهادنة ، وسميت اعتزالاً لأنها سبب الاعتزال عن القتال . والسلم هنا الانقياد قاله : الحسن ، أو الصلح قاله : الربيع ومقاتل ، أو الإسلام قاله : الحسن أيضاً . وأما على من قال : إن المستثنين مؤمنون ، فالمعنى أنهم إذ قد اعتزلوكم وأظهروا الإسلام فاتركوهم ، فعلى هذا تكون في ) الَّذِينَ أَسْلَمُواْ وَلَمْ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ( والمعنى : سبيلاً إلى قتلهم ومقاتلتهم . وقرأ الجحدري : السلم بسكون اللام . وقرأ الحسن : بكسر السين ، وسكون اللام .
النساء : ( 91 ) ستجدون آخرين يريدون . . . . .
( سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا ( لمّا ذكر صفة المحقين في المتاركة ، المجدّين في إلقاء السلم ، نبّه على طائفة أخرى مخادعة يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم يقولون لهم : نحن معكم وعلى دينكم ، ويقولون للمسلمين كذلك إذا وجدوا . قيل : كانت أسد وغطفان بهذه الصفة فنزلت فيهم ، قاله : مقاتل . وقيل : نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي كان ينقل بين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) الأخبار قاله : السدي . وقيل : في قوم يجيئون من مكة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) رياء ويظهرون الإسلام ثم يرجعون إلى قريش يكفرون ، ففضحهم الله تعالى ، وأعلم أنهم ليسوا على صفة من تقدّم قاله : مجاهد . وقيل : إنهم من أهل تهامة قاله : قتادة . وقيل : إنهم من المنافقين قاله : الحسن .
والظاهر من قوله : ستجدون آخرين ، أنهم قوم غير المستثنين في قوله : ) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ ). وذهب قوم : إلى أنها بمنزلة الآية الأولى ، والقوم الذين نزلت فيهم هم الذين نزلت فيهم الأولى ، وجاءت مؤكدة لمعنى الأولى مقررة لها . والسين في ستجدون ليست للاستقبال قالوا : إنما هي دالة

" صفحة رقم 332 "
على استمرارهم على ذلك الفعل في الزمن المستقبل كقوله : ) سَيَقُولُ السُّفَهَاء ( وما نزلت إلا بعد قوله : ) مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ( فدخلت السين إشعاراً بالاستمرار انتهى . ولا تحرير في قولهم : إن السين ليست للاستقبال وإنما تشعر بالاستمرار ، بل السين للاستقبال ، لكنْ ليس في ابتداء الفعل ، لكن في استمراره أن يأمنوكم أي : يأمنوا أذاكم ويأمنوا أذى قومهم . والفتنة هنا : المحنة في إظهار الكفر . ومعنى أركسوا فيها رجعوا أقبح رجوع وأشنعه ، وكانوا شراً فيها من كل عدو . وحكى أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم فيقال لأحدهم : قل ربي الخنفساء ، وربي القردة ، وربي العقرب ، ونحوه فيقولها . وقرأ ابن وثاب والأعمش : ردّوا بكسر الراء ، لما أدغم نقل الكسرة إلى الراء . وقرأ عبد الله : ركسوا بضم الراء من غير ألف مخففاً . وقال ابن جني عنه : بشدّ الكاف .
( فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ ( أمر تعالى بقتل هؤلاء في أي مكان ظفر بهم ، على تقدير انتفاء الاعتزال وإلقاء السلم ، وكف الأيدي . ومفهوم الشرط يدل على أنه إذا وجهوا الاعتزال وإلقاء السلم وكف الأيدي ، لم يؤخذوا ولم يقتلوا .
قال ابن عطية : وهذه الآية حضّ على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم . وتأمل فصاحة الكلام في أنْ ساقه في الصيغة المتقدّمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال ، وإيجاب إلقاء السلم ، ونفى المقاتلة ، إذ كانوا محقين في ذلك معتقدين له . وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفى الاعتزال ، ونفى إلقاء السلم ، إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين ، والحكم سواء على السياقين . لأن الذين لم يجعل عليهم سبيلاً لو لم يعتزلوا ، لكان حكمهم ، حكم هؤلاء الذين جعل عليهم السلطان المبين . وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان إذا لم يعتزلوا ، لو اعتزلوا كان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم ، ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا انتهى كلامه . وهو حسن . ولما كان أمر الفرقة الأولى أخف ، رتّب تعالى انتفاء جعل السبيل عليهم على تقدير سببين : وجود الاعتزال ، وإلقاء السلم . ولما كان أمر هذه الفرقة المخادعة أشدّ ، رتب أخذهم وقتلهم على وجود ثلاثة أشياء : نفي الاعتزال ، ونفي إلقاء السلم ، ونفي كف الأذى . كل ذلك على سبيل التوكيد في حقهم والتشديد .
( وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ( أي على أخذهم وقتلهم حجة واضحة ، وذلك لظهور عداوتهم ، وانكشاف حالهم في الكفر والغدر ، وإضرارهم بأهل الإسلام ، أو حجة ظاهرة حيث أذنا لكم في قتلهم . قال عكرمة : حيثما وقع السلطان في كتاب الله فالمراد به الحجة .
النساء : ( 92 ) وما كان لمؤمن . . . . .
( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ ( روي أن عياش بن أبي ربيعة وكان أخا أبي جهل لأمه ، أسلم وهاجر خوفاً من قومه إلى المدينة وذلك قبل هجرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يأويها سقف حتى يرجع ، فخرج أبو جهل ومعه الحارث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه وهو في أطم ، ففتك منه أبو جهل في الزرود والغارب وقال : أليس محمد بحثك على صلة الرحم ؟ انصرف وبرَّ أمك وأنت على دينك ، حتى نزل وذهب معهما ، فلما أبعدا عن المدينة كتفاه وجلده كل واحد مائة جلدة ، فقال للحرث : هذا أخي ، فمن أنت يا حارث الله ؟ عليّ إن وجدتك خالياً أن أقتلك . وقدما به على أمه فحلفت لا تحلّ كتافه أو يرتد ، ففعل . ثم هاجر بعد ذلك ، وأسلم الحارث ، وهاجر فلقيه عياش بظهر قبا ولم يشعر بإسلامه ، فأنحى عليه فقتله ، ثم أُخبر بإسلامه ، فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) )

" صفحة رقم 333 "
فقال : قتلته ولم أشعر بإسلامه ، فنزلت . وقيل : نزلت في رجل كان يرعى غنماً فقتله في بعض السرايا أبو الدرداء وهو يتشهد وساق غنمه ، فعنفه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فنزلت . وقيل : نزلت في أبي حذيفة بن اليمان حين قتل يوم أحد خطأ . وقيل غير ذلك انتهى .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما رغب في مقاتلة الكفار ، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالمحاربة ، ومنها أن يظن رجلاً حربياً وهو مسلم فيقتله . وهذا التركيب تقدم نظيره في قوله : ) أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ ( وفي قوله : ) وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ ( وكان يغني الكلام هناك عن الكلام هنا ، ولكن رأينا جمع ما قاله من وقفنا على كلامه من المفسرين هنا .
قال الزمخشري : ما كان لمؤمن : ما صلح له ، ولا استقام ، ولا لاق بحاله ، كقوله : وما كان لنبي أن يغل ، وما يكون لنا أن نعود ، أن يقتل مؤمناً ابتداء غير قصاص إلا خطأ على وجه الخطأ . ( فإن قلت ) : بما انتصب خطأ ؟ ( قلت ) : بأنه مفعول له أي : ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده ، ويجوز أن يكون حالاً بمعنى : لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ ، وأن يكون صفة لمصدر أي : إلا قتلا خطأ . والمعنى : أنَّ من شأن المؤمن أن تنتفي عنه وجوه قتل المؤمن ابتداء البتة ، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي كافراً فيصيب مسلماً ، أو يرمي شخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم . وقال ابن عطية : قال جمهور أهل التفسير : ما كان في إذن الله ولا في أمره للمؤمن أن يقتل مؤمناً بوجه ، ثم استثنى استثناء منقطعاً ليس من الأول ، وهو الذي يكون فيه إلا بمعنى لكن ، والتقدير : ولكن الخطأ قد يقع ، ويتجه وجه آخر وهو أن تقدر كان بمعنى استقر ووجد . كأنه قال : وما وجد ولا تقرر ولا ساع لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحياناً ، فيجيء الاستثناء على هذا غير منقطع ، وتتضمن الآية على هذا إعظام العهد وبشاعة شأنه كما تقول : ما كان لك يا فلان إن تتكلم بهذا إلا ناسياً إعظاماً للعمد والقصد ، مع حظر الكلام به البتة .
وقال الراغب : إنْ قيل : أيجوز أن يقتل المؤمن خطأ حتى يقال : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ قيل قولك يجوز أو لا يجوز ؟ إنما يقال في الأفعال الاختيارية المقصودة ، فأما الخطأ فلا يقال فيه ذلك ، وما كان لك أن تفعل كذا ، وما كنت لتفعل كذا متقاربان ، وهما لا يقالان بمعنى . وإن كان أكثر ما يقال الأول لما كان الإحجام عنه من قبل نفسه ، أي : ما كان المؤمن ليقتل مؤمناً إلا خطأ ولهذا المعنى أراد من قال معناه : ما ينبغي للمؤمن أن يقتل مؤمناً متعمداً ، لكن يقع ذلك منه خطأ . وكذا من قال : ليس في حكم الله أن يقتل المؤمن إلا خطأ . وقال الأصم : معناه ليس القتل لمؤمن بمتروك أن يقتضي له ، إلا أن يكون قتله خطأ . وقال أبو عبد الله الرازي : وما كان أي : فيما آتاه الله ، أو عهد إليه ، أو ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك ، والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف . وقال أبو هاشم : تقدير الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً ويبقى مؤمناً ، إلا أن يقتله خطأ ، فيبقى حينئذ مؤمناً ، وهذا الذي قاله أبو هاشم قاله السدي . قال السدي : قتل المؤمن المؤمن يخرجه عن أن يكون مؤمناً ، إلا أن يكون خطأ ، وليس هذا معتقد أهل السنة والجماعة . وقيل : هو نفي جواز قتل المؤمن ، ومعناه : النهي ، وأفاد دخول كان أنه لم يزل حكم الله . وقال الماتريدي : الإشكال أن الله تعالى نهى المؤمن عن القتل مطلقاً ، واستثنى الخطأ ، والاستثناء من النفي إثبات ، ومن التحريم إباحة ، وقتل الخطأ ليس بمباح بالإجماع ، وفي كونه حراماً كلام انتهى .
وملخص ما بني على هذا أنه إن كان نفياً وأريد به معنى النهي كان استثناء

" صفحة رقم 334 "
منقطعاً إذ لا يجوز أن يكون متصلاً لأنه يصير المعنى : إلا خطأ فله قتله . وإن كان نفياً أريد به التحريم ، فيكون استثناء متصلاً إذ يصير المعنى : إلا خطأ بأن عرفه كافراً فقتله ، وكشف الغيب أنه كان مؤمناً ، فيكون قد أبيح الإقدام على قتل الكفر ، وإن كان فيهم من أسلم إذا لم يعلم بهم ، فيكون الإستثناء من الحظر إباحة . وقال بعض أهل العلم : المعنى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً عمداً ولا خطأ فيكون إلا بمعنى : ولا ، وأنكر الفراء هذا القول ، وقال : مثل هذا لا يجوز ، إلا إذا تقدم استثناء آخر ، ويكون الثاني عطف استثناء على استثناء ، كما في قول الشاعر : ما بالمدينة دار غير واحدة
دار الخليفة إلا دار مروانا
وروى أبو عبيدة عن يونس أنه سأل رؤبة بن العجاج عن هذه الآية فقال : ليس له أن يقتله عمداً ولا خطأ ، ولكنه أقام إلا مقام الواو ، وهو كقول الشاعر : وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان
والذي يظهر أن قوله : إلا خطأ ، استثناء منقطع ، وهو قول الجمهور منهم : أبان بن تغلب . والمعنى : لكن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ ، والقتل عند مالك عمد وخطأ ، فيقاد باللطمة ، والعضة ، وضرب السوط مما لا يقتل غالباً . وعند الشافعي : عمد ، وشبه عمد . ولا قصاص في شبه العمد ، ولا الخطأ . وعند أبي حنيفة : عمد ، وخطأ ، وشبه ، عمد ، وما ليس بخطأ ولا عمد ولا شبه عمد . والخطأ ضربان : أن يقصد رمي مشرك أو طائر فيصيب مسلماً ، أو يظنه مشركاً لكونه عليه سيما أهل الشرك ، أو في حيزهم . وشبه العمد ما يعمد بما لا يقتل غالباً من حجر أو عصا ، وما ليس بخطأ ولا عمد ولا شبه عمد قتل الساهي والنائم . وقرأ الجمهور خطاء على وزن بناء . وقرأ الحسن والأعمش : على وزن سماء ممدوداً . وقرأ الزهري : على وزن عصا مقصوراً لكونه خفف الهمزة بإبدالها ألفاً ، أو إلحاقاً بدم ، أو حذف الهمزة حذفاً كما حذف لام دم . وقال ابن عطية : وجوه الخطأ كثيرة ، ومربطها عدم القصد .
( وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ ( التحرير : الإعتاق ، والعتيق : الكريم ، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد . ومنه عتاق الطير ، وعتاق الخيل لكرامها . وحر الوجه أكرم موضع منه ، والرقبة عبر بها عن النسمة ، كما عبر عنها بالرأس في قولهم : فلان يملك كذا رأساً من الرقيق . والظاهر أنَّ كل رقبة اتصفت بأن يحكم لها بالإيمان منتظم تحت قوله : رقبة مؤمنة ، انتظام عموم البدل . فيندرج فيها من ولد بين مسلمين ، ومن أحد أبويه مسلم ، صغيراً كان أو كبيراً ، ومن سباه مسلم من دار الحرب قبل البلوغ .
وقال إبراهيم : لا يجزى إلا البالغ . وقال ابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وغيرهم : لا يجزىء إلا التي صامت وعقلت الإيمان ، لا يجزىء في ذلك الصغيرة . وقال أبو حنيفة ، والأوزاعي ، ومالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد بن زياد ، وزفر : يجزى في كفارة القتل الصبي إذا كان أحد أبويه مسلماً . وقال عطاء : يجزىء الصغير المولود بين المسلمين . وقال مالك : من صلى وصام أحب إليّ ، ولا خلاف أنّ قوله : ومن قتل مؤمناً ، ينتظم الصغير والكبير ، وكذلك ينبغي أن يكون في فتحرير رقبة مؤمنة . قال ابن عطية : وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكبير كقطع اليدين والرجلين والأعمى ، لا يجزىء فيما حفظت ، فإن كان يسيراً يمكن معه المعيشة والتحرف كالعرج ونحوه ففيه قولان . وقال أبو بكر الرازي : لا خلاف بين الأمة أنه لا يجزىء في الكفارة أعمى ، ولا مقعد ، ولا مقطوع اليدين أو الرجلين ، ولا أشلهما ، واختلفوا في الأعرج . وقال أبو حنيفة وأصحابه : يجزىء مقطوع إحدى اليدين أو الرجلين . وقال مالك والشافعي والأكثرون : لا يجزىء عند أكثرهم المجنون المطبق ، ولا عند مالك الذي يجن ويفيق ، ولا المعتق إلى سنين ، ويجزئان عند الشافعي . ولا يجزىء المدبر عند مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي ، ويجزىء في قول الشافعي وأبي ثور ، واختاره ابن المنذر . وقال مالك : لا يصح من أعتق بعضه ، واختلفوا في سبب وجوب الكفارة في قتل الخطأ .

" صفحة رقم 335 "
فقيل : تمحيصاً وطَهر الذنب القاتل ، حيث ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم . وقيل : لما أخرج نفساً مؤمنة عن جملة الاحياء ، لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار ، لأن إطلاقها من قيد الرق حياتها ، من قبل أنّ الرقيق ممنوع من تصرّف الأحرار .
والظاهر أن وجوب التحرير والدية على القائل ، لأنه مستقر في الكتاب والسنة : أن من فعل شيئاً يلزم فيه أمر من الغرامات مثل الكفارات ، إنما يجب ذلك على فاعله . فأما التحرير ففي مال القاتل . وأما الدية فعلى العاقلة كلها في قول طائفة منهم : الأوزاعي ، والحسن بن صالح . وما جاوز الثلث في قول الجمهور أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، والليث ، وابن شبرمة ، وغيرهم . وأما الثلث ففي مال الجاني ، ولم يجب عليهم إلا على سبيل المواساة . وهي خلاف قياس الأصول في الغرمات والمتلفات . والدية كانت مستقرة في الجاهلية . قال الشاعر :
نأسوا بأموالنا آثار أيدينا
ولم تتعرض الآية لمقدار ما يعطى في الدية ، ولا من أي شيء تكون . فذهب أبو حنيفة : إلى أنها من الإبل مائة على ما يأتي تفصيلها ، والدنانير والدراهم ألف دينار ، أو عشرة آلاف درهم . وقال أبو يوسف ومحمد : ومن البقر والشاة والحلل ، وبه قالت طائفة من التابعين ، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين . فمن البقر مائتا بقرة ، ومن الشاة ألف شاة ، ومن الحلل مائتا حلة ، وذلك فعل عمر وجعله على كل أهل صنف من ذلك ما ذكر . وقال مالك : أهل الذهب أهل الشام ومصر ، وأهل الورق أهل العراق ، وأهل الإبل أهل البوادي ، فلا يقبل من أهل الإبل إلا الإبل ، ولا من أهل الذهب إلا الذهب ، ولا من أهل الورق إلا الورق . وقالت طائفة منهم طاووس والشافعي : هي مائة من الإبل لا غير . قال الشافعي : والدراهم والدنانير بدل عنها إذا عدمت ، وله قول آخر : إنه يجب اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار . قال أبو بكر الرازي : أجمع فقهاء الأمصار أبو حنيفة والشافعي ومالك أن دية الخطأ أخماس ، واختلفوا في الأسنان . فقال أصحابنا جميعاً : عشرون بني مخاض ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وهو : مذهب ابن مسعود ، وبه قال أحمد . وقال مالك : عشرون حقاقاً ، وعشرون جذاعاً ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون بنت مخاض . وحكى هذا عن عمر بن عبد العزيز ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، وربيعة والليث .
وقال الشافعي : الدية قسمان ، مغلظة أثلاثاً ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة في بطونها أولادها ، ومخففة أخماساً كقول مالك . وروي عن عطاء أن دية الخطأ أربع : خمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وخمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، مثل أسنان الذكور . وقال عمر وزيد بن ثابت : في الخطا ثلاثون بنت لبون ،

" صفحة رقم 336 "
وثلاثون جذعة ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون بنت مخاض . وروي عنهما مكان الجذاع الحقات .
والظاهر أنه لا فرق بين القتل خطأ في الحرم وفي شهر حرام ، وبينه في الحل ، وفي شهر غير حرام . وسئل الأوزاعي عن القتل في الشهر الحرام ، أو في الحرم ، هل تغلظ فيه الدية ؟ فقال : بلغنا أنه إذا قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على القاتل الثلث ، ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل .
وأما من العاقلة فقيل هم العصبات الأربعة : الأب ، والجدّوان علا ، والابن ، وابن الابن وإن سفل . وهو قول مالك . وقال أبو حنيفة وأصحابه : هم أهل ديوانه دون أقربائه ، فإن لم يكن القاتل من أهل الديوان فرضت على عاقلته الأقرب فالأقرب ، ويضم إليهم القبائل في النسب . وقال الشافعي فيما روي عنه المزني في مختصره : العقل على ذوي الأنساب دون أهل الديوان والحلفاء ، على الأقرب فالأقرب من بني أبيه ثم جدّه ، ثم بني جد أبيه .
وأما المدة التي تؤدّي فيها الدية فقد انعقد الإجماع ووردت به الأحاديث الصحاح : أنها تتأدّى في ثلاث سنين ، وفي الدية والعاقلة أحكام كثيرة تعرض لها بعض المفسرين وهي مذكورة في كتب الفقه .
ومعنى مسلمة إلى أهله : أي مؤدّاة مدفوعة إلى أهل المقتول ، أي أوليائه الذين يرثونه يقتسمونها كالميراث ، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء ، يقضي منها الدين ، وتنفذ الوصية . وإذا لم يكن وارث فهي لبيت المال . وقال شريك : لا يقضي من الدية دين ، ولا تنفذ منها وصية . وقال ابن مسعود : يرث كل وارث منها غير القاتل ، ومعنى قوله : إلا أن يصدقوا أي إلا أن يعفو ورّاثه عن الدية فلا دية . وجاء بلفظ التصدق تنبيهاً على فضيلة العفو وحضا عليه ، وأنه جار مجرى الصدقة ، واستحقاق الثواب الآجل به دون طلب العرض العاجل ، وهذا حكم من قتل في دار الإسلام خطأ . وفي قوله : إلا أن يصدقوا ، دليل على جواز البراءة من الدين بلفظ الصدقة ، ودليل على أنه لا يشترط القبول في الإبراء خلافاً لزفر ، فإنه قال : لا يبرأ الغريم من الدين إلا أن يقبل البراءة . والظاهر أنَّ الجماعة إذا اشتركوا في قتل رجل خطأ أنه ليس عليهم كلهم إلا كفارة واحدة ، لعموم قوله : ومن قتل ، وترتيب تحرير رقبة واحدة ، ودية على ذلك . وبه قالت طائفة هكذا قال أبو ثور ، وحكى عن الأوزاعي ذلك ، وقال الحسن ، وعكرمة ، والنخعي ، والحارث ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي : على كل واحد منهم الكفارة .
وهذا الاستثناء قيل : منقطع ، وقيل : إنه متصل . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم تعلق أن يصدقوا ؟ وما محله ؟ ( قلت ) : تعلق بعليه ، أو بمسلمة . كأن قيل : وتجب عليه الدية أو يسلمها ، إلا حين يتصدقون عليه ، ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان كقولهم : اجلس ما دام زيد جالساً ، ويجوز أن يكون حالاً من أهله بمعنى : إلا متصدقين انتهى كلامه . وكلا التخريجين خطأ . أما جعل أن وما بعدها ظرفاً فلا يجوز ، نص النحويون على ذلك ، وأنه مما انفردت به ما المصدرية ومنعوا أن تقول : أجيئك أن يصيح الديك ، يريد وقت صياح الديك . وأما أن ينسبك منها مصدر فيكون في موضع الحال ، فنصوا أيضاً على أن ذلك لا يجوز . قال سيبويه في قول العرب : أنت الرجل أن تنازل أو أن تخاصم ، في معنى أنت الرجل نزالاً وخصومة ، أنَّ انتصاب هذا انتصاب المفعول من أجله ، لأن المستقبل لا يكون حالاً ، فعلى هذا الذي قررناه يكون كونه

" صفحة رقم 337 "
استثناء منقطعاً هو الصواب . وقرأ الجمهور يصدقوا ، وأصله يتصدقوا ، فأدغمت التاء في الصاد . وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : تصدقوا بالتاء على المخاطبة للحاضرة . وقرىء : تصدقوا بالتاء وتخفيف الصاد ، وأصله تتصدقوا ، فحذف إحدى التاءين على الخلاف في أيهما هي المحذوفة . وفي حرف أبيّ وعبد الله : يتصدقوا بالياء والتاء .
( فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ( قال ابن عباس وقتادة والنخعي والسدي وعكرمة وغيرهم : المعنى إن كان هذا المقتول خطأ رجلاً مؤمناً قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدوّ لكم فلا دية فيه ، وإنما كفارته تحرير رقبة . والسبب عندهم في نزولها : أنَّ جيوش المسلمين كانت تمر بقبائل الكفرة ، فربما قتل من آمن ولم يهاجر ، أو من هاجر ثم رجع إلى قومه ، فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار ، فنزلت الآية . وسقطت الدية عند هؤلاء ، لأن أولياء المقتول كفرة ، فلا يعطون ما يتقوّون به . ولأنّ حرمته إذا آمن ولم يهاجر قليلة فلا دية . وإذا قتل مؤمناً في بلاد المسلمين وقومه حرب ، ففيه الدية لبيت المال والكفارة . وقالت فرقة : الوجه في سقوط الدية أنّ أولياءه كفار ، سواء أكان القتل خطأ بين أظهر المسلمين وبين قومه ولم يهاجر ، واو هاجر ثم رجع إلى قومه ، وكفارته ليس إلا التحرير ، لأنه إنْ قتل بين أظهر قومه فهو مسلط على نفسه ، أو بين أظهر المسلمين فأهله لا يستحقون الذية ، ولا المسلمون لأنهم ليسوا أهله ، فلا تجب على الحالين ، هذا قول : مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والشافعي ، وأبي ثور . وقال إبراهيم : المؤمن المقتول خطأ إن كان قومه المشركون ليس بينهم وبين النبي عهد فعلى قاتله تحرير رقبة ، أو كان فتؤدى ديته لقرابته المعاهدين .
قال بعض المصنفين : اختلفت فقهاء الأمصار في من أسلم في دار الحرب وقتل قبل أن يهاجر ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في المشهور عنه : إن قتله مسلم مستأمن فكفارة الخطأ ، أو كانا مستأمنين فعلى القاتل الدية وكفارة الخطأ ، أو أسيرين فعلى القاتل كفارة الخطأ في قول أبي حنيفة . وقال محمد وأبو يوسف : الدية في العمد والخطأ . وقال مالك : على قاتل من أسلم في دار الحرب ، ولم يخرج ، الدية والكفارة إن كان خطأ . والآية إنما كانت في صلح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أهل مكة ، لأنه من لم يهاجر لم يورث ، لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة . وقال الحسن بن صالح : إذا أقام بدار الحرب وهو قادر على الخروج حكم عليه بما يحكم على أهل الحرب في نفسه وماله واد الحق بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام . وقال الشافعي : إذا قتل مسلماً في دار الحرب في الغارة وهو لا يعلمه مسلماً فلا عقل فيه ولا قود ، وعليه الكفارة . وسواء أكان المسلم أسيراً ، أو مستأمناً ، أو رجلاً أسلم هناك ، وإن علمه مسلماً فقتله فعليه القود انتهى ما نقله هذا المصنف . والذي يظهر من مدلول هذه الجمل إن الله تعالى بين أحكام المؤمن المقتول خطأ في هذه الجمل الثلاث ولذلك قابلها بقوله : ومن يقتل مؤمناً متعمداً ، فهو المؤمن المقتول خطأ إن كان أهله مؤمنين أو معاهدين ، فالتحرير والدية . ونزل المعاهدون في أخذ الدية منزلة المؤمنين ، لأن أحكام المؤمنين جارية عليهم ، وإن كان أهله حربيين فالتحرير فقط .
( وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً ( قال الحسن وجابر بن زيد وابراهيم وغيرهم : وإن كان المقتول خطأ مؤمناً من قوم معاهدين لكم ، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم ، وكفارته التحرير ، وأداء الدية إليهم . وقال النخعي : ميراثه للمسلمين . وقرأها الحسن : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ، وهو مؤمن . وبهذا قال مالك . وقال ابن عباس ، والشعبي ، وابراهيم أيضاً ، والزهري : المقتول من أهل العهد خطأ كان مؤمناً أو كافراً على عهد قومه ، فيه الدية كدية المسلم والتحرير .
واختلف على هذا في دية المعاهد . فقال أبو حنيفة وغيره : ديته كدية المسلم . وروى ذلك عن أبي بكر وعمر . وقال مالك وأصحابه : نصف دية المسلم . وقال الشافعي وأبو ثور : ثلث دية المسلم . والذي يظهر من دلالة من التبعيضية أنها قيد في الجملة الأولى بكونه من قوم عدو ، وقيد في الجملة الثانية بكونه من قوم معاهدين ، والمعنى في النسب لا في الدين ، لأنه مؤمن وهم كفار . فإذا تقيدت هاتان الجملتان دل ذلك على تقييد الأولى بأن يكون من المؤمنين في النسب ، وهي من قتل مؤمناً خطأ كأنه قال : وأهله مؤمنون لا حربيون ولا معاهدون . ولا يمكن حمله على الإطلاق للتعارض والتعاند الذي بينه وبين الآيتين بعد .
وقال أبو بكر الرازي : قوله : وإن كان من قوم عدو ، لكم استئناف

" صفحة رقم 338 "
كلام لم يتقدم له ذكر في الخطاب ، لأنه لا يجوز أعط هذا رجلاً وإن كان رجلاً فاعطه ، فهذا كلام فاسد لا يتكلم به حكيم ، فثبت أنّ هذا المؤمن المعطوف على الأول غير داخل في الخطاب . ثم قال : طاهر الآية يعني : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ، يقتضي أن يكون المقتول المذكور في الآية ذا عهد ، وأنه غير جائز إضمار الإيمان له إلا بدلاله ، ويدل عليه : أنه لما أراد مؤمناً من أهل دار الحرب ذكر الإيمان فقال : وهو مؤمن ، لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافراً من قوم عدو لكم انتهى كلامه .
أما قوله : استئناف لم يتقدم له ذكر في الخطاب ، فليس بصحيح ، بل تقدم له ذكر في الخطاب في قوله : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ، ومن قتل مؤمناً خطأ ، ولكنه ليس استئنافاً ، إنما هو من باب التقسيم كما ذكرناه . بدأ أولاً بالأشرف وهو المؤمن ، وأهله مؤمنون ليسوا بحربيين ولا معاهدين . وأما قوله : لأنه لا يجوز أعط هذا رجلاً وإن كان رجلاً فأعطه ، فهذا ليس نظير الآية بوجه ، وإنما الضمير في كان عائداً على المقتول خطأ ، المؤمن إذا كان من قوم عدو لكم ، وجاء قوله : وهو مؤمن على سبيل التوكيد لا سبيل التقييد ، إذ القيد مفهوم مما قبله في الاستثناء ، وفي جملة الشرط . وقوله : ويدل عليه إلى آخره ، لا يدل عليه لما ذكرنا أنَّ الحال مؤكدة ، وفائدة تأكيدها أن لا يتوهم أنَّ الضمير يعود على مطلق المقتول لا بقيد الإيمان . وقوله : لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافراً من قوم عد ، وليس كذلك بل لو لم يأت بقوله : وهو مؤمن ، لكان الضمير الذي في كان عائداً على المقتول خطأ ، لأنّه لم يجرد ذكر لغيره ، فلا يعود الضمير على غير من لم يجر له ذكر ، ويترك عوده على ما يجري عليه ذكر .
( فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ( يعني : رقبة لم يملكها ، ولا وجد ما يتوصل به إلى ملكها ، فعليه صيام شهرين متتابعين . وظاهر الآية يقضي أنه لا يجب غير ذلك ، إذ لو وجبت الدّية لعطفها على الصيام ، وإلى هذا ذهب : الشعبي ، ومسروق ، وذهب الجمهور : إلى وجوب الدّية . قال ابن عطية : وما قاله الشعبي ومسروق وهم ، لأنّ الدّية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل انتهى . وليس بوهم ، بل هو ظاهر الآية كما ذكرناه .
ومعنى التتابع : لا يتخللها فطر . فإن عرض حيض في أثنائه لم يعد قاطعاً بإجماع . وليس له أن يسافر فيفطر ، والمرض كالحيض عند : ابن المسيب ، وسليمان بن يسار ، والحسن ، والشعبي ، وعطاء ، ومجاهد ، وقتادة ، وطاووس ، ومالك . وقال ابن جبير ، والنخعي ، والحكم بن عتيبة ، وعطاء الخراساني ، والحسن بن حي ، وأبو حنيفة وأصحابه : يستأنف إذا أفطر لمرض . وللشافعي القولان . وقال ابن شبرمة : يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب كصوم رمضان .
( تَوْبَةً مّنَ اللَّهِ ( انتصب على المصدر أي : رجوعاً منه إلى التسهيل والتخفيف ، حيث نقلكم من الرقبة إلى الصوم . أو توبة من الله أي قبولاً منه ورحمة من تاب الله عليه إذا قبل توبته . ودعا تعالى قاتل الخطأ إلى التوبة ، لأنه لم يتحرز ، وكان من حقه أن يتحفظ .
( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( أي عليماً بمن قتل خطأ ، حكيماً حيث رتب ما رتب على هذه الجناية على ما اقتضته حكمته تعالى .
النساء : ( 93 ) ومن يقتل مؤمنا . . . . .
( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ( نزلت في مقيس بن صبابة حين قتل أخاه هشام بن صبابة رجل من الأنصار ، فأخذ له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الدّية ، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر مّا ، فقتله مقيس ، ورجع إلى مكة مرتداً وجعل ينشد : قتلت به فهراً وحملت عقله
سراه بني النجار أرباب فارع
حللت به وتري وأدركت ثورتي
وكنت إلى الأوثان أوّل راجع

" صفحة رقم 339 "
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) لا أؤمنه في حل ولا حرم ، وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة ) وهذا السبب يخص عموم قوله : ومن يقتل ، فيكون خاصاً بالكافر ، أو يكون على ما قال ابن عباس ، قال : معنى متعمداً أي : مستحلاً ، فهذا . يؤول أيضاً إلى الكفر . وأما إذا كانت عامة فيكون ذلك على تقدير شرط كسائر التوعدات على سائر المعاصي ، والمعنى : فجزاؤه إن جازاه ، أي : هو ذلك ومستحقه لعظم ذنبه ، هذا مذهب أهل السنة . ويكون الخلود عبارة في حق المؤمن العاصي عن المكث الطويل ، لا المقترن بالتأبيد ، إذ لا يكون كذلك إلا في حق الكفار .
وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية ، وأنها مخصصة بعمومها لقوله : ) ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءوا ( واعتمدوا على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال : نزلت الشديدة بعد الهينة ، يريد نزلت : ومن يقتل مؤمناً بعدوٍ يغفر ما دون ذلك ، فكأنه قيل : ويغفر ما دون ذلك إلا من قتل عمداً . وقد نازعوا في دلالة مَن الشرطية على العموم . وقيل : هو لفظ يقع كثيراً للخصوص كقوله : ) وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( وليس من حكم من المؤمنين بغير ما أنزل الله بكافر . وقال الشاعر : ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه
يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم
وإذا سلم العموم فقد دخله التخصيص بالإجماع من المعتزلة وأهل السنة فيمن شهد عليه بالقتل عمداً أو أقرّ بأنه قتل عمداً ، وأتى السلطان أو الأولياء فأقيم عليه الحد وقتل ، فهذا غير متبع في الآخرة . والوعيد غير صائر إليه إجماعاً للحديث الصحيح من حديث عبادة : ( أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له ) وهذا تخصيص للعموم . وإذا دخله التخصيص فيكون مختصاً بالكافر ، ويشهد له سبب النزول كما قدمنا .
ولم تتعرض الآية لتوبة القاتل ، وتكلم فيها المفسرون هنا . فقالت جماعة : لا تقبل توبته ، روي ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس . وكان ابن عباس يقول : الشرك والقتل سهمان من مات عليهما خلد ، وكان يقول : هذه الآية مدنية نسخت التي في الفرقان لأنها مكية . وكان ابن شهاب إذا سأله من يفهم منه أنه قتل قال له : توبتك مقبولة ، ومن لم يقتل قال : لا توبة للقاتل . وروي عن ابن عباس في تفسير عبد بن حميد نحو من كلام ابن شهاب . وعن سفيان كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له . قال الزمخشري : وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد ، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة ، وناهيك بمحو الشرك دليلاً . وفي الحديث : ( من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله ) والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها ، ويسمعون هذه الأحاديث القطعية ، وقول ابن عباس مع التوبة ، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة ، واتباعهم هواهم ، وما يخيل إليهم مناهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغيرتوبة ، ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( ثم ذكر الله تعالى التوبة في قتل الخطأ لما عسى أن يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ فيه حسم للأطماع وأي حسم ، ولكنْ لا حياة لمن تنادي . ( فإن قلت ) : هل فيها دليل على طرد من لم يتب من أهل الكبائر ؟ ( قلت ) : ما أبين الدليل فيها ، وهو تناول قوله : ومن يقتل ، أي قاتل كان من مسلم ، أو كافر تائب ، أو غير نائب ، إلا أنَّ التائب أخرجه الدليل . فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله انتهى كلامه . وهو على طريقته الاعتزالية والتعرض لمخالفيه بالسب والتشنيع . وأما قوله : ما أبين الدليل فيها ، فليس بين ، لأن المدّعي هل فيها دليل على خلود من لم يتب من الكبائر

" صفحة رقم 340 "
وهذا عام في الكبائر . والآية في كبيرة مخصوصة وهي : القتل لمؤمن عمداً ، وهي كونها أكبر الكبائر بعد الشرك ، فيجوز أن تكون هذه الكبيرة المخصوصة حكمها غير حكم سائر الكبائر ، مخصوصة كونها أكبر الكبائر بعد الشرك ، فلا يكون في الآية دليل على ما ذكر ، فظهر أنّ قوله : ما أبين الدّليل منها ، غير صحيح . واختلفوا في ما به يكون قتل العمد ، وفي الحرّ يقتل عبداً عمداً مؤمناً ، هل يقتص منه ؟ وذلك موضح في كتب الفقه . وانتصب متعمداً على الحال من الضمير المستكن في يقتل ، والمعنى : متعمداً قتله . وروى عبدان عن الكسائي : تسكين تاء متعمداً ، كأنه يرى توالي الحركات . وتضمنت هذه الآيات من البلاغة والبيان والبديع أنواعاً . التتميم في : ومن أصدق من الله حديثاً . والاستفهام بمعنى الإنكار في : فما لكم في المنافقين ، وفي : أتريدون أن تهدوا . والطباق في : أن تهدوا من أضل الله . والتجنيس المماثل في : لو تكفرون كما كفروا ، وفي : بينكم وبينهم ، وفي : أن يقاتلوكم أو يقاتلوا ، وفي : أن يأمنوكم ويأمنوا ، وفي : خطأ وخطأ . والاستعارة في : بينكم وبينهم ، وفي : حصرت صدورهم ، وفي : فإن اعتزلوكم وألقوا إليكم السلم ، وفي : سبيلاً وكلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم الآية . والاعتراض في : ولو شاء الله لسلطهم . والتكرار في مواضع . والتقسيم في : ومن قتل إلى آخره . والحذف في مواضع .
2 ( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىإِلَيْكُمُ السَّلَام

" صفحة رقم 341 "
لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذالِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِىأَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاٌّ رْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَائِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الاٌّ رْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( )
النساء : ( 94 ) يا أيها الذين . . . . .
المغنم : مفعل من غنم ، يصلح للزمان والمكان . والمصدر ويطلق على الغنيمة تسمية للمفعول بالمصدر أي : المغنوم ، وهو ما يصيبه الرجل من مال العدو في الغزو . المراغم : مكان المراغمة ، وهي : أن يرغم كل واحد من المتنازعين بحصوله في منعة منه أنف صاحبه بأن يغلب على مراده يقال : راغمت فلان إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك . والرغم الذل والهوان ، وأصله : لصوق الأنف بالرغام ، وهو التراب .
( عَظِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَواةِ ( روى البخاري ومسلم : أن رجلاً من سليم مرّ على نفر من الصحابة ومعه غنم ، فسلم عليهم ، فقالوا : ما سلم إلا ليتعوذ ، فقتلوه وأخذوا غنمه وأتوا بها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فنزلت . وقيل : بعث سرية فيها المقداد ، فتفرق القوم وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ، فتشهد ، فقتله المقداد ، فأخبر الرسول عليه السلام بذلك فقال : ( أقتلت رجلاً قال لا إله إلا الله ، فكيف لك بلا إله إلا الله غداً ؟ ) وقيل : لقي الصحابة المشركين فهزموهم ، فشد رجل منهم على رجل ، فلما غشيه السنان قال : إني مسلم ، فقتله وأخذ متاعه ، فرفع ذلك إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : ( قتلته وقد زعم أنه مسلم ؟ ) فقال : قالها متعوذاً قال : ( هلا شققت عن قلبه ؟ ) في قصة آخرها : أن القاتل مات فلفظته الأرض مرتين أو ثلاثاً ، فطرح في بعض

" صفحة رقم 342 "
الشعاب . وقيل : هي السرية التي قتل فيها أسامة بن زيد مرداس بن نهيك من أهل فدك ، وهي مشهورة . وقيل : بعث الرسول عليه السلام أبا حدرد الأسلمي وأبا قتادة ومحلم بن جثامة في سرية إلى أسلم ، فلما بلغوا إلى عامر بن الأضبط الأشجعي حياهم بتحية الإسلام ، فقتله محكم وسلبه ، فلما قدموا قال : ( أقتلته بعدما قال آمنت ؟ ) فنزلت .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وهي أنه تعالى لما ذكر جزاء من قتل مؤمناً متعمداً وأن له جهنم ، وذكر غضب الله عليه ولعنته وإعداد العذاب العظيم له ، أمر المؤمنين بالتثبت والتبين ، وأن لا يقدم الإنسان على قتل من أظهر الإيمان ، وأن لا يسفكوا دماً حراماً بتأويل ضعيف ، وكرر ذلك آخر الآية تأكيداً أن لا يقدم عند الشبه والإشكال حتى يتضح له ما يقدم عليه ، ولما كان خفاء ذلك منوطاً بالأسفار والغمزات قال : إذا ضربتم في الأرض ، وإلا فالتثبت والتبين لازم في قتل من تظاهر بالإسلام في السفر وفي الحضر ، وتقدم تفسير الضرب في قوله : ) لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الاْرْضِ ).
وقرأ حمزة والكسائي : فتثبتوا بالثاء المثلثة ، والباقون : فتبينوا . وكلاهما تفعل بمعنى استفعل التي للطلب ، أي : اطلبوا إثبات الأمر وبيانه ، ولا تقدموا من غير روية وإيضاح . وقال قوم : تبينوا أبلغ وأشد من فتثبتوا ، لأن المتثبت قد لا يتبين . وقال الراغب : لأنه قلما يكون إلا بعد تثبت ، وقد يكون التثبت ولا تبين ، وقد قوبل بالعجلة في قوله عليه السلام : ) وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ ). وقال أبو عبيد هما : متقاربان . قال ابن عطية : والصحيح ما قال أبو عبيد ، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان ، بل يقتضي محاولة للتبين ، كما أنّ تثبت يقتضي محاولة للتبين ، فهما سواء . وقال أبو علي الفارسي : التثبت هو خلاف الإقدام ، والمراد : التأني ، والتثبت أشد اختصاصاً بهذا الموضع . ومما يبين ذلك قوله : ) وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ( أي أشد وقفاً لهم عن ما وعظوا بأن لا يقدموا عليه ، وكلام الناس تثبَّتْ في أمرك . وقد جاء أنّ التبين من الله ، والعجلة من الشيطان ، ومقابلة العجلة بالتبين دلالة على تقارب اللفظين .
والأكثرون على أنّ القاتل هو محلم ، والمقتول عامر كما ذكرنا ، وكذا هو في سير ابن إسحاق ، ومصنف أبي داود ، وفي الاستيعاب . وقيل : المقتول مرداس ، وقاتله أسامة . وقيل : قاتله غالب بن فضالة الليثي . وقيل : القاتل أبو الدرداء . وقيل : أبو قتادة .
وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، والكسائي ، وحفص ، السلام بألف . قال الزجاج : يجوز أن يكون بمعنى التسليم ، ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، وابن كثير . من بعض طرقه ، وجبلة عن المفضل عن عاصم : بفتح السين واللام من غير ألف ، وهو من الاستسلام . وقرأ أبان بن زيد ، عن عاصم : بكسر السين وإسكان اللام ، وهو الانقياد والطاعة . قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالسلام الانحياز والترك ، قال الأخفش : يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط أحداً . قال أبو عبد الله الرازي : أي لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقاتلكم لست مؤمناً ، وأصله من السلامة ، لأن المعتزل عن الناس طالب للسلامة . وقرأ الجحدري : بفتح السين وسكون اللام . وقرأ أبو جعفر : مأمناً بفتح الميم أي : لا نؤمنك في نفسك ، وهي قراءة : عليّ ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبي العالية ، ويحيى بن يعمر .

" صفحة رقم 343 "
ومعنى قراءة الجمهور ليس لإيمانك حقيقة أنك أسلمت خوفاً من القتل . قال أبو بكر الرازي : حكم تعالى بصحة إسلام من أظهر الإسلام ، وأمر بإجرائه على أحكام المسلمين ، وإن كان في الغيب على خلافه . وهذا مما يحتج به على توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام ، فهو مسلم انتهى . والغرض هنا هو ما كان مع المقتول من غنيمة ، أو من حمل ، ومتاع ، على الخلاف الذي في سبب النزول . والمعنى : تطلبون الغنيمة التي هي حطام سريع الزوال . وتبتغون في موضع نصب على الحال من ضمير : ولا تقولوا ، وفي ذلك إشعار بأن الداعي إلى ترك التثبت أو التبين هو طلبكم عرض الدنيا ، فعند الله مغانم كثيرة هذه عدة بما يسني الله تعالى لهم من الغنائم على وجهها من حل دون ارتكاب محظور بشبهة وغير تثبت ، قاله الجمهور . وقال مقاتل : أراد ما أعده تعالى لهم في الآخرة من جزيل الثواب والنعيم الدائم الذي هو أجل المغانم .
( كَذالِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ ( قال ابن جبير : معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم ، خائفين منهم على أنفسكم ، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم ، فهم الآن كذلك كل منهم خائف في قومه ، متربص أن يصل إليكم ، فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره .
قال أبو عبد الله الرازي : وهذا فيه إشكال ، لأنّ إخفاء الإيمان ما كان عاماً فيهم انتهى . ولا إشكال فيه ، لأن المسلمين كانوا أول الإسلام يحبون دينهم ، فالتشبيه وقع بتلك الحال الأولى ، وعلى تقدير تسليم أنّ إخفاء الإيمان ما كان عاماً فيهم ، لا إشكال أيضاً لأنه ينسب إلى الجملة ما وجد من بعضهم . وقال ابن زيد : كذلك كنتم كفرة فمنّ الله عليكم بأن أسلمتم ، فلا تنكروا أن يكون هو كافراً ثم يسلم لحينه حين لقيكم ، فيجب أن يتثبت في أمره ، وقال الأكثرون : المعنى أنكم قبل الهجرة حين كنتم فيما بين الكفار تؤمنون بكلمة لا إله إلا الله ، فاقبلوا منهم ذلك . وقال أبو عبد الله الرازي : فيه إشكال لأنّ لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمانهم ، لأنا آمنا اختياراً ، وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف انتهى . ولا إشكال في ذلك ، لأنه لا يلزم أن يكون التشبيه من كل الوجوه إذ كان يكون المشبه هو المشبه به ، وذلك محال ، ولا من معظم الوجوه . والتشبيه هنا وقع في بعض الوجوه ، وهو : أن الدخول في الإسلام هو كان بكلمة الشهادة ، وقد حسن الزمخشري هذا القول وطوله جداً . فقال : أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة ، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم ، فمنّ الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم ، وإن صرتم أعلاماً فيه فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم ، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في الكافة ، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل ، لا لصدق النية ، فتجعلوه سلماً إلى استباحة دمه وماله ، وقد حرمهما الله تعالى انتهى .
قال أبو عبد الله الرازي : والأقرب عندي أن يقال : إنَّ من ينتقل عن دين إلى دين ، ففي أول الأمر يحدث له ميل بسبب ضعيف ، ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتقوى إلى أن يكمل ويستحكم ويحصل الانتقال ، فكأنه قيل لهم : كنتم في أول الإسلام إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام ، ثم مَنّ الله عليكم بتقوية ذلك الميل وتأكيد النفرة عن الكفر ، فكذلك هؤلاء لما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم هذا الإيمان ، فإنّ الله يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم ، ويقوي تلك الرغبة في صدورهم انتهى كلامه . وليس كل من آمن من الصحابة كان ميله أولاً إلى الإسلام ميلاً ضعيفاً ثم يقوى ، بل من الصحابة من استبصر بأول وهلة دعاء الرسول ، أو رأى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) كأبي بكر وأبي ذر وعبد الله بن سلام وأمثالهم ممن كان مستبصراً منتظراً . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت ، أي على هذه الحال في جاهليتكم لا تثبتون ، حتى جاء الإسلام ومنّ الله عليكم انتهى . والظاهر أن

" صفحة رقم 344 "
ّ قوله : فمنّ الله عليكم ، هو من تمام كذلك كنتم من قبل . وقيل : من تمام تبتغون عرض الحياة الدنيا وما قبله ، فالمعنى : منَّ عليكم بأنْ قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر قاله : أبو عبد الله الرازي ، فتبينوا : تقدّم أنه قرىء فتثبتوا ، ويحتمل أن يكون هذا تأكيداً للأول ، ويحتمل أن يكون فتبينوا في قراءة من جعله من التبين ، أن لا يكون تأكيد الاختلاف متعلق التبين . فالمعنى في الأول : فتبينوا أمر من تقدمون على قتله ، وفي الثاني : فتبينوا نعمة الله عليكم بالإسلام .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ( أي خبيراً بنياتكم وطلباتكم ، فكونوا محتاطين فيما تقصدونه ، متوخين أمرالله تعالى . وهذا فيه تحذير ، فاحفظوا أنفسكم من موارد الزلل . وقرأ الجمهور : إنَّ بكسر الهمزة على الاستئناف ، وقرىء بفتحها على أن تكون معمولة لقوله : ) فَتَبَيَّنُواْ ).
النساء : ( 95 ) لا يستوي القاعدون . . . . .
( لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ( قال أبو سليمان الدمشقي : نزلت من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود والتخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وأما غير أولي الضرر فسببها قول ابن أم مكتوم : كيف من لا يستطيع الجهاد ؟ .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما رغب المؤمنين في القتال في سبيل الله أعداء الله الكفار ، واستطرد من ذلك إلى قتل المؤمن خطأ وعمداً بغير تأويل وبتأويل ، فنهى أن يقدم على قتله بتأويل أمر يحمله على الإسلام إذا كان ظاهره يدل على ذلك ، ذكر بيان فضل المجاهد على القاعد ، وبيان تفاوتهما ، وأن ذلك لا يمنع منه كون الجهاد ، مظنة أن يصيب المجاهد مؤمناً خطأ ، أو من يلقي السلم فيقتله بتأويل فيتقاعسن عن الجهاد لهذه الشبهة ، فأتى عقيب ذلك بفضل الجهاد وفوزه بما ذكر في الآية من الدرجات والمغفرة والرحمة والأجر العظيم ، دفعاً لهذه الشبهة .
ويستوي هنا من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد ، وإثباته لا يدل على عموم المساواة ، وكذلك نفيه . وإنما عنى نفي المساواة في الفضل ، وفي ذلك إبهام على السامع ، وهو أبلغ من تحرير المنزلة التي بين القاعد والمجاهد . فالمتأمل يبقي مع فكره ، ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما ، والقاعد هو المتخلف عن الجهاد ، وعبر عن ذلك بالقعود ، لأن القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب . وأولو الضرر هم من لا يقدر على الجهاد لعمى ، أو مرض ، أو عرج ، أو فقد أهبة . والمعنى : لا يستوي القاعدون القادرون على الغزو والمجاهدون . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة : غير برفع الراء . ونافع ، وابن عامر ، والكسائي : بالنصب ، ورويا عن عاصم . وقرأ الأعمش وأبو حيوة : بكسرها . فأما قراءة الرفع فوجهها الأكثرون على الصفة ، وهو قول سيبويه ، كما هي عنده صفة في ) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ( ومثله قول لبيد : وإذا جوزيت قرضاً فاجزه
إنما يجزي الفتى غير الجمل
كذا ذكره أبو عليّ ، ويروى : ليس الجمل . وأجاز بعض النحويين فيه البدل . قيل : وهو إعراب ظاهر ، لأنه جاء بعد نفي ، وهو أولى من الصفة لوجهين : أحدهما : أنهم نصوا على أنَّ الأفصح في النفي البدل ، ثم النصب على الاستثناء

" صفحة رقم 345 "
ثم الوصف في رتبة ثالثة . الثاني : أنه قد تقرر أنّ غيراً نكرة في أصل الوضع وإن أضيفت إلى معرفة هذا ، هو المشهور ، ومذهب سيبويه . وإن كانت قد تتعرف في بعض المواضع ، فجعلها هنا صفة يخرجها عن أصل وضعها إما باعتقاد التعريف فيها ، وإما باعتقاد أنّ القاعدين لما لم يكونوا ناساً معينين ، كانت الألف واللام فيه جنسية ، فأجرى مجرى النكرات حتى وصف بالنكرة ، وهذا كله ضعيف . وأما قراءة النصب فهي على الاستثناء من القاعدين . وقيل : استثناء من المؤمنين ، والأول أظهر لأنه المحدث عنه . وقيل : انتصب على الحال من القاعدين . وأما قراءة الجر فعلى الصفة للمؤمنين ، كتخريج من خرج غير المغضوب عليهم على الصفة من ) الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ( ومن المؤمنين في موضع الحال من قوله : القاعدون . أي : كائنين من المؤمنين .
واختلفوا : هل أولو الضرر يساوون المجاهدين أم لا ؟ فإن اعتبرنا مفهوم الصفة ، أو قلنا بالأرجح من أنّ الاستثناء من النفي إثبات ، لزمت المساواة . وقال ابن عطية : وهذا مردود ، لأن الضرر لا يساوون المجاهدين ، وغايتهم إنْ خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر ، وكذا قال ابن جريج : الاستثناء لرفع العقاب ، لا لنيل الثواب . المعذور يستوفي في الأجر مع الذي خرج إلى الجهاد ، إذ كان يتمنى لو كان قادراً لخرج . قال : استثنى المعذور من القاعدين ، والاستثناء من النفي إثبات ، فثبت الاستواء بين المجاهد والقاعد المعذور انتهى . وإنما نفي الاستواء فيما علم أنه منتفٍ ضرورة لإذكاره ما بين القاعد بغير عذر ، والمجاهد من التفاوت العظيم ، فيأنف القاعد من انحطاط منزلته فيهتز للجهاد ويرغب فيه . ومثله : ) قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته لينهضم إلى التعلم ، ويرتقي عن حضيض الجهل إلى شرف العلم .
قال بعض العلماء : كان نزول هذه الآية في الوقت الذي كان الجهاد فيه تطوعاً ، والألم يكن لقوله : لا يستوي معنى ، لأن من ترك الفرض لا يقال : إنه لا يستوي هو والآتي به ، بل يلحق الوعيد بالتارك ، ويرغب الآتي به في الثواب . وقال الماتريدي : نفى التساوي بين فاعل الجهاد وتاركه ، لا يدلّ على أنّ الجهاد ما كان فرضاً في ذلك الوقت . ألا ترى أن قوله تعالى : ) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ( نفي المساواة بين المؤمن والفاسق ، والإيمان فرض . وقال تعالى : ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيّئَاتِ ( الآية وقال : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، والعلم في كثير من الأشياء فرض . وإذ جاز نفي الاستواء بين فاعل التطوع وتاركه ، فلأن يجوز بين فاعل الفرض وتاركه بطريق الأولى ، وإنما لم يلحق الإثم تاركه لأنه فرض كفاية انتهى . والظاهر أنّ نفي هذا الاستواء ليس مخصوصاً بقاعدة عن جهاد مخصوص ، ولا مجاهد جهاداً مخصوصاً بل ذلك عام .
وعن ابن عباس : لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها . وعن مقاتل : إلى تبوك . وقال ابن عباس وغيره : أولوا الضرر هم أهل الأعذار . إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد . وفي الحديث : ( لقد خلفتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر ) وجاء هنا تقديم الأموال على الأنفس . وفي قوله : ) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ( تقديم الأنفس على الأموال لتباين الغرضين ، لأن المجاهد بائع ، فأخر ذكرها تنبيهاً على أنّ المضايقة فيها أشد ، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب . والمشتري قدمت له النفس تنبيهاً على أنّ الرغبة فيها أشد ، وإنما يرعب أولاً في الأنفس الغالي .
( فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ( الظاهر : أن المفضل عليهم هم القاعدون غير أولي الضرر ، لأنهم هم الذين نفى التسوية بينهم ، فذكر ما امتازوا به عليهم ، وهو تفضيلهم عليهم بدرجة ، فهذه الجملة بيان للجملة الأولى جواب سؤال مقدر ، كان قائلاً قال : ما لهم لا يستوون ؟ فقيل : فضل الله المجاهدين ، والمفضل عليهم هنا درجة هم المفضل عليهم آخراً درجات ، وما بعدها وهم القاعدون غير

" صفحة رقم 346 "
أولي الضرر . وتكرر التفضيلان باعتبار متعلقهما ، فالتفضيل الأول بالدرجة هو ما يؤتى في الدنيا من الغنيمة ، والتفضيل الثاني هو ما يخولهم في الآخرة ، فنبه بإفراد الأول ، وجمع الثاني على أنّ ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير . وقيل : المجاهدون تتساوى رتبهم في الدنيا بالنسبة إلى أحوالهم ، كتساوي القاتلين بالنسبة إلى أخذ سلب من قتلوه ، وتساوي نصيب كل واحد من الفرسان ونصيب كل واحد من الرجال ، وهم في الآخرة متفاوتون بحسب إيمانهم ، فلهم درجات بحسب استحقاقهم ، فمنهم من يكون له الغفران ، ومنهم من يكون له الرحمة فقط . فكان الرحمة أدنى المنازل ، والمغفرة فوق الرحمة ، ثم بعد الدرجات على الطبقات ، وعلى هذا نبه بقوله : ) هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ( ومنازل الآخرة تتفاوت . وقيل : الدرجة المدح والتعظيم ، والدرجات منازل الجنة . وقيل : المفضل عليهم أولاً غير المفضل عليهم ثانياً . فالأول هم القاعدون بعذر ، والثاني هم القاعدون بغير عذر ، ولذلك اختلف المفضل به : ففي الأول درجة ، وفي الثاني درجات ، وإلى هذا ذهب ابن جريج ، وهو من لا يستوي عنده أولو الضرر والمجاهدون .
وقيل : اختلف الجهادان ، فاختلف ما فضل به . وذلك أن الجهاد جهادان : صغير ، وكبير . فالصغير مجاهدة الكفار ، والكبير مجاهدة النفس . وعلى ذلك دل قوله عليه السلام : ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) وإنما كان مجاهدة النفس أعظم ، لأنّ من جاهد نفسه فقد جاهد الدنيا ، ومن غلب الدنيا هانت عليه مجاهدة العدا ، فخصّ مجاهدة النفس بالدرجات تعظيماً لها . وقد تناقض الزمخشري في تفسير القاعدين فقال : فضل الله المجاهدين جملة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين ، كأنه قيل : ما لهم لا يستوون ؟ فأجيب بذلك : والمعنى على القاعدين غير أولي الضرر ، لكون الجملة بياناً للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف . ثم قال : ( فإن قلت ) : قد ذكر الله تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات من هم ؟ ( قلت ) : أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء ، وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم ، لأن الغزو فرض كفاية انتهى كلامه . فقال : أولاً المعنى على القاعدين غير أولي الضرر ، وقال في هذا الجواب : على القاعدين الأضراء ، وهذا تناقض . والظاهر أنّ قوله : درجات ، لا يراد به عدد مخصوص ، بل ذلك على حسب اختلاف المجاهدين . وقال ابن زيد : هي السبع المذكورة في براءة في قوله : ) ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ( الآيات . وقال ابن عطية : درجات الجهاد لو حصرت لكانت أكثر من هذه انتهى . وقال ابن مجيريز : الدرجات في الجنة سبعون درجة ، كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة ، وإلى نحوه ذهب : مقاتل ، ورجحه الطبري . وفي الحديث الصحيح : ( أن في الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض ) وذهب بعض العلماء إلى أنّ قوله : وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ، هو على سبيل التوكيد ، لا أنّ مدلول درجة مخالف لمدلول درجات في المعنى ، بل هما سواء في المعنى . قال تعالى : ) وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ( لا يراد بها شيء واحد ، بل أشياء . وكرر التفضيل للتأكيد والترغيب في أمر الجهاد ، وإلى هذا ذهب الماتريدي قال : وفي الآية دلالة على أنّ الجهاد فرض كفاية ، حيث يسقط بقيام بعض ، وإن كان خطاب قوله : وقاتلوا في سبيل الله يعم انتهى .
( وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ( أي وكلاً من القاعدين والمجاهدين . وقيل : وكلاً من القاعدين غير أولي الضرر ، وأولي الضرر ، والمجاهدين . والحسنى هنا : الجنة باتفاق . وقال عبد الجبار : هذا الوعد لا يليق بأمر الآخرة . ولما ذكر ما للمجاهدين من الحظ عاجلاً جاز أن يتوهم أنه كما اختص بهذه النعم ، فكذلك يختص بالثواب . فبيّن أنَّ للقاعدين ما للمجاهدين من الحسنى في الوعد مع ذلك ، ثم بيّن أنّ لهم فضل

" صفحة رقم 347 "
درجات ، لأنه لو لم يذكر ذلك لأوهم أنّ حالهما في الوعد بالحسنى سواء انتهى . وانتصب كلاً على أنه مفعول أوّل لوعد ، والثاني هو الحسنى . وقرىء : وكل بالرفع على الابتداء ، وحذف العائد أي : وكلهم وعد الله .
( وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( قيل
النساء : ( 96 ) درجات منه ومغفرة . . . . .
: الدرجات باعتبار المنازل الرفيعة بعد إدخال الجنة ، والمغفرة باعتبار ستر الذنب ، والرحمة باعتبار دخول الجنة . والظاهر أنّ هذا التفضيل الخاص للمجاهد بنفسه وماله ، ومن تفرد بأحدهما ليس كذلك . ومن المعلوم أنّ من جاهد ، ومَن أنفق ماله في الجهاد ، ليس كمن جاهد بنفقة من عند غيره .
وفي انتصاب درجة ودرجات وجوه : أحدها : أنهما ينتصبان انتصاب المصدر لوقوع درجة موقع المرة في التفضيل ، كأنه قيل : فضلهم تفضيله . كما تقول : ضربته سوطاً ، ووقوع درجات موقع تفضيلات كما تقول : ضربته أسواطاً تعني : ضربات . والثاني : أنهما ينتصبان انتصاب الحال أي : ذوي درجة ، وذوي درجات . والثالث : على تقدير حرف الجر أي : بدرجة وبدرجات . والرابع : أنهما انتصبا على معنى الظرف ، إذ وقعا موقعه أي : في درجة وفي درجات . وقيل : انتصاب درجات على البدل من أجراً قيل : ومغفرة ورحمة معطوفان على درجات . وقيل : انتصبا بإضمار فعلهما أي : غفر ذنبهم مغفرة ورحمهم رحمة . وأما انتصابُ أجراً عظيماً فقيل : على المصدر ، لأنّ معنى فضل معنى أجر ، فهو مصدر من المعنى ، لا من اللفظ . وقيل : على إسقاط حرف الجر أي بأجر . وقيل : مفعول بفضلهم لتضمينه معنى أعطاهم . قال الزمخشري : ونصب أجراً عظيماً على أنه حال من النكرة التي هي درجات مقدّمة عليها انتهى . وهذا لا يظهر لأنه لو تأخر لم يجز أن يكون نعتاً لعدم المطابقة ، لأنّ أجراً عظيماً مفرد ، ولا يكون نعتاً لدرجات ، لأنها جمع . وقال ابن عطية : ونصب درجات ، إما على البدل من الأجر ، وإما بإضمار فعل على أن يكون تأكيداً للأجر ، كما نقول لك : على ألف درهم عرفاً ، كأنك قلت : أعرفها عرفاً انتهى . وهذا فيه نظر .
النساء : ( 97 ) إن الذين توفاهم . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ ( روى البخاري عن ابن عباس : أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم ، أو يضرب فيقتل ، فنزلت . وقيل : قوم من أهل مكة أسلموا ، فلما هاجر الرسول أقاموا مع قومهم ، وفتن منهم جماعة ، فلما كان يوم بدر خرج منهم قوم مع الكفار ، فقتلوا ببدر فنزلت . قال عكرمة : نزلت في خمسة قتلوا يوم بدر : قيس بن النائحة بن المغيرة ، والحرث بن زمعة بن الأسود بن أسد ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العاصي بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف . وقال النقاش : في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غر هؤلاء دينهم .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي : أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد ، أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد وسكن في بلاد الكفر . قال ابن عباس ومقاتل : التوفي هنا قبض الأرواح . وقال الحسن : الحشر إلى النار . والملائكة هنا قيل : ملك الموت ، وهو من باب طلاق الجمع على الواحدة تفخيماً له وتعظيماً لشأنه ، لقوله تعالى : ) قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( هذا قول الجمهور

" صفحة رقم 348 "
وقيل : المراد ملك الموت وأعوانه وهم : ستة ، ثلاثة لأرواح المؤمنين ، وثلاثة لأرواح الكافرين . ويشهد لهذا ) تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ( وظلمهم أنفسهم بترك الهجرة ، وقعودهم مع قومهم حين رجعوا للقتال ، أو برجوعهم إلى الكفر ، أو بشكهم ، أو بإعانة المشركين ، أقوال أربعة : وتوفاهم : ماض لقراءة من قرأ توفتهم ، ولم يلحق تاء التأنيث للفصل ، ولكون تأنيث الملائكة مجازاً أو مضارع ، وأصله تتوفاهم .
وقرأ إبراهيم : توفاهم بضم التاء مضارع وفيت ، والمعنى : أنّ الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها ، أي : يمكنهم من استيفائها فيستوفونها . والضمير في قالوا للملائكة ، والجملة خبر إنّ ، والرابط ضمير محذوف دل عليه المعنى ، التقدير : قالوا : قالوا لهم فيم كنتم ؟ وهذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع . والمعنى : في أي شيء كنتم من أمر دينكم ؟ وقيل : إن أحوال الدنيا ، وجوابهم للملائكة اعتذار عن تخلفهم عن الهجرة ، وإقامتهم بدار الكفر ، وهو اعتذار غير صحيح .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف صح وقوع قوله : كنا مستضعفين في الأرض ، جواباً عن قولهم : فيم كنتم ؟ وكان حق الجواب أن يقولوا : كنا في كذا ، ولم يكن في شيء ؟ ( قلت ) : معنى فيم كنتم ، التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على الهجرة ولم يهاجروا ، فقالوا : كنا مستضعفين اعتذاراً مما وبخوا به ، واعتلالاً بالاستضعاف ، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء انتهى كلامه . والذي يظهر أنّ قولهم : كنا مستضعفين في الأرض جواب لقوله : فيم كنتم على المعنى ، لا على اللفظ . لأن معنى : فيم كنتم في أي حال مانعة من الهجرة كنتم ، قالوا : كنا مستضعفين أي في حالة استضعاف في الأرض بحيث لا نقدر على الهجرة ، وهو جواب كذب ، والأرض هنا أرض مكة . ) قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ( هذا تبكيت من الملائكة لهم ، وردّ لما اعتذروا به . أي لستم مستضعفين ، بل كانت لكم القدرة على الخروج إلى بعض الأقطار فتهاجروا حتى تلحقوا بالمهاجرين ، كما فعل الذين هاجروا إلى الحبشة ، ثم لحقوا بعد بالمؤمنين بالمدينة . ومعنى فتهاجروا فيها أي : في قطر من أقطارها ، بحيث تأمنون على دينكم . وقيل : أرض الله أي المدينة . واسعة آمنة لكم من العدوّ فتخرجوا إليها . وهل هؤلاء الذين توفتهم الملائكة مسلمون خرجوا مع المشركين في قتال فقتلوا ؟ أو منافقون ، أو مشركون ؟ ثلاثة أقوال . الثالث قاله الحسن . قال ابن عطية : قول الملائكة لهم بعد توفي أرواحهم يدل على أنهم مسلمون ، ولو كانوا كفاراً لم يقل لهم شيء من ذلك ، وإنما لم يذكروا في الصحابة لشدة ما واقعوه ، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان ، واحتمال ردته . انتهى ملخصاً . وقال السدّي : يوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر كافراً حتى يهاجر ، إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً انتهى . قال ابن عطية : والذي تقتضيه الأصول أنّ من ارتد من أولئك كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود ، ومن كان مؤمناً فمات بمكة ولم يهاجر ، أو أخرج كرهاً فقتل ، عاص مأواه جهنم دون خلود . ولا حجة للمعتزلة في هذه الآية على التكفير بالمعاصي . وفي الآية دليل على أنَّ من لا يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يحب ، وجبت عليه الهجرة . وروي في الحديث ( من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) .
( فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً ( الفاء للعطف ، عطفت جملة على جملة . وقيل : فأولئك خبر إنْ ، ودخلت الفاء في خبر إنّ تشبيهاً لاسمها باسم الشرط ، وقالوا : فيم كنتم حال من الملائكة ، أو صفة لظالمي أنفسهم أي : ظالمين أنفسهم قائلاً لهم الملائكة : فيم كنتم ؟ وقيل : خبر إنّ محذوف تقديره : هلكوا ، ثم فسر الهلاك بقوله : قالوا فيم كنتم .
النساء : ( 98 ) إلا المستضعفين من . . . . .
( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ( من الرجال جماعة ، كعياش بن أبي زمعة ، وسلمة بن هشام ، والوليد بن الوليد . ومن النساء جماعة : كأم

" صفحة رقم 349 "
الفضل أمامة بنت الحارث أم عبد الله بن عباس . ومن الولدان : عبد الله بن عباس وغيره . فإنْ أريد بالولدان العبيد والإماء البالغون فلا إشكال في دخولهم في المستثنين ، وإن أريد بالولدان الأطفال فهم لا يكونون إلا عاجزين فلا يتوجه عليهم وعيد ، بخلاف الرّجال والنساء قد يكونون عاجزين ، وقد يكونون غير عاجزين . وإنما ذكروا مع الرّجال والنساء وإنْ كانوا لا يتوجه عليهم الوعيد باعتبار أنَّ عجزهم هو عجز لآبائهم الرّجال والنساء ، لأنَّ من أقوى أسباب العجز وعدم الحنكة وكون الرّجال والنساء مشغولين بأطفالهم ، مشغوفين بهم ، فيعجزون عن الهجرة بسبب خوف ضياع أطفالهم وولدانهم . فذكر الولدان في المستثنين تنبيه على أعظم طرق العجز للرّجال والنساء ، لأن طرق العجز لا تنحصر ، فنبه بذكر عجز الولدان على قوة عجز الآباء والأمهات بسببهم .
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرّجال والنساء ، فيلحقوا بهم في التكليف انتهى . وليس بجيد ، لأنّ المراهق لا يلحق بالمكلف أصلاً ، ولا وعيد عليه ما لم يكلف . وقيل : يحتمل أن يراد بالمستضعفين أسرى المسلمين الذين هم في أيدي المشركين لا يستطيعون حيلة إلى الخروج ، ولا يهتدون إلى تخليص أنفسهم . وهذا الاستثناء قال الزجاج : هو من قوله : ) مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ). قال غيره : كأنه قيل : فأولئك في جهنم إلا المستضعفين ، فعلى هذا استثناء متصل . والذي يقتضيه النظر أنه استثناء منقطع ، لأن قوله : ) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ( إلى آخره يعود الضمير في مأواهم إليهم . وهم على أقوال المفسرين إما كفار ، وإما عصاة بالتخلف عن الهجرة وهم قادرون ، فلم يندرج فيهم المستضعفون المستثنون لأنهم عاجزون ، فهو منقطع لا يستطيعون حيلة ، ولا يهتدون سبيلاً .
الحيلة : لفظ عام لأنواع أسباب التخلص . والسبيل هنا طريق المدينة قاله : مجاهد ، والسدي . وغيرهما . قال ابن عطية : والصواب أنه عام في جميع السبل ، يعني المخلصة من دار الكفر انتهى . وقيل : لا يعرفون طريقاً إلى الخروج ، وهذه الجملة قيل ؛ مستأنفة . وقيل : في موضع الحال . وقال الزمخشري : صفة للمستضعفين ، أو الرّجال والنساء والولدان . قال : وإنما جاز ذلك والجمل نكرات ، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس بشيء بعينه كقوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني
انتهى كلامه .
وهو تخريج ذهب إلى مثله بعض النحويين في قوله تعالى : ) وَءايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ( وهو هدم للقاعدة المشهورة : بأن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة . والذي يظهر أنها جملة مفسرة لقوله : المستضعفين ، لأنها في معنى : ( إلا الذين استضعفوا فجاء بياناً وتفسيراً لذلك ، لأنّ الاستضعاف يكون بوجوه ، فبين جهة الاستضعاف النافع في التخلف عن الهجرة وهي عدم استطاعة الحيلة وعدم اهتداء السبيل . والثاني مندرج تحت الأول ، لأنه يلزم من انتفاء القدرة على الحيلة التي يتخلص بها انتفاء اهتداء السبيل . وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعث إلى مسلمي مكة بهذه الآية ، فقال جندب بن ضمرة الليثي : ويقال : جندع بالعين ، أو ضمرة بن جندب لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين ، وإني لأهتدي الطريق ، والله لا أبيت الليلة بمكة ، فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة ، وكان شيخاً كبيراً فمات بالتنعيم .
النساء : ( 99 ) فأولئك عسى الله . . . . .
( فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ( عسى : كلمة أطماع وترجية ، وأتى بها وإن كانت من الله واجبة ، دلالة على أنّ ترك الهجرة أمر صعب لا فسحة فيه ، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني . وقيل : معنى ذلك أنه يعفو عنه في المستقبل ، كأنه وعدهم غفران ذنوبهم كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) .
( وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ( تأكيد في وقع عفوه عن

" صفحة رقم 350 "
هؤلاء ، وتنبيه على أنّ هذا المترجي هو واقع ، لأنه تعالى لم يزل متصفاً بالعفو والمغفرة .
النساء : ( 100 ) ومن يهاجر في . . . . .
( وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الاْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ( قيل : نزلت في أكتم بن صيفي ، ولما رغّب تعالى في الهجرة ذكر ما يترتب عليها من وجود السعة والمذاهب الكثيرة ، ليذهب عنه ما يتوهم وجوده في الغربة ومفارقة الوطن من الشدة ، وهذا مقرر ما قالته الملائكة : ) أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ).
ومعنى مراغماً : متحولاً ومذهباً قاله : ابن عباس ، والضحاك ، والربيع ، وغيرهم . وقال مجاهد : المزحزح عما يكره . وقال ابن زيد : المهاجر . وقال السدي : المبتغى للمعيشة . وقرأ الجراح ، ونبيح ، والحسن بن عمران : مرغماً على وزن مفعل كمذهب . قال ابن جني : هو على حذف الزوائد من راغم . والسعة هنا في الرزق قاله : ابن عباس ، والضحاك ، والربيع ، وغيرهم . وقال قتادة : سعة من الضلالة إلى الهدى ، ومن القلة إلى الغنى . وقال مالك : السعة سعة البلاد . قال ابن عطية : والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض وكثرة المعاقل ، وبذلك تكون السعة في الرّزق واتساع الصدر عن همومه وفكره ، وغير ذلك من وجوه الفرح ، ونحو هذا المعنى قول الشاعر : لكان لي مضطرب واسع
في الأرض ذات الطول والعرش
انتهى . وقد مراغمة الأعداء على سعة العيش ، لأن الابتهاج برغم أنوف الأعداء لسوء معاملتهم أشد من الابتهاج بالسعة .
( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ ( قيل : نزلت في جندب بن ضمرة وتقدمت قصته قبل . وقيل : في ضمرة بن بغيض . وقيل : أبو بغيض ضمرة بن زنباع الخزاعي . وقيل : خالد بن حرام بن خويلد أخو حكيم بن حرام خرج مهاجراً إلى الحبشة ، فمات في الطريق . وقيل : ضمرة بن ضمرة بن نعيم . وقيل : ضمرة بن خزاعة . وقيل : رجل من كنانة هاجر فمات في الطريق ، فسخر منه قومه فقالوا : لا هو بلغ ما يريد ، ولا هو أقام في أهله حتى دفن . والصحيح : أنه ضمرة بن بغيض ، أو بغيض بن ضمرة بن الزنباع ، لأنّ عكرمة سأل عنه أربع عشرة سنة ، وصححه . وجواب الشرط فقد وقع أجره على الله ، وهذه مبالغة في ثبوت الأجر ولزومه ، ووصول الثواب إليه فضلاً من الله وتكريماً ، وعبر عن ذلك بالوقوع مبالغة . وقرأ النخعي وطلحة بن مصرّف : ثم يدركه برفع الكاف . قال ابن جني : هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : ثم هو يدركه الموت ، فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم ، وفاعله . وعلى هذا حمل يونس قول الأعشى : إن تركبوا فركوب الخير عادتنا
أو تنزلون فإنا معشر نزل
المراد : أو أنتم تنزلون ، وعليه قول الآخر :

" صفحة رقم 351 "
إن تذنبوا ثم يأتيني نعيقكم
فما عليّ بذنب عندكم قوت
المعنى : ثم أنتم يأتيني نعيقكم . وهذا أوجه من أن يحمل على ألم يأتيك انتهى . وخرج على وجه آخر وهو : أن رفع الكاف منقول من الهاء ، كأنه أراد أن يقف عليها ، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف كقوله : من عرى سلبي لم أضربه يريد : لم أضربه ، فنقل حركة الهاء إلى الباء المجزومة . وقرأ الحسن بن أبي الحسن ، ونبيح ، والجراح : ثم يدركه بنصب الكاف ، وذلك على إضمارات كقول الأعشى :
ويأوي إليها المستجير فيعصما قال ابن جني : هذا ليس بالسهل ، وإنما بابه الشعر لا القرآن وأنشد أبو زيد فيه :
سأترك منزلي لبني تميم
وألحق بالحجاز فأستريحا
والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف انتهى . وتقول : أجرى ثم مجرى الواو والفاء ، فكما جاز نصب الفعل بإضمار أنْ بعدهما بين الشرط وجوابه ، كذلك جاز في ثم إجراء لها مجراهما ، وهذا مذهب الكوفيين ، واستدلوا بهذه القراءة . وقال الشاعر في الفاء :
ومن لا يقدم رجله مطمئنة
فيثبتها في مستوى القاع يزلق
وقال آخر في الواو :
ومن يقترب منا ويخضع نوؤه
ولا يخش ظلماً ما أقام ولا هضما
وقالوا : كل هجرة لغرض ديني من : طلب علم ، أو حج ، أو جهاد ، أو فراء إلى بلد يزداد فيه طاعة ، أو قناعة ، وزهداً في الدنيا ، أو ابتغاء رزق طيب ، فهي هجرة إلى الله ورسوله . وإنْ أدركه الموت فأجرُه على الله تعالى .
قيل : وفي الآية دليل على أن الغازي إذا خرج إلى العزو ومات قبل القتال فله سهمه وإن لم يحضر الحرب . روي ذلك عن أهل المدينة ، وابن المبارك ، وقالوا : إذا لم يحرم الأجر لم يحرم الغنيمة . ولا تدل هذه الآية على ذلك ، لأن الغنيمة لا تستحق إلا بعد الحيازة ، فالسهم متعلق بالحيازة ، وهذا مات قبل أن يغنم ، ولا حجة في قوله : فقد وقع أجره على الله على ذلك ، لأنه لا خلاف في أنه لو مات في دار الإسلام وقد خرج إلى الغزو وما دخل في دار الحرب ، أنه لا يسهم له ، وقد وقع أجره على الله كما وقع أجر الذي خرج مهاجراً فمات قبل بلوغه دار الهجرة .
( وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( أي : غفوراً لما سلف من ذنوبه ، رحيماً بوقوع أجره عليه ومكافأته على هجرته ونيته .
وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من البلاغة والبديع . منها الاستعارة في قوله : إذا ضربتم في سبيل الله ، استعار الضرب للسعي في قتال الأعداء ، والسبيل لدينه ، وفي : لا يستوي عبَّر به وهو حقيقة في المكان عن التساوي في المنزلة والفضيلة وفي : درجة حقيقتها في المكان فعبر به عن المعنى الذي القتضى التفضيل ، وفي : يدركه استعار الإدراك الذي هو صفة من فيه حياة لحلول الموت ، وفي : فقد وقع

" صفحة رقم 352 "
استعار الوقوع الذي هو من صفات الإجرام لثبوت الأجر . والتكرار في : اسم الله تعالى ، وفي : فتبينوا ، وفي : فضل الله المجاهدين على القاعدين . والتجنيس المماثل في : مغفرة وغفوراً . والمغاير في : أن يعفو عنهم وعفواً ، وفي : يهاجر ومهاجراً . وإطلاق الجمع على الواحد في : توفاهم الملائكة على قول من قال أنه ملك الموت وحده . والاستفهام المراد منه التوبيخ في : فيم كنتم ، وفي : ألم تكن . والإشارة في كذلك وفي : فأولئك . والسؤال والجواب في : فيم كنتم وما بعدها . والحذف في عدة مواضع .
2 ( ) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاٌّ رْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىأَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ( ) )
النساء : ( 101 ) وإذا ضربتم في . . . . .
السلاح : معروف وما هو ما يتحصن به الإنسان من سيف ورمح وخنجر ودبوس ونحو ذلك ، وهو مفرد مذكر ، يجمع على أسلحة ، وأفعلة جمع فعال . المذكر نحو : حمار وأحمرة ، ويجوز تأنيثه . قال الطرماح : يهز سلاحاً لم يرثها كلالة
يشك بها منها غموض المغابن
وقال الليث : يقال للسيف وحده سلاح ، وللعصا وحدها سلاح . وقال ابن دريد : يقال : السلاح ، والسلح ، والمسلح ، والمسلحان ، يعني : على وزن الحمار ، والضلع ، والنعر ، والسلطان . ويقال : رجل سالح إذا كان معه السلاح . وقال أبو عبيدة : السلاح ما قوتل به .
( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواةِ ( روى مجاهد عن ابن عباس قال : كما مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد ، وقال المشركون : لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم وهم في الصلاة ، فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر ، الضرب في الأرض . والظاهر جواز القصر في مطلق السفر ، وبه قال أهل الظاهر .
واختلفت فقهاء الأمصار في حدّ المسافة التي تقصر فيها الصلاة ، فقال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق : تقصر في أربعة برد ، وذلك ثمانية وأربعون ميلاً . وقال أبو حنيفة والثوري : مسيرة ثلاث . وقال أبو حنيفة : ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام . وقال الأوزاعي : مسيرة يوم تام ، وحكاه عن عامة العلماء . وقال الحسن والزهري : مسيرة يومين . وروي عن مالك : يوم وليلة . وقصر أنس في خمسة عشر ميلاً . والظاهر أنه لا يعتبر نوع سفر ، بل يكفي مطلق السفر ، سواء كان في طاعة أو مباح أو معصية ، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة . وروي عن ابن مسعود : أنه لا يقصر إلا في حج أو جهاد . وقال عطاء : لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة ، وروي عنه : أنها تقصر في

" صفحة رقم 353 "
السفر المباح . وأجمعوا على القصر في سفر الحج والعمرة والجهاد وما ضارعها من صلة رحم ، وإحياء نفس . والجمهور على أنه لا يجوز في سفر المعصية كالباغي ، وقاطع الطريق ، وما في معناهما . والظاهر أنه لا يقصر إلا حتى يتصف بالسفر بالفعل ، ولا اعتبار بمسافة معينة ، ولا زمان . وروي عن الحرث بن أبي ربيعة : أنه أراد سفراً فصلى بهم ركعتين في منزله ، والأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود ، وبه قال عطاء وسليمان بن موسى . والجمهور على أنه لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية . وروي عن مجاهد أنه قال : لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل . والظاهر من قوله : ) فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ( أن القصر مباح . وقال مالك في المبسوط : سنة . وقال حماد بن أبي سليمان ، وأبو حنيفة ، ومحمد بن سحنون ، واسماعيل القاضي : فرض ، وروي عن عمر بن عبد العزيز . والظاهر أن قوله : أن تقصروا ، مطلق في لاقصر ، ويحتاج إلى مقدار ما ينقص منها . فذهبت جماعة إلى أنه قصر من أربع إلى اثنين . وقال قوم : من ركعتين في السفر إلى ركعة ، والركعتين في السفر تمام .
( إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ظاهره أنّ إباحة القصر مشروطة بالخوف المزكور ، وإلى ذلك ذهب جماعة . ومن ذهب إلى أنّ القصر هو من ركعتي السفر إلى ركعة ، شرط الخوف ، وقال : تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها ، ويكون للإمام ركعتان . وقالت طائفة : لا يراد بالقصر الصلاة هنا القصر من ركعتيها ، وإنما المراد القصر من هيآتها بترك الركوع والسجود في الإيماء ، وترك القيام إلى الركوع ، وروي فعل ذلك عن ابن عباس وطاووس . وذهب آخرون إلى أنّ الآية مبيحة القصر من حدود الصلاة وهيآتها عند المسايفة واشتعال الحرب ، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه ، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه إلى ركعتين ، ورجح هذا القول الطبري بقوله : ) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُواْ ( أي بحدودها وهيآتها الكاملة . والحديث الصحيح يدلّ على أنّ هذا الشرط لا مفهوم له ، فلا فرق بين الخوف والأمن ، وحديث يعلى في ذلك مشهور صحيح .
والفتنة هنا هي التعرض بما يكره من قتال وغيره . ولغة الحجاز : فتن ، ولغة تميم وربيعة وقيس : أفتن رباعياً . وقال أبو زيد : قصر من صلاته قصر ، أنقص من عددها . وقال الأزهري : قصر وأقصر . وقرأ ابن عباس : أن تقصروا رباعياً ، وبه قرأ الضبي عن رجاله . وقرأ الزهري : تقصروا مشدّداً ، ومن للتبعيض . وقيل : زائدة . وقيل : الشرط ليس متعلقاً بقصر الصلاة ، بل تم الكلام عند قوله : أن تقصروا من الصلاة ، ثم ابتدأ حكم الخوف . ويؤيده على قول : أنّ تجاراً قالوا : إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي ؟ فنزلت : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ، ثم انقطع الكلام . فلما كان بعد ذلك بسنة في غزاة بني أسد حين صليت الظهر قال بعض العدو : هلا شددتم عليهم وقد مكنوكم من ظهورهم ؟ فقالوا : إنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأولادهم ، فنزلت : ) إِنْ خِفْتُمْ إِلَى قَوْلُهُ عَذَاباً مُّهِيناً ( صلاة الخوف . ورجح هذا بأنه إذا علق الشرط بما قبله كان جواز القصر مع الأمن مستفاداً من السنة ، ويلزم منه نسخ الكتاب بالسنة . وعلى تقدير الاستئناف لا يلزم ، ومتى استقام اللفظ وتم المعنى من غير محذور النسخ كان أولى انتهى . وليس هذا بنسخ ، إنما فيه عدم اعتبار مفهوم الشرط ، وهو كثير في كلام العرب . ومنه قول الشاعر : عزيز إذا حلّ الخليقان حوله
بذي لحب لجأته وضواهله
وفي قراءة أبيّ وعبد الله : أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم ، بإسقاط إن خفتم ، وهو مفعول من أجله من حيث المعنى أي : مخافة أن يفتنكم . وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد .
( إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً ( عدو : وصف يوصف به الواحد والجمع . قال : هم العدو ، ومعنى مبيناً : أي مظهراً للعداوة ، بحيث أنّ عداوته ليست مستورة ، ولا هو يخفيها ، فمتى قدر على أذية فعلها .
النساء : ( 102 ) وإذا كنت فيهم . . . . .
( وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ ( استدل بظاهر الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من لا يرى صلاة الخوف بعد الرسول حيث شرط كونه فيهم ، وكونه هو المقيم

" صفحة رقم 354 "
لهم الصلاة . وهو مذهب : ابن علية ، وأبي يوسف . لأن الصلاة بإمامته لا عوض عنها ، وغيره من العوض ، فيصلي الناس بإمامين طائفة بعد طائفة . وقال الجمهور : الخطاب له يتناول الأمراء بعده ، والضمير في : فيهم ، عائد على الخائفين . وقيل : على الضاربين في الأرض . والظاهر أنّ صلاة الخوف لا تكون إلا في السفر ، ولا تكون في الحضر ، وإن كان خوف . وذهب إليه قوم . وذهب الجمهور إلى أنّ الحضر إذا كان خوف كالسفر .
ومعنى : فأقمت لهم الصلاة ، أقمت حدودها وهيآتها . والذي يظهر أنّ المعنى فأقمت بهم . وعبر بالإقامة إذ هي فرض على المصلي في قول : عن ذلك . ومعنى : فلتقم هو من القيام ، وهو الوقوف . وقيل : فلتقم بأمر صلاتها حتى تقع على وفق صلاتك ، من قام بالأمر اهتم به وجعله شغله . والظاهر أنّ الضمير في : وليأخذوا أسلحتهم عائد على طائفة لقربها من الضمير ، ولكونها لها فيما بعدها في قوله : فإذا سجدوا . وقيل : إن الضمير عائد على غيرهم ، وهي الطائفة الحارسة التي لم تصل . وقال النحاس : يجوز أن يكون للجميع ، لأنه أهيب للعدو : فإذا سجدوا أي : هذه الطائفة . ومعنى سجدوا : صلوا . وفيه دليل على أنّ السجود قد يعبر به عن الصلاة ، ومنه : ( إذا جاء أحدكم المسجد فليسجد سجدتين ) أي فليصل ركعتين .
( فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ ( : ظاهره أن الضمير في فليكونوا عائد على الساجدين ، والمعنى : أنهم إذا فرغوا من السجود انتقلوا إلى الحراسة فكانوا وراءكم . وقال الزمخشري : فليكونوا يعني : غير المصلين من ورائكم يحرسونكم ، وجوز الوجهين ابن عطية ، قال : يحتمل أن يكون الذين سجدوا ، ويحتمل أن تكون الطائفة القائمة أولاً بإزاء العدوّ . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : فلتقم بكسر اللام . وقرأ أبو حيوة : وليات بياء بثنتين تحتها على تذكير الطائفة ، واختلف عن أبي عمرو ، في إدغام التاء في الطاء . وفي قوله : فلتأت طائفة ، دليل على أنهم انقسموا طائفتين : طائفة حارسة أولاً ، وطائفة مصلية أولاً معه ، ثم التي صلت أولاً صارت حارسة ، وجاءت الحارسة أولاً فصلت معه . والظاهر أنّ الأمر بأخذ الأسلحة واجب ، لأنّ فيه اطمئنان المصلي ، وبه قال : الشافعي وأهل الظاهر . وذهب الأكثرون إلى الاستحباب .
ودلت هذه الكيفية التي ذكرت في هذه الآية على أنّ طائفة صلت مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعض صلاة ، ولا دلالة فيها على مقدار ما صلت معه ، ولا كيفية إتمامهم ، وإنما جاء ذلك في السنة . ونحن نذكر تلك الكيفيات على سبيل الاختصار ، لأنها مبينة ما أجمل في القرآن . الكيفية الأولى : صلت طائفة معه ، وطائفة وجاه العدو ، وثبتت قائمة حتى تتم صلاتهم ويذهبوا وجاه العدوّ ، وجاءت هذه التي كانت وجاه العدوّ أولاً فصلى بهم الركعة التي بقيت ، ثم ثبت جالساً حتى أتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وهذه كانت بذات الرقاع . الكيفية الثانية : كالأولى ، إلا أنه حين صلى بالطائفة الأخيرة ركعة سلم ، ثم قضت بعد سلامه . وهذه مروية في ذات الرقاع أيضاً . الكيفية الثالثة : صف العسكر خلفه صفين ، ثم كبر وكبروا جميعاً ، وركعوا معه ، ورفعوا من الركوع جميعاً ، ثم سجد هو بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا سجد الآخرون في مكانهم ، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين وتأخر المتقدمون إلى مصاف المتأخرين ، ثم ركعوا معه جميعاً ، ثم سجد فسجد معه الصف الذي يليه ، فلما صلى سجد الآخرون ، ثم سلم بهم جميعاً . وهذه صلاته بعسفان والعدو في قبلته . الكيفية الرابعة : مثل هذا إلا أنه قال : ينكص الصف المتقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود ، ويتقدم الآخر فيسجدون في مصاف الأولين

" صفحة رقم 355 "
الكيفية الخامسة : صلى بإحدى الطائفتين ركعة ، والأخرى مواجهة العدوّ ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدوّ ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم سلم ، ثم قضى بهؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة في حين واحد . الكيفية السادسة : يصلي بطائفة ركعة ثم ينصرفون تجاه العدوّ ، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يسلم ، وتقوم التي معه تقضي ، فإذا فرغوا ساروا تجاه العدوّ ، وقضت الأخرى . الكيفية السابعة : صلى بكل طائفة ركعة ، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئاً زائداً على ركعة واحدة . الكيفية الثامنة : صلى بكل طائفة ركعتين ركعتين ، فكانت له أربع ، ولكل رجل ركعتان . الكيفية التاسعة : يصلي بإحدى الطائفتين ركعة إن كانت الصلاة ركعتين ، والأخرى بإزاء العدو ، ثم تقف هذه بإزاء العدوّ وتأتي الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءة ، وتتم صلاتها ثم تحرس ، وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها ، وكذا في المغرب . إلا أنه يصلي بالأولى ركعتين ، وبالثانية ركعة . الكيفية العاشرة : قامت معه طائفة ، وطائفة أخرى مقابل العدوّ وظهورهم إلى القبلة ، فكبرت الطائفتان معه ، ثم ركع وركع معه الذين معه وسجدوا كذلك ، ثم قام فصارت التي معه إلى إزاء العدوّ ، وأقبلت التي كانت بإزاء العدوّ فركعوا وسجدوا وهو قائم كما هو ، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه وسجدوا معه ، ثم أقبلت التي بإزاء العدوّ فركعوا وسجدوا وهو قاعد ، ثم سلم وسلم الطائفتان معه جميعاً . وهذه كانت في غزوة نجد . الكيفية الحادية عشرة : صلى بطائفة ركعتين ثم سلم ، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعتين وسلم .
وهذه كانت ببطن نخل . واختلاف هذه الكيفيات يرد على مجاهد قوله : إنه ما صلى الرسول إلا مرتين : مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم ، ومرة بعسفان والمشركون بضخيان بينهم وبين القبلة . وذكر ابن عباس : أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة الخوف . وقال أبو بكر بن العربي : روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه صلى صلاة الخوف أربعاً وعشرين مرة ، يعني كيفية . وقال ابن حنبل : لا نعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت صحيح ، فعلى أي حديث صليت أجزأ . وكذا قال الطبري . وجمع في الأخذ بين الحذر والأسلحة ، فإنه جعل الحذر أنه يحترز بها كما يحترز بالأسلحة كما جاء : ) تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ ( جعل الإيمان مستقراً لتمكنهم فيه .
( وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحِدَةً ( تقدم الكلام في لو بعدود في قوله : ) يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ ( أي : يشدون عليكم شدة واحدة : وقرى : وأمتعاتكم ، وهو شاذ إذ هو جمع الجمع كما قالوا : أشقيات وأعطيات في أشقية وأعطية ، جمع شقاء وعطاء . وفي هذا الإخبار تنبيه وتحذير من الغفلة ، وأفرد المسألة لأنها أبلغ في الإيصال .
( وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ ( قال ابن عباس : نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف ، كان مريضاً فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس . ولما كانت هاتان الحالتان مما يشق حمل السلاح فيهما ، ورخص في ذلك للمريض لأن حمله السلاح مما يكره به ويزيد في مرضه ، ورخص في ذلك إن كان مطر ، لأن المطر مما يثقل العدوّ ويمنعه من خفة الحركة للقتال . وقال : إن يتأذوا من مطر إلا لحق الكفار من أذاه ما لحق المسلمين غالباً إن كانا متقاربين في المسافة ومرضاً إما لجراحة سبقت ، أو لضعف بنية ، أو غير ذلك مما يعد مرضاً ، وتكرير الأمر بأخذ الحذر في الصلاة . وفي هاتين الحالتين مما يدل على توكيد التأهب والاحتراز من العدو ، فإنّ الجيش كثيراً ما يصاب من التفريط في الحذر . وقال الضحاك في قوله : وخذوا حذركم ، أي : تقلدوا سيوفكم ، فإن ذلك حذر الغزاة .
( إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابا

" صفحة رقم 356 "
ً مُّهِيناً ( قال الزمخشري : الأمر بالحذر من العدوّ يوهم توقع غلبة واغترار ، فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أنّ الله يهين عدوهم ، ويخذلهم ، وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم ، وليعلموا أنّ الأمر بالحذر ليس لذلك ، وإنما هو تعبد من الله ، كما قال : ) وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ).
2 ( ) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ إِنَّ الصَّلَواةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَاأَنْتُمْ هَاؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( ) ) 2
) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ ( الظاهر : أنّ معنى قضيتم الصلاة أي فرغتم منها ، والصلاة هنا صلاة الخوف ، وإلى ذلك ذهب الجمهور ، وكذا فسره ابن عباس . والذكر المأمور به هنا هو الذكر باللسان إثر صلاة الخوف على حدّ ما أمروا به عند قضاء المناسك بذكر الله ، فأمروا بذكر الله من : التهليل ، والتكبير ، والتسبيح ، والدعاء بالنصر ، والتأييد في جميع الأحوال فإن ما هم فيه من ارتقاب مقارعة العدو ، حقيق بالذكر ، والالتجاء إلى الله . أي : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي أتموها . وذهب قوم إلى أنّ معنى قضيتم الصلاة : تلبستم بالصلاة وشرعتم فيها . ومعنى الأمر بالذكر أي : صلوها قياماً في حال المسايفة والاختلاط ، وقعوداٍ جاثين على الركب من أنين ، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح ، فهي هيآت لأحوال على حسب تفصيلها . فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها وأمنتم ، فأقيموا الصلاة أي : فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج ، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وهو خلاف الظاهر . قال : وهذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجابه الصلاة على المحارب في حال المسايفة ، والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها ، فإذا اطمأن فعليه القضاء ، وأما عند أبي حنيفة فهو معذور في تركها إلى أن يطمئن . وقيل : قوله : فإذا قضيتم الصلاة فذكروا ، أنه أمر بالصلاة حاله إلا من بعد الخوف قياماً للأصحاء ، وقعوداً للعجزين عن القعود لزمانة أو جراحة أو مرض لا يستطيع القعود معها ، فإذا اطمأننتم أي : أمنتم من الخوف قاله : قتادة ، والسدي . فأقيموا الصلاة أي : صلوها لا كصلاة الخوف ، بل كصلاة الأمن في السفر . وقيل فإذا اطمأننتم أي : فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعاً .
النساء : ( 103 ) فإذا قضيتم الصلاة . . . . .
( فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً ( أي واجبة في أوقات معلومة قاله : ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وابن قتيبة . ولم يقل موقوتة ، لأن الكتاب مصدر ، فهو مذكر . وروي عن ابن عباس : أن المعنى فرضاً مفروضاً ، فهما لفظان بمعنى واحد ، والظاهر الأول أي : فرضاً منجماً في أوقات . وقال أبو عبد الله الرازي : أجمل هنا تلك الأوقات وفسرها في أوقات خمساً ، وتوقيتها بأوقات خمسة في نهاية الحسن نظراً إلى المعقول ، لأن الحوادث لها مراتب خمس : مرتبة الحدوث ، ومرتبة الوقوف ، ومرتبة الكهولة وفيها نقصان خفي ، ومرتبة الشيخوخة ، والخامسة : أن تبقى آثاره بعد موته مدّة ثم تمحى . وهذه المراتب حصلت للشمس بحسب طلوعها وغروبها ، فأوجب الله عند كل مرتبة من أحوالها الخمس صلاة انتهى . ما لخصناه من كلامه وطول هو كثيراً في شيء لا يدل عليه القرآن ، ولا تقتضيه لغة العرب ، ذكر ذلك في

" صفحة رقم 357 "
تفسيره فمن أراده فليطالعه فيه .
النساء : ( 104 ) ولا تهنوا في . . . . .
( وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ( قيل : تزلت في الجهاد مطلقاً . وقيل : في انصراف الصحابة من أحد ، وكان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمرهم باتباع أبي سفيان وأصحابه ، أمر أن لا يخرج إلا مَن كان معه في أحد ، فشكوا بأنّ فيهم جراحات . وهذه الآية تشير إلى أن القضاء في قوله : ) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ ( إنما هو قضاء صلاة الخوف .
وقرأ الحسن : تهنوا بفتح الهاء وهي لغة . فتحت الهاء كما فتحت دال يدع ، لأجل حرف الحلق ، والمعنى : ولا تضعفوا أو تخوروا جبناً في طلب القوم . وقرأ عبيد بن عمير : ولا تهانوا من الإهانة . نهوا عن أن يقع منهم ما يترتب عليه إهانتهم من كونهم يجنون على أعدائهم فيهانون كقولهم : ( لا أريناك هاهنا ) ، ثم شجعهم على طلب القوم وألزمهم الحجة ، فإنّ ما فيهم من الألم مشترك ، وتزيدون عليهم أنكم ترجون من الله الثواب وإظهار دينه بوعده الصادق ، وهم لا يرجونه ، فينبغي أن تكونوا أشجع منهم وأبعد عن الجبن . وإذا كانوا يصبرون على الآلام والجراحات والقتل ، وهم لا يرجون ثواباً في الآخرة ، فأنتم أحرى أن تصبروا . ونظير ذكر هذا الأمر المشترك فيه قول الشاعر : قاتلوا القوم يا خداع ولا
يأخذكم من قتالهم قتل
القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لا ينشرون أن قتلوا
والرجاء هنا على بابه ، وقيل : معناه الخوف الذي تخافون من عذاب الله ما لا تخافون كقوله : إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ، أي : لم يخف . وزعم الفراء أنّ الرجاء لا يكون بمعنى الخوف إلا مع النفي ، ولا يقال رجوتك بمعنى خفتك . وقرأ الأعرج : أن تكونوا بفتح الهمزة على المفعول من أجله . وقرأ ابن المسيفع : تئلمون بكسر التاء . وقرأ ابن وثاب ومنصور بن المعتمر : تئلمون بكسر تاء المضارعة فيهما ويائهما ، وهي لغة .
( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( أي عليماً بنياتكم حكيماً فيما يأمركم به وينهاكم عنه .
النساء : ( 105 ) إنا أنزلنا إليك . . . . .
( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً ( طوَّل المفسرون في سبب النزول ، ولخصنا منه انتهاء ما في قول قتادة وغيره . نزلت في طعمة بن أبيرق ، سرق درعاً في جرب فيه دقيق لقتادة بن النعمان وخبأها عند يهودي ، فحلف طعمة ما لي بها علم ، فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار

" صفحة رقم 358 "
اليهودي ، فقال اليهودي : دفعها إليّ طعمة . وقيل : استودع يهودي درعاً فخانه ، فلما خاف اطلاعهم عليها ألقاها في دار أبي مليك الأنصاري . قال السدي : وقيل : السلاح والطعام كان لرفاعة بن زيد عم قتادة ، وأن بني أبريق نقبوا مشربيته وأخذوا ذلك ، وهم بشير بضم الباء ومبشر وبشر ، وأهموا أنَّ فاعل ذلك هو لبيد بن سهل ، فشكاهم قتادة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأن الرسول همَّ أن يجادل عن طعمه ، أو عن أبيرق ، ويقال فيه : طعيمة .
وقال الكرماني : أجمع المفسرون على أنّ هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق أحمد بني ظفر بن الحرث ، إلا ابن بحر فإنه قال : نزلت في المنافقين ، وهو متصل بقوله : ) فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ( انتهى . وفي هذه الآية تشريف للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتفويض الأمور إليه بقوله : لتحكم بين الناس بما أراك الله .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما صرح بأحوال المنافقين ، واتصل بذلك أمر المحاربة وما يتعلق بها من الأحكام الشرعية ، رجع إلى أحوال المنافقين ، فإنهم خانوا الرسول على ما لا ينبغي ، فأطلعه الله على ذلك وأمره أن لا يلتفت إليهم ، وكان بشير منافقاً ويهجو الصحابة وينحل الشعر لغيره ، وأما طعمة فارتد ، وأنه لما بين الأحكام الكثيرة عرف أنّ كلها من الله ، وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلباً لرضا قوم . أو أنه لما أنه يجاهد الكفار ، أنه لا يجوز إلحاق ما لم يفعلوا بهم ، وأنّ كفره لا يبيح المسامحة في النظر إليه ، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله ، ولا يلحق به حيف لأجل أن يرضي المنافق .
والكتاب هنا القرآن . ومعنى بالحق : أي لا عوج فيه ولا ميل . والناس هنا عام ، وبما أراك الله بما أعلمك من الوحي . وقيل : بالنظر الصحيح فإنه محروس في اجتهاده ، معصوم في الأقوال والأفعال . وقيل : بما ألقاه في قلبك من أنوار المعرفة وصفاء الباطن . وعن عمر : ( لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله ، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه ، لأن الرأي كان من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مصيباً ، لأن الله تعالى كان يريه إياه ، وهو منا الظن والتكليف دون الإهمال ، أو بماله عاقبة حميدة ، لأن ما ليس كذلك عبث وباطل ) . وقال الماتريدي : بالحق أي : موافقاً لما هو الحق على العباد ، ولما لبعضهم على بعض ليعلموا بذلك ، أو بياناً لأمره . وحق كائن ثابت وهو البعث والقيامة ، ليتزودوا له . أو بما يحمل عليهم فاعله ، أو بالعدل والصدق على الأمن من التغيير والتبديل . بما أراك الله : فيه دليل جواز اجتهاده ، واجتهاده كالنص ، لأن الله تعالى أخبر أنه يريه ذلك أو لا يريه غير الصواب انتهى كلامه .
( وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً ( أي : مخاصماً ، كجليس بمعنى مجالس ، قاله : الزجاج والفارسي وغيرهما . ويحتمل أن يكون للمبالغة من خصم ، والخائنون جمع . فإنّ بني أبريق الثلاثة هم الذين نقبوا المشربة ، فظاهر إطلاق الجمع عليهم وإن كان وحده هو الرّجل الذي خان في الدرع أو سرقها ، فجاء الجمع باعتباره واعتبار من شهد له بالبراءة من قومه كأسيد بن عروة ومن تابعه ممن زكاه ، فكانوا شركاء له في الإثم ، خصوصاً من يعلم أنه هو السارق . أو جاء الجمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته ، فلا يخاصم لخائن قط ، ولا يحاول عنه . وخصيماً يحتاج متعلقاً محذوفاً أي البراء . والبريء مختلف فيه حسب الاختلاف في السبب : أهو اليهودي الذي دفع إليه طعمة الدّرع وهو زيد بن السمين ، أو أبو مليك الأنصاري ؟ وهو الذي ألقى طعمة الدرع في داره لما خاف الافتضاح ، أو لبيد بن سهل ؟ وقال يحيى بن سلام : وكان يهودياً . وذكر المهدوي أنه كان مسلماً . وأدخله أبو عمرو بن عبد البر في كتاب الصحابة ، فدل على إسلامه كما ذكر المهدوي . ولما نزلت هذه الآيات هرب طعمة إلى مكة وارتد ، ونزل على سلافة فرماها حسان به في شعر قاله ومنه

" صفحة رقم 359 "
وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت
ينازعها جلد استها وتنازعه
ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتمو
وفينا نبي عنده الوحي واضعه
فأخرجته ورمت رحله خارج المنزل وقالت : ما كنت تأتيني بخير أهديت لي شعر حسان ، فنزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده ، ثم نقب بيتاً ليسرق منه فسقط الحائط عليه فمات . وقيل : اتبع قوماً من العرب فسرقهم فقتلوه .
( وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (
النساء : ( 106 ) واستغفر الله إن . . . . .
أي : استغفر لأمتك المذنبين المتخاصمين بالباطل . قال الزمخشري : واستغفر الله مما هممت به من عقاب اليهودي . وقال الطبري والزجاج : واستغفر الله أي من ذنبك في خصامك لأجل الخائنين . قال ابن عطية : وهذا ليس بذنب ، لأنه عليه السلام إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد برائتهم انتهى . وقيل : هو أمر بالاستغفار على سبيل التسبيح من غير ذنب أو قصد توبة ، كما يقول الرجل : استغفر الله . وقيل : الخطاب صورة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمراد بنو أبيرق . وقيل : المعنى واستغفر الله مما هممت به قبل النبوّة .
النساء : ( 107 ) ولا تجادل عن . . . . .
( وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ( هذا عام يندرج فيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم . واختيان الأنفس هو مما يعود عليها من العقوبة في الآخرة والدنيا ، كما جاء نسبة ظلمهم لأنفسهم . والنهي عن الشيء لا يقتضي أن يكون المنهى ملابساً للمنهى عنه . وروى العوفي عن ابن عباس : أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) خاصم عن طعمة ، وقام يعذر خطيباً . وروى قتادة وابن جبير : أنه همّ بذلك ولم يفعله .
( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ( أتى بصيغة المبالغة في الخيانة والإثم ليخرج منه من وقع منه المرة ، ومن صدرت منه الخيانة على سبيل الغفلة وعدم القصد . وفي صفتي المبالغة دليل على إفراط طعمة في الخيانة وارتكاب المآثم . وقيل : إذا عثرت من رجل سيئة فاعلم أنّ لها أخوات . وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق ، فجاءت أمه تبكي وقالت : هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه فقال : كذبت إنّ الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة . وتقدمت صفة الخيانة على صفة المآثم ، لأنها سبب للإثم خان فأثم ، ولتواخي الفواصل .
النساء : ( 108 ) يستخفون من الناس . . . . .
( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ( الضمير في يستخفون الظاهر : أنه يعود على الذين يختانون ، وفي ذلك توبيخ عظيم وتقريع ، حيث يرتكبون المعاصي مستترين بها عن الناس إنْ اطلعوا عليها ، ودخل معهم في ذلك من فعل مثل فعلهم . وقيل :

" صفحة رقم 360 "
الضمير يعود على الصنف المرتكب للمعاصي ، ويندرج هؤلاء فيهم ، وهم أهل الخيانة المذكورة والمتناصرون لهم . وقيل : يعود على من باعتبار المعنى ، وتكون الجملة نعتاً . وهو معهم أي : عالم بهم مطلع عليهم ، لا يخفى عنه تعالى شيء من أسرارهم ، وهي جملة حالية . قال الزمخشري : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم عليه من قلة الحياء والخشية من ربهم ، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة ، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح انتهى . وهذا كقول الشاعر : يا للعجاج لمن يعصي ويزعم إذ
قد آمنوا بالذي جاءت به الرسل
أتى بجامع إيمان لمعصية
كلا أماني كذب ساقها الأمل
أي أن المعصية كلا أماني كذب ساقها الأمل الاستخفاء : الاستتار . وقال ابن عباس : الاستحياء استحى فاستخفى ، إذ يبيتون ما لا يرضى من القول الذي رموا به البريء ، ودافعوا به عن السارق . والعامل في إذ العامل في معهم ، وتقدّم الكلام في التبييت .
( وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ( كناية عن المبالغة في العلم . ولما كانت قصة طعمة جمعت بين عمل وقول : جاء وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً ، فنبه على أنه عالم بأقوالهم وأعمالهم . وتضمن ذلك الوعيد الشديد والتقريع البالغ ، إذ كان تعالى محيطاً بجميع الأقوال والأعمال ، فكان ينبغي أن تستر القبائح عنه بعدم ارتكابها .
النساء : ( 109 ) ها أنتم هؤلاء . . . . .
( هَأَنْتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ( تقدم الكلام على ها أنتم هؤلاء ، وعلى الجملة بعدها قراءة وإعراباً في سورة آل عمران والخطاب للذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي ، ويندرج في هذا العموم أهل النازلة . والأظهر أن يكون ذلك خطاباً للمتعصبين في قصة طعيمة ، ويندرج فيه مَن عمل عملهم . ويقوي ذلك أنَّ هؤلاء إشارة إلى حاضرين . وقرأ عبد الله عنه في الموضعين أي : عن طعمة . وفي قوله : فمن يجادل الله عنهم ، وعيد محض أي : أنّ الله يعلم حقيقة الأمر ، فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره . ومعنى هذا الاستفهام النفي أي : لا أحد يجادل الله عنهم يوم القيامة إذا حل بهم عذابه . والوكيل : الحافظ المحامي ، والذي يكل الإنسان إليه أموره . وهذا الاستفهام معناه النفي أيضاً ، كأنه قال : لا أحد يكون وكيلاً عليهم فيدافع عنهم ويحفظهم . وهاتان الجملتان انتفى في الأولى منهما المجادلة ، وهي المدافعة بالفعل والنصرة بالقوة .
النساء : ( 110 ) ومن يعمل سوءا . . . . .
( وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ( الظاهر أنهما غير أنّ عمل السوء القبيح الذي يسوء غيره ، كما فعل طعمة بقتادة واليهودي . وظلم النفس ما يختص به كالحلف الكاذب . وقيل : ومن يعمل سوءاً من ذنب دون الشرك ، أو يظلم نفسه بالشرك انتهى . وقيل : السوء الذنب الصغير ، وظلم النفس الذنب الكبير . وقال أبو عبد الله الرازي : وخص ما يبدي إلى الغير باسم السوء ، لأن

" صفحة رقم 361 "
ذلك يكون في الأكثر لا يكون ضرراً حاضراً ، لأنّ الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه . وقيل : السوء هنا السرقة . وقيل : الشرك . وقيل : كل ما يأثم به . وقيل : ظلم النفس هنا رمي البريء بالتهمة . وقيل : ما دون الشرك من المعاصي . وقال ابن عطية : هما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة . والظاهر تعليق الغفران والرحمة للعاصي على مجرد الاستغفار وأنه كاف ، وهذا مقيد بمشيئة الله عند أهل السنة . وشرط بعضهم مع الاستغفار التوبة ، وخص بعضهم ذلك بأنْ تكون المعصية مما بين العبد وبين ربه ، دون ما بينه وبين العبيد . وقيل : الاستغفار التوبة . وفي لفظة : يجد الله غفوراً رحيماً ، مبالغة في الغفران . كأنّ المغفرة والرحمة معدَّان لطالبهما ، مهيآن له متى طلبهما وجدهما . وهذه الآية فيها لطف عظيم ووعد كريم للعصاة إذا استغفروا الله ، وفيها تطلب توبة بني أبيرق والذابين عنهم واستدعاؤهم لها . وعن ابن مسعود : أنها من أرجى الآيات .
( وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (
النساء : ( 111 ) ومن يكسب إثما . . . . .
الإثم : جامع للسوء وظلم النفس السابقين والمعنى : أنّ وبال ذلك لاحق له لا يتعدّاه إلى غيره ، وهو إشارة إلى الجزاء اللاحق له في الآخرة . وختمها بصفة العلم ، لأنه يعلم جميع ما يكسب ، لا يغيب عنه شيء من ذلك . ثم بصفة الحكمة لأنه واضع الأشياء مواضعها فيجازى على ذلك الإثم بما تقتضيه حكمته . فالصفتان أشارتا إلى علمه بذلك الإثم ، وإلى ما يستحق عليه فاعله . وفي لفظة : على ، دلالة استعلاء الإثم عليه ، واستيلائه وقهره له .
( وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (
النساء : ( 112 ) ومن يكسب خطيئة . . . . .
قيل : نزلت في طعمة بن أبيرق حين سرق الدرع ورماها في دار اليهودي . وروى الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول ، إذ رمى عائشة بالإفك . وظاهر العطف بأو المغايرة ، فقيل : الخطيئة ما كان عن غير عمد . والإثم : ما كان عن عمد ، والصغيرة والكبيرة ، أو القاصر على فعل والمتعدي إلى غيره . وقيل : الخطيئة سرقة الدرع ، والإثم يمينه الكاذبة . وقال ابن السائب : الخطيئة يمين السارق الكاذبة ، والإثم سرقة الدرع ، ورمى اليهودي به . وقال الطبري : الخطيئة تكون عن عمد وغير عمد ، والإثم لا يكون إلا عن عمد . وقيل : هما لفظان بمعنى واحد ، كرّرا مبالغة . والضمير في : به ، عائد على الإثم ، والمعطوف بأو يجوز أن يعود الضمير على المعطوف عليه كقوله : انفضوا إليها وعلى المعطوف كهذا . وتقدم الكلام في ذلك بأشبع من هذا . وقيل : يعود على الكسب المفهوم من يكسب . وقيل : على المكسوب . وقيل : يعود على أحد المذكورين الدال عليه العطف بأو ، كأنه قيل : ثم يرم بأحد المذكورين . وقيل : ثم محذوف تقديره : ومن يكسب خطيئة ثم يرم به بريئاً أو إثماً ثم يرم به بريئاً ، وهذه تخاريج من لم يتحقق بشيء من علم النحو .
والبريء المتهم بالذنب ولم يذنب . ومعنى : فقد احتمل بهتاناً ، أي برميه البريء ، فإنه يبهته بذلك ، وإثماً مبيناً أي : ظاهراً لكسبه الخطيئة أو الإثم . والمعنى : أنه يستحق عقابين : عقاب الكسب ، وعقاب البهت . وقدم البهت لقربه من قوله : ثم يرم به بريئاً ، ولأنه ذنب أفظع من كسب الخطيئة أو الإثم . ولفظ احتمل أبلغ من حمل ، لأنّ افتعل فيه للتسبب كاعتمل . ويحتمل أن يكون افتعل فيه كالمجرد كما قال : ) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ ( فيكون كقدر واقتدر . لما كان الوزر يوصف بالفعل ، جاء ذكر الحمل والاحتمال وهو استعارة . جعل المجني كالجرم

" صفحة رقم 362 "
المحمول . ولفظة : ومَن تدل على العموم ، فلا ينبغي أن تخصّ ببني أبيرق ، بل هم مندرجون فيها . وقرأ معاذ بن جبل : ومن يكِسّب بكسر الكاف وتشديد السين ، وأصله : يكتسب . وقرأ الزهري : خطية بالتشديد .
النساء : ( 113 ) ولولا فضل الله . . . . .
( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء ( الظاهر : أنّ الضمير في منهم عائد على بني ظفر المجادلين والذابين عن بني أبيرق . أي : فلولا عصمته وإيحاؤه إليك بما كتموه ، لهموا بإضلالك عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل ، مع علمهم بأنّ الجاني هو صاحبهم . فقد روي أنّ ناساً منهم كانوا يعلمون حقيقة القصة ، هذا فيه بعض كلام الزمخشري ، وهو قول ابن عباس من رواية السائب : أنها متعلقة بقصة طعمة وأصحابه ، حيث لبسوا على الرسول أمر صاحبهم .
وروى الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في وفد ثقيف قدموا على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قالوا : جئناك نبايعك على أنْ لا نحشر ولا نعشر ، وعلى أن تمتعنا بالعزى سنة ، فلم يجبهم فنزلت . وقال ابن عطية : وفق الله نبيهعلى مقدار عصمته له ، وأنها بفضل من الله ورحمته . وقوله تعالى : لهمت معناه لجعلته همها وشغلها حتى تنفذه ، وهذا يدل على أنّ الألفاظ عامة في غير أهل النازلة ، وإلا فأهل الغضب لبني أبيرق ، وقد وقع همهم وثبت . والمعنى : ولولا عصمة الله لك لكان في الناس من يشتغل بإضلالك ويجعله همّ نفسه ، كما فعل هؤلاء ، لكن العصمة تبطل كيد الجمع انتهى . والظاهر القول الأول كما ذكرنا ، إلا أن الهمّ يحتاج إلى قيد أي : لهمت طائفة منهم هما يؤثر عندك . ولا بد من هذا القيد ، لأنهم هموا حقيقة أعني : المجادلين عن بني أبيرق ، أو يخصّ الضلال عن الدين فإنّ الهم بذلك أي : لهموا بإضلالك عن شريعتك ودينك ، وعصمة الله إياك منعتهم أن يخطروا ذلك ببالهم . وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء أي : وبال ما أقدموا عليه من التعاون على الإثم والبهت ، وشهادة الزور ، إنما هو يخصهم . وما يضرونك من شيء مِن تدل على العموم نصاً أي : لا يضرونك قليلاً ولا كثيراً . قال القفال : وهذا وعد بالعصمة في المستقبل .
( وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ( الكتاب : هو القرآن . والحكمة تقدّم تفسيرها والمعنى : إنّ من أنزل الله عليه الكتاب والحكمة وأهله لذلك ، وأمره بتبليغ ذلك ، هو معصوم من الوقوع في الضلال والشبه .
( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( قال ابن عباس ومقاتل : هو الشرع . وقال أبو سليمان الدمشقي : أخبار الأولين والآخرين . وذكر الماوردي : الكتاب والحكمة ، وذكر أيضاً مقدار نفسك النفيسة . وقيل : خفيات الأمور ، وضمائر الصدور التي لا يطلع عليها إلا يوحي . وقال القفال : يحتمل وجهين : أحدهما : أن يُراد ما يتعلق بالدين كما قال تعالى : ) مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( وعلى هذا التقدير : وأطلعك على أسرار الكتاب والحكمة ، وعلى حقائقهما ، مع أنك ما كنت عالماً بشيء ، فكذلك بفعل بك في مستأنف أيامك ، لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك ولا على استزلالك . الثاني : ما لم تكن تعلم من أخبار القرون السالفة ، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين وكيدهم ما لا يقدر على الاحتراز منه انتهى . وفيه بعض تلخيص . والظاهر العموم ، فيشمل جميع ما ذكروه . فالمعنى : الأشياء التي لم تكن تعلمها . لولا إعلامه إياك إياها .
( وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( قيل : المنة بالإيمان . وقال أبو سليمان : هو ما خصه به تعالى . وقال أبو

" صفحة رقم 363 "
عبدالله الرازي : هذا من أعظم الدلائل على أنّ العلم أشرف الفضائل والمناقب . وذلك أنّ الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا قليلاً ، ونصيب الشخص من علوم الخلائق يكون قليلاً ، ثم إنه سمى ذلك القليل عظيماً .
وتضمنت هذه الآيات أنواعاً منم الفصاحة والبيان والبديع . منها الاستعارة في : وإذا ضربتم في الأرض ، وفي : فيميلون استعار الميل للحرب . والتكرار في : جناح ولا جناح لاختلاف متعلقهما ، وفي : فلتقم طائفة : ولتأت طائفة ، وفي : الحذر والأسلحة ، وفي : الصلاة ، وفي : تألمون ، وفي : اسم الله . والتجنيس المغاير في : فيميلون ميلة ، وفي : كفروا إن الكافرين ، وفي : تختانون وخواناً ، وفي : يستغفروا غفوراً . والتجنيس المماثل في : فأقمت فلتقم ، وفي : لم يصلوا فليصلوا ، وفي : يستخفون ولا يستخفون ، وفي : جادلتم فمن يجادل ، وفي : يكسب ويكسب ، وفي : يضلوك وما يصلون ، وفي : وعلمك وتعلم . قيل : والعام يراد به الخاص في : فإذا قضيتم الصلاة ظاهره العموم ، وأجمعوا على أن المراد بها صلاة الخوف خاصة ، لأن السياق يدل على ذلك ، ولذلك كانت أل فيه للعهد انتهى . وإذا كانت أل للعهد فليس من باب العام المراد به الخاص ، لأن أل للعموم وأل للعهد فهما قسيمان ، فإذا استعمل لأحد القسيمين فليس موضوعاً للآخر . والإبهام في قوله : بما أراك الله وفي : ما لم تكن تعلم . وخطاب عين ويراد به غيره وفي : ولا تكن للخائنين خصيماً فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) محروس بالعصمة أن يخاصم عن المبطلين . والتتميم في قوله : وهو معهم للإنكار عليهم والتغليظ لقبح فعلهم لأن حياء الإنسان ممن يصحبه أكثر من حيائه وحده ، وأصل المعية في الإجرام ، والله تعالى منزه عن ذلك ، فهو مع عبده بالعلم والإحاطة . وإطلاق وصف الإجرام على المعاني فقد احتمل بهتاناً . والحذف في مواضع .
( ) لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لاّتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلاّمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الاٌّ نْعَامِ وَلاّمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً أُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاأَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن

" صفحة رقم 364 "
ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطاً ( )
النساء : ( 114 ) لا خير في . . . . .
النجوى مصدر كالدعوى يقال : نجوت الرجل أنجوه نجوى إذا ناجيته . قال الواحدي : ولا تكون النجوى إلا بين اثنين . وقال الزجاج : النجزى ما انفرد به الجماعة ، أو الإثنان سرّاً كان وظاهراً انتهى . وقال ابن عطية : المسارة ، وتطلق النجوى على القوم المتناجين ، وهو من باب قوم عدل وصف بالمصدر . وقال الكرماني : نجوى جمع نجي ، وتقدم الكلام في هذه المادة ، وتكرر هنا لخصوصية البنية .
مريد من مرد ، عتا وعلا في الحذاقة ، وتجرد للشر والغواية . وقال ابن عيسى : وأصله التملس ، ومن شجرة مرداء أي ملساء تناثر ورقها ، وغلام أمرد لا نبات بوجهه ، وصرح ممرد مملس لا يعلق به شيء لملاسته ، والمارد الذي لا يعلق بشيء من الفضائل . البتك : الشق والقطع ، بتك يبتك ، وبتك للتكثير ، والبتك القطع واحدها بتكة . قال الشاعر : حتى إذا ما هوت كف الوليد لها
طارت وفي كفه من ريشها بتك
محيص : مفعل من حاص يحيص ، زاع بنفور ومنه : فحاصوا حيصة حمر الوحش . وقول الشاعر : ولم ندر أن حصنا من الموت حيصة
كم العمر باق والمدا متطاول
ويقال جاض بالجيم والضاد المعجمة والمحاص مثل المحيص . قال الشاعر : تحيص من حكم المنية جاهدا
ما للرجال عن المنون محاص
وفي المثل : وقعوا في حيص بيص . وحاص باص إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه ، ويقال : حاص يحوص حوصاً وحياصاً إذا نفر وزايل المكان الذي فيه . والحوص في العين ضيق مؤخرها . الخليل : فعيل من الخلة ، وهي الفاقة والحاجة . أو من الخلة وهي صفاء المودّة ، أو من الخلل . قال ثعلب : سمى خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إلا ملأته . وأنشد قول بشار : قد تخللت مسلك الروح مني
وبه سمي الخليل خليلا
) لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ( الضمير في نجواهم عائد على قوم طعمة الذين تقدم ذكرهم قاله : ابن عباس وغيره . وقال مقاتل : هم قوم من اليهود ناجوا قوم طعمة ، واتفقا معهم على التلبيس على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في أمر طعمة . وقال ابن عطية : هو عائد على الناس أجمع .
وجاءت هذه الآيات عامة فاندرج أصحاب النازلة وهم قوم طعمة في ذلك العموم ، وهذا من باب الإيجاز والفصاحة ، لكون الماضي والمغاير تشملهما عبارة واحدة انتهى . وهذا الاستثناء منقطع إن كان النجوى مصدراً ، ويمكن اتصاله على حذف مضاف

" صفحة رقم 365 "
أي : إلا نجوى من أمر ، وقاله : أبو عبيدة . وإن كان النجوى المتناجين قيل : ويجوز في : مِن الخفض من وجهين : أن يكون تابعاً لكثير ، أو تابعاً للنجوى ، كما تقول : لا خير في جماعة من القوم إلا زيد إن شئت اتبعت زيد الجماعة ، وإن شئت اتبعته القوم . ويجوز أن يكون مِن أمر مجروراً على البدل من كثير ، لأنه في حيز النفي ، أو على الصفة . وإذا كان منقطعاً فالقدير : لكن مَن أمر بصدقة فالخير في نجواه . ومعنى أمر : حث وحض . والصدقة تشمل الفرض والتطوّع . والمعروف عام في كل بر . واختاره جماعة منهم : أبو سليمان الدمشقي ، وابن عطية . فيندرج تحته الصدقة والاصلاح . لكنهما جردا منه واختصا بالذكر اهتماماً ، إذ هما عظيما الغذاء في مصالح العباد . وعطف بأو فجعلا كالقسم المعادل مبالغة في تجريدهما ، حتى صار القسم قسيماً . وقيل : المعروف الفرض . روي ذلك عن ابن عباس ومقاتل . وقيل : إغاثة الملهوف . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب ، وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل التطوع انتهى . وفي الحديث الصحيح : ( كلُّ كلام ابن آدم عليه لا له إلا مَن كان أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله تعالى ) . وحدّث سفيان الثوري بهذا الحديث أقواماً فقال أحدهم : ما أشد هذا الحديث فقال : ألم تسمع كل معروف صدقة ، وإنّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلقٍ . وقال الحطيئة : من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
وظاهر قوله : أو إصلاح بين الناس ، أنه في كل شيء يقع فيه اختلاف ونزاع . وقيل : هو خاص بالإصلاح بين طعمة واليهودي المذكورين . قال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : ذكر ثلاثة أنواع ، لأن عمل الخير إما أن يكون بدفع المضرة وإليه الإشارة بقوله : أو إصلاح بين الناس . أو بإيصال المنفعة إما جسمانياً وهو إعطاء المال ، وإليه الإشارة بقوله : بصدقة . أو روحانياً وهو تكميل القوة النظرية بالعلوم ، أو القوة العملية بالأفعال الحسنة ، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف ، وإليه الإشارة بقوله : أو معروف .
وقال الراغب : يقال لكل ما يستحسنه العقل ويعرفه معروف ، ولكل ما يستقبحه وينكره منكر . ووجه ذلك أنه تعالى ركّز في العقول معرفة الخبر والشر ، وإليه أشار بقوله : ) صِبْغَةَ اللَّهِ ( ) عَبْدُ اللَّهِ ( وعلى ذلك ما اطمأنت إليه النفس لمعرفتها به انتهى . وهذه نزغة اعتزالية في أنّ العقل يحسن ويقبح . وقيل : هذه الثلاثة تضمنت الأفعال الحسنة ، وبدأ بأكثرها نفعاً وهو إيصال النفع إلى الغير ، ونبه بالمعروف على النوافل التي هي من الإحسان والتفضل ، والإصلاح بين الناس على سياستهم ، وما يؤدي إلى نظم شملهم انتهى . وقال عليه السلام : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قيل : بلى يا رسول الله ، قال : صلاح ذات البين ) وخصّ مَن أمر بهذه الأشياء ، وفي ضمن ذلك أنّ الفاعل أكثر استحقاقاً من الأمر ، وإذا كان الخير في نجوى الأمر به فلا يكون في من يفعله بطريق الأولى . .
( وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتَ اللَّه

" صفحة رقم 366 "
ِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ( لما ذكر أن الخير في مَن أمر ذكر ثواب من فعل ، ويجوز أن يريد : ومن يأمر بذلك ، فيعبر بالفعل عن الأمر ، كما يعبر به عن سائر الأفعال . وقرأ أبو عمرو وحمزة : يؤتيه بالياء ، والباقون بالنون على سبيل الالتفات ، ليناسب ما بعده من قوله : ) نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ ( فيكون إسناد الثواب والعقاب إلى ضمير المتكلم العظيم ، وهو أبلغ من إسناده إلى ضمير الغائب . ومن قرأ بالياء لحظ الإسم الغائب في قوله : ابتغاء مرضاة الله ، وفي قوله : ابتغاء مرضاة الله دليل على أنه لا يجزي من الأعمال إلا ما كان فيه رضا الله تعالى ، وخلوصه لله دون رياء ولا سمعة .
النساء : ( 115 ) ومن يشاقق الرسول . . . . .
( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهَدْىِ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ( نزلت في طعمة بن أبيرق لما فضحه الله بسرقته ، وبرّأ اليهودي ، ارتد وذهب إلى مكة وتقدّم ذلك موته وسببه . ومما قيل فيه : إنه ركب في سفينة فسرق منها مالاً فعلم به ، فألقي في البحر . وقيل : لما سرق الحجاج السلمي استحى الحجاج منه لأنه كان ضيفه فأطلقه ، فلحق بحيرة بني سليم فعبد صنماً لهم ومات على الشرك . وقيل : نزلت في قوم طعمة قدموا فأسلموا ، ثم ارتدّوا . وتقدم معنى المشاقة في قوله : ) فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ ( ومن يشاقق : عام فيندرج فيه طعمة وغيره من المشاقين من بعد ما تبين له الهدى : أي اتضح له الحق الذي هو سبب الهداية . ولو لم يكن إلا إخبار الله نبيه عليه السلام بقصة طعمة وإطلاعه إياه على ما بيتوه وزوّروه ، لكان له في ذلك أعظم وازع وأوضح بيان ، وكان ذنب من يعرف الحق ويزيغ عنه أعظم من ذنب الجاهل ، لأنّ من لا يعرف الحق يستحق العقوبة لترك المعرفة ، لأن العمل لا يلزمه حتى يعرفه ، أو يعرفه من يصدقه . والعالم يستحق العقوبة بترك استعمال ما يقتضيه معرفته ، فهو أعظم جرماً إذا اطلع على لحق وعمل بخلاف ما يقتضيه على سبيل العناد لله تعالى ، إذ جعل له نور يهتدي به . وسبيل المؤمنين : هو الدين الحنيفي الذي هم عليه . وهذه الجملة المعطوفة هي على سبيل التوكيد والتشنيع ، وإلا فمن يشاقق الرسول هو متبع غير سبيل المؤمنين ضرورة ، ولكنه بدأ بالأعظم في الإثم ، وأتبع بلازمه توكيداً .
واستدل الشافعي وغيره بهذه الآية على أن الإجماع حجة . وقد طول أهل أصول الفقه في تقرير الدلالة منها ، وما يرد على ذلك وذلك مذكور في كتب أصول الفقه . وقال الزمخشري : هو دليل على أنّ الإجماع حجة لا يجوز مخالفتها ، كما لا يجوز مخالفة الكتاب والسنة ، لأن الله تعالى جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين وبين مشاقة الرسول في الشرط ، وجعل جزاءه الوعيد الشديد ، فكان اتباعهم واجباً كموالاة الرسول انتهى كلامه .
وما ذكره ليس بظاهر الآية المرتب على وصفين اثنين ، لا يلزم منه أن يترتب على كل واحد منهما ، فالوعيد إنما ترتب في الآية على من اتصف بمشاقة الرسول واتباع سبيل غير المؤمنين ، ولذلك كان الفعل معطوفاً على الفعل ، ولم يعد معه اسم شرط . فلو أعيد اسم الشرط وكان ، يكون ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، ومن يتبع غير سبيل المؤمنين لكان فيه ظهور مّا على ما ادّعوا ، وهذا كله على تسليم أن يكون قوله : ويتبع غير سبيل المؤمنين مغايراً لقوله : ومن يشاقق الرسول . وقد قلنا : إنه ليس بمغاير ، بل هو أمر لازم لمشاقة الرسول ، وذلك على سبيل المبالغة والتوكيد وتفظيع الأمر وتشنيعه . والآية بعد هذا كله هي وعيد الكفار ، فلا دلالة على جزئيات فروع مسائل الفقه . واستدل بهذه الآية على وجوب عصمة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعلى أن كل مجتهد يسقط عنه الإثم . ومعنى قوله : ما تولى قال ابن عطية : وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره . وقال الزمخشري : يجعله بالياء ، وما تولى من

" صفحة رقم 367 "
الضلالة بأن تخذله وتخلى بينه وبين ما اختار انتهى . وهذا على منزعه الاعتزالي . وقرىء : وتصله بفتح النون من صلاه . وقرأ ابن أبي عيلة : يوله ويصله بالياء فيهما جرياً على قوله : فسوف يؤتيه بالياء ، وفي هاء نوله ونصله : الإشباع والاختلاس والإسكان وقرىء بها .
النساء : ( 116 ) إن الله لا . . . . .
( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً ( تقدّم مثل تفسير هذه الآية ، ونزلت قيل : في طعمة . وقيل : في نفر من قريش أسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين . وقيل : في شيخ قال : لم أشرك بالله منذ عرفته ، إلا أنه كان يأتي ذنوباً ، وأنه ندم واستغفر ، إلا أنّ آخر ما تقدّم فقد افترى إثماً عظيماً ، وآخر هذه فقد ضل ضلالاً بعيداً ختمت كل آية بما يناسبها . فتلك كانت في أهل الكتاب ، وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ووجوب اتباع شريعته ، ونسخها لجميع الشرائع ، ومع ذلك قد أشركوا بالله مع أن عندهم ما يدل على توحيد الله تعالى والإيمان بما نزل ، فصار ذلك افتراء واختلافاً مبالغاً في العظم والجرأة على الله .
وهذه الآية هي في ناس مشركين ليسوا بأهل كتب ولا علوم ، ومع ذلك فقد جاءهم بالهدى من الله ، وبان لهم طريق الرشد فأشركوا بالله ، فضلوا بذلك ضلالاً يستبعد وقوعه ، أو يبعد عن الصواب . ولذلك جاء بعده :
النساء : ( 117 ) إن يدعون من . . . . .
( إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً ( وجاء بعد تلك : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ ( وقوله : ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ ( ولم يختلف أحد من المتأولين في أنّ المراد بهم اليهود ، وأن كان اللفظ عاماً . ولما كان الشرك من أعظم الكبائر ، كان الضلال الناشىء عنه بعيداً عن الصواب ، لأن غيره من المعاصي وإن كان ضلالاً لكنه قريب من أن يراجع صاحبه الحق ، لأن له رأس مال يرجع إليه وهو الإيمان ، بخلاف المشرك . ولذلك قال تعالى : ) يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذالِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ( وناسب هنا ذكر الضلال لتقدم الهدى قبله .
( إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً ( المعنى : ما يعبدون من دون الله ويتخذونه إلهاً إلا مسميات تسمية الإناث . وكنى بالدعاء عن العبادة ، لأنّ من عبد شيئاً دعاه عند حوائجه ومصالحه . وكانوا يحلون الأصنام بأنواع الحلى ، ويسمونها أنثى وإناث ، جمع أنثى كرباب جمع ربى . قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : المراد الخشب والحجارة ، فهي مؤنثات لا تعقل ، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء . فيجيء قوله : إلا إناثاً ، عبارة عن الجمادات . وقال أبو مالك والسدي وابن زيد وغيرهم : كانت العرب تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونايلة . ويردّ على هذا بأنها كانت تسمى أيضاً بأسماء مذكرة : كهبل ، وذي الخلصة .
وقال الضحاك وغيره : المراد ما كانت العرب تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها ، فقيل لهم : هذا على إقامة الحجة من فاسد قولهم . وقال الحسن : لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان ، وفي هذا تعبيرهم بالتأنيث لنقصه وخساسته بالنسبة للتذكير . وقال الراغب : أكثر ما عبدته العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير فاعلة ، فبكتهم الله تعالى أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلاً من كل وجه ، وعلى هذا نبه إبراهيم عليه السلام بقوله : ) لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ).
وقرأ أبو رجاء : إنْ تدعون بالتاء على الخطاب ، ورويت عن عاصم . وفي مصحف عائشة رضي الله عنها : إلا أوثاناً جمع وثن ، وهو الصنم . وقرأ بذلك أبو السوار والهناي

" صفحة رقم 368 "
وقرأ الحسن : إلا أنثى على التوحيد . وقرأ ابن عباس ، وأبو حيوة ، والحسن ، وعطاء ، وأبو العالية ، وأبو نهيك ، ومعاذ القاري : أنثاً . قال الطبري : فيما حكى إناث كثمار وثمر . وقال غيره : أنث جمع أنيث ، كغرير وغرر . وقال المغربي : إلا إناثاً إلا ضعافاً عاجزين لا قدرة لهم ، يقال : سيف أنيث وميناثة بالهاء وميناث غير قاطع . قال الشاعر : فتخبرني بأن العقل عندي
جراز لا أقل ولا أنيث
أنث في أمره لان ، والأنيث المخنث الضعيف من الرجال . وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء : إلا وثناً بفتح الواو والثاء من غير همزة . وقرأ ابن المسيب ، ومسلم بن جندب ، ورويت عن ابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء : الاأنثا ، يريدون وثناً ، فأبدل الهمزة واواً ، وخرج على أنه جمع جمع إذ أصله وثن ، فجمع على وثان كجعل وجمال ، ثم وثان على وثن كمثال ، ومثل وحمار وحمر . قال ابن عطية : هذا خطأ ، لأن فعالاً في جمع فعل إنما هو للتكثير ، والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع ، وإنما يجمع جموع التقليل ، والصواب أن يقال : وثن جمع وثن دون واسطة ، كأسد وأسد انتهى . وليس قوله : وإنما يجمع جموع التقليل بصواب ، كامل الجموع مطلقاً لا يجوز أن تجمع بقياس سواء كانت للتكثير أم للتقليل ، نص على ذلك النحويون . وقرأ أيوب السجستاني : الاوثنا بضم الواو والثاء من غير همزة ، كشقق . وقرأت فرقة : الااثنا بسكون الثاء ، وأصله وثناً ، فاجتمع في هذا اللفظ ثماني قراآت : إناثاً ، وأنثاً ، وأوثاناً ، ووثناً ، ووثنا ، واثناً ، وأثنا .
( وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ ( المراد به إبليس قاله : الجمهور ، وهو الصواب ، لأن ما قاله بعد ذلك مبين أنه هو . وقيل : الشيطان المعين بكل صنم : أفرد لفظاً وهو مجموع في المعنى الواحد يدل على الجنس . قيل ؛ كان يدخل في أجواف الأصنام فيكلم داعيها ، ويحتمل أن يكون
النساء : ( 118 ) لعنه الله وقال . . . . .
( لعنه الله ( صفة ، وأن يكون خبراً عنه . وقيل : هو دعاء ، ولا يتعارض الحصران ، لأن دعاء الأصنام ناشىء عن دعائهم الشيطان ، لما عبدوا الشيطان أغراهم بعبادة الأصنام ، أو لاختلاف الدعاءين ، فالأول عبادة ، والثاني طواعية . وقال ابن عيسى : هو مثل : ) وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى ( يعني : أن نسبة دعائهم الأصنام هو على سبيل المجاز . وأما في الحقيقة فهم يدعون الشيطان .
( وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ( أي نصيباً واجباً اقتطعته لنفسي من قولهم : فرض له في العطاء ، وفرض الجند رزقهم . والمعنى : لأستخلصنهم لغوايتي ، ولأخصنهم بإضلالي ، وهم الكفرة والعصاة . قال ابن عطية : المفروض هنا معناه المنحاز ، وهو مأخوذ من الفرض ، وهو الحز في العود وغيره ، ويحتمل أن يريد واجباً أن اتخذه ، وبعث النار هو نصيب إبليس . قال الحسن : من كل ألف تسعمائة وتسعون قالوا : ولفظ نصيب يتناول القليل فقط . والنص إنّ أتباع إبليس هم الكثير بدليل : ) لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ( ) فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( وهذا متعارض .
وأجيب أن التفاوت إنما يحصل في نوع البشر ، أما إذا ضممت أنواع الملائكة مع كثرتهم إلى المؤمنين كانت الكثرة للمؤمنين . وأيضاً فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد ، نصيبهم عظيم عند الله تعالى . والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين فهم كالعدم . انتهى تلخيص ما أحب به . والذي أقول : إنّ لفظ نصيب لا يدل على القليل والكثير ، بدليل قوله : ) لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ ( الآية . والواو : قيل عاطفة ، وقيل واو الحال .
النساء : ( 119 ) ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم . . . . .
( وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الاْنْعَامِ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ( هذه خمسة أقسم إبليس عليها : أحدها : اتخاذ نصيب من عباد الله وهو اختياره إياهم . والثاني : إضلالهم وهو صرفهم عن

" صفحة رقم 369 "
الهداية وأسبابها . والثالث : تمنيته لهم وهو التسويل ، ولا ينحصر في نوع واحد ، لأنه يمني كل إنسان بما يناسب حاله من طول عمر وبلوغ وطر وغير ذلك ، وهي كلها أماني كواذب باطلة . وقيل : الأماني تأخير التوبة . وقيل : هي اعتقاد أن لا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا حساب . وقال الزمخشري : ولأمنينهم الأماني الباطلة من طول الأعمار ، وبلوغ الآمال ، ورحمة الله تعالى للمجرمين بغير توبة ، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة ، ونحو ذلك انتهى . وهذا على منزعه الاعتزالي وولوعه بتفسير كتاب الله عليه من غير إشعار لفظ القرآن بما يقوله وينحله . والرابع : أمره إياهم الناشىء عنه تبتيك آذان الأنعام ، وهو فعلهم بالبحائر كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن . وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها قاله : عكرمة ، وقتادة ، والسدي . وقيل : فيه إشارة إلى كل ما جعله الله كاملاً بفطرته ، فجعل الإنسان ناقصاً بسوء تدبيره . والخامس أمره إياهم الناشىء عنه تغيير خلق الله تعالى .
قال ابن عباس ، وابراهيم ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم . أراد تغيير دين الله ، ذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله : ) فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ (
أي لدين الله . والتبديل يقع موقعه التغيير ، وإن كان التغيير أعم منه . ولفظ لا تبديل لخلق الله خبر ، ومعناه : النهي . وقالت فرقة منهم الزجاج : هو جعل الكفار آلهة لهم ما خلق للاعتبار به من الشمس والنار والحجارة ، وغير ذلك مما عبدوه . وقال ابن مسعود ، والحسن : هو الوشم وما جرى مجراه من التصنع للتحسين ، فمن ذلك الحديث في : ( لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله ولعن الواصلة والمستوصلة ) انتهى .
وقال ابن عباس أيضاً وأنس ، وعكرمة ، وأبو صالح ، ومجاهد ، وقتادة أيضاً : هو الخصاء ، وهو في بني آدم محظور . وكره أنس خصاء الغنم ، وقد رخص جماعة فيه لمنفعة السمن في المأكول ، ورخص عمر بن عبد العزيز في خصاء الخيل . وقيل للحسن : إن عكرمة قال ؛ هو الخصاء قال : كذب عكرمة ، هو دين الله تعالى . وقيل : التخنت . وقال الزمخشري : هو فقء عين الحامي وإعفاؤه عن الركوب انتهى . وناسب هذا أنه ذكر أثر ذلك تبتيك آذان الأنعام ، فناسب أن يكون التغيير هذا . وقيل : تغيير خلق الله هو أنَّ كل ما يوجده الله لفضيلة فاستعان به في رذيلة فقد غير خلقه . وقد دخل في عمومه ما جعله الله تعالى للإنسان من شهوة الجماع ليكون سبباً للتناسل على وجه مخصوص ، فاستعان به في السفاح واللواط ، فذلك تغيير خلق الله . وكذلك المخنث إذا نتف لحيته ، وتقنع تشبهاً بالنساء ، والفتاة إذا ترجلت متشبهة بالفتيان . وكل ما حلله الله فحرموه ، أو حرمه تعالى فحللوه . وعلى ذلك : ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ

" صفحة رقم 370 "
مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً ( وإلى هذه الجملة أشار المفسرون ، ولهذا قالوا : هو تغيير أحكام الله . وقيل : هو تغيير الإنسان بالاستلحاق أو النفي . وقيل : خضاب الشيب بالسواد . وقيل : معاقبة الولاة بعض الجناة بقطع الآذان ، وشق المناخر ، وسمل العيون ، وقطع الأنثيين . ومن فسر بالوشم أو الخصاء أو غير ذلك مما خو خاص في التغيير ، فإنما ذلك على جهة التمثيل لا الحصر . وفي حديث عياض المجاشعي : ) وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإن الشياطين ألهتهم وأحالتهم عن دينهم ، فحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ، وأمرتهم أن لا يغيروا خلقي ) .
ومفعول أمر الثاني محذوف أي : ولآمرنهم بالتبتيك فيبتكن ، ولآمرنهم بالتغير فليغيرن . وحذف لدلالة ما بعده عليه . وقرأ أبو عمرو : ولآمرنهم بغير ألف ، كذا قاله ابن عطية . وقرأ أبي : وأضلنهم وأمنينهم وآمرنهم انتهى . فتكون جملاً مقولة ، لا مقسماً عليها . وجاء ترتيب هذه الجمل المقسم عليها في غاية من الفصاحة ، بدأ أولاً باستخلاص الشيطان نصيباً منهم واصطفائه إياهم ، ثم ثانياً بإضلالهم وهو عبارة عما يحصل في عقائدهم من الكفر ، ثم ثالثاً بتمنيتهم الأماني الكواذب والإطماعات الفارغة ، ثم رابعاً بتبتيك آذان الأنعام ، هو حكم لم يأذن الله فيه ، ثم خامساً بتغيير خلق الله وهو شامل للتبتيك وغيره من الأحكام التي شرعها لهم . وإنما بدأ بالأمر بالتبتيك وإن كان مندرجاً تحت عموم التغيير ، ليكون ذلك استدراجاً لما يكون بعده من التغيير العام ، واستيضاحاً من إبليس طواعينهم في أول شيء يلقيه إليهم ، فيعلم بذلك قبولهم له . فإذا قبلوا ذلك أمرهم بجميع التغييرات التي يريدها منهم ، كما يفعل الإنسان بمن يقصد خداعه : يأمره أولاً بشيء سهل ، فإذا رآه قد قبل ما ألقاه إليه من ذلك أمره بجميع ما يريد منه . وإقسام إبليس على هذه الأشياء ليفعلنها علم ذلك ، وأنها تقع إمّا لقوله تعالى . ) لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ( أو لكونه علم ذلك من جهة الملائكة ، أو لكونه لما استنزل آدم علم أن ذريته أضعف منه .
( وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً ( أي من يؤثر حظ الشيطان على حظه من الله . وكأنه لما قال إبليس : لأتخذن من عبادك نصيباً ، فذكر أنه يصطفيهم لنفسه ، أخبر أنهم قبلوا ذلك الاتخاذ وانفعلوا له ، فاتخذوه ولياً من دون الله . والوليّ هنا قال مقاتل : بمعنى الرب . وقال أبو سليمان لدمشقي : من الموالاة ، ورتب على هذا الاتخاذ الخسران المبين ، لأن من ترك حظه من الله لحظ الشيطان فقد خسرت صفقته . وقوله : من دون الله ، قيد لازم . لأنه لا يمكن أن يتخذ الشيطان ولياً إلا إذا لم يتخذ الله ولياً ، ولا يمكن أن يتخذ الشيطان ولياً ويتخذ الله ولياً ، لأنهما طريقان متباينان ، لا يجتمعان هدى وضلالة . وهذه الجملة الشرطية محذرة من اتباع الشيطان .
النساء : ( 120 ) يعدهم ويمنيهم وما . . . . .
( يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ ( لفظان متقاربان والمعنى : أن الذي أقسم عليه مِن أن يمنيهم وقع بإخبار الله تعالى عنه بذلك ، واكتفى من الإخبار عن وقوع تلك الجمل التي أقسم عليها إبليس بوضوحها وظهورها . ولما كان الوعد والتمنية من أمور الباطن ، أخبر الله عنه بها . والمعنى : أنه يعدهم بالأمور الباطلة والزخارف الكاذبة ، وأنه لا ثواب ولا عقاب .
( وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ( قرأ الأعمش : وما يعدهم يسكون الدال ، خفف لتوالي الحركات . وتقدّم تفسير الغرور ومعناه : هنا الخدع التي تظن نافعة ، ويكشف الغيب أنها ضارة . واحتمل النصب أن يكون مفعولاً ثانياً ، أو مفعولاً من أجله ، أو مصدراً على غير الصدر لتضمين يعدهم معنى يغرهم ، ويكون ثم وصف محذوف أي : إلا غروراً واضحاً أو نحوه ، أو نعتاً لمصدر محذوف أي : وعداً غرور . أي : ذا غرور .
النساء : ( 121 ) أولئك مأواهم جهنم . . . . .
( أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ( أخبر تعالى أنّ المكان الذي يأوون إليه ويستقرون فيه هو جهنم ، وأنهم لا يجدون عنها مراغاً يروغون إليه . وعنها : لا يجوز أن تتعلق بمحذوف ، لأنها لا تتعدّى بعن ، ولا بمحيصا وإن كان المعنى عليه لأنه مصدر ، فيحتمل أن يكون ذلك تبييناً على إضماراً عني . وجوزوا أن يكون حالاً من محيص ، فيتعلق بمحيص أي : كائناً عنها ، ولو تأخر لكان صفة .
النساء : ( 122 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
( وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ( لما ذكر مأوى الكفار ، ذكر مأوى المؤمنين ، وأسند الفعل إلى نون العظمة ، اعتناء بأنه تعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة وتشريفاً لهم . وقرىء : سيدخلهم بالياء . ولما

" صفحة رقم 371 "
رتب تعالى مصير مَن كان تابعاً لإبليس إلى النار لإشراكه وكفره وتغيير أحكام الله تعالى ، رتّب هنا دخول الجنة على الإيمان وعمل الصالحات .
( وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ( لما ذكر أنّ وعد الشيطان هو غرور باطل ، ذكر أنّ هذا الوعد منه تعالى هو الحق الذي لا ارتياب فيه ، ولا شك في إنجازه . والذين مبتدأ ، وسيدخلهم الخير . ويجوز أن يكون من باب الاشتغال أي : وسندخل الذين آمنوا سندخلهم . وانتصب وعد الله حقاً على أنه مصدر مؤكد لغيره ، فوعد الله مؤكداً لقوله : سيدخلهم ، وحقاً مؤكد لوعد الله .
( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ( القيل والقول واحداً ، أي : لا أحد أصدق قولاً من الله . وهي جملة مؤكدة أيضاً لما قبلها . وفائدة هذه التواكيد المبالغة فيما أخبر به تعالى عباده المؤمنين ، بخلاف مواعيد الشيطان وأمانته الكاذبة المخلفة لأمانيه .
النساء : ( 123 ) ليس بأمانيكم ولا . . . . .
( لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الْكِتَابِ ( قال ابن عباس ، والضحاك ، وأبو صالح ، ومسروق ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم : الخطاب للأمة . قال بعضهم : اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب فقالوا : ديننا أقدم من دينكم . وأفضل ، فنبينا قبل نبيكم . وقال المؤمنون : كتابنا يقضي على الكتب ، ونبينا خاتم الأنبياء ، ونحو هذا من المحاورة فنزلت . وقال مجاهد وابن زيد : الخطاب لكفار قريش ، وذلك أنهم قالوا : لن نبعث ولن نعذب ، وإنما هي حياتنا لنا فيها النعيم ، ثم لا عذاب . وقالت اليهود : نحن أبناء الله وأحباؤه . إلى نحو هذا من الأقوال كقولهم .
( لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( فرد الله تعالى على الفريقين .
وقال الزمخشري في ليس : ضمير وعد الله ، أي : ليس ينال ما وعد الله من الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب . والخطاب للمسلمين ، لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به ، ولذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان . وعن الحسن : ليس الإيمان بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب ، وصدقه العمل . إنَّ قوماً ألهتم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم ، وقالوا : نحسن الظن بالله ، وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل . ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين لقولهم : إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالاً ، لأوتين مالاً وولداً إن لي عنده للحسنى . وكان أهل الكتاب يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ، ويعضده تقدم ذكر أهل الشرك انتهى .
وعلى هذه الأقوال وقع الاختلاف في اسم ليس ، وأقر بها أنَّ الذي يعود الضمير عليه هو الوعد من أنه تعالى يدخلهم الجنة ، ويليه أن يعود على الإيمان المفهوم من قوله : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( كما ذهب إليه الحسن ، ثم إنه يعود على ما وقعت فيه محاورة المؤمنين وأهل الكتاب ، أو ما قالته قريش وأهل الكتاب على ما مر ذكره . وقال الحوفي : اسم ليس مضمر فيها على معنى : ليس الثواب عن الحسنات ولا العقاب على السيئات بأمانيكم ، لأنّ الاستحقاق إنما يكون بالعمل ، لا بالأماني . وقال أبو البقاء : ليس مضمر فيها ولم يتقدم له ذكر ، وإنما دل عليه سبب الآية ، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا : نحن أصحاب الجنة . وقال المشركون : لا نبعث . فقال : ليس بأمانيكم أي : ليس ما ادعيتموه بأمانيكم . وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة بن نصاح ، والحكم ، والأعرج : بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ساكنة الياء ، جمع على فعالل ، كما يقال : قراقير وقراقر ، جمع قرقور .
( مَن يَعْمَلُ ( قال الجمهور : اللفظ عام ، والكافر والمؤمن مجازيان بالسوء يعملانه . فمجازاة الكافر النار ، والمؤمن بنكبات الدنيا . فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لما نزلت قلت : يا رسول الله ما أشد هذه الآية جاءت قاصمة الظهر ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) )

" صفحة رقم 372 "
: ( إنما هي المصيبات في الدنيا ) وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها . وقال به : أبي بن كعب ، وسأله الربيع بن زياد عن معنى الآية وكأنه خافها فقال له : أي ما كنت أظنك إلا أفقه مما أرى ، ما يصيب الرجل خدش أو غيره إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر . وخصص الحسن ، وابن زيد بالكفار يجازون على الصغائر والكبائر . وقال الضحاك : يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب ، ورأى هؤلاء أن الله تعالى وعد المؤمنين بتكفير السيئات . وخصص السوء ابن عباس ، وابن جبير بالشرك . وقيل : السوء عام في الكبائر .
( عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ( روى ابن بكار عن ابن عامر ولا يجد بالرفع على القطع .
النساء : ( 124 ) ومن يعمل من . . . . .
( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ( مِن الأولى هي للتبعيض ، لأن كل واحد لا يتمكن من عمل كل الصالحات ، وإنما يعمل منها ما هو تكليفه وفي وسعه . وكم مكلف لا يلزمه زكاة ولا حج ولا جهاد ، وسقطت عنه الصلاة في بعض الأحوال على بعض المذاهب . وحكى الطبري عن قوم : أنّ من زائدة ، أي : ومن يعمل الصالحات . وزيادة من في الشرط ضعيف ، ولا سيما وبعدها معرفة . ومِن الثانية لتبيين الإبهام في : ومن يعمل . وتقدم الكلام في أوفى قوله : ) لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ( وهو من مؤمن . جملة حالية ، وقيد في عمل الإنسان لأنه لو عمل من الأعمال الصالحة ما عمل فلا ينفعه إلا إن كان مؤمناً . قال الزمخشري : وإذا أبطل الله الأماني وأثبت أن الأمر كله معقود بالعمل الصالح وأن من أصلح عمله فهو الفائز ، ومن أساء عمله فهو الهالك ، تبين الأمر ووضح ، ووجب قطع الأماني وحسم المطامع ، والإقبال على العمل الصالح ، ولكنه نصح لا تعيه الآذان ، ولا تلقى إليه الأذهان انتهى . والذي تدل عليه الآية أن الإيمان شرط في الانتفاع بالعمل ، لأنّ العمل شرط في صحة الإيمان .
( وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً ( ظاهره : أنه يعود إلى أقرب مذكور وهم المؤمنون ، ويكون حكم الكفار كذلك . إذ ذكر أحد الفريقين يدل على الآخر ، أنّ كلاهما يجزى بعمله ، ولأنّ ظلم المسيء أنه يزاد في عقابه . ومعلوم أنه تعالى لا يزيد في عقاب المجرم ، فكان ذكره مستغنى عنه . والمحسن له ثواب ، وتوابع للثواب من فضل الله هي في حكم الثواب ، فجاز أن ينقص من الفضل . فنفي الظلم دلالة على أنه لا يقع نقص في الفضل . ويحتمل أن يعود الضمير في : ولا يظلمون إلى الفريقين ، عامل السوء ، وعامل الصالحات . وقرأ : يدخلون مبنياً للمفعول هنا ، وفي مريم ، وأوّلي غافر بن كثير أبو عمر وأبو بكر . وقرأ كذلك ابن كثير وأبو بكرفي ثانية غافر . وقرأ كذلك أبو عمرو في فاطر . وقرأ الباقون مبنياً للفاعل .
النساء : ( 125 ) ومن أحسن دينا . . . . .
( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ ( تقدم الكلام على نحوه في قولين من أسلم وجهه لله وهو محسن .
( واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ( تقدم الكلام على ملة إبراهيم حنيفاً في قوله : ) قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( واتباعه . قال ابن عباس : في التوحيد . وقال أبو سليمان الدمشقي : في القيام لله بما فرضه . وقيل : في جميع شريعته إلا ما نسخ منها .
( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( هذا مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله . وتقدم اشتقاق الخليل في المفردات . والجمهور : على أنها من الخلة وهي المودّة التي ليس فيها خلل . وقول محمد بن عيسى الهاشمي : إنه إنما سمي خليلاً لأنه تخلى عما سوى خليله . فإن كان فسر المعنى فيمكن ، وإن كان أراد الاشتقاق فلا يصح لاختلاف المادتين . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( يا جبريل بمَ اتخذ الله إبراهيم خليلاً ؟ قال : لإطعامه الطعام ) والكرامة التي أكرمه الله بها ذكروها في قصة مطولة عن ابن عباس مضمونها : أن الله قلب له غرائر الرمل دقيقاً حواري عجن ، وخبز وأطعم الناس

" صفحة رقم 373 "
منه . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اتخذ الله إبراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً ثم قال : وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجييّ ) لما أثنى على من اتبع ملة إبراهيم أخبر بمزيته عنده واصطفائه ، ليكون ذلك أدعى إلى اتباعه . لأن من اختصه الله بالخلة جدير بأن يتبع أو ليبين أن تلك الخلة إنما سببها حنيفية إبراهيم عن سائر الأديان إلى دين الحق كقوله : ) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( أي قدوة لإتمامك تلك الكلمات . ونبه بذلك على أنّ من عمل بشرعه كان له نصيب من مقامه . وليست هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها ، لأن الجملة قبلها معطوفة على صلة مَن ، ولا تصلح هذه للصلة ، وإنما هي معطوفة على الجملة الاستفهامية التي معناها الخبر ، أي : لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله ، نبهت على شرف المنبع وفوز المتبع . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما موقع هذه الجملة ؟ ( قلت ) : هي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم : والحوادث جمة ، وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته ، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته انتهى . فإن عنى بالاعتراض غير المصطلح عليه في الضوء فيمكن أن يصح قوله ، كأنه يقول : اعترضت الكلام . وإن عنى بالاعتراض المصطلح عليه فليس بصحيح ، إذ لا يعترض إلا بين مفتقرين كصلة وموصول ، وشرط وجزاء ، وقسم ومقسم عليه ، وتابع ومتبوع ، وعامل ومعمول ، وقوله : كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم : والحوادث جمة ، فالذي نحفظه أن مجيء الحوادث جمة إنما هو بين مفتقرين نحو قوله : وقد أدركتني والحوادث جمة
أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
ونحو قال الآخر : ألا هل أتاها والحوادث جمة
بأن أمرأ القيس بن تملك بيقرا
ولا نحفظه جاء آخر كلام .
النساء : ( 126 ) ولله ما في . . . . .
( وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( لما تقدم ذكر عامل السوء وعامل الصالحات ، أخبر بعظيم ملكه . وملكه بجميع ما في السموات ، وما في الأرض ، والعالم مملوك له ، وعلى المملوك طاعة مالكه . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لما ذكرناه ، ولما تقدم ذكر الخلة ، فذكر أنه مع الخلة عبد الله ، وأن الخلة ليست لاحتياج ، وإنما هي خلة تشريف منه تعالى لابراهيم عليه السلام مع بقائه على العبودية .
( وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْء مُّحِيطاً ( أي : عالماً بكل شيء من الجزئيات والكليات ، فهو يجازيهم على أعمالهم خيرها وشرها ، قللها وكثيرها .
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع . منها التجنيس المغاير في : فقد ضل ضلالاً ، وفي : فقد خسر خسراناً ، وفي : ومن أحسن وهو محسن . والتكرار في : لا يغفر ويغفر ، وفي : يشرك ومن يشرك ، وفي : لآمرنهم ، وفي : اسم الشيطان ، وفي : يعدهم وما يعدهم ، وفي : الجلالة في مواضع ، وفي : بأمانيكم ولا أماني ، وفي : من يعمل ومن يعمل ، وفي : إبراهيم . والطباق المعنوي في : ومن يشاقق والهدى ، وفي : أن يشرك به ولمن يشاء يعني المؤمن ، وفي : سواء والصالحات . والاختصاص في : بصدقة أو معروف أو إصلاح ، وفي : وهو مؤمن ، وملة إبراهيم ، وفي : ما في السموات وما في الأرض . والمقابلة في : من ذكر أو

" صفحة رقم 374 "
أنثى . والتأكيد بالمصدر في : وعد الله حقاً . والاستعارة في : وجهه لله عبر به عن القصد أو الجهة وفي : محيطاً عبر به عن العلم بالشيء من جميع جهاته . والحذف في عدة مواضع .
2 ( ) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَىأَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاٌّ قْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِىأَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُون

" صفحة رقم 375 "
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } )
النساء : ( 127 ) ويستفتونك في النساء . . . . .
الشح : قال ابن فارس البخل مع الحرص . وتشاح الرجلان في الأمر لا يريدان أن يفوتهما ، وهو بضم الشين وكسرها . وقال ابن عطية : الشح الضبط على المعتقدات والإرادة ، ففي الهمم والأموال ونحو ذلك مما أفرط فيه ، وفيه بعض المذمة . وما صار إلى حيز الحقوق الشرعية وما تقتضيه المروءة فهو البخل ، وهو رذيلة . لكنها قد تكون في المؤمن ومنه الحديث : ( قيل : يا رسول الله ، أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال : نعم ) وأما الشح ففي كل أحد ، ويدل عليه : ( وأحضرت الأنفس الشح ) و ( من يوق شح نفسه ) لكل نفس شحاً وقول النبي عليه السلام : ( أن تصدق وأنت صحيح شحيح ) ولم يرد به واحداً بعينه ، وليس بحمد أن يقال هنا إن تصدق وأنت صحيح بخيل .
المعلقة : هي التي ليست مطلقة ولا ذات بعل . قال الرجل : هل هي إلا خطة ، أو تعليق ، أو صلف ، أو بين ذاك تعليق . وفي حديث أم زرع : زوجي العشنق إن انطق أطلق ، وإن أسكت أعلق ) شبهت المرأة بالشيء المعلق من شيء ، لأنه لا على الأرض استقر ، ولا على ما علق منه . وفي المثل : أرض من المركب بالتعليق .
الخوض : الاقتحام في الشيء تقول : خضت الماء خوضاً وخياضاً ، وخضت الغمرات اقتحمتها ، وخاضه بالسيف حرّك سيفه في المضروب ، وتخاوضوا في الحديث تفاوضوا فيه ، والمخاضة موضع الخوض . قال الشاعر وهو عبد الله بن شبرمة : إذا شالت الجوزاء والنجم طالع
فكل مخاضات الفرات معابر
والخوضة بفتح الخاء اللؤلؤة ، واختاض بمعنى خاض وتخوض ، تكلف الخوض . الاستحواذ : الاستيلاء والتغلب

" صفحة رقم 376 "
قاله : أبو عبيدة والزجاج . ويقال : حاذ يحوذ حوذاً وأحاذ ، بمعنى مثل حاذ وأحاذ . وشدت هذه الكلمة فصحت عينها في النقال ، قاس عليها أبو زيد الأنصاري .
( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ( سبب نزولها : أنّ قوماً من الصحابة رضي الله عنهم سألوا عن أمر النساء وأحكامهنّ في المواريث وغير ذلك . وأما مناسبتها فكذلك على تربيع العرب في كلامها أنها تكون في أمر ثم ، تخرج منه إلى شيء ، ثم تعود إلى ما كانت فيه أولاً . وهكذا كتاب الله يبين فيه أحكام تكليفه ، ثم يعقب بالوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، ثم يعقب ذلك بذكر المخالفين المعاندين الذين لا يتبعون تلك الأحكام ، ثم بما يدل على كبرياء الله تعالى وجلاله ، ثم يعاد لتبيين ما تعلق بتلك الأحكام السابقة . وقد عرض هنا في هذه السورة أنْ بدأ بأحكام النساء والمواريث ، وذكر اليتامى ، ثم ثانياً بذكر شيء من ذلك في هذه الآية ، ثم أخيراً بذكر شيء من المواريث أيضاً . ولما كانت النساء مطرحاً أمرهنّ عند العرب في الميراث وغيره ، وكذلك اليتامى أكد الحديث فيهنّ مراراً ليرجعوا عن أحكام الجاهلية . والاستفتاء طلب الإفتاء ، وأفتاه إفتاء وفتيا وفتوى ، وأفتيت فلاناً في رؤياه عبرتها له . ومعنى الإفتاء إظهار المشكل على السائل . وأصله من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل ، فالمعنى : كأنه بيان ما أشكل فيثبت ويقوى . والاستفتاء ليس في ذوات النساء ، وإنما هو عن شيء من أحكامهن ، ولم يبين فهو مجمل . ومعنى يفتيكم فيهن : يبين لكم حال ما سألتم عنه وحكمه .
( وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ( ذكروا في موضع ما من الإعراب : الرفع ، والنصب ، والجر ، فالرفع ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون معطوفاً على اسم الله أي : الله يفتيكم ، والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى . قال الزمخشري : يعني قوله : ) وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى ( وهو قوله أعجبني زيد وكرمه انتهى . والثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في يفتيكم ، وحسن الفصل بينهما بالمفعول والجار والمجرور . الثالث : أن يكون ما يتلى مبتدأ ، وفي الكتاب خبره على أنها جملة معترضة . والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ تعظيماً للمتلو عليهم ، وأن العدل والنصفة في حقوق اليتامى من عظائم الأمور المرفوعة الدرجات عند الله التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها ، والمخل ظالم متهاون بما عظمه الله . ونحوه في تعظيم القرآن وأنه ) فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ ). وقيل في هذا الوجه : الخبر محذوف ، والتقدير : وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء لكم أو يفتيكم ، وحذف لدلالة ما قبله عليه . وعلى هذا التقدير في الكتاب بقوله : يتلى عليكم ، أو تكون في موضع الحال من الضمير في يتلى ، وفي يتامى بدل من في الكتاب . وقال أبو البقاء في الثانية : تتعلق بما تعلقت به الأولى ، لأن معناها يختلف ، فالأولى ظرف ، والثانية بمعنى الباء أي : بسبب اليتامى ، كما تقول : جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد . ويجوز أن تتعلق الثانية بالكتاب أي : فيما كتب بحكم اليتامى . ويجوز أن تكون الثانية حالاً ، فتتعلق بمحذوف . وأما النصب فعلى التقدير : ويبين لكم ما يتلى ، لأن بفتيكم معناها يبين فدلت عليها . وأما الجر فمن وجهين : أحدهما : أن تكون الواو للقسم كأنه قال : وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب ، والقسم بمعنى التعظيم ، قاله الزمخشري : والثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير المجرور في فيهن ، قاله محمد بن أبي موسى . وقال : أفتاهم الله فيما سألوا عنه ، وفي ما لم يسألوا عنه . قال ابن عطية : ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة حرف الخفض . قال الزمخشري : ليس بسديد أن يعطف على المجرور في فيهن ، لاختلاله من

" صفحة رقم 377 "
حيث اللفظ والمعنى انتهى .
والذي أختاره هذا الوجه ، وإن كان مشهور مذهب جمهور البصريين أنّ ذلك لا يجوز إلا في الشعر ، لكن قد ذكرت دلائل جواز ذلك في الكلام . وأمعنتُ في ذكر الدلائل على ذلك في تفسير قوله : ) وَكُفْرٌ بِهِ ( و ) الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( وليس مختلاً من حيث اللفظ ، لأنّا قد استدللنا علي جواز ذلك ، ولا من حيث المعنى كما زعم الزمخشري ، بل المعنى عليه ويكون على تقدير حذف أي : يفتيكم في مثلوهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب ، من إضافة متلو إلى ضميرهن سائغة ، إذ الإضافة تكون لأدنى ملابسة لما كان متلواً فيهن صحت الإضافة إليهما . ومن ذلك قول الشاعر :
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة
وأما قول الزمخشري : لاختلاله في اللفظ والمعنى فهو قول الزجاج بعينه . قال الزجاج : وهذا بعيد ، لأنه بالنسبة إلى اللفظ وإلى المعنى ، أما للفظ فإنه يقتضي عطف المظهر على المضمر ، وذلك غير جائز . كما لم يجز قوله : ) تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( وأما المعنى فإنه تعالى أفتى في تلك المسائل ، وتقدير العطف على الضمير يقتضي أنه أفتى فيما يتلى عليكم في الكتاب . ومعلوم أنه ليس المراد ذلك ، وإنما المراد أنه تعالى يفتي فيما سألوه من المسائل انتهى كلامه . وقد بينا صحة المعنى على تقدير ذلك المحذوف ، والرفع على العطف على الله ، أو على ضمير يخرجه عن التأسيس . وعلى الجملة تخرج الجملة بأسرها عن التأسيس ، وكذلك الجر على القسم . فالنصب بإضمار فعل ، والعطف على الضمير يجعله تأسيساً . وإذا أراد الأمرين : التأسيس والتأكيد ، كان حمله على التأسيس هو الأولى ، ولا يذهب إلى التأكيد إلا عند اتضاح عدم التأسيس . وتقدم الكلام في تعلق قوله : ( في يتامى النساء ) . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم تعلق قوله : في يتامى النساء ؟ ( قلت ) : في الوجه الأول هو صلة يتلى أي : يتلى عليكم في معناهن : ويجوز أن يكون في يتامى النساء بدلاً من فيهنّ . وأما في الوجهين الأخيرين فبدل لا غير انتهى كلامه . ويعني بقوله في الوجه الأول : أن يكون وما يتلى في موضع رفع ، فأما ما أجازه في هذا الوجه من أنه يكون صلة يتلى فلا يتصوّر إلا إن كان في يتامى بدلاً من في الكتاب ، أو تكون في للسبب ، لئلا يتعلق حرفا جر بمعنى واحد بفعل واحد ، فهو لا يجوز إلا إن كان على طريقة البدل أو بالعطف . وأما ما أجازه في هذا الوجه أيضاً من أن في يتامى بدل من فيهن ، فالظاهر أنه لا يجوز للفصل بين البدل والمبدل منه بالعطف . ونظير هذا التركيب : زيد يقيم في الدار وعمرو في كسر منها ، ففصلت بين في الدار وبين في كسر منها بالعطف ، والتركيب المعهود : زيد يقيم في الدار في كسر منها . وعمرو واتفق من وقفنا على كلامه في التفسير على أنّ هذه الآية إشارة إلى ما مضى في صدر هذه السورة وهو قوله تعالى : ) وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ( وقوله : ) وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ ( وقوله : ) وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( قالت عائشة رضي الله عنها : نزلت هذه الآية يعني : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أوّلاً ، ثم سأل ناس بعدها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن أمر النساء فنزلت : ) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ( وما يتلى عليكم فعلى ما قاله المفسرون وما نقل عن عائشة يكون يفتيكم ويتلى فيه وضع المضارع موضع الماضي ، لأن الإفتاء والتلاوة قد سبقت . والإضافة في يتامى النساء من باب إضافة الخاص إلى العامّ ، لأن النساء ينقسمن إلى يتامى وغير يتامى . وقال الكوفيون : هي من إضافة الصفة إلى الموصوف ، وهذا عند البصريين لا يجوز

" صفحة رقم 378 "
وذلك مقرر في علم النحو .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الإضافة في يتامى النساء ما هي ؟ ( قلت ) : إضافة بمعنى من هي إضافة الشيء إلى جنسه ، كقولك : خاتم حديد ، وثوب خز ، وخاتم فضة . ويجوز الفصل واتباع الجنس لما قبله ونصبه وجره بمن ، والذي يظهر في يتامى النساء وفي سحق عمامة أنها إضافة على معنى اللام ، ومعنى اللام الاختصاص . وقرأ أبو عبد الله المدني : في يتامى النساء بياءين ، وأخرجه ابن جني على أن الأصل أيامى ، فأبدل من الهمزة ياء ، كما قالوا : باهلة بن يعصر ، وإنما هو أعصر سمي بذلك لقوله : أثناك أن أباك غير لونه
كر الليالي واختلاف الأعصر
وقالوا في عكس ذلك : قطع الله أيده يريدون يده ، فأبدل من الياء همزة . وأيامى جمع أيم على وزن فعيل ، وهو مما اختص به المعتل ، وأصله : أيايم كسيايد جمع سيد ، قلبت اللام موضع العين فجاء أيامى ، فأبدل من الكسرة فتحة انقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها . وقال ابن جني : ولو قال قائل كسر أيم على أيمي على وزن سكرى ، ثم كسر أيمي على أيامي لكان وجهاً حسناً .
ومعنى ما كتب لهنّ قال ابن عباس ، ومجاهد ، وجماعة : هو الميراث . وقال آخرون : هو الصداق ، والمخاطب بقوله : لا تؤتونهنّ أولياء المرأة كانوا يأخذون صدقات النساء ولا يعطونهن شيئاً . وقيل : أولياء اليتامى كانوا يزوجون اليتامى اللواتي في حجورهن ولا يعدلون في صدقاتهن . وقرىء : ما كتب الله لهن . وقال أبو عبيدة : وترغبون أن تنكحوهن ، هذا اللفظ يحتمل الرغبة والنفرة فالمعنى في الرغبة في أن تنكحوهن لما لهن أو لجمالهن ، والنفرة وترغبون عن أن تنكحوهن لقبحهن فتمسكوهن رغبة في أموالهن . والأول قول عائشة رضي الله عنها وجماعة انتهى . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى ، فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل : هي غنية جميلة قال له : اطلب لها من هو خير منك وأعود عليها بالنفع . وإذا قيل : هي دميمة فقيرة قال له : أنت أولى بها وبالستر عليها من غيرك . والمستضعفين معطوف على يتامى النساء ، والذي تلي فيهم قوله تعالى : ) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى ( الآية وذلك أن العرب كانت لا تورث الصبية ولا الصبي الصغير ، وكان الكبير ينفرد بالمال ، وكانوا يقولون : إنما يرث من يحمي الحوزة ويرد الغنيمة ، ويقاتل عن الحريم ، ففرض الله تعالى لكل واحد حقه . ويجوز أن يكون خطاباً للأوصياء كقوله : ) أَمْوالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ ( وقيل : المستضعفين هنا العبيد والإماء .
( وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ( هو في موضع جر عطفاً على ما قبله أي : وفي أن تقوموا . والذي تلي في هذا المعنى قوله تعالى : ) وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ ( إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم . والقسط : العدل . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون منصوباً بمعنى ويأمركم أن تقوموا . وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ، ويستوفوا لهم حقوقهم ، ولا يخلوا أحداً يهتضمهم انتهى . وفي ري الظمآن : ويحتمل أن يرفع ، وأن تقوموا بالابتداء وخبره محذوف أي : خير لكم انتهى . وإذا أمكن حمله على غير حذف بكونه قد عطف على مجرور كان أولى من

" صفحة رقم 379 "
إضمار ناصب ، كما ذهب إليه الزمخشري . ومن كونه مبتدأ قد حذف خبره .
( وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ( لما تقدم ذكر النساء ، ويتامى النساء ، والمستضعفين من الولدان ، والقيام بالقسط ، عقب ذلك بأنه تعالى يعلم ما يفعل من الخير بسبب من ذكر ، فيجازي عليه بالثواب الجزيل . واقتصر على ذكر فعل الخير لأنه هو الذي رغب فيه ، وإن كان تعالى يعلم ما يفعل من خير ومن شر ، ويجازي على ذلك بثوابه وعقابه .
النساء : ( 128 ) وإن امرأة خافت . . . . .
( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً ( نزلت بسبب ابن بعكك وامرأته قاله : مجاهد . وبسبب رافع بن خديج وامرأته خولة بنت محمد بن مسلمة ، وكانت قد أسنت فتزوج عليها شابة فآثرها ، فلم تصبر خولة فطلقها ثم راجعها ، وقال : إنما هي واحدة ، فإما أن تقوى على الإثرة وإلا طلقتك ففرت . قاله : عبيدة ، وسليمان بن يسار ، وابن المسيب . أو بسبب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وسودة بنت زمعة خشيت طلاقها فقالت : لا تطلقني واحبسني مع نسائك ، ولا تقسم لي ، ففعل ، فنزلت قاله : ابن عباس وجماعة .
والخوف هنا على بابه ، لكنه لا يحصل إلا بظهور أمارات ما تدل على وقوع الخوف . وقيل : معنى خافت علمت . وقيل : ظنت . ولا ينبغي أن يخرج عن الظاهر ، إذ المعنى معه يصح . والنشوز : أن يجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته ، والمودة التي بينهما ، وأن يؤذيها بسبب أو ضرب . والإعراض : أن يقل محادثتها ومئانستها لطعن في سن أو دمامة ، أو شين في خلق أو خلق أو ملال ، أو طموح عين إلى أخرى ، أو غير ذلك ، وهو أخف النشوز . فرفع الجناح بينهما في الصلح بجميع أنواع من بذل من الزوج لها على أن تصبر ، أو بذل منها له على أن يؤثرها وعن أن يؤثر وتتمسك بالعصمة ، أو على صبر على الإثرة ونحو ذلك ، فهذا كله مباح . ورتب رفع الجناح على توقع الخوف ، وظهور أمارات النشوز والإعراض ، وهو مع وقوع تلك وتحققها أولى . لأنه إذا أبيح الصلح مع خوف ذلك فهو مع الوقوع أوكد ، إذ في الصلح بقاء الألفة والمودّة . ومن أنواع الصلح أن تهب يومها لغيرها من نسائه كما فعلت سودة ، وأن ترضى بالقسم لها في مذة طويلة مرة ، أو تهب له المهر أو بعضه ، أو النفقة ، والحق الذي للمرأة على الزوج هو المهر والنفقة ، والقسم هو على إسقاط ذلك أو شيء منه على أن لا يطلقها ، وذلك جائز .
وقرأ الكوفيون : يصلحا من أصلح على وزن أكرم . وقرأ باقي السبعة : يصالحا ، وأصله يتصالحا ، وأدغمت التاء في الصاد . وقرأ عبيدة السلماني : يصالحا من المفاعلة . وقرأ الأعمش : أن أصالحا ، وهي قراءة ابن مسعود ، جعل ماضياً . وأصله تصالح على وزن تفاعل ، فأدغم التاء في الصاد ، واجتلبت همزة الوصل ، والصلح ليس مصدر الشيء من هذه الأفعال التي قرئت ، فإن كان اسماً لما يصلح به كالعطاء والكرامة مع أعطيت وأكرمت ، فيحتمل أن يكون انتصابه على إسقاط حرف الجرّ أي : يصلح أي بشيء يصطلحان عليه . ويجوز أن يكون مصدراً لهذه الأفعال على حذف الزوائد .
( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ( ظاهره أنّ خيراً أفعل التفضيل ، وأن المفضل عليه هو من النشوز والإعراض ، فحذف لدلالة ما قبله عليه . وقيل : من الفرقة . وقيل : من الخصومة ، وتكون الألف واللام في الصلح للعهد ، ويعني به صلحاً السابق كقوله تعالى : ) كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ). وقيل : الصلح عام . وقيل : الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف ، ويندرج تحته صلح الزوجين ، ويكون المعنى : خير من الفرقة والاختلاف . وقيل : خير هنا ليس أفعل تفضيل ، وإنما معناه خير من الخيور ، كما أن الخصومة شرّ من الشرور .
( وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ ( هذا من باب

" صفحة رقم 380 "
المبالغة جعل الشح كأنه شيء معدّ في مكان . وأحضرت الأنفس وسيقت إليه ، ولم يأت ، وأحضر الشح الأنفس فيكون مسوقاً إلى الأنفس ، بل الأنفس سيقت إليه لكون الشح مجبولاً عليه الإنسان ، ومركوزاً في طبيعته ، وخص المفسرون هذه اللفظة هنا . فقال ابن عباس وابن جبير : هو شح المرأة بنصيبها من زوجها ومالها . وقال الحسن وابن زيد : هو شح كل واحد منهما بحقه . وقال الماتريدي : ويحتمل أن يراد بالشح الحرص ، وهو أن يحرص كل على حقه يقال : هو شحيح بمودّتك ، أي حريص على بقائها ، ولا يقال في هذا بخيل ، فكان الشح والحرص واحد في المعنى ، وإن كان في أصل الوضع الشح للمنع والحرص للمطلب ، فأطلق على الحرص الشح لأن كل واحد منهما سبب لكون الآخر ، ولأنّ البخل يحمل على الحرص ، والحرص يحمل على البخل انتهى .
وقال الزمخشري : في قوله : والصلح خير ، وهذه الجملة اعتراض وكذلك قوله : وأحضرت الأنفس الشح . ومعنى إحضار الأنفس الشح : إن الشح جعل حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه ، يعني : أنها مطبوعة عليه . والغرض أنّ المرأة لا تكاد تسمح بأن يقسم لها ، أو يمسكها إذا رغب عنها وأحب غيرها انتهى . قوله . والصلح خبر جملة اعتراضية ، وكذلك وأحضرت الأنفس الشح هو باعتبار أنَّ قوله : ) وَإِن يَتَفَرَّقَا ( معطوف على قوله : ) فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا ( وقوله : ومعنى إحضار الأنفس الشح إن الشح جعل حاضراً لا يغيب عنها أبداً ، جعله من باب القلب وليس بجيد ، بل التركيب القرآني يقتضي أنّ الأنفس جعلت حاضرة للشح لا تغيب عنه ، لأنّ الأنفس هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهي التي كانت فاعلة قبل دخول همزة النقل ، إد الأصل : حضرت الأنفس الشح . على أنه يجوز عند الجمهور في هذا الباب إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل على تفصيل في ذلك ؛ وإن كان الأجود عندهم إقامة الأول . فيحتمل أن تكون الأنفس هي المفعول الثاني ، والشح هو المفعول الأول ، وقام الثاني مقام الفاعل . والأولى حمل القرآن على الأفصح المتفق عليه . وقرأ العدوي : الشح بكسر الشين وهي لغة .
( وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ( ندب تعالى إلى الإحسان في العشرة على النساء وإن كرهن مراعاة لحق الصحبة ، وأمر بالتقوى في حالهن ، لأنّ الزوج قد تحمله الكراهة للزوجة على أذيتها وخصومتها لا سيما وقد ظهرت منه أمارات الكراهة من النشوز والإعراض . وقد وصى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بهنّ ( فإنهنّ عوان عند الأزواج ) . وقال الماتريدي : وإنْ تحسنوا في أن تعطوهنّ أكثر من حقهنّ ، وتتقوا في أنْ لا تنقصوا من حقهن شيئاً . أو أن تحسنوا في إيفاء حقهنّ والتسوية بينهنّ ، وتتقوا الجور والميل وتفضيل بعض على بعض . أو أن تحسنوا في اتباع ما أمركم الله به من طاعتهنّ ، وتتقوا ما نهاكم عنه عن معصيته انتهى . وختم آخر هذه بصفة الخبير وهو علم ما يلطف إدراكه ويدق ، لأنه قد يكون بين الزوجين من خفايا الأمور ما لا يطلع عليه إلا الله تعالى ، ولا يظهران ذلك لكل أحد . وكان عمران بن حطان الخارجي من أدم الناس ، وامرأته من أجملهنّ ، فأجالت في وجهه نظرها ثم تابعت الحمد لله ، فقال : ما لك ؟ قالت : حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة قال : كيف ؟ قالت : لأنك رزقت مثلي فشكرت ، ورزقت مثلك فصبرت ، وقد وعد الله الجنة الشاكرين والصابرين .
النساء : ( 129 ) ولن تستطيعوا أن . . . . .
( وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ ( قال ابن عطية : روي أنها نزلت في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وميله بقلبه إلى عائشة رضي الله عنها انتهى . ونبه تعالى على انتفاء استطاعة العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ، ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن ، وفي ذلك عذر للرجال فيما يقع من التفاوت في الميل القلبي ، والتعهد ، والنظر ، والتأنيس ، والمفاكهة . فإن التسوية في ذلك محال خارج عن حد الاستطاعة ، وعلق انتفاء الاستطاعة في التسوية على تقدير وجود الحرص من الانسان على ذلك . وقيل : معنى أن تعدلوا في المحبة قاله : عمر ، وابن عباس ، والحسن . وقيل : في التسوية والقسم . وقيل : في الجماع . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( أنه كان يقسم بين

" صفحة رقم 381 "
نسائه فيعدل ويقول : هذه قسمتي فيما أملك ، فلا تؤاخذاني فيما تملك ولا أملك ) يعني المحبة ، لأنّ عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه وكان عمر يقول : اللهم قلبي فلا أملكه ، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل فيه .
( فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ( نهى تعالى عن الجور على المرغوب أي : إن وقع منكم التفريط في شيء من المساواة فلا تجوروا كل الجور . والضمير في فتذروها عائد على المميل عنها المفهوم من قوله : فلا تميلوا كل الميل .
وقرأ أُبيّ : فتذروها كالمسجونة . وقرأ عبد الله : فتذروها كأنها معلقة . وتقدم تفسير المعلقة في الكلام على المفردات . وقال ابن عباس : كالمحبوسة بغير حق . وقيل : معنى كالمعلقة كالبعيدة عن زوجها . قيل : أو عن حقها ، ذكره الماوردي مأخوذ من تعليق الشيء لبعده عن قراره . وتذروها يحتمل أن يكون مجزوماً عطفاً على تميلوا ، ويحتمل أن يكون منصوباً بإضمار أن في جواب النهي . وكالمعلقة في موضع نصب على الحال ، فتتعلق الكاف بمحذوف . وفي الحديث : ( من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل ) والمعنى : يميل مع إحداهما كل الميل ، لا مطلق الميل . وقد فاضل عمر في عطاء بين أزواج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأبت عائشة وقالت : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان يعدل بيننا في القسيمة بماله ونفسه ، فساوى عمر بينهن ، وكان لمعاذ امرأتان فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى ، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد .
( وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ( قال الزمخشري : وإن تصلحوا ما مضى من قبلكم وتتداركوه بالتوبة ، وتتقوا فيما يستقبل ، غفر الله لكم انتهى . وفي ذلك نزغة الاعتزال . وقال ابن عطية : وإن تصلحوا ما أفسدتم بسوء العشرة ، وتلزموا ما يلزمكم من العدل فيما تملكون ، فإن الله كان غفوراً لما تملكونه متجاوزاً عنه . وقال الطبري : غفوراً لما سلف منكم من الميل كل الميل قبل نزول الآية انتهى . فعلى هذا هي مغفرة مخصصة لقوم بأعيانهم واقعوا المحظور في مدّة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وختمت تلك بالإحسان ، وهذه بالإصلاح . لأنّ الأولى في مندوب إليه إذ له أن لا يحسن وإن يشح ويصالح بما يرضيه ، وهذه في لازم ، إذ ليس له إلا أن يصلح ، بل يلزمه العدل فيما يملك .
النساء : ( 130 ) وإن يتفرقا يغن . . . . .
( وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ ( الضمير في يتفرقا عائد على الزوجين المذكورين في قوله : ) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا ( والمعنى : وإن شح كل منهما ولم يصطلحا وتفرّقا بطلاق ، فالله يغني كلاً منها عن صاحبه بفضله ولطفه في المال والعشرة والسعة . ووجود المراد والسعة الغنى والمقدرة وهذا وعد بالغنى لكل واحد إذا تفرقا ، وهو معروف بمشيئة الله تعالى . ونسبة الفعل إليهما يدل على أنّ لكل منهما مدخلاً في التفرق ، وهو التفرق بالأبدان وتراخي المدة بزوال العصمة ، ولا يدل على أنه

" صفحة رقم 382 "
تفرق بالقول ، وهو طلاق لأنه مختص بالزوج ، ولا نصيب للمرأة في التفرق القولي ، فيسند إليها خلافاً لمن ذهب إلى أنّ التفرق هاهنا هو بالقول وهو الطلاق . وقرأ زيد بن أفلح : وإن يتفارقا بألف المفاعلة أي : وإن يفارق كل منهما صاحبه . وهذه الآية نظير قوله تعالى : ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( وقول العرب : إن لم يكن وفاق فطلاق . فنبه تعالى على أنّ لهما أن يتفارقا ، كما أنّ لهما أن يصطلحا . ودل ذلك على الجواز قالوا : وفي قوله تعالى : يغن الله كلاً من سعته إشارة إلى الغنى بالمال . وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما رووا طلقة ذوقة فقيل له في ذلك فقال : إني رأيت الله تعالى علق الغنى بأمرين فقال : ) وَأَنْكِحُواْ الايَامَى ( الآية ، وقال : وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته .
( وَكَانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً ( ناسب ذلك ذكر السعة ، لأنه تقدّم من سعته . والواسع عام في الغنى والقدرة والعلم وسائر الكمالات . وناسب ذكر وصف الحكمة ، وهو وضع الشيء موضع ما يناسب ، لأن السعة ما لم تكن معها الحكمة كانت إلى فساد أقرب منها للصلاح قاله الراغب . وقال ابن عباس : يريد فيما حكم ووعظ . وقال الكلبي : فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان . وقال الماتريدي : أو حيث ندب إلى الفرقة عند اختلافهما ، وعدم التسوية بينهما .
النساء : ( 131 ) ولله ما في . . . . .
( وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( لما ذكر تعالى سعة رزقه وحكمته ، ذكر أنَّ له ملك ما في السموات وما في الأرض ، فلا يعتاض عليه غنى أحد ، ولا التوسعة عليه ، لأنّ من له ذلك هو الغني المطلق .
( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ ( وصينا : أمرنا أو عهدنا إليهم وإليكم ، ومن قبلكم : يحتمل أن يتعلق بأوتوا وهو الأقرب ، أو بوصينا . والمعنى : أن الوصية بالتقوى هي سنة الله مع الأمم الماضية فلستم مخصوصين بهذه الوصية . وإياكم عطف على الموصول ، وتقدّم الموصول لأن وصيته هي السابقة على وصينا فهو تقدم بالزمان . ومثل هذا العطف أعني : عطف الضمير المنصوب المنفصل على الظاهر فصيح جاء في القرآن وفي كلام العرب ، ولا يختص بالشعر ، وقد وهم في ذلك بعض أصحابنا وشيوخنا فزعم أنه لا يجوز إلا في الشعر ، لأنك تقدر على أن تأتي به متصلاً فتقول : آتيك وزيداً . ولا يجوز عنده : رأيت زيداً وإياك إلا في الشعر ، وهذا وهم فاحش ، بل من موجب انفصال الضمير كونه يكون معطوفاً فيجوز قام زيد وأنت ، وخرج بكر وأنا ، لا خلاف في جواز ذلك . فكذلك ضربت زيداً وإياك .
والذين أوتوا الكتاب هو عام في الكتب الإلهية ، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الذين أوتوا الكتاب باليهود والنصارى كما ذهب إليه بعض المفسرين ، لأن وصية الله بالتقوى لم تزل مذ أوجد العالم ، فليست مخصوصة باليهود والنصارى . وإن اتقوا : يحتمل أن تكون مصدرية أي : بأن اتقوا الله ، وأن تكون مفسرة التقدير أي : اتقوا الله لأن وصينا فيه معنى القول .
( وَإِن تَكْفُرُواْ ( ظاهره الخطاب لمن وقع له الخطاب بقوله : وإياكم ، وهم هذه الأمة ، ويحتمل أن يكون شاملاً للذين أوتوا الكتاب وللمخاطبين ، وغلب الخطاب على ما تقرر في لسان العرب كما تقول : قلت لزيد ذلك لا تضرب عمراً ، وكما تقول : زيد وأنت تخرجان .
النساء : ( 132 ) ولله ما في . . . . .
( للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( أي أنتم من جملة من يملكه تعالى وهو المتصرف فيكم ، إذ هو خالفكم والمنعم عليكم بأصناف النعم وأنتم مملوكون له ، فلا يناسب أن تكفروا من هو مالككم وتخالفون مره ، بل حقه أن يطاع ولا يعصى ، وأن يتقى عقابه ويرجى ثوابه ، ولله ما في سمائه وأرضه من يوحده ويعبده ولا يعصيه .
( وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً ( أي عن خلقه وعن عبادتهم لا تنفعه طاعتهم ، ولا يضره كفرهم .
( حَمِيداً ( أي مستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه وإن كفرتموه أنتم .
( وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ( الوكيل القائم بالأمور المنفذ فيها ما يراه ، فمن له ملك ما في السموات والأرض فهو كاف فيما يتصرف فيه لا يعتمد على غيره . وأعاد قوله : ولله ما في السموات وما في الأرض ثلاث مرات بحسب السياق . فقال ابن عطية : الأول : تنبيه على موضع الرجاء يهدي المتفرقين . والثاني : تنبيه على استغنائه عن العباد . والثالث :

" صفحة رقم 383 "
مقدمة للوعيد .
وقال الزمخشري : وتكرير قوله : ) وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( تقرير لما هو موجب تقواه ليتقوه ، فيطيعوه ولا يعصوه ، لأن الخشية والتقوى أصل الخير كله . وقال الراغب : الأول : للتسلية عما فات . والثاني : أنّ وصيته لرحمته لا لحاجة ، وأنهم إن كفروه لا يضروه شيئاً . والثالث : دلالته على كونه غنياً . وقال أبو عبد الله الرّازي : الأول : تقرير كونه واسع الجود . والثاني : للتنزيه عن طاعة المطيعين . والثالث : لقدرته على الإفناء والإيجاد ، والغرض منه تقرير كونه قادراً على مدلولات كثيرة فيحسن أن يذكر ذلك الدليل على كل واحد من مدلولاته ، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة ، لأنه عنده إعادة ذكر الدليل يحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول ، وكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل ، فظهر أنّ هذا التكرار في غاية الكمال . وقال مكي : نبهنا أولاً على ملكه وسعته . وثانياً على حاجتنا إليه وغناه ، وثالثاً على حفظه لنا وعلمه بتدبيرنا .
النساء : ( 133 ) إن يشأ يذهبكم . . . . .
( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاخَرِينَ ( ظاهره أنّ الخطاب لمن تقدم له الخطاب أولاً . وقال ابن عباس : الخطاب للمشركين والمنافقين ، والمعنى : ويأت بآخرين منكم . وقريب منه ما نقله الزمخشري : من أنه خطاب لمن كان يعادي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من العرب . وقال أبو سليمان الدمشقي : الخطاب للكفار وهو تهديد لهم ، كأنه قال : إن يشاء يهلككم كما أهلك من قبلكم إذ كفروا برسله . وقيل : للمؤمنين ينطلق عليه اسم الناس ، والمعنى : إن شاء يهلككم كما أنشأكم وأنشأ قوماً آخرين يعبدونه . وقال الطبري : الخطاب للذين شفعوا في طعمة بن أبيرق ، وخاصم وخاصموا عنه في أمر خيانته في الدّرع والدّقيق . وهذا التأويل بعيد ، وقد يظهر العموم فيكون خطاباً للعالم الحاضر الذي يتوجه إليه الخطاب والنداء . ويأت بآخرين أي : بناس غيركم ، فالمأتى به من نوع المذهب ، فيكون من جنس المخاطب المنادي وهم الناس .
وروي أنها لما نزلت ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بيده على ظهر سلمان وقال : ) أَنَّهُمْ قَوْمٌ هَاذَا يُرِيدُ ابْنُ ( ، وأجاز الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن يكون المراد بآخرين من نوع المخاطبين . قال الزمخشري : ويأت بآخرين مكانكم أو خلقاً آخرين غير الإنس . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون وعيداً لجميع بني آدم ، ويكون الآخرون من غير نوعهم . كما أنه قد روي أنه كان في الأرض ملائكة يعبدون الله قبل بني آدم انتهى . وما جوّزه لا يجوز ، لأنّ مدلول آخر في اللغة هو مدلول غير خاص بجنس ما تقدم ، فلو قلت : جاء زيد وآخر معه ، أو مررت بامرأة وأخرى معها ، أو اشتريت فرساً وآخر ، وسابقت بين حمار وآخر ، لم يكن آخر ولا أخرى مؤنثه ، ولا تثنيته ولا جمعه إلا من جنس ما يكون قبله . ولو قلت : اشتريت ثوباً وآخر ، ويعني به : غير ثوب لم يجز ، فعلى هذا تجويزهم أن يكون قوله : بآخرين من غير جنس ما تقدم وهم الناس ليس بصحيح ، وهذا هو الفرق بين غير وبين آخر ، لأنّ غيراً تقع على المغاير في جنس أو في صفة ، فتقول : اشتريت ثوباً وغيره ، فيحتمل أن يكون ثوباً ، ويحتمل أن يكون غير ثوب وقلّ من يعرف هذا الفرق .
( بِاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً ( أي على إذهابكم والإتيان بآخرين . وأتى بصيغة المبالغة في القدرة ، لأنه تعالى لا يمتنع عليه شيء أراده ، وهذا غضب عليهم وتخويف ، وبيان لاقتداره .
النساء : ( 134 ) من كان يريد . . . . .
( مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ ( قال ابن عطية ، أي من كان لا رغبة له إلا في ثواب الدنيا ولا يعتقد أنّ ثمّ سواه فليس كما ظن ، بل عند الله ثواب الدّارين . فمن قصد الآخرة أعطاه من ثواب الدنيا وأعطاه قصده ، ومن قصد الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له ، وكان له في الآخرة العذاب . وقال الماتريدي : يحتمل أن يكون المعنى من عبد الأصنام طلباً للعز لا يحصل له ذلك ، ولكن عند الله عز الدنيا والآخرة ، أو

" صفحة رقم 384 "
للتقريب والشفاعة أي : ليس له ذلك ، ولكن اعبدوا الله فعنده ثواب الدنيا والآخرة ، لا عند من تطلبون . ويحتمل أن تكون في أهل النفاق الذين يراؤون بأعمالهم الصالحة في الدنيا لثواب الدنيا لا غير .
ومن يحتمل أن تكون موصولة والظاهر أنها شرط وجوابه الجملة المقرونة بفاء الجواب : ولا بد في الجملة الواقعة جواباً لاسم الشرط غير الظرف من ضمير عائد على اسم الشرط حتى يتعلق الجزاء بالشرط ، والتقدير : ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ، هكذا قدّره الزمخشري وغيره . والذي يظهر أنّ جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه ، وليطلب الثوابين ، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة . وقال الراغب : فعند الله ثواب الدنيا والآخرة تبكيت للإنسان حيث اقتصر على أحد السؤالين مع كون المسؤول مالكاً للثوابين ، وحث على أن يطلب منه تعالى ما هو أكمل وأفضل من مطلوبه ، فمن طلب خسيساً مع أنه يمكنه أن يطلب نفيساً فهو دنيء الهمة . قيل : والآية وعيد للمنافقين لا يريدون بالجهاد غير الغنيمة . وقيل : هي حض على الجهاد .
( وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( أي سميعاً لأقوالهم ، بصيراً بأعمالهم ونياتهم .
النساء : ( 135 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ ( قال الطبري : هي سبب نازلة بن أبيرق وقيام من قام في أمره بغير القسط . وقال السدّي : نزلت في اختصام غني وفقير عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة ، أعقبه بالقيام بأداء حقوق الله تعالى ، وفي الشهادة حقوق الله . أو لأنه لما ذكر تعالى طالب الدنيا وأنه عنده ثواب الدنيا والآخرة ، بيّن أنّ كمال السعادة أن يكون قول الإنسان وفعله الله تعالى ، أو لأنه لما ذكر في هذه السورة ) وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى ( والإشهاد عند دفع أموال اليتامى إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله ، وذكر قصة ابن أبيرق واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل ، وندب للمصالحة ، أعقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله سبحانه وتعالى ، وأتى بصيغة المبالغة في قوّامين حتى لا يكون منهم جور مّا ، والقسط العدل . ومعنى شهداء الله أي : لوجه الله ، لا يراعي في الشهادة إلا جهة الله تعالى . والظاهر أن معنى قوله : شهداء لله من الشهادة في الحقوق ، ولذلك أتبعه بما بعده من قوله : ولو على أنفسكم ، وهكذا فسره المفسرون . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله : شهداء لله معناه بالوحدانية ، ويتعلق قوله : ولو على أنفسكم ، بقوله : قوّامين بالقسط ، والتأويل الأول أبين انتهى كلامه . ويضعفه أنه خطاب للمؤمنين وهم شهداء لله بالوحدانية ، إلا إن أريد استمرار الشهادة .
وتقدّمت صفة قوّامين بالقسط على شهداء الله . لأنّ القيام بالقسط أعم ، والشهادة أخص . ولأنّ القيام بالقسط فعل وقول ، والشهادة قول فقط . ومعنى : ولو على أنفسكم ، أي تشهدون على أنفسكم أي تقرّون بالحق وتقيمون القسط عليها . والظاهر أنه أراد بقوله : ولو على أنفسكم أنفس الشهداء لله تعالى . وأبعد من جوّز أن يكون المعنى في أنفسكم : الأهل واوقارب ، وأن يكون ( أو الوالدين ) تفسيراً لأنفسكم ، ويضعفه العطف بأو . وانتصب شهداء على أنه خبر بعد خبر . ومن ذهب إلى جعله حالاً من الضمير في قوّامين كأبي البقاء ، فقوله ضعيف . لأن فيها تقييداً لقيام بالقسط ، سواء كان مثل هذا أم لا . وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يشهد لهذا القول الضعيف ، قال ابن عباس : معناه كونوا قوّامين بالعدل في الشهادة على من كان ومجيء لو هنا لاستقصاء جميع ما يمكن فيه الشهادة ، لما كانت الشهادة من الإنسان على نفسه بصدد أن لا يقيمها لما جبل عليه المرء من محاباة نفسه ومراعاتها ، نبّه على هذه الحال ، وجاء هذا الترتيب في الاستقصاء في غاية من الحسن والفصاحة . فبدأ بقوله : ولو على أنفسكم ، لأنه لا شيء أعز

" صفحة رقم 385 "
على الإنسان من نفسه ، ثم ذكر الوالدين وهما أقرب إلى الإنسان وسبب نشأته ، وقد أمر ببرهما وتعظيمهما ، والحوطة لهما ، ثم ذكر الأقربين وهم مظنة المحبة والتعصب . وإذا كان هؤلاء أمر في حقهم بالقسط والشهادة عليهم ، فالأجنبي أحرى بذلك . والآية تعرضت للشهادة عليهم لا لهم ، فلا دلالة فيها على الشهادة لهم ، كما ذهب إليه بعض المفسرين . ولو شرطية بمعنى : أنّ وقوله على أنفسكم متعلق بمحذوف ، لأن التقدير : وإن كنتم شهداء على أنفسكم فكونوا شهداء لله ، هذا تقرير الكلام . وحذف كان بعد لو كثير تقول : ائتني بتمرولو حشفاً ، أي : وإن كان التمر حشفاً فائتني به . وقال ابن عطية : ولو على أنفسكم متعلق بشهداء . فإن عنى شهداء هذا الملفوظ به فلا يصح ذلك ، وإن عنى الذي قدّرناه نحن فيصح . وقال الزمخشري : ولو على أنفسكم ، ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم . ( فإن قلت ) : الشهادة على لوالدين والأقربين أن يقول : أشهدُ أنّ لفلان على والذي كذا وعلى أقاربي ، فما معنى الشهادة على نفسه ؟ ( قلت ) : هي الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها ، ويجوز أن يكون المعنى : وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم ، أو على آبائكم وأقاربكم ، وذلك أن يشهد على من توقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره انتهى كلامه . وتقديره : ولو كانت الشهادة على أنفسكم ، ليس بجيد ، لأن المحذوف إنما يكون من جنس الملفوظ به قبل ليدل عليه . فإذا قلت : كن محسناً لمن أساء إليك ، فتحذف كان واسمها والخبر ، ويبقى متعلقه لدلالة ما قبله عليه ولا تقدره : ولو كان إحسانك لمن أساء . فلو قلت : ليكن منك إحسان ولو لمن أساء ، فتقدر : ولو كان الإحسان لمن أساء لدلالة ما قبله عليه ، ولو قدرته . ولو كنت محسناً لمن أساء إليك لم يكن جيداً ، لأنك تحذف ما لا دلالة عليه بلفظ مطابق . وقول الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم هذا لا يجوز ، لأن ما تعلق به الظرف كون مقيد ، ولا يجوز حذف الكون المقيد ، لو قلت : كان زيد فيك وأنت تريد محباً فيك لم يجز ، لأنّ محباً مقيداً ، وإنما ذلك جائز في الكون المطلق ، وهو : تقدير كائن أو مستقر .
( إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ( أي إن يكن المشهود عليه غنياً فلا تمتنع من الشهادة عليه لغناه ، أو فقيراً فلا تمنعها ترحماً عليه وإشفاقاً . فعلى هذا الجواب محذوف ، لأن العطف هو بأو ، ولا يثني الضمير إذا عطف بها ، بل يفرد . وتقدير الجواب : فليشهد عليه ولا يراعي الغنيّ لغناه ، ولا لخوف منه ، ولا الفقير لمسكنته وفقره ، ويكون قوله : فالله أولى بهما ليس هو الجواب ، بل لما جرى ذكر الغني والفقير . عاد الضمير على ما دل عليه ما قبله كأنه قيل : فالله أولى بجنسي الغني والفقير أي : بالأغنياء والفقراء . وفي قراءة أبيّ : فالله أولى بهم ما يشهد بإرادة الجنس . وذهب الأخفش وقوم ، إلى أنّ أو في معنى الواو ، فعلى قولهم يكون الجواب : فالله أولى بهما ، أي : حيث شرع الشهادة عليهما ، وهو أنظر لهما منكم . ولولا أنّ الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها . وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : وقد ذكر العطف بالواو وثم وحتى ما نصه تقول : زيد أو عمر ، وقام زيد لا عمرو قام ، وكذلك سائر ما بقي من حروف العطف يعني غير الواو وحتى والفاء وثم ، والذي بقي بل ولكن وأم . قال : لا تقول قاما لأنّ القائم إنما هو أحدهما لا غير ، ولا يجوز قاما إلا في أو خاصة ، وذلك شذوذ لا يقاس عليه . قال الله تعالى : إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما ، فأعاد الضمير على الغني والفقير لتفرقهما في الذكر انتهى . وهذا ليس بسديد . ولا شذوذ في الآية ، ولا دليل فيها على جواز زيد أو عمرو قاما على جهة الشذوذ ، ولا غيره . ولأن قوله : فالله أولى بهما ليس بجواب كما قررناه ، والضمير ليس عائداً على الغني والفقير الملفوظ بهما في الآية ، وإنما يعود على ما دل عليه

" صفحة رقم 386 "
المعنى من جنسي الغني والفقير . وقرأ عبد الله : إن يكن غني أو فقير على أنّ كان تامة .
( فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ ( لما أمر تعالى بالقيام بالعدل وبالشهادة لمرضاة الله نهى عن اتباع الهوى ، وهو ما تميل إليه النفس مما لم يبحه الله تعالى وإن تعدلوا من العدول عن الحق ، أو من العدل وهو القسط . فعلى الأول يكون التقدير : إرادة أن تجوروا ، أو محبة أن تجوروا . وعلى الثاني يكون التقدير : كراهة أن تعدلوا بين الناس وتقسطوا . وعكس ابن عطية هذا التقدير فقال : يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا ، ويكون العدل بمعنى القسط كأنه قال : انتهوا خوف أن تجوروا ، أو محبة أن تقسطوا . فإن جعلت العامل تتبعوا فيحتمل أن يكون المعنى : محبة أن تجوروا انتهى كلامه . وهذا الذي قرره من التقديره يكون العامل في أنّ تعدلوا فعلاً محذوفاً من معنى النهي ، وكان الكلام قد تم عند قوله : فلا تتبعوا الهوى ، ثم أضمر فعلاً وقدره : انتهوا خوف أن تجورا ، أو محبة أن تقسطوا ، ولذلك قال : فإن جعلت العامل تتبعوا . والذي يدل عليه الظاهر أنّ العامل هو تتبعوا ، ولا حاجة إلى إضمار جملة أخرى ، فيكون فعلها عاملاً في أن تعدلوا . وإذا كان العامل تتبعوا فيكون التقدير الأول هو المتجه ، وعلى هذه التقادير فإنَّ تعدلوا مفعول من أجله . وجوّز أبو البقاء وغيره أن يكون التقدير : أن لا تعدلوا ، فحذف لا ، أي : لا تتبعوا الهوى في ترك العدل . وقيل : المعنى لا تتبعوا الهوى لتعدلوا أي : لتكونوا في اتباعكموه عدولاً ، تنبيهاً أنّ اتباع الهوى وتحري العدالة متنافيان لا يجتمعان . وقال أبو عبد الله الرازي : المعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل ، والعدل عبارة عن ترك متابعة الهوى ، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر ، فالتقدير : لأجل أن تعدلوا .
( وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ ( الظاهر أنّ الخطاب للمأمورين بالقيام بالقسط ، والشهادة لله ، والمنهيين عن اتباع الهوى . وقال ابن عباس : هو في ليِّ الحاكم عنقه عن أحد الخصمين . وقال مجاهد نحوه قال : ليّ الحاكم شدقه لأحد الخصمين ميلاً إليه . وقال ابن عباس أيضاً ، والضحاك ، والسدي ، وابن زيد ، ومجاهد : هي في الشهود يلوي الشهادة بلسانه فيحرفها ولا يقول الحق فيها ، أو يعرض عن أداء الحق فيها ، ويقول معناه : يدافعوا الشهادة من ليّ الغريم . وقال لزمخشري : وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق ، أو حكومة العدل ، أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها .
وقرأ جماعة في الشاذ ، وابن عامر ، وحمزة : وإن تلوا بضم اللام بواو واحدة ، ولحن بعض النحويين قارىء هذه القراءة . قال : لا معنى للواية هنا ، وهذا لا يجوز لأنها قراءة متواترة في السبع ، ولها معنى صحيح وتخريج حسن . فنقول : اختلف في قوله : وإن تلووا .
فقيل : هي من الولاية أي : وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها ، والولاية على الشيء هو الإقبال عليه . وقيل : هو من اللي واصله : تلووا ، وأبدلت الواو المضمومة همزة ، ثم نقلت حركتها إلى اللام وحذفت . قال الفراء ، والزجاج ، وأبو علي ، والنحاس ، ونقل عن النحاس أيضاً أنه استثقلت الحركة على الواو فألقيت على اللام ، وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين .
( فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ( هذا فيه وعيد لمن لوى عن الشهادة أو أعرض عنها .
النساء : ( 136 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ ( مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالقيام بالقسط ، والشهادة لله ، بين أنه لا يتصف بذلك إلا مَن كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية فأمر بها . والظاهر أنه خطاب للمؤمنين . ومعنى : آمنوا دوموا على الإيمان قاله : الحسن ، وهو أرجح .

" صفحة رقم 387 "
لأن لفظ المؤمن متى أطلق لا يتناول إلا المسلم . وقيل : للمنافقين أي : يا أيها الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم آمِنوا بقلوبكم . وقيل : لمن آمن بموسى وعيسى عليهما السلام أي : يا من آمن بنبي من الأنبياء آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : هم جميع الخلق أي : يا أيها الذين آمنوا يوم أخذ الميثاق حين قال : ) أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ). وقيل : اليهود خاصة . وقيل : المشركون آمنوا باللات والعزى والأصنام والأوثان . وقيل : آمنوا على سبيل التقليد ، آمنوا على سبيل الاستدلال . وقيل : آمنوا في الماضي والحاضر ، آمنوا في المستقبل . ونظيره : ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلائَ اللَّهِ ( مع أنه كان عالماً بذلك . وروي أن عبد الله بن سلام ، وسلاماً ابن أخته ، وسلمة بن أخيه ، وأسد وأسيداً ابني كعب ، وثعلبة بن قيس ويامين ، أتوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقالوا : نؤمن بك وبكتابك ، وموسى والتوراة ، وعزير ، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال عليه السلام : ( بل آمنوا بالله ورسوله وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله ) فقالوا : لا نفعل ، فنزلت فآمنوا كلهم . والكتاب الذي نزل على رسوله هو القرآن بلا خلاف ، والكتاب الذي أنزل من قبلُ المراد به جنس الكتب الإلهية ، ويدل عليه قوله : آخراً . وكتبه وإنْ كان الخطاب لليهود والنصارى فكيف قيل لهم والكتاب الذي أنزل من قبل وهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل . وأجيب عن ذلك بأنهم كانوا مؤمنين بهما فحسب ، وما كانوا مؤمنين بكلّ ما أنزل من الكتب ، فأمروا أن يؤمنوا بجميع الكتب . أو لأنّ إيمانهم ببعض لا يصح ، لأن طريق الإيمان بالجميع واحد وهو المعجزة . وقرأ العربيان وابن كثير : نزل وأنزل بالبناء للمفعول ، والباقون بالبناء للفاعل . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم قال نزل على رسوله وأنزل من قبل ؟ ( قلت ) : لأن القرآن نزل منجماً مفرقاً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله انتهى . وهذه التفرقة بين نزل وأنزل لا تصح ، لأن التضعيف في نزل ليس للتكثير والتفريق ، وإنما هو للتعدية ، وهو مرادف للهمزة . وقد أشبعنا الرد على الزمخشري في دعواه ذلك أول سورة آل عمران .
( وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً ( جواب الشرط ليس مترتباً على الكفر بالمجموع ، بل المعنى : ومن يكفر بشيء من ذلك . وقرىء : وكتابه على الأفراد ، والمراد جنس الكتب . ولما كان خير الإيمان علق بثلاثة : بالله ، والرسول ، والكتب ، لأن الإيمان بالكتب تضمن الإيمان بالملائكة واليوم الآخر ، وبولغ في ذلك لأن الملك مغيب عنا ، وكذلك اليوم الآخر لم يقع وهو منتظر ، فنص عليهما على سبيل التوكيد ، ولئلا يتأولهما متأول على خلاف ما هما عليه . فمن أنكر الملائكة أو القيامة فهو كافر ، وقدّم الكتب على الرسل على الترتيب الوجودي ، لأن الملك ينزل بالكتب والرسل تتلقى الكتب من الملك . وقدّم في الأمر بالإيمان الموصول على الكتاب ، لأن الرسول أول ما يباشره المؤمن ثم يتلقى الكتاب منه . فحيث نفى الإيمان كان على الترتيب الوجودي ، وحيث أثبت كان على الترتيب اللقائي ، وهو راجع للوجود في حق المؤمن .
النساء : ( 137 ) إن الذين آمنوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ ( لمّا أمر بالأشياء التي تقدم ذكرها ، وذكر أنّ من كفر بها أو بشيء منها فهو ضال ، أعقب ذلك بفساد ، وطريقة من كفر بعد الإيمان ، وأنه لا يغفر له على ما بين . والظاهر أنها في المنافقين إذ هم المتلاعبون بالدين ، فحيث لقوا المؤمنين ( قالوا آمنا ) وإذا لقوا أصحابهم ( قالوا إنا مستهزئون ( ولذلك جاء بعده بشر المنافقين ، فهم مترددون بين إظهار الإيمان والكفر باعتبار من يلقونه . ومعنى ازداد كفراً بأن تم على نفاقه حتى مات .

" صفحة رقم 388 "
وقيل : ازدياد كفرهم هو اجتماعهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حرب المسلمين ، وإلى هذا ذهب : مجاهد وابن زيد . وقال الحسن : هي في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت : ( آمنوا وجه النهار واكفروا آخره ) قصدوا تشكيك المسلمين وازدياد كفرهم هو أنهم بلغوا في ذلك إلى حدّ الاستهزاء والسخرية بالإسلام . قال قتادة وأبو العالية وطائفة ، ورجحه الطبري : هي في اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا ، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وضعف هذا القول ابن عطية قال : يدفعه ألفاظ الآية ، لأنها في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من المترددين بين الكفر والإيمان ثم يزداد . وقال بعضهم : هي في اليهود آمنوا بالتوراة وموسى ثم كفرا بعزير ، ثم آمنوا بداود ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً عند مقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية في المترددين ، فإن المؤمن إذا ارتد ثم آمن قبلت توبته إلى الثلاث ، ثم لا تقبل ويحكم عليه بالنار . وقال القفال : ليس المراد بيان هذا العدد ، بل المراد ترددهم كما قال : ) ( ولذلك جاء بعده بشر المنافقين ، فهم مترددون بين إظهار الإيمان والكفر باعتبار من يلقونه . ومعنى ازداد كفراً بأن تم على نفاقه حتى مات . وقيل : ازدياد كفرهم هو اجتماعهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حرب المسلمين ، وإلى هذا ذهب : مجاهد وابن زيد . وقال الحسن : هي في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت : ( آمنوا وجه النهار واكفروا آخره ) قصدوا تشكيك المسلمين وازدياد كفرهم هو أنهم بلغوا في ذلك إلى حدّ الاستهزاء والسخرية بالإسلام . قال قتادة وأبو العالية وطائفة ، ورجحه الطبري : هي في اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا ، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وضعف هذا القول ابن عطية قال : يدفعه ألفاظ الآية ، لأنها في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من المترددين بين الكفر والإيمان ثم يزداد . وقال بعضهم : هي في اليهود آمنوا بالتوراة وموسى ثم كفرا بعزير ، ثم آمنوا بداود ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً عند مقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية في المترددين ، فإن المؤمن إذا ارتد ثم آمن قبلت توبته إلى الثلاث ، ثم لا تقبل ويحكم عليه بالنار . وقال القفال : ليس المراد بيان هذا العدد ، بل المراد ترددهم كما قال : ) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ ( ويدل عليه قوله : ) بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ ). وقال الزمخشري : المعنى أنّ الذين تكرر منهم الارتداد وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله ، لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر ، ومرئت على الردة ، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه حيث يدلونهم فيه كرة بعد أخرى ، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة ونصحت توبتهم لم تقبل منهم ولم يغفر لهم ، لأن ذلك مقبول حيث هو بذل الطاقة واستفراغ الوسع ، ولكنه استبعاد له واستغراب ، وأنه أمر لا يكاد يكون . وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع لا يكاد يرجى منه الثبات ، والغالب أنه يموت على شر حال وأقبح صورة انتهى كلامه . وفي بعضه ألفاظ من ألفاظ الاعتزال .
( لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ( الجمهور على تقدير محذوف أي : ثم ازدادوا كفراً وماتوا على الكفر ، لأنه معلوم من هذه الشريعة أنه لو آمن وكفر مراراً ثم تاب عن الكفر وآمن ووافى تائباً ، أنه مغفور له ما جناه في كفره السابق وإن تردد فيه مراراً . وقيل : يحمل على قوم معينين علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه ، فيكون قوله : لم يكن الله ليغفر لهم إخباراً عن موتهم على الكفر . وقيل : الكلام خرج على الغالب المعتاد ، وهو أنّ مَن كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإيمان في قلبه وقع ولا عظم قدر . والظاهر من حال مثل هذا أنه يموت على الكفر .
وفي قوله : لم يكن الله ليغفر لهم ، دلالة على أنه مختوم عليهم بانتفاء الغفران وهداية السبيل ، وأنهم تقرر عليهم ذلك في الدنيا وهم أحياء ، وهذه فائدة المجيء بلام الجحود ، ففرق بين لم يكن زيد يقوم وبين لم يكن زيد ليقوم . فالأول ليس فيه إلا انتفاء القيام ، والثاني فيه انتفاء الإرادة والإيتاء للقيام ، ويلزم من انتفاء إرادة القيام نفي القيام ، وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك مشبعاً في سورة آل عمران . وقال الزمخشري : نفي للغفران والهداية ، وهي اللطف على سبيل المبالغة التي توطئها اللام ، والمراد : بنفيهما نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت انتهى . وظاهر كلامه أنه يقول بقول الكوفيين ، وهو أنهم يقولون : إذا قلت لم يكن زيد ليقوم ، أنْ خبر لم يكن هو قولك ليقوم ، واللام للتأكيد زيدت في النفي ، والمنفي هو القيام ، وليست أن مضمرة بل اللام هي الناصبة . والبصريون يقولون : النصب بإضمار أنْ ، وينسبك من أن المضمرة والفعل بعدها مصدر ، وذلك المصدر لا يصح أنْ يكون خبراً ، لأنه معنى والمخبر عنه جثة . ولكن الخبر محذوف ، واللام تقوية لتعدية ذلك الخبر إلى المصدر لأنه جثة . وأضمرت أنْ بعدها وصارت اللام كالعوص من أن المحذوفة ، ولذلك لا يجوز حذف هذه اللام ، ولا الجمع بينها وبين أن ظاهرة . ومعنى قوله : والمراد بنفيهما نفي ما يقتضيهما أن المعنى لم يكونوا ليؤمنوا فيغفر الله لهم ويهديهم .
النساء : ( 138 ) بشر المنافقين بأن . . . . .
( بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ومعنى : بشر أخبر ، وجاء بلفظ

" صفحة رقم 389 "
بشر على سبيل التهكم بهم نحو قوله : ) فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( أي القائم لهم مقام البشارة ، هو الإخبار بالعذاب كما قال : ) تَحِيَّةً بَيْنَهُمْ ضُرِبَ ). وقال ابن عطية : جاءت البشارة هنا مصرحاً بفيدها ، فلذلك حسن استعمالها في المكروه . ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب . وفي هذه الآية دليل على أنّ التي قبلها إنما هي في المنافقين . وقال الماتريدي : بشر المنافقين يدل على أنّ قوله : ) خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ ( في أهل النفاق والمراءاة ، لأنه لم يسبق ذكر للمنافقين سوى هذه الآية . ويحتمل أن يكون ابتداء من غير تقدم ذكر المنافقين .
النساء : ( 139 ) الذين يتخذون الكافرين . . . . .
( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( أي : اليهود والنصارى ومشركي العرب أولياء أنصاراً ومعينين يوالونهم على الرسول والمؤمنين ، ونص من صفات المنافقين على أشدها ضرراً على المؤمنين وهي : موالاتهم الكفار ، واطراحهم المؤمنين ، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة . والذين : نعت للمنافقين ، أو نصب على الذم ، أو رفع على خبر المبتدأ . أي : هم الذين .
( أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ ( أي : الغلبة والشدّة والمنعة بموالاتهم ، وقول بعضهم لبعض : لا يتم أمر محمد . وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنهم لا عزة لهم فكيف تبتغي منهم ؟ وعلى خبث مقصدهم . وهو طلب العزة بالكفار والاستكثار بهم .
( فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً ( أي لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم . قال تعالى : ) كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ ). وقال : ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ). وقال تعالى : ) مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ( والفاء في فإن العزة لله دخلت لما في الكلام من معنى الشرط ، والمعنى : أنْ تبتغوا العزة من هؤلاء فإن العزة ، وانتصب جميعاً على الحال .
النساء : ( 140 ) وقد نزل عليكم . . . . .
( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ ( الخطاب لمن أظهر الإيمان من مخلص ومنافق . وقيل : للمنافقين الذين تقدّم ذكرهم ، ويكون التفاتاً . وكانوا يجلسون إلى أحبار اليهود وهم يخوضون في القرآن يسمعون منهم ، فنهوا عن ذلك ، وذكروا بما نزل عليهم بمكة من قوله : ) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِىءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ ).
وقرأ الجمهور : وقد نزل مشدداً مبنياً للمفعول . وقرأ عاصم : نزل مشدداً مبنياً للفاعل . وقرأ أبو حيوة وحميد : نزل مخففاً مبنياً للفاعل . وقرأ النخعي : أنزل بالهمزة مبنياً للمفعول ، ومحل أن رفع أو نصب على حسب العامل ، فنصب على قراءة عاصم ، ورفع على الفاعل على قراءة أبي حيوة وحميد ، وعلى المفعول الذي لم يسم فاعله على قراءة الباقين . وإنْ هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف وتقديره : ذلك أنه إذا سمعتم . وما قدره أبو البقاء من قوله : أنكم إذا سمعتم ، ليس بجيد ، لأنها إذا خففت إنْ لم تعمل في ضمير إلا إذا كان ضمير أمر ، وشأن محذوف ، وإعمالها في غيره ضرورة نحو قوله : فلو أنك في يوم الرخاء سألتني
طلاقك لم أبخل وأنت صديق
وخبر إنْ هي الجملة من إذا وجوابها . ومثال وقوع جملة الشرط خبراً لأنْ المخففة من الثقيلة قول الشاعر : فعلمت أن من تتقوه فإنه
جزر لخامعة وفرخ عقاب

" صفحة رقم 390 "
ويكفر بها في موضع نصب على الحال ، والضمير في معهم عائد على المحذوف الذي دل عليه قوله : يكفر بها ويستهزأ أي : فلا تقعدوا مع الكافرين المستهزئين ، وحتى غاية لترك القعود معهم . ومفهوم الغاية أنهم إذا خاضوا في غير الكفر والاستهزاء ارتفع النهي ، فجاز لهم أن يقعدوا معهم . والضمير عائد على ما دل عليه المعنى أي : في حديث غير حديثهم الذي هو كفر واستهزاء . ويحتمل أن يفرد الضمير ، وإنْ كان عائداً على الكفر وعلى الاستهزاء المفهومين من قوله : يكفر بها ويستهزأ بها ، لأنهما راجعان إلى معنى واحد ، ولأنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في كونه لمفرد ، وإنْ كان المراد به اثنين .
( إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ ( حكم تعالى بأنهم إذا قعدوا معهم وهم يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها ، وهم قادرون على الإنكار مثلهم في الكفر ، لأنهم يكونون راضين بالكفر ، والرضا بالكفر كفر . والخطاب في أنكم على الخلاف السابق أهو للمنافقين ؟ أم للمؤمنين ؟ ولم يحكم تعالى على المسلمين الذين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين بمكة بأنهم مثل المشركين ، لعجز المسلمين إذ ذاك عن الإنكار بخلاف المدينة ، فإن الإسلام كان الغالب فيها والأعلى ، فهم قادرون على الإنكار ، والسامع للذم شريك للقائل ، وما أحسن ما قال الشاعر : وسمعك صن عن سماع القبيح
كصون اللسان عن النطق به
قال ابن عطية : وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة كقول الشاعر : عن المرء لا تسئل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدى
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوماً يشربون الخمر فقيل له عن أحد الحاضرين : إنه صائم فحمل عليه الأدب ، وقرأ : إنكم إذاً مثلهم . ومَن ذهب إلى أنّ معنى قوله : إنكم إذاً مثلهم ، إنْ خضتم كخوضهم ووافقتموهم على ذلك فأنتم كفار مثلهم ، قوله تنبو عنه دلالة الكلام . وإنما المعنى ما قدّمناه من أنكم إذا قعدتم معهم مثلهم .
وإذا هنا توسطت بين الاسم والخبر ، وأفرد مثل ، لأن المعنى أنّ عصيانكم مثل عصيانهم ، فالمعنى على المصدر كقوله : ) أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ( وقد جمع في قوله : ) ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم ( وفي قوله : ) حُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ( والإفراد والمطابقة في التثنية أو الجمع جائزان . وقرىء شاذاً مثلهم بفتح اللام ، فخرجه البصريون على أنه مبني لإضافته إلى مبني كقوله : لحق مثل ما أنكم تنطقون على قراءة من فتح اللام ، والكوفيون يجيزون في مثل أن ينتصب محلاً وهو الظرف ، فيجوز عندهم زيد مثلك بالنصب أي : في مثل حالك . فعلى قولهم يكون انتصاب مثلهم على المحل ، وهو الظرف .
( إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً ( لما اتخذوهم في الدنيا أولياء جمع بينهم في الآخرة في النار ، والمرء مع من أحب ، وهذا توعد منه تعالى تأكد به التحذير من مجالستهم ومخالطتهم .
النساء : ( 141 ) الذين يتربصون بكم . . . . .
( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ ( المعنى الذين ينتظرون بكم ما يتجدد من الأحوال من ظفر لكم أو بكم ، فإن كان لكم فتح من الله قالوا : ألم نكن معكم مظاهرين . والمعنى : فاسهموا لنا بحكم إنّنا مؤمنون ، وإن كان للكافرين أي اليهود نصيب ، أي : نيل من المؤمنين قالوا : ألم نستحوذ عليكم ، أي : ألم نغلبكم وننتمكن من قتلكم وأسركم ، وأبقينا عليكم ، ونمنعكم من المؤمنين بأن ثبطناهم عنكم ، فاسهموا لنا بحكم أننا نواليكم فلا نؤذيكم ، ولا نترك أحداً يؤذيكم . قيل : المعنى أنّ الكفار واليهود هموا بالدخول في الإسلام فحذرهم المنافقون عن ذلك ، وبالغوا في تنفيرهم سيضعف أمر الرسول ، فمنوا عليهم عند حصول نصيب لهم بأنهم قد أرشدوهم لهذه المصالح ، فيكون التقدير : ونمنعكم من اتباع المؤمنين والدخول في دينهم فاسهموا لنا . وقيل : المعنى ألم

" صفحة رقم 391 "
نخبركم بأمرِ محمد وأصحابه ونطلعكم على سرهم ؟ وعن ابن عباس : ألم نحط من ورائكم ؟ والذين يتربصون بدل من الذين يتخذون ، أو صفة للمنافقين ، أو نصب على الذم ، أو رفع على خبر الابتداء محذوف . وسمى تعالى ظفر المؤمنين فتحاً عظيماً لهم ، وجعل منه تعالى فقال : فتح من الله ، وظفر الكافرين نصيباً ، ولم ينسبه إليه تعالى تحقيراً لهم وتخسيساً لما نالوه من المؤمنين ، لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء كما قال أبو تمام في فتح المعتصم عمورية بلاد الروم : فتح تفتح أبواب السماء له
وتبرز الأرض في أثوابها القشب
وأما ظفر الكافرين فهو حظ دنيوي يصيبونه . وقرأ ابن أبي عبلة : ونمنعكم بنصب العين بإضمار بعد واو الجمع ، والمعنى : ألم نجمع بين الاستحواذ عليكم ، ومنعكم من المؤمنين ؟ ونظيره قول الحطيئة : ألم أك جاركم ويكون بيني
وبينكم المودة والإخاء
وقال ابن عطية : ونمنعكم بفتح العين على الصرف انتهى . يعني الصرف عن التشريك لما بعدها في إعراب الفعل الذي قبلها ، وليس النصب على الصرف من اصطلاح البصريين . وقرأ أُبي : ومنعناكم من المؤمنين ، وهذا معطوف على معنى التقدير : لأن المعنى إما استخوذنا عليكم ومنعناكم كقوله : ) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا ). إذ المعنى : أما شرحنا لك صدرك ووضعنا .
( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( أي وبينهم وينصفكم من جميعهم . ويحتمل أن لا عطف ، ومعنى بينكم أي : بين الجمع منكم ومنهم ، وغلب الخطاب . وهذه تسلية للمؤمنين وأنس بما وعدهم به .
( وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( يعني يوم القيامة قاله : عليّ وابن عباس . وروي عن سبيع الحضرمي قال : كنت عند عليّ فقال له رجل : يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى : ) وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( كيف ذلك وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحياناً ؟ فقال عليّ : معنى ذلك يوم القيامة ، يوم الحكم . قال ابن عطية : وبهذا قال جميع أهل التأويل . قال ابن العربي : وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه ، وإنْ أوهم صدر الكلام معناه لقوله : فالله يحكم بينكم يوم القيامة . وقيل : أنه تعالى لا يمحو بالكفر ملة الإسلام ولا يستبيح بيضتهم كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان قال : ) فَإِنّي دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاواتِ أَمْ ءاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيّنَةٍ مّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً ).
وقيل : المعنى أنْ لا يتواصوا بالباطل ، ولا يتناهوا عن المنكر ، ويتقاعدوا عن التوبة ، فيكون تسليط العدو عليهم من قبلهم كما قال تعالى : ) وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ). قال ابن العربي : وهذا بين جداً ، ويدل عليه قوله في حديث ثوبان : حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً . وذلك أنّ غاية ، فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم هلاك بعضهم بعضاً ، وسبي بعضهم لبعض . وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين ، فغلظت شوكة الكفار ، واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله .
وقيل : سبيلاً من جهة الشرع ، فإن وجد فبخلاف الشرع . وقيل : سبيلاً حجة شرعية ولا عقلية

" صفحة رقم 392 "
يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت . وقيل : سبيلاً أي ظهوراً قاله : الكلبي . ويحمل على الظهور الدائم الكلي ، فيؤول معناه إلى أنهم لا يستبيحون بيضة الإسلام وإلا فقد ظهروا في مواطن كأحد قبل .
وقد تضمنت هذه الآيات من الفصاحة والبديع فنوناً التجنيس المغاير في : أن يصالحا بينهما صلحاً ، وفي : فلا تميلوا كل الميل ، وفي : فقد ضل ضلالاً ، وفي : كفروا وكفروا . والتجنيس المماثل في : ويستفتونك ويفتيكم ، وفي : صلحاً والصلح ، وفي : جامع وجميعاً . والتكرار في : لفظ النساء ، وفي لفظ يتامى ، واليتامى ، ورسوله ، ولفظ الكتاب ، وفي آمنوا ثم كفروا ، وفي المنافقين . والتشبيه في : كالمعلقة . واللفظ المحتمل للضدين في : ترغبون أن تنكحوهن . والاستعارة في : نشوزاً ، وفي : وأحضرت الأنفس الشح ، وفي : فلا تميلوا ، وفي : قوامين ، وفي : وإن تلووا أو تعرضوا ، وفي : ازدادوا كفراً ولا ليهديهم سبيلاً ، وفي : يتربصون ، وفي : فتح من الله ، وفي : ألم نستحوذ ، وفي : سبيلاً . وهذه كلها للأجسام استعيرت للمعاني . والطباق في : غنياً أو فقيراً ، وفي : فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا واتباع الهوى جور وفي الكافرين والمؤمنين . والاختصاص في : بما تعملون خبيراً خص العمل . والالتفات في : وقد نزل عليكم إذا كان الخطاب للمنافقين . والحذف في مواضع .
2 ( ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَواةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَاؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَاؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاٌّ سْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَائِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذالِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَأايَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاٌّ نْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ( ) ) 2
النساء : ( 142 ) إن المنافقين يخادعون . . . . .
الكسل : التثاقل ، والتثبط ، والفتور عن الشيء . ويقال : أكسل الرجل إذا جامع فأدركه الفتور ولم ينزل . الذبذبة : الاضطراب بحيث لا يبقى على حال ، قاله : ابن عرفة والتردد بين الأمرين . وقال النابغة : ألم تر أن الله أعطاك سورة
ترى كل ملك دونها يتذبذب
وقال آخر : خيال لأم السلسبيل ودونها
مسيرة شهر للبريد المذبذب
بكسر الثانية . قال ابن جني : أي القلق الذي لا يثبت . قيل : وأصله الذب ، وهو ثلاثي الأصل ضعف فقيل : ذبب ، ثم أبدل من أحد المضعفين وهي الباء الثانية ذالاً فقيل ذبذب ، وهذا على أصل الكوفيين . وأما البصريون فهو عندهم رباعي كدحرج .
( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( تقدم تفسير يخادعون الله في أوّل البقرة . ومعنى وهو خادعهم : أي منزل الخداع بهم ، وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب . فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم ، وفي الآخرة عذاب جهنم قاله ابن عطية . وقال الحسن ، والسدي ، وابن جريج ، وغيرهم من المفسرين : هذا الخداع هو أنه تعالى يعطي هذه الأمّة يوم القيامة نوراً لكل إنسان مؤمن أو منافق ، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد

" صفحة رقم 393 "
نجوا ، فإذا جاؤوا إلى الصراط طفىء نور كل منافق ، ونهض المؤمنون . وذلك قول المنافقين : انظرونا نقتبس من نوركم وذلك هو الخداع الذي يجري على المنافقين .
وقال الزمخشري : وهو خادعهم ، وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع ، حيث تركهم معصومين الدماء والأموال في الدنيا ، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة ، ولم يخلهم في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم . والخادع من خدعته إذا غلبته ، وكنت أخدع منه انتهى . وبعضه مسترق من كلام الزجاج . قال الزجاج : لما أمر بقبول ما أظهروا كان خادعاً لهم بذلك . وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي : خادعْهم بإسكان العين على التخفيف ، واستثقال الخروج من كسر إلى ضم . وهذه الجملة معطوفة على خبر إن . وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال .
( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( أي متوانين لا نشاط لهم فيها ، لأنهم إنما يصلون تستراً وتكلفاً ، وينبغي للمؤمن أن يتحرز من هذه الخصلة التي ذمّ المنافقون ، وأن يقبل إلى صلاته بنشاط وفرغ قلب وتمهل في فعلها ، ولا يتقاعس عنها فعل المنافق الذي يصلي على كرهٍ لاعن طيب نفس ورغبة . وما زال في كل عصر منافقون يتسترون بالإسلام ، ويحضرون الصلوات كالمتفلسفين الموجودين في عصرنا هذا ، وقد أشار بعض علمائنا إليهم في شعر قاله وضمن فيه بعض الآية ، فقال في أبي الوليد بن رشد الحفيد وأمثاله من متفلسفة الإسلام : لأشياع الفلاسفة اعتقاد
يرون به عن الشرح انحلالا
أباحوا كل محظور حرام
وردّوه لأنفسهم حلالا
وما انتسبوا إلى الإسلام إلا
لصون دمائهم أن لا تسالا
فيأتون المناكر في نشاط
ويأتون الصلاة وهم كسالى
وقرأ الجمهور : كسالى بضم الكاف ، وهي لغة أهل الحجاز . وقرأ الأعرج : كسالى بفتح الكاف وهي لغة تميم وأسد . وقرأ ابن المسيمقع : كسلى على وزن فعلى ، وصف بما يوصف به المؤنث المفرد على مراعاة الجماعة كقراءة . ) وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ).
) بِرَبّ النَّاسِ ( أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة وأنهم مسلمون . وهي من باب المفاعلة ، يرى المرائي الناس تجمله بأفعال الطاعة ، وهم يرونه استحسان ذلك العمل . وقد يكون من باب فاعل بمعنى فعل ، نحو نعمة وناعمة . وروى أبو زيد : رأت المرأة المرآة إذا أمسكتها لترى وجهها . وقرىء : يرؤن بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو . وقال ابن عطية : وهي أقوى في المعنى من يراؤون ، لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم ويتظاهرون لهم بالصلاة وهم يبطنون النفاق . ونسب الزمخشري هذه القراءة لابن أبي إسحاق إلا أنه قالقرأ : يرؤنهم همزة مشددة مثل : يرعونهم أي يبصرونهم أعمالهم ، ويراؤونهم كذلك .
( وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ لا قَلِيلاً ( قال الحسن : قل لأنه كان يعمل لغير الله . وقال قتادة : ما معناه إنما قل لكونه لم يقبله ، وما رده الله فكثيره قليل ، وما قبله فقليله كثير . وقال غيره : قل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل وقولهم الزور والكفر . وقال الزمخشري : إلا قليلاً ، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به ، وما يجاهرون به قليل ، لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه ، أولاً يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكراً قليلاً . ويجوز أن يراد بالقلة العدم انتهى . ولا يجوز أنْ يراد به العدم ، لأن الاستثناء يأباه ، وقد رددنا هذا القول عليه وعلى ابن عطية في هذه السورة .

" صفحة رقم 394 "
وقيل : قل لأنهم قصدوا به الدنيا وزهرتها ، وذلك ) فَانٍ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( ، وقيل في الكلام حذف تقديره : ولا يذكرون عقاب الله وثوابه إلا قليلاً لاستغراقهم في الدنيا ، وغلبة الغفلة على قلوبهم . والظاهر أنّ الذكر هنا هو باللسان ، وأنهم قلَّ أن يذكروا الله بخلاف المؤمن المخلص ، فإنه يغلب على أحواله ذكر الله تعالى .
النساء : ( 143 ) مذبذبين بين ذلك . . . . .
( مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ ( أي مقلقين . قال الزمخشري : ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر يتردّدون بينهما متحيرين ، كأنه يذب عن كلا الجانبين أي يذاد فلا يقر في جانب واحد ، كما يقال : فلان يرمي به الرحوان ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب ، كان المعنى : كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى . ونسب الذبذبة إلى الشيطان ، وأهل السنة يقولون : إنّ هذه الحياة والذبذبة إنما حصلت بإيجاد الله . وفي الحديث : ( مثل المنافق مثل الشاة العابر بين الغنيمن ) والإشارة بذلك إلى حالتي الكفر والإيمان كما قال تعالى : ) عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ ( أي بين البكر والفارض .
وقال ابن عطية : وأشار إليه وإنْ لم يتقدم ذكر الظهور لضمن الكلام له ، كما جاء : ) حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ( ) وَكُلٌّ مّنَ عَلَيْهَا فَانٍ ( انتهى وليس كما ذكر ، بل تقدم ما تصح إليه الإشارة من المصدرين اللذين دل عليهما ذكر الكافرين والمؤمنين ، فهو من باب : إذا نهى السفيه جرى إليه .
وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد : مذبذبين بكسر الذال الثانية ، جعلاه اسم فاعل أي مذبذبين أنفسهم أو دينهم ، أو بمعنى متذبذبين كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى . وقرأ أُبي : متذبذبين اسم فاعل من تذبذب أي اضطرب ، وكذا في مصحف عبد الله . وقرأ الحسن : مذبذبين بفتح الميم والذالين . قال ابن عطية : وهي قراءة مردودة . انتهى . والحسن البصري من أفصح الناس يحتج بكلامه ، فلا ينبغي أن ترد قراءته ، ولها وجه في العربية ، وهو أنه أتبع حركة الميم بحركة الذال ، وإذا كانوا قد أتبعوا حركة الميم بحركة عين الكلمة في مثل منتن وبينهما حاجز فلان يتبعوا بغير حاجز أولى ، وكذلك اتبعوا حركة عين منفعل بحركة اللام في حالة الرفع فقالوا : منحدر ، وهذا أولى لأن حركة الإعراب ليست ثابتة خلاف حركة الذال ، وهذا كله توجيه شذوذ . وعلى تقدير صحة النقل عن الحسن أنه قرأ بفتح الميم . وقرأ أبو جعفر : مدبدبين بالدال غير معجمة ، كأن المعنى : أخذتهم تارة بدبة ، وتارة في دبة ، فليسوا بماضين على دبة واحدة . والدبة الطريقة ، وهي في حديث ابن عباس : ( اتبعوا دبة قريش ، ولا تفارقوا الجماعة ) ويقال : دعني ودبتي ، أي طريقتي وسجيتي . قال الشاعر : طها هذريان قل تغميض عينه
على دبة مثل الخنيق المرعبل
وانتصاب مذبذبين على الحال من فاعل يراؤون ، أو فاعل ولا يذكرون . وقال الزمخشري : مذبذبين : إمّا حال من قوله : ولا يذكرون عن واو يراؤونهم ، أي يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين . أو منصوب على الذم .
( لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء ( والمراد بأحد المشار إليهم المؤمنون ، وبالآخر الكافرون . والمعنى : لا يعتقدون الإيمان فيعدوا من المؤمنين ، ولم يقيموا على إظهار الكفر فيعدوا مع الكافرين . ويتعلق إلى بمحذوف تقديره : ولا منسوبين إلى هؤلاء ، وهو موضع الحال .
( وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( أي فلن تجد لهدايته سبيلاً ، أو فلن تجد سبيلاً إلى هدايته .

" صفحة رقم 395 "
) يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( لما كان هذا الوصف من أوصاف ( سقط : يا أيها الذين آمنوا لا تتخدوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا
النساء : ( 144 ) يا أيها الذين . . . . .
المنافقين ، وتقدم ذمهم بذلك ، نهى الله تعالى المؤمنين عن هذا الوصف . وكان للأنصار في بني قريظة رضاع وحلف ومودة ، فقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : من نتولى ؟ فقال : ) المهاجرون ). وقال القفال : هذا نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين يقول : قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء انتهى . فعلى هذا هل الكافرون هنا اليهود أو المنافقون قولان ؟ وقال ابن عطية : خطابه للمؤمنين يدخل فيه بحكم الظاهر المنافقون المظهرون للإيمان ، وفي اللفظ رفق بهم وهو المراد بقوله : أتريدون أن هذا التوفيق إنما هو لمن ألمّ بشيء من العقل المؤدّي إلى هذه الحال ، والمؤمنون المخلصون ما ألموا بشيء من ذلك . ويقوي هذا المنزع قوله تعالى : من دون المؤمنين ، أي : والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن هذه الموالاة ، وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين بل المعنى : يا أيها الذين أظهروا الإيمان والتزموا لوازمه انتهى . قيل : وفي الآية دليل على أنّ الكفار لا يستحق على المسلم ولاية بوجه ولداً كان أو غيره ، وأن لا يستعان بذمي في أمر يتعلق به نصرة وولاية كقوله تعالى : ) ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ ( وقد كره بعض العلماء توكيله في الشراء والبيع ، وفي دفع المال إليه مضاربة .
( أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ( أي حجة ظاهرة واضحة بموالاتكم الكافرين أو المنافقين على قول القفال . والمعنى : أنه يأخذكم إن واليتم الكفار بانتقام منه ، وله عليكم في ذلك الحجة الواضحة ، إذْ قد بين لكم أحوالهم ونهاكم عن موالاتهم . وقيل : السلطان هنا القهر والقدرة . والمعنى : أنه يسلط عليكم بسبب اتخاذكم الكفار أولياء والسلطان . قال الفراء : أنث وذكر ، وبعض العرب يقول : قضت به عليك السلطان ، وقد أخذت فلاناً السلطان ، والتأنيث عند الفصحاء أكثر انتهى . فمن ذكر ذهب به إلى البرهان والاحتجاج ، ومن أنّث ذهب به إلى الحجة ، وإنما اختير التذكير هنا في الصفة وإن كان التأنيث أكثر ، لأنه وقع الوصف فاصلة ، فهذا هو المرجح للتذكير على التأنيث . وقال ابن عطية : والتذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع ، وهذا مخالف لما قاله الفراء . وإذا سمي به صاحب الأمر فهو على حذف مضاف والتقدير : ذو السلطان ، أي : ذو الحجة على الناس إذ هو مدبرهم والناظر في مصالحهم ومنافعهم . وقال الزمخشري : لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء سلطان حجة بينة يعني : أنّ موالاة الكافرين بينة على المنافقين . وعن صعصة بن صرحان أنه قال لابن أخ له خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر : فإنّ الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن ، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن

" صفحة رقم 396 "
النساء : ( 145 ) إن المنافقين في . . . . .
( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( قال ابن عباس : الدرك لأهل النار كالدرح لأهل الجنة ، إلا أنّ الدرجات بعضها فوق بعض ، والدركات بعضها أسفل من بعض انتهى . وقال أبو عبيدة : الدركات الطبقات : وأصلها من الإدراك أي : هي متداركة متلاحقة . وقال ابن مسعود وأبو هريرة : هي من توابيت من حديد متعلقة في قعر جهنم ، والنار سبع دركات ، قيل : أولها جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية . وقد تسمى جميعها باسم الطبقة الأولى ، وبعض الطبقات باسم بعض ، لأن لفظ النار يجمعها . وقال ابن عمر : أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون . وتصديق ذلك في كتاب الله هذه الآية في المنافقين : و ) فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ الْعَالَمِينَ ( ) وَادْخُلُواْ الْبَابَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ( وإنما كان المنافق أشدّ عذاباً من غيره من الكفار لأنه مثله في الكفر ، وضم إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله ، والمداجاة واطلاع الكفار على أسرار المسلمين فهو أشد غوائل من الكفار وأشد تمكيناً من أذى المسلمين .
وقرأ الحرميان والعربيان : في الدرك بفتح الراء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب : بسكونها ، واختلف عن عاصم . وروى الأعمش والبرجمي : الفتح ، وغيرهما الإسكان . قال أبو علي : وهما لغتان كالشمع والشمع ، واختار بعضهم الفتح لقولهم : في الجمع أدراك كجمل وإجمال يعني : أنه ينقاس في فعل أفعال ، ولا ينقاس في فعل . وقال عاصم : لو كان بالفتح لقيل : السفلى . قال بعضهم : ذهب عاصم إلى أنَّ الفتح إنما هو على أنه جمع دركة كبقرة وبقر انتهى . ولا يلزم ما ذكره من التأنيث ، لأن الجنس المميز مفرده بهاء التأنيث ، يؤنث في لغة الحجاز ، ويذكر في لغة تميم ونجدة ، وقد جاء القرآن بهما ، إلا ما استثني لأنه يتحتم فيه التأنيث أو التذكير ، وليس دركة ودرك من ذلك ، فعلى هذا يجوز تذكير الدرك وتأنيثه .
( وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ( أي مانعاً من العذاب ولا شافعاً يشفع .
النساء : ( 146 ) إلا الذين تابوا . . . . .
( إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ( أي تابوا من النفاق وأصلحوا أعمالهم ، وتمسكوا بالله وكتابه ، ولم يكن لهم ملجأ ولا ملاذ إلا الله ، وأخلصوا دينهم لله أي : لا يبتغون بعمل الطاعات إلا وجه الله تعالى . ولما كان المنافق متصفاً بنقائص هذه الأوصاف من الكفر وفساد الأعمال والموالاة للكافرين والاعتزاز بهم والمراءة للمؤمنين ، شرط في توبتهم ما يناقض تلك الأوصاف وهي التوبة من النفاق ، وهي الوصف المحتوي على بقية الأوصاف من حيث المعنى . ثم فصل ما أجمل فيها ، وهو الإصلاح للعمل المستأنف المقابل لفساد أعمالهم الماضية ، ثم الاعتصام بالله في المستقبل وهو المقابل لموالاة الكافرين والاعتماد عليهم في الماضي ، ثم الإخلاص لدين الله وهو المقابل للرياء الذي كان لهم في الماضي ، ثم بعد تحصيل هذه الأوصاف جميعها أشار إليهم بأنهم مع المؤمنين ، ولم يحكم عليهم بأنهم المؤمنون ، ولا من المؤمنين ، وإن كان قد صاروا مؤمنين تنفيراً مما كانوا عليه من عظم كفر النفاق وتعظيماً لحال من كان متلبساً به . ومعنى : مع المؤمنين ، رفقاؤهم ومصاحبوهم في الدارين . والذين تابوا مستثنى من قوله : في الدرك . وقيل من قوله : فلن تجد لهم . وقيل : هو مرفوع على الابتداء ، والخبر فأولئك . وقال الخوفي : ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط المتعلق بالذين .
( وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ( أتى بسوف ، لأن إيتاء الأجر هو يوم القيامة ، وهو زمان مستقبل ليس قريباً من الزمان الحاضر . وقد قالوا : إنّ سوف أبلغ في

" صفحة رقم 397 "
التنفيس من السين ، ولم يعد الضمير عليهم فيقال : وسوف يؤتيهم ، بل أخلص ذلك الأجر للمؤمنين وهم رفقاؤهم ، فيشاركونهم فيه ويساهمونهم . وكتب يؤت في المصحف بغير ياء ، لمّا حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين حذفت في الخط ، ولهذا نظائر في القرآن . ووقف يعقوب عليها بالياء ، ووقف السبعة بغير ياء اتباعاً لرسم المصحف . وقد روى الوقف بالياء عن : حمزة ، والكسائي ، ونافع . وقال أبو عمرو : ينبغي أن لا يوقف عليها لأنه إن وقف بغير ياء خالف النحويين ، وإن وقف بياء خالف لفظ المصحف . والأجر العظيم هو الخلود في الجنة .
النساء : ( 147 ) ما يفعل الله . . . . .
( مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ ( الخطاب قيل : للمؤمنين . وقيل : ك للكافرين ، وهو الذي يقتضيه سياق الكلام . وهذا استفهام معناه النفي أي : ما يعذبكم إنْ شكرتم وآمنتم . والمعنى : أنه لا منفعة له في ذلك ولا حاجة ، لأن العذاب إنما يكون لشيء يعود نفعه أو يندفع ضره عن المعذب ، والله تعالى منزه عن ذلك ، وإنما عقابه المسيء لأمر قضت به حكمته تعالى ، فمن شكره وآمن به لا يعذبه .
وما استفهام كما ذكرنا في موضع نصب بفعل ، التقدير : أي شيء يفعل الله بعذابكم . والباء للسبب ، استشفاء أم إدراك نار ، أم جلب منفعة ، أم دفع مضرة ، فهو تعالى منزه عن ذلك . وأجاز أبو البقاء أنْ تكون ما نافية ، قال : والمعنى : ما يعذبكم . ويلزم على قوله أن تكون الباء زائدة ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي : إن شكرتم وآمنتم فما يفعل بعذابكم .
ذكر عن ابن عباس أنّ المراد بالشكر هنا توحيد الله . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم قدم الشكر على الإيمان ؟ ( قلت ) : لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع فيشكر شكراً مبهماً ، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المؤمن به المنعم آمن به ، ثم شكر شكراً مفصلاً ، فكان الشكر متقدماً على الإيمان ، وكان أصل التكليف ومداره . وقال ابن عطية : الشكر على الحقيقة لا يكون إلا مقترناً بالإيمان ، لكنه ذكر الإيمان تأكيداً وتنبيهاً على جلالة موقعه انتهى . وأبعد من ذهب إلى أنه على التقديم والتأخير أي : إن آمنتم وشكرتم .
( وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ( شاكراً أي : مثيباً موفياً أجوركم . وأتى بصفة الشكر باسم الفاعل بلا مبالغة ليدل على أنه يتقبل ولو أقل شيء من العمل ، وينميه عليماً بشكركم وإيمانكم فيجازيكم . وفي قوله : عليماً ، تحذير وندب إلى الإخلاص لله تعالى . وقيل : الشكر من الله إدامة النعم على الشاكر .
النساء : ( 148 ) لا يحب الله . . . . .
( لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ( قال مجاهد : تضيف رجل قوماً فأساؤا قراه ، فاشتكاهم ، فعوتب ، فنزلت . وقال مقاتل : نال رجل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه والرسول عليه السلام ، حاضر ، فسكت عنه أبو بكر مراراً ثم رد عليه ، فقام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال أبو بكر : يا رسول الله شتمني فلم تقل شيئاً ، حتى إذا رددت عليه قمت ، فقال : ( إن ملكاً كان يجيب عنك ، فلما رددت عليه ذهب وجاء الشيطان ) فنزلت . ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما

" صفحة رقم 398 "
ذكر من أحوال المنافقين وذمهم وإظهار فضائحهم ما ذكر ، وبين ظلمهم واهتضامهم جانب المؤمنين ، سوّغ هنا للمؤمنين أن يذكروهم بما فيهم من الأوصاف الذميمة . وقال عليه السلام : ( اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس ) . وقرأ الجمهور : إلا من ظلم مبنياً للمفعول . وقال ابن عباس وغيره : إلا من ظلم ، فإنّ له أن يدعو على من ظلمه ، وكان ذلك رخصة من الله له ، وإن صبر فهو خير له . وقال الحسن : لا يدعو عليه ، ولكن ليقل : اللهم أعني عليه ، اللهم استخرج حقي ، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي . وقال ابن جريج : يجازيه بمثل فعله ، ولا يزيد عليه . وقيل : هو أن يبدأ بالشتم فيردّ علي من شتمه ، وتقدم قول مجاهد أنها في الضيف يشكو سوء صنيع المضيف معه ، ونسب إلى الظلم لأنه مخالف للشرع والمروءة . وقال المنير : معناه إلا مَن أكره على أن يجهر بالسوء كفراً ونحوه فذلك مباح ، والآية في الإكراه ، وهذا الاستثناء متصل على تقدير حذف مضاف أي : الأجهر من ظلم . وقيل : الاستثناء منقطع والتقدير : لكنّ المظلوم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازى ظلامته قاله : السدي ، والحسن ، وغيرهما . وبالسوء متعلق بالجهر ، وهو مصدر معرّف بالألف واللام ، والفاعل محذوف ، وبالجهر في موضع نصب . ومن أجاز أن ينوي في المصدر بناؤه للمفعول الذي لم يسم فاعله قدّر أنّ بالسوء في موضع رفع ، التقدير : أن يجهر مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله . وجوّز بعضهم أن يكون من ظلم بدلاً من ذلك الفاعل المحذوف التقدير : أن أحد إلا المظلوم ، وهذا مذهب الفراء . أجاز الفراء فيما قام إلا زيد أن يكون زيد بدلاً من أحد . وأما على مذهب الجمهور فإنه يكون من المستثنى الذي فرغ له العامل ، فيكون مرفوعاً على الفاعلية بالمصدر . وحسن ذلك كون الجهر في حيز النفي ، وكأنه قيل : لا يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم . وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، وابن جبير ، وعطاء بن السائب ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، وابن أبي إسحاق ، ومسلم بن يسار ، والحسن ، وابن المسيب ، وقتادة ، وأبو رجاء : إلا من ظلم مبنياً للفاعل ، وهو استثناء منقطع . فقدره الزمخشري : لأن الظالم راكب ما لم يحبه الله فيجهر بالسوء . وقال ابن زيد : المعنى إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله ، والتوبيخ والرد عليه . قال : وذلك أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار ، كان ذلك خبراً بسوء من القول ثم قال لهم بعد ذلك : ) مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ ( الآية على معنى التأسيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان ، ثم قال للمؤمنين : ) لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ( في إقامته على النفاق ، فإنه يقول له : ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل ؟ ونحو هذا من الأقوال . وقال قوم : تقديره : لكنّ من ظلم فهو يجهر بالسوء وهو ظالم في ذلك ، فهي ثلاثة تقادير في هذا الاستثناء المنقطع : أحدها : راجع للجملة الأولى وهي لا يجب ، كأنه قيل : لكن الظالم يحب الجهر بالسوء فهو يفعله ، والثاني : راجع إلى فاعل الجهر أي : لا بحب الله أن يجهر أحد بالسوء ، لكنَّ الظالم يجهر بالسوء . والثالث : راجع إلى متعلق الجهر الفضلة المحذوفة أي : أن يجهر أحدكم لأحد بالسوء ، لكن من ظلم فاجهروا له بالسوء . قال ابن عطية : وإعراب من يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب ، ويحتمل الرفع على البدل من أحد المقدر انتهى . ويعني بأحد المقدر في المصدر إذ التقدير أن يجهر أحد ، وما ذكره من جواز الرفع على البدل لا يصح ، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين : قسم يسوغ فيه البدل وهو ما يمكن توجه العامل عليه نحو : ما في الدار أحد إلا حمار ، فهذا فيه البدل في لغة تميم ، والنصب على الاستثناء المنقطع في لغة الحجاز . وإنما جاز فيه البدل ، لأنك لو قلت : ما في الدار إلا حمار صح المعنى . وقسم يتحتم فيه النصب على الاستثناء ولا يسوغ فيه البدل ، وهو مالا يمكن توجه العامل عليه نحو :

" صفحة رقم 399 "
المال ما زاد إلا النقص . التقدير : لكن النقص حصل له ، فهذا لا يمكن أن يتوجه زاد على النقص ، لأنك لو قلت : ما زاد إلا النقص لم يصح المعنى ، والآية من هذا القسم ، لأنك لو قلت : لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا الظالم ، فيفرغ أن يجهر لأنّ يعمل في الظالم لم يصح المعنى . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من مرفوعاً كأنه قيل : لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم ، على لغة من يقول : ما جاءني زيد إلا عمرو ، بمعنى : ما جاءني إلا عمرو . ومنه ) لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ( انتهى .
وهذا الذي جوّزه الزمخشري لا يجوز ، لأنه لا يمكن أن يكون الفاعل يذكر لغواً زائداً ، ولا يمكن أن يكون الظالم بدلاً من الله ، ولا عمرو بدلاً من زيد ، لأن البدل في هذا الباب راجع في المعنى إلى كونه بدل بعض من كل ، إما على سبيل الحقيقة نحو : ما قام القوم إلا زيد ، وإما على سبيل المجاز نحو : ما في الدار أحد إلا حمار ، وهذا لا يمكن فيه البدل المذكور لا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز ، لأنّ الله علم وكذا زيد هو علم ، فلا يمكن أن يتخيل فيه عموم ، فيكون الظالم بدلاً من الله ، وعمرو بدلاً من زيد . وأما ما يجوز فيه البدل من الاستثناء المنقطع فإنه يتخيل فيما قبله عموم ، ولذلك صح البدل منه على طريق المحاز ، وإن لم يكن بعضاً من المستثني منه حقيقة . وأما قول الزمخشري : على لغة من يقول ما جاءني زيد إلا عمرو ، فلا نعلم هذه اللغة ، إلا أنّ في كتاب سيبويه بعد أن أنشد أبياتاً من الاستثناء المنقطع آخرها قول الشاعر : عشية لا تغني الرّماح مكانها
ولا النبل إلا المشرفي المصمم
ما نصه وهذا يقوي : ما أتاني زيد إلا عمرو ، وما أعانه أخوانكم إلا أخوانه ، لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها ، انتهى كلام سيبويه . ولم يصرح ولا لوح أنّ قوله : ما أتاني زيد إلا عمرو من كلام العرب . وقيل : من شرح سيبويه ، فهذا يقوي : ما أتاني زيد إلا عمرو ، أي ينبغي أن يثبت هذا من كلامهم ، لأن النبل معرفة ليس بالمشرفي ، كما أنّ زيداً ليس بعمرو ، وكما أن أخوة زيد ليسوا أخوانكم انتهى . وليس ما أتاني زيد إلا عمرو نظيراً للبيت ، لأنه يتخيل عموم في البيت على سبيل المجاز ، كأنه قيل : لا يغني السلاح مكانها إلا المشرفي ، بخلاف ما أتاني زيد إلا عمرو ، فإنه لا يتخيل في ما أتاني زيد عموم البتة على أنه لو سمع هذا من كلام العرب وجب تأويله حتى يصح البدل ، فكان يصح ما جاءني زيد ولا غيره إلا عمرو . كأنه يدل على حذف المعطوف وجود هذا الاستثناء ، إما أن يكون على إلغاء هذا الفاعل وزيادته ، أو على كون عمرو بدلاً من زيد ، فإنه لا يجوز لما ذكرناه . وأما قول الزمخشري : ومنه قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ، فليس من باب ما ذكر ، لأنه يحتمل أن تكون من مفعولة ، والغيب بدلاً من بدل اشتمال أي : لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله ، أي ما يسرونه ويخفونه لا يعلمه إلا الله . وإنْ سلّمنا أنّ مَن مرفوعة ، فيجوز أن يكون الله بدلاً مِن مَن على سبيل المجاز في من ، لأن مَن في السموات يتخيل فيه عموم ، كأنه قيل : قل لا يعلم الموجود دون الغيب إلا الله . أو على سبيل المجاز في الظرفية بالنسبة إلى الله تعالى ، ولذا جاء عنه ذلك في القرآن وفي السنة كقوله تعالى : ) وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ ( وقوله تعالى : ) وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماء إِلَاهٌ وَفِى الاْرْضِ إِلَاهٌ ( وفي الحديث أين الله ؟ قالت : في السماء ومن

" صفحة رقم 400 "
كلام العرب : لا ودي . وفي السماء بيته يعنون الله تعالى . وإذا احتملت الآية هذه الوجوه لم يتعين حملها على ما ذكر ، وخص الجهر بالذكر إما إخراجاً له مخرج الغائب ، وإمّا اكتفاء بالجهر عن مقابله ، أو لكونه أفحش .
( وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً ( أي سميعاً لما يجهر به من السوء ، عليماً بما يسر به منه . وقيل : سميعاً لكلام المظلوم ، عليماً بالظالم . وقيل : سميعاً بشكوى المظلوم ، عليماً بعقبى الظالم ، أو عليماً بما في قلب المظلوم ، فليتق الله ولا يقل إلا الحق . وهذه الجملة خبر ومعناه التهديد والتحذير .
( إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً (
النساء : ( 149 ) إن تبدوا خيرا . . . . .
الظاهر أنّ الهاء في تخفوه تعود على الخير . قال ابن عباس : يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة . وقال بعضهم : في تخفوه عائد على الخير . قال ابن عباس : يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة . وقال بعضهم : في تخفوه عائد على السوء ، والمعنى : أنه تعالى لما أباح الجهر بالسوء لمن كان مظلوماً قال له ولجنسه : إن تبدو خيراً ، بدل من السوء ، أو تخفوا السوء ، أو تعفوا عن سوء . فالعفو أولى وإن كان غير المعفو مباحاً انتهى . وذكر إبداء الخير وإخفاءه تسبباً لذلك العفو ، ثم عطفه عليهما تنبيهاً على منزلته واعتداداً به ، وإن كان مندرجاً في إبداء الخير وإخفائه ، فجعله قسماً بالعطف لا قسيماً اعتناء به . ولذلك أتى سبحانه وتعالى بصفة العفو والقدرة منسوبة له تعالى ليقتدى بسنته ، ويتخلق بشيء من صفاته تعالى . والمعنى : أنه يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام ، وكان بالصفتين على طريق المبالغة تنبيهاً على أنّ العبد ينبغي أن يكثر منه العفو مع كثرة القدرة على الانتقام . وفي الحديث الصحيح : ( من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً ). وقال تعالى : ) ). وقال تعالى : ) وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ). وقال الحسن : المعنى أنه تعالى يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم بالعفو . وقال الكلبي : معناه أني أقدر على العفو عن ذنوبك منك على هفوك عن صاحبك . وقيل : عفو المن عفى قديراً على إيصال الثواب إليه .
النساء : ( 150 ) إن الذين يكفرون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ( قال الحسن ، وقتادة ، والسدي ، وابن جريج : نزلت في اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بموسى والتوراة وكفرت بعيسى ومحمد عليهما السلام ، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل وكفرت بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والقرآن . وقيل : نزلت في اليهود خاصة ، آمنوا بموسى وعزيراً والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن . ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما بين ما عليه المنافقون من سوء الخليقة ومذموم الطريقة ، أخذ في الكلام على اليهود والنصارى ، جعل كفرهم ببعض الرسل كفراً بجميع الرسل ، وكفرهم بالرسل كفراً بالله تعالى .
( وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ( أي يفرقوا بين الإيمان بالله ورسله ، يقولون نؤمن بالله ولا نؤمن ، بفلان ، وفلان من الأنبياء .

" صفحة رقم 401 "
) وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ( يعني من الأنبياء . وقيل : هو تصديق اليهود بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه نبي ، ولكن ليس إلى بني إسرائيل . ونحو هذا من تفرّقاتهم التي كانت تعنتاً وروغاناً .
( وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً ( أي طريقاً وسطاً بين الكفر والإيمان ولا واسطة بينهما .
النساء : ( 151 ) أولئك هم الكافرون . . . . .
( أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً ( أكد بقوله : هم ، لئلا يتوهم أنّ ذلك الإيمان ينفعهم . وأكد بقوله : حقاً ، وهو تأكيد لمضمون الجملة الخبرية ، كما تقول : هذا عبد الله حقاً أي حق ذلك حقاً . أو هو نعت لمصدر محذوف أي : كفراً حقاً أي : ثابتاً يقيناً لا شك فيه . أو منصوب على الحال على مذهب سيبويه . وقد تقدم لذلك نظائر ، وقد طعن الواحدي في هذا التوجيه وقال : الكفر لا يكون حقاً بوجه من الوجوه ، ولا يلزم ما قال إنه لا يراد بحقاً الحق الذي هو مقابل للباطل ، وإنما المعنى أنه كفر ثابت متيقن ، وإنما كان التوكيد في ذلك ، لأنّ داعي الإيمان مشترك بين الأنبياء وهو ظهور المعجزات على أيديهم ، فكونهم فرّقوا في الإيمان بينهم دليل على كفرهم بالجميع ، إذ ليس إيمانهم ببعض ناشئاً عن النظر في الدليل ، وإنما هم على سبيل التشهي والتلاعب .
( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ( هذا وعيد لهم بالإهانة في العذاب .
النساء : ( 152 ) والذين آمنوا بالله . . . . .
( وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ ( هؤلاء هم المؤمنون اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتقدم الكلام على دخول بين على أحد في البقرة . في قوله : ) لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( فأغنى عن إعادته هنا .
( أُوْلَئِكَ سَوْفَ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ ( صرح تعالى بوعد هؤلاء ، كما صرح بوعيد أولئك . وقرأ حفص : يؤتيهم بالياء ليعود على اسم الله قبله . وقرأ الباقون : بالنون على الالتفات ، ومقابله وأعتدنا . وقول أبي عبد الله الرازي : قراءة النون أولى من وجهين : أحدهما : أنه أنهم والآخر : أنه مشاكل لقوله : وأعتدنا ، ليس بجيد ولا أولوية في ذلك ، لأن القراءتين كلتاهما متواترة ، هكذا نزلت ، وهكذا أنزلت .
( وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( لما وعدهم تعالى بالثواب زادهم تبشيراً لتجاوز عن السيئآت وبرحمته إياهم .
النساء : ( 153 ) يسألك أهل الكتاب . . . . .
( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء ( قال السدي : قالت اليهود : إن كنت صادقاً فجيء بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالكتاب . وقال محمد بن كعب القرظي : قالوا : ائت بألواح فيها كتابك كما أتى موسى بألواح فيها التوراة . وقال الحسن وقتادة : سألوه أن يأتي بكتاب خاص لليهود يأمرهم بالإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن جريج : قالوا : لن نتابعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله فلان وإلى فلان إنك رسول الله . فعلى قول ابن جريج يقتضي أن سؤالهم كان على نحو سؤال عبد الله بن أمية الزهري ، وقيل : كتاباً نعاينه حتى ينزل ، وسمى من سائلي اليهود

" صفحة رقم 402 "
كعب بن الأشرف ، وفنخاص بن عازوراء . وقيل : السائلون هم اليهود والنصارى وسؤالهم إنما هو على سبيل التعنت . وقال الحسن : لو سألوه لكي يتبين الحق لأعطاهم ، فإن فيما أعطاكم كفاية .
( فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً ( قدروا قبل هذا كلاماً محذوفاً ، فجعله الزمخشري شرطاً هذا جوابه وتقديره : أن استكبرت ما سألوه منك ، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك . وقدره ابن عطية : فلا تبال يا محمد عن سؤالهم وتشطيطهم ، فإنها عادتهم ، فقد سألوا موسى . وأسند السؤال إليهم ، وإن كان إنما وقع من آبائهم من نقبائهم السبعين ، لأنهم راضون بفعل آبائهم ومذاهبهم ، ومشابهون لهم في التعنت . وقرأ الحسن : أكثر بالثاء المثلثة بدل الباء في قراءة الجمهور ، ومعنى جهرة : عياناً رؤية منكشفة بينة . والجهرة من وصف الرّوية . واختلف في النقل عن ابن عباس فروى عنه : ( أن جهرة من صفة السؤال ، فقد سألوا موسى . أو حالاً من ضمير سألوا أي : سألوه مجاهرين . وروى عنه أن التقدير : فقالوا جهرة منه وتصريحاً أرنا الله ، فيكون من صفة القول .
( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ( أي : تعنتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه . وقال الزمخشري : بظلمهم بسبب سؤالهم الرؤية ، ولو طلبوا أمراً جائزاً لما سموا ظالمين ، ولما أخذتهم الصاعقة . كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالماً ، ولا رماه بالصاعقة للمشبهة ورميا بالصواعق انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال في استحالة رؤية الله عندهم . وأهل السنة يعتقدون أنهم لم يسألوا محالاً عقلاً ، لكنه ممتنع من جهة الشرع ، إذ قد أخبر تعالى على ألسنة أنبيائه أنه لا يرى في هذه الحياة الدنيا ، والرؤية في الآخرة ثابتة عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالتواتر ، وهي جائزة عقلاً ، وتقدّم الكلام في البقرة على الصاعقة . وقرأ السلميّ والنخعي : فأخذتهم الصعقة ، والجمهور الصاعقة .
( ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَاتُ ( ثم : للترتيب في الأخبار لا في نفس الأمر ، ثم قد كان من أمرهم أن اتخذوا العجل : أي آباؤهم ، والذين صعقوا غير الذين اتخذوا العجل . والبينات : إجازة البحر ، والعصا ، وغرق فرعون ، وغير ذلك . وقال الحوفي : أعلم نبيه بعنادهم وإصرارهم فالمعنى : أنه لو نزل عليهم الذي سألوا لخالفوا أمر الله كما خالفوه من بعد إحياء الله لهم من صعقتهم ، وعبدوا العجل واتخذوه إلهاً .
( فَعَفَوْنَا عَن ذالِكَ ( أي : عن اتخاذهم العجل إلهاً عن جميع ما تقدم من مخالفتهم . والأوّل أظهر ، لأنه قد صرح في قصة العجل بالتوبة . ويعني : بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم ، ثم وقع العفو عن الباقين منهم .
( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن ( أي : حجة وتسلطاً واستيلاء ظاهراً عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه ، واحتبوا بأفتيتهم ، والسيوف تتساقط عليهم ، فيا له من سلطان مبين .
النساء : ( 154 ) ورفعنا فوقهم الطور . . . . .
( وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ( تقدّم ما المعنى بالطور . وفي الشام جبل عرف بالطور ولزمه هذا الاسم ، وهو طور بسيناء . وليس هو المرفوع على بني إسرائيل ، لأن رفع الجبل كان فيما يلي التيه من جهة

" صفحة رقم 403 "
ديار مصر وهم ناهضون مع موسى عليه السلام ، وتقدمت قصة رفع الطور في البقرة . والباء في بميثاقهم للسبب ، وهو العهد الذي أخذه موسى عليهم بعد تصديقهم بالتوراة أن يعملوا بما فيها ، فنقضوا ميثاقهم وعبدوا العجل ، فرفع الله عليهم الطور . وفي كلام محذوف تقديره : بنقض ميثاقهم .
( وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً ( تقدّم تفسير هذه الجملة في القرة .
( وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ ( تقدّم ذكره عند اعتدائهم في قوله : ) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ ). وقرأ ورش لا تعدوا بفتح العين وتشديد الدال ، على أنّ الأصل تعتدوا ، فألقيت حركة التاء على العين ، وأدغمت التاء في الدال . وقرأ قالون : بإخفاء حركة العين وتشديد الدال ، والنص بالإسكان . وأصله أيضاً لا تعتدوا . وقرأ الباقون من السبعة : لا تعدوا بإسكان العين وتخفيف الدال من عدي يعدو . وقال تعالى : ) إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ ( وقرأ الأعمش والأخفش : لا تعتدوا من اعتدى .
( وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً ( قيل : هو الميثاق الأول في قوله : ) بِمِيثَاقِهِمْ ( ووصف بالغلظ للتأكيد ، وهو المأخوذ على لسان موسى وهارون أن يأخذوا التوراة بقوة ، ويعملوا بجميع ما فيها ، ويوصلوه إلى أبنائهم . وقيل : هذا الميثاق غير الأوّل ، وهو الميثاق الثاني الذي أخذ على أنبيائهم بالتصديق بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والإيمان به ، وهو المذكور في قوله : ) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ ( الآية .
النساء : ( 155 ) فبما نقضهم ميثاقهم . . . . .
( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَئَايَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ( قال ابن عطية فيما لخصناه من كلامه ، هذا إخبار عن أشياء واقعوها في الضد مما أخذوا به ، نقضوا الميثاق الذي رفع عليهم الطور بسببه ، وجعلوا بدل الإيمان الذي تضمنه الأمر بدخول الباب سجداً المتضمن التواضع الذي هو ثمرة الإيمان ، كفرهم بآيات الله ، وبذل الطاعة ، وامتثال موافقته ، في أن لا يعدوا في السبت انتهاك أعظم الحرم ، وهو قتل الأنبياء ، وقابلوا أخذ الميثاق الغليظ بتجاهلهم وقولهم : قلوبنا غلف : أي : في حجب ، وغلف : فهي لا تفهم . وأضرب الله تعالى عن قولهم وكذبهم ، وأخبر تعالى أنه قد طبع عليها بسبب كفرهم انتهى . والميثاق المنقوض : أهو كتمانهم صفة الرسول وتكذيبه فيما جاء به ؟ أو تركهم العمل بما في كتابهم ؟ مع أنهم قبلوا والتزموا العمل بها قولان . وآيات الله التي كفروا بها أهي التي أنزلت عليهم في كتبهم ؟ أو جميع كتب الله المنزلة ؟ قولان . وتقدم شرح قلوبنا غلف في البقرة .
( بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ( أدغم لام بل في طاء طبع الكسائي وحمزة ، وأظهرها باقي السبعة . وقال الزجاج : بل طبع الله عليها بكفرهم خبر معناه الذم ، على أنَّ قلوبهم بمنزلة المطبوع عليها التي لا تفهم أبداً ولا تطيع مرسلاً . وقال الزمخشري : أرادوا بقولهم : قلوبنا غلف ، أي أن الله خلق قلوبنا غلفاً ، أي : في أكنة لا يتوصل إليها بشيء من الذكر والموعظة ، كما حكى الله عن المشركين : ) وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ( وتكذيب المجبرة أخزاهم الله فقيل لهم : خذ لها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم ، فصارت كالمطبوع عليها ، لا أن تخلق غلفاً قابلة الذكر ، ولا متمكنة من قبوله انتهى . وهو على مذهبه الاعتزالي . وأما أهل السنة فيقولون : إن الله طبع عليها حقيقة كما أخبر تعالى إذ لا خالق غيره . والباء في فبما نقضهم تتعلق بمحذوف قدره الزمخشري : فعلنا بهم ما فعلناه . وقدره

" صفحة رقم 404 "
ابن عطية : لعناهم وأذللناهم ، وحتمنا على الوافين منهم الخلود في جهنم . قال ابن عطية : وحذف جواب هذا الكلام بليغ متروك مع ذهن السامع انتهى . وتسمية ما يتعلق به المجرور بأنه جواب اصطلاح لم يعهد في علم النحو ، ولا تساعده اللغة ، لأنه ليس بجواب . وجوزوا أن يتعلق بقوله : ) حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ( على أن قوله : ) فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ ( بدل من قوله : فبما نقضهم ميثاقهم ، وقاله الزجاج ، وأبو بكر ، والزمخشري ، وغيرهم . وهذا فيه بعد لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه ، ولأن المعطوف على السبب سبب ، فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم ، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو مسبباً إلا بتأويل بعيد وبيان ذلك أن قولهم على مريم بهتاناً عظيماً ، وقولهم : إنا قتلنا المسيح ، متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم ، فالأولى أن يكون التقدير : لعناهم ، وقد جاء مصرحاً به في قوله : ) فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ).
) فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( تقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته .
النساء : ( 156 ) وبكفرهم وقولهم على . . . . .
( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً ( الظاهر في قوله : وبكفرهم ، وقولهم أنه معطوف على قوله : فبما نقضهم وما بعده . على أن الزمخشري أجاز أن يكون قوله : وبكفرهم وقولهم ، معطوفاً على بكفرهم . وتكرار نسبة الكفر إليهم بحسب متعلقاته ، إذ كفروا بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمد عليه السلام ، فعطف بعض كفرهم على بعض . قال الزمخشري : أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه ، كأنه قيل : على بعض . قال الزمخشري : أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه ، كأنه قيل : فيجمعهم بين نقض الميثاق والكفر بآيات الله وقتلهم الأنبياء وقولهم : ) قُلُوبُنَا غُلْفٌ ( ، وجمعهم بين كفرهم ويهتهم مريم ، وافتخارهم بقتل عيسى عليه السلام ، عاقبناهم . أو بل طبع الله عليها وجمعهم بين كفرهم ، وكذا وكذا . وقال الزمخشري أيضاً : ( فإن قلت ) : هلا زعمت أنّ المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم ؟ ( قلت ) : لم يصح هذا التقدير ، لأن قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم ، ردّ وإنكار لقولهم : قلوبنا غلف ، فكان متعلقاً به انتهى . وهو جواب حسن ، ويمتنع من وجه آخر وهو أنّ العطف ببل يكون للإضراب عن الحكم الأول ، وإثباته للثاني على جهة إبطال الأول ، أو الانتقال عاماً في كتاب الله في الإخبار ، فلا يكون إلا للانتقال . ويستفاد من الجملة الثانية ما لا يستفاد من الجملة الأولى . والذي قدّره الزمخشري لا يسوغ فيه هذا الذي قرّرناه ، لأن قوله : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله ، وقولهم : قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم ، فأفادت الجملة الثانية ما أفادت الجملة الأولى وهو لا يجوز . لو قلت : مر زيد بعمرو ، بل مر زيد بعمرو ، لم يجز . وقد أجاز ذلك أبو البقاء وهو أن يكون التقدير : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله ، وكذا طبع على قلوبهم . وقيل : التقدير فيما نقضهم ميثاقهم لا يؤمنون إلا قليلاً ، والفاء مقحمة . وما في قوله : فبما نقضهم كهي في قوله : ) فَبِمَا رَحْمَةٍ ( وتقدّم الكلام فيها . والبهتان العظيم رميهم مريم عليها السلام بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى عليه السلام في

" صفحة رقم 405 "
المهد . قال ابن عطية : وإلا فلولا الآية لكانوا في قولهم جارين على حكم البشر في إنكار حمل من غير ذكر انتهى . ووصف بالعظم لأنهم تمادوا عليه بعد ظهور الآية وقيام المعجزة بالبراءة ، وقد جاءت تسمية الرمي بذلك بهتاناً عظيماً في قوله : ) سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ).
النساء : ( 157 ) وقولهم إنا قتلنا . . . . .
( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ( الظاهر أن رسول الله من قولهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء ، كقول فرعون أن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وقوله : ) إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ( ويجوز أن يكون من كلام الله تعالى وضع الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنه رفعاً لعيسى عليه السلام ، كما كانوا يذكرونه به . ذكر الوجهين الزمخشري ، ولم يذكر ابن عطية سوى الثاني قال : هو إخبار من الله تعالى بصفة عيسى عليه السلام ، وهي الرسالة على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل ولزمهم الذنب ، وهم لم يقتلوا عيسى ، لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى ، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول . ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أنّ قتلهم وقع في عيسى ، فكأنهم قتلوه ، وليس يدفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول .
( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبّهَ لَهُمْ ( هذا إخبار منه تعالى بأنهم ما قتلوا عيسى وما صلبوه .
واختلف الرواة في كيفية القتل والصلب ، ولم يثبت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في ذلك شيء غير ما دل عليه القرآن .
ومنتهى ما آل إليه أمر عيسى عليه السلام أنه طلبته اليهود فاختفى هو والحواريون في بيت ، فدلوا عليه وحضروا ليلاً وهم ثلاثة عشر ، أو ثمانية عشر ، ففرقهم تلك الليلة ووجههم إلى الآفاق ، وبقي هو ورجل معه ، فرفع عيسى ، وألقى شبهه على الرجل فصلب . وقيل : هو اليهودي الذي دل عليه . وقيل : قال لأصحابه : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل ويخلص هؤلاء ، وهو رفيقي في الجنة ؟ فقال سرجس : أنا ، فألقي عليه شبه عيسى . وقيل : ألقي شبهه على الجميع ، فلما أخرجوا نقص واحد من العدّة ، فأخذوا واحداً ممن عليه الشبه فصلب . وروي أنّ الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر عيسى لما رأوه من نقصان العدة واختلاط الأمر ، فصلب ذلك الشخص ، وأبعد الناس عن خشبته أياماً حتى تغير ، ولم تثبت له صفة ، وحينئذ دنا الناس منه ، ومضى الحواريون يتحدثون في الآفاق أن عيسى صلب . وقيل : لم يلق شبهه على أحد ، وإنما معنى : ولكن شبه لهم ، أي شبه عليهم الملك المخرق ليستديم بما نقص واحد من العدة ، وكان بادر بصلب واحد وأبعد الناس عنه ، وقال : هذا عيسى ، وهذا القول هو الذي ينبغي أن يعتقد في قوله : ولكن شبه لهم . أمّا أن يلقى شبهه على شخص ، فلم يصح ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيعتمد عليه .
وقد اختلف فيمن ألقي عليه الشبه اختلافاً كثيراً . فقيل : اليهودي الذي دل عليه . وقيل : خليفة قيصر الذي كان محبوساً عنده . وقيل : واحد من اليهود . وقيل : دخل ليقتله . وقيل : رقيب وكلته به اليهود . وقيل : ألقى الشبه على كل الحواريين . وقيل : ألقى الشبه على الوجه دون البدن ، وهذا الوثوق مما يدفع الوثوق بشيء من ذلك . ولهذا قال بعضهم : إن جاز أن يقال : إنّ الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر ، فهذا يفتح باب السفسطة . وقيل : سبب

" صفحة رقم 406 "
اجتماع اليهود على قتله هو أنّ رهطاً منهم سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم : ( اللهم أنت ربي ، وبكلمتك خلقتني ، اللهم العن من سبني وسب والدتي ) فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير ، فاجتمعت اليهود على قتله . وشبه مسند إلى الجار والمجرور كقوله : خيل إليه ، ولكن وقع لهم التشبيه . ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول الدال عليه : إنا قتلنا أي : ولكن شبه لهم من قتلوه . ولا يجوز أن يكون ضمير المسيح ، لأن المسيح مشبه به لا مشبه .
( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ ( اختلف فيه اليهود فقال بعضهم : لم يقتل ولم يصلب ، الوجه وجه عيسى ، والجسد جسد غيره . وقيل : أدخلوا عليه واحداً ليقتله ، فألقى الشبه عليه فصلب ، ونقص من العدد واحد . وكانوا علموا عدد الحواريين فقالوا : إنْ كان المصلوب صاحبنا فأين عيسى ؟ وإن كان عيسى فأين صاحبنا ؟ وقيل : قال العوامّ : قتلنا عيسى ، وقال من عاين : رفعه إلى السماء ما قتل ولا صلب . قال ابن عطية : واليقين الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أنّ شخصاً صلب ، وهل هو عيسى أم لا ؟ فليس هو من علم الحواس ، فلذلك لم يقع في ذلك نقل كافة . والضمير في فيه عائد على القتل معناه : في قتله ، وهذا هو الظاهر الذي يدل عليه ما قبله وما بعده . وقيل : الضمير في اختلفوا عائد على اليهود أيضاً ، واختلافهم فيه قول بعضهم : إنه آلة . وقول بعضهم : إنه ابن الله تعالى . وقيل : اختلافهم فيه أن النسطورية قالوا : وقع الصلب على ناسوته دون لاهوته . وقيل : وقع القتل والصلب عليهما . وقيل : عائد على اليهود والنصارى ، فإن اليهود قالوا : هو ابن زنا . وقالت النصارى : هو ابن الله . وقيل : اختلافهم من جهة أن النصارى قالوا : إن اليهود قتلته وصلبته ، واليهود الذين عاينوا رفعه قالوا : رفع إلى السماء . والجمهور على أنّ إلا اتباع الظنّ استثناء منقطع ، لأن اتباع الظنّ ليس من جنس العلم . أي : ولكنّ اتباع الظنّ لهم .
وقال الزمخشري : يعني ولكنهم يتبعون الظنّ ، وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب . وقال ابن عطية : هو استثناء متصل ، إذ الظنّ والعلم يضمهما أنهما من معتقدات اليقين . وقد يقول الظان على طريق التجوّز : علمي في هذا الأمر أنه كذا ، وهو يعني ظنه انتهى . وليس كما ذكر ، لأنّ الظنّ ليس من معتقدات اليقين ، لأنه ترجيح أحد الجائزين ، وما كان ترجيحاً فهو ينافي اليقين ، كما أن اليقين ينافي ترجيح أحد الجائزين . وعلى تقدير أنّ الظنّ والعلم يضمهما ما ذكر ، فلا يكون أيضاً استثناء متصلاً ، لأنه لم يستثني الظنّ من العلم . فليست التلاوة ما لهم به من علم إلا الظنّ ، وإنما التلاوة إلا اتباع الظنّ ، والاتباع للظنّ لا يضمه والعلم جنس ما ذكر . وقال الزمخشري . فإن قلت : لم وصفوا بالشك والشك أنّ لا يترجح أحد الجائزين ؟ ثم وصفوا بالظنّ والظنّ أن يترجح أحدهما ، فكيف يكونون شاكين ظانين ؟ قلت : أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط ، ولكن لاحت لهم أمارة فظنوا انتهى . وهو جواب سؤاله ، ولكن يقال : لا يرد هذا السؤال لأنّ العرب تطلق الشك على ما لم يقع فيه القطع ، واليقين فيدخل فيه كلما يتردّد فيه ، إما على السواء بلا ترجيح ، أو بترجيح أحد الطرفين . وإذا كان كذلك اندفع السؤال .
( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ( قال ابن عباس والسدي وجماعة : الضمير في قتلوه عائد على الظن . تقول : قتلت هذا الأمر علماً إذا قطعت به وجزمت الجزم الذي لا يخالجه شيء . فالمعنى : وما صح ظنهم عندهم وما تحققوه يقيناً ، ولا قطعوا الظن باليقين . وقال الفراء وابن قتيبة ؛ الضمير عائد على العلم أي : ما قتلوا العلم يقيناً . يقال : قتلت العلم والرأي يقيناً ، وقتلته علماً ، لأن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء ، فكأنه قيل : لم يكن علمهم بقتل المسيح علماً أحيط به ، إنما كان ظناً . قال الزمخشري : وفيه تهكم ، لأنه إذا نفى عنهم العلم نفياً كلياً بحرف الاستغراق ثم قيل : وما علموه علم يقين ، وإحاطة لم يكن إلا تهكما

" صفحة رقم 407 "
ً انتهى . والظاهر قول الجمهور : إن الضمير يعود على عيسى بجعل الضمائر كلها كشيء واحد ، فلا تختلف . والمعنى صحيح بليغ ، وانتصاب يقيناً على أنه مصدر في موضع الحال من فاعل قتلوه أي : متيقنين أنه عيسى كما ادعوا ذلك في قولهم : إنا قتلنا المسيح قاله : السدي . أو نعت لمصدر محذوف أي : قتلاً يقيناً جوزه الزمخشري . وقال الحسن : وم قتلوه حقاً انتهى . فانتصابه على أنه مؤكد لمضمون الجملة المنفية كقولك : وما قتلوه حقاً أي : حق انتفاء قتله حقاً . وما حكي عن ابن الأنباري أنه في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وإن يقيناً منصوب برفعه الله أيه ، والمعنى : بل رفعه الله إليه يقيناً ، فلعله لا يصح عنه . وقد نص الخليل على أن ذلك خطأ ، لأنه لا يعمل ما بعد بل في ما قبلها .
النساء : ( 158 ) بل رفعه الله . . . . .
( بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ( هذا إبطال لما ادعوه من قتله وصلبه ، وهو حي في السماء الثانية على ما صح عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في حديث المعراج . وهو هنالك مقيم حتى ينزله الله إلى الأرض لقتل الدجال ، وليملأها عدلاً كما ملئت جوراً ، ويحيا فيها أربعين سنة ثم يموت كما تموت البشر . وقال قتادة : رفع الله عيسى إليه فكساه الريش وألبسه النور ، وقطع عنه الطعام والشراب ، فصار مع الملائكة ، فهو معهم حول العرش ، فصار إنسياً ملكياً سماوياً أرضياً .
والضمير في إليه عائد إلى الله تعالى على حذف التقدير إلى سمائه ، وقد جاء ) وَرَافِعُكَ إِلَىَّ ). وقيل : إلى حيث لا حكم فيه إلا له . ولا يوجه الدعاء إلا نحوه ، وهو راجع إلى الأول . وقال أبو عبد الله الرازي : أعلم الله تعالى عقيب ذكره أنه وصل إلى عيسى أنواع من البلايا ، أنه رفعه إليه فدل أنّ رفعه إليه أعظم في إيصال الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية ، وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية انتهى . وفيه نحو من كلام المتفلسفة .
( وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ( قال أبو عبد الله الرازي : المراد من المعزة كمال القدرة ، ومن الحكمة كمال العلم ، فنبه بهذا على أنّ رفع عيسى عليه السلام من الدنيا إلى السموات وإن كان كالمتعذر على البشر ، لكنْ لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وحكمتي انتهى . وقال غيره : عزيزاً أي قوياً بالنقمة من اليهود ، فسلط عليهم بطرس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة . حكيماً حكم عليهم باللعنة والغضب . وقيل : عزيزاً أي : لا يغالب ، لأن اليهود حاولت بعيسى عليه السلام أمراً وأراد الله خلافه . حكيماً أي : واضع الأشياء مواضعها . فمن حكمته تخليصه من اليهود ، ورفعه إلى السماء لما يريد وتقتضيه حكمته تعالى . وقال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة ، ثم رفعه وهو ا بن ثلاث وثلاثين سنة ، فكانت نبوته ثلاث سنين . وقيل : بعث الله جبريل عليه السلام فأدخله خوخة فيها روزنة في سقفها ، فرفعه الله تعالى إلى السماء من تلك الروزنة .
النساء : ( 159 ) وإن من أهل . . . . .
( وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ( إنْ هنا نافية ، والمخبر عنه محذوف قامت صفته مقامه ، التقدير : وما أحد من أهل الكتاب . كما حذف في قوله : ) وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( والمعنى : وما من اليهود . وقوله : ) وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( أي : وما أحد منا إلا له مقام ، وما أحد منكم إلا واردها . قال الزجاج : وحذف أحد لأنه

" صفحة رقم 408 "
مطلوب في كل نفي يدخله الاستثناء نحو : ما قام إلا زيد ، معناه ما قام أحد إلا زيد . وقال الزمخشري : ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره : وإنْ من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ونحوه : وما منا إلا له مقام معلوم ، وإن منكم إلا واردها . والمعنى : وما من اليهود أحد إلا ليؤمنن به انتهى .
وهو غلط فاحش إذ زعم أنّ ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلى آخره ، وصفة أحد المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو من أهل الكتاب ، والتقدير كما ذكرناه : وإن أحد من أهل الكتاب . وأما قوله : ليؤمنن به ، فليست صفة لموصوف ، ولا هي جملة قسمية كما زعم ، إنما هي جملة جواب القسم ، والقسم محذوف ، والقسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو أحد المحذوف ، إذ لا ينتظم من أحد . والمجرور إسناد لأنه لا يفيد ، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها ، فذلك هو محط الفائدة وكذلك أيضاً الخبر هو إلا له مقام ، وكذلك إلا واردها ، إذ لا ينتظم مما قبل إلا تركيب إسنادي . والظاهر أن الضميرين في : به ، وموته ، عائدان أنّ على عيسى وهو سياق الكلام ، والمعنى : من أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله .
روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان ، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به ، حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام قاله : ابن عباس ، والحسن ، وأبو مالك . وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة ، والضحاك ، والحسن ، أيضاً ومجاهد ، وغيرهم : الضمير في به لعيسى ، وفي موته لكتابي وقالوا : وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ويعلم أنه نبي ، ولكن عند المعاينة للموت فهو إيمان لا ينفعه كما لم ينفع فرعون إيمانه وقت المعاينة . وبدأ بما يشبه هذا لقول الزمخشري . قال : والمعنى ما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى ، وبأنه عبد الله ورسوله ؟ يعني : إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف . ثم حكى عن شهر بن حوشب والحجاج حكاية فيها طول يمس بالتفسير منها : إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا : يا عدوّ الله أتاك عيسى نبياً فكذبت به ، فيقول : آمنت أنه نبي . وتقول للنصراني : أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه الله أو ابن الله ، فيقول : أمنت أنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه . وعن ابن عباس أنه فسره كذلك فقال له عكرمة : فإن أتاه رجل فضرب عنقه ؟ قال : لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه . قال : وإن خرجت فوق بيت ، أو احترق ، أو أكله سبع ؟ قال : يتكلم بها في الهوى ، ولا تخرج روحه حتى يؤمن به . ويدل عليه قراءة أُبيّ : إلا ليؤمنن به قبل موتهم ، بضم النون على معنى : وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم ، لأن أحداً يصلح للجمع . فإن قلت : فما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم ؟ قلت : فائدته الوعيد ، وليكن علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة ، وأن ذلك لا ينفعهم بعثاً لهم وتنبيهاً على معالجة الإيمان به في أوان الانتفاع به ، وليكون إلزاماً للحجة لهم . وكذلك قوله .
( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ( يشهد على اليهود بأنهم كذبوه ، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله انتهى كلامه . وقال أيضاً : ويجوز أنْ يريد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ، على أنّ الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما نزل له ، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم انتهى . وقال عكرمة : الضمير في به لمحمد عليه الصلاة والسلام ، وفي موته للكتابي . قال : وليس يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد ، ولو غرق أو سقط عليه

" صفحة رقم 409 "
جدار فإنه يؤمن في ذلك الوقت . وقيل : يعود في به على الله ، وفي موته على أحد المقدّر . قال ابن زيد : إذا نزل عيسى عليه السلام لقتل الدجال ، لم يبق يهودي ولا نصراني إلا آمن بالله حين يرون قتل الدجال ، وتصير الأمم كلها واحدة على ملة الإسلام ، ويعزى هذا القول أيضاً إلى ابن عباس ، والحسن ، وقتادة .
وقال العباس بن غزوان : وإنّ من أهل الكتاب بتشديد النون ، وهي قراءة عسرة التخريج ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً أي : شهيداً على أهل الكتاب على اليهود بتكذيبهم إياه وطعنهم فيه ، وعلى النصارى بجعلهم إياه آلهاً مع الله أو ابناً له ، والضمير في يكون لعيسى . وقال عكرمة : لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبديع . فمنها التجنيس المغاير في : يخادعون وخادعهم ، وشكرتم وشاكراً . والمماثل في : وإذا قاموا . والتكرار في : اسم الله ، وفي : هؤلاء وهؤلاء ، وفي : ويرون ويريدون ، وفي : الكافرين والكافرين ، وفي : أهل الكتاب وكتاباً ، وفي : بميثاقهم وميثاقاً . والطباق في : الكافرين والمؤمنين ، وفي : إن تبدوا أو تخفوه ، وفي : نؤمن ونكفر ، والاختصاص في : إلى الصلاة ، وفي : الدرك الأسفل ، وفي : الجهر بالسوء . والإشارة في مواضع . الاستعارة في : يخادعون الله وهو خادعهم استعار اسم الخداع للمجازاة وفي : سبيلاً ، وفي سلطاناً لقيام الحجة والدرك الأسفل لانخفاض طبقاتهم في النار ، واعتصموا للالتجاء ، وفي : أن يفرقوا ، وفي : ولم يفرّقوا وهو حقيقة في الأجسام استعير للمعاني ، وفي : سلطاناً استعير للحجة ، وفي : غلف وبل طبع الله . وزيادة الحرف لمعنى في : فبما نقضهم ، وإسناد الفعل إلى غير فاعله في : فأخذتهم الصاعقة وجاءتهم البينات وإلى الراضي به وفي : وقتلهم الأنبياء ، وفي : وقولهم على مريم بهتاناً وقولهم إنا قتلنا المسيح . وحسن النسق في : فبما نقضهم ميثاقهم والمعاطيف عليه حيث نسقت بالواو التي تدل على الجميع فقط . وبين هذه الأشياء أعصار متباعدة فشرك أوائلهم وأواخرهم لعمل أولئك ورضا هؤلاء . وإطلاق اسم كل على بعض وفي : كفرهم بآيات الله وهو القرآن والإنجيل ولم يكفروا بشيء من الكتب إلا بهما وفي قولهم إنا قتلنا ولم يقل ذلك إلا بعضهم . والتعريض في رسول الله إذا قلنا أنه من كلامهم . والتوجيه في غلف من احتمال المصدر جمع غلاف أو جمع أغلف . وعود الضمير على غير مذكور وهو في ليؤمنن به قبل موته على من جعلهما لغير عيسى . والنقل من صيغة فاعل إلى فعيل في شهيد . والحذف في مواضع .
( ) فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً إِنَّآ أَوْحَيْنَآ

" صفحة رقم 410 "
إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاٌّ سْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاَ بَعِيداً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَأامِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ياأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلَاثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ وما فِى السَّمَاوَات وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً ( )
النساء : ( 160 ) فبظلم من الذين . . . . .
الغلو : تجاوز الحد . ومنه غلا السعر وغلوة السهم . الاستنكاف : الأنفة والترفع ، من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك من حدك ، ومنعته من الجري قال : فباتوا فلولا ما تدكر منهم
من الحلق لم ينكف بعينك مدمع
وسئل أبو العباس عن الاستنكاف فقال : هو من النكف ، يقال : ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف ، والنكف أن يقال له سوء ، واستنكف دفع ذلك السوء .
( فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( المعنى : فبظلم عظيم ، أو فيظلم أي ظلم . وحذف الصفة لفهم المعنى جائز كما قال : لقد وقعت على لحم

" صفحة رقم 411 "
أي لحم متبع ، ويتعلق بحرمنا . وتقدم السبب على المسبب تنبيهاً على فحش الظلم وتقبيحاً له وتحذيراً منه . والطيبات هي ما ذكر في قوله : ) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ( الألبان وبعض الطير والحوت ، وأحلت لهم صفة الطيبات بما كانت عليه . وأوضح ذلك قراءة ابن عباس : طيبات كانت أحلت لهم .
( وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً ( أي ناساً كثيراً ، فيكون كثيراً مفعولاً بالمصدر ، وإليه ذهب الطبري . قال : صدوا بجحدهم أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) جمعاً عظيماً من الناس ، أو صد كثيراً . وقدره بعضهم زماناً كثيراً .
النساء : ( 161 ) وأخذهم الربا وقد . . . . .
( وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ ( وهذه جملة حالية تفيد تأكيد قبح فعلهم وسوء صنيعهم ، إذ ما نهى الله عنه يجب أن يبعد عنه . قالوا : والربا محرم في جميع الشرائع .
( وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ( أي الرشا التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريف الكتاب . وفي هذه الآية فصلت أنواع الظلم الموجب لتحريم الطيبات . قيل : كانوا كلما أحدثوا ذنباً حرم عليهم بعض الطيبات ، وأهمل هنا تفصيل الطيبات ، بل ذكرت نكرة مبهمة . وفي المائدة فصل أنواع ما حرم ولم يفصل السبب . فقيل : ذلك جزيناهم ببغيهم ، وأعيدت الباء في : ) وَبِصَدّهِمْ ( لبعده عن المعطوف عليه بالفصل بما ليس معمولاً للمعطوف عليه ، بل في العامل فيه . ولم يعد في : ) وَأَخْذِهِمُ ( وأكلهم لأن الفصل وقع بمعمول المعطوف عليه . ونظير إعادة الحرف وترك إعادته قوله : ) فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ ( الآية . وبدىء في أنواع الظلم بما هو أهم ، وهو أمر الدّين ، وهو الصد عن سبيل الله ، ثم بأمر الدنيا وهو ما يتعلق به الأذى في بعض المال ، ثم ارتقى إلى الأبلغ في المال الدنيوي وهو أكله بالباطل أي مجاناً لا عوض فيه . وفي ذكر هذه الآية امتنان على وجه الأمة حيث لم يعاملهم معاملة اليهود فيحرم عليهم في الدنيا الطيبات عقوبة لهم بذنوبهم .
( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أليماً ( لما ذكر عقوبة الدنيا ذكر ما أعد لهم في الآخرة . ولما كان ذلك التحريم عامّاً لليهود بسبب ظلم من ظلم منهم ، فالتزمه ظالمهم وغير ظالمهم كما قال تعالى : ) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً ( بين أن العذاب الأليم إنما أعد للكافرين منهم ، فلذلك لم يأت وأعتدنا لهم .
النساء : ( 162 ) لكن الراسخون في . . . . .
( لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَالْمُؤْمِنُونَ ( مجيء لكنْ هنا في غاية الحسن ، لأنها داخلة بين نقيضين وجزائهما ، وهم : الكافرون والعذاب الأليم ، والمؤمنون والأجر العظيم ، والراسخون الثابتون المنتصبون المستبصرون منهم : كعبد الله بن سلام وأضرابه ، والمؤمنون يعني منهم ، أو المؤمنون عن المهاجرين والأنصار . والظاهر أنه عام في مَن آمن .
وارتفع الراسخون على الابتداء ، والخبر يؤمنون لا غير ، لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة . ومن جعل الخبر أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيف ، وانتصب المقيمين على المدح ، وارتفع والمؤتون أيضاً على إضمار وهم على سبيل القطع إلى الرفع . ولا يجوز أن يعطف على المرفوع قبله ، لأنّ النعت إذا انقطع في شيء منه لم يعد ما بعده إلى إعراب المنعوت ، وهذا القطع لبيان فضل الصلاة والزكاة ، فكثر الوصف بأن جعل في جمل .
وقرأ ابن جبير ، وعمرو بن عبيد ، والجحدري ، وعيسى بن عمر ، ومالك بن دينار ، وعصمة عن الأعمش ويونس وهارون عن أبي عمرو : والمقيمون بالرفع نسقاً على الأول ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود ، قاله الفراء . وروي أنها كذلك في مصحف أُبيّ . وقيل : بل هي فيه ، والمقيمين الصلاة كمصحف عثمان . وذكر عن عائشة وأبان بن عثمان : أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف ، ولا يصح عنهما ذلك ، لأنهما عربيان فصيحان ، قطع النعوت أشهر في لسان العرب ، وهو باب واسع ذكر عليه شواهد سيبويه وغيره ، وعلى القطع خرج سيبويه ذلك .
قال الزمخشري : ولا نلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف ، وربما التفت إليه من ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتتان ، وعنى عليه : أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في

" صفحة رقم 412 "
الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم وخرقاً يرفوه من يلحق بهم انتهى . ويعني بقوله : من لم ينظر في الكتاب كتاب سيبويه رحمه الله فإن اسم الكتاب علم عليه ، ولجهل من يقدم على تفسير كتاب الله وإعراب ألفاظه بغير أحكام علم النحو ، جوّزوا في عطف والمقيمين وجوهاً : أحدها : أن يكون معطوفاً على بما أنزل إليك ، أي يؤمنون بالكتب وبالمقيمين الصلاة . واختلفوا في هذا الوجه من المعنيّ بالمقيمين الصلاة ، فقيل : الأنبياء ذكره الزمخشري وابن عطية . وقيل : الملائكة ذكره ابن عطية . وقيل : المسلمون ، والتقدير : وندب المقيمين ، ذكر ابن عطية معناه . والوجه الثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير في منهم أي : لكن الراسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين ذكره ابن عطية على قوم لم يسمهم . الوجه الثالث : أن يكون معطوفاً على الكاف في أولئك أي : ما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة . الوجه الرابع : أن يكون معطوفاً على كاف قبلك على حذف مضاف التقدير : وما أنزل من قبلك وقيل : المقيمين الصلاة . الوجه الخامس : أن يكون معطوفاً على كاف قبلك ويعني الأنبياء ، ذكره ابن عطية . وقال ابن عطية : فرق بين الآية والبيت يعني بيت الخرنق ، وكان أنشده قبل وهو : النازلين بكل معترك
والطيبون معاقد الأزر
بحرف العطف الذي في الآية ، فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل وفي هذا نظر انتهى . إنْ منع ذلك أحد فهو محجوج بثبوت ذلك في كلام العرب مع حرف العطف ، ولا نظر في ذلك كما قال ابن عطية . قال الشاعر : ويأوي إلى نسوة عطل
وشعث مراضيع مثل السعالى
وكذلك جوزوا في قوله تعالى : والمؤتون الزكاة ، وجوهاً على غير الوجه الذي ذكرناه : من أنه ارتفع على خبر مبتدأ محذوف على سبيل قطع الصفات في المدح : أحدها : أنه معطوف على الراسخون . الثاني : على الضمير المستكن في المؤمنون . الثالث : على الضمير في يؤمنون . الرابع : أنه مبتدأ وما بعده الخبر وهو اسم الإشارة وما يليه . وأما المؤمنون بالله فعطف على والمؤتون الزكاة على الوجه الذي اخترناه في رفع والمؤتون .
ولما ذكر أولاً والمؤمنون تضمن الإيمان بما يجب أن يؤمن به ، ثم أخبر عنهم وعن الراسخين أنهم يؤمنون بالقرآن وبالكتب المنزلة ، ثم وصفهم بصفات المدح من امتثال أشرف أوصاف الإيمان الفعلية البدنية وهي : الصلاة ، والمالية وهي الزكاة ، ثم ارتقى في المدح إلى أشرف الأوصاف القلبية الاعتقادية وهي الإيمان بالموحد الذي أنزل الكتب وشرع فيها الصلاة والزكاة ، وباليوم الآخر وهو البعث والمعاد الذي يظهر فيه ثمرة الإيمان وامتثال تكاليف الشرع من الصلاة والزكاة وغيرهما . ثم إنه لما استوفى ذلك أخبر تعالى أنه سيؤتيهم أجراً عظيماً وهو ما رتب تعالى على هذه الأوصاف الجليلة التي وصفهم بها ، وأشار إليهم بأولئك ، ليدل على مجموع تلك الأوصاف . ومن أعرب والمؤمنون بالله مبتدأ أو خبره ما بعده ، فهو بمعزل عن إدراك الفصاحة . والأجود إعراب أولئك مبتدأ ، ومن نصبه بإضمارفعل تفسيره ما بعده : أنه سيؤتى أولئك

" صفحة رقم 413 "
سنؤتيهم ، فيجعله من باب الاشتغال ، فليس قوله براجح ، لأن زيد ضربته أفصح وأكثر من زيداً ضربته ، ولأن معمول ما بعد حرف الاستقبال مختلف في جواز تقديمه في نحو : سأضرب زيداً ، وإذا كان كذلك فلا يجوز الاشتغال . فالأجود الحمل على ما لا خلاف فيه . وقرأ حمزة : سيؤتيهم بالياء عوداً على قوله : والمؤمنون بالله . وقرأ باقي السبعة . على الالتفات ومناسبة وأعتدنا .
النساء : ( 163 ) إنا أوحينا إليك . . . . .
( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ ( قال ابن عباس : سبب نزولها أن سكين الحبر وعدي بن زيد قالا : يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئاً بعد موسى ولا أوحى إليه . وقال محمد بن كعب القرظي : لما نزلت : ) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ ( الآيات فتليت عليهم وسمعوا الخبر بأعمالهم الخبيثة قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ولا على عيسى ، وجحدوا جميع ذلك فنزلت : ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( إذ قالوا الآية . وقال الزمخشري : إنا أوحينا إليك جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، واحتجاجهم عليهم بأن شأنه في الوحي إليه كسائر الأنبياء الذين سلفوا انتهى . وقدم نوحاً وجرده منهم في الذكر لأنه الأب الثاني ، وأول الرسل ، ودعوته عامّة لجميع من كان إذ ذاك في الأرض ، كما أن دعوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) عامّة لجميع من في الأرض .
( وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاْسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ( خص تعالى بالذكر هؤلاء تشريفاً وتعظيماً لهم ، وبدأ بابراهيم لأنه الأب الثالث ، وقدم عيسى على من بعده تخفيفاً لنبوته ، وقطعاً لما رآه اليهود فيه ، ودفعاً لاعتقادهم ، وتعظيماً له عندهم ، وتنويهاً باتساع دائرته . وتقدم ذكر نسب نوح وابراهيم وهارون في نسب أخيه موسى . وأما أيوب فذكر الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ النيسابوري نسبه فقال : أيوب بن أموص بن بارح بن تورم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وأمه من ولد لوط بن هارون . وأما يونس فهو يونس بن متى . وقرأ نافع في رواية ابن جماز عنه : يونس بكسر النون ، وهي لغة لبعض العرب . وقرأ النخعي وابن وثاب : بفتحها وهي لغة لبعض عقيل وبعض العرب يهمز ويكسر ، وبعض أسد يهمز ويضم النون ، ولغة الحجاز ما قرأ به الجمهور من ترك الهمز وضم النون .
( وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( أي كتاباً . وكل كتاب يسمى زبوراً ، وغلب على الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود . وهو فعول بمعنى مفعول كالحلوب والركوب ، ولا يطرد وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حرام ولا حلال ، إنما هي حكم ومواعظ ، وقد قرأت جملة منها ببلاد الأندلس . قيل : وقدم سليمان في الذكر على داود لتوفر علمه ، بدليل قوله : ) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ( والذي يظهر أنه جمع بين عيسى وأيوب ويونس لأنهم أصحاب امتحان وبلايا في الدنيا ، وجمع بين هارون وسليمان لأن هارون كان محبباً إلى بني إسرائيل معظماً مؤثراً ، وأما سليمان فكان معظماً عند الناس قاهراً لهم مستحقاً له ما ذكره الله تعالى في كتابه ، فجمعهما التحبيب ، والتعظيم . وتأخر ذكر داود لتشريفه بذكر كتابه ، وإبرازه في جملة مستقلة له بالذكر ولكتابه ، فما فاته من التقديم اللفظي حصل به التضعيف من التشريف المعنوي .
وقرأ حمزة : زبوراً بضم الزاي . قال أبو البقاء : وفيه وجهان : أحدهما : أنه مصدر كالقعود يسمى به الكتاب المنزل على داود . والثاني : أنه جمع زبور على حذف الزائد وهو الواو . وقال أبو علي : كما قالوا طريق وطروق ، وكروان وكروان ، وورشان وورشان ، مما يجمع بحذف الزيادة . ويقوي هذا التوجيه أن التكسير مثل التصغير ، وقد اطرد هذا المعنى في تصغير الترخيم نحو أزهر وزهير ، والحرث وحريث ، وثابت وثبيت ، والجمع مثله في القياس وإنْ كان أقل منه في الاستعمال . قال أبو علي : ويحتمل أن يكون جمع زبر أوقع على المزبور كما قالوا : ضرب الأمير ، ونسج

" صفحة رقم 414 "
اليمن . وكما سمي المكتوب كتاباً .
النساء : ( 164 ) ورسلا قد قصصناهم . . . . .
( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ( أي ذكرنا أخبارهم لك .
( وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ( روي من حديث أبي ذر : أنه سئل عن المرسلين ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) كَانَ الْمُرْسَلُونَ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ). قال القرطبي : هذا أصح ما روي في ذلك ، خرجه الآجريّ وأبو حاتم البستي في مسند صحيح له . وفي حديث أبي ذر هذا : أنه سأله كم كان الأنبياء ؟ فقال : ) مِاْئَةِ أَلْفٍ نَّبِىٍّ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ ). وروي عن أنس : ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعث على أثر ثمانية آلف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل ). وروي عن كعب الأحبار أنه قال : الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً . وقال ابن عطية : ما ذكر من عدد الأنبياء غير صحيح ، والله أعلم بعدتهم انتهى .
وانتصاب ورسلاً على إضمار فعل أي : قد قصصنا رسلاً عليك ، فهو من باب الاشتغال . والجملة من قوله : قد قصصناهم ، مفسرة لذلك الفعل المحذوف ، ويدل على هذا قراءة أبي ورسلُ بالرفع في الموضعين على الابتداء . وجاز الابتداء بالنكرة هنا ، لأنه موضع تفصيل كما أنشدوا : فثوب لبست وثوب أجر .
وقال امرؤ القيس : بشق وشق عندنا لم يحوّل ومن حجج النصب على الرفع كون العطف على جملة فعلية وهي : وآتينا داود زبوراً . وقال ابن عطية : الرفع على تقدير وهم : رسل ، فعلى قوله يكون قد قصصناهم جملة في موضع الصفة . وجوّزوا أيضاً نصب ورسلاً من وجهين : أحدهما : أن يكون نصباً على المعنى ، لأن المعنى : إنا أرسلناك وأرسلنا رسلاً ، لأن الرد على اليهود إنما هو في إنكارهم إرسال الرسل واطراد الوحي .
( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( هذا إخبار بأن الله شرف موسى بكلامه ، وأكد بالمصدر دلالة على وقوع الفعل على حقيقته لا على مجازه ، هذا هو الغالب . وقد جاء التأكيد بالمصدر في المجاز ، إلا أنه قليل . فمن ذلك قول هند بنت النعمان بن بشير الأنصاري :
بكى الخز من عوف وأنكر جلده
وعجت عجيجاً من جذام المطارف
وقال ثعلب : لولا التأكيد بالمصدر لجاز أن تقول : قد كلمت لك فلاناً بمعنى كتبت إليه رقعة وبعثت إليه رسولاً ، فلما قال : تكليماً لم يكن إلا كلاماً مسموعاً من الله تعالى . ومسألة الكلام مما طال فيه الكلام واختلاف فيها علماء الإسلام ، وبهذه المسألة سمي علم أصول الدين بعلم الكلام ، وهي مسألة يبحث عنها في أصول الدين . وقرأ إبراهيم بن وثاب : وكلم الله بالنصب على أن موسى هو المكلم . ومن بدع التفاسير أنه من الكلم ، وأنّ معناه : وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن . وقال كعب : كلم الله موسى بالألسنة كلها ، فجعل موسى يقول : رب لا أفهم ، حتى كلمه بلسان موسى آخر الألسنة .
النساء : ( 165 ) رسلا مبشرين ومنذرين . . . . .
( رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( أي يبشرون بالجنة من أطاع ، وينذرون بالنار من عصى . وأراد تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول : لو بعث إلي رسول لآمنت . وفي الحديث : ( وليس أحد أحب إليه العذر من الله ) فمن أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله تعالى من الأدلة التي النظر فيها موصل

" صفحة رقم 415 "
إلى المعرفة ، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة ، ولا عرفوا أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها ؟ قلت : الرسل منهيون عن الغفلة ، وباعثون على النظر كما ترى علماء العدل والتوحيد ، مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين ، وبيان أحوال التكليف وتعلم الشرائع ، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميماً لإلزام الحجة لئلا يقولوا : لولا أرسلت إلينا رسولاً فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له انتهى . وقوله : لئلا هو كالتعليل لحالتي : التبشير والإنذار . والتبشير هو بالجنة ، والإنذار هو بالنار . وليس الثواب والعقاب حاكماً بوجوبهما العقل ، وإنما هو مجوّز لهما ، وجاء السمع فصارا واجباً وقوعهما ، ولم يستفد وجوبهما إلا من البشارة والنذارة . فلو لم يبشر الرسل بالجنة لمن امتثل التكاليف الشرعية ، ولم ينذروا بالنار من لم يمتثل ، وكانت تقع المخالفة المترتب عليها العقاب بما لا شعور للمكلف بها من حيث أن الله لا يبعث إليه من يعلمه بأنّ تلك معصية ، لكانت له الحجة إذ عوقب على شيء لم يتقدم إليه في التحذير من فعله ، وأنه يترتب عليه العقاب . وأما ما نصبه الله تعالى من الأدلة العقلية فهي موصلة إلى المعرفة والإيمان بالله بعلى ما يجب ، والعلل في الآية هو غير المعرفة والإيمان بالله ، فلا يرد سؤال الزمخشري . وانتصب رسلاً على البدل وهو الذي عبر عنه الزمخشري بانتصابه على التكرير . قال : والأوجه أن ينتصب على المدح . وجوّز غيره أن يكون مفعولاً بأرسلنا مقدرة ، وأن يكون حالاً موطئة . ولئلا متعلقة بمنذرين على طريق الإعمال . وجوّز أن يتعلق بمقدر أي : أرسلناهم بذلك أي : بالبشارة والنذارة لئلا يكون
) وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ( أي لا يغالبه شيء ، ولا حجة لأحد عليه ، صادرة أفعاله عن حكمة ، فلذلك قطع الحجة بإرسال الرسل . وقيل : عزيزاً في عقاب الكفار ، حكيماً في الأعذار بعد تقدم الإنذار .
النساء : ( 166 ) لكن الله يشهد . . . . .
( لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ( الاستدراك بلكن يقتضي تقدم جملة محذوفة ، لأنّ لكن لا يبتدأ بها ، فالتقدير ما روي في سبب النزول وهو : أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا : ما نشهد لك بهذا ، لكن الله يشهد ، وشهادته تعالى بما أنزله إليه إثباته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات . وقرأ السلمي والجراح الحكمي : لكنّ الله بالتشديد ، ونصب الجلالة . وقرأ الحسن بما أنزل إليك مبنياً للمفعول .
( أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ( قرأ السلمي : نزّله مشدداً . قال الزجاج : أنزله وفيه علمه . وقال أبو سليمان الدمشقي : أنزله من علمه . وقال ابن جريج : أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه . وقيل : أنزله إليك بعلمه أنك أهل لإنزاله عليك لقيامك بحقه ، وعلمك بما فيه ، وحسن دعائك إليه ، وحثك عليه . وقيل : بما يحتاج إليه العباد . وقيل : بعلمه أنّك تبلغه إلى عباده من غير تبديل ولا زيادة ولا نقصان . قال ابن عطية : هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم الله تعالى ، خلافاً للمعتزلة في أنهم يقولون : عالم بلا علم . والمعنى عند أهل السنة : أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله . ومذهب المعتزلة في هذه الآية : أنه أنزله مقترناً بعلمه ، أي فيه علمه من غيوب وأوامر ونحو ذلك ، فالعلم عبارة عن المعلومات التي في القرآن كما هو في قول الخضر ، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا البحر . وقال الزمخشري : أنزله ملتبساً بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره ، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان ، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة ، لأنه بيان للشهادة بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدر ، ويحتمل أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة .
( وَالْمَلَئِكَةُ يَشْهَدُونَ ( أي بما أنزل الله إليك . وشهادة الملائكة تبع لشهادة الله ، وقد علم بشهادة الله له ، إذ أظهر على يديه المعجزات ، وهذا على سبيل التسلية له عن تكذيب اليهود ، إن كذبك اليهود وكذبوا ما جئت به من الوحي ، فلا

" صفحة رقم 416 "
تبال ، فإن الله يشهد لك وملائكته ، فلا تلتفت إلى تكذيبهم .
( وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ( أي وإن لم يشهد غيره ) قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ ).
النساء : ( 167 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاً بَعِيداً ( أي ضلالاً لا يقرب رجوعهم عنه ، ولا تخلصهم منه ، لأنه يعتقد عن نفسه أنه محمق ثم يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه وإلقاء غيره فيه ، فهو ضلال في أقصى غاياته . وقرأ عكرمة وابن هرمز : وصدوا بضم الصاد ، قيل : وهي في اليهود .
النساء : ( 168 - 169 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ( قيل : هذه في المشركين . وقد تقدّم الكلام على لام الجحود وما بعدها ، وأن الإتيان بها أبلغ من الإتيان بالفعل المجرد عنها . وهذا الحكم مقيد بالموافاة على الكفر . وقال أبو سليمان الدمشقي : المعنى لم يكن الله ليستر عليهم قبيح أفعالهم ، بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسبي ، وفي الآخرة بالنار . وقال الزمخشري : كفروا وظلموا ، جمعوا بين الكفر والمعاصي ، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين أصحاب الكبائر ، لأنه لا فرق بين الفريقين في أنه لا يغفر لهما إلا بالتوبة ، ولا ليهديهم طريقاً لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم ، ولا ليهديهم يوم القيامة إلا طريقها انتهى . وهو على طريقة الاعتزال في أنّ صاحب الكبائر لا يغفر له ما لم يتب منها ، وإن أريد بقوله طريقاً مخصوصاً أي عملاً صالحاً يدخلون به الجنة ، كان قوله : إلا طريق جهنم استثناء منقطعاً .
( وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ( أي انتفاء غفرانه وهدايته إياهم وطردهم في النار سهلاً لا صارف له عنه ، وهذا تحقير لأمرهم ، وأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي .
النساء : ( 170 ) يا أيها الناس . . . . .
( يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقّ مِن رَّبّكُمْ فَئَامِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ ( هذا خطاب لجميع الناس . وإن كانت السورة مدنية فالمأمور به أمر عام ، ولو كان خاصاً بتكليف ما لكان النداء خاصاً بالمؤمنين في الغالب . والرسول هنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والحق هو شرعه ، وقد فسر بالقرآن وبالدين وبشهادة التوحيد . وروي عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين . وفي انتصاب خيراً لكم هنا . وفي قوله : انتهوا خيراً لكم في تقدير الناصب ثلاثة أوجه : مذهب الجليل ، وسيبويه . وأتوا خيراً لكم ، وهو فعل يجب إضماره . ومذهب الكسائي وأبي عبيدة : يكن خيراً لكم ، ويضمر إن يكن ومذهب الفراء إيماناً خيراً لكم وانتهاء خيراً لكم ، بجعل خيراً نعتاً لمصدر محذوف يدل عليه الفعل الذي قبله . والترجيح بين هذه الأوجه مذكور في علم النحو .
( وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( تقدم تفسير مثل هذا .
( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( عليماً بما يكون منكم من كفر وإيمان فيجازيكم عليه ، حكيماً في تكليفكم مع علمه تعالى بما يكون منكم .
النساء : ( 171 ) يا أهل الكتاب . . . . .
( يأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ ( قيل : نزلت في نصارى نجران قاله مقاتل . وقال الجمهور : في عامة النصارى ، فإنهم يعتقدون الثالوت يقولون : الأب ، والابن ، وروح القدس إله واحد . وقيل : في اليهود والنصارى ، نهاهم عن تجاوز الحد . والمعنى : في دينكم الذي أنتم مطلوبون به ، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل ، ولا أمروا بالثبوت عليه دون غلو ، وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق . وغلت اليهود في حط المسيح عليه السلام عن منزلته حيث جعلته مولوداً لغير رشده . وغلت النصارى فيه حيث جعلوه إلهاً . والذي يظهر أنّ قوله : يا أهل الكتاب خطاب للنصارى ، بدليل آخر الآية . ولما أجاب الله تعالى عن شبه اليهود الذين يبالغون في الطعن على المسيح أخذ في أمر النصارى الذين يفرطون في تعظيم المسيح حتى ادعوا فيه ما ادعوا .
( وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ ( وهو تنزيهه عن الشريك والولد والحلول والاتحاد .
( إِنَّمَا

" صفحة رقم 417 "
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ ( قرأ جعفر بن محمد : إنما المسيح على وزن السكيت . وتقدم شرح الكلمة في ) بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ ( ومعناها ألقاها إلى مريم أوجد هذا الحادث في مريم وحصله فيها . وهذه الجملة قيل : حال . وقيل : صفة على تقدير نية الانفصال أي : وكلمة منه . ومعنى روح منه أي : صادرة ، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح ، كالنطفة المنفصلة من الأب الحي ، وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته . وقال أُبيّ بن كعب : عيسى روح من أرواح الله تعالى الذي خلقها واستنطقها بقوله : ) أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( بعثه الله إلى مريم فدخل . وقال الطبري وأبو روق : وروح منه أي نفخة منه ، إذا هي من جبريل بأمره . وأنشد بيت ذي الرمة : فقلت له اضممها إليك وأحيها
بروحك واجعله لها قيتة قدرا
يصف سقط النار وسمي روحاً لأنه حدث عن نفخة جبريل . وقيل : ومعنى وروح منه أي رحمة . ومنه ) وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ ). وقيل : سمي روحاً لأحياء الناء به كما يحيون بالأرواح ، ولهذا سمي القرآن روحاً . وقيل : المعنى بالروح هنا الوحي أي : ووحى إلى جبريل بالنفخ في درعها ، أو إلى ذات عيسى أن كن ، ونكر وروح لأن المعنى على تقدير صفة لا على إطلاق روح ، أي : وروح شريفة نفيسة من قبله تعالى . ومن هنا لاتبداء الغاية ، وليست للتبعيض كما فهمه بعض النصارى فادعى أنّ عيسى جزء من الله تعالى ، فرد عليه علي بن الحسين بن واحد المروزي حين استدل النصراني بأنّ في القرآن ما يشهد لمذهبه وهو قوله : وروح منه ، فأجابه ابن واحد بقوله : ) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ ). وقال : إن كان يجب بهذا أن يكون عيسى جزأ منه وجب أن يكون ما في السموات وما في الأرض جزأ منه ، فانقطع النصراني وأسلم . وصنف ابن فايد إذ ذاك كتاب النظائر .
( مَّا كَانَ اللَّهُ ( أي الذين من جملتهم عيسى ومحمد عليهما السلام .
( وَلاَ تَقُولُواْ ثَلَاثَةٌ ( خبر مبتدأ محذوف أي : الآلهة ثلاثة . قال لزمخشري : والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة ، وأن المسيح ولد الله من مريم . ألا ترى إلى قوله : ) قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ). وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون في المسيح لاهوتيته وناسوتيته من جهة الأب والأم ، ويدل عليه قوله : إنما المسيح عيسى ابن مريم ، فأثبت أنه ولد لمريم أتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتهم ، وأنّ اتصاله بالله عز وجل من حيث أنه رسوله ، وأنه موجود بأمره ، وابتداعه جسداً حياً من غير أب ينفي أنه يتصل به اتصال الأبناء بالآباء . وقوله : ) سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ( وحكاية الله أوثق من حكاية غيره ، وهذا الذي رجحه الزمخشري قول ابن عباس قاله يريد بالتثليث : الله تعالى ، وصاحبته ، وابنه . وقال الزمخشري أيضاً إن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدم ، وأنهم يريدون باقنوم الأب الذات ، وبأقنوم الابن العلم ، وبأقنوم روح القدس الحياة ، فتقديره الله ثلاثة انتهى . وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون التقدير المعبود ثلاثة ، أو الآلهة ثلاثة ، أو الأقانيم ثلاثة . وكيفما تشعب اختلاف عبارات النصارى فإنه يختلف بحسب ذلك التقدير انتهى . وقال الزجاج : تقديره إلهاً ثلاثة . وقال الفراء وأبو

" صفحة رقم 418 "
عبيد : تقديره ثلاثة كقوله : ) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ ( وقال أبو علي : التقدير الله ثالث ثلاثة ، حذف المبتدأ والمضاف انتهى . أراد أبو علي موافقة قوله : ) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ( أي أحد آلهة ثلاثة والذي يظهر أن الذي أثبتوه هو ما أثبت في الآية خلافه ، والذي أثبت في الآية بطريق الحصر إنما هو وحدانية الله تعالى ، وتنزيهه أن يكون له ولد ، فيكون التقدير : ولا تقولوا الله ثلاثة . ويترجح قول أبي علي بموافقته الآية التي ذكرناها ، وبقوله تعالى سبحانه أن يكون له ولد ، والنصارى وإن اختلفت فرقهم فهم مجمعون على التثليث .
( انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ ( تقدم الكلام في انتصاب خيراً . وقال الزمخشري في تقدير مذهب سيبويه في نصبه لما بعثهم على الإيمان يعني في قوله : ) يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ ( وعلى الانتهاء عن التثليث يعني في قوله : انتهوا خيراً لكم ، علم أنه يحملهم على أمر فقال : خيراً لكم أي اقصدوا وأتوا خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث ، وهو الإيمان والتوحيد انتهى . وهو تقدير سيبويه في الآية .
( إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ واحِدٌ ( قال ابن عطية : إنما في هذه الآية حاصرة ، اقتضى ذلك العقل في المعنى المتكلم فيه ، وليست صيغة ، إنما تقتضي الحصر ، ولكنها تصلح للحصر والمبالغة في الصفة ، وإن لم يكن حصر نحو : إنما الشجاع عنترة وغير ذلك انتهى كلامه . وقد تقدم كلامنا مشبعاً في إنما في قوله : ) إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( وكلام ابن عطية فيها هنا أنها لا تقتضي بوضعها الحصر صحيح ، وإن كان خلاف ما في أذهان كثير من الناس .
( سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ( معناه تنزيهاً له وتعظيماً من أن يكون له ولد كما تزعم النصارى في أمره ، إذ قد نقلوا أبوة الحنان والرأفة إلى أبوة النسل . وقرأ الحسن : إن يكون له ولد بكسر الهمزة وضم النون من يكون ، على أنّ أن نافية أي : ما يكون له ولد فيكون التنزيه عن التثليث ، والإخبار بانتفاء الولد ، فالكلام جملتان ، وفي قراءة الجماعة جملة واحدة .
( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( إخبار لملكه بجميع من فيهن ، فيستغرق ملكه عيسى وغيره . ومن كان ملكاً لا يكون جزءاً من المالك على أن الجزئية لا تصحّ إلا في الجسم ، والله تعالى نزه عن الجسم والعرض .
( وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ( أي كافياً في تدبير مخلوقاته وحفظها ، فلا حاجة إلى صاحبة ولا ولد ولا معين . وقيل : معناه كفيلاً لأوليائه . وقيل : المعنى يكل الخلق إليه أمورهم ، فهو الغني عنهم ، وهم الفقراء إليه .
النساء : ( 172 ) لن يستنكف المسيح . . . . .
( لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ( روي أنّ ( وفد نجران قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : لم تعيب صاحبنا ؟ قال : وما صاحبكم

" صفحة رقم 419 "
قالوا : عيسى قال : وأي شيء أقول ؟ قالوا : تقول أنه عبد الله ورسوله قال : إنه ليس بعار أن يكون عبداً قالوا : بلى ) . فنزلت أي لا يستنكف عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له منه ، فلو كان موضع استنكاف لكان هو أولى بأن يستنكف لأن العار ألصق به ، أي : لن يأنف ويرتفع ويتعاظم .
وقرأ على عبيد الله على التصغير . والمقربون أي : الكروبيون الذين هم حول العرش كجبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، ومن في طبقتهم قاله الزمخشري . وقال ابن عباس : هم حملة العرش . وقال الضحاك : من قرب منهم من السماء السابعة انتهى . وعطفوا على عيسى لأن من الكفار من يعبد الملائكة . وفي الكلام حذف التقدير : ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيد الله ، فإن ضمن عبداً معنى ملكاً لله لم يحتج إلى هذا التقدير ، ويكون إذ ذاك ولا الملائكة من باب عطف المفردات ، بخلاف ما إذا لحظ في عبد الوحدة . فإن قوله : ولا الملائكة يكون من باب عطف الجمل لاختلاف الخبر . وإن لحظ في قوله : ولا الملائكة معنى : ولا كل واحد من الملائكة ، كان من عطف المفردات . وقد تشبث بهذه الآية من زعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء . قال ابن عطية : ولا الملائكة المقربون زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان أي : ولا هؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين لا يستنكفون عن ذلك ، فكيف من سواهم ؟ وفي هذه الآية الدليل الواضح على تفضيل الملائكة على الأنبياء انتهى . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : من أين دل قوله تعالى : ولا الملائكة المقربون على أن المعنى ولا من فوقه ؟ ( قلت ) : من حيث أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك ، وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن مرتبة العبودية ، فوجب أن يقال لهم : لن يرتفع عيسى عن العبودية ، ولا من هو أرفع منه درجة . كأنه قيل : لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية ، فكيف بالمسيح ؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة ، ومثاله قول القائل : وما مثله ممن يجاود حاتم
ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره
لا شبهة بأنه قصد بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود . ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله : ) وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى ( حتى يعترف بالفرق البين انتهى كلامه . والتفضيل بين الأنبياء والملائكة إنما يكون بالسمع ، إذ نحن لا ندرك جهة التفضيل بالعقل ، وأما الآية فقد يقال : متى نفي شيء عن اثنين فلا يدل ذلك على أن الثاني أرفع من الأول ، ولا أن ذلك من باب الترقي . ( فإذا قلت ) : لن يأنف فلان أن يسجد لله ولا عمر ، وفلا دلالة فيه على أنّ عمراً أفضل من زيد . وإن سلّمنا ذلك فليست الآية من هذا القبيل ، لأنه قابل مفرداً بجمع ، ولم يقابل مفرداً بمفرد ولا جمعاً بجمع . فقد يقال : الجمع أفضل من المفرد ، ولا يلزم من الآية تفضيل الجمع على الجمع ، ولا المفرد على المفرد . وإنْ سلمنا أنّ المعطوف في الآية أرفع من المعطوف عليه ، فيكون ذلك بحسب ما ألقي في أذهان العرب وغيرهم من تعظيم الملك وترفيعه ، حتى أنهم ينفون البشرية عن الممدوح ويثبتون له الملكية ، ولا يدل تحيلهم ذلك على أنه في نفس الأمر أفضل وأعظم ثواباً ومما ورد من ذلك على حسب ما ألقي في الأذهان قوله تعالى حكاية عن النسوة التي فاجأهنّ حسن يوسف : ) فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( وقال الشاعر :

" صفحة رقم 420 "
فلست بإنسي ولكن لملأك
تنزل من جوف السماء يصوب
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : علام عطف ولا الملائكة المقربون ؟ ( قلت ) : إما أن يعطف على المسيح ، أو على اسم يكون ، أو على المستتر في عبداً لما فيه من معنى الوصف ، لدلالته على معنى العبادة ، وقولك : مررت برجل عبد أبوه ، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض ، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية ، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه انتهى . والانحراف عن الغرض الذي أشار إليه هو كون الاستنكاف يكون مختصاً بالمسيح ، والمعنى القائم اشتراك الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكاف عن العبودية ، لأنه لا يلزم من استنكافه وحده أن يكون هو والملائكة عبيداً ، أو أن يكون هو وهم يعبد ربه استنكافهم هم ، فقد يرضى شخص أن يضرب هو وزيد عمراً ولا يرضى ذلك زيد ويظهر أيضاً مرحوجية الوجهين من جهة دخول لا ، إذ لو أريد العطف على الضمير في يكون ، أو على المستتر في عبداً . لم تدخل لا ، بل كان يكون التركيب بدونها تقول : ما يريد زيد أن يكون هو وأبوه قائمين ، وتقول : ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو ، فهذان ونحوهما ليسا من مظنات دخول لا ، فإن وجد من لسان العرب دخول لا في نحو من هذا فهي زائدة .
( وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً ( حمل أولاً على لفظ مَن فأفرد الضمير في يستنكف ويستكبر ، ثم حمل على المعنى في قوله : فسيحشرهم ، فالضمير عائد على معنى من هذا هو الظاهر ، ويحتمل أن يكون الضمير عامّاً عائداً على الخلق لدلالة المعنى عليه ، لأن الحشر ليس مختصاً بالمستنكف ، ولأنّ التفصيل بعده يدل عليه . ويكون ربط الجملة الواقعة جواباً لاسم الشرط بالعموم الذي فيها ، ويحتمل أن يعود الضمير على معنى مَن ، ويكون قد حذف معطوف عليه لمقابلته إياه التقدير : فسيحشرهم ومن لم يستنكف إليه جميعاً كقوله : ) سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( أي : والبرد . وعلى هذين الاحتمالين يكون ما فصل بإمّا مطابقاً لما قبله ، وعلى الوجه الأوّل لا يطابق . والإخبار بالحشر إليه وعيد إذ . المعنى به الجمع يوم القيامة حيث يذل المستنكف المستكبر . وقرأ الحسن : بالنون بدل الياء في فسيحشرهم ، وباء فيعذبهم على التخفيف .
2 (
النساء : ( 173 ) فأما الذين آمنوا . . . . .
( فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاٍّ نثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ ( ) ) 2
) فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ ( أي لا يبخس أحداً قليلاً ولا كثيراً ، والزيادة يحتمل أن يكون في أن الحسنة بعشر إلى سبعمائة ، والتضعيف الذي ليس بمحصور في قوله : ) وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ( قال معناه ابن عطية رحمه الله تعالى .
( وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ( هذا وعيد شديد للذين يتركون عبادة الله أنفة تكبراً . وقال ابن عطية : وهذا الاستنكاف إنما يكون من الكفار عن اتباع الأنبياء وما جرى مجراه كفعل حيي بن أخطب وأخيه أبي ياسر وأبي جهل وغيرهم بالرسول ، فإذا فرضت أحداً من البشر عرف الله فمحال أن تجده يكفر به تكبراً عليه ، والعناد إنما يسوق إليه الاستكبار على البشر ، ومع تفاوت المنازل في ظن المستكبر انتهى . وقدّم ذكر ثواب المؤمن لأنّ الإحسان إليه مما يعم المستنكف إذا كان

" صفحة رقم 421 "
داخلاً في جملة التنكيل به ، فكأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحشر إذا رأى أجور العاملين ، وبما يصيبه من عذاب الله تعالى .
( نَصِيراً يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً (
النساء : ( 174 ) يا أيها الناس . . . . .
الجمهور على أنّ البرهان هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وسماه برهاناً لأنّ منه البرهان ، وهو المعجزة . وقال مجاهد : البرهان هنا الحجة ، وقيل : الإسلام ، والنور المبين هو القرآن .
( فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُّسْتَقِيماً (
النساء : ( 175 ) فأما الذين آمنوا . . . . .
الظاهر أنّ الضمير في به عائد على لقربه وصحة المعنى ، ولقوله : واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله . ويحتمل أن يعود على القرآن الذي عبر عنه بقوله : وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً وفي الحديث : ) الْقُرْءانَ حَبْلِ اللَّهِ الْمَتِينُ مِنْ ( والرحمة والفضل : الجنة . وقال الزمخشري : في رحمة منه وفضل في ثواب مستحق وتفضل انتهى . ولفظ مستحق من ألفاظ المعتزلة . وقيل : الرحمة زيادة ترقية ، ورفع درجات . وقيل : الرحمة التوفيق ، والفضل القبول . والضمير في إليه عائد على الفضل ، وهي هداية طريق الجنان كما قال تعالى : ) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ( لأن هداية الإرشاد قد تقدّمت وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا ، وعلى هذا الصراط طريق الجنة . وقال الزمخشري : ويهديهم إلى عبادته ، فجعل الضمير عائداً على الله تعالى وذلك على حذف مضاف وهذا هو الظاهر ، لأنه المحدث عنه ، وفي رحمة منه وفضل ليس محدثاً عنهما . قال أبو علي : هي راجعة إلى ما تقدم من اسم الله تعالى ، والمعنى : ويهديهم إلى صراطه ، فإذا جعلنا صراطاً مستقيماً نصباً على الحال كانت الحال من هذا المحذوف انتهى . ويعني : دين الإسلام . وقيل : الهاء عائدة على الرحمة والفضل لأنهما في معنى الثواب . وقيل : هي عائدة على القرآن . وقيل : معنى صراطاً مستقيماً عملاً صالحاً

" صفحة رقم 422 "
النساء : ( 176 ) يستفتونك قل الله . . . . .
( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ ( قال البراء بن عازب : هي آخر آية نزلت . وقال كثير من الصحابة ، من آخر ما نزل . وقال جابر بن عبد الله : نزلت بسبب عادني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأنا مريض فقلت : يا رسول الله كيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات ولم يكن لي ولد ولا والد ؟ فنزلت . وقيل : إنّ جابراً أتاه في طريق مكة عام حجة الوداع فقال : إن لي أختاً ، فكم آخذ من ميراثها إن ماتت ، فنزلت . وتقدّم الكلام في لفظ الكلالة اشتقاقاً ومدلولاً وكان أمرها أمراً مشكلاً ، روي عنه في أخبارها روايات ، وفي حديثه أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ) مّيثَاقاً غَلِيظاً وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء ). وقد روى أبو سلمة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( التي أنزلت في الصيف هي وإن كان رجل يورث كلاله ) والظاهر أنها ) يَسْتَفْتُونَكَ ( لأن البراء قال : هي آخر آية نزلت . قال ابن عطية : قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يكفيك منها آية الصيف بيان فيه كفاية وجلاء . ولا أدري ما الذي أشكل منها على الفاروق رضوان الله عليه اللهم إلا أن يكون دلالة اللفظ اضطربت على كثير من الناس ، ولذلك قال بعضهم : الكلالة الميت نفسه . وقال آخرون : الكلالة المال إلى غير ذلك من الخلاف انتهى كلامه . وقد ختمت هذه السورة بهذه الآية كما بدئت أولاً بأحكام الأموال في الإرث وغيره ، ليتشاكل المبدأ والمقطع ، وكثيراً ما وقع ذلك في السور . روى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في خطبته : ( ألا إنّ آية أول سورة النساء أنزلها الله في الولد والوالد ، والآية الثانية أنزلها الله في الزوج والزوجة والأخوة من الأم ، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولى الأرحام ) وفي الكلالة متعلق بيفتيكم على طريق أعمال الثاني .
( إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ( المراد بالولد الابن ، وهو اسم مشترك يجوز استعماله للذكر والأنثى ، لأن الابن يسقط الأخت ، ولا تسقطها البنت إلا في مذهب ابن عباس . والمراد بالأخت الشقيقة ، أو التي لأب دون التي لأم ، لأن الله فرض لها النصف ، وجعل أخاها عصبة . وقال : للذكر مثل حظ الأنثيين . وأما الأخت للأم فلها السدس في آية المواريث ، سوى بينها وبين أخيها . وارتفع امرؤ على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده ، والجملة من قوله : ليس له ولد ، في موضع الصفة لامرؤ ، أي : إنْ هلك امرؤ غير ذي ولد . وفيه دليل على جواز الفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة في باب الاشتغال ، فعلى هذا القول زيداً ضربته العاقل . وكلما جاز الفصل بالخبر جاز بالمفسر ، ومنع الزمخشري أن يكون قوله : ليس له ولد ،

" صفحة رقم 423 "
جملة حالية من الضمير في هلك ، فقال : ومحل ليس له ولد الرفع على الصفة ، لا النصب على الحال . وأجاز أبو البقاء فقال : ليس له ولد الجملة في موضع الحال من الضمير في هلك ، وله أخت جملة حالية أيضاً . والذي يقتضيه النظر أنّ ذلك ممتنع ، وذلك أنّ المسند إليه حقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف ، فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له ، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، فصارت كالمؤكدة لما سبق . وإذا تجاذب الاتباع والتقييد مؤكد أو مؤكد بالحكم ، إنما هو للمؤكد ، إذ هو معتمد الإسناد الأصلي . فعلى هذا لو قلت : ضربت زيداً ضربت زيداً العاقل ، انبغى أن يكون العاقل نعتاً لزيد في الجملة الأولى ، لا لزيد في الجملة الثانية ، لأنها جملة مؤكدة للجملة الأولى . والمقصود بالإسناد إنما هو الجملة الأولى لا الثانية . قيل : وثم معطوف محذوف للاختصار ، ودلالة الكلام عليه . والتقدير : ليس له ولد ولا والد .
( وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ ( أي إنْ قدّر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها . والمراد بالولد هنا الابن ، لأن الابن يسقط الأخ دون البنت . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الابن لا يسقط الأخ وحده ، فإن الأب نظيره في الإسقاط ، فلم اقتصر على نفي الولد ؟ ( قلت ) : وكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة وهو قوله عليه السلام : ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ) ذكر الأب أولى من الأخ ، وليسا بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة . ويجوز أن يدل بحكم انتفاء الولد على حكم انتفاء الوالد ، لأنّ الولد أقرب إلى الميت من الوالد . فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب ، فأولى أن يرث عند انتفاء الأبعد ، ولأن الكلالة تتناول انتفاء الوالد والولد جميعاً ، فكان ذكر انتفاء أحدهما دالاً على انتفاء الآخر انتهى كلامه . والضمير في قوله : وهو وفي يرثها عائد إلى ما تقدم لفظاً دون معنى ، فهو من باب عندي درهم ونصفه ، لأن الهالك لا يرث ، والحية لا تورث ، ونظيره في القرآن : ) وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ( وهذه الجملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب ، وهي دليل جواب الشرط الذي بعدها . ) فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ( قالوا : الضمير في كانتا ضمير أختين دل على ذلك قوله : وله أخت . وقد تقرر في علم العربية أن الخبر يفيد ما لا يفيده الاسم . وقد منع أبو عليّ وغيره سيد الجارية مالكها ، لأن الخبر أفاد ما أفاده المبتدأ . والألف في كانتا تفيد التثنية كما أفاده الخبر ، وهو قوله اثنتين . وأجاب الأخفش وغيره بأن قوله : اثنتين يدل على عدم التقييد بالصغر أو الكبر أو غيرهما من الأوصاف ، فاستحق الثلثان بالاثنينية مجردة عن القيود ، فلهذا كان مفيداً وهذا الذي قالوه ليس بشيء ، لأن الألف في الضمير للاثنتين يدل أيضاً على مجرد الاثنينية من غير اعتبار قيد ، فصار مدلول الألف ومدلول اثنتين سواء ، وصار المعنى : فإن كانتا الأختان اثنتين ، ومعلوم أنّ الأختين اثنتان . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : إلى مَن يرجع ضمير التثنية والجمع في قوله : فإن كانتا اثنتين ، وإن كانوا أخوة ؟ ( قلت ) : أصله فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين ، وإن كان من يرث بالأخوة ذكوراً وإناثاً . وإنما قيل : فإن كانتا ، وإن كانوا . كما قيل : من كانت أمك ، فكما أنث ضمير من لمكان تأنيث الخبر ، كذلك ثنى ، وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا ، لمكان تثنية الخبر وجمعه انتهى . وهو تابع في هذا التخريج غيره ، وهو تخريج لا يصح ، وليس نظير من كانت أمك ، لأنَّ مَن صرّح بها ولها لفظ ومعنى . فمَن أنّث راعى المعنى ، لأن التقدير : أية أم كانت أمك . ومدلول الخبر في هذا مخالف لمدلول الاسم ، بخلاف الآية ، فإنّ المدلولين واحد ، . ولم يؤنث في مَن كانت أمك لتأنيث الخبر ، إنّما أنث مراعاة لمعنى من إذ أراد بها مؤنثاً . ألا

" صفحة رقم 424 "
ترى إنك تقول : من قامت فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردت السؤال عن مؤنث ، ولا خبر هنا فيؤنث قامت لأجله . والذي يظهر لي في تخريج الآية غير ما ذكر . وذلك وجهان : أحدهما : إنّ الضمير في كانتا لا يعود على أختين ، إنما هو يعود على الوارثتين ، ويكون ثم صفة محذوفة ، واثنتين بصفته هو الخبر ، والتقدير : فإن كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات فلهما الثلثان مما ترك ، فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيد الاسم ، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز . والوجه الثاني : أن يكون الضمير عائداً على الأختين كما ذكروا ، ويكون خبر كان محذوفاً لدلالة المعنى عليه ، وإن كان حذفه قليلاً ، ويكون اثنتين حالاً مؤكدة والتقدير : فإن كانت أختان له أي للمرء الهالك . ويدل على حذف الخبر الذي هو له وله أخت ، فكأنه قيل : فإن كانت أختان له ، ونظيره أن تقول : إن كان لزيد أخ فحكمه كذا ، وإن كان أخوان فحكمهما كذا . تريد وإن كان أخوان له .
( وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاْنثَيَيْنِ ( يعني أنهم يحوزون المال على ما تقرر في أرث الأولاد من أنّ للذكر مثل حظ الأنثيين . والضمير في كانوا إنْ عاد على الأخوة فقد أفاد الخبر بالتفصيل المحتوي على الرجال والنساء ، ما لم يفده الاسم ، لأن الاسم ظاهر في الذكور . وإن عاد على الوارث فظهرت إفادة الخبر ما لا يفيد المبتدأ ظهوراً واضحاً . والمراد بقوله : أخوة الأخوة والأخوات ، وغلب حكم المذكر . وقرأ ابن أبي عبلة : فإن للذكر مثل حظ الأنثيين .
( يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( أنْ تضلوا مفعول من أجله ، ومفعول يبين محذوف أي : يبين لكم الحق . فقدره البصري والمبرد وغيره : كراهة أن تضلوا . وقرأ الكوفي ، والفراء ، والكسائي ، وتبعهم الزجاج : لأن لا تضلوا ، وحذف لا ومثله عندهم قول القطامي : رأينا ما رأى البصراء منا
فآلينا عليها أن تباعا
أي أن لا تباعا ، وحكى أبو عبيدة قال : حدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر فيه : ( لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجاية ) فاستحسنه أي لئلا يوافق . وقال الزجاج هو مثل قوله إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا أي لأن لا تزولا ورجح أبو عليّ قول المبرد بأن قال حذف المضاف أسوغ وأشبع من حذف لا . وقيل أن تضلوا مفعول به أي يبين الله لكم الضلالة أن تضلوا فيها . ) وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ ( يعلم مصالح العباد في المبدأ والمعاد ، وفيما كلفهم به من الأحكام . وقال أبو عبد الله الرازي : في هذه السورة لطيفة عجيبة وهي أنّ أولها مشتمل على كمال تنزه الله تعالى وسعة قدرته ، وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم ، وهذان الوصفان بهما تثبت الربوبية والإلهية والجلال والعزة ، وبهما يجب أن يكون العبد منقاداً للتكاليف .
وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع . فمن ذلك الطباق في : حرمنا وأحلت ، وفي : فآمنوا وإن تكفروا . والتكرار في : وما قتلوه ، وفي : وأوحينا ، وفي : ورسلاً ، وفي : يشهد ويشهدون ، وفي : كفروا ، وفي : مريم ، وفي : اسم الله . والالتفات في : فسوف نؤتيهم ، وفي : فسنحشرهم وما بعد ما في قراءة من قرأ بالنون . والتشبيه في : كما أوحينا . والاستعارة في : الراسخون وهي في الاجرام استعيرت للثبوت في العلم والتمكن فيه ، وفي : سبيل الله ، وفي : يشهد ، وفي : طريقاً ، وفي : لا تغلوا والغلو حقيقة في ارتفاع السعر ، وفي : وكيلاً استعير لإحاطة علم الله بهم ، وفي : فيوفيهم أجورهم استعير للمجازاة . والتجنيس المماثل في : يستفتونك ويفتيكم . والتفصيل في : فأما الذين آمنوا وأما الذين استنكفوا . والحذف في عدّة مواضع .

" صفحة رقم 425 "
5
( سورة المائدة )
مدنية وهي مائة وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الاٌّ نْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْىَ وَلاَ الْقَلَائِدَ وَلاءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاٌّ زْلاَمِ ذالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ) ) 2
المائدة : ( 1 ) يا أيها الذين . . . . .
البهيمة : كل ذات أربع في البر والبحر قاله الزمخشري وقال ابن عطية : البهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم انتهى . وما كان على فعيل أو فعيلة وعينه حرف حلق اسماً كان أو صفة ، فإنه يجوز كسر أوله اتباعاً لحركة عينه وهي لغة بني تميم تقول : رئي وبهيمة ، وسعيد وصغير ، وبحيرة وبخيل . الصيد : مصدر صاد يصيد ويصاد ، ويطلق على المصيد . وقال داود بن عليّ الأصبهاني : الصيد ما كان ممتنعاً ولم يكن له مالك وكان حلالا أكله ، وكأنه فسر الصيد الشرعي .
القلادة في الهدى : ما قلد به من نعل ، أو عروة مزاده ، أو لحا شجر أو

" صفحة رقم 426 "
غيره ، وكان الحرمي ربما قلّد ركابه بلجاً شجر الحرم ، فيقتصم بذلك من السوء .
الآمُّ : القاصد أممت الشيء قصدته .
جرمه على كذا حمله ، قاله : الكسائي وثعلب . وقال أبو عبيدة والفراء : جرمه كسبه ، ويقال : فلان جريمة أهله أي كاسبهم ، والجارم الكاسب . وأجرم فلان اكتسب الإثم . وقال الكسائي أيضاً : جرم وأجرم أي كسب غيره ، وجرم يجرم جرماً إذا قطع . قال الرماني : وهو الأصل ، فجرم حمل على الشيء لقطعه من غيره ، وجرم كسب لانقطاعه إلى الكسب ، وجرم بمعنى حق ، لأن الحق يقطع عليه . قال الخليل : لا جرّم أن لهم النار أي لقد حق .
الشنآن : البغض ، وهو أحد مصادر شيء . يقال : شنيء يشنأ شنأ وشنآنا مثلثي الشين فهذه ستة : وشناء ، وشناءة ، وشناء ، وشنأة ، ومشنأة ، ومشنئة ، ومشنئة ، وشنانا ، وشنانا . فهذه ستة عشر مصدراً وهي أكثر ما حفظ للفعل . وقال سيبويه : كل بناء كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن .
المعاونة : المساعدة . المنخنقة : هي التي تحتبس نفسها حتى تموت ، سواء أكان حبسها بحبل أم يد أم غير ذلك . الوقد : ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت . وقيل : الموقوذة المضروبة بعصا أو حجر لا حد له ، فتموت بلا ذكاة . ويقال : وقذه النعاس غلبه ، ووقذه الحكم سكنه . التردّي : السقوط في بئر أو التهوّر من جبل . ويقال : ردى وتردّى أي هلك ، ويقال : ما أدري أين ردي ؟ أي ذهب . النطيحة : هي التي ينطحها غيرها فتموت بالنطح ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل ، ولذلك ثبت فيها الهاء . السبع : كل ذي ناب وظفر من الحيوان : كالأسد ، والنمر ، والدب ، والذئب ، والثعلب ، والضبع ، ونحوها . وقد أطلق على ذوات المخالب من الطير سباع . قال الشاعر : وسباع الطير تغدو بطانا
تتخطاهم فما تستقل
ومن العرب من يخص السبع بالأسد ، وسكون الباء لغة نجدية ، وسمع فتحها ، ولعل ذلك لغة . التذكية : الذبح ، وتذكية النار رفعها ، وذكى الرجل وغيره أسن . قال الشاعر : على أعراقه تجري المذاكي
وليس على تقلبه وجهده

" صفحة رقم 427 "
النصب ، قيل جمع نصاب ، وهي حجارة منصوبة حول الكعبة كان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ، ولها أيضاً وتلطخ بالدماء ، ويوضع عليها اللحم قطعاً قطعاً ليأكل منها الناس . وقيل : النصب مفرد . قال الأعشى : وذا النصب المنصوب لا تقرينه .
الأزلام : القداح واحدها زلم وزُلم بضم الزاي وفتحها وهي السهام ، كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزوا أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح ، وهي مكتوب على بعضها نهاني ربي ، وعلى بعضها أمرني ربي ، وبعضها غفل ، فإن خرج الآمر مضى لطلبته ، وإن خرج الناهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد الضرب .
اليأس : قطع الرجاء . يقال : يئس ييئس وييئس ، ويقال : أيس وهو مقلوب من يئس ، ودليل القلب تخلف الحكم عن ما ظاهره أنه موجب له . ألا ترى أنهم لم يقلبوا ياءه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فلم يقولوا آس كما قالوا هاب .
المخمصة : المجاعة التي يخمص فيها البطون أي تضمر ، والخمص ضمور البطن ، والخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال : خمصانة ، وبطن خميص ، ومنه أخمص القدم . ويستعمل كثيراً في الجوع والغرث . قال الأعشى : تبيتون في المشتى ملاء بطونكم
وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وقال آخر : كلوا في بعض بطنكم تعفوا
فإن زمانكم زمن خميص
) عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( هذه السورة مدنية ، نزلت منصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الحديبية ، ومنها ما نزل في حجة الوداع ، ومنها ما نزل عام الفتح . وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة ، أو في سفر ، أو بمكة ، فهو مدني . وذكروا فضائل هذه السورة وأنها تسمى : المائدة ، والعقود ، والمنقذة ، والمبعثرة . ومناسبة افتتاحها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها ، ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال ، فبين في هذه السورة أحكاماً كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل . قالوا : وقد تضمنت هذه السورة ثمانية عشر فريضة لم يبينها في غيرها ، وسنبينها أوّلاً فأوّلاً إن

" صفحة رقم 428 "
شاء الله تعالى . وذكروا أن الكندي الفيلسوف قال له أصحابه : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا لقرآن ، فقال : نعم ، أعمل مثل بعضه ، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلاً عاماً ، ثم استثنى استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في إجلاد انتهى .
والظاهر أنّ النداء لأمة الرسول المؤمنين . وقال ابن جريج : هم أهل الكتاب . وأمر تعالى المؤمنين بإيفاء العقود وهي جمع عقد ، وهو العهد ، قاله : الجمهور ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي . وقال الزجاج : العقود أوكد من العهود ، وأصله في الاجرام ثم توسع فأطلق في المعاني ، وتبعه الزمخشري فقال : هو العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه . قال الحطيئة : قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم
شدّوا العناج وشدوا فوقه الكربا
والظاهر عموم المؤمنين في المخلص والمظهر ، وعموم العقود في كل ربط يوافق الشرع سواء كان إسلامياً أم جاهلياً وقد سأل فرات بن حنان العجلي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن حلف الجاهلية فقال : ( لعلك تسأل عن حلف تيم الله ) قال : نعم يا نبي الله . قال : ( لا يزيده الإسلام إلا شدة ) . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) في حلف الفضول وكان شهده في دار عبد الله بن جدعان : ( ما أحب أنّ لي به حمر النعم ولو ادّعى به في الإسلام لأجبت ) وكان هذا الحلف أنّ قريشاً تعاقدوا على أنْ لا يجدوا مظلوماً بمكة من أهلها أو من غير أهلها إلا قاموا معه حتى ترد مظلمته ، وسميت ذلك الحلف حلف الفضول . وكان الوليد بن عقبة أميراً على المدينة ، فتحامل على الحسين بن علي في مال فقال : لتنصفني من حقي وإلا أخذت بسيفي ، ثم لأقومن في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ثم لأدعون بحلف الفضول . فقال عبد الله بن الزبير : لئن دعاني لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من خصمه ، أو نموت جميعاً . وبلغت المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيميّ فقالا مثل ذلك ، وبلغ ذلك الوليد فأنصفه .
ويندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان كأمانٍ ، ودية ، ونكاح ، وبيع ، وشركة ، وهبة ، ورهن ، وعتق ، وتدبير ، وتخيير ، وتمليك ، ومصالحة ، ومزارعة ، وطلاق ، وشراء ، وإجارة ، وما عقده مع نفسه لله تعالى من طاعة : كحجٍ ، وصومٍ ، واعتكافٍ ، وقيام ، ونذر وشبه ذلك . وقال ابن عباس ومجاهد : هي العهود التي أخذها الله على عباده فيما أحل وحرم ، وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : هي العهود التي عقدها الله على عباده وألزمها إياهم من واجب التكليف ، وأنه كلام قدم مجملاً ثم عقب بالتفصيل . وقال قتادة : هو الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية ، قال : وروي لنا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام ) . وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما : هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو

" صفحة رقم 429 "
نكاح أو غيره . وقال ابن زيد أيضاً ، وعبد الله بن عبيدة : العقود خمس : عقدة الإيمان ، وعقدة النكاح ، وعقدة العهد ، وعقدة البيع ، وعقدة الحلف . وقيل : هي عقود الأمانات والبياعات ونحوها ، وقال ابن جريج : هي التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بها بما جاءهم به الرسول . وقال ابن شهاب : قرأت الكتاب الذي كتبه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره : ( هذا بيان من الله ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود إلى قوله إن الله سريع الحساب ) وقيل : العقود هنا الفرائض .
( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الاْنْعَامِ ( قيل : هذا تفصيل بعد إجمال . وقيل : استئناف تشريع بيَّن فيه فساد تحرم لحوم السوائب ، والوصائل ، والبحائر ، والحوام ، وأنها حلال لهم . وبهيمة الأنعام من باب إضافة الشيء إلى جنسه فهو بمعنى مِن ، لأن البهيمة أعم ، فأضيفت إلى أخص . فبهيمة الأنعام هي كلها قاله : قتادة ، والضحاك ، والسدي ، والربيع ، والحسن . وهي الثمانية الأزواج التي ذكرها الله تعالى . وقال ابن قتيبة : هي الإبل ، والبقرة ، والغنم ، والوحوش كلها . وقال قوم منهم الضحاك والفراء : بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء ، وبقر الوحش وخمره . وكأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام البهائم ، والإضرار وعدم الأنياب ، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه ، وتقدم الكلام في مدلول لفظ الأنعام . وقال ابن عمر وابن عباس : بهيمة الأنعام هي الأجنة التي تخرج عند ذبح أمّهاتها فتؤكل دون ذكاة ، وهذا فيه بعد . وقيل : بهيمة الأنعام هي التي ترعى من ذوات الأربع ، وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن حد الأبهام فصار له نظر مّا .
( إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( هذا استثناء من بهيمة الأنعام والمعنى : إلا ما يتلى عليكم تحريمه من نحو قوله : ) حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ( وقال القرطبي : ومعنى يتلى عليكم يقرأ في القرآن والسنة ، ومنه ) كُلَّ ذِى هَاذَا حَلَالٌ وَهَاذَا حَرَامٌ ). وقال أبو عبد الله الرازي : ظاهر هذا الاستثناء مجمل ، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملاً ، إلا أنّ المفسرين أجمعوا على أنّ المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هذه الآية وهو قوله : ) حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ( إلى قوله : ) وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ( ووجه هذا أنّ قوله : أحلت لكم بهيمة الأنعام ، يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه . فبيّن تعالى أنها إن كانت ميتة أو مذبوحة على غير اسم الله ، أو منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة ، أو افترسها السبع فهي محرمة انتهى كلامه . وموضع ما نصب على الاستثناء ، ويجوز الرفع على الصفة لبهيمة . قال ابن عطية : وأجاز بعض الكوفيين أن يكون في موضع رفع على البدل ، وعلى أن تكون إلا عاطفة ، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك : جاء الرجل إلا زيد ، كأنك قلت : غير زيد انتهى . وهذا الذي حكاه

" صفحة رقم 430 "
عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصح البتة ، لأنّ الذي قبله موجب . فكما لا يجوز : قام القوم إلا زيد على البدل ، كذلك لا يجوز البدل في : إلا ما يتلى عليكم . وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية . وقوله : وذلك لا يجوز عند البصريين ، ظاهره الإشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف . وقوله : إلا من نكرة ، هذا استثناء مبهم لا يدرى من أي شيء هو . وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه ، لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناه لا بصرى ولا كوفي . وأما العطف فلا يجيزه بصرى ألبتة ، وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتاً لما قبله في مثل هذا التركيب . وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون من المنعوت نكرة ، أو ما قاربها من أسماء الأجناس ، فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت ولم يفرق بينهما في الحكم . ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل حتى يسوغ ذلك ، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقارباً للنكرة من أسماء الأجناس ، لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكير والتعريف .
( غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( قرأ الجمهور غير بالنصب . واتفق جمهور من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال . ونقل بعضهم الإجماع على ذلك ، واختلفوا في صاحب الحال . فقال الأخفش : هو ضمير الفاعل في أوفوا . وقال الجمهور ، الزمخشري ، وابن عطية وغيرهما : هو الضمير المجرور في أحلّ لكم . وقال بعضهم : هو الفاعل المحذوف من أجل القائم مقامه المفعول به ، وهو الله تعالى . وقال بعضهم : هو ضمير المجرور في عليكم . ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله : إلا ما يتلى عليكم ، هو استثناء من بهيمة الأنعام . وأنّ قوله : غير محلى الصيد ، استثناء آخر منه . فالاستثناءان معناهما من بهيمة الأنعام ، وفي المستثنى منه والتقدير : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون ، بخلاف قوله : ) إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( على ما يأتي بيانه وهو قول مستثنى مما يليه من الاستثناء . قال : ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام ، لأنه مستثنى من المحظور إذا كان إلا ما يتلى عليكم مستثنى من الإباحة ، وهذا وجه ساقط ، فإذا معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلى الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد انتهى . وقال ابن عطية : وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير ، وقدروا تقديمات وتأخيرات ، وذلك كله غير مرضي ، لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء انتهى كلامه . وهو أيضاً ممن خلط على ما سنوضحه .
فأمّا قول الأخفش : ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة اعتراضية ، بل هي منشئة أحكاماً ، وذلك لا يجوز . وفيه تقييد الإيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم ، وهم مأمورون بإيفاء العقود بغير قيد ، ويصير التقدير : أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم ، وهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام أنفسها . وإنْ أريد به الظباء وبقر الوحش وحمره فيكون المعنى : وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم ، وهذا تركيب قلق معقد ، ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا . ولو أريد بالآية هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه . وأما قول : من جعله حالاً من الفاعل . وقدّره : وأحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم ، قال كما تقول : أحلت لك كذا غير مبيحه لك يوم الجمعة ، فهو فاسد . لأنهم نصوا على أنّ الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصير نسياً منسياً ، ولا يجوز وقوع الحال منه . لو قلت : أنزل المطر للناس مجيباً لدعائهم ، إذ الأصل أنزل الله المطر مجيباً لدعائهم لم يجز ، وخصوصاً على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين ، لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلاً كما وضعت صيغته مبنياً للفاعل ، وليست مغيرة من صيغة بنيت للفاعل ، ولأنه يتقيد إحلاله تعالى بهيمة الأنعام إذا أريد بها ثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم ، وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها .
وأما ما نقله القرطبي عن البصريين ، فإنْ كان النقل صحيحاً فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى ، فنقول : إنما عرض الإشكال في

" صفحة رقم 431 "
الآية من جعلهم غير محلى الصيد حالاً من المأمورين بإيفاء العقود ، أو من المحلل لهم ، أو من المحلل وهو الله تعالى ، أو من المتلو عليهم . وغرّهم في ذلك كونه كتب محلى بالياء ، وقدّره هم أنه اسم فاعل من أحل ، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة . وأصله : غير محلين الصيد وأنتم حرم ، إلا في قول من جعله حالاً من الفاعل المحذوف ، فلا يقدر فيه حذف النون ، بل حذف التنوين . وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله : محلى الصيد ، من باب قولهم : حسان النساء . والمعنى : النساء الحسان ، وكذلك هذا أصله غير الصيد المحل . والمحل صفة للصيد لا للناس ، ولا للفاعل المحذوف . ووصف الصيد بأنه محل على وجهين : أحدهما : أنْ يكون معناه دخل في الحل كما تقول : أحل الرّجل أي : دخل في الحل ، وأحرم دخل في الحرم . والوجه الثاني : أن يكون معناه صار ذا حل ، أي حلالاً بتحليل الله . وذلك أن الصيد على قسمين : حلال ، وحرام . ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال . ألا ترى إلى قول بعضهم : إنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعاً ؟ وقد تجوزت العرب فأطلقت الصيد على ما يوصف بحل ولا حرمة نحو قوله : ليث بعثر يصطاد الرجال إذا
ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
وقال آخر : وقد ذهبت سلمى بعقلك كله
فهل غير صيد أحرزته حبائله
وقال آخر : وميّ تصيد قلوب الرّجال
وأفلت منها ابن عمر وحجر
ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب . فمن مجيء أفعل لبلوغ المكان ودخوله قولهم : أحرم الرّجل ، وأعرق ، وأشأم ، وأيمن ، وأتهم ، وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها . ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم : أعشبت الأرض ، وأبقلت ، وأغد البعير ، وألبنت الشاة ، وغيرها ، وأجرت الكلبة ، وأصرم النخل ، وأتلت الناقة ، وأحصد الزرع ، وأجرب الرّجل ، وأنجبت المرأة . وإذا تقرر أنّ الصيد يوصف بكونه محلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ ، أو صار ذا حل ، اتضح كونه استثناء من استثناء ، إذ لا يمكن ذلك لتناقص الحكم . لأنّ المستثنى من المحلل محرم ، والمستثنى من المحرم محلل . بل إن كان المعنى بقوله : بهيمة الأنعام ، الأنعام أنفسها ، فيكون استثناء منقطاً . وإن كان المراد الظباء وبقر الوحش وحمره ونحوها ، فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المحل ، استثنى الصيد الذي بلغ الحل في حل كونهم محرمين . ( فإن قلت ) : ما فائدة الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضاً ؟ ( قلت ) : الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم ، وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل ، فنبه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم ، وإن كان حلالاً لغيره ، فأحرى أن يحرم عليه الصيد الذي هو بالحرم . وعلى هذا التفسير يكون قوله : إلا ما يتلى عليكم ، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله : حرمت عليكم الميتة الآية ، استثناء منقطعاً ، إذ لا يختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقره ونحوها ،

" صفحة رقم 432 "
فيصير لكنْ ما يتلى عليكم أي : تحريمه فهو محرم . وإن كان المراد ببهيمة الأنعام الأنعام والوحوش ، فيكون الاستثناآن راجعين إلى المجموع على التفصيل ، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج ، ويرجع غير محلى الصيد إلى الوحوش ، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول . وإذا لم يمكن ذلك ، وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز . وقد نص النحويون على أنه إذا لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك : قام القوم إلا زيداً ، إلا عمراً ، إلا بكراً ( فإن قلت ) : ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد ، لا من صفة الناس ، ولا من صفة الفاعل المحذوف ، يعكر عليه كونه كتب في رقم المصحف بالياء ، فدل ذلك على أنه من صفات الناس ، إذ لو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء ، وبكون الفراء وأصحابه وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك . ( قلت ) : لا يعكر على هذا التخريج لأنّهم كتبوا كثيراً رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو : باييد بياءين بعد الألف ، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف ، وبنقصهم منه ألفاً . وكتابتهم الصلحت ونحوه بإسقاط الألفين ، وهذا كثير في الرسم . وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز ، لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه ، وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو ينقطع النفس ، فوقفوا على الرسم كما وقفوا على ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ( من غير واو اتباعاً للرسم . على أنه يمكن توجيه كتابته بالياء والوقف عليه بياء بأنه جاء على لغة الازد ، إذ يقفون على بزيد بزيدي بإبدال التنوين ياء ، فكتب محلى بالياء على الوقف على هذه اللغة ، وهذا

" صفحة رقم 433 "
توجيه شذوذ رسمي ، ورسم المصحف مما لا يقاس عليه .
وقرأ ابن أبي عبلة : غير بالرفع ، وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله : بهيمة الأنعام ، ولا يلزم من الوصف بغير أن يكون ما بعدها مماثلاً للموصوف في الجنسية ، ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء ، وخرج أيضاً على الصفة للضمير في يتلى . قال ابن عطية : لأن غير محلى الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيداً انتهى . ولا يحتاج إلى هذا التكلف على تخريجنا محلى الصيد وأنتم حرم جملة حالية . وحرم جمع حرام .
ويقال : أحرم الرجل إذا دخل في الإحرام بحج أو بعمرة ، أو بهما ، فهو محرم وحرام ، وأخرم الرجل دخل في الحرم . وقال الشاعر : فقلت لها فيىء إليك فإنني
حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي : ملب . ويحتمل الوجهين قوله : وأنتم حرم ، إذ الصيد يحرم على من كان في الحرم ، وعلى من كان أحرم بالحج والعمرة ، وهو قول الفقهاء . وقال الزمخشري : وأنتم حرم ، حال عن محل الصيد كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم انتهى . وقد بينا فساد هذا القول ، بأنّ الأنعام مباحة مطلقاً لا بالتقييد بهذه الحال .
( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ( قال ابن عباس : يحل ويحرم . وقيل : يحكم فيما خلق بما يريد على الإطلاق وهذه الجملة جاءت مقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب من الأمر بإيفاء العقود وتحليل بهيمة الأنعام ، والاستثناء منها ما يتلى تحريمه مطلقاً في الحل والحرم إلا في اضطرار ، واستثناء الصيد في حالة الإحرام ، وتضمن ذلك حله لغير المحرم ، فهذه خمسة أحكام ختمها بقوله : إن الله يحكم ما يريد . فموجب الحكم والتكليف هو إراته لا اعتراض عليه ، ولا معقب لحكمه ، لا ما يقوله المعتزلة من مراعاة المصالح . ولذلك قال الزمخشري : إنّ الله يحكم ما يريد من الأحكام ، ويعلم أنه حكمة ومصلحة . وقال ابن عطية : وقد نبه على ما تضمنته هذه الآية من الأحكام ما نصه هذه الآية مما يلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ، ولمن عنده أدنى بصيرة . ثم ذكر ابن عطية الحكاية التي قدمناها عن الكندي وأصحابه ، وفي مثل هذا أقول من قصيدة مدحت بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) معارضاً لقصيدة كعب منه في وصف كتاب الله تعالى : جار على منهج الأعراب أعجزهم
باق مدى الدهر لا يأتيه تبديل
بلاغة عندها كعّ البليغ فلم
ينبس وفي هديه طاحت أضاليل
المائدة : ( 2 ) يا أيها الذين . . . . .
( يُرِيدُ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ ( خرج سريح أحد بني ضبيعة إلى مكة حاجاً وساق الهدى .
وفي رواية ومعه تجارة ، وكان قبل قد قدم المدينة وتكلم مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وتروّى في إسلامه ، وقال الرسول عليه السلام :

" صفحة رقم 434 "
( لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر ) فمر بسرح بالمدينة فاستاقه ، فلما قدم مكة عام الحديبية أراد أهل السرح أن يغيروا عليه ، واستأذنوا الرسول ، فنزلت . وقال السدي : اسمه الحطيم بن هند البلدي أحد بني ضبيعة ، وأراد الرسول أن يبعث إليه ناساً من أصحابه فنزلت . وقال ابن زيد : نزلت بمكة عام الفتح وحج المشركون واعتمروا فقال المسلمون : يا رسول الله إن هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ، فنزل القرآن .
( وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ ( والشعائر جمع شعيرة أو شعار ، أي : قد أشعر الله أنها حده وطاعته ، فهي بمعنى معالم الله ، وتقدم تفسيرها في ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ). قال الحسن : دين الله كله يعني شرائعه التي حدها لعباده ، فهو عام في جميع تكاليفه تعالى . وقال ابن عباس : ما حرم عليكم في حال الإحرام . وقال أيضاً هو ومجاهد : مناسك الحج . وقال زيد بن أسلم : شعائر الحج وهي ست : الصفا والمروة ، والبدن ، والجمار ، والمشعر الحرام ، وعرفة ، والركن . وقال أيضاً : المحرمات خمس : الكعبة الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمسجد الحرام ، حتى يحل . وقال ابن الكلبي : كان عامّة العرب لا يعدون الصفا والمروة ومن الشعائر ، وكانت قريش لا تقف بعرفات ، فنهوا عن ذلك . وقيل : الأعلام المنصوبة المتفرقة بين الحل والحرم نهوا أن يتجاوزوها إلى مكة بغير إحرام . وقال أبو عبيدة : هي الهدايا تطعن في سنامها وتقلد . قال : ويدل عليه ) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللَّهِ ( وضعف قوله ، بأنه قد عطف عليه . والهدى والقلائد . وقيل : هي ما حرم الله مطلقاً سواء كان في الإحرام أو غيره . وقال الزمخشري : هي ما أشعر أي جعل إشعاراً وعلماً للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والطواف والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر انتهى .
( وَلاَ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الظاهر أنه مفرد معهود . فقال الزمخشري : هو شهرالحج . وقال عكرمة وقتادة : هو ذو القعدة من حيث كان أول الأشهر الحرم . وقال الطبري وغيره : رجب . ويضاف إلى مضر لأنها كانت تحرم فيه القتال وتعظمه ، وتزيل فيه السلاح والأسنة من الرماح . وكانت العرب مجمعة على تعظيم ذي القعدة وذي الحجة ، ومختلفة في رجب ، فشدد تعالى أمره . فهذا وجه التخصيص بذكره . وقيل : الشهر مفرد محلى بأل الجنسية ، فالمراد به عموم الأشهر الحرم وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب . والمعنى : لا تحلوا بقتال ولا غارة ولا نهب . قال مقاتل : وكان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كل يوم فيقول : ألا إني قد حللت كذا وحرمت كذا .
( وَلاَ الْهَدْىَ ( قال ابن عطية : لا خلاف أن الهدى ما هدى من النعم إلى بيت الله ، وقصد به القربة ، فأمر تعالى ى أن لا يستحل ، ولا يغار عليه انتهى . والخلاف عن المفسرين فيه موجود . قيل : هو اسم لما يهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة أو صدقة ، وغيرها من الذبائح والصدقات . وقيل : هو ما قصد به وجه الله ومنه في الحديث : ثم ( كالمهدي دجاجة ، ثم كالمهدي بيضة ) فسمى هذه هدياً . وقيل : الشعائر البدن من الأنعام ، والهدى البقر والغنم والثياب وكل ما أهدي . وقيل : الشعائر ما كان مشعراً بإسالة الدم من سنامه أو بغيره من العلائم ، والهدي ما لم يشعر اكتفى فيه بالتقليد . وقال من فسر الشعائر بالمناسك ، ذكر الهدى

" صفحة رقم 435 "
تنبيهاً على تفصيلها .
( وَلاَ الْقَلَائِدَ ( قال مجاهد ، وعطاء ، ومطرف بن الشخير : القلائد هي ما كانوا يتقلّدون به من شجر الحرم ليأمنوا به ، فنُهي المؤمنون عن فعل الجاهلية ، وعن أخذ القلائد من شجر الحرم . وفي الحديث : ( لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ) . وقال الجمهور : القلائد ما كانوا يتقلدونه من السمر إذا خرجوا إلى الحج ، فيكون ذلك علامة حجة . وقيل : أو ما يقلده الحرمي إذا خرج لحاجة ، ليدل ذلك على أنه حرمي ، فنهى تعالى عن استحلال من يحرم بشيء من هذه . وحكى الطبري عن ابن عباس : أنّ القلائد هي الهدى المقلد ، وأنه إنما سمي هدياً ما لم يقلد ، فكأنه قال : ولا الهدى الذي لم يقلد ولا المقلد منه . قال ابن عطية : وهذا تحامل على ألفاظ ابن عباس ، وليس من كلامه أن الهدى ، إنما يقال : لما لم يقلد . وإنما يقتضي أنه تعالى نهى عن الهدى جملة ، ثم ذكر المقلد منه تأكيداً ومبالغة في التنبيه على الحرمة في المقلد . وقيل : أراد القلائد نفسها فنهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهي عن التعرض للهدى ، أي : لا تحلوا قلائدها فضلاً عن أن تحلوها كما قال تعالى : ) وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ( نهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها . وقال الطبري : تأويله أنه نهى عن استحلال حرمة المقلد هدياً كان أو إنساناً ، واجتزأ بذكر القلائد عن ذكر المقلد إذ كان مفهوماً عند المخاطب .
( وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ ( وقرأ عبد الله وأصحابه : ولا آمي بحذف النون للإضافة إلى البيت ، أي ولا تحلوا قوماً قاصدين المسجد الحرام ، وهم الحجاج والعمار . قال الزمخشري : وإحلال هذه أي : يتهاون بحرمة الشعائر ، وأن يحال بينها وبين المتنسكين وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدون به الناس عن الحج ، وأن يتعرّض للهدى بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله .
( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ وَرِضْواناً ( قرأ الجمهور يبتغون بالياء ، فيكون صفة لآمين . وفسر الزمخشري الفضل بالثواب ، وهو قول بعضهم . وقيل : الفضل التجارة والأرباح فيها . وقيل : الزيادة في الأموال والأولاد يبتغون رجاء الزيادة في هذا . وأما الرضوان فإنهم كانوا يقصدونه وإن كانوا لا ينالونه ، وابتغاء الشيء لا يدل على حصوله . وقيل : هو توزيع على المشركين ، فمنهم من كان يبتغي التجارة إذ لا يعتقد معاداً ، ومنهم من يبتغي الراضون بالحج إذ كان منهم من يعتقد الجزاء بعد الموت وأنه يبعث ، وإن كان لا يحصل له رضوان الله ، فأخبر بذلك على بناء ظنه . وقيل : كان المسلمون والمشركون يحجون ، فابتغاء الفضل منهما ، وابتغاء الرضوان من المؤمنين . وقال قتادة : هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ، ولا يعجِّل لهم العقوبة فيها . وقال قوم : الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله تعالى وفضله بالرحمة . نهى تعالى أن يتعرض لقوم هذه صفتهم تعظيماً لهم واستنكاراً أن يتعرض لمثلهم . وفي النهي عن التعرض لهم استئلاف للعرب ولطف بهم وتنشيط لورود الموسم ، وفي الموسم يسمعون القرآن ، وتقوم عليهم الحجة ، ويرجى دخولهم في الإيمان كالذي كان .
ونزلت هذه الآية عام الفتح ، فكل ما كان فيها في حق مسلم حاج فهو محكم ، أو في حق كافر فهو منسوخ ، نسخ ذلك بعد عام سنة تسع ، إذ حج أبو بكر ونودي في الناس بسورة براءة . وقول الحسن وأبي ميسرة : ليس فيها منسوخ ، قول مرجوح . وقرأ حميد بن قيس والأعرج : تبتغون بالتاء خطاباً للمؤمنين ، والمعنى على الخطاب أنّ المؤمنين كانوا يقصدون قتالهم والغارة عليهم ، وصدهم عن المسجد الحرام امتثالاً لأمر الله وابتغاء مرضاته ، إذ أمر تعالى بقتال المشركين ، وقتلهم وسبي ذراريهم ، وأخذ أموالهم ، حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية . وقرأ الأعمش : ورضواناً بضم الراء ، وتقدم في آل عمران أنها قراءة أبي بكر عن عاصم ، حيث وقع إلا في ثاني هذه السورة ، فعنه فيه خلاف .
( وَإِذَا حَلَلْتُم

" صفحة رقم 436 "
ْ فَاصْطَادُواْ ( تضمن آخر قوله : أحلت لكم تحريم الصيد حالة الإحرام ، وآخر قوله : لا تحلوا شعائر الله ، النهي عن إحلال آمي البيت ، فجاءت هذه الجملة راجعاً حكمها إلى الجملة الأولى ، وجاء ما بعدها من قوله : ) وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ( راجعاً إلى الجملة الثانية ، وهذا من بليغ الفصاحة . فليست هذه الجملة اعتراضاً بين قوله : ولا آمين البيت الحرام ، وقوله : ولا يجرمنكم ، بل هي مؤسسة حكماً لا مؤكدة مسددة فتكون اعتراضاً ، بل أفادت حل الاصطياد في حال الإحرام . ولا تقديم ولا تأخير هنا ، فيكون أصل التركيب : ولا آمين البيت الحرام بيتغون فضلاً من ربهم ورضواناً ولا يجرمنكم ، كما ذهب إليه بعضهم وجعل من ذلك قصة ذبح البقرة ، فقال : وجه النظر أن يقال : ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( الآية ثم يقال : ) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ( وكثيراً ما ذكر هذا الرجل التقديم والتأخير في القرآن ، والعجب منه أنه يجعله من علم البيان والبديع ، وهذا لا يجوز عندنا إلا في ضرورة الشعر ، وهو من أقبح الضرائر ، فينبغي بل يجب أن ينزه القرآن عنه .
قال : والسبب في هذا أن الصحابة لما جمعوا القرآن لم يرتبوه على حكم نزوله ، وإنما رتبوه على تقارب المعاني وتناسق الألفاظ ، وهذا الذي قاله ليس بصحيح ، بل الذي نعتقد أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو الذي رتبه لا الصحابة ، وكذلك نقول في سورة وإن خالف في ذلك بعضهم . والأمر بالاصطياد هنا أمر إباحة بالإجماع ، ولهذا قال الزمخشري : وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا انتهى . ولما كان الاصطياد مباحاً ، وإنما منع منه الإحرام ، وإذا زال المانع عاد إلى أصله من الإباحة . وتكلموا هنا على صيغة الأمر إذا جاءت بعد الحظر ، وعليها إذا جاءت مجردة عن القرائن ، وعلى ما تحمل عليه ، وعلى واقع استعمالها ، وذلك من علم أصول الفقه فيبحث عن ذلك فيه .
وقرىء : وإذا أهللتم بل هو كذلك انظر المخشري وهي لغة يقال : حل من إحرامه وأحل . وقرأ أبو واقد ، والجراح ، ونبيح ، والحسن بن عمران : فاصطادوا بكسر الفاء . قال الزمخشري : قيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء . وقال ابن عطية : وهي قراءة مشكلة ، ومن توجيهها أن يكون راعي كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت : اصطادوا بكسر الفاء مراعاة وتذكرة لأصل ألف الوصل انتهى . وليس عندي كسراً محضاً بل هو من باب الإمالة المحضة لتوهم وجود كسرة همزة الوصل ، كما أمالوا الفاء في ، فإذا لوجود كسرة إذا .
( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ( قال ابن عباس وقتادة : ولا يجرمنكم أي لا يحملنكم ، يقال : جرمني كذا على بغضك . فيكون أنْ تعتدوا أصله على أن تعتدوا ، وحذف منه الجار . وقال قوم : معناها كسب التي تتعدى إلى اثنين ، فيكون أن تعتدوا في موضع المفعول الثاني أي : اعتداؤكم عليكم . وتتعدى أيضاً إلى واحد تقول : أجرم بمعنى كسب المتعدّية لاثنين ، يقال في معناها : جرم وأجرم . وقال أبو علي : أجرم أعرفه الكسب في الخطايا والذنوب . وقرأ الحسن ، وابراهيم . وابن وثاب ، والوليد عن يعقوب : يجرمنكم بسكون النون ، جعلوا نون التوكيد خفيفة .
قال الزمخشري : والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم ، لأنّ صدوكم الاعتداء ، ولا يحملنكم عليه انتهى . وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، لأنه يمتنع أن يكون مدلول حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما ، فيمتنع أن يكون : أن تعتدوا في محل مفعول به ، ومحل مفعول على إسقاط حرف الجر .
وقرأ النحويان وابن كثير ، وحمزة ، وحفص ، ونافع : شنآن بفتح النون . وقرأ ابن عامر وأبو بكر بسكونها ، ورويت عن نافع . والأظهر في الفتح أن يكون مصدراً ، وقد كثر مجيء المصدر على فعلان ، وجوزوا أن يكون وصفاً وفعلان في الأوصاف موجود نحو قولهم : حمار قطوان أي : عسير السير ، وتيس عدوان

" صفحة رقم 437 "
كثير العدو ، وليس في الكثرة كالمصدر . قالوا : فعلى هذا يكون المعنى لا يجرمنكم بغض قوم . ويعنون ببغيض مبغض اسم فاعل ، لأنه من شنيء بمعنى البغض . وهو متعد وليس مضافاً للمفعول ولا لفاعل بخلافه إذا كان مصدراً ، فإنه يحتمل أن يكون مضافاً للمفعول وهو الأظهر . ويحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي : بغض قوم إياكم ، والأظهر في السكون أن يكون وصفاً ، فقد حكى رجل شنآن وامرأة شنآنة ، وقياس هذا أنه من فعل متعد . وحكى أيضاً شنآن وشنأى مثل عطشان وعطشى ، وقياسه أنه من فعلا لازم . وقد يشتق من لفظ واحد المتعدي واللازم نحو : فغر فاه ، وغرَّفوه بمعنى فتح وانفتح . وجوز أن يكون مصدراً وقد حكى في مصادر شنيء ، ومجيء المصدر على فعلان بفتح الفاء وسكون العين قليل ، قالوا : لويته دينه لياناً . وقال الأحوص : وما الحب إلا ما تحب وتشتهي
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
أصله الشنآن ، فحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها . والوصف في فعلان أكثر من المصدر نحو رحمان . وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير : إنْ صدوكم بكسر الهمزة على أنها شرطية ، ويؤيد قراءة ابن مسعود : إنْ صدوكم وأنكر ابن جرير والنحاس وغيرهما قراءة كسران ، وقالوا : إنما صد المشركون الرسول والمؤمنون عام الحديبية ، والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، والحديبية سنة ست ، فالصد قبل نزول الآية ، والكسر يقتضي أن يكون بعد ، ولأنّ مكة كانت عام الفتح في أيدي المسلمين ، فكيف يصدون عنها وهي في أيديهم ؟ وهذا الإنكار منهم لهذه القراءة صعب جداً ، فإنها قراءة متواترة ، إذ هي في السبعة ، والمعنى معها صحيح ، والتقدير : إن وقع صدّ في المستقبل مثل ذلك الصد الذي كان زمن الحديبية ، وهذا النهي تشريع في المستقبل . وليس نزول هذه الآية عام الفتح مجمعاً عليه ، بل ذكر اليزيدي أنها نزلت قبل أن يصدّوهم ، فعلى هذا القول يكون الشرط واضحاً . وقرأ باقي السبعة : أن بفتح الهمزة جعلوه تعليلاً للشنآن ، وهي قراءة واضحة أي : شنآن قوم من أجل أنْ صدوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام . والاعتداء الانتقام منهم بإلحاق المكروه بهم .
( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى ( لما نهى عن الاعتداء بأمر بالمساعدة والتظافر على الخير ، إذ لا يلزم من النهي عن الاعتداء التعاون على الخير ، لأنّ بينهما واسطة وهو الخلو عن الاعتداء والتعاون . وشرح الزمخشري البر والتقوى بالعفو والإغضاء ، قال : ويجوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى ، فيتناول العفو انتهى . وقال قوم : هما بمعنى واحد ، وكرر لاختلاف اللفظ تأكيداً . قال ابن عطية : وهذا تسامح ، والعرف في دلالة هذين اللفظين يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب . فإن جعل أحدهما بدل الآخر فتجوّز انتهى . وقال ابن عباس : البر ما ائتمرت به ، والتقوى ما نهيت عنه . وقال سهل : البر الإيمان ، والتقوى السنة . يعني : اتباع السنة .
( وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ( الإثم : المعاصي ، والعدوان : التعدي في حدود الله قاله عطاء . وقيل : الإثم الكفر ، والعصيان والعدوان البدعة . وقيل : الإثم الحكم اللاحق للجرائم ، والعدوان ظلم الناس قاله : ابن عطية . وقال الزمخشري : الإثم والعدوان الانتقام والتشفي قال : ويجوز أن يراد العموم لكل إثم وعدوان .
( وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ ( أمر بالتقوى مطلقة ، وإن كان قد أمر بها في التعاون تأكيداً لأمرها ، ثم علل ذلك بأنه شديد العقاب . فيجب أن يتقى وشدّة عقابه بكونه لا يطيقه أحد ولاستمراره ، فإن غالب الدنيا منقض . وقال مجاهد :

" صفحة رقم 438 "
نزلت نهياً عن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك ، ولقد قيل : ذلك حليف لأبي سفيان من هذيل .
المائدة : ( 3 ) حرمت عليكم الميتة . . . . .
( حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ( تقدم مثل هذه الجملة في البقرة . وقال هنا ابن عطية : ولحم الخنزير مقتض لشحمه بإجماع انتهى . وليس كذلك ، فقد خالف فيه داود وغيره ، وتكلمنا على ذلك في البقرة ، وتأخر هنا به وتقدم هناك تفنناً في الكلام واتساعاً ، ولكون الجلالة وقعت هناك فصلاً أولاً كالفصل ، وهنا جاءت معطوفات بعدها ، فليست فصلاً ولا كالفصل ، وما جاء كذلك يقتضي في أكثر المواضع المد .
( وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ( تقدم شرح هذه الألفاظ في المفردات . قال ابن عباس وقتادة : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها ، فإذا ماتت أكلوها . وقال أبو عبد الله : ليس الموقوذة إلا في ملك ، وليس في صيد وقيذ . وقال مالك وغيره من الفقهاء في : الصيد ما حكمه حكم الوقيذ ، وهو نص في قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في المعراض : ( وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ ) . وقال ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك : النطيحة الشاة تنطحها أخرى فيموتان ، أو الشاة تنطحها البقر والغنم . وقال قوم : النطيحة المناطحة ، لأن الشاتين قد يتناطحان فيموتان . قال ابن عطية : كل ما مات ضغطاً فهو نطيح . وقرأ عبد الله وأبو ميسرة : والمنطوحة والمعنى في قوله وما أكل السبع : ما افترسه فأكل منه . ولا يحمل على ظاهره ، لأن ما فرض أنه أكله السبع لا وجود له فيحرم أكله ، ولذلك قال الزمخشري : وما أكل السبع بعضه ، وهذه كلها كان أهل الجاهلية يأكلونها . وقرأ الحسن والفياض ، وطلحة بن سلمان ، وأبو حيوة : السبع بسكون الباء ، ورويت عن أبي بكر عن عاصم في غير المشهور ، ورويت عن أبي عمرو . وقرأ عبد الله : وأكيلة السبع . وقرأ ابن عباس : وأكيل السبع وهما بمعنى مأكول السبع ، وذكر هذه المحرمات هو تفصيل لما أجمل في عموم قوله : ) إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( وبهذا صار المستثنى منه والمستثنى معلومين .
( إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ( قال علي ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابراهيم ، وطاووس ، وعبيد بن عمير ، والضحاك ، وابن زيد ، والجمهور : هو راجع إلى المذكورات أي من قوله : والمنخنقة إلى وما أكل السبع . فما أدرك منها بطرف بعض ، أو بضرب برجل ، أو يحرك ذنباً . وبالجملة ما تيقنت فيه حياة ذكي وأكل . وقال بهذا مالك في قول ، والمشهور عنه وعن أصحابه المدنيين : أنّ الذكاة في هذه المذكورات هي ما لم ينفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ، ومتى صارت إلى ذلك كانت في حكم الميتة . وعلى هذين القولين فالاستثناء متصل ، لكنه خلاف في الحال التي يؤثر فيها الذكاة في المذكورات . وكان الزمخشري مال إلى مشهور قول مالك فإنه قال : لا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب وداجه . وقيل : الاستثناء متصل عائد إلى أقرب مذكور وهو ما أكل السبع ومختص به ، والمعنى : إلا ما أدركتم فيه حياة مما أكل السبع فذكيتموه ، فإنه حلال . وقيل : هو استثناء منقطع والتقدير : لكنْ ما ذكيتم من غير هذه فكلوه . وكان هذا القائل رأى أنّ هذه الأوصاف وجدت فيما مات بشيء منها ، إما بالخنق ، وإما بالوقذ ، أو التردي ، أو النطح ، أو افتراس السبع ، ووصلت

" صفحة رقم 439 "
إلى حد لا تعيش فيه بسب بوصف من هذه الأوصاف على مذهب من اعتبر ذلك ، فلذلك كان الاستثناء منقطعاً . والظاهر أنه استثناء متصل ، وإنما نص على هذه الخمسة وإن كان في حكم الميتة ، ولم يكتف بذكر الميتة لأن العرب كانت تعتقد أنّ هذه الحوادث على المأكول كالذكاة ، وأن الميتة ما ماتت بوجع دون سبب يعرف من هذه الأسباب . وظاهر قوله : إلا ما ذكيتم ، يقتضي أنّ ما لا يدرك لا يجوز أكله كالجنين إذا خرج من بطن أمه المذبوحة ميتاً ، إذا كان استثناء منقطعاً فيندرج في عموم الميتة ، وهذا مذهب أبي حنيفة . وذهب الجمهور إلى جواز أكله . والحديث الذي استنبطوا منه الجواز حجة لأبي حنيفة لا لهم . وهو ) بِوالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ( المعنى على التشبيه أي ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه كما ذكاتها الذبح فكذلك ذكاته الذبح ولو كان كما زعموا لكان التركيب ذكاة أم الجنين ذكاته .
( وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ( قال مجاهد وقتادة وغيرهما : هي حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها . قال ابن عباس : ويحلون عليها . قال ابن جريج : وليست بأصنام ، الصنم مصور ، وكانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة ، فلما جاء الإسلام قال المسلمون : نحن أحق أنْ نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فكره ذلك الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فنزلت . وما ذبح على النصب ونزل أن ينال الله لحومها ولا دماؤها انتهى . وكانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ، ويحلون عليها أنصاب مكة ، ومنها الحجر المسمى بسعد . قال ابن زيد : ما ذبح على النصب ، وما أهل به لغير الله شيء واحد . وقال ابن عطية : ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله ، لكنْ خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له . وقد يقال للصنم أيضاً : نصب ، لأنه ينصب انتهى . وقرأ الجمهور : النُصُب بضمتين . وقرأ طلحة بن مصرف : بضم النون ، وإسكان الصاد . وقرأ عيسى بن عمر : يفتحتين ، وروي عنه كالجمهور . وقرأ الحسن : بفتح النون ، وإسكان الصاد .
( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاْزْلاَمِ ( هذا معطوف على ما قبله أي : وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وهو طلب معرفة القسم ، وهو النصيب أو القسم ، وهو المصدر . قال ابن جريج : معناه أن تطلبوا على ما قسم لكم بالأزلام ، أو ما لم يقسم لكم انتهى . وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها . وروي عنه أيضاً : أنها سهام العرب ، وكعاب فارس ، وقال سفيان ووكيع : هي الشطرنج . وقيل : الأزلام حصى كانوا يضربون بها ، وهي التي أشار إليها الشاعر بقوله : لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وروي هذا عن ابن جبير قالوا : وأزلام العرب ثلاثة أنواع : أحدها : الثلاثة التي يتخذها كل إنسان لنفسه في أحدها افعل وفي الآخر لا تفعل والثالث غفل فيجعلها في خريطة ، فإذا أراد فعل شيء دخل يده في الخريطة منسابة ، وائتمر بما خرج له من الآمر أو الناهي . وإن خرج الغفل أعاد الضرب . والثاني : سبعة قداح كانت عندها في جوف الكعبة ، في أحدها العقل في أمر الديات من يحمله منهم فيضرب بالسبعة ، فمن خرج عليه قدح العقل لزمه العقل ، وفي آخر تصح ، وفي آخر لا ، فإذا أرادوا أمراً ضرب فيتبع ما يخرج ، وفي آخر منكم ، وفي

" صفحة رقم 440 "
آخر من غيركم ، وفي آخر ملصق ، فإذا اختلفوا في إنسان أهو منهم أمْ من غيرهم ضربوا فاتبعوا ما خرج ، وفي سائرها لأحكام المياه إذا أرادوا أن يحفروا لطلب المياه ضربوا بالقداح ، وفيها ذلك القداح ، فحيث ما خرج عملوا به . وهذه السبعة أيضاً متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على ما كانت في الكعبة عند هبل . والثالث : قداح الميسر وهي عشرة ، وتقدم شرح الميسر في سورة البقرة .
( ذالِكُمْ فِسْقٌ ( الظاهر أنّ الإشارة إلى الاستقسام خاصة ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال الزمخشري : إشارة إلى الاستقسام ، وإلى تناول ما حرم عليهم ، لأن المعنى : حرم عليهم تناول الميتة وكذا وكذا . ( فإن قلت ) : لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام ليعرف الحال فسقاً ؟ ( قلت ) : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب ، وقال : ) لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ( واعتقاد أن إليه طريقاً وإلى استنباطه . وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي افتراء على الله تعالى ، وما يبديه أنه أمره أو نهاه الكهنة والمنجمون بهذه المثابة ، وإن كان أراد بالرب الصنم . فقد روي أنهم كانوا يحلون بها عند أصنامهم ، وأمره ظاهر انتهى . قال الزمخشري في اسم الإشارة رواه عن ابن عباس عليّ بن أبي طلحة ، وهو قول ابن جبير . قال الطبري : ونهى الله عن هذه الأمور التي يتعاطاها الكهان والمنجمون ، لما يتعلق بها من الكلام في المغيبات . وقال غيره : العلة في تحريم الاستقسام بالأزلام كونها يؤكل بها المال بالباطل ، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاماً أو ينكحوا أو يدفنوا ميتاً أو شكوا في نسب ، ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور ، فالمائة للضارب بالقداح ، والجزور ينحر ويؤكل ، ويسمون صاحبهم ويقولون لهبل : يا إلهنا هذا فلان أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه ، ويضرب صاحب القداح فما خرج عمل به ، فإن خرج لا أخروه عامهم حتى يأتوا به مرة أخرى ، ينتهون في كل أمورهم إلى ما خرجت به القداح .
( الْيَوْمَ بِئْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ( الألف واللام فيه للعهد وهو يوم عرفة قاله : مجاهد ، وابن زيد . وهو يوم نزولها بعد العصر في حجة الوداع يوم الجمعة ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الموقف على ناقته ، وليس في الموقف مشرك . وقيل : اليوم الذي دخل فيه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع . وقيل : سنة ثمان ، ونادى مناديه بالأمان لمن لفظ بشهادة الإسلام ، ولمن وضع السلاح ، ولمن أغلق بابه . وقال الزجاح : لم يرد يوماً بعين ، وإنما المعنى : الآن يئسوا ، كما تقول : أنا اليوم قد كبرت انتهى . واتبع الزمخشري الزجاج فقال : اليوم لم يرد به يوماً بعينه ، وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية ، كقولك : كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم أشيب ، فلا يريد بالأمس الذي قبل يومك ، ولا باليوم يومك . ونحوه الآن في قوله : الآن لما ابيض مسربتي
وعضضت من نابي على جدم
انتهى .
والذين كفروا : مشركو العرب . قال ابن عباس ، والسدي ، وعطاء : أيسوا من أن ترجعوا إلى دينهم . وقال ابن عطية : ظهور أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه ، وظهور دينه ، يقتضي أن يئس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان ، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه ، لأنّ هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار . ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون فظنها هزيمة . ألا بطل السحر اليوم . وقال

" صفحة رقم 441 "
الزمخشري : يئسوا منه أن يبطلوه وأن يرجعوا محللين لهذه الخبائث بعدما حرمت عليكم . وقيل : يئسوا من دينكم أن يغلبوه لأنّ الله وفى بوعده من إظهاره على الدين كله انتهى . وقرأ أبو جعفر : ييس من غير همز ، ورويت عن أبي عمرو .
( فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ( قال ابن جبير : فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم . وقال ابن السائب : فلا تخشوهم أن يظهروا على دينكم . وقيل : فلا تخشوا عاقبتهم . والظاهر أنه نهى عن خشيتهم إياهم ، وأنهم لا يخشون إلا الله تعالى .
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ( يحتمل اليوم المعاني التي قيلت في قوله : اليوم يئس . قال الجمهور : وإكماله هو إظهاره ، واستيعاب عظم فرائضه ، وتحليله وتحريمه . قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآيات الربا ، وآية الكلالة ، وغير ذلك ، وإنما كمل معظم الدين ، وأمر الحج ، إنْ حجوا وليس معهم مشرك . وخطب الزمخشري في هذا المعنى فقال : كفيتكم أمر عدوكم ، وجعلت اليد العليا لكم ، كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد إذا كفوا من ينازعهم الملك ، ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم . أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه من تعليم الحلال والحرام ، والتوقيف على الشرائع ، وقوانين القياس ، وأصول الاجتهاد انتهى . وهذا القول الثاني هو : قول ابن عباس والسدي قالا : كمال فرائضه وحدوده ، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم ، فعلى هذا يكون المعنى : أكملت لكم شرائع دينكم . وقال قتادة وابن جبير : كما له أن ينفي المشركين عن البيت ، فلم يحج مشرك . وقال الشعبي : كمال الدين هو عزه وظهوره ، وذل الشرك ودروسه ، لا تكامل الفرائض والسنن ، لأنها لم تزل تنزل إلى أن قبض . وقيل : كما له إلا من من نسخه بعده كما نسخ به ما تقدّم . وقال القفال : الدين ما كان ناقصاً البتة ، بل كانت الشرائع تنزل في كل وقت كافية في ذلك الوقت ، إلا أنه تعالى كان عالماً في أول المبعث بأنّ ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ، وكان ينسخ بعد الثبوت ويزيد بعد العدم ، وأما في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة ، وأحكم ثباتها إلى يوم القيامة . وروي أن هذه الآية لما نزلت يوم الحج الأكبر ، وقرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بكى عمر بن الخطاب فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما يبكيك ؟ ) فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( صدقتَ ) .
( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ( أي في ظهور الإسلام ، وكمال الدين ، وسعة الأحوال ، وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية ، إلى دخول الجنة ، والخلود ، وحسَّن العبارة الزمخشري فقال : بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ، وإن لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان انتهى . فكلامه مجموع أقوال المتقدّمين . قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة : إتمام النعمة منع المشركين من الحج . وقال السدي : هو الإظهار على العدو . وقال ابن زيد : بالهداية إلى الإسلام . وقال الزمخشري : وأتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال : وأتممت عليكم نعمتي بذلك ، لأنه لا نعمة من نعمة الإسلام .
( وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً ( يعني : اخترته لكم من بين الأديان ، وأذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) ( إن هذه أمتكم أمة واحدة ) قاله الزمخشري . وقال ابن عطية الرضافي : هذا الموضع يحتمل أن يكون بمعنى الإرادة ، ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه ، لأنّ الرضا من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال ، والله تعالى قد رضي الإسلام وأراده لنا ، وثم أشياء يريد الله وقوعها ولا برضاها . والإسلام هنا هو الدين في قوله : ) إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( انتهى وكلامه يدل على أنّ الرضا إذا كان من صفات الذات فهو صفة تغاير الإرادة . وقيل : المعنى أعلمتكم برضائي به

" صفحة رقم 442 "
لكم ديناً ، فإنه تعالى لم يزل راضياً بالإسلام لنا ديناً ، فلا يكون الاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إنْ حمل على ظاهره . وقيل : رضيت عنكم إذا تعبدتم لي بالدين الذي شرعته لكم . وقيل : رضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم ديناً كاملاً إلى آخر الأبد لا ينسخ منه شيء .
( فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( هذا متصل بذكر المحرمات وذلكم فسق أكده به وبما بعده يعني التحريم ، لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعم التامة ، والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملك . وتقدّم تفسير مثل هذه الجملة . وقراءة ابن محيصن : فمن اطرّ بإدغام الضاد في الطاء . ومعنى متجانف : منحرف ومائل . وقرأ الجمهور : متجانف بالألف . وقرأ أبو عبد الرحمن ، والنخعي وابن وثاب : متجنف دون ألف . قال ابن عطية وهو أبلغ في المعنى من متجانف ، وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه . ألا ترى أنك إذا قلت : تمايل الغصن ، فإنّ ذلك يقتضي تاوّداً ومقاربة ميل ، وإذا قلت ؛ تميل ، فقد ثبت الميل . وكذلك تصاون الرجل وتصوّن وتغافل وتغفل انتهى . والإثم هنا قيل : أنْ يأكل فوق الشبع . وقيل : العصيان بالسفر . وقيل : الإثم هنا الحرام ، ومن ذلك قول عمر : ما تجأنفنا فيه لإثم ، ولا تعهدنا ونحن نعلمه . أي : ما ملنا فيه لحرام .
2 ( ) يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِىأَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاٌّ خِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىأَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ) ) 2
المائدة : ( 4 ) يسألونك ماذا أحل . . . . .
الجوارح : الكواسب من سباع البهائم والطير ، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين . وسميت

" صفحة رقم 443 "
بذلك لأنها تجرح ما تصيد غالباً ، أو لأنها تكتسب ، يقال امرأة : لا جارح لها ، أي لا كاسب . ومنه : ) وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ( أي ما كسبتم . ويقال : جرح واجترح بمعنى اكتسب .
المكلب بالتشديد : معلم الكلاب ومضرّيها على الصيد ، وبالتخفيف صاحب كلاب . وقال الزجاج : رجل مكلب ومكلب وكلاب صاحب كلاب .
الغسل في اللغة : إيصال الماء إلى المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد ونحوها قاله بعضهم ، وقال آخرون : هو إمرار الماء على الموضع ، ومن ذلك قول بعض العرب :
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها
المرفق : المفصل بين المعصم والعضد ، وفتح الميم وكسر الراء أشهر . الرجل : معروفة ، وجمعت على أفعل في القلة والكثرة . والكعب : هو العظم الناتىء في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل . الحرج : الضيق ، والحرج الناقة الضامر ، والحرج النعش .
( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ( سبب نزولها فيما قال : عكرمة ومحمد بن كعب ، سؤال عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة . ماذا يحل لنا من هذه الكلاب ؟ وكان إذ ذاك أمر الرسول بقتلها فقتلت حتى بلغت العواصم لقول جبريل عليه السلام : ( إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ) وفي صحيح أبي عبد الله الحاكم بسنده إلى أبي رافع .
قال : ( أمرني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بقتل الكلاب ) ، فقال الناس : يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فأنزل الله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم الآيات . وقال ابن جبير : نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل قالا : يا رسول الله ، إنا نصيد بالكلاب والبزاة ، وإن كلاب آل درع وآل أبي حورية لتأخذ البقر والحمر والظباء والضب ، فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه ما يقتل فلا ندرك ذكاته ، وقد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت . وعلى اعتبار السبب يكون الجواب أكثر مما وقع السؤال عنه ، لأنهم سألوا عن شيء خاص من المطعم ، فأجيبوا بما سألوا عنه ، وبشيء عام في المطعم .
ويحتمل أن يكون ماذا كلها استفهاماً ، والجملة خبر . ويحتمل أن يكون ما استفهاماً ، وذا خبراً . أي : ما الذي أحل لهم ؟ والجملة إذ ذاك صلة . والظاهر أنّ المعنى : ماذا أحل لهم من المطاعم ، لأنه لما ذكر ما حرم من الميتة وما عطف عليه من الخبائث ، سألوا عما يحل لهم ؟ ولما كان يسألونك الفاعل فيه ضمير غائب قال لهم بضمير الغائب . ويجوز في الكلام ماذا أحل لنا ، كما تقول : أقسم زيد ليضربن ولأضربن ، وضمير التكلم يقتضي حكاية ما قالوا كما لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم

" صفحة رقم 444 "
عليها . وقال الزمخشري : في السؤال معنى القول ، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم ، كأنه قيل : يقولون : ماذا أحل لهم انتهى . ولا يحتاج إلى ما ذكر ، لأنه من باب التعليق كقوله : سلهم أيهم بذلك زعيم ، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك . ونصّوا على أنّ فعل السؤال يعلق ، وإن لم يكن من أفعال القلوب ، لأنه سبب للعلم ، فكما تعلق العلم فكذلك سببه . وقال أبو عبد الله الرازي : لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا : ماذا أحل لهم ومعلوم أن ذلك باطل ، لأنهم لا يقولون ذلك ، وإنما يقولون : ماذا أحل لنا . بل الصحيح : أنّ هذا ليس حكاية كلامهم بعبارتهم ، بل هو بيان كيفية الواقعة انتهى .
( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ( لما كانت العرب تحرم أشياء من الطيبات كالبحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، بغير إذن من الله تعالى ، قرر هنا أنّ الذي أحل هي الطيبات . ويقوي قول الشافعي : أن المعنى المستلذات ، ويضعف أن المعنى : قل أحل لكم المحللات ، ويدل عليه قوله : ) وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( كالخنافس والوزع وغيرهما . والطيب في لسان العرب يستعمل للحلال وللمستلذ ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة . والمعتبر في الاستلذاذ والاستطابة أهل المروءة والأخلاق الجميلة ، كان بعض الناس يستطيب أكل جميع الحيوانات . وهذه الجملة جاءت فعلية ، فهي جواب لما سألوا عنه في المعنى لا على اللفظ ، لأن الجملة السابقة وهي : ماذا أحل لهم اسمية ، وهذه فعلية .
( وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ ( ظاهر علمتم يخالف ظاهر استئناف مكلبين ، فغلّب الضحاك والسدي وابن جبير وعطاء ظاهر لفظ مكلبين فقالوا : الجوارح هي الكلاب خاصة . وكان ابن عمر يقول : إنما يصطاد بالكلاب . وقال هو وأبو جعفر : ما صيد بغيرها من باز وصقر ونحوهما فلا يحل ، إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه . وجوز قوم البزاة ، فجوزا صيدها لحديث عدي بن حاتم . وغلب الجمهور ظاهر : وما علتمتم ، وقالوا : معنى مكلبين مؤدبين ومضرين ومعودين ، وعمموا الجوارح في كواسر البهائم والطير مما يقبل التعليم . وأقصى غاية التعليم أنْ يشلي فيستشلي ، ويدعى فيجيب ، ويزجر بعد الظفر فينزجر ، ويمتنع من أن يأكل من الصيد . وفائدة هذه الحال وإن كانت مؤكدة لقوله : علمتم ، فكان يستغنى عنها أن يكون المعلم مؤتمراً بالتعليم حاذقاً فيه موصوفاً به ، واشتقت هذه الحال من الكلب وإن كانت جاءت غاية في الجوارح على سبيل التغليب ، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب ، فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه .
قال أبو سليمان الدمشقي : وإنما قيل مكلبين ، لأن الغالب من صيدهم أن يكون بالكلاب انتهى . واشتقت من الكلب وهي الضراوة يقال : هو كلب بكذا إذا كان ضارياً به . قال الزمخشري : أو لأن السبع يسمى كلباً ، ومنه قوله عليه السلام : ( اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ) فأكله الأسد ، ولا يصح هذا الاشتقاق ، لأنّ كون الأسد كلباً هو وصف فيه ، والتكليب من صفة المعلم ، والجوارح هي سباع بنفسها لا بجعل المعلم . وظاهر قوله : وما علمتم ، أنه خطاب للمؤمنين . فلو كان المعلم يهودياً أو نصرانياً فكره الصيد به الحسن ، أو مجوسياً فكره الصيد به : جابر بن عبد الله ،

" صفحة رقم 445 "
والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، والنخعي ، والثوري ، وإسحاق . وأجاز أكل صيد كلابهم : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي إذا كان الصائد مسلماً . قالوا : وذلك مثل شفرته . والجمهور : على جواز ما صاد الكتابي . وقال مالك : لا يجوز فرق بين صيده وذبيحته . وما صاد المجوسي فالجمهور على منع أكله : عطاء ، وابن جبير ، والنخعي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والليث ، والشافعي . وقال أبو ثور : فيه قول أنهم أهل كتاب ، وأن صيدهم جائز ، وما علمتم موضع ما رفع على أنه معطوف على الطيبات ، ويكون حذف مضاف أي : وصيد ما علمتم ، وقدره بغضهم : واتخاذ ما علمتم . أو رفع على الابتداء ، وما شرطية ، والجواب : فكلوا . وهذا أجود ، لأنه لا إضمار فيه .
وقرأ ابن عباس وابن الحنفية : وما عُلمتم مبنياً للمفعول أي : من أمر الجوارح والصيد بها . وقرأ : مكلبين من أكلب ، وفعل وأفعل ، قد يشتركان . والظاهر دخول الكلب الأسود البهيم في عموم الجوارح ، وأنه يجوز أكل صيده ، وبه قال الجمهور . ومذهب أحمد وجماعة من أهل الظاهر : أنه لا يجوز أكل صيد ، لأنه مأمور بقتله ، وما أوجب الشرع قتله فلا يجوز أكل صيده . وقال أحمد : لا أعلم أحداً رخص فيه إذا كان بهيماً وبه قال : ابن راهويه . وكره الصيد به : الحسن ، وقتادة ، والنخعي . وقد تقدم ذكر أقصى غاية التعليم في الكلب ، أنه إذا أمر ائتمر ، وإذا زجر انزجر . وزاد قوم شرطاً آخر وهو أن لا يأكل مما صاد ، فأما سباع الطير فلا يشترط فيها الأكل عند الجمهور . وقال ربيعة : ما أجاب منها فهو المعلم . وقال ابن حبيب : لا يشترط فيها إلا شرط واحد : وهو أنه إذا أمرها أطاعت ، فإن انزجارها إذا زجرت لا يتأتى فيها . وظاهر قوله : وما علمتم ، حصول التعليم من غير اعتبار عدد . وكان أبو حنيفة لا يجد في ذلك عدداً . وقال أصحابنا : إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات فقد حصل له التعليم . وقال غيرهم : إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد صار معلماً .
( تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ( أي : إنّ تعليكم إياهنّ ليس من قبل أنفسكم ، إنما هو من العلم الذي علمكم الله ، وهو أن جعل لكم روية وفكراً بحيث قبلتم العلم . فكذلك الجوارح بصبر لها إدراك مّا وشعور ، بحيث يقبلن الائتمار والانزجار . وفي قوله : مما علمكم الله ، إشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه ، إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان . ومفعول علم وتعلمونهنّ الثاني محذوف تقديره : وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهنّ تعلمونهنّ ذلك ، وفي ذلك دلالة على أن صيد ما لم يعلم حرام أكله ، لأنّ الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم . والدليل على ذلك الخطاب في عليكم في قوله : فكلوا مما أمسكن عليكم ، وغير المعلم إنما يمسك لنفسه . ومعنى مما علمكم الله أي : من الأدب الذي أدّبكم به تعالى ، وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه ، فإذا أمر فائتمر ، وإذا زجر فانزجر ، فقد تعلم مما علمنا الله تعالى . وقال الزمخشري : مما علمكم الله من كلم التكليف ، لأنه إلهام من الله تعالى ومكتسب بالعقل انتهى . والجملة من قوله : تعلمونهن ، حال ثانية . ويجوز أن تكون مستأنفة على تقدير : أن لا تكون ما من قوله : وما علمتم من الجوارح ، شرطية ، إلا إن كانت اعتراضاً بين الشرط وجزائه . وخطب الزمخشري هنا فقال : وفيه فائدة جليلة وهي أنّ كل آخذ علماً أن لا يأخذه إلا من قبل أهله علماً وأبحرهم دراية ، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه ، واحتاج إلى أن تضرب إليه أكباد الإبل ، فكم من أخذ من غير متقن فقد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله .
( فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ( هذا أمر إباحة . ومِن هنا للتبعيض والمعنى : كلوا من الصيد الذي أمسكن عليكم . ومن ذهب إلى أن مِن زائدة فقوله ضعيف ، وظاهره أنه إذا أمسك على مرسله جاز الأكل سواء أكل الجارح منه ، أو لم يأكل ، وبه قال : سعد بن أبي وقاص ، وسلمان الفارسي ، وأبو هريرة ، وابن عمر . وهو قول مالك وجميع أصحابه . ولو بقيت بضعة بعد أكله جاز أكلها ومن حجتهم : أنّ قتله هي ذكاته ، فلا يحرم ما ذكى . وقال أبو هريرة أيضاً وابن جبير ، وعطاء ، وقتادة ، وعكرمة ، والشافعي ،

" صفحة رقم 446 "
وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : لا يؤكل ما بقي من أكل الكلب ولا غيره ، لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على مرسله . ولأنّ في حديث عديّ ( وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ) وعن عليّ : ( إذا أكل البازي فلا تأكل ) وفرق قوم ما أكل منه الكلب فمنعوا من أكله ، وبين ما أكل منه البازي ، فرخصوا في أكله منهم : ابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وأبو جعفر محمد بن عليّ الثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، لأنّ الكلب إذا ضرب انتهى ، والبازي لا يضرب . والظاهر أنّ الجارح إذا شرب من الدم أكل الصيد ، وكره ذلك سفيان الثوري . والظاهر أنه إذا انفلت من صاحبه فصاد من غير إرسال أنه لا يجوز أكل ما صاد . وقال عليّ ، والأوزاعي : إن كان أخرجه صاحبه للصيد جاز أكل ما صاد . وممن منع من أكله إذا صاد من غير إرسال صاحبه : ربيعة ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور . والظاهر جواز أكل ما قتله الكلب بفمه من غير جرح لعموم مما أمسكن . وقال بعضهم : لا يجوز لأنه ميت .
2 ( ) وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىأَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ) ) 2
) وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ( الظاهر عود الضمير في عليه إلى المصدر المفهوم من قوله : فكلوا ، أي على الأكل . وفي الحديث في صحيح مسلم ( سم الله وكل مما يليك ) وقيل : يعود على ما أمسكن ، على معنى : وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته ، وهذا فيه بعد . وقيل : على ما علمتم من الجوارح أي : سموا عليه عند إرساله لقوله : ( إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل ) واختلفوا في التسمية عند الإرسال : أهي على الوجوب ؟ أو على الندب ؟ والمستحب أن يكون لفظها بسم الله والله أكبر . وقول من زعم : إن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وإنّ الأصل : فاذكروا اسم الله عليه وكلوا مما أمسكن عليكم ، قول مرغوب عنه لضعفه .
( وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( لما تقدم ذكر ما حرَّم وأحلَّ من المطاعم أمر بالتقوى ، فإنّ التقوى بها يمسك الإنسان عن الحرام . وعلل الأمر بالتقوى بأنه تعالى سريع الحساب لمن خالف ما أمر به من تقواه ، فهو وعيد بيوم القيامة ، وأن حسابه تعالى إياكم سريع إتيانه ، إذ يوم القيامة قريب . أو يراد بالحساب المجازاة ، فتوعد مَن لم يتق بمجازاة سريعة قريبة ، أو لكونه تعالى محيطاً بكل شيء لا يحتاج في الحساب إلى مجادلة عدّ ، بل يحاسب الخلائق دفعة واحدة .
المائدة : ( 5 ) اليوم أحل لكم . . . . .
( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ( فائدة إعادة ذكر إحلال الطيبات التنبيه بإتمام النعمة فيما يتعلق بالدنيا ، ومنها إحلال الطيبات كما نبه بقوله : ) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ( على إتمام النعمة في كل ما يتعلق بالدين . ومن زعم أنّ اليوم واحد قال : كرره ثلاث مرات تأكيداً ، والظاهر أنها أوقات مختلفة . وقد قيل في الثلاثة : إنها أوقات أريد بها مجرد الوقت ، لا وقت معين . والظاهر أنّ الطيبات هنا هي الطيبات المذكورة قبل .
( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ( طعامهم هنا هي الذبائح كذا قال معظم أهل التفسير . قالوا : لأنّ ما كان من نوع البر والخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى ذكاة لا يختلف في حلها باختلاف حال أحد ، لأنها لا تحرم بوجه سواء كان المباشرة لها كتابياً ، أو مجوسياً ، أم غير ذلك . وأنها لا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة ، ولأن ما قبل هذا في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى . وذهب قوم إلى أنّ المراد بقوله : وطعام ، جميع مطاعمهم . ويعزي إلى قوم ومنهم بعض أئمة الزيدية حمل الطعام هنا على ما لا يحتاج فيه إلى الذكاة كالخبز والفاكهة ، وبه قالت الإمامية . قال الشريف المرتضى : نكاح الكتابية حرام ، وذبائحهم وطعامهم وطعام من يقطع بكفره . وإذا حملنا الطعام على ما قاله الجمهور من الذبائح فقد اختلفوا فيما هو حرام عليهم ، أيحل لنا أم يحرم ؟ فذهب الجمهور إلى أنّ تذكية الذمي مؤثرة في كل الذبيحة ما حرم عليهم منها وما حل ، فيجوز لنا أكله . وذهب قوم إلى أنه لا تعمل الذكاة فيما حرم عليهم ، فلا يحل لنا أكله كالشحوم المحضة ، وهذا هو الظاهر لقوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب ، وهذا المحرم عليهم ليس من طعامهم . وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك .
والظاهر حل طعامهم سواء سموا عليه اسم الله ، أم اسم غيره ، وبه قال : عطاء ، والقاسم بن بحصرة ، والشعبي ، وربيعة ، ومكحول ، والليث ، وذهب إلى أنّ الكتابي إذا لم يذكر اسم الله على

" صفحة رقم 447 "
الذبيحة وذكر غير الله لم تؤكل وبه قال : أبو الدرداء ، وعبادة بن الصامت ، وجماعة من الصحابة . وبه قال : أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، ومالك . وكره النخعي والثوري أكل ما ذبح وأهلّ به لغير الله . وظاهر قوله : ( أوتوا الكتاب ) أنه مختص ببني إسرائيل والنصارى الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، دون مَن دخل في دينهم من العرب أو العجم ، فلا تحل ذبائحهم لنا كنصارى بني تغلب وغيرهم . وقد نهى عن ذبائحهم عليّ رضي الله عنه ، وقال : لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر . وذهب الجمهور ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وابن المسيب ، والشعبي ، وعطاء ، وابن شهاب ، والحكم ، وقتادة ، وحماد ، ومالك ، وأبو حنيفة وأصحابه : أنه لا فرق بين بني إسرائيل والنصارى ومن تهوّد أو تنصر من العرب أو العجم في حل أكل ذبيحتهم . والظاهر أنّ ذبيحة المجوسي لا تحل لنا لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب . وما روي عن مالك أنه قال : هم أهل كتاب وبعث إليهم رسول يقال : رزادشت لا يصح . وقد أجاز قوم أكل ذبيحتهم مستدلين بقوله : ) وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ). وقال ابن المسيب : إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس . وقال أبو ثور : وإنْ أمر بذلك في الصحة فلا بأس . والظاهر أنّ ذبيحة الصابىء لا يجوز لنا أكلها ، لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب . وخالف أبو حنيفة فقال : حكمهم حكم أهل الكتاب . وقال صاحباه : هم صنفان ، صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ، وصنف لا يقرؤون كتاباً ويعبدون النجوم ، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب .
( وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ( أي : ذبائحكم وهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب . لما كان الأمر يقتضي أن شيئاً شرعت لنا فيه التذكية ، ينبغي لنا أن نحميه منهم ، فرخص لنا في ذلك رفعاً للمشقة بحسب التجاوز ، فلا علينا بأس أن نطعمهم ولو كان حراماً عليهم طعام المؤمنين ، لما ساغ للمؤمنين إطعامهم . وصار المعنى : أنه أحل لكم أكل طعامهم ، وأحل لكم أن تطعموهم من طعامكم ، والحل الحلال ويقال في الاتباع هذا حل بل .
( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ ( هذا معطوف على قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب . والمعنى : وأحل لكم نكاح المحصنات من المؤمنات .
( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ( والإحصان أن يكون بالإسلام وبالتزويج ، ويمتنعان هنا ، وبالحرية وبالعفة . فقال عمر بن الخطاب ، ومجاهد ، ومالك ، وجماعة : الإحصان هنا الحريّة ، فلا يجوز نكاح الأمة الكتابية . وقال جماعة : منهم مجاهد ، والشعبي ، وأبو ميسرة ، وسفيان ، الإحصان هنا العفة ، فيجوز نكاح الأمة الكتابية . ومنع بعض العلماء من نكاح غير العفيفة بهذا المفهوم الثاني . قال الحسن : إذا اطلع الإنسان من امرأته على فاحشة فليفارقها . وعن مجاهد : يحرم البغايا من المؤمنات ومن أهل الكتاب . وقال الشعبي إحصان اليهودية والنصرانية أن لا تزني ، وأن تغتسل من الجنابة . وقال عطاء : رخص في التزويج بالكتابية ، لأنه كان في المسلمات قلة ، فأما الآن ففيهنّ الكثرة ، فزالت الحاجة إليهن . والرخصة في تزويجهن ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في إباحة نكاح الحرائر الكتابيات ، واتفق على ذلك الصحابة إلا شيئاً روي عن ابن عمر أنه سأله رجل عن ذلك فقال : اقرأ آية التحليل يشير إلى هذه الآية ، وآية التحريم يشير إلى ) وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ ( وقد تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن .
وتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه نايلة بنت الفرافصة الكلبية على نسائه ، وتزوج طلحة بن عبد الله يهودية من الشام ، وتزوج حذيفة يهودية . ( فإن قلت ) : يكون ثم محذوف أي : والمحصنات اللاتي كن كتابيات فأسلمن ، ويكون قد وصفهن بأنهن من الذين أوتوا الكتاب باعتبار ما كن عليه كما قال : ) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ). وقال : ) مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ (

" صفحة رقم 448 "
ثم قال بعد ) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( ( قلت ) : إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار ، ولا يطلق على مسلم أنه من أهل الكتاب ، كما لا يطلق عليه يهودي ولا نصراني . فأما الآيتان فأطلق الاسم مقيداً بذكر الإيمان فيهما ، ولا يوجد مطلقاً في القرآن بغير تقييد ، إلا والمراد بهم اليهود والنصارى . وأيضاً فإنه قال : والمحصنات من المؤمنات ، فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات ، فوجب أن يحمل قوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وإلاّ زالت فائدته ، إذ قد اندرجن في قوله : والمحصنات من المؤمنات . وأيضاً فمعلوم من قوله تعالى : ) وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ( أنه لم يرد به طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب ، بل المراد اليهود والنصارى ، فكذلك هذه الآية .
( فإن قيل ) : يتعلق في تحريم الكتابيات بقوله تعالى : ) وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ( ( قيل ) : هذا في الحربية إذا خرج زوجها مسلماً ، أو الحربي تخرج امرأته مسلمة : ألا ترى إلى قوله : ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ ( ولو سلمنا العموم لكان مخصوصاً بقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، والظاهر جواز نكاح الحربية الكتابية لاندراجها في عموم . والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم . وخص ابن عباس هذا العموم بالذمية ، فأجاز نكاح الذمية دون الحربية ، وتلا قوله تعالى : ) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( إلى قوله ) وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ولم يفرق غيره من الصحابة من الحربيات والذميات . وأما نصارى بني تغلب فمنع نكاح نسائهن عليّ وابراهيم وجابر بن زيد ، وأجازه ابن عباس .
( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ( أي مهورهن . وانتزع العلماء من هذا أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل لها من المهر ما يستحلها به ، ومن جوز أن يدخل دون بذل ذلك رأى أنه محكم الالتزام في حكم المؤتى . وفي ظاهر قوله : إذا آتيتموهن أجورهن ، دلالة على أنّ إماء الكتابيات لسن مندرجات في قوله : والمحصنات ، فيقوى أن يراد به الحرائر ، إذ الإماء لا يعطون أجورهن ، وإنما يعطي السيد . إلا أن يجوز فنجعل إعطاء السيد إعطاء لهن . وفيه دلالة أيضاً على أن أقل الصداق لا يتقدر ، إذ سماه أجراً ، والأجر في الإجارات لا يتقدر .
( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ ( تقدم تفسيره نظيره في النساء .
( وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس : أنه تعالى لما أرخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن : لولا أن الله رضي ديننا وقبل عملنا لم يبح للمؤمنين تزويجنا ، فنزلت . وقال مقاتل : فيما أحصن المسلمون من نكاح نساء أهل الكتاب يقول : ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر انتهى . ولما ذكر فرائض وأحكاماً يلزم القيام بها ، أنزل ما يقتضي الوعيد على مخالفتها ليحصل تأكيد الزجر عن تضييعها . وقال القفال : ما معناه ، لما حصلت لهم في الدنيا فضيلة مناكحة نسائهم ، وأكل ذبائحهم ، من الفرق في الآخرة بأنَّ من كفر حبط عمله انتهى . والكفر بالإيمان لا يتصور . فقال ابن عباس ، ومجاهد : أي : ومن يكفر بالله . وحسن هذا المجاز أنه تعالى رب الإيمان وخالقه . وقال الكلبي : ومن يكفر بشهادة أن لا إله إلا الله ، جعل كلمة التوحيد إيماناً . وقال قتادة : إن ناساً من المسلمين قالوا : كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا ؟ فأنزل الله تعالى : ومن كفر بالإيمان ، أي بالمنزل في القرآن ، فسمي القرآن إيماناً لأنه المشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان . قال الزجاج : معناه من أحل ما حرم الله ، أو حرم ما أحل الله فهو كافر . وقال أبو سليمان الدمشقي : من جحد ما أنزله الله من شرائع الإسلام وعرفه من الحلال والحرام . وتبعه الزمخشري في هذا التفسير فقال : ومن يكفر بالإيمان أي : بشرائع الإسلام ، وما أحل الله وحرم . وقال ابن

" صفحة رقم 449 "
الجوزي : سمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري يقول : إنما أباح الله الكتابيات لأن بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن ، فحذر نكاحهن من الميل إلى دينهن بقوله : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله . وقرأ ابن السميقع : حبط بفتح الباء وهو في الآخرة من الخاسرين حبوط عمله وخسرانه . في الآخرة مشروط بالموافاة على الكفر .
المائدة : ( 6 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ( نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها حين فقدت العقد بسبب فقد الماء ومشروعية التيمم ، وكان الوضوء متعذراً عندهم ، وإنما جيء به للاستطراد منه إلى التيمم ، وذلك في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ، وفيها كان هبوب الريح وقول عبد الله بن أبي بن سلول : لئن رجعنا إلى المدينة وحديث الافك . وقال علقمة بن الفعواء وهو من الصحابة : إنها نزلت رخصة للرسول لأنه كان لا يعمل عملاً إلا على وضوء ، ولا يكلم أحداً ولا يرد سلاماً على غير ذلك ، فأعلمه الله أنّ الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما افتتح بالأمر بإيفاء العهود ، وذكر تحليلاً وتحريماً في المطعم والمنكح واستقصى ذلك ، وكان المطعم آكد من المنكح وقدمه عليه ، وكان النوعان من لذات الدنيا الجسمية ومهماتها للإنسان وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض ، استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربه سبحانه وتعالى ، ولما كان أفضل الطاعات بعد الإيمان الصلاة ، والصلاة لا تمكن إلا بالطهارة ، بدأ بالطهارة وشرائط الوضوء ، وذكر البدل عنه عند تعذر الماء . ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام ، جاءت العبارة : إذا قمتم أي : إذا أردتم القيام إلى فعل الصلاة . وعبر عن إرادة القيام بالقيام ، إذ القيام متسبب عن الإرادة ، كما عبروا عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم : الأعمى لا يبصر أي لا يقدر على الأبصار ، وقوله : ) نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ( أي قادرين على الإعادة . وقوله : ) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ ( أي إذا أردت قراءة القرآن لما كان الفعل متسبباً عن القدرة والإرادة أقيم المسبب مقام السبب .
وقيل : معنى قمتم إلى الصلاة ، فصدتموها ، لأنّ من توجه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له ، فعبر عن القصد له بالقيام إليه . وظاهر الآية يدل على أنّ الوضوء واجب على كل من قام إلى الصلاة متطهراً كان أو محدثاً ، وقال به جماعة منهم : داود . وروى فعل ذلك عن عليّ وعكرمة . وقال ابن شيرين : كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة . وذهب الجمهور : إلى أنه لا بد في الآية من محذوف وتقديره : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ، لأنه لا يجب الوضوء إلا على المحدث ، ويدل على هذا المحذوف مقابلته بقوله : ) وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ ( وكأنه قيل : إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا هذه الأعضاء ، وامسحوا هذين العضوين . وإن كنتم محدثين الحدث الأكبر فاغسلوا جميع الجسد . وقال قوم منهم : السدي ، وزيد بن أسلم : إذا قمتم من المضاجع يعنون النوم . وقالوا : في الكلام تقديم وتأخير أي : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء أي الملامسة الصغرى فاغسلوا وجوهكم . وهذا التأويل ينزه حمل كتاب الله عليه ، وإنما ذكروا ذلك طلباً لأن يعم الإحداث بالذكر .
وقال قوم : الخطاب خاص وإن كان بلفظ العموم ، وهو رخصة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه ذلك ، فأمر بالسواك ، فرفع عنه الوضوء إلا من حدث . وقال قوم : الأمر بالوضوء لكل صلاة على سبيل الندب ، وكان كثير من الصحابة بفعله طلباً للفضل منهم : ابن عمر . وقال قوم : الوضوء عند كل صلاة كان فرضاً ونسخ . وقيل : فرضاً على الرسول خاصة ، فنسخ عنه

" صفحة رقم 450 "
عام الفتح . وقيل : فرضاً على الأمة فنسخ عنه وعنهم . ولا يجوز أن يكون : فاغسلوا ، أمر للمحدثين على الوجوب وللمتطهرين على الندب ، لأنّ تناول الكلام لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية قاله الزمخشري .
فاغسلوا وجوهكم ، الوجه : ما قابل الناظر وحده ، طولاً منابت الشعر فوق الجهة مع آخر الذقن . والظاهر أنّ اللحية ليست داخلة في غسل الوجه ، لأنها ليست منه . وكذلك الأذنان عرضاً من الأذن إلى الأذن . ومن رأى أن الغسل هو إيصال الماء مع إمرار شيء على المغسول أوجب الدلك ، وهو مذهب مالك ، والجمهور لا يوجبونه . والظاهر أن المضمضة والاستنشاق ليس مأموراً بهما في الآية في غسل الوجه ، ويرون ذلك سنة . وقال مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء . وقال عطاء ، والزهري ، وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان ، وابن أبي ليلى ، وإسحاق : من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة . وقال أحمد : يعيد من ترك الاستنشاق ، ولا يعيد من ترك المضمضة : والإجماع على أنه لا يلزم غسل داخل العينين ، إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه .
وأيديكم إلى المرافق ، اليد : في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب ، وقد غيا الغسل إليها . واختلفوا في دخولها في الغسل ، فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها ، وذهب زفر وداود إلى أنه لا يجب . وقال الزمخشري : إلى ، تفيد معنى الغاية مطلقاً ، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل . ثم ذكر مثلاً مما دخل وخرج ثم قال : وقوله : ) إِلَى الْمَرَافِقِ وَإِلَى الْكَعْبَينِ ( لا دليل فيه على أحد الأمرين انتهى كلامه . وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد إلى قرينة دخول أو خروج فإنّ في ذلك خلافاً . منهم من ذهب إلى أنه داخل ، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل ، وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين : وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل ، فإذا عرى من القرينة فيجب حمله على الأكثر . وأيضاً فإذا قلت : اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد إلى هو داخل الموضع الذي انتهى إليه المكان المشتري ، فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشتري ، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز ، فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء . فإذا لم يتصوّر أن يكون داخلاً إلا بمجاز ، وجب أن يحمل على أنه غير داخل ، لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثمّ قرينة مرجحة المجاز على الحقيقة . فقول الزمخشري : عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج ، لا دليل فيه على أحد الأمرين ، مخالف لنقل أصحابنا ، إذ ذكروا أنّ النحويين على مذهبين : أحدهما : الدخول ، والآخر : الخروج . وهو الذي صححوه . وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف ، ويكون من المحمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام . وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين ، فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه . وقال ابن عطية : تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال : إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها ، فإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط بعطى أنّ الحد آخر المذكور بعدها ، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل . فالرّوايتان محفوظتان عن مالك . روى أشهب عنه : أنهما غير داخلتين ، وروى غيره أنهما داخلتان انتهى . وهذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني فقال : إنْ لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم .
والظاهر أنّ الوضوء شرط في صحة الصلاة من هذه الآية ، لأنه أمر بالوضوء للصلاة ، فالآتي بها دونه تارك للمأمور ، وتارك المأمور يستحق العقاب . وأيضاً فقد بيّن أنه متى عدم الوضوء انتقل إلى التيمم ، فدل على اشتراطه عند القدرة عليه . والظاهر أنّ أول فروض الوضوء هو غسل الوجه ، وبه قال أبو حنيفة . وقال الجمهور : النية أولها . وقال أحمد وإسحاق : تجب التسمية في أول الوضوء ، فإن تركها عمداً بطل وضوءه . وقال بعضهم : يجب ترك الكلام على الوضوء ، والجمهور على أنه يستحب . والظاهر أنّ الواجب في هذه المأمور

" صفحة رقم 451 "
بها هو مرة واحدة . والظاهر وجوب تعميم الوجه بالغسل بدأت بغسل أي موضع منه . والظاهر وجوب غسل البياض الذي بين العذار والأذن ، وبه قال : أبو حنيفة ، ومحمد ، والشافعي . وقال أبو يوسف وغيره : لا يجب . والظاهر أنّ ما تحت اللحية الخفيفة لا يجب غسله ، وبه قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : يجب وأنّ ما استرسل من الشعر تحت الذقن لا يجب غسله . وبه قال أبو حنيفة . وقال مالك والمزني : يجب . وعن الشافعي القولان . والظاهر أن قوله : وأيديكم ، لا ترتيب في غسل اليدين ، ولا في الرجلين ، بل تقديم اليمنى على اليسرى فيهما مندوب إليه من السنة . وقال أحمد : هو واجب . والظاهر أنّ التغيية بإلى تقتضي أن يكون انتهاء الغسل إلى ما بعدها ، ولا يجوز الابتداء من المرفق حتى يسيل الماء إلى الكف ، وبه قال بعض الفقهاء . وقال الجمهور : لا يخل ذلك بصحة الوضوء . والسنة أن يصبّ الماء من الكف بحيث يسيل منه إلى المرفق .
( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ( هذا أمر بالمسح بالرأس ، واختلفوا في مدلول باء الجرّ هنا فقيل : إنها للإلصاق . وقال الزمخشري : المراد إلصاق المسح بالرأس ، وما مسح بعضه ومستوفيه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه انتهى . وليس كما ذكر ، ليس ماسح بعضه يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه ، إنما يطلق عليه أنه ملصق المسح ببعضه . وأما أنْ يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه حقيقة فلا ، إنما يطلق عليه ذلك على سبيل المجاز ، وتسمية لبعض بكل . وقيل : الباء للتبعيض ، وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة حتى قال بعضهم ، وقال من لا خبرة له بالعربية . الباء في مثل هذا للتبعيض وليس بشيء يعرفه أهل العلم . وقيل : الباء زائدة مؤكدة مثلها في قوله ) وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ( ) وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ( ) وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ ( أي إلحاد أو جذع وأيديكم . وقال الفراء : تقول العرب هزه وهزّ به ، وخذ الخطام وبالخطام ، وحز رأسه وبرأسه ، ومده ومد به . وحكى سيبويه : خشنت صدره وبصدره ، ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد ، وهذا نص في المسألة .
وعلى هذه المفهومات ظهر الاختلاف بين العلماء في مسح الرأس ، فروي عن ابن عمر : أنه مسح اليافوخ فقط ، وعن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه ، وعن إبراهيم والشعبي : أي نواحي رأسك مسحت أجزأك ، وعن الحسن : إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها . وأما فقهاء الأمصار فالمشهور من مذهب مالك : وجوب التعميم . والمشهور من مذهب الشافعي : وجوب أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح ، ومشهور أبي حنيفة والشافعي : أن الأفضل استيعاب الجميع . ومن غريب ما نقل عمن استدل على أنّ بعض الرأس يكفي أن قوله تعالى : وامسحوا برؤسكم ، كقولك : مسحت بالمنديل يدي ، فكما أنه لا يدل هذا على تعميم جميع اليد بجزء من أجزاء المنديل فكذلك الآية ، فتكون الرأس والرجل آلتين لمسح تلك اليد ، ويكون الفرض إذ ذاك ليس مسح الرأس والأرجل ، بل الفرض مسح تلك اليد بالرأس والرجل ، ويكون في اليد فرضان : أحدهما : غسل جميعها إلى المرفق ، والآخر : مسح بللها بالرأس والأرجل . وعلى من ذهب إلى التبعيض يلزم أن يكون التبعيض في قوله في قصة التيمم : ) فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) أن يقتصر على مسح بعض الوجه وبعض اليد ، ولا قائل به . وعلى من جعل الباء آلة يلزم أيضاً ذلك ، ويلزم أن يكون المأمور به في التيمم هو مسح الصعيد بجزء من الوجه واليد .
والظاهر أنّ الأمر بالغسل والمسح بقع الامتثال فيه بمرة واحدة ، وتثليث المعسول سنة . وقال أبو حنيفة ومالك : ليس بسنة . وقال الشافعي : بتثليث المسح . وروي عن أنس ، وابن جبير ، وعطاء مثله . وعن ابن سيرين : يمسح مرتين . والظاهر من الآية : أنه كيفما مسح أجزأه .
واختلفوا في الأفضل ابتداء بالمقدم إلى القفا ، ثم إلى الوسط ، ثلاثة أقوال الثابت منها في السنة الصحيحة الأول ، وهو قول : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وجماعة من الصحابة والتابعين . والثاني : منها قول الحسن بن حي . والثالث : عن ابن عمر . والظاهر أنّ رد اليدين على شعر الرأس ليس بفرض ، فتحقق المسح بدون الرد . وقال بعضهم : هو فرض . والظاهر أن المسح على العمامة لا يجزىء ، لأنه ليس مسحاً للرأس . وقال الأوزاعي ، والثوري ،

" صفحة رقم 452 "
وأحمد : يجزىء ، وأنّ المسح يجزىء ولو بأصبع واحدة . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : لا يجزىء بأقل من ثلاث أصابع . والظاهر أنه لو غسل رأسه لم يجزه ، لأن الغسل ليس هو المأمور به وهو قول : أبي العباس بن القاضي من الشافعية ، ويقتضيه مذهب الظاهرية . وقال ابن العربي : لا نعلم خلافاً في أنّ الغسل يجزيه من المسح إلا ما روى لنا الشاشي في الدرس عن ابن القاضي أنه لا يجزئه .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر ، وهي قراءة أنس ، وعكرمة ، والشعبي ، والباقر ، وقتادة ، وعلقمة ، والضحاك : وأرجلِكم بالخفض . والظاهر من هذه القراءة اندراج الأرجل في المسح مع الرأس . وروى وجوب مسح الرجلين عن : ابن عباس ، وأنس ، وعكرمة ، والشعبي ، وأبي جعفر الباقر ، وهو مذهب الإمامية من الشيعة . وقال جمهور الفقهاء : فرضهما الغسل . وقال داود : يجب الجمع بين المسح والغسل ، وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية . وقال الحسن البصري ، وابن جرير الطبري : يخير بين المسح والغسل ومن أوجب الغسل تأول أنّ الجر هو خفض على الجواز ، وهو تأويل ضعيف جداً ، ولم يرد إلا في النعت ، حيث لا يلبس على خلاف فيه قد قرر في علم العربية ، أو تأول على أنّ الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدى بالباء أي : وافعلوا بأرجلكم الغسل ، وحذف الفعل وحرف الجرّ ، وهذا تأويل في غاية الضعف . أو تأول على أنّ الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة مظنة الإسراف المذموم المنهى عنه ، فعطف على الرابع الممسوح لا ليمسح ، ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها . وقيل : إلى الكعبين ، فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة ، لأنّ المسح لم يضرب له غاية انتهى هذا التأويل . وهو كما ترى في غاية التلفيق وتعمية في الأحكام . وروي عن أبي زيد : أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحاً ويقولون : تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي .
وقرأ نافع ، والكسائي ، وابن عامر ، وحفص : وأرجلكم بالنصب . واختلفوا في تخريج هذه القراءة ، فقيل : هو معطوف على قوله : وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين ، وفيه الفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض ، بل هي منشئة حكماً . وقال أبو البقاء : هذا جائز بلا خلاف . وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، قال : وأقبح ما يكون ذلك بالجمل ، فدل قوله هذا على أنه ينزه كتاب الله عن هذا التخريج . وهذا تخريج من يرى أنّ فرض الرجلين هو الغسل ، وأما مَن يرى المسح فيجعله معطوفاً على موضع برؤوسكم ، ويجعل قراءة النصب كقراءة الجرِّ دالة على المسح . وقرأ الحسن : وأرجلكم بالرفع ، وهو مبتدأ محذوف الخبر أي : اغسلوها إلى الكعبين على تأويل من يغسل ، أو ممسوحة إلى الكعبين على تأويل من يمسح . وتقدم مدلول الكعب . قال ابن عطية : قول الجمهور هما حدّ الوضوء بإجماع فيما علمت ، ولا أعلم أحداً جعل حدّ الوضوء إلى العظم الذي في وجه القدم . وقال غيره : قالت الإمامية : وكل من ذهب إلى وجوب مسح الكعب هو الذي في وجه القدم ، فيكون المسح مغياً به . وقال ابن عطية : روى أشهب عن مالك : الكعبان هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب ، وليس الكعب بالظاهر الذي في وجه القدم ، ويظهر ذلك من الآية في قوله : في الأيدي إلى المرافق ، إذ في كل يد مرفق . ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب ، فلما كان في كل رجل كعبان خصتا بالذكر انتهى . ولا دليل في قوله في الآية على أن موالاة أفعال الوضوء ليست بشرط في صحته لقبول الآية التقسيم في قولك : متوالياً وغير متوال ، وهو مشهور مذهب أبي حنيفة ومالك ، وروي عن مالك والشافعي في القديم : أنها شرط . وعلى أن الترتيب في الأفعال ليس بشرط لعطفها بالواو وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ، ومذهب الشافعي أنه شرط واستيفاء حجج . هذه المسائل مذكورة في الفقه ، ولم تتعرّض الآية للنص على الأذنين . فمذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري ، والأوزاعي ، ومالك فيما روى عنه أشهب وابن القاسم : أنهما من الرأس فيمسحان . وقال الزهري : هما من الوجه فيغسلان معه . وقال الشافعي : من الوجه هما عضو قائم بنفسه ، ليسا من الوجه ولا من الرأس ، ويمسحان بماء جديد . وقيل : ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر من الرأس ، وعلى هذه الأقوال تبنى فرضية المسح

" صفحة رقم 453 "
أو الغسل وسنية ذلك .
( وإن كنتم جنباً فاطهروا ( لما ذكر تعالى الطهارة الصغرى ذكر الطهارة الكبرى ، وتقدم مدلول الجنب في ) وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ ( والظاهر أنّ الجنب مأمور بالاغتسال . وقال عمر ، وابن مسعود : لا يتيمم الجنب البتة ، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء ، والجمهور على خلاف ذلك ، وأنه يتيمم ، وقد رجعا إلى ما عليه الجمهور . والظاهر أنّ الغسل والمسح والتطهر إنما تكون بالماء لقوله : ) فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء ( أي للوضوء والغسل فتيمموا صعيداً طيباً فدل على أنه لا واسطة بين الماء والصعيد ، وهو قول الجمهور . وذهب الأوزاعي والأصم : إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة . والظاهر أنّ الجنب لا يجب عليه غير التطهير من غير وضوء . ولا ترتيب في الأعضاء المغسولة ، ولا دلك ، ولا مضمضة ، ولا استنشاق ، بل الواجب تعميم جسده بوصول الماء إليه . وقال داود وأبو ثور : يجب تقديم الوضوء على الغسل . وقال إسحاق : تجب البداءة بأعلى البدن . وقال مالك : يجب الدلك ، وروى عنه محمد بن مروان الظاهري : أنه يجزئه الانغماس في الماء دون تدلك . وقال أبو حنيفة : وزفر ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والليث ، وأحمد : تجب المضمضة والاستنشاق فيه ، وزاد أحمد الوضوء . وقال النخعي : إذا كان شعره مفتولاً جدّاً يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس لا يجب نقضه . وقرأ الجمهور : فاطّهروا بتشديد الطاء والهاء المفتوحتين ، وأصله : تطهروا ، فأدغم التاء في الطاء ، واجتلبت همزة الوصل . وقرىء : فاطْهروا بسكون الطاء ، والهاء مكسورة من أطهر رباعياً ، أي : فأطهروا أبدانكم ، والهمزة فيه للتعدية .
( وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ ( تقدّم تفسير هذه الجملة الشرطية وجوابها في النساء ، إلا أنّ في هذه الجملة زيادة منه وهي مرادة في تلك التي في النساء . وفي لفظه : منه دلالة على إيصال شيء من الصعيد إلى الوجه واليدين ، فلا يجوز التيمم بما لا يعلق باليد كالحجر والخشب والرمل العاري عن أن يعلق شيء منه باليد فيصل إلى الوجه ، وهذا مذهب الشافعي . وقال أبو حنيفة ، ومالك : إذا ضرب الأرض ولم يعلق بيده شيء من الغبار ومسح بها أجزأه . وظاهر الأمر بالتيمم للصعيد ، والأمر بالمسح ، أنه لو يممه غيره ، أو وقف في مهب ريح فسفت على وجهه ويديه وأمرّ يده عليه ، أو لم يمر ، أو ضرب ثوباً فارتفع منه غبار إلى وجهه ويديه ، أنّ ذلك لا يجزئه . وفي كل من المسائل الثلاث خلاف .
( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ ( أي من تضييق ، بل رخص لكم في تيمم الصعيد عند فقد الماء . والإرادة صفة ذات ، وجاءت بلفظ المضارع مراعاة للحوادث التي تظهر عنها ، فإنها تجيء مؤتنقة من نفي الحرج ، ووجود التطهير ، وإتمام النعمة . وتقدم الكلام على مثل اللام في ليجعل في قوله : ) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ ( فأغنى عن إعادته . ومن زعم أنّ مفعول يريد محذوف تتعلق به اللام ، جعل زيادة من في الواجب للنفي الذي في صدر الكلام ، وإن لم يكن النفي واقعاً على فعل الحرج ، ويجري مجرى هذه الجملة ما جاء في الحديث ( دين الله يسر ) وبعثت بالحنيفية السمحة ) وجاء لفظ الدين بالعموم ، والمقصود به الذي ذكر بقرب وهو التيمم .
( وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ ( أي بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء . وفي الحديث : ( التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ) . وقال الجمهور : المقصود بهذا التطهير إزالة النجاسة الحكمية الناشئة عن خروج الحدث . وقيل : المعنى ليطهركم من أدناس الخطايا بالوضوء والتيمم ، كما جاء في مسلم : ( سقط : إذا تؤضأ العبد المسلم ، أو المؤمن فغسل وجهه ، خرج من وجهه كل خطيئة نظر

" صفحة رقم 454 "
إليها بعينيه مع الماء إلى آخر الحديث . وقيل : المعنى ليطهركم عن التمرّد عن الطاعة . وقرأ ابن المسيب : ليطهرْكم بإسكان الطاء وتخفيف الهاء .
( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ( أي وليتم برخصة العامة عليكم بعزائمه . وقيل : الكلام متعلق بما دل عليه أوّل السورة من إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح ، ثم قال بعد كيفية الوضوء : ويتم نعمته عليكم ، أي النعمة المذكورة ثانياً وهي نعمة الدين . وقيل : تبيين الشرائع وأحكامها ، فيكون مؤكداً لقوله : ) وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ( وقيل : بغفران ذنوبهم . وفي الخبر : ) حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ).
) لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( أي تشكرونه على تيسير دينه وتطهيركم وإتمام النعمة عليكم .
المائدة : ( 7 ) واذكروا نعمة الله . . . . .
( وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ( الخطاب للمؤمنين ، والنعمة هنا الإسلام ، وما صاروا إليه من اجتماع الكلمة والعزة . والميثاق : هو ما أخذه الرسول عليهم في بيعة العقبة وبيعة الرضوان ، وكل موطن قاله : ابن عباس ، والسدي ، وجماعة . وقال مجاهد : هو ما أخذ على النسم حين استخرجوا من ظهر آدم . وقيل : هو الميثاق المأخوذ عليهم حين بايعهم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر ، والمنشط والمكره . وقيل : الميثاق هو الدلائل التي نصبها لأعينهم وركبها في عقولهم ، والمعجزات التي أظهرها في أيامهم حتى سمعوا وأطاعوا . وقيل : الميثاق إقرار كل مؤمن بما ائتمر به . وروي عن ابن عباس : أنه الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل حين قالوا : آمنا بالتوراة وبكل ما فيها ، ومن جملته البشارة بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فلزمهم الإقرار به . ولا يتأتى هذا القول إلا أن يكون الخطاب لليهود ، وفيه بعد . والقولان بعده يكون الميثاق فيهما مجاز ، والأجود حمله على ميثاق البيعة ، إذ هو حقيقة فيه ، وفي قوله : إذا قلتم سمعنا وأطعنا .
( وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( أي : واتقوا الله ولا تتناسوا نعمته ، ولا تنقضوا ميثاقه . وتقدم شرح شبه هذه الجملة في النساء فأغنى عن إعادته .
المائدة : ( 8 ) يا أيها الذين . . . . .
( أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ( تقدم تفسير مثل هذه الجملة الأولى في النساء ، إلا أنّ هناك بدىء بالقسط ، وهنا أخر . وهذا من التوسع في الكلام والتفنن في الفصاحة . ويلزم مَن كان قائماً لله أن يكون شاهداً بالقسط ، ومن كان قاتماً بالقسط أن يكون قائماً لله ، إلا أنَّ التي في النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين ، فبدىء فيها بالقسط الذي هو

" صفحة رقم 455 "
العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة ، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والاحن ، فبدىء فيها بالقيام لله تعالى أولاً لأنه أردع للمؤمنين ، ثم أردف بالشهادة بالعدل فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيه بما هو آكد وهو القسط ، وفي معرض العداوة والشنآن بدىء فيها بالقيام لله ، فناسب كل معرض بما جيء به إليه . وأيضاً فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله : ) وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ ( وقوله : ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن ( فناسب ذكر تقديم القسط ، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط ، وتعدية يجرمنكم بعلى إلا أن يضمن معنى ما يتعدى بها ، وهو خلاف الأصل .
( تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( أي : العدل نهاهم أولاً أن تحملهم الضغائن على ترك العدل ثم أمرهم ثانياً تأكيداً ، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله : هو أقرب للتقوى ، أي : أدخل في مناسبتها ، أو أقرب لكونه لطفاً فيها . وفي الآية تنبيه على مراعاة حق المؤمنين في العدل ، إذ كان تعالى قد أمر بالعدل مع الكافرين .
( وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( لما كان الشنآن محله القلب وهو الحامل على ترك العدل أمر بالتقوى ، وأتى بصفة خبير ومعناها عليم ، ولكنها تختص بما لطف إدراكه ، فناسب هذه الصفة أن ينبه بها على الصفة القلبية .
( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (
المائدة : ( 9 ) وعد الله الذين . . . . .
لما ذكر تعالى أوامر ونواهي ، ذكر وعد من اتبع أوامره واجتنب نواهيه و ) وعد ( تتعدى لاثنين ، والثاني محذوف ، تقديره الجنة : وقد صرح بها في غير هذا الموضع ن والجملة من قوله ) لهم مغفرة ( نفسر لذلك المحذوف ، تفسير السبب للمسبب ، لأت الجنة مترتبة على الغفرانت ، وحصول الأجر ، وإذا كانت الجملة مفسرة ، فلا موضع لها من الإعراب ، والكلام قبلها تام ، وجعل الزمخشري ، قوله ) لهم مغفرة وأجر عظيم ( بيانا للوعد ، قال : : انه قال : قدم لهم وعدا فقيل : أي شيء وعده ، فقال لهم : مغفرة وأجر عظيم أو يكون على إرادة القول ، وعدهم وقال : لهم لهم مغفرة أو على إجراء ) وعد ( مجرى قال ، لأنه ضرب من القول ، أو يجعل ) وعد ( واقعا على الجملة التي هي مغفرة كما وقع تركنا على قوله ) سلام على نوح في العالمين ( كأنه قيل : وعدهم هذا القول ، وإذا وعدهم مَن لا يخلف اليمعاد فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم ، وهذا القول يتلقونه عند اتلموت ويوم القيامة ، فيسرون ويستريحون إليه ، وتهون عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى التراب انتهى . وهي تقادير محتملة ، والأول أوجهها . ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (
المائدة : ( 10 ) والذين كفروا وكذبوا . . . . .
لما ذكر ما لمن آمن ، ذكر ما لمن كفر . وفي المؤمنين جاءت الجملة فعلية متضمنة الوعد بالماضي الذي هو دليل على الوقوع ، فأنفسهم متشوقة لما وعدوا به ، متشوفة إلفيه مبتهجة طول الحياة بهذا الوعد الصادق . وفي الكافرين جاءت الجملة إسمية دالة على ثبوت هذا الحكم لهم ، وأنهم أصحاب النار ، فهم دائمون في عذابٍ ، إذْ حتم لهم أنهم أصحاب الجحيم ، ولم يأت بصورة الوعيد ، فكان يكون الرجاء لهم في ذلك .
( الْجَحِيمِ

" صفحة رقم 456 "
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (
المائدة : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . .
روى أبو صالح عن ابن عباس : أنها نزلت من أجل كفار قريش ، وقد تقدم ذكرهم في قوله : ) لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ مّنكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ ( وبه قال مقاتل ، وقال الحسن : بعثت قريش رجلاً ليقتل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأطلعه الله على ذلك . وقال مجاهد وقتادة : إنه عليه السلام ذهب إلى يهود بني النضير يستعينهم في دية فهموا بقتله . وقال جماعة من المفسرين : أتى بني قريظة ومعه أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ حسبهما مشركين ، فقالوا : نعم يا أبا القاسم اجلسْ حتى نطعمك ونقرضك ، فأجلسوه في صفة وهموا بالقتل به ، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه ، فأمسك الله يده ، ونزل جبريل عليه السلام فأخبره فخرج . وقيل : نزل منزلاً في غزوة ذات الرقاع بني محارب بن حفصة بن قيس بن غيلان ، وتفرق الناس في العضاة يستظلون بها ، فعلق الرسول سلاحه بشجرة ، فجاء أعرابي فسلّ سيف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) واسمه غورث ، وقيل : دعثور بن الحرث ، ثم أقبل عليه فقال : من يمنعك مني ؟ قال : ( الله قالها ثلاثاً ) وقال : أتخافني ؟ قال : لا ، فشام السيف وحبس . وفي البخاري : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يعاقبه . قيل : أسلم . وقيل : ضرب برأسه ساق الشجرة حتى مات . وروي أن المشركين رأوا المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معاً بعسفان في غزوة ذي انمار ، فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا : إن لهم صلاة بعدها هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم ، وهي صلاة العصر ، وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها ، فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف . وقد طوّلوا بذكر أسباب أخر . وملخص ما ذكروه أنّ قريشاً ، أو بني النضير ، أو قريظة ، أو غورثا ، هموا بالقتل بالرسول ، أو المشركين هموا بالقتل بالمسلمين ، أو نزلت في معنى ) الْيَوْمَ بِئْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ( قاله الزجاج ، أو عقيب الخندق حين هزم الله الأحزاب ) وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ( والذي تقتضيه الآية أنّ الله تعالى ذكر المؤمنين بنعمه إذا أراد قوم من الكفار لم يعينهم الله بل أبهمهم أن ينالوا المسلمين بشر ، فمنعهم الله ، ثم أمرهم بالتقوى والتوكل عليه . ويقال : بسط إليه لسانه أي شتمه ، وبسط إليه يده مدها ليبطش به . وقال تعالى : ) وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوء ( ويقال : فلان بسيط الباغ ، ومد يد الباع ، بمعنى . وكف الأيدي منعها وحبسها . وجاء الأمر بالتقوى أمر مواجهة مناسباً لقوله اذكروا . وجاء الأمر بالتوكل أمر غائب لأجل الفاصلة ، وإشعاراً بالغلبة ، وإفادة لعموم وصف الإيمان ، أي : لأجل تصديقه بالله ورسوله يؤمر بالتوكل كل مؤمن ، ولابتداء الآية بمؤمنين على جهة الاختصاص وختمها بمؤمنين على جهة التقريب .
2 ( ) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِىإِسْرَاءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواةَ وَءَاتَيْتُمْ الزَّكَواةَ وَءَامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُم

" صفحة رقم 457 "
اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاٌّ رْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءَاتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاٌّ رْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَاب

" صفحة رقم 458 "
َ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ يَامُوسَىإِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاإِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّى لاأَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى الاٌّ رْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( )
المائدة : ( 12 ) ولقد أخذ الله . . . . .
نقب في الجبل والحائط فتح فيه ما كان منسدّاً ، والتنقيب التفتيش ، ومنه ) فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ ( ونقب على القوم ينقب إذا صار نقيباً ، أي يفتش عن أحوالهم وأسرارهم ، وهي النقابة . والنقاب الرجل العظيم ، والنقب الجرب واحده النقبة ، ويجمع أيضاً على نقب على وزن ظلم ، وهو القياس . وقال الشاعر : متبذلاً تبدو محاسنه
يضع الهناء مواضع النقب
أي الجرب . والنقبة سراويل بلا رجلين ، والمناقب الفضائل التي تظهر بالتنقيب . وفلانة حسنة النقبة النقاب أي جميلة ، والظاهر أنّ النقيب فعيل للمبالغة كعليم ، وقال أبو مسلم : بمعنى مفعول ، يعني أنهم اختاروه على علم منهم . وقال الأصم : هو المنظور إليه المسند إليه الأمر والتدبير ، عزر الرجل قال يونس بن حبيب : أثنى عليه بخير . وقال أبو عبيدة : عظمة . وقال الفراء : رده عن الظلم : ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودة القبيح . قال القطامي : ألا بكرت ميّ بغير سفاهة
تعاتب والمودود ينفعه العزر
أي المنع . وقال آخر في معنى التعظيم : وكم من ماجد لهم كريم
ومن ليث يعزّر في النديّ
وعلى هذه النقول يكون من باب المشترك . وجعله الزمخشري من باب المتواطىء قال : عزرتموه نصرتموه ومنعتموه من أيدي العدوّ ، ومنه التعزير وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد ، وهو قول الزجاج ، قال : التعزير الرّدع ، عزرت فلاناً فعلت به ما يردعه عن القبيح ، مثل نكلت به . فعلى هذا يكون تأويل عزرتموهم رددتم عنهم أعداءهم انتهى . ولا يصح إلا إن كان الأصل في عزرتموهم أي عزرتم بهم .
طلع الشيء برز وظهر ، واطلع افتعل منه . غرا بالشيء غراء ، وغر ألصق به وهو الغرى الذي يلصق به . وأغرى فلان زيداً بعمرو ولعه به ،

" صفحة رقم 459 "
وأغريت الكلب بالصيد أشليته . وقال النضر : أغرى بينهم هيج . وقال مورج : حرش بعضهم على بعض . وقال الزجاج : ألصق بهم . الصنع : العمل . الفترة : هي الانقطاع ، فتر الوحي أي انقطع . والفترة السكون بعد الحركة في الإجرام ، ويستعار للمعاني . قال الشاعر :
وإني لتعروني لذكراك فترة
والهاء فيه ليست للمرة الواحدة ، بل فترة مرادف للفتور . ويقال : طرف فاتر إذا كان ساجياً . الجبار : فعال من الجبر ، كأنه لقوته وبطشه يجبر الناس على ما يختارونه . والجبارة النخلة العالية التي لا تتال بيد ، واسم الجنس جبار . قال الشاعر : سوابق جبار أثيث فروعه
وعالين قنوانا من البسر أحمرا
التيه في اللغة : الحيرة ، يقال منه : تاه ، يتيه ، ويتوه ، وتوهته ، والتاء أكثر ، والأرض التوهاء التي لا يهتدى فيها ، وأرض تيه . وقال ابن عطية : التيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصود . الأسى : الحزن ، يقال منه : أسى يأسى . ) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أمر بذكر الميثاق الذي أخذه الله على المؤمنين في قوله : ) وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ ( ثم ذكر وعده إياهم ، ثم أمرهم بذكر نعمته عليه إذ كف أيدي الكفار عنهم ، ذكرهم بقصة بني إسرائيل في أخذ الميثاق عليهم ، ووعده لهم بتكفير السيآت ، وإدخالهم الجنة ، فنقضوا الميثاق وهموا بقتل الرسول ، وحذرهم بهذه القصة أن يسلكوا سبيل بني إسرائيل هو بالإيمان والتوحيد . وبعث النقباء قيل : هم الملوك بعثوا فيهم يقيمون العدل ، ويأمرونهم بالمعروف ، وينهونهم عن المنكر . والنقيب : كبير القوم القائم بأمورهم . والمعنى في الآية : أنه عدد عليهم نعمه في أنْ بعث لأعدائهم هذا العدد من الملوك قاله النقاش . وقال : ما وفى منهم إلا خمسة : داود . وسليمان ابنه ، وطالوت ، وحزقيل ، وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء ، وخرج خلال الاثنى عشر اثنان وثلاثون جباراً كلهم يأخذ الملك بالسيف ، ويعبث فيهم ، والبعث : من بعث الجيوش . وقيل : هو من بعث الرسل وهو إرسالهم والنقباء الرسل جعلهم الله رسلاً إلى قومهم كل نبي منهم إلى سبط .
وقيل : الميثاق هنا والنقباء هو ما جرى لموسى مع قومه في جهاد الجبارين ، وذلك أنه لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحا أرض الشام ، وكان يسكنها الكفار الكنعانيون الجبابرة وقال لهم : إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها ، وجاهدوا من فيها ، وإني ناصركم . وأمر موسى أنْ يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقه عليهم ، فاختار النقباء ، وأخذ الميثاق على بني إسرائيل ، وتكفل لهم به النقباء ، وسار

" صفحة رقم 460 "
بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا أجراماً عظاماً وقوة وشوكة ، فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم ، وقد نهاهم موسى أن يحدثوهم ، فنكثوا الميثاق ، إلا كالب بن يوقنا من سبط يهودا ، ويوشع بن نون من سبط أفراثيم بن يوسف وكانا من النقباء . وذكر محمد بن حبيب في المحبر أسماء هؤلاء النقباء الذين اختارهم موسى في هذه القصة بألفاظ لا تنضبط حروفها ولا شكلها ، وذكرها غيره مخالفة في أكثرها لما ذكره ابن حبيب لا ينضبط أيضاً . وذكروا من خلق هؤلاء الجبارين وعظم أجسامهم وكبر قوالبهم ما لا يثبت بوجه ، قالوا وعدد هؤلاء النقباء كان بعدد النقباء الذين اختارهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من السبعين رجلاً والمرأتين الذين بايعوه في العقبة الثانية ، وسماهم : النقباء .
( وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ ( أي بالنصر والحياطة . وفي هذه المعية دلالة على عظم الاعتناء والنصرة ، وتحليل ما شرطه عليهم مما يأتي بعد ، وضمير الخطاب هو لبني إسرائيل جميعاً . وقال الربيع : هو خطاب للنقباء ، والأول هو الراجح لانسحاب الأحكام التي بعد هذه الجملة على جميع بني إسرائيل .
( لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواةَ وَءاتَيْتُمْ الزَّكَواةَ وَءامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( اللام في لئن أقمتم هي المؤذنة بالقسم والموطئة بما بعدها ، وبعد أداة الشرط أن يكون جواباً للقسم ، ويحتمل أن يكون القسم محذوفاً ، ويحتمل أن يكون لأكفرن جواباً لقوله : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، ويكون قوله : وبعثنا والجملة التي بعده في موضع الحال ، أو يكونان جملتي اعتراض ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه . وقال الزمخشري : وهذا الجواب يعني لأكفرنّ ، ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً انتهى . وليس كما ذكر لا يسدّ وكفرن مسدَّهما ، بل هو جواب القسم فقط ، وجواب الشرط محذوف كما ذكرنا . والزكاة هنا مفروض من المال كان عليهم ، وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه قاله : ابن عطية . والأول وهو الراجح .
وآمنتم برسلي ، الإيمان بالرسل هو التصديق بجميع ما جاؤا به عن الله تعالى . وقدّم الصلاة والزكاة على الإيمان تشريفاً لهما ، وقد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بالإيمان قاله : ابن عطية . وقال أبو عبد الله الرازي : كان اليهود مقرين بحصول الإيمان مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وكانوا مكذبين بعض الرسل ، فذكر بعدهما الإيمان بجميع الرسل ، وأنه لا تحصل نجاة إلا بالإيمان بجميعهم انتهى ملخصاً . وقرأ الحسن : برسلي بسكون السين في جميع القرآن ، وعزرتموهم . وقرأ عاصم الجحدري : وعزرتموهم خفيفة الزاي . وقرأ في الفتح : ) وَتُعَزّرُوهُ ( فتح التاء وسكون العين وضم الزاي ، ومصدره العزر . وأقرضتم الله قرضاً حسناً : إيتاء الزكاة هو في الواجب ، وهذا القرض هو في المندوب . ونبه على الصدقات المندوبة بذكرها فيما يترتب على المجموع تشريفاً وتعظيماً لموقعها من النفع المتعدي . قال الفراء : ولو جاء إقراضاً لكان صواباً ، أقيم الاسم هنا مقام المصدر كقوله تعالى : ) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ( لم يقل بتقبيل ولا إنباتاً انتهى . وقد فسر هذا الإقراض بالنفقة في سبيل الله ، وبالنفقة على الأهل ، وبالزكاة . وفيه بعد ، لأنه تكرار . ووصفه بحسن إما لأنه لا يتبع بمن ولا أذى ، وأما لأنه عن طيب نفس . لأكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات : رتب على هذه الخمسة المشروطة تكفير السيآت ، وذلك إشارة إلى إزالة العقاب ، وإدخال الجنات ، وذلك إشارة إلى إيصال الثواب .
( فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ( أي بعد ذلك الميثاق المأخوذ والشرط المؤكد فقد أخطأ الطريق المستقيم . وسواء السبيل وسطه وقصده المؤدي إلى القصد ، وهو الذي شرعه الله . وتخصيص الكفر بتعدية أخذ الميثاق وإن كان قبله ضلالاً عن الطريق المستقيم ، لأنه بعد الشرط المؤكد بالوعد الصادق الأمين العظيم أفحش وأعظم ، إذ يوجب أخذ الميثاق الإيفاء به ، لا سيما بعد هذا الوعيد عظم الكفر هو بعظم النعمة المكفورة .
المائدة : ( 13 ) فبما نقضهم ميثاقهم . . . . .
( فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ ( تقدم الكلام على مثل هذه الجملة .
( لَعنَّاهُمْ ( أي طردناهم وأبعدناهم من الرحمة قاله : عطاء والزجاج . أو عذبناهم بالمسح قردة وخنازير كما قال

" صفحة رقم 461 "
) أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ( أي نمسخهم كما مسخناهم قاله : الحسن ، ومقاتل . أو عذبناهم بأخذ الجزية قاله : ابن عباس . وقال قتادة : نقضوا الميثاق بتكذيب الرسل الذين جاءوا بعد موسى وقتلهم الأنبياء بغير حق وتضييع الفرائض .
( وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ( قال ابن عباس : جافية جافة . وقيل : غليظة لا تلين . وقيل : منكرة لا تقبل الوعظ ، وكل هذا متقارب . وقسوة القلب غلظه وصلابته حتى لا ينفعل لخير . وقرأ الجمهور من السبعة : قاسية اسم فاعل من قسا يقسو . وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي : قسية بغير ألف وبتشديد الياء ، وهي فعيل للمبالغة كشاهد وشهيد . وقال قوم : هذه القراءة ليست من معنى القسوة ، وإنما هي كالقسية من الدراهم ، وهي التي خالطها غش وتدليس ، وكذلك القلوب لم يصل الإيمان بل خالطها الكفر والفساد . قال أبو زبيد الطائي : لهم صواهل في صم السلاح كما
صاح القسيات في أيدي الصياريف
وقال آخر : فما زادوني غير سحق عمامة
وخمس ميء فيها قسي وزائف
قال الفارسي : هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب . وقال الزمخشري وقرأ عبد الله قسية أي رديئة مغشوشة من قولهم : درهم قسي ، وهو من القسوة ، لأن الذهب والفضة الخالصتين فيهما لين ، والمغشوش فيه يبس وصلابة . والقاسي والقاسح بالحاء إخوان في الدلالة على اليبس والصلابة انتهى . وقال المبرد : سمى الدرهم الزائف قسييًّا لشدته بالغش الذي فيه ، وهو يرجع إلى المعنى الأول ، والقاسي والقاسح بمعنى واحد انتهى . وقول المبرد : مخالف لقول الفارسي ، لأن المعهود جعله عربياً من القسوة ، والفارسي جعله معرباً دخيلاً في كلام العرب وليس من ألفاظها .
وقرأ الهيصم بن شراح : قسية بضم القاف وتشديد الياء ، كحنى . وقرىء بكسر القاف اتباعاً . وقال الزمخشري : خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم ، أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست انتهى . وهو على مذهبه الاعتزالي . وأما أهل السنة فيقولون : إن الله خلق القسوة في قلوبهم .
( يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ ( أي يغيرون ما شق عليهم من أحكامها ، كآية الرجم بدلوها لرؤسائهم بالتحميم وهو تسويد الوجه بالفحم قال معناه ابن عباس وغيره ، وقالوا : التحريف بالتأويل لا بتغيير الألفاظ ، ولا قدرة لهم على تغييرها ولا يمكن . ألا تراهم وضعوا أيديهم على آية الرجم ؟ وقال مقاتل : تحريفهم الكلم هو تغييرهم صفة الرسول أزالوها وكتبوا مكانها صفة أخرى فغيروا المعنى والألفاظ ، والصحيح أن تحريف الكلم عن مواضعه هو التغيير في اللفظ والمعنى ، ومن اطلع على التوراة علم ذلك حقيقة ، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى . وهذه الجملة وما بعدها جاءت بياناً لقسوة قلوبهم ، ولا قسوة أشد من الافتراء على الله تعالى وتغيير وحيه . وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي الكلام بالألف . وقرأ أبو رجاء : الكلم بكسر الكاف وسكون اللام . وقرأ الجمهور : الكلم بفتح الكاف .
( وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ ( وهذا أيضاً من قسوة قلوبهم وسوء فعلهم بأنفسهم ، حيث ذكروا بشيء فنسوه وتركوه ، وهذا الحظ

" صفحة رقم 462 "
من الميثاق المأخوذ عليهم . وقيل : لما غيروا ما غيّروا من التوراة استمروا على تلاوة ما غيروه ، فنسوا حظاً مما في التوراة قاله مجاهد . وقيل : أنساهم نصيباً من الكتاب بسبب معاصيهم ، وعن ابن مسعود : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية ، وتلا هذه الآية . وقال الشاعر : شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأومأ لي إلى ترك المعاصي
وقيل : تركوا نصيبهم مما أمروا به من الإيمان بالرسول وبيان نعته .
( وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ ( أي هذه عادتهم وديدنهم معك ، وهم على مكان أسلافهم من خيانة الرسل وقتلهم الأنبياء . فهم لا يزالون يخوفونك وينكثون عهودك ، ويظاهرون عليك أعداءك ، ويهمون بالقتل بك ، وأن يسموك . ويحتمل أن يكون الخائنة مصدراً كالعافية ، ويدل على ذلك قراءة الأعمش على خيانة ، أو اسم فاعل ، والهاء للمبالغة كراوية أي خائن ، أو صفة لمؤنث أي قرية خائنة ، أو فعلة خائنة ، أو نفس خائنة . والظاهر في الاستثناء أنه من الأشخاص في هذه الجملة ، والمستثنون عبد الله بن سلام وأصحابه قاله : ابن عباس . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون في الأفعال أي : إلا فعلاً قليلاً منهم ، فلا تطلع فيه على خيانة . وقيل : الاستثناء من قوله : ) وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ( والمراد به المؤمنون ، فإنّ القسوة زالت عن قلوبهم ، وهذا فيه بعد .
( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( ظاهره الأمر بالمعروف والصفح عنهم جميعهم ، وذلك بعث على حسن التخلق معهم ومكارم الأخلاق . وقال ابن جرير : يجوز أن يعفو عنهم في مغدرة فعلوها ما لم ينصبوا حرباً ، ولم يمتنعوا من أداء جزية . وقيل : الضمير عائد على من آمن منهم ، فلا تؤاخذهم بما سلف منهم ، فيكون عائداً على المستثنين . وقيل : هذا الأمر منسوخ بآية السيف . وقيل : بقوله : ) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ). وقيل : بقوله : ) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً ( وفسر قوله : يحب المحسنين ، بالعافين عن الناس ، وبالذين أحسنوا عملهم بالإيمان ، وبالمستثنين وهم الذين ما نقضوا العهد والذين آمنوا وبالنبي عليه السلام لأنه المأمور في الآية بالصفح والعفو .
المائدة : ( 14 ) ومن الذين قالوا . . . . .
( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ ). الظاهر أنّ من تتعلق بقوله : أخذنا وأنَّ الضمير في ميثاقهم عائد على الموصول ، وأنّ الجملة معطوفة على قوله : ) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ ( والمعنى : أنه تعالى أخذ من النصارى ميثاق أنفسهم وهو الإيمان بالله والرسل وبأفعال الخير . وقيل : الضمير في ميثاقهم عائد على بني إسرائيل ، ويكون مصدراً شبيهاً أي : وأخذنا من النصارى ميثاقاً مثل ميثاق بني إسرائيل . وقيل : ومن الذين معطوف على قوله : منهم ، من قوله : ) وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ ( منهم أي من اليهود ، ومن الذين قالوا إنا نصارى . ويكون قوله : أخذنا ميثاقهم مستأنفاً ، وهذا فيه بعد للفصل ، ولتهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه دون ضرورة . وقال قتادة : أخذ على النصارى الميثاق كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فتركوا ما أمروا به . وقال غيره : أخذ الميثاق عليهم بالعمل بالتوراة ، وبكتب الله المنزلة وأنبيائه ورسله . وفي قوله : قالوا إنا نصارى ، توبيخ لهم وزجر عما ادعوه من أنهم ناصر ودين الله وأنبيائه ، إذ جعل ذلك منهم مجرد دعوى لا حقيقة . وحيث جاء النصارى من غير نسبة إلى أنهم قالوا عن أنفسهم ذلك ، فإنما هو من باب العلم لم يلحظ فيه المعنى الأول الذي قصدوه من النصر ، كما صار اليهود علماً لم يحلظ فيه معنى قوله اهدنا إليك . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فهلا قيل : ومن النصارى ؟ ( قلت ) : لأنهم إنما سموا بذلك أنفسهم ادعاء لنصرة الله ، وهم الذين قالوا لعيسى : نحن أنصار الله ثم اختلفوا بعد إلى نسطورية ويعقوبية وملكانية

" صفحة رقم 463 "
انتهى . وقد تقدم في أوائل البقرة أنه قيل : سموا نصارى لأنهم من قرية بالشام تسمى ناصرة ، وقوله : وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله القائل لذلك هم الحواريون ، وهم عند الزمخشري كفار ، وقد أوضح ذلك على زعمه في آخر هذه السورة ، وعند غيرهم مؤمنون ، ولم يختلفوا هم ، إنما اختلف من جاء بعدهم ممن يدعي تبعيتهم .
( فَنَسُواْ حَظّاً مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ ( قال أبو عبد الله الرازي : في مكتوب الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والحظ هو الإيمان به ، وتنكيراً لحظ يدل على أن المراد به حظ واحد وهو الإيمان بالرسول ، وخص هذا الواحد بالذكر مع أنهم تركوا أكثر ما أمرهم الله به ، لأنّ هذا هو المعظم والمهم .
( فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ( الضمير في بيتهم يعود على النصارى قاله الربيع . وقال الزجاج : النصارى منهم والنسطورية واليعقوبية والملكاتية ، كل فرقة منهم تعادي الأخرى . وقيل : الضمير عائد على اليهود والنصارى ، أي : بين اليهود والنصارى قاله مجاهد ، وقتادة ، والسدّي : فإنهم أعداء يلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم بعضاً .
( وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ( هذا تهديد ووعيد شديد بعذاب الآخرة ، إذ موجب ما صنعوا إنما هو الخلود في النار .
المائدة : ( 15 ) يا أهل الكتاب . . . . .
( يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ( قال محمد بن كعب القرظي : أول ما نزل من هذه لسورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى ، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع . وأهل الكتاب يعم اليهود والنصارى . فقيل : الخطاب لليهود خاصة ، ويؤيده ما روى خالد الحذاء عن عكرمة قال : أتى اليهود الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يسألونه عن الرجم ، فاجتمعوا في بيت فقال : ( أيكم أعلم ) ؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فقال : ( أنت أعلمهم ) قال : سل عما شئت قال : ( أنت أعلمهم ) ؟ قال إنهم يقولون ذلك ، قال : ( فناشدتك الله الذي أنزل التوراة على موسى ، والذي رفع الطور فناشده بالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه إفكل ، فقال : إنّ نساءنا نساء حسان فكثر فينا القتل ، فاختصرنا فجلدنا مائة مائة ، وحلقنا الرؤوس ، وخالفنا بين الرؤوس على الدابرات أحسبه قال : الإبل . قال : فأنزل الله يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا . وقيل : الخطاب لليهود والنصارى الذين يخفون صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والرجم ونحوه . وأكثر نوازل الإخفاء إنما نزلت لليهود ، لأنهم كانوا مجاوري الرسول في مهاجرة . والمعنى بقوله : رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأضيف إلى الله تعالى إضافة تشريف . وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوّته ، لأنّ إعلامه بما يخفون من كتابهم وهو أمّي لا يقرأ ولا يكتب ولا يصحب القرّاء ، دلالة على أنه إنما يعلمه الله تعالى . وقوله : من الكتاب ، يعني التوراة ، ويعفو عن كثير أي : مما يخفون لا يبينه إذا لم تدع إليه مصلحة دينية ، ولا يفضحكم بذلك إبقاء عليكم . وقال الحسن : ويعفو عن كثير ، هو ما جاء به الرسول من تخفيف ما كان شدّد عليهم ، وتحليل ما كان حرم عليهم . وقيل : لا يؤاخذكم بها ، وهذا المتروك الذي لا يبين هو في معنى افتخارهم ونحوه مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم به وتكذيبهم ، والظاهر أن فاعل يبين ويعفو عائد على رسولنا ، ويجوز أن يعود على الله تعالى .
( قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( قيل : هو القرآن سماه نوراً لكشف ظلمات الشرك والشك ، أو لأنه ظاهر الإعجاز . وقيل : النور الرسول . وقيل : الإسلام . وقيل : النور موسى ، والكتاب المبين التوراة . ولو اتبعوها حق الاتباع لآمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذ هي آمرة بذلك مبشرة به .
المائدة : ( 16 ) يهدي به الله . . . . .
( يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سَبِيلٍ السَّلَامُ ( أي رضا الله سبل السلام طرق النجاة ، والسلامة من عذاب الله . والضمير في به ظاهره أنه يعود على كتاب الله ، ويحتمل أن يكون عائداً على الرسول . قيل : ويحتمل أن يعود على الإسلام . وقيل : سبل السلام ، قيل دين الإسلام . وقال الحسن

" صفحة رقم 464 "
والسدي : السلام هو الله تعالى ، وسبله دينه الذي شرعه . وقيل : طرق الجنة . وقرأ عبيد بن عمير ، والزهري ، وسلام ، وحميد ، ومسلم بن جندب : به الله بضم الهاء حيث وقع . وقرأ الحسن ، وابن شهاب : سبل ساكنة الباء .
( وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ( أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أي بتمكينه وتسويغه . وقيل : ظلمات الجهل ونور العلم .
( وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( هو دين الله وتوحيده . وقيل : طريق الجنة . وقيل : طريق الحق ، وروي عن الحسن . والظاهر أنّ هذه الجمل كلها متقاربة المعنى ، وتكرر للتأكيد ، والفعل فيها مسند إليه تعالى .
المائدة : ( 17 ) لقد كفر الذين . . . . .
( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ( ظاهره أنهم قالوا بأن الله هو المسيح حقيقة ، وحقيقة ما حكاه تعالى عنهم ينافي أن يكون الله هو المسيح ، لأنهم قالوا ابن مريم ، ومن كان ابن امرأة مولوداً منها استحال أن يكون هو الله تعالى . واختلف المفسرون في تأويل هذه الآية . فذهب قوم إلى أنهم كلهم قائلون هذا القول وهم على ثلاث فرق كما تقدم ، وأنهم أجمعوا وإن اختلفت مقالاتهم على أنّ معبودهم جوهر واحد أقانيم ثلاثة : الأب ، والابن ، والروح أي الحياة ويسمونها روح القدس . وأن الابن لم يزل مولوداً من الأب ، ولم يزل الأب والداً للابن ، ولم تزل الروح منتقلة بين الأب والابن . وأجمعوا على أن المسيح لاهوت وناسوت أي : إله وإنسان . فإذا قالوا : المسيح إله واحد ، فقد قالوا الله هو المسيح . وذهب قوم إلى أنّ القائلين هذا القول فرقة غير معينة يقولون : إن الكلمة اتخذت بعيسى سواء قدرت ذاتاً أم صفة . وذهب قوم إل أنّ اليعقوبية من النصارى هي القائلة بهذه المقالة ، ذكره البغوي في معالم التنزيل .
قال بعض المفسرين : وكل طوائفهم الثلاثة اليعقوبية ، والملكانية ، والنسطورية ، ينكرون هذه المقالة ، والذي يقرون به أن عيسى ابن الله تعالى ، وأنه إله . وإذا اعتقدوا فيه أنه إله لزم من ذلك قولهم بأنه الله انتهى . وقد رأيت من نصارى بلاد الأندلس من كان ينتمي إلى العلم فيهم ، وذكر لي أنّ عيسى نفسه هو الله تعالى ، ونصارى الأندلس ملكية . قلت له : كيف تقول ذلك ، ومن المتفق عليه أن عيسى كأن يأكل ويشرب ، فتعجب من قولي وقال : إذا كنت أنت بعض مخلوقات الله قادراً على أن تأكل وتشرب ، فكيف لا يكون الله قادراً على ذلك ؟ فاستدللت من ذلك على فرط غباوته وجهله بصفات الله تعالى . وذهب ابن عباس إلى نهم أهل نجران ، وزعم طائفة منهم أنه إله الأرض ، والله إله السماء . ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإسلام ظاهراً وانتمى إلى الصوفية حلول الله تعالى في الصور الجميلة ، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة : كالحلاج ، والشوذى ، وابن أحلى ، وابن العربي المقيم كان بدمشق ، وابن الفارض . وأتباع هؤلاء كابن سبعين ، والتستري تلميذه ، وابن مطرف المقيم بمرسية ، والصفار

" صفحة رقم 465 "
المقتول بغرناطة ، وابن اللباج ، وأبو الحسن المقيم كان بلورقة . وممن رأيناه يرمي بهذا المذهب الملعون العفيف التلمساني وله في ذلك إشعار كثيرة ، وابن عياش المالقي الأسود الأقطع المقيم كان بدمشق ، وعبد الواحد بن المؤخر المقيم كان بصعيد مصر ، والأيكي العجمي الذي كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهر من ديار مصر ، وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ التستري المقيم كان بحارة زويلة . وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدين الله يعلم الله ذلك وشفقة على ضعفاء المسلمين ، وليحذروا فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله تعالى ورسله ويقولون بقدم العالم ، وينكرون البعث . وقد أولع جهلة ممن ينتمي للتصوّف بتعظيم هؤلاء وادّعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه ، والردّ على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين .
وقال ابن عطية : القائلون بأن الله هو المسيح فرقة من النصارى ، وكل فرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح حظاً من الألوهية . وقال الزمخشري : قيل : كان في النصارى من يقول ذلك ، وقيل : ما صرحوا به ، ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر العالم .
( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( هذا ردّ عليهم . والفاء في : فمن للعطف على جملة محذوفة تضمنت كذبهم في مقالتهم التقدير : قل كذبوا ، وقل ليس كما قالوا فمن يملك ، والمعنى : فمن يمنع من قدرة الله وإرادته شيئاً ؟ أي : لا أحد يمنع مما أراد الله شيئاً إن أراد أن يهلك من ادعوه إلهاً من المسيح وأمه . وفي ذلك دليل على أنه وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما ، بل تنفذ فيهما إرادة الله تعالى ، ومن تنفذ فيه لا يكون إلهاً ، وعطف عليهما : ومن في الأرض جميعاً ، عطف العام على الخاص ليكونا قد ذكرا مرّتين : مرّة بالنص عليهما ، ومرة بالاندراج في العام ، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإرادة فيهما . وليعلم ، أنهما من جنس من في الأرض لا تفاوت بينهما في البشرية ، وفي ذلك إشارة إلى حلول الحوادث بهما ، والله سبحانه وتعالى منزه أن تحلّ به الحواث ، وأن يكون محلاً لها . وفي هذا رد على الكرامية .
( وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ( والمسيح وأمه من جملة ما في الأرض ، فهما مقهوران لله تعالى ، مملوكان له ، وهذه الجملة مؤكدة لقوله : إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ، ودلالة على أنه إذا أراد فعل ، لأنّ من له ذلك الملك يفعل في ملكه ما يشاء .
( يَخْلُقُ مَا يَشَاء ( أي أنّ خلقه ليس مقصوراً على نوع واحد ، بل ما تعلقت مشيئته بإيجاده أو جده واخترعه ، فقد يوجد شيئاً لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه السلام ، وأوائل الأجناس المتولد بعضها من بعض . وقد يخلق من ذكر وأنثى ، وقد يخلق من أنثى لا من ذكر معها كالمسيح . ففي قوله : يخلق ما يشاء ، إشارة إلى أنّ المسيح وأمه مخلوقان . وقيل : معنى يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة ، وكإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وغير ذلك ، فيجب أن تنسب إليه ولا تنسب إلى البشر المجرى على يده . وتضمن الرد عليهم أن من كان مخلوقاً مقهوراً بالملك عاجزاً عن دفع ما يريد الله به لا يكون إلهاً .
( وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيراً ( تقدم تفسير هذه لجملة ، وكثيراً ما يذكر القدرة عثيب الاختراع وذكر الأشياء الغريبة .
المائدة : ( 18 ) وقالت اليهود والنصارى . . . . .
( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( ظاهر اللفظ أن جميع اليهود والنصارى قالوا عن جميعهم ذلك وليس كذلك ، بل في الكلام لف وإيجاز . والمعنى : وقالت كل فرقة من اليهود والنصارى عن نفسها خاصة : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقالت اليهود : ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء . والبنوة هنا بنوة الحنان والرأفة . وما ذكروا من أن الله أوحى إلى إسرائيل أنّ أولادك بكرى فضلوا بذلك . وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، لا يصح . ولو صحّ ما رووا ، كان معناه بكراً في التشريف والنبوة ونحو ذلك . وجعل الزمخشري قولهم : أبناء الله ، على حذف مضاف ، وأقيم هذا مقامه

" صفحة رقم 466 "
أي : نحن أشياع الله ابني الله عزير والمسيح ، كما قيل لأشياع أبي خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبيون ، وكما كان يقول رهط مسلمة : نحن أبناء الله ، ويقول أقرباء الملك وحشمه : نحن الملوك . وأحباؤه جمع حبيب فعيل بمعنى مفعول ، أي محبوبوه ، أجرى مجرى فعيل من المضاعف الذي هو اسم الفاعل نحو : لبيب وألباء . وقائل هذه المقالة : بعض اليهود الذين كانوا بحضرة الرسول ، فنسب إلى الجميع لأنّ ما وقع من بعض قد ينسب إلى الجميع . قال الحسن : يعنون في القرب منه أي : نحن أقرب إلى الله منكم له ، يفخرون بذلك على المسلمين . قال ابن عياش : هم طائفة من اليهود خوفهم الرسول عقاب الله فقالوا : أتخوفنا بالله ونحن أبناء الله وأحباؤه ؟ وروي أيضاً عن ابن عباس : أن يهود المدينة كعب بن الأشرف وغيره من نصارى نجران السيد والعاقب ، خاصموا أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فعيرهم الصحابة بالكفر وغضب الله عليهم ، فقالت اليهود : إنما غضب الله علينا كما يغضب الرّجل على ولده ، نحن أبناء الله وأحباؤه . هذا قول اليهود ، وأما النصارى فإنهم زعموا أنّ عيسى قال لهم : اذهبوا إلى أبي وأبيكم .
( قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم ( أي إن كنتم كما زعمتم ، فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ وكانوا قد قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في غير ما موطن : نحن ندخل النار فنقيم فيها أربعين يوماً ، ثم تخلفوننا فيها . والمعنى : لو كانت منزلتكم منه فوق منزلة البشر لما عذبكم ، وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم ، وهذا على أنّ العذاب هو في الآخرة . ويحتمل أن يريد به العذاب في الدّنيا بمسخ آبائهم على تعديهم في السبت ، وبقتل أنفسهم على عبادة العجل ، وبالتيه على امتناعهم من قتال الجبارين ، وبافتضاح من أذنب منهم بأن يصبح مكتوباً على بابه ذنبه وعقوبته عليه فتنفذ فيهم ، والإلزام بكلا التعذيبين صحيح . أما الأول فلإقرارهم أن ذلك سيقع ، وأما الآخر فلوقوع ذلك فيما مضى لا يمكن إنكار شيء منه . والاحتجاج بما وقع أقوى . وخرَّج الزمخشري التعذيبين : الدنيوي ، والأخراوي في كلامه ، وأشرب تفسير الآية بشيء من مذهبه الاعتزالي ، وحرف التركيب القرآني على عادته ، فقال : إن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه ، فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون ، وتمسكم النار في أيام معدودات على زعمكم ؟ ولو كنتم أبناء الله لكنتم من جنس الأب غير فاعلين للقبائح ، ولا مستوجبين للعذاب . ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه ، ولما عاقبكم انتهى . ويظهر من قوله : ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه ، أن يكون أحباؤه جمع حبيب بمعنى محب ، لأن المحب لا يعصي من يحبه ، بخلاف المحبوب فإنه كثيراً ما يعصي محبه . وقال القشيري : البنوّت تقتضي المحبة ، والحق منزه عنها ، والمحبة التي بين المتجانسين تقتضي الاختلاط والمؤانسة ، والحق مقدس عن ذلك ، والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضاً للقديم ، والقديم لا بعض له ، لأن الأحدية حقه ، وإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكون له ولد ، وإذا لم يكن له ولد لم يجز على الوجه الذي اعتقدوه أن بينهم وبينه محبة .
( بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ( أضرب عن الاستدلال من غير إبطال له إلى استدلاله آخر من ثبوت كونهم بشراً من بعض من خلق ، فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث ، وهما يمنعان البنوة . فإنّ القديم لا يلد بشراً ، والأب لا يخلق ابنه ، فامتنع بهذين الوجهين البنوة ، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله ، فبطل الوصفان اللذان ادعوهما .
( يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء ( أي يهديه للإيمان فيغفر له .
( وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء ( أي يورطه في الكفر فيعذبه ، أو يغقر لمن يشاء وهم أهل الطاعة ، ويعذب من يشاء وهم العصاة . قاله الزمخشري . وفيه شيء من دسيسة الاعتزال ، لأنّ من العصاة عندنا من لا يعذبه الله تعالى بل يغفر له . وقيل : المعنى أنه ليس لأحد عليه حق يوجب أن يغفر له ، أو يمنعه أن يعذبه ، ولذلك عقبه بقوله :
) وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ( فله التصرف التام يفعل ما يشاء لا معقب

" صفحة رقم 467 "
لحكمه .
المائدة : ( 19 ) يا أهل الكتاب . . . . .
( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( أي الرجوع بالحشر والمعاد .
( الْمَصِيرُ يََأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ( أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، والرسول هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : المخاطب بأهل الكتاب هنا هم اليهود خاصة ، ويرجحه ما روي في سبب النزول : وأن معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب قالوا : يا معشر اليهود اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله . ويبين لكم أي يوضح لكم ويظهر . ويحتمل أن يكون مفعول يبين حذف اختصار ، أو يكون هو المذكور في الآية . قبل هذا ، أي : يبين لكم ما كنتم تخفون ، أو يكون دل عليه معنى الكلام أي : شرائع الدين . أو حذف اقتصاراً واكتفاء بذكر التبيين مسنداً إلى الفاعل ، دون أن يقصد تعلقه بمفعول ، والمعنى : يكون منه التبيين والإيضاح . ويبين لكم هنا وفي الآية قبل في موضع نصب على الحال . وعلى فترة متعلق بجاءكم ، أو في موضع نصب على الحال ، والمعنى : على فتور وانقطاع من إرسال الرسل .
والفترة التي كانت بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعيسى عليه السلام قال قتادة : خمسمائة سنة وستون . وقال الضحاك : أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة . وقيل : أربعمائة ونيف وستون . وذكر محمد بن سعد في كتاب الطبقات له عن ابن عباس : أن كان بين ميلاد عيسى والنبي عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وتسع وستون سنة ، بعث في أولها ثلاثة أنبياء . وهو قوله تعالى : ) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ( وهو شمعون وكان من الحواريين . وقال الكلبي مثل قول ابن عباس إلا أنه قال : بينهما أربعة أنبياء ، واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان الذي قال فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ضيعه قومه ) . وروي عن الكلبي أيضاً خمسمائة وأربعون . وقال وهب : ستمائة سنة وعشرون . وقيل : سبعمائة سنة . وقال مقاتل : ستمائة سنة ، وروي هذا عن قتادة والضحاك . وذكر ابن عطية أن هذا روي في الصحيح . فإن كانا كما ذكر وجب أن لا يعدل عنه لسواه . وهذه التواريخ نقلها المفسرون من كتب اليونان وغيرهم ممن لا يتحرّى النقل . وذكر ابن سعد في الطبقات عن ابن عباس والزمخشري عن الكلبي قالا : كان بين موسى وعيسى ألف سنة وسبعمائة سنة ، وألف نبيّ ، زاد ابن عباس من بني إسرائيل دون من أرسل من غيرهم ، ولم يكن بينهما فترة . والمعنى : الامتنان عليهم بإرسال الرسل على حين انطمست آثار الوحي ، وهم أحوج ما يكونون إليه ليعدوه أعظم نعمة من الله وفتح باب إلى الرحمة ، ويلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غلفتهم . وأن تقولوا : مفعول من أجله فقده البصريون : كراهة أو حذار أن تقولوا . وقدره الفراء : لئلا تقولوا . ويعني يوم القيامة على سبيل الاحتجاج .
( فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ( قيل : وفي الكلام حذف أي : لا تعتدوا فقد جاءكم بشير ، أي لمن أطاع بالثواب ، ونذير لمن عصى بالعقاب . وفي هذا ردّ على اليهود حيث قالوا : ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده .
( وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ( هذا عامّ فقيل على كل شيء من الهداية والضلال . وقيل : من البعثة وإمساكها . والأولى العموم فيندرج فيه ما ذكروا .
المائدة : ( 20 ) وإذ قال موسى . . . . .
( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءاتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى بين تمرّد أسلاف اليهود على موسى ، وعصيانهم إياه ، مع تذكيره إياهم نعم الله وتعداده لما هو العظيم منها ، وأن هؤلاء الذين هم بحضرة الرسول هم جارون معكم مجرى أسلافهم مع موسى . ونعمة الله يراد بها الجنس ، والمعنى : واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغيب كتبهم ليتحققوا نبوّتك . وينتظم في ذلك ذكر نعم الله عليهم ، وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة . وعدّد عليهم من نعمه ثلاثاً : الأولى : جعل أنبياء فيهم وذلك أعظم الشرف ، إذ هم الوسائط بين الله وبين خلقه ، والمبلغون عن الله شرائعه . قيل : لم يبعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء . وقال ابن السائب ومقاتل : الأنبياء هنا هم السبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه ، وكانوا من خيار قومه . وقيل : هم الذين أرسلوا من بعد في بني إسرائيل كموسى ذكره الماوردي وغيره ، وعلى هذا

" صفحة رقم 468 "
القول يكون جعل لا يراد بها حقيقة الماضي بالفعل ، إذ بعضهم كان قد ظهر عند خطاب موسى إياهم ، وبعضهم لم يخلق بل أخبر أنه سيكون فيهم . الثانية : جعلهم ملوكاً ظاهره الامتنان عليهم بأن جعلهم ملوكاً إذ جعل منهم ملوكاً ، إذ الملك شرف في الدنيا واستيلاء ، فذكرهم بأن منهم قادة الآخرة وقادة الدنيا . وقال السدي وغيره : وجعلكم أحراراً تملكون ولا تملكون ، إذ كنتم خدماً للقبط فأنقذكم منهم ، فسمي استنقاذكم ملكاً . وقال قوم : جعلهم ملوكاً بإنزال المن والسلوى عليهم وتفجير الحجر لهم ، وكون ثيابهم لا تبلى ولا تنسخ وتطول كلما طالوا ، فهم ملوك لرفع هذه الكلف عنهم . وقال قتادة : ملوكاً لأنهم أول من اتخذ الخدام واقتنوا الأرقاء . وقال ابن عطية وقتادة : وإنما قال وجعلكم ملوكاً ، لأنا كنا نتحدث أن أول من خدمه آخر من بني آدم . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل . وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم يسخر بعضاً مدة تناسلوا وكثروا انتهى .
وهذه الأقوال الثلاثة عامة في جميع بني إسرائيل ، وهو ظاهر قوله : وجعلكم ملوكاً . وقال عبد الله بن عمر ، والحسن ، ومجاهد ، وجماعة : من كان له مسكن وامرأة وخادم فهو ملك . وقيل : من له مسكن ولا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك . وقيل : من له زوجة وخادم ، وروي هذا عن ابن عباس . وقال عكرمة : من ملك عندهم خادماً وبيتاً دعي عندهم ملكاً . وقيل : من له منزل واسع فيه ماء جار . وقيل : من له مال لا يحتاج فيه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق . وقيل : ملوك لقناعتهم ، وهو ملك خفي . ولهذا جاء في الحديث : ( القناعة كنز لا ينفذ ) . وقيل : لأنهم ملكوا أنفسهم وذادوها عن الكفر ومتابعة فرعون . وقيل : ملكوا شهوات أنفسهم ذكر هذه الأقوال الثلاثة التبريزي في تفسيره . الثالثة : إيتاؤه إياهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، فسره ابن عباس فيما روى عنه مجاهد : بالمن والسلوى ، والحجر ، والغمام . وروى عنه عطاء الدار والزوجة والخادم . وقيل : كثرة الأنبياء . وقال ابن جرير : ما أوتي أحد من النعم في زمان قوم موسى ما أوتوا ، خصوا بفلق البحر لهم ، وإنزال المن والسلوى ، وإخراج المياه العذبة من الحجر ، ومد الغمام فوقهم . ولم تجمع النبوة والملك لقومٍ كما جمعا لهم ، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله وأحباؤه وأنصار دينه انتهى . وأن المراد كثرة الأنبياء ، أو خصوصات مجموع آيات موسى . فلفظ العالمين مقيد بالزمان الذي كان فيه بنو إسرائيل ، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أكثر من ذلك : قد ظلل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بغمامة قبل مبعثه ، وكلمته الحجارة والبهائم ، وأقبلت إليه الشجرة ، وحن له الجذع ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وشبع كثير من الناس من قليل الطعام ببركته ، وانشق له القمر ، وعد العود سيفاً ، وعاد الحجر المعترض في الخندق رملاً مهيلاً إلى غير ذلك من آياته العظمى ومعجزاته الكبرى . وهذه المقالة من موسى لبني إسرائيل وتذكيرهم بنعم الله هي توطئة لنفوسهم ، وتقدم إليهم بما يلقى من أمر قتال الجبارين ليقوي حاشهم ، وليعلموا أنّ من أنعم الله عليه بهذه النعم العظيمة لا يخذله الله ، بل يعليه على عدوه ويرفع من شأنه ، ويجعل له السلطنة والقهر عليه .
والخطاب في قوله : وآتاكم ، ظاهره أنه لبني إسرائيل كما شرحناه ، وأنه من كلام موسى لهم ، وبه قال الجمهور . وقال أبو مالك ، وابن جبير : هو خطاب لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وانتهى الكلام عند قوله : وجعلكم ملوكاً ، ثم التفت إلى هذه الأمة لما ذكر موسى قومه بنعم الله ، ذكر الله أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) بهذه النعمة الظاهرة جبراً لقلوبهم ، وأنه آتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، وعلى هذا المراد بالعالمين العموم ، فإن الله فضل أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) على سائر الأمم ، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، وأسبغ عليهم من النعم ما لم يسبغها على أحد من الأمم ، وهذا معنى قول ابن جرير وهو اختياره . وقال ابن عطية : وهذا ضعيف ، وإنما ضعف عنده لأن الكلام في نسق واحد من خطاب موسى لقومه ، وهو معطوف على ما قبله ، ولا يلزم

" صفحة رقم 469 "
ما قاله ، لأن القرآن جاء على قانون كلام العرب من الالتفات والخروج من خطاب إلى خطاب ، لا سيما إذا كان ظاهر الخطاب لا يناسب من خوطب أولاً ، وإنما يناسب من وجه إليه ثانياً ، فيقوي بذلك توجيه الخطاب إلى الثاني إذا حمل اللفظ على ظاهره . وقرأ ابن محيصن : ياقُوم بضم الميم ، وكذا حيث وقع في القرآن ، وروى ذلك عن ابن كثير . وهذا الضم هو على معنى الإضافة ، كقراءة من قرأ : قل رب احكم بالحق بالضم وهي إحدى اللغات الخمس الجائزة في المنادى المضاف لياء المتكلم .
المائدة : ( 21 ) يا قوم ادخلوا . . . . .
( مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ( المقدسة المطهرة ، وهي أريحا قاله : السدي وابن زيد ، ورواه عكرمة عن ابن عباس . وقيل : موضع بيت المقدس . وقيل : ايليا . قال ابن قتيبة . قرأت في مناجاة موسى قال : اللهم إنك اخترت فذكر أشياء ثم قال : رب ايليا بيت المقدس . وقال ابن الجوزي : قرأت على أبي منصور اللغوي قال : ايليا بيت المقدس . قال الفرزدق : وبيتان بيت الله نحن نزوره
وبيت بأعلى ايلياء مشرف
وقيل : الطور ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، واختاره الزجاج . وقيل : فلسطين ودمشق وبعض الأردن . قال قتادة : هي الشام . وقال الكلبي : صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقال له جبريل : انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس ، وهو ميراث لذريتك . وقيل : ما بين الفرات وعريش مصر . قال الطبري : لا يختلف أنها ما بين الفرات وعريش مصر قال : وقال الادفوي : أجمع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار أنها ما بين الفرات وعريش مصر . وقال الطبري : تظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين انتهى .
والتقديس : التطهير قيل : من الآفات . وقيل : من الشرك ، جعلت مسكناً وقراراً للأنبياء ، وغلبة الجبارين عليها لا يخرجها عن أن تكون مقدسة . وقيل : المقدسة المباركة طهرت من القحط والجوع ، وغير ذلك قاله مجاهد . وقيل : سميت مقدسة لأن فيها المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب ، ومنه قيل : للسطل قدس لأنه يتوضأ به ويتطهر . ومعنى كتبها الله لكم : قسمها ، وسماها ، أو خط في اللوح أنها لكم مسكن وقرار . وقال ابن إسحاق : وهبها لكم . وقال السدي : أمركم بدخولها ، وفي ذلك تنشيط لهم وتقوية إذا خبرهم بأنّ الله كتبها لهم . والظاهر استعمال كتب في الفرض كقوله : ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( و ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ( وأما إن كان كتبها بمعنى خط في الأزل ، وقضى ، فلا يحتاج ظاهر هذا اللفظ ظاهر قوله : محرمة عليهم . فقيل : اللفظ عام . والمراد الخصوص كأنه قال : مكتوبة لبعضهم وحرام على بعضهم ، أو ذلك مشروط بقيد امتثال القتال ، فلم يمتثلوا ، فلم يقع المشروط أو التحريم ، مقيد بأربعين سنة فلما انقضت جعل ما كتب . وأما إن كان كتبها لهم بمعنى أمركم بدخولها ، فلا يعارض التحريم . حرم عليهم دخولها وماتوا في التيه ، ودخل مع موسى أبناؤهم الذين لم تحرم عليهم . وقيل : إن موسى وهارون عليهما السلام ماتا في التيه ، وإنما خرج أبناؤهم مع حزقيل . وقال ابن عباس : كانت هبة ، ثم حرمها عليهم بعصيانهم .
( وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ( أي لا تنكصوا على أعقابكم من خوف الجبابرة جبناً وهلعاً . وقيل : حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : ليتنا متنا بمصر ، وقالوا : تعالوا نجعل علينا رأساً ينصرف بنا إلى مصر . ويحتمل أن يراد : لا ترتدوا على أدباركم ، في دينكم لمخالفتكم أمر ربكم وانقلابهم خاسرين ،

" صفحة رقم 470 "
إن كان الارتداد حقيقياً وهو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه فمعناه : يصيرون إلى الذل بعد العز والخلاص من أيدي القبط . وإن كان الارتداد مجازاً وهو ارتدادهم عن دينهم فمعناه : يخسرون خير الدنيا وثواب الآخرة . وحقيق بالخسران مَن خالف ما فرضه الله عليه من الجهاد وخالف أمره .
المائدة : ( 22 ) قالوا يا موسى . . . . .
( قَالُواْ يأَ مُوسَى أَنِ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ( أي : قال النقباء الذين سيرهم موسى لكشف حال الجبابرة ، أو قال رؤساؤهم الذين عادتهم أن يطلعوا على الأسرار وأن يشاوروا في الأمور . وهذا القول فيه بعد لتقاعسهم عن القتال أي : أنّ فيها من لا نطيق قتالهم . قيل : هم من بقايا عاد ، وقيل : من الروم من ولد عيص بن إسحاق . وقرأ ابن السميقع : قالوا يا موسى فيها قوم جبارون .
( وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا ( هذا تصريح بالامتناع التام من أن يقاتلوا الجبابرة ، ولذلك كان النفي بلن . ومعنى حتى يخرجوا منها : بقتال غيرنا ، أو بسبب يخرجهم الله به فيخرجون .
( فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخِلُونَ ( وهذا توجيه منهم لأنفسهم بخروج الجبارين منها ، إذ علقوا دخولهم على شرط ممكن وقوعه . وقال أكثر المفسرين : لم يشكوا فيما وعدهم الله به ، ولكن كان نكوصهم عن القتال من خور الطبيعة والجبن الذي ركبه الله فيهم ، ولا يملك ذلك إلا من عصمه الله وقال تعالى : ) فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ ). وقيل قالوا ذلك على سبيل الاستبعاد أن يقع خروج الجبارين منها كقوله تعالى ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط .
المائدة : ( 23 ) قال رجلان من . . . . .
( قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ ( الأشهر عند المفسرين أنّ الرجلين هما يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف وهو ابن أخت موسى ، وكالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران ويقال فيه : كلاب ، ويقال : كالوب ، وهما اللذان وفيا من النقباء الذين بعثهم موسى في كشف أحوال الجبابرة فكتما ما اطلعا عليه من حال الجبابرة إلا عن موسى ، وأفشى ذلك بقية النقباء في أسباطهم فآل بهم ذلك إلى الخور والجبن بحيث امتنعوا عن القتال . وقيل : الرجلان كانا من الجبارين آمنا بموسى واتبعاه ، وأنعم الله عليهما بالإيمان . فإن كان الرجلان هما يوشع وكالب فمعنى قوله : يخافون ، أي : يخافون الله ، ويكون إذ ذاك مع موسى أقوام يخافون الله فلا يبالون بالعدو لصحة إيمانهم وربط جأشهم ، وهذان منهم . أو يخافون العدو ، ولكن أنعم الله عليهما بالإيمان والثبات ، أو يخافهم بنو إسرائيل فيكون الضمير في يخافون عائداً على بني إسرائيل ، والضمير الرابط للصلة بالموصول محذوفاً تقديره : من الذين يخافونهم أي : يخافهم بنو إسرائيل . ويدل على هذا التأويل قراءة ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، يخافون بضم الياء . وتحتمل هذه القراءة أن يكون الرجلان يوشع وكالب . ومعنى يخافون أي : يهابون ويوقرون ويسمع كلامهم لتقواهم وفضلهم ، ويحتمل أن يكون من أخاف أي يخيفون : بأوامر الله ونواهيه وزجره ووعيده ، فيكون ذلك مدحاً لهم كقوله ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( والجملة من أنعم الله عليهما صفة لقوله : رجلان ، وصفا أولاً بالجار والمجرور ، ثم ثانياً بالملة . وهذا على الترتيب الأكثر في تقديم المجرور أو الظرف على الجملة إذا وصفت بهما ، وجوز أن تكون الجملة حالاً على إضمار قد ، وأن تكون اعتراضاً ، فلا يكون لها موضع من الإعراب . وفي قراءة عبد الله . أنعم الله عليهما ويلكم ادخلوا عليهم الباب . والباب : باب مدينة الجبارين ، والمعنى : اقدموا على الجهاد وكافحوا حتى تدخلوا عليهم الباب ، وهذا يدل على أنّ موسى كان قد أنزل محلته قريباً من المدينة .
( فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ( قالا ذلك ثقة بوعد الله في قوله : ) الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ). وقيل : رجاء لنصر الله رسله ، وغلب ذلك على ظنهم . وما غزى قوم في عقر ديارهم إلا ذلوا ، وإذا لم يكونوا حافظي باب مدينتهم حتى دخل وهو المهم ، فلأن لا يحفظوا ما وراء الباب أولى . وعلى قول أنّ الرجلين كانا من الجبارين فقيل : إنهما قالا لهم :

" صفحة رقم 471 "
إنّ العمالقة أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم ، وارجعوا إليهم فإنكم غالبوهم تشجيعاً لهم على قتالهم .
( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( لما رأيا بني إسرائيل قد عصوا الرسول في الإقدام على الجهاد مع وعد الله لهم السابق ، استرابا في إيمانهم ، فأمراهم بالتوكل على الله إذ هو الملجأ والمفزع عند الشدائد ، وعلق ذلك بشرط الإيمان الذي استرابا في حصوله لبني إسرائيل .
المائدة : ( 24 ) قالوا يا موسى . . . . .
( قَالُواْ يا مُوسَى لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا ( لما كرر عليهم أمر القتال كرروا الامتناع على سبيل التوكيد بالموليين ، وقيدوا أولاً نفي الدخول بالظرف المختص بالاستقبال وحقيقته التأييد ، وقد يطلق على الزمان المتطاول فكأنهم نفوا الدخول طول الأبد ، ثم رجعوا إلى تعليق ذلك بديمومة الجبارين فيها ، فأبدلوا زماناً مقيداً من زمان هو ظاهر في العموم في الزمان المستقبل ، فهو بدل بعض من كل .
( فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا ( ظاهر الذهاب الانتقال ، وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة ، ولذلك قال الحسن : هو كفر منهم بالله تعالى . قال الزمخشري : والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة بالله ورسله وقلة مبالاة بهما واستهزاء ، وقصدوا ذهابهما حقيقة لجهلهم وجفائهم وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل ، وسألوا بها رؤية الله جهرة ، والدليل عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم . ويحكى أنّ موسى وهارون خرّا لوجوههما ما قدامهم لشدة ما ورد عليهما فسموا برجمهما ، ولأمر ما قرن الله اليهود بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى : ) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( وقيل : يحتمل أن لا يقصدوا الذهاب حقيقة ، ولكن كما تقول : كلمته فذهب يجبيني ، يريد معنى الإرادة والقصد للجواب ، كأنهم قالوا : اريد إقبالهم .
والمراد بالرّب هنا هو الله تعالى . وذكر النقاش عن بعض المفسرين هنا أن المراد بالرّب هارون ، لأنه كان أسن من موسى ، وكان معظماً في بني إسرائيل محبباً لسعة خلقه ورحب صدره ، فكأنهم قالوا : اذهب أنت وكبيرك . وهو تأويل بعيد يخلص بني إسرائيل من الكفر . وربك معطوف على الضمير المستكن في اذهب المؤكد بالضمير المنفصل ، وقد تقدّم الكلام على ذلك في قوله : ) اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ( ورددنا قول من ذهب إلى أنه مرفوع على فعل أمر محذوف يمكن رفعه الظاهر ، فيكون من عطف الجمل التقدير : فاذهب وليذهب ربك . وذهب بعض الناس إلى أن الواو واو الحال ، وربك مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف . أو تكون الجملة دعاء والتقدير فيهما : وربك يعينك ، وهذا التأويل فاسد بقوله فقاتلا .
( إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( هذا دليل على أنهم خارت طباعهم فلم يقدروا على النهوض معه للقتال ، ولا على الرجوع من حيث جاءوا ، بل أقاموا حيث كانت المحاورة بين موسى وبينهم . وها من قوله هاهنا للتنبيه ، وهنا ظرف مكان للقريب ، والعامل فيه قاعدون . ويجوز في مثل هذا التركيب أن يكون الخبر الظرف وما بعده حال فينتصب ، وأن يكون الخبر الاسم والظرف معمول له . وهو أفصح .
المائدة : ( 25 ) قال رب إني . . . . .
( قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى ( لما عصوا أمر الله وتمردوا على موسى وسمع منهم ما سمع من كلمة الكفر وسوء الأدب مع الله ولم يبق معه من يثق به إلا هارون قال ذلك ، وهذا من الكلام المنطوي صاحبه على الالتجاء إلى الله والشكوى إليه ، ورقة القلب التي تستجلب الرّحمة وتستنزل النصرة ونحوه قول يعقوب : ) إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ ( وعن علي أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال المنافقين فما أجابه إلا رجلان ، فتنفس الصعداء ودعا لهما وقال : أين تتبعان مما أريد ؟ والظاهر إنّ وأخي معطوف على نفسي ، ويحتمل أن يكون وأخي مرفوعاً بالابتداء ، والخبر محذوف لدلالة ما قبله عليه أي : وأخي لا يملك إلا نفسه ، فيكون قد عطف جملة غير مؤكدة على جملة مؤكدة ، أو منصوباً عطفاً على اسم إنّ أي : وإن أخي لا يملك إلا نفسه ، والخبر محذوف ، ويكون قد عطف الاسم والخبر على الخبر نحو : إن زيداً قائم وعمراً شاخص ، أي : وإنّ عمراً شاخص . وأجاز ابن عطية والزمخشري أن يكون وأخي مرفوعاً عطفاً على الضمير المستكن في أملك ، وأجاز ذلك للفصل بينهما بالمفعول المحصور . ويلزم من ذلك

" صفحة رقم 472 "
أنّ موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان الأنفس موسى فقط ، وليس المعنى على ذلك ، بل الظاهر أنّ موسى يملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط . وجوز أيضاً أن يكون مجروراً معطوفاً على ياء المتكلم في نفسي ، وهو ضعيف على رأي البصريين . وكأنه في هذا الحصر لم يثق بالرجلين اللذين قالا : ادخلوا عليهم الباب ، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما عاين من أحوال قومه وتلونهم مع طول الصحبة ، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في ثباته . قيل : أو قال ذلك على سبيل الضجر عندما سمع منهم تعليلاً لمن يوافقه ، أو أراد بقوله : وأخي ، من يوافقني في الدين لا هارون خاصة . وقرأ الحسن : إلا نفسي وأخي بفتح الياء فيهما .
( فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ظاهره أنه دعا بأن يفرق الله بينهما وبينهم بأن يفقد وجوههم ولا يشاهد صورهم إذا كانوا عاصين له مخالفين أمر الله تعالى ، ولذلك نبه على العلة الموجبة للتفرقة بينهم وبين الفسق فالمطيع لا يريد صحبة الفاسق ولا يؤثرها لئلا يصيبه بالصحبة ما يصيبه ، ( وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً ( ) يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ ( وقبل الله دعاءه فلم يكونا معهم في التيه ، بل فرق بينه وبينهم ، لأن التيه كان عقاباً خص به الفاسقون العاصون . وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما : المعنى فافصل بيننا بحكم يزيل هذا الاختلاف ويلمّ الشعث . وقيل : المعنى فافرق بيننا وبينهم في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق . وقال الزمخشري : فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق ، وعليهم بما يستحقون ، وهو في معنى الدعاء عليهم ، ولذلك وصل به قوله : فإنها محرمة عليهم ، على وجه التشبيه . وقرأ عبيد بن عمير ويوسف بن داود : فافرِق بكسر الراء وقال الراجز : يا رب فافرق بينه وبيني
أشدّ ما فرّقت بين اثنين
وقرأ ابن السميقع : ففرق . والفاسقون هنا قال ابن عباس : العاصون . وقال ابن زيد : الكاذبون . وقال أبو عبيد : الكافرون .
المائدة : ( 26 ) قال فإنها محرمة . . . . .
( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى الاْرْضِ ( أي قال الله تعالى فأضمر في قال وضمير ، فإنها إلى الأرض المقدّسة محرّمة عليهم ، أي محرم دخولها وتملكهم إياها وتقدّم الكلام على انتظام قوله : ) كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ( مع قوله محرمة عليهم ، ودل هذا على أنهم بعد الأربعين لا تكون محرمة عليهم . فروي أن موسى وهارون عليهما السلام كانا معهم في التيه عقوبة لهم وروحاً وسلاماً لهما ، لا عقوبة ، كما كانت النار لابراهيم ولملائكة العذاب . فروي أن موسى سار بعد الأربعين بمن بقي من بني إسرائيل ، وكان يوشع وكالب على مقدمته ، ففتح اريحا وقتل عوج بن عنق ، وذكروا من وصف عوج وكيفية قتل موسى له ما لا يصح . وأقام موسى فيها ما شاء الله ثم قبض . وقيل : مات هارون في التيه . قال ابن عطية : ولم يختلف في هذا . وروي : أنّ موسى مات في التيه بعد هارون بثمانية أعوام . وقيل : بستة أشهر ونصف . وقيل : بسنة ونبأ الله يوشع بعد كمال الأربعين سنة فصدقه بنو إسرائيل ، وأخبرهم أن الله تعالى أمره بقتال الجبابرة فصدّقوه وبايعوه ، وسار فيهم إلى اريحا وقتل الجبارين وأخرجهم ، وصار الشام كله لبني إسرائيل . وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين ، وقد ألمّ بذكر وقوف الشمس ليوشع أبو تمام في شعره فقال : فردت علينا الشمس والليل راغم
بشمس بدت من جانب الخدر تطلعنضا ضوؤها صبغ الدجنة وانطوى لبهجتها ثوب السماء المجزع

" صفحة رقم 473 "
فوالله ما أدري أأحلام نائم ألمت بنا أم كان في الركب يوشع
والظاهر أن العامل في قوله : أربعين محرمة ، فيكون التحريم مقيداً بهذه المدة ، ويكون يتيهون مستأنفاً أو حالاً من الضمير في عليهم . ويجوز أن يكون العامل يتيهون أي : يتيهون هذه المدة في الأرض ، ويكون التحريم على هذا غير مؤقت بهذه المدة ، بل يكون إخباراً بأنهم لا يدخلونها ، وأنهم مع ذلك يتيهون في الأرض أربعين سنة يموت فيها من مات . وروي أنه من كان جاوز عشرين سنة لم يعش إلى الخروج من التيه ، وأنّ من كان دون العشرين عاشوا ، كأنه لم يعش المكلفون العصاة ، أشار إلى ذلك الزجاج ، ولذلك ذهب إلى أن العامل في أربعين محرمة . وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون العامل في أربعين مضمراً يدل عليه يتيهون المتأخر انتهى . ولا أدري ما الحامل له على قوله : إن العامل مضمر كما ذكر ؟ بل الذي جوز الناس في ذلك أن يكون العامل فيه يتيهون نفسه ، لا مضمر يفسره قوله : يتيهون في الأرض . والأرض التي تاهوا فيها على ما حكى طولها ثلاثون ميلاً ، في عرض ستة فراسخ ، وهو ما بين مصر والشام . وقال ابن عباس : تسعة فراسخ ، قال مقاتل : هذا عرضها وطولها ثلاثون فرسخاً . وقيل : ستة فراسخ في طول اثنى عشر فرسخاً ، وقيل : تسعة فراسخ . وتظافرت أقوال المفسرين على أن هذا التيه على سبيل خرق العادة ، فإنه عجيب من قدرة الله تعالى ، حيث جاز على جماعة من العقلاء أن يسيروا فراسخ يسيرة ولا يهتدون للخروج منها . روي أنهم كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع ، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي ابتدأوا منه ، ويسيرون النهار جادين حتى إذا أمسوا أذاهم بحيث ارتحلوا عنه ، فيكون سيرهم تحليفاً . قال مجاهد وغيره : كانوا يسيرون النهار أحياناً والليل أحياناً ، فيمسون حيث أصبحوا ، ويصبحون حيث يمسون ، وذلك في مقدار ستة فراسخ ، وكانوا في سيارة لا قرار لهم انتهى . وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتلين ، وذكروا أنّ حكمة التيه هو أنهم لما قالوا : ) إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( عوقبوا بالقعود ، فصاروا في صورة القاعدين وهم سائرون ، كلما ساروا يوماً أمسوا في المكان الذي أصبحوا فيه . وذكروا أن حكمة كون المدّة التي تاهوا فيها أربعين سنة هي كونهم عبدوا العجل أربعين يوماً ، جعل عقاب كل يوم سنة في التيه . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة ، وقلة اجتماع الرأي ، وأنه تعالى رماهم بالاختلاف ، وعلموا أنها حرّمت عليهم أربعين سنة ، فتفرّقت منازلهم في ذلك الفحص ، وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع حتى كملت هذه المدة ، وأذن الله تعالى بخروجهم ، وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر . والآخر الذي ذكره مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى .
( فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( الظاهر أن الخطاب من الله تعالى لموسى عليه السلام . قال ابن عباس : ندم موسى على دعائه على قومه وحزن عليهم انتهى . فهذه مسلاة لموسى عليه السلام عن أن يحزن على ما أصاب قومه ، وعلل كونه لا يحزن بأنهم قوم فاسقون بهوت أحقاء بما نالهم من العقاب . وقيل : الخطاب لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمراد بالفاسقين معاصروه أي : هذه فعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردّهم عليك فإنها سجية خبيثة موروثة عندهم .
وقيل : الخطاب لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمراد بالفاسقين معاصروه أي : هذه فعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردّهم عليك فإنها سجية خبيثة موروثة عندهم .
( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك

" صفحة رقم 474 "
فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) ^
المائدة : ( 27 ) واتل عليهم نبأ . . . . .
الغراب طائر معروف ، ويجمع في القلة على أغربة ، وفي الكثرة على غربان ، وغراب : اسم جنس ، وأسماء الأجناس إذا وقعت على مسمياتها من غير أن تكون منقولة من شيء ، فإن وجد فيها ما يمكن اشتقاقه حمل على أنه مشتق إلا أن ذلك قليل جداً ، بل الأكثر أن تكون غير مشتقة ، نحو تراب وحجر وماء ، ويمكن غراب أن يكون مأخوذاً من الاغتراب ، فإن العرب تتشاءم به ، وتزعم أنه دال على الفراق ، وقال حران العود :
وأما الغراب : فالغريب المطوح .
وقال الشنفرى : غراب لاغتراب من النوى
وبالباذ بين من حبيب تعاشره==

10. تفسير البحر المحيط  محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 475 "
البحث في الأرض : نبش التراب وإثارته ، ومنه سميت براءة بحوث ، وفي المثل : لا تكن كالباحث عن الشفرة ، السوءة : العورة ، العجز عدم الإطاقة ، وماضيه على فعل بفتح العين ، وهي اللغة الفاشية وحكى الكسائي فيه : فعل بكسر العين ، الندم : التحسر ، يقال منه : ندم يندم ، الصلب : معروف وهو إصابة صلبه بجذع أو حائط ، كما تقول : عانه أي : أصاب عينه ، وكبده : أصاب كبده ، الخلاف : المخالفة ويقال : فرس به شكال من خلاف إذا كان في يده ، نفاه : طرده فانتفى ، وقد لا يتعدى نفي قال القطامي : فأصبح جاراكم قتيلاً ونافياً
أي : منفياً ، الوسيلة : الواسلة ما يتقرب منه ، يقال : وسله وتوسل إليه ، واستعيرت الوسيلة لما يتقرب به إلى الله تعالى من فعل الطاعات ، وقال لبيد : أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم
ألا كل ذي لب إلى الله واسل
وأنشد الطبري : إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا
وعاد التصابي بيننا والوسائل
السارق : اسم فاعل من سرق يسرق سرقاً ، والسرق والسرقة الاسم ، كذا قال بعضهم ، وربما قالوا سرقة مالاً ، قال ابن عرفة : السارق عند العرب : من جاء مستتراً إلى حرز ، فأخذ منه ما ليس له ، ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ( مناسبة هذه الآية لما قبلها : هو أنه تعالى لما ذكرنا تمرد بني إسرائيل وعصاينهم أمر الله تعالى فيالنهوض لقتال الجبارين ، ذكر قصة ابني آدم وعصيان قابيل أمر الله ، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاص لله تعالى ، وأنهم انتهوا في خور الطبيعة وهلع النفوس والجبن والفزع إلى غاية ، بحيث قالوا لنبيهم الذي ظهرت على يديه خوارق عظيمة ، وقد أخبرهم أن الله كتب لهم الأرض المقدسة ) اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ( انتهى قابيل إلى طرف نقيض منهم من الجسارة والعتو وقوة النفس وعدم المبالاة ، بأن أقدم على أعظم الأمور وأكبر المعاصي بعد الشرك ، وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها ، بحيث كان أول من سن القتل ، وكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة ، فاشتبهت القصتان من حيث الجبن عن القتل والإقدام عليه من حيث المعصية بهما ، وأيضاً فتقدم قوله أوائل الآيات ) إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ( [ المائدة : 11 ] وبعده ) قد جاءكم رسولنا بين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ( [ المائدة : 15 ] وقوله ) نحن أبناء الله وأحباؤه ( [ المائدة : 18 ] ثم قصة محاربة الجبارين ، وتبين أن عدم اتباع بني إسرائيل محمداً - ( صلى الله عليه وسلم ) - إنما سببه الحسد ، هذا مع علمهم بصدقة ، وقصة ابني آدم انطوت على مجموع هذه الآيات من بسط اليد ومن الإخبار بالمغيب ، ومن عدم الانتفاع بالقرب ودعواهمع المعصية ، ومن القتل ومن الحسد ومعنى ) واتل عليهم ( أي : اقرأ واسرد ، والضمير في ) عليهم ( ظاهره أنه يعود على بني إسرائيل ، إذ هم المحدث عنهم أولاً والمقام عليهم الحجج بسبب همهم ببسط أيديهم إلى الرسول والمؤمنين ، فأعلموا بما هو في غامض كتبهم الأول التي لا تعلق للرسول بها إلا من جهة الوحي لتقوم الحجة بذلك عليهم ، إذ ذلك من دلائل النبوة ، والنبأ : هو الخبر ، وابنا آدم في قول الجمهور عمر وابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهما : هما قابيل وهابيل ، وهما ابناه لصلبه ، وقال الحسن : لم يكونا ولديه لصلبه ، وإنما هما أخوان من بني إسرائيل ، قال : لأن القربان إنما كان مشروعاً في بني إسرائيل ، ولم يكن قبل ووهم الحسن في ذلك ، وقيل : عليه كيف يجهل الدفن في بني إسرائيل حتى يقتدي فيه بالغراب ، وأيضاً فقد

" صفحة رقم 476 "
قال الرسول عنه : إنه أول من سن القتل ، وقد كان القتل في بني إسرائيل ، ويحتمل قوله ) بالحق ( أن يكون حالاً من الضمير في ) واتل ( أي : مصحوباً بالحق ، وهو الصدق الذي لا شك في صحته ، أو في موضع الصفة لمصدر محذوف ، أي : تلاوة ملتبسة بالحق ، والعامل في ) إذ ( ) نبأ ( أي : حديثهما وقصتهما في ذلك الوقت ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون بدلاً من النبأ ، أي : اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت ، على تقدير حذف المضاف انتهى ، ولا يجوز ما ذكر ، لأن ) إذ ( لا يضاف إليها إلا الزمان ، و ) نبأ ( ليس بزمان ، وقد طول المفسرون في سبب تقريب هذا القربان ، وملخصه : أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً أو أنثى ، وكان آدم يزوج ذكر هذا البطن أنثى ذلك البطن ، وأنثى هذا ذكر ذلك ، ولا يحل للذكر نكاح توءمته ، فولد مع قابيل أخت جميلة اسمها أقليميا ، وولد مع هابيل أخت دون تلك اسمها لبوذا ، فأبى قابيل إلا أن يتزوج توءمة هابيل ، وأن يخالف سنة النكاح إيثاراً لجمالها ، ونازع قابيل هابيل في ذلك ، فقيل أمرهما آدم بتقريب القربان ، وقيل : تقربا من عند أنفسهما ، إذ كان آدم غائباً ، توجه إلى مكة لزيارة البيت بإذن ربه ، والقربان الذي قرباه هو زرع لقابيل ، وكان صاحب زرع ، وكبش هابيل وكان صاحب غنم ) فتقبل من أحدهما ( وهو هابيل ) ولم يتقبل من الآخر ( وهو قابيل ، أي : فتقبل القربان ، وكانت علامة التقبل : أكل النار النازلة من السماء القربان المتقبل وترك غير المتقبل ، وقال مجاهد : كانت النار تأكل المردود ، وترفع المقبول إلى السماء ، وقال الزمخشري : يقال : قرب صدقة وتقرب بها ، لأن تقرب قرب انتهى ، وليس تقرب بصدقة مطاوع ، قرب صدقة لاتحاد فاعل فعلين ، والمطاوعة يختلف فيها الفاعل ، فيكون ) من أحدهما ( فعل ، ( ومن الآخر ( انفعال نحو : كسرته فانكسر ، وفلقته فانفلق ، وليس قربت صدقة ، وتقربت بها ، من هذا الباب ، فهو غلط فاحش ، ( قال لأقتلنك ( هذا وعيد وتهديد شديد ، وقد أبرز هذا الخبر مؤكداً بالقسم المحذوف أي : لأقتلنك حسداً على تقبل قربانك ، وعلى فوزك باستحقاق الجميلة أختي ، وقرأ زيد بن علي ) لأقتلنك ( بالنون الحفيفة ، ( قال إنما يتقبل الله من المتقين ( قال ابن عطية : قبله كلام محذوف تقديره : لم تقتلني وأنا لم أجن شيئاً ، ولا ذنب لي في قبول الله قرباني ، أما إني أتقيه وكتب على لأحب الخلق ) إنما يتقبل الله من المتقين ( وخطب الزمخشري هنا فقال فإن قلت : كيف كان قوله ) إنما يتقبل الله من المتقين ( جواباً لقوله ) لأقتلنك ( قلت : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل ، قال له : إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى ، لا من قبلي ، فلم تقتلني ؟ وما لك لا تعاقب نفسك ، ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول ، فأجابه بكلام حكيم مختصر ، جامع لمعان ، وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق ، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم ، وعن عامر بن عبد الله : أنه بكى حين حضرته الوفاة ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقد كنت وكنت قال : إني أسمع الله يقول ) إنما يتقبل الله من المتقين ( انتهى كلامه ، ولم يخل من دسيسة الاعتزال على عادته ، يحتاج الكلام في فهمه إلى هذه التقديرات ، والذي قدرناه أولاً كاف ، وهو أن المعنى : لأقتلنك حسداً على تقبل قربانك ، فعرض له بأن سبب قبول القربان هو التقوى ، وليس متقياً ، وإنما عرض له بذلك ، لأنه لم يرض بسنة النكاح التي قررها الله تعالى ، وقصد خلافها ، ونازع ، ثم كانت نتيجة ذلك أن برزت في أكبر الكبائر بعد الشرك ، وهو قتل النفس التي حرمها الله ، قال ابن عطية : وأجمع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشر ، فمن اتقاه وهو موحد ، فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة ، وقال عدي بن ثابت وغيره : قربان هذه الأمة الصلاة ، وقول من زعم أن قوله ) إنما تقبل الله من المتقين ( ليس من لاكم المقتول ، بل هو من

" صفحة رقم 477 "
كلام الله تعالى للرسول ، اعتراضاً بين كلام القاتل والمقتول ، والضمير عائد في ) قال ( على الله ليس بظاهر ،
المائدة : ( 28 ) لئن بسطت إلي . . . . .
( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلنك ( قال ابن عباس : المعنى : ما أنا بمنتصر لنفسي ، وقال عكرمة : المعنى ما كنت لأبتدئك بالقتل ، وقال مجاهد والحسن : لم يكن الدفع عن النفس في ذلك الوقت جائزاً ، وقال عبد الله بن عمرو وابن عباس والجمهور : كان هابيل أشد قوة من قابيل ، ولكنه تحرج من القتل ، وهذا يدل على أن القاتل ليس بكافر ، وإنما هو عاص ، إذ لو كان كافراً لما تحرج هابيل من قتله ، وإنما استسلم عثمان بن عفان ، وقيل : إنما ترك الدفع عن نفسه ، لأن أظهرت له مخيلة انقضاء عمره ، فبنى عليها أو ، بإخبار أبيه ، وكما جرى لعثمان ، إذ بشره الرسول بالجنة على بلوى تصيبه ، ورآه في اليوم الذي قتل فيه في النوم ، وهو يقول : إنك تفطر الليلة عندنا ، فترك الدفع في نفسه حتى قتل ، وقال له رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - ' الق على وجهك ، وكن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل ' ، وقيل : إن هابيل لاحت له أمارات غلبة الظن من قابيل على قتله ، ولكن يتحقق ذلك ، فذكر له هذا الكلام قبل الإقدام على القتل ، ليزدجر عنه ، وتقبيحاً لهذا الفعل ، ولهذا يروى : أن قالبل صبر حتى نام هابيل ، فضرب رأسه بحجر كبير فقتله ، وقال ابن جرير : ليس في الآية دليل على أن المقتول علم عزم القاتل على قتله ، ثم ترك الدفع عن نفسه ، قال الزمخشري : فإن قلت : لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل ، وهو قوله ) لئن بسطت ( ) ما أنا بباسط ( قلت : ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع ، ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي انتهى ، وأورد أبو عبد الله الرازي هذا السؤال والجواب ولم ينسبه الزمخشري وهو كلام فيه انتقاد ، وذلك أن قوله ) ما أنا بباسط ( ليس جزاء ، بل هو جواب للقسم المحذوف قبل اللام في ) لئن ( المؤذنة بالقسم ، والموطئة للجواب لا للشرط ، وجوب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، ولو كان جواباً للشرط لكان بالفاء ، فإنه إذا كان جواب الشرط منفياً بما فلا بد من الفاء ، كقوله ) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ( [ الجاثية : 25 ] ولو كان أيضاً جواباً للشرط للزم من ذلك خرم القاعدة النحوية ، من أنه إذا تقدم القسم على الشرط ، فالجواب للقسم لا للشرط ، وقد خالف الزمخشري كلامه هذا بما ذكره في البقرة ، في قوله : ) ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ( البقرة [ 145 ] ، فقال ) ما تبعوا ( جواب القسم المحذوف ، سد مسد جواب الشرط ، وتكلمنا معه هناك فينظر ، ( إني أخاف الله رب العالمين ( هذا ذكر لعلة الامتناع في بسط يده إليه للقتل ، وفيه تنبيه على أن القاتل لا يخاف الله
المائدة : ( 29 ) إني أريد أن . . . . .
، ( إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ( ذهب قوم إلى أن الإرادة هنا مجاز لا محبة إيثار شهوة ، وإنما هي تخيير في شرين ، كما تقول العرب : في الشر خيار ، والمعنى : إن قتلتني وسبق بذلك قدر ، فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي في الآخرة ، وذهب قوم إلى أن الإرادة هنا حقيقة ، لا مجاز ، لا يقال : كيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه بالنار ؟ لأن جزاء الظالم حسن أن يراد ، وإذا جاز أن يريده الله تعالى جاز أن يريده العبد ، لأنه لا يريد إلا ما هو حسن قاله الزمخشري ، وفيه دسيسة الاعتزال ، وقال ابن كيسان : إنما وقعت الإرادة بعدما بسط يده للقتل ، وهو مستقبح ، فصار

" صفحة رقم 478 "
بذلك كافراً لأن من استحل ما حرم الله فقد كفر ، والكافر يريد أن يراد به الشر ، وقيل : المعنى : إنه لما قال : ) لقتلنك ( استوجب النار بما تقدم في علم الله ، وعلى المؤمن أن يريد ما أراد الله ، وظاهر الآية أنهما آثمان ، قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة : تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي ، فحذف المضاف هذا قول عامة المفسرين ، وقال الزجاج : إثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك ، وهو راجع في المعنى إلى ما قبله ، وقيل : المعنى بإثمي ، أن لو قاتلتك وقتلتك وإثم نفسك في قتالي وقتلي ، وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قوله - ( صلى الله عليه وسلم ) - ' إذا التقى المسلمان بسيفهما ، فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصاً على قتل صاحبه ' فكان هابيل أراد : إني لسن بحريص على قتلك ، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف يحتمل إثم قتله له ) ولا تزر وازرة وزر أخرى ( قلت : المراد بمثل إثمي على الاتساع في الكلام ، كما تقول : قرأت قراءة فلان ، وكتبت كتابته ، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض ، لا يكاد يستعمل غيره فإن قلت : فحين كف هابيل عن قتل أخيه ، واستسلم وتحرج عما كان محظوراً في شريعته من الدفع ، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله ، فيجتمع عليه الإثمان قلت : هو مقدر ، فهو يحتمل مثل الإثم المقدر ، كأنه قال : إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي انتهى ، وقيل : بإثمي الذي يختص بي ، فيما فرط لي أي : يؤخذ من سيئآتي ، فتطرح عليك بسبب ظلمك لي ) وتبوء بإثمك ( في قتلي ، ويعضد هذا قول النبي - ( صلى الله عليه وسلم ) - ' يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة ، فيؤخذ من حسنات الظالم ، فيزاد في حسنات المظلوم ، حتى ينتصف ، ( بإثمي ( اللاحق لي ، أي : بمثل إثمي اللاحق لي ، على تقدير وقوع قتلي لك ، وإثمك اللاحق لك بسبب قتلي ، الثاني ) بإثمي ( اللاحق لك بسبب قتلي ، وإضافة إليه لما كان سبباً له ) وإثمك ( اللاحق لم بسبب قتلي ، الوجهان على إثبات الإرادة المجازية والحقيقية ، وقيل : المعنى على النفي التقدير : إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك ، كقوله ) رواسي أن تميد بكم ( لقمان [ 10 ] أي : لا تميدوا ) أن تضلوا ( النساء [ 176 ] أي : لا تضلوا ، فحذف لا ، وهذا التأويل فرار من إثبات إرادة الشر لأخيه المؤمن ، وضعف القرطبي هذا الوجه ، بقوله - ( صلى الله عليه وسلم ) - ' لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، لأنه أول من سن القتل ' ، فثبت بهذا أن إثم القاتل حاصل انتهى ، ولا يضعف هذا القول بما ذكره القرطبي ، لأن قائل هذا لا يلزم من نفي إرادته القتل أن لا يقع القتل ، بل قد لا يريده ويقع ونصر تأويل النفي الماوري ، وقال : إن القتل قبيح ، وإرادة القبيح قبيحة ، ومن الأنبياء أقبح ، ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ ) إني أريد ( أي : كيف أريد ، ومعناه استبعاد الإرادة ولهذا قال بعض المفسرين ، إن هذا استفهام على جهة الإنكار ، أي : إني فحذف الهمزة لدلالة المعنى عليه ، لأن إرادة القتل معصية حكاه القشيري انتهى ، وهذا كله خروج عن ظاهر اللفظ لغير ضرورة ، وقد تقدم إيضاح الإرادة ، وجواز ورودها هنا ، واستدل بقوله ) فتكون من أصحاب النار ( على أن قابيل كان كافراً ، لأن هذا اللفظ إنما ورد في القرآن في الكفار ، وعلى هذا القول ، ففيه دليل على أن الكفار

" صفحة رقم 479 "
مخاطبون بفروع الشريعة ، ولا يقوى هذا الاستدلال ، لأنه يكنى عن المقام في النار مدة بالصحة ، ( وذلك جزاء للظالمين ( أي : وكينونتك من أصحاب النار جزاؤك ، لأنك ظالم في قتلي ، ونبه بقوله ) الظالمين ( على السبب الموجب للقتل ، وأنه قتل بظلم لا بحق ، والظاهر أنه من كلام هابيل ، نبهه على العلة ليرتدع ، وقيل : هو من كلام الله تعالى ، لا حكاية كلام هابيل ، بل إخبار منه تعالى للرسول - ( صلى الله عليه وسلم ) -
المائدة : ( 30 ) فطوعت له نفسه . . . . .
فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ( قال ابن عباس : بعثته على قتله ، وقال أيضاً : هو مجاهد : شجعته ، وقال قتادة : زينت له ، وقال الأخفش : رخصت ، وقال المبرد : من الطوع ، والعرب تقول : طاع له كذا أي : أتاه طوعاً ، وقال ابن قتيبة : تابعته وانقادت له ، وقال الزمخشري : وسعته له ويسرته ، من طاع له المرتع إذا اتسع ، وهذه أقوال متقاربة في المعنى ، وهو فعل من الطوع ، وهو الانقياد ، كأن القتل كان ممتنعاً عليه متعاصياً ، أصله : طاع له قتل أخيه ، أي : انقاد له وسهل ، ثم عدي بالتضعيف ، فصار الفاعل مفعولاً ، والمعنى : أن القتل في نفسه مستصعب عظيم على النفوس ، فردته هذه النفس اللحوح الأمارة بالسوء ، طائعاً منقاداً حتى أوقعه صاحب هذه النفس ، وقرأ الحسن وزيد بن علي والجراح والحسن بن عمران وأبو واقد ) فطاوعته ( فيكون فاعل فيه الاشتراك ، نحو : ضاربت زيداً ، كأن القتل يدعوه بسبب الحسد إصابة قابيل ، أو كأن النفس تأبى ذلك ، ويصعب عليها ، وكل منهما يريد أن يطيعه الآخر إلى أن تفاقم الأمر ، وطاوعت النفس القتل فوافقته ، وقال الزمخشري فيه وجهان ، أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل ، وأن يراد أن قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه ، فطاوعته ولم تمتنع ، و ) له ( لزيادة الربط ، كقولك : حفظت لزيد ماله انتهى ، فأما الوجه الثاني ، فهو موافق لما ذكرناه ، وأما الوجه الأول ، فقد ذكر سيبويه : ضاعفت وضعفت ، مثل ناعمت ونعمك ، وقال : فجاؤوا به على مثال عاقبته ، وقال : قد يجيء ، فاعلت ، لا يريد بها عمل اثنين ، ولكنهم بنوا عليه الفعل ، كما بنو على أفعلت ، وذكر أمثلة منها : عافاه الله ، وهذا المعنى ، وهو أن فاعل بمعنى فعل أغفله بعض المصنفين من أصحابنا في التصريف ، كابن عصفور وابن مالك ، وناهيك بهما جمعاً واطلاعاً ، فلم يذكرا أن فاعل يجيء بمعنى فعل ، ولا فعل بمعنى فاعل ، قوله ، و ) له ( الزيادة الربط ، يعني في قوله ) فطوعت له نفسه ( يعني : أنه لو جاء فطوعت نفسه قتل أخيه لكان كلاماً تاماً جارياً على كلام العرب ، وإنما جيء به على سبيل زيادة الربط للكلام ، إذ الربط يحصل بدونه ، كما أنك لو قلت : حفظت مال زيد ، كان كلاماً تاماً ) فقتله ( أخبر تعالى أنه قتله ، وتكلم المفسرون في أشياء من كيفيته ، ومكان قتله وعمره حين قتل ، ولهم في ذلك اختلاف ، ولم تتعرض الآية لشيء من ذلك ، ( فأصبح من الخاسرين ( أصبح : بمعنى ضار ، وقال ابن عطية : أقيم بعض الزمان مقام كله ، وخص الصباح بذلك ، لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومظنة النشاط ، ومنه قول الربيع : أصبحت لا أحمل السلاح ولا
وقول سعد : ثم أصبحت بنو سعد تعززني على الإسلام إلى غير ذلك ، من استعمال العرب لما ذكرناه انتهى ، وهذا الذي ذكره من تعليل كون ) أصبح ( عبارة عن جميع أوقاته وأقيم بعض الزمان مقام كله ، بكون الصباح خص بذلك ، لأنه بدء النهار ليس بجيد ، ألا ترى أنهم جعلوا أضحى وظل أمسى وبات بمعنى صار ، وليس منها شيء بدء النهار ، فكلما جرت هذه مجرى صار كذلك ) أصبح ( لا للعلة التي ذكرها ابن عطية ، قال ابن عباس : خسر في الدنيا بإسخاط والديه وبقائه بغير أخ ، وفي الآخرة بإسخاط ربه وصيرورته إلى النار ، وقال الزجاج ) من الخاسرين ( للحسنات ، وقال

" صفحة رقم 480 "
القاضي أبو يعلى ) من الخاسرين ( أنفسهم بإهلاكهم إياها ، وقال مجاهد : خسرانه أن عقلت إحدى رجلي القاتل لساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت ، عليه في الصيف حظيرة من نار ، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج ، قال القرطبي : ولعل هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر ، فيكون خسرانه في الدنيا ، وقيل ) من الخاسرين ( باسوداد وجهه ، وكفره باستحلاله ما حرم من قتل أخيه ، وفي الآخرة بعذاب النار ، وثبت في الحديث ' ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ، وذلك لأنه أول من سن القتل ' وروي عن عبد الله بن عمر : أنه قال ' إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة في العذاب ، عليه شطر عذابهم '
المائدة : ( 31 ) فبعث الله غرابا . . . . .
( فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه ( روي : أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض ، ولما قتل تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به ، فخاف السباع ، فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح ، وعكفت عليه السباع ، فبعث الله غرابين فاقتتلا ، فقتل أحدهما الآخر ، فحفر له بمنقاره ورجليه ، ثم ألقاه في الحفرة ، فقال ) يا ويلتى أعجزت ( ، وقيل : حمله مائة سنة ، وقيل : طلب في ثاني يوم إخفاء قتل أخيه ، فلم يدر ما يصنع ، وقيل : وبعث الله غراباً إلى غراب ميت ، فجعل يبحث في الأرض ويلقي التراب على الغراب الميت ، وقيل : بعث الله غراباً واحداً ، فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل ، وروي : أنه أول ميت مات على وجه الأرض ، وكذلك جهل سنة المواراة ، والظاهر أنه غراب بعثه الله يبحث في الأرض ليرى قابيل كيف يواري سوءة هابيل ، فاستفاد قابيل ببحثه في الأرض أن يبحث هو في الأرض فيستر فيه أخيه ، والمراد بالسوءة هنا ، قيل : العورة ، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد ، للاهتمام بها ، ولأن سترها أوكد ، وقيل : جميع جيفته ، قيل : فإن الميت كله عورة ، ولذلك كفن بالأكفان ، قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالسوءة : هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها ، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة ، لا على جهة الغض منه ، بل الغض لا حق للقاتل ، وهو الذي أتى بالسوءة انتهى ، والسوءة : الفضيحة لقبحها قال الشاعر : يا لقومي للسوءة السوآة
أي : للفضيحة العظيمة ، قالوا : ويحتمل إن صح أنه قتل غراب غراباً ، أو كان ميتاً أن يكون الضمير في ) أخيه ( عائد على الغراب ، أي : ليرى قابيل كيف يواري الغراب سوءة أخيه ، وهو الغراب الميت ، فيتعلم منه بالأداة كيف يواري قابيل سوءة هابيل ، وهذا فيه بعد ، لأن الغراب لا تظهر له سوءة ، والظاهر أن الإرادة هنا من جعله يرى أي يبصر ، وعلق ) ليريه ( عن المفعول الثاني بالجملة التي فيها الاستفهام في موضع المفعول الثاني ، و ) كيف ( معمولة ل ) يواري ( ول ) يريه ( متعلق ب ) يبحث ( ويجوز أن يتعلق بقوله ) فبعث ( وضمير الفاعل في ) ليريه ( الظاهر أنه عائد على الله تعالى ، لأن الإرادة حقيقة هي من الله ، إذ ليس للغراب قصد الإراءة وإرادتها ، ويجوز أن يعود على الغراب ، أي : ليريه الغراب ، أي : ليعلمه ، لأنه لما كان سبب تعليمه ، فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز ، ويظهر أن الحكمة في أن كان هذا المبعوث غراباً دون غيره من الحيوان ومن الطيور ، كونه يتشاءم به في الفراق ، والاغتراب ، وذلك مناسب لهذه القصة ، وقيل ) فبعث ( جملة محذوفة دل عليها المعنى تقديره : فجعل مواراته ) فبعث ( ) قال يا

" صفحة رقم 481 "
ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي ( استقصر إدراكه وعقله في جهله ما يصنع بأخيه حتى يعلم ، وهو ذو العقل المركب فيه الفكر والروية والتدبير من طائر لا يعقل ، ومعنى هذا الاستفهام : الإنكار على نفسه والنعي ، أي : لا أعجز عن كوني مثل هذا الغراب ، وفي ذلك هضم لنفسه ، واستصغار لها ، بقوله ) مثل هذا الغراب ( وأصل النداء أن يكون لمن يعقل ، ثم قد ينادى ما لا يعقل على سبيل المجاز ، كقولهم : يا عجبا ، ويا حسرة ، والمراد بذلك التعجب ، كأنه قال : انظروا لهذا العجب ، ولهذه الحسرة ، فالمعنى : تنبهوا لهذه الهلكة ، وتأويله : هذا أوانك فاحضري ، وقرأ الجمهور ) يا ويلتا ( بألف بعد التاء ، وهي بدل من تاء المتكلم ، وأصله ) يا ويلتي ( بالياء ، وهي قراءة الحسن ، وأمال حمزة والكسائي وأبو عمر وألف ويلتي ، وقرأ الجمهور ) أعجزت ( بفتح الجيم ، وقرأ ابن مسعود والحسن وفياض وطلحة وسليمان بكسرها ، وهي لغة شاذة ، وإنما مشهور الكسر في قولهم : عجزت المرأة ، إذا كبرت عجيزتها ، وقرأ الجمهور ) فأواري ( بنصب الياء عطفاً على قوله ) أن أكون ( كأنه قال : أعجزت أن أواري سوءة أخي ، وقال الزمخشري ) فأواري ( بالنصب على جواب الإستفهام انتهى ، وهذا خطأ فاحش ، لأن الفاء الواقعة جواباً للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية ، والجواب شرط وجزاء ، وهنا تقول : أتزورني فأكرمك ، والمعنى : إن تزرني أكرمك ، وقال تعالى ) فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ( الأعراف [ 53 ] أي : إن يكن لنا شفعاء يشفعوا ، ولو قلت هنا : إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوار سوءة أخي ، لم يصح لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب ، وقرأ طلحة بن مصرف والفياض بن غزوان ) فأواري ( بسكون الياء ، فالأولى أن يكون على القطع ، أي : فأنا أواري سوءة أخي ، فيكون ) أواري ( مرفوعاً ، وقال الزمخشري : وقرئ بالسكون على : فأنا أواري ، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى ، يعني : أنه حذف الحركة ، وهي الفتحة تخفيفاً استثقلها على حرف العلة ، وقال ابن عطية : هي لغة لتوالي الحركات انتهى ، ولا ينبغي أن يخرج على النصب ، لأن نصب مثل هذا هو بظهور الفتحة ، ولا تستثقل الفتحة ، فتحذف تخفيفاً ، كما أشار إليه الزمخشري ، ولا ذلك لغة كما زعم ابن عطية ، ولا يصلح التعليل بتوالي الحركات ، لأنه لم يتوال فيه الحركات ، وهذا عند النحويين أعني : النصب بحذف الفتحة لا يجوز إلا وقرأ الزهري ) سوة أخي ( بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الواو ، ولا يجوز قلب الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، لأن الحركة عارضة ، كهي في سمول ، وجعل ، وقرأ أبو حفص ) سوة ( بقلب الهمزة واواً وأدغم الواو فيه ، كما قالوا في شيء ، شي ، وفي سيئة ، سية ، قال الشاعر : وإن رأوا سية طاروا بها فرحاً
مني وما علموا من صالح دفنوا
) فأصبح من النادمين ( قبل هذه جملة محذوفة تقديره : فوارى سوء أخيه ، والظاهر أن ندمه كان على قتل أخيه ، لما لحقه من عصيان وإسخاط أبويه وتبشيره أنه من أصحاب النار ، وهذا يدل على أنه كان عاصياً لا كافراً ، قيل : ولم ينفعه ندمه ، لأن كون الندم توبة خاص بهذه الأمة ، وقيل ) من النادمين ( على حمله ، وقيل ) من النادمين ( خوف الفضيحة ، وقال الزمخشري : ) من النادمين ( على قتله لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره ، وتبين له من عجزه ، وتلمذته للغراب ، واسوداد لونه ، وسخط أبيه ولم يندم ندم التائبين انتهى ، وقد اختلف العلماء في قابيل ، أكان كافراً أو عاصياً ؟

" صفحة رقم 482 "
وفي الحديث ' إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً ، فخذوا من خيرها ودعوا شرها ' ، وحكى المفسرون : عجائب مما جرى بقتل هابيل ، من رجفان الأرض سبعة أيام ، وشرب الأرض دمه ، وايسال الشجر ، وتغير الأطعمة ، وحموضة الفواكه ، ومرارة الماء ، واغرار الأرض ، وهرب قابيل بأخته أقليميا إلى عدن من أرض اليمن ، وعبادته النار وانهماك أولاده في اتخاذ آلات اللهو وشرب الخمر والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله بالطوفان والله أعلم بصحة ذلك ، قال الزمخشري : وروي أن آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك ، وأنه رثاء بشعر ، وهو كذب بحت ، وما الشعر إلا منحول ملحون ، وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر ، وروى ميمون بن مهران ، عن ابن عباس : أنه قال : من قال : إن آدم قال شعراً فهو كذب ، ورمى آدم بما لا يليق بالنبوة ، لأن محمداً والأنبياء - عليه السلام - كلهم في النفي عن الشعر سواء ، قال الله تعالى ) وما علمناه الشعر وما ينبغي له ( ولكنه كان ينوح عليه ، وهو أول شهيد كان على وجه الأرض ، ويصف حزنه عليه نثراً من الكلام شبه المرثية فتناسخته القرون وحفظوا كلامه فلما وصل إلى يعرب بن قحطان وهو أول من خط بالعربية ، فنظمه فقال : تغيرت البلاد ومن عليها
فوجه الأر ض مغبر قبيح
وذكر بعد هذا البيت ستة أبيات ، وأن إبليس أجابه في الوزن والقافية بخمسة أبيات ، وقول الزمخشري في الشعر : إنه ملحون يشير فيه إلى بيت ، وهو الثاني : تغير كل ذي لون وطعم
وقل بشاشة الوجه المليح
يرويه : بشاشة الوجه المليح على الإقواء ، ويروي بنصب بشاشة ، ونصبه على التمييز ، وحذف التنوين لالتقاء الألف واللام قد جاء في كلامهم ، قرئ ) أحد الله الصمد ( وروي : ولا ذاكر الله ، بحذف التنوين ، (
المائدة : ( 32 ) من أجل ذلك . . . . .
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ( الجمهور على أن ) من أجل ذلك ( متعلق بقوله ) كتبنا ( وقال قوم : بقوله ) من النادمين ( أي : ندم من أجل ما وقع ، ويقال : أجل الأمر أجلاً وآجلاً إذا اجتباه وحده قال زهير : وأهل خباء صالح ذات بينهم
قد احتربوا في عاجل أنا آجله
أي : جانيه ونسب هذا البيت ابن عطية إلى جواب ، وهو في ديوان زهير ، والمعنى : بسبب ذلك ، وإذا قلت : فعلت ذلك من أجلك أردت أنك جنيت ذلك وأوجبته ، ومعناه : ومعنى من جراك واحد ، أي : من جريرتك ،

" صفحة رقم 483 "
و ) ذلك ( إشارة إلى القتل ، أي : من جنى ذلك القتل كتبنا على بني إسرائيل ) ومن ( الابتداء الغاية ، أي : ابتداء الكتب ، ونشأ من أجل القتل ، ويدخل على ) أجل ( اللام لدخول من ، ويجوز حذف حرف الجر ، واتصال الفعل إليه شرطه في المفعول له ، ويقال : فعلت ذلك من أجلك ، ولأجلك ، وتفتح الهمزة أو تكسر ، وقرأ ابن القعقاع بكسرها ، وحذفها ، ونقل حركتها إلى الساكن قبلها ، كما قرأ ورش بحذفها وفتحها ، ونقل الحركة إلى النون ومعنى ) كتبنا ( أي : كتب بأمرنا في كتب منزلة عليهم تضمنت فرض ذلك ، وخص بنو إسرائيل بالذكر ، وإن كان قبلهم أمم حرم عليهم قتل النفس ، وكان قصاصهم فيهم ، لأنهم على ما روي : أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس ، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء ، ولتظهر مذمتهم في أن كتب عليهم هذا وهم مع ذلك لا يرعوون ولا يفقهون ، بل هموا بقتل النبي - ( صلى الله عليه وسلم ) - ظلماً ، ومعنى ) بغير نفس ( أي : بغير قتل نفس ، فيستحق القتل ، وقد حرم الله نفس المؤمن إلا بإحدى موجبات قتله ، وقوله ) أو فساد ( هو معطوف على ) نفس ( أي : وبغير فساد ، والفساد ، قيل : الشرك بالله ، وقيل : قطع الطريق وقطع الأشجار وقتل الدواب إلا لضرورة ، وحرق الزرع وما يجري مجراه ، وهو الفساد المشار إليه بعد هذه الآية ، وقال ابن عطية : لم يتخلص التشبيه إلى طرفي شيء من هذه الأقوال ، والذي أقول : إن التشبيه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرد من جميع الجهات ، لكن الشبه قد يحصل من ثلاث جهات ، إحداها : القود فإنه واحد ، والثانية : الوعيد ، فقد وعد الله قاتل النفس بالخلود في النار ، وتلك غاية العذاب ، فإن ترقبناه يخرج من النار بعد ذلك بسبب التوحيد ، فكذلك قاتل الجميع إن لو اتفق ذلك ، والثالثة : انتهاك الحرمة ، فإن نفساً واحدة في ذلك وجميع الأنفس سواء ، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع ، ومثال ذلك : رجلان حلفا على شجرتين أن لا يطعما من ثمرتيهما شيئاً فطعم أحدهما واحدة من ثمرة شجرته وطعم الآخر ثمر شجرتيه كله ، فقد استويا في الحنث انتهى ، وقال غيره : قيل : المشابهة في الإثم ، والمعنى : أن عليه إثم من قتل الناس جميعاً ، قاله الحسن والزجاج ، وقيل : التشبيه في العذاب ومعناه أنه يصلي النار بقتل المسلم ، كما لو قتل الناس قاله مجاهد وعطاء ، وهذا فيه نظر ، لأن العذاب يخفف ويثقل بحسب الجرائم ، وقيل : التشبيه من حيث القصاص ، قاله ابن زيد وتقدم ، وقيل : التشبيه من جهة الإنكار على قبح الفعل ، والمعنى : أنه ينبغي لجميع الناس أن يعينوا ولي المقتول حتى يقيدوه منه ، كما لو قتل أولياءهم جميعاً ذكره القاضي أبو يعلى ، وهذا الأمر كان مختصاً ببني إسرائيل غلظ عليهم كما غلظ عليهم بقتل أنفسهم قاله بعض العلماء ، وقال قوم : هذا عام فيهم وفي غيرهم ، قال سليمان بن علي : قلت للحسن : يا أبا سعيد هي لنا ، كما كانت لبني إسرائيل ، قال أي والذي لا إله غيره ، ما كان دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا ، وقيل : في قوله ) ومن أحياها ( أي : استنقذها من الهلكة ، قال عبد الله والحسن ومجاهد : أي من غرق ، أو حرق ، أو هلاك ، وقيل : من عضد نبياً ، أو إماماً عدلاً لأن نفعه عائد على الناس جميعاً ، وقيل : من ترك قتل النفس المحرمة ، فكأنما أحيا الناس بكفه أذاه عنهم ، وقيل : من زجر عن قتل النفس ونهى عنه ، وقيل : من أعان على استيفاء القصاص ، لأنه قال ) ولكم في القصاص حياة ( ، قال الحسن : وأعظم إحيائها أن يحييها من كفرها ، ودليله ) أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا ( الأنعام [ 122 ] انتهى ، والإحياء هنا مجاز ، لأن الإحياء حقيقة هو لله تعالى ، وإنما المعنى : ومن استبقاها ولم يتلفها ، ومثل هذا المجاز قول محاج إبراهيم ) أنا أحيي ( البقرة [ 258 ] سمي ترك إحياء ، ( ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ( أخبر تعالى أن الإسراف والفساد فيهم هذا مع مجيء الرسل بالبينات من الله ، وكان مقتضى مجيء الرسل الله بالحجج الواضحة أن لا يقع منهم إسراف ، وهو المجاوزة في الحد ، فخالفوا هذا المقتضى ، والعامل في ) بعد ( والمتعلق به ) في الأرض ( خبر ) أن ( ولم تنمع لام الابتداء من العمل في ذلك ، وإن كان متقدماً ، لأن دخولها على الخبر ليس بحق التأصل ، والإشارة بذلك إلى مجيء الرسل بالبينات ، والمراد بالأرض ، أي : حيث ما حلوا أسرفوا ، وظاهر

" صفحة رقم 484 "
الإسراف أنه لا يتقيد ، وقيل : لمسرفون ، أي : قاتلون بغير حق ، كقوله ) فلا يسرف في القتل ( الإسراء [ 23 ] ، وقيل : هو طلبهم الكفاءة في الحسب ، حتى يقتل بواحد عدة من قتلهم ،
المائدة : ( 33 ) إنما جزاء الذين . . . . .
( إنما جزاء الذين يحابون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ( قال أنس بن مالك ، وجرير بن عبد الله وعبد الله بن عمر وابن جبير وعروة : نزلت في عكل عرينة ، وحديثهم مشهور ، وقال ابن عباس فيما رواه عكرمة عنه : نزلت في المشركين ، وبه قال الحسن وعطاء ، وقال ابن عباس في رواية والضحاك : نزلت في قوم من أهل الكتاب ، كان بينهم وبين الرسول عهد ، فنقضوه وأفسدوا في الدين ، وقيل : نزلت في قوم أبي بردة هلال بن عامر ، قتلوا قوماً مروا بهم من كنانة ، يريدون الإسلام ، وأخذوا أموالهم ، وكان بين الرسول - ( صلى الله عليه وسلم ) - وبين أبي بردة موادعة ، أن لا يعين عليه ولا يهيج من أتاه مسلماً ، ففعل ذلك قومه ، ولم يكن حاضراً ، والجمهور على أن هذه الآية ليست ناسخة ولا منسوخة ، وقيل : نسخت ما فعل النبي - ( صلى الله عليه وسلم ) - بالعرنيين من المثلة ، ووقف الحكم على هذه الحدود ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لما ذكر في الآية قبلها تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ، ولا فساد في الأرض أتبعه ببيان الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ، ما هو ؟ فإن بعض ما يكون فساداً في الأرض لا يوجب القتل ، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام ، ومذهب مالك وجماعة : أن المحارب هو من حمل السلاح على الناس في مصر ، أو برية ، فكادهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثاثرة ولا دخل ولا عداوة ، ومذهب أبي حنيفة وجماعة : أن المحاربين هم قطاع الطريق خارج المصر ، وأما في المصر ، فيلزمه حد ما اجترح من قتل أو سرقة أو غصب ، ونحو ذلك ، وأدنى الحرابة إخافة الطريق ، ثم أخذ المال مع الإخافة ، ثم الجمع بين الإخافة وأخذ المال والقتل ، ومحاربة الله تعالى غير ممكنة ، فيحمل على حذف مضاف ، أو حملاً على قدر مشترك اندفع ذلك ، وقول ابن عباس : المحاربة هنا الشرك ، وقول عروة : الارتداد غير صحيح عند الجمهور ، وقد أورد ما يبطل قولهما وفي قوله ) يحاربون الله ورسوله ( تغليظ شديد لأمر الحرابة والسعي في الأرض فساداً ، ويحتمل أن يكون المعنى بمحاربتهم ، أو يضيفون فساداً إلى المحاربة ، وانتصب ) فسادا ( على أنه مفعول به ، أو مصدر في موضع الحال ، أو مصدر من معنى ) يسعون في الأرض ( معناه : يفسدون لما كان السعي للفساد جعل فساداً أي : إفساداً ، والظاهر في قوله : العقوبات الأربع أن الإمام مخير بين إيقاع ما شاء منها بالمحارب في أي رتبة كان المحارب من الرتب التي قدمناها ، وبه قال النخعي والحسن في رواية وابن المسيب ومجاهد وعطاء ، وهو مذهب مالك وجماعة ، وقال مالك : استحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقاب ، ولا سيما إن لم يكن ذا شرور معروفة ، وأما إن قتل فلا بد من قتله ، وقال ابن عباس وأبو مجلز وقتادة والحسن أيضاً ، وجماعة لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب ، فمن قتل قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل فالقطع من خلاف ، ومن أخاف فقط فالنفي ، ومن جمعها قتل وصلب ، والقائلون بهذا الترتيب اختلفوا ، فقال أبو حنيفة ومحمد والشافعي وجماعة وروي عن مالك : يصلب حياً ويطعن حتى يموت ، وقال جماعة : يقتل ثم يصلب نكالاً لغيره ، وهو وقول الشافعي ، والقتل إما ضرباً بالسيف للعنق ، وقيل : ضرباً بالسيف ، أو طعناً بالرمح أو الخنجر ، ولا يشترط في قتله مكافأة لمن قتل ، وقال الشافعي : تعتبر في المكافأة في القصاص ، ومدة الصلب يوم أو ثلاثة أيام ، أو حتى يسيل صديده ، أو مقدار ما يستبين صلبه ، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ ، والرجل الشمال من المفصل ، وروي عن علي أنه من

" صفحة رقم 485 "
الأصابع ، ويبقى الكف ، ومن نصف القدم يبقى العقب ، وهذا خلاف الظاهر ، لأن الأصابع لا تسمى يداً ، ونصف الرجل لا يسمى رجلاً ، وقال مالك : قليل المال وكثيره سواء ، فيقطع المحارب إذا أخذه ، وقال أصحاب الرأي والشافعي : لا يقطع إلا من أخذ ما يقطع فيه السارق ، وأما النفي ، فقال السدي : هو أن يطالب أبداً بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله ، ويخرج من دار الإسلام ، وروي عن ابن عباس وأنس نفيه : أن يطلب ، وروي ذلك عن الليث ومالك ، إلا أن مالكاً قال : لا يضطر مسلم إلى دخول دار الشرك وقال ابن جبير وقتادة والربيع بن أنس والزهري والضحاك : النفي من دار الإسلام إلى دار الشرك ، وقال عمر بن عبد العزيز وجماعة : ينفى من بلد إلى غيره ، مما هو قاص بعيد ، وقال أبو الزناد : كان النفي قديماً إلى دهلك وناصع ، وهما من أقصى اليمن ، وقال الزمخشري دهلك في أقصى تهامة ، وناصع من بلاد الحبشة ، وقال أبو حنيفة : النفي السجن ، وذلك إخراجه من الأرض ، قال الشاعر ، قال ذلك : وهو مسجون : خرجنا من الدنيا ونحن من اهليها
فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
وتعجبنا الرؤيا يحل حديثنا
إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
والظاهر أن نفيه من الأرض هو إخراجه من الأرض التي حارب فيها ، إن كانت الألف واللام للعهد ، فينفى من ذلك العمل وإن كانت للجنس ، فلا يزال يطلب ويزعج ، وهو هارب فزع إلى أن يلحق بغير عمل الإسلام ، وصريح مذهب مالك : أنه إذا كان مخوف الجانب غرب وسجن حيث غرب ، والتشديد في ) أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع ( قراءة الجمهور ، وهو للتكثير بالنسبة إلى الذين يوقع بهم الفعل ، والتخفيف في ثلاثتها قراءة الحسن ومجاهد وابن محيصن ، ( ذلك لهم خزي في الدنيا ( أي : ذلك الجزاء من القطع والقتل والصلب والنفي ، والخزي هنا الهوان والذل والافتضاح ، والخزي والحياء ، عبر به عن الافتضاح ، لما كان فاستحيا ، ( ولهم في الآخرة عذاب عظيم ( ظاهره أن معصية الحرابة مخالفة للمعاصي غيرها ، إذ جمع فيها بين العقاب في الدنيا والعقاب في الآخرة ، تغليظاً لذنب الحرابة ، وهو مخالف لظاهره قوله - ( صلى الله عليه وسلم ) - في حديث عبادة ' فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا ، فهو كفارة له ' ، ويحتمل أن يكون ذلك على حسب التوزيع ، فيكون الخزي في الدنيا إن عوقب ، والعقاب في الآخرة إن سلم في الدنيا من العقاب ، فتجزي معصية الحرابة مجرى سائر المعاصي ، وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة ، وله تعالى أن يغفر هذا الذنب ، ولكن في الوعيد خوف على المتوعد عليه نفاذ الوعيد ،
المائدة : ( 34 ) إلا الذين تابوا . . . . .
( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ' ظاهره أنه استثناء من المعاقبين ، عقاب قاطع الطريق ، فإذا تابوا قبل القدرة على أخذهم سقط عنهم ما فكتب له سقوط الأموال والدم عنه كتاباً منشوراً ، وقالوا : لا نظر للإمام فيه إلا كما ينظر في سائر المسلمين ، فإن طولب بدم نظر فيه ، وأقيد منه بطلب الولي ، وإن طالب بمال ، فمذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي : يؤخذ ما وجد عنده من مال غيره ، ويطالب بقيمة ما استهلك ، وقال قوم من الصحابة والتابعين : لا يطالب بما استهلك ، ويؤخذ ما وجد عنده بعينه ، وحكى الطبري عن عروة : انه لا تقبل توبة المحارب ، ولكن لو فر إلى العدو ، ثم جاءنا تائباً لم أر عليه عقوبة ، قال الطبري : ولا أدري هل أراد ارتد أم لا ؟ وقال الأوزاعي نحوه إلا أنه قال : إذ لحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام ، أو بقي عليه ، ثم جاءنا تائباً من قبل أن نقدر علي قبلت توبته ،
المائدة : ( 35 ) يا أيها الذين . . . . .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة

" صفحة رقم 486 "
وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ( مناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر جزاء من حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فساداً من العقوبات الأربع ، والعذاب العظيم المعد لهم في الآخرة ، أمر المؤمنين بتقوى الله وابتغاء القربات إليه ، فإن ذلك هو المنجي من المحاربة والعقاب المعد للمحاربين ، ولما كانت الآية نزلت في العرنيين والكلبيين أو في أهل الكتاب اليهود ، أو في المشركين على الخلاف في سبب النزول ، وكل هؤلاء سعى في الأرض فساداً ، نص على الجهاد ، وإن كان مندرجاً تحت ابتغاء الوسيلة ، لأن به صلاح الأرض ، وبه قوام الدين وحفظ الشريعة ، فهو مغاير لأمر المحاربة ، إذ الجهاد محاربة مأذون فيها ، وبالجهاد يدفع المحاربون ، وأيضاً ففيه تلك النجدة التي وهبها الله له للمحاربة في معصية الله تعالى ، وهل مقصوراً على الجهاد في سبيل الله تعالى ، وأن لا يضع تلك النجدة التي وهبها الله له للمحاربة في معصية الله تعالى ، وهل الوسيلة القربة التي ينبغي أن يطلب بها ، أو الحاجة ، أو الطاعة ، أو الجنة ، أو أفضل درجاتها أقوال للمفسرين ، وذكر رجاء الفلاح على تقدير حصول ما أمر به قبل من التقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله ، والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه والفوز بالمرجو
المائدة : ( 36 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ( لما أرشد المؤمنين إلى معاقد الخير ومفاتح السعادة ، وذكر فوزهم في الآخر ، وما آلو إليه من الفلاح شرح حال الكفار وعاقبة كفرهم ، وما أعد لهم من العذاب ، والجملة من ) لو ( وجوابها في موضع خبر ) إن ( ومعنى ) ما في الأرض ( من صنوف الأموال التي يفتدي بها ، و ) مثله ( معطوف على اسم ) إن ( ولام كي تتعلق بما تعلق به خبر إن ، وهو لهم ، والمعنى : لو أن ما في الأرض ومثله معه مستقر لهم على سبيل الملك ، ليجعلوه فدية لهم ما تقبل ، وهذا على سبيل التمثيل ولزوم العذاب لهم ، وأنه لا سبيل إلى نجاتهم منه ، وفي الحديث ' يقال للكافر : أرأيت لو كان لكب ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به ، فيقول : نعم ، فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك ' ووحد الضمير في ) به ( وإن كان قد تقدم شيئان معطوف عليه ومعطوف ، وهو ) ما في الأرض ( و ) مثله معه ( إما لفرض تلازمها فأجريا مجرى الواحد ، كما قالوا : رب يوم وليلة مر بي ، وإما لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة ، كأنه قال : ليفتدوا بذلك ، قال الزمخشري : ويجوز أن تكون الواو في ) ومثله ( بمعنى مع ، فيوحد المرجوع إليه فإن قلت : فبم ينتصب المفعول معه ؟ قلت : بنا تستدعيه لو من الفعل ، لأن لو ثبت أن لهم ما في الأرض انتهى ، وإنما يوحد الضمير ، لأن حكم ما قبل المفعول معه في الخبر والحال ، وعود الضمير متأخراً حكمه متقدماً ، تقول : الماء والخشبة استوى ، كما تقول : الماء استوى والخشبة ، وقد أجاز الأخفش في ذلك أن يعطي حكم المعطوف ، فتقول : الماء مع الخشبة استويا ، ومنع ذلك ابن

" صفحة رقم 487 "
كيسان ، وقول الزمخشري : تكون الواو في ) مثله ( بمعنى ما ليس بشيء ، لأنه يصير التقدير : مع مثله معه ، أي : مع مثل ما في الأرض مع ما في الأرض ، إن جعلت الضمير في ) معه ( عائداً على ) مثله ( أي : مع مثله مع ذلك المثل ، فيكون المعنى : مع مثلين : فالتعبير عن هذا المعنى بتلك العبارة عي ، إذ الكلام المنتظم أن يكون التركيب إذا أريد ذلك المعنى مع مثليه ، وقول الزمخشري : فإن قلت إلى آخر السؤال ، وهذا السؤال لا يرد لأنا قد بينا فساد أن تكون الواو واو مع ، وعلى تقدير وروده ، فهذا بناء منه على أن الواو إذا جاءت بعد لو كانت في موضع رفع على الفاعلية ، فيكون التقدير على هذا : لو ثبت كينونة ما في الأرض مع مثله لهم ليفتدوا به ، فيكون الضمير عائداً على ) ما ( فقط ، وهذا الذي ذكره هو تفريع منه على مذهب المبرد ، في أن ) أن ( بعد ) لو ( في موضع رفع على الفاعلية ، وهو مذهب مرجوح ، ومذهب سيبويه : أن ) أن ( بعد ) لو ( في موضع رفع على الابتداء ، والزمخشري لا يظهر من كلامه في هذا الكتاب وفي تصانيفه أنه وقف على مذهب سيبويه في هذه المسالة ، وعلى التفريع على مذهب المبرد ، لا يصح أن يكون ) ومثله ( مفعولاً معه ، ويكون العامل فيه ما ذكر من الفعل ، وهو ثبت بوساطة الواو ، لما تقدم من وجود لفظ ) معه ( وعلى تقدير سقوطها يصح ، لأن ثبت ليست رافعة لما العائد عليها الضمير ، وإنما هي رافعة مصدراً منسبكاً من أن وما بعدها ، وهو كون ، إذ التقدير : لو ثبت كون ما في الأرض جميعاً لهم ومثله معه يفتدوا به ، والضمير عائد على ) ما ( دون الكون ، فالرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه ، إذ لو كان إياه للزم من ذلك وجود الثبوت مصاحباً للمثل ، والمعنى : على كينونة ما في الأرض مصاحباً للمثل ، لا على ثبوت ذلك مصاحباً للمثل ، وهذا فيه غموض ، وبيانه أنك إذا قلت : يعجبني قيام زيد وعمر ، أو جعلت عمراً مفعولاً معه ، والعامل فيه ، يعجبني ، لزم من ذلك أن عمراً لم يقم ، وأنه أعجبك القيام وعمرو ، وإن جعلت العامل فيه القيام كان عمرو قائماً ، وكان الإعجاب قد تعلق بالقيام مصاحباً لقيام عمرو ، فإن قلت : هلا كان ) ومثله معه ( مفعولاً معه ، والعامل فيه هو العالم في ) لهم ( إذ المعنى عليه قلت : لا يصح ذلك ، لما ذكرناه من وجود معه في الجملة ، وعلى تقدير سقوطها لا يصح ، لأنهم نصوا على أن قولك : هذا لك وأباك ممنوع في الاختيار ، وقال سيبويه : وأما ، هذا لك وأباك لم يذكر فعلاً ولا حرفاً فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل ، فأصح سيبويه بأن اسم الإشارة وحرف الجر المتضمن معنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه ، ولو كان أحدهما يجوز أن ينتصب المفعول معه لخبر بين أن ينسب العمل لاسم الإشارة أو لحرف الجر ، وقد أجاز بعض النحويين أن يعمل في المفعول معه الظرف وحرف الجر ، فعلى هذا المذهب يجوز لو كانت الجملة خالية من قوله ) معه ( أن يكون ) ومثله ( مفعولاً معه ، على أن العامل فيه هو العامل في ) لهم ( وقرأ الجمهور ) ما تقبل ( مبنياً للمفعول ، وقرأ يزيد بن قطيب ) ما تقبل ( مبنياً للفاعل ، أي : ما تقبل الله منهم ، وفي الكلام جملة محذوفة التقدير : وبذلوه وافتدوا به ما تقبل منهم ، إذ لا يترتب انتفاء التقبل على كينونة ما في الأرض ومثله معه ، إنما يترتب على بذل ذلك ، أو الافتداء به ، و ) ولهم عذاب أليم ( هذا الوعيد هو لمن وافى على الكفر ، وتبينه آية آل عمران ، وماتوا وهم كفار ، فلن يقبل الآية ، وهذه الجملة يجوز أن تكون عطفاً على خبر ) إن الذين كفروا ( ويجوز أن تكون عطفاً على ) إن الذين

" صفحة رقم 488 "
كفروا ( وجوزوا أن تكون في موضع الحال ، وليس بقوي ،
المائدة : ( 37 ) يريدون أن يخرجوا . . . . .
( يريدون أن يخرجوا من النار ( أي : يرجون ، أو يتمنون ، أو يكادون ، أو يسألون أقوال متقاربة من حيث المعنى الإرادة ممكنة في حقهم ، فلا ينبغي أن تخرج عن ظاهرها ، قال الحسن : إذا فارت بهم النار فروا من بأسها ، فحينئذ يريدون الخروج ويطعمون فيه ، وذلك قوله ) يريدون أن يخرجوا من النار ( ، وقيل لجابر بن عبد الله : إنكم يا أصحاب محمد تقولون : إن قوماً يخرجون من النار ، والله تعالى يقول ) وما هم بخارجين منها ( ، فقال جابر : إنما هذا في الكفار خاصة ، وحكى الطبري عن نافع بن الأزرق الخارجي : أنه قال لابن عباس : يا أعمى البصر ، يا أعمى القلب ، أتزعم أن قوماً يخرجون من النار ، وقد قال الله تعالى ) وما هم بخارجين منها ( فقال له ابن عباس : اقرأ ما فوق هذه الآية في الكفار ، وقال الزمخشري : وما يروى عن عكرمة ، أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس ، وذكر الحكاية ، ثم قال : فما لفقته المجبرة ، وليس بأول تكاذيبهم وافترائهم ، وكفاك بما فيه من مواجهة ابن الأزرق لابن عم رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - وهو بين أظهر أعضاده من قريش ، وانضاده من بني عبد المطلب ، وهو حبر هذه الأمة وبحرها ، ومفسرها بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحد من أهل الدنيا ، وبرفعه إلى عكرمة دليلين ناصين أن الحديث فرية ، ما فيها مرية انتهى ، وهو على عادته وسفاهته في سب أهل السنة ، ومذهبه : أن من دخل النار لا يخرج منها ، وقرأ الجمهور ) أن يخرجوا ( مبنياً للفاعل ، ويناسبه ) وما هم بخارجين منها ( ، وقرأ النخعي وابن وثاب وأبو واقد ) أن يخرجوا ( مبنياً للمفعول ، و ) ولهم عذاب مقيم ( أي : متأبد لا يحول ،
المائدة : ( 38 ) والسارق والسارقة فاقطعوا . . . . .
( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( قال السائب : نزلت في طعمه بن أبيرق ، ومضت قصته في النساء ، ومناسبتها لما قبلها ، أنه لما ذكر جزاء المحاربين بالعقوبات التي فيها قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، ثم أمر بالتقوى لئلا يقع الإنسان في شيء من الحرابة ، ثم ذكر حال الكفار ، ذكر حكم السرقة ، لأن فيها قطع الأيدي بالقرآن والأرجل بالسنة ، على ما يأتي ذكره ، وهو أيضاً حرابة من حيث المعنى ، لأن فيه سعياً بالفساد ، إلا أن تلك تكون على سبيل الشوكة والظهور ، والسرقة على سبيل الاختفاء والتستر ، والظاهر وجوب القطع بمسمى السرقة ، وهو ظاهر النص ' يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الجمل فتقطع يده اليمنى ، سرق شيئاً ما قليلاً أو كثيراً قطعت يده ' ، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة ومن التابعين ، منهم الحسن ، وهو مذهب الخوارج وداود ، وقال داود ومن وافقه : لا يقطع في سرقة حبة اليد عشرة دراهم فصاعداً ، أو قيمتها من غيرها ، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمرو أيمن الحبشي وأبي جعفر وعطاء وإبراهيم ، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد ، وقيل : ربع دينار فصاعداً ، وروي عن عمر وعثمان وعلي وعائشة وعمر بن عبد العزيز ، وهو قول الأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور ، وقيل : خمسة دراهم ، وهو قول أنس وعروة وسليمان بن يسار والزهري ، وقيل : أربعة دراهم ، وهو مروي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ، وقيل : ثلاثة دراهم ، وهو قول ابن عمر ، وبه قال مالك وإسحاق وأحمد إلا إن كان ذهباً فلا تقطع إلا في ربع دينار ، وقيل : درهم فما فوقه ، وبه قال عثمان البتي ، وقطع عبد الله بن الزبير في درهم ، وللسرقة التي تقطع فيها اليد شروط ، ذكرت في الفقه ، وقرأ الجمهور ) والسارق والسارقة ( بالرفع ، وقرأ عبد الله ) والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ( ، وقال

" صفحة رقم 489 "
الخفاف : وجدت في مصحف أبي ) والسرق والسرقة ( بضم السين المشددة فيهما ، كذا ضبط أبو عمرو ، قال ابن عطية : ويشبه أن يكون هذا تصحيفاً من الضابط ، لأن قراءة الجماعة إذا كتبت ) السارق ( بغير ألف ، وافقت في الخط هذه ، والرفع في ) والسارق والسارقة ( على الابتداء ، والخبر محذوف ، والتقدير : فيما يتلى عليكم ، أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة ، أي : حكمهما ولا يجوز سيبويه أن يكون الخبر قوله ) فاقطعوا ( لأن الفاء لا تدخل إلا في خبر مبتدأ موصول بظرف أو مجرور ، أي جملة صالحة لأداة الشرط ، والموصول هنا أل ، وصلتها اسم فاعل أو اسم مفعول

" صفحة رقم 490 "
وما كان هكذا لا تدخل الفاء في خبره عند سيبويه ، وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين ، أعني : أن يكون ) والسارق والسارقة ( مبتدأ ، والخبر جملة الأمر أجروا أل وصلتها مجرى الموصول المذكور ، لأن المعنى فيه على العموم ، إذ معناه : الذي سرق والتي سرقت ، ولما كان مذهب سيبويه أنه لا يجوز ذلك تأويله على إضمار الخبر ، فيصير تأوله فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة ، جملة ظاهرها أن تكون مستقلة ، ولكن المقصود هو في قوله ) فاقطعوا ( فجيء بالفاء رابطة للجملة الثانية ، فالأولى موضحة للحكم المبهم في الجملة الأولى [ وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي عبلة ) والسارق والسارقة ( بالنصب على الاشتغال ، قال سيبويه : الوجه في كلام العرب النصب ، كما تقول : زيداً فاضربه ، ولكن أبت العامة إلا الرفع ، يعني عامة القراء وجلهم ، ولما كان معظم القراء على الرفع تأويله سيبويه على وجه يصح ، وهو أنه جعله مبتدأ ، والخبر محذوف ، لأنه لو جعله مبتدأ والخبر ) فاقطعوا ( لكان تخريجاً على غير الوجه في كلام العرب ، ولكان قد تدخل الفاء في خبر أل ، وهو لا يجوز عنده ، وقد تجاسر أبو عبد الله محمد بن عمر ، المدعو بالفخر الرازي ابن خطيب الري على سيبويه ، وقال عنه ما لم يقله ، فقال : الذي ذهب إليه سيبويه ليس بشيء ، ويدل على فساده وجوه ، الأول : أنه طعن في القراءة المنقولة بالمتواتر عن الرسول ، وعن أعلام الأمة ، وذلك باطل قطعاً ، قلت : هذا تقول على سيبويه ، وقلة فهم عنه ، ولم يطعن سيبويه على قراءة الرفع ، بل وجهها التوجيه المذكور ، وافهم أن المسألة ليست من باب الاشتغال المبني على جواز الابتداء فيه ، وكون جملة الأمر خبره ، أو لم ينصب الاسم ، إذ لو كانت منه لكان النصب أوجه ، كما كان في ، زيداً اضربه ، على ما تقرر في كلام العرب ، فكون جمهور القراء عدلوا إلى الرفع ، دليل على أنهم لم يجعلوا الرفع فيه على الابتداء المخبر عنه بفعل الأمر ، لأنه لا يجوز ذلك لأجل الفاء ، فقوله : أبت العامة إلا الرفع ، تقوية لتخريجه ، وتوهين للنصب على الاشتغال مع وجود الفاء ، لأن النصب على الاشتغال المرجح على الابتداء في مثل هذا التركيب لا يجوز إلا إذا جاز أن يكون مبتدأ مخبراً عنه بالفعل الذي يفسر العامل في الاشتغال ، وهنا لا يجوز ذلك لأجل الفاء الداخلة على الخبر ، فكان ينبغي أن لا يجوز النصب ، فمعنى كلام سيبويه : يقوي الرفع على ما ذكر ، فكيف يكون طاعنا في الرفع ، وقد قال سيبويه : وقد يحسن ويستقيم ، عبد الله فاضربه ، إذا كان مبنياً على مبتدأ مضمر ، أو مظهر ، فأما في المظهر فقولك : هذا زيد فاضربه ، وإن شئت لم تظهر هذا ، ويعمل عمله إذا كان مظهراً ، وذلك قولك : الهلال والله فانظر إليه ، فكأنك قلت : هذا الهلال ، ثم جئت بالأمر ، ومن ذلك قول الشاعر : وقائلة خولان فانكح فتاتهم
وأكرومة الحيين خلو كما هيا
هكذا سمع من العرب تنشده انتهى ، فإذا كان سيبويه يقول : وقد يحسن ويستقيم ، عبد الله فاضربه ، فكيف يكون طاعنا في الرفع ، وهو يقول : إنه يحسن ويستقيم ، لكنه جوزه على أن يكون المرفوع مبتدأ محذوف الخبر ، كما تأوله في ) السارق والسارقة ( أو خبر مبتدأ محذوف ، كقوله : الهلال والله فانظر إليه ، وقال الفخر الرازي ، فإن قلت : يعني سيبويه ، لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة ، ولكني أقول : القراءة بالنصب أولى ، فنقول له : هذا أيضاً رديء ، لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها عيسى بن عمر على قراءة الرسول ، وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر مردود قلت : هذا السؤال لم يقله سيبويه ، ولا هو ممن يقوله ، كيف يقوله ، وهو قد رجح قراءة الرفع على ما أوضحناه ، وأيضاً فقوله : لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر ، على قراءة الرسول ، وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين

" صفحة رقم 491 "
تشنيع وإيهام أن عيسى بن عمر قرأها من قبل نفسه ، وليس كذلك ، بل قراءته مستندة إلى الصحابة ، وإلى الرسول ، فقراءته قراءة الرسول أيضاً ، وقوله : وجميع الأمة ، لا يصح هذا الإطلاق ، لأن عيسى بن عمر وإبراهيم بن أبي عبلة ومن وافقهما ، وأشياخهم الذين أخذوا عنهم هذه القراءة هم من الأمة ، وقال سيبويه : وقد قرأ أناس ) والسارق والسارقة ( ) والزانية والزاني ( النور [ 2 ] فأخبر أنها قراءة ناس ، وقوله : وجميع الأمة لا يصح هذا العموم ، قال الفخر الرازي : الثاني من الوجوه التي تدل على فساد قول سيبويه ، أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ ) واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ( النساء [ 186 ] بالنصب ، ولما لم يوجد في القراء أحد قرأ كذلك علمنا سقوط هذا القول قلت : لم يدع سيبويه أن قراءة النصب أولى ، فيلزمه ما ذكر ، وإنما قال سيبويه : وقد قرأ ناس ) والسارق والسارقة ( ) والزانية والزاني ( النور [ 2 ] وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة ، ولكن أبت العامة إلا القراءة بالرفع ، ويعني سيبويه بقوله : من القوة لو عري من الفاء المقدر دخولها على خبر الاسم المرفوع على الابتداء ، وجملة الأمر خبره ، ولكن أبت العامة أي : جمهور القراء إلا الرفع ، لعلة دخول الفاء ، إذ لا يصح أن تكون جملة الأمر خبراً لهذا المبتدأ ، فلما دخلت الفاء رجح الجمهور الرفع ، ولذلك لما ذكر سيبويه ، اختيار النصب في الأمر والنهي لم يمثله بالفاء ، بل عارياً مثلاً ، قال سيبويه : وذلك قولك : زيداً اضربه ، وعمراً امرر به ، وخالداً اضرب أباه ، وزيداً اشتر له ثوباً ، ثم قال : وقد يكون في الأمر والنهي أن يبني الفعل على الاسم ، وذلك قوله : عبد الله فاضربه ، ابتدأت عبد الله ، فرفعت بالابتداء ، ونبهت المخاطب له ليعرفه باسمه ، ثم بينت الفعل عليه ، كما فعلت ذلك في الخبر ، فإذا قلت : زيداً فاضربه ، لم يستقم ، لم تحمله على الابتداء ، ألا ترى أنك لو قلت : زيد فمنطلق ، لم يستقم ، فهذا دليل على أنه لا يجوز أن يكون مبتدأ ، يعني مخبراً عنه بفعل الأمر المقرون بالفاء ، الجائز دخولها على الخبر ، ثم قال سيبويه : فإن شئت نصبته على شيء هذا يفسره ، لما منع سيبويه الرفع فيه على الابتداء ، وجملة الأمر خبره لأجل الفاء ، أجاز نصبه على الاشتغال ، لا على أن الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ ، وتلخيص ما يفهم من كلام سيبويه : أن الجملة الراقعة أمراً بغير فاء بعد اسم يختار فيه النصب ، ويجوز فيه الابتداء ، وجملة الأمر خبره ، فإن دخلت عليه الفاء ، فإما أن تقدرها الفاء الداخلة على الخبر ، أو عاطفة ، فإن قدرتها الداخلة على الخبر فلا يجوز أن يكون ذلك الاسم مبتدأ ، وجملة الأمر خبره ، إلا إذا كان المبتدأ أجرى مجرى الاسم الشرط لشبهه به ، وله شروط ذكرت في النحو ، وإن كانت عاطفة كان ذلك الاسم مرفوعاً ، إما مبتدأ كما تأول سيبويه ، في قوله ) والسارق والسارقة ( وإما خبر مبتدأ محذوف ، كما قيل : القمر والله فانظر إليه ، والنصب على هذا المعنى دون الرفع ، لأنك إذا نصبت احتجت إلى جملة فعلية تعطف عليها بالفاء ، وإلى حذف الفعل الناصب ، وإلى تحريف الفاء إلى غير محلها ، فإذا قلت : زيداً فاضربه ، فالتقدير : تنبه فاضرب زيداً اضربه ، حذفت تنبه ، وحذفت اضرب ، وأخرت الفاء إلى دخولها على المفسر ، وكان الرفع أولى ، لأنه ليس فيه إلا حذف مبتدأ ، أو حذف خبر ، فالمحذوف أحد جزأي الإسناد فقط ، والفاء واقعة في مواقعها ، ودل على ذلك المحذوف سياق الكلام ، والمعنى : قال سيبويه : وأما قوله عز وجل : ) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ( النور [ 2 ] ) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( فإن هذا لم يبين على الفعل ، ولكنه جاء على مثل قوله تعالى ) مثل الجنة التي وعد المتقون ( محمد [ 15 ] ثم قال بعد ) فيها أنهار ( محمد [ 15 ] فيها كذا وكذا ، فإنما وضع مثل للحديث الذي بعده ، وذكر بعد أخبار وأحاديث ، كأنه قال : ومن القصص مثل الجنة ، أو مما نقص عليكم مثل الجنة ، فهو محمول على هذا الإضمار ، أو نحوه والله أعلم ] وكذلك ) الزانية والزاني ( لما قال تعالى ) سورة أنزلناها وفرضناها ( قال في الفرائض ) الزانية والزاني ( أو الزانية والزاني في الفرائض ، ثم قال ) فاجلدوا ( فجاء بالفعل بعد أن مضى فيها الرفع ، كما قال : وقائلة خولان فانكح فتاتهم

" صفحة رقم 492 "
فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه الضمير ، وكذلك ) السارق والسارقة ( كأنه قال : ومما فرض عليكم السارق والسارقة ، أو السارق والسارقة ، فيما فرض عليكم ، وإنما جاءت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث انتهى ، فسيبويه إنما اختار هذا التخريح ، لأنه أقل كلفة من النصب ، مع وجود الفاء ، وليست الفاء الداخلة في خبر المبتدأ ، لأنه سيبويه لا يجيز ذلك في أل الموصولة ، فالإتيان عنده من باب ، زيد فاضربه ، فكما أن المختار في هذا الرفع ، فكذلك في الآيتين ، وقول الرازي : لوجب أن يكون في القراء من قرأ ) واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ( النساء [ 16 ] بالنصب إلى آخر كلامه ، لم يقل سيبويه : إن النصب في مثل هذا التركيب أولى ، فيلزم أن يكون في القراء من ينصب ، ( واللذان يأتيانها ( بل حل سيبويه هذا الآية محل قوله ) والسارق والسارقة ( لأنه تقدم قبل ذلك ما يدل على المحذوف ، وهو قوله ) واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ( النساء [ 15 ] فخرج سيبويه الآية على الإضمار ، وقال سيبويه : وقد يجري هذا في زيد وعمرو على هذا الحد إذا كنت تخبر بأشياء ، أو توصي ، ثم تقول : زيد أي زيد فيمن أوصى ، فأحسن إليه وأكرمه ، ويجوز في ) واللذان يأتيانها منكم ( النساء [ 16 ] أن يرتفع على الابتداء ، والجملة التي فيها الفاء خبر ، لأنه موصول مستوف شروط الموصول الذي يجوز دخول الفاء في خبره ، لشبهه باسم الشرط ، بخلاف قوله ) السارق والسارقة ( فإنه لا يجوز عند سيبويه دخول الفاء في خبره ، لأنه لا يجري مجرى اسم الشرط ، فلا يشبه به في دخول الفاء ، قال الفخر الرازي : الثالث : يعني من وجوه فساد قول سيبويه أنا إنما قلنا : ) السارق والسارقة ( مبتدأ ، وخبره هو الذي يضمره ، وهو قولنا فيما يتلى عليكم ، وفي شيء تتعلق به الفاء في قوله ) فاقطعوا أيديهما ( قلت : تقدم لنا حكمة المجيء بالفاء ، وما ربطت ، وقد قدره سيبويه : ومما فرض عليكم السارق والسارقة ، والمعنى : حكم السارق والسارقة ، لأنها آية جاءت بعد ذكر جزاء المحاربين وأحكامهم ، فناسب تقدير سيبويه ، وجيء بالفاء رابطة الجملة الثانية بالأولى ، والثانية جاءت موضحة للحكم المبهم فيما قبل ذلك ، قال الفخر الرازي : فإن قال يعني سيبويه : الفاء تتعلق بالفعل الذي دل عليه ، قوله ) والسارق والسارقة ( يعني أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يده فنقول : إذا احتجت في آخر الأمر أن تقول ) السارق والسارقة ( تقديره : من سرق فاذكر هذا أولاً ، حتى لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته ، قلت : هذا لا يقوله سيبويه ، وقد بينا حكم الفاء وفائدتها ، فقال الفخر الرازي : الرابع : يعني من وجوه فساد قوله سيبويه ، إذا اخترنا القراءة بالنصب لم تدل على أن السرقة علة الوجوب القطع ، وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى ، ثم إن هذا المعنى متأكد بقوله ) جزاء بما كسبا ( المائدة [ 38 ] فثبت أن القراءة بالرفع أولى ، قلت : هذا عجيب من هذا الرجل ، يزعم أن النصب لا يشعر بالعلة الموجبة للقطع ، ويفيدها الرفع ، وهل هذا إلا من التعليل بالوصف المترتب عليه الحكم ، فلا فرق في ذلك بين الرفع والنصب ، لو قلت : السارق ليقطع ، أو اقطع السارق لم يكن بينهما فرق من حيث التعليل ، وكذلك الزاني ليجلد ، أو اجلد الزاني ، ثم قوله : إن هذا المعنى متأكد بقوله ) جزاء بما كسبا ( النصب أيضاً يحسن أن يؤكد بمثل هذا ، لو قلت : اقطع اللص جزاء بما كسب صح ، وقال الفخر الرازي : الخامس : يعني من وجوه فساد قول سيبويه ، أن سيبويه قال : وهم يقدمون الأهم فالأهم ، والذي هم ببيانه أعني ، فالقراءة بالرفع تقتضي ذكر كونه سارقاً على ذكر وجوب القطع ، وهذا يقتضي أن يكون أكثر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتعلق بحال السارق من حيث إنه سارق ، وأما القراءة بالنصب ، فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أتم من العناية بكونه سارقاً ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، فإن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة ، والمبالغة في الزجر عنها ، فثبت أن القراءة بالفرع هي المتعينة قطعاً قلت : الذي ذكر فيه سيبويه أنهم كانوا يقدمون الذي بيانه أهم لهم ، وهم ببيانه أعني هو ما اختلفت فيه نسبة الإسناد كالفاعل والمفعول ، قال سيبويه : فإن قدمت المفعول واخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول ، يعني : في ضرب عبد الله زيداً ، قال : وذلك ضرب زيداً عبد الله ، لأنك إنما أردت به مؤخراً ما أردت به مقدماً ، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول

" صفحة رقم 493 "
منه ، وإن كان مؤخراً في اللفظ ، فمن كان حد اللفظ أن يكون فيه مقدماً ، وهو عربي جيد كثير ، كأنهم يقدمون الذي بيانه لهم أهم ، وهم ببيانه أعني ، وإن كان جميعاً يهمانهم ويعنيانهم انتهى ، والرازي حرف كلام سيبويه ، وأخذه حيث لا يتصور اختلاف نسبه ، وهو المبتدأ والخبر ، فإنه ليس في إلا نسبة واحدة ، بخلاف الفاعل والمفعول ، لأن المخاطب قد يكون له غرض في ذكر من صدر منه الضرب ، فيقدم الفاعل ، أو في ذكر من حل به الضرب فيقدم المفعول ، لأنه نسبة الضرب مختلفة بالنظر إليهما ، وأما الآية فهي من باب ما النسبة فيه لا تختلف ، إنما هي الحكم على السارق بقطع يده ، وما ذكره الرازي لا يتفرع على كلام سيبويه بوجه ، والعجب من هذا الرجل ، وتجاسره على العلوم حتى صنف في النحو كتاباً سماه المحرر ، وسلك فيه طريقة غريبة بعيدة من مصطلح أهل النحو ، ومن مقاصدهم ، وهو كتاب لطيف محتو على بعض أبواب العربية ، وقد سمعت شيخنا أبا جعفر بن الزبير يذكر هذا التصنيف ، ويقول : إنه ليس جارياً على مصطلح القوم ، وأن ما سلكه في ذلك من التخطيط في العلوم ، ومن غلب لعيه فن ظهر فيما يتكلم به من غير ذلك الفن ، أو قريباً منه من هذا المعنى ، ولما وقفت على هذا الكتاب بديار مصر رأيت ما كان الأستاذ أبو جعفر يذم من هذا الكتاب ، ويستنزل عقل فخر الدين في كونه صنف في علم وليس من أهله ، وكان أبو جعفر يقول : لكل علم حد ينتهي إليه ، فإذا رأيت متكلما في فن ما ، ومزجه بغيره ، فاعلم أن ذلك إما أن يكون من تخليطه وتخبيط ذهنه ، وإما أن يكون من قلة محصوله ، وقصوره في ذلك العلم ، فتجده يستريح إلى غيره مما يعرفه ، وقال الزمخشري بعد أن ذكر مذهب سيبويه في إعراب ) السارق والسارقة ( ما نصه : ووجه آخر ، وهو أن يرتفعا بالابتداء والخبر ) فاقطعوا أيديهما ( ودخول الفاء لتضمنها عيسى بن عمر بالنصب ، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر ، لأن زيداً فاضربه أحسن من زيد فاضربه أحسن من زيد فاضربه انتهى ، وهذا الوجه الذي أجازه وإن كان ذهب إليه بعضهم لا يجوز عند سيبويه ، لأن الموصول لم يوصل بجملة تصلح لأداة الشرط ولا بما قام مقامها من ظرف أو مجرور ، بل الموصول هنا أل ، وصلة أل لا تصلح لأداة الشرط ، وقد امتزج الموصول بصلته ، حتى صار الإعراب في الصلة ، بخلاف الظرف والمجرور ، فإن العامل فيها جملة لا تصلح لأداة الشرط ، وأما قوله في قراءة عيسى : إن سيبويه فضلها على قراءة العامة فليس بصحيح ، بل الذي ذكر سيبويه في كتابه : أنهما تركيبان أحدهما : زيداً اضربه ، والثاني : زيد فاضربه ، فالتركيب الأول اختار فيه النصب ، ثم جوزوا الرفع بالابتداء ، والتركيب الثاني منع أن يرتفع بالابتداء ، وتكون الجملة الأمرية خبراً له لأجل الفاء ، وأجاز نصبه على الاشتغال ، أو على الإغراء ، وذكر أنه يستقيم رفعه على أن يكون جملتان ، ويكون زيد خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا زيد فاضربه ، ثم ذكر الآية ، فخرجها على حذف الخبر ، ودل كلامه أن هذا التركيب هو لا يكون إلا على جملتين ، الأولى ابتدائية ، ثم ذكر قراءة ناس بالنصب ، ولم يرجحها على قراءة العامة ، إنما قال : وهي في العربية على ما ذكرت لك من القوة ، أي : نصبها على الاشتغال و الإغراء ، وهو قوي لا ضعيف ، وقد منع سيبويه رفعه على الابتداء ، والجملة الأمرية خبر لأجل الفاء ، وقد ذكرنا الترجيح بين رفعه على أنه مبتدأ حذف خبره ، أو خبر حذف مبتدؤه ، وبين نصبه على الاشتغال ، بأن الرفع يلزم فيه حذف خبر واحد ، والنصب يلزم فيه حذف جملة وإضمار أخرى ، وزحلقة الفاء عن موضعها ، وظاهر قوله ) والسارق ( أنه لا يشترط حرز للمسروق ، وبه قال داود والخوارج ، وذهب الجمهور إلى أن شرط القطع إخراجه من الحرز ، ولو جمع الثياب في البيت ولم يخرجها لم يقطع ، وقال الحسن : يقطع ، والظاهر اندراج كل من يسمى سارقاً في عموم ) والسارق والسارقة ( ولكن الإجماع منعقد على أن الأب إذا سرق من ماله ابنه لا يقطع الابن ، وقال عبد الله بن الحسن : إن كان يدخل عليهما فلا قطع ، وإن كانا ينهيانه على الدخول قطع ، ولا يقطع ذوو المحارم عند أبي

" صفحة رقم 494 "
حنيفة ، ولا الأجداد من جهة الأدب والأم عند الجمهور وعند أشهب ، وقال أبو ثور : يقطع كل سارق سرق ما تقطع فيه اليد ، إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع ، وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تقطع المرأة إذا سرقت من مال زوجها ، ولا هو إذا سرق من مال زوجته ، وقال مالك : يقطعان ، والظاهر أن من أقر مرة بسرقة قطع ، وبه قال أبو حنيفة وزفر ومالك والشافعي والثوري ، وقال ابن شبرمة وأبو يوسف وابن أبي ليلى : لا يقطع حتى يقر مرتين ، وقال أبو حنيفة : لا يقطع سارق المصحف ، وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وابن القاسم : يقطع إذا كانت قيمته نصاباً ، والظاهر قطع الطرار نصاباً ، وبه قال مالك الأوزاعي وأبو ثور ويعقوب ، وهو قول الحسن وذهب أبو حنيفة ومحمد وإسحاق إلى أنه إن كانت الدراهم مصرورة في كمه لم يقطع ، أو في داخلة قطع ، واختلف في النباش ، إذا أخذ الكفن فقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي ومحمد : لا يقطع ، وهو قول ابن عباس ومكحولاً : وقال الزهري : أجمع أصحاب رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - في زمن كان مروان أميراً على المدينة ، أن النباش يعزر ولا يقطع ، وكان الصحابة متوافرين يومئذ ، وقال أبو الدرداء وابن أبي ليلى وربيعة ومالك والشافعي وأبو يوسف : يقطع ، وهو مروي عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز والزهري ومسروق والحسن والنخعي وعطاء ، والظاهر أنه إذا كرر السرقة في العين بعد القطع فيها لم يقطع ، وبه قال الجمهور ، وقال أبو حنيفة : لا يقطع وأنه إذا سرق نصاباً من سارق لا يقطع ، وبه قال الشافعي ، وقال مالك : يقطع ، والمخاطب بقوله ) فاقطعوا ( الرسول أو ولاة الأمر ، كالسلطان ، ومن أذن له في إقامة الحدود ، أو القضاء والحكام ، أو المؤمنون ليكونوا متظافرين على إقامة الحدود أقوال أربعة ، وفصل بعض العلماء ، فقال : إن كان في البلد إمام أو نائب له ، فالخطاب متوجه إليه ، فإن لم يكن وفيها حاكم ، فالخطاب متوجه إليه ، فإن لم يكن فإلى عامة المؤمنون ، وهو من فروض الكفاية ، إذ ذاك إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين ، والظاهر من قوله ) فاقطعوا أيديهما ( أنه يقطع من السارق الثنتان ، لكن الإجماع على خلاف هذا الظاهر ، وإنما يقطع من السارق يمناه ، ومن السارقة يمناها ، قال الزمخشري ) أيديهما ( يديهما ونحوه ) فقد صغت قلوبكما ( التحريم [ 4 ] اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف ، وأريد باليدين اليمينان بدليل قراءة عبد الله ) والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ( انتهى ، وسوى بين ) أيديهما ( و ) قلوبكما ( وليسا بشيئين ، لأن باب ) صغت قلوبكما ( يطرد فيه وضع الجمع موضع التثنية ، وهو ما كان اثنين من شيئين ، كالقلب والأنف ، والوجه والظهر ، وأما إن كان شيء منهما اثنان كاليدين والأذنين والفخذين ، فإن وضع الجمع موضع التثنية لا يطرد ، وإنما يحفظ ولا يقاس عليه ، لأن الذهن إنما يتبادر إذا أطلق الجمع لما يدل عليه لفظه ، فلو قيل : قطعت آذان الزيدين ، فظاهره قطع أربعة الآذان ، وهو استعمال اللفظ في مدلوله ، وقال ابن عطية : جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة ، وهي المعرضة للقطع في السرقة ، وللسراق أيد ، وللسارقات أيد ، كأنه قال : اقطعوا أيمان النوعين ، فالتثنية للضمير إنما هي النوعين ، وظاهر قوله ) أيديهما ( أنه لا يقطع الرجل ، فإذا سرق قطعت يده اليمنى ، ثم إن سرق قطعت يده اليسرى ، ثم إن سرق عزر وحبس ، وهو مذهب مالك والجمهور ، وبه قال أبو حنيفة والثوري ، وقال علي والزهري وحماد بن أبي سلمة وأحمد : تقطع يديه اليمنى ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى ، ثم إن سرق عزر وحبس ، وروى عطاء : لا تقطع في السرقة إلا اليد اليمنى فقط ، ثم إن سرق عزر وحبس ، وقال الشافعي : إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى ، ثم في الثانية رجله اليسرى ، ثم في الثالثة يده اليسرى ، ثم في الرابعة وجله اليمنى ، وروي هذا عن عمر ، قيل : ثم رجع إلى قوله علي ، وظاهر قطع اليد أنه يكون من المنكب من المفصل ، وروي عن علي : أنه في اليد من

" صفحة رقم 495 "
الأصابع ، وفي الرجل من نصف القدم ، وهو معقد الشراك ، وروي مثله عن عطاء وأبي جعفر ، وقال أبو صالح السمان : رأيت الذي قطعه علي مقطوعاً من أطراف الأصابع ، فقيل له : من قطعك ؟ قال : خير الناس ، والظاهر أن المترتب على السرقة هو قطع اليد فقط ، فإن كان المال قائماً بعينه أخذه صاحبه ، وإن كان السارق استهلكه فلا ضمان عليه ، وبه قال مكحول وعطاء والشعبي وابن سيرين والنخعي في قول أبي حنيفة وأصحابه ، وقال الحسن والزهري والنخعي في قو حماد وعثمان البتي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق : يضمن ويغرم ، وقال مالك : إن كان موسراً ضمن ، أو معسراً فلا شيء عليه ، ( جزاء بما كسب نكالاً من الله ( قال الكسائي : انتصب ) جزاء ( على الحال ، وقال قطرب : على المصدر ، أي : جازاهم جزاء ، وقال الجمهور : هو على المفعول من أجله ، و ) بما ( متعلق ب ) جزاء ( و ) ما ( موصولة ، أي : بالذي كسباه ، ويحتمل أن تكون مصدرية أي : جزاء يكسبها ، وانتصاب نكالاً على المصدر ، أو على أنه مفعول من أجله ، والعذاب النكال ، والنكل القيد ، تقدم الكلام فيه ، في قوله ) فجعلناها نكالا ( وقال الزمخشري : جزاء ونكالاً مفعول لما انتهى ، وتبع في ذلك الزجاج ، قال الزجاج : هو المفعول من أجله ، يعني : جزاء ، قال : وكذلك ) نكالا من الله ( انتهى ، وهذا ليس بجيد إلا إذا كان الجزاء هو النكال ، فيكون ذلك على طريق البدل ، وأما إذا كانا متباينين ، فلا يجوز أن يكونا مفعولين لهما إلا بواسطة حرف العطف ، ( والله عزيز حكيم ( قيل : المعنى ) عزيز ( في شرع الردع ) حكيم ( في إيجاب القطع ، وقيل ) عزيز ( في انتقامه من السارق ، وغيره من أهل المعصية ) حكيم ( في فرائضه وحدوده ، روي : أن بعض الأعراب سمع قرائاً يقرأ ) والسارق والسارقة ( إلى آخرها ، وختمها بقوله ) والله غفور رحيم ( فقال : ما هذا كلام فصيح ، فقيل له : ليس التلاوة كذلك ، وإنما هي ) والله عزيز حكيم ( فقال : بخ بخ عز ، فحكم ، فقطع . 2 ( ) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ) ) 2
) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (
المائدة : ( 39 ) فمن تاب من . . . . .
أي فمن تاب من بعد ظلمه بالسرقة . وظلمه مضاف إلى الفاعل أي : من بعد أن ظلم غيره بأخذ مال أو سرقة . قيل : أو مضاف إلى المفعول أي : من بعد أن ظلم نفسه . وفي جواز هذا الوجه نظر إذ يصير التقدير : من بعد أن ظلمه . ولو صرح بهذا لم يجز ، لأن فيه تعدي الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المتصل المنصوب ، وذلك لا يجوز إلا في باب ظن ، وفقد ، وعدم . ومعنى يتوب عليه أي : يتجاوز عنه ويقبل توبته . وظاهر الآية أنه بمجرد التوبة لا يقبل إلا إن ضم إلى ذلك الإصلاح وهو التنصل من التبعات بردها إنْ أمكن ، وإلا بالاستحلال منها ، أو بإنفاقها في سبيل الله إن جهل صاحبها . والغفران والرحمة كناية عن سقوط العقوبة عنه في الآخرة . قرأ الجمهور على أن الحد لا يسقط بالتوبة . وقال عطاء وجماعة : يسقط بالتوبة قبل القدرة على السارق ، وهو أحد قولي الشافعي . وقال مجاهد : التوبة والإصلاح هي أن يقام عليه الحد

" صفحة رقم 496 "
المائدة : ( 40 ) ألم تعلم أن . . . . .
( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء ( لما ذكر تعالى تصرفه في أحكام المحاربين وأحكام السرّاق ، ولم يحاب ما ذكر من العقوبات عليهم ، نبه على أن ذلك هو تصرف في ملكه ، وملكه لا معقب لحكمه ، فيعذب من يشاء عذابه وهم المخالفون لأمره ، ويغفر لمن يشاء وهم التائبون . والخطاب في ألم تعلم قيل : للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقيل : لكل مكلف ، وقيل : للمجترىء على السرقة وغيرها من المحظورات . فالمعنى : ألم تعلم أنّك عاجز عن الخروج عن ملكي ، هارباً مني ومن عذابي ، فلم اجترأت على ما منعتك منه ؟ وأبعد من ذهب أنه خطاب اليهود كانوا بحضرة الرسول ، والمعنى : ألم تعلموا أنه له ملك السموات والأرض ، لا قرابة ولا نسب بينه وبين أحد حتى يحابيه ، ويترك القائلين نحن أبناء الله وأحباؤه . قال الزمخشري : من يشاء من يجب في الحكم تعذيبه والمغفرة له من المصرّين والتائبين انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال . وقد يسقط حد الحربي إذا سرق بالتوبة ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه ، ولا نسقطه عن المسلم لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة ) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ ( وقال ابن عباس والضحاك : يعذب من يشاء ، أي من مات على كفره ، ويغفر لمن يشاء ممن تاب عن كفره . وقيل : ذلك في الدنيا ، يعذب من يشاء في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والسبي والأسر وإذهاب المال والجدب والنفي والخزي والجزية وغير ذلك ، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبة عليه من كفره ومعصيته فينقذه من الهلكة وينجيه من العقوبة .
( وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ( كثيراً ما يعقب هذه الجملة ما دل على التصرّف التام ، والملك والخلق والاختراع ، وهي في غاية المناسبة عقيب ما ذكروه من ذلك قوله تعالى : ) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ).
( ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَمَآ أُوْلَائِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاٌّ حْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ

" صفحة رقم 497 "
اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِأايَاتِى ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالاٌّ نْفَ بِالاٌّ نْفِ وَالاٍّ ذُنَ بِالاٍّ ذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَىءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( )
المائدة : ( 41 ) يا أيها الرسول . . . . .
السَّحْت والسحُت بسكون الحاء وضمها الحرام ، سمي بذلك لأنه يسحت البركة أي يذهبها . يقال : سحته الله أي أهلكه ، ويقال : أسحته ، وقرىء بهما في قوله : ) فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ( أي يستأصلكم يهلككم ، ومنه قول الفرزدق : وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتاً أو مجلف
ومصدر الثلاثي سحت بفتحتين ، وسحت بإسكان الحاء . وقال الفراء : أصل السحت كلب الجوع ويقال : فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلقى أبداً إلا خائفاً ، وهو راجع لمعنى الهلاك .
الحبر : بفتح الحاء وكسرها العالم ، وجمعه الأحبار . وكان أبو عبيد ينكر ذلك ويقول : هو بفتح الحاء . وقال الفراء : هو بالكسر ، واختار أبو عبيد الفتح .

" صفحة رقم 498 "
وتسمى هذه السورة سورة الأحبار ، ويقال : كعب الأحبار . والحبر بالكسر الذي يكتب به ، وينسب إليه الحبري الحبار . ويقال : كتب الحبر لمكان الحبر الذي يكتب به ، وسمي حبراً لتحسينه الخط وتبيينه إياه . وقيل : سمي حبراً لتأثيره في الموضع الذي يكون به من الحبار وهو الأثر .
العين : حاسة الرؤية وهي مؤنثة ، وتجمع في القلة على أعين وأعيان ، وفي الكثرة على عيون . وقال الشاعر : ولكنني أغدو عليّ مفاضة
دلاص كأعيان الجراد المنظم
ويقال للجاسوس : ذو العينين ، والعين لفظ مشترك بين معان كثيرة ذكرها اللغويون . الأنف : معروف والجمع آناف وأنف وأنوف .
المهيمن : الشاهد الرقيب على الشيء الحافظ له ، وهو اسم فاعل من هيمن قالوا : ولم يجيء على هذا الوزن إلا خمسة ألفاظ : هيمن ، وسيطر ، وبيطر ، وحيمر ، وبيقر ، ذكر هذا الخامس الزجاجي في شرحه خطبة أدب الكاتب ، ومعناه : سار من الحجاز إلى اليمن ، ومن أفق إلى أفق . وهيمن بنا أصل . وذهب بعض اللغويين إلى أنّ مهيمناً اسم فاعل من أمن غيره من الخوف قال : فأصله مأمن قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة اجتماع الهمزتين فصار مؤيمن ، ثم أبدلت الهمزة الأولى هاء كما قالوا : اهراق في اراق ، وهياك في إياك ، وهذا تكلف لا حاجة إليه ، وقد ثبت نظير هذا الوزن في ألفاظ فيكون هذا منها . وأيضاً فالهمزة في مؤمن اسم فاعل من آمن قد سقطت كراهة اجتماع الهمزتين ، فلا يدعي أنها أقرت وأبدل منها . وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة من أنه تصغير مؤمن ، وأبدلت همزته هاء ، فقد كتب إليه أبو العباس المبرد يحذره من هذا القول . واعلم أنّ أسماء الله تعالى لا تصغر . الشرعة : السنة والطريقة شرع يشرع شرعاً أي سنّ ، والشارع الطريق الأعظم ، ومنزل شارع إذا كان بابه قد شرع إلى طريق نافذ . المنهاج والمنهج : الطريق الواضح ، ونهج الأمر استبان ، ونهجت الطريق أبنته وأوضحته ، ونهجت الطريق سلكته .
( قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ( روي عن أبي هريرة وابن عباس وجماعة : أن سبب نزولها أنّ يهودياً زنى بيهودية ، قيل : بالمدينة . وقيل : بغيرها من أرض الحجاز ، فسألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وطمعوا أن يكون غير الرجم حدهما ، وكان في التوراة رجم ، فأنكروا ذلك أن يكون في التوراة وافتضحوا إذ أحضروها ، وحكم الرسول فيهما بالرجم وأنفذه . وقال قتادة : السبب أنّ بني النضير كانوا إذا غزوا بني قريظة ، فإن قتل قرظي نضيرياً قتل به ، أو نضيري قرظياً أعطى الدية . وقيل : كانت دية القرظي على نصف دية النضيري ، فلما جاء الرسول المدينة طلبت قريظة الاستواء لأنهما ابنا عم ، وطلبت الحكومة إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقالت بنو النضير : إنْ حكم بما نحن عليه فخذوه ، وإلا فاحذروا . وقال السدي : نزلت في رجل من الأنصار وهذا بعيد من مساق الآية . وذكروا أن هذا الرجل هو أبو لبابة بن عبد المنذر ، أشارت إليه قريظة يوم حصرهم

" صفحة رقم 499 "
علام ينزل من الحكم ، فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح . وقال الشعبي : نزلت في قوم من اليهود قتل واحد منهم آخر ، فكلفوا رجلاً من المسلمين أن يسأل الرسول قالوا : فإنْ أفتى بالدية قبلنا ، وإن أفتى بالقتل لم نقبل . وهذا نحو من قول قتادة في النضير وقريظة .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما بين أحكام الحرابة والسرقة ، وكان في ذكر المحاربين أنهم يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ، أمره تعالى أن لا يحزن ولا يهتم بأمر المنافقين ، وأمر اليهود من تعنتهم وتربصهم به وبمن معه الدوائر ونصبهم له حبائل المكروه ، وما يحدث لهم من الفساد في الأرض . ونصب المحاربة لله ولرسوله وغير ذلك من الرذائل الصادرة عنهم . ونداؤه تعالى له : يا أيها الرسول هنا ، وفي ) يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ ( ويا أيها النبي في مواضع تشريف وتعظيم وتفخيم لقدره ، ونادى غيره من الأنبياء باسمه فقال : ) أَجْمَعِينَ وَيَئَادَمُ اسْكُنْ ( و ) قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ ( ) أَن ياإِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ( ) قَالَ يامُوسَى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ ( ) يا عيسى إني متوفيتك ( ) وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ). وقال مجاهد وعبد الله بن كثير : من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، هم اليهود المنافقون ، وسماعون للكذب هم اليهود . والمعنى على هذا : لا تهتم بمسارعة المنافقين في الكفر واليهود بإظهار ما يلوح لهم من آثار الكفر وهو كيدهم للإسلام وأهله ، فإنّ ناصرك عليهم ويقال : أسرع فيه السبب ، وأسرع فيه الفساد ، إذا وقع فيه سريعاً . ومسارعتهم في الكفر وقوعهم وتهافتهم فيه . أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها ، وتكون من الأولى والثانية على هذا تنبيهاً وتقسيماً للذين يسارعون في الكفر ، ويكون سماعون خبر مبتدأ محذوف أي : هم سماعون ، والضمير عائد على المنافقين وعلى اليهود . ويدل على هذا المعنى قراءة الضحاك : سماعين ، وانتصابه على الذم نحو قوله : أقارع عوف لا أحاول غيرها
وجوه قرود تبتغي من تخادع
ويجوز أن يكون : ) وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ ( استئنافاً ، وسماعون مبتدأ وهم اليهود ، وبأفواههم متعلق بقالوا لا بآمنا والمعنى : أنهم لم يجاوز قولهم أفواههم ، إنما نطقوا بالإيمان خاصة دون اعتقاد . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : لا يحزنك المسارعون في الكفر من اليهود ، وصفهم بأنهم قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم إلزاماً منهم ذلك من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها ، فهم يقولون بأفواههم : نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى ، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوا وجحدوا ما فيها من نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وغير ذلك مما ينكرونه . ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا ) وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ويجيء على هذا التأويل قوله : من الذين قالوا كأنه قال : ومنهم ، ولكنْ صرّح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدّل التوراة على علم منها انتهى . وهو احتمال بعيد متكلف ، وسماعون من صفات المبالغة ، ولا يراد به حقيقة السماع إلا إن كان للكذب مفعولاً من أجله ، ويكون المعنى : إنهم سماعون منك أقوالك من أجل أن يكذبوا عليك ، وينقلون حديثك ، ويزيدون مع الكلمة أضعافها كذباً . وإن كان للكذب مفعولاً به لقوله : سماعون ، وعدى باللام على سبيل التقوية للعامل ، فمعنى السماع هنا قبولهم ما يفتريه أحبارهم ويختلقونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولهم : الملك يسمع كلام فلان ، ومنه ( سمع الله لمن حمده ) وتقدم ذكر الخلاف في قراءة يحزنك ثلاثياً ورباعياً . وقرأ السلمي : يسرعون بغير ألف من أسرع . وقرأ الحسن وعيسى بن عمر : للكذب بكسر الكاف وسكون الذال . وقرأ زيد بن عليّ : الكذب بضم

" صفحة رقم 500 "
الكاف والذال جمع كذوب ، نحو صبور وصبر ، أي : سماعون للكذب الكذب .
( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ ( فيحتمل أن يكون المعنى : سماعون لكذب قوم آخرين لم يأتوك أي كذبهم ، والذين لم يأتوه يهود فدك . وقيل : يهود خيبر . وقيل : أهل الرأبين . وقيل : أهل الخصام في القتل والدية . ويحتمل أن يكون المعنى : سماعون لأجل قوم آخرين ، أي هم عيون لهم وجواسيس يسمعون منك وينقلون لقوم آخرين ، وهذا الوصف يمكن أن يتصف به المنافقون ، ويهود المدينة . وقيل : السماعون بنو قريظة ، والقوم الآخرون يهود خيبر . وقيل لسفيان بن عيينة : هل جرى ذكر الجاسوس في كتاب الله ؟ فقال : نعم . وتلا هذه الآية سماعون لقوم آخرين ، لم يأتوك : صفة لقوم آخرين . ومعنى لم يأتوك : لم يصلوا إلى مجلسك وتجافوا عنك لما فرط منهم من شدّة العداوة والبغضاء ، فعلى هذا الظاهر أن المعنى : هم قائلون من الأحبار كذبهم وافتراؤهم ، ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك .
( يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ ( قرىء الكلم بكسر الكاف وسكون اللام أي : يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعها الله فيها . قال ابن عباس والجمهور : هي حدود الله في التوراة ، وذلك أنهم غيروا الرجم أي : وضعوا الجلد مكان الرجم . وقال الحسن : يغيرون ما يسمعون من الرسول عليه السلام بالكذب عليه . وقيل : بإخفاء صفة الرسول . وقيل : بإسقاط القود بعد استحقاقه . وقيل : بسوء التأويل . قال الطبري : المعنى يحرفون حكم الكلام ، فحذف للعلم به انتهى . ويحتمل أن يكون هذا وصفاً لليهود فقط ، ويحتمل أن يكون وصفاً لهم وللمنافقين فيما يحرفونه من الأقوال عند كذبهم ، لأن مبادىء كذبهم يكون من أشياء قيلت وفعلت ، وهذا هو الكذب الذي يقرب قبوله . ومعنى من بعد مواضعه : قال الزجاج من بعد أن وضعه الله مواضعه ، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه .
( يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ ( الإشارة بهذا قيل : إلى التحميم والجلد في الزنا . وقيل : إلى قبول الدية في أمر القتل . وقيل : على إبقاء عزة النضير على قريظة ، وهذا بحسب الاختلاف المتقدم في سبب النزول . وقال الزمخشري : إن أوتيتم ، هذا المحرّف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق ، واعملوا به انتهى . وهو راجع لواحد مما ذكرناه ، والفاعل المحذوف هو الرسول أي : إن أتاكم الرسول هذا .
( وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ ( أي : وإنْ أفتاكم محمد بخلافه فاحذروا وإياكم من قبوله فهو الباطل والضلال . وقيل : فاحذروا أن تعلموه بقوله السديد . وقيل : أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به . وقيل : فاحذروا أن تسألوه بعدها ، والظاهر الأول لأنه مقابل لقوله : فخذوه . فالمعنى : وإن لم تؤتوه وأتاكم بغيره فاحذروا قبوله .
( وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ( قال الحسن وقتادة : فتنته أي عذابه بالنار . ومنه يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون . وقال الزجاج : فضيحته . وقيل : اختباره لما يظهر به أمره . وقيل : إهلاكه . وقال ابن عباس ومجاهد : كفره وإضلاله ، يقال : فتنه عن دينه صرفه عنه ، وأصله فلن يقدر على دفع ما يريد الله منه . وقال الزمخشري : ومن يرد الله فتنته تركه مفتوناً وخذلانه ، فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً انتهى . وهذا على طريقة الاعتزال . وهذه الجملة جاءت تسلية للرسول وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر . وقطعاً لرجائه من فلاحهم .
( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ ( أي سبق لهم في علم الله ذلك ، وأن يكونوا مدنسين بالكفر . وفي هذا وما قبله ردّ على القدرية والمعتزلة . وقال الزمخشري : أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يظهر به قلوبهم ، لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع ولا تنجع فيها . إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله كيف يهدي الله قوماً كفروا

" صفحة رقم 501 "
بعد إيمانهم انتهى . وهو على مذهبه الاعتزالي .
( لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ ( أي ذل وفضيحة . فخزي المنافقين بهتك سترهم وخوفهم من القتل إن اطلع على كفرهم المسلمون ، وخزي اليهود تمسكنهم وضرب الجزية عليهم ، وكونهم في أقطار الأرض تحت ذمّة غيرهم وفي إيالته . وقال مقاتل : خزي قريظة بقتلهم وسبيهم ، وخزي بني النضير بإجلائهم .
( وَلَهُمْ فِى الاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( وصف بالعظم لتزايده فلا انقضاء له ، أو لتزايد ألمه أو لهما .
المائدة : ( 42 ) سماعون للكذب أكالون . . . . .
( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ( قال الحسن : يسمعون الكلام ممن يكذب عندهم في دعواه فيأتيهم برشوة فيأخذونها . وقال أبو سليمان : هم اليهود ويسمعون الكذب ، وهو قول بعضهم لبعض : محمد كاذب ليس بنبي ، وليس في التوراة الرجم ، وهم يعلمون كذبهم . وقيل : الكذب هنا شهادة الزور انتهى . وهذا الصوف إن كان قوله أوّلاً : سماعون للكذب ، وصفاً لبني إسرائيل .
وتقدم أن السحت المال الحرام . واختلف في المراد به هنا ، فعن ابن مسعود : أنه الرشوة في الحكم ، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن ، وثمن الكلب ، والنرد ، والخمر ، والخنزير ، والميتة ، والدم ، وعسب الفحل ، وأجرة النائحة والمغنية ، والساحر ، وأجر مصوّر التماثيل ، وهدية الشفاعة . قالوا وسمي سحتاً المال الحرام لأنه يسحت الطاعات أو بركة المال أو الدين أو المروءة وعن ابن مسعود ومسروق : أن المال المأخوذ على الشفاعة سحت . وعن الحسن : أنّ ما أكل الرجل من مال من له عليه دين سحت . وقيل لعبد الله : كنا نرى أنه ما أخذ على الحكم يعنون الرشا ، قال : ذلك كفر ، قال تعالى : ) وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ). وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم يعزل ، وفي الحديث : ) كُلٌّ لَحْمَ نَّبَاتٍ مِنْ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا ( وقال علي وأبو هريرة : كسب الحجاج سحت ، يعني أنه يذهب المروءة ، وما ذكر في معنى السحت فهو من أمثلة المال الذي لا يحل كسبه .
ومن أعظم السحت الرشوة في الحكم ، وهي المشار إليها في الآية . كان اليهود يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام . وعن الحسن : كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراه إياها ، وتكلم بحاجته ، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب . وقرأ النحويان وابن كثير : السحت بضمتين . وقرأ باقي السبعة : بإسكان الحاء . وزيد بن علي وخارجة بن مصعب عن نافع : بفتح السين وإسكان الحاء ، وقرىء بفتحتين . وقرأ عبيد بن عمير : بكسر السين وإسكان الحاء ، فبالضم والكسر والفتحتين اسم المسحوت كالدهن والرّعي والنبض ، وبالفتح والسكون مصدر أريد به المفعول كالصيد بمعنى المصيد ، أو سكنت الحاء طلباً للخفة .
( فَانٍ جَاءوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ( أي فإن جاؤك للحكم بينهم فأنت مخير بين أن تحكم ، أو تعرض . والظاهر بقاء هذا الحكم من التخيير لحكام المسلمين . وعن عطاء ، والنخعي ، والشعبي ، وقتادة ، والأصم ، وأبي مسلم ، وأبي ثور : أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين ، فإن شاؤا حكموا وإن شاؤا أعرضوا . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وعطاء الخراساني ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري : التخيير منسوخ بقوله : ) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ( فإذا جاؤوا فليس للإمام أن يردهم إلى أحكامهم . والمعنى عند غيرهم : وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذا اخترت الحكم بينهم دون الإعراض عنهم . وعن أبي حنيفة : إنْ احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام ، وأقيم الحدّ على الزاني بمسلمة ، والسارق من مسلم . وأما أهل الحجاز فلا يرون إقامة الحدود عليهم ، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود ، ويقولون : إنّ رجم اليهوديين كان قبل نزول الجزية . وقال ابن عطية : الأمة مجمعة على أنّ حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم ، ويتسلط عليهم في تغيير ، ومن ذلك حبس السلع المبيعة

" صفحة رقم 502 "
وغصب المال . فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم ، ويتسلط عليهم في تغيير ، ومن ذلك جنس السلع المبيعة وغصب المال . فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم فيها ، وإنما هي دعاء ومحتملة ، فهي التي يخير فيها الحاكم انتهى . وفيه بعض تلخيص . وظاهر الآية يدل على مجيء المتداعيين إلى الحاكم ، ورضاهما يحكمه كاف في الإقدام على الحكم بينهما . وقال ابن القاسم : لا بد مع ذلك من رضا الأساقفة والرهبان ، فإنْ رضي الأساقفة دون الخصمين ، أو الخصمان دون الأساقفة ، فليس له أن يحكم . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والزهري ، وغيرهم : فإن جاؤوك يعني أهل نازلة الزانيين ، ثم الآية تتناول سائر النوازل . وقال قوم : في قتيل اليهود من قريظة والنضير . وقال قوم : التخيير مختص بالمعاهدين لازمة لهم . ومذهب الشافعي : أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه ، لأنّ في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم ، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب عليه أن يحكم بينهم ، بل يتخير في ذلك ، وهو التخيير الذي في الآية وهو مخصوص بالمعاهدين . وروي عن الشافعي مثل قول عطاء والنخعي .
( وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً ( أي أنت آمن من ضررهم ، منصور عليهم على كل حال . وكانوا يتحاكمون إليه لطلب الأيسر والأهون عليهم ، فالجلد مكان الرجم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم ، وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضروه ، فأمنه الله منهم ، وأخبره أنهم ليسوا قادرين على شيء من ضرره .
( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ( أي : وإن أردت الحكم بالقسط بالعدل كما تحكم بين المسلمين . والقسط : هو المبين في قوله : ) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ( ، وهو ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا يحكم إلا بالقسط ، فهو أمر معناه الخبر أي : فحكمك لا يقع إلا بالعدل ، لأنك معصوم من اتباع الهوى .
( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( وأنت سيدهم ، فمحبته إياك أعظم من محبته إياهم . وفيه حث على توخي القسط وإيثاره ، حيث ذكر الله أنه يحب من اتصف به .
المائدة : ( 43 ) وكيف يحكمونك وعندهم . . . . .
( وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ( هذا تعجيب من تحكيمهم إياه مع أنهم لا يؤمنون به ولا بكتابه . وفي كتابهم الذي يدعون الإيمان به حكم الله تعالى نص جلي ، فليسوا قاصدين حكم الله حقيقة ، وإنما قصدوا بذلك أن يكون عنده ( صلى الله عليه وسلم ) ) رخصة فيما تحاكموا إليه فيه اتباعاً لأهوائهم ، وأنهماكاً في شهواتهم . ومن عدل عن حكم الله في كتابه الذي يدعي أنه مؤمن به إلى تحكيم من لا يؤمن به ولا بكتابه ، فهو لا يحكم إلا رغبة فيما يقصده من مخالفة كتابه . وإذا خالفوا كتابهم لكونه ليس على وفق شهواتهم ، فلأنْ يخالفوك إذا لم توافقهم أولى وأحرى . والواو في : وعندهم ، للحال وعندهم التوراة مبتدأ وخبر ، وقوله : فيها . حكم الله ، حال من التوراة ، وارتفع حكم على الفاعلية بالجار والمجرور أي : كائناً فيها حكم الله . ويجوز أن يكون فيها في موضع رفع خبراً عن التوراة كقولك : وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله . وأو لا محل له ، وتكون جملة مبينة ، لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول : عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره ؟ وهذان الإعرابان للزمخشري .
( ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذالِكَ ( أي من بعد تحكيمك الموافق لما في كتابهم ، لأن التعجيب من التحكيم إنما كان بعد صدوره منهم ، ثم تولوا عنه ولم يرضوا به . وقال ابن عطية : من بعد ذلك ، أي من بعد حكم الله في التوراة وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله انتهى . وهذه الجملة مستأنفة أي : ثم هم يتولون بعد . وهي أخبار من الله بتوليهم على عادتهم في أنهم إذا وضح لهم الحق أعرضوا عنه وتولوا . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : علام عطف ثم يتولون ؟ ( قلت ) : على يحكمونك انتهى . ويكون إذ ذاك داخلاً في الاستفهام الذي يراد به التعجب ، أي ثمّ كيف يتولون بعد ذلك ، فيكون قد تعجب من تحكيمهم إياه ، ثم من توليهم عنه . أي : كيف رضوا به ثم سخطوه ؟ .
( وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ظاهره نفي الإيمان عنهم ، أي : من حكم الرسول ، وخالف كتابه ، وأعرض عما حكم له ، إذ وافى كتابه فهو كافر . وقيل : هو إخبار عنهم أنهم لا يؤمنون

" صفحة رقم 503 "
أبداً ، فهو خبر عن المستقبل لا الماضي . وقيل : نفي الإيمان بالتوراة وبموسى عنهم . وقيل : هو تعليق بقوله : وكيف يحكمونك ، أي اعجب لتحكيمهم إياك ، وليسوا بمؤمنين بك ، ولا معتقدين في صحة حكمك ، وذلك يدل على أنهم إنما قصدهم تحصيل منافع الدنيا وأغراضهم الفاسدة دون اتباع الحق .
المائدة : ( 44 ) إنا أنزلنا التوراة . . . . .
( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ( قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن : نزلت في الجاحدين حكم الله ، وهي عامة في كل من جحد حكم الله . وقال البراء بن عازب : نزل ) يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( في اليهود خاصة وذكر قصة رجم اليهوديين . وقيل لحذيفة : ) وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( نزلت في بني إسرائيل ؟ قال نعم . وقال الحسن وأبو محلز وأبو جعفر : هي في اليهود . وقال الحسن : هي علينا واجبة . وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان يقول لما نزلت هذه الآية : ) نَحْنُ ( وفي الآية ترغيب لليهود بأن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم ، وتنبيه المنكرين لوجوب الرجم . وقال جماعة : الهدى والنور سواء ، وكرر للتأكيد . وقال قوم : ليسا سواء ، فالهدى محمول على بيان الأحكام ، والنور والبيان للتوحيد والنبوة والمعاد . قال الزمخشري : يهدي للعدل والحق ، ونور يبين ما استبهم من الأحكام . وقال ابن عطية : الهدى الإرشاد المعتقد والشرائع ، والنور ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها . وقيل : المعنى فيها بيان أمر الرسول وما جاءوا يستفتون فيه .
( وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ( ظاهر قوله : النبيون ، الجمع . قالوا : وهم من لدن موسى إلى عيسى . وقال عكرمة : محمد ومن قبله من الأنبياء . وقيل : النبيون الذين هم على دين إبراهيم . وقال الحسن والسدي : هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وذلك حين حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كقوله : ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ وَالَّذِينَ أَسْلَمُواْ ( وصف مدح الأنبياء كالصفات التي تجري على الله تعالى ، وأريد بإجرائها التعريض باليهود والنصارى ، حيث قالت اليهود : إن الأنبياء كانوا يهوداً ، والنصارى قالت : كانوا نصارى ، فبين أنهم كانوا مسلمين ، كما كان إبراهيم عليه السلام . ولذلك جاء : ( هو سماكم المسلمين من قبل ( ونبه بهذا الوصف أنّ اليهود والنصارى بعداء من هذا الوصف الذي هو الإسلام ، وأنه كان دين الأنبياء كلهم قديماً وحديثاً . والظاهر أنّ الذين هادوا متعلق بقوله : يحكم بها النبيون . وقيل : بأنزلنا . وقيل : التقدير هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون . وفي قوله : للذين هادوا ، تنبيه على أنهم ليسوا مسلمين ، بل هم بعداء من ذلك . واللام في للذين هادوا إذا علقن بيحكم للاختصاص ، فيشمل من يحكم له ومن يحكم عليه . وقيل : ثم محذوف أي : للذين هادوا وعليهم . وقيل : اللام بمعنى على ، أي على الذين هادوا .
( ( ونبه بهذا الوصف أنّ اليهود والنصارى بعداء من هذا الوصف الذي هو الإسلام ، وأنه كان دين الأنبياء كلهم قديماً وحديثاً . والظاهر أنّ الذين هادوا متعلق بقوله : يحكم بها النبيون . وقيل : بأنزلنا . وقيل : التقدير هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون . وفي قوله : للذين هادوا ، تنبيه على أنهم ليسوا مسلمين ، بل هم بعداء من ذلك . واللام في للذين هادوا إذا علقن بيحكم للاختصاص ، فيشمل من يحكم له ومن يحكم عليه . وقيل : ثم محذوف أي : للذين هادوا وعليهم . وقيل : اللام بمعنى على ، أي على الذين هادوا .
( وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ ( هما بمعنى واحد ، وهم العلماء . قاله الأكثرون ومنهم : ابن قتيبة والزجاج . وقال مجاهد : الربانيون الفقهاء العلماء ، وهم فوق الأحبار . وقال السدي : الربانيون العلماء ، والأحبار الفقهاء . وقال ابن زيد : الربانيون الولاة ، والأحبار العلماء . وقيل : الربانيون علماء النصارى ، والأحبار علما اليهود ، وقد تقدم شرح الرباني . وقال الزمخشري : والربانيون والأحبار الزهاد ، والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا ، دين اليهود . وقال السدي : المراد هنا بالربانيين والأحبار الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهما ربانياً ، والآخر حبراً ، وكانا قد أعطيا النبي عهداً أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به ، فسألهما عن أمر الرجم فأخبراه به على وجهه ، فنزلت الآية مشيرة إليهما . قال ابن عطية : وفي هذا نظر . والرواية الصحيحة أن ابنا صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم ، وفضحهم فيه عبد الله بن سلام ، وإنما اللفظ في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان ، وأما في مدة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فلو وجد لأسلم ، فلم يسم حبراً ولا ربانياً انتهى .
( بِمَا

" صفحة رقم 504 "
اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ ( الباء في بما للسبب ، وتتعلق بقوله : يحكم . واستفعل هنا للطلب ، والمعنى : بسبب ما استحفظوا . والضمير في استحفظوا عائد على النبيين والربانيين والأحبار أي : بسبب ما طلب الله منهم حفظهم لكتاب الله وهو التوراة ، وكلفهم حفظها ، وأخذ عهده عليهم في العمل بها والقول بها ، وقد أخذ الله على العلماء حفظ الكتاب من وجهين : أحدهما : حفظه في صدورهم ودرسه بألسنتهم . والثاني : حفظه بالعمل بأحكامه واتباع شرائعه . وهؤلاء ضيعوا ما استحفظوا حتى تبدلت التوراة . وفي بناء الفعل للمفعول وكون الفعل للطلب ما يدل على أنه تعالى لم يتكفل بحفظ التوراة ، بل طلب منهم حفظها وكلفهم بذلك ، فغيروا وبدلوا وخالفوا أحكام الله بخلاف كتابنا ، فإنّ الله تعالى قد تكفل بحفظه ، فلا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير . قال تعالى : ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( وقيل : الضمير في استحفظوا عائد على الربانيين والأحبار فقط . والذين استحفظهم التوراة هم الأنبياء .
( وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ( الظاهر أنّ الضمير عائد على كتاب الله أي : كانوا عليه رقباء لئلا يبدل . والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى ، وكان بينهما ألف نبي للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها ، كما فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم ، وإبائهم عليهم ما اشتهوه من الجلد . وقيل : الهاء تعود على الحكم أي : وكانوا شهداء على الحكم . وقيل : عائد على الرسول أي : وكانوا شهداء على أنه نبي مرسل .
( فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِئَايَاتِى ثَمَناً قَلِيلاً ( هذا نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم ، وإذهابهم فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل بخشية سلطان ظالم ، أو خيفة أذية أحد من الغرماء والأصدقاء . ولا تستعطوا بآيات الله ثمناً قليلاً وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة فهلكوا . وهذا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين . وروى أبو صالح عن ابن عباس أن معناه : لا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والعمل بالرجم ، واخشون في كتمان ذلك . ولما كان الإقدام على تغيير أحكام الله سببه شيئآن : الخوف ، والرغبة ، وكان الخوف أقوى تأثيراً من الرغبة ، قدم النهي عن الخوف على النهي عن الرغبة والطمع . والظاهر أنّ هذا الخطاب لليهود على سبيل الحكاية ، والقول لعلماء بني إسرائيل . وقال مقاتل : الخطاب ليهود المدينة قيل لهم : لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم ، واخشوني في كتمانه انتهى . وهذا وإن كان خطاباً لعلماء بني إسرائيل ، فإنه يتناول علماء هذه الأمة . وقال ابن جريج : هو خطاب لهذه الأمة أي لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس ، فلم يقولوا الحق .
( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( ظاهر هذا العموم ، فيشمل هذه الأمة وغيرهم ممن كان قبلهم ، وإن كان الظاهر أنه في سياق خطاب اليهود ، وإلى أنها عامة في اليهود غيرهم . ذهب ابن مسعود ، وابراهيم ، وعطاء ، وجماعة ولكنْ كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق يعني : إنّ كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر ، وكذلك ظلمه وفسقه لا يخرجه ذلك عن الملة قاله : ابن عباس وطاووس . وقال أبو مجلز : هي مخصوصة باليهود والنصارى وأهل الشرك وفيهم نزلت . وبه قال : أبو صالح قال : ليس في الإسلام منها شيء . وروي في هذا حديث عن البراء عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) أَنَّهَا الثَّلَاثَةِ فِى الْكَافِرِينَ ( قال عكرمة ، والضحاك : هي في أهل الكتاب ، وقاله : عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وذكر أبو عبيدة هذه الأقوال فقال : إنّ بشراً من الناس يتأوّلون الآيات على ما لم تنزل

" صفحة رقم 505 "
عليه ، وما أنزلت هذه الآيات إلا في حيين من يهود قريظة والنضير ، وذكر حكاية القتل بينهم . وقال الحسن : نزلت في اليهود وهي علينا واجبة . وقيل لحذيفة : أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل ؟ فقال : نعم ، الإخوة لكم بنو إسرائيل أن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، لتسلكن طريقهم قدّ الشرك ، وعن ابن عباس ، واختاره ابن جرير : إنّ الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب ، وعنه نعم القوم أنتم ما كان من حلو فلكم ، وما كان من مرّ فهو لأهل الكتاب . من جحد حكم الله كفر ، ومن لم يحكم به وهو مقر به ظالم فاسق . وعن الشعبي : الكافرون في أهل الإسلام ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى . وكأنه خصص كل عام منها بما تلاه ، إذ قبل الأولى : ) فَانٍ جَاءوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ( و ) وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم ( و ) كَيْفَ يُحَكّمُونَكَ ( و ) يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ( وقبل الثانية : ) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا ( وقبل الثالثة : ) وَقَفَّيْنَا عَلَىءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ( الآية . وقال الزمخشري : ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهيناً به ، فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ، وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهزاء والاستهانة وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها انتهى . وقال السدّي : من خالف حكم الله وتركه عامداً وتجاوزه وهو يعلم ، فهو من الكافرين حقاً ، ويحمل هذا على الجحود ، فهو الكفر ضد الإيمان كما قال : ابن عباس . واحتجت الخوارج بهذه الآية على أنّ كل من عصى الله تعالى فهو كافر ، وقالوا : هي نص في كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافراً . وأجيبوا : بأنها نزلت في اليهود ، فتكون مختصة بهم . وضعف بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ومنهم من قال : تقديره ومن لم يحكم بما أنزل الله من هؤلاء الذين سبق ذكرهم قبل ، وهذا ضعيف ، لأنّ من شرط وهي عام ، وزيادة ما قدر زيادة في النقص ، وهو غير جائز . وقيل : المراد كفر النعمة ، وضعف بأنّ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدّين . وقال ابن الأنباري : فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار ، وضعف بأنه عدول عن الظاهر . وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : ما أنزل صيغة عموم ، فالمعنى : من أتى بضد حكم الله في كل ما أنزل الله ، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل وهو العمل ، أما في الإعتقاد والإقرار فهو موافق . وضعف بأنه لو كان كذلك لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفاتهم حكم الله في الرجم . وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم ، فدل على سقوطه هذا . وقال عكرمة : إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف أنه حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله ، إلا أنه أتى بما يضاد ، فهو حاكم بما أنزل الله ، لكنه تارك له ، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية .
( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالاْنْفَ بِالاْنْفِ وَالاْذُنَ بِالاْذُنِ وَالسّنَّ بِالسِنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ (
المائدة : ( 45 ) وكتبنا عليهم فيها . . . . .
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى بين في التوراة أن حكم الزاني المحصن الرجم ، وغيره اليهود ، وبين هنا أنّ في التوراة : أن النفس بالنفس وغيره اليهود أيضاً ، ففضلوا بني النضير على بني قريظة ، وخصوا إيجاب القود على بني قريظة دون بني النضير . ومعنى وكتبنا : فرضنا . وقيل : قلنا والكتابة بمعنى القول ويجوز أن يراد الكتابة حقيقة ، وهي الكتابة في الألواح ، لأن التوراة مكتوبة في الألواح ، والضمير في فيها عائد على التوراة ، وفي : عليهم ، على الذين هادوا . وقرأ نافع ، وحمزة ، وعاصم : بنصب ، والعين وما بعدها من المعاطيف على التشريك في عمل أنّ النصب ، وخبر أنّ هو المجرور ، وخبر والجروح قصاص . وقدَّر أبو عليّ العامل في المجرور مأخوذ بالنفس إلى آخر المجرورات ، وقدره الزمخشري أولاً : مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا

" صفحة رقم 506 "
قتلها بغير حق ، وكذلك العين مفقوأة بالعين ، والأنف مجدوع بالأنف ، والأذن مأخوذة مقطوعة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن . وينبغي أن يحمل قول الزمخشري : مقتولة ومفقوأة ومجدوع مقطوعة على أنه تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ، لأن المجرور إذا وقع خبراً لا بد أن يكون العامل فيه كوناً مطلقاً ، لا كوناً مقيداً . والباء هنا باء المقابلة والمعاوضة ، فقدر ما يقرب من الكون المطلق وهو مأخوذ . فإذا قلت : بعت الشاء شاة بدرهم ، فالمعنى مأخوذ بدرهم ، وكذلك الحر بالحر ، والعبد بالعبد . التقدير : الحر مأخوذ بالحر ، والعبد مأخوذ بالعبد . وكذلك هذا الثوب بهذا الدرهم معناه مأخوذ بهذا الدرهم . وقال الحوفي : بالنفس يتعلق بفعل محذوف تقديره : يجب ، أو يستقر . وكذا العين بالعين وما بعدها مقدر الكون المطلق ، والمعنى : يستقر قتلها بقتل النفس . وقرأ الكسائي : برفع والعين وما بعدها . وأجاز أبو عليّ في توجيه الرفع وجوهاً . الأول : أنّ الواو عاطفة جملة على جملة ، كما تعطف مفرداً على مفرد ، فيكون والعين بالعين جملة اسمية معطوفة على جملة فعلية وهي : وكتبنا ، فلا تكون تلك الجمل مندرجة تحت كتبنا من حيث اللفظ ، ولا من حيث التشريك في معنى الكتب ، بل ذلك استئناف إيجاب وابتداء تشريع . الثاني : أنّ الواو عاطفة جملة على المعنى في قوله : إن النفس بالنفس ، أي : قل لهم النفس بالنفس ، وهذا العطف هو من العطف على التوهم ، إذ يوهم في قوله : إن النفس بالنفس ، إنه النفس بالنفس ، والجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ . الثالث : أن تكون الواو عاطفة مفرداً على مفرد ، وهو أن يكون : والعين معطوفاً على الضمير المستكن في الجار والمجرور ، أي بالنفس هي والعين وكذلك ما بعدها . وتكون المجرورات على هذا أحوالاً مبينة للمعنى ، لأن المرفوع على هذا فاعل ، إذ عطف على فاعل .
وهذان الوجهان الأخيران ضعيفان : لأن الأول منهما هو المعطوف على التوهم ، وهو لا ينقاس ، إنما يقال منه ما سمع . والثاني منهما فيه العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير فصل بينه وبين حرف العطف ، ولا بين حرف العطف والمعطوف بلا ، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا في الضرورة ، وفيه لزوم هذه الأحوال . والأصل في الحال أن لا تكون لازمة . وقال الزمخشري : الرفع للعطف على محل : أنّ النفس ، لأن المعنى : وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا ، وإما أنّ معنى الجملة التي هي قولك : النفس بالنفس ، مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة يقول : كتبت الحمد لله ، وقرأت سورة أنزلناها . وكذلك قال الزجاج : لو قرىء أنّ النفس لكان صحيحاً انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشري هو الوجه الثاني من توجيه أبي علي ، إلا أنه خرج عن المصطلح فيه ، وهو أن مثل هذا لا يسمى عطفاً على المحل ، لأن العطف على المحل هو العطف على الموضع ، وهذا ليس من العطف على الموضع ، لأن العطف على الموضع هو محصور وليس هذا منه ، وإنما هو عطف على التوهم . ألا ترى أنا لا نقول أن قوله : إنّ النفس بالنفس في

" صفحة رقم 507 "
موضع رفع ، لأن طالب الرفع مفقود ، بل نقول : إنّ المصدر المنسبك من أنّ واسمها وخبرها لفظه وموضعه واحد وهو النصب ، والتقدير : وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس ، إمّا لإجراء كتبنا مجرى قلنا ، فحكيت بها الجملة : وإمّا لأنهما مما يصلح أن يتسلط الكتب فيها نفسه على الجملة لأنّ الجمل مما تكتب كما تكتب المفردات ، ولا نقول : إن موضع أنّ النفس بالنفس وقع بهذا الاعتبار .
وقرأ العربيان وابن كثير : بنصب والعين ، والأنف ، والأذن ، والسن ، ورفع والجروح . وروي ذلك عن : نافع . ووجه أبو علي : رفع والجروح على الوجوه الثلاثة التي ذكرها في رفع والعين وما بعدها . وروي أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قرأ أنّ النفس بتخفيف أن ، ورفع العين وما بعدها فيحتمل أن وجهين : أحدهما : أن تكون مصدرية مخففة من أنّ ، واسمها ضمير الشأن وهو محذوف ، والجملة في موضع رفع خبر أنّ فمعناها معنى المشدّدة العاملة في كونها مصدرية . والوجه الثاني : أن تكون أن تفسيرية التقدير أي : النفس بالنفس ، لأن كتبنا جملة في معنى القول . وقرأ أبيّ بنصب النفس ، والأربعة بعدها . وقرأ : وأنْ الجروح قصاص بزيادة أن الخفيفة ، ورفع الجروح . ويتعين في هذه القراءة أن تكون المخففة من الثقيلة ، ولا يجوز أن تكون التفسيرية من حيث العطف ، لأن كتبنا تكون عاملة من حيث المشدّدة غير عاملة من حيث التفسيرية ، فلا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك ، فإذا لم يكن عمل فلا تشريك . وقرأ نافع : والأذن بالأذْن بإسكان الذال معرفاً ومنكراً ومثنى حيث وقع . وقرأ الباقون : بالضم . فقيل : هما لغتان ، كالنكر والنكر . وقيل : الإسكان هو الأصل ، وإنما ضم اتباعاً . وقيل : التحريك هو الأصل ، وإنما سكن تخفيفاً .
ومعنى هذه الآية : أن الله فرض على بني إسرائيل أنّ من قتل نفساً بحد أخذ نفسه ، ثم هذه الأعضاء كذلك ، وهذا الحكم معمول به في ملتنا إجماعاً . والجمهور على أنّ قوله أنّ النفس بالنفس عموم يراد به الخصوص في المتماثلين . وقال قوم : يقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي ، وبه قال أبو حنيفة : وأجمعوا على أنّ المسلم لا يقتل بالمستأمن ولا بالحربي ، ولا يقتل والد بولده ، ولا سيد بعبده . وتقتل جماعة بواحد خلافاً لعلي ، وواحد بجماعة قصاصاً ، ولا يجب مع القود شيء من المال . وقال الشافعي : يقتل بالأول منهم وتجب دية الباقين ، قد مضى الكلام في ذلك في البقرة في قوله : ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( الآية . وقال ابن عباس : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت . وقال أيضاً : رخص الله تعالى لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ، ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم . وقال الثوري : بلغني عن ابن عباس أنه نسخ ) الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ( قوله : أن النفس بالنفس ، والظاهر في قوله : النفس بالنفس العموم ، ويخرج منه ما يخرج بالدليل ، ويبقى الباقي على عمومه . والظاهر في قوله : العين بالعين فتفقأ عين الأعور بعين من كان ذا عنين ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وروي عن عثمان وعمر في آخرين : أن عليه الدية . وقال مالك : إن شاء فقأ وإن شاء أخذ الدية كاملة . وبه قال : عبد الملك بن مروان ، وقتادة ، والزهري ، والليث ، ومالك ، وأحمد ، والنخعي . وروى نصف الدية عن : عبد الله بن المغفل ، ومسروق ، والنخعي ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والشافعي . قال ابن المنذر : وبه نقول . وتفقأ اليمنى باليسرى ، وتقلع الثنية بالضرس ، وعكسهما لعموم اللفظ ، وبه قال ابن المنذر : وبه نقول . وتفقأ اليمنى باليسرى ، وتقلع الثنية بالضرس ، وعكسهما لعموم اللفظ ، وبه قال ابن شبرمة . وقال الجمهور : هذا خاص بالمساواة ، فلا تؤخذ يمنى بيسرى مع وجودها إلا مع الرضا . ولو فقأ عيناً لا يبصر بها فعن زيد بن ثابت : فيها مائة دينار ، وعن عمر : ثلث ديتها . وقال مسروق ، والزهري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر : فيها حكومة . ولو أذهب بعض نور العين وبقي بعض ، فمذهب أبي حنيفة : فيها الارش . وعن علي : اختبار بصره ، ويعطى قدر ما نقص من مال الجاني .
وفي الأجفان كلها الدية ، وفي كل جفن ربع الدية قاله : زيد بن ثابت ، والحسن ، والشعبي ، وقتادة ، وابراهيم ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي . وقال الشعبي : في الجفن

" صفحة رقم 508 "
الأعلى ثلث الدية ، وفي الأسفل ثلثاها .
واختلف فيمن قطع أنفاً هل يجري فيها القصاص أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : إذا قطعه من أصله فلا قصاص فيه ، وإنما فيه الدية . وروي عن أبي يوسف : أن في ذلك القصاص إذا استوعب . واختلف في كسر الأنف : فمالك يرى القود في العمد منه ، والاجتهاد في الخطأ . وروي عن نافع : لا دية فيه حتى يستأصله . وروي عن علي : أنه أوجب القصاص في كسرة . وقال الشافعي : إن جبر كسره ففيه حكومة ، وما قطع من المارن بحسابه ، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والشعبي ، وبه قال الشافعي : وفي المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف الدية كاملة ، قاله : مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه . والمارن ما لان من الأنف ، والأرنبة والروثة طرف المارن . ولو أفقده الشم أو نقصه : فالجمهور على أنّ فيه حكومة عدل .
والأذن بالأذن يقتضي وجوب القصاص إذا استوعب ، فإن قطع بعضها ففيه القصاص إذا عرف قدره . وقال الشافعي : في الأذنين الدية ، وفي إحداهما نصفها . وقال مالك : في الأذنين حكومة ، وإنما الدية في السمع ، ويقاس نقصانه كما يقاس في البصر . وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها .
والسن بالسن يتقضي أنّ القلع قصاص ، وهذا لا خلاف فيه ، ولو كسر بعضها . والأسنان كلها سواء : ثناياها ، وأنيابها ، وأضراسها ، ورباعياتها ، في كل واحدة خمس من الإبل من غير فضل . وبه قال : عروة ، وطاووس ، وقتادة ، والزهري ، والثوري ، وربيعة ، والأوزاعي ، وعثمان البتي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وروي عن علي ، وابن عباس ، ومعاوية . وروى ابن المسيب عن عمر : أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض وذلك خمسون ديناراً ، كل فريضة عشر دنانير ، وفي الأضراس بعير بعير . قال ابن المسيب : فلو أصيب الفم كله في قضاء عمر نقصت الدية ، أو في قضاء معاوية زادت ، ولو كنت إنا لجعلتها في الأضراس بعيرين بعيرين . قال عمر : الأضراس عشرون ، والأسنان اثنا عشر : أربع ثنايا ، وأربع رباعيات ، وأربع أنياب . والخلاف إنما هو في الأضراس لا في الأسنان ، ففي قضاء عمر الدية ثمانون ، وفي قضاء معاوية مائة وستون . وعلى قول ابن المسيب مائة ، وهي الدية كاملة من الإبل . وقال عطاء في الثنيتين والرباعيتين والنابين : خمس خمس ، وفيما بقي بعيران بعيران ، أعلى الفم وأسفله سواء . ولو قلعت سن صبي لم يثغر فنبتت فقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي : لا شيء على القالع . إلا أن مالكاً والشافعي قالا : إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من ارشها بقدر نقصها . وقالت طائفة : فيها حكومة ، وروي ذلك عن الشعبي ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه . ولو قلعت سن كبير فأخذ ديتها ثم نبتت فقال مالك : لا يرد ما أخذ . وقال أبو حنيفة وأصحابه : يرد ، والقولان عن الشافعي . ولو قلعت سن قوداً فردها صاحبها فالتحمت فلا يجب قلعها عند أبي حنيفة ، وبه قال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح . وقال الشافعي وأحمد وإسحاق : يجبر على القلع ، به قال ابن المسيب ، ويعيد كل صلاة صلاها بها . وكذا لو قطعت أذنه فردها في حرارة الدم فالتزقت ، وروي هذا القول عن عطاء أبو بكر بن العربي قال : وهو غلط . ولو قلع سناً زائدة فقال الجمهور : فيها حكومة ، فإن كسر بعضها أعطى بحساب ما نقص منها ، وبه قال : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد . قال الأدفوي : وما علمت فيه خلافاً . وقال زيد بن ثابت : في السن الزائدة ثلث السن ، ولو جنى على سن فاسودت ثم عقلها ، روي ذلك عن زيد ، وابن المسيب ، وبه قال : الزهري ، والحسن ، وابن سيرين ، وشريح ، والنخعي ، وعبد الملك بن مروان ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والثوري . وروي عن عمران : فيها ثلث ديتها ، وبه قال : أحمد وإسحاق . وقال النخعي والشافعي وأبو ثور : فيها حكومة ، فإن طرحت بعد ذلك ففيها عقلها ، وبه قال الليث وعبد العزيز بن أبي سلمة ، وإنْ اسود بعضها كان بالحساب قاله : الثوري .
والجروح قصاص أي ذات قصاص .

" صفحة رقم 509 "
ولفظ الجروح عام ، والمراد به الخصوص ، وهو ما يمكن فيه القصاص . وتعرف المماثلة ولا يخاف فيها على النقص ، فإن خيف كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها . ومدلول : والجروح قصاص ، يقتضي أن يكون الجرح بمثله ، فإن لم يكن بمثله فليس بقصاص . واختلفوا في القصاص بين الرجال والنساء ، وبين العبد والحر . وجميع ما عدا النفس هو من الجراحات التي أشار إليها بقوله : والجروح قصاص ، لكنه فصل أول الآية وأجمل آخرها ليتناول ما نص عليه وما لم ينص ، فيحصل العموم . معنى : وإن لم يحصل لفظاً . ومن جملة الجروح الشجاج فيما يمكن فيه القصاص ، فلا خلاف في وجوبها فيه ، وما فلا قصاص فيه كالمأمومة . وقال أبو عبيد : فليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الموضحة خاصة ، لأنه ليس شيء منها له حد ينتهي إليه سواها ، وأما غيرها من الشجاج ففيه ديته انتهى . وقال غيره : في الخارصة القصاص بمقدارها إذا لم يخش منها سراية ، وأقاد ابن الزبير من المأمومة ، وأنكر الناس عليه . قال عطاء : ما علمنا أحداً أقاد منها قبله . وأما الجروح في اللحم فقال : فقد ذكر بعض أهل العلم أن القصاص فيها ممكن بأن يقاس بمثل ، ويوضع بمقدار ذلك الجرح .
( فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ( المتصدق صاحب الحق . ومستو في القصاص الشامل للنفس والأعضاء وللجروح التي فيها القصاص ، وهو ضمير يعود على التصدق أي : فالتصدق كفارة للتصدق ، والمعنى : أنّ من تصدق بجرحه يكفر عنه ، قاله : عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، وأبو الدرداء ، وقتادة ، والحسن ، والشعبي . وذكر أبو الدرداء أنه سمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقول : ( من من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة ) وذكر مكي حديثاً من طريق الشعبي : ( أنه يحط عنه من ذنوبه ما عفى عنه من الدية ) وعن عبد الله بن عمر : يهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق . وقيل : الضمير في له عائد على الجاني وإنْ لم يتقدّم له ذكر ، لكنه يفهم من سياق الكلام ، ويدل عليه المعنى . والمعنى : فذلك العفو والتصدق كفارة للجاني يسقط عنه ما لزمه من القصاص . وكما أن القصاص كفارة كذلك العفو كفارة ، وأجر العافي على الله تعالى قاله : ابن عباس ، والسبيعي ، ومجاهد ، وابراهيم ، والشعبي ، وزيد بن أسلم ، ومقاتل . وقيل : المتصدق هو الجاني ، والضمير في له يعود عليه . والمعنى : إذا جنى جان فجهل وخفى أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن من نفسه ، فذلك الفعل كفارة لذنبه . وقال مجاهد : إذا أصاب رجل رجلاً ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب . وأصار عروة عند الركن إنساناً وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة : أنا أصبتك ، وأنا عروة بن الزبير ، فإن كان يلحقك بها بأس فأنابها . وعلى هذا القول يحتمل أن يكون تصدق تفعل من الصدقة ، ويحتمل أن يكون من الصدق .
وقرأ أبي : فهو كفارة له يعني : فالتصدق كفارته ، أي الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها ، وهو تعظيم لما فعل لقوله : ) فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ( وترغيب في العفو . وتأول قوم الآية على معنى : والجروح قصاص ، فمن أعطى دية الجرح وتصدق به فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت . وفي مصحف أبي : ومن يتصدق به فإنه كفارة له .
( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ناسب فيما تقدم ذكر الكافرين ، لأنه جاء عقيب قوله : ) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ( الآية ففي ذلك إشارة إلى أنه لا يحكم بجميعها ، بل يخالف رأساً . ولذلك جاء : ) وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً ( وهذا كفر ، فناسب ذكر الكافرين . وهنا جاء عقيب أشياء مخصوصة من أمر القتل والجروح ، فناسب ذكر الظلم المنافي للقصاص وعدم التسوية ، وإشارة إلى ما كانوا قرروه من عدم التساوي بين بني النضير وبني قريظة .
المائدة : ( 46 ) وقفينا على آثارهم . . . . .
( وَقَفَّيْنَا عَلَىءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَم

" صفحة رقم 510 "
مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ ( مناسبة هذه الآية قبلها أنه لما ذكر تعالى أنّ التوراة يحكم بها النبيون ، ذكر أنه قفاهم بعيسى تنبيهاً على أنه من جملة الأنبياء ، وتنويهاً باسمه ، وتنزيهاً له عما يدعيه اليهود فيه ، وأنه من جملة مصدقي التوراة .
ومعنى : قفينا ، أتينا به ، يقفو آثارهم أي يتبعها . والضمير في آثارهم يعود على التبيين من قوله : ) يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ( وقيل : على الذين كتبت عليهم هذه الأحكام . وعلى آثارهم ، متعلق بقفينا ، وبعيسى متعلق به أيضاً . وهذا على سبيل التضمين أي : ثم جئنا على آثارهم بعيسى ابن مريم قافياً لهم ، وليس التضعيف في قفينا للتعدية ، إذ لو كان للتعدية ما جاء مع الباء المعدية ، ولا تعدى بعلى . وذلك أن قفا يتعدى لواحد قال تعالى : ) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( وتقول : قفا فلان الأثر إذا اتبعه ، فلو كان التضعيف للتعدي لتعدى إلى اثنين منصوبين ، وكان يكون التركيب : ثم قفينا على آثارهم عيسى ابن مريم ، وكان يكون عيسى هو المفعول الأول ، وآثارهم المفعول الثاني ، لكنه ضمن معنى جاء وعدى بالياء ، وتعدى إلى آثارهم بعلى . وقال الزمخشري : قفيته مثل عقبته إذا اتبعته ، ثم يقال : قفيته بفلان وعقبته به ، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء .
( فإن قلت ) : فأين المفعول الأول في الآية ؟ ( قلت ) : هو محذوف ، والظرف الذي هو على آثارهم كالسادّ مسده ، لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه انتهى . وكلامه يحتاج إلى تأويل ، وذلك أنه جعل قفيته المضعف بمعنى قفوته ، فيكون فعل بمعنى فعل نحو : قدرالله ، وقدر الله ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل ، ثم عداه بالباء ، وتعدية المتعدي لمفعول بالباء لثان قلّ أن يوجد ، حتى زعم بعضهم أنه لا يوجد . ولا يجوز فلا يقال : في طعم زيد اللحم ، أطعمت زيداً باللحم ، والصحيح أنه جاء على قلة تقول : دفع زيد عمراً ، ثم تعديه بالباء فتقول : دفعت زيداً بعمر . وأي : جعلت زيداً يدفع عمراً ، وكذلك صك الحجر الحجر . ثم تقول : صككت الحجر بالحجر أي جعلته يصكه . وأما قوله : المفعول الأول محذوف الظرف كالساد مسده فلا يتجه ، لأنّ المفعول هو مفعول به صريح ، ولا يسد الظرف مسده ، وكلامه مفهم التضمين وإن لم يصرح به . ألا ترى إلى قوله : لأنه إذا قفى به أثره فقد قفى به إياه ؟ وقول الزمخشري : فقد قفى به إياه فصل الضمير ، وحقه أن يكون متصلاً ، وليس من مواضع فصل لو قلت : زيد ضربت بسوط إيتاه لم يجز إلا في ضرورة شعر ، فإصلاحه زيد ضربته بسوط ، وانتصب مصدقاً على الحال من عيسى . ومعنى : لما بين يديه ، لما تقدمه من التوراة لأنها جاءت قبله ، كما أن الرسول بين يدي الساعة . وتقدم الكلام في هذا . وتصديقه إياها هو بكونه مقراً أنها كتاب منزل من الله حقاً واجب العمل به قبل ورود النسخ ، إذ شريعته مغايرة لبعض ما فيها .
( وَقَفَّيْنَا عَلَىءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ ( هذه الجملة معطوفة على قوله : وقفينا . وفيه تعظيم عيسى عليه السلام بأن الله آتاه كتاباً إلهيّاً . وتقدمت قراءة الحسن الإنجيل بفتح الهمزة ، وما ذكروه في اشتقاقه إن كان عربياً .
وقوله : فيه هدى ونور ، في موضع الحال ، وارتفاع هدى على الفاعلية بالجار والمجرور ، إذ قد اعتمد بأن . وقع حالاً لذي حال أي : كائناً فيه هدى . ولذلك عطف عليه ) وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ( والضمير في يديه عائد على الإنجيل ، والمعنى : أن عيسى وكتابه الذي أنزل عليه هما مصدقان لما تقدمهما من التوراة ، فتظافر على تصديقه الكتاب الإلهي المنزل ، والنبي المرسل المنزل عليه ذلك الكتاب . ومعنى كونه فيه هدى أنه يشتمل على دلائل التوحيد ، وتنزيه الله عن الولد والصاحبة والمثل والضد ، وعلى الإرشاد والدعاء إلى الله تعالى ، وإلى إحياء أحكام التوراة ، والنور هو ما فيه مما يستضاء به إذ فيه بيان أحكام الشريعة وتفاصيلها . قال ابن عطية : ومصدقاً حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى ، فإنها جملة في موضع الحال انتهى . وإنما قال : إن مصدقاً ، حال مؤكدة من حيث المعنى ، لأنه يلزم من كون الإنجيل كتاباً إلا هيا أن

" صفحة رقم 511 "
يكون مصدقاً للكتب الإلهية ، لكن قوله : معطوفة على الجملة التي هي فيه هدى ، فإنها جملة في موضع الحال قول مرجوح ، لأنّا قد بينا أنّ قوله : فيه هدى ونور من قبيل المفرد لا من قبيل الجملة ، إذ قدرناه كائناً فيه هدى ونور ، ومتى دار الأمر بين أن يكون الحال مفرداً أو جملة ، كان تقدير المفرد أجود على تقدير أنه جملة يكون ذلك من القليل ، لأنها جملة اسمية ، ولم تأت بالواو ، وإن كان يغني عن الرابط الذي هو الضمير ، لكن الأسْن والأكثر أن يأتي بالواو ، حتى أنّ الفراء زعم أن عدم الواو شاذ ، وإن كان ثم ضمير ، وتبعه على ذلك الزمخشر . قال علي بن أبي طالب : ومصدقاً معطوف على مصدقاً الأول انتهى . ويكون إذ ذاك حالاً من عيسى ، كرره على سبيل التوكيد ، وهذا فيه بعد من جهة التركيب واتساق المعانى ، وتكلفه أن يكون وآتيناه الإنجيل جملة حالية معطوفة على مصدّقاً .
( وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ ( قرأ الضحاك : وهدى وموعظة بالرفع ، وهو هدى وموعظة . وقرأ الجمهور : بالنصب حالاً معطوفة على قوله : ومصدقاً ، جعله أولاً فيه هدى ونور ، وجعله ثانياً هدى وموعظة . فهو في نفسه هدى ، وهو مشتمل على الهدى ، وجعله هدى مبالغة فيه إذ كان كتاب الإنجيل مبشراً برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والدلالة منه على نبوته ظاهرة . ولما كانت أشد وجوه المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى ذلك ، أعاد الله ذكر الهدى تقريراً وبياناً لنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ووصفه بالموعظة لاشتماله على نصائح وزواجر بليغة ، وخصصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها ، كما قال تعالى : ) هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( فهم المقصودون في علم الله تعالى ، وإن كان الجميع يدعي ويوعظ ، ولكنه على غير المتقين عمى وحسرة ، وأجاز الزمخشري أن ينتصب هدى وموعظة على أنهما مفعول لهما لقوله : وليحكم . قال : كأنه قيل : وللهدي والموعظة آتيناه الإنجيل ، وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام . وينبغي أن يكون الهدي والموعظة مسندين في المعنى إلى الله ، لا إلى الإنجيل ، ليتحد المفعول من أجله مع العامل في الفاعل ، ولذلك جاء منصوباً . ولما كان : وليحكم ، فاعله غير الله ، أتى معدي إليه بلام العلة . ولاختلاف الزمان أيضاً ، لأن الإيتاء قارن الهداية والموعظة في الزمان ، والحكم خالف فيه لاستقباله ومضيه في الإيتاء ، فعدى أيضاً لذلك باللام ، وهذا الذي أجازه الزمخشري خلاف الظاهر . قال الزمخشري : فإن نظمت هدى وموعظة في سلك مصدّقاً فما تصنع بقوله : وليحكم ؟ ( قلت ) : أصنع به كما صنعت بهدى وموعظة ، حين جعلتهما مفعولاً لهما ، فأقدر : ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه انتهى . وهو جواب واضح .
المائدة : ( 47 ) وليحكم أهل الإنجيل . . . . .
( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ( أمر تعالى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية ، وقلنا لهم : احكموا ، أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن ذلك أن يكون بعد بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع ، أو بما أنزل الله فيه مخصوصاً بالدلائل الدالة على نبوّة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو قول الأصم ، أو بخصوص الزمان إلى بعثة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو عبر بالحكم بما أنزل الله فيه عن عدم تحريفه وتغييره . فالمعنى : وليقرأه أهل الإنجيل على الوجه الذي أنزل لا يغيرونه ولا يبدلونه ، وهذا بعيد . وظاهر الأمر يرد قول من قال : إن عيسى كان متعبداً بأحكام التوراة . وقال تعالى : ) لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ( ولهذا القائل أن يقول : بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة . والذي يظهر أن الأحكام في الإنجيل قليلة ، وهنما أكثره زواجر . وتلك الأحكام المخالفة لأحكام التوراة أمروا بالعمل بها ، ولهذا جاء : ) وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ ).
وقرأ الجمهور : وليحكم بلام الأمر ساكنة ، وبعض القراء يكسرها . وقرأ أبيّ : وأن ليحكم بزيادة أن قبل لام كي ، وتقدّم كلام الزمخشري فيما يتعلق به . وقال ابن عطية

" صفحة رقم 512 "
والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه انتهى . فعطف وليحكم على توهم علة ولذلك قال : ليتضمن الهدى . والزمخشري جعله معطوفاً على هدى وموعظة ، على توهم النطق باللام فيهما كأنه قال : وللهدي والموعظة وللحكم أي : جعله مقطوعاً مما قبله ، وقدر العامل مؤخراً أي : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه إياه . وقول الزمخشري أقرب إلى الصواب ، لأن الهدي الأول والنور والتصديق لم يؤت بها على سبيل العلة ، إنما جيء بقوله : فيه هدى ونور ، على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً ، وهذا معنى الحال ، والحال لا يكون علة . فقول ابن عطية : ليتضمن كيت وكيت ، وليحكم ، بعيد .
( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ناسب هنا ذكر الفسق ، لأنه خرج عن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله : وليحكم ، وهو أمر . كما قال تعالى : ) اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ ( أي : خرج عن طاعة أمره تعالى . فقد اتضح مناسبة ختم الجملة الأولى بالكافرين ، والثانية بالظالمين ، والثالثة بالفاسقين . وقال ابن عطية : وتكرير هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التوكيد ، وأصوب ما يقال فيها : أنها تعم كل مؤمن وكافر ، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه ، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها . وقال القفال : هي لموصوف واحد كما تقول : من أطاع الله فهو البر ، ومن أطاع فهو المؤمن ، ومن أطاع فهو المتقي . وقيل : الأول في الجاحد ، والثاني والثالث في المقر التارك . وقال الأصم : الأول والثاني في اليهود ، والثالث في النصارى . وعلى قول ابن عطية يعم كل كافر ومؤمن ، يكون إطلاق الكافرين والظالمين والفاسقين عليهم للاشتراك في قدر مشترك .
المائدة : ( 48 ) وأنزلنا إليك الكتاب . . . . .
( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ( لما ذكر تعالى أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور ، ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراك كلهم في أنها نزلت على موسى ، فترك ذكره للمعرفة بذلك ، ثم ذكر عيسى وأنه آتاه الإنجيل ، فذكره ليقروا أنه من جملة الأنبياء ، إذ اليهود تنكر نبوّته ، وإذا أنكرته أنكرت كتابه ، فنص تعالى عليه وعلى كتابه . ثم ذكر إنزال القرآن على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فذكر الكتاب ، ومن أنزله مقرّراً لنبوّته وكتابه ، لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه . وجاء هنا ذكرالمنزل إليه بكاف الخطاب ، لأنه أنص على المقصود . وكثيراً ما جاء ذلك بلفظ الخطاب لأنه لا يلبس البتة وبالحق : ملتبساً بالحق ومصاحباً له لا يفارقه ، لما كان متضمناً حقائق الأمور ، فكأنه نزل بها . ويحتمل أن يتعلق بأنزلنا أي : أنزلناه بأن حق ذلك ، لا أنه وجب على الله ، لكنه حق في نفسه . والألف واللام في الكتاب للعهد وهو القرآن بلا خلاف . وانتصب مصدقاً على الحال لما بين يديه ، أي : لما تقدمه من الكتاب . الألف واللام فيه للجنس ، لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة ، ويحتمل أن تكون للعهد ، لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق ، وإنما أريد نوع معلوم منه ، وهو ما أنزل السماء سوى القرآن . والفرق بينهما أنه في الأوّل يحتاج إلى تقدير الصفة ، وأنها حذفت ، والتقدير : من الكتاب الإلهي . وفي الثاني لا يحتاج إلى هذا التقدير ، لأن العهد في الاسم يتضمن الاسم به جميع الصفات التي للاسم ، فلا يحتاج إلى تقدير حذف .
ومهيمناً عليه أي أميناً عليه ، قاله ابن عباس في رواية التيمي ، وابن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، والضحاك ، والحسن . وقال ابن جريج : القرآن أمين على ما قبله من الكتب ، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدّقوا ، وإلا فكذبوا . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : شاهداً . وبه قال الحسن أيضاً وقتادة ، والسدّي ، ومقاتل ، وقال ابن زيد : مصدّقاً على ما أخبر من الكتب ، وهذا قريب من القول

" صفحة رقم 513 "
الأول . وقال الخليل : المهيمن هو الرقيب الحافظ . ومنه قوله : إن الكتاب مهيمن لنبينا
والحق يعرفه ذوو الألباب
وحكاه الزجاج ، وبه فسر الزمخشري قال : ومهيمناً رقيباً على سائر الكتب ، لأنه يشهد لها بالصحة والبيان انتهى . وقال الشاعر : مليك على عرش السماء مهيمن
لعزته تعنو الوجوه وتسجد
فسر بالحافظ ، وهذا في صفات الله . وأما في القرآن فمعناه أنه حافظ للدّين والأحكام . وقال الضحاك أيضاً : معناه قاضياً . وقال عكرمة أيضاً : معناه دالاً . وقال ابن عطية : وقد ذكر أقوالاً أنه شاهد ، وأنه مؤتمن ، وأنه مصدّق ، وأنه أمين ، وأنه رقيب ، قال : ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنى بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحامله ، فلا يدخل فيه ما ليس منه ، والقرآن جعله الله مهيمناً على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرّفون إليها ، فيصحح الحقائق ويبطل التحريف . وقرأ مجاهد وابن محيصن : ومهيمناً بفتح الميم الثانية ، جعله اسم مفعول أي مؤمن عليه ، أي : حفظ من التبديل والتغيير . والفاعل المحذوف هو الله أو الحافظ في كل بلد ، لو حذف منه حرف أو حركة أو سكون لتنبه له وأنكر ذلك . وردّ ففي قراءة اسم الفاعل الضمير في عليه عائد على الكتاب الثاني . وفي قراءة اسم المفعول عائد على الكتاب الأول ، وفي كلا الحالين هو حال من الكتاب الأول لأنه معطوف على مصدّقاً والمعطوف على الحال حال . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال : معناه محمد مؤتمن على القرآن . قال الطبري : فعلى هذا يكون مهيمناً حالاً من الكاف في إليك . وطعن في هذا القول لوجود الواو في ومهيمناً ، لأنها عطف على مصدّقاً ، ومصدّقاً حال من الكتاب لا حال من الكاف ، إذ لو كان حالاً منها لكان التركيب لما بين يديك بكاف الخطاب ، وتأويله على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد عن نظم القرآن ، وتقديره : وجعلناك يا محمد مهيمناً عليه أبعد . وأنكر ثعلب قول المبرد وابن قتيبة أنّ أصله مؤتمن .
( فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ( ظاهره أنه أمر أن يحكم بما أنزل الله ، وتقدم قول من قال : إنها ناسخة لقوله : ) أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ( وقول الجمهور : إنْ اخترت أن تحكم بينهم بما أنزل الله ، وهذا على قول من جعل الضمير في بينهم عائداً على اليهود ، ويكون على قول الجمهور أمر ندب ، وإن كان الضمير للمتحاكمين عموماً ، فالخطاب للوجوب ولا نسخ .
( وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ( أي لا توافقهم في أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع ، وغير ذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين والشرع .
( عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقّ ( الذي هو القرآن . وضمن تتبع معنى تنحرف ، أو تنصرف ، فلذلك عدي بعن أي : لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعاً أهواءهم ، أو بسبب أهوائهم . وقال أبو البقاء : عما جاءك في موضع الحال أي : عادلاً عما جاءك ، ولم يضمن تتبع معنى ما تعدى بعن ، وهذا ليس بجيد . لأنّ عن حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالاً من الجنة ، كما لا يصلح أن يكون خبراً ، وإذا كان ناقصاً فإنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق ، والكون المقيد لا يجوز حذفه .
( لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ( الظاهر أنّ المضاف إليه كل المحذوف هو : أمة أي : لكل أمّة . والخطاب في منكم للناس

" صفحة رقم 514 "
أي : أيها الناس لليهود شرعة ومنهاج ، وللنصارى كذلك ، قاله : عليّ ، وقتادة والجمهور ، ويعنون في الأحكام . وأما المعتقد فواحد لجميع العالم توحيد ، وإيمان بالرسل ، وكتبها وما تضمنته من المعاد ، والجزاء الأخروي . وقد ذكر تعالى جماعة من الأنبياء شرائعهم مختلفة ثم قال : ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( والمعنى في المعتقدات . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء ، لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم ، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال تنبيهاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أي : فاحفظ شرعك ومنهاجك لئلا تستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه انتهى . فيكون المحذوف المضاف إليه لكلّ نبي ، أي : لكل نبيّ منكم أيها الأنبياء . والشرعة والمنهاج لفظان لمعنى واحد أي : طريقاً ، وكرر للتوكيد كما قال الشاعر :
وهند أتى من دونها النأي والبعد
وقال ابن عباس والحسن وغيرهما : سبيلاً وسنة . وقال مجاهد : الشرعة والمنهاج دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فيكون المعنى لكل منكم أيها الناس جعلنا هذا الدين الخالص فاتبعوه ، والمراد بذلك إنّا أمرناكم باتباع دين محمد إذ هو ناسخ للأديان كلها . وقال المبرد : الشرعة ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستمر . وقال ابن الأنباري : الشرعة الطريق الذي ربما كان واضحاً وغير واضح ، والمنهاج لا يكون إلا واضحاً . وقيل : الشرعة الدين ، والمنهاج الدليل . وقيل : الشرعة النبي ، والمنهاج الكتاب . قال ابن عطية : والمنهاج بناء مبالغة من النهج ، ويحتمل أن يراد بالشرعة الأحكام ، وبالمنهاج المعتقد أي هو واحد في جميعكم ، وفي هذا الاحتمال بعد انتهى . قيل : وفي هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا . وقرأ النخعي وابن وثاب : شَرعة بفتح الشين ، والظاهر أنّ جعلنا بمعنى صيرنا ، ومفعولها الثاني هو لكل ، ومنكم متعلق بمحذوف تقديره : أعني منكم . قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون منكم صفة لكل ، لأنَّ ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تشديد فيه للكلام ، ويوجب أيضاً أن يفصل بين جعلتا وبين معمولها وهو شرعة انتهى . فيكون في التركيب كقولك : من كل ضربت تميمي رجلاً ، وهو لا يجوز .
( وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ( أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكموها أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في الضلال . وقيل لجعلكم أمة واحدة على الحق .
( وَلَاكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَاكُمُ ( أي : ولكن لم يشأ ذلك ليختبركم فيما آتاكم من الكتب . وقال الزمخشري : من الشرائع المختلفة ، هل تعلمون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات ، معترفين بأن الله تعالى لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة ، أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل انتهى ؟ وقال ابن جريج وغيره : ولكنه لم يشأ ، لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع ، فليس لهم إلا أن يجدوا في امتثال الأوامر .
( فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ( أي ابتدروا الأعمال الصالحة قاله : مقاتل . وهي التي عاقبتها أحسن الأشياء . وقال ابن عباس والضحاك : الخيرات الإيمان بالرسول .
( إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ( هو استئناف في معنى التعليل لأمره تعالى باستباق الخيرات ، كأنه يقول : يظهر ثمرة استباق الخيرات والمبادرة إليها في وقت الرجوع إلى الله تعالى ومجازاته .
( فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( أي فيخبركم بأعمالكم ، وهي كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب ، وهو أخبار إيقاع . قال ابن جرير : قد بين ذلك في الدنيا بالدلالة والحجج ، وغداً يبينه بالمجازاة انتهى . وبهذا التنبيه يظهر الفضل بين المحق والمبطل ، والمسبق والمقصر في العمل . ونبأ هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسها ، وإلى آخر بحرف الجر ، ولم يضمنها معنى أعلم فيعديها إلى ثلاثة .

" صفحة رقم 515 "
2 ( ) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( ) ) 2
المائدة : ( 49 ) وأن احكم بينهم . . . . .
( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ( قال ابن عباس : قال بعض اليهود لبعض منهم ابن صوريا وشاس بن قيس وكعب بن أسيد : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم ، وإنْ اتبعناك اتبعك كل اليهود ، وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ، فأبى ذلك الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فنزلت . وقال مقاتل : قال جماعة من بني النضير له : هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا بني قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل ، ونبايعك ؟ فنزلت .
قال القاضي أبو يعلى : وليس هذه الآية تكراراً لما تقدم ، وإنما نزلت في شيئين مختلفين : أحدهما : شأن الرجم ، والآخر التسوية انتهى . وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله : ) أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ( وتقدم ذكر ذلك وأجازوا في : وأن احكم ، أن يكون في موضع نصب عطفاً على الكتاب ، أي : والحكم . وفي موضع جر عطفاً على بالحق ، وفي موضع رفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر مؤخراً ، والتقدير : وحكمك بما أنزل أنزل الله أمرنا وقولنا . أو مقدماً والتقدير : ومن الواجب حكمك بما أنزل الله . وقيل : أنْ تفسيرية ، وأبعد ذلك من أجل الواو ، ولا يصح ذلك بأن يقدر قبل فعل الأمر فعلاً محذوفاً فيه معنى القول أي : وأمرناك أن احكم ، لأنه يلزم من ذلك حذف الجملة المفسرة بأن وما بعدها ، وذلك لا يحفظ من كلام العرب . وقُرىء بضم النون من : وأن احكم ، اتباعاً لحركة الكاف ، وبكسرها على أصل التقاء الساكنين . والضمير في بينهم عائد على اليهود . وقيل : على جميع المتحاكمين .
( وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ( تقدم شرح هذه الجملة .
( وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( أي يستزلوك . وحذره عن ذلك ، وإنْ كان مأيوساً من فتنتهم إياه لقطع أطماعهم ، وقال : عن بعض ، لأن الذي سألوه هو أمر جزئي ، سألوه أن يقضي لهم فيه على خصومهم فأبى منه . وموضع أن يفتنوك نصب على البدل ، ويكون مفعولاً من أجله .
( فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ( أي فإنْ تولوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره . ومعنى : أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، أن يعذبهم ببعض آثامهم . وأبهم بعضاً هنا ويعني به والله أعلم التولي عن حكم الله وإرادة خلافه ، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك ، وأراد أنهم ذوو ذنوب جمة كثيرة لا العدد ، وهذا الذنب مع عظمه وهذا الإبهام فيه تعظيم التولي ، وفرط إسرافهم في ارتكابه ، ونظيره قول لبيد :
أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أراد نفسه وقصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام ، كأنه قال : نفساً كبيرة أو نفساً أي نفس ، وهذا الوعد بالمصيبة قد أنجزه له تعالى بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر رضي الله عنه أهل خيبر وفدك وغيرهم . قال ابن عطية : وخصص إصابتهم ببعض الذنوب ، لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان : نوع يخصهم كشرب الخمر وزناهم ورشاهم ، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمالأتهم للكفار ، وأقوالهم في الدين ، فهذا النوع هو الذي توعدهم الله به في الدنيا ، وإنما يعذبون بكل الذنوب في الآخرة . وقال ابن عطية أيضاً : فإن تولوا قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر تقديره : لا تتبع واحذر ، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك ، وإن تولوا فاعلم . ويحسن أن يقدر هذا

" صفحة رقم 516 "
المحذوف المعادل لقوله : لفاسقون انتهى . ولا يحتاج إلى تقدير هذا .
( وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ( أي متمردون مبالغون في الخروج عن طاعة الله . وقال ابن عباس : المراد بالفسق هنا الكفر . وقال مقاتل : المعاصي . وقال ابن زيد : الكذب وظاهر الناس العموم ، وإنْ كان السياق في اليهود ، وجاء بلفظ العموم لينبه من سواهم . ويحتمل أن يكون الناس للعهد ، وهم اليهود الذين تقدم ذكرهم .
المائدة : ( 50 ) أفحكم الجاهلية يبغون . . . . .
( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ( هذا استفهام معناه الإنكار على اليهود ، حيث هم أهل كتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى ، ومع ذلك يعرضون عن حكم الله ويختارون عليه حكم الجاهلية ، وهو بمجرد الهوى من مراعاة الأشرف عندهم ، وترجيح الفاضل عندهم في الدنيا على المفضول ، وفي هذا أشد النعى عليهم حيث تركوا الحكم الإلهي بحكم الهوى والجهل . وقال الحسن : هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله . والحكم خكمان : حكم بعلم ، فهو حكم الله . وحكم بجهل فهو حكم الشيطان . وسئل عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فقرأ هذه الآية . وقرأ الجمهور : أفحكمَ بنصب الميم ، وهو مفعول يبغون . وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، وأبو رجاء ، والأعرج : أفحكمُ الجاهلية برفع الميم على الابتداء . والظاهر أن الخبر هو قوله : يبغون ، وحسن حذف الضمير قليلاً في هذه القراءة كون الجملة فاصلة . وقال ابن مجاهد : هذا خطأ . قال ابن جني : وليس كذلك ، وجد غيره أقوى منه وقد جاء في الشعر انتهى .
وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين . وبعضهم يجيز حذف هذا الضمير في الكلام ، وبعضهم يخصه بالشعر ، وبعضهم يفصل . وهذه المذاهب ودلائلها مذكورة في علم النحو . وقال الزمخشري : وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في ( أهذا الذي بعث الله رسولاً وعن الصفة في : الناس رجلان ، رجل أهنت ورجل أكرمت . وعن الحال في : مررت بهند تضرب زيداً انتهى . فإنْ كان جعل الإسقاط فيه مثل الإسقاط في الجواز والحسن ، فليس كما ذكر عند البصريين ، بل حذفه من الصلة بشروط الحذف فصيح ، وحذفه من الصفة قليل ، وحذفه من الخبر مخصوص بالشعر ، أو في نادر . وإن كان شبهه به من حيث مطلق الإسقاط فهو صحيح . وقال ابن عطية : وإنما تتجه القراء على أن يكون التقدير : أفحكم الجاهلية حكم تبغون ، فلا تجعل تبغون خبراً بل تجعل صفة خبر محذوف ، ونظيره : ) مِنَ الَّذِينَ يُحَرّفُونَ ( تقديره قوم يحرفون انتهى . وهو توجيه ممكن . وقرأ قتادة والأعمش : أفحكَمَ بفتح الحاء والكاف والميم ، وهو جنس لا يراد به واحد كأنه قيل : أحكام الجاهلية وهي إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان وهي رشا الكهان ، ويحكمون لهم بحسبه وبحسب الشهوات ، أرادوا بسفههم أن يكون خاتم النبيين حكماً كأولئك الحكام . وقرأ الجمهور : يبغون بالياء على نسق الغيبة المتقدّمة . وقرأ ابن عامر بالتاء على لخطاب ، وفيه مواجهتهم بالإنكار والرّدع والزجر ، وليس ذلك في الغيبة ، فهذه حكمة الالتفات والخطاب ليهود قريظة والنضير .
( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( أي لا أحد أحسن من الله حكماً . وتقدّم ) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ( فجاءت هذه الآية مشيرة لهذا المعنى والمعنى : أن حكم الله هو الغاية في الحسن وفي العدل . وهو استفهام معناه التقرير ، ويتضمن شيئاً من التكبر عليهم . واللام في : لقوم يوقنون ، للبيان فتتعلق بمحذوف أي : في هيت لك وسقيا لك أي : هذا الخطاب . وهذا الاستفهام لقوم يوقنون قاله الزمخشر . وقال ابن عطية : وحسن دخول اللام في لقوم من حيث المعنى يبين ذلك ، ويظهر لقوم

" صفحة رقم 517 "
يوقنون . وقيل : اللام بمعنى عند أي عند قوم يوقنون ، وهذا ضعيف . وقيل : تتعلق بقوله : حكماً ، أي أن أحكم الله للمؤمن على الكافر . ومتعلق يوقنون محذوف تقديره : يوقنون بالقرآن قاله ابن عباس . وقيل : يوقنون بالله تعالى قاله مقاتل . وقال الزجاج : يوقنون يثبتون عهد الله تعالى في حكمه ، وخصوا بالذكر لسرعة إذعانهم لحكم الله وأنهم هم الذين يعرفون أن لا أعدل منه ولا أحسن حكماً .
2 ( ) يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِىأَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهُؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَواةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالاٌّ حْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاٌّ رْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْا

" صفحة رقم 518 "
لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلاٌّ دْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لاّكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَىْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِىإِسْرَاءِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِىإِسْرَاءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبُّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الاٌّ يَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } )
المائدة : ( 51 ) يا أيها الذين . . . . .
الدائرة : واحدة الدوائر ، وهي صروف الدهر ، ودوله ، ونوازله . وقال الشاعر :
ويعلم أن الدائرات تدور

" صفحة رقم 519 "
اللعب معروف وهو مصدر على غير قياس ، وفعله لعب يلعب . الإطفاء : الإخماد حتى لا يبقى أثر . الإفك : بفتح الهمزة مصدر أفكه يأفكه ، أي قلبه وصرفه . ومنه : ) أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا ( يؤفك عنه من أفك . قال عروة بن أذينة : إن كنت عن أحسن المروءة مأ
فوكاً ففي آخرين قد أفكوا
وقال أبو زيد : المأفوك المأفون ، وهو الضعيف العقل . وقال أبو عبيدة : رجل مأفوك لا يصيب خيراً ، وائتفكت البلدة بأهلها انقلبت ، والمؤتفكات مدائن قوم لوط عليه السلام قلبها الله تعالى . والمؤتفكات أيضاً الرياح التي تختلف مهابّها .
( يُوقِنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( قال الزهري وغيره : سبب نزولها ولها قصة عبد الله بن أبيّ واستمساكه بحلف يهود ، وتبرؤ عبادة بن الصامت من حلفهم عند انقضاء بدر وعبادة ، في قصة فيها طول هذا ملخصها . وقال عكرمة : سببها أمر أبي لبابة بن عبد المنذر وإشارته إلى قريظة أنه الذبح حين استفهموه عن رأيه في نزولهم عن حكم سعد بن معاذ . وقال السدّي : لما نزل بالمسلمين أمر أحد فزع منهم قوم ، وقال بعضهم لبعض : نأخذ من اليهود عهداً يعاضدونا إن ألمت بنا قاصمة من قريش أو سائر العرب . وقال آخرون : بل نلحق بالنصارى فنزلت . وقيل : هي عامّة في المنافقين أظهروا الإيمان وظاهروا اليهود والنصارى .
نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرون بهم ، ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين . وقراءة أبيّ وابن عباس : أرباباً مكان أولياء ، بعضهم أولياء بعض جملة معطوفة من النهي مشعرة بعلة الولاية وهو اجتماعهم في الكفر والممالأة على المؤمنين ، والظاهر أن الضمير في بعضهم يعود على اليهود والنصارى . وقيل : المعنى على أن ثمّ محذوفاً والتقدير : بعض اليهود أولياء بعض ، وبعض النصارى أولياء بعض ، لأن اليهود ليسوا أولياء النصارى ، ولا النصارى أولياء اليهود ، ويمكن أن يقال : جمعهم في الضمير على سبيل الإجمال ، ودل ما بينهم من المعاداة على التفصيل ، وأنّ بعض اليهود لا يتولى إلا جنسه ، وبعض النصارى كذلك . قال الحوفي : هي جملة من مبتدأ وخبر في موضع النعت لأولياء ، والظاهر أنها جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب .
( وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ( قال ابن عباس : فإنه منهم في حكم الكفر ، أي ومن يتولهم في الدين . وقال غيره : ومن يتولهم في الدنيا فإنه منهم في الآخرة . وقيل : ومن يتولهم منكم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر . وهذا تشديد عظيم في الانتفاء من أهل الكفر ، وترك موالاتهم ، وأنحاء عبد الله بن أبي ومن اتصف بصفته . ولا يدخل في الموالاة لليهود والنصارى من غير مضافاة ، ومن تولاهم بأفعاله دون معتقده ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمّة ، ومن تولاهم في المعتقد فهو منهم في الكفر . وقد استدل بهذا ابن عباس وغيره على جواز أكل ذبائح نصارى العرب ، وقال : من دخل في دين قوم فهو منهم . وسئل ابن سيرين عن رجل يبيع داره لنصراني ليتخذها كنيسة : فتلا هذه الآية . وفي الحديث : ( لا تراءى ناراهما ) وقال عمر لأبي موسى في كاتبه النصراني : لا تكرموهم إذ أهانهم الله ، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم الله ، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله تعالى . وقال له أبو موسى لأقوام للبصرة إلا به ، فقال عمر : مات النصراني والسلام .
( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ظاهره العموم والمعنى على الخصوص ، أي : من سبق في علم الله أنه لا يهتدي . قال ابن عطية : أو يراد التخصيص مدة الظلم والتلبس

" صفحة رقم 520 "
بفعله ، فإن الظلم لا هدى فيه ، والظالم من حيث هو ظالم ليس بمهتد في ظلمه . وقال أبو العالية : الظالم من أبي أن يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وقال ابن إسحاق : أراد المنافقين . وقيل : الظالم هو الذي وضع الولاية في غير موضعها . وقال الزمخشري قريباً من هذا ، قال : يعني الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم الله ألطافه ، ويخذلهم مقتالهم انتهى . وهو على طريقة الاعتزال .
المائدة : ( 52 ) فترى الذين في . . . . .
( فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ( الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والذين في قلوبهم مرض عبد الله بن أبيّ ومن تبعه من المنافقين ، أو من مؤمني الخزرج متابعة جهالة وعصبية ، فهذا الصنف له حصة من مرض القلب قاله ابن عطية . ومعنى يسارعون فيهم : أي في موالاتهم ويرغبون فيها . وتقدّم الكلام في المرض في أول البقرة .
وقرأ إبراهيم بن وثاب : فيرى بالياء من تحت ، والفاعل ضمير يعود على الله ، أو الرأي . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الذين فاعل ترى ، والمعنى : أن يسارعوا ، فحذفت أن إيجازاً انتهى . وهذا ضعيف لأنّ حذف إنْ من نحو هذا لا ينقاس . وقرأ قتادة والأعمش : يسرعون بغير ألف من أسرع ، وفترى أن كانت من رؤية العين كان يسارعون حالاً ، أو من رؤية القلب ففي موضع المفعول الثاني ، يقولون : نخشى أن تصيبنا دائرة ، هذا محفوظ من قول عبد الله بن أُبيّ ، وقاله معه منافقون كثيرون . قال ابن عباس : معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا . وقيل : الدائرة من جدب وقحط . ولا يميروننا ولا يقرضوننا . وقيل : دائرة تحوج إلى يهود وإلى معونتهم .
( فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ ( هذا بشارة للرسول والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصرة . قال قتادة : عنى به القضاء في هذه النوازل والفتاح الفاضي . وقال السدّي : يعني به فتح مكة . قال ابن عطية : وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعلو كلمته فيستغني عن اليهود . وقيل : فتح بلاد المشركين . وقيل : فتح قرى اليهود ، يريدون قريظة والنضير وفدك وما يجري مجراهما . وقيل : الفتح الفرج ، قاله ابن قتيبة . وقيل في قوله تعالى : ) أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ ( هو إجلاء بني النضير وأخذ أموالهم ، لم يكن للناس فيه فعل بل طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب ، وقتل قريظة وسبي ذراريهم قاله : ابن السائب ومقاتل . وقيل : إذلالهم حتى يعطوا الجزية . وقيل : الخصب والرّخا قاله ابن قتيبة . وقال الزجاج : إظهار أمر المنافقين وتربصهم الدوائر . وقال ابن عطية : ويظهر أنّ هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو مما ترتب على سعي النبي وأصحابه ونسب جدهم وعملهم ، فوعد الله تعالى إمّا بفتح يقتضي تلك الأعمال ، وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع ، هو أيضاً فتح لا يقع للبشر فيه تسبب انتهى .
( فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ ( أي يصيرون نادمين على ما حدثتهم أنفسهم أنّ أمر النبي لا يتم ، ولا تكون الدولة لهم إذا أتى الله بالفتح أو أمر من عنده . وقيل : موالاتهم . وقرأ ابن الزبير : فتصبح الفساق

" صفحة رقم 521 "
جعل الفساق مكان الضمير . قال ابن عطية : وخص الإصباح بالذكر لأنّ الإنسان في ليله مفكر ، فعند الصباح يرى الحالة التي اقتضاها فكره انتهى . وتقدم لنا نحو من هذا الكلام ، وذكرنا أن أصبح تأتي بمعنى صار من غير اعتبار كينونة في الصباح ، واتفق الحوفي وأبو البقاء على أن قوله : فيصبحوا معطوف على قوله : ) أَن يَأْتِىَ ( وهو الظاهر ، ومجور ذلك هو الفاء ، لأن فيها معنى التسبب ، فصار نظير الذي يطير فيغضب زيد الذباب ، فلو كان العطف بغير الفاء لم يصح ، لأنه كان يكون معطوفاً على أن يأتي خبر لعسى ، وهو خبر عن الله تعالى ، والمعطوف على الخبر خبر ، فيلزم أن يكون فيه رابط إن كان مما يحتاج إلى الرابط ، ولا رابط هنا ، فلا يجوز العطف . لكنّ الفاء انفردت من بين سائر حروف العطف بتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صلة كما مثله ، أو صفة نحو مررت برجل يبكي فيضحك عمرو ، أو خبر نحو زيد يقوم فيقعد بشر . وجوز أن لا يكون معطوفاً على أن يأتي ، ولكنه منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب التمني ، إذ عسى تمنّ وترج في حق البشر ، وهذا فيه نظر .
المائدة : ( 53 ) ويقول الذين آمنوا . . . . .
( وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامَنُواْ أَهُاؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ هُمْ لَمَعَكُمْ ( قال المفسرون : لما أجلى بني النضير تأسف المنافقون على فراقهم ، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إذا رآه جادًّا في معاداة اليهود : هذا جزاؤهم منك طال ، والله ما أشبعوا بطنك ، فلما قتلت قريظة لم يطق أحد من المنافقين ستر ما في نفسه ، فجعلوا يقولون : أربعمائة حصدوا في ليلة ؟ فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين قالوا : أهؤلاء أي المنافقون الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم ؟ والمعنى : يقول بعضهم لبعض تعجباً من حالهم إذ أغلظوا بالإيمان للمؤمنين أنهم معكم ، وأنهم معاضدوكم على اليهود ، فلما حلّ باليهود ما حل ظهر من المنافقين ما كانوا يسرّونه من موالاة اليهود والتمالؤ على المؤمنين . ويحتمل أن يقول المؤمنون ذلك لليهود ، ويكون الخطاب في قوله : إنهم لمعكم لليهود ، لأن المنافقين حلفوا لليهود بالمعاضدة والنصرة كما قال تعالى حكاية عنهم : ) وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ( فقالوا ذلك لليهود يجسرونهم على موالاة المنافقين ، وأنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئاً ، ويغتبطون بما منّ الله عليهم من إخلاص الإيمان وموالاة اليهود .
وقرأ الابنان ونافع : بغير واو ، كأنه جواب قائل ما يقول المؤمنون حينئذ . فقيل : يقول الذين آمنوا ، وكذا هي في مصاحف أهل مكة والمدينة . وقرأ الباقون : بالواو ، ونصب اللام أبو عمرو ، ورفعها الكوفيون . وروى علي بن نصر عن أبي عمر : والرفع والنصب ، وقالوا : وهي في مصاحف الكوفة وأهل المشرق . والواو عاطفة جملة على جملة ، هذا إذا رفع اللام ، ومع حذف الواو الاتصال موجود في الجملة الثانية ، ذكر من الجملة السابقة إذ الذين يسارعون وقالوا : نخشى ، ويصبحوا هم الذين قيل فيهم : أهؤلاء الذين أقسموا ، وتارة يكتفي في الاتصال بالضمير ، وتارة يؤكد بالعطف بالواو . والظاهر أنّ هذا القول هو صادر من المؤمنين عند رؤية الفتح كما قدمنا .
قيل : ويحتمل أن يكون في وقت الذين في قلوبهم مرض يقولون : ) نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ( وعندما ظهر سؤالهم في أمر بني قينقاع وسؤال عبد الله بن أبي فيهم ، ونزل الرسول إياهم له ، وإظهار عبد الله أن خشية الدوائر هي خوفه على المدينة ومن بها من المؤمنين ، وقد علم كل مؤمن أنه كاذب في ذلك ، فكان فعله ذلك موطناً أن يقول المؤمنون ذلك . وأما قراءة ويقول بالنصب ، فوجهت على أنّ هذا القول لم يكن إلا عند الفتح ، وأنه محمول على المعنى ، فهو معطوف على أن يأتي ، إذ معنى : فعسى الله أن يأتي ، معنى فعسى أن يأتي الله ، وهذا الذي يسميه النحويون العطف على التوهم ، يكون الكلام في قالب فيقدره في قالب آخر ، إذ لا يصح أن يعطف ضمير اسم الله ولا شيء منه . وأجاز ذلك أبو البقاء على تقدير ضمير محذوف أي : ويقول الذين آمنوا به ، أي بالله . فهذا الضمير يصح به الربط ، أو هو معطوف على أن يأتي على أن يكون أن يأتي بدلاً من اسم الله لا خبراً ، فتكون عسى إذ ذاك تامة لا ناقصة ، كأنك قلت : عسى أن يأتي ، ويقول : أو معطوف على فيصبحوا ، على أن يكون قوله : فيصبحوا منصوباً بإضمار أن جواباً لعسى ، إذ فيها معنى التمني . وقد ذكرنا أنّ في هذا الوجه نظر ، و هوهل تجري عسى في الترجي مجرى ليت في التمني ؟ أم لا تجري ؟ وذكر هذا الوجه ابن عطية عن أبي يعلى ، وتبعه

" صفحة رقم 522 "
ابن الحاجب ، ولم يذكر ابن الحاجب غيره . وعسى من الله واجبة فلا ترجى فيها ، وكلا الوجهين قبله تخريج أبي عليّ . وخرجه النحاس على أن يكون معطوفاً على قوله : ) بِالْفَتْحِ ( بأن يفتح ، ويقول : ولا يصحّ هذا لأنه قد فصل بينهما بقوله : أو أمر من عنده ، وحقه أن يكون لغة لأن المصدر ينحل لأن والفعل ، فالمعطوف عليه من تمامه ، فلا يفصل بينهما . وهذا إن سلم أنّ الفتح مصدر ، فيحل لأن والفعل . والظاهر أنه لا يراد به ذلك ، بل هو كقولك : يعجبني من زيد ذكاؤه وفهمه ، لا يراد به انحلاله ، لأن والفعل وعلى تقدير ذلك فلا يصح أيضاً ، لأن المعنى ليس على : فعسى الله أن يأتي ، بأن يقول الذين آمنوا كذا . ولأنه يلزم من ذلك الفصل بين المتعاطفين بقوله : ) فَيُصْبِحُواْ ( وهو أجنبي من المتعاطفين ، لأن ظاهر فيصبحوا أن يكون معطوفاً على أن يأتي ، ونظيره قولك : هند الفاسقة أراد زيد إذايتها بضرب أو حبس وإصباحها ذليلة ، وقول أصحابه : أهذه الفاسقة التي زعمت أنها عفيفة ؟ فيكون وقول معطوفاً على بضرب . وقال ابن عطية : عندي في منع جواز عسى الله أن يقول المؤمنون نظر ، إذ الذين نصرهم يقولون : ننصره بإظهار دينه ، فينبغي أن يجوز ذلك انتهى . وهذا الذي قاله راجع إلى أن يصير سبباً لأنه صار في الجملة ضمير عائد على الله ، وهو تقديره بنصره وإظهار دينه ، وإذا كان كذلك فلا خلاف في الجواز . وإنما منعوا حيث لا يكون رابط وانتصاب جهد على أنه مصدر مؤكد ، والمعنى : أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الإيمان أنهم معكم ؟ ثم ظهر الآن من موالاتهم اليهود ما أكذبهم في أيمانهم . ويجوز أن ينتصب على الحال ، كما جوّزوا في فعلته جهدك وقوله : إنهم لمعكم ، حكاية لمعنى القسم لا للفظهم ، إذ لو كان لفظهم لكان إنا لمعكم .
( حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ( ظاهره أنه من جملة ما يقوله المؤمنون اعتماداً في الأخبار على ما حصل في اعتقادهم أي : بطلت أعمالهم إن كانوا يتكلفونها في رأي العين . قال الزمخشري : وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم ويحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى ، ويحتمل أن لا يكون خبراً بل دعاء إما من الله تعالى ، وإما من المؤمنين . وحبط العمل هنا هو على معنى التشبيه ، وإلا فلا عمل له في الحقيقة فيحبط وجوز الحوفي أن يكون حبطت أعمالهم خبراً ثانياً عن هؤلاء ، والخبر الأول هو قوله الذين أقسموا ، وأن يكون الذين ، صفة لهؤلاء ، ويكون حبطت هو الخبر . وقد تقدم ذكر قراءة أبي واقد والجراح حبطت بفتح الباء وأنها لغة .
المائدة : ( 54 ) يا أيها الذين . . . . .
( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( وابن كعب والضحاك الحسن وقتادة وابن جريج وغيرهم : نزلت خطاباً للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة . ومن يرتد جملة شرطية مستقلة ، وهي إخبار عن الغيب .
وتعرض المفسرون هنا لمن ارتد في قصة طويلة نختصرها ، فنقول : ارتد في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) مذ حج ورئيسهم عبهلة بن كعب ذو الخمار ، وهو الأسود العنسي قتله فيروز على فراشه ، وأخبر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بقتله ، وسمى قاتله ليلة قتل . ومات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الغد ، وأتى خبر قتله في آخر ربيع الأول وبنو حنيفة رئيسهم مسيلمة قتله وحشي ، وبنو أسد رئيسهم طليحة بن خويلد هزمه خالد بن الوليد ، وأفلت ثم أسلم وحسن إسلامه . هذه ثلاث فرق ارتدت في حياة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتنبأ رؤساؤهم . وارتد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه سبع فرق . فزارة قوم عيينة بن حصن ، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري ، وسليم قوم الفجاه بن عبد يا ليل ، ويربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر وقد تنبأت وتزوجها مسيلمة وقال : الشاعر : أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها
وأصبحت أنبياء الله ذكرانا
وقال أبو العلاء المعري :

" صفحة رقم 523 "
أمت سجاح ووالاها مسيلمة
كذابة في بني الدنيا وكذاب
وكندة قوم الأشعث ، وبكر بن وائل بالبحرين قوم الحظم بن يزيد . وكفى الله أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله عنه . وفرقة في عهد عمر : غسان قوم جبلة بن الأيهم نصرته اللطمة وسيرته إلى بلد الروم بعد إسلامه .
وفي القوم الذين يأتي الله بهم : أبو بكر وأصحابه ، أو أبو بكر وعمر وأصحابهما ، أو قوم أبي موسى ، أو أهل اليمن ألفان من البحر وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أخلاط الناس جاهدوا أيام القادسية أيام عمر . أو الأنصار ، أو هم المهاجرون ، أو أحياء من اليمن من كندة وبجيلة وأشجع لم يكونوا وقت النزول قاتل بهم أبو بكر في الردة ، أو القربى ، أو علي بن أبي طالب قاتل الخوارج أقوال تسعة .
وفي المستدرك لأبي عبد الله الحاكم بإسناد : أنه لما نزلت أشار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى أبي موسى الأشعري فقال قوم : هذا . وهذا أصح الأقوال ، وكان لهم بلاء في الإسلام زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعامة فتوح عمر على أيديهم .
وقرأ نافع وابن عامر : من يرتدد بدالين مفكوكاً ، وهي لغة الحجاز . والباقون بواحدة مشددة وهي لغة تميم . والعائد على اسم الشرط من جملة الجزاء محذوف لفهم المعنى تقديره : فسوف يأتي الله بقوم غيرهم ، أو مكانهم . ويحبونه معطوف على قوله : يحبهم ، فهو في موضع جر . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المنصوب تقديره : وهم يحبونه انتهى . وهذا ضعيف لا يسوغ مثله في القرآن . ووصف تعالى هؤلاء القوم بأنه يحبهم ويحبونه ، محبة الله لهم هي توفيقهم للإيمان كما قال تعالى : ) وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ ( وإثابته على ذلك وعلى سائر الطاعات ، وتعظيمه إياهم ، وثناؤه عليهم ، ومحبتهم له طاعته ، واجتناب نواهيه ، وامتثال مأموراته . وقدم محبته على محبتهم إذ هي أشرف وأسبق . وقال الزمخشري : وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله ، وأمقتهم للشرع ، وأسوأهم طريقة ، وإن كانت طريقته عند أمثاله من السفهاء والجهلة شيئاً وهم : الفرقة المنفعلة والمتفعلة من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله ، وفي مراقصهم عطلها الله ، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء الله وصعقاتهم التي تشبه صعقة موسى عند دك الطور ، فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . ومن كلماته كما أنه بذاته يحبهم ، كذلك يحبون ذاته ، فإن الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات . ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة ، فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة انتهى كلام الزمخشري رحمه الله تعالى . وقال بعض المعاصرين : قد عظم أمر هؤلاء المنفعلة عند العامة وكثر القول فيهم بالحلول والوحدة ، وسر الحروف ، وتفسير القرآن على طريق القرامطة الكفار الباطنية ، وادعاء أعظم الخوارق لأفسق الفساق ، وبغضهم في العلم وأهله ، حتى أن طائفة من المحدثين قصدوا قراءة الحديث على شيخ في خانقاتهم يروي الحديث فبنفس ما قرأوا شيئاً من حديث الرسول . خرج شيخ الشيوخ الذين هم يقتدون به ، وقطع قراءة الحديث ، وأخرج الشيخ المسمع والمحدثين وقال : روحوا إلى المدارس شوشتم علينا . ولا يمكنون أحداً من قراءة القرآن جهراً ، ولا من الدرس للعلم . وقد صح أنّ بعضهم ممن يتكلم بالدهر على طريقتهم ، سمع ناساً في جامع يقرؤون القرآن فصعد كرسيه الذي يهدر عليه فقال : يا أصحابنا شوشوا علينا ، وقام نافضاً ثوبه ، فقام أصحابه وهو يدلهم لقراء القرآن ، فضربوهم أشد الضرب ، وسل عليهم السيف من اتباع ذلك الهادر وهو لا ينهاهم عن ذلك . وقد علم أصحابه كلاماً افتعلوه على بعض

" صفحة رقم 524 "
الصالحين حفظهم إياه يسردونه حفظاً كالسورة من القرآن ، وهو مع ذلك لا يعلمهم فرائض الوضوء ، ولا سننه ، فضلاً عن غيرها من تكاليف الإسلام . والعجب أن كلاً من هؤلاء الرؤوس يحدث كلاماً جديداً يعلمه أصحابه حتى يصير لهم شعاراً ، ويترك ما صح عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الأدعية المأثورة المأمور بها . وفي كتاب الله تعالى على غثاثة كلامهم ، وعاميته ، وعدم فصاحته ، وقلة محصوله ، وهم مستمسكون به كأنه جاءهم به وحي من الله . ولن ترى أطوع من العوام لهؤلاء يبنون لهم الخوانق والربط ، ويرصدون لهم الأوقاف ، وهم أبغض الناس في العلم والعلماء ، وأحبهم لهذه الطوائف . والجاهلون لأهل العلم أعداء .
( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( هو جمع ذليل لا جمع ذلول الذي هو نقيض الضعف ، لأن ذلولاً لا يجمع على أذلة بل ذلل ، وعدي أذلة بعلى وإن كان الأصل باللام ، لأنه ضمنه معنى الحنو والعطف كأنه قال : عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع . قيل : أو لأنه على حذف مضاف التقدير : على فضلهم على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع . قيل : أو لأنه على حذف مضاف التقدير : على فضلهم على المؤمنين ، والمعنى أنهم يذلون ويخضعون لمن فضلوا عليه مع شرفهم وعلو مكانهم ، وهو نظير قوله : ) أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( وجاءت هذه الصفة بالاسم الذي فيه المبالغة ، لأن أذلة جمع ذليل وأعزة جمع عزيز ، وهما صفتا مبالغة ، وجاءت الصفة قبل هذا بالفعل في قوله : ) يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( لأن الاسم يدل على الثبوت ، فلما كانت صفة مبالغة ، وكانت لا تتجدد بل هي كالغريزة ، جاء الوصف بالاسم . ولما كانت قبل تتجدد ، لأنها عبارة عن أفعال الطاعة والثواب المترتب عليها ، جاء الوصف بالفعل الذي يقتضي التجدد . ولما كان الوصف الذي يتعلق بالمؤمن أوكد ، ولموصوفه الذي قدم على الوصف المتعلق بالكافر ، ولشرف المؤمن أيضاً . ولما كان الوصف الذي بين المؤمن وربه أشرف من الوصف الذي بين المؤمن والمؤمن ، قدّم قوله يحبهم ويحبونه على قوله : أذلة على المؤمنين .
وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من ذهب إلى أن الوصف إذا كان بالاسم وبالفعل لا يتقدم الوصف بالفعل على الوصف بالاسم إلا في ضرورة الشعر نحو قوله :
وفرع يغشى المتن أسود فاحم
إذ جاء ما ادعى أنه يكون في الضرورة في هذه الآية ، فقدم يحبهم ويحبونه وهو فعل على قوله : أذلة وهو اسم . وكذلك قوله تعالى : ) وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ( وقرىء شاذاً أذلة ، وهو اسم وكذا أعزة نصباً على الحال من النكرة إذا قربت من المعرفة بوصفها . وقرأ عبد الله : غلظاء على الكافرين مكان أعزة .
( يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( أي في نصرة دينه . وظاهر هذه الجملة أنها صفة ، ويجوز أن تكون استئناف أخبار . وجوز أبو البقاء أن تكون في موضع نصب حالاً من الضمير في أعزة .
( وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ( أي هم صلاب في دينه ، لا يبالون بمن لام فيه . فمتى شرعوا في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، أمضوه لا يمنعهم اعتراض معترض ، ولا قول قائل هذان الوصفان أعني : الجهاد والصلابة في الدين هما نتيجة الأوصاف السابقة ، لأنّ من أحب الله لا يخشى إلا إياه ، ومن كان عزيزاً على الكافر جاهداً في إخماده واستئصاله . وناسب تقديم الجهاد على انتفاء الخوف من اللائمين لمحاورته أعزة على

" صفحة رقم 525 "
الكافرين ، ولأن الخوف أعظم من الجهاد ، فكان ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى . ويحتمل أن تكون الواو في : ولا يخافون ، واو الحال أي : يجاهدون ، وحالهم في المجاهدة غير حال المنافقين ، فإنهم كانوا موالين لليهود ، فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود وتخاذلوا وخذلوا حتى لا يلحقهم لوم من جهتهم . وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله ، لا يخافون لومة لائم . ولومة للمرة الواحدة وهي نكرة في سياق النفي . فتعم أي : لا يخافون شيئاً قط من اللوم .
( ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( الظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما تقدّم من الأوصاف التي تحلى بها المؤمن . ذكر أنَّ ذلك هو فضل من الله يؤتيه من أراد ، ليس ذلك بسابقة ممن أعطاه إياه ، بل ذلك على سبيل الإحسان منه تعالى لمن أراد الإحسان إليه . وقيل : ذلك إشارة إلى حب الله لهم وحبهم له . وقيل : إشارة إلى قوله : أذلة على المؤمنين ، وهو لين الجانب ، وترك الترفع على المؤمن . قال الزمخشري : يؤتيه من يشاء ممن يعلم أنّ لطفاً انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال . ويؤتيه استئناف ، أو خبر بعد خبر أو حال .
( وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ( أي واسع الإحسان والإفضال عليم بمن يضع ذلك فيه .
المائدة : ( 55 ) إنما وليكم الله . . . . .
( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( لما نهاهم عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، بيّن هنا من هو وليهم ، وهو الله ورسوله . وفسر الولي هنا بالناصر ، أو المتولي الأمر ، أو المحب . ثلاثة أقوال ، والمعنى : لا وليّ لكم إلا الله . وقال : وليكم بالأفراد ، ولم يقل أولياؤكم وإن كان المخبر به متعدداً ، لأن ولياً اسم جنس . أو لأنّ الولاية حقيقة هي لله تعالى على سبيل التأصل ، ثم نظم في سلكه من ذكر على سبيل التبع ، ولو جاء جمعاً لم يتبين هذا المعنى من الأصالة والتبعية . وقرأ عبد الله : مولاكم الله . وظاهر قوله : والذين آمنوا ، عموم من آمن من مضى منهم ومن بقي قاله الحسن . وسئل الباقر عمن نزلت فيه هذه الآية ، أهو على ؟ فقال : عليّ من المؤمنين . وقيل : الذين آمنوا هو عليّ رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل ، ويكون من إطلاق الجمع على الواحد مجازاً . وقيل ابن سلام وأصحابه . وقيل : عبادة لما تبرأ من حلفائه اليهود . وقيل : أبو بكر رضي الله عنه ، قاله عكرمة .
( وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( هذه أوصاف ميز بها المؤمن الخالص الإيمان من المنافق ، لأن المنافق لا يدوم على الصلاة ولا على الزكاة . قال تعالى : ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( وقال تعالى : ) أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ( ولما كانت الصحابة وقت نزول هذه الآية من مقيمي صلاة ومؤتي زكاة ، وفي كلتا الحالتين كانوا متصفين بالخضوع لله تعالى والتذلل له ، نزلت الآية بهذه الأوصاف الجليلة . والركوع هنا ظاهره الخضوع ، لا الهيئة التي في الصلاة . وقيل : المراد الهيئة ، وخصت بالذكر لأنها من أعظم أركان الصلاة ، فعبر بها عن جميع الصلاة ، إلا أنه يلزم في هذا القول تكرير الصلاة لقوله : يقيمون الصلاة . ويمكن أن يكون التكرار على سبيل التوكيد لشرف الصلاة وعظمها في التكاليف الإسلامية . وقيل : المراد بالصلاة هنا الفرائض ، وبالركوع التنفل . يقال : فلان يركع إذا تنفل بالصلاة . وروي أنّ علياً رضي الله عنه تصدّق بخاتمه وهو راكع في الصلاة . والظاهر من قوله : وهم راكعون ، أنها جملة اسمية معطوفة على الجمل قبلها ، منتظمة في سلك الصلاة . وقيل : الواو للحال أي : يؤتون الزكاة وهم خاضعون لا يشتغلون على من يعطونهم إياها ، أي يئتونها فيتصدقون وهم ملتبسون بالصلاة . وقال الزمخشري . ( فإن قلت ) : الذين يقيمون ما محله ؟ ( قلت ) : الرفع على البدل من الذين آمنوا ، أو على هم الذين يقيمون انتهى . ولا أدري ما الذي منعه من الصفة إذ هو المتبادر إلى الذهن ، لأن المبدل منه في نية الطرح ، وهو لا يصح هنا طرح الذين آمنوا لأنه هو الوصف المترتب عليه صحة ما بعده من الأوصاف .
المائدة : ( 56 ) ومن يتول الله . . . . .
( وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ( يحتمل أن يكون جواب مَن محذوفاً لدلالة ما بعده عليه ، أي : يكن من حزب الله ويغلب . ويحتمل أن يكون

" صفحة رقم 526 "
الجواب : فإن حزب الله ، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر أي : فإنهم م الغالبون . وفائدة وضع الظاهر هنا موضع المضمر الإضافة إلى الله تعالى فيشرفون بذلك ، وصاروا بذلك أعلاماً . وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم . وقال الزمخشري : ويحتمل أنْ يريد حزب الله والرسول والمؤمنين ، ويكون المعنى : ومن يتولهم فقد تولى حزب الله ، واعتضد بمن لا يغالب انتهى . وهو قلق في التركيب . قال ابن عطية : أي فإنه غالب كل من ناوأه ، وجاءت العبارة عامة أنّ حزب الله هم الغالبون اختصاراً ، لأن هذا المتولي هو من حزب الله ، وحزب الله غالب ، فهذا الذي تولى الله ورسوله غالب . ومن يراد بها الجنس لا مفرد ، وهم هنا يحتمل أن يكون فصلاً ، ويحتمل أن يكون مبتدأ .
المائدة : ( 57 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء ( قال ابن عباس : كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث قد أظهر الإسلام ثم نافقاً ، وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزلت . ولما نهى تعالى المؤمنين عن اتخاذ الكفار والنصارى أولياء ، نهى عن اتخاذ الكفار أولياء يهودا كانوا أو نصارى ، أو غيرهما . وكرر ذكر اليهود والنصارى بقوله : من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، وإن كانوا مندرجين في عموم الكفار على سبيل النص على بعض أفراد العام لسبقهم في الذكر في الآيات قبل ، ولأنه أوغل في الاستهزاء ، وأبعد انقياداً للإسلام ، إذ يزعمون أنهم على شريعة إلهية . ولذلك كان المؤمنون من المشركين في غاية الكثرة ، والمؤمنون من اليهود والنصارى في غاية القلة . وقيل : أريد بالكفار المشركون خاصة ، ويدل عليه قراءة عبد الله : ومن الذين أشركوا . قال ابن عطية : وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب ، من حيث الغالب في اسم الكفر أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة الأوثان ، لأنّهم أبعد شأواً في الكفر . وقد قال : ) جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ( ففرق بينهم إرادة البيان . والجميع كفار ، وكانوا عبدة الأوثان ، هم كفار من كل جهة . وهذه الفرق تلحق بهم في حد الكفر ، وتخالفهم في رتب . فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء ، والمنافقون يؤمنون بألسنتهم انتهى . وقال الزمخشري : وفصل المستهزئين بأهل الكتاب على المشركين خاصة انتهى . ومعنى الآية : أنّ من اتخذ دينكم هزواً ولعباً لا يناسب أنْ يتخذ ولياً ، بل يعادي ويبغض ويجانب . واستهزاؤهم قيل : بإظهار الإسلام ، وإخفاء الكفر . وقيل : بقولهم للمسلمين : احفظوا دينكم ودوموا عليه فإنه الحق ، وقول بعضهم لبعض : لعبنا بعقولهم وصحكنا عليهم . وقال ابن عباس : ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم ، وتقدم القول في القراءة في هزؤا . وقرأ النحويان : والكفار خفضاً . وقرأ أبي : ومن الكفار بزيادة من . وقرأ الباقون : نصباً وهي رواية الحسين الجعفي عن أبي عمرو ، وإعراب الجر والنصب واضح .
( وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( لما نهى المؤمنون عن اتخاذهم أولياء ، أمرهم بتقوى الله ، فإنها هي الحاملة على امتثال الأوامر واجتناب النواهي . أي : اتقوا الله في موالاة الكفار ، ثم نبه على الوصف الحامل على التقوى وهو الإيمان أي : من كان مؤمناً حقاً يأبى موالاة أعداء الدّين .
المائدة : ( 58 ) وإذا ناديتم إلى . . . . .
( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَواةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ( قال الكلبي : كانوا إذا نودي بالصلاة قام المسلمون إليها فتقول اليهود : قاموا لا قاموا ، صلوا لا صلوا ، ركعوا لا ركعوا ، على طريق الاستهزاء والضحك فنزلت . وقال السدي : كان نصراني بالمدينة يقول إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول الله ، أحرق الكاذب ، فطارت شرارة في بيته فاحترق هو وأهله ، فنزلت . وقيل : حسد اليهود الرسول حين

" صفحة رقم 527 "
سمعوا الآذان وقالوا : ابتدعت شيئاً لم يكن للأنبياء ، فمن أين لك الصياح كصياح العير ؟ فما أقبحه من صوت . فأنزل الله هذه الآية . وأنزل : ) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ( الآية انتهى . والمعنى : إذا نادى بعضكم إلى الصلاة ، لأن الجميع لا ينادون . ولما قدم أنهم الذين اتخذوا الدين هزواً ولعباً اندرج في ذلك جميع ما انطوى عليه الدّين ، فجرد من ذلك أعظم أركان الدين ونص عليه بخصوصه وهي الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه ، فنبه على أنّ من استهزأ بالصلاة ينبغي أن لا يتخذ ولياً ويطرد ، فهذه الآية جاءت كالتوكيد للآية قبلها . وقال بعض العلماء : في هذه الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب ، لا بالمنام وحده انتهى . ولا دليل في ذلك على مشروعيته لأنه قال وإذا ناديتم ، ولم يقل نادوا على سبيل الأمر ، وإنما هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا على إنشائها بالشرط . والظاهر أن الضمير في اتخذوها عائد على الصلاة ، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من ناديتم أي : اتخذوا المناداة والهزء والسخرية واللعب الأخذ في غير طريق .
( ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ( أي ذلك الفعل منهم ، ونفي العقل عنهم لما لم ينتفعوا به في الدين ، واتخذوا دين الله هزواً ولعباً ، فعل من لا عقل له .
المائدة : ( 59 ) قل يا أهل . . . . .
( قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ( قال ابن عباس : أتى نفر من يهود فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عمن يؤمن به من الرسل ؟ فقال : أؤمن بالله : ) وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ( إلى قوله : ) وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى ، ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ، ولا ديناً شراً من دينكم ، فنزلت . والمعنى : هل تعيبون علينا ، أو تنكرون ، وتعدون ذنباً ، أو نقيصة ما لا ينكر ولا يعاب ، وهو الإيمان بالكتب المنزلة كلها ؟ وهذه محاورة لطيفة وجيزة تنبه الناقم على أنه ما نقم عليه إلا ما لا ينقم ولا يعد عيباً ونظيره قول الشاعر : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
والخطاب قيل : للرسول ، وهو بمعنى ما النافية . وقرأ الجمهور : تنقمون بكسر القاف ، والماضي نقم بفتحها ، وهي التي ذكرها ثعلب في الفصيح . ونقم بالكسر ، ينقم بالفتح لغة حكاها الكسائي وغيره . وقرأ بها أبو حيوة والنخعي وابن أبي عبلة وأبو البر هشيم ، وفسر تنقمون بتسخطون وتتكرهون وتنكرون وتعيبون وكلها متقاربة . وإلا أن آمنا استثناء فرغ له الفاعل . وقرأ الجمهور : أنزل مبنياً للفاعل ، وذلك في اللفظين ، وقرأهما أبو نهيك : مبنيين للفاعل ، وقرأ نعيم بن ميسرة : وإن أكثركم فاسقون بكسر الهمزة ، وهو واضح المعنى ، أمره تعالى أن يقول لهم هاتين الجملتين ، وتضمنت الأخبار بفسق أكثرهم وتمردهم . وقرأ الجمهور : بفتح همزة أن وخرج ذلك على أنها في موضع رفع ، وفي موضع نصب ، وفي موضع جر . فالرّفع على الابتداء . وقدر الزمخشري الخبر مؤخراً محذوفاً أي : وفسق أكثركم ثابت معلوم عندكم ، لأنكم علمتم أنا على الحق ، وأنكم على الباطل ، إلا أنّ حب الرّياسة والرشا يمنعكم من الاعتراف . ولا ينبغي أن يقدم الخبر إلا مقدماً أي : ومعلوم فسق أكثركم ، لأن الأصح أن لا يبدأ بها متقدّمة إلا بعد أما فقط . والنصب من وجوه : أحدها : أن يكون معطوفاً على أن آمنا أي : ما تنقمون منا إلا إيماننا وفسق أكثركم ، فيدخل الفسق فيما نقموه ، وهذا قول أكثر المتأوّلين . ولا يتجه معناه لأنهم لا يعتقدون فسق أكثرهم ، فكيف ينقمونه ، لكنه يحمل على أن المعنى ما تنقمون منا إلا هذا المجموع من إنا مؤمنون وأكثركم فاسقون ، وإن كانوا لا يسلمون إن أكثرهم فاسقون ، كما تقول : ما تنقم مني إلا أني صدّقت وأنت كذبت ، وما كرهت مني إلا أني محبب إلى الناس وأنت مبغض ، وإن كان لا يعترف أنه كاذب ولا أنه مبغض ، وكأنه قيل : ما تنقمون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في

" صفحة رقم 528 "
الإسلام وأنتم خارجون . والوجه الثاني : أن يكون معطوفاً على إن آمنا ، إلا أنه على حذف مضاف تقديره : واعتقادنا فيكم أن أكثركم فاسقون ، وهذا معنى واضح . ويكون ذلك داخلاً في ما تنقمون حقيقة . الثالث : أن تكون الواو واو مع ، فتكون في موضع نصب مفعولاً معه التقدير : وفسق أكثرهم أي : تنقمون ذلك مع فسق أكثركم والمعنى : لا يحسن أن تنقموا مع وجود فسق أكثركم كما تقول : تسيء إلي مع أني أحسنت إليك . الرابع : أن تكون في موضع نصب مفعول بفعل مقدّر يدل عليه ، هل تنقمون تقديره : ولا تنقمون أنّ أكثركم فاسقون . والجرّ على أنه معطوف على قوله : بما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وبأن أكثركم فاسقون ، والجر على أنه معطوف على علة محذوفة التقدير : ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم . ويدل عليه تفسير الحسن بفسقكم نقمتم ذلك علينا . فهذه سبعة وجوه في موضع إو وصلتها ، ويظهر وجه ثامن ولعله يكون الأرجح ، وذلك أنّ نقم أصلها أن تتعدّى بعلى ، تقول : نقمت على الرجل أنقم ، ثم تبنى منها افتعل فتعدّى إذ ذاك بمن ، وتضمن معنى الإصابة بالمكروه .
قال تعالى : ) وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( ومناسبة التضمين فيها أنّ من عاب على شخص فعله فهو كاره له لا محالة ومصيبه عليه بالمكروه ، وإن قدر ، فجاءت هنا فعل بمعنى افتعل لقولهم : وقد رأوه ، ولذلك عدّيت بمن دون التي أصلها أن يعدي بها ، فصار المعنى : وما تنالون منا أو وما تصيبوننا بما نكره إلا أن آمنا أي : لأنْ آمنا ، فيكون أن آمنا مفعولاً من أجله ، ويكون وإن أكثركم فاسقون معطوفاً على هذه العلة ، وهذا والله أعلم سبب تعديته بمن دون على ، وخص أكثركم بالفسق لأن فيهم من هدى إلى الإسلام ، أو لأنّ فساقهم وهم المبالغون في الخروج عن الطاعة هم الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون تقرّباً إلى الملوك ، وطلباً للجاه والرياسة ، فهم فساق في دينهم لا عدول ، وقد يكون الكافر عدلاً في دينه ، ومعلوم أنّ كلهم لم يكونوا عدولاً في دينهم ، فلذلك حكم على أكثرهم بالفسق .
المائدة : ( 60 ) قل هل أنبئكم . . . . .
( قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ( الخطاب بالأمر للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وتضمن الخطاب لأهل الكتاب الذين أمر أن يناديهم أو يخاطبهم بقوله تعالى : يا أهل الكتاب هل تنقمون منا ، هذا هو الظاهر . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ضمير الخطاب للمؤمنين أي : قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشر من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله ، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم انتهى . فعلى هذا الإضمار يكون قوله : بشرّ أفعل تفضيل باقية على أصل وضعها من كونها تدل على الاشتراك في الوصف ، وزيادة الفضل على المفضل عليه في الوصف ، فيكون ضلال أولئك الأسلاف وشرهم أكثر من ضلال هؤلاء الفاسقين ، وإن كان الضمير خطاباً لأهل الكتاب ، فيكون شرّ على بابها من التفضيل على معتقد أهل الكتاب إذ قالوا : ما نعلم ديناً شرًّا من دينكم . وفي الحقيقة لا ضلال عند المؤمنين ، ولا شركة لهم في ذلك مع أهل الكتاب ، وذلك كما ذكرنا إشارة إلى دين المؤمنين ، أو حال أهل الكتاب ، فيحتاج إلى حذف مضاف : إما قبله ، وإما بعده . فيقدر قبله : بشرّ من أصحاب هذه الحال ، ويقدر بعده : حال من لعنه الله ولكون لعنه الله إن اسم الإشارة يكون على كل حال من تأنيث وتثنية وجمع كما يكون للواحد المذكر ، فيحتمل أن يكون ذلكم من هذه اللغة ، فيصير إشارة إلى الأشخاص كأنه قال : بشر من أولئكم ، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف ، لا قبل اسم الإشارة ، ولا بعده ، إذ يصير من لعنه الله تفسير أشخاص بأشخاص . ويحتمل أن يكون ذلكم أيضاً إشارة إلى متشخص ، وأفرد على معنى الجنس كأنه قال : قل هل أنبئكم بشر من جنس الكتابي ، أو من جنس المؤمن ، على اختلاف التقديرين اللذين سبقا ، ويكون أيضاً من لعنه الله تفسير شخص بشخص .
وقرأ النخعي وابن وثاب : أنبئكم من أنبأ

" صفحة رقم 529 "
وابن بريدة ، والأعرج ، ونبيج ، وابن عمران : مثوبة كمعورة . والجمهور : من نبأ ومثوبة كمعونة . وتقدّم توجيه القراءتين في ) لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ اللَّهِ ( وانتصب مثوبة هنا على التمييز ، وجاء التركيب الأكثر الأفصح من تقديم المفضل عليه على لتمييز كقوله : ) وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ( وتقديم التمييز على المفضل أيضاً فصيح كقوله : ) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَهَاذِهِ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاْمّيّينَ ءأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ومن في موضع رفع كأنه قيل : من هو ؟ فقيل : هو من لعنه الله . أو في موضع جر على البدل من قوله : بشّر . وجوّزوا أن يكون في موضع نصب على موضع بشر أي : أنبئكم من لعنه الله . ويحتمل من لعنه الله أن يراد به أسلاف أهل الكتاب كما تقدّم ، أو الأسلاف والأخلاف ، فيندرج هؤلاء الحاضرون فيهم . والذي تقتضيه الفصاحة أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير تنبيهاً على الوصف الذي حصل به كونه شراً مثوبة ، وهي اللعنة والغضب . وجعل القردة والخنازير منهم ، وعبد الطاغوت ، وكأنه قيل : قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله أنتم أي : هو أنتم . ويدل على هذا المعنى قوله بعد : ) وَإِذَا الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا ( فيكون الضمير واحداً . وقرأ أبي وعبد الله : من غضب الله عليهم ، وجعلهم قردة وخنازير ، وجعل هنا بمعنى صير . وقال الفارسي : بمعنى خلق ، لأن بعده وعبد الطاغوت ، وهو معتزلي لا يرى أنّ الله يصير أحداً عابد طاغوت . وتقدّم الكلام في مسخهم قردة في البقرة .
وأما الذين مسخوا خنازير فقيل : شيوخ أصحاب السبت ، إذ مسح شبانهم قردة قاله : ابن عباس . وقيل : أصحاب مائدة عيسى . وذكرت أيضاً قصة طويلة في مسخ بني إسرائيل خنازير ملخصها : أنّ امرأة منهم مؤمنة قاتلت ملك مدينتها ومن معه ، وكانوا قد كفروا بمن اجتمع إليها ممن دعته إلى الجهاد ثلاث مرات وأتباعها يقتلون ، وتنفلت هي ، فبعد الثالثة سببت واستبرأت في دينها ، فمسخ الله أهل المدينة خنازير في ليلتهم تثبيتاً لها على دينها ، فلما رأتهم قالت : اليوم علمت أن الله أعز دينه وأقره ، فكان المسخ خنازير على يدي هذه المرأة ، وتقدم تفسير الطاغوت .
وقرأ جمهور السبعة : وعبد الطاغوت . وقرأ أبيّ : وعبدوا الظاغوت . وقرأ الحسن في رواية : وعبد الطاغوت بإسكان الباء . وخرجه ابن عطية : على أنه أراد وعبداً منوّناً فحذف التنوين كما حذف في قوله : ) وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ولا وجه لهذا التخريج ، لأن عبداً لا يمكن أن ينصب الطاغوت ، إذ ليس بمصدر ولا اسم فاعل ، والتخريج الصحيح أن يكون تخفيفاً من عبد بفتحها كقولهم : في سلف سلف . وقرأ ابن مسعود في رواية : عُبد بضم الباء نحو شرف الرجل أي : صار له عبد كالخلق والأمر المعتاد قاله : ابن عطية : وقال الزمخشري : أي صار معبوداً من دون الله كقولك : أمر إذا صار أميراً انتهى . وقرأ النخعيّ وابن القعقاع والأعمش في رواية هارون ، وعبد الطاغوت مبنياً للمفعول ، كضرب زيد . وقرأ عبد الله في رواية : وعبدت الطاغوت مبنياً للمفعول ، كضربت المرأة . فهذه ست قراءآت بالفعل الماضي ، وإعرابها واضح . والظاهر أنّ هذا المفعول معطوف على صلة من وصلت بلعنه ، وغضب ، وجعل ، وعبد ، والمبني للمفعول ضعفه الطبري وهو يتجه على حذف الرابط أي : وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم . ويحتمل أن يكون وعبد ليس داخلاً في الصلة ، لكنه على تقدير من ، وقد قرأ بها مظهرة عبد الله قرأ ، ومن عبد فإما عطفاً على القردة والخنازير ، وإما عطفاً على من قوله : من لعنه الله . وقرأ أبو

" صفحة رقم 530 "
واقد الأعرابي : وعباد الطاغوت جمع عابد ، كضرّاب زيد . وقرأ ابن عباس في رواية ، وجماعة ، ومجاهد ، وابن وثاب : وعبد الطاغوت جمع عبد ، كرهن ورهن . وقال ثعلب : جمع عابد كشارف وشرف . وقال الزمخشري تابعاً للأخفش : جمع عبيد ، فيكون إذ ذاك جمع وأنشدوا : أنسب العبد إلى آبائه
اسود الجلدة من قوم عبد
وقرأ الأعمش وغيره : وعبد الطاغوت جمع عابد ، كضارب وضرب . وقرأ بعض البصريين ؟ : وعباد الطاغوت جمع عابد كقائم وقيام ، أو جمع عبد . أنشد سيبويه : أتوعدني بقومك يا ابن حجل
اسابات يخالون العبادا
وسمى عرب الحيرة من العراق لدخولهم في طاعة كسرى : عباداً . وقرأ ابن عباس في رواية : وعبيد الطاغوت جمع عيد ، نحو كلب وكليب . وقرأ عبيد بن عمير : وأعبد الطاغوت جمع عبد كفلس وأفلس . وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة : وعبد الطاغوت يريد وعبدة جمع عابد ، كفاجر وفجرة ، وحذف التاء للإضافة ، أو اسم جمع كخادم وخدم ، وغائب وغيب . وقرىء : وعبدة الطاغوت بالتاء نحو فاجر وفجرة ، فهذه ثمان قراءات بالجمع المنصوب عطفاً على القردة والخنازير مضافاً إلى الطاغوت . وقرىء وعابدي . وقرأ ابن عباس في رواية : وعابدوا . وقرأ عون العقيلي : وعابدوا ، وتأولها أبو عمرو على أنها عآبد . وهذان جمعا سلامة أضيفاً إلى الطاغوت ، فبالتاء عطفاً على القردة والخنازير ، وبالواو عطفاً على من لعنه الله أو على إضمارهم . ويحتمل قراءة عون أن يكون عابد مفرداً اسم جنس . وقرأ أبو عبيدة : وعابد على وزن ضارب مضافاً إلى لفظ الشيطان ، بدل الطاغوت . وقرأ الحسن : وعبد الطاغوت على وزن كلب . وقرأ عبد الله في رواية : وعبد على وزن حطم ، وهو بناء مبالغة . وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة : وعبد على وزن يقظ وندس ، فهذه أربع قراءات بالمفرد المراد به الجنس أضيفت إلى الطاغوت . وفي القراءة الأخيرة منها خلاف بين العلماء . قال نصير النحوي صاحب الكسائي وهو وهم ممن قرأ به ، وليسأل عنه العلماء حتى نعلم أنه جائز . وقال الفراء : إن يكن لغة مثل حذر وعجل فهو وجه ، وإلا فلا يجوز في القراءة . وقال أبو عبيد : إنما معنى العبد عندهم إلا عبد ، يريدون خدم الطاغوت ، ولم نجد هذا يصح عن أحد من فصحاء العرب أن العبد يقال فيه عبد ، وإنما هو عبد وأعبد بالألف . وقال أبو علي : ليس في أبنية المجموع مثله ، ولكنه واحد يراد به الكثرة ، وهو بناء يراد به المبالغة ، فكأن هذا قد ذهب في عبادة الطاغوت . وقال الزمخشري : ومعناه العلو في العبودية كقولهم : رجل حذر فطن للبليغ في الحذر والفطنة . قال الشاعر : أبني لبيني أن أمكم
أمة وإن أباكم عبد
انتهى .
وقال ابن عطية : عبد لفظ مبالغة كيقظ وندس ، فهو لفظ مفرد يراد به الجنس ، وبنى بناء الصفات لأن عبداً في

" صفحة رقم 531 "
الأصل صفة وإن كان يستعمل استعمال الأسماء ، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة ، ولذلك لم يمتنع أن يبني منه بناء مبالغة . وأنشد أبني لبيني البيت ، وقال : ذكره الطبري وغيره بضم الباء انتهى . وعد ابن مالك في أبنية أسماء الجمع فعلاً فقال : ومنها فعل كنحو سمر وعبد . وقرأ ابن عباس فيما روى عنه عكرمة : وعبد الطاغوت جمع عابد كضارب وضرب ، ونصب الطاغوت أراد عبداً منوناً فحذف التنوين لالتقاء الساكنين كما قال : ) وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( فهذه إحدى وعشرون قراءة بقراءة بريد ، تكون اثنين وعشرين قراءة .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يجعل الله منهم عباد الطاغوت ؟ ( قلت ) : فيه وجهان : أحدهما : أنه خذلهم حتى عبدوها ، والثاني : أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقولهم : ) وَاجْعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( انتهى . وهذا على طريق المعتزلة ، وتقدم تفسير الطاغوت . وقرأ الحسن : الطواغيت . وروي أنه لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود يقولون : يا أخوة القردة والخنازير ، فينكسون رؤوسهم .
( أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً ( الإشارة إلى الموصوفين باللعنة وما بعدها ، وانتصب مكاناً على التمييز . فإن كان ذلك في الآخرة أن يراد بالمكان حقيقة ، إذ هو جهنم ، وإن كان في الدنيا فيكون كناية واستعارة للمكانة في قوله : أولئك شر ، لدخوله في ياب الكناية كقولهم : فلان طويل النجاد وهي إشارة إلى الشيء بذكر لوزامه وتوابعه قبل المفضول ، وهو مكان المؤمنين ، ولا شر في مكانهم . وقال الزجاج : شر مكاناً على قولكم وزعمكم . وقال النحاس : أحسن ما قيل شرّ مكاناً في الآخرة من مكانكم في الدنيا ، لما يلحقكم من الشر . وقال ابن عباس : مكانهم سقر ، ولا مكان أشد شراً منه . والذي يظهر أن المفضول هو غيرهم من الكفار ، لأن اليهود جاءتهم البينات والرسل والمعجزات ما لم يجيء غيرهم كثرة ، فكانوا أبعد ناس عن اتباع الحق وتصديق الرسل وأوغلهم في العصيان ، وكفروا بأنواع من الكفر والرسل ، تنتابهم الغيبة بعد الغيبة ، فأخبر تعالى عنهم بأنهم شر من الكفار .
( وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ( أي عن وسط السبيل ، وقصده : أي هم حائرون لا يهتدون إلى مستقيم الطريق .
المائدة : ( 61 ) وإذا جاؤوكم قالوا . . . . .
( وَإِذَا جَاءوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ( ضمير الغيبة في جاؤوكم لليهود والمعاصرين للرسول وخاصة بالمنافقين منهم قاله : ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، وهو على حذف مضاف . إذ ظاهر الضمير أنه عائد على من قبله التقدير : وإذا جاؤوكم أهلهم أو نساؤهم . وتقدم من قولنا : أن يكون من لعنه الله إلى آخره عبارة عن المخاطبين في قوله : ) قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ ( وأنه مما وضع الظاهر موضع المضمر فكأنه قيل : أنتم فلا يحتاج هذا إلى حذف مضاف .
كان جماعة من اليهود يدخلون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يظهرون له الإيمان نفاقاً فأخبر الله تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون كما دخلوا ، لم يتعلقوا بشيء مما سمعوا من تذكير وموعظة ، فعلي هذا الخطاب في جاؤوكم للرسول ، وقيل : للمؤمنين الذين كانوا بحضرة الرسول . وهاتان الجملتان حالان ، وبالكفر وبه حالان أيضاً أي : ملتبسين . ولذلك دخلت قد تقريباً لها من زمان الحال ولمعنى آخر وهو : أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) متوقعاً لإظهار ما تكتموه ، فدخل حرف التوقع وخالف بين جملتي الحال اتساعاً في الكلام . وقال ابن عطية : وقوله : وهم ، تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر وهم قد خرجوا به ، فأزال الاحتمال قوله تعالى : وهم قد خرجوا به ، أي هم بأعيانهم انتهى . والعامل في الحالين آمنا أي : قالوا ذلك وهذه حالهم . وقيل : معنى هم للتأكيد في إضافة الكفر إليهم ، ونفى أن يكون من الرسول ما يوجب كفرهم من سوء معاملته لهم ، بل كان يلطف بهم

" صفحة رقم 532 "
ويعاملهم بأحسن معاملة . فالمعنى : أنهم هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم ، لا أنك أنت الذي تسببت لبقائهم في الكفر . والذي نقول : إن الجملة الإسمية الواقعة حالاً المصدرة بضمير ذي الحال المخبر عنها بفعل أو اسم يتحمل ضمير ذي الحال آكد من الجملة الفعلية ، من جهة أنه يتكرر فيها المسند إليه فيصير نظير : قام زيد زيد . ولما كانوا حين جاءوا الرسول أو المؤمنين قالوا : آمنا ملتبسين بالكفر ، كان ينبغي لهم أن لا يخرجوا بالكفر ، لأن رؤيته ( صلى الله عليه وسلم ) ) كافية في الإيمان . ألا ترى إلى قول بعضهم حين رأى الرسول : علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، مع ما يظهر لهم من خوارق الآيات وباهر الدلالات ، فكان المناسب أنهم وإن كانوا دخلوا بالكفر أن لا يخرجوا به ، بل يخرجون بالرسول مؤمنين ظاهراً وباطناً . فأكد وصفهم بالكفر بأن . كرر المسند إليه تنهبياً على تحققهم بالكفر وتماديهم عليه ، وأنَّ رؤية الرسول م تجد عنهم ، ولم يتأثروا لها . وكذلك إن كان ضمير الخطاب في : وإذا جاءوكم قالوا آمنا ، كان ينبغي لهم أن يؤمنوا ظاهراً وباطناً لما يرون من اختلاف المؤمنين وتصديقهم للرسول ، والاعتماد على الله تعالى والرغبة في الآخرة ، والزهد في الدنيا ، وهذه حال من ينبغي موافقته . وكان ينبغي إذ شاهدوهم أن يتبعوهم على دينهم ، وأن يكون إيمانهم بالقول موافقاً لاعتقاد قلوبهم . وفي الآية دليل على جواز مجيء حالين لذي حال واحد ، إن كانت الواو في : وهم ، واو حال ، لا واو عطف ، خلافاً لمن منع ذلك إلا في أفعل التفضيل . والظاهر أنّ الدخول والخروج حقيقة . وقيل : هما استعارة ، والمعنى : تقلبوا في الكفر أي دخلوا في أحوالهم مضمرين الكفر وخرجوا به إلى أحوال أخر مضمرين له ، وهذا هو التقلب . والحقيقة في الدخول انفصال بالبدن من خارج مكان إلى داخله ، وفي الخروج انفصال بالبدن من داخله إلى خارجة .
( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ( أي من كفرهم ونفاقهم . وقيل من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ونعته وفي هذا مبالغة في إفشاء ما كانوا يكتمونه من المكر بالمسلمين والكيد والعداوة .
المائدة : ( 62 ) وترى كثيرا منهم . . . . .
( وَتَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( يحتمل ترى أن تكون بصرية ، فيكون يسارعون صفة : وأن تكون علمية ، فيكون مفعولاً ثانياً . والمسارعة : الشروع بسرعة . والإثم الكذب . والعدوان الظلم . يدل قوله عن قولهم الإثم على ذلك ، وليس حقيقة الإثم الكذب ، إذ الإثم هو المتعلق بصاحب المعصية ، أو الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعدى بهم إلى غيرهم . أو الإثم الكفر ، والعدوان الاعتداء . أو الإثم ما كتموه من الإيمان ، والعدوان ما يتعدى فيها . وقيل : العدوان تعديهم حدود الله أقوال خمسة . والجمهور على أن السحت هو الرشا ، وقيل : هو الربا ، وقيل : هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث . وعلق الرؤية بالكثير منهم ، لأن بعصهم كان لا يتعاطى ذلك المجموع أو بعضه ، وأكثر استعمال المسارعة في الخير فكأن هذه المعاصي عندهم من قبيل الطاعات ، فلذلك يسارعون فيها . والإثم يتناول كل معصية يترتب عليها العقاب ، فجرد من ذلك العدوان وأكل السحت ، وخصا بالذكر تعظيماً لهاتين المعصيتين وهما : ظلم غيرهم ، والمطعم الخبيث الذي ينشأ عنه عدم قبول الأعمال الصالحة . وقرأ أبو حيوة : العِدوان بكسر ضمة العين ، وتقدم الكلام في ما بعد بئس في قوله : ) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ ).
المائدة : ( 63 ) لولا ينهاهم الربانيون . . . . .
( لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ( لولا تحضيض يتضمن توبيخ العلماء والعباد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله تعالى والأمر بالمعروف . وقال العلماء : في ما في القرآن آية أشد توبيخاً منها للعلماء . وقال الضحاك : ما في القرآن أخوف منها ، ونحوه ابن عباس . والإثم هنا ظاهره الكفر ، أو يراد به سائر أقوالهم التي يترتب عليها الإثم . وقرأ الجراح وأبو واقد : الربيون مكان الربانيون ، وابن عباس بئس ما كانوا يصنعون بغير لام قسم . والظاهر أنّ الضمير في كانوا عائد على الربانيين ، والأحبار إذ هم المحدث عنهم والموبخون بعدم النهي . قال الزمخشري : كل عامل لا يسمى صانعاً ، ولا كل عمل يسمى صناعة

" صفحة رقم 533 "
حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه ، وكان المعنى في ذلك : أن مواقع المعصية معها الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها ، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره ، فإذا أفرط في الإنكار كان أشد حالاً من المواقع ، وظهر بذلك الفرق بين ذمِّ متعاطي الذنب ، وبين تارك النهي عنه ، حيث جعل ذلك عملاً وهذا صناعة . وقد يقال : أنه غاير في ذلك لتفنن الفصاحة ، ولترك تكرار اللفظ . وفي الحديث : ) مَّا مِن رَجُلٌ ( وأوحى إلى يوشع بهلاك أربعين ألفاً من خيار قومه ، وستين ألفاً من شرارهم فقال : يا رب ما بال الأخيار ؟ فقال : إنهم لم يغضبوا الغضبى ، وواكلوهم وشاربوهم . وقال مالك بن دينار : أوحى الله إلى الملائكة أن عذبوا قرية كذا ، فقالت الملائكة : إنّ فيها عبدك العابد فقال : أسمعوني ضجيجه ، فإنه لم يتمعر وجهه أي : لم يحمرّ غضباً . وكتب بعض العلماء إلى عابد تزهد وانقطع في البادية : إنك تركت المدينة مهاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومهبط وحيه وآثرت البداوة . فقال : كيف لا أترك مكاناً أنت رئيسه ، وما رأيت وجهك تمعر في ذات الله قط يوماً أو كلاماً هذا معناه أو قريب من معناه . وأما زماننا هذا وعلماؤنا وعبادنا فحالهم معروف فيه ، ولم نر في أعصارنا من يقارب السلف في ذلك غير رجل واحد وهو أستاذنا أبو جعفر بن الزبير ، فإن له مقامات في ذلك مع ملوك بلاده ورؤسائهم حمدت فيها آثاره ، ففي بعضها ضرب ونهبت أمواله وخربت دياره ، وفي بعضها أنجاه من الموت فراره ، وفي بعضها جعل السجن قراره .
المائدة : ( 64 ) وقالت اليهود يد . . . . .
( وقالت اليهود يد الله مغلولة ( نزلت في فنخاص قاله : ابن عباس . وقال مقاتل : فيه وفي ابن صوريا ، وعازر بن أبي عازر قالوا ذلك . ونسب ذلك إلى اليهود ، لأن هؤلاء علماؤهم وهم أتباعهم في ذلك . واليد في الجارحة حقيقة ، وفي غيرها مجاز ، فيراد بها النعمة تقول العرب : كم يدلي عند فلان ، والقوة والملك والقدرة . قل : إن الفضل بيد الله قال الشاعر :
وأنت على أعباء ملكك ذويد
أي ذو قدرة ، والتأييد والنصر يد الله مع القاضي حين يقضي ، والقاسم حين يقسم . وتأتي صلة ( مما عملت أيدينا أنعاماً ) أي مما عملنا ) أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ ( أي الذي له عقدة النكاح . وظاهر قول اليهود إن لله يداً فإن كانوا أرادوا الجارحة فهو مناسب مذهبهم إذ هو التجسيم ، زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية ، قاعد على كرسي . وزعموا أنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة ، واستلقى على ظهره واضعاً إحدى رجليه على الأخرى للاستراحة . وردّ الله تعالى ذلك بقوله : ) وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ ( ) وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ( وظاهر مساق الآية يدل على أنهم أرادوا بغلّ اليد وبسطها المجاز عن البخل والجود ، ومنه ) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( ولا يقصد من يتكلم بهذا الكلام إثبات يد ولا غل ولا بسط ، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه ، كأنهما كلامان متعاقبان على حقيقة واحدة ، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قط ، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها . وقال حبيب في المعتصم

" صفحة رقم 534 "
تعود بسط الكف حتى لو أنه
ثناها لقبض لم تجبه أنامله
كنى بذلك عن المبالغة في الكرم . وسبب مقالة اليهود ذلك على ما قال ابن عباس : هو أن الله كان يبسط لهم الرزق ، فلما عصوا أمر الرسول وكفروا به كف عنهم ما كان يبسط لهم فقالوا ذلك . وقال قتادة : لما استقرض منهم قالوا ذلك وهو بخيل . وقيل : لما استعان بهم في الديات . وهذه الأسباب مناسبة لسياق الآية . وقال قتادة أيضاً : لما أعان النصارى بخت نصر المجوسي على تخريب بيت المقدّس قالت اليهود : لو كان صحيحاً لمنعنا منه ، فيده مغلولة . وقال الحسن : مغلولة عن عذابهم فهي في معنى : ) نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( وهذان القولان يدفعهما قوله : ) بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ). وقال الكلبي : كانوا مخصبين وقالوا ذلك عناداً واستهزاء وتهكماً انتهى . والظاهر أن قولهم : يد الله مغلولة خبر ، وأبعد من ذهب إلى أنه استفهام . أيد الله مغلولة حيث قتر المعيشة علينا ، وإلى أنها ممسوكة عن العطاء ذهب : ابن عباس ، وقتادة ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج . أو عن عذابهم إلا تحلة القسم بقدر عبادتهم العجل قاله : الحسن . أو إلى أن يرد علينا ملكنا . قال الطبري : غلت أيديهم خبر ، وإيعاد واقع بهم في جهنم لا محالة . قاله الحسن : أو خبر عنهم في الدنيا جعلهم الله أبخل قوم قاله الزجاج . وقال مقاتل : أمسكت عن الخير . وقيل : هو دعاء عليهم بالبخل والنكد ، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة يغللون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين بإغلال جهنم . والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول : سبني سب الله دابره ، لأن السب أصله القطع . ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد ؟ ( قلت ) : المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم ، فيزيدون بخلاً إلى بخلهم ونكداً إلى نكدهم ، وبما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم ، وسوء الأحدوثة التي تخزيهم ، وتمزّق أعراضهم انتهى كلامه . وأخرجه جار على طريقة الاعتزال . والذي يظهر أنّ قولهم : يد الله مغلولة ، استعارة عن إمساك الإحسان الصادر من المقهور على الإمساك . ولذلك جاؤا بلفظ مغلولة ، ولا يغل إلا المقهور ، فجاء قوله : غلت أيديهم ، دعاء عليهم بغل الأيدي ، فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون ، لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا أن يستعلي ، فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم ، وأن أيديهم لا تنبسط إلى دفع ضر ينزل بهم ، وذلك مقابلة عما تضمنه قولهم : يد الله مغلولة ، وليست هذه المقالة بدعاً منهم فقد قالوا : ) إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ).
) غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ( يحتمل أن يكون خبراً وأن يكون دعاء وبما قالوا يحتمل أن يكون يراد به مقالتهم هذه ويحتمل أن يكون عاماً فيما نسبوه إلى الله مما لا يجوز نسبته إليه ، فتندرج هذه المقالة في عموم ما قالوا . وقرأ أبو السمال : بسكون العين كما قالوا : في عصر عصرون . وقال الشاعر :
لو عصر منه البان والمسك انعصر
ويحسن هذه القراءة أنها كسرة بين ضمتين ، فحسن التخفيف .
( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ( معتقد أهل الحق أن الله تعالى ليس بجسم ولا جارحة له ، ولا يشبه بشيء من خلقه ، ولا يكيف ، ولا يتحيز ، ولا تحله الحوادث ، وكل هذا مقرر في علم أصول الدين . والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ ، وأضاف ذلك إلى اليدين جارياً على طريقة العرب في قولهم : فلان ينفق بكلتا يديه . ومنه قوله :

" صفحة رقم 535 "
يداك يدا مجد فكف مفيدة
وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق
ويؤيد أنّ اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق . ومن نظر في كلام العرب عرف يقيناً أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل ، وقد استعملت العرب ذلك حيث لا يكون قال الشاعر : جاد الحمى بسط اليدين بوابل
شكرت نداه تلاعه ووهاده
وقال لبيد : وغداة ريح قد وزعت وقرة
قد أصبحت بيد الشمال زمامها
ويقال : بسط اليأس كفه في صدري ، واليأس معنى لا عين وقد جعل له كفاً . قال الزمخشري : ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية ، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به ثم قال : ( فإن قلت ) : لم ثينت اليد في بل يداه مبسوطتان وهي مفردة في يد الله مغلولة ؟ ( قلت ) : ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه ، وذلك أن غاية ما يبذله السخي بما له من نفسه ، وأن يعطيه بيديه جميعاً ، فبنى المجاز على ذلك انتهى . وكلامه في غاية الحسن . وقيل عن ابن عباس : يداه نعمتاه ، فقيل : هما مجازان عن نعمة الدين ونعمة الدّنيا ، أو نعمة سلامة الأعضاء والحواس ونعمة الرّزق والكفاية ، أو الظاهرة والباطنة ، أو نعمة المطر ونعمة النبات ، وما ورد مما يوهم التجسيم كهذا . وقوله : ) لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ( و ) مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ( و ) يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( و ) وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ( و ) تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا ( و ) هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( ونحوها . فجمهور الأمة أنها تفسر على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين الكلام .
وقال قوم منهم القاضي أبو بكر بن الطيب : هذه كلها صفات زائدة على الذات ، ثابتة لله تعالى من غير تشبيه ولا تجديد . وقال قوم منهم الشعبي ، وابن المسيب ، والثوري : نؤمن بها ونقر كما نصت ، ولا نعين تفسيرها ، ولا يسبق النظر فيها . وهذان القولان حديث من لم يمعن النظر في لسان العرب ، وهذه المسألة حججها في علم أصول الدين . وقرأ عبد الله : بسيطتان يقال : يد بسيطة مطلقة بالمعروف . في مصحف عبد الله : بسطان ، يقال : يده بسط بالمعروف وهو على فعل كما تقول : ناقة صرح ، ومشية سجح ، ينفق كيف يشاء هذا تأكيد للوصف بالسخاء ، وأنه لا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته ، ولا موضع لقوله تنفق من الإعراب إذ هي جملة مستأنفة ، وقال الحوفي : يجوز أن يكون خبراً بعد خبر ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في مبسوطتان انتهى . ويحتاج في هذين الإعرابين إلى أن يكون الضمير العائد على المبتدأ ، أو على ذي الحال محذوفاً التقدير : ينفق بهما . قال الحوفي : كيف سؤال عن حال ، وهي نصب بيشاء انتهى . ولا يعقل هنا كونها سؤالاً عن حال ، بل هي في معنى الشرط كما تقول : كيف تكون أكون ، ومفعول يشاء محذوف ، وجواب كيف محذوف يدل عليه ينفق المتقدم ، كما يدل في قولك : أقوم إن قام زيد على جواب الشرط والتقدير : ينفق كيف يشاء أن ينفق ينفق ، كما تقول : كيف تشاء أن أضربك أضربك ، ولا يجوز أن يعمل كيف ينفق لأن اسم بالشرط لا يعمل فيه ما قبله إلا إن كان جاراً ، فقد يعمل في بعض أسماء الشرط . ونظير ذلك قوله : ) فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء ).

" صفحة رقم 536 "
) وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ( علق بكثير ، لأن منهم مَن آمن ومن لا يزداد إلا طغياناً ، وهذا إعلام للرّسول بفرط عتوهم إذ كانوا ينبغي لهم أن يبادروا بالإيمان بسبب ما أخبرهم به الله تعالى على لسان رسوله من الأسرار التي يكتمونها ولا يعرفها غيرهم ، لكنْ رتبوا على ذلك غير مقتضاه ، وزادهم ذلك طغياناً وكفروا ، وذلك لفرط عنادهم وحسدهم . وقال الزجاج : كلما نزل عليك شيء كفروا به . وقال مقاتل : وليزيدن بني النضير ما أنزل إليك من ربك من أمر الرجم والدّماء . وقيل : المراد بالكثير علماء اليهود . وقيل : إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر .
( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ( قيل : الضمير في بينهم عائد على اليهود والنصارى ، لأنه جرى ذكرهم في قوله : ) لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ( ولشمول قوله : ) مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( للفريقين وهذا قول : الحسن ، ومجاهد . وقيل : هو عائد على اليهود ، إذ هم جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة ، وكذلك فرق النصارى كالملكانية واليعقوبية والنسطورية . والذي يظهر أن المعنى لا يزالون متباغضين متعادين ، فلا يمكن اجتماع كلمتهم على قتالك ، ولا يقدرون على ضررك ، ولا يصلون إليك ولا إلى أتباعك ، لأن الطائفتين لا توادّ بينهم فيجتمعان على حربك . وفي ذلك إخبار بالمغيب ، وهو أنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيشا يهود ونصارى مذ كان الإسلام إلى هذا الوقت . وأشار إلى هذا المعنى الزمخشري بقوله : فكلهم أبداً مختلف وقلوبهم شتى ، لا يقع اتفاق بينهم ، ولا تعاضد انتهى . والعداوة أخص من البغضاء ، لأن كل عدوّ مبغض ، وقد يبغض من ليس بعدوّ . وقال ابن عطية : وكأنّ العداوة شيء يشهد يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء لا تتجاوز النفوس انتهى كلامه .
( كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ( قال قوم : هو على حقيقته وليس استعارة ، وهو أن العرب كانت تتواعد للقتال ، وعلامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة ، فيتبادرون والجيش يسري ليلاً فيوقد من مرّ بهم ليلاً النار فيكون إنذاراً ، وهذه عادة لنا مع الروم على جزيرة الأندلس ، يكون قريباً من ديارهم رئية للمسلمين مستخف في جبل في غار ، فإذا خرج الكفار لحرب المسلمين أوقد نار ، فإذا رآها رئية آخر قد أعدّ للمسلمين في قريب من ذلك الجبل أوقد ناراً ، وهكذا إلى أن يصل الخبر للمسلمين في أقرب زمان ، ويعرف ذلك من أي جهة نهر من الكفار ، فيعدّ المسلمون للقائهم . وقيل : إذا تراءى الجمعان وتنازل العسكران أوقدوا بالليل ناراً مخافة البيات ، فهذا أصل نار الحرب . وقيل : كانوا إذا تحالفوا على الجدّ في حربهم أوقدوا ناراً وتحالفوا ، فعلى كون النار حقيقة يكون معنى إطفائها أنه ألقى الله الرعب في قلوبهم فخافوا أن يغشوا في منازلهم فيضعون ، فلما تقاعدوا عنهم أطفؤها ، وأضاف تعالى الإطفاء إليه إضافة المسبب إلى سببه الأصلي .
وقال الجمهور : هو استعارة ، وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين والاغتيال والقتال ، وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك ، وتفرّق آرائهم ، وحل عزائمهم ، وتفرّق كلمتهم ، وإلقاء الرعب في قلوبهم . فهم لا يريدون محاربة أحد إلا غلبوا وقهروا ، ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد ، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس . وقيل : خالفوا اليهود فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم بطريق الرومي ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين . وقال قوم : هذا مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة ، والتهاب شواظ قلوبهم ، وغليان صدورهم . ومنه الآن حمى الوطيس للجد في الحرب ، وفلان مسعر حرب يهيجها ببسالته ، وضرب الإطفاء مثلاً لإرغام أنوفهم وخذلانهم في كل موطن . قال مجاهد : هي تبشير للرسول بأنهم كلما حاربوه نصر عليهم ، وإشارة إلى حاضريه من اليهود . وقال السدّي والربيع وغيرهما : هي إخبار عن أسلافهم منذ عصور هدّ الله ملكهم ، فلا ترفع لهم راية إلى يوم القيامة ، ولا يقاتلون جميعاً إلا في قرى محصنة . وقال قتادة : لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذلّ الناس .
( وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً ( يحتمل أن يريد بالسعي نقل

" صفحة رقم 537 "
الإقدام أي : لا يكتفون في إظهار الفساد إلا بنقل أقدامهم بعضهم لبعض ، فيكون أبلغ في الاجتهاد ، والظاهر أنه يراد به العمل . والفعل أي : يجتهدون ، في كيد أهل الإسلام ومحوذ ذكر الرسول من كتبهم . والأرض يجوز أن يراد بها الجنس ، أو أرض الحجاز ، فتكون أل فيه للعهد . قال ابن عباس ومقاتل : فسادهم بالمعاصي . وقال الزجاج : بدفع الإسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم . وقيل : بسفك الدماء واستحلال المحارم . وقيل : بالكفر . وقيل : بالظلم ، وكل هذه الأقوال متقاربة .
( وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( ظاهر المفسدين العموم ، فيندرج هؤلاء فيهم . وقيل : أل للعهد ، وهم هؤلاء . وانتفاء المحبة كناية عن كونه لا يعود عليهم بفضله وإحسانه ، فهؤلاء يثيبهم . وإذا لم يثبهم فهو معاقبهم ، إذ لا واسطة بين العقاب والثواب .
المائدة : ( 65 ) ولو أن أهل . . . . .
( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلاْدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ). قيل : المراد أسلافهم ، ودخل فيها المعاصرون بالمعنى . والغرض الإخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم ، والذي يظهر أنهم معاصرو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي ذلك ترغيب لهم في الدخول في الإسلام . وذكر شيئين وهما : الإيمان ، والتقوى . ورتب عليهم شيئين : قابل الإيمان بتكفير السيئات إذ الإسلام يجب ما قبله ، وترتب على التقوى وهي امتثال الأوامر واجتناب المناهي دخول جنة النعيم ، وإضافة الجنة إلى النعيم تنبيهاً على ما كانوا يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا . وقيل : واتقوا أي : الكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وبعيسى عليه السلام . وقيل : المعاصي التي لعنوا بسببها . وقيل : الشرك . قال الزمخشري : ولو أنهم آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وبما جاء به ، وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان ، لكفرنا عنهم تلك السيئات ، فلم نؤاخذهم بها ، ولأدخلناهم مع المسلمين الجنة . وفيه إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم ، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى ، وأن الإيمان لا ينجى ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى كما قال الحسن : هذا العمود فأين الأطناب ؟ انتهى كلامه . وفيه من الاعتزال . وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان ، وقوله : وأن الإيمان لا ينجى ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى .
المائدة : ( 66 ) ولو أنهم أقاموا . . . . .
( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ( هذا استدعاء لإيمانهم ، وتنبيه لهم على اتباع ما في كتبهم ، وترغيب لهم في عاجل الدنيا وبسط الرزق عليهم فيها ، إذ أكثر ما في التوراة من الموعود به على الطاعات هو الإحسان إليهم في الدنيا . ولمّا رغبهم في الآية قبل في موعود الآخرة من تكفير السيئات وإدخالهم الجنة ، رغبهم في هذه الآية في موعود الدنيا ليجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة ، وكان تقديم موعود الآخرة أهمّ لأنه هو الدائم الباقي ، والذي به النجاة السرمدية ، والنعيم الذي لا ينقضي . ومعنى إقامة التوراة والإنجيل : هو إظهار ما انطوت عليه من الأحكام والتبشير بالرسول والأمر باتباعه كقولهم : أقاموا السوق أي حركوها وأظهروها ، وذلك تشبيه بالقائم من الناس إذ هي أظهر هيآته . وفي قوله : والإنجيل دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب . وظاهر قوله : وما أنزل إليهم من ربهم ، العموم في الكتب الإلهية مثل : كتاب أشعياء ، وكتاب حزقيل ، وكتاب دانيال ، فإنها مملوءة من البشارة بمبعث الرسول . وقيل : ما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن . وظاهر قوله : لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، أنه استعارة عن سبوغ النعم عليهم ، وتوسعة الرزق عليهم ، كما يقال : قد عمه الرزق من فرقه إلى قدمه ولا فوق ولا تحت حكاه الطبري والزجاج . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدّي : لأعطتهم السماء مطرها وبركتها ، والأرض نباتها كما قال تعالى : ) لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( وذكر النقاش من فوقهم من رزق الجنة ، ومن تحت أرجلهم من روق الدنيا إذ هو من نبات الأرض . وقيل : من فوقهم كثرة

" صفحة رقم 538 "
الأشجار المثمرة ، ومن تحت أرجلهم الزرع المغلة . وقيل : من فوقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدّل منها من رؤوس الشجر ، ويلتقطون ما تساقط منها على الأرض ، وتحت أرجلهم . وقال تاج القراء : من فوقهم ما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم ، ومن تحت أرجلهم ما يأتيهم من سفلتهم وعوامّهم ، وعبر بالأكل عن الأخذ ، لأنه أجل منافعه وأبلغ ما يحتاج إليه في ديمومة الحياة .
( مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ( الضمير في منهم يعود على أهل الكتاب . والأمة هنا يراد بها الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله : وكثير منهم . والاقتصاد من القصد وهو الاعتدال ، وهو افتعل بمعنى اعتمل واكتسب أي : كانت أولاً جائزة ثم اقتصدت . قيل : هم مؤمنو الفريقين عبد الله بن سلام وأصحابه ، وثمانية وأربعون من النصارى . واقتصادهم هو الإيمان بالله تعالى . وقال مجاهد : المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديماً وحديثاً ، ونحوه قول ابن زيد : هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب . وذكر الزجاج وغيره : أنها الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتمرّدين المجاهدين . وقال الزمخشري : مقتصدة حالها أمم في عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الطبري : من بني إسرائيل من يقتصد في عيسى فيقول : هو عبد الله ورسوله وروح منه ، والأكثر منهم غلافية فقال بعضهم : هو الإله ، وعلى هذا مشى الرّوم ومن دخل بآخره في ملة عيسى . وقال بعضهم وهو الأكثر من بني إسرائيل : هو آدمي كغيره لغير رشده ، فتلخص في الاقتصاد أهو في حق عيسى ؟ أو في المناصبة ؟ أو في الإيمان ؟ فإن كان في المناصبة فهل هو بالنسبة إلى الرسول وحده أم بالنسبة إلى الأنبياء ؟ قولان . وإن كان في الإيمان فهل هو في إيمان من آمن بالرسول من الفريقين أو من آمن قديماً وحديثاً ؟ قولان .
( وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ( هذا تنويع في التفصيل . فالجملة الأولى جاءت منهم أمة مقتصدة ، جاء الخبر الجار والمجرور ، والخبر الجملة من قوله : ساء ما يعملون ، وبين التركيبين تفاوت غريب من حيث المعنى . وذلك أن الاقتصاد جعل وصفاً ، والوصف ألزم للموصوف من الخبر ، فأتى بالوصف اللازم في الطائفة الممدوحة ، وأخبر عنها بقوله : منهم ، والخبر ليس من شأنه اللزوم ولا سيما هنا ، فأخبر عنهم بأنهم من أهل الكتاب في الأصل ، ثم قد تزول هذه النسبة بالإسلام فيكون التعبير عنهم والإخبار بأنهم منهم ، باعتبار الحالة الماضية . وأما في الجملة الثانية فإنهم منهم حقيقة لأنهم كفار ، فجاء الوصف بالإلزام ، ولم يجعل خبراً ، وجعل خبر الجملة التي هي ساء ما يعملون ، لأن الخبر ليس من شأنه اللزوم ، فهم بصدد أن يسلم ناس منهم فيزول عنهم الإخبار بمضمون هذه الجملة ، واختار الزمخشري في ساء أن تكون التي لا تنصرف ، فإن فيه التعجب كأنه قيل : ما أسوأ عملهم ولم يذكر غير هذا الوجه . واختار ابن عطية أن تكون المتصرفة تقول : ساء الأمر يسوء ، وأجاز أن تكون غير المتصرفة فتستعمل استعمال نعم وبئس كقوله : ساء مثلاً . فالمتصرفة تحتاج إلى تقدير مفعول أي ساء ما كانوا يعملون بالمؤمنين ، وغير المتصرفة تحتاج إلى تمييز أي : ساء عملاً ما كانوا يعملون .
المائدة : ( 67 ) يا أيها الرسول . . . . .
( يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ ( هذا نداء بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الإنساني ، وأمر بتليغ ما أنزل إليه وهو ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد بلغ ما أنزل إليه ، فهو أمر بالديمومة . قال الزمخشري : جميع ما أنزل إليك ، وأي شيء أنزل غير مراقب في تبليغه أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه . وقال ابن عطية : أمر من الله لرسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال ، لأنه قد قال : بلغ ، فإنما أمر في هذه الآية أن لا يتوقف على شيء مخافة أحد ، وذلك أنّ رسالته عليه السلام تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وفساد أحوالهم ، فكان يلقى منهم عنتاً ، وربما خافهم أحياناً قبل نزول هذه الآية . وعن ابن عباس عنه عليه السلام : ( لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعاً وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية ) . وقيل : هو أمر بتبليغ خاص أي : ما أنزل إليك من الرجم والقصاص الذي غيره اليهود في

" صفحة رقم 539 "
التوراة والنصارى في الإنجيل . وقيل : أمر بتبليغ أمر زينب بنت جحش ونكاحها . وقيل : بتبليغ الجهاد والحث عليه ، وأن لا يتركه لأجل أحد . وقيل : أمر بتبليغ معائب آلهتهم ، إذ كان قد سكت عند نزول قوله : ) وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( الآية عن عيبها وكل واحد من هذا التبليغ الخاص . قيل : أنها نزلت بسببه ، والذي يظهر أنه تعالى أمنه من مكر اليهود والنصارى ، وأمره بتبليغ ما أنزل إليه في أمرهم وغيره من غير مبالاة بأحد ، لأن الكلام قبل هذه الآية وبعدها هو معهم ، فيبعد أن تكون هذه الآية أجنبية عما قبلها وعما بعدها .
( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ( أي وإن لم تفعل بتبليغ ما أنزل إليك ، وظاهر هذا الجواب لا ينافي الشرط ، إذ صار المعنى : وإن لم تفعل لم تفعل ، والجواب لا بد أن يغاير الشرط حتى يترتب عليه . فقال الزمخشري : فيه وجهان : أحدهما : أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرسالة وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولاً ، كان أمراً شنيعاً . وقيل : إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كلمة واحدة فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها ، كما عظم قتل النفس بقوله : ) فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ( والثاني : أن يراد فإن لم تفعل ذلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب ، فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده قوله عليه السلام : ) فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْكَ إِن لَّمْ تَبْلُغَ ). وقال ابن عطية : أي إن تركت شيئاً فكأنك قد تركت الكل ، وصار ما بلغت غير معتد به . فمعنى : وإن لم تفعل ، وإن لم تستوف . ونحو هذا قول الشاعر : سئلت فلم تبخل ولم تعط نائلا
فسيان لا ذمّ عليك ولا حمد
أي إن لم تعط ما يعد نائلاً وألا تتكاذب البيت . وقال أبو عبد الله الرازي : أجاب الجمهور بأنْ لم تبلغ واحداً منها كنت كمن لم يبلغ شيئاً . وهذا ضعيف ، لأنّ من أتى بالبعض وترك البعض . فإن قيل : إنه ترك الكل كان كاذباً ، ولو قيل : إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل ، فهذا هو المحلل الممتنع ، فسقط هذا الجواب انتهى . وما ضعف به جواب الجمهور لا يضعف به ، لأنه قال : فإنْ قيل أنه ترك الكل كان كاذباً ، ولم يقولوا ذلك إنما قالوا : إن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض ، فإن لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداها جميعاً . كما أنّ من لم يؤمن ببعضها كان كمن لا يؤمن بكلها لأداء كل منها بما يدلي به غيرها ، وكونها لذلك في حكم شيء واحد ، والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ مؤمناً به غير مؤمن ، فصار ذلك التبليغ للبعض غير معتد به ، وأما ما ذكر من أنّ مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل محال ممتنع ، فلا استحالة فيه . ولله تعالى أن يرتب على الذنب اليسير العذاب العظيم ، وله تعالى أن يعفو عن الذنب العظيم ، ويؤاخذ بالذنب الحقير : ) عَمَّا يَصِفُونَ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( وقد ظهر ذلك في ترتيب العقوبات في الأحكام الشرعية ، رتب على من أخذ شيئاً بالاختفاء والتستر ، قطع اليد مع ردّ ما أخذه أو قيمته ، ورتب على من أخذ شيئاً بالقهر والغلبة والغصب ردّ ذلك الشيء أو قيمته إن فقد دون قطع اليد . وقال أبو عبد الله الرازي : والأصح عندي أن يقال : إن هذا خرج على قانون قوله : أنا أبو النجم وشعرى شعرى ، ومعناه : أن شعرى بلغ في الكمال والفصاحة والمتانة بحيث متى قيل فيه انه شعرى

" صفحة رقم 540 "
فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها ، وهذا الكلام مفيد المبالغة التامة من هذا الوجه ، فكذا هاهنا . قال : فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته ، يعني : أنه لا يمكن أن يصف البليغ بترك التهديد بأعظم من أنه ترك التعظيم ، فكان ذلك تنبيهاً على التهديد والوعيد . وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر : رسالاته على الجمع . وقرأ باقي السبعة : على التوحيد .
( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( أي لا تبال في التبليغ ، فإن الله يعصمك فليس لهم تسليط على قتلك لا بمؤامرة ، ولا باغتيال ، ولا باسيتلاء عليك بأخذ وأسر . قال محمد بن كعب : نزلت بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ليقتله انتهى ، وهو غورث بن الحارث ، وذلك في غزوة ذات الرقاع .
وروى المفسرون أنّ أبا طالب كان يرسل رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزل قوله : والله يعصمك من الناس ، فقال : إن الله قد عصمني من الجن والإنس ، فلا أحتاج إلى من يحرسني . وقال ابن جريج : كان يهاب قريشاً فلما نزلت استلقى وقال : ) مَن شَاء ). وروى أبو أمامة حديث ركانة من : ولد هاشم مشركاً أفتك الناس وأشدهم ، تصارع هو والرسول ، فصرعه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثلاثاً ودعاه إلى الإسلام ، فسأله آية ، فدعا الشجرة فأقبلت إليه . وقد انشقت نصفين ، ثم سأله ردها إلى موضعها فالتأمت وعادت ، فالتمسه أبو بكر وعمر فدلا عليه أنه خرج إلى واد أضم حيث ركانة ، فسارا نحوه واجتمعا به ، وذكرا أنهما خافا الفتك من ركانة ، فأخبرهما خبره معه وضحك ، وقرأ والله يعصمك من الناس . وهذا ما قبله يدل على أنّ ذلك نزل بمكة أو في ذات الرقاع ، والصحيح أنها نزلت بالمدينة والرسول بها مقيم شهراً ، وحرسه سعد وحذيفة ، فنام غط ، فنزلت ، فأخرج إليهما رأسه من قبة أدم وقال : ) انصَرَفُواْ أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ ( وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم : وأما شج جبينه وكسر رباعيته يوم أحد فقيل : الآية نزلت بعد أحد ، فأما إن كانت قبله فلم تتضمن العصمة هذا الابتلاء ونحوه من أذى الكفار بالقول ، بل تضمنت العصمة من القتل والأسر ، وأما مثل هذه فيها الابتلاء الذي فيه رفع الدرجات واحتمال كل الأذى دون النفس في ذات الله ، وابتلاء الأنبياء أشد ، وما أعظم تكليفهم . وأتى بلفظ يعصمك لأن المضارع يدل على الديمومة والاستمرار ، والناس عام يراد به الكفار يدل عليه ما بعده . وتضمنت هذه الجملة الإخبار بمغيب ووجد على ما أخبر به ، فلم يصل إليه أحد بقتل ولا أسر مع قصداً لا عداء له مغالبة واغتيالاً . وفيه دليل على صحة نبوّته ، إذ لا يمكن أن يكون إخباره بذلك إلا من عند الله تعالى ، وكذا جميع ما أخبر به .
( تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( أي إنما عليك البلاغ لا الهداية ، فمن قضيت عليه بالكفر والموافاة عليه لا يهتدي أبداً ، فيكون خاصاً . قال ابن عطية : أما على العموم على أن لا هداية في الكفر ، ولا يهدي الله الكافر في سبيل كفره . وقال الزمخشري : ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله ، بل من الهلاك انتهى . وهو قول بعضهم لا يعينهم على بلوغ غرضهم منك . وقيل : المعنى لا يهديهم إلى الجنة . والظاهر من الهداية إذا أطلقت ما فسرناها به أولاً .
المائدة : ( 68 ) قل يا أهل . . . . .
( قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَىْء حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ ( قال رافع بن سلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة : يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ، وإنك تؤمن بالتوراة ونبوة موسى ، وأن ذلك حق ؟ قال : ) بَلَى وَلَاكِنَّكُمْ ( فقالوا : إنا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق ، ولا نصدقك ، ولا نتبعك فنزلت . وتقدم الكلام على إقامة التوراة والإنجيل وما أنزل ، فأغنى عن إعادته . ونفى أن يكونوا على شيء جعل ما هم عليه عدماً صُرِفا

" صفحة رقم 541 "
ً لفساده وبطلانه فنفاه من أصله ، أو لا حظ فيه ، صفة محذوفة أي : على شيء يعتد به ، فيتوجه النفي إلى الصفة دون الموصوف .
( يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ( تقدم تفسير هذه الجملة .
( فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( أي لا تحزن عليهم . فأقام الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على لعلة الموجبة لعدم التأسف ، أو هو عام فيندرجون فيه . وقيل : في قوله : ) حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ ( جمع في الضمير ، والمقصود التفصيل أي : حتى يقيم أهل التوراة التوراة ، ويقيم أهل الإنجيل الإنجيل ، ولا يحتاج إلى ذلك إن أريد ما في الكتابين من التوحيد ، فإنّ الشرائع فيه متساوية .
المائدة : ( 69 ) إن الذين آمنوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ ( تقدم في البقرة تفسير مثل هذه الآية . وقرأ عثمان ، وأبي وعائشة ، وابن جبير ، والجحدري : والصابئين . قال الزمخشر : وبها قرأ ابن كثير . وقرأ الحسن ، والزهري : والصابئون بكسر الباء وضم الياء ، وهو من تخفيف الهمز كقراءة : يستهزئون . وقرأ القراء السبعة : والصابئون بالرفع ، وعليه مصاحف الأمصار ، والجمهور . وفي توجيه هذه القراءة وجوه : أحدها : مذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة : أنه مرفوع بالابتداء ، وهو منوي به التأخير ، ونظيره : إنّ زيداً وعمرو قائم ، التقدير : وإن زيداً قائم وعمرو قائم ، فحذف خبر عمرو لدلالة خبر إنّ عليه ، والنية بقوله : وعمرو ، التأخير . ويكون عمرو قائم بخبره هذا المقدر معطوفاً على الجملة من أنّ زيداً قائم ، وكلاهما إلا موضع له من الإعراب . الوجه الثاني : أنه معطوف على موضع اسم إنّ لأنه قبل دخول إن كان في موضع رفع ، وهذا مذهب الكسائي والفراء . أما الكسائي فإنه أجاز رفع المعطوف على الموضع سواء كان الاسم مما خفي فيه الإعراب ، أو مما ظهر فيه . وأما الفراء فإنه أجاز ذلك بشرط خفاء الإعراب . واسم إن هنا خفي فيه الإعراب . الوجه الثالث : أنه مرفوع معطوف على الضمير المرفوع في هادوا : وروي هذا عن الكسائي . ورد بأنّ العطف عليه يقتضي أنّ الصابئين تهودوا ، وليس الأمر كذلك . الوجه الرابع : أن تكون إن بمعنى نعم حرف جواب ، وما بعده مرفوع بالابتداء ، فيكون والصابئون معطوفاً على ما قبله من المرفوع ، وهذا ضعيف . لأن ثبوت أن بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين ، وعلى تقدير ثبوت ذلك من لسان العرب فتحتاج إلى شيء يتقدمها يكون تصديقاً له ، ولا تجيء ابتدائية أول الكلام من غير أن تكون جواباً لكلام سابق . وقد أطال الزمخشري في تقدير مذهب سيبويه ونصرته ، وذلك مذكور في علم النحو ، وأورد أسئلة وجوابات في الآية إعرابية تقدم نظيرها في البقرة . وقرأ عبد الله : يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون .
المائدة : ( 70 ) لقد أخذنا ميثاق . . . . .
( لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً ( هذا إخبار بما صدر من أسلاف اليهود من نقض الميثاق الذي أخذه تعالى عليهم ، وما اجترحوه من الجرائم العظام من تكذيب الأنبياء وقتل بعضهم ، والذين هم بحضرة الرسول هم أخلاف أولئك ، فغير بدع ما يصدر منهم للرسول من الأذى والعصيان ، إذ ذاك شنشنة من أسلافهم .
( كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ( تقدم تفسير مثل هذا في البقرة . وقال الزمخشري هنا : ( فإن قلت ) : أين جواب الشرط ؟ فإن قوله فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون ناب عن الجواب ، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ، ولأنه لا يحسن أن تقول : إن أكرمت أخي أخاك أكرمت . ( قلت ) : هو محذوف يدل عليه قوله : فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون ، كأنه قيل : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه . وقوله : فريقاً كذبوا ، جواب مستأنف لسؤال قاتل : كيف فعلوا برسلهم ؟ انتهى قوله : فإن قلت : أين جواب الشرط ؟ سمي قوله كلما جاءهم رسول شرطاً وليس بشرط ، بل كل منصوب على الظرف لإضافتها إلى المصدر المنسبك من ما المصدرية الظرفية ، والعامل فيها هو ما يأتي بعدما المذكورة ، وصلتها من الفعل كقوله : ) كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ ( كلما ) أُلْقُواْ فِيهَا ( وأجمعت العرب على أنه لا يجزم بكلما ، وعلى تسليم تسميته شرطاً فذكر أن قوله : فريقاً كذبوا ينبو عن الجواب

" صفحة رقم 542 "
لوجهين : أحدهما : قوله : لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ، وليس كما ذكر ، لأن الرسول في هذا التركيب لا يراد به الواحد ، بل المراد به الجنس . وأي نجم طلع ، وإذا كان المراد به الجنس انقسم إلى الفريقين : فريق كذب ، وفريق قتل . والوجه الثاني قوله : ولأنه لا يحسن أن تقول إن أكرمت أخي أخاك أكرمت ، يعني أنه لا يجوز تقديم منصوب فعل للجواب عليه . وليس كما ذكر ، بل مذهب البصريين والكسائي إن ذاك جائز حسن ، ولم يمنعه إلا الفراء وحده ، وهذا كله على تقدير تسليم إن كلما شرط ، وإلا فلا يلزم أن يعتذر بهذا ، بل يجوز تقديم منصوب الفعل العامل في كلما عليه . فتقول في كلما جئتني أخاك أكرمت ، وعموم نصوص النحويين على ذلك ، لأنهم حين حصر ، وأما يجب تقديم المفعول به على العامل وما يجب تأخيره عنه قالوا : وما سوى ذلك يجوز فيه التقديم على العامل والتأخير عنه ، ولم يستثنوا هذه الصورة ، ولا ذكروا فيها خلافاً . فعلى هذا الذي قررناه يكون العامل في كلما قوله : كذبوا ، وما عطف عليه ولا يكون محذوفاً . وقال الحوفي وابن عطية : كلما ظرف ، والعامل فيه كذبوا . وقال أبو البقاء : كذبوا جواب كلما انتهى . وجاء بلفظ يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل ، واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها قاله الزمخشري . ويحسن مجيئه أيضاً كونه رأس آية ، والمعنى : أنهم يكذبون فريقاً فقط ، وقتلوا فريقاً ولا يقتلونه إلا مع التكذيب ، فاكتفى بذكر القتل عن ذكر التكذيب أي : اقتصر ناس على تكذيب فريق ، وزاد ناس على التكذيب القتل .
المائدة : ( 71 ) وحسبوا ألا تكون . . . . .
( وَحَسِبُواْ أَن لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ( قال ابن الأنباري : نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل البعثة ، فلما بعث الرسول كذبوه بغياً وحسداً ، فعموا وصموا لمجانبة الحق ، ثم تاب الله عليهم أي : عرضهم للتوبة بإرسال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإنْ لم يتوبوا ثم عموا وصموا كثير منهم لأنهم لم يجمعوا كلهم على خلافه انتهى . والضمير في : وحسبوا ، عائد على بني إسرائيل ، وحسبانهم سببه اغترارهم بإمهال الله حين كذبوا الرسل وقتلوا ، أو وقوع كونهم أبناء الله وأحباءه في أنفسهم ، وأنهم لا تمسهم النار إلا مقدار الزمان الذي عبدوا فيه العجل ، وإمداد الله لهم بطول الأعمار وسعة الأرزاق ، أو وقوع كون الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى في أنفسهم ، واعتقادهم امتناع النسخ على شريعة موسى ، فكل من جاءهم من رسول كذبوه وقتلوه خمسة أقوال . والفتنة هنا : الابتلاء والاختبار . فقيل : في الدّنيا بالقحط والوباء وهو الطاعون ، أو القتل ، أو العداوة ، أو ضيق الحال ، أو القمل ، والضفادع ، والدم ، أو التيه ، وقتال الجبارين ، أو مجموع ما ذكر أقوال ثمانية . وقيل : في الآخرة بالافتضاح على رؤوس الأشهاد ، أو هو يوم القيامة وشدته ، أو العذاب بالنار والخلود ثلاثة أقوال . وقيل : الفتنة ما نالهم في الدنيا وفي الآخرة ، وسدت أنْ وصلتها مسد مفعولي حسب على مذهب سيبويه . وقرأ الحرميان وعاصم وابن عامر : بنصب نون تكون بأنْ الناصبة للمضارع ، وهو على الأصل إذ حسب من الأفعال التي في أصل الوضع لغير المتيقن . وقرأ النحويان وحمزة برفع النون ، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف ، والجملة المنفية في موضع الخبر . نزل الحسبان في صدورهم منزلة العلم ، وقد استعملت حسب في المتيقن قليلاً قال الشاعر : حسبت التقى والجود خير تجارة
رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلاً
وتكون هنا تامة .
( ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ ( قالت جماعة : توبتهم هذه ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول وعماهم وصممهم . قيل : ولوجهم في شهواتهم فلم يبصروا الحق ، ولم يسمعوا داعي الله . وقالت جماعة : توبتهم يبعث عيسى عليه السلام . وقالت جماعة : بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : الأول : في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، ولتوفيق كثير منهم للإيمان . والثاني : في زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) آمن جماعة به ، وأقام

" صفحة رقم 543 "
الكثير منهم على كفرهم . وقيل : الأول عبادة العجل ثم التوبة عنه ، ثم الثاني بطلب الرؤية وهي محال غير معقول في صفات الله قاله : الزمخشري جرياً علي مذهبه الاعتزالي في إنكار رؤية الله تعالى . وقال القفال في سورة بني إسرئيل ؛ ما يجوز أن يكون تفسير لهذه الاية وقيل ؛ الأول بعد موسى ثم تاب عليهم ببعث عيسى . والثاني بالكفر بالرسول . والذي يظهر أن المعنى حسب بنو إسرائيل حيث هم أبناء الرسل والأنبياء أن لا يبتلوا إذا عصوا الله ، فعصوا الله تعالى وكنى عن العصيان بالعمى والصمم ، ثم تاب الله عليهم إذ حلت بهم الفتنة برجوعهم عن المعصية إلى طاعة الله تعالى ، وبدىء بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع أن لا يبصر من أتاه بها من عند الله ، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه ، فعرض لهم الصمم عن كلامه . ولما كانوا قبل ذلك على طريق الهداية ، ثم عرض لهم الضلال ، نسب الفعل إليهم وأسند لهم ولم يأت ، فأعماهم الله وأصمهم كما جاء في قوله : ) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( إذ هذا فيمن لم تسبق له هداية ، وأسند الفعل الشريف إلى الله تعالى في قوله : ) ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ( لم يأت ، ثم تابوا إظهاراً للاعتناء بهم ولطفه تعالى بهم . وفي العطف بالفاء دليل على أنهم يعقب الحسبان عصيانهم وضلالهم ، وفي العطف بثمّ دليل على أنهم تمادوا في الضلال زماناً إلى أن تاب الله عليهم . وقرأ النخعي وابن وثاب بضم العين والصاد وتخفيف الميم من عموا ، جرت مجرى زكم الرجل وأزكمه ، وحم وأحمه ، ولا يقال : زكمه الله ولاحمه الله ، كما لا يقال : عميته ولا صممته ، وهي أفعال جاءت مبنية للمفعول الذي لم يسم فاعله وهي متعَدّية ثلاثية ، فإذا بنيت للفاعل صارت قاصرة ، فإذا أردت بناءها للفاعل متعدية أدخلت همزة التنقل وهي نوع غريب في الأفعال . وقال الزمخشري : وعموا وصموا بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم أي : رماهم بالعمى والصمم كما يقال : نزكته إذا ضربته بالنيزك ، وركبته إذا ضربته بركبتك انتهى . وارتفاع كثير على البدل من المضمر . وجوّزوا أن يرتفع على الفاعل ، والواو علامة للجمع لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث ، ولا ينبغي ذلك لقلة هذه اللغة . وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أي : العمى والصم كثير منهم . وقيل : مبتدأ والجملة قبله في موضع الخبر . وضعف بأن الفعل قد وقع موقعه ، فلا ينوي به التأخير . والوجه هو الإعراب الأول .
وقرأ ابن أبي عبلة : كثيراً منهم بالنصب .
( وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( هذا فيه تهديد شديد ، وناسب ختم الآية بهذه الجملة المشتملة على بصير ، إذ تقدّم قبله فعموا .
المائدة : ( 72 ) لقد كفر الذين . . . . .
( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ( تقدم شرح هذه الجملة وقائلو ذلك : هم اليعقوبية ، زعموا أن الله تعالى تجلى في شخص عيسى عليه السلام .
( وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِى بَنِى إِسْراءيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ ( ردّ الله تعالى مقالتهم بقول من يدعون إلهيته وهو عيسى ، أنه لا فرق بينه وبينهم في أنهم كلهم مربوبون ، وأمرهم بإخلاص العبادة ، ونبه على الوصف الموجب للعبادة وهو الربوبية . وفي ذلك ردّ عليهم في فساد دعواهم ، وهو أن الذي يعظمونه ويرفعون قدره عما ليس له يردّ عليهم مقالتهم ، وهذا الذي ذكره تعالى عنه هو مذكور في إنجيلهم يقرؤونه ولا يعملون به ، وهو قول المسيح : يا معشر بني المعمودية . وفي رواية : يا معشر الشعوب قوموا بنا إلى أبي وأبيكم ، وإلهي وإلهكم ، ومخلصي ومخلصكم .
( إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ( الظاهر أنه كلام المسيح ، فهو داخل تحت القول . وفيه أعظم ردع منه عن عبادته ، إذ أخبر أنه من عبد غير الله منعه الله دار من أفرده بالعبادة ، وجعل مأواه النار . ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ). وقيل : هو من كلام الله تعالى مستأنف ، أخبر بذلك على سبيل الوعيد والتهديد . وفي الحديث الصحيح من حديث عتبان بن مالك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ النَّارِ عَلَى مِنْ قَالَ لا إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ).
) وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ظاهره أنه من كلام عيسى ، أخبرهم أنه من تجاوز ووضع الشيء غيره موضعه فلا ناصر له ، ولا مساعد فيما افترى وتقوّل ، وفي ذلك ردع لهم

" صفحة رقم 544 "
عما انتحلوه في حقهم من دعوى أنه إله ، وأنه ظلم إذا جعلوا ما هو مستحل في العقل واجباً وقوعه ، أو فلا ناصر له ولا منجي من عذاب الله في الآخرة . ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ، أخبر أنهم ظلموا وعدلوا عن الحق في أمر عيسى وتقوّلهم عليه ، فلا ناصر لهم على ذلك .
المائدة : ( 73 ) لقد كفر الذين . . . . .
( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ( هؤلاء هم الملكية من النصارى القائلون بالتثليث . وظاهر قوله : ثالث ثلاثة ، أحد الهة ثلاثة . قال المفسرون : أرادوا بذلك أن الله تعالى وعيسى وأمه آلهة ثلاثة ، ويؤكده ) قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( ) مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً ( ) أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ ( ) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ). وحكى المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون : جوهر واحد ثلاثة أقانيم : أب ، وابن ، وروح قدس . وهذه الثلاثة إله واحد ، كما أن الشمس تتناول القرص والشعاع والحرارة ، وعنوا بالأب الذات ، وبالابن الكلمة ، وبالروح الحياة . وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا : إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالحمر ، أو اختلاط اللبن بالماء ، وزعموا أن الأب إله ، والابن إله ، والروح إله ، والكل إله واحد . وهذا معلوم البطلان ببديهة العقل أن الثلاثة لا تكون واحداً ، وأن الواحد لا يكون ثلاثة ، ولا يجوز في العربية في ثالث ثلاثة إلا الإضافة ، لأنك لا تقول ثلثت الثلاثة . وأجاز النصب في الذي يلي اسم الفاعل الموافق له في اللفظ أحمد بن يحيى ثعلب ، وردّوه عليه جعلوه كاسم الفاعل مع العدد المخالف نحو : رابع ثلاثة ، وليس مثله إذ تقول : ربعت الثلاثة أي صيرتهم بك أربعة .
( وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ واحِدٌ ( معناه لا يكون إله في الوجود إلا متصفاً بالوحدانية ، وأكد ذلك بزيادة من الاستغراقية وحصر إلهيته في صفة الوحدانية . وإله رفع على البدل من إله على الموضع . وأجاز الكسائي إتباعه على اللفظ ، لأنه يجيز زيادة من في الواجب ، والتقدير : وما إله في الوجود إلا إله واحد أي : موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله تعالى .
( وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( أي عما يفترون ويعتقدون في عيسى من أنه هو الله ، أو أنه ثالث ثلاثة ، أوعدهم بإصابة العذاب الأليم لهم في الدنيا بالسبي والقتل ، وفي الآخرة بالخلود في النار ، وقدم الوعيد على الاستدلال بسمات الحدوث إبلاغاً في الزجر أي : هذه المقالة في غاية الفساد ، بحيث لا تختلف العقول في فسادها ، فلذلك توعد أوّلاً عليها بالعذاب ، ثم اتبع الوعيد بالاستدلال بسمات الحدوث على بطلانها .
وليمسنّ اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط ، وأكثر ما يجيء هذا التركيب وقد صحبت أن اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله : ) لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ( ونظير هذه الآية : ) وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ومثله : ) وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( ومعنى مجيء إن بغير باء ، دليل على أنه قبل إنْ قسم محذوف إذ لولا نية القسم لقال : فإنكم لمشركون الذين كفروا أي : الذين ثبتوا على هذا الإعتقاد . وأقام الظاهر مقام المضمر ، إذ كان الربط بحصل بقوله : ليمسنهم ، لتكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله : لقد كفر وللإعلام بأنهم كانوا بمكان من الكفر ، إذ جعل الفعل في صلة الذين وهي تقتضي كونها معلومة للسامع مفروغاً من ثبوتها ، واستقرارها لهم ومن في منهم للتبعيض ، أي كائناً منهم ، والربط حاصل بالضمير ، فكأنه قيل : كافرهم وليسوا كلهم بقوا على الكفر ، بل قد تاب كثير منهم من النصرانية . ومن أثبت أنّ مَن تكون لبيان الجنس أجاز ذلك هنا ، ونظره بقوله : ) فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ).
المائدة : ( 74 ) أفلا يتوبون إلى . . . . .
( أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ( هذا لطف بهم واستدعاء إلى التنصل من تلك المقالة الشنعاء بعد أن كرّر عليهم الشهادة بالكفر . والفاء في أفلا للعطف ، حجزت بين الاستفهام ولا النافية ، والتقدير : فألا . وعلى طريقة الزمخشري تكون قد عطفت

" صفحة رقم 545 "
فعلاً على فعل ، كأن التقدير : أيثبتون على الكفر فلا يتوبون ، والمعنى على التعجب من انتفاء توبتهم وعدم استغفارهم ، وهم أجدر الناس بذلك ، لأن كفرهم أقبح الكفر ، وأفضح في سوء الإعتقاد ، فتعجب من كونهم لا يتوبون من هذا الجرم العظيم . وقال الفراء : هو استهفام معناه الأمر كقوله : ) فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ). قال : إنما كان بمعنى الأمر ، لأنّ المفهوم من الصيغة طلب التوبة والحث عليها ، فمعناه : توبوا إلى الله واستغفروه من ذنبكم القولين المستحيلين انتهى . وقال ابن عطية : رفق جل وعلا بهم بتحضيضه إياهم على التوبة وطلب المغفرة انتهى . وما ذكروه من الحث والتحضيض على التوبة من حيث المعنى ، لا من حيث مدلول اللفظ ، لأن أفلا غير مدلول ألا التي للحض والحث .
( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( نبه تعالى على هذين الوصفين اللذين بهما يحصل قبول التوبة والغفران للحوبة ، والمعنى : كيف لا توجد التوبة من هذا الذنب وطلب المغفرة والمسؤول منه ذلك متصف بالغفران التام والرحمة الواسعة لهؤلاء وغيرهم ؟
المائدة : ( 75 ) ما المسيح ابن . . . . .
( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ( لما رد على النصارى قولهم الأول بقول المسيح : ) اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ ( والثاني بقوله : ) وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ واحِدٌ ( أثبت له الرسالة بصورة الحصر ، أي ما المسيح ابن مريم شيء مما تدعيه النصارى من كونه إلهاً وكونه أحد آلهة ثلاثة ، بل هو رسول من جنس الرسل الذين خلوا وتقدموا ، جاء بآيات من عند الله كما جاءوا ، فإن أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص على يده ، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى ، وفلق البحر ، وطمس على يد موسى ، وإن خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر وأنثى . وفي قوله : إلا رسول رد على اليهود حيث ادعوا كذبه في دعوى الرسالة ، وحيث ادعوا أنه ليس لرشده . وقرأ حطان : من قبله رسل بالتنكير .
( وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ ( هذا البناء من أبنية المبالغة ، والأظهر أنه من الثلاثي المجرد ، إذ بناء هذا التركيب منه سكيت وسكير ، وشريب وطبيخ ، من سكت وسكر ، وشرب وطبخ . ولا يعمل ما كان مبنياً من الثلاثي المتعدي كما يعمل فعول وفعالومفعال ، فلا يقال : زيد شريب الماء ، كما تقول : ضراب زيداً ، والمعنى : الإخبار عنها بكثرة الصدق . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من التصديق ، وبه سمي أبو بكر الصديق . ولم يذكر الزمخشري غير أنه من التصديق . وهذا القول خلاف الظاهر من هذا البناء . قال الزمخشري : وأمه صديقة أي وما أمه لا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم ، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين : أحدهما نبي ، والآخر صحابي ، فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم ؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه انتهى . وفيه تحميل لفظ القرآن ما ليس فيه ، من ذلك أن قوله : وأمه صديقة ليس فيه إلا الإخبار عنها بصفة كثرة الصدق ، وجعله هو من باب الحصر فقال : وما أمه إلا كبعض النساء المصدقات إلى آخره ، وهكذا عادته يحمل ألفاظ القرآن ما لا تدل عليه . قال الحسن : صدقت جبريل عليه السلام لما أتاها كما حكى تعالى عنها : ) وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ ). وقيل : صدقت بآيات ربها ، وبما أخبر به ولدها . وقيل : سميت بذلك لمبالغتها في صدق حالها مع الله ، وصدقها في براءتها مما رمتها به اليهود . وقيل : وصفها بصديقة لا يدل على أنها نبية ، إذ هي رتبة لا تستلزم النبوة . قال تعالى : ) فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ ( ومن ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ولا يلزم من تكليم الملائكة بشراً نبوته فقد كلمت الملائكة قوماً ليسوا بأنبياء لحديث الثلاثة : الأقرع ، والأعمى ، والأبرص . فكذلك مريم .
( كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ( هذا تنبيه على سمة الحدوث ، وتبعيد عما اعتقدته النصارى فيهما من الإلهية ، لأنّ من احتاج إلى الطعام وما يتبعه من العوارض لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك ، وهو مما يدل على مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام ، ولا حاجة تدعو إلى قولهم : كانا يأكلان الطعام كناية عن خروجه ، وإن كان قد قاله جماعة من المفسرين ، وإنما ذلك تنبيه على سمات الحدوث . والحاجة إلى التغذي المفتقر إليه الحيوان في قيامه المنزه عنه الإله ، قال

" صفحة رقم 546 "
تعالى : ) وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( وإن كان يلزم من الاحتياج إلى أكل الطعام خروجه ، فليس مقصوداً من اللفظ مستعاراً له ذلك . وهذه الجملة استئناف إخبار عن المسيح وأمه منبهة كما ذكرنا على سمات الحدوث ، وأنهما مشاركان للناس في ذلك ، ولا موضع لهذه من الجملة من الإعراب .
( انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الاْيَاتِ ( أي الاعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان ما اعتقدوه ، وهذا أمر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وفي ضمن ذلك الأمر لأمته في ضلال هؤلاء وبعدهم عن قبول ما نبهوا عليه .
( ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( كرر الأمر بالنظر لاختلاف المتعلق ، لأن الأول : أثر بالنظر في كونه تعالى أوضح لهم الآيات وبينها بحيث لا يقع معها لبس ، والأمر الثاني : هو بالنظر في كونهم يصرفون عن استماع الحق وتأمله ، أو في كونهم يقلبون ما بين لهم إلى الضد منه ، وهذان أمرا تعجيب . ودخلت ثم لتراخي ما بين العجبين ، وكأنه يقتضي العجب من توضيح الآيات وتبيينها ، ثم ينظر في حال من بينت له فيرى إعراضهم عن الآيات أعجب من توضيحها ، لأنه يلزم من تبيينها تبينها لهم والرجوع إليها ، فكونهم أفكوا عنها أعجب .
( ) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِىإِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( )
7 )
المائدة : ( 76 ) قل أتعبدون من . . . . .
( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ( لما بين تعالى بدليل النقل والعقل انتفاء الإلهية عن عيسى ، وكان قد توعدهم ثم استدعاهم للتوبة وطلب الغفران ، أنكر عليهم ووبخهم من وجه آخر وهو عجزه وعدم اقتداره على دفع ضرر وجلب نفع ، وأنّ مَن كان لا يدفع عن نفسه حريّ أن لا يدفع عنكم . والخطاب للنصارى ، نهاهم عن عبادة عيسى وغيره ، وأن ما يعبدون من دون الله مساويهم في العجز وعدم القدرة . والمعنى : ما لا يملك لكم إيصال خير ولا نفع . قيل : وعبر بما تنبيهاً على أول أحواله ، إذْ مرّت عليه أزمان حالة الحمل لا يوصف بالعقل فيها ، ومن هذه صفته فكيف يكون إلهاً ، أو لأنها مبهمة كما قال سيبويه . وما : مبهمة تقع على كل شيء ، أو أريد به ما عبد من دون الله ممن يعقل ، وما لا يعقل . وعبر بما تغليباً لغير العاقل ، إذ أكثر ما عبد من دون الله هو ما لا يعقل كالأصنام والأوثان ، أو أريد النوع أي : النوع الذي لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً كقوله : ) فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( أي النوع الطيب ، ولما كان إشراكهم بالله تضمن القول والاعتقاد جاء الختم بقوله :
) وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( أي السميع لأقوالكم ، العليم باعتقادكم وما انطوت عليه نياتكم . وفي الإخبار عنه بهاتين الصفتين تهديد ووعيد على ما يقولونه ويعتقدونه ، وتضمنت الآية الإنكار عليهم حيث عبدوا من دونه من هو متصف بالعجز عن دفع ضرر أو جلب نفع . قيل : ومن مرّت عليه مدد لا يسمع فيها ولا يعلم ، وتركوا القادر على الإطلاق السميع للأصوات العليم بالنيات .
المائدة : ( 77 ) قل يا أهل . . . . .
( قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ ( ظاهره نداء أهل الكتاب الحاضرين زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويتناول من جاء بعدهم . ولما سبق القول في أباطيل اليهود وأباطيل النصارى ، جمع الفريقان في النهي عن الغلوّ في الدين . وانتصب غير الحق وهو الغلو الباطل ، وليس المراد بالدين هنا ما هم عليه ، بل المراد الدين الحق الذي جاء به موسى وعيسى . قال الزمخشري : الغلو في الدين غلوان : غلو حق ، وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه

" صفحة رقم 547 "
كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد ، وغلو باطل وهو أن يجاوز الحق ويتعداه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعل أهل الأهواء والبدع انتهى . وأهل العدل والتوحيد هم أئمة المعتزلة ، وأهل الأهواء والبدع عنده هم أهل السنة ، ومن عدا المعتزلة . ومن غلوا اليهود إنكار نبوة عيسى ، وادعاؤهم فيه أنه الله . ومن غلوّ النصارى ما تقدّم من اعتقاد بعضهم فيه أنه الله ، وبعضهم أنه أحد آلهة ثلاثة . وانتصاب غير هنا على الصفة أي : غلوّاً غير الحق . وأبعد مَن ذهب إلى أنها استثناء متصل ، ومن ذهب إلى أنها استثناء ويقدره : لكن الحق فاتبعوه .
( وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ( هؤلاء القوم هم أسلاف اليهود والنصارى ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم كثيراً ، ثم عين ما ضلوا عنه وهو السبيل السوي الذي هو وسط في الدين وهو خيرها فلا إفراط ولا تفريط ، بل هو سواء معتدل خيار . وقيل : الخطاب للنصارى ، وهو ظاهر كلام الزمخشري قال : قد ضلوا من قبل هم أئمتهم في النصرانية كانوا على الضلال قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأضلوا كثيراً ممن شايعهم على التثليث ، وضلوا لما بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن سواء السبيل حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه . وقال ابن عطية : هذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى ، والقوم الذين نهى النصارى عن اتباع أهوائهم والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل ، بل هم في الضد بالأقوال ، وإنما اجتمعوا في اتباع موضع الهوى . فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج : هذه الطريقة طريقة فلان تمثله بآخر قد اعوج نوعاً من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله . ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديماً ، وأضلوا كثيراً من أتباعهم ، ثم أكد الأمر بتكرار قوله : وضلوا عن سواء السبيل . وذهب بعض المتأولين إلى أنّ المعنى : يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل أي : ضل أسلافهم ، وهم قبل مجيء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأضلوا كثيراً من المنافقين ، وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق انتهى . ولا حاجة لإخراج الكلام عن ظاهره من أنه نداء لأهل الكتاب طائفتي : اليهود ، والنصارى . وأن قوله : ولا تتبعوا أهواء قوم ، هم أسلافهم . فإن الزائغ عن الحق كثيراً ما يعتذر أنه على دين أبيه وطريقته ، كما قالوا : ) بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا ( فنهوا عن اتباع أسلافهم ، وكان في تنكير قوم تحقير لهم . وما ذهب إليه الزمخشري تخصيص لعموم من غير داعية إليه . وما ذهب إليه ابن عطية أيضاً تخصيص وتأويل بعيد في قوله : ولا تتبعوا أهواء قوم أن المراد بهم اليهود ، وأن المعنى : لا تكونوا على هوى كما كان اليهود على هوى ، لأن الظاهر النهي عن اتباع أهواء أولئك القوم . وأبعد من ذهب إلى أنّ الضلال الأول عن الدّين ، والثاني عن طريق الجنة .
المائدة : ( 78 ) لعن الذين كفروا . . . . .
( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودُ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ( قال ابن عباس : لعنوا بكل لسان . لعنوا على عهد موسى في التوراة ، وعلى عهد داود في الزبور ، وعلى عهد عيسى في الإنجيل ، وعلى عهد محمد في القرآن . وروى ابن جريج : أنه اقترن بلعنتهم على لسان داود أن مسخوا خنازير ، وذلك أن داود مرّ على نفروهم في بيت فقال : من في البيت ؟ قالوا : خنازير على معنى الاحتجاب ، قال : اللهم خنازير ، فكانوا خنازير . ثم دعا عيسى على من افترى عليه وعلى أمه ولعنهم . وروي عن ابن عباس : لعن على لسان داود أصحاب السبت ، وعلى لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة . وقال أكثر المفسرين : إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود : اللهم العنهم واجعلهم آية ، فمسخوا قردة . ولما كفر أصحاب عيسى بعد المائدة

" صفحة رقم 548 "
قال عيسى : اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين ، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت ، فأصبحوا خنازير ، وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي . وقال الأصم وغيره : بشّر داود وعيسى بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولعنا من كذبه . وقيل : دعوا على من عصاهما ولعناه . وروي أن داود قال : اللهم ليلبسوا اللعنة مثل الرّداء ومثل منطقة الحقوين ، اللهم اجعلهم آية ومثالاً لخلقك .
والظاهر من الآية الإخبار عن أسلاف اليهود والنصارى أنهم ملعونون . وبناء الفعل للمفعول يحتمل أن يكون الله تعالى هو اللاعن لهم على لسان داود وعيسى ، ويحتمل أن يكونا هما اللاعنان لهم . ولما كانوا يتبجحون بأسلافهم وأنهم أولاد الأنبياء ، أخبروا أنّ الكفار منهم ملعونون على لسان أنبيائهم . واللعنة هي الطرد من رحمة الله ، ولا تدل الآية على اقتران اللعنة بمسخ . والأفصح أنه إذا فرق منضماً الجزئين اختير الإفراد على لفظ التثنية وعلى لفظ الجمع ، فكذلك جاء على لسان مفرداً ولم يأت على لساني داود وعيسى ، ولا على ألسنة داود وعيسى . فلو كان المنضمان غير متفرّقين اختير لفظ الجمع على لفظ التثنية وعلى الإفراد نحو قوله : ) فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( والمراد باللسان هنا الجارحة لا اللغة ، أي الناطق بلعنتهم هو داود وعيسى .
( ذالِكَ بِمَا عَصَواْ ( أي ذلك اللعن كان بسبب عصيانهم ، وذكر هذا على سبيل التوكيد ، وإلا فقد فهم سبب اللعنة بإسنادها إلى من تعلق به الوصف الدال على العلية ، وهو الذين كفروا . كما تقول : رجم الزاني ، فيعلم أنّ سببه الزنا . كذلك اللعن سببه الكفر ، ولكن أكد بذكره ثانية في قوله : ذلك بما عصوا .
( وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ( يحتمل أن يكون معطوفاً على عصوا ، فيتقدر بالمصدر أي : وبكونهم يعتدون ، يتجاوزون الحد في العصيان والكفر ، وينتهون إلى أقصى غاياته . ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء ، ويقوي هذا ما جاء بعده كالشرح وهو قوله :
المائدة : ( 79 ) كانوا لا يتناهون . . . . .
( كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ( ظاهره التفاعل بمعنى الاشتراك أي : لا ينهى بعضهم بعضاً ، وذلك أنهم جمعوا بن فعل المنكر والتجاهر به ، وعدم النهي عنه . والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد ينبغي أن يستتر بها من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر ، فإذا فعلت جهاراً وتواطؤا على عدم الإنكار كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإفشائها وكثرتها . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيراً للمعصية ؟ ( قلت ) : من قبل أنّ الله تعالى أمر بالتناهي ، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء ، لأنّ في التناهي حسماً للفساد . وفي حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، فإنه لا يحل لك . ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك ، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ثم قرأ لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل الآية إلى قوله فاسقون ثم قال : والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن به على يد الظالم ولتأطرنه عن الحق اطراً ، أو ليضرب الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعنكم كما لعنهم )

" صفحة رقم 549 "
أخرجه الترمذي . ومعنى لتأطرنه لتردنه . وقيل : التفاعل عنا بمعنى الافتعال يُقال : انتهى عن الأمر وتناهى عنه إذا كف عنه ، كما تقول : تجاوزوا واجتوزوا . والمعنى : كانوا لا يمتنعون عن منكر . وظاهر المنكر أنه غير معين ، فيصلح إطلاقه على أيّ منكر فعلوه . وقيل : صيد السمك يوم السبت . وقيل : أخذ الرشا في الحكم . وقيل : أكل الربا وأثمان الشحوم . ولا يصح التناهي عما فعل ، فإما أن يكون المعنى أرادوا فعله كما ترى آلات أمارات الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فينكر ، وإما أن يكون على حذف مضاف أي : معاودة منكر أو مثل منكر .
( لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ( ذم لما صدر عنهم من فعل المنكر وعدم تناهيهم عنه . وقال الزمخشري : تعجيب من سوء فعلهم ، مؤكداً لذلك بالقسم ، فيا حسرتا على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المنكر وقلة عنايتهم به كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كتاب الله ، وما فيه من المبالغات في هذا الباب انتهى . وقال حذّاق أهل العلم : ليس من شروط الناهي أن يكون سليماً من المعصية ، بل ينهي العصاة بعضهم بعضاً . وقال بعض الأصوليين : فرض على الذين يتعطون الكؤوس أن ينهي بعضهم بعضاً ، واستدل بهذه الآية لأن قوله : لا يتناهون وفعلوه ، يقتضي اشتراكهم في الفعل ، وذمهم على ترك التناهي . وفي الحديث : ( لا يزال العذاب مكفوف عن العباد ما استتروا بمعاصي الله ، فإذا أعلنوها فلم ينكروها استحقوا عقاب الله تعالى ) .
المائدة : ( 80 ) ترى كثيرا منهم . . . . .
( تَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الظاهر عود الضمير في : منهم ، على بني إسرائيل فقال مقاتل : كثيراً منهم هو من كان بحضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يتولون الكفار وعبدة الأوثان ، والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه الذين استجلبوا المشركين على الرسول ، وعلى هذا يكون ترى بصرية ، ويحتمل أن تكون من رؤية القلب ، فيحتمل أن يراد أسلافهم أي : ترى الآن إذ أخبرناك . وقيل : كثيراً منهم منافقو أهل الكتاب كانوا يتولون المشركين . وقيل : هو كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل عني به المنافقون تولوا اليهود روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد .
( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ( تقدّم الكلام على إعراب ما قال الزمخشري في قوله : أن سخط الله ، أنه هو المخصوص بالذم ومحله الرفع كأنه قيل : لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم ، والمعنى موجب سخط الله عليهم انتهى . ولا يصح هذا الإعراب إلا على مذهب الفرّاء ، والفارسي في أنّ ما موصولة ، أو على مذهب من جعل في بئس ضميراً ، وجعل ما تمييزاً بمعنى شيئاً ، وقدّمت صفة التمييز . وأما على مذهب سيبويه فلا يستوي ذلك ، لأن ما عنده اسم تام معرفة بمعنى الشيء ، والجملة بعده صفة للمخصوص المحذوف ، والتقدير : لبئس الشيء قدّمت لهم أنفسهم ، فيكون على هذا أن سخط الله في موضع رفع بدل من ما انتهى . ولا يصح هذا سواء كانت موصولة ، أم تامة ، لأن البدل يحل محل المبدل منه ، وأن سخط لا يجوز أن يكون فاعلاً لبئس ، لأن فاعل نعم وبئس لا يكون أن والفعل . وقيل : إن سخط في موضع نصب بدلاً من الضمير المحذوف في قدّمت ، أي : قدّمته كما تقول : الذي ضربت زيداً أخوك تريد ضربته زيداً . وقيل : على إسقاط اللام أي : لأن سخط .
( وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ( لما ذكر ما قدّموا إلى الآخرة زاداً ، وذمّه بأبلغ الذم ، ذكر ما صاروا إليه وهو العذاب وأنهم خالدون فيه ، وأنه ثمرة سخط الله ، كما أن السخط ثمرة العصيان

" صفحة رقم 550 "
المائدة : ( 81 ) ولو كانوا يؤمنون . . . . .
( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء ( إن كان المراد بقوله : ) تَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ ( أسلافهم ، فالنبي داود وعيسى أو معاصري الرسول ، فالنبي هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والذين كفروا عبدة الأوثان . والمعنى : لو كانوا يؤمنون إيماناً خالصاً غير نفاق ، إذ موالاة الكفار دليل على النفاق . والظاهر في ضمير كانوا وضمير الفاعل في ما اتخذوهم أنه يعود على كثيراً منهم ، وفي ضمير المفعول أنه يعود على الذين كفروا . وقال القفال وجهاً آخر وهو : أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء . والوجه الأول أولى ، لأن الحديث إنما هو عن قوله كثيراً منهم ، فعود الضمائر على نسق واحد أولى من اختلافها . وجاء جواب لو منفياً بما بغير لام ، وهو الأفصح ، ودخول اللام عليه قليل نحو قوله : لو أن بالعلم تعطى ما تعيش به
لما ظفرت من الدنيا بنقرون
) وَلَاكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( خص الكثير بالفسق ، إذ فيهم قليل قد آمن .
والمخبر عنهم أولاً هو الكثير ، والضمائر بعده له ، وليس المعنى . ولكنّ كثيراً من ذلك الكثير . ولكنه لما طال أعيد بلفظه ، وكان من وضع الظاهر بلفظه موضع الضمير ، إذ كان السياق يكون : ما اتخذوهم أولياء ، ولكنهم فاسقون . فوضع الظاهر موضع هذاالضمير .

" صفحة رقم 3 "
2 ( ) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىأَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِىأَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِىأَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاٌّ يْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاٌّ نصَابُ وَالاٌّ زْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءَامَنُوا

" صفحة رقم 4 "
ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِىإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } )
المائدة : ( 82 ) لتجدن أشد الناس . . . . .
القَسَّ بفتح القاف تتبّع الشيء . قال رؤبة : أصبحن عن قَسّ الأذى غوافلا
يمشين هوناً حُرَّداً بهاللا
ويقال قَسَّ الأثر تتبعه ، وقصه أيضاً . والقَسَّ : رئيس النصارى في الدين والعلم ، وجمعه قسوس ، سمي بالمصدر لتتبعه العلم والدّين ، وكذلك القِسّيس فِعّيل كالشِّرِّيب ، وجمع القِسِّيس بالواو والنون ، وجمع أيضاً على قَساوِسَة ، قال أمية بن أبي الصلت : لو كان منقلب كانت قساوسة
يحييهم الله في أيديهم الزُّبُرُ
قال الفرّاء : هو مثلُ مَهَالبة ، كثرت السيئات فأبدلوا إحداهنّ واواً ، يعني أن قياسه قساسة . وزعم ابن عطية أن القسّ بفتح القاف وكسرها ، والقِسّيس اسم أعجمي عُرّب .
الطمع قريب من الرجا ، يقال منه : طمع يطمع طمعاً وطماعةً وطماعيةً ؛ قال الشاعر :
طماعية أن يغفر الذنب غافر

" صفحة رقم 5 "
واسم الفاعل طمع .
الرّجس اسم لكل ما يستقذر من عمل ، يقال : رجس الرجل يرجس رجساً إذا عمل عملاً قبيحاً ، وأصله من الرجس ، وهو شدّة الصوت بالرّعد ؛ قال الراجز : مِنْ كلّ رجاس يسوق الرّجسا
وقال ابن دريد : الرجز الشر ، والرجز العذاب ، والركس العَذَرة والنتن ، والرجس يقال للأمرين .
الرمح معروف ، وجمعه في القِلّة أرماح ، وفي الكثرة رماح ، وَرَمَحَهُ : طعنه بالرمح ، ورجل رامح : أي ذو رمح ولا فعل له من معنى ذي رمح ، بل هو كلابن وتامر ، وثور رامح : له قرنان ، قال ذو الرّمة :
وكائن ذعرناه من مهاة ورامح
بلاد الورى ليست لها ببلاد
والرّماح : الذي يتخذ الرمح وصنعة الرماحة .
الوبال : سوء العاقبة ، ومرعى وبيل : يتأذى به بعد أكله .
البرّ : خلاف البحر . وقال الليث : يستعمل نكرة ، يقال : جلست بَرّاً وخرجت برّاً ، وقال الأزهري : هي من كلام المولدين ، وفي حديث سلمان ( إن لكل أمر جوانيّاً وبرانيّاً ) كنى بذلك عن السرّ والعلانية ، وهو من تغيير النسب .
( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ).
قال قتادة نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة مما جاء به عيسى ، آمنوا بالرسول ، فأثنى الله عليهم ، قيل هو النجاشي وأصحابه تلا عليهم جعفر بن أبي طالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع ، وقيل هم وفد النجاشي مع جعفر إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكانوا سبعين بعثهم إلى الرسول عليهم ثياب الصوف ، اثنان وستون من الحبشة ، وثمانية من الشام ، وهم بحيرا الراهب وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن ، فقرأ عليهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يس ، فبكوا وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى ، فأنزل الله فيهم هذه الآية .
وروي عن مقاتل والكلبي أنهم كانوا أربعين من بني الحارث بن كعب من نجران ، واثنين وثمانين من الحبشة ، وثمانية وستين من الشام .
وروي عن ابن جبير قريب من هذا ، وظاهر اليهود العموم من كان بحضرة الرسول من يهود المدينة وغيرهم ، وذلك أنهم مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم وعلى العتوّ والمعاصي ، واستشعارهم اللعنة وضرب الذلة والمسكنة ، فتحرّرت عداوتهم وكيدهم وحسدهم وخبثهم ، وفي الحديث : ( ما خلا يهوديان بمسلم إلا همّا بقتله ) وفي وصف الله إياهم بأنهم أشدّ عداوة إشعار بصعوبة إجابتهم إلى الحق ، ولذلك قلّ إسلام اليهود .
وقيل ) الْيَهُودُ ( هنا هم يهود المدينة لأنهم هم الذين مالؤوا المشركين على المسلمين . وعطف ) الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( على ) الْيَهُودُ ( جعلهم تبعاً لهم في ذلك إذ كان اليهود أشدّ في العداوة ، إذ تباينوا هم والمسلمون في الشريعة لا في الجنس ، إذ بينهم وشائج متصلة من القرابات والأنساب القريبة فتعطفهم على كل حال الرحم على المسلمين ، ولأنهم ليسوا على شريعة من عند الله ، فهم أسرع للإيمان من كلّ أحد من اليهود والنصارى ، وعطفوا

" صفحة رقم 6 "
هنا كما عطفوا في قوله : ) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( واللام في ) لَتَجِدَنَّ ( هي الملتقى بها القسم المحذوف .
وقال ابن عطية : هي لام الابتداء ، وليس بمرضيّ ، و ) النَّاسِ ( هنا الكفار ، أي ولتجدن أشدّ الكفار عداوة .
( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ( أي هم ألين عريكةً وأقرب ودًّا . ولم يصفهم بالودّ إنما جعلهم أقرب من اليهود والمشركين ، وهي أمّة لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكرها عمرو بن العاص في صحيح مسلم ، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه ديناً وإيماناً ، ويبغضون أهل الفسق ، فإذا سالموا فسلمهم صافٍ ، وإذا حاربوا فحربهم مدافعة ، لأن شرعهم لا يأمرهم بذلك ، وحين غلب الروم فارس سُرّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لغلبة أهل الكتاب لأهل عبادة النار ، ولإهلاك العدوّ الأكبر بالعدوّ الأصغر إذ كان مخوفاً على أهل الإسلام ، واليهود ليسوا على شيء من أخلاق النصارى ، بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة ، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يترقب ما يغتالك به ألا ترى إلى ما حكى تعالى عنهم ) ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( وفي قوله تعالى : ) الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ( إشارة إلى أنهم ليسوا متمسكين بحقيقة النصرانية ، بل ذلك قول منهم وزعم ، وتعلق ) لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ( الأول ) بعداوة ( والثاني ) بمودة ). وقيل هما في موضع النعت ووصف العداوة بالأشد والمودّة بالأقرب دليل على تفاوت الجنسين بالنسبة إلى المؤمنين ، فتلك العداوة أشد العداوات وأظهرها ، وتلك المودة أقرب وأسهل ، وظاهر الآية يدلّ على أنّ النصارى أصلح حالاً من اليهود وأقرب إلى المؤمنين مودة ، وعلى هذا الظاهر فسر الآية على من وقفنا على كلامه .
قال بعضهم : وليس على ظاهره وإنما المراد أنهم أكثر أسباب مودة من اليهود ، وذلك ذم لهم ، فإن من كثرت أسباب مودته كان تركه للمودة أفحش ، ولهذا قال أبو بكر الرازي : من الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحاً للنصارى وإخباراً بأنهم خير من اليهود ، وليس كذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يدل عليه ما ذكره في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول ، ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أنعم في مقالتي الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فساداً من مقالة اليهود ، لأن اليهود تقرّباً بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة ببعض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه ؛ انتهى كلام أبي بكر الرازي والظاهر ما قاله المفسرون وغيره من أن النصارى على الجملة أصلح حالاً من اليهود ، وقد ذكر المفسرون فيما تقدم ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق ، والدخول في الإسلام سريعاً ، وليس الكلام وارداً بسبب العقائد ، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين ، وأما قوله لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول ليس كما ذكر ، بل صدر الآية يقتضي العموم لأنه قال : ) أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ( ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهاد ومتواضعين وسريعي استجابة للإسلام وكثيري بكاء عند سماع القرآن ، واليهود بخلاف ذلك والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين وبعد اليهود .
( ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( الإشارة بذلك إلى أقرب المودة عليه ، أي منهم علماء وعباد وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة ، وليسوا مستكبرين واليهود على خلاف ذلك لم يكن فيهم قط أهل ديارات ولا صوامع وانقطاع عن الدنيا ، بل هم معظمون متطاولون لتحصيلها حتى كأنهم لا يؤمنون بآخرة ولذلك لا يرى فيهم

" صفحة رقم 7 "
زاهد ، والرهبان جمع راهب كفارس وفرسان والرهب والرهبة الخشية . وقيل الرهبان مفرد كسلطان وأنشدوا : لو عاينت رهبان دير في القلل
تحدر الرهبان تمشي وتزل
ويروي ونزل ، والقسيس تقدم شرحه في المفردات . وقال ابن زيد : هو رأس الرهبان . وقيل : العالم . وقيل : رافع الصوت بالقراءة . وقيل : الصديق ، وفي هذا التعليل دليل على جلاله العلم ، وأنه سبيل إلى الهداية ، وعلى حسن عاقبة الانقطاع ، وأنه طريق إلى النظر في العاقبة على التواضع ، وأنه سبب لتعظيم الموحد إذ يشهد من نفسه ومن كل محدث أنه مفتقر للموجد فيعظم عند مخترع الأشياء البارىء
المائدة : ( 83 ) وإذا سمعوا ما . . . . .
( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ ( هذا وصف برقة القلوب والتأثر بسماع القرآن ، والظاهر أن الضمير يعود على قسيسين ورهباناً فيكون عامّاً ، ويكون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم كما جرى للنجاشي حيث تلا عليه جعفر سورة مريم إلى قوله ) ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ( وسورة طه إلى قوله ) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ( فبكى وكذلك قومه الذين وفدوا على الرسول حين قرأ عليها ) يس ( فبكوا .
وقال ابن عطية ما معناه : صدر الآية عام في النصارى و ) إِذَا سَمِعُواْ ( عام في من آمن من القادمين من أرض الحبشة ، إذ ليس كل النصارى يفعل ذلك ، بل هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويسمعوا ما عنده ، فلما رأوه وتلا عليهم القرآن فاضت أعينهم من خشية الله تعالى ، انتهى .
وقال السديّ : لما رجعوا إلى النجاشي آمن وهاجر بمن معه فمات في الطريق ، فصلى عليه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمسلمون واستغفروا له ، ( وَتَرَى ( من رؤية العين وأسند الفيض إلى الأعين وإن كان حقيقة للدموع كما قال :
ففاضت دموع العين مني صبابة
إقامة للمسبب مقام السبب ، لأن الفيض مسبب عن الامتلاء ، فالأصل ترى أعينهم تمتلىء من الدمع حتى تفيض ، لأن الفيض على جوانب الإناء ناشىء عن امتلائه ، قال الشاعر :
وقد يملأ الماء الإناء فيفعم
ويحتمل أنه أسند الفيض إلى الأعين على سبيل المبالغة في البكاء لما كانت تفاض فيها جعلت الفائضة بأنفسها على سبيل المجاز والمبالغة ، و ) مِنْ ( في ) مِنَ الدَّمْعِ ( قال أبو البقاء : فيه وجهان أحدهما : أن ) مِنْ ( لابتداء الغاية أي فيضها من كثرة الدموع والثاني : أن يكون حالاً ، والتقدير تفيض مملوءة من الدمع مما عرفوا من الحق ، ومعناها من أجل الذي عرفوه ، و ) مِنَ الْحَقّ ( حال من العائد المحذوف أو حال من ضمير الفاعل في عرفوا .
وقيل : ) مِنْ ( في ) مِنَ الدَّمْعِ ( بمعنى الباء أي بالدمع .
وقال الزمخشري : ) مِنَ الدَّمْعِ ( من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعاً .
( فإن قلت ) : أي فرق بين ) مِنْ ( ) وَمِنْ ( في قوله : ) مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ ( ( قلت ) : الأول لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق ، وكان من أجله وسببه ، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا ، ويحتمل معنى

" صفحة رقم 8 "
التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم ، انتهى .
والجملة من قوله : ) وَإِذَا سَمِعُواْ ( تحتمل الاستئناف ، وتحتمل أن تكون معطوفة على خبر إنهم . وقرىء : ) تَرَى أَعْيُنَهُمْ ( على البناء لما لم يسمّ فاعله ) يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( المراد بآمنا أنشأنا الإيمان الخاص بهذه الأمة الإسلامية . والشاهدون : قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقالوا ذلك هم شهداء على سائر الأمم ، كما قال تعالى : ) لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( قال الزمخشري : وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك ، انتهى . وقال الطبري : معناه ولو قيل معناه مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان صواباً .
وقيل : مع الذين يشهدون بالحق .
وقال الزجاج المراد بالشاهدين الأنبياء ، والمؤمنون ، والكتابة في اللوح المحفوظ . وقيل : معناه أثبتنا من قولهم كتب فلان في الجند أي ثبت ، و ) يَقُولُونَ ( في موضع نصب على الحال ، قاله ابن عطية وأبو البقاء ، ولم يبينا ذا الحال ولا العامل فيها ، ولا جائز أن يكون حالاً من الضمير في أعينهم لأنه مجرور بالإضافة لا موضع له من رفع ولا نصب إلا على مذهب من ينزل الخبر منزلة المضاف إليه ، وهو قول خطأ ، وقد بينا ذلك في كتاب منهج السالك من تأليفنا ، ولا جائز أن يكون حالاً من ضمير الفاعل في ) عَرَفُواْ ( لأنها تكون قيداً في العرفان وهم قد عرفوا الحق في هذه الحال وفي غيرها ، فالأولى أن تكون مستأنفة ، أخبر تعالى عنهم بأنهم التبسوا بهذا القول ، والمعنى أنهم عرفوا الحق بقلوبهم ونطقت به وأقرت ألسنتهم .
المائدة : ( 84 ) وما لنا لا . . . . .
( وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقّ ( هذا إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبة وهو عرفان الحق . قال الزمخشري والتبريزي : وموجب الإيمان هو الطمع في دخولهم مع الصالحين ، والظاهر أن قولهم ذلك هو الظاهر لأنفسهم على سبيل المكالمة معها لدفع الوساوس والهواجش ، إذ فراق طريقة وسلوك أخرى لم ينشأ عليها مما يصعب ويشق ، أو قول بعض من آمن لبعض على سبيل التثبت أيضاً ، أو قولهم ذلك على سبيل المحاجة لمن عارضهم من الكفار ، لما رجعوا إليهم ولا موهم على الإيمان أي ، وما يصدنا عن الإيمان بالله وحده . وقد لاح لنا الصواب وظهر الحق النير .
وروي عن ابن عباس أن اليهود أنكروا عليهم ولاموهم فأجابوهم بذلك و ) لاَ نُؤْمِنُ ( في موضع الحال ، وهي المقصودة وفي ذكرها فائدة الكلام ، وذلك كما تقول : جاء زيد راكباً جواباً لمن قال : هل جاء زيد ماشياً أو راكباً ، والعامل فيها هو متعلق به الجار والمجرور ، رأي : أي شيء يستقرّ لنا ويجعل في انتفاء الإيمان عنا ، وفي مصحف عبد الله وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل علينا ربنا ونطمع وينبغي أن يحمل ذلك على تفسير قوله تعالى ) وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقّ ( لمخالفته ما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف .
( وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ( الأحسن والأسهل أن يكون استئناف إخبار منهم بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم بدخولهم مع الصالحين ، قالوا وعاطفة جملة على جملة ، و ) مَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ ( لا عاطفة على نؤمن أو على لا نؤمن ولا على أن تكون الواو واو الحال ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه .
وقال الزمخشري : والواو في ) وَنَطْمَعُ ( واو الحال ، والعامل في الحال معنى الفعل العامل في ) لاَ نُؤْمِنُ ( ن ، ولكن مفيداً بالحال الأولى لأنك لو أزلتها وقلت : وما لنا نطمع لم يكن كلاماً ، انتهى

" صفحة رقم 9 "
وماذكره من أن الحالين العامل فيهما واحد وهو ما في اللام من معنى الفعل ، كأنه قيل : أي شيء حصل لنا غير مؤمنين طامعين ليس بجيد ، لأن الأصح أنه لا يجوز أن يقضي العامل حالين لذي حال واحد لا بحرف عطف إلا أفعل التفضيل ، فالأصح أنه يجوز فيه ذلك ، وذوا الحال هنا واحد وهو الضمير المجرور بلام لنا ، ولأنه أيضاً تكون الواو دخلت على المضارع ، ولا تدخل واو الحال على المضارع إلا بتأويل ، فيحتاج أن يقدر : ونحن نطمع .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ) وَنَطْمَعُ ( حالاً من ) لاَ نُؤْمِنُ ( على أنهم أنكروا على أنفسهم لأنهم لا يوحدون الله ، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين ، انتهى .
وهذا ليس بجيد لأن فيه دخول واو الحال على المضارع ويحتاج إلى تأويل .
وقال الزمخشري : وأن يكون معطوفاً على ) لاَ نُؤْمِنُ ( على معنى وما لنا لا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين أو على معنى : وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين ، انتهى .
ويظهر لي وجه غير ما ذكروه وهو أن يكون معطوفاً على نؤمن على أنه منفي كنفي نؤمن ، التقدير : وما لنا لا نؤمن ولا نطمع فيكون في ذلك إنكار لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين : الإيمان والطمع في الدخول مع الصالحين و ) مَّعَ ( على بابها من المعية ، وقيل : بمعنى في والصالحون أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قاله ابن عباس أو الرسول وأصحابه ، قاله ابن زيد ، أو المهاجرون الأولون ، قاله مقاتل . وقيل : التقدير أن يدخلنا الجنة
المائدة : ( 85 ) فأثابهم الله بما . . . . .
( فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ( ظاهره أن الإثابة بما ذكر مترتبة على مجرد القول ، ولا بد أن يقترن بالقول الإعتقاد ويبين أنه مقترن به أنه قال : ) مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ ( فوصفهم بالمعرفة ، فدل على اقتران القول بالعلم ، وقال : ) ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ( فإما أن يكون من وضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على هذا الوصف بهم ، وأنهم أثيبوا لقيام هذا الوصف بهم ، وهو رتبة الإحسان ، وهي التي فسرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بقوله : ) أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ولا إخلاص ولا علم أرفع من هذه الرتبة ، وإما أن يكون أريد به العموم فيكونون قد اندرجوا في المحسنين على أن هذه الإثابة لم تترتب على مجرد القول اللفظي ، ولذلك فسره الزمخشري بقوله بما قالوا بما تكلموا به من اعتقاد وإخلاص من قولك : هذا قول فلان أي اعتقاده وما يذهب إليه انتهى .
وفسروا هذا القول بقولهم : ) وما لنا لا نؤمن بالله ( والذي يظهر أنه عنى به قولهم ) يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( لأنه هو الصريح في إيمانهم ، وأما قوله : ) لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ ( فليس فيه تصريح بإيمانهم ، وإنما هو إنكار على انتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه ، فلا تترتب عليه الإثابة .
وقرأ الحسن ) فَأَتَاهُمُ ( من الإيتاء بمعنى الإعطاء لا من الإثابة ، والإثابة أبلغ من الإعطاء ، لأنه يلزم أن يكون عن عمل بخلاف الإعطاء ، فإنه لا يلزم أن يكون عن عمل ولذلك جاء أخيراً ) وَذالِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ( نبه على أن تلك الإثابة هي جزاء ، والجزاء لا يكون إلا عن عمل
المائدة : ( 86 ) والذين كفروا وكذبوا . . . . .
( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( اندرج في ) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ ( اليهود والنصارى وغيرهم لما ذكر ما للمؤمن ذكر ما أعد للكافر .
المائدة : ( 87 ) يا أيها الذين . . . . .
( ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ (

" صفحة رقم 10 "
ذكروا سبب نزولها في قصة طويلة ملخصها أن جماعة من الصحابة عزموا على التقشف المفرط والعبادة المفرطة الدائمة من الصيام الدائم وترك إتيان النساء واللحم والودك والطيب ولبس المسوح والسياحة في الأرض وجبّ المذاكير ، فنهاهم الرسول عن ذلك ونزلت .
وقيل : حرم عبد الله بن رواحة عشاه ليلة نزل به ضيف لكون امرأته انتظرته ولم تبادر إلى إطعام ضيفه ، فحرمته هي إن لم يذقه ، فحرمه الضيف ، فقال عبد الله : قربي طعامك ، كلوا بسم الله ، فأكلوا جميعاً وأخبر الرسول بذلك ، فقال ( أحسنت ) .
وقيل في سبب نزولها غير ذلك .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهباناً وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ومستلذاتها أوهم ذلك ترغيب المسلمين في مثل ذلك التقشق والتبتل بيّن تعالى أنّ الإسلام لا رهبانية فيه ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفصر وآتي النساء وأنالُ الطيب ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) وأكل ( صلى الله عليه وسلم ) ) الدجاج والفالوذج وكان يعجبه الحلوى والعسل والطيبات هنا المستلذات من الحلال ومعنى لا تحرّموها لا تمنعوا أنفسكم منها لمنع التحريم ولا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً ، وهذا هو المناسب لسبب النزول .
وقيل المعنى : لا تحرموا ما تريدون تحصيله لأنفسكم من الحلال بطريق غير مشروع كالغصب والربا والسرقة ، بل توصلوا بطريق مشروع من ابتياع واتهاب وغيرهما .

" صفحة رقم 11 "
وقيل معناه لا تعتقدوا تحريم ما أحلّه الله لكم .
وقيل : لا تحرّموا على نفسكم بالفتوى .
وقيل لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين لقوله : ) لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ). وقيل : خلط المغصوب بالمملوك خلطاً لا يتميز منه فيحرم الجميع ويكون ذلك سبباً لتحريم ما كان حلالاً ) وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( هذا نهي عن الاعتداء فيدخل فيه جميع أنواع الاعتداء ولا سيما ما نزلت الآية بسببه .
قال الحسن : لا تجاوزوا ما حدّ لكم من الحلال إلى الحرام ، واتبعه الزمخشري فقال : ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم ، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وإبراهيم : لا تعتدوا بالخنا وتحريم النساء ، وقال عكرمة أيضاً : لا تسيروا بغير سيرة الإسلام ، وقال السدي وعكرمة أيضاً : هو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله ، فهو تأكيد لقوله ) لاَ تُحَرّمُواْ ( وقيل : ولا تعتدوا بالإسراف في تناول الطيبات كقوله : ) وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ (
المائدة : ( 88 ) وكلوا مما رزقكم . . . . .
( وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيّباً ( تقدم تفسير مثلها في قوله : ) النَّارِ يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ حَلَالاً طَيّباً ( ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( تأكيد للوصية بما أمر به وزاده تأكيداً بقوله : ) الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( لأن الإيمان به يحمل على التقوى في امتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه .
المائدة : ( 89 ) لا يؤاخذكم الله . . . . .
( لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ ( تقدم الكلام في تفسير نظير هذه الجملة ، ومعنى ) عَقَّدتُّمُ ( وثقتم بالقصد والنية ، وقرأ الحرميان وأبو عمر بتشديد القاف ، وقرأ الأخوان وأبو بكر بتخفيفها ، وابن ذكوان بألف بين العين والقاف ، وقرأ الأعمش بما عقدت الأيمان جعل الفعل للأيمان فالتشديد إما للتكثير بالنسة إلى الجمع ، وأما لكونه بمعنى المجرد نحو قدّر وقدر ، والتخفيف هو الأصل ، وبالألف بمعنى المجرد نحو جاوزت الشيء وجزته ، وقاطعته وقطعته ، أي هجرته . وقال أبو علي الفارسي : عاقدتم يحتمل أمرين أحدهما أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص ، انتهى ، وليس مثله لأنك لا تقول طرقت النعل ولا عقبت اللص بغير ألف ، وهذا تقول فيه عاقدت اليمين وعقدت ياليمين ، وقال الحطيئة :
قوم إذا عاقدوا عقداً لجارهم
فجعله بمعنى المجرد وهو الظاهر كما ذكرناه .
قال أبو علي : والآخر أن يراد به فاعلت التي تقتضي فاعلين كأن المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان عداه بعلى لما كان بمعنى عاهد ، قال : ) بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ ( كما عدى ) نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَواةِ ( ) بإلى ( ، وبابها أن تقول ناديت زيداً ) نَّبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ ( لما كانت بمعنى دعوت إلى كذا قال ) مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ( ثم اتسع فحذف الجار ونقل الفعل إلى المفعول ، ثم المضمر العائد من الصلة إلى الموصول ، إذ صار بما عاقدتموه الأيمان ، كما حذف من قوله ) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ( انتهى ، وجعل عاقد لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظاً والاشتراك فيهما معنى بعيد إذ يصير المعنى أن اليمين عاقدته كما عاقدها إذ نسب ذلك إليه وهو عقدها هو على سبيل الحقيقة ، ونسبة ذلك إلى اليمين هو على سبيل المجاز لأنها لم تعقده بل هو الذي عقدها . وأما تقديره بما عاقدتم عليه وحذف حرف الجر ، ثم الضمير على التدريج الذي ذكره فهو أيضاً بعيد ، وليس تنظيره ذلك بقوله ) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ( بسديد لأن أمر يتعدى بحرف الجر تارة وبنفسه تارة إلى المفعول الثاني وإن كان أصله الحذف تقول أمرتُ زيداً الخير ، وأمرته بالخير ، ولأنه لا يتعين في ) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ( أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، بل يظهر أنها

" صفحة رقم 12 "
مصدرية فلا يحتاج إلى عائد ، وكذلك هنا الأولى أن تكون ما مصدرية ، ويقوي ذلك ويحسنه المقابلة بعقد اليمين للمصدر الذي هو ) بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ ( ، لأن اللغو مصدر ، فالأولى مقابلته بالمصدر لا بالموصول .
وقال الزمخشري : والمعنى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم ، فحذف وقت المؤاخذة ، لأنه كان معلوماً عندهم أو بنكث ما عقدتم ، فحذف المضاف انتهى ؛ واليمين المنعقدة بالله أو بأسمائه أو صفاته .
وقال الإمام أحمد : إذا حلف بالنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) انعقدت يمينه لأنه حلف بما لم يتم الإيمان إلا به ، وفي بعض الصفات تفصيل . وخلاف ذكر في الفقه .
( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ( الكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها ، والضمير في ( فكفارته ) عائد على ما إن كانت موصولة اسمية ، وهو على حذف مضاف كما تقدم ، وإن كانت مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من المعنى وهو إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح لكن يقتضيه المعنى ، ومساكين أعمّ من أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً أو من الصنفين ، والظاهر تعداد الأشخاص ، فلو أطعم مسكيناً واحداً لكفارة عشرة أيام لم يجزه ، وبه قال مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة يجزىء ، وتعرّضت الآية لجنس ما يطعم منه وهو من أوسط ما تطعمون ولم تتعرض لمقدار ما يطعم كل واحد هذا الظاهر ، وقد رأى مالك وجماعة أن هذا التوسط هو في القدر ، وبه قال عمر وعليّ وابن عباس ومجاهد ، ورأى جماعة أنه في الصنف ، وبه قال ابن عمر والأسود وعبيدة والحسن وابن سيرين ، وقال ابن عطية : الوجه أن يطعم بلفظ الوسط القدر والصنف ؛ انتهى .
وروي عن زيد بن ثابت وابن عباس والحسن وعطاء وابن المسيب مدّ لكلّ مسكين بمدّ الرسول ، وبه قال مالك والشافعي ، وروي عن عمر وعليّ وعائشة نصف صاع من برّ أو صاع من تمر ، وبه قال أبو حنيفة ، والظاهر أنه لا يجزىء إلا الإطعام بما فيه كفاية وقتاً واحداً يسدّ به الجوعة ، فإن غداهم وعشاهم أجزأه ، وبه قال عليّ ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك ، وقال ابن جبير والحكم والشافعي : من شرط صحة الكفارة تمليك الطعام للفقراء ، فإن غدّاهم وعشاهم لم يجزه ، والظاهر أنه لا يشترط الإدام ، وقال ابن عمر : أوسط ما يطعم الخبز والتمر والخبز والزبيب وخير ما نطعم أهلينا الخبز واللحم وعن غيره الخبز والسمن ، وأحسنه التمر مع الخبز ، وروي عن ابن مسعود مثله ، وقال ابن حبيب : لا يجزىء الخبز قفاراً ولكن بإدا مزيت أو لبن أو لحم ونحوه ، والظاهر أن المراعي ما يطعم أهليه الذين يختصون به ، أي من أوسط ما يطعم كل شخص شخص أهله ، وقيل المراعي عيش البلد ، فالمعنى من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة من مدينة أو صقع ، و ) مِنْ أَوْسَطِ ( في موضع مفعول ثان لإطعام ، والأول هو

" صفحة رقم 13 "
) عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ( أي طعاماً من أوسط والعائد على ما من تطعمون في موضع محذوف أي تطعمونه ( وقرأ الجمهور ) ( وقرأ الجمهور ) أَهْلِيكُمْ ( وجمع أهل بالواو والنون شاذّ في القياس .
وقرأ جعفر الصادق ) أهاليكم ( جمع تكسير وبسكون الياء ، قال ابن جني : أهال بمنزلة ليال ، واحدها أهللة وليلاة ، والعرب تقول : أهل وأهلة ومنه قوله : .
وأهلة ودّ قد سريت بودّهم .
وقال الزمخشري والأهالي اسم جمع لأهل كالليالي في جمع ليلة والأراضي في جمع أرض ، وأما تسكين الياء في أهاليكم فهو كثير في الضرورة ، وقيل في السعة كما قال زهير : .
يطيع العوالي ركتت كل لهدم
شبهت الياء بالألف فقدرت فيها جميع الحركات .
( أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ( هذا معطوف على قوله ) إِطْعَامُ ( والظاهر أن كسوة هي مصدر وإن كان يستعمل للثوب الذي يستر ، ولما لم يذكر مقدار ما يطعم لم يذكر مقدار الكسوة وظاهر مطلق الكسوة وأجمعوا على أن القلنسوة بانفرادها لا تجزىء ، وقال بعضهم : الكسوة في الكفارة إزار وقميص ورداء ، وروي عن ابن عمر أو ثوبان لكل مسكين . قاله أبو موسى الأشعريّ وابن سيرين والحسن : وراعى قوم الزي والكسوة المتعارفة ، فقال بعضهم : لا يجزىء الثوب الواحد إلا إذا كان جامعاً لما قد يتزين به كالكساء والملحفة ، وقال النخعي : ليس القميص والدرع والخمار ثوباً جامعاً ، وقال الحسن والحكم : تجزىء عمامة يلف بها رأسه ، وقال مجاهد يجزىء كل شيء إلا التبان ، وقال عطاء وابن عباس وأبو جعفر ومنصور : الكسوة ثوب قميص أو رداء أو إزار ، وقال ابن عباس تجزىء العباءة أو الشملة ، وقال طاوس والحسن : ثوب لكل مسكين ، وعن ابن عمر إزار وقميص أو كساء ، وهل يجزىء إعطاء كساوي عشرة أنفس لشخص واحد في عشرة أيام فيه خلاف كالإطعام ، وقرأ النخعي وابن المسيب وابن عبد الرحمن ) كِسْوَتُهُمْ ( بضم الكاف ، وقرأ ابن جبير وابن السميقع ) أَوْ ( بكاف الجر على أسوة ، قال الزمخشري : المعنى أو مثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً كان أو تقتيراً لا

" صفحة رقم 14 "
تنقصونهم عن مقدار نفقتهم ولكن تساوون بينهم وبينهم ) فَانٍ قُلْتَ مَا عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ( عطف على محل ) مِنْ أَوْسَطِ ( فدل على أنه ليس قوله ) مِنْ أَوْسَطِ ( في موضع مفعول ثان بالمصدر بل انقضى عنده الكلام في قوله ) إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ( ثم أضمر مبتدأ أخبر عنه بالجار والمجرور يبينه ما قبله تقديره طعامهم من أوسط ، وعلى ما ذكرناه من أن ) مِنْ أَوْسَطِ ( في موضع نصب تكون الكاف في ) كاسوتهم ( في موضع نصب لأنه معطوف على محل ) مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ( وهو عندنا منصوب ، وإذا فسرت ) كاسوتهم ( في الطعام بقيت الآية عارية من ذكر الكسوة ، وأجمع العلماء على أن الحانث مخير بين الإطعام والكسوة والعتق وهي مخالفة لسواد المصحف ، وقال بعضهم ) أَوْ ( في الكسوة ، والظاهر أنه لا يجزىء إخراج قيمة الطعام والكسوة به قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة ، يجزىء ، والظاهر أنه لم يقيد المساكين بوصف فيجوز صرف ذلك إلى الذميّ والعبد وبه قال أبو حنيفة ، وقال غيره لا يجزىء ، واتفقوا على أنه لا يجزىء دفع ذلك إلى المرتدّ .
( كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ( تسمية الإنسان رقبة تسمية الكل بالجزء وخص بذلك لأن الرقبة غالباً محل للتوثق والاستمساك فهو موضع الملك ، وكذلك أطلق عليه رأس ، والتحرير يكون بالإخراج عن الرق وعن الأسر وعن المشقة وعن التعب ، وقال الفرزدق : أبني غدانة إنني حررتكم
فوهبتكم لعطية بن جعال
أي حررتكم من الهجا ، والظاهر حصول الكفارة بتحرير ما يصدر عليه رقبة من غير اعتبار شيء آخر فيجزىء عتق الكفار وبه قال داود وجماعة من أهل الظاهر ، وقال أبو حنيفة يجزىء الكافر ومن به نقص يسير من ذوي العاهات ، واختار الطبري إجزاء الكافرة ، وقال مالك : لا يجزىء كافر ولا أعمى ولا أبرص ولا مجنون ، وقال ابن شهاب وجماعة : وفرق النخعي فأجاز عتق من يعمل أشغاله ويخدم ومنع عتق من لا يعمل كالأعمى والمقعد وأشل اليدين .
( فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ( أي فمن لم يجد أحد هذه الثلاثة من الإطعام والكسوة والعتق فلو كان ماله في غير بلده ووجد من يسلفه لم ينتقل إلى الصوم أو لم يجد من يسلفه فقيل لا يلزمه انتظار ماله من بلده ويصوم وهو الظاهر لأنه غير واجد الآن ، وقيل ينتظر والظاهر أنه إذا كان عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقتهم يومه وليلته وعن كسوتهم بقدر ما يطعم أو يكسو فهو واجد . وبه قال أحمد وإسحاق والشافعي ومالك ، وقال مالك إلا أن يخاف الجوع أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه ، وقال ابن جبير : إن لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم ، وقال قتادة إذا لم يكن إلا قدر ما يكفر به صام ، وقال الحسن إذا كان له درهمان أطعم ، وقال أبو حنيفة إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد ، وقال آخرون جائز لمن لم يكن عنده فضل على رأس ماله الذي يتصرّف به في معاشه أو يصوم ، والظاهر أنه لا يشترط التتابع . وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه ، وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاوس وأبو حنيفة : يشترط . وقرأ أبيّ وعبد الله والنخعي . ) أَيَّامٍ ( واتفقوا على أن العتق أفضل ، ثم الكسوة ، ثم الإطعام وبدأ الله بالأيسر فالأيسر على الحال ، وهذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم ، وإذا حنث العبد فقال سفيان وأبو حنيفة والشافعي ليس عليه إلا الصوم لا يجزئه غيره ، وحكى ابن نافع عن مالك لا يكفر بالعتق لأنه لا يكون له ولاء ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده ، والصوم أصوب ، وحكى ابن القاسم عنه أنه قال إن أطعم أو كسى بإذن السيد فما هو بالبين وفي قلبي منه شيء ،

" صفحة رقم 15 "
ولو حلف بصدقة ماله فقال الشعبي وعطاء وطاوس لا شيء عليه ، وقال الشافعي وإسحاق وأبو ثور : عليه كفارة بمين ، وقال أبو حنيفة : مقدار نصاب ، وقال بعضهم : مقدار زكاته ، وقال مالك : ثلث ماله ولو حلف بالمشي إلى مكة ، فقال ابن المسيب والقاسم : لا شيء عليه ، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور : كفارة يمين ، وقال أبو حنيفة : يلزمه الوفاء به فإن عجز عن المشي لزمه أن يحج راكباً ولو حلف بالعتق ، فقال عطاء ، يتصدّق بشيء ، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة : عليه كفارة يمين لا العتق ، وقال الجمهور : يلزمه العتق ومن قال الطلاق لازم له فقال المهدوي : أجمع كل من يعتمد على قوله إن الطلاق لازم لمن حلف به وحنث .
( أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ( أي ذلك المذكور واستدل بها الشافعي على جواز التكفير بعد اليمين . وقيل الحنث وفيها تنبيه على أن الكفارة لا تكون إلا بعد الحنث فهم يقدّرون محذوفاً أي إذا حلفتم وحنثتم .
( وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( قال الزمخشري أي بروا فيها ولا تحنثوا ، أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية لأن الأيمان اسم جنس يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله ، وقيل احفظوها بأن تكفروها ، وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاوناً بها .
( كَذالِكَ ( أي مثل ذلك البيان ) يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ( إعلام شريعته وأحكامه .
( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه .
المائدة : ( 90 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاْنصَابُ وَالاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( نزلت بسبب قصة سعد بن أبي وقاص حين شرب طائفة من الأنصار والمهاجرين فتفاخروا ، فقال سعد : المهاجرون خير فرماه أنصاري بلحي جمل ففزر أنفه ، وقيل بسبب قول عمر اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، وقيل بسبب قصة حمزة وعليّ حين عقر شارف عليّ وقال : هل أنتم إلا عبيد لأبي وهي قصة طويلة ، وقيل كان أمر الخمر ونزول الآيات بتدريج ، فنزل ) حَدِيثاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ). وقيل بسبب قراءة بعض الصحابة وكان منتشياً في صلاة المغرب ) قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (

" صفحة رقم 16 "
على غير ما أنزلت ، ثم عرض ما عرض بسبب شربها من الأمور المؤدّية إلى تحريمها حتى نزلت هذه الآية ، وقال ابن عباس : نزلت بسبب حيين من الأنصار ثملوا وعربدوا فلما صحوا جعل كل واحد يرى أثراً بوجهه وبجسده فيقول : هذا فعل فلان ، فحدثت بينهم ضغائن ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بأكل ما رزقهم حلالاً طيباً ونهاهم عن تحريم ما أحله لهم مما لا إثم فيه وكان المستطاب المستلذ عندهم الخمر والميسر وكانوا يقولون الخمر تطرد الهموم وتنشط النفس وتشجع الجبان وتبعث على المكارم ، والميسر يحصل به تنمية المال ولذة الغلبة بيَّن تعالى تحريم الخمر والميسر لأن هذه اللذة يقارنها مفاسد عظيمة في الخمر إذهاب العقل وإتلاف المال ولذلك ذم بعض حكماء الجاهلية إتلاف المال بها وجعل ترك ذلك مدحاً فقال : أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله
ولكنه قد يهلك المال نائله
وتنشأ عنها مفاسد أخر من قتل النفس وشدّة البغضاء وارتكاب المعاصي لأن ملاك هذه كلها العقل فإذا ذهب العقل أتت هذه المفاسد ، والميسر فيه أخذ المال بالباطل ، وهذا الخطاب للمؤمنين والذي منعوا منه في هذه الآية هي شهوات وعادات ، فأما الخمر فكانت لم تحرم بعد وإنما نزل تحريمها بعد وقعة أحد سنة ثلاث من الهجرة ، وأما الميسر ففيه لذة وغلبة ، وأما الأنصاب فإن كانت الحجارة التي يذبحون عندها وينحرون فحكم عليها بالرجس دفعاً لما عسى أن يبقى في قلب ضعيف الإيمان من تعظيمها وإن كانت الأنصاب التي تعبد من دون الله فقرنت الثلاثة بها مبالغة في أنه يجب اجتنابها كما يجب اجتناب الأصنام ، وأما الأزلام التي كان الأكثرون يتخذونها في أحدها لا وفي الآخر نعم ، والآخر غفل وكانوا يعظمونها ومنها ما يكون عند الكهان ومنها ما يكون عند قريش في الكعبة وكان فيها أحكام لهم ، ومن هذا القبيل الزجر بالطير وبالوحش وبأخذ الفأل في الكتب ، ونحوه مما يصنعه الناس اليوم وقد اجتمعت أنواع من التأكيد في الآية منها التصدير بإنما وقران الخمر والميسر بالأصنام إذا فسرنا الأنصاب بها وفي الحديث ( مدمن الخمر كعابد وثن ) والإخبار عنها بقوله رجس وقال تعالى : ) فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( ووصفه بأنه من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت ، والأمر بالاجتناب وترجية الفلاح وهو الفوز باجتنابه فالخيبة في ارتكابه ، وبدىء بالخمر لأن سبب النزول إنما وقع بها من الفساد ولأنها جماع الإثم .
وكانت خمر المدينة حين نزولها الغالب عليها كونها ممن العسل ومن التمر ومنم الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير وكانت قليلة من العنب ، وقد أجمع المسلمون على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء والأكثر من الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليه حرام ، والخلاف فيما لا يسكر قليه ويسكر كثيره من غير خمر العنب مذكور في كتب الفقه ، قال ابن عطية : وقد خرّج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس ، وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم ولحم الخنزير بأنها رجس فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام وفي هذا نظر والاجتناب أن تجعل الشيء

" صفحة رقم 17 "
جانباً وناحية انتهى .
ولما كان الشيطان هو الداعي إلى التلبس بهذه المعاصي والمغري بها جعلت من عمله وفعله ونسبت إليه على جهة المجاز والمبالغة في كمال تقبيحه كما جاء ) فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( والضمير في ) فَاجْتَنِبُوهُ ( عائد على الرجس المخبر عنه من الأربعة فكان الأمر باجتنابه متناولاً لها ، وقال الزمخشري فإن قلت إلامَ يرجع الضمير في قوله ) فَاجْتَنِبُوهُ ( قلت إلى المضاف المحذوف كأنه قيل إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك ولذلك قال رجس من عمل الشيطان انتهى ، ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف بل الحكم على هذه الأربعة أنفسها أنها رجس أبلغ من تقدير ذلك المضاف لقوله تعالى : ) إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ).
المائدة : ( 91 ) إنما يريد الشيطان . . . . .
( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواةِ فَهَلْ أَنْتُمْ ( ذكر تعالى في الخمر والميسر مفسدتين إحداهما دنيوية والأخرى دينية فأما الدنيوية فإنها تثير الشرور والحقود وتؤول بشاربها إلى التقاطع وأكثر ما تستعمل في جماعة يقصدون التآنس باجتماعهم عليها والتودد والتحبب فتعكس عليهم الأمر ويصيرون إلى التباغض لأنها مزيلة للعقل الذي هو ملاك الأشياء ، قد يكون في نفس الرجل الشيء الذي يكتمه بالعقل فيبوح به عند السكر فيؤدّي إلى التلف ، ألا ترى إلى ما جرى إلى سعد وحمزة ، وما أحسن ما قال قاضي الجماعة أبو القاسم أحمد بن يزيد بن بقي ، وكان فقيهاً عالماً على مذهب أهل الحديث ، فيما قرأته على القاضي العالم أبي الحسن بن عبد العزيز بن أبي الأحوص عنه رضي الله عنهما بكرمه : ألا إنما الدنيا كراح عتيقة
أراد مديروها بها جلب الأنس
فلما أداروها أنارت حقودهم
فعاد الذي راموا من الأنس بالعكس
وأما الميسر فإن الرجل لا يزال يقامر حتى يبقى سليباً لا شيء له ، وينتهي من سوء الصنيع في ذلك أن يقامر حتى على أهله وولده فيؤدّي به ذلك إلى أن يصير أعدى عدوّ لمن قمره وغلبه لأن ذلك يؤخذ منه على سبيل القهر والغلبة ولا يمكن امتناعه من ذلك ولذلك قال بعض الجاهلية : لو يسيرون بخيل قد يسرت بها
وكلّ ما يسر الأقوام مغروم
وأما الدينية فالخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذ المجسمانية تلهي عن ذكر الله وعن الصلاة ، والميسر إن كان غالباً به انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عن ذكر الله تعالى ، وإن كان مغلوباً فما حصل له من الانقباض والندم والاحتيال على أنه يصير غالباً لا يخطر بقلبه ذكر الله لأنه تعالى لا يذكره إلا قلب تفرغ له واشتغل به عما سواه ، وقد شاهدنا من يلعب بالنرد والشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب وإخراج الصلاة عن أوقاتها ما يربأ المسلم عنه بنفسه ، هذا وهم يلعبون بغير جعل شيء لمن غلب فكيف يكون حالهم إذا لعبوا على شيء فأخذه الغالب وأفرد الخمر والميسر هنا وإن كانا قد جمعا مع الأنصاب والأزلام تأكيداً لقبح الخمر والميسر وتبعيداً عن تعاطيهما فنزلا في الترك منزلة ما قد تركه المؤمنون من الأنصاب والأزلام والعداوة تتعلق بالأمور الظاهرة ، وعطف على هذا ما هو أشد وهو البغضاء لأن متعلقها القلب لذلك عطف على ذكر الله ما هو ألزم وأوجب وآكد وهو الصلاة ، وفيما ينتجه الخمر والميسر من العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة أقوى دليل على تحريمها ، وعلى أن ينتهي

" صفحة رقم 18 "
المسلم عنهما ولذلك جاء بعده ) فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ( وهذا الاستفهام من أبلغ ما ينهى عنه كأنه قيل قد تلي عليكم ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية التي توجب الانتهاء فهل أنتم منتهون أم باقون على حالكم مع علمكم بتلك المفاسد . وجعل الجملة اسمية والمواجهة لهم بأنتم أبلغ من جعلها فعليه . وقيل هو استفهام يضمن معنى الأمر أي فانتهوا ولذلك قال عمر انتهينا يا رب . وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن بعض شيوخه أن جماعة كانوا يشربونها بعد نزول هذه الآية ، ويقولون إنما قال تعالى : ) فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ( فقال بعضهم انتهينا . وقال بعضهم لم ننته فلما نزل ) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ ( حرمت لأن الإثم اسم للخمر ولا يصح هذا ، وقال التبريزي هذا استفهام ذم معناه الأمر أي انتهوا معناه اتركوا وانتقلوا عنه إلى غيره من الموظف عليكم انتهى . ووجه ما ذكر من الذمّ أنه نبه على مفاسد تتولد من الخمر والميسر يقضي العقل بتركهما من أجلها لو لم يرد الشرع بذلك فكيف وقد ورد الشرع بالترك ، وقد تقدم من قوله في البقرة أن جماعة من الجاهلية لم يشربوا الخمر صوتاً لعقولهم عما يفسدها وكذلك في الإسلام قبل نزول تحريمها .
المائدة : ( 92 ) وأطيعوا الله وأطيعوا . . . . .
( وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ ( هذا أمر بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وأمر بالحذر من عاقبة المعصية ، وناسب العطف في ) وَأَطِيعُواْ ( على معنى قوله ) فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ( إذ تضمن هذا معنى الأمر وهو قوله ) فَانتَهُواْ ). وقيل الأمر بالطاعة هذا مخصوص أي أطيعوا فيما أمرتم به من اجتناب ما أمرتم باجتنابه واحذروا ما عليكم في مخالفة هذا الأمر ، وكرر وأطيعوا على سبيل التأكيد والأحسن أن لا يقيد الأمر هنا بل أمروا أن يكونوا مطيعين دائماً حذرين خاشين لأن الحذر مدعاة إلى عمل الحسنات واتقاء السيئات .
( فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( أي فإن أعرضتم فليس على الرسول إلا أن يبلغ أحكام الله وليس عليه خلق الطاعة فيكم ، ولا يلحقه من توليكم شيء بل ذلك لاحق بكم وفي هذا من الوعيد البالغ ما لا خفاء به إذ تضمن أن عقابكم إنما يتولاه المرسل لا الرسول وما كلف الرسول من أمركم غير تبليغكم ، ووصف البلاغ بالمبين إما لأنه بيِّن في نفسه واضح جلي وإما لأنه مبين لكم أحكام الله تعالى وتكاليفه بحيث لا يعتريها شبهة بل هي واضحة نيرة جلية . وذهب الجمهور إلى أن هذه الآية دلت على تحريم الخمر وهو الظاهر وقد حلف عمر فيها وبلغه أن قوماً شربوها بالشام وقالوا هي حلال فاتفق رأيه ورأي عليّ على أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا لأنهم اعتقدوا حلها ، والجمهور على أنها نجسة العين لتسميتها رجساً ، والرجس النجس المستقذر ، وذهب ربيعة والليث والمزني وبعض المتأخرين من البغداديين إلى أنها ظاهرة واختلفوا هل كان المسكر منها مباحاً قبل التحريم أم لا .
المائدة : ( 93 ) ليس على الذين . . . . .
( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءامَنُواْ ثُمَّ ( قال ابن عباس والبراء وأنس لما نزل تحريم الخمر قال قوم كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر فنزلت فأعلم تعالى أن الذمّ والجناح إنما يتعلق بفعل المعاصي والذين ماتوا قبل التحريم ليسوا بعاصين ، والظاهر من سبب النزول أن اللفظ عام ومعناه الخصوص . وقيل هي عامّة والمعنى أنه لا حرج على المؤمن فيما

" صفحة رقم 19 "
طعم من المستلذات إذا ما اتقى ما حرم الله منها وقضية من شربها قيل التحريم من صور العموم ، وهذه الآية شبيهة بآية تحويل القبلة حين سألوا عمن مات على القبلة الأولى ، فنزلت ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( و ) فِيمَا طَعِمُواْ ( قيل من الخمر والطعم حقيقة في المأكولات مجاز في المشروب وفي اليوم قيل مما أكلوه من القمار فيكون فيه حقيقة ، وقيل منهما وعنى بالطعم الذوق وهو قدر مشترك بينهما ، وكررت هذه الجمل على سبيل المبالغة والتوكيد في هذه الصفات ولا ينافي التأكيد العطف بثم فهو نظير قوله ) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( وذهب قوم إلى تباين هذه الجمل بحسب ما قدروا من متعلقات الأفعال فالمعنى إذا ما اتقوا الشرك والكبائر وآمنوا الإيمان الكامل وعملوا الصالحات ثم اتقوا ثبتوا وداموا على الحالة المذكورة ثم اتقوا وأحسنوا انتهوا في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل من الصلاة والصدقة أو غير ذلك وهو الإحسان . وإلى قريب من هذا ذهب الزمخشري ، قال إذا ما اتقوا ( ما حرم عليهم وآمنوا وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوا ) ( ما حرم عليهم وآمنوا وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوا ) ثُمَّ اتَّقَواْ وَءامَنُواْ ( ثبتوا على التقوى والإيمان ) ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ ( ثبتوا على اتقاء المعاصي ) وَأَحْسِنُواْ ( أعمالهم وأحسنوا إلى الناس واسوهم بما رزقهم الله من الطيبات انتهى . وقيل الرتبة الأولى لماضي الزمان والثانية للحال والثالثة للاستقبال ، وقيل الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع والثاني في الكبائر والثالث في الصغائر ، وقيل غير هذا مما لا إشعار للفظ به ، ومعنى الآية ثناء على أولئك ، الذين كانوا على هذه الصفة وحمد لهم في الإيمان والتقوى والإحسان إذ كانت الخمر غير محرمة إذ ذاك فالإثم مرفوع عمن التبس بالمباح إذا كان مؤمناً متقياً محسناً وإن كان يؤول ذلك المباح إلى التحريم فتحريمه بعد ذلك لا يضر المؤمن المتقي المحسن وتقدم شرح الإحسان وأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فسره في حديث سؤال جبريل فيجب أن لا يتعدى تفسيره .
المائدة : ( 94 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْء مّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ( نزلت عام الحديبية وأقام ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالتنعيم فكان الوحش والطير يغشاهم في رحالهم وهم محرمون ، وقيل كان بعضهم أحرم وبعضهم لم يحرم فإذا عرض صيد اختلفت أحوالهم واشتبهت الأحكام ، وقيل قتل أبو اليسر حمار وحش برمحه فقيل قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت . ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنهم لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات وأخرج من ذلك الخمر والميسر وهما حرامان دائماً ، أخرج بعده من الطيبات ما حرم في حال دون حال ، وهو الصيد وكان الصيد مما تعيش به العرب وتتلذذ باقتناصه ولهم فيه الإشعار والأوصاف الحسنة ، والظاهر أن الخطاب بقوله ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( عام للمحل والمحرم لكن لا يتحقق الابتلاء إلا مع الإحرام أو الحرم . وقال ابن عباس هو للمحرمين ، وقال مالك هو للمحلين والمعنى ليختبرنكم الله ابتلاهم الله به مع الإحرام أو الحرم ، والظاهر أن قوله ) بِشَىْء مّنَ الصَّيْدِ ( يقتضي تقليلاً ، وقيل ليعلم أنه ليس من الابتلاء العظيم كالابتلاء بالأنفس والأموال بل هو تشبيه بما ابتلي به أهل أيلة من صيد السمك وأنهم كانوا لا يصبرون عند هذا الابتلاء فكيف يصبرون عندما هو أشدّ منه ومن في ) مّنَ الصَّيْدِ ( للتبعيض في حال الحرمة إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم ، وقال الطبري وغيره من صيد البر دون البحر ، وقال ابن عطية ويجوز أن تكون من لبيان الجنس ، قال الزجاج وهذا كما تقول قال لأمتحننك بشيء من الرزق وكما قال تعالى : ) فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( والمراد بالصيد المأكول

" صفحة رقم 20 "
لأن الصيد ينطلق على المأكول وغير المأكول . قال الشاعر : صيد الملوك أرانب وثعالب
وإذا ركبت فصيدي الأبطال
وقال زهير : ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما
كذب الليث عن أقرانه صدقا
ولهذا قال أبو حنيفة إذا قتل المحرم ليثاً أو ذئباً ضارياً أو ما يجري مجراه فعليه الجزاء بقتله .
( تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ( أي بعض منه يتناول بالأيدي لقرب غشيانه حتى تتمكن منه اليد وبعض بالرماح لبعده وتفرقه فلا يوصل إليه إلا بالرمح ، وقال ابن عباس أيديكم فراخ الطير وصغار الوحش ، وقال مجاهد الأيدي الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفرو الرماح تنال كبار الصيد ، قيل وما قاله مجاهد غير جائز لأن الصيد اسم للمتوحش الممتنع دون ما لا يمتنع انتهى ، يعني أنه لا يطلق على البيض صيد ولا يمتنع ذلك تسمية للشيء بما يؤول إليه ، قال ابن عطية والظاهر أن الله خص الأيدي بالذكر لأنها أعظم تصرفاً في الاصطياد وفيها تدخل الجوارح والحبالات وما عمل باليد من فخاخ وشباك وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد وفيها يدخل السهم ونحوه ، واحتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئاً . وقرأ النخعي وابن وثاب يناله بالياء منقوطة من أسفل والجملة من قوله تناله في موضع الصفة لقوله بشيء أو في موضع الحال منه إذ قد وصف وأبعد من زعم أنه حال من الصيد .
( لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ( هذا تعليل لقوله ) لَيَبْلُوَنَّكُمُ ( ومعنى ) لِيَعْلَمَ ( ليتميز من يخاف عقابه تعالى وهو غائب منتظر في الآخرة فيبقى الصيد ممن لا يخافه فيقدم عليه قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية ليستمرّ عليه وهو موجود إذ قد علم الله ذلك في الأزل ، وقال الكلبي لم يزل الله تعالى عالماً وإنما عبر بالعلم عن الرؤية ، وقيل هو على حذف مضاف أي ليعلم أولياء الله ، وقيل المعنى ليعلموا أن الله يعلم من يخافه بالغيب أي في السر حيث لا يراه أحد من الناس فالخائف لا يصيد وغير الخائف يصيد ، وقيل يعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم ، وقيل ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف وبالغيب في موضع نصب على الحال ومعناه أن الخائف غائب عن رؤية الله تعالى ومثله ) مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ( و ) يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ( وقال عليه السلام : ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) .
وقال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه ، قال ابن عطية والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة من خاف الله انتهى . عن الصيد من ذات نفسه انتهى . وقرأ الزهري ) لِيَعْلَمَ اللَّهُ ( من أعلم . قال ابن عطية أي ليعلم عباده انتهى . فيكون من أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى واحد تعدى عرف فحذف المفعول الأول وهو عباده لدلالة المعنى عليه وبقي المفعول الثاني وهو ) مَن يَخَافُهُ ).

" صفحة رقم 21 "
) فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ ( المعنى فمن اعتدى بالمخالفة فصاد وذلك إشارة إلى النهي الذي تضمنه معنى الكلام السابق وتقديره فلا يصيدوا يدل عليه قوله ) لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ).
) فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( قيل في الآخرة . وقيل في الدنيا . قال ابن عباس يوسع بطنه وظهره جلداً ويسلب ثيابه .
المائدة : ( 95 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ( الذين آمنوا عام وصرح هنا بالنهي عن قتل الصيد في حال كونهم حرماً والحرم جمع حرام والحرام المحرم والكائن بالحرم ، ومن ذهب إلى أن اللفظ يراد به معناه استدل بقوله وأنتم حرم على منع المحرم والكائن بالحرم من قتل الصيد ومن لم يذهب إلى ذلك ، قال المعنى يحرمون بحج أو عمرة وهو قول الأكثر . وقيل المعنى وأنتم في الحرم والظاهر النهي عن قتل الصيد وتكون الآية قبل هذه دلت بمعناها على النهي عن الاصطياد فيستفاد من مجموع الآيتين النهي عن الاصطياد والنهي عن قتل الصيد والظاهر عموم الصيد وقد خص هذا العموم بصيد البر لقوله : ) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ). وقيل وبالسنة بالحديث الثابت خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة والفأرة والكلب العقور فاقتصر على هذه الخمسة الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وقاس مالك على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وغيرهم ورآه داخلاً في لفظه من أسد ونمر وفهد وذئب وكل سبع عاد فقال له أن يقتلها مبتدئاً بها لا هزبر وثعلب وضبع فإن قتلها فدى . وقال مجاهد والنخعي لا يقتل من السباع إلا ما عدا عليه وروي نحوه عن ابن عمر . وقال أصحاب الرأي أن بدأه بالسبع قتله ولا فدية وإن ابتدأه المحرم فقتله فدى . وقال مالك في فراخ السباع قبل أن تفترس لا ينبغي للمحرم قتلها ، وثبت عن عمر أمره المحرمين بقتل الحيات وأجمع الناس على إباحة قتلها وثبت عن عمر إباحة قتل الزنبور لأنه في حكم العقرب وذوات السموم في حكم الحية كالأفعى والرتيلا ومذهب أبي حنيفة وجماعة أن الصيد هو ما توحش مأكولاً كان أو غير مأكول . فعلى هذا لو قتل المحرم سبعاً لا يؤكل لحمه ضمن ولا يجاوز قيمة شاة ، وقال زفر بالغاً ما بلغ ، وقال قوم الصيد هو ما يؤكل لحمه فعلى هذا لا يجب الضمان في قتل السبع وهو قول الشافعي ولا في قتل الفواسق الخمس ولا الذئب وإذا كان الصيد مما حل أكله فقتله المحرم ولو بالذبح فمذهب أبي حنيفة ومالك أنه غير مذكى فلا يؤكل لحمه وبه قال ابن المسيب وأحد قولي الحسن ومذهب الشافعي إن ذبح المحرم الصيد ذكاه ، وقال الحكم وعمرو بن دينار وسفيان يحل للحلال أكله وهو أحد قولي الحسن .
( وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ( الظاهر تقييد القتل بالعمد فمن لم يتعمد فقتل خطأ بأن كان ناسياً لإحرامه أو رماه ظاناً أنه ليس بصيد فإذا هو صيد أو عدل سهمه الذي رماه لغير صيد فأصاب صيداً فلا جزاء عليه ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير وطاوس وعطاء

" صفحة رقم 22 "
وسالم وبه قال أبو ثور وداود والطبري وهو أحد قولي الحسن البصري ومجاهد وأحمد بن حنبل ، وقال ابن عباس فيما أسنده عنه الدارقطني إنما التكفير في العمد وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا ، وقيل خرج مخرج الغالب فالحق به النادر ، وقيل ذكر التعمد لأن مورد الآية في من تعمد لقصة أبي اليسر إذ قتل الحمار متعمداً وهو محرم ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم أن الخطأ بنسيان أو غيره كالعمد والعمد أن يكون ذاكراً لإحرامه قاصد للقتل وروي ذلك عن عمرو بن عباس وطاوس والحسن وإبراهيم والزهري ، قال الزهري جزاء العمد بالقرآن والخطأ والنسيان بالسنة ، قال القاضي أبو بكر بن العربي إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن عمرو بن عباس فنعماً هي وأحسن بها أسوة ، وقال مجاهد معناه متعمد القتلة ناسياً لإحرامه فإن كان ذاكراً لإحرامه فهذا أجل وأعظم من أن يكفر وقد حل ولا حج له لارتكابه محظوراً حرامه فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها ، قال ومن أخطأ فذلك الذي عليه الجزاء ، وقال نحوه ابن جريج ، وروي عن مجاهد أنه لا جزاء عليه في قتله متعمداً ويستغفر الله وحجه تام ، وقرأ الكوفيون ) فَجَزَاء ( بالتنوين ) مَثَلُ ( بالرفع فارتفاع جزاء على أنه خبر لمبتدأ محذوف الخبر تقديره فعليه جزاء ومثل صفة أي فجزاء يماثل ما قتل . وقرأ عبد الله ) فَجَزَاؤُهُ مَثَلُ ( والضمير عائد على قاتل الصيد أو على الصيد وفي قراءة عبد الله يرتفع ) فَجَزَاؤُهُ مَثَلُ ( على الابتداء والخبر . وقرأ باقي السبعة ) فَجَزَاء مّثْلُ ( برفع جزاء وإضافته إلى مثل ، فقيل مثل كأنها مقحمة كما تقول مثلك من يفعل كذا أي أنت تفعل كذا فالتقدير فجزاء ما قتل ، وقيل ذلك من إضافة المصدر إلى المفعول ويدل على هذا التقدير قراءة السلمي ) فَجَزَاء ( بالرفع والتنوين ) مّثْلُ مَا قَتَلَ ( بالنصب . وقرأ محمد بن مقاتل ) فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ ( بنصب جزاء ومثل والتقدير فليخرج جزاء مثل ما قتل ومثل صفة لجزاء . وقرأ الحسن ) مِنَ النَّعَمِ ( سكن العين تخفيفاً كما قالوا الشعر ، وقال ابن عطية هي لغة و ) مِنَ النَّعَمِ ( صفة لجزاء سواء رفع ) جَزَاء ( و ) مَثَلُ ( أو أضيف ) جَزَاء ( إلى ) مَثَلُ ( أي كائن من النعم ويجوز في وجه الإضافة أن يتعلق من النعم بجزاء إلا في وجه الأول لأن جزاء مصدر موصوف فلا يعمل . ووهم أبو البقاء في تجويزه أن يكون من النعم حالاً حل الضمير في قتل يعني من الضمير المنصوب المحذوف في قتل العائد ، على ما قال لأن المقتول يكون من النعم وليس المعنى على ذلك ، لأن الذي هو من النعم هو ما يكون جزاء لا الذي يقتله المحرم ، ولأن النعم لا تدخل في اسم الصيد والظاهر في المثلية أنها مثلية في الصورة والخلقة والصغر والعظم وهو قول الجمهور . وروي ذلك عن عمرو بن عوف وابن عباس والضحاك والسدّي وابن جبير وقتادة وبه قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن ، وتفاصيل ما يقابل كل مقتول من الصيد قد طول بها جماعة من المفسرين ولم يتعرض لفظ القرآن لها وهي مذكورة في كتب الفقه وذهب جماعة من التابعين إلى أن المماثلة هي في القيمة يقوم الصيد المقتول ثم يشتري بقيمته طعاماً من الأنعام ثم يهدي وهو قول النخعي وعطاء وأحد قولي مجاهد . وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف يشتري بالقيمة هدياً إن شاء وإن شاء اشترى طعاماً فأعطى كل مسكين نصف صاع وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوماً ، وقال قوم المثلية فيما وجد له مثل

" صفحة رقم 23 "
صورة وما لم يوجد له مثل فالمثلية في القيمة وقد تعصب أبو بكر الرازي والزمخشري لمذهب أبي حنيفة . ولفظ الآية ينبو عن مذهبه إذ ظاهر الآية يقتضي التخيير بين أن يجزىء هدياً من النعم مثل ما قتل وأن كفر بطعام مساكين وأن يصوم عدل الصيام . والظاهر أن الجزاء لا يكون إلا في القتل لا في أخذ الصيد ولا في جنسه ولا في أكله وفاقاً للشافعي وخلافاً لأبي حنيفة إذ قال عليه جزاء ما أكل يعني قيمته وخالفه صاحباه فقالا لا شيء عليه سوى الاستغفار لأنه تناول منه ، ولا في الدلالة عليه خلافاً لأبي حنيفة وأشهب إذ قالا يضمن الدار الجزاء ، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عوف ، وقال الشافعي ومالك وأبو ثور لا يضمن الدال والجزاء على القاتل ولا في جرحه ونقص قيمته بذلك ، وقال المزني عليه شيء ، وقال بعض أهل العلم إذا نقص من قيمته مثلاً العشر فعليه عشر قيمته ، وقال داود لا شيء عليه ، والظاهر أنه لو اجتمع محرمون في صيد لم يجب عليهم إلا جزاء واحد لأنه لا ينسب القتل إلى كل واحد منهم . فأما المقتول فهو واحد يجب أن يكون المثل واحد ، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والثوري يجب على كل واحد منهم جزاء واحد ، والظاهر أنه إذا حمل قوله ) وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( على عنييه وهما محرمون بحج أو عمرة ومحرمون بمعنى داخلين الحرم وإن كانوا محلين ، أنه إذا قتل المحلون صيداً في الحرم أنه يلزمهم جزاء واحد ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال مالك على كل واحد جزاء كامل وظاهر قوله من النعم أنه لا يشترط سن فيجزىء الجفر والعناق على قدر الصيد وبه قال أبو يوسف ومحمد ، وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يهدي إلا ما يجزىء في الأضحية وهدي القرآن والظاهر من تقييد المنهيين عن القتل بقوله ) وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( أنه لو صاد الحلال بالحل ثم ذبحه في الحرم فلا ضمان وهو حلال وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة عليه الجزاء .
( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ ( أي يحكم بمثل ما قتل . قال ابن وهب من السنة أن يخير الحكمان من قتل الصيد كما خيره الله في أن يخرج هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ، فإن اختار الهدي حكماً عليه بما يريانه نظراً لما أصاب وأدنى الهدي شاة ، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير بين أن يطعمه أو يصوم مكان كل مدّ يوماً وكذلك قال مالك ، والظاهر أنه يحكم به عدلان وكذلك فعل عمر في حديث قبيصة بن جابر استدعى عبد الرحمن بن عوف وحكما في ظبي بشاة وفعل ذلك جرير وابن عمر والظاهر أن العدلين ذكران فلا يحكم فيه امرأتان عدلتان ، وقرأ جعفر بن محمد ) يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ ( على التوحيد أي يحكم به من يعدل منكم ولا يريد به الوحدة ، وقيل أراد به الإمام . والظاهر أن الحكمين يحكمان في جزاء الصيد باجتهادهما وذلك موكول إليهما وبه قال أبو حنيفة ومالك وجماعة من أهل العلم ، وقال الشافعي الذي له مثل من النعم وحكمت فيه الصحابة بحكم لا يعدل عنه إلى غيره وما لم تحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهادهما فينظران إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام فكل ما كان أقرب شبهاً به يوجبانه ، والظاهر أن الحكمين لا يكون أحدهما قاتل الصيد وهو قول مالك ، وقال الشافعي : إن كان القتل خطأ جاز أن يكون أحدهما أو عمداً فلا لأنه يفسق به واستدل بقوله تعالى : ) يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ ( على إثبات القياس لأنه تعالى فرض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم . وجوّزوا في انتصاب قوله ) هَدْياً ( أن يكون حالاً من جزاء فيمن وصفه بمثل لأن الصفة خصصته فقرب من المعرفة وأن يكون بدلاً من مثل في قراءة من نصب مثلاً أو من محله في قراءة من خفضه وأن ينتصب على المصدر والظاهر أنه حال من قوله به ومعنى ) بَالِغَ الْكَعْبَةِ ( أن ينحر بالحرم ويتصدّق به حيث شاء عند أبي حنيفة ، وقال الشافعي بالحرم ، وقرأ الأعرج ) هَدْياً ( بكسر الدال وتشديد الياء والجملة من

" صفحة رقم 24 "
قوله يحكم في موضع الصفة لقوله فجزاء أي حاكم به ذوا عدل وفي قوله ) مّنكُمْ ( دليل على أنهما من المسلمين وذكر الكعبة لأنها أم الحرام قالوا والحرم كله منحر لهذا الهدي فما وقف به يعرفه من هدي الجزاء ينحر بمنى وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم بشرط أن يدخل من الحل ولا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغاً الكعبة .
( أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ( قرأ الصاحبان بالإضافة والإضافة تكون بأدنى ملابسة إذ الكفارة تكون كفارة هدي وكفارة طعام وكفارة صيام ولا التفات إلى قول الفارسي ولم يصف الكفارة إلى الطعام لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد ، وأما ما ذهب إليه الزمخشري من زعمه أن الإضافة مبينة كأنه قيل أو كفارة من طعام مساكين ، كقولك خاتم فضة ، بمعنى خاتم من فضة فليست من هذا الباب لأن خاتم فضة من باب إضافة الشيء إلى جنسه والطعام ليس جنساً للكفارة إلا بتجوز بعيد جدّاً ، وقرأ باقي السبعة بالتنوين ورفع ) طَعَامٌ ( وقرأ كذلك الأعرج وعيسى بن عمر إلا أنهما أفردا مسكين على أنه اسم جنس ، قال أبو علي ) طَعَامٌ ( عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة . انتهى ؛ وهذا على مذهب البصريين لأنهم شرطوا في البيان أن يكون في المعارف لا في النكرات فالأولى أن يعرب بدلاً وقد أجمل في مقدار الطعام وفي عدد المساكين والظاهر أنه يكفي أقل ما ينطلق عليه جمع مساكين ، وقال إبراهيم وعطاء ومجاهد والقاسم يقوّم الصيد دراهم ثم يشتري بالدراهم طعاماً فيطعم كل مسكين نصف صاع ، وروي هذا عن ابن عباس وبتقويم الصيد قال أبو حنيفة ، وقال مجاهد وعطاء وابن عباس والشافعي وأحمد يقوّم الهدي ثم يشتري بقيمة الهدى طعاماً ، وقال مالك أحسن ما سمعت ، إنه يقوّم الصيد فينظركم ثمنه من الطعام فيطعم لكل مسكين مدّاً ويصوم مكان كل مدّ يوماً .
( أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً ( الأظهر أن يكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور وهو الطعام والطعام المذكور غير معين في الآية لا كيلاً ولا وزناً فيلزم من ذلك أن يكون الصيام أيضاً غير معين عدداً والصيام مبني على الخلاف في الطعام أهو مدّ أو مدّان . وبالمدّ قال ابن عباس ومالك وبالمدّين قال الشافعي وعن أحمد القولان ، وجوّزوا أن يكون ذلك إشارة إلى الصيد المقتول وفي الظبي ثلاثة أيام وفي الإبل عشرون يوماً وفي النعامة وحمار الوحش ثلاثون يوماً قاله ابن عباس ، وقال ابن جبير ثلاثة أيام إلى عشرة أيام والظاهر عدم تقييد الإطعام والصوم بمكان وبه قال جماعة من العلماء فحيث ما شاء كفر بهما ، وقال عطاء وغيره الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شاء ، وقرأ الجمهور ) أَو عَدْلُ ( بفتح العين ، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري بكسرها وتقدم تفسيرها في أوائل البقرة . والظاهر أن أو للتخيير أي ذلك فعل أجزأه موسراً كان أو معسراً وهو قول الجمهور ، وقال ابن عباس وإبراهيم وحماد بن سلمة لا ينتقل إلى الإطعام إلا إذا لم يجد هدياً ولا إلى الصوم إلا إن لم يجد ما يطعم والظاهر أن التخيير راجع إلى قاتل الصيد وهو قول الجمهور ، وقال محمد بن الحسن الخيار إلى الحكمين والظاهر أن الواجب أحد هذه الثلاثة فلا يجمع بين الإطعام والصيام بأن يطعم عن يوم ويصوم في كفارة واحدة وأجاز ذلك أصحاب أبي حنيفة وانتصب ) صِيَاماً ( على التمييز على العدل

" صفحة رقم 25 "
كقولك على التمرة مثلها زبداً لأن المعنى أو قدر ذلك صياماً .
( لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ( الذوق معروف واستعير هنا لما يؤر من غرامة وأتعاب النفس بالصوم والوبال سوء عاقبة ما فعل وهو هتك حرمة الإحرام بقتل الصيد ، قال الزمخشري ليذوق متعلق بقوله ) فَجَزَاء ( أي فعليه أن يجازى أو يكفر ليذوق انتهى . وهذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف ) فَجَزَاء ( أو نون ونصب ) مَثَلُ ( وأما على قراءة من نوّن ورفع ) مَثَلُ ( فلا يجوز أن تتعلق اللام به لأن ) مَثَلُ ( صفة لجزاء وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة لو قلت أعجبني ضرب زيد الشديد عمراً لم يجز فإن تقدم المعمول على الوصف جاز ذلك والصواب أن تتعلق هذه القراءة بفعل محذوف التقدير جوزي بذلك ليذوق ووقع لبعض المعربين أنها تتعلق بعدل ذلك وهو غلط .
( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف ( أي في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرم .
قال الزمخشريّ لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم ، وكان الصيد فيها محرماً انتهى ، وقال ابن زيد : عما سلف لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم .
( وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ( أي ومن عاد في الإسلام إلى قتل الصيد فإن كان مستحِلاًّ فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر أو ناسياً لإحرامه كفر بإحدى الخصال الثلاث أو عاصياً بأن يعود متعمّداً عالماً بإحرامه فلا كفّارة عليه وينتقم الله منه بإلزام الكفّارة فقط وكلما عاد فهو يكفر . وقال ابن عباس : إن كان متعمداً عالماً بإحرامه فلا كفارة عليه وينتقم الله منه . وبه قال شريح والنخعي والحسن ومجاهد وابن زيد وداود وظاهر و ) مِنْ عَادٍ ( لعموم ألا ترى أنّ ) مِنْ ( شرطيّة أو موصولة تضمنت معنى الشرط فتعمّ خلافاً لقوم إذ زعموا أنها مخصوصة بشخص بعينه وأسندوا إلى زيد بن العلاء أنّ رجلاً أصاب صيداً وهو مُحرِم فتجوز له ثم عاد فأرسل الله عليه ناراً فأحرقته وذلك قوله تعالى : ) وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ( وعلى تقدير صحة هذا الحديث لا تكون هذه القضية تخص عموم الآية إذ هذا الرجل فرد من أفراد العموم ظهر انتقام الله منه والفاء في ) فَيَنْتَقِمُ ( جواب الشرط أو الداخلة على الموصول المضمّن معنى الشرط وهو على إضمار مبتدأ أي فهو ينتقم الله منه .
( وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ( أي عزيز لا يغالب إذا أراد أن ينتقم لم يغالبْه أحد ، وفي هذه الجملة تذكار بنقم الله وتخويفاً .
المائدة : ( 96 ) أحل لكم صيد . . . . .
( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ( قال الكلبي : نزلت في بني مدلج وكانوا ينزلون في أسياف البحر سألوا عما نضب عنه الماء من السمك فنزلت ، والبحر هنا الماء الكثير الواسع وسواء في ذلك النهر والوادي والبركة والعين لا يختلف الحكم في ذلك . وقيل المراد بالبحر هنا البحر الكبير ، وعليه يدل سبب النزول ، وما عداه محمول عليه . وأما طعامه فروي عن أبي بكر وعمر وابن

" صفحة رقم 26 "
عمر أنه ما قذفه البحر وطفا عليه . وقال ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وهذا ينظر إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( الحل ميتته ) . وقال قتادة وابن جبير والنخعي وابن المسيب ومجاهد والسدّي صيده طرّيه وطعامه المملوح منه ، وروي هذا عن ابن عباس وزيد بن ثابت ، قال أبو عبد الله وهذا ضعيف لأن الذي صار مالحاً قد كان طرياً وصيداً في أول الأمر فيلزم التكرار ، وقال قوم : طعامه الملح الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات ونحوه ، وقال الحسن : طعامه صوب ساحله ، وقيل : طعامه كل ما سقاه الماء فأنبت لأنه نبت من ماء البحر ، وقيل : صيد البحر ما صيد لأكل وغيره كالصدف لأجل اللؤلؤ وبعض الحيوانات لأجل عظامها وأسنانها وطعامه المأكول منه خاصة عطف خاص على عام وعدم تقييد الحل يدل على التحليل للمحرم والحلال والصيد المصيد وأضيف إلى المقرّ الذي يكون فيه والظاهر أنه يحل أكل كل ما صيد من أنواع مخلوقاته حتى الذي يسمي خنزير الماء وكلب الماء وحية الماء والسرطان والضفدع وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي ، وقال الليث : لا يؤكل خنزير الماء ولا إنسان الماء وتؤكل ميتته وكلبه وفرسه ، وقال أبو حنيفة والثوري فيما روى عنه أبو إسحاق الفزاري لا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك ولا يؤكل طافية ولا الضفدع ولا كلبه ولا خنزيره وقال : هذه من الخبائث ، قال الرازي : ما صيد من البحر حيتان وجميع أنواعها حلال وضفادع وجميع أنواعها حرام واختلفوا فيما سوى هذين . وقال الزمخشري : صيد البحر مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وطعامه وما يطعم من صيده والمعنى أحلّ لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبي حنيفة ، وعند ابن أبي ليلى جميع ما يصاد منه على أن تفسير الآية عنده أحلّ لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه انتهى . وتفسير ) وَطَعَامُهُ ( بقوله وأن تطعموه خلاف الظاهر ويكون على قول ابن أبي ليلى الضمير عائداً على صيد البحر والظاهر عوده على البحر وأنه يراد به المطعوم لا الإطعام ويدل على ذلك ظاهر لفظ ) وَطَعَامُهُ ( وقراءة ابن عباس وعبد الله بن الحرث وطُعمه بضم الطاء وسكون العين وانتصب ) مَّتَاعًا ( قال ابن عطية على المصدر والمعنى متّعكم به متاعاً تنتفعون به وتأتدمون ؛ وقال الزمخشري متاعاً لكم مفعول له أي أحلّ لكم تمتيعاً لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى : ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ( في باب الحال لأنّ قوله ) أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ ( مفعول له مختصّ بالطعام كما أن ) نَافِلَةً ( حال مختصة بيعقوب يعني أحل لكم طعامه تمتيعاً تأكلونه طرياً ولسيارتكم يتزوّدونه قديداً كما تزوّد موسى عليه السلام في مسيره إلى الخضر انتهى . وتخصيصه المفعول له بقوله : ) وَطَعَامُهُ ( جار على مذهبه مذهب أبي حنيفة بأن صيد البحر منه ما يؤكل وما لا يؤكل وأنّ قوله وطعامه هو المأكول

" صفحة رقم 27 "
منه وأنه لا يقع التمتيع إلا بالمأكول منه طريّاً وقديداً وعلى مذهب غيره يجوز أن يكون مفعولاً له باعتبار صيد البحر وطعامه ، والخطاب في لكم لحاضري البحر ومدنه والسيارة المسافرون وقال مجاهد : الخطاب لأهل القرى والسيارة ، أهل الأمصار وهذا الاختلاف في أنه يستوي فيه المقيم والمسافر والبادي والحاضر والطري والمملوح .
( وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ( حرم الله تعالى الصيد على المحرم بقوله ) يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ( وبقوله ) لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ( بهذه الآية وكرر ذلك تغليظاً لحكمه والظاهر تحريم صيد البر على المحرِم من جميع الجهات صيد ولكل من صيد من أجله أو من غير أجله . وروي ذلك عن عليّ وابن عباس ، وابن عمر وطاوس وابن جبير وأبي الشعثاء والثوري وإسحاق وعن أبي هريرة وعطاء وابن جبير أنهم أجازوا للمحرِم أكل ما صاده الحلال لنفسه أو لحلال مثله ، وقال آخرون يحرم على المحرم أن يصيد فأما إن اشتراه من مالك له فذبحه وأكله فلا يحرم وفعل ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد : يأكل ما صاده الحلال إن لم يصده لأجله فإن صيد من أجله فلا يأكل فإن أكل ، فقال مالك : عليه الجزاء وبه قال الأوزاعي والحسن بن صالح وقال الشافعي لا جزاء عليه . وقال أبو حنيفة وأصحابه أكلُ المحرمِ الصيدَ جائز إذا اصطاده الحلال ولم يأمر المحرم بصيده ولا دلّ عليه ، وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما يصنع أبو حنيفة بعموم قوله صيد البر ، ( قلت ) : قد أخذ أبو حنيفة بالمفهوم من قوله ) وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ( لأنّ ظاهره أنه صيد المحرِمين دون صيد غيرهم فكأنه قيل وحرم عليكم ما صدتم في البحر فيخرج منه مصيد غيرهم ومصيدهم حين كانوا غير محرمين ويدل عليه قوله تعالى : ) أَلِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ). انتهى . وهذه مكابرة من الزمخشري في الظاهر بل الظاهر في قوله صيد البر العموم سواء صاده المحرم أم الحلال . وقرأ ابن عباس و ) حَرَّمَ ( مبنيّاً للفاعل و ) صَيْدُ ( بالنصب ) مَا دُمْتُمْ حُرُماً ( بفتح الحاء والراء . وقرأ يحيى ) مَا دُمْتُمْ ( بكسر الدال وهي لغة يقال دمت تدام ولا خلاف في أن ما لا زوال له من البحر أنه صيد بحر ومن البر أنه صيد بر واختلف فيما يكون في أحدهما وقد يحيا في الآخر ، فقال عطاء وابن جبير وأبو مجلز ومالك وغيرهم : هو من صيد البر إن قتله المحرم فداه . وذكر أبو مجلز من ذلك الضفدع والسلحفاة والسرطان ، وروي عن عطاء أنه يراعي أكثر عيشه وسئل عن ابن الماء أصيد برّ أم بحر ، فقال حيث يكون أكثر فهو منه وحيث يفرخ منه وهو قول أبي حنيفة والصواب في ابن ماء أنه صيد طائر يرعى ويأكل الحب . وقال الحفظ أبو بكر بن العربي الصحيح المنع من الحيوان الذي يكون في البر والبحر لأنه تعارض فيه دليل تحريم ودليل تحليل فيغلب دليل التحريم احتياطاً .
( وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( هذا فيه تنبيه وتهديد وجاء عقيب تحليل وتحريم وذكر الحشر هذ فيه يظهر من أطاع وعصى .

" صفحة رقم 28 "
2 ( ) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَائِدَ ذالِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الاٌّ لْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ) ) 2
المائدة : ( 97 ) جعل الله الكعبة . . . . .
( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَائِدَ ).
مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتله ما شرع وذكر تعظيم الكعبة بقوله هدياً بالغ الكعبة ، فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قياماً للناس أي ركز في قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى أحد ، وصارت وازعة لهم من الأذى وهم في الجاهلية الجهلاء لا يرجون جنة ولا يخافون ناراً إذ لم يكن لهم ملك يمنعهم من أذى بعضهم فقامت لهم حرمة الكعبة مقام حرمة الملك هذا مع تنافسهم وتحاسدهم ومعاداتهم وأخذهم بالثأر ، ولذلك جعل الثلاثة المذكورة بعد الكعبة قياماً للناس فكانوا لا يهيجون أحداً في الشهر الحرام ولا من ساق الهدي لأنه لا يعلم أنه لم يجيء لحرب ولا من خرج يريد البيت بحج أو عمرة فتقلد من لحي الشجر ولا من قضى نسكه فتقلد من شجر الحرم ، ولما بعثت قريش زمن الحديبية إلى المؤمنين الحلس قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( هذا رجل يعظم الحرمة فألقوه بالبدن مشعرة ) فلما رآها الحلس عظم عليه ذلك وقال ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالة قريش ، وجعل هنا بمعنى صير . وقيل جعل بمعنى بين وينبغي أن يحمل هذا على تفسير المعنى إذ لم ينقل جعل مرادفة لهذا المعنى لكنه من حيث التصيير يلزم منه التبيين والحكم ، ولما كان لفظ الكعبة قد أطلقه بعض العرب على غير البيت الحرام كالبيت الذي كان في خثعم يسمى كعبة اليمانية ، بين تعالى أن المراد هنا بالكعبة البيت الحرام ، وهو بدل من الكعبة أو عطف بيان ، وقال الزمخشري : البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفة كذلك انتهى . وليس كما ذكر لأنهم ذكروا في شرط عطف البيان الجمود فإذا كان شرطه أن يكون جامداً . لم يكن فيه إشعار بمدح إذ ليس مشتقاً وإنما يشعر بالمدح المشتق إلا أن يقال أنه لما وصف عطف البيان بقوله الحرام اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلك والقيام مصدر كالصيام ويقال هذا قيام له وقوام له وكأنهم ذهبوا في قيام إلى أنه ليس مصدراً بل هو اسم كالسواك فلذلك صحت الواو قال : قوام دنيا وقيام دين . إذا لحقت تاء التأنيث لزمت التاء قالوا القيامة واختلفوا في تفسير قوله ) قِيَاماً لّلنَّاسِ ( فقيل باتساع الرزق عليهم إذ جعلها تعالى مقصودة من جميع الآفاق وكانت مكة لا زرع ولا ضرع ، وقيل بامتناع الإغارة في الحرم ، وقيل بسبب صيرورتهم أهل الله فكل أحد يتقرب إليهم ، وقيل بما يقام فيها من المناسك وفعل العبادات ، وروي عن ابن عباس ، وقيل : يأمن من توجه إليها وروي عنه ، وقيل بعدم أذى من أخرجوه من جر جريرة ولجأ إليها ، وقيل ببقاء الدين ما حجت واستقبلت ، وقال عطاء لو تركوه عاماً واحداً لم ينظروا ولم يؤخروا . وقال أبو عبد الله الرازي لا يبعد حمله على جميع الوجوه ، لأن قوام المعيشة بكثرة المنافع وبدفع المضار وبحصول الجاه والرئاسة وبحصول الدين والكعبة سبب لحصول هذه الأقسام انتهى .
وقرأ ابن عامر قيماً بغير ألف فإن كان أصله قياماً

" صفحة رقم 29 "
بالألف وحذفت فقيل حكم هذا أن يجيء في الشعر وإن كان مصدراً على فعل فكان قياسه أن تصح فيه الواو كعوض ، وقرأ الجحدري قيماً بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة وهو كسيد اسم يدل على ثبوت الوصف من غير تقييد بزمان ولفظ الناس عام ، فقيل المراد العموم ، وقيل المراد العرب ، قال أبو عبد الله بن أبي الفضل وحس هذا المجاز أن أهل كل بلدة إذا قالوا الناس فعلوا كذا لا يريدون بذلك إلا أهل بلدتهم فلذلك خوطبوا على وفق عادتهم انتهى . والشهر الحرام ظاهره الإفراد ، فقيل هو ذو الحجة وحذه وبه بدأ الزمخشري قال لأن لاختصاصه من بين الأشهر المحرمة يرسم الحج شأناً قد عرفه الله انتهى ، وقيل المراد الجنس فيشمل الأشهر الحرم الأربعة الثلاثة بإجماع من العرب وشهر مضر وهو رجب كان كثير من العرب لا يراه ولذلك يسمى شهر الله إذ كان تعالى قد ألحقه في الحرمة بالثلاثة فنسبه وسدده ، والمعنى شهر آل الله وهو شهر قريش وله يقول عوف بن الأحوص : وشهر بني أمية والهدايا
إذا سيقت مصرحها الدماء
ولما كانت الكعبة موضعاً مخصوصاً لا يصل إليه كل خائف جعل الله الأشهر الحرم والهدي والقلائد قياماً للناس كالكعبة .
( ذالِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الظاهر أن الإشارة هي المصدر المفهوم أي ذلك الجعل لهذه الأشياء قياماً للناس وأمناً لهم ليعلموا أنه تعالى يعلم تفاصيل الأمور الكائنة في السموات والأرض ومصالحكم في دنياكم ودينكم فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم ، وأجاز الزمخشري أن تكون الإشارة إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره ، وقال الزجاج الإشارة إلى ما نبأ به تعالى من الأخبار بالمغيبات والكشف عن الأسرار مثل قوله ) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ( ومثل إخباره بتحريفهم الكتب أي ذلك الغيب الذي أنبأكم به على لسان رسوله يدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض . وقيل الإشارة إلى صرف قلوب الناس إلى مكة في الأشهر المعلومة فيعيش أهلها معهم ولولا ذلك ماتوا جوعاً لعلمه بما في مصالحهم وليستدلوا على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض .
( وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ ( هذا عموم تندرج فيه الكليات والجزئيات كقوله تعالى ) وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ).
المائدة : ( 98 ) اعلموا أن الله . . . . .
( اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( هذا تهديد إذ أخبر أن عقابه شديد لمن انتهك حرمته .
( وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( وهذا توجيه بالغفران والرحمة لمن حافظ على طاعة الله أو تاب عن معاصيه . ( ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون )

" صفحة رقم 30 "
المائدة : ( 99 ) ما على الرسول . . . . .
( مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( لما تقدم الترغيب والترهيب أخبر تعالى أن كلف رسوله بالتبليغ وهو توصيل الأحكام إلى أمته وهذا فيه تشديد على إيجاب القيام بما أمر به تعالى ، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليه الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط . قال ابن عطية هي إخبار للمؤمنين ولا يتصور أن يقال هي أنه موادعة منسوخة بآيات القتال بل هذه حال من آمن بهذا وشهد شهادة الحق فإنه عصم من الرسول ماله ودمه فليس على الرسول في جهته أكثر من التبليغ . انتهى . وذكر بعض المفسرين الخلاف فيها أهي محكمة أم منسوخة بآية السيف والرسول هنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقيل يجوز أن يكون اسم جنس والمعنى ما على كل من أرسل إلا البلاغ والبلاغ والبلوغ مصدران لبلغ وإذا كان مصدر البلغ فبلاغ الشرائع مستلزم لتبليغ من أرسل بها فعبر باللازم عن الملزوم ويحتمل أن يكون مصدر البلغ المشدد على حذف الزوائد فمعنى البلاغ التبليغ .
( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( جملة فيها تهديد إذ أخبر تعالى أنه مطلع على حال العبد ظاهراً وباطناً فهو مجازيه على ذلك ثواباً أو عقاباً ، ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى ألزم رسوله التبليغ للشريعة وألزمكم أنتم تبليغها فهو العالم بما تبدون منها وما تكتمونه فيجازيكم على ذلك وكان ذلك خطاباً لأمته إذا كان الإبداء والكتم يمكن صدورهما منهم بخلاف الرسول فإنه يستحيل عليه أن يكتم شيئاً من شرائع الله تعالى .
المائدة : ( 100 ) قل لا يستوي . . . . .
( قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ( روى جابر أن رجلاً قال : يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي ، فهل ينفعني ذلك المال إذا عملته في طاعة الله تعالى ؟ فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن الله لا يقبل إلا الطيب ) فنزلت هذه الآية تصديقاً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما حذر عن المعصية ورغب في التوبة بقوله : ) اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( الآية . وأتبعه في التكليف بقوله : ) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( ثم بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله : ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية . فقال هل يستوي الخبيث والطيب ، الآية أو يقال لما بين أن عقابه شديد لمن عصى وأنه غفور رحيم لمن أطاع بين أنه لا يستوي المطيع والعاصي وإن كان من العصاة والكفار كثرة فلا يمنعه كثرتهم من عقابه ، والظاهر أن الخبيث والطيب عامان فيندرج تحتهما حلال المال وحرامه وصالح العمل وفاسده وجيد الناس ورديئهم وصحيح العقائد وفاسدها والخبيث من هذا كله لا يصلح ولا يحب ولا يحسن له عاقبة والطيب ولو قل نافع جيد العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى : ) وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ ( الآية . والخبيث فاسد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب خلاف ذلك وقد خصص بعض المتقدمين هنا الخبيث والطيب ببعض ما يقتضيه عموم اللفظ ، فقال ابن عباس والحسن

" صفحة رقم 31 "
هو الحلال والحرام ، وقال السدي هو المؤمن والكافر وذكر الماوردي قولاً أنه المطيع والعاصي وقولاً آخر أنه الجيد والرديء ، وقيل : الطيب المعرفة والطاعة والخبيث الجهل والمعصية والأحسن حمل هذه الأقوال على أنها تمثيل للطيب والخبيث لأقصر اللفظ عليها ، وقوله : ) وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ( ظاهره أنه من جملة المأمور بقوله ووجه كاف الخطاب في قوله ) وَلَوْ أَعْجَبَكَ ( أن المعنى ولو أعجبك أيها السامع أو أيها المخاطب وأما أن لا يكون من جملة ما أمر بقوله ويكون خطاباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقد ذكر بعضهم أنه يحتمل ذلك والأولى القول الأول أو يحمل على أنه خطاب له في الظاهر والمراد غيره .
( فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى أُوْلِى الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ ( أي اتقوه في إيثار الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر ، قال الزمخشري ومن حق هذه الآية أن يكفح بها المجبرة إذا افتخروا بالكثرة . قال شاعرهم : وكاثر بسعدٍ إنّ سعداً كثيرة
ولا ترجُ من سعدٍ وفاء ولا نصراً
وقال آخر : لا يدهمنك من دهمائهم عدد
فإنّ جلَّهم كلَّهم بقرُ
وهو على عادته من تسمية أهل السنة مجبرة وذمهم وخص تعالى الخطاب والنداء بأولي الألباب لأنهم المتقدمون في تمييز الطيب والخبيث فلا ينبغي لهم إهمال ذلك . قال ابن عطية وكأن الإشارة إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالجبلة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد انتهى .
( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الاٌّ رْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْت

" صفحة رقم 32 "
ِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلواةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الاٌّ ثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاٌّ وْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ذالِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وَتُبْرِىءُ الاٌّ كْمَهَ وَالاٌّ بْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِىإِسْرَاءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءَامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى قَالُواْ ءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لاًّوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( )
المائدة : ( 101 ) يا أيها الذين . . . . .
( عَنْ أَشْيَاء ( مذهب سيبويه والخليل أنها الفعاء مقلوبة من فعلاء ، والأصل شيئاً من مادة شيء ، وهو اسم جمع كطرفاء وحلفاء ومذهب غيرهما أنها جمع . واختلفوا فقال الكسائي وأبو حاتم ، هو جمع شيء كبيت وأبيات ، وقال الكسائي لم تنصرف أشياء لشبه آخرها بآخر حمراء ولكثرة استعمالها والعرب تقول أشياوان كما تقول حمراوان . ذهب الفراء والأخفش إلى أنها جمع على وزن أفعلاء ، قال الفراء شيء مخفف من شيء كما قالوا هوناً في جمع هين المخفف من هين ، وقال الأخفش ليس مخففاً من شيء بل هو فعل جمع على أفعلاء فاجتمع في هذين القولين همزتان لام الكلمة وهمزة التأنيث فقلبت الهمزة التي هي لام الكلمة ياء لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء التي هي عين الكلمة استخفافاً ، وذهب قوم إلى أن وزن شيء في الأصل شيء كصديق وأصدقاء ، ثم حذفت الهمزة الأولى وفتحت ياء المدلكون ما بعدها ألفاً ، قال ووزنها في هذا القول إلى أفياء وفي القول الذي قبله أفلاء ، وتقرير هذه

" صفحة رقم 33 "
المذاهب صحة وإبطالاً مذكور في علم التصريف .
البحيرة فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة بمعنى المنطوحة ، قال أبو عبيدة هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن في آخرها ذكر شقوا أذنها وخلوا سبيلها لا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن ماء ولامرعى ، وروي نحوه عن ابن عباس إلا أنه لم يذكر عنه آخرها ذَكَر ، وقال قتادة وينظر في الخامس فإذا كان ذكراً ذبحوه وأكلوه وإن كانت أنثى شقوا أذن الأنثى وقالوا هي بحيرة ، فلم تركب ولم تطرد عن ماء ولا مرعى وإذا لقيها ألمعي لم يركبها تحرّجاً وتخوراً منه . روي عن عكرمة وزاد ، حرم على النساء لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء ، وقال ابن سيدة البحيرة هي التي خليت بلا راع ، وقال مجاهد البحيرة ما نتجت السائبة من أنثى شق أذنها وخلّى سبيلها مع أمها في الفلا لم تركب ولم تحلب كما فعل بأمها ، وقال ابن المسيب هي التي تمنع درها للطواغيت فلا يحلبها ، وقيل هي الناقة إذا ولدت خمساً أو سبعاً شقوا أذنها . وقال ابن عطية إذا نتجت الناقة عشرة أبطن شقوا أذنها نصفين طولاً فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرّجال ، وقيل البحيرة السقب هذا ولد يحزوا أذنه ، وقالوا اللهم إن عاش فعفى وإن مات فذكى فإذا مات أكل ، ويظهر من اختلاف هذه النقول أن العرب كانت تختلف طرائقها في البحيرة فصار لكلّ منها في ذلك طريقة وهي كلها ضلال .
السائبة فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال ساب الماء وسابت الحية ، وقيل هي السيبة اسم الفاعل بمعنى المفعول نحو قولهم ) عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ( أي مرضية ، قال أبو عبيدة كان الرّجل إذا قدم من سفر أو نذر نذراً أو شكر نعمة سيب بعيراً فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حلوا لها ، وقال الفراء إذا ولدت الناقة عشرة أبطن إناث سيبت فلم تركب ولم تحلب ولم يجزّ لها وبر ولم يشرب لها لبن إلا ولد أو ضيف ، وقال ابن عباس السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق ، وكان الرجل يسبب من ماله شيئاً فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها للسبيل ، وقال الشافعي كانوا ينذرون تسبيب الناقة ليحج حجة عليها ، وقيل السائبة العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث .
الوصيلة هي في الغنم على قول الأكثرين ، روى أبو صالح عن ابن عباس أنها الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فيأكلها الرّجال والنساء وإن كان ذكراً ، ونحوه أكلوه جميعاً . فإذا كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك مع أخيها فل

" صفحة رقم 34 "
ا تذبح ومنافعها للرّجال دون النساء فإذا ماتت اشترك الرّجال والنساء فيها ، وقال ابن قتيبة إن كان السابع ذكراً ذبح فأكل منه الرجال دون النساء وقالوا خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كانت ذكراً وأنثى فكما في قول ابن عباس ، وقال ابن إسحاق هي الشاة تنتج عشرة أبطن متواليات في خمسة أبطن وما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإناث ، وقال الفراء هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين فإذا ولدت في سابعها عناقاً وجدياً قيل وصلت أخاها فجرت مجرى السائبة ، وقال الزجاج هي الشاة التي تلد أنثى فلهم أو ذكراً فلآلهتهم ، وقال أبو عبيدة نحوه وزاد إذا ولدت ذكراً وأنثى معاً قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها ، وروى الزهري عن ابن المسيب أنها الناقة البكر تبتكر في أول النتاج بالأنثى ثم تثنى بالأنثى فيستقونها لطواغيتهم ويقولون وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر ، وقيل هي الشاة تلد ثلاثة أبطن أو خمسة فإن كان آخرها جدياً ذبحوه لآلهتهم أو عناقاً استحيوها وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته من الذبح .
الحامي اسم فاعل من حمى وهو الفحل من الإبل ، قال ابن مسعود وابن عباس واختاره أبو عبيدة والزجاج هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيقولون قد حمى ظهره فيسيبونه لأصنامهم فلا يحمل عليه شيء ، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس واختاره الفراء أنه الفحل يولد لولد ولده ، وقال عطاء هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيظهر من بين أولاده عشرة إناث من بناته وبنات بنانه ، وقال ابن زيد هو الذي ينتج له سبع إناث متواليات وذكر الماوردي عن الشافعي أنه يضرب في إبل الرجل عشر سنين .
الحبس المنع من التصرف يقال حبست أحبس واحتبست فرساً في سبيل الله فهو محبس وحبيس وقفته للغزو .
وعثر على الرجل اطلع عليه مشتق من العثرة التي هي الوقوع وذلك أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو فلذلك قيل لكل من اطلع على أمر كان خفيًّا عليه قد عثر عليه ويقال قد عثر عليه وقد أعثر عليه إذا أطلعه عليه ومنه ) وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ( أي اطلعنا ، وقال الليث عثر يعثر عثوراً هجم على أمر لم يهجم عليه غيره وعثر عثرة وقع على شيء .
المائدة الخوان الذي عليه طعام فإذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة ، قال أبو عبد الله هي فاعلة بمعنى مفعولة وهي من العطاء والممتاد المطلوب منه العطاء ماده أعطاه وامتاده استعطاه .
وقال الزجاج هي فاعلة من ماد يميد تحرك فكأنها تميد بما عليها ، وقال ابن قتيبة المائدة الطعام من ماده يميده أعطاه كأنها تميد الآكلين أي تطعمهم وتكون فاعلة بمعنى مفعول بها أي ميد بها الآكلون . وقيل من الميد وهو الميل وهذا قريب من قول الزجاج .
( تُفْلِحُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ( روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أنس قال : قال رجل : يا رسول الله من أبي قال ( أبوك فلان ) ونزلت الآية . وفي حديث أنس أيضاً

" صفحة رقم 35 "
أن رجلاً قال : أين مدخلي يا رسول الله ؟ قال : ( النار ) وإن السائل من أبي هو عبد الله بن حذافة وفي غير حديث أنس ، فقام آخر فقال من أبي فقال ( أبوك سالم مولى شيبة ) ، وقيل نزلت بسبب سؤالهم عن الحج أفي كل عام ؟ فسكت فقال أفي كل عام ؟ قال : ( لا ولو قلت نعم لوجبت ) . روي هذا عن عليّ وأبي هريرة وأبي أمامة وابن عباس ، وقيل السائل سراقة بن مالك ، وقيل عكاشة بن محصن الأسدي ، وقيل محصن ، وقيل رجل من بني أسد . وقيل الأقرع بن حابس ، وقال الحسن : سألوا عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه ، وقال ابن جبير ورواه مجاهد عن ابن عباس : سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ولذلك جاء ذكرها بعدها وروي عن عكرمة أنهم سألوا الآيات والمعجزات . وذكر أبو سليمان الدمشقي أنها نزلت في تسهيم الفرائض ، وروي أنه تعالى لما بين أمر الكعبة والهدي والقلائد وأعلم أن حرمتها هو تعالى الذي شرعها إذ هي أمور قديمة من لدن إبراهيم عليه السلام ، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية هل تلحق بذلك أم لا ؟ إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وما هو من تلقاء الشيطان ، والظاهر من الروايات أن الأعراب ألحوا عليه بأنواع من السؤالات فزجروا عن ذلك بهذه الآية ، وقيل نزلت في حجاج اليمامة حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عن الإيقاع بهم وإن كانوا مشركين ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما قال : ) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( صار كأنه قيل ما بلغه الرسول فخذوه وكونوا منقادين له وما لم يبلغه فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه فربما جاءكم بسبب الخوض الفاسد تكاليف تشق عليكم ، قاله أبوعبد الله الرازي وفيه بعض تلخيص ، وقال أيضاً هذا متصل بقوله ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مختلفة والجملة الشرطية وما عطف عليها من الشرط في موضع الصفة لأشياء والمعنى لا تكثروا مسألة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتى لكم بها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها قاله الزمخشري وبناه على ما نقل في سبب النزول أنه سئل عن الحج ، وقرأ الجمهور ) إِن تُبْدَ لَكُمْ ( بالتاء مبنيّاً للمفعول ، وقرأ ابن عباس ومجاهد مبنيّاً للفاعل ، وقرأ الشعبي بالياء مفتوحة من أسفل وضم الدال ) يسؤكم ( بالياء فيهما مضمومة في الأول ومفتوحة في الثاني ، وقال ابن عطية والتحرير إن يبدها الله تعالى .
( تُفْلِحُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن ( قال ابن عباس معناه لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم إما لتكليف شرعي يلزمكم وإما لخبر

" صفحة رقم 36 "
يسوءكم ، مثل الذي قال من أبي ؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذ إن سألتم عن بيانه بين لكم وأبدى انتهى . قال ابن عطية : فالضمير في قوله ) عَنْهَا ( عائد على نوعها لا على الأول التي نهى عن السؤال عنها .
قال : ويحتمل أن يكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم لقيتم غب ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون ما يسوءكم كالذي قيل له إنه في النار انتهى .
وقال الزمخشري ) يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ ( أي عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه ) تُبْدَ لَكُمْ ( تلك التكاليف ) الَّتِى ( وتؤمروا بتحملها فتعرّضوا أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها انتهى . وعلى هذا يكون الضمير في ) وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ( عائداً على أشياء نفسها لا على نوعها والذي يظهر أنهم نهوا عن السؤال عن أشياء وصفت بوصفين أحدهما أنها إن سألوا عنها أبديت لهم وقت نزول القرآن فيكون ) حِينٍ ( ظرفاً لقوله ) تُبْدَ لَكُمْ ( لا لقوله ) وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا ( والوصف الثاني أنها إن أبديت لهم ساءتهم وهذا الوصف وإن تقدم مرتب على الوصف المتأخر وإنما تقدم لأنه أردع لهم عن المسألة عن تلك الأشياء أن يسألوا عنها لأنهم إذا أخبروا أنهم تسوءهم تلك المسألة إذا أبديت كانت أنفر عن أن يسألوا بعد ، فما كان هذا الوصف أزجر عن السؤال قدّم وتأخر الوصف في الذكر الذي ليس فيه زجر ولا ردع واتكل في ذلك على فهم المعنى مع أن غطف الوصف الثاني بالواو يقتضي التشريك فقط دون الترتيب ، ولا يدل قوله وإن تسألوا عنها على جواز السؤال كما زعم بعضهم فقال : الضمير عائد على أشياء فكيف يفعل أشياء بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعاً وجائزاً معاً . وأجاب بوجهين أحدهما أن يكون ممنوعاً قبل نزول القرآن مأموراً به بعد نزوله الثاني أنهما وإن كانا غير مختلفين إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسؤولاً عنه شيء واحد ، فلهذا الوجه حسن اتحاد الضمير ، انتهى . وهذا ليس بجواب ثان لأنه فرض أن تلك الأشياء بأعيانها ، السؤال عنها ممنوع وجائز وإذا كانا نوعين مختلفين فليست الأشياء بأعيانها وجملة الشرط كما ذكرناه لا تدل على الجواز ألا ترى أنك تقول لا تزن وإن زنيت حددت فقوله وإن زنيت حددت لا يدل ذلك على الجواز بل جملة الشرط لا تدل على الوقوع بل لا تدل على الإمكان إذ قد يقع التعليق بين المستحيلين كقوله لئن أشركت ليحبطن عملك .
( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ( ظاهره أنه استئناف إخباره من الله تعالى ، وذهب بعضهم إلى أنها في موضع جر صفة لأشياء كأنه قيل لا تسألوا عن أشياء معفو عنها ويكون معنى عفا أي ترك لكم التكليف فيها والمشقة عليكم بها لقوله إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل ، وهو القول الأول وهو الاستئناف يحتمل أن يكون المعنى هذا أي تركها الله ولم يعرفكم بها ويحتمل أن يكون المعنى أنه تجاوز عن ارتكابكم تلك السؤالات ولم يؤاخذكم بها ويدل على هذا المعنى قوله : ) وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( ولذلك قال الزمخشري عفا الله عنكم ما سلف عن مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها .
( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( لا يؤاخذكم بما يفرط منكم بعقوبته خرّج الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) . وروى أبو سلمة عن أبي هريرة

" صفحة رقم 37 "
أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( إن أعظم الناس جرماً من سأل عن مسألة لم تكن حراماً فحرمت من أجل مسألته ) .
المائدة : ( 102 ) قد سألها قوم . . . . .
( قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ( الظاهر أن الضمير في ) ( الظاهر أن الضمير في ) سَأَلَهَا ( عائد على أشياء . وقال الحوفي : ولا يتجه حمله على الظاهر لا من جهة اللفظ العربيّ ولا من جهة المعنى ، أما من جهة اللفظ فكان يعدى بعن فكان قد سأل عنها كما قال ) لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء ( فعدى بعن ، وأما من جهة المعنى فلأن المسؤول عنه مختلف قطعاً فيهما لأن المنهي عنه الذي هو مثل سؤال من سأل أين مدخلي ومن أبي . ومن سأل عن الحج وأين ناقتي وما في بطن ناقتي غير سؤال القوم الذين تقدموا ، فقال الزمخشري الضمير في ) سَأَلَهَا ( ليس يراجع إلى أشياء حتى يجب تعديته بعن ، وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها ) لاَ تَسْأَلُواْ ( يعني قد سأل هذه المسألة قوم من الأولين ثم أصبحوا أي بمرجوعها كافرين ، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا . انتهى . وقال ابن عطية نحواً من قول الزمخشري قال : ومعنى هذه الآية أن هذه السؤالات التي هي تعنتات وطلب شطط واقتراحات ومباحثات قد سألها قبلكم الأمم ثم كفروا بها . انتهى ، ولا يستقيم ما قالاه إلا على حذف مضاف وقد صرح به بعض المفسرين ، فقال قد سأل أمثالها أي أمثال هذه المسألة أو أمثال هذه السؤالات ، وقرأ الجمهور سألها بفتح السين والهمزة ، وقرأ النخعي بكسر السين من غير همز يعني بالكسر والإمالة ، وجعل الفعل من مادّة سين وواو ولام لا من مادّة سين وهمزة ولام ، وهما لغتان ذكرهما سيبويه ، ومن كلام العرب هما يتساولان بالواو وإمالة النخعي سأل مثل إمالة حمزة خاف . والقوم قال ابن عباس هم قوم عيسى سألوا المائدة ثم كفروا بها بعد أن شرط عليهم العذاب الذي لا يعذبه أحداً من العالمين ، وقال ابن زيد أيضاً هم قوم موسى سألوا في ذبح البقرة وشأنها ، وقال ابن زيد أيضاً هم الذين قالوا لنبيَ لهم ) ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( ، وقيل قوم موسى سألوا أن يريهم الله جهرة فصار ذلك وبالاً عليهم ، وقيل قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها بعد أن دخلوا على الاشتراط في قوله تعالى : ) لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ( وبعد اشتراط العذاب عليهم إن مسوها بسوء ، وقال مقاتل كان بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدّقوهم فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين ، وقال السدّي كقريش في سؤالهم أن يجعل الله لهم الصفا ذهباً ، قال ابن عطية إنما يتجه في قريش مثال سؤالهم آية فلما شق القمر كفروا انتهى ، وقال بعض المتأخرين القوم قريش سألوا أموراً ممتنعة كما أخبر تعالى ) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( وهذا لا يستقيم إلا إن أريد بمن قبلهم آباؤهم الذين ماتوا في ابتداء التنزيل ، قال أبو البقاء العكبري ) مِن قَبْلِكُمْ ( متعلق سألها ، ولا يجوز أن يكون صفة لقوم ولا حالاً لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجنة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها انتهى . وهذا الذي ذكره صحيح في ظرف الزمان المجرد من الوصف أما إذا وصف فذكروا أنه يكون خبراً تقول نحن في يوم طيب وأما قبل وبعد فالحقيقة أنهما وصفان في الأصل فإذا قلت جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء زيد زماناً أي في زمان متقدم على زمان مجيء

" صفحة رقم 38 "
عمرو ، ولذلك صح أن يقع صلة للموصول ولم يلحظ فيه الوصف وأن كان ظرف زمان مجرداً لم يجز أن يقع صلة ، قال تعالى : ) وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( ولا يجوز والذين اليوم وقد تكلمنا على هذا في أول البقرة ومعنى ) ثُمَّ أَصْبَحُواْ ( ثم صاروا ولا يراد أن كفرهم مقيد بالصباح .
المائدة : ( 103 ) ما جعل الله . . . . .
( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ( مناسبة هذه لما قبلها أنه تعالى لما نهى عن سؤال ما لم يأذن فيه ولا كلفهم إياه منع من التزام أمور ليست مشروعة من الله تعالى ، ولما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بأحكام الكعبة بين تعالى أنه لم يشرع شيئاً منها ، أو لما ذكر المحللات والمحرمات في الشرع عاد إلى الكلام في المحللات والمحرمات من غير شرع ، وفي حديث روي عن أبي هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( أن أول من غير دين إسماعيل عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف نصب الأوثان وسبب السائبة وبحر البحيرة وحمى الحامي ) ، ورآه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يجر قصبه في النار ، وروي أنه كان ملك مكة ، وروى زيد بن أسلم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( قد عرفت أول من بحر البحيرة هو رجل من مدلج كانت له ناقتان فجدع ذانهما وحرم ألبانهما وركوب ظهورهما قال : فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه ) . قال الزمخشري يعني ) مَّا جَعَلَ اللَّهُ ( ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك ، وقال ابن عطية ) وَجَعَلَ ( في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني ، وإنما هي بمعنى ما سن ولا شرع ، ولم يذكر النحويون في معاني جعل شرع ، بل ذكروا أنها تأتي بمعنى خلق وبمعنى ألقى وبمعنى صير ، وبمعنى الأخذ في الفعل فتكون من أفعال المقاربة . وذكر بعضهم بمعنى سمى وقد جاء حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها إلا أنه قليل والحمل على ما سمع أولى من

" صفحة رقم 39 "
إثبات معنى لم يثبت في لسان العرب فيحتمل أن يكون المفعول الثاني محذوفاً ، أي ما صير الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامياً مشروعة بل هي من شرع غير الله ، ( وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ( خلقها الله تعالى رفقاً لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة وأهل الجاهلية قطعوا طريق الانتفاع بها وإذهاب نعمة الله بها ، قال ابن عطيّة وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تجوز الأحباس والأوقاف وقاسوا على البحيرة والسائبة والفرق بيّن ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبساً لا تجتنى ثمرتها ولا تزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة ، وأما الحبس المتعين طريقة واستمرار الانتفاع به فليس من هذا ، وحسبك بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال لعمر بن الخطاب في مال له : ( اجعله حبساً لا يباع أصله وحبس أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) انتهى .
( وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ( قال الزمخشري بتحريم ما حرموا .
( وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( فلا ينسبوا التحريم حتى يفتروا ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارهم انتهى . نص الشعبي وغيره أن المفترين هم المبتدعون وأن الذين لا يعقلون هم الأتباع ، وقال ابن عباس ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( يريد عمرو بن لحي وأصحابه ، وقيل في ) لاَ يَعْقِلُونَ ( أي الحلال من الحرام ، وقال قتادة : ) لاَ يَعْقِلُونَ ( أن هذا التحريم من الشيطان لا من الله ، وقال محمد بن موسى : ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( هنا هم أهل الكتاب والذين ) لاَ يَعْقِلُونَ ( هم أهل الأوثان ، قال ابن عطية وهذا تفسير من انتزاع آخر الآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى وعما أخبر أيضاً من قوله ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ( انتهى . وقال مكي ذكر أهل الكتاب هنا لا معنى له إذ ليس في هذا صنع ولا شبه وإنما ذكر ذلك عن مشركي العرب فهم الذين عنوا بذلك .
المائدة : ( 104 ) وإذا قيل لهم . . . . .
( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا أَوَلَوْ لَّوْ كَانَ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا ).
تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة وهنا ) تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( وهناك ) اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( وهنا ) لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً ( وهناك ) لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا ( والمعنى في هذا التغاير لا يكاد يختلف ومعنى ) إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ ( أي من القرآن الذي فيه التحريم الصحيح ومعنى حسبنا : كافينا وقول ابن عطية : معنى ) حَسْبُنَا ( كفانا ليس شرحاً بالمرادف إذ شرح الاسم بالفعل ، وقال ابن عطية في ) أَوْ لَوْ ( ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى والتزموا شنيع القول وإنما التوقيف توبيخ لهم كأنهم يقولون بعده : نعم ، ولو كان كذلك انتهى . وقوله في الهمزة ألف التوقيف عبارة لم أقف عليها من كلام النحاة يقولون همزة الإنكار همزة التوبيخ وأصلها

" صفحة رقم 40 "
همزة الاستفهام ، وقوله : كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى يعني فكان التقدير قالوا : فاعتنى بالهمزة فقدّمت لقوله : ) وَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ ( وليس كما ذكر من أنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى على ما نبينه إن شاء الله تعالى ، وقال الزمخشري والواو في قوله : ) أَوْ لَّوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ ( واو الحال وقد دخلت عليها همزة الإنكار والتقدير أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون ، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة . انتهى . وجعل الزمخشري الواو ، في ) أَوْ لَوْ ( ، واو الحال وهو مغاير لقول ابن عطية أنها واو العطف لا من الجهة التي ذكرها ابن عطية واو الحال لكن يحتاج ذلك إلى تبيين ، وذلك أنه قد تقدم من كلامنا أن لو التي تجيء هذا المجيء هي شرطية وتأتي لاستقصاء ما قبلها والتنبيه على حاله داخلة فيما قبلها وإن كان مما ينبغي أن لا تدخل ، فقوله : ( أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردّوا السائل ولو بظلف محرق واتقوا النار ولو بشق تمرة ) . وقول الشاعر : قوم إذا حاربو شدّوا مآزرهم
دون النساء ولو باتت بإطهار
فالمعنى أعطوا السائل على كل حال ولو على الحالة التي تشعر بالغنى وهي مجيئه على فرس ، وكذلك يقدر ما ذكرنا من المثل على ما يناسب فالواو عاطفة على حال مقدرة فمن حيث هذا العطف صح أن يقال إنها واو الحال وقد تقدم الكلام على ذلك بأشبع من هذا فالتقدير في الآية أحسبهم أتباع ما وجدوا عليه آباءهم على كل حال ولو في الحالة التي تنفي عن آبائهم العلم والهداية فإنها حالة ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء لأن ذلك حال من غلب عليه المفرط .
المائدة : ( 105 ) يا أيها الذين . . . . .
( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ( قال أبو أمية الشعباني : سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال : لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : ( أمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامّهم فإن وراءكم أياماً أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم ) . وهذا أصح ما يقال في تأويل هذه الآية لأنه عن الرسول وعليه الصحابة بلغ أبا بكر الصديق أن بعض الناس تأول الآية على أنه لا يلزم الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر ، فصعد المنبر وقال : أيها الناس لا تغتروا بقول الله : عليكم أنفسكم فيقول أحدكم : عليّ نفسي فوالله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم وليسوا منكم سوء العذاب ، وعن عمر أن رجلاً قال له : إني لأعمل بأعمال البر كلها إلا في خصلتين قال : وما هما قال لا آمر ولا أنهى

" صفحة رقم 41 "
فقال له عمر لقد طمست سهمين من سهام الإسلام إن شاء غفر لك وإن شاء عذبك ، وعن ابن مسعود ليس هذا زمان هذه الآية فولوا الحق ما قبل منكم فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم ، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن : لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال لنا : ( ليبلغ الشاهد منكم الغائب ) ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل . وقال ابن جبير ) عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ( فالزموا شرعكم بما فيه من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر ) وَلاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ ( من أهل الكتاب إذا اهتديتم ، وقال ابن زيد المعنى يا أيها الذين آمنوا من أبناء الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب ) عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ( في الاستقامة على الدين ) لاَ يَضُرُّكُمْ ( ضلال الأسلاف ) إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ( ، قال وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار : سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت فنزلت الآية بسبب ذلك ، وقيل : نزلت بسبب ارتداد بعض المؤمنين وافتتانهم كابن أبي السرح وغيره ، وقال المهدوي قيل إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال ابن عطية لم يقل أحد فيما علمت أنها آية الموادعة للكفار ولا ينبغي أن يعارض بها شيء مما أمر به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف ، وقال الزمخشري كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على العناد والعتوّ من الكفرة ويتمنون دخولهم في الإسلام فقيل لهم عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي في طرق الهدى ولا يضركم الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين ، كما قال تعالى لنبيه : ) فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم فهو مخاطب به وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنّ مع تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد . وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه ، وروى أبو صالح عن ابن عباس أن منافقي مكة قالوا : عجباً لمحمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية فهلا أكلاههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب فشق ذلك على المسلمين فنزلت ، وقال مقاتل ما يقارب هذا القول ، وذكروا في مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما بين أنواع التكاليف ثم قيل ) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( إلى قوله : ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ ( الآية . كان المعنى أن هؤلاء الجهال ما تقدّم من المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرّين على جهلهم فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم فإن ذلك لا يضركم بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ، ( وَعَلَيْكُمْ ( من كلم الإغراء وله باب معقود في النحو وهو معدود في أسماء الأفعال فإن كان الفعل متعدياً كان اسمه متعدياً وإن كان لازماً كان لازماً ) وَعَلَيْكُمْ ( اسم لقولك الزم فهو متعد فلذلك نصب المفعول به والتقدير هنا عليكم إصلاح أنفسكم أو هداية أنفسكم ، وإذا كان المغرى به مخاطباً جاز أن يؤتى بالضمير منفصلاً فتقول عليك إياك أو يؤتى بالنفس بدل الضمير فتقول عليك نفسك كما في هذه الآية

" صفحة رقم 42 "
وحكى الزمخشري عن نافع أنه قرأ ) عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ( بالرفع وهي قراءة شاذة تخرج على وجهين : أحدهما يرتفع على أنه مبتدأ وعليكم في موضع الخبر والمعنى على الإغراء ، والوجه الثاني أن يكون توكيداً للضمير المستكن في ) عَلَيْكُمْ ( ولم تؤكد بمضمر منفصل إذ قد جاء ذلك قليلاً ويكون مفعول ) عَلَيْكُمْ ( محذوفاً لدلالة المعنى عليه والتقدير عليكم أنفسكم هدايتكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، وقرأ الجمهور ) لاَ يَضُرُّكُمْ ( بضم الضاد والراء وتشديدها ، قال الزمخشري : وفيه وجهان أن يكون خبراً مرفوعاً وينصره قراءة أبي حيوة ) لاَ يَضُرُّكُمْ ( وأن يكون جواباً للأمر مجزوماً وإنما ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل لا يضركم ويجوز أن يكون نهياً انتهى . وقرأ الحسن بضم الضاد وسكون الراء من ضار يضور ، وقرأ النخعي بكسر الضاد وسكون الراء من ضار يضير وهي لغات .
( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( أي مرجع المهتدين والضالين وغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وزيد تقومان وهذا فيه تذكير بالحشر وتهديد بالمجازاة .
المائدة : ( 106 ) يا أيها الذين . . . . .
( يِأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ( روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدي يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبساً جاماً من فضة مخوصاً بالذهب فاستحلفهما ، وفي رواية فحلفهما بعد العصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( ما كتمتا ولا اطلعتما ) ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من عدي وتميم فجاء الرجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا قال : فأخذ الجام وفيهم نزلت الآية ، قيل والسهمي هو مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم وأن جام الفضة كان يريد به الملك وهو أعظم تجاراته وأن عدياً وتميماً باعاه بألف درهم واقتسماها ، وقيل اسمه بديل بن أبي مارية مولى العاصي بن وائل السهمي وأنه خرج مسافراً في البحر إلى أرض النجاشي . وأن إناء الفضة كان وزنه ثلثمائة مثقال وكان مموّهاً بالذهب قال فقدموا الشام ، فمرض بديل وكان مسلماً الحديث . وذكر أبو عبد الله بن الفضل أن ورثة بديل قالوا لهما ألستما زعمتما أن صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه ، فما بال هذا الإناء معكما وهو مما خرج صاحبنا به وقد حلفتما عليه قالا إنا كنا ابتعناه منه ، ولم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقر لكم فتأخذوه منا وتسألوا عليه البينة ولا نقدر عليها فرفعوهما إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فنزلت انتهى . وفي رواية قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر وأديت لهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فسألهم البينة فلم يجدوا ما أمروا به فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطه به على أهل

" صفحة رقم 43 "
دينه فحلف فأنزل الله هذه الآية إلى قوله : ) بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ( فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يد عدي بن زيد وزاد الواقدي في حديثه أن تميماً وعدي كانا أخوين ويعني والله أعلم أنهما أخوان لأم وأن بديلاً كتب وصيته بيده ودسها في متاعه ، وأوصى إلى تميم وعدي أن يؤدّيا رحله وأن الرسول استحلفهما بعد العصر وأنه حلف عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة ، وذكر الزمخشري هذا السبب مختصراً مجرداً فذكر فيه أن بديل بن أبي مريم كان من المهاجرين وأنه كتب كتاباً فيه ما معه وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدوا فرفعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فنزلت ، وقال ابن عطية ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامه وقد عده بعض المتأخرين في الصحابة ، وقال مكي بن أبي طالب : هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً ، قال ابن عطية وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها وذلك بين من كتابه انتهى . وقال أبو الحسن السخاوي ما رأيت أحداً من الأئمة تخلص كلامه فيها من أولها إلى آخرها انتهى . ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( كان في ذلك تنفير عن الضلال واستبعاد عن أن ينتفع بهم في شيء من أمور المؤمنين من شهادة أو غيرها فأخبر تعالى بمشروعية شهادتهم أو الإيصاء إليهم في السفر على ما سيأتي بيانه ، وقال أبو نصر القشيري لما نزلت السورة بالوفاء بالعقود وترك الخيانات انجر الكلام إلى هذا ، وقرأ الجمهور ) شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ( بالرفع وإضافة ) شَهَادَةً ( إلى ) بَيْنِكُمْ ( ، وقرأ الشعبي والحسن والأعرج ) شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ( برفع شهادة وتنوينه ، وقرأ السلمي والحسن أيضاً ) شَهَادَةً ( بالنصب والتنوين وروي هذا عن الأعرج وأبي حيوة و ) بَيْنِكُمْ ( في هاتين القراءتين منصوب على الظرف فشهادة على قراءة الجمهور مبتدأ مضاف إلى بين بعد الاتساع فيه كقوله هذا فراق بيني وبينك وخبره ) اثْنَانِ ( تقديره شهادة اثنين أو يكون التقدير ذوا شهادة بينكم إثنان واحتيج إلى الحذف ليطابق المبتدأ الخبر وكذا توجيه قراءة الشعبي والأعرج ، وأجاز الزمخشري أن يرتفع اثنان على الفاعلية بشهادة ويكون شهادة مبتدأ وخبره محذوف وقدره فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان ، وقيل شهادة مبتدأ خبره إذا حضر أحدكم الموت ، وقيل خبره ) حِينَ الْوَصِيَّةِ ( ، ويرتفع ) اثْنَانِ ( على أنه خبر مبتدأ محذوف ، التقدير الشاهدان اثنان ذوا عدل منكم ، أو على الفاعلية ، التقدير يشهد اثنان ، وقيل ) شَهَادَةً ( مبتدأ ) واثنان ( مرتفع به على الفاعلية وأغنى الفاعل عن الخبر . وعلى الإعراب الأول يكون إذاً معمولاً للشهادة وأما ) إِلَى حِينٍ ( فذكروا أنه يكون معمولاً لحضر أو ظرفاً للموت أو بدلاً من إذا ولم يذكر الزمخشري غير البدل ، قال ) وَحِينَ الْوَصِيَّةِ ( بدل منه يعني من ) إِذَا ( وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية وأنها من الأمور اللازمة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهب عنها ، وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل انتهى . وقال الماتريدي واتبعه أبو عبد الله الرازي : التقدير ما بينكم فحذف ما ، قال أبو عبد الله الرازي : يعني شهادة ما بينكم ، ( وَبَيْنَكُمْ ( كناية عن التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع وحذف ما من قوله ما بينكم جائز لظهوره ونظيره ) هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( أي ما بيني وبينك وقوله ) لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ

" صفحة رقم 44 "
في قراءة من نصب انتهى ، وحذف ما الموصولة لا يجوز عند البصريين ومع الإضافة لا يصح تقدير ما البتة وليس قوله ) هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ ( نظيره ) لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ( لأن ذلك مضاف إليه وهذا باق على طريقته فيمكن أن يتخيل فيه تقدير ما لأن الإضافة إليه أخرجته عن الظرفية وصيرته مفعولاً به على السعة وأما تخريج قراءة السلمي والحسن ) شَهَادَةً ( بالنصب والتنوين ونصب ) بَيْنِكُمْ ( فقدره الزمخشري ليقم شهادة اثنان فجعل ) شَهَادَةً ( مفعولاً بإضمار هذا الأمر و ) اثْنَانِ ( مرتفع بليقم على الفاعلية وهذا الذي قدره الزمخشري هو تقدير ابن جني بعينه ، قال ابن جني التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان انتهى ، وهذا الذي ذكره ابن جني مخالف لما قاله أصحابنا قالوا لا يجوز حذف الفعل وإبقاء فاعله إلا أن أشعر بالفعل ما قبله كقوله تعالى : ب ) سَبِّحِ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ ( على قراءة من فتح الباء فقرأه مبنياً للمفعول وذكروا في اقتياس هذا خلافاً أي يسبحه رجال فدل يسبح على يسبحه أو أجيب به نفي كان يقال لك ما قام أحد عندك فتقول بلى زيد أي قام زيد أو أجيب به استفهام كقول الشاعر : ألا هل أتى أم الحويرث مرسلا
بل خالدان لم تعقه العوائق
التقدير أتى خالد أو يأتيها خالد وليس حذف الفعل الذي قدره ابن جني وتبعه الزمخشري واحداً من هذه الأقسام الثلاثة والذي عندي أن هذه القراءة الشاذة تخرج على وجهين : أحدهما أن يكون شهادة منصوبة على المصدر الذي ناب مناب الفعل بمعنى الأمر واثنان مرتفع به والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب قولك : ضرباً زيداً إلا أن الفاعل في ضرباً مسند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب وهذا مسند إلى الظاهر لأن معناه ليشهد ، والوجه الثاني أن يكون أيضاً مصدراً ليس بمعنى الأمر بل يكون خبراً ناب مناب الفعل في الخبر ، وإن كان ذلك قليلاً كقولك افعل وكرامة ومسرة أي وأكرمك وأسرك فكرامة ومسرة بدلان من اللفظ بالفعل في الخبر وكما هو الأحسن في قول امرىء القيس :
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم
فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفاً لأنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر التقدير وقف صحبي على مطيهم والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان ، والشهادة هنا هل هي التي تقام بها الحقوق عند الحكام أو الحضور أو اليمين ثلاثة أقوال آخرها للطبري والقفال كقوله : ) فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ ( ، وقيل تأتي الشهادة بمعنى الإقرار نحو قوله : ) وَالْمَلَئِكَةُ يَشْهَدُونَ ( وبمعنى العلم نحو قوله : ) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( وبمعنى الوصية وخرجت هذه الآية عليه فيكون فيها أربعة أقوال .
( ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ( ) ذَوَا عَدْلٍ ( صفة لقوله ) اثْنَانِ ( و ) مّنكُمْ ( صفة أخرى و ) مِنْ غَيْرِكُمْ ( صفة لآخران ، قال الزمخشري ) مّنكُمْ ( من أقاربكم و ) مِنْ غَيْرِكُمْ ( من الأجانب ) إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ ( يعني أن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هو أصلح وهم له أنصح ،

" صفحة رقم 45 "
وقيل ) مّنكُمْ ( من المسلمين وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر ، وعن مكحول نسخها قوله : ) وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ ( انتهى . وما اختاره الزمخشري وبدأ به أولاً هو قول ابن عباس وعكرمة والحسن والزهري قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم أحق بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أسندها إلى غيرهما من المسلمين الأجانب وهذا القول مخالف لما ذكره الزمخشري وغيره من المفسرين حتى ابن عطية قال لا نعلم خلافاً أن سبب هذه الآية أن تميماً الداري وعدي بن زياد كانا نصرانيين وساقا الحديث المذكور أولاً فهذا القول مخالف لسبب النزول وأما القول الثاني الذي حكاه الزمخشري هو مذهب أبي موسى وابن المسيب ويحيى بن يعمر وابن جبير وأبي مجلز وابراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي ، وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال الثوري ومال إليه أبو عبيد واختاره أحمد قالوا : معنى قوله : ) مّنكُمْ ( من المؤمنين ومعنى ) مِنْ غَيْرِكُمْ ( من الكفار ، قال بعضهم وذلك أن الآية نزلت ولا يؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفار ومذهب أبي موسى وشريح وغيرهما أن الآية محكمة ، قال أحمد : شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين ورجح أبو عبد الله الرازي هذا القول قال : قوله : ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( خطاب لجميع المؤمنين فلما قال : ) يِأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَادَةُ ( كان من غير المؤمنين لا محالة وبأنه لو كان الآخران مسلمين لم يكن جواز الاستشهاد بهما مشروطاً بالسفر لأن المسلم جائز استشهاده في الحضر والسفر وبأنه دلت الآية على وجوب الحلف من بعد الصلاة وأجمع المسلمون على أن الشاهد لا يجب تحليفه فعلمنا أنهما ليسا من المسلمين وبسبب النزول وهو شهادة النصرانيين على بديل وكان مسلماً وبأن أبا موسى قضى بشهادة يهوديين بعد أن حلفهما وما أنكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعاً وباتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل وليس فيها منسوخ ، وقال أبو جعفر النحاس ناصراً للقول الأول : هذا ينبني على معنى غامض في العربية وذلك أن معنى آخر في العربية من جنس الأول تقول مررت بكريم وكريم آخر فقوله آخر يدل على أنه من جنس الأول ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر ولا مررت برجل وحمار آخر فوجب من هذا أن يكون معنى قوله أو آخران من غيركم أي عدلان والكفار لا يكونون عدولاً انتهى ، وما ذكره في المثل صحيح إلا أن الذي في الآية مخالف للمثل التي ذكرها النحاس في التركيب لأنه مثل بآخر وجعله صفة لغير جنس الأول . وأما الآية فمن قبيل ما تقدم فيه آخر على الوصف واندرح آخر في الجنس الذي قبله ولا يعتبر جنس وصف الأول تقول : جاءني رجل مسلم وآخر كافر ومررت برجل قائم وآخر قاعدٍ واشتريت فرساً سابقاً وآخر مبطئاً فلو أخرت آخر في هذه المثل لم تجز المسألة لو قلت : جاءني رجل مسلم وكافر آخر ومررت برجل قائم وقاعد آخر واشتريت فرساً سابقاً ومبطئاً آخر لم يجز وليست الآية من هذا القبيل إلا أن التركيب فيها جاء ) اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ( فآخران من جنس قوله ) اثْنَانِ ( ولا سيما إذا قدرته رجلان اثنان فآخران هما من جنس قولك رجلان اثنان ولا يعتبر وصف قوله ) ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ ( وإن كان مغايراً لقوله من غيركم كما لا يعتبر وصف الجنس في قولك عندي رجلان اثنان مسلمان

" صفحة رقم 46 "
وآخران كافران إذ ليس من شرط آخر إذا تقدم أن يكون من جنس الأول بعيد وصفه وهو على ما ذكرته هو لسان العرب قال الشاعر : كانوا فريقين يصغون الزجاج على
قعس الكواهل في أشداقها ضخم
وآخرين على الماذيّ فوقهم
من نسج داود أو ما أورثت إرم
التقدير كانوا فريقين فريقاً أو ناساً يصغون الزجاج ثم قال وآخرين ترى المأذى ، فآخرين من جنس قولك فريقاً ، ولم يعبره بوصفه وهو قوله يصغون الزجاج لأن الشاعر قسم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصفين متحدي الجنس ، وهذا الفرق قل من يفهمه فضلاً عمن يعرفه ، وأما القول الثالث الذي حكاه الزمخشري وهو أنه منسوخ ، وحكاه عن مكحول ، فهو قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال : تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض لا على المسلمين ، والناسخ قوله : ) مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء ( وقوله : ) وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ ( وزعموا أن آية الدين من آخر ما نزل ، والظاهر أن أو للتخيير وقال به ابن عباس فمن جعل قوله ) مِنْ غَيْرِكُمْ ( أي من عشيرتككان مخيرا بين ان يستشهد ى قاربه أو الأجانب من المسلمين من زعم أن قوله من غيركم أي من الكفار فاختلفوا . فقيل غيركم يعني به أهل الكتاب وروي ذلك عن ابن عباس ، وقيل أهل الكتاب والمشركين وهو ظاهر قوله ) مِنْ غَيْرِكُمْ ( ، وقيل أو للترتيب إذا كان قوله ) مِنْ غَيْرِكُمْ ( يعني به من غير أهل ملتكم فالتقديران لم يوجد من ملتكم .
( إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ( هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب ولو جرى على لفظ ) إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ( لكان التركيب إن هو ضرب في الأرض فأصابته مصيبة الموت وإنما جاء الالتفات جمعاً لأن قوله ) أَحَدَكُمُ ( معناه إذا حضر كل واحد منكم الموت ، والمعنى إذا سافرتم في الأرضلمص الحكم ومعايشكم ، وظاهر الآية يقتضي أن استشهاد آخرين من غير المسلمين مشروط بالسفر في الأرض وحضور علامات الموت .
( تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلواةِ ( الخطاب للمؤمنين لا لما دلّ عليه الخطاب في قوله ) إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ فَأَصَابَتْكُم ( لأن ضرب في الأرض وأصابه الموت ليس هو الحابس ، ( تَحْبِسُونَهُمَا ( صفة لآخران واعترض بين الموصوف والصفة بقوله ) إِنْ أَنتُمْ إِلَى الْمَوْتِ ( وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة ، حسب اختلاف العلماء في ذلك ، إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه استغنى عن جواب إن لما تقدم من قوله ) ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ( انتهى . وإلى أن ) تَحْبِسُونَهُمَا ( صفة ذهب الحوفي وأبو البقاء وهو ظاهر كلام ابن عطية إذ لم يذكر غير قول أبي علي الذي قدّمناه .
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : ما موضع ) تَحْبِسُونَهُمَا ). ( قلت ) : هو استئناف كلام كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما فكيف إن ارتبنا فقيل : ) تَحْبِسُونَهُمَا ( ، وما قاله الزمخشري من الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته . وإنما قال الزمخشري بعد اشتراط العدالة فيهما لأنه اختار أن يكون قوله أو آخران

" صفحة رقم 47 "
من غيركم معناه أو عدلان آخران من غير القرابة وتقدم من كلام أبي على أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه إلى آخر كلامه ، فظهر منه أن تقدير جواب الشرط هو ) إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ( فاستشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم ، والظاهر أن الشرط قيد في شهادة اثنين ذوي عدل من المؤمنين أو آخرين من غير المؤمنين فيكون مشروعية الوصية للضارب في الأرض المشارف على الموت أن يشهد اثنين ، ويكون تقدير الجواب : إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فاستشهدوا اثنين إما منكم وإما من غيركم ، ولا يكون الشرط إذ ذاك قيداً في آخرين من غيرنا فقط ، بل هو قيد فيمن ضرب في الأرض وشارف الموت فيشهد اثنان منا أو من غيرنا . وقال ابن عباس في الكلام محذوف تقديره فأصابتكم مصيبة الموت وقد استشهدتموهما على الإيصاء ، وقال ابن جبير تقديره وقد أوصيتم . قيل وهذا أولى لأن الشاهد لا يحلف والموصي يحلف . ومعنى ) تَحْبِسُونَهُمَا ( تستوثقونهما لليمين والخطاب لمن يلي ذلك من ولاة الإسلام ، وضمير المفعول عائد في قول على آخرين من غير المؤمنين وظاهر عوده على اثنين منا أو من غيرنا سواء كانا وصيين أو شاهدين ، وظاهر قوله من بعد الصلاة أن الألف واللام للجنس أو من بعد أي صلاة ، وقد قيل بهذا الظاهر وخص ذلك ابن عباس بصلاة دينهما وذلك تغليظ في اليمين ، وقال الحسن بعد العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما ، وقال الجمهور هي صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وكذا فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) استحلف عدياً وتميماً بعد العصر عند المنبر ورجح هذا القول بفعله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وبقوله في الصحيح : ( من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان ) . وبأن التحليف كان معروفاً بعدهما فالتقييد بالمعروف يغني عن التقييد باللفظ وبأن جميع الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه فتكون الألف واللام في هذا القول للعهد وكذا في قول الحسن .
( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذَاً لَّمِنَ ( ظاهره تقييد حلفهما بوجود الارتياب فمتى لم توجد الريبة فلا تحليف . وينبغي أن يحمل تحليف أبي موسى لليهوديين اللذين استشهدهما مسلم توفي على وصيته على أنه وقعت ريبة وإن لم يذكر ذلك في قصة ذلك المسلم ، والفاء في قوله ) فَيُقْسِمَانِ ( عاطفة هذه الجملة على قوله ) تَحْبِسُونَهُمَا ( هذا هو الظاهر . وقال أبو علي وإن شئت لم تقدر الفاء لعطف جملة ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرمة : وإنسان عيني يحسر الماء تارة
فيبدو وتارات يجم فيغرق
تقديره عندهم إذا حسر بدا فكذلك إذا حبستموهما اقسما انتهى . ولا ضرورة تدعو إلى تقدير شرط محذوف وإبقاء جوابه فتكون الفاء إذ ذاك فاء الجزاء وإلى تقدير مضمر بعد الفاء أي فهما يقسمان وفهو يبدو ، وخرّج أصحابنا بيت ذي الرمة على توجيه آخر وهو أن قوله : يحسر الماء تارة . جملة في موضع الخبر وقد عربت عن الرابط فكان القياس أن لا تقع خبراً للمبتدأ لكنه عطف عليهما بالفاء جملة فيها ضمير المبتدأ فحصل الربط بذلك و ) لاَ نَشْتَرِى ( هو جواب قوله فيقسمان بالله وفضل بين القسم وجوابه بالشرط . والمعنى إن ارتبتم في شأنهما

" صفحة رقم 48 "
واتهمتموهما فحلفوهما ، وقيل إن أريد بهما الشاهدان ، فقد نسخ تحليف الشاهدين وإن أريد الوصيّان فليس بمنسوخ تحليفهما وعن عليّ أنه كان يحلّف الشاهد والراوي إذا اتهمها ، والضمير في ) بِهِ ( عائد على الله أو على القسم أو على تحريف الشهادة ، أقوال ثالثها لأبي علي ، وقوله : ) نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً ( كناية عن الاستبدال عرضاً من الدنيا وهو على حذف مضاف أي ذا ثمن لأن الثمن لا يشتري ولا يصح أن يكون ) لاَ نَشْتَرِى ( لا نبيع هنا وإن كان ذلك في اللغة . قال الزمخشري أن لا تحلف بالله كاذبين لأجل المال ولو كان من نقسم لأجله قريباً منا وذلك على عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً فإنهم داخلون تحت قوله : ) كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ ( وإنما قال فإنهم داخلون إلى آخره لأن الاثنين والآخرين عنده مؤمنون فاندرجوا في قوله : ) بَصِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ ( الآية . قال ابن عطية وخص ذا القربى بالذكر لأن العرف ميل النفس إلى أقربائهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل والجملة من قوله : ) وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ( معطوفة على قوله : ) لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً ( فيكون من جملة المقسم عليه وأضاف الشهادة إلى الله لأنه تعالى هو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها ويحتمل أن يكون ) وَلاَ نَكْتُمُ ( خبراً منهما أخبرا عن أنفسهما أنهما لا يكتمان شهادة الله ولا يكون داخلاً تحت المقسم عليه . وقرأ الحسن والشعبي ) وَلاَ نَكْتُمُ ( بجزم الميم نهياً أنفسهما عن كتمان الشهادة ودخول لا الناهية على المتكلم قليل نحو قوله : إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد
بها أبداً ما دام فيها الجراضم
وقرأ علي ونعيم بن ميسرة والشعبي بخلاف عنه ) شَهَادَةَ اللَّهِ ( بنصبهما وتنوين ) شَهَادَةً ( وانتصبا بنكتم التقدير ولا نكتم الله شهادة ، قال الزهراوي ويحتمل أن يكون المعنى ولا نكتم شهادة والله ثم حذف الواو ونصب الفعل إيجازاً . وروي عن عليّ والسلميّ والحسن البصري شهادة بالتنوين آلله بالمدّ في همزة الاستفهام التي هي عوض من حرف القسم دخلت تقريراً وتوقيفاً لنفوس المقسمين أو لمن خاطبوه ، وروي عن الشعبي وغيره أنه كان يقف على شهادة بالهاء الساكنة الله بقطع ألف الوصل دون مد الإستفهام . قال ابن جني الوقف على شهادة بسكون الهاء واستئناف القسم حسن لأن استئنافه في أول الكلام أوقر له وأشدّ هيبة من أن يدخل في عرض القول . وروي عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش ) شَهَادَةً ( بالتنوين ) اللَّهِ ( بقطع الألف دون مد وخفض هاء الجلالة ورويت هذه عن الشعبي . وقرأ الأعمش وابن محيصن لملائمين بإدغام نون من في لام الآثمين بعد حذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام .
المائدة : ( 107 ) فإن عثر على . . . . .
( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً ( أي فإن عثر بعد حلفهما على أنهما استحقا إثماً أي ذنبا بحنثهما في اليمين بأنها ليست مطابقة للواقع ) وعثر ( استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه وبعد إن لم يرح ولم يقصد كما تقول على الخبير سقطت ووقعت على كذا . قال أبو علي : الإثم هنا هو الشيء المأخوذ لأن أخذه إثم قسمي إثماً كما يسمى ما أخذ بغير الحق مظلمة ، قال سيبويه المظلمة اسم ما أخذ منك ولذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر انتهى . والظاهر أن الإثم هنا ليس

" صفحة رقم 49 "
الشيء المأخوذ بل الذنب الذي استحقا به أن يكونا من الآثمين الذي تبرآ أن يكونا منهم في قولهما ) اللَّهِ إِنَّا إِذَاً لَّمِنَ الاْثِمِينَ ( ولو كان الإثم هو الشيء المأخوذ ما قيل فيه استحقا إثماً لأنهما ظلما وتعدّيا وذلك هو الموجب للإثم .
( فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاْوْلَيَانِ ( قرأ الحرميان والعربيان والكسائي ) اسْتَحَقَّ ( مبنياً للفاعل ) والأوليان ( مثنى مرفوع تثنية الأولى ورويت هذه القراءة عن أبي وعليّ وابن عباس وعن ابن كثير في رواية قرة عنه ، وقرأ حمزة وأبو بكر ) الَّذِينَ اسْتَحَقَّ ( مبنياً للمفعول ) والأوليان ( جمع الأول ، وقرأ الحسن ) الَّذِينَ اسْتَحَقَّ ( مبنياً للفاعل الأولان مرفوع تثنية أول ، وقرأ ابن سيرين الأوليين تثنية الأولى فأما القراءة الأولى فقال الزمخشري ) فَآخَرَانِ ( فشاهدان آخران ) يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ ( عليهم أي من الذين استحق عليهم الإثم ، ومعناه وهم الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعترته ، وفي قصة بدليل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين حلف رجلين من ورثته أنه إناء صاحبهما وأن شهادتهما أحق من شهادتهما ، ( والأوليان ( الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وارتفاعهما على هما لأوليان كأنه قيل ومن هما فقيل ) عَلَيْهِمُ الاْوْلَيَانِ ( ، وقيل هما بدل من الضمير في ) يِقُومَانُ ( أو من آخران ويجوز أن يرتفعا باستحق أي من الذين استحق عليهم ابتدأت الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال انتهى . وقد سبقه أبو عليّ إلى أن تخريج رفع ) الاْوْلَيَانِ ( على تقديرهما لأوليان ، وعلى البدل من ضمير ) يِقُومَانُ ( وزاد أبو عليّ وجهين آخرين ، أحدهما أن يكون ) الاْوْلَيَانِ ( مبتدأ ومؤخراً ، والخبر آخران يقومان مقامهما . كأنه في التقدير فالأوليان بأمر الميت آخران يقومان فيجيء الكلام كقولهم تميمي أنا والوجه الآخر أن يكون ) الاْوْلَيَانِ ( مسنداً إليه ) اسْتَحَقَّ ). قال أبو عليّ فيه شيء آخر وهو أن يكون ) الاْوْلَيَانِ ( صفة لآخران لأنه لما وصف خصص فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له انتهى . وهذا الوجه ضعيف لاستلزامه هدم ما كادوا أن يجمعوا عليه من أن النكرة لا توصف بالمعرفة ولا العكس وعلى ما جوّزه أبو الحسن يكون إعراب قوله : ) فَآخَرَانِ ( مبتدأ والخبر ) يِقُومَانُ ( ويكون قد وصف بقوله من الذين أو يكون قد وصف بقوله ) يِقُومَانُ ( والخبر ) مِنَ الَّذِينَ ( ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر أو يكونان صفتين لقوله : ) فَآخَرَانِ ( ويرتفع آخران على خبر مبتدإ محذوف أي فالشاهدان آخران ويجوز عند بعضهم أن يرتفع على الفاعل ، أي فليشهد آخران وأما مفعول ) اسْتَحَقَّ ( فتقدم تقدير الزمخشري أنه استحق عليهم الإثم ، ويعني أنه ضمير عائد على الإثم لأن الإثم محذوف ، لأنه لا يجوز حذف المفعول الذي لم يسم فاعله وقد سبقه أبو عليّ والحوفي إلى هذا التقدير وأجازوا وجهين آخرين أحدهما : أن كون التقدير استحق عليهم الإيصاء ، والثاني : أن يكون من الذين استحق عليهم الوصية وأما ما ذكره الزمخشري من ارتفاع قوله ) الاْوْلَيَانِ ( باستحق فقد أجازه أبو علي كما تقدم ثم منعه قال لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئاً منها . وأما ) الاْوْلَيَانِ ( بالميت فلا يجوز أن يستحقا فيسند ) اسْتَحَقَّ ( إليهما إلا أن الزمخشري إنما رفع قوله الأوليان باستحق على تقدير حذف مضاف ناب عنه ) الاْوْلَيَانِ ( ، فقدره استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال فيسوغ توجيهه ، وأجاز ذلك ابن جرير على أن يكون التقدير من الذين استحق عليهم إثم الأولين ، وأجاز ابن عطية أيضاً أن يرتفع ) الاْوْلَيَانِ ( باستحق وطول في تقرير ذلك وملخصه أنه حمل استحق هنا على الاستعارة بأنه ليس استحقاقاً حقيقة لقوله ) اسْتَحَقَّا إِثْماً ( وإنما معناه أنهم غلبوا على المال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهل دينه فجعل تسورهم عليه استحقاقاً مجازاً والمعنى من

" صفحة رقم 50 "
الجماعة التي غابت وكان حقها أن تحضر وليها ، قال فلما غابت وانفرد هذا الموصي استحقت هذه الحال وهذان الشاهدان من غير أهل الدين الولاية وأمر الأوليين على هذه الجماعة ثم يبنى الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازاً ، ويقوي هذا الغرض أن يعدى الفعل على لما كان باقتدار وحمل هنا على الحال ، ولا يقال استحق منه أو فيه إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه ، وأما استحق عليه فيقال في الحمل والغلبة والاستحقاق المستعار انتهى . والضمير في ) مَقَامَهُمَا ( عائد على شاهدي الزور و ) مِنَ الَّذِينَ ( هم ولاة الميت . وقال النحاس في قول من قدر الذين استحق عليهم الإيصاء هذا من أحسن ما قيل فيه لأنه لم يجعل حرف بدلاً من حرف يعني أنه لم يجعل على بمعنى في ولا بمعنى من ، وقد قيل بهما أي من الذين استحق منهم الإثم لقوله : ) إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ ( أي من الناس استحق عليهم الإثم وأجاز ابن العربي تقدير الإيصاء واختار أبو عبد الله الرازي وابن الفضل أن يكون التقدير من الذين استحق عليهم المال ، قال أبو عبد الله وقد أكثر الناس في أنه لم وصف موالي بهذا الوصف ، وذكروا فيه قولاً والأصح عندي فيه وجه واحد وهو أنهم وصفوا بذلك بأنه لما أخذ مالهم استحق عليهم مالهم فإن من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال تعلق ملكه له فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليك ذلك المال انتهى . ) والأوليان ( بمعنى الأقربين إلى الميت أو الأوليان بالحلف ؛ وذلك أن الوصيين ادعيا أن مورث هذين الشاهدين باعهما الإناء وهما أنكرا ذلك فاليمين حق لهما . كإنسان أقر لآخر بدين وادعى أنه قضاه فترد اليمين على الذي ادعى أولاً لأنه صار مدعى عليه وتلخص في إعراب الأوليان على هذه القراءة وجوه الابتداء والخبر لمبتدأ محذوف والبدل من ضمير ) فَآخَرَانِ يِقُومَانُ ( والبدل من آخران والوصف لآخران والمفعولية باستحق على حذف مضاف مختلف في تقديره .
وأما القراءة الثانية وهي بناء ) اسْتَحَقَّ ( للفاعل ورفع الأوليين فقال الزمخشري معناه من الورثة الذين استحق عليهم أوليان من سهم بالشهادة أن يجردوهما لقيام الشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين انتهى .
وقال ابن عطية ما ملخصه ) الاْوْلَيَانِ ( رفع باستحق وذلك على أن يكون المعنى ) مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ( مالهم وتركهم شاهدا الزور فسميا أوليين أي صيرهما عدم الناس أولى بهذا الميت ، وتركته فجازا فيها ، أو يكون المعنى من الذين حق عليهم أن يكون الأوليان منهم فاستحق بمعنى حق كاستعجب وعجب ، أو يكون ) اسْتَحَقَّ ( بمعنى سعي واستوجب فالمعنى من القوم الذين حضر أوليان منهم فاستحقا عليهم أي استحقا لهم وسعيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقربانهما انتهى . وقال بعضهم المفعول محذوف أي من الذين استحق عليهم الأوليان وصيتهما .
وأما القراءة الثالثة وهي قراءة ) اسْتَحَقَّ ( مبنياً للمفعول والأولين جمع الأول فخرج على أن الأولين وصف للذين ، قال أبو البقاء أو بدل من الضمير المجرور بعلى ، قال الزمخشري أو منصوب على المدح ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها انتهى ؛ وهذا على تفسير أن قوله : ) يِأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَادَةُ ( أنهم الأجانب لا أنهم الكفار ، وقال ابن عطية معناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم أي غلبوا عليه ثم وصفهم بأنهم أولون أي في الذكر في هذه الآية وذلك في قوله : ) اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ ( انتهى .

" صفحة رقم 51 "
وأما القراءة الرابعة وهي قراءة الحسن فالأولان مرفوع باستحق . قال الزمخشري ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعى وهو أبو حنيفة وأصحابه لا يرون ذلك فوجه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما اختانا فحلفا فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتماه فأنكر الورثة فكان اليمين على الورثة لإنكارهم الشراء .
وأما القراءة الخامسة وهي قراءة ابن سيرين فانتصاب الأوليين على المدح .
( فَيُقْسِمَانِ اللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا ( أي فيقسم الآخران القائمان مقام شهادة التحريف أن ما أخبرا به حق والذي ذكرناه من نص القصة أحق مما ذكراه أولاً وحرفا فيه وما زدنا على الحد . وقال ابن عباس ليميننا أحق من يمينهما ومن قال الشهادة في أول القصة ليست بمعنى اليمين قال هنا الشهادة يمين وسميت شهادة لأنها يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة . قال ابن الجوزي ) أَحَقُّ ( أصح لكفرهما وإيماننا انتهى .
( إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ( ختما بهذه الجملة تبرياً من الظلم واستقباحاً له وناسب الظلم هنا لقولهما ) وَمَا اعْتَدَيْنَا ( والاعتداء والظلم متقاربان وناسب ختم ما أقسم عليه شاهدا الزور ) إِذَاً لَّمِنَ الاْثِمِينَ ( لأن عدم مطابقة يمينهما للواقع وكتمهما الشهادة يجران إليهما الإثم .
( ذالِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ( أي ذلك الحكم السابق ولما كان الشاهدان لهما حالتان : حالة يرتاب فيها إذا شهدا ، فإذ ذاك يحبسان بعد الصلاة ويحلفان اليمين المشروعة في الآية قوبلت هذه الحالة بقوله :
المائدة : ( 108 ) ذلك أدنى أن . . . . .
( ذالِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ( أي على ما شهدا حقيقة دون إنكار ولا تحريف ولا كذب ، وحالة يطلع فيها إذا شهدا على إثمهما بالشهادة وكذبهما في الحلف ، فإذ ذاك لا يلتفت إلى أيمانهم وترد على شهود آخرين فعمل بأيمانهم وذلك بعد حلفهم وافتضاحهم فيها بظهور كذبهم قوبلت هذه الحالة بقوله : ) أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ( وكان العطف بأو لأن الشاهدين إذا لم يتضح صدقهما لا يخلوان من إحدى هاتين الحالتين إما حصول ريبة في شهادتهما وإما الاطلاع على خيانتهما فلذلك كان العطف بأو الموضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فالمعنى ما تقدّم ذكره من الأحكام أقرب إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغي أو خوف رد الأيمان إلى غيرهم فتسقط أيمانهم ولا تقبل . قال ابن عباس ذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ثم يخافون الفضيحة ورد اليمين انتهى . وقيل ذلك إشارة إلى تحليف الشاهدين في جمع من الناس . وقيل إلى الحبس بعد الصلاة فقط . قال ابن عطية ويظهر هذا من كلام السدّي وأو على هذا التأويل بمنزلة قولك تحبني يا زيد أو تسخطني كأنك قلت وإلا أسخطتني فكذلك معنى الآية ) ذالِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَإِلاَّ خَافُواْ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ ( وأما على مذهب ابن عباس فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا أو أقرب إلى أن يخافوا انتهى . فتلخص أن ) أَوْ ( تكون على بابها أو تكون بمعنى الواو ، و ) يَخَافُواْ ( معطوف في هذين الوجهين على ) يَأْتُواْ ( أو يكون بمعنى إلى أن كقولك لألزمنك أو تقضيني حقي وهي التي عبر عنها ابن عطية بتلك العبارة السابقة من تقديرها بشرط محذوف فعله وجزاؤه ، وإذا كانت بمعنى إلى أن فهي عند البصريين على بابها من كونها لأحد الشيئين . إلا أن العطف بها لا يكون على الفعل الذي هو ) يَأْتُواْ ( لكنه يكون على مصدر متوهم وذلك على ما تقرر في علم العربية ، وجمع الضمير في يأتوا وما بعده وإن كان السابق مثنى فقيل هو عائد على الشاهدين باعتبار الصنف والنوع ، وقيل لا يعود إلى كليهما بخصوصيتهما بل إلى الناس الشهود والتقدير ذلك أدنى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي .
( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ ( أي احذروا عقاب الله تعالى واتخذوا وقاية منه بأن لا تخونوا ولا

" صفحة رقم 52 "
تحلفوا به كاذبين وأدوا الأمانة إلى أهلها واسمعوا سماع إجابة وقبول .
( وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( إشارة إلى من حرّف الشهادة أنه فاسق خارج عن طاعة الله فالله لا يهديه إلا إذا تاب ، فاللفظ عام والمعنى اشتراط انتفاء التوبة .
المائدة : ( 109 ) يوم يجمع الله . . . . .
( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( مناسبة هذه لما قبلها أنه لما أخبر تعالى بالحكم في شاهدي الوصية وأمر بتقوى الله والسمع والطاعة ، ذكر بهذا اليوم المهول المخوف وهو يوم القيامة فجمع بذلك بين فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة لمن حرّف الشهادة ولمن لم يتق الله ولم يسمع ، وذكروا في نصب ) يَوْمٍ ( وجوهاً : أحدها : أنه منصوب بإضمار اذكروا . والثاني : بإضمار احذروا . والثالث : باتقوا . والرابع : باسمعوا قاله الحوفي . والخامس : بلا يهدي ، قال قوم منهم الزمخشري وأبو البقاء قالا : لا يهديهم في ذلك اليوم طريق الجنة ، قال أبو البقاء أولاً يهديهم في ذلك اليوم إلى الحجة . والسادس : أجاز الزمخشري أن ينتصب على البدل من المنصوب في قوله ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( ، وهو بدل الاشتمال ، كأنه قيل واتقوا الله يوم جمعه وفيه بعد لطول الفصل بالجملتين . والسابع أن ينتصب على الظرف والعامل فيه مؤخر تقديره ) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ( كان كيت وكيت قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية وصف الآية وبراعتها إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفاً والعامل اذكروا واحذروا مما حسن اختصاره لعلم السامع والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة ، وخص الرسل بالذكر لأنهم قادة الخلق وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق وهم المكلمون أولاً انتهى . والذي نختاره غير ما ذكروا وهو أن يكون ) يَوْمٍ ( معمولاً لقوله ) قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا ( أي قال الرسل وقت جمعهم وقول الله لهم ) مَاذَا أَجَبْتُمُ ( وصار نظير ما قلناه في قوله ) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ ( وسؤاله تعالى إياهم بقوله ماذا ) أَجَبْتُمُ ( سؤال توبيخ لأممهم لتقوم الحجة عليهم ويبتدأ حسابهم كما سئلت الموؤدة توبيخاً لوائدها وتوقيفاً له على سوء فعله وانتصاب ماذا أجبتم ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم قاله الزمخشري ، وقيام ما الاستفهامية مقام المصدر جائز وكذلك ماذا إذا جعلتها كلها استفهاماً وأنشدوا على مجيء ما ذكر مصدراً قول الشاعر : ماذا تعير ابنتي ربع عويلهما
لا ترقدان ولا بؤسي لمن رقدا
وقال ابن عطية معناه ماذا أجابت به الأمم ، ولم يجعل ما مصدراً بل جعلها كناية عن الجواب ، وهو الشيء المجاب به لا للمصدر ، وهو الذي عنى الزمخشري بقوله ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم . وقال الحوفي ما للاستفهام وهو مبتدأ بمعنى الذي خبرها وأجبتم صلته والتقدير ماذا أجبتم به انتهى ، وحذف هذا الضمير المجرور بالحرف يضعف لو قلت جاءني الذي مررت تريد به كان ضعيفاً إلا إن اعتقد أنه حذف حرف الجر

" صفحة رقم 53 "
أولاً فانتصب الضمير ثم حذف منصوباً ولا يبعد . وقال أبو البقاء ) مَاذَا ( في موضع نصب بأجبتم وحرف الجر محذوف أي بماذا أجبتم وما وذا هنا بمنزلة اسم واحد ويضعف أن يجعل ذا بمعنى الذي هنا لأنه لا عائد هنا وحذف العائد مع حرف الجر ضعيف انتهى ، وما ذكره أبو البقاء أضعف لأنه لا ينقاس حذف حرف الجر إنما سمع ذلك في ألفاظ مخصوصة ونصوا على أنه لا يجوز زيداً مررت به تريد بزيد مررت ولا سرت البيت تريد إلى البيت إلا في ضرورة شعر نحو قول الشاعر : تحن فتبدي ما بها من صبابة
وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني
يريد لقضي عليّ فحذف عليّ وعدى الفعل إلى الضمير فنصبه ونفيهم العلم عنهم بقوله ) لاَ عِلْمَ لَنَا ( ، قال ابن عباس معناه لا علم لنا إلا علماً أنت أعلم به منا كأن المعنى لا علم لنا يكفي وينتهي إلى الغاية ، وقال ابن جريج معنى ) مَاذَا أَجَبْتُمُ ( ماذا عملوا بعدكم وماذا أحدثوا فلذلك قالوا لا علم لنا ويؤيده ) إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( ، إلا أن لفظة ماذا جبتم تنبو عن أن تشرح بقوله ماذا عملوا وذكر المفسرون عن الحسن ومجاهد والسدي وسهل التستري أقوالاً في تفسير قولهم ) لاَ عِلْمَ لَنَا ( لا تناسب الرسل أضربت عن ذكرها صفحاً . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) كيف يقولون لا علم لنا وقد علموا ما أجيبوا . ( قلت ) : يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه ، وإحاطته بما منوا به منهم ، وذلك أعظم على الكفرة وأفتّ في أعضادهم ، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم إذا اجتمع عليهم توبيخ الله تعالى وتشكي أنبيائهم عليهم ، ومثاله أن ينكت بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكتة قد عرفها السلطان واطلع على كنهها ، وعزم على الانتصار له منه فيجمع بينهما ويقول له ما فعل بك هذا الخارجي وهو عالم بما فعل به يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول : أنت أعلم بما فعل بي تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه واتكالاً عليه وإظهاراً لشكايته وتعظيماً لما به انتهى ، وليست الآية كهذا المثال الذي ذكره لأن في الآية ) لاَ عِلْمَ لَنَا ( وهذا نفي لسائر أفراد العلم عنهم بالنسبة إلى الإجابة . وفي المثال أنت أعلم بما فعل بي وهذا لا ينفي العلم عنه غير أنه أثبت لسلطانه أنه أعلم بالخارجي منه . وقال ابن أبي الفضل في قول الزمخشري ليس بالقوي لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى يريد الرسول توبيخهم ، وقيل معناه علمنا ساقط مع علمك ومغمور به لأنك علام الغيوب ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم فكأنه لا علم لنا إلا جنب علمك حكاه الزمخشري بهذا اللفظ . قال الزجاج معناه مختصراً . وقال ابن عطية قول ابن عباس أصوب لأنه يترجح بالتسليم إلى الله تعالى ورد الأمر إليه إذ لا يعلمون إلا بما شوفهوا به مدة حياتهم وينقصهم ما في قلوب المشافهين من نفاق ونحوه وما كان بعدهم من أممهم والله تعالى يعلم جميع ذلك على التفصيل والكمال فرأوا التسليم له والخشوع لعلمه المحيط

" صفحة رقم 54 "
انتهى . وقيل لا علم لنا بما كان بعدنا وإنما الحكم للخاتمة . قال الزمخشري وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون موبخين انتهى . وقال ابن أبي الفضل الأصحّ ما اختاره ابن عباس أي تعلم ما أظهروا وما أضمروا ونحن ما نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا فبهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم انتهى ، فيكون مما نفيت فيه الحقيقة ظاهراً والمقصود نفي الكمال كأنه قال : لا علم لنا كامل ، تقول لا رجل في الدار أي كامل الرجولية في فوته ونفاذه . وقال أبو عبد الله الرازي ثبت في علم الأصول أن العلم غير والظن غير والحاصل عند كل أحد من الغير إنما هو الظن لا العلم ولذلك قال عليه السلام : ( نحن نحكم بالظواهر والله متولي السرائر ) . وقال عليه السلام : ( إنكم تختصمون إلى الحديث ) والأنبياء قالوا : لا علم لنا البتة بأحوالهم إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن والظن كان معتبراً في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظنون أما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحْكام مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور فلهذا السبب قالوا ) لاَ عِلْمَ لَنَا ( ولم يذكروا البتة ما معهم من الظن ، لأن الظن لا عبرة به في القيامة انتهى كلامه . وقال ابن عطية : لا علم لنا بسؤالك ولا جواب لنا عنه . وقرأ ابن عباس وأبو حيوة ) مَاذَا أَجَبْتُمُ ( مبنيًّا للفاعل . وقرأ علام بالنصب وهو على حذف الخبر لفهم المعنى فيتم الكلام بالمقدر في قوله ) إِنَّكَ أَنتَ ( أي إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره . وقال الزمخشري ثم نصب ) عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( على الاختصاص أو على النداء أو صفة لاسم إن انتهى . وهذا الوجه الأخير لا يجوز لأنهم أجمعوا على أن ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا يجوز أن يوصف وأما ضمير الغائب ففيه خلاف شاذّ ، للكسائي . وقرأ حمزة وأبو بكر الغيوب بكسر الغين حيث وقع كأنّ من قال ذلك من العرب قد استثقل توالي ضمتين مع الياء ففر إلى حركة مغايرة للضمة مناسبة لمجاورة الياء وهي للكسرة .
المائدة : ( 110 ) إذ قال الله . . . . .
( إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى والِدَتِكَ ( يحتمل أن يكون ) إِذْ ( بدلاً من قوله : ) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ( والمعنى أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وبتعدد ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام فكذبوهم وسموهم سحرة وجاوز حد التصديق إلى أن اتخذوهم آلهة كما قال بعض بني إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى من البينات ) هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ( واتخذه بعضهم وأمه إلهين قاله الزمخشري . وقال ابن عطية يحتمل أن يكون العامل في ) إِذْ ( مضمراً تقديره اذكر يا محمد ، وقال هنا بمعنى يقول لأن الظاهر من هذا القول أنه في القيامة تقدمة لقوله : ( أأنت قلت للناس ( ويحتمل أن يكون ) ( أأنت قلت للناس ( ويحتمل أن يكون ) ( ويحتمل أن يكون ) إِذْ ( بدلاً من قوله : ) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ ( انتهى . وجوزوا أن يكون إذ في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك إذ قال الله . وإذا كان المنادى علماً مفرداً ظاهر الضمة موصوفاً بابن متصل مضاف إلى علم جاز فتحه اتباعاً لفتحة ابن . هذا مذهب الجمهور وأجاز الفرّاء وتبعه أبو البقاء في ما لا يظهر فيه الضمة تقدير والفتحة فإن لم تجعل ) ابْنَ مَرْيَمَ ( صفة وجعلته بدلاً أو منادى فلا يجوز في ذلك العلم إلا الضم وقد خلط بعض المفسرين وبعض من ينتمي إلى النحو هنا ، فقال بعض المفسرين : يجوز أن يكون ) عِيسَى ( في محل الرفع لأنه منادى معرفة غير مضاف ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيداً وكل ما كان مثل هذا جاز فيه

" صفحة رقم 55 "
الوجهان نحو يا زيد بن عمرو وأنشد النحويون : يا حكم بن المنذر بن الجارود
أنت الجواد بن الجواد بن الجود
قال التبريزي الأظهر عندي أن موضع عيسى نصب لأنك تجعل الاسم مع نعته إذا أضفته إلى العلم كالشيء الواحد المضاف انتهى . والذي ذكره النحويون في نحو يا زيد بن بكر إذا فتحت آخر المنادى أنها حركة اتباع الحركة نون ابن ولم يعتد بسكون باء ابن لأن الساكن حاجز غير حصين ، قالوا : ويحتمل أن يراد بالذكر هنا الإقرار وأن يراد به الإعلام وفائدة هذا الذكر إسماع الأمم ما خصه به تعالى من الكرامة وتأكيد حجته على جاحده ، وقيل أمر بالذكر تنبيهاً لغيره على معرفة حق النعمة ووجوب شكر المنعم ، قال الحسن ذكر النعمة شكرها والنعمة هنا جنس ويدل على ذلك ما عَدّد بعد هذا التوحيد اللفظي من النعم وإضافها إليه تنبيهاً على عظمها ونعمه عليه قد عددها هنا وفي البقرة وآل عمران ومريم وفي مواضع من القرآن ونعمته على أمه براءتها مما نسب إليها وتكفيلها لزكريا وتقبلها بقبول حسن وما ذكر في سورة التحريم ) وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ ( إلى آخره وغير ذلك وأمر بذكر نعمة أمه لأنها نعمة صائرة إليه .
( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( قرأ الجمهور بتشديد الياء ، وقرأ مجاهد وابن محيصن أيدتك على أفعلتك ، وقال ابن عطية على وزن فاعلتك ، ثم قال ويظهر أن الأصل في القراءتين أيدتك على وزن أفعلتك ثم اختلف الإعلال والمعنى فيهما ) أَيَّدتُّكَ ( من الأبد ، وقال عبد المطلب : الحمد لله الأعز الأكرم
أيدنا يوم زحوف الأشرم
انتهى والذي يظهر أن أيد في قراءة الجمهور ليس وزنه أفعل لمجيء المضارع على يؤيد فالوزن فعل ولو كان أفعل لكان المضارع يؤيد كمضارع آمن يؤمن وأما من قرأ آيد فيحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل . وأما قول ابن عطية إنه في القراءتين يظهر أن وزنه أفعلتك ثم اختلف الإعلال فلا أفهم ما أراد . وتقدم تفسير نظير هذه الجملة في قوله وأيدناه بروح القدس .
( تُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ ).
تقدم تفسير نظير هذه الجمل والقراءات التي فيها والإعراب وما لم يتقدم ذكره نذكره فنقول جاء هناك ) كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ ). وقرأ ابن عباس فتنفخها فتكون . وقرأ الجمهور ) فَتَكُونُ ( بالتاء من فوق . وقرأ عيسى بن عمر فيها فيكون بالياء من تحت والضمير في ) فِيهَا ( قال ابن عطية اضطرب المفسرون فيه قال مكي هو في آل عمران عائد على الطائر وفي المائدة عائد على الهيئة ، قال ويصح عكس هذا وقال غيره الضمير المذكور عائد على ) الطّينِ ). قال ابن عطية ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطين ولا على الهيئة لأن الطير أو الطائر الذي يجيء الطير على هيئته لا نفخ فيه ألبتة ، وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة به وكذلك الطين إنما هو الطين

" صفحة رقم 56 "
العام ولا نفخ في ذلك انتهى . وقال الزمخشري ولا يرجع بعض الضمير إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء وكذلك الضمير في يكون انتهى . والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام مكي أنه لا يريد به ما فهم عنه بل يكون قوله عائداً على الطائر لا يريد به الطائر المضاف إليه الهيئة بل الطائر الذي صوره عيسى ويكون التقدير وإذ يخلق من الطين طائراً صورة مثل صورة الطائر الحقيقي فينفخ فيه فيكون طائراً حقيقة بإذن الله . ويكون قوله عائداً على الهيئة لا يريد به الهيئة المضافة إلى الطائر ، بل الهيئة التي تكون الكاف صفة لها ويكون التقدير ، وإذ تخلق من الطين هيئة مثل هيئة الطير ، فتنفخ فيها أي في الهيئة الموصوفة بالكاف المنسوب خلقها إلى عيسى ، وأما قول مكي ويصح عكس هذا ، وهو أن يكون الضمير المذكر عائداً على الهيئة والضمير المؤنث عائداً على الطائر فيمكن تخريجه على أنه ذكر الضمير وإن كان عائداً على مؤنث لأنه لحظ فيها معنى الشكل كأنه قدر هيئة كهيئة الطير بقوله شكلاً كهيئة الطير وأنه أنث الضمير وإن كان عائداً على مذكر لأنه لحظ فيه معنى الهيئة . قال ابن عطية والوجه عود ضمير المؤنث على ما تقتضيه الآية ضرورة ، أي صوراً أو أشكالاً أو أجساماً ، وعود الضمير المذكر على المخلوق الذي يقتضيه تخلق ثم قال ولك أن تعيده على ما تدل عليه الكاف في معنى المثل ، لأن المعنى وإذ تخلق من الطين مثل هيئة ولك أن تعيد الضمير على الكاف نفسه فيكون اسماً في غير الشعر ، فهو قول أبي الحسن وحده من البصريين وكذا قال الزمخشري ، إن الضمير في فيها للكاف قال لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها وجاء في آل عمران ) بِإِذُنِ اللَّهِ ( مرتين وجاء هنا ) بِإِذْنِى ( أربع مرّات عقيب أربع جمل لأن هذا موضع ذكر النعمة والامتنان بها فناسب الإسهاب وهناك موضع إخبار لبني إسرائيل فناسب الإيجاز والتقدير في وإذ تخرج الموتى تحيي الموتى فعبر بالإخراج عن الأحياء كقوله تعالى ) كَذالِكَ الْخُرُوجُ ( بعد قوله ) وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ( أو يكون التقدير وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء .
( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْراءيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيّنَاتِ ( أي منعتهم من قتلك حين هموا بك وأحاطوا بالبيت الذي أنت فيه . وقال عبيد بن عمير لما قال الله لعيسى ) اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ ( كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يؤخر شيئاً لغدو يقول مع كل يوم رزقه لم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت ، أين ما أمسى بات . وهذا القول يظهر منه أن عيسى خوطب بذلك قبل الرفع والبينات هنا هي المعجزات التي تقدم ذكرها وظهرت على يديه ولما فصل تعالى نعمته ذكر ذلك منسوباً لعيسى دون أمه لأن من هذه النعم نعمة النبوة وظهور هذه الخوارق فنعمته عليه أعظم منها على أمه إذ ولدت مثل هذا النبي الكريم . وقال الشاعر فيما يشبه هذا : شهد العوالم أنها لنفيسة
بدليل ما ولدت من النجباء
) فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( قرأ حمزة والكسائي ساحر بالألف هنا . وفي هود والصف فهذا هنا إشارة إلى عيسى . وقرأ باقي السبعة سحر فهذا إشارة إلى ما جاء به عيسى من البينات .
المائدة : ( 111 ) وإذ أوحيت إلى . . . . .
( وَإِذَا وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ ءامِنُواْ بِى ( أي أوحيت إليهم على ألسنة الرسل . وقال ابن عطية إما أن يكون وحي إلهام أو وحي أمر والرسول هنا هو عيسى وهذا الإيحاء إلى الخواريين هو من نعم الله على عيسى بأن جعل له أتباعاً يصدقونه ويعملون بما جاء به ويحتمل أن تكون تفسيرية لأنه تقدّمها جملة في معنى القول وأن تكون مصدرية .
( قَالُواْ ءامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( تقدم تفسير

" صفحة رقم 57 "
نظير هذه الجملة في آل عمران إلا أن هناك ) بِاللَّهِ فَإِذَا ( لأنه تقدم ذكر الله فقط في قوله : ) مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( وهنا جاء ) قَالُواْ ءامَنَّا ( فلم يتقيد بلفظ الجلالة إذ قد تقدم أن آمنوا وبرسولي وجاء هناك ) وَاشْهَدْ بِأَنَّا ( ، وهنا ) وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا ). وهذا هو الأصل إذ أن محذوف منه النون لاجتماع الأمثال .
المائدة : ( 112 ) إذ قال الحواريون . . . . .
( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( قال ابن عطية : ) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ( اعتراض لما وصف حال قوم الله لعيسى يوم القيامة وتضمن الاعتراض إخبار محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمته بنازلة الحواريين في المائدة إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها انتهى . والذي يقتضيه ظاهر اللفظ أن قوله تعالى : ) إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ ( إلى آخر قصة المائدة كان ذلك في الدّنيا ذكر عيسى بنعمه وبما أجراه على يديه من المعجزات وباختلاف بني إسرائيل عليه وانقسامهم إلى كافر ومؤمن وهم الحواريون ثم استطرد إلى قصة المائدة ثم إلى سؤاله تعالى لعيسى ) قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى ( ، وإنما حمل بعضهم على أن ذلك في الآخرة كونه اعتقد أن ) إِذْ ( بدلاً من ) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ( وأن في آخر الآيات ) هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ ( ولا يتعين هذا المحمل على ما نبينه إن شاء الله تعالى في قوله : ) هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ ( بل الظاهر ما ذكرناه . وقرأ الجمهور ) هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ( بالياء وضم الباء . وهذا اللفظ يقتضي ظاهره الشك في قدرة الله تعالى على أن ينزل مائدة من السماء ، وذلك هو الذي حمل الزمخشري على أن الحواريين لم يكونوا مؤمنين قال : ( فإن قلت ) : كيف قالوا هل يستطيع ربك بعد إيمانهم وإخلاصهم ( قلت ) : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص وإنما حكى ادعاءهم لهما ثم أتبعه قوله : ) إِذْ قَالُواْ ( فآذن أن دعواهم كانت باطلة وأنهم كانوا شاكين وقوله : ) هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ( كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم ولذلك قول عيسى لهم معناه اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ولا تقترحوا عليه ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها . ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة انتهى . وأما غير الزمخشري من أهل التفسير فأطبقوا على أن الحواريين كانوا مؤمنين حتى قال ابن عطية : لا خلاف أحفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين ، وقال قوم : قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرىء الأكمة والأبرص ويحيي الموتى ، قال المفسرون والحواريون هم خواص عيسى وكانوا مؤمنين ولم يشكوا في قدرة الله تعالى على ذلك . قال ابن الأنباري : لا يجوز لأحد أن يتوهم أن الحواريين شكوا في قدرة الله وإنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه : هل تستطيع أن تقوم معي ؟ وهو يعلم أنه مستطيع له ، ولكنه يريد هل يسهل عليك انتهى . وقال الفارسي : معناه هل يفعل ذلك بمسألتك إياه . وقال الحسن لم يشكوا في قدرة الله وإنما سألوه سؤال مستخبر هل ينزل أم لا فإن كان ينزل فاسأله لنا . قال ابن عطية هل يفعل تعالى هذا وهل يقع منه إجابة إليه كما قال لعبد الله بن زيد : هل يستطيع أن تريني كيف كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يتوضأ فالمعنى هل يحب ذلك وهل يفعله انتهى . وقيل المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك جائز أم لا وذلك لأن أفعاله موقوفة على وجوه الحكمة فإن لم يحصل شيء من وجوه الحكمة كان الفعل ممتنعاً فإن المنافي من وجوه الحكمة كالمنافي من وجوه القدرة . قال أبو عبد الله الرازي هذا الجواب يمشي على قول المعتزلة ، وأما على مذهبنا فهو محمول على أنه تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقص به ويعلم وقوعه كان ذلك محالاً غير مقدور لأن خلاف المعلوم غير مقدور ، وقال أيضاً ليس المقصود من هذا الكلام كونهم شاكين فيه ، بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول : هل يقدر

" صفحة رقم 58 "
السلطان على إشباع هذا ، ويكون غرضه منه أن ذلك أمر واضح لا يجوز للعاقل أن يشك فيه ، وأبعد من قال هل ينزل ربك مائدة من السماء ويستطيع صلة ومن قال : الرب هنا جبريل لأنه كان يربي عيسى ويخصه بأنواع الإعانة ولذلك قال في أول الآية ) إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( وروي أن الذي نحابهم هذا المنحى من الاقتراح هو أن عيسى قال لهم مرة هل لكم في صيام ثلاثين يوماً الله تعالى ، ثم إن سألتموه حاجة قضاها فلما صاموها قالوا : يا معلم الخبر ، إن حق من عمل عملاً أن يطعم فهل يستطيع ربك . فأرادوا أن تكون المائدة عيد ذلك الصوم . وقرأ الكسائي هل تستطيع ربك بالتاء من فوق ) رَبَّكَ ( بنصب الباء وهي قراءة عليّ ومعاذ وابن عباس وعائشة وابن جبير . قالت عائشة كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا ) هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ( نزهتهم عن بشاة اللفظ وعن مرادهم ظاهره . وقد ذكرنا تأويلات ذلك ومعنى هذه القراءة هل تستطيع سؤال ربك و ) أَن يُنَزّلٍ ( معمول لسؤال المحذوف إذ هو حذف لا يتم المعنى إلا به . وقال أبو عليّ وقد يمكن أن يستغني عن تقدير سؤال على أن يكون المعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك فيؤول المعنى ولا بد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ انتهى . ولا يظهر ما قال أبو علي لأن فعل الله تعالى وإن كان سببه الدعاء لا يكون مقدوراً لعيسى وأدغم الكسائي لام ) هَلُ ( في ياء ) يَسْتَطِيعُ ( وعلى هذه القراءة يكون قول عيسى ) اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( لم ينكر عليه الاقتراح للآيات وهو على كلتا القراءتين يكون قوله ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( تقريراً للإيمان كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلاً . وقال مقاتل وجماعة اتقوه أن تسألوه البلاء لأنها إن نزلت وكذبتم عذبتم . وقال أبو عبيد وجماعة أن تسألوه ما لم تسأله الأمم قبلكم . وقيل أن تشكوا في قدرته على إنزال المائدة . وقيل التقوا الله في الشك فيه وفي رسله وآياتهم . وقيل اتقوا معاصي الله . وقيل أمرهم بالتقوى ليكون سبباً لحصول هذا المطلوب كما قال تعالى ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ). وقال الزمخشري هنا ) عِيسَى ( في محل النصب على اتباع حركته حركة الابن كقولك يا زيد بن عمرو وهي اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموماً كقولك يا زيد بن عمرو والدليل عليه قوله : أجاز ابن عمر كأني خمر ، لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم انتهى . فقوله : عيسى في محل النصب على هذا التقدير وعلى تقدير ضمه فهو لا اختصاص له بكونه في محل النصب على تقدير الأتباع فإصلاحه عيسى مقدر فيه الفتحة على اتباع الحركة وقوله : ويجوز أن يكون مضموماً هذا مذهب الفراء وهو تقدير الفتح والضم ونحوه مما لا تظهر فيه الضمة قياساً على الصحيح ولم يبدأ أولاً بالضم الذي هو مجمع على تقديره فليس بشرط ، ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى فتقول يا مثن أقبل وإلى ترخيم بعلبك وهو مبني على الفتح لكنه في تقدير الاسم المضموم وإن عنى ضمة مقدرة فإن عنى ضمة ظاهرة فليس بشرط ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى فتقول يا مثن فإنّ مثل يا جعفر بن زيد مما فتح فيه آخر المنادي لأجل الاتباع مقدّر فيه الضمة لشغل الحرف بحركة الاتباع كما قدر الأعرابي في قراءة من قرأ الحمد لله بكسر الدال لأجل اتباع حركة الله فقولك : يا حار هو مضموم تقديراً وإن كانت الثاء المحذوفة مشغولة في الأصل بحركة الاتباع ، وهي الفتحة فلا تنافي بين الترخيم وبين ما فتح اتباعاً وقدرت فيه الضمة ، وكان ينبغي للزمخشري أن يتكلم على هذه المسألة قبل هذا في قوله تعالى : ) إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْن

" صفحة رقم 59 "
َ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ ( حيت تكلم الناس عليها .
المائدة : ( 113 ) قالوا نريد أن . . . . .
( قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( لما أمرهم عيسى بتقوى الله منكراً عليهم ما تقدم من كلامهم صرحوا بسبب طلب المائدة وأنهم يريدون الأكل منها ، وذلك للشرف لا للشبع واطمئنان قلوبهم بسكون الفكر ، إذا عاينوا هذا المعجز العظيم النازل من السماء وعلم الضرورة والمشاهدة بصدقه فلا تعترض الشبه اللاحقة في علم الاستدلال وكينونتهم من المشاهدين بهذه الآية الناقلين لها إلى غيرهم ، القائمين بهذا الشرع أو من الشاهدين لله بالوحدانية ولك بالنبوّة ، وقد طول بعض المفسرين في تفسير متعلق إرادتهم بهذه الأشياء وملخصها أنهم أرادوا الأكل للحاجة وشدة الجوع . قال ابن عباس وكان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر من صاحب له وذي علة يطلب البرء ومستهزىء فوقعوا يوماً في مفازة ولا زاد فجاعوا وسألوا من الحواريين أن يسألوا عيسى نزول مائدة من السماء فذكر شمعون لعيسى ذلك فقال : قل لهم اتقوا الله ، وأرادوا الأكل ليزدادوا إيماناً . قال ابن الأنباري أو التشريف بالمائدة ذكره الماوردي والاطمئنان إما بأن الله قد بعثك إلينا أو اختارنا عواناً لك أو قد أجابك أو العلم بالصدق في أنا إذا صمنا الله تعالى ثلاثين يوماً . لم نسأل الله شيئاً إلا أعطانا أو في أنك رسول حقاً إذ المعجز دليل الصدق وكانوا قبل ذلك لم يرو الآيات ، أو يراد بالعلم الضروري والمشاهدة انتهى . وأنت هذه المعاطيف مرتبة ترتيباً لطيفاً وذلك أنهم لا يأكلون منها لا بعد معاينة نزولها فيجتمع على العلم بها حاسة الرؤية وحاسة الذوق فبذلك يزول عن القلب قلق الاضطراب ويسكن إلى ما عاينه الإنسان وذاقه ، وباطمئنان القلب يحصل العلم الضروري بصدق من كانت المعجزة على يديه إذ جاءت طبق ما سأل ، وسألوا هذا المعجز العظيم لأن تأثيره في العالم العلوي بدعاء من هو في العالم الأرضي أقوى وأغرب من تأثير من هو في العالم الأرضي في عالمه الأرضي ، ألا ترى أن من أعظم معجزات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) القرآن وانشقاق القمر وهما من العالم العلوي وإذا حصل عندهم العلم الضروري بصدق عيسى شهدوا شهادة يقين لا يحتلج بها ظن ولا شك ولا وهم وبذكرهم هذه الأسباب الحاملة على طلب المائدة يترجح قول من قال : كان سؤالهم ذلك قبل علمهم بآيات عيسى ومعجزاته وإن وحي الله إليهم بالإيمان كان في صدر الأمر وعند ذلك قالوا هذه المقالة ثم آمنوا ورأوا الآيات واستمر واو صبروا .
وقرأ ابن جبير : ) وَنَعْلَمَ ( بضم النون مبنياً للمفعول وهكذا في كتاب التحرير والتحبير وفي كتاب ابن عطية . وقرأ سعيد بن جبير ويعلم بالياء المضمومة والضمير عائد على القلوب ، وفي كتاب الزمخشري ويعلم بالياء على البناء للمفعول . وقرأ الأعمش وتعلم بالتاء أي وتعلمه قلوبنا . وقرأ الجمهور ) وَنَكُونَ ( بالنون وفي كتاب التحرير والتحبير . وقرأ سنان وعيسى وتكون عليها بالتاء وفي الزمخشري وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم للإيمان والإخلاص وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا انتهى ، وإنما قال ذلك لأنه ليس عنده الحواريون مؤمنين وإذا ولي أن المخففة من الثقيلة فعل متصرف عن دعاء فإن كان ماضياً فصل بينهما بقد نحو قوله ونعلم أن قد صدقتنا وإن كان مضارعاً فصل بينهما بحرف تنفيس كقوله ) عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ ( ولا يقع بغير فصل قيل إلا قليلاً . وقيل إلا ضرورة وفيما تتعلق به عليها التي تقدمت في نحو إني لكما لمن الناصحين ، وقال الزمخشري عاكفين عليها على أن عليها في موضع الحال انتهى . وهذا التقدير ليس بجيد لأن حرف الجر لا يحذف عامله وجوباً إلاّ إذا كان كوناً مطلقاً لا كوناً مقيداً والعكوف كون مقيد ولأن المجرور إذا كان في موضع الحال كان

" صفحة رقم 60 "
العامل فيها عاكفين المقدر وقد ذكرنا أنه ليس بجيد ثم إن قول الزمخشري مضطرب لأن عليها إذا كان ما يتعلق به هو عاكفين كانت في موضع نصب على المفعول الذي تعدى إليه العامل بحرف الجر وإذا كانت في موضع الحال كان العامل فيها كوناً مطلقاً واجب الحذف فظهر التنافي بينهما .
المائدة : ( 114 ) قال عيسى ابن . . . . .
( قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا وَلَنَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ ( روي أن عيسى لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعو وتقدّم الكلام على لفظة ) اللَّهُمَّ ( في آل عمران ونادى ربه أولاً بالعلم الذي لا شركة فيه ثم ثانياً بلفظ ) رَبَّنَا ( مطابقاً إلى مصلحنا ومربينا ومالكنا . وقرأ الجمهور ) تَكُونُ لَنَا ( على أن الجملة صفة لمائدة . وقرأ عبد الله والأعمش ) يَكُنِ ( بالجزم على جواب الأمر والمعنى يكن يوم نزولها عيداً وهو يوم الأحد ومن أجل ذلك اتخذه النصارى عيداً . وقيل العيد السرور والفرح ولذلك يقال يوم عيد فالمعنى يكون لنا سروراً وفرحاً والعيد المجتمع لليوم المشهود وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر أو بالجمعة ونحوه . وقيل العيد لغة ما عاد إليك من شيء في وقت معلوم سواء كان فرحاً أو ترحاً وغلبت الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية . وقال الخليل العيد كل يوم يجمع الناس لأنهم عادوا إليه . قال ابن عباس لأولنا لأهل زماننا وآخرنا من يجيء بعدنا . وقيل لأولنا المتقدمين منا والرؤساء وآخرنا يعني الاتباع والأولية والآخرية فاحتملتا الأكل والزمان والرتبة والظاهر الزمان . وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري لأولانا وأخرنانا أنثوا على معنى الأمة والجماعة والمجرور بدل من قوله لنا وكرر العامل وهو حرف الجر كقوله منها من غم ، والبدل من ضمير المتكلم والمخاطب إذا كان بدل بعض أو بدل اشتمال جاز بلا خلاف وإن كان بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة فإن أفاد معنى التأكيد جاز لهذا البدل إذ المعنى تكون لنا عيداً كلنا كقولك مررت بكم أكابركم وأصاغركم لأن معنى ذلك مررت بكم كلكم وإن لم تفد توكيداً فمسألة خلاف الأخفش بخير وغيره من البصريين بمنع ، ومعنى ) قَالَ عِيسَى ( علامة شاهدة على صدق عبدك . وقيل حجة ودلالة على كمال قدرتك . وقرأ اليماني ) وَأَنَّهُ مِنكَ ( والضمير في ) وَأَنَّهُ ( إما للعيد أو الإنزال . ) وَارْزُقْنَا ( قيل المائدة ، وقيل الشكر لنعمتك ) وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( لأنك الغني الحميد تبتدىء بالرزق . قال أبو عبد الله الرازي تأمل هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضاً فقدموا ذكر الأكل وأخروا الأغراض الدينية الروحانية وعيسى طلب المائدة وذكر أغراضه فقدم الدينية وأخر أغراض الأكل حيث قال ) وَارْزُقْنَا ( وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية ، ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء وقته وإشراق روحه لما ذكر الرزق بقوله

" صفحة رقم 61 "
) وَارْزُقْنَا ( لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال ) وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( فقوله ) رَبَّنَا ( ابتداء منه بنداء الحق سبحانه وتعالى وقوله ) أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً ( انتقال من الذات إلى الصفات وقوله ) تَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا ( إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله ) قَالَ عِيسَى ( إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزل من حضرة الجلال فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون ) وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( وهو عروج مرة أخرى من الأخس إلى الأشرف وعند هذا يلوح همه من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها اللهم اجعلنا من أهله ، وهو كلام دائر بين لفظ فلسفي ولفظ صوفي وكلاهما بعيد عن كلام العرب ومناحيها .
2 ( ) قَالَ اللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّىأُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِىأَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ اللَّهُ هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ( ) ) 2
) قَالَ اللَّهُ إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ الْعَالَمِينَ (
المائدة : ( 115 ) قال الله إني . . . . .
الظاهر أن المائدة نزلت لأنه تعالى ذكر أنه منزلها وبإنزالها قال الجمهور . قال ابن عطية شرط عليهم شرطه المتعارف في الأمم أنه من كفر بعد آية الاقتراح عذب أشد عذاب . قال الحسن ومجاهد لما سمعوا الشرط أشفقوا فلم تنزل . قال مجاهد فهو مثل ضربه الله للناس لئلا يسألوا هذا الآيات واختلف من قال إنها نزلت هل رفعت بإحداث أحدثوه أم لم ترفع . وقال الأكثرون أكلوا منها أربعين يومابكرة وعشية . وقال إسحاق بن عبد الله يأكلون منها متى شاؤوا ، وقيل بطروا فكانت تنزل عليهم يوماً بعد يوم . وقال المؤرخون كانت تنزل عند ارتفاع الضحى فيأكلون منها ثم ترتفع إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض واختلفوا في كيفية نزولها وفيما كان عليها وفي عدد من أكل منها وفيما آل إليه حال من أكل منها اختلافاً مصطرباً متعارضاً ذكره المفسرون ، ضربت عن ذكره صفحاً إذ ليس منه شيء يدل عليه لفظ الآية وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أنزلت المائدة من السماء خبراً ولحماً وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا فخانوا وادّخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير ) . قال أبو عيسى هذا حديث رواه عاصم وغير واحد عن سعيد بن عروة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر مرفوعاً ولا نعلمه مرفوعاً إلا من حديث الحسن بن قرعة حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا سفيان بن

" صفحة رقم 62 "
حبيب عن سعيد بن عروة نحوه ولم يرفعه ، وهذا أصح من حديث الحسن بن قرعة ولا نعلم الحديث مرفوعاً أصلاً . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ) مُنَزّلُهَا ( مشدداً . وقرأ باقي السبعة مخففاً والأعمش وطلحة بن مصرف إني سأنزلها بسين الاستقبال بعد أي بعد إنزالها والعذاب هنا بمعنى التعذيب فانتصابه انتصاب المصدر ، وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً به على السعة وهو إعراب سائغ ولا يجوز أن يراد بالعذاب ما يعذب به إذ يلزم أن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر فكان يكون التركيب فإني أعذبه بعذاب لا يقال حذف حرف الجر فتعدى الفعل إليه فنصبه لأن حذف الحرف في مثل هذا مختص بالضرورة والظاهر أن الضمير في لا أعذبه يعود على العذاب بمعنى التعذيب والمعنى لا أعذب مثل التعذيب أحداً . وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير لا عذب به أحداً وأن يكون مفعولاً به على السعة وأن يكون ضمير المصدر المؤكد كقولك : ظننته زيداً منطلقاً فلا يعود على العذاب ، ورابط الجملة الواقعة صفة لعذاب هو العموم الذي في المصدر المؤكد كقولك هو جنس وعذاباً نكرة فانتظمه المصدر كما انتظم اسم الجنس زيداً في : زيد نعم الرجل ، وأجاز أيضاً أن يكون ضمير من على حذف أي لا أعذب مثل عذاب الكافر وهذه تقادير متكلفة ينبغي أن ينزه القرآن عنها ، والعذاب قال ابن عباس مسخهم خنازير . وقال غيره قردة وخنازير ووقع ذلك في الدنيا ، والكفر المشار إليه الموجب تعذبهم قيل ارتدادهم ، وقيل شكهم في عيسى وتشكيكهم الناس ، وقيل مخالفتهم الأمر بأن لا يخونوا ولا يخبئوا ولا يدخروا قاله قتادة ، وقال عمار بن ياسر لم يتم يومهم حتى خانوا فادّخروا ورفعوا وظاهر العالمين العموم وقيل عالمي زمانهم .
المائدة : ( 116 ) وإذ قال الله . . . . .
( وَإِذْ قَالَتْ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( قال أبو عبيدة ) إِذْ ( زائدة وقال غيره بمعنى إذا والظاهر أنها على أصل وضعها وأن ما بعدها من الفعل الماضي قد وقع ولا يؤول

" صفحة رقم 63 "
ب قول . قال السدي وغيره كان هذا القول من الله تعالى حين رفع عيسى إليه وقالت النصارى ما قالت وادعت أن عيسى أمرهم بذلك واختاره الطبري .
وقال ابن عباس وقتادة والجمهور : هذا القول من الله تعالى إنما هو يوم القيامة يقول له على رؤوس الخلائق فيعلم الكفار أن ما كانوا عليه باطل ، فيقع التجوز في استعمال ) إِذْ ( بمعنى إذا والماضي بعده بمعنى المستقبل وفي إيلاء الاستفهام الاسم ، ومجيء الفعل بعده دلالة على صدور الفعل في الوجود لكن وقع الاستفهام عن النسبة أكان هذا الفعل الواقع صادراً عن المخاطب أم ليس بصادر عنه ، بيان ذلك أنك تقول : أضربت زيداً ، فهذا استفهام هل صدر منك ضرب لزيد أم لا ، ولا إشعار فيه بأن ضرب زيد قد وقع . فإذا قلت أنت ضربت زيداً كان الضرب قد وقع بزيد ، لكنك استفهمت عن إسناده للمخاطب ، وهذه مسألة بيانية نص على ذلك أبو الحسن الأخفش . وذكر المفسرون أنه لم يقل أحد من النصارى بإلهية مريم ، فكيف قيل ) إِلاهَيْنِ ( ، وأجابوا بأنهم لما قالوا لم تلد بشراً وإنما ولدت إلهاً ، لزمهم أن يقولوا من حيث البغضية بإلهية من ولدته ، فصاروا بمثابة من قال : انتهى . والظاهر صدور هذا القول في الوجود لا من عيسى ، ولا يلزم من صدور القول وجود الاتخاذ .
( قَالَ سُبْحَانَكَ ( أي تنزيهاً لك . قال ابن عطية : عن أن يقال هذا وينطق به ؛ وقال الزمخشري من أن يكون لك شريك ، والظاهر الأول لقوله بعد ) مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ ( قال أبو روق : لما سمع عيسى هذا المقال ارتعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة عين من دم ، فقال عند ذلك مجيباً لله تعالى : ) سُبْحَانَكَ ( تنزيهاً وتعظيماً لك وبراءة لك من السوء .
( مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ ( هذا نفي يعضده دليل العقل فيمتنع عقلاً ادعاء بشر محدث الإلهية و ) بِحَقّ ( خبر ليس أي ليس مستحقاً وأجازوا في ) لِى ( أن يكون تبييناً وأن يكون صلة صفة لقوله ) يُحِقَّ ( لي تقدم فصار حالاً أي بحق لي ، ويظهر أنه يتعلق بحق لأن الباء زائدة ، وحق بمعنى مستحقّ أي ما ليس مستحقاً ، وأجاز بعضهم أن يكون الكلام قد تم عند قوله ) مَا لَيْسَ لِى ( وجعل ) بِحَقّ ( متعلقاً بعلميته الذي هو جواب الشرط ، ورد ذلك بادعاء التقديم والتأخير فيما ظاهره خلاف ذلك ، ولا يصار إلى التقديم والتأخير إلا لمعنى يقتضي ذلك ، أو بتوقيف ، أو فيما لا يمكن فيه إلا ذلك ؛ انتهى هذا القول ورده ، ويمتنع أن يتعلق بعلميته لأنه لا يتقدم على الشرط شيء من معمولات فعل الشرط ولا من معمولات جوابه ، ووقف نافع وغيره من القراء على قوله ) بِحَقّ ( وروي ذلك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
( إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ( قال أبو عبد الله الرازي : هذا مقام خضوع وتواضع ، فقدم ناسخ نفي القول عنه ، ولم يقل ما قلته بل فوّض ذلك إلى علمه المحيط بالكلّ وهذه مبالغة في الأدب وفي إظهار الذلة والمسكنة في حضرة الجلال ، وتفويض الأمر بالكلية إلى الحق

" صفحة رقم 64 "
سبحانه ، انتهى ، وفيه بعض تلخيص .
( تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( خصّ النفس لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات . قيل : المعنى : تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي . وقيل : تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك . وقيل : تعلم سرّي ولا أعلم سرّك . وقال الزمخشري : تعلم معلومي ولا أعلم معلومك وأتى بقوله : ) مَا فِى نَفْسِكَ ( على جهة المقابلة والتشاكل لقوله ) مَا فِى نَفْسِى ( فهو شبيه بقوله : ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( وقوله : ) إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( ومن زعم أن النفس تطلق على ذات الشيء وحقيقته ، كان المعنى عنده تعلم كنه ذاتي ولا أعلم كنه ذاتك ، وقد استدلت المجسمة بقوله ) تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( قالوا : النفس هي الشخص وذلك يقتضي كونه جسماً . تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً .
( إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( هذا تقرير للجملتين معاً لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ولأن ما يعلمه ) عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( لا ينتهي إليه أحد ، فإذا كنت أنت المختص بعلم الغيب فلا علم لي بالغيب فكيف تكون لي الألوهية وخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) فلقاه الله ) سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ ( الآية كلها . قال أبو عيسى : حديث حسن صحيح .
المائدة : ( 117 ) ما قلت لهم . . . . .
( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ ( أخبر أنه لم يتعد أمر الله في أن أمر بعبادته وأقر بربوبيته . وفي قوله : ) رَبّى وَرَبَّكُمْ ( راءة مما ادّعوه فيه ، وفي الإنجيل قال : يا معاشر بني المعمودية قوموا بنا إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ومخلصي ومخلصكم . وقال أبو عبد الله الرازي : كان الأصل أن يقال ما أمرتهم إلا ما أمرتني به ، إلا أنه وضع القول موضع الأمر نزولاً على موجب الأدب . وقال الحسن : إنما عدل لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معاً ودل على أن الأصل ما ذكر أن المفسرة ؛ انتهى . قال الحوفي وابن عطية : وإن في ) بِأَنَّ اعْبُدُواْ ( مفسرة ، لا موضع لها من الإعراب ويصح أن يكون بدلاً من من ما وصح أن يكون بدلاً من الضمير في به ، زاد ابن عطية أنه يصح أن يكون في محلّ خفض على تقديره . ) أَنِ اعْبُدُواْ ( ، وأجاز أبو البقاء الجر على البدل من الهاء والرفع على إضمار هو والنصب على إضمار أعني أو بدلاً من موضع به . قال : ولا يجوز أن تكون بمعنى أن المفسرة ، لأن القول قد صرّح به ، وأن لا تكون مع التصريح بالقول . وقال الزمخشري أن في قوله ) أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ ( إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر ، والمفسر إما فعل القول وإما فعل الأمر وكلاهما لا وجه له ، أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يوسط بينهما حرف التفسير لا تقول ما قلت لهم إلا ) أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ ( ولكن ما قلت لهم إلا اعبدوا الله وأما فعل الأمر فمسند إلى

" صفحة رقم 65 "
ضمير الله تعالى فلو فسرته باعبدوا الله ربي وربكم لم يستقم لأن الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم ، وإن جعلتها موصولة بالفعل لم يخلُ من أن تكون بدلاً من ما أمرتني به أو من الهاء في به وكلاهما غير مستقيم ، لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه ، ولا يقال ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته لأن العبادة لا تقال وكذلك إذا جعلته بدلاً من الهاء لأنك لو أقمت ) أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ ( لم يصح لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته .
( فإن قلت ) : فكيف تصنع ؟ ( قلت ) : يحمل فعل القول على معناه لأن معنى ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ ( ما أمرتهم إلا بما أمرتني به حتى يستقيم تفسيره ب ) أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ ( ويجوز أن تكون موصولة عطفاً على بيان الهاء لا بدلاً ؛ انتهى ، وفيه بعض تلخيص . أما قوله : وأما فعل الأمر إلى آخر المنع ، وقوله لأن الله تعالى لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم فإنما لم يستقم لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومة إلى فعل الأمر ، ويستقيم أن يكون فعل الأمر مفسراً بقوله ) اعْبُدُواْ اللَّهَ ( ويكون ربي وربكم من كلام عيسى على إضمار أعني أي أعني ربكم وربكم لا على الصفة التي فهمها الزمخشري ، فلم يستقيم ذلك عنده . وأما قوله : لأن العبادة لا تقال فصحيح لكن ذلك يصحّ على حذف مضاف ، أي : ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله ، أي القول المتضمن عبادة الله . وأما قوله لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته فلا يلزم في كل بدل أن يحلّ محل المبدل منه ، ألا ترى إلى تجويز النحويين : زيد مررت به أبي عبد الله ، ولو قلت زيد مررت بأبي عبد الله لم يجز ذلك عندهم إلا على رأي الأخفش . وأما قوله عطفاً على بيان الهاء ، فهذا فيه بعد لأن عطف البيان أكثره بالجوامد الأعلام ، وما اختاره الزمخشري وجوّزه غيره من كون أن مفسرة لا يصح لأنها جاءت بعد إلا ، وكل ما كان بعد إلا المستثنى بها فلا بدّ أن يكون له موضع من الإعراب وأن التفسيرية لا موضع لها من الإعراب ، وانظر إلى ما تضمنت محاورة عيسى وجوابه مع الله تعالى لما قرع سمعه ما لا يمكن أن يكون نزه الله تعالى وبرأه من السوء ، ومن أن يكون معه شريك ثم أخبر عن نفسه أنه لا يمكن أن يقول ما ليس له بحق ، فأتى بنفي لفظ عام ، وهو لفظ ما المندرج تحته كل قول ليس بحق حتى هذا القول المعين ، ثم تبرأ تبرؤاً ثالثاً وهو إحالة ذلك على علمه تعالى وتفويض ذلك إليه ، وعيسى يعلم أنه ما قاله ، ثم لما أحال على العلم أثبت علم الله به ونفى علمه بما هو لله وفيه إشارة إلى أنه لا يمكن أن يهجس ذلك في خاطري فضلاً عن أن أفوه به وأقوله ، فصار مجموع ذلك نفي هذا القول ، ونفي أن يهجس في النفس ، ثم علل ذلك بأنه تعالى مستأثر بعلم الغيب ، ثم لما نزه الله تعالى وانتفى عنه قول ذلك وأن يخطر ذلك في نفسه انتقل إلى ما قاله لهم فأتى به محصوراً بإلا معذوقاً بأنه هو الذي أمره الله به أن يبلغهم عنه .
( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ( أي رقيباً كالشاهد على المشهود عليه ، أمنعهم من قول ذلك وأن يتدينوا به ، وأتي بصيغة فعيل للمبالغة كثير الحفظ عليهم والملازمة لهم وما ظرفية ودام تامّة أي ما بقيت فيهم ، أي شهيداً في الدنيا .
( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى ( قيل : هذا يدل على أنه توفاه وفاة الموت قبل أن يرفعه ، وليس بشيء لأن الأخبار تظافرت برفعه حياً ، وأنه في السماء حيّ وأنه ينزل ويقتل الدجال ، ومعنى ) تَوَفَّيْتَنِى ( قبضتني إليك بالرفع . وقال الحسن : الوفاة وفاة الموت ووفاة النوم ووفاة الرفع .
وقال الزمخشري : ) كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلّ شَهِيدٌ (

" صفحة رقم 66 "
تمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلة ، وأنزلت عليهم من البينات وأرسلت إليهم الرسل ؛ انتهى وفيه دسيسة الاعتزال .
المائدة : ( 118 ) إن تعذبهم فإنهم . . . . .
( إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( قال الزمخشري : ) فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ( والذين عذبتهم جاحدين لآياتك ، مكذبين لأنبيائك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز القوي على الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب .
( فإن قلت ) : المغفرة لا تكون للكفار ، فكيف قال : ) وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ( ؟ ( قلت ) : ما قال : إنك تغفر لهم ولكنه بنى الكلام على أن يقال : إن عذبتهم عدلت لأنهم أحقاء بالعذاب ، وإن غفرت لهم مع كفرهم ، لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول ، بل متى كان المجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن . وهذا من الزمخشري ميل إلى مذاهب أهل السنة فإن غفران الكفر جائز عندهم وعند جمهور البصريين من المعتزلة عقلاً ، قالوا : لأن العقاب حق لله على الذنب وفي إسقاط منفعة ، وليس في إسقاطه على الله مضرة ، فوجب أن يكون حسناً ودل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع ، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجوداً في شرع عيسى عليه السلام ، انتهى كلام جمهور البصريين من المعتزلة . وقال أهل السنة : مقصود عيسى تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى وترك الاعتراض بالكلية ، ولذلك ختم الكلام بقوله : ) فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( أي : قادر على ما تريد في كل ما تفعل لا اعتراض عليك . وقيل لما قال لعيسى : ) قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى ( الآية . علم أن قوماً من النصارى حكوا هذا الكلام عنه والحاكي هذا الكفر لا يكون كافراً بل ، مذنباً حيث كذب وغفران الذنب جائز فلهذا قال : ) وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ). وقيل : كان عند عيسى أنهم أحدثوا المعاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه ، فقال : ) وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ( ما أحدثوا بعدي من المعاصي وهذا يتوجه على قول من قال : إن قول الله له ) قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى ( كان وقت الرفع ، لأنه قال ذلك وهم أحياء لا يدري ما يموتون عليه . وقيل : الضمير في تعذبهم عائد على من مات كافراً وفي ) وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ( عائد على من تاب منهم قبل الموت . وقيل : قال ذلك على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم ، مع علمه بأن الكفار لا يغفر لهم ولهذا لم يقل لأنهم عصوك ؟ انتهى وهذا فيه بعد لأن الاستعطاف لا يحسن إلا لمن يرجى له العفو والتخفيف ، والكفار لا يرجى لهم ذلك والذي أختاره من هذه الأقوال أن قوله تعالى ) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى ( قول قد صدر ، ومعنى يعطفه على ما صدر ومضى ، ومجيئه بإذ التي هي ظرف لما مضى ويقال التي هي حقيقة في الماضي فجميع ما جاء في هذه الآيات من إذ قال هو محمول على أصل وضعه ، وإذا كان كذلك فقول عيسى ) وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ( فعبر بالسبب عن المسبب لأنه معلوم أن الغفران مرتب على التوبة وإذا كان هذا القول في غير وقت الآخرة ، كانوا في معرض أن يرد فيهم التعذيب أو المغفرة الناشئة عن التوبة ، وظاهر قوله ) فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( إنه جواب الشرط والمعنى فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده ، الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء ، وقرأت جماعة فإنك أنت الغفور الرحيم على ما يقتضيه قوله ) وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ( قال عياض بن موسى : ليست من المصحف . وقال أبو بكر بن الأنباري : وقد طعن على القرآن من قال : إن قوله : ) فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( لا يناسب قوله وإن تغفر لهم لأن المناسب فإنك أنت الغفور الرحيم . والجواب : أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله تعالى ومتى نقل إلى ما قال هذا الطاعن ضعف معناه ، فإنه ينفرد الغفور الرحيم

" صفحة رقم 67 "
بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلق وهو ما أنزله الله تعالى وأجمع على قراءته المسلمون معذوق بالشرطين كلاهما أولهما وآخرهما ، إذ تلخيصه إن تعذبهم فأنت عزيز حكيم وإن تغفر لهم فأنت العزيز الحكيم في الأمرين كلاهما من التعذيب والغفران ، فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه ، وأنه يجمع الشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم أن يحتمل ما احتمله العزيز الحكيم ؛ انتهى . وأما قول من ذهب إلى أن في الكلام تقديماً وتأخير تقديره إن تعذبهم فإنك أنت العزيز وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ، فليس بشيء وهو قول من اجترأ على كتاب الله بغير علم . روى النسائي عن أبي ذر قال : قام النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) حتى أصبح بهذه الآية ) إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).
المائدة : ( 119 ) قال الله هذا . . . . .
( قَالَ اللَّهُ هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ( قرأ الجمهور هذا يوم بالرفع على أن هذا مبتدأ ويوم خبره والجملة محكية بقال وهي في موضع المفعول به ، لقال : أي هذا الوقت وقت نفع الصادقين وفيه إشارة إلى صدق عيسى عليه السلام . وقرأ نافع ) هَاذَا يَوْمُ ( بفتح الميم وخرّجه الكوفيون على أنه مبني خبر لهذا وبني لإضافته إلى الجملة الفعلية ، وهم لا يشترطون كون الفعل مبنياً في بناء الظرف المضاف إلى الجملة ، فعلى قولهم تتحد القراءتان في المعنى . وقال البصريون : شرط هذا البناء إذا أضيف الظرف إلى الجملة الفعلية أن يكون مصدراً بفعل مبني ، لأنه لا يسري إليه البناء لا من المبني الذي أضيف إليه ، والمسألة مقررة في علم النحو فعلى قول البصريين : هو معرب لا مبني وخرج نصبه على وجهين ذكرهما الزمخشري وغيره أحدهما : أن يكون ظرفاً لقال وهذا إشارة إلى المصدر فيكون منصوباً على المصدرية ، أي : قال الله هذا القول أو إشارة إلى الخبر أو القصص ، كقولك : قال زيد شعراً أو قال زيد : خطبة فيكون إشارة إلى مضمون الجملة ، واختلف في نصبه أهو على المصدرية أو ينتصب مفعولاً به ؟ فعلى هذا الخلاف ينتصب إذا كان إشارة إلى الخبر أو القصص نصب المصدر أو نصب المفعول به . قال ابن عطية : وانتصابه على الظرف وتقدير ) قَالَ اللَّهُ هَاذَا ( القصص أو الخبر ) يَوْمُ يَنفَعُ ( معنى يزيل وصف الآية وبهاء اللفظ والمعنى ، والوجه الثاني أن يكون ظرفاً خبر هذا وهذا مرفوع على الابتداء والتقدير ، هذا الذي ذكرناه من كلام عيسى واقع يوم ينفع ويكون هذا يوم ينفع جملة محكية بقال . قال الزمخشري : وقرأ الأعمش يوماً ينفع بالتنوين كقوله ) وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى ). وقال ابن عطية : وقرأ الحسن بن عياش الشامي ) هَاذَا يَوْمُ ( بالرفع والتنوين . وقرأ الجمهور ) صِدْقُهُمْ ( بالرفع فاعل ينفع وقرىء بالنصب ، وخرج على أنه مفعول له أي لصدقهم أو على إسقاط حرف الجر أي بصدقهم أو مصدر مؤكد ، أي الذين يصدقون صدقهم أو مفعول به أي يصدقون الصدق كما تقول : صدقته القتال والمعنى يحققون الصدق

" صفحة رقم 68 "
قال الزمخشري ( فإن قلت ) : إن أريد ) صِدْقُهُمْ ( في الآخرة فليست بدار عمل ، وإن أريد في الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه ، لأنه في معنى الشهادة لعيسى عليه السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة .
( قلت ) : معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم انتهى ، وهذا بناء على قول من قال : إن هذا القول يكون من الله تعالى في الآخرة وقد اتبع الزمخشري الزجاج في قوله : هذا حقيقته الحكاية ومعنى ) يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ( الذي كان في الدنيا ينفعهم في القيامة ، لأن الآخرة ليست بدار عمل ولا ينفع أحداً فيها ما قال وإن حسن ، ولو صدق الكافر وأقرّ بما عمل فقال : كفرت وأسأت ما نفعه ، وإنما الصادق الذي ينفعه صدقه الذي كان فيه في الدنيا والآخرة ؛ انتهى . والظاهر أنه ابتداء كلام من الله تعالى . وقال السدي : هذا فصل من كلام عيسى عليه السلام أي : يقول عيسى يوم القيامة : قال الله تعالى : واختلف في هذا اليوم ، فقيل : يوم القيامة كما ذكرناه وخص بالذكر لأنه يوم الجزاء الذي فيه تجبي ثمرات الصدق الدائمة الكاملة ، وإلا فالصدق ينفع في كل يوم وكل وقت . وقيل : هو يوم من أيام الدنيا فإن العمل لا ينفع إلا إذا كان في الدنيا والصادقون هنا النبيون وصدقهم تبليغهم ، أو المؤمنون وصدقهم إخلاصهم في إيمانهم أو صدق عهودهم أو صدقهم في العمل لله تعالى ، أو صدقهم تركهم الكذب على الله وعلى رسله أو صدقهم في الآخرة في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ أو شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم ، ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم أقوال ستة ، والظاهر العموم فكل صادق بنفعه صدقه .
( لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( هذا كأنه جواب سائل ما لهم جزاء على الصدق ؟ فقيل : لهم جنات .
( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ( إشارة إلى تأييد الديمومية في الجنة .
( رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ( قيل : بقبول حسناتهم ورضوا عنه بما آتاهم من الكرامة . وقيل : بطاعتهم ورضوا عنه في الآخرة بثوابه . وقال الترمذي : بصدقهم ورضوا عنه بوفاء حقهم . وقيل : في الدنيا ورضوا عنه في الآخرة . وقال أبو عبد الله الرازي : في قوله ) رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( هو إشارة إلى التعظيم هذا على ظاهر قول المتكلمين ، وأما عند أصحاب الأرواح المشرفة بأنوار جلال الله تعالى فتحت قوله : ) رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ( أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها ؛ انتهى ، وهو كلام عجيب شبيه بكلام أهل الفلسفة والتصوّف .
( ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ذلك إشارة إلى ما تقدم من كينونة الجنة لهم على التأبيد وإلى رضوان الله عنهم ، لأن الجنة بما فيها كالعدم بالنسبة إلى رضوان الله وثبت في الصحيح أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( يطلع الله على أهل الجنة فيقول : يا أهل الجنة هل رضيتم ؟ فيقولون : يا ربنا وكيف لا نرضى وقد بعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك ، فيقول الله تعالى : ولكم عندي أفضل من ذلك فيقولون : وما أفضل من ذلك ؟ فيقول الله عز وجل : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعدها أبداً ) .
المائدة : ( 120 ) لله ملك السماوات . . . . .
( للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ( لما ادّعت النصارى في عيسى وأمه الألوهية اقتضت الدعوى أن يكونا مالكين قادرين فردّ الله عليهم . قال ابن

" صفحة رقم 69 "
عطية : ويحتمل أن يكون مما يقال يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون مقطوعاً من ذلك مخاطباً به محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمّته ؛ انتهى . وقيل : هذا جواب سائل من يعطيهم ) ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( فقيل الذي له ملك السموات والأرض .
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : ما في السموات والأرض العقلاء وغيرهم ، فهل غلب العقلاء فقيل ومن فيهنّ ، ( قلت ) : ما تتناول الأجناس كلها تناولاً عامًّا ألا تراك تقول : إذا رأيت شبحاً من بعيد ما هو قبل أن تعرف أعاقل هو أم غير عاقل ؟ فكان أولى بإرادة العموم ؛ انتهى كلامه . وقال أبو عبد الله الرازي : غلب غير العقلاء تنبيهاً على أن كل المخلوقات مسخرين في قبضة قهره وقدره وقضائه وقدرته وهم في ذلك التسخير كالجمادات التي لا قدرة لها وكالبهائم التي لا عقل لها ، فعل الكل بالنسبة إلى علمه كلا علم وقدرة الكل بالنسبة إلى قدرته كلا قدرة وقال أيضاً : مفتتح السورة ، كان بذكر العهد المنعقد بين الربوبية والعبودية ، فيشرع العبد في العبودية وينتهي إلى الفناء المحض عن نفسه بالكلية ، فالأول هو الشريعة وهو البداية ، والآخر هو الحقيقة وهو النهاية فمفتتح السورة من الشريعة ومختتمها يذكر الله عز وجل وكبريائه تعالى وعزته وقهره وعلوه ، وذلك هو الوصول إلى مقام الحقيقة فما أحسن المناسبة بين ذلك المفتتح وهذا المختتم ؛ انتهى كلامه ، وليست الحقيقة والشريعة والتمييز بينهما لا من كلام الصحابة رضي الله عنهم ولا من كلام التابعين ، وإنما ذلك من ألفاظ الصوفية واصطلاحاتهم ولهم في ذلك كلام طويل والله أعلم بالصواب .

" صفحة رقم 70 "
6
( سورة الأنعام )
مائة وست وسبعون آية مكية أو مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىأَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاٌّ رْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاٌّ رْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الاٌّ نْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَقَالُواْ لَوْلاأُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الاٌّ مْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ قُلْ سِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( ) ) 2
الأنعام : ( 1 ) الحمد لله الذي . . . . .
الطين : معروف ، يقال : منه طان الكتان يطينه وطنه يا هذا .
القرن الأمة المقترنة في مدّة من الزمان ، ومنه خير القرون قرني وأصله الارتفاع عن الشيء ومنه قرن الجبل ، فسموا بذلك لارتفاع السنّ . وقيل : هو من قرنت الشيء بالشيء جعلته بجانبه أو مواجهاً له ، فسموا بذلك لكون بعضهم يقرن ببعض . وقيل : سموا بذلك لأنهم جمعهم زمان له مقدار هو أكثر ما يقرن فيه أهل ذلك الزمان ، وهو اختيار الزجاج ومدة القرن مائة وعشرون سنة قاله : زرارة بن أوفى وإياس بن معاوية ، أو مائة سنة قاله الجمهور ، وقد احتجوا لذلك بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) )

" صفحة رقم 71 "
لعبد الله بن بشر : ( تعيش قرناً فعاش مائة وقال : أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ) . قال ابن عمر : يؤيد أنها انحزام ذلك القرن أو ثمانو سنة رواه أبو صالح عن ابن عباس ، أو سبعون سنة حكاه الفرّاء أو ستون سنة لقوله عليه السلام : معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين أو أربعون قاله ابن سيرين ، ورفعه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكذا حكاه الزهراوي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أو ثلاثون . روي عن أبي عبيدة أنه قال : يرون أن ما بين القرنين ثلاثون ، وحكاه النقاش أو عشرون حكاه الحسن البصري أو ثمانية عشر عاماً أو المقدار الوسط في أعمار أهل ذلك الزمان وهذا حسن ، لأن الأمم السالفة كان فيهم من يعيش أربعمائة عام وثلثمائة وما بقي عام وما فوق ذلك وما دونه ، وهكذا الاختلاف الإسلامي والله أعلم . كأنه نظر إلى الطرف الأقصى والطرف الأدنى ، فمن نظر إلى الغاية قال : من الستين فما فوقها إلى مائة وعشرين ومن نظر إلى الأدنى قال : عشرون وثلاثون وأربعون . وقال ابن عطية : القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال ، ويظهر ذلك من قوله : وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين وهذه يشير ابن عطية إلى من حدد بأربعين فما دونها طبقات وليست بقرون . وقيل : القرن القوم المجتمعون ، قلت : السنون أو كثرت لقوله : خير القرون قرني يعني أصحابه وقال قس : في الذاهبين الأوّلين
من القرن لنا بصائر
وقال آخر : إذا ذهب القوم الذي كنت فيهم
وخلفت في قوم فأنت غريب
وقيل : القرن الزمان نفسه فيقدر قوله من قرن من أهل قرن . التمكن ضد التعذر والتمكين من الشيء ما يصح به الفعل من الآيات والقوي وهو أتم من الأقدار ، لأن الأقدار إعطاء القدرة خاصة والقادر على الشيء قد يتعذر عليه الفعل لعدم الآلة . وقيل : التمكين من الشيء إزالة الحائل بين المتمكن والممكن منه . وقال الزمخشري : مكن له في الأرض جعل له مكاناً ونحوه أرض له ، وتمكينه في الأرض إثباته فيها . المدرار المتتابع يقال : مطر مدرار وعطاء مدرار وهو في المطر أكثر ، ومدرار مفعال من الدر للمبالغة كمذكار ومئناث ومهذار للكثير ذلك منه . الإنشاء : الخلق والإحداث من غير سبب ، وكل من ابتدأ شيئاً فقد أنشأه ، والنشأ الاحداث واحدهم ناشىء كقولك : خادم وخدم . القرطاس اسم لما يكتب عليه من رق وورق وغير ذلك ، قال الشاعر وهو زهير : لها أخاديد من آثار ساكنها
كما تردد في قرطاسه القلم

" صفحة رقم 72 "
ولا يسمى قرطاساً إلا إذا كان مكتوباً وإن لم يكن مكتوباً فهو طرس وكاغد وورق ، وكسر القاف أكثر استعمالاً وأشهر من ضمها وهو أعجمي وجمعه قراطيس . حاق يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً أي : أحاط ، قاله الضحاك : ولا يستعمل إلا في الشر . قال الشاعر : فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم
وحاق بهم من بأس ضبه حائق
وقال الفرّاء : حاق به عاد عليه وبال مكره . وقال النضر : وجب عليه . وقال مقاتل : دار . وقيل : حلّ ونزل ومن جعله مشتقاً من الحوق وهو ما استدار بالشيء فليس قوله بصحيح ، لاختلاف المادتين وكذلك من قال : أصله حق فأبدلت القاف الواحدة ياء كما قالوا : في تظننت : تظنيت لأنها دعوى لا دليل على صحتها . سخر منه : هزأ به والسخرية والاستهزاء والتهكم معناها متقارب . عاقبة الشيء : منتهاه وما آل اليه .
( الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ( هذه السورة مكية كلها . وقال الكسائي : إلا آيتين نزلتا بالمدينة وهما ) قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ ( وما يرتبط بها .
وقال ابن عباس : نزلت ليلاً بمكة حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح ، إلا ست آيات قل : ) تَعَالَوْاْ أَتْلُ ( ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ ( ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى ). ) وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ). ) وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ ). ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ ( ، انتهى . وعنه أيضاً وعن مجاهد والكلبي إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة ) قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ ( إلى قوله ) لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( وقال قتادة : إلا ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( ) وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ ( ، وذكر ابن العربي أن قوله ) قُل لا أَجِدُ ( نزل بمكة يوم عرفة . ومناسبة افتتاح هذه السورة لآخر المائدة أنه تعالى لما ذكر ما قالته النصارى في عيسى وأمه من كونهما إلهين من دون الله ، وجرت تلك المحاورة وذكر ثواب ما للصادقين ، وأعقب ذلك بأن له ملك السموات والأرض وما فيهنّ وأنه قادر على كل شيء ، ذكر بأن الحمد له المستغرق جميع المحامد فلا يمكن أن يثبت معه شريك في الإلهية فيحمد ، ثم نبه على العلة المقتضية لجميع المحامد والمقتضية ، كون ملك السموات والأرض وما فيهنّ له بوصف ) خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( لأن الموجد للشيء المنفرد باختراعه له الاستيلاء والسلطنة عليه ، ولما تقدّم قولهم في عيسى وكفرهم بذلك وذكر الصادقين وجزاءهم أعقب ) خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ) يَجْعَلْ الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ( فكان ذلك مناسباً للكافر والصادق ، وتقدّم تفسير ) الْحَمْدُ للَّهِ ( في أول الفاتحة وتفسير ) خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( في قوله : ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( في البقرة وجعل هنا . قال ابن عطية : لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض ( في البقرة وجعل هنا . قال ابن عطية : لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض بخلق والظلمات والنور بجعل . وقال الزمخشري ) ( في البقرة وجعل هنا . قال ابن عطية : لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض بخلق والظلمات والنور بجعل . وقال الزمخشري ) جَعَلَ ( يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كقوله : ) جَعَلَ الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ( وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله : ) وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( والفرق

" صفحة رقم 73 "
بين الخلق والجعل ، أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التصيير كإنشاء من شيء أو تصيير شيء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان ، ومن ذلك ) وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( لأن الظلمات من الإجرام المتكافئة والنور من النار ) وَجَعَلْنَاكُمْ أَزْواجاً ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؛ انتهى . وما ذكره من أن جعل بمعنى صير في قوله : ) وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ ( لا يصح لأنهم لم يصيروهم إناثاً ، وإنما قال بعض النحويين : إنها بمعنى سمى وقول الطبري ) جَعَلَ ( هنا هي التي تتصرف في طرف الكلام كما تقول : جعلت أفعل كذا فكأنه قال : وجعل إظلامها وإنارتها تخليط ، لأن تلك من أفعال المقاربة تدخل على المبتدأ والخبر وهذه التي في الآية تعدت إلى مفعول واحد ، فهما متباينان معنى واستعمالاً وناسب عطف الصلة الثانية بمتعلقها من جمع الظلمات وإفراد النور على الصلة الأولى المتعلقة بجمع السموات وإفراد الأرض ، وتقدّم في البقرة الكلام على جمع السموات وإفراد الأرض وجمع الظلمات وإفراد النور واختلف في المراد هنا ب ) الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ( فقال قتادة والسدّي والجمهور : الليل والنهار . وقال ابن عباس : الشرك والنفاق والكفر والنور الإسلام والإيمان والنبوّة واليقين . وقال الحسن : الكفر والإيمان ، وهو تلخيص قول ابن عباس واستدل لهذا بآية البقرة . وقال قتادة أيضاً : الجنة والنار خلق الجنة وأرواح المؤمنين من نور ، والنار وأرواح الكافرين من ظلمة ، فيوم القيامة يحكم لأرواح المؤمنين بالجنة لأنهم من النور خلقوا ، وللكافرين بالنار لأنهم من الظلمة خلقوا . وقيل : الأجساد والأرواح . وقيل : شهوات النفوس وأسرار القلوب . وقيل : الجهل والعلم . وقال مجاهد : المراد حقيقة الظلمة والنور ، لأن الزنادقة كانت تقول : الله يخلق الضوء وكل شيء حسن ، وإبليس يخلق الظلمة وكل شيء قبيح فأنزلت رداً عليهم . وقال أبو عبد الله الرازي : فيه قولان أحدهما : أنهما الأمران المحسوسان وهذا هو الحقيقة . والثاني ما نقل عن ابن عباس والحسن قبل وهو مجاز . وقال الواحدي : يحمل على الحقيقة والمجاز معاً لا يمكن حمله عليهما انتهى ملخصاً . وقال أبو عبد الله الرازي : ليست الظلمة عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور ، والدليل عليه أنه إذا جلس اثنان بقرب السراج وآخر بالبعد منه ، فالبعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافياً مضيئاً والقريب لا يرى البعيد . ويرى ذلك الهواء مظلماً ، فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية وإذا ثبت ذلك ، فنقول : عدم المحدثات متقدم على وجودها فالظلمة متقدمة في التحقيق على النور فوجب تقديمها عليه في اللفظ ، ومما يقوي ذلك ما روي في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره .
وروى ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقي عليهم النور ، فمن أصابه يومئذ من ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضل ) . انتهى .
وقال أبو عبد الله بن أبي الفضل : قوله في الظلمة خطأ بل هي عبارة عن كيفية وجودية . مضادة للنور ، والدليل على ذلك قوله : ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( والعدم لا يقال فيه جعل ) ثُمَّ ( كما تقرر في اللسان العربي أصلها للمهلة في الزمان . وقال ابن عطية : ) ثُمَّ ( دالة على قبح

" صفحة رقم 74 "
فعل ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( لأن المعنى : أن خلقه ) السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( وغيرها قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ، ثم تشتمني أي : بعد وضوح هذا كله ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو ، لم يلزم التوبيخ كلزومه ب ) ثُمَّ ( انتهى .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما معنى ثم ( قلت ) : استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته وكذلك ) ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ( استبعاد لأن تمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميهم وباعثهم ؛ انتهى . وهذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن ) ثُمَّ ( للتوبيخ ، والزمخشري من أن ) ثُمَّ ( للاستبعاد ليس بصحيح لأن ) ثُمَّ ( لم توضع لذلك ، وإنما التوبيخ أو الاستبعاد مفهوم من سياق الكلام لا من مدلول ، ثم ولا أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك بل ) ثُمَّ ( هنا للمهلة في الزمان وهي عاطفة جملة اسمية على جملة اسمية ، أخبر تعالى بأن الحمد له ونبه على لعلة المقتضية للحمد من جميع الناس وهي خلق السموات والأرض والظلمات والنور ثم أخبر أن الكافرين به ) يَعْدِلُونَ ( فلا يحمدونه .
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : علام عطف قوله : ) ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ).
( قلت ) : إما على قوله : ) الْحَمْدُ للَّهِ ( على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق ، لأنه ما خلقه إلا نعمة ) ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ( فيكفرون نعمه وإما على قوله ) خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( على معنى أنه خلق ما خلق ، مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه ؛ انتهى . وهذا الوجه الثاني الذي جوزه لا يجوز ، لأنه إذ ذاك يكون معطوفاً على الصلة والمعطوف على الصلة صلة ، فلو جعلت الجملة من قوله : ) ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( صلة لم يصح هذا التركيب لأنه ليس فيها رابط يربط الصلة بالموصول ، إلا إن خرج على قولهم أبو سعيد الذي رويت عن الخدري يريد رويت عنه فيكون الظاهر قد وقع موقع المضمر ، فكأنه قيل : ) ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِهِ يَعْدِلُونَ ( وهذا من الندور ، بحيث لا يقاس عليه ولا يجمل كتاب الله عليه مع ترجيح حمله على التركيب الصحيح الفصيح ، ( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( الظاهر فيه العموم فيندرج فيه عبدة الأصنام وأهل الكتاب ، عبدت النصارى المسيح واليهود عزيراً واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله والمجوس عبدوا النار والمانوية عبدوا النور ، ومن خصص الذين كفروا بالمانوية كقتادة أو بعبدة الأصنام أو بالمجوس حيث قالوا : الموت من أهرمن والحياة من الله ، أو بأهل الكتاب كابن أبي أبزى فلا يظهر له دليل على التخصيص والباء في ) بِرَبّهِمْ ( يحتمل أن تتعلق ب ) يَعْدِلُونَ ( وتكون الباء بمعنى عن أي : يعدلون عنه إلى غيره مما لا يخلق ولا يقدر ، أو يكون المعنى يعدلون به غيره أي : يسوون به غيره في اتخاذه رباً وإلهاً وفي الخلق والإيجاد وعدل الشيء بالشيء التسوية به ، وفي الآية رد على القدرية في قولهم : الخير من الله والشر من الإنسان فعدلوا به غيره في الخلق والإيجاد .
الأنعام : ( 2 ) هو الذي خلقكم . . . . .
( هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ( ظاهره أنا مخلوقون من طين ، وذكر ذلك المهدوي ومكي والزهراوي عن فرقة فالنطفة التي يخلق منها الإنسان أصلها ) مِن طِينٍ ( ثم يقلبها الله نطفة . قال ابن عطية : وهذا يترتب على قول من يقول : يرجع بعد التولد والاستحالات الكثيرة نطفة وذلك مردود عند الأصوليين ؛ انتهى .

" صفحة رقم 75 "
وقال النحاس : يجوز أن تكون النطفة خلقها الله ) مِن طِينٍ ( على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها ؛ انتهى . وقد روى أبو نعيم الحافظ عن بريد بن مسعود حديثاً في الخلق آخره : ( ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته ) ، فذلك قوله تعالى : ) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ( الآية . وخرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما من مولود يولد إلا وقد در عليه من تراب حفرته ) . وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث المتولدين من الأغذية ، والأغذية حيوانية والقول في كيفية تولدها ، كالقول في الإنسان أو نباتية فثبت تولد الإنسان من النباتية وهي متولدة ) مِنَ الطّينِ ( فكل إنسان متولد . ) مِنَ الطّينِ ( وهذا الوجه أقرب إلى الصواب ؛ انتهى . وهذا الذي ذكر أنه عنده وجه آخر وهو أقرب إلى الصواب ، هو بسط ما حكاه المفسرون عن فرقة . وقال فيه ابن عطية : هو مردود عند الأصوليين يعني القول : بالتوالد والاستحالات والذي هو مشهور عند المفسرين ، أن المخلوق ) مِنَ الطّينِ ( هنا هو آدم . قال قتادة ومجاهد والسدي وغيرهم : المعنى خلق آدم ) مِن طِينٍ ( والبشر من آدم فلذلك قال : ) خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ( وذكر ابن سعد في الطبقات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( الناس ولد آدم وآدم من تراب ) . وقال بعض شعراء الجاهلية : وإلى عرق الثرى وشجت عروقي
وهذا الموت يسلبني شبابي
وفسره الشراح بأن عرق الثرى هو آدم ، فعلى هذا يكون التأويل على حذف مضاف إما في ) خَلَقَكُمْ ( أي خلق أصلكم ، وإما في ) مِن طِينٍ ( أي من عرق طين وفرعه .
( ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ( ) قَضَى ( إن كانت هنا بمعنى قدر وكتب ، كانت ) ثُمَّ ( هنا للترتيب في الذكر لا في الزمان لأن ذلك سابق على خلقنا ، إذ هي صفة ذات وإن كانت بمعنى أظهر ، كانت للترتيب الزماني علي أصل وضعها ، لأن ذلك متأخر عن خلقنا فهي صفة فعل والظاهر من تنكير الأجلين أنه تعالى أبهم أمرهما . وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة : الأول أجل الدنيا من وقت الخلق إلى الموت ، والثاني أجل الآخرة لأن الحياة في الآخرة لا انقضاء لها ، ولا

" صفحة رقم 76 "
يعلم كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى ، وروي عن ابن عباس أن الأول هو وفاته بالنوم والثاني بالموت . وقال أيضاً : الأول أجل الدنيا والثاني الآخرة . وقال مجاهد أيضاً : الأول الآخرة . والثاني الدنيا . وقال ابن زيد : الأول هو في وقت أخذ الميثاق على بني آدم حين استخرجهم من ظهر آدم ، والمسمى في هذه الحياة الدنيا . وقال أبو مسلم : الأول أجل الماضين ، والثاني أجل الباقين ، ووصفه بأنه مسمى عنده لأنه تعالى مختص به بخلاف الماضين ، فإنهم لما ماتوا علمت آجالهم . وقيل : الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث ، وهو البرزخ . وقيل : الأول مقدار ما انقضى من عمر كل إنسان ، والثاني مقدار ما بقي . وقيل : الأول أجل الأمم السالفة ، والثاني أجل هذه الأمة . وقيل : الأول ما علمناه أنه لا نبي بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والثاني من الآخرة ، وقيل : الأول ما عرف الناس من آجال الأهلة والسنين والكوائن ، والثاني قيام الساعة . وقيل : الأول من أوقات الأهلة وما أشبهها ، والثاني موت الإنسان . وقال ابن عباس ومجاهد أيضاً ) فَقَضَى أَجَلاً ( بانقضاء الدنيا والثاني لابتداء الآخرة . وروي عن ابن عباس أنه قال : لكل أحد أجلان ، فإن كان تقياً وصولاً للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر ، وإن كان بالعكس نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث . وقال أبو عبد الله الرازي : لكل إنسان أجلان الطبيعي والاخترامي . فالطبيعي : هو الذي لو بقي ذلك المزاج مصوناً عن العوارض الخارجة لانتهت مدة بقائه إلى الأوقات الفلكية . والاخترامي : هو الذي يحصل بسبب الأسباب الخارجية كالحرق والغرق ولدغ الحشرات ، وغيرها من الأمور المنفصلة ، انتهى . وهذا قول المعتزلة وهو نقله عنهم وقال : هذا قول حكماء الإسلام ، انتهى ومعنى ) مُّسمًّى عِندَهُ ( معلوم عنده أو مذكور في اللوح المحفوظ ، وعنده مجاز عن علمه ولا يراد به المكان .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفاً وجب تقديمه فلم جاز تقديمه في قوله : ) وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ).
( قلت ) : لأنه تخصيص بالصفة فقارب المعرفة ، كقوله : ) وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ ( انتهى . وهذا الذي ذكره من مسوغ الابتداء بالنكرة لكونها وصفت لا يتعين هنا أن يكون هو المسوغ ، لأنه يجوز أن يكون المسوغ هو التفصيل لأن من مسوغات الابتداء بالنكرة ، أن يكون الموضع موضع تفصيل نحو قوله : إذا ما بكى من خلفها انحرفت له
بشق وشق عندنا لم يحول
وقد سبق كلامنا على هذا البيت وبينا أنه لا يجوز أن يكون عندنا في موضع الصفة ، بل يتعين أن يكون في موضع الخبر .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الكلام السائر أن يقال : عندي ثوب جيد ولي عبد كيس

" صفحة رقم 77 "
وما أشبه ذلك .
( قلت ) : أوجبه أن المعنى وأي ) أَجَلٍ مُّسَمًّى عِندَهُ ( تعظيماً لشأن الساعة فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم ؛ انتهى . وهذا لا يجوز لأنه إذا كان التقدير وأي ) أَجَلٍ مُّسَمًّى عِندَهُ ( كانت أي صفة لموصوف محذوف تقديره وأجل أي ) أَجَلٍ مُّسَمًّى عِندَهُ ( ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أياً ولا حذف موصوفها وإبقاؤها ، فلو قلت مررت بأي رجل تريد برجل أيّ رجل لم يجز ، ( وتمترون ( معناه تشكون أو تجادلون جدال الشاكين ، والتماري المجادلة على مذهب الشك قاله بعض المفسرين . والكلام في ) تَتَّقُونَ ثُمَّ ( هنا كالكلام فيها في قوله ) ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( والذي يظهر لي أن قوله تعالى : ) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ ( على جهة الخطاب ، هو التفات من الغائب الذي هو قوله ) ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( وإن كان الخلق وقضاء الأجل ليس مختصاً بالكفار إذ اشترك فيه المؤمن والكافر ، لكنه قصد به الكافر تنبيهاً له على أصل خلقه وقضاء الله تعالى عليه وقدرته ، وإنما قلت إنه من باب الالتفات لأن قوله ) ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ( لا يمكن أن يندرج في هذا الخطاب من اصطفاه الله بالنبوة والإيمان .
الأنعام : ( 3 ) وهو الله في . . . . .
( وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ( لما تقدم ما يدل على القدرة التامة والاختيار ، ذكر ما يدل على العلم التام فكان في التنبيه على هذه الأوصاف دلالة على كونه تعالى قادراً مختاراً عالماً بالكليات والجزئيات وإبطالاً لشبه منكر المعاد ، والظاهر أن ) هُوَ ( ضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر قبله ، ( وَهُوَ اللَّهُ ( وهذا قول الجمهور قاله الكرماني . وقال أبو علي : ) هُوَ ( ضمير الشأن ) وَاللَّهُ ( مبتدأ خبره ما بعده ، والجملة مفسرة لضمير الشأن وإنما فر إلى هذا لأنه إذا لم يكن ضمير الشأن ، كان عائداً على الله تعالى فيصير التقدير الله ) وَاللَّهُ ( فينعقد مبتدأ وخبر من اسمين متحدين لفظاً ومعنى لا نسبة بينهما إسنادية ، وذلك لا يجوز فلذلك والله أعلم تأول . أبو علي الآية على أن الضمير ضمير الأمر ) وَاللَّهُ ( خبره يعلم في ) السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ ( متعلق بيعلم والتقدير الله يعلم ) فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ ( ) سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ( ذهب الزجاج إلى أن قوله : ) فِي السَّمَاوَاتِ ( متعلق بما تضمنه اسم الله من المعاني ، كما يقال : أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب . قال ابن عطية : وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه وإيثار قدرته وإحاطته واستيلائه ، ونحو هذه الصفات فجمع هذه كلها في قوله ) وَهُوَ اللَّهُ ( أي الذي له هذه كلها ) فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ ( كأنه قال : وهو الخالق الرازق والمحيي المحيط في السموات وفي الأرض كما تقول : زيد السلطان في الشام والعراق ، فلو قصدت ذات زيد لقلت محالاً وإذا كان مقصد قولك زيد السلطان الآمر الناهي الناقض المبرم الذي يعزل ويولي في الشام والعراق ، فأقمت السلطان مقام هذه كلها كان فصيحاً صحيحاً فكذلك في الآية أقام لفظة ) اللَّهِ ( مقام تلك الصفات المذكورة ؛ انتهى . وما ذكره الزجاج وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى ، لكن صناعة النحو لا تساعد عليه لأنهما زعما أن ) فِي السَّمَاوَاتِ ( متعلق بلفظ ) اللَّهِ ( لما تضمنه من المعاني ولا تعمل تلك المعاني جميعها في اللفظ ، لأنه لو صرح بها جميعها لم تعمل فيه بل العمل من حيث اللفظ لواحد منها ، وإن كان ) فِي السَّمَاوَاتِ ( متعلقاً بها جميعها من حيث المعنى ، بل الأولى أن يعمل في المحرور ما تضمنه لفظ ) اللَّهِ ( من معنى الألوهية وإن كان لفظ ) اللَّهِ ( علماً لأن الظرف والمجرور قد يعمل فيهما العلم بما تضمنه من المعنى كما قال : أنا أبو المنهال بعض الأحيان . فبعض منصوب بما تضمنه أبو المنهال كأنه قال أنا المشهور بعض الأحيان .
وقال الزمخشري نحواً من هذا قال : ) فِي السَّمَاوَاتِ ( متعلق بمعنى اسم الله ، كأنه قيل : وهو المعبود فيهما ومنه قوله ) وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماء إِلَاهٌ وَفِى الاْرْض

" صفحة رقم 78 "
ِ إِلَاهٌ ( أي : وهو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها ، أو هو الذي يقال له : الله فيها لا يشرك في هذا الاسم ؛ انتهى ، فانظر تقاديره كلها كيف قدر العامل واحداً من المعاني لا جميعها ، وقالت فرقة ) هُوَ ( على تقدير صفة حذفت وهي مرادة في المعنى ، كأنه قيل : هو الله المعبود ) فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ ( وقدرها بعضهم وهو الله المدبر ) فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ ( ، وقالت فرقة : ) وَهُوَ اللَّهُ ( تم الكلام هنا . ثم استأنف ما بعده وتعلق المجرور ب ) يَعْلَمْ ( وقالت فرقة : ) وَهُوَ اللَّهُ ( تام و ) فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ ( متعلق بمفعول ) يَعْلَمْ ( وهو ) سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ( والتقدير يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ، وهذا يضعف لأن فيه تقديم مفعول المصدر الموصول عليه والعجب من النحاس حيث قال : هذا من أحسن ما قيل فيه ، وقالت فرقة : هو ضمير الأمر والله مرفوع على الابتداء وخبره ) فِي السَّمَاوَاتِ ( والجملة خبر عن ضمير الأمر وتم الكلام . ثم استأنف فقال : ) وَفِى الاْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ( أي : ويعلم في الأرض .
وقال ابن جرير نحواً من هذا إلا أن ) هُوَ ( عائد على ما عادت عليه الضمائر قبل وليس ضمير الأمر . وقيل : يتعلق ) فِي السَّمَاوَاتِ ( بقوله : ) تَكْسِبُونَ ( هذا خطأ ، لأن ) مَا ( موصولة ب ) تَكْسِبُونَ ( وسواء كانت حرفاً مصدرياً أم اسماً بمعنى الذي ، فإنه لا يجوز تقديم معمول الصلة على الموصول . وقيل ) فِي السَّمَاوَاتِ ( حال من المصدر الذي هو ) سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ( تقدم على ذي الحال وعلى العامل . وقال الزمخشري : يجوز أن يكون ) اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ ( خبراً بعد خبر على معنى أنه الله وأنه في السموات والأرض بمعنى أنه عالم بما فيهما ، لا يخفى عليه شيء منه كأن ذاته فيها وهو ضعيف ، لأن المجرور بفي لا يدل على وصف خاص إنما يدل على كون مطلق وعلى هذه الأقوال ينبني إعراب هذه الآية ، وإنما ذهب أهل العلم إلى هذه التأويلات والخروج عن ظاهر ) فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ ( لما قام عليه دليل العقل من استحالة حلول الله تعالى في الأماكن ومماسة الإجرام ومحاذاته لها وتحيزه في جهة ، قال معناه وبعض لفظه ابن عطية وفي قوله : ) يَعْلَمُ سِرَّكُمْ ( إلى آخره خبر في ضمنه تحذير وزجر . قال أبو عبد الله الرازي : المراد بالسرّ صفات القلوب وهو الدواعي والصوارف وبالجهر أعمال الجوارح وقدم السرّ لأن ذكر المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي ، فالداعية التي هي من باب السرّ هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر ، وقد ثبت أن العلم بالعلة علة العلم بالمعلول والعلة متقدّمة على المعلول والمقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ ، انتهى .
وقال التبريزي : معناه يعلم ما تخفونه من أعمالكم ونياتكم وما تظهرون من أعمالكم وما تكسبون ، عام لجميع الاعتقادات والأقوال والأفعال وكسب كل إنسان عمله المفضي به إلى اجتلاب نفع أو دفع ضرّ ولهذا لا يوصف به الله تعالى . وقال أبو عبد الله الرازي : وفي أول كلامه شيء من معنى كلام الزمخشري يجب حمل قوله : ) مَا تَكْسِبُونَ ( على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب ، فهو محمول على المكتسب كما يقال هذا المال كسب فلان أي مكتسبه ، ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه وفي هذه الآية رد على المعطلة والثنوية والحشوية والفلاسفة ؛ انتهى .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف موقع قوله ) يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ( ( قلت ) : إن أراد المتوحد بالإلهية كان تقريراً له ، لأن الذي استوى في علمه السرّ والعلانية ، هو الله وحده وكذلك إذا جعلت ) فِي السَّمَاوَاتِ ( خبراً بعد خبر وإلا فهو كلام مبتدأ أو خبر ثالث ، انتهى ، وهذا على مذهب من يجيز أن يكون للمبتدأ أخباراً متعددة .
الأنعام : ( 4 ) وما تأتيهم من . . . . .
( وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( ) مِنْ ( الأولى زائدة لاستغراق الجنس ، ومعنى الزيادة فيها أن ما

" صفحة رقم 79 "
بعدها معمول لما قبلها فاعل بقوله ) تَأْتِيَهُمُ ( فإذا كانت النكرة بعدها مما لا يستعمل إلا في النفي العام ، كانت ) مِنْ ( لتأكيد الاستغراق نحو ما في الدار من أحد ، وإذا كانت مما يجوز أن يراد بها الاستغراق ، ويجوز أن يراد بها نفي الوحدة أو نفي الكمال كانت ) مِنْ ( دالة على الاستغراق نحو ما قام من رجل ، و ) مِنْ ( الثانية للتبعيض . قال الزمخشري : يعني وما يظهر لهم قط دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار إلا كانوا عنه ) مُعْرِضِينَ ( تاركين للنظر ، لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأساً لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب ؛ انتهى . واستعمال الزمخشري قط مع المضارع في قوله : وما يظهر لهم قط دليل ليس بجيد ، لأن قط ظرف مختص بالماضي إلا إن كان أراد بقوله : وما يظهر وما ظهر ولا حاجة إلى استعمال ذلك . وقيل : ) الاْيَةَ ( هنا العلامة على وحدانية الله وانفراده بالألوهية . وقيل : الرسالة . وقيل : المعجز الخارق . وقيل : القرآن ومعنى ) عَنْهَا ( أي : عن قبولها أو سماعها ، والإعراض ضد الإقبال وهو مجاز إذ حقيقته في الأجسام ، والجملة من قوله : ) كَانُواْ ( ومتعلقها في موضع الحال فيكون ) تَأْتِيَهُمُ ( ماضي المعنى لقوله : ) كَانُواْ ( أو يكون ) كَانُواْ ( مضارع المعنى لقوله : ) تَأْتِيَهُمُ ( وذو الحال هو الضمير في ) تَأْتِيَهُمُ ( ، ولا يأتي ماضياً إلا بأحد شرطين أحدهما : أن يسبقه فعل كما في هذا الآية ، والثاني أن تدخل على ذلك الماضي قد نحو ما زيد إلا قد ضرب عمراً ، وهذا التفات وخروج من الخطاب إلى الغيبة والضمير عائد على ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ). وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم ، ولما تقدّم الكلام أولاً في التوحيد وثانياً في المعاد وثالثاً في تقرير هذين المطلوبين ، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بتقرير النبوة وبين فيه أنهم أعرضوا عن تأمل الدلائل ، ويدل ذلك على أن التقليد باطل وأن التأمل في الدلائل واجب ولذلك ذموا بإعراضهم عن الدلائل .
الأنعام : ( 5 ) فقد كذبوا بالحق . . . . .
( فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ ( ) الْحَقّ ( القرآن أو الإسلام أو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أو انشقاق القمر أو الوعد أو الوعيد ، أقوال والذي يظهر أنه الآية التي تأتيهم وكأنه قيل : ) فَقَدْ كَذَّبُواْ ( بالآية التي تأتيهم وهي ) الْحَقّ ( فأقام الظاهر مقام المضمر ، لما في ذلك من وصفه بالحق وحقيقته كونه من آيات الله تعالى ، وظاهر قوله ) فَقَدْ كَذَّبُواْ ( أن الفاء للتعقيب وأن إعراضهم عن الآية أعقبة التكذيب . وقال الزمخشري : ) فَقَدْ كَذَّبُواْ ( مردود على كلام محذوف كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات . ) فَقَدْ كَذَّبُواْ ( بما هو أعظم آية وأكبرها وهو الحق ، لما جاءهم يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه ؛ انتهى . ولا ضرورة تدعو إلى شرط محذوف إذ الكلام منتظم بدون هذا التقدير .
( فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ ( هذا يدل على أنهم وقع منهم الاستهزاء ، فيكون في الكلام معطوف محذوف دل عليه آخر الآية وتقديره واستهزؤوا به ، ( جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ ( وهذه رتب ثلاث صدرت من هؤلاء الكفار ، الإعراض عن تأمل الدلائل ثم أعقب الإعراض التكذيب ، وهو أزيد من الإعراض إذ المعرض قد يكون غافلاً عن الشيء ثم أعقب التكذيب الاستهزاء ، وهو أزيد من التكذيب إذ المكذب قد لا يبلغ إلى حدّ الاستهزاء وهذه هي المبالغة في الإنكار ، والنبأ الخبر الذي يعظم وقعه وفي الكلام حذف مضاف أي : ) فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ ( مضمن ) أَنْبَاء ( فقال قوم : المراد ما عذبوا به في الدنيا من القتل والسبي والنهب والإجلاء وغير ذلك ، وخصص بعضهم ذلك بيوم بدر . وقيل : هو عذاب الآخرة ، وتضمنت هذه الجملة التهديد والزجر والوعيد كما تقول : اصنع ما تشاء فسيأتيك الخبر ، وعلق التهديد بالاستهزاء دون الإعراض والتكذيب لتضمنه إياهما ، إذ هو الغاية القصوى في إنكار الحق . وقال الزمخشري : وهو القرآن أي أخباره وأحواله بمعنى

" صفحة رقم 80 "
سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وسيظهر لهم أنه لم يكن موضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته ؛ انتهى . وهو على عادته في الإسهاب وشرح اللفظ والمعنى مما لا يدلان عليه ، وجاء هنا تقييد الكذب بالحق والتنفيس ب ) سَوْفَ ( وفي الشعراء فقد كذبوا فسيأتيهم لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء ، فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مراداً حالة على الأول وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس ، فجاء بالسين والظاهر أن ما في قوله : ) لَّمّاً كَانُواْ ( موصولة اسمية بمعنى الذي والضمير في ) بِهِ ( عائد عليها . وقال ابن عطية : يصح أن تكون مصدرية التقدير ) أَنْبَاء ( كونهم مستهزئين فعلى هذا يكون الضمير في ) بِهِ ( عائد على الحق لا على مذهب الأخفش حيث زعم أن ) مَا ( المصدرية اسم لا حرف ، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية .
الأنعام : ( 6 ) ألم يروا كم . . . . .
( أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً ( لما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم ، أتبع ذلك بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة ، وحض على الاعتبار بالقرون الماضية و ) يَرَوْاْ ( هنا بمعنى يعلموا ، لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة و ) كَمْ ( في موضع المفعول ب ) أَهْلَكْنَا ( و ) يَرَوْاْ ( معلقة والجملة في موضع مفعولها ، و ) مِنْ ( الأولى لابتداء الغاية و ) مِنْ ( الثانية للتبعيض ، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع ووهم الحوفي في جعله ) مِنْ ( الثانية بدلاً من الأولى وظاهر الإهلاك أنه حقيقة ، كما أهلك قوم نوح وعاداً وثمود غيرهم ويحتمل أن يكون معنوياً بالمسح قردة وخنازير ، والضمير في ) يَرَوْاْ ( عائد على من سبق من المكذبين المستهزئين و ) لَكُمْ ( خطاب لهم فهو التفات ، والمعنى أن القرون المهلكة أعطوا من البسطة في الدنيا والسعة في الأموال ما لم يعط هؤلاء الذين حضوا على الاعتبار بالأمم السالفة وما جرى لهم ، وفي هذا الالتفات تعريض بقلة تمكين هؤلاء ونقصهم عن أحوال من سبق ، ومع تمكين أولئك في الأرض فقد حل بهم الهلاك ، فكيف لا يحل بكم على قلتكم وضيق خطتكم ؟ فالهلاك إليكم أسرع من الهلاك إليهم . وقال ابن عطية : والمخاطبة في ) لَكُمْ ( هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم وسائر الناس كافة ، كأنه قال : ) مَا لَمْ نُمَكّن ( يا أهل هذا العصر لكم ويحتمل أن يقدر معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال ) إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا ( الآية . وإذا أخبرت أنك قلت لو قيل له أو أمرت أن يقال له فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها ، فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ ذكر غائب دون مخاطبة ، انتهى . فتقول : قلت لزيد ما أكرمك وقلت لزيد ما أكرمه ، والضمير في ) مَّكَّنَّاهُمْ ( عائد على ) كَمْ ( مراعاة لمعناها ، لأن معناها جمع والمراد بها الأمم ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يعود على ) قَرْنٍ ( وذلك ضعيف لأن ) مّن قَرْنٍ ( تمييز ) لَكُمْ ( فكم هي المحدث عنها بالإهلاك فتكون هي المحدث عنها بالتمكين ، فما بعده إذ ) مّن قَرْنٍ ( جرى مجرى التبيين ولم يحدث عنه ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ) كَمْ ( هنا ظرفاً وأن يكون مصدراً ، أي : كم أزمنة أهلكنا ؟ أو كم إهلاكاً أهلكنا ؟ ومفعول ) أَهْلَكْنَا مِنَ قَرْنٍ ( على زيادة من وهذا الذي أجازه لا يجوز ، لأنه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع بل تدل على المفرد ، لو قلت : كم أزماناً ضربت رجلاً أو كم مرة ضربت رجلاً ؟ لم يكن مدلوله مدلول رجال ، لأن السؤال إنما هو عن عدد الأزمان أو المرات التي ضرب فيها رجل ، ولأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة ) مِنْ ( لأنها لا تزاد إلا في الاستفهام المحض أو الاستفهام المراد به النفي ، والاستفهام هنا ليس محضاً ولا يراد به النفي والظاهر أن قوله ) مَّكَّنَّاهُمْ ( جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ما كان من حالهم ؟ فقيل : ) مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ ). وقال أبو البقاء : ) مَّكَّنَّاهُمْ ( في موضع خبر صفة ) قَرْنٍ ( وجمع على المعنى وما قاله أبو البقاء ممكن ، ( وَمَا ( في قوله : ) مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ ( جوزوا في إعرابها أن تكون بمعنى الذي ويكون التقدير التمكين ، الذي ) لَمْ نُمَكّن

" صفحة رقم 81 "
لَّكُمْ ( فحذف المنعوت وأقيم النعت مقامه ، ويكون الضمير العائد على ) مَا ( محذوفاً أي ما لم نمكنه لكم وهذا لا يجوز ، لأن ) مَا ( بمعنى الذي لا يكون نعتاً للمعارف وإن كان مدلولها مدلول الذي ، بل لفظ الذي هو الذي يكون نعتاً للمعارف لو قلت ضربت الضرب ما ضرب زيد تريد الذي ضرب زيد لم يجز ، فلو قلت : الضرب الذي ضربه زيد جاز وجوزوا أيضاً أن يكون نكرة صفة لمصدر محذوف تقديره تمكيناً لم نمكنه لكم ، وهذا أيضاً لا يجوز لأن ) مَا ( النكرة الصفة لا يجوز حذف موصوفها ، لو قلت : قمت ما أو ضربت ما وأنت تريد قمت قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يجز ، وهذان الوجهان أجازهما الحوفي وأجاز أبو البقاء أن يكون ) مَا ( مفعولاً به بتمكن على المعنى ، لأن المعنى أعطيناهم ما لم نعطكم ، وهذا الذي أجازه تضمين والتضمين لا ينقاس ، وأجاز أيضاً أن تكون ) مَا ( مصدرية والزمان محذوف أي مد ) مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ ( ويعني مدة انتفاء التمكين لكم ، وأجاز أيضاً أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها أي شيئاً لم نمكنه لكم ، وحذف العائد من الصفة على الموصوف وهذا أقرب إلى الصواب وتعدى مكن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر ، والأكثر تعديته باللام ) مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ ( ) إِنَّمَا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ ( أو لم نمكن لهم . وقال أبو عبيد ) مَّكَّنَّاهُمْ ( ومكنا لهم لغتان فصيحتان ، كنصحته ونصحت له والإرسال والإنزال متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن ، وهو ما ينزل من الضرع متتابعاً و ) السَّمَاء ( السماء المظلة قالوا : لأن المطر ينزل منها إلى السحاب ، ويكون على حذف مضاف أي مطر ) السَّمَاء ( ويكون ) مُّدْرَاراً ( حالاً من ذلك المضاف المحذوف . وقيل : ) السَّمَاء ( المطر وفي الحديث : ( في أثر سماء كانت من الليل ) ، وتقول العرب : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم ، يريدون المطر وقال الشاعر : إذا نزل السماء بأرض قوم
رغيناه وإن كانوا غضبانا
) ومدراراً ( على هذا حال من نفس ) فِى السَّمَاء ). وقيل : ) السَّمَاء ( هنا السحاب ويوصف بالمدرار ، فمدراراً حال منه ) ومدرارا ( يوصف به المذكر والمؤنث وهو للمبالغة في اتصال المطر ودوامة وقت الحاجة ، لا إنها ترفع ليلاً ونهاراً فتفسد قاله ابن الأنباري . ولأن هذه الأوصاف إنما ذكرت لتعديد النعم عليهم ومقابلتها بالعصيان ، ( مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الاْنْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ ( تقدّم ذكر كيفية جريان الأنهار من التحت في أوائل البقرة . وقد أعرب من فسر ) الانْهَارَ ( هنا بالخيل كما قيل في قوله : ) وَهَاذِهِ الاْنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى ( وإذا كان الفرس سريع العدو واسع الخطو وصف بالبحر وبالنهر ، والمعنى أنه تعالى مكنهم التمكين البالغ ووسع عليهم الرزق فذكر سببه وهو تتابع الأمطار على قدر حاجاتهم وإمساك الأرض ذلك الماء ، حتى صارت الأنهار تجري من تحتهم فكثر الخصب فأذنبوا فأهلكوا بذنوبهم ، والظاهر أن الذنوب هنا هي كفرهم وتكذيبهم برسل الله وآياته ، والإهلاك هنا لا يراد به مجرد الإفناء والإماتة بل المراد الإهلاك الناشىء عن الذنوب والأخذ به كقوله تعالى : ) فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الاْرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ ( ، لأن الإهلاك بمعنى الإماتة مشترك فيه الصالح والطالح ، وفائدة ذكر إنشاء قرن ) ءاخَرِينَ ( بعدهم ، إظهار القدرة التامّة على إفناء ناس وإنشاء ناس فهو تعالى لا يتعاظمه أن يهلك ) قَرْناً ( ويخرب بلاده وينشىء مكانه آخر يعمر بلاده وفيه تعريض للمخاطبين ، بإهلاكهم إذا عصوا كما أهلك من قبلهم ووصف قرناً ) بِاخَرِينَ ( وهو جمع حملاً على معنى قرن ، وكان الحمل على المعنى

" صفحة رقم 82 "
أفصح لأنها فاصلة رأس آية .
الأنعام : ( 7 ) ولو نزلنا عليك . . . . .
( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( سبب نزولها اقتراح عبد الله بن أبي أمية وتعنته إذ قال للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) : لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ، ثم تنزل بكتاب فيه من ربّ العزة إلى عبد الله بن أمية يأمرني بتصديقك . وما أراني مع هذا كنت أصدقك . ثم أسلم بعد ذلك وقتل شهيداً بالطائف ولما ذكر تعالى تكذيبهم الحق لما جاءهم ثم وعظهم وذكرهم بإهلاك القرون الماضية بذنوبهم ذكرهم مبالغتهم في التكذيب بأنهم لو رأوا كلاماً مكتوباً ) فِى قِرْطَاسٍ ( ومع رؤيتهم جسوه بأيديهم ، لم تزدهم الرؤية واللمس إلا تكذيباً وادعوا أن ذلك من باب السحر لا من باب المعجز عناداً وتعنتاً وإن كان من له أدنى مسكة من عقل لا ينازع فيما أدركه بالبصر عن قريب ولا بما لمسته يده ، وذكر اللمس لأنهم لم يقتصروا على الرّؤية لئلا يقولوا سكرت أبصارنا ، ولما كانت المعجزات مرئيات ومسموعات ذكر الملموسات مبالغة في أنهم لا يتوقفون في إنكار هذه الأنواع كلها حتى إن الملموس باليد هو عندهم مثل المرئي بالعين والمسموع بالأذن ، وذكر اليد هنا فقيل مبالغة في التأكيد ولأن اليد أقوى في اللمس من غيرها من الأعضاء . وقيل : الناس منقسمون إلى بصراء وأضراء ، فذكر الطريق الذي يحصل به العلم للفريقين . وقيل : علقه باللمس باليد لأنه أبعد عن السحر . وقيل : اللمس باليد مقدمة الإبصار ولا يقع مع التزوير . وقيل : اللمس يطلق ويراد به الفحص عن الشيء والكشف عنه ، كما قال : ) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء ( فذكرت اليد حتى يعلم أنه ليس المراد به ذلك اللمس ، وجاء ) لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( لأن مثل هذا الغرض يقتضي انقسام الناس إلى مؤمن وكافر ، فالمؤمن يراه من أعظم المعجزات والكافر يجعله من باب السحر ، ووصف السحر ب ) مُّبِينٌ ( إما لكونه بيناً في نفسه ، وإما لكونه أظهر غيره .
( وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( قال ابن عباس قال النضر بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خالد : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة ، يشهدون أنه من عند الله وإنك رسوله ؛ انتهى . والظاهر أن قوله ) وَقَالُواْ ( استئناف إخبار من الله ، حكى عنهم أنهم قالوا ذلك ويحتمل أن يكون معطوفاً على جواب لو أي : ) لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ولقالوا ) لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( فلا يكون إذ ذاك هذان القولان المرتبان على تقدير إنزال الكتاب ) فِى قِرْطَاسٍ ( واقعين ، لأن التنزيل لم يقع وكان يكون القول الثاني غاية في التعنت ، وقد أشار إلى هذا الاحتمال أبو عبد الله بن أبي الفضل قال : في الكلام حذف تقديره ولو أجبناهم إلى ما سألوا لم يؤمنوا
الأنعام : ( 8 ) وقالوا لولا أنزل . . . . .
( وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( وظاهر الآية يقتضي أنها في كفار العرب ، وذكر بعض الناس أنها في أهل الكتاب والضمير في ) عَلَيْهِ ( عائد على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمعنى ) مُلْكُ ( نشاهده ويخبرنا عن الله تعالى بنبوته وبصدقه ، و ) لَوْلاَ ( بمعنى هلا للتحضيض وهذا قول من تعنت وأنكر النبوات .
( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الاْمْرُ ( أي ) وَلَوْ أَنزَلْنَا ( عليه ) مَلَكًا ( يشاهدونه لقامت القيامة قاله مجاهد . وقال ابن عباس وقتادة والسدّي : في الكلام حذف تقديره ) وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً ( فكذبوه ) لَقُضِىَ الاْمْرُ ( بعذابهم ولم يؤخروا حسب ما سلف في كل أمة . وقالت فرقة : معنى ) لَقُضِىَ الاْمْرُ ( لماتوا من هول رؤية الملك في صورته ، ويؤيد هذا التأويل ولو جعلناه ملكاً إلى آخره فإن أهل التأويل مجمعون على أنهم لم يكونوا ليطيقوا رؤية الملك في صورته . وقال ابن عطية : فالأولى في ) لَقُضِىَ الاْمْرُ ( أي لماتوا من هول رؤيته . وقال الزمخشري : لقضي أمر إهلاكهم .
( ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ( بعد نزوله طرفة عين إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في صورته

" صفحة رقم 83 "
وهي أنه لا شيء أبين منها وأيقن ، ثم لا يؤمنون كما قال ولو إننا نزلنا إليهم الملائكة لم يكن بد من إهلاكهم كما أهلك أصحاب المائدة ، وأما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة ، فيجب إهلاكهم وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون ؛ انتهى . والترديد الأول بإما قول ابن عباس ، والثالث قول تلك الفرقة ، وقوله : كما أهلك أصحاب المائدة ، لأنهم عنده كفار وقد تقدّم الكلام فيهم في أواخر سورة العقود ، وذكر أبو عبد الله الرازي الأوجه الثلاثة التي ذكرها الزمخشري ببسط فيها . وقال التبريزي في معنى ) لَقُضِىَ الاْمْرُ ( قولان : أحدهما : لقامت القيامة لأن الغيب يصير عندها شهادة عياناً . الثاني : الفزع من إهلاكهم لأن السنة الإلهية جارية في إنزال الملائكة بأحد أمرين : الوحي أو الإهلاك ، وقد امتنع الأول فيتعين الثاني ؛ انتهى . فعلى هذا القول يكون معنى قوله ) وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( أي بإهلاكنا . قال الزمخشري : ومعنى ثم بعدما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الإنظار جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر ، لأن مفاجأة الشدّة أشد من نفس الشدّة ؛ انتهى .
الأنعام : ( 9 ) ولو جعلناه ملكا . . . . .
( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( أي ولجعلنا الرسول ملكاً ، كما اقترحوا ، لأنهم كانوا يقولون : لولا أنزل على محمد ملك ، وتارة يقولون : ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة ، ومعنى ) لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( أي لصيرناه في صورة رجل ، كما كان جبريل ينزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في غالب الأحوال في صورة دحية ، وتارة ظهر له وللصحابة في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة ، وفي الحديث : ( وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً ) ، وكما تصوّر جبريل لمريم بشراً سوياً والملائكة أضياف إبراهيم وأضياف لوط ومتسوّر والمحراب ، فإنهم ظهروا بصورة البشر وإنما كان يكون بصورة رجل ، لأن الناس لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد ، ويؤيده هلاك الذي سمع صوت ملك في السحاب يقول : أقدم حيزوم فمات لسماع صوته فكيف لو رآه في خلقته . قال ابن عطية : ولا يعارض هذا برؤية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لجبريل وغيره في صورهم ، لأنه عليه السلام أعطى قوة يعني غير قوى البشر وجاء بلفظ رجل ردًّا على المخاطبين بهذا ، إذ كانوا يزعمون أن الملائكة إناث . وقال القرطبي : لو جعل الله الرسول إلى البشر ملكاً لفروا من مقاربته وما أنسوا به ، ولداخلهم من الرعب من كلامه ما يلكنهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله ، فلا تعم المصلحة ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم لقالوا : لست ملكاً وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم ؛ انتهى . وهو جمع كلام من قبله من المفسرين ، وفي هذه الآية دليل على من أنكر نزول الملائكة إلى الأرض وقالوا : هي أجسام لطيفة ليس فيها ما يقتضي انحطاطها ونزولها إلى الأرض ، ورد ذلك عليهم بأنه تعالى قادر أن يودع أجسامها ثقلاً يكون سبباً لنزولها إلى الأرض ثم يزيل ذلك ، فتعود إلى ما كانت عليه من اللطافة والخفة فيكون ذلك سبباً لارتفاعها ؛ انتهى . هذا الردّ والذي نقول إن القدرة الإلهية تنزل الخفيف وتصعد الكثيف من غير أن يجعل في الخفيف ثقلاً وفي الكثيف خفة وليس هذا بالمستحيل ، فيتكلف أن يودع في الخفيف ثقلاً وفي الكثيف خفة ، وفي الآية دليل على إمكان تمثيل الملائكة بصورة

" صفحة رقم 84 "
البشر وهو صحيح واقع بالنقل المتواتر .
( وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ( أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ ، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة إنسان : هذا إنسان وليس بملك ، فإني أستدل بأني جئت بالقرآن المعجز وفيه أني ملك لا بشر كذبوه كما كذبوا الرسل فخذلوا كما هم مخذولون ، ويجوز أن يكون المعنى ) وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم ( حينئذ مثل ) مَّا يَلْبِسُونَ ( على نفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله قاله الزمخشري وفيه بعض تلخيص . وقال ابن عطية : ولخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم وضعفتهم ، أي : لفعلنا لهم في ذلك تلبساً يطرّق لهم إلى أن يلبسوا به وذلك لا يحسن ، ويحتمل الكلام مقصداً آخر أي ) للبسنا ( نحن ) سَوَاء عَلَيْهِمْ ( كما يلبسون هم على ضعفتهم ، فكنا ننهاهم عن التلبيس ونفعله نحن ؛ انتهى . وقال قوم : كان يحصل التلبيس لاعتقادهم أن الملائكة إناث فلو رأوه في صورة رجل حصل التلبيس عليهم كما حصل منهم التلبيس على غيرهم . وقال قوم منهم الضحاك : الآية نزلت في اليهود والنصارى في دينهم وكتبهم حرفوها وكذبوا رسلهم ، فالمعنى في اللبس زدناهم ضلالاً على ضلالهم . وقال ابن عباس : لبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم بتحريف الكلام عن مواضعه ، و ) مَا ( مصدرية وأضاف اللبس إليه تعالى على جهة الخلق ، وإليهم على جهة الاكتساب . وقرأ ابن محيصن : ولبسنا بلام واحدة والزهري ) وَلَلَبَسْنَا ( بتشديد الباء .
الأنعام : ( 10 ) ولقد استهزئ برسل . . . . .
( وَلَقَدِ اسْتُهْزِىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ ). هذه تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على ما كان يلقى من قومه وتأسّ بمن سبق من الرسل وهو نظير وإن يكذبوك فقد كذب رسل من قبلك لأن ما كان مشتركاً من ما لا يليق أهون على النفس مما يكون فيه الانفراد وفي التسلية والتأسي من التخفيف ما لا يخفى . وقالت الخنساء : ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي
وقال بعض المولدين : ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ولما كان الكفار لا ينفعهم الاشتراك في العذاب ولا يتسلون بذلك ، نفى ذلك تعالى عنهم فقال : ) الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ( قيل : كان قوم يقولون : يجب أن يكون ملكاً من الملائكة على سبيل الاستهزاء ، فيضيق قلب الرسول عند سماع ذلك فسلاه الله تعالى بإخباره أنه قد سبق للرسل قبلك استهزاء قومهم بهم ليكون سبباً للتخفيف عن القلب ، وفي قوله تعالى : ) فَحَاقَ ( إلى آخره ، إخبار بما جرى للمستهزئين بالرسل قبلك ووعيد متيقن لمن استهزأ بالرسول عليه السلام وتثبيت للرسول على عدم اكتراثه بهم ، لأن مآلهم إلى التلف والعقاب الشديد المرتب على الاستهزاء ، وأنه تعالى يكفيه شرهم وإذايتهم كما قال تعالى : ) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءينَ ( ومعنى ) سَخِرُواْ ( استهزؤوا إلا أن استهزأ تعدّى بالباء وسخر بمن كما قال : ) إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ( وبالباء تقول : سخرت به وتكرر الفعل هنا لخفة الثلاثي ولم يتكرر في ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىء ( فكان يكون التركيب ، ( فَحَاقَ بِالَّذِينَ ( استهزؤوا بهم لثقل استفعل ، والظاهر في ) مَا ( أن

" صفحة رقم 85 "
تكون بمعنى الذي وجوّزوا أن تكون ) مَا ( مصدرية ، والظاهر أن الضمير في ) مِنْهُمْ ( عائد على الرسل ، أي ) فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ ( من الرسل وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون عائداً على غير الرسل . قال الحوفي : في أمم الرسل . وقال أبو البقاء : على المستهزئين ، ويكون ) مِنْهُمْ ( حالاً من ضمير الفاعل في ) سَخِرُواْ ( وما قالاه وجوزاه ليس بجيد ، أما قول الحوفي فإن الضمير يعود على غير مذكور وهو خلاف الأصل ، وأما قول أبي البقاء فهو أبعد لأنه يصير المعنى : ) فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ ( كائنين من المستهزئين فلا حاجة لهذه الحال لأنها مفهومة من قوله ) سَخِرُواْ ( وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة بكسر دال ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىء ( على أصل التقاء الساكنين . وقرأ باقي السبعة بالضم اتباعاً ومراعاة لضم التاء إذ الحاجز بينهما ساكن ، وهو حاجز غير حصين .
الأنعام : ( 11 ) قل سيروا في . . . . .
( قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ ( لما ذكر تعالى ما حل بالمكذبين المستهزئين وكان المخاطبون بذلك أمّة أمّية ، لم تدرس الكتب ولم تجالس العلماء فلها أن تظافر في الإخبار بهلاك من أهلك بذنوبهم أمروا بالسير في الأرض ، والنظر فيما حل بالمكذبين ليعتبروا بذلك وتتظافر مع الإخبار الصادق الحس فللرؤية من مزيد الاعتبار ما لا يكون كما قال بعض العصريين : لطائف معنى في العيان ولم تكن
لتدرك إلا بالتزاور واللقا
والظاهر أن السير المأمور به ، هو الانتقال من مكان إلى مكان وإن النظر المأمور به ، هو نظر العين وإن الأرض هي ما قرب من بلادهم من ديار الهالكين بذنوبهم كأرض عاد ومدين ومدائن قوم لوط وثمود . وقال قوم : السير والنظر هنا ليسا حسيين بل هما جولان الفكر والعقل في أحوال من مضى من الأمم التي كذبت رسلها ، ولذلك قال الحسن : سيروا في الأرض لقراءة القرآن أي : اقرؤوا القرآن وانظروا ما آل إليه أمر المكذبين ، واستعارة السير ) فِى الاْرْضِ ( لقراءة القرآن فيه بعد ، وقال قوم : ) الاْرْضِ ( هنا عام ، لأن في كل قطر منها آثاراً لهالكين وعبراً للناظرين وجاء هنا خاصة ) ثُمَّ انْظُرُواْ ( بحرف المهلة وفيما سوى ذلك بالفاء التي هي للتعقيب . وقال الزمخشري : في الفرق جعل النظر متسبباً عن السير فكان السير سبباً للنظر ، ثم قال : فكأنه قيل : ) سِيرُواْ ( لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين ، وهنا معناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع ، وإيجاب النظر في آثار الهالكين ونبه على ذلك ب ) ثُمَّ ( لتباعد ما بين الواجب والمباح ، انتهى .
وما ذكره أولاً متناقض لأنه جعل النظر متسبباً عن السير ، فكان السير سبباً للنظر ثم قال : فكأنما قيل : ) سِيرُواْ ( لأجل النظر فجعل السير معلولاً بالنظر فالنظر سبب له فتناقضا ، ودعوى أن الفاء تكون سببية لا دليل عليها وإنما معناها التعقيب فقط وأما مثل ضربت زيداً فبكى وزنى ماعز فرجم ، فالتسبيب فهم من مضمون الجملة لأن الفاء موضوعة له وإنما يفيد تعقيب الضرب بالبكاء وتعقيب الزنا بالرجم فقط ، وعلى تسليم أن الفاء تفيد التسبيب فلم كان السير هنا سير إباحة وفي غيره سير واجب ؟ فيحتاج ذلك إلى فرق بين هذا الموضع وبين تلك المواضع .
2 ( ) قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ) ) 2
الأنعام : ( 12 ) قل لمن ما . . . . .
( قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( لما ذكر تعالى تصريفه فيمن أهلكهم بذنوبهم ، أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بسؤالهم ذلك فإنه لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن

" صفحة رقم 86 "
ذلك لله تعالى فيلزمهم بذلك أنه تعالى هو المالك المهلك لهم ، وهذا السؤال سؤال تبكيت وتقرير ثم أمره تعالى بنسبة ذلك لله تعالى ليكون أول من بادر إلى الاعتراف بذلك . وقيل : في الكلام حذف تقديره فإذا لم يجيبوا ) قُل لِلَّهِ ( وقال قوم : المعنى أنه أمر بالسؤال فكأنه لما لم يجيبوا سألوا فقيل لهم ) قُل لِلَّهِ ( ولله خبر مبتدأ محذوف التقدير قل ذلك أو هو لله . ) كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ( لما ذكر تعالى أنه موجد العالم المتصرف فيهم بما يريد ، ودل ذلك على نفاذ قدرته أردفه بذكر رحمته وإحسانه إلى الخلق وظاهر كتب أنه بمعنى سطر وخط ، وقال به قوم هنا وأنه أريد حقيقة الكتب والمعنى أمر بالكتب في اللوح المحفوظ . وقيل : ) كِتَابَ ( هنا بمعنى وعد بها فضلاً وكرماً . وقيل : بمعنى أخبر . وقيل : أوجب إيجاب فضل وكرم لا إيجاب لزوم . وقيل : قضاها وأنفذها . وقال الزمخشري : أي أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته ، ونصب الأدلة لكم على توحيد ما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض ، انتهى . و ) الرَّحْمَةِ ( هنا الظاهر أنها عامّة فتعم المحسن والمسيء في الدنيا ، وهي عبارة عن الاتصال إليهم والإحسان إليهم ولم يذكر متعلق الرحمة لمن هي فتعم كما ذكرنا . وقيل : الألف واللام للعهد ، فيراد بها الرحمة الواحدة التي أنزلها الله تعالى من المائة ) الرَّحْمَةِ ( التي خلقها وأخر تسعة وتسعين يرحم بها عباده في الآخرة . وقال الزجاج : ) الرَّحْمَةِ ( إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا ، فلم يعاجلهم على كفرهم . وقيل : ) الرَّحْمَةِ ( لمن آمن وصدق الرسل . وفي صحيح مسلم لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه ، فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي .
( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ لّلْعَالَمِينَ فِيهِ ( لما ذكر أنه تعالى رحم عباده ذكر الحشر وأن فيه المجازاة على الخير والشر ، وهذه الجملة مقسم عليها ولا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب وإن كانت من حيث المعنى متعلقة بما قبلها كما ذكرنا . وحكى المهدوي أن جماعة من النحويين قالوا : إنها تفسير للرحمة تقديره : أن يجمعكم ، فتكون الجملة في موضع نصب على البدل من ) الرَّحْمَةِ ( وهو مثل قوله ) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ ( المعنى أن يسجنوه ، وردّ ذلك ابن عطية بأن النون الثقيلة تكون قد دخلت في الإيجاب قال : وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص من الواجب في القسم ، انتهى . وهذا الذي ذكره لا يحصر مواضع دخول نون التوكيد ، ألا ترى دخولها في الشرط وليس واحداً مما ذكر نحو قوله تعالى : ) وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ ( وكذلك قوله : وباختصاص من الواجب في القسم بهذا ليس على إطلاقه بل له شروط ذكرت في علم النحو ولهم أن يقولوا صورة الجملة صورة المقسم عليه ، فلذلك لحقت النون وإن كان المعنى على خلاف القسم ويبطل ما ذكروه ، إن الجملة المقسم عليها لا موضع لها وحدها من الإعراب ، فإذا قلت والله لأضربنّ زيداً ، فلأضربنّ لا موضع له من الإعراب فإذا قلت زيد والله لأضربنه ، كانت جملة القسم والمقسم عليه في موضع رفع والجمع هنا قيل حقيقة أي ) لَيَجْمَعَنَّكُمْ ( في القبور إلى يوم القيامة ، والظاهر أن ) إِلَى ( للغاية والمعنى ليحشرنكم منتهين ) إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ( وقيل : المعنى ) لَيَجْمَعَنَّكُمْ ( في الدنيا يخلقكم قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة وقد تكون ) إِلَى ( هنا بمعنى اللام أي ليوم القيامة ، كقوله تعالى : ) إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( وأبعد من زعم أن ) إِلَى ( بمعنى في أي ) فِى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ ( وأبعد منه من ذهب إلى أنها صلة والتقدير ) لَيَجْمَعَنَّكُمْ ( يوم القيامة ، والظاهر أن الضمير في ) فِيهِ ( عائد إلى يوم القيامة وفيه ردّ على من ارتاب في الحشر

" صفحة رقم 87 "
ويحتمل أن يعود على الجمع ، وهو المصدر المفهوم من قولهم ) لَيَجْمَعَنَّكُمْ ).
) الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( اختلف في إعراب ) الَّذِينَ ( فقال الأخفش : هو بدل من ضمير الخطاب في ) لَيَجْمَعَنَّكُمْ ( وردّه المبرد بأن البدل من ضمير الخطاب لا يجوز ، كما لا يجوز مررت بك زيد وردّ رد المبرد ابن عطية . فقال : ما في الآية مخالف للمثال لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني ، وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني ، وقوله : هّ ) لَيَجْمَعَنَّكُمْ ( يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال ) الَّذِينَ ( من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخصوا على جهة الوعيد ، ويجيء هذا بدل البعض من الكل ، انتهى . وما ذكره ابن عطية في هذا الردّ ليس بجيد ، لأنه إذا جعلنا ) لَيَجْمَعَنَّكُمْ ( يصلح لمخاطبة الناس كافة كان ) الَّذِينَ ( بدل بعض من كل ، ويحتاج إذ ذاك إلى ضمير ويقدر ) الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ( منهم وقوله فيفيدنا إبدال ) الَّذِينَ ( من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب ، وخصوا على جهة الوعيد وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل فتناقض أول كلامه مع آخره لأنه من حيث الصلاحية ، يكون بدل بعض من كل ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدل كل من كل ، والمبدل منه متكلم أو مخاطب في جوازه خلاف مذهب الكوفيين والأخفش ، أنه يجوز ومذهب جمهور البصريين أنه لا يجوز ، وهذا إذا لم يكن البدل يفيد معنى التوكيد فإنه إذ ذاك يجوز ، وهذا كله مقرر في علم النحو . وقال الزجاج : ) الَّذِينَ ( مرفوع على الابتداء والخبر قوله : ) فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ودخلت الفاء لما تضمن المبتدأ من معنى الشرط كأنه قيل : من يخسر نفسه فهو لا يؤمن ، ومن ذهب إلى البدل جعل الفاء عاطفة جملة على جملة وأجاز الزمخشري أن يكون ) الَّذِينَ ( منصوباً على الذمّ أي : أريد ) الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ( ؛ انتهى وتقديره بأريد ليس بجيد إنما يقدر النحاة المنصوب على الذم بأذم وأبعد من ذهب إلى أن موضع ) الَّذِينَ ( جر نعتاً للمكذبين أو بدلاً منهم .
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرهم والأمر بالعكس ؟ ( قلت ) : معناه ) الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ( في علم الله لاختيارهم الكفر ) فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ؛ انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال بقوله : لاختيارهم الكفر .
الأنعام : ( 13 ) وله ما سكن . . . . .
( وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( لما ذكر تعالى أنه له ملك ما حوى المكان من السموات والأرض ، ذكر ما حواه الزمان من الليل والنهار وإن كان كل واحد من الزمان والمكان يستلزم الآخر ، لكن النص عليهما أبلغ في الملكية وقدم المكان لأنه أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان وله قال الزمخشري وغيره ، هو معطوف على قوله ) لِلَّهِ ( والظاهر أنه استئناف إخبار وليس مندرجاً تحت قوله : قل ، و ) سَكَنَ ( هنا قال السدّي وغيره : من السكنى أي ما ثبت وتقرر ، ولم يذكر الزمخشري غيره . قال : وتعديه ب ) فِى ( كما في قوله : ) وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ( وقالت فرقة : هو من السكون المقابل للحركة واختلف هؤلاء . فقيل : ثم معطوف محذوف أي وما تحرّك ، وحذف كما حذف في قوله : تقيكم الحر والبرد . وقيل : لا محذوف هنا واقتصر على الساكن لأن كل متحرك قد يسكن وليس كل ما يسكن يتحرك . وقيل : لأن السكون أكثر وجوداً من الحركة ، وقال في قوله : ) وَالنَّهَارَ ( لأن من المخلوقات ما يسكن

" صفحة رقم 88 "
بالنهار وينتشر بالليل ، قاله مقاتل ، ورجح ابن عطية القول الأول . قال : والمقصد في الآية عموم كل شيء وذلك لا يترتب إلا بأن يكون سكن بمعنى استقر وثبت ، وإلا فالمتحرك من الأشياء المخلوقات أكثر من السواكن ، ألا ترى أن الفلك والشمس والقمر والنجوم السابحة والملائكة وأنواع الحيوان متحركة ، والليل والنهار حاصران للزمان ؛ انتهى . وليس بجيد لأنه قال لا يترتب العموم إلا بأن يكون سكن بمعنى استقر وثبت ، ولا ينحصر فيما ذكر ، ألا ترى أنه يترتب العموم على قول من جعله من السكون وجعل في الكلام معطوفاً محذوفاً أي وما تحرك ، وعلى قول من ادعى أن كل ما يتحرك قد يسكن وليس كل ما يسكن يتحرك ، فكل واحد من هذين القولين يترتب معه العموم فلم ينحصر العموم فيما ذكر ابن عطية .
( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( لما تقدم ذكر محاورات الكفار المكذبين وذكر الحشر الذي فيه الجزاء ، ناسب ذكر صفة السمع لما وقعت فيه المحاورة وصفة العلم لتضمنها معنى الجزاء ، إذ ذلك يدل على الوعيد والتهديد .
2 ( ) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّىأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ قُلْ إِنِّىأَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدُيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَاذَا الْقُرْءَانُ لاٌّ نذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِأايَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِأايَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذ

" صفحة رقم 89 "
وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاٌّ خِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( )
7 )
الأنعام : ( 14 ) قل أغير الله . . . . .
فطر خلق وابتدأ من غير مثال ، وعن ابن عباس ما كنت أعرف معنى فطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي اخترعتها وأنشأتها ، وفطر أيضاً شق يقال فطر ناب البعير ومنه هل ترى من فطور ؟ وقوله : ينفطرن منه . كشف الضر : أزاله وكشفت عن ساقيها أزالت ما يسترهما . القهر : الغلبة والحمل على الشيء من غير اختيار . الوقر : الثقل في السمع يقال وقرت أذته بفتح القاف وكسرها ، وسمع أذن موقورة فالفعل على هذا وقرت والوقر بفتح الواو وكسرها . أساطير : جمع أسطارة وهي الترهات قاله أبو عبيدة . وقيل : أسطورة كأضحوكة . وقيل : واحد أسطور . وقيل : إسطير وإسطيرة . وقيل : جمع لا واحد له مثل عباديد . وقيل : جمع الجمع يقال سطر وسطر ، فمن قال : سطر جمعه في القليل على أسطر وفي الكثير على سطور ومن قال : سطر جمعه على أسطار ثم جمع أسطاراً على أساطير قاله يعقوب . وقيل : هو جمع جمع الجمع ، يقال : سطر وأسطر ثم أسطار ثم أساطير ذكر ذلك عن الزجاج ، وليس أسطار جمع أسطر بل هما جمعاً قلة لسطر . قال ابن عطية : وقيل هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كعباد يد وشماطيط ؛ انتهى . وهذا لا تسميه النحاة اسم جمع لأنه على وزن الجموع بل يسمونه جمعاً وإن لم يلفظ له بواحد . نأى نأياً بعد وتعديته لمفعول منصوب بالهمزة لا بالتضعيف ، وكذا ما كان مثله مما عينه همزة . وقف على كذا : حبس ومصدر المتعدي وقف ومصدر اللازم وقوف فرق بينهما بالمصدر . البغت والبغته : الفجأة يقال بغتة يبغته أي فجأه يفجأه وهي مجيء الشيء سرعة من غير جعل بالك إليه وغير عامك بوقت مجيئه . فرط قصر مع القدرة على ترك التقصير . وقال أبو عبيد : فرّط ضبع . وقال ابن بحر : فرّط سبق والفارط السابق ، وفرط حلى السبق لغيره . الأوزار : الآثام والخطايا وأصله الثقل من الحمل ، وزرته جملته وأوزار الحرب أثقالها من السلاح ، ومنه الوزير لأنه يحمل عن السلطان أثقال ما يسند إليه من تدبير ملكه . اللهو : صرف النفس عن الجد إلى الهزل يقال منه لها يلهو ولهي عن كذا صرف نفسه عنه ، والمادة واحدة انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها نحو شقي ورضي . قال المهدوي : الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم لهيان ولام الأول واو ، انتهى . وهذا ليس بشيء لأن الواو في التثنية انقلبت ياء وليس أصلها الياء ، ألا ترى إلى تثنية شج شجيان وهو من ذوات الواو من الشجو .
( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( لما تقدّم أنه تعالى اخترع السموات والأرض ، وأنه مالك لما تضمنه المكان والزمان أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك

" صفحة رقم 90 "
على سبيل التوبيخ لهم أي من هذه صفاته هو الذي يتخذ ولياً وناصراً ومعيناً لا الآلهة التي لكم ، إذ هي لا تنفع ولا تضر لأنها بين جماد أو حيوان مقهور ، ودخلت همزة الاستفهام على الاسم دون الفعل لأن الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً لا في اتخاذ الولي كقولك لمن ضرب زيداً وهو ممن لا يستحق الضرب بل يستحق الإكرام أزيداً ضربت ، تنكر عليه أن كون مثل هذا يضرب ونحو ، ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ( ) وَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ( وقال الطبري : وغيره أمر أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم ، فتجيء الآية على هذا جواباً لكلامهم ، انتهى . وهذا يحتاج إلى سند في أن سبب نزول هذه الآية هو ما ذكره وانتصاب غير على أنها مفعول أول لاتخذ . وقرأ الجمهور ) فَاطِرَ ( فوجهه ابن عطية والزمخشري ونقلها الحوفي على أنه نعت لله ، وخرجه أبو البقاء على أنه بدل وكأنه رأى أن الفضل بين المبدل منه والبدل أسهل من الفصل بين المنعوت والنعت ، إذ البدل على المشهور هو على تكرار العامل وقرأ ابن أبي عبلة برفع الراء على إضمار هو . قال ابن عطية : أو على الابتداء ؛ انتهى . ويحتاج إلى إضمار خبر ولا دليل على حذفه وقرىء شاذاً بنصب الراء وخرجه أبو البقاء على أنه صفة لولي على إرادة التنوين أو بدل منه أو حال ، والمعنى على هذا أأجعل ) فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( غير الله ، انتهى . والأحسن نصبه على المدح . وقرأ الزهري فطر جعله فعلاً ماضياً .
( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( أي يرزق ولا يرزق كقوله : ) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ( والمعنى أن المنافع كلها من عند الله ، وخص الإطعام من بين أنواع الانتفاعات لمس الحاجة إليه كما خص الربا بالأكل وإن كان المقصود الانتفاع بالربا . وقرأ مجاهد وابن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وفي رواية عنه ) وَلاَ يُطْعَمُ ( بفتح الياء والمعنى أنه تعالى منزه عن الأكل ولا يشبه المخلوقين . وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة ) وَلاَ يُطْعَمُ ( بضم الياء وكسر العين مثل الأول فالضمير في ) وَهُوَ يُطْعِمُ ( عائد على الله وفي ) وَلاَ يُطْعَمُ ( عائد على الولي . وروى ابن المأمون عن يعقوب ) وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل والضمير لغير الله ، وقرأ الأشهب : ) وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( على بنانهما للفاعل وفسر بأن معناه وهو يطعم ولا يستطعم ، وحكى الأزهري أطعمت بمعنى استطعمت . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح ، كقولك هو يعطي ويمنع ويبسط ويقدر ويغني ويفقر ، وفي قراءة من قرأ باختلاف الفعلين تجنيس التشكيل وهو أن يكون الشكل فرقاً بين الكلمتين وسماه أسامة بن منقذ في بديعته تجنيس التحريف ، وهو بتجنيس التشكيل أولى .
( قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ( قال الزمخشري : لأن النبيّ سابق أمته في الإسلام كقوله ) وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( وكقول موسى ) سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ( قال ابن عطية : المعنى أوّل من أسلم من هذه الأمّة وبهذه الشريعة ، ولا يتضمن من الكلام إلا ذلك وهذا الذي قاله الزمخشري وابن عطية هو قول الحسن . قال الحسن : معناه أول من أسلم من أمتي . قيل : وفي هذا القول نظر لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يصدر منه امتناع عن الحق وعدم انقياد إليه ، وإنما هذا على طريق التعريض على الإسلام كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يتبعه بقوله أنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على فعل ذلك . وقيل : أراد الأوّلية في الرتبة والفضيلة كما جاء نحن الآخرون الأوّلون وفي رواية السابقون . وقيل : ) أَسْلَمَ ( أخلص ولم يعدل بالله شيئاً . وقيل : استسلم . وقيل : أراد دخوله في دين إبراهيم عليه السلام كقوله : ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل

" صفحة رقم 91 "
وقيل : أول من أسلم يوم الميثاق فيكون سابقاً على الخلق كلهم ، كما قال : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح .
( وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( ( أي وقيل لي والمعنى أنه أمر بالإسلام ونهى عن الشرك ، هكذا خرجه الزمخشري وابن عطية على إضمار . وقيل لي : لأنه لا ينتظم عطفه على لفظ ) ( أي وقيل لي والمعنى أنه أمر بالإسلام ونهى عن الشرك ، هكذا خرجه الزمخشري وابن عطية على إضمار . وقيل لي : لأنه لا ينتظم عطفه على لفظ ) إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ( فيكون مندرجاً تحت لفظ ) قُلْ ( إذ لو كان كذلك لكان التركيب ولا أكون من المشركين . وقيل : هو معطوف على معمول ) قُلْ ( حملاً على المعنى ، والمعنى ) قُلْ إِنّى ( قيل لي كن ) أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( فهما جميعاً محمولان على القول لكن أتى الأول بغير لفظ القول ، وفيه معناه فحمل الثاني على المعنى وقيل هو معطوف على ) قُلْ ( أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا . وقيل : هو نهى عن موالاة المشركين . وقيل : الخطاب له لفظاً والمراد أمته وهذا هو الظاهر لقوله ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( والعصمة تنافي إمكان الشرك .
الأنعام : ( 15 ) قل إني أخاف . . . . .
( قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ( الظاهر أن الخوف هنا على بابه وهو توقع المكروه . وقال ابن عباس معنى ) ( الظاهر أن الخوف هنا على بابه وهو توقع المكروه . وقال ابن عباس معنى ) أَخَافُ ( أعلم و ) عَصَيْتُ ( عامّة في أنواع المعاصي ، ولكنها هنا إنما تشير إلى الشرك الذي نهى عنه قاله ابن عطية . والخوف ليس بحاصل لعصمته بل هو معلق بشرط هو ممتنع في حقه ( صلى الله عليه وسلم ) ) وجوابه محذوف ولذلك جاء بصيغة الماضي . فقيل : هو شرط معترض لا موضع له من الإعراب كالاعتراض بالقسم . وقيل : هو في موضع نصب على الحال كأنه قيل إني أخاف عاصياً ربي . وقال أبو عبد الله الرازي : مثال الآية إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة متساويتين يعني أنه تعليق على مستحيل واليوم العظيم هو يوم القيامة .
الأنعام : ( 16 ) من يصرف عنه . . . . .
( مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ( قرأ حمزة وأبو بكر والكسائي ) مَّن يُصْرَفْ ( مبنياً للفاعل فمن مفعول مقدم والضمير في ) يُصْرَفْ ( عائد على الله ويؤيده قراءة أبي ) مَّن يُصْرَفْ ( الله وفي ) عَنْهُ ( عائد على العذاب والضمير المستكن في ) رَحِمَهُ ( عائد على الرب أي أيّ شخص يصرف الله عنه العذاب فقد رحمه الرحمة العظمى وهي النجاة من العذاب ، وإذا نجّى من العذاب دخل الجنة ويجوز أن يعرب من مبتدأ والضمير في ) عَنْهُ ( عائد عليه ، ومفعول ) بصرف ( محذوف اختصاراً إذ قد تقدّم في الآية قبل التقدير أي شخص يصرف الله العذاب عنه فقد رحمه ، وعلى هذا يجوز أن يكون من باب الاشتغال فيكون ) صَلَحَ مِنْ ( منصوباً بإضمار فعل يفسره معنى ) يُصْرَفْ ( ويجوز على إعراب ) مِنْ ( مبتدأ أن يكون المفعول مذكوراً ، وهو ) يَوْمَئِذٍ ( على حذف أي هول يومئذ فينتصب ) يَوْمَئِذٍ ( انتصاب المفعول به . وقرأ باقي السبعة ) مَّن يُصْرَفْ ( مبنياً للمفعول ومعلوم أن الصارف هو الله تعالى ، فحذف للعلم به أو للإيجاز إذ قد تقدّم ذكر الرّب ويجوز في هذا الوجه أن يكون الضمير في ) يُصْرَفْ ( عائداً على ) مِنْ ( وفي ) عَنْهُ ( عائداً على العذاب أي أيّ شخص يصرف عن العذاب ، ويجوز أن يكون الضمير عائداً على ) مِنْ ( ومفعول ) يُصْرَفْ ( ) يَوْمَئِذٍ ( وهو

" صفحة رقم 92 "
مبني لإضافته إلى إذ فهو في موضع رفع بيصرف والتنوين في ) يَوْمَئِذٍ ( تنوين عوض من جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق التقدير يوم ، إذ يكونن الجزاء إذ لم يتقدّم جملة مصرّح بها يكون التنوين عوضاً عنها ، وتكلم المعربون في الترجيح بين القراءتين على عادتهم فاختار أبو عبيد وأبو حاتم وأشار أبو عليّ إلى تحسينه قراءة ) يُصْرَفْ ( مبنياً للفاعل لتناسب ) فَقَدْ رَحِمَهُ ( ولم يأت فقد رحم ويؤيده قراءة عبد الله وأبي ) مَّن يُصْرَفْ ( الله ورجح الطبري قراءة ) يُصْرَفْ ( مبنياً للمفعول قال : لأنها أقل إضماراً . قال ابن عطية : وأما مكي بن أبي طالب فتخبط في كتاب الهداية في ترجيح القراءة بفتح الياء ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة . قال ابن عطية : وهذا توجيه لفظي يشير إلى الترجيح تعلقه خفيف ، وأما المعنى فالقراءتان واحد ؛ انتهى . وقد تقدّم لنا غير مرّة إنا لا نرجح بين القراءتين المتواترتين . وحكى أبو عمرو الزاهد في كتاب اليواقيت أن أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلباً كان لا يرى الترجيح بين القراءات السبع . وقال : قال ثعلب من كلام نفسه إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة ، لم أفضل إعراباً على إعراب في القرآن فإذا خرجت إلى الكلام كلام الناس فضلت الأقوى ونعم السلف لنا ، أحمد بن يحيى كان عالماً بالنحو واللغة متديناً ثقة .
( وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( الإشارة إلى ب ) ذالِكَ ( المصدر المفهوم ) مَّن يُصْرَفْ ( أي وذلك الصرف هو الظفر والنجاة من الهلكة و ) الْمُبِينُ ( البين في نفسه أو المبين غيره .
الأنعام : ( 17 ) وإن يمسسك الله . . . . .
( وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدُيرٌ ( أي إن يصبك وينلك بضرّ وحقيقة المس تلاقي جسمين ، ويظهر أن الباء في ) بِضُرّ ( وفي ) بِخَيْرٍ ( للمتعدية وإن كان الفعل متعدياً كأنه قيل : ) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ ( لضر فقد مسك ، والتعدية بالباء في الفعل المتعدّي قليلة ومنها قوله تعالى : ) وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ( وقول العرب : صككت أحد الحجرين بالآخر والضر بالصم سوء الحال في الجسم وغيره ، وبالفتح ضد النفع وسر السدّي الضر هنا بالسقم والخبر بالعافية . وقيل : الضر الفقر والخير الغنى والأحسن العموم في الضر من المرض والفقر وغير ذلك ، وفي الخير من الغنى والصحة وغير ذلك ، وفي حديث ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ) . أخرجه الترمذي . والذي يقابل الخير هو الشر وناب عنه هنا الضر وعدل عن الشر ، لأن الشر أعم من الضر فأتي بلفظ الضر الذي هو أخص وبلفظ الخير الذي هو عام مقابل لعام تغليباً لجهة الرحمة . قال ابن عطية : ناب الضرّ هنا مناب الشر وإن كان الشر أعم منه ، فقابل الخير وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والضعة فإن باب التكلف في ترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضاهاة ، فمن ذلك ألا تجوع فيها ولا تعرّى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحّي فجاء بالجوع مع الغريّ وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرىء القيس : كأني لم أركب جواد اللذة
ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال ولم أسبا الزق الروى ولم أقللخيلي كرى كرة بعد إجفال

" صفحة رقم 93 "
انتهى . والجامع في الآية بين الجوع والغريّ هو اشتراكهما في الخلو فالجوع خلو الباطن والعريّ خلو الظاهر وبين الظما والضحاء اشتراكهما في الاحتراق ، فالظما احتراق الباطن ألا ترى إلى قولهم برد الماء حرارة جوفي والضحاء احتراق الظاهر والجامع في البيت الأول بين الركوب للذة وهي الصيد وتبطن الكاعب اشتراكهما في لذة الاستعلاء والاقتناص والقهر والظفر بمثل هذا الركوب ، ألا ترى إلى تسميتهم هن المرأة بالركب هو فعل بمعنى مفعول أي مركوب قال الراجز : إن لها لركباً ارزبا
كأنه جبهة ذرى حبا
وفي البيت الثاني بين سبأ الخمر والرجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل ؟ فشراء الخمر فيه بدل المال والرجوع بعد الانهزام فيه بذل الروح وما أحسن بعقل امرىء القيس في بيتيه ، حيث انتقل من الأدنى إلى الأعلى لأن الظفر بجنس الإنسان أعلى وأشرف من الظفر بغير الجنس ، ألا ترى أن تعلق النفس بالعشق أكثر من تعلقها بالصيد ولأن بذل الروج أعظم من بذل المال ، ومناسبة تقديم مس الضر على مس الخير ظاهرة لاتصاله بما قبله وهو الترهيب الدال عليه ) قُلْ إِنّى أَخَافُ ( وما قبله وجاء جواب الأول بالحصر في قوله : ) فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ( مبالغة في الاستقلال بكشفه وجاء جواب الثاني بقوله : ) فَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدُيرٌ ( دلالة على قدرته على كل شيء فيندرج فيه المس بخيرأو غيره ، ولو قيل : إن الجواب محذوف لدلالة الأول عليه لكان وجهاً حسناً وتقديره فلا موصل له إليك إلا هو والأحسن تقديره ، فلا راد له للتصريح بما يشبهه في قوله وإن يردك بخير فلا راد لفضله ثم أتى بعد بما هو شامل للخير والشر ، وهو قدرته على كل شيء وفي قوله : ) فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ( حذف تقديره فلا كاشف له عنك إلا هو .
الأنعام : ( 18 ) وهو القاهر فوق . . . . .
( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( لما ذكره تعالى انفراده بتصرفه بما يريده من ضر وخير وقدرته على الأشياء ذكر قهره وغلبته ، وأن العالم مقهورون ممنوعون من بلوغ مرادهم بل يفسرهم ويجبرهم على ما يريده هو تعالى وفوق حقيقة في المكان وأبعد من جعلها هنا زائدة ، وأن التقدير وهو القاهر لعباده وأبعد من هذا قول من ذهب إلى أنها هنا حقيقة في المكان ، وأنه تعالى حال في الجهة التي فوق العالم إذ يقتضي التجسيم وأما الجمهور فذكروا أن الفوقية هنا مجاز . فقال بعضهم : هو فوقهم بالإيجاد والإعدام . وقال بعضهم : هو على حذف مضاف معناه فوق قهر عباده بوقوع مراده دون مرادهم . وقال الزمخشري : تصوير للقهر والعلو والغلبة والقدرة كقوله : ) وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ( انتهى . والعرب تستعمل ) فَوْقَ ( إشارة لعلو المنزلة وشفوفها على غيره من الرتب ومنه قوله : ) يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( وقوله : ) وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ ( وقال النابغة الجعدي : بلغنا السماء مجداً وجوداً وسؤددا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً
يريد علو الرتبة والمنزلة . وقال أبو عبد الله الرازي : صفات الكمال محصورة في العلم والقدرة فقوله : ) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ( إشارة إلى كمال القدرة ) وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( إشارة إلى كمال العلم أما كونه قاهراً فلأن ما عداه تعالى ممكن الوجود لذاته ، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه تعالى وإيجاده ،

" صفحة رقم 94 "
فهو في الحقيقة الذي قهر الممكنات تارة في طرق ترجيح الوجود على العدم وتارة في طرق ترجيح العدم على الوجود ، ويدخل فيه كل ما ذكره الله تعالى في قوله : ) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ( الآية . والحكيم والمحكم أي أفعاله متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد لا بمعنى العالم ، لأن ) الْخَبِيرُ ( إشارة إلى العلم فيلزم التكرار ؛ انتهى ، وفيه بعض اختصار وتلخيص . وقيل : ) الْحَكِيمُ ( العالم و ) الْخَبِيرُ ( أيضاً العالم ذكره تأكيداً و ) فَوْقَ ( منصوب على الظرف إما معمولاً للقاهر أي المستعلي فوق عباده ، وإما في موضع رفع على أنه خبر ثان لهو أخبر عنه بشيئين أحدهما : أنه القاهر الثاني أنه فوق عباده بالرتبة والمنزلة والشرف لا بالجهة ، إذ هو الموجد لهم وللجهة غير المفتقر لشيء من مخلوقاته فالفوقية مستعارة للمعنى من فوقية المكان ، وحكى المهدوي أنه في موضع نصب على الحال كأنه قال : وهو القاهر غالباً فوق عباده وقاله أبو البقاء ، وقدره مستعلياً أو غالباً وأجاز أن يكون فوق عباده في موضع رفع بدلاً من القاهر . قال ابن عطية : ما معناه ورود العباد في التفخيم والكرامة والعبيد في التحقير والاستضعاف والذم ، وذكر موارد من ذلك على زعمه وقد تقدم له هذا المعنى مبسوطاً مطولاً ورددنا عليه .
الأنعام : ( 19 ) قل أي شيء . . . . .
( قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( قال المفسرون : سألت قريش شاهداً على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقالوا : أي دليل يشهد بأن الله يشهد لك ؟ فال : هذا القرآن تحديتكم به فعجزتم عن الإتيان بمثله أو بمثل بعضه ، وقال الكلبي : قال رؤساء مكة : يا محمد ما نرى أحداً يصدقك فيما تقول في أمر الرسالة ولقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ، فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله كما تزعم فأنزل الله هذه الآية . وقيل : سأل المشركون لما نزل ) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ ( الآية فقالوا : من يشهد لك على أن هذا القرآن منزل من عند الله عليك وأنه لا ضر ولا ينفع إلا الله ؟ فقال الله وهذا القرآن المعجز وأي استفهام والكلام على أقسام أي وعلة إعرابها مذكور في علم النحو وشيء تقدّم الكلام عليه في أوّل سورة البقرة وذكر الخلاف في مدلوله الحقيقي . وقال الزمخشري : الشيء أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيقع على القديم والجوهر والعرض والمحال والمستقيم ، ولذلك صح أن يقال في الله عز وجل شيء لا كالأشياء كأنك قلت معلوم لا كسائر المعلومات ولا يصح جسم لا كالأجسام وأراد ) أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَادةً ( فوضع شيئاً مكان ) شَهِيدٌ ( ليبالغ في التعميم ؛ انتهى .
وقال ابن عطية : وتتضمن هذه الآية أن الله عز وجل يقال عليه شيء كما يقال عليه موجود ولكن ليس كمثله شيء ، وقال غيرهما هنا شيء يقع على القديم والمحدث والجوهر والعرض والمعدوم والموجود ولما كان هذا مقتضاه ، جاز إطلاقه على الله عز وجل واتفق الجمهور على ذلك وخالف الجهم وقال : لا يطلق على الله شيء ويجوز أن يسمى ذاتاً وموجوداً وإنما لم يطلق عليه شيء لقوله ) خَالِقُ كُلّ شَىْء ( فيلزم من إطلاق شيء عليه أن يكون خالقاً لنفسه وهو محال ولقوله : ) وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى ( والإسم إنما يحسن لحسن مسماه وهو أن يدل على صفة كمال ونعت جلال ولفظ الشيء أعم الأشياء فيكون حاصلاً في أخس الأشياء وأرذلها ، فلا يدل على صفة كمال ولا نعت جلال فوجب أن لا يجوز دعوة الله به لما لم يكن من الأسماء الحسنى ، ولتناوله المعدوم لقوله ) وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً ( فلا يفيد إطلاق شيء عليه امتياز ذاته على سائر الذوات بصفة معلومة ولا بخاصة مميزة ، ولا يفيد كونه مطلقاً فوجب أن لا يجوز إطلاقه على الله تعالى ولقوله تعالى : ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء ( ( وذات كل شيء مثل نفسه نفسه فهذا تصريح بأنه تعالى لا يسمى باسم الشيء ولا يقال الكاف

" صفحة رقم 95 "
زائدة لأن جعل كلمة من القرآن عبثاً باطلاً لا يليق ولا يصار إليه إلا عند الضرورة الشديدة . وأجيب بأن لفظ شيء أعم الألفاظ ومتى صدق الخاص صدق العامّ فمتى صدق كونه ذاتاً حقيقة وجب أن يصدق كونه شيئاً واحتج الجمهور بهذه الآية وتقريره أن المعنى أي الأشياء أكبر شهادة ، ثم جاء في الجواب قل الله وهذا يوجب إطلاق شيء عليه واندراجه في لفظ شيء المراد به العموم ولو قلت أي الناس أفضل ؟ فقيل : جبريل لم يصح لأنه لم يندرج في لفظ الناس ، وبقوله تعالى : ) ( وذات كل شيء مثل نفسه نفسه فهذا تصريح بأنه تعالى لا يسمى باسم الشيء ولا يقال الكاف زائدة لأن جعل كلمة من القرآن عبثاً باطلاً لا يليق ولا يصار إليه إلا عند الضرورة الشديدة . وأجيب بأن لفظ شيء أعم الألفاظ ومتى صدق الخاص صدق العامّ فمتى صدق كونه ذاتاً حقيقة وجب أن يصدق كونه شيئاً واحتج الجمهور بهذه الآية وتقريره أن المعنى أي الأشياء أكبر شهادة ، ثم جاء في الجواب قل الله وهذا يوجب إطلاق شيء عليه واندراجه في لفظ شيء المراد به العموم ولو قلت أي الناس أفضل ؟ فقيل : جبريل لم يصح لأنه لم يندرج في لفظ الناس ، وبقوله تعالى : ) كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( والمراد بوجهه ذاته والمستثنى يجب أن يكون داخلاً تحت المستثنى منه فدل على أنه يطلق عليه شيء ولجهم أن يقول : هذا استثناء منقطع ، والدليل الأول لم يصرح فيه بالجواب المطابق إذ قوله : ) قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( مبتدأ وخبر ذي جملة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها من جهة الصناعة الإعرابية بل قوله : ) أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَادةً ( هو استفهام على جهة التقرير والتوقيف ، ثم أخبر بأن خالق الأشياء والشهود هو الشهيد بيني وبينكم وانتظم الكلام من حيث المعنى فالجملة ليست جواباً صناعياً وإنما يتم ما قالوه لو اقتصر على قل الله ، وقد ذهب إلى ذلك بعضهم فأعربه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما تقدم عليه والتقدير قل الله أكبر شهادة ثم أضمر مبتدأ يكون شهيد خبراً له تقديره هو ) شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( ولا يتعين حمله على هذا ، بل هو مرجوح لكونه أضمر فيه آخراً وأولاً والوجه الذي قبله لا إضمار فيه مع صحة معناه فوجب حمل القرآن على الراجح لا على المرجوح . وقال ابن عباس : قال الله لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) : قل لهم أي شيء أكبر شهادة فإن أجابوك وإلا فقل لهم : ) اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ). وقال مجاهد : المعنى أن الله قال لنبيه : قل لهم : ) أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَادةً ( وقل لهم ) اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( أي في تبليغي وكذبكم وكفركم . وقال ابن عطية : هذه الآية مثل قوله : ) قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( في أن استفهم على جهة التوقيف والتقريز ، ثم بادر إلى الجواب إذ لا يتصوّر فيه مدافعة كما تقول لمن تخاصمه وتنظلم منه من أقدر في البلد ؟ ثم تبادر وتقول : السلطان فهو يحول بيننا ، فتقدير الآية : قل لهم أيّ شيء أكبر شهادة هو شهيد بيني وبينكم ، انتهى . وليست هذه الآية نظير قوله : ) قُل لّمَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( لأن لله يتعين أن يكون جواباً وهنا لا يتعين إذ ينعقد من قوله : قل الله شهيد بيني وبينكم ( مبتدأ وخبر وهو الظاهر ، وأيضاً ففي هذه الآية لفظ شيء وقد تتوزع في إطلاقه على الله تعالى وفي تلك الآية لفظ من وهو يطلق على الله تعالى . قيل : معنى ) ( مبتدأ وخبر وهو الظاهر ، وأيضاً ففي هذه الآية لفظ شيء وقد تتوزع في إطلاقه على الله تعالى وفي تلك الآية لفظ من وهو يطلق على الله تعالى . قيل : معنى ) أَكْبَرَ ( أعظم وأصح ، لأنه لا يجري فيها الخطأ ولا السهو ولا الكذب . وقيل : معناها أفضل لأن مراتب الشهادات في التفضيل تتفاوت بمراتب الشاهدين وانتصب شهادة على التمييز . قال ابن عطية : ويصح على المفعول بأن يحمل أكبر على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل ؛ انتهى . وهذا كلام عجيب لأنه لا يصح نصبه على المفعول ولأن أفعل من لا يشتبه بالصفة المشبهة باسم الفاعل ، ولا يجوز في أفعل من أن يكون من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل لأن شرط الصفة المشبهة باسم الفاعل أن تؤنث وتثنى وتجمع ، وأفعل من لا يكون فيها ذلك وهذا منصوص عليه من النحاة فجعل ابن عطية المنصوب في هذا مفعولاً وجعل ) أَكْبَرَ ( مشبهاً بالصفة المشبهة وجعل منصوبه مفعولاً وهذا تخليط فاحش ولعله يكون من الناسخ لا من المصنف ، ومعنى ) بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( بيننا ولكنه لما أضيف إلى ياء المتكلم لم يكن بعد من إعادة بين وهو نظير قوله فأيي ما وأيك كان شرًّا . وكلاي وكلاك ذهب أن معناه فأينا وكلانا .
( وَأُوحِىَ قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ ( قرأ الجمهور ) وَأُوحِىَ ( مبنياً للمفعول

" صفحة رقم 96 "
والقرآن مرفوع به . وقرأ عكرمة وأبو نهيك وابن السميقع والجحدري ) وَأُوحِىَ ( مبنياً للفاعل والقرآن منصوب به ، والمعنى لأنذركم ولأبشركم فحذف المعطوف لدلالة المعنى عليه أو اقتصر على الإنذار لأنه في مقام تخويف لهؤلاء المكذبين بالرسالة المتخذين غير الله إلهاً ، والظاهر وهو قول الجمهور إن ) مِنْ ( في موضع نصب عطفاً على مفعول ) لاِنذِرَكُمْ ( والعائد على ) مِنْ ( ضمير منصوب محذوف وفاعل ) بَلَغَ ( ضمير يعود على القرآن ( ومن بلغه هو أي ) ( ومن بلغه هو أي ) الْقُرْءانَ ( والخطاب في ) لاِنذِرَكُمْ بِهِ ( لأهل مكة . وقال مقاتل : ومن بلغه من العرب والعجم . وقيل : من الثقلين . وقيل : من بلغه إلى يوم القيامة ، وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي الحديث : ( من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره ، وقالت فرقة : الفاعل ب ) بَلَغَ ( عائد على ) مِنْ ( لا على ) الْقُرْءانَ ( والمفعول محذوف والتقدير ومن بلغ الحلم ، ويحتمل أن يكون ) مِنْ ( في موضع رفع عطفاً على الضمير المستكن في ) لاِنذِرَكُمْ بِهِ ( وجاز ذلك للفصل بينه وبين الضمير بضمير المفعول وبالجار والمجرور أي ولينذر به من بلغه القرآن .
( قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ ( قرىء ) إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ ( بصورة الإيجاب فاحتمل أن يكون خبراً محضاً واحتمل الاستفهام على تقدير حذف أداته ويبين ذلك قراءة الاستفهام ، فقرىء بهمزتين محققتين وبإدخال ألف بينهما وبتسهيل الثانية وبإدخال ألف بين الهمزة الأولى والهمزة المسهلة ، روى هذه القراءة الأخيرة الأصمعي عن أبي عمرو ونافع ، وهذا الاستفهام معناه التقريع لهم والتوبيخ والإنكار عليهم فإن كان الخطاب لأهل مكة فالآلهة الأصنام فإنهم أصحاب أوثان ، وإن كان لجميع المشركين فالآلهة كل ما عبد غير الله تعالى من وثن أو كوكب أو نار أو آدمي وأخرى صفة لآلهة وصفة جمع ما لا يعقل كصفة الواحدة المؤنثة ، كقوله : ) مَأَرِبُ أُخْرَى الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( ولما كانت الآلهة حجارة وخشباً أجريت هذا المجرى .
( قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ ( أمره تعالى أن يخبرهم أنه لا يشهد شهادتهم وأمره ثانياً أن يفرد الله تعالى بالإلهية ، وأن يتبرأ من إشراكهم وما أبدع هذا الترتيب أمر أولاً بأن يخبرهم بأنه لا يوافقهم في الشهادة ولا يلزم من ذلك إفراد الله بالألوهية فأمر به ثانياً ليجتمع مع انتفاء موافقتهم إثبات الوحدانية لله تعالى ، ثم أخبر ثالثاً بالتبرؤ من إشراكهم وهو كالتوكيد لما قبله ، ويحتمل أن لا يكون ذلك داخلاً تحت القول ويحتمل وهو الظاهر أن يكون داخلاً تحته فأمر بأن يقول الجملتين ، فظاهر الآية يقتضي أنها في عبدة الأصنام وذكر الطبري أنها نزلت في قوم من اليهود وأسند إلى ابن عباس قال جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب ومجزىء بن عمرو فقالوا : يا محمد ما تعلم مع الله إلهاً غيره فقال : لا إله إلا الله بذلك أمرت فنزلت الآية فيهم .
الأنعام : ( 20 ) الذين آتيناهم الكتاب . . . . .
( الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( تقدم شرح الجملة الأولى في البقرة وشرح الثانية في هذه السورة من قريب ، وقالوا هنا الضمير في ) يَعْرِفُونَهُ ( عائد على الرسول قاله قتادة والسدي وابن جريج والجمهور ، ومنهم عمر بن الخطاب ، أو على التوحيد وذلك لقرب قوله : ) قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ واحِدٌ ( وفيه استشهاد على كفرة قريش والعرب بأهل الكتاب أو على القرآن قاله فرقة لقوله : ) وَأُوحِىَ قُلْ أَىُّ شَىْء ). وقيل يعود على جميع هذه الأشياء من التوحيد والرسول والقرآن ، كأنه

" صفحة رقم 97 "
ذكر أشياء ثم قال أهل الكتاب ) يَعْرِفُونَهُ ( أي يعرفون ما قلنا وما قصصنا . وقيل : يعود على كتابهم أي : يعرفون كتابهم وفيه ذكر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : يعود على الدين والرسول فالمعنى يعرفون الإسلام أنه دين الله وأن محمد رسول الله و ) الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ( هنا لفظه علم ويراد به الخاص ، فإن هذا لا يعرفه ولا يقربه إلا من آمن منهم أو من أنصف و ) الْكِتَابِ ( التوراة والإنجيل ووحد رداً إلى الجنس . وقيل : ) الْكِتَابِ ( هنا القرآن والضمير في ) يَعْرِفُونَهُ ( عائد عليه ذكره الماوردي . وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : إن كان المكتوب في التوراة والإنجيل خروج نبي في آخر الزمان فقط ، فلا يتعين أن يكون هو محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) أو معيناً زمانه ومكانه ونسبه وحليته وشكله ، فيكونون إذ ذاك عالمين به بالضرورة ولا يجوز الكذب على الجمع العظيم ولأنا نعلم بالضرورة أن كتابهم لم يشتمل على هذه التفاصيل التامة وعلى هذين التقديرين ، فكيف يصح أن يقال : ) يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ( ، وأجاب بأنهم كانوا أهلاً للنظر والاستدلال وكانوا شاهدوا ظهور المعجزات على يد الرسول فعرفوا بالمعجزات كونه رسولاً من عند الله ، فالمقصود تشبيه معرفته بمعرفة أبنائهم بهذا القدر الذي ذكرناه ؛ انتهى . ولا يلزم ذلك التقسيم الذي ذكره لأنه لم يقل يعرفونه بالتوراة والإنجيل إنما ذكر ) يَعْرِفُونَهُ ( فجاز أن تكون هذه المعرفة مسندة إلى التوراة والإنجيل من أخبار أنبيائهم ونصوصهم ، فالتفاصيل عندهم من ذلك لا من التوراة والإنجيل فيكون معرفتهم إياه مفصلة واضحة بالأخبار لا بالنظر في المعجزات ) كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ( وأيضاً فلا نسلم له حصر التقسيم فيما ذكره لأنه يحتمل قسماً آخر وهو أن يكون التوراة والإنجيل يدلان على خروج نبي في آخر الزمان ، وعلى بعض أوصافه لا على جميع الأوصاف التي ذكرت من تعيين زمان ومكان وننسب وحلية وشكل ، ويدل على هذا القسم حديث عمر مع عبد الله بن سلام وقوله له : إن الله أنزل على نبيه بمكة إنكم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم فكيف هذه المعرفة ؟ فقال عبد الله بن سلام : نعم أعرفه بالصفة التي وصفه الله بها في التوراة ؟ فلا أشك فيه وأما ابني فلا أدري ما أحدثت أمه ، ومما يدل أيضاً على أن معرفتهم إياه لا يتعين أن يكون مستندها التوراة والإنجيل فقط ، أسئلة عبد الله بن سلام حين اجتمع أول اجتماعه برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما أول ما يأكل أهل الجنة ؟ فحين أخبره بجواب تلك الأسئلة أسلم للوقت وعرف أنه الرسول الذي نبه عليه في التوراة ، وحديث زيد بن سعنة حين ذكر أنه عرف جميع أوصافه ( صلى الله عليه وسلم ) ) غير أنه لم يعرف أن حلمه يسبق غضبه فجرب ذلك منه ، فوجد هذه الصفة فأسلم وأعرب ) الَّذِينَ خَسِرُواْ ( مبتدأ والخبر ) فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( و ) الَّذِينَ خَسِرُواْ ( على هذا أعم من أهل الكتاب الجاحدين ومن المشركين ، والخسران الغبن وروي أن لكل عبد منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار ، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة في النار ، فالخسارة والربح هنا وجوزوا أن يكون ) الَّذِينَ خَسِرُواْ ( نعتاً لقوله : ) الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ( و ) فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( جملة معطوفة على جملة فيكون مساق ) الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ( مساق الذم لا مقام الاستشهاد بهم على كفار قريش وغيرهم من العرب ، قالوا : لأنه لا يصح أن يستشهد بهم ويذموا في آية واحدة . وقال ابن عطية : يصح ذلك لاختلاف ما استشهد فيه بهم وما ذموا فيه وأن الذم والاستشهاد من جهة واحدة ؛ انتهى . ويكون ) الَّذِينَ خَسِرُواْ ( إذ ذاك ليس عاماً إذ التقدير الذين خسروا أنفسهم منهم أي من أهل الكتاب .
الأنعام : ( 21 ) ومن أظلم ممن . . . . .
( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِئَايَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( تقدم الكلام على ) وَمَنْ أَظْلَمُ ( والافتراء الاختلاف ، والمعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله أو كذب بآيات الله . قال الزمخشري : جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، وقالوا : والله أمرنا بها ، وقالوا : الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ونسبوا إليه تحريم السوائب والبحائر وكذبوا

" صفحة رقم 98 "
القرآن والمعجزات وسموها سحراً ولم يؤمنوا بالرسول ؛ انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال بقوله : حيث قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا . وقال ابن عطية : ممن افترى اختلق والمكذب بالآيات مفتري كذب ولكنهما من الكفر فلذلك نصا مفسرين ؛ انتهى . ومعنى ) لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا والآخرة ، بل يبقون في الحرمان والخذلان ونفي الفلاح عن الظالم فدخل فيه الأظلم والظالم غير الأظلم وإذا كان هذا لا يفلح فكيف يفلح الأظلم ؟ .
الأنعام : ( 22 ) ويوم نحشرهم جميعا . . . . .
( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( قيل : ) يَوْمٍ ( معمول لا ذكر محذوفة على أنه مفعول به قاله ابن عطية وأبو البقاء . وقيل : المحذوف متأخر تقديره ) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ( كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف قاله الزمخشري . وقيل : العامل انظر كيف كذبوا يوم نحشرهم . وقيل : هو مفعول به لمحذوف تقديره وليحذروا يوم نحشرهم . وقيل : هو معطوف على ظرف محذوف ، والعامل فيه العامل في ذلك الظرف والتقدير أنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا ويوم نحشرهم قاله الطبري . وقرأ الجمهور ) نَحْشُرُهُمْ ( ثم نقول بالنون فيهما . وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء . وقرأ أبو هريرة ) نَحْشُرُهُمْ ( بكسر الشين ، والظاهر أن الضمير في ) نَحْشُرُهُمْ ( عائد على الذين افتروا على الله الكذب ، أو كذبوا بآياته وجاء ) ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( بمعنى ثم نقول لهم ولكنه نبه على الوصف المترتب عليه توبيخهم ويحتمل أن يعود على الناس كلهم وهم مندرجون في هذا العموم ثم تفرد بالتوبيخ المشركون . وقيل : الضمير عائد على المشركين وأصنامهم ألا ترى إلى قولهم ) احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( من دون الله وعطف ب ) بثم ( للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامة في المواقف ، فإن فيه مواقف بين كل موقف وموقف تراخ على حسب طول ذلك اليوم ، و ) أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ ( سؤال توبيخ وتقريع وظاهر مدلول ) أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ ( غيبة الشركاء عنهم أي تلك الأصنام قد اضمحلت فلا وجود لها . وقال الزمخشري : ويجوز أن يشاهدوهم إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة فكأنهم غيب عنهم وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها فيرو إمكان خزيهم وحسرتهم ، انتهى . والمعنى أين آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله ؟ وأضيف الشركاء إليهم لأنه لا شركة في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء ، وإنما أوقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة فأضيفت إليهم بهذه النسبة والزعم القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر الكلام ، ولذلك قال ابن عباس : كل زعم في القرآن فهو بمعنى الكذب وإنما خص القرآن لأنه ينطلق على مجرد الذكر والقول ومنه قول الشاعر : تقول هلكنا وإن هلكت وإنما
على الله أرزاق العباد كما زعم
وقال ابن عطية : وعلى هذا الحد يقول سيبوية : بزعم الخليل ولكن ذلك يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله ؛ انتهى . وحذف مفعولاً ) يَزْعُمُونَ ( اختصاراً إذ دل ما قبله على حذفهما والتقدير تزعمونهم شركاء ، ويحسن أن يكون التقدير كما قال بعضهم : ) أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( إنها تشفع لكم عند الله عز وجل .
الأنعام : ( 23 ) ثم لم تكن . . . . .
( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( تقدم مدلول الفتنة وشرحت هنا بحب الشيء والإعجاب

" صفحة رقم 99 "
به كما تقول : فتنت بزيد فعلى هذا يكون المعنى ، ثم لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها واتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبرؤ منها والإنكار لها ، وفي هذا توبيخ لهم كما تقول لرجل كان يدّعي مودّة آخر ثم انحرف عنه وعاداه يا فلان لم تكن مودّتك لفلان إلا أن عاديته وباينته والمعنى على ) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ ( بمعنى مودّتهم وإعجابهم بالأصنام إلا البراءة منهم باليمين المؤكدة لبراءتهم ، وتكون الفتنة واقعة في الدنيا وشرحت أيضاً بالاختبار والمعنى : ثم لم يكن اختبارنا إياهم إذ السؤال عن الشركاء وتوقيفهم اختبار لإنكارهم الإشراك وتكون الفتنة هنا واقعة في القيامة ، أي : ثم لم يكن جواب اختبار نالهم بالسؤال عن شركائهم إلا إنكار التشريك ؛ انتهى ، ملخصاً من كلام ابن عطية مع بعض زيادة . وقال الزمخشري : ) فِتْنَتُهُمْ ( كفرهم والمعنى ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به ، وقالوا : دين آبائنا إلا جحوده والتبرؤ منه والحلف على الانتفاء من التدين به ، ويجوز أن يراد ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا : فسمى فتنة لأنه كذب ؛ انتهى . والشرح الأول من شرح ابن عطية معناه للزجاج والأول من تفسير الزمخشري لفظه للحسن ، ومعناه لابن عباس والثاني لمحمد بن كعب وغيره . قال : التقدير ثم لم يكن جوابهم ) إِلاَّ أَن قَالُواْ ( وسمي هذا القول فتنة لكونه افتراءً وكذباً . وقال الضحاك : الفتنة هنا الإنكار أي ثم لم يكن إنكارهم . وقال قتادة : عذرهم . وقال أبو العالية : قولهم . وقال عطاء وأبو عبيدة : بينهم وزاد أبو عبيدة التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة . وقيل : حجتهم ، والظاهر أن الضمير عائد على المشركين وأنه عام فيمن أشرك . وقال الحسن : هذا خاص بالمنافقين جروا على عادتهم في الدنيا ، وقيل : هم قوم كانوا مشركين ولم يعلموا أنهم مشركون فيحلفون على اعتقادهم في الدنيا . وقرأ الجمهور ) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ ( وحمزة والكسائي بالياء وأبي وابن مسعود والأعمش وما كان فتنتهم ، وطلحة وابن مطرف ثم ما كان والابنان وحفص ) فِتْنَتُهُمْ ( بالرفع وفرقة ثم لم يكن بالياء ، و ) فِتْنَتُهُمْ ( بالرفع وإعراب هذه القراءات واضح والجاري منها على الأشهر قراءة ثم لم يكن ) فِتْنَتُهُمْ ( بالياء بالنصب ، لأن أن مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى المضمر وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف فذكروا إن الأشهر جعل الأعرف هو الاسم وما دونه هو الخبر ، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله تعالى : ) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ( ) وَمَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ( ومن قرأ بالياء ورفع الفتنة فذكر الفعل لكون تأنيث الفتنة مجازياً أو لوقوعها من حيث المعنى على مذكر ، والفتنة اسم يكن والخبر ) إِلاَّ أَن قَالُواْ ( جعل غير الأعرف الاسم والأعرف الخبر ومن قرأ ) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ ( بالتاء ورفع الفتنة فأنث لتأنيث الفتنة والإعراب كإعراب ما تقدم قبله ، ومن قرأ ) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ ( بالتاء ) فِتْنَتُهُمْ ( بالنصب فالأحسن أن يقدر ) إِلاَّ أَن قَالُواْ ( مؤنثاً أي ) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ( إلا مقالتهم . وقيل : ساغ ذلك من حيث كان الفتنة في المعنى . قال أبو علي : وهذا كقوله تعالى : ) فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ( فأنث الأمثال لما كانت الحسنات في المعنى . وقال الزمخشري : وقرىء ) تَكُنْ ( بالتاء و ) فِتْنَتُهُمْ ( بالنصب وإنما أتت ) أَن قَالُواْ ( لوقوع الخبر مؤنثاً كقوله : من كانت أمك ؛ انتهى . وتقدم لنا أن الأولى أن يقدر ) أَن قَالُواْ ( بمؤنث أي إلا مقالتهم . وكذا قدره الزجاج بمؤنث

" صفحة رقم 100 "
أي مقالتهم ، وتخريج الزمخشري ملفق من كلام أبي علي وأما من كانت أمك فإنه حمل اسم كان على معنى من ، لأن من لها لفظ مفرد ولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث وليس الحمل على المعنى لمراعاة الخبر ، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر نحو ومنهم من يستمعون إليك . ونكن مثل من يا ذئب يصطحبان . ومن تقنت في قراءة التاء فليست تأنيث كانت لتأنيث الخبر وإنما هو للحمل على معنى من حيث أردت به المؤنث وكأنك قلت أية امرأة كانت أمك . وقرأ الأخوان ) وَاللَّهِ رَبّنَا ( بنصب الباء على النداء أي يا ربنا ، وأجاز ابن عطية فيه النصب على المدح وأجاز أبو البقاء فيه إضمار أعني وباقي السبعة بخفضها على النعت ، وأجازوا فيه البدل وعطف البيان . وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين والله ربنا برفع الاسمين . قال ابن عطية : وهذا على تقديم وتأخير أنهم قالوا : ) مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( ) وَاللَّهِ رَبّنَا ( ومعنى ) مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( جحدوا إشراكهم في الدنيا ، روي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار من أهل الإيمان ضجوا فيوقفون ويقال لهم أين شركاؤكم ؟ فينكرون طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان وهذا الذي روي مخالف لظاهر الآية ، وهو ) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ( ثم نقول فظاهره أنه لا يتراخى القول عن الحشر هذا التراخي البعيد من دخول العصاة المؤمنين النار وإقامتهم فيها ما شاء الله وإخراجهم منها ، ثم بعد ذلك كله يقال لهم أين شركاؤكم ؟ وأتى رجل إلى ابن عباس فقال : سمعت الله يقول : ) وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( وفي أخرى ) وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ( فقال ابن عباس : لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن قالوا : تعالوا فلنجحد وقالوا : ) مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثاً .
الأنعام : ( 24 ) انظر كيف كذبوا . . . . .
( انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الخطاب للرسول عليه السلام والنظر قلبي و ) كَيْفَ ( منصوب ب ) كَذَّبُواْ ( والجملة في موضع نصب بالنظر لأن ) أَنظُرْ ( معلقة و ) كَذَّبُواْ ( ماض وهو في أمر لم يقع لكنه حكاية عن يوم القيامة ولا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل تحقيقاً لوقوعه ولا بد .
قال الزمخشري ( فإن قلت ) : كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور على أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته . ( قلت ) : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً ، ألا تراهم يقولون ) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ( وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه وقالوا : يا مالك ليقض علينا ربك وقد علموا أنه لا يقضي عليهم ، وأما قول من يقول معنا ) وَمَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( عند أنفسنا أو ما علمنا إنا على خطأ في معتقدنا ، وحمل قوله : ) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( يعني في الدنيا فتحمل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عيّ وإفحام ، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا بمنطبقٍ عليه ، وهو ناب عنه أشدّ النبوّ وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله : ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( بعد قوله : ) وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا ؛ انتهى . وقول الزمخشري . وأما قول من يقول فهو إشارة إلى أبي عليّ الجبائي والقاضي عبد الجبار ومن وافقهما أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واستدلوا بأشياء تؤول إلى

" صفحة رقم 101 "
مسألة القبح والحسن ، وبناء ما قالوه عليها ذكرها أبو عبد الله الرازي في تفسير فتطالع هناك ، إذ مسألة التقبيح والتحسين خالفوا فيها أهل السنة وجمهور المفسّرين ، يقولون : إن الكفار يكذبون في الآخرة وظواهر القرآن دالة على ذلك وقد خالف الزمخشري هنا أصحابه المعتزلة ووافق أهل السنة .
( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( يحتمل أن تكون ) مَا ( مصدرية وإليه ذهب ابن عطية قال : معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكفرهم بادعائهم لله الشركاء . وقيل : من اليمين الفاجرة في الدار الآخرة وقيل عزب عنهم افتراؤهم للحيرة التي لحقتهم ، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي وإليه ذهب الزمخشري . قال : وغاب ) عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( ألوهيته وشفاعته وهو معنى قول الحسن وأبي عليّ قالا : لم يغن عنهم شيئاً ما كانوا يعبدون من الأصنام في الدنيا . وقيل : هو قولهم ما كنا ) نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( فذهب عنهم حيث علموا أن لا تقريب منهم ، ويحتمل أن يكون ) وَضَلَّ ( عطف على كذبوا فيدخل في خبر ) أَنظُرْ ( ويحتمل أن يكون إخباراً مستأنفاً فلا يدخل في حيزه ولا يتسلط النظر عليه .
الأنعام : ( 25 ) ومنهم من يستمع . . . . .
( وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءاذَانِهِمْ وَقْراً ). روى أبو صالح عن ابن عباس أن أبا سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأمية وأبياً استمعوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ما يقول محمد فقال : ما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان صاحب أشعار جمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديار فكان يحدث قريشاً فيستمعون له فقال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول حقاً . فقال أبو جهل : كلا لا تقر بشيء من هذا وقال الموت أهون من هذا ، فنزلت والضمير في ) وَمِنْهُمُ ( عائد على الذين أشركوا ، ووحد الضمير في ) يَسْتَمِعِ ( حملاً على لفظ ) مِنْ ( وجمعه في ) عَلَى قُلُوبِهِمْ ( حملاً على معناها والجملة من قوله : ) وَجَعَلْنَا ( معطوفة على الجملة قبلها عطف فعلية على اسمية فيكون إخباراً من الله تعالى أنه جعل كذا . وقيل : الواو واو الحال أي وقد جعلنا أي ننصت إلى سماعك وهم من الغباوة ، في حد من قلبه في كنان وأذنه صماء وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى ألقى ، فتتعلق على بها وبمعنى صير فتتعلق بمحذوف إذ هي في موضع المفعول الثاني ويجوز أن تكون بمعنى خلق ، فيكون في موضع الحال لأنها في موضع نعت لو تأخرت ، فلما تقدّمت صارت حالاً والأكنة جمع كنان كعنان وأعنة والكنان الغطاء الجامع .
قال الشاعر : إذا ما انتضوها في الوغى من أكنة
حسبت بروق الغيث هاجت غيومها
و ) أَن يَفْقَهُوهُ ( في موضع المفعول من أجله تقديره عندهم كراهة أن يفقهوه . وقيل : المعنى أن ) لا يَفْقَهُوهُ ( وتقدّم نظير هذين التقديرين . وقرأ طلحة بن مصرّف وقرأ بكسر الواو كأنه ذهب إلى أن ) ءاذَانِهِمْ ( وقرت بالصمم كما توقر الدابة من الحمل ، والظاهر أن الغطاء والصمم هنا ليسا حقيقة بل ذلك من باب استعارة المحسوس للمعقول حتى يستقر في النفس ، استعار الأكنة لصرف قلوبهم عن تدبر آيات الله ، والثقل في الأذن لتركهم الإصغاء إلى سماعه ألا تراهم قالوا : ) لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ( فلما لم يتدبروا ولم يصغوا كانوا بمنزلة من على قلبه غطاء وفي أذنه وقر . وقال قوم : ذلك حقيقة وهو لا يشعر به كمداخلة الشيطان باطن الإنسان وهو لا يشعر به

" صفحة رقم 102 "
ونحا الجبائي في فهم هذه الآية منحى آخر غير هذا فقال : كانوا يستمعون القراءة ليتوصلوا بسماعها إلى معرفة مكان الرسول بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه ، فعند ذلك كان الله يلقي على قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنة وتثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم وهو المراد بقوله : ) أَوْ كَصَيّبٍ وِقْراً ). وقيل : إن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم الله قلبه بعلامة مخصوصة تستدل الملائكة برؤيتها على أنهم لا يؤمنون ، وإذا ثبت هذا فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان . وقيل : لما أصرُّوا على الكفر صار عدولهم عن الإيمان كالكنان المانع عن الإيمان فذكر تعالى ذلك كناية عن هذا المعنى . وقيل : لما منعهم الإلطاف التي إنما تصلح أن يفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم وفوّضهم إلى أنفسهم ليسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه ، فيقول : ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ). وقيل : يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وقالوا : قلوبنا في أكنة وهذه الأقوال كلها تعزى إلى الجبائي وهي كلها فرار من نسبة الجعل إلى الله حقيقة فتأوّلوا ذلك على هذه المجازات البعيدة ، وقد نحا الزمخشري منحى بعض هذه الأقوال فقال : الأكنة على القلوب والوقر في الآذان تمثيل نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله : ) وَجَعَلْنَا ( للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه ، أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ؛ انتهى . وهو جار على مذهب أصحابه المعتزلة ، وأما عند أهل السنة فنسبة الجعل إلى الله حقيقة لا مجاز وهي مسألة خلق الأعمال يبحث فيها في أصول الدّين . قال ابن عطية : وهذه عبارة عن ما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلظ والبعد عن قبول الخير كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله .
( وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ( لما ذكر عدم انتفاعهم بعقولهم حتى كأن على محالها أكنة ولا بسماعهم حتى كأن ) أَوْ كَصَيّبٍ وِقْراً ( انتقل إلى الحاسة التي هي أبلغ من حاسة السماع ، فنفى ما يترتب على إدراكها وهو الإيمان والرؤية هنا بصرية والآية كانشقاق القمر ونبع الماء من أصابعه ، وحنين الجذع وانقلاب العصا سيفاً والماء الملح عذباً وتصيير الطعام القليل كثيراً وما أشبه ذلك . وقال ابن عباس : ) كُلُّ ءايَةٍ ( كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل ما جعل على قلوبهم أكنة ؛ انتهى . ومقصود هذه الجملة الشرطية الإخبار عن المبالغة التامّة والعناد المفرط في عدم إيمانهم حتى إن الشيء المرئي الدال على صدق الرسول حقيقة لا يرتبون عليه مقتضاه ، بل يرتبون عليه ضد مقتضاه .
( حَتَّى إِذَا جَاءوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( ) يُجَادِلُونَكَ ( أي يخاصمونك في الاحتجاج وبلغ تكذيبهم في الآيات إلى المجادلة ، وهذا إشارة إلى القرآن وجعلهم إياه من ) أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( قدح في أنه كلام الله . قيل : كان النضر يعارض القرآن بإخبار اسفنديار ورستم . وقال ابن عباس : مجادلتهم قولهم : تأكلون ما قلتم ولا تأكلون ما قتل الله ؛ انتهى . وهذا فيه بعد وظاهر المجادلة أنه في المسموع الذي هم يستمعون إلى الرسول بسببه وهو القرآن ، والمعنى أنهم في الاحتجاج ؛ انتهى . أمرهم إلى المجادلة والافتراء دون دليل ، ومجيء الجملة الشرطية ) إِذَا ( بعد ) حَتَّى ( كثير جدًّا في القرآن ، وأوّل ما وقعت فيه قوله : ) وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ ( وهي حرف ابتداء وليست هنا جارة ل ( إذا ) ولا جملة الشرط جملة الجزاء في موضع جر وليس من شرط ) حَتَّى ( التي هي حرف ابتداء أن يكون بعدها المبتدأ ، بل تكون تصلح أن يقع بعدها

" صفحة رقم 103 "
المبتدأ ألا ترى أنهم يقولون في نحو ضربت القوم حتى زيداً ضربته أن حتى فيه حرف ابتداء وإن كان ما بعدها منصوباً و ) حَتَّى ( إذا وقعت بعدها ) إِذَا ( يحتمل أن تكون بمعنى الفاء ويحتمل أن تكون بمعنى إلى أن فيكون التقدير فإذا ) لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ ( يقول أو يكون التقدير ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءاذَانِهِمْ وَقْراً ( أي منعناهم من فهم القرآن وتدبره ؟ إلى أن يقولوا : ) إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( في وقت مجيئهم مجادليك لأن الغاية لا تؤخذ إلا من جواب الشرط لا من الشرط ، وعلى هذين المعنيين يتخرج جميع ما جاء في القرآن من قوله تعالى ) حَتَّى إِذَا ( وتركيب ) حَتَّى إِذَا ( لا بد أن يتقدمه كلام ظاهر نحو هذه الآية ونحو قوله : فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال : أقتلت ، أو كلام مقدر يدل عليه سياق الكلام ، نحو قوله : ) زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ الصَّادِقِينَ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً ( التقدير فأتوه بها ووضعها بين الصدقين ) حَتَّى إِذَا ( ساوى بينهما قال : انفخوا فنفخه ) حَتَّى إِذَا ( جعله ناراً بأمره وإذنه قال آتوني أفرغ ولهذا قال الفراء ) حَتَّى إِذَا ( لا بد أن يتقدمها كلام لفظاً أو تقديراً ، وقد ذكرنا في كتاب التكميل أحكام حتى مستوفاة ودخولها على الشرط ، ومذهب الفراء والكسائي في ذلك ومذهب غيرهما . وقال الزمخشري : هنا هي ) حَتَّى ( التي تقع بعدها الجمل والجملة قوله : ) إِذَا ( في موضع الحال ؛ انتهى . وهذا موافق لما ذكرناه ، ثم قال : ويجوز أن تكون الجارة ويكون ) إِذَا ( في محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم و ) لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ ( حال وقوله : ) يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( تفسير والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات ، إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون : ) إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( فيجعلون كلام الله وأصدق الحديث خرافات وأكاذيب وهي الغاية في التكذيب ؛ انتهى . وما جوّزه الزمخشري في ) إِذَا ( بعد ) حَتَّى ( من كونها مجرورة أوجبه ابن مالك في التسهيل ، فزعم أن ) إِذَا ( تجز ب ) بحتى ). قال في التسهيل : وقد تفارقها ، يعني ) قَبْلِكُمْ إِذَا ( الظرفية مفعولاً بها ومجرورة ب ) بحتى ( أو مبتدأ وما ذهب إليه الزمخشري في تجويزه أن تكون ) قَبْلِكُمْ إِذَا ( مجرورة ب ) بحتى ( ، وابن مالك في إيجاب ذلك ولم يذكر قولاً غيره خطأ وقد بينا ذلك في كتاب التذييل في شرح التسهيل ، وقد وفق الحوفي وأبو البقاء وغيرهما من المعربين للصواب في ذلك فقال هنا أبو البقاء ) يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا ( في موضع نصب لجوابها وهو ) يِقُولُ ( وليس لحتى هاهنا عمل وإنما أفادت معنى الغاية ، كما لا تعمل في الجمل و ) يُجَادِلُونَكَ ( حال من ضمير الفاعل في ) جاؤوك ( وهو العامل في الحال ، يقول جواب ) قَبْلِكُمْ إِذَا ( وهو العامل في إذا ؛ انتهى .
الأنعام : ( 26 ) وهم ينهون عنه . . . . .
( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ( روي عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب ، كان ينهي المشركين أن يؤذوا الرسول وأتباعه وكانوا يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش بأبي طالب يريدون سوءا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
فقال أبو طالب : والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وابشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح
ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت ديناً لا محالة أنه
من خير أديان البرية دينا

" صفحة رقم 104 "
لولا الملامة أو حذار مسبة
لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
وقال محمد بن الحنفية والسدي والضحاك : نزلت في كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتباع الرسول ويتباعدون بأنفسهم عنه ، وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي ، والظاهر أن الضمير في قوله : ) وَهُمْ ( يعود على الكفار وهو قول الجمهور ، واختاره الطبري وفي قوله : ) عَنْهُ ( يعود إلى القرآن وهو الذي عاد عليه الضمير المنصوب في ) يَفْقَهُوهُ ( وهو المشار إليه بقولهم ) إِنَّ هَذَا ( وهو قول قتادة ومجاهد ، والمعنى أنهم ) يَنْهَوْنَ ( غيرهم عن اتباع القرآن وتدبر و ) ينأون ( بأنفسهم عن ذلك . وقيل : الضمير في ) سَنُراوِدُ عَنْهُ ( عائد على الرسول إذ تقدم ذكره في قوله : ) وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا جَاءوكَ يُجَادِلُونَكَ ( فيكون ذلك التفاتاً وهو خروج من خطاب إلى غيبة ، والضمير في ) وَهُمْ ( عائد على الكفار المتقدم ذكرهم ، والمعنى أنهم جمعوا بين تباعدهم عن الرسول بأنفسهم ونهى غيرهم عن اتباعه فضلوا وأضلوا ، وتقدم أن هذا القول هو أحد ما ذكر في سبب النزول . وقيل : الضمير في ) وَهُمْ ( عائد على أبي طالب ومن وافقه على حماية الرسول والضمير في ) عَنْهُ ( عائد على الرسول ، والمعنى ) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ( من يريد إذايته ويبعدون عنه بترك إيمانهم به واتباعهم له فيفعلون الشيء وخلافه ، وهو قول ابن عباس وأيضاً والقاسم بن محمد وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار ومقاتل وهذا القول أحد ما ذكر في سبب النزول ونسبة هذا إلى أبي طالب وتابعيه بلفظ ) وَهُمْ ( الظاهر عوده على جماعة الكفار وجماعتهم لم ينهوا عن إذاية الرسول هي نسبة لكل الكفار بما صدر عن بعضهم ، فخرجت العبارة عن فريق منهم بما يعم جميعهم لأن التوبيخ على هذه الصورة أشنع وأغلظ حيث ينهون عن إذايته ويتباعدون عن اتباعه وهذا كما تقول في التشنيع على جماعة منهم سراق ومنهم زناة ومنهم شربة خمر ، هؤلاء سراق وزناة وشربة خمر وحقيقته أن بعضهم يفعل ذا وبعضهم ذا وكان المعنى ومنهم من يستمع ومنهم من ينهى عن إذايته ويبعد عن هدايته وفي قوله : ) يَنْهَوْنَ وَيَنْأَوْنَ ( تجنيس التصريف وهو أن تنفرد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهون انفردت بالها ) وَيَنْأَوْنَ ( انفردت بالهمزة ومنه وهم يحسبون أنهم يحسنون ويفرحون ويمرحون والخيل معقود في نواصيها الخير ، وفي كتاب التحبير سماه تجنيس التحريف وهو أن يكون الحرف فرقاً بين الكلمتين . وأنشد عليه : إن لم أشن على ابن هند غارة
لنهاب مال أو ذهاب نفوس
وذكر غيره أن تجنيس التحريف ، هو أن يكون الشكل فرقاً بين الكلمتين كقول بعض العرب : وقد مات له ولد اللهم أني مسلم ومسلم . وقال بعض العرب : اللهي تفتح اللهى . وقرأ الحسن وينون بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على النون وهو تسهيل قياسي .
( وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( قبل هذا محذوف تقديره ) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ( ( أي عن الرسول أو القرآن قاصدين تخلّي الناس عن الرسول فيهلكونه وهم في الحقيقة يهلكون أنفسهم ، وليس المراد بالهلاك الموت بل الخلود في النار ) ( أي عن الرسول أو القرآن قاصدين تخلّي الناس عن الرسول فيهلكونه وهم في الحقيقة يهلكون أنفسهم ، وليس المراد بالهلاك الموت بل الخلود في النار ) وَأَنْ ( نافية بمعنى ما ونفي الشعور عنهم بإهلاكهم أنفسهم مذمة عظيمة لأنه أبلغ في نفي العلم إذ البهائم تشعر وتحس فوبال ما راموا حل بأنفسهم ولم يتعد إلى غيرهم .
الأنعام : ( 27 ) ولو ترى إذ . . . . .
( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ ( لما ذكر تعالى حديث البعث في قوله ) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ( واستطرد من ذلك إلى شيء من أوصافهم الذميمة في الدنيا ، عاد إلى الأول وجواب ) لَوْ ( محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره لرأيت أمراً

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدليل البديل

مجلد1 ومجلد 2. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغز... مجلد3.و 4. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغزالي أ... مجلد 5.و6. إحياء علوم الدين محمد...