Translate

السبت، 28 مايو 2022

مجلد7 و8..تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

 

مجلد7.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 500 "
الآيات ، خبراً بعد خبر ، وذلك على رأي من يجيز تعداد الأخبار بغير حرف عطف ، إذا كان لمبتدأ واحد ، ولم يكن في معنى خبر واحد ، وجوّزوا أن يكون : من ، لبيان الجنس ، وذلك على رأي من يجيز أن تكون : من ، لبيان الجنس . ولا يتأتى ذلك هنا من جهة المعنى إلاَّ بمجاز ، لأن تقدير : من ، البيانية بالموصول . ولو قلت : ذلك نتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم ، لاحتيج إلى تأويل ، لأن هذا المشار إليه من نبأ من تقدم ذكره ليس هو جميع الآيات ، والذكر الحكيم إنما هو بعض الآيات ، فيحتاج إلى تأويل أنه جعل بعض الآيات ، والذكر هو الآيات ، والذكر على سبيل المجاز .
وممن ذهب إلى أنها لبيان الجنس : أبو محمد بن عطية ، وبدأ به ، ثم قال : ويجوز أن تكون للتبعيض وجوّزوا أن يكون ذلك منصوباً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، فيكون من باب الإشتغال ، أي : نتلو ذلك نتلوه عليك ، والرفع على الإبتداء أفصح لأنه عرى من مرجح النصب على الإشتغال ؛ فزيدٌ ضربته ، أفصح من : زيداً ضربته ، وإن كان عربياً ، وعلى هذا الإعراب يكون : نتلوه ، لا موضع له من الإعراب ، لأنه مفسر لذلك الفعل المحذوف ، ويكون : من الآيات ، حالاً من ضمير النصب في : نتلوه .
وأجاز الزمخشري أن يكون : ذلك ، بمعنى : الذي ، و : نتلوه ، صلته . و : الآيات ، الخبر . وقاله الزجاج قبله ، وهذه نزعة كوفية ، يجيزون في أسماء الإشارة أن تكون موصولة ، ولا يجوز ذلك عند البصريين ، إلاَّ في : ذا ، وحدها إذا سبقها : ما ، الإستفهامية باتفاق ، أو : من ، الإستفهامية باختلاف . وتقرير هذا في علم النحو .
وجوّزوا أيضاً أن يكون : ذلك ، مبتدأ و : من الآيات ، خبر . و : نتلوه ، حال . وأن يكون : ذلك ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك . و : نتلوه ، حال .
والظاهر في قوله : ) وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ ( أنه معطوف على الآيات ، ومن جعلها للقسم وجواب القسم : ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى ( فقد أبعد .
آل عمران : ( 59 ) إن مثل عيسى . . . . .
( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( قال ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي وغيرهم : جادل وفد نجران النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في أمر عيسى ، وقالوا : بلغنا أنك تشتم صاحبنا ، وتقول : هو ، عبد ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( وما يضرّ ذلك عيسى ، أجل هو عبد الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه ) . فقالوا : فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به ؟ فخرجوا ، فنزلت .
وفي بعض الروايات أنهم قالوا : فإن كنت صدقاً فأرنا مثله فنزلت .
وروي وكيع عن مبارك عن الحسن قال : جاء راهباً نجران فعرض عليهما الإسلام فقال أحدهما : قد أسلمنا قبلك ، فقال : ( كذبتما ، يمنعكما من الإسلام ثلاث : عبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وقولكما لله ولد . قالا : من أبو عيسى ؟ وكان لا يعجل حتى يأمره ربه . فأنزل ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى ( وتقدم الكلام في تفسير نحو هذا التركيب في قولهم : ) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً ).
وقال الزمخشري : إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم ، فجعل المثل بمعنى الشأن والحال . وهو راجع لقول من قال : المثل هنا الصفة : كقوله : ) مَّثَلُ الْجَنَّةِ ( وفي هذا إقرار الكاف في قوله : ) كَمَثَلِ ءادَمَ ( على معناها التشبيهي .
وقال ابن عطية : في قول من قال إن المثل هنا بمعنى الصفة ما نصه : وهذا عندي خطأ وضعف في فهم الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول ، من عيسى فهو كالمتصور من آدم ، إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل . وكذلك ) مَّثَلُ الْجَنَّةِ ( عبارة عن المتصوّر منها .
وفي هذه الآية صحة القياس أي إذا تصور أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى . والكاف في ) كَمَثَلِ ءادَمَ ( اسم على ما ذكرناه من المعنى . إنتهى كلامه .
ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا ، وكلام من جعل المثل بمعنى الشأن والحال . أو بمعنى الصفة ، وفي ( ري الظمآن ) قيل : المثل بمعنى الصفة ، وقولك صفة عيسى كصفة آدم كلام مطرد ، على هذا جل اللغويين والمفسرين ، وخالف أبو علي الفارسي الجميع ، وقال : المثل بمعنى الصفة لا يمكن تصحيحه في اللغة ، إنما المثل الشبه .
على هذا تدور تصاريف الكلمة ، ولا معنى للوصفية في التشابه . والمثل كلمة يرسلها قائلها لحكمة يشبه بها الأمور ، ويقابل بها الأحوال . إنتهى .
ومن جعل

" صفحة رقم 501 "
المثل هنا مرادفاً للمثل ، كالشبه : والشبه . قال : جمع بين أداتي تشبيه على طريق التأكيد للشبه ، والتنبيه على عظم خطره وقدره .
وقال بعض هؤلاء : الكاف زائدة . وقال بعضهم : مثل زائدة ، وجعل بعضهم المثل هنا من ضرب الأمثال . وقال : العرب تضرب الأمثال لبيان ما خفي معناه ودق إيضاحه ، لما خفي سر ولادة عيسى من غير أب ، لأنه خالف المعروف ، ضرب الله المثل بآدم الذي استقرّ في الأذهان . وعلم أنه أوجد من غير أب ولا أمّ ، كذلك خلق عيسى بلا أب ، ولا بد من مشاركة معنوية بين من ضرب به المثل ، وبين من ضرب له المثل ، من وجه واحد ، أو من وجوه لا يشترط الإشتراك في سائر الصفات . والمعنى الذي وقعت فيه المشاركة بين آدم وعيسى كون كل واحد منهما خلق من غير أب . وقال بعض أهل العلم : المشاركة بين ( آدم وعيسى في خمسة عشر وصفاً : في التكوين ، و : في الخلق من العناصر التي ركب الله منها الدنيا . وفي العبودية ، وفي النبوّة . وفي المحنة : عيسى باليهود ، وآدم بابليس ، وفي : أكلهما الطعام والشراب ، وفي الفقر إلى الله . وفي الصورة ، وفي الرفع إلى بالسماء والإنزال منها إلى الأرض ، وفي الإلهام ، عطس آدم فألهم ، فقال الحمد لله . وألهم عيسى ، حين أخرج من بطن أمّة فقال : ) إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ( وفي العلم ، قال : ) وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء ( وقال : ) وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ( وفي نفخ الروح فيهما ) وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( ) فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( وفي الموت ، وفي فقد الأب ، ومعنى : عند الله أي عند من يعرف حقيقة الأمر ، وكيف هو . أي : هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه .
والعامل في : عند ، العامل في : كاف التشبيه ، وهذا التشبيه هو من أحد الطرفين كما تقدّم ، وهو الوجود من غير أب وهما نظيران في أن كلاًّ منهما أوجده الله خارجاً عما استقروا واستمرّ في العادة من خلق الإنسان متولداً من ذكر وأنثى ، كما قال تعالى : ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( والوجود من غير أب وأمّ أغرب في العادة من وجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وأسر بعض العلماء بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أب له . قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له . قالوا : كان يحيي الموتى . قال : فخرقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف . فقالوا : كان يبريء الأكمه والأبرص . قال : فجر جيس أولى لأنه طحن وأحرق ، ثم قام سالماً . إنتهى .
وصح أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ردّ عين قتادة بعد ما قلعت ، وردّ الله نورها ، وصح أن أعمى دعا له فردّ الله له بصره .
وفي حديث الشاب الذي أتي به ليتعلم من سحر الساحر ، فترك الساحر ودخل في دين عيسى وتعبد به ، فصار يبرىء الأكمه والأبرص ، وفيه انه دعا لجليس الملك وابن عمه ، وكان أعمى ، فردّ الله عليه بصره .
( خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( هي من تسمية الشيى باسم أصله . كقوله ) اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ( كان تراباً ثم صار طيناً وخلق منه آدم . كما قال : ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مّن طِينٍ ( وقال تعالى : ) إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ ( وقال : ) قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ).
والضمير المنصوب في : خلقه ، عائد على آدم ، وهذه الجملة تفسيرية لمثل آدم ، فلا موضع لها من الإعراب . وقيل : هي في موضع الحال ، وقدر مع خلقه مقدرة ، والعامل فيها معنى التشبيه . قال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون خلقه صفة لآدم ولا حالاً منه . قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها ، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه تفسير المثل . إنتهى كلامه . وفيه نظر ، والمعنى : قدره جسداً من طين ) ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن ( أي أنشأه بشراً ، قاله الزمشخري ، وسبقه إلى معناه أبو مسلم . قلنا : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء . لا بمعنى التقدير ، لم يأت بقوله : ) ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن ( لأن ما خلق لا يقال له : كن ، ولا ينشأ إلاَّ إن كان معنى ) ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن ( عبارة عن نفخ

" صفحة رقم 502 "
الروح فيه ، وقاله عبد الجبار . فيمكن أن يكون خلقه بمعنى أنشأه لا بمعنى قدّره . قيل : أو يكون : كن ، عبارة عن كونه لحماً ودماً ، وقوله : فيكون ، حكاية حال ماضية ولا قول هناك حقيقة ، وإنما ذلك على سبيل التمثيل ، وكناية عن سرعة الخلق والتمكن من ايجاد ما يريد تعالى إيجاده ، إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر .
و : ثم ، قيل لترتيب الخبر ، لأن قوله : كن ، لم يتأخر عن خلقه ، وإنما هو في المعنى تفسير للخلق ، ويجوز أن يكون للترتيب الزماني أي : أنشأه أولاً من طين ، ثم بعد زمان أوجد فيه الروح أي صيره لحماً ودماً على من قال ذلك .
وقال الراغب : ومعنى : كن . بعد : خلقه من تراب : كن إنساناً حياً ناطقاً ، وهو لم يكن كذلك ، بل كان دهراً ملقىً لا روح فيه ، ثم جعل له الروج . وقوله : كن عبارة عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنساناً . إنتهى .
والضمير في : له ، عائد على آدم وأبعد من زعم أنه عائد على عيسى ، وأبعد من هذا قول من زعم أنه يجوز أن يعود على كل مخلوق خلق بكن ، وهو قول الحوفي .
آل عمران : ( 60 ) الحق من ربك . . . . .
( الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ( جملة من مبتدأ وخبر ، أخبر تعالى أن الحق ، وهو الشيء الثابت الذي لا شك فيه هو وارد إليك من ربك ، فجميع ما أنبأك به حق ، فيدخل فيه قصة عيسى وآدم وجميع أنبائه تعالى ، ويجوز أن يكون : الحق ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو . أي : خبر عيسى في كونه خلق من أم فقط هو الحق ، و : من ربك ، حال أو : خبر ثان وأخبر عن قصة عيسى بأنها حق . ومع كونها حقاً فهي إخبار صادر عن الله .
( فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ ( قيل : الخطاب بهذا لكل سامع قصة عيسى ، والأخبار الواردة من الله تعالى . وقيل : المراد به أمّة من ظاهر الخطاب له . قال الزمخشري : ونهيه عن الامتراء وجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يكون ممترياً ، من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة ، وأن يكون لطفاً لغيره . وقال الراغب : الامتراء استخراج الرأي للشك العارض ، ويجعل عبارة عن الشك ، وقال : فلا تكن من الممترين ولم يكن ممترياً ليكون فيه ذمّ من شك في عيسى .
آل عمران : ( 61 ) فمن حاجك فيه . . . . .
( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( أي : من نازعك وجادلك ، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين ، وكان الأمر كذلك بينه ( صلى الله عليه وسلم ) ) وبين وفد نجران .
والضمير في : فيه ، عائد على عيسى ، لأن المنازعة كانت فيه ، ولأن تصدير الآية السابقة في قوله : ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى ( وما بعده جاء من تمام أمره ، وقيل : يعود على الحق ، وظاهر من العموم في كل من يحاجّ في أمر عيسى . وقيل : المراد وفد نجران .
و : من ، يصح أن تكون موصولة ، ويصح أن تكون شرطية ، و : العلم هنا : الوحي الذي جاء به جبريل ، وقيل : الآيات المتقدّمة في أمر عيسى ، الموجبة للعمل . و : ما ، في : ما جاءك ، موصولة بمعنى : الذي ، وفي : جاءك ، ضمير الفاعل يعود عليها . و : من العلم ، متعلق بمحذوف في موضع الحال ، أي : كائناً من العلم . وتكون : من ، تبعيضية . ويجوز أن تكون لبيان الجنس على مذهب من يرى ذلك ، قال بعضهم ، ويخرج على قول الأخفش : أن تكون : ما ، مصدرية ، و : من ، زائدة ، والتقدير : من بعد مجيء العلم إياك .
( فَقُلْ تَعَالَوْاْ ( قرأ الجمهور بفتح اللام وهو الأصل والقياس ، إذا التقدير تفاعل ، وألفة منقلبة عن ياء وأصلها واو ، فإذا أمرت الواحد قلت : تعال ، كما تقول : إخش واسعَ . وقرأ الحسن ، وأبو واقد ، وأبو السمال : بضم اللام ، ووجههم أن أصله : تعاليوا ، كما تقول : تجادلوا ، نقل الضمة من الياء إلى اللام بعد حذف فتحتها ، فبقيت الياء ساكنة وواو الضمير ساكنة فخذفت الياء لإلتقاء الساكنين ، وهذا تعليل شذوذ .
( نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ( أي : يدعُ كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة . وظاهر هذا أن الدعاء والمباهلة بين المخاطب : بقل : وبين من حاجه ، وفسر على هذا الوجه : الأبناء بالحسن والحسين ، و : بنسائه : فاطمة ، و : الأنفس بعلىّ . قال الشعبي : ويدل على أن ذلك مختص بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) مع حاجة ما ثبت في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص ، قال : لما نزلت هذه الآية : ) تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ( دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : فاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال : ( اللهم هؤلاء أهلي ) .
وقال قوم : المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين ، بدليل ظاهر قوله ندع أبناءنا وأبناءكم على الجمع ، ولما دعاهم دعا بأهله الذين في حوزته ، ولو عزم نصارى

" صفحة رقم 503 "
نجران على المباهلة وجاؤا لها ، لأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) المسلمين أن يخرجوا بأهاليهم لمباهلته .
وقيل : المراد : بأنفسنا ، الإخوان ، قاله ابن قتتيبة . قال تعالى : ) وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( أي : إخوانكم . وقيل : أهل دينه ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقيل : الأزواج ، وقيل : أراد القرابة القريبة ، ذكرهما عليّ بن أحمد النيسابوري .
( ثُمَّ نَبْتَهِلْ ( أي : ندع بالالتعان . وقيل : نتضرّع إلى الله ، قاله ابن عباس . وقال مقاتل : نخلص في الدعاء . وقال الكلبي : نجهد في الدعاء . وقيل : نتداعى بالهلاك .
( فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( أي : يقول كل منا : لعن الله الكاذب منا في أمر عيسى ، وفي هذا دليل على جواز اللعن لمن أقام على كفره ، وقد لعن ( صلى الله عليه وسلم ) ) اليهود . قال أبو بكر الرازي : وفي الآية دليل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال أبو أحمد بن علان : كانا إذ ذاك مكلفين ، لأن المباهلة عنده لا تصح إلاَّ من مكلف .
وقد طوّل المفسرون بما رووا في قصة المباهلة ، ومضمونها أنه دعاهم إلى المباهلة ، وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعليّ إلى الميعاد ، وأنهم كفوا عن ذلك ، ورضوا بالإقامة على دينهم وأن يؤدّوا الجزية ، وأخبرهم أحبارهم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وأخبر هو ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنهم إن باهلوا عذبوا ، وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوّته شاهد عظيم على صحة نبوّته .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاَّ لتبيين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ .
قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل ، وألصقهم بالقلوب . وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق ، وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم ، وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنهم مقدّمون على الأنفس يفدون بها ، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام ، وفيه برهان واضح على صحة نبوّة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنه لم ير واحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك . إنتهى كلامه .
وقال ابن عطية : وما رواه الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوّته أحج لنا على سائر الكفرة ، وأليق بحال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ودعاء النساء والأبناء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين ، وظاهر الأمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) جاءهم بما يخصه ، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم ، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط . إنتهى .
وفي الآية دليل على المظاهرة بطريق الإعجاز على من يدعي الباطل بعد وضوح البرهان بطريق القياس ، ومن أغرب الاستدلال ما استدلّ به من الآية محمد بن عليّ الحمصي . وكان متكلماً على طريق الإثنى عشرية . على : أن علينا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال : وذلك أن قوله تعالى : ) وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ( ليس المراد نفس محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد غيره . وأجمعوا على أن الذي هو غيره : عليّ ، فدلت الآية على أن نفسه نفس الرسول ، ولا يمكن أن يكون عينها ، فالمراد مثلها ، وذلك يقتضي العموم إلاَّ أنه ترك في حق النبوّة الفضل لقيام الدليل ودل الإجماع على أنه كان ( صلى الله عليه وسلم ) ) أفضل من سائر الأنبياء ، فلزم أن يكون عليّ كذلك .
قال : ويؤكد ذلك الحديث المنقول عنه من الموافق والمخالف : ( من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحاً في طاعته ، وإبراهيم في حلمه ، وموسى في قومه ، وعيسى في صفوته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب ) . فيدل ذلك على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم .
قال : وذلك يدل على أنه أفضل من جميع الأنبياء والصحابة .

" صفحة رقم 504 "
وأجاب الرازي : بأن الإجماع منعقد على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أفضل ممن ليس بنبي ، وعليّ لم يكن نبياً ، فلزم القطع بأنه مخصوص في حق جميع الأنبياء .
وقال الرازي : استدلال الحمصي فاسد من وجوه .
منها قوله : إن الإنسان لا يدعو نفسه بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه ، تقول العرب : دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني ، وهذا يسميه أبو علي بالتجريد .
ومنها قوله : وأجمعوا على أن الذي هو غيره هو عليّ ، ليس بصحيح ، بدليل الأقوال التي سيقت في المعنى بقوله : وأنفسنا .
ومنها قوله : فيكون نفسه مثل نفسه ، ولا يلزم من المماثلة أن تكون في جميع الأشياء ، بل تكفي المماثلة في شيء مّا ، هذا الذي عليه أهل اللغة ، لا الذي يقوله المتكلمون : من أن المماثلة تكون في جميع صفات النفس ، هذا اصطلاح منهم لا لغة . فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة ، وهي كونه من بني هاشم ، والعرب تقول : هذا من أنفسنا ، أي : من قبيلتنا . وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له . وهذه النزغة التي ذهب إليها هذا الحمصي من كون علي أفضل من الأنبياء عليهم السلام سوى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتلقفها بعض من ينتحل كلام الصوفية ، ووسع المجال فيها ، فزعم أن الولي أفضل من النبي ، ولم يقصر ذلك على وليّ واحد ، كما قصر ذلك الحمصي ، بل زعم : أن رتبة الولاية التي لا نبوة معها أفضل من رتبة النبوة . قال : لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، والنبي يأخذ عن الله بواسطة ومن أخذ بلا واسطة أفضل ممن أخذ بواسطة . وهذه المقالة مخالفة لمقالات أهل الإسلام . نعوذ بالله من ذلك ، ولا أحد أكذب ممن يدعي أن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، لقد يقشعرّ المؤمن من سماع هذا الافتراء وحكى لي من لا أتهمه عن بعض المنتمين ، إلى أنه من أهل الصلاح ، أنه رؤي في يده كتاب ينظر فيه ، فسئل عنه . فقال : فيه ما أخذته عن رسول الله ، وفيه ما أخذته عن الله شفاهاً ، أو شافهني به ، الشك من السامع . فانظر إلى جراءة هذا الكاذب على الله حيث ادعى مقام من كلمه الله : كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء
قيل : وفي هذه الآية ضروب من البلاغة : منها إسناد الفعل إلى غير فاعله ، وهو : ) إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ( والله لم يشافهه بذلك ، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة . والاستعارة في : ) مُتَوَفّيكَ ( وفي : ) فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( والتفصيل لما أجمل في : ) إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ ( بقوله : فأما ، وأمّا ، والزيادة لزيادة المعنى في ) مّن نَّاصِرِينَ ( أو : المثل في قوله ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى ). والتجوز بوضع المضارع موضع الماضي في قوله ) نَتْلُوهُ ( وفي ) فَيَكُونُ ( وبالجمع بين أداتي تشبيه على قول في ) كَمَثَلِ ءادَمَ ( وبالتجوز بتسمية الشيء باسم أصله في ) خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ). وخطاب العين ، والمراد به غيره ، في ) فَلاَ تَكُن مّنَ ). والعام يراد به الخاص في ) تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا ( الآية

" صفحة رقم 505 "
والتجوز بإقامة ابن العم مقام النفس على أشهر الأقوال ، والحذف في مواضع كثيرة .
2 ( ) إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِىإِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هاأَنتُمْ هَاؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَاذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ ( ) ) 2
آل عمران : ( 62 ) إن هذا لهو . . . . .
( إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ( هذا خبر من الله جزم مؤكد فصل به بين المختصمين ، والإشارة إلى القرآن على قول الجمهور ، والظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار عيسى ، وكونه مخلوقاً من غير أب ، قاله ابن عباس ، وابن جريج ، وابن زيد ، وغيرهم . أي : هذا هو الحق لا ما يدعيه النصارى فيه من كونه إلهاً أو ابن الله ، ولا ما تدعيه اليهود فيه ، وقيل : هذا إشارة إلى ما بعده من قوله ) وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ ( ويضعف بأن هذه الجملة ليست بقصص وبوجود حرف العطف في قوله : وما قال بعضهم إلاَّ إن أراد بالقصص الخبر ، فيصح على هذا ، ويكون التقدير : إن الخبر الحق أنه ما من إله إلاَّ الله . انتهى . لكن يمنع من هذا التقدير وجود واو العطف واللام في : لهو ، دخلت على الفصل . والقصص خبر إن ، والحق صفة له ، والقصص مصدر ، أو فعل بمعنى مفعول ، أي : المقصوص كالقبض ، بمعنى المقبوض ، ويجوز أن يكون : هو ، مبتدأ و : القصص ، خبره ، والجملة ، في موضع خبر إن ووصف القصص بالحق إشارة إلى القصص المكذوب الذي أتى به نصارى نجران ، وغيرهم ، في أمر عيسى وإلا هيته .
( وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ ( أي : المختص بالإلهية هو الله وحده ، وفيه ردّ على الثنوية والنصارى ، وكل من يدعي غير الله إلهاً .
و : من ، زائدة لاستغراق الجنس ، و : إله ، مبتدأ محذوف الخبر ، و : الله ، بدل منه على الموضع ، ولا يجوز البدل على اللفظ ، لأنه يلزم منه زيادة : من ، في الواجب ، ويجوز في العربية في نحو هذا التركيب نصب ما بعد : إلاَّ ، نحو ما من شجاع إلاَّ زيداً ، ولم يقرأ بالنصب في هذه الآية ، وإن كان جائزاً في العربية النصب على الاستثناء .
( وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( إشارة إلى وصفي الإلهية وهما : القدرة الناشئة عن الغلبة فلا يمتنع عليه شيء ، والعلم المعبر عنه بالحكمة فيما صنع والإتقان لما اخترع ، فلا يخفي عنه شيء . وهاتان الصفتان منفيتان عن عيسى .
ويجوز في : لهو ، من الإعراب ما جاز في : لهو القصص ، وتقديم ذكر فائدة الفصل .
( فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (
آل عمران : ( 63 ) فإن تولوا فإن . . . . .
قال مقاتل : فإن تولوا عن الملاعنة . وقال الزجاج : عن البيان الذي أبانه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقال أبو سليمان الدمشقي : عن الإقرار بالوحدانية والتنزيه عن الصاحبة والولد وقال المرسيّ : عن هذا الذكر وقيل : عن الإيمان .
و : تولوا ، ماضٍ أو مضارع حذفت تاؤه ، وجواب الشرط في الظاهر الجملة من قوله : ) فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( ، والمعنى : ما يترتب على علمه بالمفسدين من معاقبته لهم ، فعبر عن العقاب بالعلم الذي ينشأ عنه عقابهم ، ونبه على العلة التي

" صفحة رقم 506 "
توجب العقاب ، وهي الإفساد ، ولذلك أتى بالاسم الظاهر دون الضمير ، وأتى به جمعاً ليدل على العموم الشامل لهؤلاء الذين تولوا ولغيرهم ، ولكونه رأس آية ، ودل على أن توليهم إفساد أي إفساد .
آل عمران : ( 64 ) قل يا أهل . . . . .
( قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ( نزلت في وفد نجران ، قاله الحسن ، والسدي ، ومحمد بن جعفر بن الزبير قال ابن زيد : لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة ، دعوا إلى أيسر من ذلك ، وهي الكلمة السواء وقال ابن عباس : نزلت في القسيسين والرهبان ، بعث بها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى جعفر وأصحابه بالحبشة ، فقرأها جعفر ، والنجاشي جالس وأشراف الحبشة وقال قتادة ، والربيع ، وابن جريج : في يهود المدينة ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم . وقيل : نزلت في اليهود والنصارى ، قالوا : يا محمد ما تريد إلاَّ أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير ؟
ولفظ : يا أهل الكتاب ، يعم كل من أوتي كتاباً ، ولذلك دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) اليهود بالآية ، والأقرب حمله على النصارى لأن الدلالة وردت عليهم ، والمباهلة معهم ، وخاطبهم : بيا أهل الكتاب ، هزاً لهم في استماع ما يلقى إليهم ، وتنبيهاً على أن من كان أهل كتاب من الله ينبغي أن يتبع كتاب الله ، ولما قطعهم بالدلال الواضحة فلم يذعنوا ، ودعاهم إلى المباهلة فامتنعوا ، عدل إلى نوع من التلطف ، وهو : دعاؤهم إلى كلمة فيها إنصاف بينهم .
وقرأ أبو السمال : كلمة ، كضربة ، و : كلمة ، كسدرة ، وتقدّم هذا عند قوله : ) مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ ( والكلمة هي ما فسرت به بعد . وقال أبو العالية : ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ اللَّهُ ( ، وهذا تفسير المعنى .
وعبر بالكلمة عن الكلمات ، لأن الكلمة قد تطلقها العرب على الكلام ، وإلى هذا ذهب الزجاج ، إما لوضع المفرد موضع الجمع ، كما قال : بها جيفُ الحسرى ، فأما عظامها
فبيض ، وأما جلدها فصليب
وإما لكون الكلمات مرتبطة بعضها ببعض ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة إذا اختلّ جزء منها اختلت الكلمة ، لأن كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، هي كلمات لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في الله إلا بمجموعها .
وقرأ الجمهور : سواء ، بالجر على الصفة . وقرأ الحسن : سواء ، بالنصب ، وخرجه الحوفي والزمخشري على أنه مصدر . قال الزمخشري : بمعنى استوت استواء ، فيكون : سواء ، بمعنى استواء ، ويجوز أن ينتصب على الحال من : كلمة ، وإن كان نكرة

" صفحة رقم 507 "
ذو الحال ، وقد أجاز ذلك سيبويه وقاسه ، والحال والصفة متلاقيان من حيث المعنى ، والمصدر يحتاج إلى إضمار عامل ، وإلى تأويل : سواء ، بمعنى : استواء ، والأشهر استعمال : سواء ، بمعنى اسم الفاعل ، أي : مستو ، وقد تقدّم الكلام على سواء في أول سورة البقرة ، وقال قتادة ، والربيع ، والزجاج : هنا يعني بالسواء العدل ، وهو من : استوى الشيء ، وقال زهير : أروني خطة لا ضيم فيها
يسوي بيننا فيها السواء
والمعنى : إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم . وقال أبو عبيدة : تقول العرب : قد دعاك فلان إلى سواء فاقبل منه . وفي مصحف عبد الله : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم . وقال ابن عباس : أي كلمة مستوية ، أي مستقيمة . وقيل : إلى كلمة قصد . قال ابن عطية : والذي أقوله في لفظة : سواء ، أنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع ، وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون ، صغيرهم وكبيرهم ، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً ، فلم يكونوا على استواء حال ، فدعاهم بهذه الآية إلى ما يألف النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه ، فسواء على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مالً سواء بيني وبينه ، والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير لفظة : العدل ، أنك لو دعوت أسيراً عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه ، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل ، على هذا الحد جاءت لفظة : سواء ، في قوله تعالى ) فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء ( على بعض التأويلات ، وإن دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حرّاً مقاسماً لك . في عيشك لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو استواء الحال على ما فسرته واللفظة على كل تأويل فيها معنى العدل ، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال ، وهو عندي حسن ، لأن النفوس تألفه ، والله الموفق للصواب . انتهى كلامه ، وهو تكثير لا طائل تحته ، والظاهر انتصاب الظرف بسواء .
( أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ ( موضع : أن ، جر على البدل من : كلمة ، بدل شيء من شيء ، ويجوز أن في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هي أن لا نعبد إلاَّ الله . وجوّزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : سواء ، وارتفاع : أن لا نعبد ، على الابتداء والخبر قوله : بيننا

" صفحة رقم 508 "
وبينكم . قالوا : والجملة صفة للكلمة ، وهذا وهم لعرو الجملة من رابط يربطها بالموصوف ، وجوزوا أيضاً ارتفاع : أن لا نعبد ، بالظرف ، ولا يصح إلاَّ على مذهب الأخفش والكوفيين حيث أجازوا إعمال الظرف من غير اعتماد ، والبصريون يمنعون ذلك ، وجوز علي بن عيسى أن يكون التقدير : إلى كلمة مستو بيننا وبينكم فيها الامتناع من عبادة غير الله ، فعلى هذا يكون : أن لا نعبد ، في موضع رفع على الفاعل بسواء ، إلاَّ أن فيه إضمار الرابط ، وهو فيها ، وهو ضعيف .
والمعنى : أن نفرد الله وحده بالعبادة ولا نشرك به شيئاً ، أي : لا نجعل له شريكاً . وشيئاً يحتمل أن يكون مفعولاً به ، ويحتمل أن يكون مصدراً أي شيئاً من الإشراك ، والفعل في سياق النفي ، فيعم متعلقاته من مفعول به ومصدر وزمان ومكان وهيئة .
( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ ( أي لا نتخذهم أرباباً فنعتقد فيهم الإلهية ونعبدهم على ذلك : كعزير وعيسى ، قاله مقاتل ، والزجاج ، وعكرمة .
وقيل عنه : إنه سجود بعضهم لبعض أو لا نطيع الأساقفة والرؤساء فيما أمروا به من الكفر والمعاصي ونجعل طاعتهم شرعاً . قاله ابن جريج ، كقوله تعالى ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ( وعن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله . قال : ( أليس كانوا يحلون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم ) ؟ قال : نعم . قال : ( هو ذاك ) .
وفي قوله : بعضنا بعضاً ، إشارة لطيفة ، وهي أن البعضية تنافي الإلهية إذ هي تماثل في البشرية ، وما كان مثلك استحال أن يكون إلهاً ، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوّة في قولهم : ) إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا ( ) إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( ) أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ( فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا فيه أشد استبعاداً : وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى ، يؤكد بعضها بعضاً ، إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله ، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام ، لأنهم كانوا مبالغين في التمسك بعبادة غير الله ، فناسب ذلك التوكيد في انتفاء ذلك ، والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة : عبدوا عيسى ، وأشركوا بقولهم : ثالث ثلاثة واتخذوا أحبارهم أرباباً في الطاعة لهم في تحليلٍ وتحريمٍ وفي السجود لهم .
قال الطبري : في قوله : ) أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ ( أنزلوهم منزلة ربهم في قبول التحريم والتحليل لما لم يحرمه الله ، ولم يحله . وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، كتقديرات دون مستند ، والقول بوجوب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي ، كما ذهب إليه الرّوافض . انتهى . وفيه بعض اختصار .
( فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( أي : فإن تولوا عن الكلمة السواء فأشهدوهم أنكم منقادون إليها ، وهذا مبالغة في المباينة لهم ، أي : إذا كنتم متولين عن هذه الكلمة ، فإنا قابلون لها ومطيعون . وعبر عن العلم بالشهادة على سبيل المبالغة ، إذ خرج ذلك من حيز المعقول إلى حيز المشهود ، وهو المحضر في الحسّ . قال ابن عطية : هذا أمر بإعلام بمخالفتهم ومواجهتهم بذلك ، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف يكون . انتهى .
وقال الزمخشري : أي لزمتكم الحجة ، فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع ، أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب ، وسلم لي الغلبة ، ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره . انتهى .
وهذه الآية في الكتاب الذي وجه به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) دحية إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل .
( قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إِبْراهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ

" صفحة رقم 509 "
آل عمران : ( 65 ) يا أهل الكتاب . . . . .
عن ابن عباس وغيره . أن اليهود قالوا : كان إبراهيم يهودياً ، وأن النصارى قالوا : كان نصرانياً . فأنزلها الله منكراً عليهم . وقال ابن عباس ، والحسن : كان إبراهيم سأل الله أن يجعل له ) لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( فاستجاب الله دعاءه حتى ادعته كل فرقة .
و : ما ، في قوله : لمَ ، استفهامية حذفت ألفها مع حرف الجر ، ولذلك علة ذكرت في النحو ، وتتعلق : اللام بتحاجون ، ومعنى هذا الاستفهام الإنكار ، ومعنى : في إبراهيم ، في شرعه ودينه وما كان عليه ، ومعنى : المحاجة ، ادعاء من الطائفتين أنه منها وجدالهم في ذلك ، فرد الله عليهم ذلك بأن شريعة اليهود والنصارى متأخرة عن إبراهيم ، وهو متقدم عليهما ، ومحال أن ينسب المتقدم إلى المتأخر ، ولظهور فساد هذه الدعوى قال : ) أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( أي : هذا كلام من لا يعقل ، إذ العقل يمنع من ذلك . ولا يناسب أن يكون موافقاً لهم ، لا في العقائد ولا في الأحكام .
أمّا في العقائد فعبادتهم عيسى وادعاؤهم أنه الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة . وادعاء اليهود أن عزيراً ابن الله ، ولم يكونا موجودين في زمان إبراهيم .
وأما الأحكام فإن التوراة والإنجيل فيهما أحكام مخالفة للأحكام التي كانت عليها شريعة إبراهيم ، ومن ذلك قوله ) فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( وقوله : ) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ ( وغير ذلك فلا يمكن أن يكون إبراهيم على دين حدث بعده بأزمنة متطاوله .
ذكر المؤرخون أن بين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبينه وبين عيسى ألفان . وروي أبو صالح عن ابن عباس : أنه كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف سنة وستمائة واثنان وثلاثون سنة .
وقال ابن إسحاق : كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة سنة وخمس وعشرون .
والواو في : ) وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ ( لعطف جملة على جملة ، هكذا ذكروا . والذي يظهر أنها للحال كهي في قوله تعالى : ) لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ( وقوله ) لِمَ تَلْبِسُونَ ( ثم قال ) وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( وقوله : ) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( أنكر عليهم ادّعاء أن إبراهيم كان على شريعة اليهود أو النصارى ، والحال أن شريعتيهما متأخرتان عنه في الوجود ، فكيف يكون عليها مع تقدمه عليها ؟
وأمّا الحنيفية والإسلام فمن الأوصاف التي يختص بها كل ذي دين حق ، ولذلك قال تعالى : ) إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( إذ الحنيف هو المائل للحق ، والمسلم هو المستسلم للحق ، وقد أخبر القرآن بأن إبراهيم ) كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا ).
وفي قوله : ) أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( توبيخ على استحالة مقالتهم ، وتنبيه على ما يظهر به غلطهم ومكابرتهم .
آل عمران : ( 66 ) ها أنتم هؤلاء . . . . .
( هأَنتُمْ هَاؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ( الذي لهم به علم هو دينهم الذي وجدوه في كتبهم وثبت عندهم صحته ، والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم ودينه ، ليس موجوداً في كتبهم ، ولا أتتهم به أنبياؤهم ، ولا شاهدوه فيعلموه . قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وغيرهم . وهو الظاهر لما حف به من قبله ، ومن بعده من الحديث في إبراهيم ، ونسب هذا القول إلى الطبري ابن عطية ، وقال : ذهب عنه أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة ، لأنهم يجدونه عند محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) كما كان هنالك على حقيقته .
وقيل : الذي لهم به علم هو أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنهم وجدوا نعته في

" صفحة رقم 510 "
كتبهم ، فجادلوا بالباطل . والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم .
والظاهر في قوله : ) فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ ( إثبات العلم لهم . وقال ابن عطية : فيما لكم به علم على زعمكم ، وإنما المعنى : فيما يشبه دعواكم ، ويكون الدليل العقلي يرد عليكم . وقال قتادة أيضاً : حاججتم فيما شهدتم ورأيتم ، فلم تحاجون فيما لم تشاهدوا ولم تعلموا ؟ وقال الرازي : ) ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء ( الآية . أي : زعمتم أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن ، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ؟ وهو ادّعاؤهم أن شريعة إبراهيم مخالفة لشريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؟
ويحتمل أن يكون قوله ) لَكُم بِهِ عِلمٌ ( أي : تدعون علمه لا أنه وصفهم بالعلم حقيقة ، فكيف يحاجون فيما لا علم لهم به ألبتة .
وقرأ الكوفيون ، وابن عامر ، والبزي : ها أنتم ، بألف بعد الهاء بعدها همزة : أنتم ، محققة . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بهاء بعدها ألف بعدها همزة مسهلة بين بين ، وأبدل أناس هذه الهمزة ألفاً محضة لورش : ها ، للتنبيه لأنه يكثر وجودها مع المضمرات المرفوعة مفصولاً بينها وبين اسم الإشارة حيث لا استفهام ، وأصلها أن تباشر إسم الإشارة ، لكن اعتني بحرف التنبيه ، فقدم ، وذلك نحو قول العرب : ها أناذا قائماً ، و : ها أنت ذا تصنع كذا . و : ها هوذا قائماً . ولم ينبه المخاطب هنا على وجود ذاته ، بل نبه على حال غفل عنها لشغفه بما التبس به ، وتلك الحالة هي أنهم حاجوا فيما لا يعلمون ، ولم ترد به التوراة والإنجيل ، فتقول لهم : هب أنكم تحتجون فيما تدعون أن قد ورد به كتب الله المتقدمة ، فلم تحتجون فيما ليس كذلك ؟ وتكون الجملة خبرية وهو الأصل ، لأنه قد صدرت منهم المحاجة فيما يعلمون ، ولذاك أنكر عليهم بعد المحاجة فيما ليس لهم به علم ، وعلى هذا يكون : ها ، قد أعيدت مع اسم الإشارة توكيداً ، وتكون في قراءة قنبل قد حذف ألف : ها ، كما حذفها من وقف على : ) أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ ( يا أيه بالسكون وليس الحذف فيها يقوى في القياس . وقال أبو عمرو ابن العلاء ، وأبو الحسن الأخفش : الأصل في : ها أنتم . فأبدل من الهمزة الأولى التي للاستفهام هاء . لأنها أختها . واستحسنه النحاس . وإبدال الهمزة هاء مسموع في كلمات ولا ينقاس ، ولم يسمع ذلك في همزة الاستفهام ، لا يحفظ من كلامهم : هتضرب زيداً ، بمعنى : زيداً إلاَّ في بيت نادر جاءت فيه : ها ، بدل همزة الاستفهام ، وهو : وأتت صواحبها وقلن هذا الذي
منح المودّة غيرنا وجفانا
ثم فصل بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام ، وهمزة : أنت ، لا يناسب ، لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين ، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى : هاء ، ألا ترى أنهم حذفوا الهمزة في نحو : أريقه ، إذ أصله : أأريقه ؟ فلما أبدلوها هاء لم يحذفوا ، بل قالوا : أهريقه .
وقد وجهوا قراءة قنبل على أن : الهاء ، بدل من همزة الاستفهام لكونها هاء لا ألف بعدها ، وعلى هذا من أثبت الألف ، فيكون عنده فاصلة بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام ، وبين همزة : أنتم ، أجرى البدل في الفصل مجرى المبدل منه ، والاستفهام على هذا معناه التعجب من حماقتهم ، وأمّا من سهل فلأنها همزة بعد ألف على حد تسهيلهم إياها في : هيأه . وأمّا تحقيقها فهو الأصل ، وأمّا إبدالها ألفاً فقد تقدّم الكلام في ذلك في قوله ) أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ ).
و : أنتم ، مبتدأ ، و : هؤلاء . الخبر . و : حاججتم ، جملة حالية . كقول : ها أنت ذا قائماً . وهي من الأحوال التي ليست يستغنى عنها ، كقوله : ) ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء تَقْتُلُونَ ( على أحسن الوجوه في إعرابه .
وقال الزمخشري : أنتم ، مبتدأ ، و : هؤلاء ، خبره ، و : حاججتم ، جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى ، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقي ، وبيان حماقتكم ، وقلة عقولكم ، أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ، ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم ؟ انتهى .
وأجازوا أن يكون : هؤلاء ، بدلاً ، وعطف بيان ، والخبر : حاججتم ، وأجازوا أن يكون

" صفحة رقم 511 "
هؤلاء ، موصولاً بمعنى الذي ، وهو خبر المبتدأ ، أو : حاججتم ، صلته . وهذا على رأي الكوفيين . وأجازوا أيضاً أن يكون منادي أي : يا هؤلاء ، وحذف منه حرف النداء ، ولا يجوز حذف حرف النداء من المشار على مذهب البصريين ، ويجوز على مذهب الكوفيين ، وقد جاء في الشعر حذفه ، وهو قليل ، نحو قول رجل من طيء : إن أُلالى وصفوا قومي لهم فهم
هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً
وقال : لا يغرّنكم أولاء من القو
م جنوح للسلم فهو خداع
يريد : يا هذا اعتصم ، و : يا أولاء .
( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( أي : يعلم دين إبراهيم الذي حاججتم فيه ، وكيف حال الشرائع في الموافقة . والمخالفة ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، وهو تأكيد لما قبله من نفي العلم عنهم في شأن إبراهيم ، وفي قوله : والله يعلم ، استدعاء لهم أن يسمعوا ، كما تقول لمن تخبره بشيء لا يعلمه : إسمع فإني أعلم ما لا تعلم .
( مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (
آل عمران : ( 67 ) ما كان إبراهيم . . . . .
أعلم تعالى براءة إبراهيم من هذه الأديان ، وبدأ بانتفاء اليهودية ، لأن شريعة اليهود أقدم من شريعة النصارى ، وكرر ، لا ، لتأكيد النفي عن كل واحد من الدينين ، ثم استدرك ما كان عليه بقوله ) وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا ( ووقعت لكن هنا أحسن موقعها ، إذ هي واقعة بين النقضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل .
ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى ، كان الاستدارك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتهما ، ثم نفى على سبيل التكميل للتبري من سائر الأديان كونه من المشركين ، وهم : عبدة الأصنام ، كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم ، وكالمجوس عبدة النار ، وكالصابئة عبدة الكواكب ، ولم ينص على تفصيلهم ، لأن الإشراك يجمعهم .
وقيل : أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيراً والمسيح ، فتكون هذه الجملة توكيداً لما قبلها من قوله ) مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا ( وجاء : من المشركين ، ولم يجىء : وما كان مشركاً ، فيناسب النفي قبله ، لأنها رأس آية .
وقال ابن عطية : نفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان ؛ ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية . وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة ، نفي نفس الملل ، وقرر الحال الحسنة ، ثم نفي نفياً بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك ، وهذا كما تقول : ما أخذت لك مالاً ، بل حفظته . وما كنت سارقاً ، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ . انتهى كلامه .
وتلخص بما تقدم أن قوله . ) وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ثلاثة أقوال : أحدهما : أن المشركين عبدة الأصنام والنار والكواكب والثاني : أنهم اليهود والنصارى والثالث : عبدة الأوثان واليهود والنصارى .
وقال عبد الجبار : معنى ) مَا كَانَ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا ( لم يكن على الدين الذي يدين به هؤلاء المحاجون ، ولكن كان على جهة الدين الذي يدين به المسلمون . وليس المراد أن شريعة موسى وعيسى لم تكن صحيحة .
وقال علي بن عيسى : لا يوصف إبراهيم بأنه كان يهودياً ولا نصرانياً لأنهما صفتا دمّ لاختصاصهما بفرقتين ضالتين ، وهما طريقان محرّفان عن دين موسى وعيسى ، وكونه مسلماً لا يوجب أن يكون على شريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بل كان على جهة الإسلام .
والحنيف : اسم لمن يستقبل في صلاته الكعبة ، ويحج إليها ، ويضحي

" صفحة رقم 512 "
ويختتن . ثم سمي من كان على دين إبراهيم حنيفاً . انتهى .
وفي حديث زيد بن عمرو بن نفيل : أنه خرج إلى الشام يسأل عن الدين ، وأنه لقي عالماً من اليهود ، ثم عالماً من النصارى ، فقال له اليهودي : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله . وقال له النصراني : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله . فقال زيد : ما أفرّ إلاَّ من غضب الله ، ومن لعنته . فهل تدلاني على دين ليس فيه هذا ؟ قالا : ما نعلمه إلاَّ أن تكون حنيفاً . قال : وما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم ، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، وكان لا يعبد إلاَّ الله وحده ، فلم يزل رافعاً يديه إلى السماء . وقال : اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم .
وقال الرازي ما ملخصه : إن النفي إن كان في الأصول ، فتكون في الموافقة ليهود زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ونصاراه . لأنهم غيروا فقالوا : المسيح ابن الله ، وعزير ابن الله . لا في الأصول التي كان عليها اليهود والنصارى الذين كانوا على ما جاء به موسى وعيسى ، وجميع الأنبياء متوافقون في الأصول ، وإن كان في الفروع فلأن الله نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى وعيسى ، وأما موافقته لشريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فإن كان في الأصول فظاهر ، وإن كان في الفروع فتكون الموافقة في الأكثر ، وإن خالف في الأقل فلم يقدح في الموافقة .
( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَاذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنُونَ (
آل عمران : ( 68 ) إن أولى الناس . . . . .
قال ابن عباس : قالت رؤساء اليهود : والله يا محمد ، لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك ، وإنه كان يهودياً ، وما بك إلاَّ الحسد . فنزلت .
وروي حديث طويل في اجتماع جعفر وأصحابه ، وعمرو بن العاص ، وأصحابه . بالنجاشي ، وفيه : أن النجاشي قال : لا دهورة اليوم على حزب إبراهيم . أي : لا خوف ولا تبعة ، فقال عمرو : من حزب إبراهيم ؟ فقال النجاشي : هؤلاء الرهط وصاحبهم ، يعني : جعفراً وأصحابه . ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( لكل نبي ولاة من النبيين ، وإن وليي منهم أبي ، وخليل ربي إبراهيم ) . ثم قرأ هذه الآية . ومعنى : أولى الناس : أخصهم به وأقربهم منه من الولي ، وهو القرب . والذين اتبعوه يشمل كل من اتبعه في زمانه وغير زمانه ، فيدخل فيه متبعوه في زمان الفترات . وعنى بالأتباع أتباعه في شريعته .
وقال عليّ بن عيسى : أحقهم بنصرته أي : بالمعونة وبالحجة ، فمن تبعه في زمانه نصره بمعونته على مخالفته . ومحمد والمؤمنون نصروه بالحجة له أنه كان محقاً سالماً من المطاعن ، وهذا النبي : يعني به محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وخص بالذكر من سائر من اتبعه لتخصيصه بالشرف والفضيلة ، كقوله ) وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ).
) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( قيل : آمنوا من أمّة محمد ، وخصوا أيضاً بالذكر تشريفاً لهم ، إذ هم أفضل الأتباع للرسل ، كما أن رسولهم أفضل الرسل . وقيل : المؤمنون في كل زمان وعطف ) وَهَاذَا النَّبِىُّ ( على خبر إن ، ومن أعرب ) وَهَاذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ ( مبتدأ والخبر : هم المتبعون له ، فقد تكلف إضماراً لا ضرورة تدعو إليه .
وقرىء : وهذا النبيّ ، بالنصب عطفاً على : الهاء ، في اتبعوه ، فيكون متبعاً لا متبعاً : أي : أحق الناس بإبراهيم من اتبعه ، ومحمداً صلى الله عليهما وسلم ، ويكون : والذين آمنوا ، عطفاً على خبر : إن ، فهو في موضع رفع .
وقرىء : وهذا النبي ، بالجر ، ووجه على أنه عطف على : إبراهيم ، أي : إن أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي للذين اتبعوا إبراهيم . و : النبي ، قالوا : بدل من هذا ، أو : نعت ، أو : عطف بيان . ونبه على الوصف الذي يكون به الله ولياً لعباده ، وهو : الإيمان . فقال : وليّ المؤمنين ، ولم يقل : وليهم . وهذا وعد لهم بالنصر في الدنيا ، وبالفوز في الآخرة . وهذا كما قال تعالى : ) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ).
قيل : وجمعت هذه الآيات من البلاغة :

" صفحة رقم 513 "
التنبيه والإشارة والجمع بين حرفي التأكيد ، وبالفصل في قوله : ) إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ( وفي : ) وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ( والإختصاص في : ) عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( وفي : ) وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ ( والتجوز بإطلاق اسم الواحد على الجمع في : ) إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء ( وباطلاق اسم الجنس على نوعه في : ) مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( إذا فسر باليهود . والتكرار في : إلا الله ، و : إنّ الله ، وفي : يا أهل الكتاب تعالوا ، يا أهل الكتاب لم . وفي : إبراهيم ، و : ما كان إبراهيم ، و : إن أولى الناس بإبراهيم . والتشبيه في : أرباباً ، لما أطاعوهم في التحليل والتحريم ، وأذعنوا إليهم أطلقب عليه : أرباباً تشبيهاً بالرب المستحق للعبادة والربوبية ، والإجمال في الخطاب في : يا أهل الكتاب ، تعالوا يا أهل الكتاب ، لم تحاجون ، كقول إبراهيم : يا أبت . وكقول الشاعر : مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفوناً
وقول الآخر : بني عمنا لا تنبشوا الشر بيننا
فكم من رماد صار منه لهيب والتجنيس المماثل في : أولى وولي
.
2 ( ) وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ) ) 2
آل عمران : ( 69 ) ودت طائفة من . . . . .
( وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ( أجمع المفسرون على أنها نزلت في : معاذ ، وحذيفة ، وعمار . دعاهم يهود : بني النضير ، وقريظة ، وقينقاع ، إلى دينهم . وقيل : دعاهم جماعة من أهل نجران ومن يهود وقال ابن عباس : هم اليهود ، قالوا لمعاذ وعمار تركتما دينكما واتبعتما دين محمد ، فنزلت . وقيل : عيرتهم اليهود بوقعة أحد .
وقال أبو مسلم الأصبهاني : ودّ بمعنى : تمنى ، فتستعمل معها : لو ، و : أن ، وربما جمع بينهما ، فيقال : وددت أن لو فعل ، ومصدره : الودادة ، والأسم منه : وُدّ ، وقد يتداخلان في المصدر والأسم . قال الراغب : إذا كان : ودّ ، بمعنى أحبّ لا يجوز إدخال : لوغ فيه أبداً . وقال عليّ بن عيسى : إذا كان : ودّ ، بمعنى : تمنى ، صلح للماضي والحال والمستقبل ، وإذا كان بمعنى المحبة والإرادة لم يصلح للماضي لأن الإرادة كاستدعاء الفعل . وإذا كان للحال والمستقبل جاز : أن ولو ، وإذا كان للماضي لم يجز : أن ، لأن : أن ، للمستقبل . وما قال فيه نظر ، ألا ترى أن : أن ، توصل بالفعل الماضي نحو : سرّني أن قمت ؟ .
( مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( في موضع الصفة لطائفة ، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم . وقال ابن عطية : ويحتمل : من ، أن تكون لبيان الجنس ، وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب ، وما قاله يبعد من دلالة اللفظ ، ولو ، هنا قالوا بمعنى : أن فتكون مصدرية ، ولا يقول بذلك جمهور البصريين ، والأولى إقرارها على وضعها . ومفعول : ودّ ، محذوف ، وجواب : لو ، محذوف ، حذف من كلَ من الجملتين ما يدل المعنى عليه ، التقدير : ودّوا إضلالكم لو يضلونكم لسرّوا بذلك ، وقد تقدم لنا الكلام في نظير هذا مشبعاً في قوله : ) يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ( فيطالع هناك .
ومعنى : يضلونكم ، يردّونكم إلى كفركم ، قاله ابن عباس . وقيل : يهلكونكم ، قاله ابن جرير ، والدمشقي . قال ابن عطية : واستدل يعني ابن جرير الطبري ببيت جرير

" صفحة رقم 514 "
كنت القذى في موج أخضر مزيد
قذف الأتىّ به فضلّ ضلالا
وبقول النابغة : فآب مضلُّوه بعين جلية
وغودر بالجولان حزم ونائل
وهو تفسير غير مخلص ولا خاص باللفظة ، وإنما اطرد له ، لأن هذا الضلال في الآية في البيتين اقترن به هلاك ، وأمّا أن يفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم . إنتهى .
وقال غير ابن عطية أضلّ الضلال في اللغة الهلاك من قولهم : ضل اللبن في الماء ، إذا صار مستهلكاً فيه . وقيل : معناه يوقعونكم في الضلال ، ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم ، قاله أبو علي .
( وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ ( إن كان معناه الإهلاك فالمعنى أنهم يهلكون أنفسهم وأشياعهم ، لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله وغضبه ، وإن كان المعنى الإخراج عن الدين فذلك حاصل لهم بجحد نبوّة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتغيير صفته صاروا بذلك كفاراً ، وخرجوا عن ملة موسى وعيسى . وإن كان المعنى الإيقاع في الضلال ، فذلك حاصل لهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج وإنزال الكتب وإرسال الرسل .
وقال ابن عطية : إعلام أن سوء فعلهم عائد عليهم ، وأنه يبعدهم عن الإسلام . وقال الزمخشري : وما يعود وبال الضلال إلاَّ عليهم ، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم ، أو : وما يقدرون على إضلال المسلمين ، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم . إنتهى .
( وَمَا يَشْعُرُونَ ( إن ذلك الضلال هو مختص بهم أي : لا يفطنون لذلك لما دق أمره وخفي عليهم لما اعترى قلوبهم من القساوة ، فهم لا يعلمون أنهم يضلون أنفسهم . ودل ذلك على أن من أخطأ الحق جاهلاً كان ضالاً ، أو ) وَمَا يَشْعُرُونَ ( أنهم لا يصلون إلى إضلالكم ، أو : لا يفطنون بصحة الإسلام ، وواجب عليهم أن يعلموا لظهور البراهين والحجج ، ذكره القرطبي . أو : ما يشعرون أن الله يدل المسلمين على حالهم ، ويطلعهم على مكرهم وضلالتهم ، ذكره ابن الجوزي .
وفي قوله : ما يشعرون ، مبالغة في ذمهم حيث فقدوا المنفعة بحواسهم .
آل عمران : ( 70 ) يا أهل الكتاب . . . . .
( ياأَهْلَ ِ الْكِتَابِ لَمَن تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ ( قال ابن عباس : هي التوراة والإنجيل من وصف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والإيمان به ، كما بين في قوله : ) يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ( قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وابن جريح . أو : القرآن من جهة قولهم : ) إِنَّمَا يُعَلّمُهُ ( ) كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ ( ) أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( والآيات التي أظهرها على يديه من : انشقاق القمر ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وغير ذكل . أو : محمد والإسلام ، قاله قتادة ، أو : ما تلاه من أسرار كتبهم وغريب أخبارهم ، قاله ابن بحر أو : كتب الله ، أو : الآيات التي يبين لهم فيها صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وصحة نبوّته ، وأمروا فيها باتباعه ، قاله أبو علي .
( وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ( جملة حالية أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون أنها آيات الله ، ومتعلق الشهادة محذوف ، يقدّر على حسب تفسير الآيات ، فيقدّر بما يناسب ما فسرت

" صفحة رقم 515 "
به ، فلذلك قال قتادة ، والسدي ، والربيع : وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة .
وقيل : تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها ، وقيل : بما عليكم فيه من الحجة . وقيل : إن كتبكم حق ، ولا تتبعون ما أنزل فيها . وقيل : بصحتها إذا خلوتم .
فيكون : تشهدون ، بمعنى : تقرون وتعترفون . وقال الراغب : أو عنى ما يكون من شهادتهم ) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ).
وقيل : تكفرون بآيات الله : تنكرون كون القرآن معجزاً ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم أنه معجز .
( ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (
آل عمران : ( 71 ) يا أهل الكتاب . . . . .
تقدّم تفسير مثل هذا في قوله : ) وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ( وفسر : اللبس ، بالخلط والتغطية ، وتكلم المفسرون هنا ، ففسروا الحق بما يجدونه في كتبهم من صفة الرسول ، والباطل الذي يكتبونه بأيديهم ويحرفونه : قال معناه الحسن ، وابن زيد .
وقيل : إظهار الإسلام وإبطال اليهودية والنصرانية ، قال قتادة ، وابن جرير والثعلبي . وقيل : الإيمان بموسى وعيسى ، والكفر بالرسول . وقال أبو علي : يتأولون الآيات التي فيها الدلالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) على خلاف تأويلها ، ليظهر منها للعوامّ خلاف ما هي عليه ، وأنتم تعلمون بطلان ما تقولون .
وقيل : هو ما ذكره تعالى بعد ذلك من قوله : ) بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى ( وقيل : إقرارهم ببعض أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والباطل : كتمانهم لبعض أمره ، وهذان القولان عن ابن عباس . وقيل : إقرارهم بنبوته ورسالته ، والباطل قول أحبارهم : ليس رسولاً ألينا ، بل شريعتنا مؤبدة .
وقرأ يحيى بن وثاب : تلبسون ، بفتح الباء مضارع : لبس ، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه ، والباء في : بالباطل ، للحال أي : مصحوباً بالباطل .
وقرأ أبو مجلز : تلبسون ، بضم التاء وكسر الباء المشدّدة ، والتشديد هنا للتكثير ، كقولهم : جرّحت وقتلت ، وأجاز الفراء ، والزجاج في : ويكتمون ، النصب ، فتسقط النون من حيث العربية على قولك : لم تجمعون ذاوذاً ؟ فيكون نصباً على الصرف في قول الكوفيين ، وبإضمار : أن ، في قول البصريين . وأنكر ذلك أبو علي ، وقال : الإستفهام وقع على اللبس فحسب .
وأما : يكتمون ، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاَّ الرفع بمعنى أنه ليس معطوف على : تلبسون ، بل هو استئناف ، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق ، وقال ابن عطية : قال أبو علي : الصرف ها هنا يقبح ، وكذلك إضمار : أن ، لأن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، وبمنزلة ، قولك : أتقوم فأقوم ؟ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب ، إلاَّ في ضرورة شعر ، كما روي :
والحق بالحجاز فاستريحا
وقد قال سيبويه : في قولك : أسرت حتى تدخلها ، الا يجوز إلاَّ النصب ، في : تدخل ، لأن السير مستفهم عنه غير موجب . وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلها ، رفعت ، لأن السير موجب ، والاستفهام إنما وقع عن غيره . إنتهى ما نقله ابن عطية عن أبي علي .
والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله ، لأن ما قبله فيه : أن الأستفهام وقع على اللبس فحسب ، وأما : يكتمون ، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاّ الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطف على

" صفحة رقم 516 "
اشتراكهما في الإستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون : ويكتمون ، إخباراً محضاً لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه ، تبعه في ذلك ابن مالك . فقال في ( التسهيل ) حين عد ما يضمر : أن ، لزوماً في الجواب ، فقال : أو لإستفهام لا يتضمن وقوع الفعل ، فإن تضمن وقع الفعل لم يجز النصب عنده ، نحو : لم ضربت زيداً ، فيجازيك ؟ لأن الضرب قد وقع ولم نر أحداً من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي ، وتبعه فيه ابن مالك في الاستفهام ، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله ، إما لكونه ليس ثم فعل ، ولا ما في معناه ينسبك منه ، وإما لإستحالة سبك مصدر مراد استقباله لأجل مضي الفعل ، فإنما يقدر فيه مصدر استقباله مما يدل عليه المعنى ، فإذا قال : لم ضربت زيداً فأضربك . أي : ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا ، وما ردّ به أبو عليّ على أبي إسحاق ليس بمتجه . لأن قوله : ) لِمَ تَلْبِسُونَ ( ليس نصاً على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة ، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره ، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله . ولو فرضنا أنه ماض حقيقة ، فلا ردّ فيه على أبي إسحاق ، لأنه كما قررنا قبل : إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة ، سبكناه من لازم الجملة .
وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع ، نحو : أين ذهب زيد فنتبعه ؟ وكذلك في : كم مالك فنعرفه ؟ و : من أبوك فنكرمه ؟ لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير : ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا . و : ليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا . و : ليكن منك إعلام بأبيك فاكرام منا له .
وقرأ عبيد بن عمير : لم تلبسوا ، وتكتموا ، بحذف النون فيهما ، قالوا : وذلك جزم ، قالوا : ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق : لِمَ بلم في عمل الجزم . وقال السجاوندي : ولا وجه له إلاَّ أن : لم ، تجزم الفعل عند قوم كلم . إنتهى . والثابت في لسان العرب أن : لَم ، لا ينجزم ما بعدها ، ولم أر أحداً من النحويين ذكر أن لِمَ تجري مجرى : لَمُ في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا ، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع ، وقد جاء ذلك في النثر قليلاً جداً ، وذلك في قراءة أبي عمر ، ومن بعض طرقه قالوا : ساحران تظاهران ، تتشديد الطاء ، أي أنتما ساحران تتظاهرن فأدغم التاء في الظاء وحذف النون ، وأما في النظم ، فنحو : قول الراجز :
أبيت أسرى وتبيتي تدلكي
يريد : وتبيتين تدلكين . وقال : فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو
ستحتلبوها لاقحاً غير باهل
والظاهر أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل ، وكتم الحق ، وكأن الحق منقسم إلى قسمين : قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز ، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر .
( وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( جملة حالية تنعي عليهم ما التبسوا به من لبس الحق بالباطل وكتمانه ، أي : لا يناسب من علم الحق أن يكتمه ، ولا أن يخلطه بالباطل ، والسؤال عن السبب سؤال عن المسبب ، فإذا أنكر السبب فبالأولى أن ينكر المسبب ، وختمت الآية قبل هذه بقوله : ) وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ( وهذه بقوله : ) وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر بآيات الله ، وهي أخص من الحق ، لأن آيات الله بعض الحق ، والشهادة أخص من العلم ، فناسب الأخص الأخص ، وهنا الحق أعم من الآيات وغيرها ، والعلم أعم من الشهادة ، فناسب الأعم الأعم . وقالوا في

" صفحة رقم 517 "
قوله : ) وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( أي : أنه نبي حق ، وأن جاء به من عند الله حق . وقيل : قال : ) وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ليتبين لهم الأمر الذي يصح به التكليف ، ويقوم عليهم به الحجة . وقيل : ) وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( الحق بما عرفتموه من كتبكم وما سمعتموه من ألسنة أنبيائكم .
وفي هذه الآيات أنواع من البديع . الطباق في قوله : الحق بالباطل ، والطباق المعنوي في قوله : لم تكفرون وأنتم تشهدون ، لأن الشهادة إقرار وإظهار ، والكفر ستر . والتجنيس المماثل في : يضلونك وما يضلون والتكرار في : أهل الكتاب والحذف في مواضع قد بينت .
2 ( ) وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءَامِنُواْ بِالَّذِيأُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ) ) 2
) وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (
آل عمران : ( 72 ) وقالت طائفة من . . . . .
قال الحسن ، والسدي : تواطأ اثنا عشر حبراً من يهود خيبر وقرى عرينة ، وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الإعتقاد ، واكفروا به في آخر النهار ، وقولوا إنا نظرنا في كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمداً ليس كذلك ، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه ، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم ، وقالوا : هم أهل الكتاب فهم أعلم منا ، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم ، فنزلت .
وقال مجاهد ، ومقاتل ، والكلبي : هذا في شأن القبلة ، لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود ، فقال كعب بن الأشرف وأصحابه : صلوا إليها أول النهار ، وارجعوا إلى كعبتكم الصخرة آخره ، فنزلت .
وقال ابن عباس ، ومجاهد : صلوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) صلاة الصبح ، ثم ارجعوا آخر النهار فصلوا صلاتها ليرى الناس أنه قد بدت لهم منه ضلالة بعد أن كانوا اتبعوه ، فنزلت .
وقال السدي : قالت اليهود لسفلتهم : آمنوا بمحمد أول النهار ، فإذا كان بالعشي قولوا : قد عرفنا علماؤنا أنكم لستم على شيء ، فنزلت .
وحكى ابن عطية ، عن الحسن : أن يهود خيبر قالت ذلك ليهود المدينة . انتهى . جعلت اليهود هذا سبباً إلى خديعة المسلمين .
والمقول لهم محذوف ، فيحتمل أن يكون بعض هذه الطائفة لبعض ، ويحتمل أن يكون المقول لهم ليسوا من هذه الطائفة ، والمراد : بآمنوا ، أظهروا الإيمان ، ولا يمكن أن يراد به التصديق ، وفي قوله : ) بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ ( حذف أي : على زعمهم ، وإلاَّ فهم يكذبون ، ولا يصدقون أن الله أنزل شيئاً على المؤمنين .
وانتصب : وجه النهار ، على الظرف ومعناه : أول النهار ، شبه بوجه الإنسان إذ هو أول ما يواجه منه .
وقال الربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير بن خزيمة العبسي : من كان مسروراً بمقتل مالك
فليأت نسوتنا بوجه نهار
والضمير في : آخره ، عائد على النهار ، أي : آخر النهار .
والناصب للظرف الأول : آمنوا ، وللآخر : اكفروا . وقيل : الناصب لقوله : وجه النهار ، أنزل . أي : بالذي أنزل على الذين آمنوا في أول النهار ، والضمير في : آخره ، يعود على الذي

" صفحة رقم 518 "
أنزل ، أي : واكفروا آخر المنزل ، وهذا فيه بعد ومخالفة لأسباب النزول ، ومتعلق الرجوع محذوف أي : يرجعون عن دينهم .
وظاهر الآية الدلالة على هذا القول ، وأما امتثال الأمر ممن أمر به فسكوت عن وقوعه ، وأسباب النزول تدل على وقوعه ، وهذا القول طمعوا أن ينخدع العرب به ، أو يقول قائلهم : هؤلاء أهل الكتاب القديم وجودة النظر والإطلاع ، دخلوا في هذا الأمر ورجعوا عنه ، وفيه تثبيت أيضاً لضعفائهم على دينهم .
آل عمران : ( 73 ) ولا تؤمنوا إلا . . . . .
( وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( اللام في : لمن ، قيل : زائدة للتأكيد ، كقوله ) عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم ( أي ردفكم ، وقال الشاعر : ما كنت أخدع للخليل بخلة
حتى يكون لي الخليل خدوعاً
أراد : ما كنت أخدع الخليل ، والأجود أن لا تكون : اللام ، زائدة بل ضمن ، آمن معنى : أقر واعترف ، فعدى باللام . وقال أبو علي : وقد تعدّى آمن باللام في قوله ) فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرّيَّةٌ ( ) وَءامَنتُمْ لَهُ ( ) وَيُؤْمِن بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ( انتهى . والأجود ما ذكرناه من جملة قول طائفة اليهود ، لأنه معطوف على كلامهم ، ولذلك قال ابن عطية : لا خلاف بين أهل التأويل أن هذا القول من كلام الطائفة . انتهى . وليس كذلك ، بل من المفسرين من ذهب إلى أن ذلك من كلام الله ، يثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم ، فأما إذا كان من كلام طائفة اليهود ، فالظاهر أنه انقطع كلامهم إذ لا خلاف ، ولا شك أن قوله : ) قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ( من كلام الله مخاطباً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وما بعده يظهر أنه من كلام الله ، وأنه من جملة قوله لنبيه وأن يؤتى مفعول من أجله ، وتقدير الكلام : قل يا محمد لأولئك اليهود الذين قالوا : إن الهدى هدى الله ، لا ما رمتم من الخداع بتلك المقالة ، وذاك الفعل ، لمخافة ) أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ ( قلتم ذلك القول ودبرتم تلك المكيدة ، أي : فعلتم ذلك حسداً وخوفاً من أن تذهب رئاستكم ، ويشارككم أحد فيما أوتيتم من فضل العلم ، أو يحاجوكم عند ربكم ، أي : يقيمون الحجة عليكم عند الله إذ كتابكم طافح ، بنبوّة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وملزم لكم أن تؤمنوا به وتتبعوه ، ويؤيد هذا المعنى قوله : ) قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( إلى آخره ، ويؤيد هذا المعنى أيضاً قراءة ابن كثير أن يؤتي على الاستفهام الذي معناه الإنكار عليهم والتقرير والتوبيخ والاستفهام الذي معناه الإنكار هو مثبت من حيث المعنى ، أي ألمخافة أن يؤتى أحد . مثل ما أوتيتم ؟ أو يحاجوكم عند ربكم قلتم ذلك وفعلتموه ؟ ويكون : أو يحاجوكم ، معطوفاً على : يؤتى ، وأو : للتنويع ، وأجازوا أن يكون : هدى الله ، بدلاً من : الهدى . لا خبراً لأن . والخبر قوله : ) أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ( أي أن هدى الله إيتاء أحد مثل ما أوتيتم من العلم ، ويكون : أو يحاجوكم ، منصوباً بإضمار : أن ، بعد أو بمعنى : حتى ، أي : حتى يحاجوكم عند ربكم فيغلبوكم ويدحضوا حجتكم عند الله ، لأنكم تعلمون صحة دين الإسلام ، وأنه يلزمكم اتباع هذا النبي ، ولا يكون : أو يحاجوكم ، معطوفاً على :

" صفحة رقم 519 "
يؤتى ، وداخلاً في خبر إن ، و : أحد ، في هذين القولين ليس الذي يأتي في العموم مختصاً به ، لأن ذلك شرطه أن يكون في نفي ، أو في خبر نفي ، بل : أحد ، هنا بمعنى : واحد ، وهو مفرد ، إذ عنى به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإنما جمع الضمير في : يحاجوكم ، لأنه عائد على الرسول وأتباعه ، لأن الرسالة تدل على الأتباع . وقال بعض النحويين : إن ، هنا للنفي بمعنى : لا ، التقدير : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ونقل ذلك أيضاً عن الفراء ، وتكون : أو ، بمعنى إلاَّ ، والمعنى إذ ذاك : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ أن يحاجوكم ، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم ومحاجتكم عند ربكم ، لأن من آتاه الله الوحي لا بد أن يحاجهم عند ربهم في كونهم لا يتبعونه ، فقوله : أو يحاجوكم ، حال من جهة المعنى لازمة ، إذ لا يوحي الله إلى رسول إلاَّ وهو محاج مخالفيه . وفي هذا القول يكون ، أحد ، هو الذي للعموم . لتقدّم النفي عليه ، وجمع الضمير في : يحاجوكم ، حملاً على معنى : أحد ، كقوله تعالى ) فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( جمع حاجزين حملاً على معنى : أحد ، لا على لفظه ، إذ لو حمل على لفظه لأفرد .
لكن في هذا القول القول بأن : أن ، المفتوحة تأتي للنفي بمعنى لا ، ولم يقم على ذلك دليل من كلام العرب . والخطاب في : أو يتتم ، وفي : يحاجوكم ، على هذه الأقوال الثلاثة للطائفة السابقة ، القائلة : ) بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى ( وأجاز بعض النحويين أن يكون المعنى : أن لا يؤتى أحد ، وحذفت : لا ، لأن في الكلام دليلاً على الحذف . قال كقوله : ) يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( أي : لا تضلوا . وردّ ذلك أبو العباس ، وقال : لا تحذف : لا ، وإنما المعنى : كراهة أن تضلوا ، وكذلك هنا : كراهة أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم ، أي : ممن خالف دين الإسلام ، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين .
والخطاب في : أوتيتم ، و : يحاجوكم ، لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فعلى هذا : أن يؤتى مفعول من أجله على حذف كراهة ، ويحتاج إلى تقديره عامل فيه ، ويصعب تقديره ، إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها بكراهة الإيتاء المذكور .
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله : أن يؤتى ، بدلا من قوله : هدى الله ، ويكون المعنى : قل إن الهدى هدى الله وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن . ويكون قوله : أو يحاجوكم ، بمعنى : أو فليحاجوكم ، فإنهم يغلبونكم . انتهى هذا القول . وفيه الجزم بلام الأمر وهي محذوفة ولا يجوز ذلك على مذهب البصريين إلاَّ في الضرورة .
وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب : أن يؤتى ، بفعل مضمر يدل عليه قوله ) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( كأنه قيل : ) قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ( فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا . انتهى كلامه . وهو بعيد ، لأن فيه حذف حرف النهي ومعموله ، ولم يحفظ ذلك من لسانهم . وأجازوا أن يكون قوله ) أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ ( ليس داخلاً تحت قوله : قل ، بل هو من تمام قول الطائفة ، متصل بقوله : ) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( ويكون قوله : ) هَلْ أُنَبّئُكُمْ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ( جملة اعتراضية بين ما قبلها وما بعدها .
ويحتمل هذا القول وجوها :
أحدهما : أن يكون المعنى : ولا تصدّقوا تصديقاً صحيحاً وتؤمنوا إلاَّ لمن جاء بمثل دينكم ، مخافة أن يؤتى أحد من النبوّة والكرامة مثل ما أوتيتم ، ومخافة أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم يستمروا عليه ، وهذا القول ، على هذا المعنى ، ثمرة الحسد والكفر مع المعرفة بصحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الثاني : أن يكون التقدير : أن لا يؤتى ، فحذفت : لا ، لدلالة الكلام ، ويكون ذلك منتفياً داخلاً في حيز : إلاَّ ، لا مقدراً دخوله قبلها ، والمعنى : ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلاَّ لمن تبع دينكم ، بانتفاء أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وانتفاء أن يحاجوكم عند ربكم أي : إلاَّ بانتفاء كذا .
الثالث : أن يكون التقدير : بأن يؤتى ، ويكون متعلقاً بتؤمنوا ، ولا يكون داخلاً في حيز إلاَّ ، والمعنى : ولا تؤمنوا بأن

" صفحة رقم 520 "
يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ لمن تبع دينكم ، وجاء بمثله ، وعاضداً له ، فإن ذلك لا يؤتاه غيركم . ويكون معنى : ) أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ ( بمعنى : إلاَّ أن يحاجوكم ، كما تقول : أنا لا أتركك أو تقضيني حقي ، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، على اعتقاد أن النبوّة لا تكون إلاَّ في بني إسرائيل .
الرابع : أن يكون المعنى : لا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوّته إذ قد علمتم صحتها إلاَّ لليهود الذين هم منكم ، و ) أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ( صفة لحال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فالمعنى : تستروا بإقراركم أن قد أوتي أحد مثل أوتيتم ، أو فإنهم يعنون العرب ، يحاجونكم بالإقراب عند ربكم . وقال الزمخشري في هذا الوجه ، وبدأ به ما نصه : ولا تؤمنوا ، متعلق بقوله : أن يؤتى أحد ، و : ما بينهما اعتراض ، أي : ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ لأهل دينكم دون غيرهم ، أرادوا : أسِرُّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا لأشياعكم وحدهم دون المسلمين ، لئلا يزتدهم ثباتاً ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام : ) أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ ( عطف على ) أَن يُؤْتَى ( والضمير في : يحاجوكم ، لأحدَ لأنه في معنى الجميع بمعنى : ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ، ويغالبونكم عند الله بالحجة . انتهى كلامه .
وأما : أحد ، على هذه الأقوال فإن كان الذي للعموم ، وكان ما قبله مقدراً بالنفي ، كقول بعضهم إن المعنى : لا يؤتى ، أو : إن المعنى : أن لا يؤتى أحد ، فهو جار على المألوف في لسان العرب من أنه لا يأتي إلاَّ في النفي أو ما أشبه النفي : كالنهي ، وإن كان الفعل مثبتاً يدخل هنا لأنه تقدم النفي في أول الكلام ، كما دخلت من في قوله : ) أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ ( للنفي قبله في قوله : ) مَّا يَوَدُّ ).
ومعنى الاعتراض على هذه الأوجه أنه أخبر تعالى بأن ما راموا من الكيد والخداع بقولهم : ) بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى ( الآية ، لا يجدي شيئاً ، ولا يصدّ عن الإيمان من أراد الله إيمانه ، لأن الهدى هو هدى الله ، فليس لأحد أن يحصله لأحد ، ولا أن ينفيه عن أحد .
وقرأ ابن كثير : أن يؤتى أحد ؟ بالمدّ على الاستفهام ، وخرجه أبو عليّ على أنه من قول الطائفة ، ولا يمكن أن يحمل على ما قبله من الفعل ، لأن الإستفهام قاطع ، فيكون في موضع رفع على الإبتداء وخبره محذوف تقديره تصدّقون به ، أو تعترفون ، أو تذكرونه لغيركم ، ونحوه مما يدل عليه الكلام . و : يحاجوكم ، معطوف على : أن يؤتى .
قال أبو علي : ويجوز أن يكون موضع : أن ، نصباً ، فيكون المعنى : أتشيعون ، أو : أتذكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ؟ ويكون بمعنى : أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ؟ فعلى كلا الوجهين معنى الآية توبيخ من الأحبار للاتباع على تصديقهم بأن محمداً نبي مبعوث ، ويكون : أو يحاجوكم ، في تأويل نصب أن بمعنى : أو تريدون أن يحاجوكم ؟ .
قال أبو عليّ وأحد ، على قراءة ابن كثير هو الذي لا يدل على الكثرة ، وقد منع الإستفهام القاطع من أن يشيع لامتناع دخوله في النفي الذي في أول الكلام ، فلم يبق إلاَّ أنه : أحد ، الذي في قولك : أحد وعشرون ، وهو يقع في الإيجاب ، لأنه في معنى : واحد ، وجمع ضميره في قوله : أو يحاجوكم ، حملاً على المعنى ، إذ : لأحد ، المراد بمثل النبوّة أتباع فهو في المعنى للكثرة قال أبو عليّ : وهذا موضع ينبغى أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير ، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن يدل على الكثرة . انتهى تخريج أبي علي لقراءة ابن كثير ، وقد تقدم تخريج قراءته على أن يكون قوله : أن يؤتيى ، مفعولاً من أجله ، على أن يكون داخلاً تحت القول من قول الطائفة ، وهو أظهر من جعله من قول الطائفة .
وقد اختلف السلف في هذه الآية ، فذهب السدّي وغيره إلى أن الكلام كله من قوله : ) قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ( إلى آخر الآية مما أمر الله به محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يقوله لأمّته .
وذهب قتادة ، والربيع : إلى أن هذا كله من قول الله ، أمره أن يقوله للطائفة التي قالت : ) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( وذهب مجاهد وغيره إلى أن قوله ) أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ ( كله من قول الطائفة لأتباعهم ، وقوله ) قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ( اعتراض بين ما قبله وما بعده من

" صفحة رقم 521 "
قول الطائفة لأتباعهم . وذهب ابن جريج إلى أن قوله : ) أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ( داخل تحت الأمر الذي هو : قل ، يقوله الرسول لليهود ، وتم مقوله في قوله : أوتيتم . وأما قوله : ) أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ ( فهو متصل بقول الطائفة ) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( وعلى هذه ، الانحاء ترتيب الأوجه السابقة .
وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي يؤتى ، بكسر الهمزة بمعنى : لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من الكرامة ، وهذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام خطاباً من الطائفة القائلة ؟ ويكون قولها : أو يحاجوكم ، بمعنى : أو ، فليحاجوكم ، وهذا على التصميم على أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتى ، أو يكون بمعنى : إلاَّ أن يحاجوكم ، وهذا على تجويز : أن يؤتى ، أحد ذلك إذا قامت الحجة له . هذا تفسير ابن عطية لهذه القراءة ، وهذا على أن يكون من قول الطائفة .
وقال أيضاً في تفسيرها : كأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) يخبر أمّته أن الله لا يعطي أحداً ، ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمّة محمد من كونها وسطاً ، فهذا التفسير على أنه من كلام محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأمّته ، ومندرج تحت : قل .
وعلى التفسير الأول فسرها الزمخشري ، قال : وقرىء : إن يؤتى أحد على : إن ، النافية وهو متصل بكلام أهل الكتاب أي : ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم وقولوا ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم ، أي : ما يؤتون مثله فلا يحاجوكم .
قال ابن عطية : وقرأ الحسن : ان يؤتى أحدٌ ، بكسر التاء على اسناد الفعل إلى : أحد ، والمعنى أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه ، وأظهر ما في هذه القراءة أن يكون خطاباً من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأمته ، والمفعول محذوف تقديره : ان يؤتى أحد أحداً . انتهى . ولم يتعرّض ابن عطية للفظ : ان ، في هذه القراءة : أهي بالكسر أم بالفتح .
وقال السجاوندي : وقرأ الأعمش : ان يؤتى ، و : الحسن : ان يؤتى أحداً ، جعلا : أن ، نافية ، وإن لم تكن بعد إلاَّ كقوله تعالى : ) فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ كَمْ فِيهِ ( و : أو ، بمعنى : إلاَّ إن ، وهذا يحتمل قول الله عز وجل ، ومع اعتراض : قل ، قول اليهود . انتهى .
وفي معنى : الهدى ، هنا قولان : أحدهما : ما أوتيه المؤمنون من التصديق برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والثاني : التوفيق والدلالة إلى الخير حتى يسلم ، أو يثبت على الإسلام .
ويحتمل : عند ربكم ، وجهين : أحدهما : أن ذلك في الآخرة . والثاني : عند كتب ربكم الشاهدة عليكم ولكم ، وأضاف ذلك إلى الرب تشريفاً ، وكان المعنى : أو يحاجوكم عند الحق ، وعلى هذين المعنيين تدور تفاسير الآية ، فيحمل كل منها على ما يناسب من هذين المعنيين .
( قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( هذا توكيد لمعنى ) قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ( وفي ذلك تكذيب لليهود حيث قالوا : شريعة موسى مؤبدة ولن يؤتى الله أحداً مثل ما أوتي بنو إسرائل من النبوّة ، فالفضل هو بيد الله . أي : متصرّف فيه كالشيء في اليد ، وهذه كناية عن قدرة التصرّف والتمكن فيها والباري تعالى منزه عن الجارحة . ثم أخبر بأنه يعطيه من أراد ، فاختصاصه بالفضل من شاء ، إنما سببه الإرادة فقط ، وفسر : الفضل ، هنا بالنبوّة دهواكم والنبوة أشرف أفراده .
( وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ( تقدّم تفسيره .
آل عمران : ( 74 ) يختص برحمته من . . . . .
( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ( قال الحسن ، ومجاهد ، والربيع : يفرد بنبوّته من يشاء . وقال ابن جريج : بالإسلام والقرآن . وقال ابن عباس ، ومقاتل : الإسلام . وقيل : كثرة الذكر لله تعالى .
( وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( تقدّم تفسير هذا وتفسير ما قبله في آخر آية : ) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( وتضمنت هذه الآيات من البديع : التجنيس المماثل ، والتكرار في : آمنوا وآمنوا ، وفي الهدى ، هدى الله

" صفحة رقم 522 "
وفي : يؤتى وأوتيتم ، وفي : ان افضل ، وذو الفضل والتكرار أيضاً في : اسم الله ، في أربعة مواضع . والطباق : في آمنوا واكفروا ، وفي وجه النهار وفي آخره ، والإختصاص . في : وجه النهار ، لأنه وقت اجتماعهم بالمؤمنين يراؤونهم ، وآخره لأنه وقت خلوتهم بأمثالهم من الكفار ، والحذف في مواضع .
2 ( ) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَائِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ( ) ) 2
آل عمران : ( 75 ) ومن أهل الكتاب . . . . .
الدينار : معروف وهو أربعة وعشرون قيراماً ، والقيراط : ثلاث حبات من وسط الشعير ، فمجموعه : اثنتان وسبعون حبة ، وهو مجمع عليه . وفاؤه بدل من نون ، يدل على ذلك الجمع ، قالوا : دنانير ، وأصله : دنار ، أبدل من أول المثلين ، كما أبدلوا من النون في ثالث الأمثال ياءً في : تظنيت . أصله تظننت ، لأنه من الظن ، وهو بدل مسموع ، والدينار : لفظ أعجمي تصرّفت فيه العرب وألحقته بمفردات كلامها .
دام : ثبت ، والمضارع : يدوم ، فوزنه ، فعل نحو قال : يقول ، قال الفراء : هذه لغة الحجاز وتميم ، تقول : دِمت ، بكسر الدال . قال : ويجتمعون في المضارع ، يقولون : يدوم . وقال أبو إسحاق يقول : دمت تدام ، مثل : نمت تنام ، وهي لغة ، فعلى هذا يكون وزن دام ، فعل بكسر العين ، نحو : خاف يخاف . والتدويم الاستدارة حول الشيء . ومنه قول ذي الرمة :
والشمس حيرى لها في الجوّ تدويم
وقال علقمة في وصف خمر : تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها
ولا يخالطها في الرأس تدويم
والدوام : الدوار ، يأخذ في رأس الإنسان فيرى الأشياء تدور به . وتدويم الطائر في السماء ثبوته إذا صف واستدار

" صفحة رقم 523 "
ومنه : الماء الدائم ، كأنه يستدير حول مركزه .
لوى الحبل والتوى : فتله ثم استعمل في الإراغة في الحجج والخصومات ، ومنه : ليان الغريم : وهو دفعه ومطله ، ومنه : خصم ألوى : شديد الخصومة ، شبهت المعاني بالأجرام .
اللسان : الجارحة المعروفة . قال أبو عمرو : اللسان يذكر ويؤنث ، فمن ذكر جمعه ألسنة ومن أنث أجمعه ألسنا . وقال الفراء : اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلاَّ مذكراً . انتهى . ويعبر باللسان عن الكلام ، وهو أيضاً يذكر ويؤنث إذا أريد به ذلك .
الرباني : منسوب إلى الرب ، وزيدت الألف والنون مبالغة . كما قالوا : لحياني ، وشعراني ، ورقباني . فلا يفردون هذه الزيادة عن ياء النسبة . وقال قوم : هو منسوب إلى ربان ، وهو معلم الناس وسائسهم ، والألف والنون فيه كهي في : غضبان وعطشان ، ثم نسب إليه فقالوا : رباني ، فعلى هذا يكون من النسب في الوصف ، كما قالوا : أحمري في أحمر ، و : دواري في دّوار ، وكلا القولين شاذ لا يقاس عليه .
درس الكتاب يدرسه : أدمن قراءته وتكريره ، ودرس المنزل : عفا ، وطلل دارس : عافٍ .
( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا ( الجمهور على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى أخبر الله تعالى بذم الخونة منهم ، فظاهره أن في اليهود والنصارى من يؤتمن فيفي ومن يؤتمن فيخون . وقيل : أهل الكتاب عنى به أهل القرآن ، قاله ابن جريج . وهذا ضعيف حداً لما يأتي بعده من قولهم : ) ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( وقيل : المراد بأهل الكتاب : اليهود ، لأن هذا القول ) لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( لم يقله ولا يعتقده إلاَّ اليهود .
وقيل : ) مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ( هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم . و : ) مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ ( هم اليهدو لغلبة الخيانة عليهم . وعين منهم كعب بن الأشرف وأصحابه . وقيل : ) مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ( هم من أسلم من أهل الكتاب . و : ) مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ ( من لم يسلم منهم .
وروي أنه بايع بعض العرب بعض اليهود وأودعوهم فخانوا من أسلم ، وقالوا : قد خرجتم عن دينكم الذي عليه بايعناكم ، وفي كتابنا : لا حرمة لأموالكم ، فكذبهم الله تعالى . قيل : وهذا سبب نزول هذه الآية .
وعن ابن عباس : ) مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ ( هو عبد الله بن سلام ، استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً ، فأدّاه إليه . و : ) مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ ( فنحاص بن عازوراء ، استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه . انتهى . ولا ينحصر الشرط في ذينك المعينين ، بل كل منهما فرد ممن يندرج تحت : من . ألا ترى كيف جمع في قوله : ) ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا ( قالوا والمخاطب بقوله : تأمنه ، هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بلا خلاف ، ويحتمل أن يكون السامع من أهل الإسلام ، وبيّنه قولهم : ) لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( فجمع الأمّيين وهم اتباع النبي الأمي .
وقرأ أبي بن كعب : تأمنه ، في الحرفين ، و : تئمنا ، في يوسف . وقرأ ابن مسعود ، والأشهب العقيلي ، وابن وثاب : تيمنه ، بتاء مكسورة وياء ساكنة بعدها ، قال الداني : وهي لغة تميم . وأما إبدال الهمزة ياء في : تئمنه ، فلكسرة ما قبلها كما أبدلوا في بئر .
وقد ذكرنا الكلام على حروف المضارعة من : ي فعل ، ومن : ما أوله همزة وصل عند الكلام على قوله ) نَسْتَعِينُ ( فأغنى عن إعادته .
وقال : ابن عطية ، حين ذكر قراءة أبي : وما أراها إلاَّ لغة : قرشية ، وهي كسر نون الجماعة : كنستعين ، وألف المتكلم ، كقول ابن عمر : لا إخاله ، وتاء الخاطب كهذه الآية ، ولا يكسرون الياء في الغائب ، وبها قرأ أبي في : تئمنه . انتهى . ولم يبين ما يكسر فيه حروف

" صفحة رقم 524 "
المضارعة بقانون كلي ، وما ظنه من أنها لغة قرشية ليس كما ظنّ . وقد بينا ذلك في ) نَسْتَعِينُ ( وتقدّم تفسير : القنطار ، في قوله : ) وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ ).
وقرأ الجمهور : يؤده ، بكسر الهاء ووصلها بياء . وقرأ قالون باختلاس الحركة ، وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر ، وحمزة ، والأعمش بالسكون . قال أبو إسحاق : وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيِّن ، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل . وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة ، فغلطب عليه كما غلط عليه في : بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه ، وهو ضابط لمثل هذا ، أنه كان يكسر كسراً خفيفاً . انتهى كلام ابن إسحاق . وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط ليس بشيء ، إذ هي قراءة في السبعة ، وهي متواترة ، وكفى أنها منقولة من إمام البصريين أبي عمرو بن العلاء . فإنه عربي صريح ، وسامع لغة ، وإمام في النحو ، ولم يكن ليذهب عنه جواز مثل هذا .
وقد أجاز ذلك الفراء وهو إمام في النحو واللغة . وحكى ذلك لغة لبعض العرب تجزم في الوصل والقطع .
وقد روى الكسائي أن لغة عقيل وكلاب : أنهم يختلسون الحركة في هذه الهاء إذا كانت بعد متحرك ، وأنهم يسكنون أيضاً . قال الكسائي : سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون : ) لِرَبّهِ لَكَنُودٌ ( بالجزم ، و : لربه لكنود ، بغير تمام وله مال وغير عقيل وكلاب لا يوجد في كلامهم اختلاس ولا سكون في : له ، وشبهه إلاَّ في ضرورة نحو قوله .
له زجل كأنه صوت حاد
وقال :
إلا لأن عيونه سيل واديها
ونص بعض أصحابنا على أن حركة هذه الهاء بعد الفعل الذاهب منه حرف لوقف أو جزم يجوز فيها الإشباع ، ويجوز الاختلاس ، ويجوز السكون . وأبو إسحاق الزجاج ، يقال عنه : إنه لم يكن إماماً في اللغة ، ولذلك أنكد على ثعلب في كتابه : ( الفصيح ) مواضع زعم أن العرب لا تقولها ، وردّ الناس على أبي إسحاق في إنكاره ، ونقلوها من لغة العرب . وممن ردّ عليه : أبو منصور الجواليقي ، وكان ثعلب إماماً في اللغة وإماماً في النحو على مذهب الكوفيين ، ونقلوا أيضاً قراءتين : إحداهما ضم الهاء ووصلها بواو ، وهي قراءة الزهري ، والأخرى : ضمها دون وصل ، وبها قرأ سلام .
والباء في : بقنطار ، وفي : بدينارد قيل : للإلصاق . وقيل : بمعنى على ، إذا الأصل أن تتعدى بعلى ، كما قال مالك : ) لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ ( وقال : ) هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ ( وقيل : بمعنى في أي : في حفظ قنطار ، وفي حفظ دينار . والذي يظهر أن القنطار والدينار مثالان للكثير والقليل ، فيدخل أكثر من القنطار وأقل . وفي الدينار أقل منه .
قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد طبقه يعني في الدينار لا يجوز إلاَّ في دينار فما زاد ، ولم يعن بذكر الخائنين في : أقل ، إذ هم طغام حثالة . انتهى .
ومعنى : ) إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ( قال قتادة ، ومجاهد ، والزجاج ، والفراء ، وابن قتيبة : متقاضياً بأنواع التقاضي من : الخفر ، والمرافعة إلى الحكام ، فليس المراد هيئة القيام ، إنما هو من قيام المرء على أشغاله : أي اجتهاده فيها .
وقال السدي وغيره : قائماً على رأسه وهي الهيئة المعروفة وذلك نهاية الخفر ، لأن معنى ذلك الخفر ، لأن معنى ذلك أنه في صدد شغل آخر يريد أن يستقبله . وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء ، وانتزعوا من الآية جواز السجن ، لأن الذي يقوم عليه غريمه هو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء ، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن . وقيل : قائماً بوجهك فيها بك ويستحي منك . وقيل : معنى : دمت عليه قائماً ، أي : مستعلياً ، فإن استلان جانبك لم يؤدّ إليك أمانتك .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وابن

" صفحة رقم 525 "
أبي ليلى ، والفياض بن غزوان ، وطلحة ، وغيرهم : دمت بكسر الدال ، وتقدم أنها لغة تميم وتقدم الخلاف في مضارعه .
و : ما ، في : ما دمت ، مصدرية ظرفية . و : دمت ، ناقصة فخبرها : قائماً ، وأجاز أبو البقاء أن تكون : ما ، مصدرية فقط لا ظرفية ، فتتقدر بمصدر ، وذلك المصدر ينتصب على الحال ، فيكون ذلك استثناءً من الأحوال لا من الأزمان . قال : والتقدير : إلاَّ في حال ملازمتك له . فعلى هذا يكون : قائماً ، منصوباً على الحال ، لا خبراً لدام ، لأن شرط نقص : دام ، أن يكون صلة لما المصدرية الظرفية .
( ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( روي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال . العرب لكونهم أهل أوثان ، فلما جاء الإسلام ، وأسلم من أسلم من العرب ، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد ، فنزلت الآية مانعة من ذلك . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي ، إلاَّ الأمانة فإنها مؤادّة إلى البر والفاجر . ( والإشارة بذلك إلى ترك الأداء الذي دل عليه لا يؤدّه ، أي : كونهم لا يؤدّون الأمانة كان بسبب قولهم .
والضمير في : بأنهم ، قيل : عائد على اليهود وقيل : عائد على لفيف بني إسرائيل . والأظهر أنه عائد على : من ، في قوله : ) مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ( وجمع حملاً على المعنى ، أي : ترك الأداء في الدّينا فما دونه وفما فوقه كائن بسبب قول المانع للأداء الخائن : ) لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ ( وهم الذين ليسوا من أهل الكتاب ، وهم العرب . وتقدّم كونهم سموا أمّيين في سورة البقرة .
والسبيل ، قيل : العتاب والذم وقيل : الحجة على ، نحو قول حميد بن ثور :
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة
من السرح موجود عليّ طريق
وقوله : فأولئك ما عليهم من سبيل من هذا المعنى ، وهو كثير في القرآن وكلام العرب وقيل : السبيل هنا الفعل المؤدّي إلى الإثم . والمعنى : ليس عليهم طريق فيما يستحلون من أموال المؤمنين الأمّيين .
قال : وسبب استباحتهم لأموال الأمّيين أنهم عندهم مشركون ، وهم بعد إسلامهم باقون على ما كانوا عليه ، وذلك لتكذيب اليهود للقرآن وللنبي
e
وقيل : لأنهم انتقض العهد الذي كان بينهم بسبب إسلامهم ، فصاروا كالمحاربين ، فاستحلوا أموالهم وقيل : لأن ذلك مباح في كتابهم أخذ مال من خالفهم .
وقال الكلبي : قالت اليهود : الأموال كلها كانت لنا ، فما في أيدي العرب منها فهو لنا ، وأنهم ظلمونا وغصبونا ، فلا سبيل علينا في أخذ أموالنا منهم وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن صعصعة ، أن رجلاً قال لابن عباس : أنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمّة : الشاة والدجاجة ، ويقولون : ليس علينا بذلك بأس ، فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب : ) لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( أنهم إذا أدّوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلاَّ عن طيب أنفسهم . وذكر هذا الأثر الزمخشري ، وابن عطية ، وفيه بعد ذكر الشاة أو الدجاجة ، قال : فيقولون ماذا قال ؟ يقول : ليس علينا في ذلك بأس .
( وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ( أي القول الكذب يفترونه على الله بادعائهم أن ذلك في كتابهم . قال السدّي ، وابن جريج ، وغيرهما : ادعت طائفة من أهل الكتاب أن في التوراة إحلالاً لهم أموال الأمّيين كذباً منها وهي عالمة بكذبها ، فيكون الكذب المقول هنا هو هذا الكذب المخصوص في هذا الفصل . والظاهر أنه أعم من هذا ، فيندرج هذا

" صفحة رقم 526 "
فيه ، أي : هم يكذبون على الله في غير ما شيء وهم علماء بموضع الصدق .
وجوّزوا أن يكون : علينا ، خبر : ليس ، وأن يكون الخبر : في الأمّيين ، وذهب قوم إلى عمل : ليس ، في الجار ، فيجوز على هذا أن يتعلق بها .
قيل : ويجوز أن يرتفع : سبيل ، بعلينا ، وفي : ليس ، ضمير الأمر ، ويتعلق : على الله ، بيقولون بمعنى : يفترون .
قيل : ويجوز أن يكون حالاً من الكذب مقدماً عليه ولا يتعلق بالكذب .
قيل : لأن الصلة لا تتقدّم على الموصول .
( وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( جملة حالية تنعى عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب ، أي : إن العلم بالشيء يبعد ويقبح أن يكذب فيه ، فكذبهم ليس عن غفلة ولا جهل ، إنما هو عن علم .
آل عمران : ( 76 ) بلى من أوفى . . . . .
( بَلَى ( جواب لقولهم : ) لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( وهذا مناقض لدعواهم ، والمعنى : بلى عليهم في الأمّيين سبيل ، وقد تقدّم القول في : بلى ، في قوله ) بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَةً ( فأغنى عن إعادته هنا .
( مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( أخبر تعالى بأن من أوفى بالعهد واتقى الله في نقضه فهو محبوب عند الله وقال ابن عباس : اتقى هنا معناه اتقى الشرك ، وهذه الجملة مقررة للجملة المحذوفة بعد بلى ، و : من ، يحتمل أن تكون موصولة ، والأظهر أنها شرطية ، و : أوفى ، لغة الحجاز و : وفى ، خفيفة لغة نجد و : وفى ، مشدّدة لغة أيضاً . وتقدّم ذكر هذه اللغات .
والظاهر في : بعهده ، أن الضمير عائد على : من وقيل : يعود على الله تعالى ، ويدخل في الوفاء بالعهد ، العهد الأعظم من ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، سواء أضيف العهد إلى : من ، أو : إلى الله ، والشرائط للجملة الخبرية أو الجزائية بمن هو العموم الذي في المتقين ، أو ما قبله ، فرد من أفراده ، ويحتمل أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة المعنى عليه ، التقدير : يحبه الله ، ثم قال ) فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( وأتى بلفظ : المتقين ، عاماً تشريفاً للتقوى وحظاً عليها .
آل عمران : ( 77 ) إن الذين يشترون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا ( نزلت في أحبار اليهود : أبي رافع ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وكعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، قاله عكرمة . أو : فيمن حرّف نعته ( صلى الله عليه وسلم ) ) من اليهود ، قاله الحسن . أو : في خصومة الأشعث بن قيس مع يهودي ، أو مع بعض قرابته . أو : في رجل حلف على سلعة مساءً لأعطي بها أول النهار كذا ، يميناً كاذبة ، قاله مجاهد ، والشعبي .
والإضافة في ) بِعَهْدِ اللَّهِ ( إما للفاعل وإما للمفعول ، أي : بعهد الله إياه من الإيمان بالرسول الذي بعث مصدّقاً لما معهم ، وبأيمانهم التي حلفوها لنؤمنن به ولننصرنه ، أو بعهد الله . والاشتراء هنا مجاز ، والثمن القليل : متاع الدنيا من الرشى والتراؤس ونحو ذلك ، والظاهر أنها في أهل الكتاب لما احتف بها من الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها .
( أُوْلَائِكَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاْخِرَةِ ( أي : لا نصيب لهم في الآخرة ، اعتاضوا بالقليل الفاني عن النعيم الباقي ، ونعني : لا نصيب له من الخير ، نفي نصيب الخير عنه .
( وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ ( قال الطبري : أي بما يسرهم وقال غيره : لا يكلمهم جملة وإنما تحاسبهم الملائكة ، قاله الزّجاج . وقال قوم : هو عبارة عن الغضب ، أي : لا يحفل بهم ، ولا يرضى عنهم ، وقاله ابن بحر . وقد تقدّم في البقرة شرح : ) وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ ).
) وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( قال الزمخشري : ولا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم ، تقول : فلان لا ينظر إلى فلان ، يريد نفي اعتداده به ، واحسانه إليه .
فإن قلت أي فرق بين استعماله

" صفحة رقم 527 "
فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه .
قلت أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية ، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان ، وإن لم يكن ثَمّ نظر ، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر . انتهى كلامه . وقال غيره : ولا ينظر أي : لا يرحم قال : فقلت انظري يا أحسن الناس كلهم
لذي غلة صديان قد شفه الوجدُ
) وَلاَ يُزَكّيهِمْ ( ولا يثني عليهم أو لا ينمي أعمالهم ، فهي تنمية لهم ، أو لا يطهرهم من الذنوب . أقوال ثلاثة ، وتقدّم شرحه في البقرة .
( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( تقدّم شرحه أيضاً .
آل عمران : ( 78 ) وإن منهم لفريقا . . . . .
( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا ( أي : من اليهود ، قاله الحسن : أو : من أهل الكتابين ، قاله ابن عباس . وعن ابن عباس أيضاً : هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيّروا التوراة . وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم .
( يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ ( أي : يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف ، قاله الزمخشري وقال ابن عطية : يحرفون ويتحيلون لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ، ومثال ذلك قولهم : راعنا ، وأسمع غير مسمع ، ونحو ذلك وليس التبديل المحض . انتهى .
والذي يظهر أن الليّ وقع بالكتاب أي : بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس ، بل التحريف والتبديل وقع في الألفاظ ، والمعاني تبع للألفاظ ، ومن طالع التوراة علم يقيناً أن التبديل في الألفاظ والمعاني ، لأنها تضمنت أشياء يجزم العاقل أنها ليست من عند الله ، ولا أن ذلك يقع في كتاب إلهي من كثرة التناقض في الإخبار والأعداد ونسبة أشياء إلى الله تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك ، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر من الخمر والزنا ببناتهم . وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها ، فضلاً عن منصب النبوة .
وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي ، رحمه الله تعالى ، كتاباً في ( السؤالات على ألفاظ التوراة ومعانيه ) ومن طالع ذلك الكتاب رأى فيه عجائب وغرائب ، وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها ، هذا مع خلوها من ذكر : الآخرة ، والبعث ، والحشر ، والنشر ، والعذاب والنعيم الأخرويين ، والتبشير برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأين هذا من قوله تعالى ) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ( وقوله تعالى وقد ذكر رسوله وصحابته . ) ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ ).
وقد نص تعالى في القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة ، قال تعالى : ) قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ( وقال تعالى ) يَصْنَعُونَ يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ( فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير ، ودل بمفهوم الصفة أن الذي أبدوه من الكتاب قليل .
وقرأ الجمهور : يلوون ، مضارع : لوى وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، وأبو حاتم عن نافع : يلوون بالتشديد ، مضارع : لوّى ، مشدّداً . ونسبها الزمخشري لأهل المدينة ، والتضعيف للمبالغة والتكتير في الفعل لا للتعدية وقرأ حميد : يلون ، بضم اللام ، ونسبها الزمخشري إلى أنها رواية عن مجاهد ، وابن كثير ، ووجهت على أن الأصل : يلوون ، ثم أبدلت الواو همزة ، ثم نقلت حركتها إلى الساكن قبلها ، وحذفت هي .
والكتاب : هنا التوراة ، والمخاطب في :

" صفحة رقم 528 "
لتحسبوه ، المسلمون وقرىء : ليحسبوه ، بالياء وهو يعود على الذين يلوون ألسنتهم لهم ، أي : ليحسبه المسلمون ، والضمير المفعول في : ليحسبوه ، عائد على ما دل عليه ما قبله من المحرف ، أي ليحسبوا المحرف من الكتاب .
ويحتمل أن يكون قوله : بالكتاب ، على حذف مضاف أي : يلوون ألسنتهم بشبه الكتاب ، فيعود الضمير على ذلك المضاف المحذوف ، كقوله تعالى : ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَاهُ ( أي : أو كذي ظلمات ، فأعاد المفعول في : يغشاه ، على : ذي ، المحذوف .
( وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ( أي : وما المحرف والمبدل الذي لووه بألسنتهم من التوراة ، فلا تظنوا ذلك أنه من التوراة .
( وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( تأكيد لما قصدوه من حسبان المسلمين أنه من الكتاب ، وافتراء عظيم على الله ، إذ لم يكتفوا بهذا الفعل القبيح من التبديل والتحريف حتى عضدوا ذلك بالقول ليطابق الفعل القول ، ودل ذلك على أنهم لا يعرضون ، ولا يودّون في ذلك ، بل يصرحون بأنه في التوراة هكذا ، وقد أنزله الله على موسى كذلك ، وذلك لفرط جرأتهم على الله ويأسهم من الآخرة .
( وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( رد عليهم في إخبارهم بالكذب ، وهذا تأكيد لقوله ) وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ( نفي أولاً أخص ، إذ التعليل كان لأخص ، ونفي هنا أعم ، لأن الدعوى منهم كانت الأعم ، لأن كونه من عند الله أعم من أن يكون في التوراة أو غيرها .
قال أبو بكر الرازي : هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله ، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده وقد نفى الله تعالى نفياً عامّاً لكون المعاصي من عنده . انتهى . وهذا مذهب المعتزلة ، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم .
وقال ابن عطية ) وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( نفي أن يكون منزلاً كما ادّعوا ، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ، ومنهم بالتكسب . ولم تعن الآية إلاَّ معنى التنزيل ، فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله : ) وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ).
) وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( تقدّم تفسير مثل هذا آنفاً .
آل عمران : ( 79 ) ما كان لبشر . . . . .
( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يَأْتِيهِ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللَّهِ ( روي أن أبا رافع القرظي قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حين اجتمت الأحبار من يهود ، والوفد من نصارى نجران : يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً كما عبدت النصارى عيسى فقال الرئيس من نصارى نجران : أَوَ ذاك تريد يا محمد واليه تدعونا ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( معاذ الله ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت ) ، فنزلت .
وقيل : قال رجل : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك ؟ قال : ( لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ) .
واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله : ) مَا كَانَ لِبَشَرٍ ( فقال ابن عباس ، والربيع ، وابن جريج ، وجماعة : الإشارة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وذكروا سبب النزول المذكور .
وقال النقاش ، وغيره : الإشارة إلى عيسى ، والآية رادّة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره ، ومعنى ) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ ( وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون ، والمراد نفي الخبر ، وذلك على قسمين .
أحدهما : أن يكون الانتفاء من حيث العقل ، ويعبر عنه بالنفي التام ، ومثاله قوله : ) مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ( ) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ).
والثاني : أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء ، ويعبر عنه بالنفي غير التام ، ومثاله قول أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدّم أن يصلى بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذين النفي فيه ، وهذه الآية من القسم الأول ، لأنا نعلم أنه الله لا يعطي الكَذَبُة والمدَّعين النبوّة ، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام .
والكتاب : هنا اسم جنس ، والحكم : قيل بمعنى الحكمة ، ومنه : ( إن من الشعر لحكماً ) . وقيل : الحكم هنا السنة ، يعنون لمقابلته الكتاب ، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس ، وهذا من باب الترقي ، بدأ أولاً بالكتاب وهو العلم ، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوّة وهي مجمع الخير ، ثم يقول للناس .
أتى بلفظ : ثم ، التي هي للمهلة تعظيماً لهذا القول ، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى ، أي : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول ، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم .
( كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ

" صفحة رقم 529 "
اللَّهِ ( عباداً جمع عبد . قال ابن عطية : ومن جموعه : عبيد وعبدّي . قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلها بمعنى . وقال قوم : العباد لله والعبيد للبشر . وقال قوم : العبدي إنما يقال في العبيد بني العبيد ، كأنه مبالغة تقتضى الاستغراق في العبودية .
والذي استقرئت في لفظة : العباد ، أنه جمع عبد ، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن فانظر قوله تعالى : ) وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ ( ) وَعِبَادُ مُّكْرَمُونَ ( ) قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض ) إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ).
وأما : العبيد ، فيستعمل في التحقير ، ومنه قول امرىء القيس : قولاً لدودان عبيد العصا
ما غركم بالأسد الباسل
ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلاَّ عبيد لأبي ، ومنه ) وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة ، لم يقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله : ) قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في حيز فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله : ) كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللَّهِ ( اعبدوني واجعلوني إلهاً . انتهى كلام ابن عطية . وفيه بعض مناقشة .
أما قوله : ومن جموعه : عبيد وعبدي ، أما عبيد فالأصح أنه جمع . وقيل : اسم جمع ، و : أما عبدبي فاسم جمع ، وألفاء للتأنيث . وأما ما استقرأه أن عباداً يساق في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ العباد ، وقوله : وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، وأنشد بيت أمرىء القيس ، وقول حمزة وقوله تعالى ) بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فليس باستقراء صحيح ، وإنما كثر استعمال : عباد ، دون : عبيد ، لأن فعالاً في جمع فعل غير اليائي العين قياس مطرد ، وجمع فعل على فعيل لا يطرد .
قال سيبويه : وربما جاء فعيلاً وهو قليل ، نحو : الكليب والعبيد . انتهى .
فلما كان فعال هو المقيس في جمع : عبد ، جاء : عباد ، كثيراً . وأما ) وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فحسن مجيئه هنا وإن لم يكن مقيساً أنه جاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله ) أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ( وبعده ) قَالُواْ ءاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ ( فحسن مجيئه بلفظ العبيد مواخاة هاتين الفاصلتين ، ونظير هذا قوله في سورة ق : ) وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( لأن قبله ) قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ( وبعده ) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ( وأما مدلوله فمدلول : عباد ، سواء .
وأما بيت امرىء القيس فلم يفهم التحقير من لفظ : عبيد ، إنما فهم من إضافتهم إلى العصا ، ومن مجموع البيت . وكذلك قول حمزة إنما فهم منه معنى التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت ، وفي وقول حمزة على أحد الجائزين .
وقرأ الجمهور : ثم يقول ، بالنصب عطفاً على : أن يؤتيه ، وقرأ شبل عن ابن كثير ، ومحبوب عن أبي عمرو : بالرفع على القطع أي : ثم هو يقول . وقرأ الجمهور : عباداً لي ، بتسكين ياء الإضافة . وقرأ عيسى بن عمر : بفتحها .
( وَلَاكِن كُونُواْ ( هذا على إضمار القول تقديره : ولكن يقول كونوا ربانيين ، والرباني الحكيم العالم ، قاله قتادة ، وأبو رزين . أو : الفقيه ، قاله علي ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد . أو : العالم الحليم ، قاله قتادة وغيره . أو : الحكيم الفقيه ، قاله ابن عباس . أو : الفقيه العالم ، قاله الحسن ، والضحاك . أو : والي الأمر يربيهم ويصلحهم ، قاله ابن زيد .

" صفحة رقم 530 "
أو : الحكيم التقي ، قاله ابن جبير . أو : المعلم ، قاله الزجاج . أو : العالم ، قاله المبرد . أو : التائب لربه ، قاله المؤرج . أو : الشديد التمسك بدين الله وطاعته ، قاله الزمخشري . أو : العالم الحكيم الناصح لله في خلقه ، قاله عطاء . أو : العالم العامل بعلمه ، قاله ابن جبير . أو : العالم المعلم ، قاله بعضهم . وهذه أقوال متقاربة .
وللصوفية في تفسيره أقوال كثيرة غير هذه ، وقال مجاهد : الرباني فوق الحبر ، لأن الحبر هو العالم ، والرباني الذي جمع إلى العلم والفقه النظر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم . وفي البخاري : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره .
قال ابن عطية : فجملة ما يقال في الرباني : إنه العالم المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس انتهى . ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية : اليوم مات رباني هذه الآمة .
( رَبَّانِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ( الباء للسبب ، و : ما ، الظاهر أنها مصدرية ، و : تعلمون ، متعدٍ لواحد على قراءة الحرميين وأبي عمرو إذ قرؤوا بالتخفيف مضارع علم ، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء وفتح العين وتشديد اللام المكسورة ، فيتعدّى إلى اثنين ، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد ، وأول المفعولين محذوف تقديره : تعلمون الناس الكتاب . وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى ، وقد تقدّم أني لا أرى شيئاً من هذه التراجيح ، لأنها كلها منقولة متواترة قرآناً ، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى .
وقرأ مجاهد ، والحسن : تعلمون ، بفتح التاء والعين واللام المشددة ، وهو مضارع حذفت منه التاء ، التقدير : تتعلمون ، وقد تقدم الخلاف في المحذوف منهما .
وقرأ أبو حيوة : تدرسون بكسر الراء . وروي عنه : تدرّسون ، بضم التاء وفتح الدال وكسر الراء المشددة أي : تدرسون غيركم العلم ، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية . وقرىء : تدرسون ، منن أدرس بمعنى درّس نحو : أكرم وكرّم ، و : أنزل نزّل ، وقال الزمخشري : أوجب أن تكون الرئاسة التي هي قوّة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة ، وكفى به دليلا على خيبة سعى من جهد نفسه وكد روحه في جمع العلم ، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ، ثم قال أيضاً ، بعد أسطر : وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء ، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع حيث لم تثبت النسبة إليه إلاَّ للمتمسكين بطاعته . انتهى كلامه . وفيه دسيسة الاعتزال ، وهو أنه : لا يكون مؤمناً عالماً إلاَّ بالعمل ، وأن العمل شرط في صحة الإيمان .
2 ( ) وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ) ) 2
آل عمران : ( 80 ) ولا يأمركم أن . . . . .
( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيّيْنَ أَرْبَابًا ( قرأ الحرميان ، والنحويان ، والأعشى والبرجمي : برفع الراء على القطع ، ويختلس أبو عمرو الحركة على أصله ، والفاعل ضمير مستكن في يأمر عائد على الله ، قاله سيبويه ، والزجاج . وقال ابن جريج : عائد على : بشر ، الموصوف بما سبق ، وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمعنى على هذه القراءة : أنه لا يقع من بشر موصوف بما وصف به أن يجعل نفسه رباً فيعبد ، ولا هو أيضاً يأمر باتخاذ غيره من ملائكة وأنبياء أرباباً ، فانتفى أن يدعو لنفسه ولغيره . وإن كان الضمير عائداً على الله فيكون إخباراً من الله أنه لم يأمر بذلك ، فانتفى أمر الله بذلك ، وأمر أنبيائه .
وقرأ عاصم وابن عامر ، وحمزة ولا يأمركم ، بنصب الراء ، وخرجه أبو علي وغيره على أن يكون المعنى : ولا له أن يأمركم ، فقدروا : أن ، مضمرة بعد : لا ، وتكون : لا ، مؤكدة معنى النفي السابق ، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام . وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، فلا للتوكيد في النفي السابق ، وصار المعنى : ما كان من زيد إتيان ولا منه قيام .
وقال الطبري قوله : ولا يأمركم ، بالنصب معطوف على

" صفحة رقم 531 "
قوله : ثم يقول : قال ابن عطية : وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى . انتهى كلامه . ولم يبين جهة الخطأ ولا عدم التئام المعنى به ، ووجه الخطأ انه إذا كان معطوفاً على : ثم يقول ، وكانت لا لتأسيس النفي ، فلا يمكن إلاَّ أن يقدر العامل قبل : لا ، وهو : أن ، فينسبك من : ان ، والفعل المنفي مصدرٍ منتف فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وصف به انتفاء امره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً ، وإذا لم يكن له الأنتفاء كان له الثبوت ، فصار آمراً باتخاذهم أرباباً وهو خطأ ، فإذا جعلت لا لتأكيد النفي السابق كان النفي منسحباً على المصدرين المقدر ثبوتهما ، فينتفي قوله : ) كُونُواْ عِبَادًا لّى ( وأمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً ، ويوضح هذا المعنى وضع : غير ، موضع : لا ، فإذا قلت : ما لزيد فقه ولا نحو ، كانت : لا ، لتأكيد النفي ، وانتفى عنه الوصفان ، ولو جعلت : لا ، لتأسيس النفي كانت بمعنى : غير ، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه وثبوت النحو له ، إذ لو قلت : ما لزيد فقه وغير نحو ، كان في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلت : ماله غير نحو . ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زاد ، كان المعنى : جئت بغير زاد ، وإذا قلت : ما جئت بغير زاد ، معناه : أنك جئت بزاد ؟ لأن : لا ، هنا لتأسيس النفي ، وأن يكون من عطف المنفي بلا على الثبت الداخل عليه النفي ، نحو : ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم ، تريد : ما أريد أن لا تتعلم .
وأجاز الزمخشري أن أن تكون : لا ، لتأسيس النفي ، فذكر أولاً كونها زائدة لتأكيد معنى النفي ، ثم قال : والثاني أن يجعل : لا ، غير مزيده ، والمعنى : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان ينهي قريشاً عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح ، فلما قالوا له : أنتخذك رباً ، قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء .
قال : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، وينصرها قراءة عبد الله : ولن يأمركم ، انتهى كلام الزمخشري .
( أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ( هذا استفهام إنكار وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح ، إذ الأمر بالكفر على كل حال منكر ، ومعناه : أنه لا يأمر بكفر لا بعد الأسلام ولا قبله ، سواء كان الآمر الله أم الذي استنبأه الله .
وفي هذه الآية دلالة على أن المخاطبين كانوا مسملمين ، ودلالة على أن الكفر ملة واحدة إذ الذين اتخذوا الملائكة أرباباً ثم الصابئة وعبدة الأوثان ، والذين اتخذوا النبيين أرباباً هم اليهود والنصارى والمجوس ، ومع هذا الاختلاف سمى الله الجميع : كفراً . و : بعد ، ينتصب بالكفر ، أو : بيأمركم ، وإذ ، مضافة للجملة الإسمية كقوله : ) وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ ( وأضيف إليها : بعد ، ولا يضاف إليها إلاَّ ظرف زمان .
( ) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ ( )
آل عمران : ( 81 ) وإذ أخذ الله . . . . .
( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى : لما نفى عن أهل الكتاب قبائح أقوالهم وأفعالهم ، وكان مما ذكر أخيراً اشتراءهم بآيات الله ثمناً قليلاً ، وما يؤول أمرهم إليه في الآخرة ، وإن منهم من بدل في كتابه وغير ، وصف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ونزه رسوله عن الأمر بأن يعبد هو أو غيره ، بل تفرّد بالله تعالى بالعبادة ، أخذ تعالى يقيم الحجة على أهل الكتاب وغيرهم ممن أنكر نبوّته ودينه ، فذكر أخذ الميثاق على أنبيائهم بالإيمان برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والتصديق له ، والقيام بنصرته ، وإقرارهم بذلك ، وشهادتهم على أنفسهم ،

" صفحة رقم 532 "
وشهادته تعالى عليهم بذلك ، وهذا العهد مذكور في كتبهم وشاهد بذلك أنبياؤهم .
وقرأ أبي ، وعبد الله : ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، بدل : النبيين ، وكذا هو في مصحفيهما . وروي عن مجاهد أنه قال : هكذا هو القرآن ، وإثبات النبيين خطأ من الكاتب ، وهذا لا يصح عنه لأن الرواة الثقات نقلوا عنه أنه قرأ : النبيين كعبد الله بن كثير وغيره ، وإن صح ذلك عن غيره فهو خطأ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان .
والخطاب بقوله : وإذ أخذ ، يجوز أن يكون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أمره أن يذكر أهل الكتاب بما هو في كتبهم من أخذ الميثاق على النبيين ، ويجوز أن يتوجه إلى أهل الكتاب أمروا أن يذكروا ذلك ، وعلى هذين التقديرين يكون العامل : أذكر ، أو : أذكروا ، ويجوز أن يكون العامل في : إذ ، قال من قوله : ) قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ ( وهو حسن ، إذ لا تكلف فيه .
قيل : ويجوز أن يكون معطوفاً على ما تقدم من لفظ إذ ، والعامل فيها : اصطفى ، وهذا بعيد جداً .
وظاهر الكلام يدل على أن الله هو الآخذ ميثاق النبيين فروي عن عليّ ، وابن عباس ، وطاووس ، والحسن ، والسدّي : أن الذين أخذ ميثاقهم هم الأنبياء دون أممهم ، أخذ عليهم أن يصدّق بعضهم بعضاً ، وأن ينصر بعضهم بعضاً ، ونصرة كل نبي لمن بعده توصية من آمن به أن ينصره إذا أدرك زمانه . وينبو عن هذا المعنى لفظ : ) ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ ( إلى آخر الكلام .
وقال ابن عباس أيضاً فيما روى عنه : أخذ ميثاق النبيين وأممهم على الأيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ونصره ، واجتزأ بذكر النبيين من ذكر أممها لأن الأمم أتباع للأنبياء ، ويدل عليه قول عليّ كرّم الله وجهه : ما بعث الله نبياً إلاَّ أخذ عليه العهد في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأمره بأخذ العهد على قومه فيه بأن يؤمنوا به وينصروه إن أدركوا زمانه . وروي عن ابن عباس أيضاً : أنه تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه أخذ الميثاق على جميع المرسلين أن يقروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وعلى هذين القولين يكون قوله : ) ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ ( عني به واحد وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولا يكون جنساً . ويبعد قول ابن عباس : أن الميثاق كان حين أخرجهم من ظهر آدم كالذر .
قرأ حمزة : لما آتيناكم ، لأن الظاهر أن ذلك كان بعد إيتاء الكتاب والحكمة . و : ميثاق ، مضاف إلى النبيين ، فيحتمل أن يكون النبيون هم الموثقون للعهد على أممهم ، ويحتمل أن يكونوا هم الموثق عليهم ، والذي يدل عليه ما قبل الآية من قوله : ) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ ( الآية وما بعدها من قوله : ) وَمِنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا ( أن المراد بقوله ) ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ ( هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولذلك جاء مصدقاً لما معكم . وكثيراً ما وصف بهذا الوصف في القرآن رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ألا ترى إلى قوله ) وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ ( ؟ وكذلك وصف كتابه بأنه مصدق لما في كتبهم ، وإذا تقرر هذا كان المجاز في صدر الآية فيكون على حذف مضاف أي : وإذ أخذ الله ميثاق أتباع النبيين من أهل الكتاب ، أو ميثاق أولاد النبيين ، فيوافق صدر الآية ما بعدها ، وجعل ذلك ميثاقاً للنبيين على سبيل التعظيم لهذا الميثاق ، أو يكون المأخوذ عليهم الميثاق مقدّراً بعد النبيين ، التقدير : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على أممهم . ويبين هذا التأويل قراءة أبي ، وعبد الله : ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، ويبين أيضاً أن الميثاق كان على الأمم قوله : ) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ومحال هذا الفرض في حق النبيين ، وإنما ذلك في حق الأتباع .
وقرأ جمهور السبعة : لما ، بفتح اللام وتخفيف الميم وقرأ حمزة : لما ، بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير ، والحسن : لما ، بتشديد الميم .
فأما توجيه قراءة الجمهور ففيه أربعة أقوال .
أحدهما : أن : ما ، شرطية منصوبة على المفعول بالفعل بعدها ، واللام قبلها موطئة لمجيء : ما ، بعدها جواباً باللقسم ، وهو أخذ الله ميثاق . و : من ، في قوله : من كتاب ، كهي ، في قوله : ) مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ ( والفعل بعد : ما ، ماضٍ معناه الاستقبال لتقدم ، ما ، الشرطية عليه . وقوله : ثم جاءكم ، معطوف على الفعل بعد : ما ، فهو في حيز الشرط ، ويلزم أن يكون في قوله : ثم جاءكم ، رابط يربطها بما عطفت عليه ، لأن : جاءكم ، معطوف على الفعل بعد : ما ، و : لتؤمنن به ، جواب لقوله ) أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ ( ونظيره من الكلام في التركيب : أقسم لأيهم صحبت ، ثم أحسن إليه رجل تميمي لأحسنن إليه ، تريد لأحسنن إلى الرجل التميمي . فلأحسنن جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف لدلالة

" صفحة رقم 533 "
جواب القسم عليه ، وكذلك في الآية جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، والضمير في : به ، عائد على : رسول ، وهذا القول ، وهو أن : ما ، شرطية هو قول الكسائي .
وسأل سيبويه الخليل عن هذه الآية فقال ما نصه : ما ، ههنا بمنزلة : الذي ، ودخلت اللام كما دخلت على : إن ، حين قلت : والله لئن فعلت لأفعلن ، فاللام في : ما ، كهذه التي في : أن ، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا انتهى ثم قال سيبويه : ومثل ذلك ) لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ ( إنما دخلت اللام على نية اليمين انتهى .
وقال أبو علي : لم يرد الخليل بقوله : بمنزلة الذي أنها موصولة ، بل أنها اسم ، كما أن الذي اسم وأقر أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً : ) وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ ( وفي قوله : ) وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ( انتهى . وتحصل من كلام الخليل وسيبويه أن : ما ، في : لما أتيتكم ، شرطية وقد خرجها على الشرطية غير هؤلاء : كالمازني ، والزجاج ، وأبي علي ، والزمخشري ، وابن عطية وفيه خدش لطيف جدّاً ، وهو أنه : إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه ، وإذا كان كذلك فالمحذوف من جنس المثبت ، ومتعلقاته متعلقاته ، فإذا قلت : والله لمن جاءني لأكرمنه ، فجواب : مَنْ ، محذوف ، التقدير : من جاءني أكرمه . وفي الآية اسم الشرط : ما ، وجوابه محذوف من جنس جواب القسم ، وهو الفعل المقسم عليه ، ومتعلق الفعل هو ضمير الرسول بواسطة حرف الجر لا ضمير : ما ، المقدّر ، فجواب : ما ، المقدّر إن كان من جنس جواب القسم فلا يجوز ذلك ، لأنه تعد . والجملة الجوابية إذ ذاك من ضمير يعود على اسم الشرط ، وإن كان من غير جنس جواب القسم فيكف يدل عليه جواب القسم وهو من غير جنسه وهو لا يحذف إلاَّ إذا كان من جنس جواب القسم ؟ ألا ترى أنك لو قلت : والله لئن ضربني زيد لأضربنه ؟ فكيف تقدره : إن ضربني زيد أضربه ؟ ولا يجوز أن يكون التقدير : والله إن ضربني زيد أشكه لأضربنه ، لأن : لأضربنه ، لا يدل على : أشكه ، فهذا ما يرد على قول من خرج : ما ، على أنها شرطية .
وأما قول الزمخشري : ولتؤمنن ، ساد مسد جواب القسم ، والشرط جميعاً فقول ظاهره مخالف لقول من جعل : ما ، شرطية ، لأنهم نصوا على أن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، اللهم إن عنى أنه من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب يسد مسدهما ، فيمكن أن يقال ؛ وأما من حيث تفسير الإعراب فلا يصح ، لأن كلاًّ منهما ، أعني : الشرط والقسم ، يطلب جواباً على حدة ، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما ، لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل فيه ، فيكون في موضع جزم ، والقسم يطلبه على جهة التعلق المعنوي به بغير عمل فيه ، فلا موضع له من الإعراب . ومحال أن يكون الشيء الواحد له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب .
والقول الثاني : قاله أبو علي الفارسي وغيره ، وهو : أن تكون : ما ، موصولة مبتدأة ، وصلتها : آتيناكم ، والعائد محذوف تقديره : آتيناكموه ، و : ثم جاءكم ، معطوف على الصلة ، والعائد منها على الموصول محذوف تقديره : ثم جاءكم رسول به ، فحذف لدلالة المعنى عليه ، هكذا خرجوه ، وزعموا أن ذلك على مذهب سيبويه ، وخرجوه على مذهب الأخفش : أن الربط لهذه الجملة العارية عن الضمير حصل بقوله : لما معكم ، لأنه هو الموصول ، فكأنه قيل : ثم جاءكم رسول مصدق له ، وقد جاء الربط في الصلة بغير الضمير ، إلاَّ أنه قليل : روي من كلامهم : أبو سعيد الذي رويت عن الخدري ، يريدون : رويت عنه وقال : فيا رب ليلى أنت في كل موطن
وأنت الذي في رحمة الله أطمع
يريد في رحمته أطمع .
وخبر المبتدأ ، الذي هو : ما ، الجملة من القسم المحذوف وجوابه ، وهو : لتؤمنن به ، والضمير في : به ، عائد على الموصول المبتدأ ، ولا يعود على : رسول ، لئلا تخلو الجملة التي وقعت خبراً عن المبتدأ من رابط يربطها به ،

" صفحة رقم 534 "
والجملة الابتدائية التي هي : لما آتيناكم ، إلى آخره هي الجملة المتلقى بها ما أجرى مجرى القسم ، وهو قوله : ) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ ).
والقول الثالث : قاله بعض أهل العلم ، وهو : أن تكون : ما ، موصولة مفعولة بفعل جواب القسم ، التقدير : لتبلغن ما آتيناكم من كتاب وحكمة ، قال : إلاَّ أنه حذف : لتبلغن ، لدلالة عليه ، لأن لام القسم إنما تقع على الفعل ، فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل حذف ، ثم قال تعالى : ) ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ ( وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ( وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ، انتهى . ويعني : يكون : لتؤمنن به ، جواب قسم محذوف ، وهذا بعيد جداً لا يحفظ من كلامهم ، والله لزيداً تريد ليضربن زيداً .
والقول الرابع : قاله ابن أبي إسحاق ، وهو : أن يكون : لما ، تخفيف لما ، والتقدير : حين آتيناكم ، ويأتي توجيه قراءة التشديد .
وأمّا توجيه قراءة حمزة : فاللام هي للتعليل ، و : ما ، موصولة : بآتيناكم ، والعائد محذوف . و : ثم جاءكم ، معطوف على الصلة ، والرابط لها بالموصول إما إضمار : به ، على ما نسب إلى سيبويه ، وإما هذا الظاهر الذي هو : لما معكم ، لأنه في المعنى هو الموصول على مذهب أبي الحسن .
وقول الزمخشري : فجواب : أخذ الله ميثاق النبيين هو لتؤمنن به ، والضمير في : به ، عائد على رسول ، ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور ، لو قلت : أقسمت للخبر الذي بلغني عن عمر ولأحسنن إليه ، جاز . وأجاز الزمخشري ، في قراءة حمزة ، أن تكون : ما ، مصدرية ، وبدأ به في توجيه هذه القراءة ، قال : ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ، على أن : ما ، مصدرية ، والفعلان معها أعني : آتيناكم وجاءكم ، في معنى المصدرين ، واللام داخلة للتعليل على معنى : أخذ الله ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ولينصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة ، وأن الرسول الذي أمرتكم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف . انتهى كلامه . إلاَّ أن ظاهر هذا التعليل الذي ذكره ، وهذا التقدير الذي قدره ، أنه تعليل للفعل المقسم عليه ، فإن عنى هذا الظاهر فهو مخالف لظاهر الآية ، لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخذ الميثاق لا لمتعلقة ، وهو الإيمان . فاللام متعلقة بأخذ ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله : لتؤمنن به ، ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . تقول : والله لأضربن زيداً ، فلا يجوز : والله زيداً لاضربن ، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في : لما ، بقوله : لتؤمنن به .
وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب ، إذا كان ظرفاً أو مجروراً ، تقدّمه ، وجعل من ذلك عوض لا نتفرق ، وقوله تعالى : ) عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ( فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله : لتؤمنن به ، وفي هذه المسألة تفصيل يذكر في علم النحو .
وذكر السجاوندي ، عن صاحب النظم : أن هذه اللام في قراءة حمزة هي بمعنى : بعد ، كقول النابغة : توهمت آيات لها فعرفتها
لستة أعوام وذا العام سابع
فعلى ذا لا تكون اللام في : لما ، للتعليل .
وأمّا توجيه قراءة سعيد بن جبير ، والحسن : لما ، فقال أبو إسحاق : أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق ، وتكون : لما ، تؤول إلى الجزاء كما تقول : لما جئتني أكرمتك . انتهى كلامه .
قال ابن عطية : ويظهر أن : لما ، هذه هي الظرفية ، أي : لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق ، إذ على القادة يؤخذ ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة .
وقال الزمخشري : لما ، بالتشديد بمعنى : حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق وجب عليكم الإيمان به ونصرته . انتهى . فاتفق ابن عطية والزمخشري على أن : لما

" صفحة رقم 535 "
ظرفية ، واختلفا في تقدير الجواب العامل في : لما ، على زعمهما . فقدّره ابن عطية من القسم ، وقدّره الزمخشري من جواب القسم ، وكلا قوليهما مخالف لمذهب سيبويه في : لما ، المقتضية جواباً ، فإنها عند سيبويه حرف وجواب لوجوب ، وليست ظرفية بمعنى : حين ، ولا بمعنى غيره ، وإنما ذهب إلى ظرفيتها أبو علي الفارسي .
وقد تكلمنا على ذلك كلاماً مشبعاً في كتاب ( التكميل لشرح التسهيل ) وبينا أن الصحيح مذهب سيبويه .
وذهب ابن جني في تخريج هذه القراءة إلى أن أصلها : لمن ما ، وزيدت : من ، في الواجب على مذهب الأخفش ، ثم أدغمت كما يجب في مثل هذا ، فجاء : لمما ، فثقل اجتماع ثلاث ميمات ، فحذفت الميم الأولى فبقي : لما .
قال ابن عطية : وتفسير هذه القراءة على هذا التوجيه الملحق تفسير : لما ، بفتح الميم مخففة ، وقد تقدّم . انتهى .
وظاهر كلامه أن : من ، في قوله : لمن ما ، زائدة في الواجب على مذهب الأخفش ، وقد ذكر هذا التقدير في توجيه قراءة : لما ، بالتشديد الزمخشري ولم ينسبه إلى أحد ، فقال : وقيل أصله : لمن مّا ، فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي : الميمان والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم ، فحذفوا إحداها ، فصارت : لما ، ومعناه : لمن أجل ما آتيناكم لتؤمنن به ، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى . انتهى كلامه . وهو مخالف لكلام ابن جني في : من ، المقدّر دخولها على : ما ، فإن ظاهر كلام ابن جني أنها زائدة ، وظاهر كلام الزمخشري أنها ليست بزائدة ، لأنه جعلها للتعليل .
وفي قول الزمخشري : فحذفوا إحداهما ، إبهام في المحذوف ، وقد عينها ابن جني : بأن المحذوفة هي الأولى ، وهذا التوجيه في قراءة التشديد في غاية البعد ، وينزه كلام العرب أن يأتي فيه مثله ، فكيف كلام الله تعالى ؟ وكان ابن جني كثير التحمل في كلام العرب . ويلزم في : لما ، على ما قرره الزمخشري أن تكون اللام في : لمن ما آتيناكم ، زائدة ، ولا تكون اللام الموطئة ، لأن اللام الموطئة إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر ، لو قلت : أقسم بالله لمن أجلك لأضربن عمراً ، لم يجز ، وإنما سميت موطئة لأنها توطىء ما يصلح أن يكون جواباً للشرط للقسم ، فيصير جواب الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه .
وقرأ نافع : آتيناكم ، على التعظيم وتنزيل الواحد منزلة الجمع ، وقرأ الجمهور : آتيتكم ، على الإفراد وهو الموافق لما قبله وما بعده ، إذ تقدّمه ) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ ( وجاء بعده ) إِصْرِى ).
وقرأ عبد الله : رسول مصدّقاً ، نصبه على الحال ، وهو جائز من النكرة ، وإن تقدّمت النكرة . وقد ذكرنا أن سيبويه قاسه ، ويحسن هذه القراءة أنه نكرة في اللفظ معرفة من حيث المعنى ، لأن المعني به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) على قول الجمهور ، وقوله : لما آتيتكم ، إن أريد جميع الأنبياء ، وهو ظاهر اللفظ ، فإن أريد بالإيتاء الإنزال فليس كلهم أنزل عليهم ، فيكون من خطاب الكل بخطاب أشرف أنواعه ، ويكون التعميم في الأنبياء مجازاً ، وإن أريد بالإيتاء كونه مهتدى به وداعياً إلى العمل به صح ذلك في جميع الأنبياء ، ويكون التعميم حقيقة . وكذلك إن أريد بالأنبياء المجاز ، وهو : أممهم ، يكون إيتاؤهم الكتاب كونه تعالى جعله هادياً لهم وداعياً .
( ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ ( أي : ثم جاء في زمانكم . ومعنى التصديق كونه موافقاً في التوحيد والنبوّات وأصول الشرائع ، وجميعهم متفقون على أن الحق في زمان كل نبي شرعه وفي قول : رسول ، دلالة على أن الميثاق المأخوذ هو ما قرر في العقول من الدلائل التي توجب الإنقياد لأمر الله ، وفي قوله : ) مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ ( دلالة على أن الميثاق هو شرحه لصفات الرسول في كتب الأنبياء ، فهذان الوجهان محتملان ، وأوجب الإيمان أولاً ، والنصرة ثانياً ، وهو ترتيب ظاهر .
( قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى ( ظاهره أن الضمير في : قال ، عائد على الله تعالى ، وفي : أقررتم ، خوطب به الأنبياء المأخوذ عليهم الميثاق على الخلاف ، أهو على ظاهره ؟ أم هو على حذف مضاف ؟ أم هو مما حذف بعد النبيين وتقديره ميثاق النبيين على أممهم ؟ لم يكتف بأخذ الميثاق حتى استنطقه بالإقرار بالإيمان به والنصرة له .
قيل : ويحتمل أن يكون الضمير في : قال ، على كل فرد فرد من النبين ، أي : قال كل نبي لأمته : أأقررتم ، ومعنى هذا القول على هذا الاحتمال الإثبات والتأكيد ، لم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم ، بل طالبوهم بالإقرار بالقول .
ويكون : إصري ، على الظاهر مضافاً إلى الله تعالى ، وعلى هذا القول الثاني يكون مضافاً إلى النبي والإصر : العهد لأنه مما يؤصر أي يشدّ ويعقد . وقرىء بضم الهمزة ، وهي مروية

" صفحة رقم 536 "
عن أبي بكر عن عاصم ، فيحتمل أن يكون ذلك لغة في : اصر ، كما قالوا : اناقة أسفار عبر ، وعبر أسفار ، وهي المعدّة للأسفار . ويحتمل أن يكون جمعاً لإصار ، كإزار وأزر ومعنى الأخذ هنا : القبول .
( قَالُواْ أَقْرَرْنَا ( معناه أقررنا بالإيمان به وبنصرته ، وقبلنا ذلك والتزمناه . وثم جملة محذوفة أي : أقررنا وأخذنا على ذلك الإصر ، وحذفت لدلالة ما تقدم عليها .
( قَالَ فَاشْهَدُواْ ( الظاهر أنه تعالى قال للنبيين المأخوذ عليهم الميثاق : فاشهدوا ، ومعناه من الشهادة أي : ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأخذ الإصر ، قاله مقاتل . وقيل : فاشهدوا هو خطاب لملائكة ، قاله ابن المسيب . وقيل : معنى : فاشهدوا ، بينوا هذا الميثاق للخاص والعام لكيلا يبقى لأحد عذر في الجهل به ، وأصله : أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى ، قاله الزجاج ، ويكون : اشهدوا ، بمعنى : أدّوا ، لا يمعنى : تحملوا . وقيل : معناه استيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له ، قاله ابن عباس . وقيل : فاشهدوا ، خطاب للأنبياء إذا قلنا : إن أخذ الميثاق كان على أتباعهم أمروا بأن يكونوا شاهدين على أممهم ، وروي هذا عن عليّ بن أبي طالب .
وعلى القول : بأن المعنى في : قال أأقررتم ، أي : قال كل نبي ، يكون المعنى على بكل نبي لأمّته فاشهدوا ، أي : ليشهد بعضكم على بعض . وقوله : فاشهدوا ، معطوف على محذوف التقدير ، قال : أأقرتم فاشهدوا ، فالفاء دخلت للعطف . ونظير ذلك قوله : ألقيت زيداً ؟ قال : فأحسن إليه . التقدير : لقيت زيداً فاحسن إليه ، فما فيه الفاء بعض المقول ، ولا يجوز أن يكون كل المقول لأجل الفاء ، ألا ترى قال : أأقررتم ، وقوله : قالوا أقررنا ؟ لما كان كل المقول لم تدخل بالفاء .
( وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ ( يحتمل الاسئناف على سبيل بالتوكيد ، ويحتمل أن يكون جملة حالية
2 ( ) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ) ) 2
) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (
آل عمران : ( 82 ) فمن تولى بعد . . . . .
أي : من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول ، وعن نصرته بعد أخذ الميثاق والإقرار والتزام العهد ، قاله عليّ بن أبي طالب وغيره . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق ، على أن قوله تعالى : فاشهدوا ، أمر بالأداء .
و : من ، الظاهر أنها شرط ، والجملة من : فأولئك وما بعده جزاء ، ويحتمل أن تكون موصولة ، وأعاد الضمير في : تولى ، مفرداً على لفظ : من وجمع في : فأولئك ، حملاً على المعنى ، وهذه : ذلك الجملة تدل عل أن الذين أخذ منهم الميثاق هم أتباع الأنبياء ، لأنه حكم تعالى بالفسق على من تولى بعد ذلك ، وهذا الحكم لا يليق إلاَّ بأمم الأنبياء ، وأيضاً فالأنبياء ، عليهم السلام ، كانوا أمواتاً عند مبعثه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، يعلمنا أن المأخوذ عليهم الميثاق هم أممهم .
وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة . منها : الطباق : في : بقنطار وبدينار ، إذ أريد بهما القليل والكثير ، وفي : يؤدّه ولا يؤدّه ، لأن الأداء معناه الدفع وعدمه معناه المنع ، وهما ضدان ، وفي قوله : بالكفر ومسلمون ، والتجنيس المغاير في : اتقى والمتقين ، وفي : فاشهدوا والشاهدين ، والتجنيس المماثل في : ولا يأمركم أيأمركم ، وفي : أقررتم وأقررنا . والإشارة في قوله : ذلك بأنهم ، وفي أولئك لا خلاق لهم . والسؤال والجواب ، وهو في : قال أأقررتم ؟ ثم : قالوا أقررنا . والاختصاص في : يحب المتقين ، وفي يوم القيامة ، اختصه بالذكر لأنه اليوم الذي تظهر فيه مجازاة الأعمال . والتكرار في : يؤدّه ولا يؤده ، وفي اسم الله في مواضع ، وفي : من الكتاب وما هو من الكتاب . والاستعارة في : يشترون بعهد الله . والالتفات في : لما آتيتكم ، وهو خطاب بعد قوله : النبيين ، وهو لفظ غائب . والحذف في عدة مواضع تقدمت .

" صفحة رقم 537 "
2 ( ) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاٌّ سْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاٌّ خِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَائِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الاٌّ رْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ( ) ) 2
آل عمران : ( 83 ) أفغير دين الله . . . . .
الملء : مقدار ما يملأ ، وهو اسم يثنى ويجمع يقال : ملء القدح ، وملآه ، وثلاثة أملائه ، وبفتح الميم المصدر ، يقال : ملأت الشيء املأه ملأ ، والملاءة التي تلبس ، وهي الملحفة بضم الميم والهمز . وتقدمت هذه المادة في شرح : الملأ .
( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ( روي عن ابن عباس : اختصم أهل الكتاب فزعمت كل فرقة أنها أولى بدين إبراهيم ، فقال النبي كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم ، فغضبوا . وقالوا : والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك . فنزلت هذه الآية .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهر جداً .
والهمزة في : أفغير ؟ للإنكار والتنبيه على الخطأ في التولي والإعراض ، وأضيف الدين إلى الله لأنه تعالى هو الذي شرعه وتعبد به الخلق ، ومعنى : تبغون ، تطلبون ، وهو هنا بمعنى : تدينون لأنهم متلبسون بدين غير دين الله لا طالبوه ، وعبر بالطلب إشعاراً بأنهم في كل الوقت باحثون عنه ومستخرجوه ومبتغوه .
وقال الماتريدي : فإن قيل كل عاقل يبتغي دين الله ويدعي أنّ الذي هو عليه دين الله .
قيل : الجواب من وجهين .
أحدهما : أنه لما قصر في الطلب جعل في المعنى كأنه باغ غير دين الله ، إذ لو كان باغياً لبالغ في الطلب من الوجه الذي يوصل إليه منه ، فكأنه ليس باغياً من حيث المعنى ، ولكنه من حيث الصورة .
والثاني : أنه قد بان للبعض في الابتغاء ما هو الحق لظهور الحجج والآيات ، ولكن أبى إلاَّ العناد ، فهو باغ غير دين الله ، فتكون الآية في المعاندين . انتهى كلامه .
وقرأ أبو عمرو ، وحفص ، وعياش ، ويعقوب ، وسهل : يبغون ، بالياء على الغيبة ، وينسبها ابن عطية لأبي عمرو ، وعاصم بكماله . وقرأ الباقون : بالتاء ، على الخطاب ، فالياء على نسق : هم الفاسقون ، والتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها ، وقدمت الهمزة اعتناء بالاستفهام . والتقدير : فأغير ؟ وجوّز

" صفحة رقم 538 "
هذا الوجه الزمخشري ، وهو قول جميع النحاة قبله . قال : ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره : أيتولون فغير دين الله يبغون . انتهى . وقد تقدم ذكر هذا والكلام على مذهبه في ذلك ، وأمعنا الكلام عليه في كتاب ( التكميل ) من تأليفنا .
وانتصب : غير ، على أنه مفعول يبغون ، وقدم على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل ، قاله الزمخشري . ولا تحقيق فيه ، لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات ، إنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات ، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله ، وانما جاء تقديم المفعول هنا من باب الاتساع ، وشبه : يبغون ، بالفاصلة بآخر الفعل .
( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ طَوْعًا وَكَرْهًا ( أسلم عند الجمهور : استسلم وانقاد ، قال ابن عباس : أسلم طوعاً بحالته الناطقة عند أخذ الميثاق عليه ، وكرهاً عند دعاء الأنبياء لهم إلى الإسلام . وقال مجاهد : سجود ظل المؤمن طائعاً وسجود ظل الكافر كاره . كما قال تعالى : ) وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ ( وقال مجاهد أيضاً ، وأبو العالية ، والشعبي : ما يقار معناه : أسلم أقرّ بالخالقية والعبودية ، وإن كان فيهم من أشرك في العبادة ، فمن أشرك أسلم كرهاً . ومن أخلص أسلم طوعاً . وقال الحسن : أسلم قوم طوعاً وقوم خوف السيف . وقال مطر الوراق : أسلم من في السموات طوعاً وكذلك الأنصار ، وبنو سليم ، وعبد القيس ، وأسلم سائر الناس كرهاً حذر القتال والسيف . وأسلم على هذا القول في ضمنه الإيمان . وقال قتادة : الإسلام كرهاً هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه . وقال ابن عطية : ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك ، وهذا غير موجود إلاَّ في أفراد . انتهى . وقال عكرمة : طوعاً باضطرار الحجة . وقال الزمخشري : طوعاً بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه ، وكرهاً و بالسيف ، أو بمعاينة ما يلجىء إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل ، وإدراك الغرق فرعون ، والإشفاء على الموت ) فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ). انتهى . فلفق الزمخشري تفسير : طوعاً ، من قول عكرمة وتفسير قوله : وكرهاً ، من قول مطر الوراق وقول قتادة . وقال الكلبي : طوعاً بالولادة على الإسلام ، وكرهاً بالسيف .
وقال ابن كيسان : المعنى : وله خضع من في السموات والأرض فيما صورهم فيه ودبرهم عليه ، وما يحدث فيهم فهم لا يمتنعون عليه كرهوا ذلك أو أحبوه ، رضوا بذلك أو سخطوه ؛ وهذا معنى قول الزجاج : إن الأسلام هنا الخضوع لنفوذ أمره في جبلته ، لا يقدر أحد أن يمتنع مما جبل عليه ولا أن يغيره والذي يظهر عموم من في السموات ، وخصوص من في الأرض .
والطوع هو الذي لا تكلف فيه ، والكره ما فيه مشقة ، فإسلام من في السموات طوع صرف إذ هم خالون من الشهوات الداعية إلى المخالفة ، وإسلام من في الأرض ، من كان منهم معصوماً كان طوعاً ، ومن كان غير معصوم كان كرهاً ، بمعنى أنه في مشقة ، لأن التكاليف جاءت على مخالفة الشهوات النفسانية ، فلو لم يأت رسول من الله مبشر بالثواب ومنذر بالعقاب لم يلتزم الإنسان شيئاً من التكاليف .
وهذه الأقوال لا تخرج : أسلم ، فيها عن أن يحمل على الاستسلام ، وعلى الإعتقاد ، وعلى الإقرار باللسان ، وعلى التزام الأحكام . وقد قيل بهذا كله .
والجملة من قوله : ) وَلَهُ أَسْلَمَ ( حالية . و : طوعاً وكرهاً ، مصدران في موضع الحال ، أي : طائعين وكارهين . وقيل : هما مصدران على خلاف الصدر .

" صفحة رقم 539 "
وقرأ الأعمش : كرهاً ، بضم الكاف ، والجمهور بفتحها .
( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( تهديد عظبم لمن اتبع وابتغى غير دين الله ، وتقدّم معنى الرجوع إليه ، ويحتمل أن يكون قد عطف على قوله : ) وَلَهُ أَسْلَمَ ( فيكون مشاركاً له في الحالية ، وكأنه نعى عليهم ابتغاء غير دين من انقاد إليه المكلفون كلهم ومن إليه مرجعهم ، فيجازيهم على أعمالهم . والمعنى : أن من كان بهاتين الصفتين لا يبتغي ديناً غير دينه ، ويحتمل أن يكون اسئتنافاً وإخباراً بأنه تعالى إليه مصيرهم ومنقلبهم فيجازيهم بأعمالهم .
وقرأ حفص ، وعباس ، ويعقوب ، وسهل : يرجعون ، بالياء على الغيبة ، فيحتخمل أن يكون عائداً على من أسلم ، ويحتمل أن يكون عائداً على غير ضمير يبغون ، فيكون على سبيل الالتفات على قراءة من قرأ : تبغون ، بالتاء إذ يكون قد انتقل من خطاب إلى غيبة . وقرأ الباقون : بالتاء ، فإن عاد الضمير على من كان التفاتاً ، أو على ضمير : تبغون ، كان التفاتاً على قراءة من قرأ : يبغون ، بالياء ، أو يكون قد انتقل من غيبة إلى خطاب .
آل عمران : ( 84 ) قل آمنا بالله . . . . .
( قُلْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاْسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ ( هذه الآية موافقة لما في البقرة إلاَّ في : قل ، وفي : علينا ، وفي : عيسى والنبيون ، وقد تقدّم شرح ما في البقرة فأغنى عن إعادته هنا ، إلاَّ ما وقع فيه الخلاف ، فنقول : الظاهر في : قل ، أنه خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أمر أن يخبر عن نفسه وعن أمته بقوله : آمنا به ، ويقوي أنه إخبار عنه وعن أمته قوله أخيراً : ونحن له مسلمون . وأفرده بالخطاب بقوله : قل ، لأنه تقدّم ذكره في أخذ الميثاق في قوله : ثم جاءكم رسول ، فعينه في هذا التكليف ليظهر فيه كونه مصدّقاً لما مع الأنبياء الذين أخذ عليهم الميثاق . وقال : آمنا ، تنبيهاً على أن هذا التكليف ليس من خواصه ، بل هو لازم لكل المؤمنين . قال تعالى : ، كل آمن بالله ( بعد قوله : ) ( بعد قوله : ) الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ).
قال الزمخشري ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من الله لقدر نبيه وقال ابن عطية : المعنى قل يا محمد ، أنت وأمتك : آمنا بالله ، فيظهر من كلام ابن عطية أن ثم معطوفاً حذف ، وأن ثم الأمر متوجه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمته .
وأما تعدية أنزل ، هنا : بعلى ، وفي البقرة بإلى فقال ابن عطية : الإنزال على نبي الأمة إنزال عليها .
وقال الزمخشري : فإن قلت لم عدَّى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء ، وفيما تقدّم من مثلها بحرف الانتهاء ؟ .
قلت لوجود المعنيين جميعاً ، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهى إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر .
وقال الراغب : إنما قال هنا : على ، لأن ذلك لما كان خطاباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشر كان لفظ على المختص بالعلوّ أولى به ، وهناك ، لما كان خطاباً للأمة ، وقد وصل إليهم بواسطة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كان لفظ : إلى ، المختص بالإيصال أولى ، ويجوز أن يقال : أنزل عليه إنما على ما أمر المنزل عليه أن يبلغ غيره ، وأنزل إليه على ما خص به في نفسه . وإليه نهاية الإنزال ، وعلى ذلك قال : ) أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ( وقال : ) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ( خص هنا : بإلى ، لما كان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيان المنزل ، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب . انتهى كلامه .
وذكر الزمخشري أن : من قال هذا الفرق فقد تعسف ، قال : ألا ترى إلى قوله : ) بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ( ) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ( وإلى قوله : ) وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ ( ؟ انتهى .
وأما إعادة لفظ : وما أوتي ، فلأنه لما كان لفظ الخطاب عاماً ، ومن حكم خطاب العام البسط دون الإيجاز ، ولما كان الخطاب هنا خاصاً اكتفى فيه بالإيجاز .
آل عمران : ( 85 ) ومن يبتغ غير . . . . .
( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ( الإسلام هنا قيل هو الاستسلام إلى الله والتفويض إليه ، وهو

" صفحة رقم 540 "
مطلوب في كل زمان ومكان وشريعة ، ولذلك فسره الزمخشري بالتوحيد ، وإسلام الوجه لله .
وقيل : المراد بالإسلام شريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بيَّن تعالى أن من تحرّى بعد مبعثه شريعة غير شريعته فغير مقبول منه ، وهو الدين الذي وافق في معتقداته دين من ذكر من الأنبياء .
قيل : وعن ابن عباس لما نزلت : ) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى ( الآية أنزل الله بعدها : ) وَمَن يَبْتَغِ ( الآية . وهذا إشارة إلى نسخ ) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ). وعن عكرمة : لما نزلت قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : قد أسلمنا قبلك ونحن المسلمون ، فقال الله له : حجهم يا محمد ، وأنزل ) وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( فحج المسلمون وقعد الكفار .
وقيل : نزلت في الحارث بن سويد ، وستأتي قصته بعد هذا . وقبول العمل هو رضاه وإثابة فاعله عليه .
وانتصب : ديناً على التمييز : لغير ، لأن : غير ، مبهمة ، ففسرت بدين ، كما أن مثلاً مبهمة فتفسر أيضاً . وهذا كقولهم : لنا غيرها إبلاً وشاء ، ومفعول : يبتغ هو : غير ، وقيل : ديناً ، مفعول ، و : غير ، منصوب على الحال لأنه لو تأخر كان نعتاً وقيل : ديناً ، بدل من : غير ، والجمهور على إظهار الغينين وروي عن أبي عمرو الإدغام .
( وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( الخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب شبه في تضييع زمانه في الدنيا باتباع غير الإسلام بالذي خسر في بضاعته ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة قد عطفت على جواب الشرط ، فيكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً عدم القبول والخسران ، ويحتمل أن لا تكون معطوفة عليه بل هي استئناف إخبار عن حاله في الآخرة .
و : في الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده ، أي : وهو خاسر في الآخرة ، أو : بإضمار أعني ، أو : بالخاسرين على أن الألف واللام ليست موصولة بل للتعريف ، كهي في : الرجل ، أو : به على أنها موصولة ، وتسومح في الظرف والمجرور لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما ، وكلُّ منقول ، وقد تقدّم لنا نظير .
آل عمران : ( 86 ) كيف يهدي الله . . . . .
( كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( نزلت في أهل الكتاب آمنوا بالتوراة والإنجيل وفيهما ذكر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فغيروه وكفروا بعد إيمانهم بنبوّته ، قاله الحسن وروى عطية قريباً منه عن ابن عباس وقال مقاتل : في عشرة رهط ارتدوا فيهم الحارث بن سويد الأنصاري ، فندم ورجع ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، وذكر مجاهد ، والسدّي : أن الحارث كان يظهر الإسلام ، فلما كان يوم أحد قتل المجدر بن زياد بدم كان له عليه ، وقتل زيد بن قيس ، وارتد ولحق بالمشركين ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عمر أن يقتله إن ظفر به ، ففاته ، ثم بعث إلى أخيه من مكة يطلب التوبة ، فنزلت إلى قوله : ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ( فكتب بها قومه ، إليه فرجع تائباً .
ورواه عكرمة عن ابن عباس ، ولم يسمه ، ولم يذكر سوى أنه رجل من الأنصار ارتد فلحق بالمشركين ، وخرجه النسائي عن ابن عباس مطولاً وقيل : لحق بالروم وقيل : ارتد الحارث في أحد عشر رجلاً ، وسمى منهم الزمخشري : طعمة بن أبيرق ، والحارث بن سويد بن الصامت ، ووحوح بن الأسلت ، وذكر عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ، وسمى منهم : أبا عامر الراهب ، والحارث ووجوهاً .
وقال النقاش : نزلت في طعمة بن أبيرق . ألفاظ الآية تعم كل من ذكر وغيرهم . وقيل : هي في عامة المشركين وقال مجاهد : حمل الآيات إلى الحارث رجل من قومه فقرأها عليه فقال له الحارث : إنك والله ما علمت لصدوق ، وإن رسول الله لأصدق منك ، وإن الله تعالى لأصدق

" صفحة رقم 541 "
الثلاثة . قال فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه .
كيف : سؤال عن الأحوال ، وهي هنا للتعجيب والتعظيم لكفرهم بعد الإيمان ، أي : كيف يستحق الهداية من أتى بما ينافيها بعد التباسه بها ووضوحها ؟ فاستبعد حصولها لهم مع شدّة الجرائم ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( كيف تفلح أمة أدمت وجه نبيها ) ؟ .
وقال الزمخشري : كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف لما علم الله من تصميمهم على كفرهم ؟ انتهى . وهذه نزعة إعتزالية ، إذ ليس المعنى عنده : إن الله يخلق الهداية فيهم كما لا يخلق الضلال فيهم ، بل هما مخلوقان للعبد .
وقيل : الاستفهام هنا يراد به الجحد ، والمعنى : ليس يهدي ، ونظيره قول الشاعر : فهذي سيوف ، يا صديّ بن مالك
كثير ، ولكن : أين بالسيف ضارب ؟
وقول الآخر : كيف نَومي على الفراش ولما
يشمل الشام غارة شعواء ؟
والهداية هنا هي إلى الإيمان واتباع الحق ، وأبعد من زعم أن المعنى : لا يهديهم إلى الجنة إلاَّ إن تجوَّز ، فأطلق المسبب على السبب ، لأن دخول الجنة مسبب عن الإيمان ، فيعود إلى القول الأول .
وشهدوا : ظاهره أنه معطوف على قوله كفروا ، وبه قال الحوفي ، وابن عطية ، ورده مكي وقال : لا يجوز عطف : شهدوا ، على : كفروا ، لفساد المعنى ، ولم يبين من أي جهة فساد المعنى ، وكأنه توهم الترتيب ، فلذلك فسد المعنى عنده وقال ابن عطية : المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكفر ، و : الواو ، لا ترتب ، وأجاز قوم منهم : مكي ، والزمخشري : أن يكون معطوفاً على : ما في إيمانهم ، من معنى الفعل ، إذ المعنى : بعد أن آمنوا وشهدوا . وأجاز الزمخشري وغيره أن تكون : الواو ، للحال لا للعطف ، التقدير : كفروا بعد إيمانهم وقد شهدوا ، والعامل فيه : كفروا .
والرسول هنا : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قاله الجمهور ، وجوّز أن يكون الرسول هنا بمعنى الرسالة ، وفيه بعد .
والبينات : هي شواهد القرآن ، والمعجزات التي تأتي بمثلها الأنبياء .
( وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( أي : لا يخلق في قلوبهم الهداية . و : الظالمين ، عام معناه الخصوص أي : لا يهدي من قضى عليه بأنه يموت على الكفر قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على هدى من الله ، فتجيء الآية عامة تامة العموم . انتهى . وهذا المعنى الذي ذكره ينبو عنه لفظ الآية وقال الزمخشري : الظالمين ، المعاندين الذين علم الله أن اللطف لا ينفعهم . انتهى . وتفسيره على طريقته الإعتزالية .
آل عمران : ( 87 - 88 ) أولئك جزاؤهم أن . . . . .
( أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ( تقدم تفسير مثل هذه الجملة . وتوجيه قراءة الحسن : والناس أجمعون ، في سورة البقرة ، فأغنى عن إعادته ، إلاَّ أن هنا ) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ ( أي : جزاء كفرهم ، وهناك ) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ ( ، لأن هناك جاء الإخبار عن من مات كافراً ، فلذلك تحتمت اللعنة عليهم ، وهنا ليس كذلك ، ألا ترى إلى سبب النزول ؟ وأن أكثر الأقوال إنها نزلت في قوم ارتدوا ثم راجعوا الإسلام ؟ ولذلك جاء الاستثناء وهو قوله
آل عمران : ( 89 ) إلا الذين تابوا . . . . .
: ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ ( وهو استثناء متصل ، ولذلك قال ) مِن بَعْدِ ذالِكَ ( أي : من بعد ذلك الكفر العظيم .
( وَأَصْلَحُواْ ( أي : ما أفسدوا ، أو : دخلوا في الصلاح ، كما تقول : أمسى زيد أي : دخل في المساء وقيل : معنى أصلحوا أظهروا أنهم كانوا على ضلال ، وتقدم تفسير هذه اللفظة في البقرة في قوله ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُوا

" صفحة رقم 542 "
ْ وَبَيَّنُواْ ).
) فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( غفور أي لكفرهم ، رحيم لقبول توبتهم ، وهما صيغتان مبالغة دالتان على سعة رحمته .
آل عمران : ( 90 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ( نزلت في اليهود ، كفروا بعيسى وبالإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعد إيمانهم بنعته ، قاله قتادة ، والحسن وقيل : في اليهود كفروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعد إيمانهم بصفاته ، وإقرارهم أنها في التوراة ، ثم ازدادوا كفراً بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الافتراء والبهت والسعى على الاسلام ، قاله أبو العالية . أو : معنى : ثم ازدادوا كفراً ، تموا على كفرهم وبلغوا الموت به ، فيدخل فيه اليهود والمرتدون ، قاله مجاهد ، وقال نحوه السدي وقيل : نزلت فيمن مات على الكفر من أصحاب الحارث بن سويد ، فإنهم قالوا : نقيم ببكة ونتربص بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ريب المنون ، قاله الكلبي .
ويفسر بهذه الأقوال معنى ازدياد الكفر ، وهو بحسب متعلقاته ، إذ الإيمان والكفر في التحقيق لا يزدادان ولا ينقصان ، وإنما تحصل الزيادة والنقصان للمتعلقات ، فينسب ذلك إليهما على سبيل المجاز . وازدادوا افتعلوا من الزيادة ، وانتصاب : كفراً ، على التمييز المنقول من الفاعل ، المعني : ثم ازداد كفرهم ، والدال الأولى بدل من تاء الافتعال .
ويحتمل قوله ) لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ( وجهين : .
أحدهما : أنه تكون منهم توبة ولا تقبل ، وقد علم أن توبة كل كافر تقبل سواء كفر بعد إيمان وازداد كفراً ، أم كان كافراً أول مرة . فاجتيج في ذلك إلى تخصيص ، فقال الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي : نفي توبتهم مختص بالحشرجة والغرغرة والمعاينة قال النحاس : وهذا قول حسن ، كقوله : ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ( الآية . وقال أبو العالية : لن تقبل توبتهم من الذنوب التي أصابوها مع إقامتهم على الكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن عباس : لن تقبل توبتهم لأنها توبة غير خالصة ، إذ هم مرتدون ، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم وفي ضمائرهم الكفر وقال مجاهد : لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر وقيل : لن تقبل توبتهم التي تابوها قبل أن كفروا ، لأن الكفر قد أحبطها . وقيل : لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفر إلى كفر ، وإنما تقبل إذا تابوا إلى الاسلام . وفاصل هذا التخصيص أنه تخصيص بالزمان ، أو يوصف في التوبة .
والوجه الثاني : أن يكون المعنى : لا توبة لهم فتقبل ، فنفى القبول ، والمراد نفي التوبة فيكون من باب قوله .
على لا حبٍ لا يهتدي لمناره
أي : لا منار له فيهتدي به ، ويكون ذلك في قوم بأعيانهم ، حتم الله عليهم بالكفر أي : ليست لهم توبة فهم لا محالة يموتون على الكفر . وقد أشار إلى هذا المعنى الزمخشري ، وابن عطية .
ولم تدخل : الفاء ، في : لن تقبل ، هنا ، ودخلت في : فلن تقبل ، لأن الفاء مؤذنة بالإستحقاق بالوصف السابق ، وهناك قال : وماتوا وهم كفار وهنا لم يصرح بهذا القيد .
وقال الزمخشري : فإن قلت فحين كان معنى : ) لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ( بمعنى الموت على الكفر فهلا جعل الموت على الكفر مسبباً عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك من قساوة القلوب ، وركوب الرين ، وجره إلى الموت على الكفر ؟ .
قلت لأنه : كم من مرتدٍ ازداد الكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر ؟ .
فإن قلت : فأي فائدة في هذه الكناية : أعني : إن كنى عن الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة ؟ .
قلت الفائدة فيها جليلة ، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار ، وإبراز حالهم

" صفحة رقم 543 "
في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال ، وأشدّها . ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة ؟ انتهى كلامه .
وقرأ عكرمة : لن تقبل ، بالنون ، توبتهم ، بالنصب ، والضالون المخطئون طريق الحق والنجاة في الآخرة ، أو : الها لكون ، من : ضل اللبن في الماء إذا صار هالكاً . والواو في : وأولئك ، للعطف إما على خبر إن ، فتكون الجملة في موضع رفع ، وإما على الجملة من : إن ومطلوبيها ، فلا يكون لها موضع من الأعراب .
وذكر الراغب قولاً : إن الواو في : وأولئك ، واو الحال ، والمعنى : لن تقبل توبتهم من الذنوب في حال أنهم ضالون ، فالتوبة والضلال متنافيان لا يجتمعان . انتهى هذا القول . وينبوعن هذا المعنى هذا التركيب ، إذ لو أريد هذا المعنى لم يؤت باسم الإشارة ، ويجوز في : هم ، الفصل ، والابتداء ، والبدل .
آل عمران : ( 91 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا ( قرأ عكرمة : فلن نقبل ، بالنون و : ملء ، بالنصب . وقرىء : فلن يقبل بالياء مبنياً للفاعل ، أي فلن يقبل الله . و : ملء ، بالنصب . وقرأ أبو جعفر ، وأبو السمال : مل الأرض ، يدون همز . ورويت عن نافع ، ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبل ، وهو اللام ، وحذفت الهمزة ، وهو قياس في كل ما كان نحو هذا ، وأتى بلفظ : أحدهم ، ولم يأت بلفظ : منهم ، لأن ذلك أبلغ وأنص في المقصود ، إذ كان : منهم ، يحتمل أن يكون يفيد الجميع .
وانتصاب : ذهباً ، على التمييز ، وفي ناصب التمييز خلاف ، وسماه الفراء : تفسيراً ، لأن المقدار معلوم ، والمقدّر به مجمل . وقال الكسائي : نصب على إضمار : من ، أي : من ذهب ، كقوله : ) أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً ( أي : من صيام . وقرأ الأعمش : ذهب ، بالرفع . قال الزمخشري : ردّ على : ملء ، كما يقال عندي عشرون نفساً رجال . انتهى . ويعني بالردّ : البدل ، ويكون من بدل النكرة من المعرفة ، لأن : ملء الأرض ، معرفة ولذلك ضبط الحذاق قوله : لك الحمد ملء السموات والأرض بالرفع على بالصفة للحمد ، واستعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة .
( وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ( قرأ ابن أبي عبلة : لو افتدى به ، دون واو ، و : لو ، هنا هي بمعنى : إن ، الشرطية لا : لو ، التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره ، لأن : لو ، هنا معلقة بالمستقبل ، وهو : فلن يقبل ، وتلك معلقة بالماضي . فأما قراءة ابن أبي عبلة فإنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول فلم يتعمم نفي وجود القبول ، وأما قراءة الجمهور بالواو ، فقيل : الواو زائدة ، وهو ضعيف ، ويكون المعنى إذ ذاك معنى قراءة ابن أبي عبلة . وقيل : ليست بزائدة .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف موقع قوله ) لَوْ افْتَدَى بِهِ ( ؟ قلت : هو كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً . انتهى . وهذا المعنى ينبو عنه هذا التركيب ولا يحتمله ، والذي يقتضيه هذا التركيب ، وينبغي أن يحمل عليه ، أن الله تعالى أخبر أن من مات كافراً لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ، ولو في حالة افتداء به من العذاب ، لأن حالة الافتداء هي حال لا يمتن فيها المفتدي على المفتدي منه ، إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي ، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن : لو ، تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها ، كقوله : ( أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردوا السائل ولو بظلف محرق ) كأن هذه الأشياء مما كان لا ينبغي أن يؤتى بها ، لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهباً ، لكنه لا يقبل . ونظيره قوله تعالى : ) وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ( لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال ، حتى في حالة صدقهم ، وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها . فلفظ : ولو ، هنا لتعميم النفي والتأكيد له . وقد ذكرنا فائدة مجيئها .
وذهب الزجاج إلى أن المعنى : لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا ، ولو أنفق ملء الأرض ذهباً ، ولو افتدى أيضاً به في الآخرة لم يقبل منه . قال : فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير ، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب . قال ابن عطية : وهذا قول

" صفحة رقم 544 "
حسن . انتهى .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : فلن يقبل من أحدهم ملء الأض ذهباً كان قد تصدّق به ، ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه . انتهى . وهذا معنى قول الزجاج ، إلاَّ أنه لم يقيد الافتداء بالآخرة .
وحكى صاحب ( ري الظمآن ) وغيره عن الزجاج أنه قال : معنى الآية : لو افتدى به في الدنيا مع إقامته على بالكفر لن يقبل منه ، والذي يظهر أن انتفاء القبول ، ولو على سبيل الفدية ، إنما يكون ذلك في الآخرة . وبينه ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( يحاسب الكافر يوم القيامة ، فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم ، فيقال له : قد كنت سئلت أيسر من ذلك ) . وهذا الحديث يبين أن قوله : ) فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ( هو على سبيل الفرض والتقدير أي : لو أن الكافر قدر على أعز الأشياء ، ثم قدر على بذله ، لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذا الله . والمعنى : أنهم آيسون من تخليص أنفسهم من العذاب . فهو نظير ) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( الآيتين ، وعلى هذا يبعد ما قاله الزجاج من أن يكون المعنى : أنهم لو أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهباً لم يقبل ذلك ، لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة .
وافتدى : افتعل من الفدية . قيل : وهو بمعنى فعل ، كشوى واشتوى ، ومفعوله محذوف ، ويحتاج في تعدية افتدى إلى سماع من العرب ، والضمير في : به ، عائد على : ملء الأرض ، وهو : مقدار ما يملؤها ، ويوجد في بعض التفاسير أنه عائد على : الملء ، أو : على الذهب . فقيل : على الذهب غلط .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : ولو افتدى بمثله ، لقوله : ) فِى مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ ( والمثل يحذف كثيراً في كلامهم ، كقولك : ضربت ضرب زيد ، تريد : مثل ضربه ، وأبو يوسف أبو حنيفة ، تريد : مثله .
ولا هيثم الليلة للمطي
و : قضية ولا أبا حسن لها تريد : ولا هيثم ، و : لا مثل أبي حسن ، كما أنه يراد في نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، تريد : أنت : وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد . انتهى كلامه .
ولا حاجة إلى تقدير : مثل ، في قوله ) وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ( وكان الزمخشري تخيل أن ما نفي أن يقبل لا يمكن أن يفتدى به ، فاحتاج إلى إضمار : مثل ، حتى يغاير بين ما نفي قبوله وبين ما يفتدى به ، وليس كذلك ، لأن ذلك كما ذكرناه هو على سبيل الفرض ، والتقدير : إذ لا يمكن عادة أن أحداً يملك ملء الأرض ذهباً بحيث لو بذله على أي جهة بذله لم يقبل منه ، بل لو كان ذلك ممكناً لم يحتج إلى تقدير مثل ، لأنه نفي قبوله حتى في حالة الافتداء ، وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به ، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه ، ولا معنى له ، ولا في الفظ ولا المعنى ما يدل عليه ، فلا يقدر . وأما فيما مثل به من : ضربت ضرب زيد ، وأبو يوسف أبو حنيفة ، فبضرورة العقل نعلم أنه لا بد من تقدير : مثل ، إذ ضربك يستحيل أن يكون ضرب زيد ، وذات أبي يوسف يستحيل أن تكون ذات أبي حنيفة . وأما :
لا هيثم الليلة للمطي .
يدل على حذف : مثل ما تقرر في اللغة العربية أن : لا ، التي لنفي الجنس لا تدخل على الأعلام فتؤثر فيها ، فاحتاج إلى إضمار : مثل ، لتبقى على ما تقرر فيها ، إذ تقرر أنها لا تعمل إلاَّ فى الجنس ، لأن العلمية تنافي عموم الجنس . وأما قوله : كما أن يزاد في : مثلك لا يفعل كذا ، تريد ، أنت ، فهذا قول قد قيل ، ولكن المختار عند حذاق النحويين أن الأسماء لا تزاد ، ولتقرير أن مثلك لا يفعل كذا ، ليست فيه مثل زائدة مكان غير هذا .
( أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( هذا إخبار ثان عمن مات وهو كافر ، لما بيَّن تعالى في الإخبار الأول أنه لا يقبل منه شيء حتى يخلص به نفسه ، بيَّن في هذا الإخبار ما له من العذاب

" صفحة رقم 545 "
الموصوف بالمبالغة في الآلام له ، إذ الافتداء ، وبذل الأموال إنما يكون لما يلحق المفتدى من الآلام حتى يبذل في الخلاص من ذلك أعز الأشياء . كما قال : ) يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( الآية ، وارتفاع : عذاب ، على أنه فاعل بالجار والمجرور قبله ، لأنه قد اعتمد على أولئك ، لكونه خبراً عنه ويجوز ارتفاعه على الإبتداء .
( وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ ( تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وهذا إخبار ثالث لما بيَّن أنه لا خلاص له من العذاب ببذل المال ، بيَّن أيضاً أنه لا خلاص له منه بسبب النصرة ، واندرج فيها النصرة بالمغالبة ، والنصرة بالشفاعة .
وتضمنت هذه الآية من أصناف البديع : الطباق : في قوله : طوعا وكرها . وفي : كفروا بعد إيمانهم في موضعين . والتكرار : في : يهدي ولا يهدي . وفي : كفروا بعد إيمانهم . والتجنيس المغاير : في كفروا وكفروا . والتأكيد : بلفظ : هم ، في قوله : وأولئك هم الضالون . قيل : والتشبيه في : ثم ازدادوا كفراً ، شبه تماديهم على كفرهم وإجرامهم بالأجرام التي يزاد بعضها على بعض ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس . والعدول من مفعل إلى فعيل ، في : عذاب أليم ، لما في : فعيل ، من المبالغة . والحذف في مواضع .
2 ( ) لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ) ) 2
آل عمران : ( 92 ) لن تنالوا البر . . . . .
النيل : حوق الشيء وإدراكه ، الفعل منه : نال ينال . قيل : والنَّيل : العطية .
الوضع : الإلقاء . وضع الشيء ألقاه ، ووضعت ما في بطنها ألقته ، والفعل : وضع يضع وضعاً وضِعَة ، والموضع : محل إلقاء الشيء . وفلان يضع الحديث أي : يلقيه من قبل نفسه من غير نقل ، يختلفه . .
بكة : مرادف لمكة ، قاله مجاهد ، والزجاج . والعرب تعاقب بين الباء والميم ، قالوا : لازم ، وراتم . والنميط ، وبالباء فيها . وقيل : اسم لبطن مكة ، قاله أبو عبيدة . وقيل : اسم لمكان البيت ، قاله النخعي

" صفحة رقم 546 "
وقيل : اسم للمسجد خاصة ، قاله ابن شهاب . قيل : ويدل عليه أن البك هو دفع الناس بعضهم بعضاً وازدحامهم ، وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف لا في سائر المواضع ، وسيأتي الكلام على لفظ مكة إن شاء الله .
البركة : الزيادة ، والفعل منه : بارك ، وهو متعد ، ومنه ) أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ ( ويضمن معنى ما تعدى بعلى ، لقوله : وبارك على محمد ، و : تبارك ، لازم .
العوج : الميل ، قال أبو عبيدة : في الدين والكلام والعمل . وبالفتح في : الحائط والجذع . وقال الزجاج بمعناه . قال : فيما لا نرى له شخصاً ، وبالفتح فيما له شخص . قال ابن فارس : بالفتح في كل منتصب كالحائط . والعوج : ما كان في بساط أو دين وأرض أو معاش .
العصم : المنع ، واعتصم واستعصم : امتنع ، واعتصمت فلاناً هيأت له ما يعتصم به ، وكل متمسك بشيئ معتصم ، وكل مانع شيء عاصم ، ويرجع لهذا المعنى : الأعصم ، والمعصم ، والعصام . ويسمى الخبز عاصماً لأنه يمنع من الجوع .
( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما أخبر عمن مات كافراً أنه لا يقبل ما أنفق في الدنيا ، أو ما أحضره لتخليص نفسه في الآخرة على الاختلاف الذي سبق ، حض المؤمن على الصدقة وبين أنه لن يدرك البر حتى ينفق مما يحب .
والبر هنا . قال ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدّي ، وعمرو بن ميمون : البر الجنة . وقال الحسن ، والضحاك : الصدقة المفروضة . وقال أبو روف : الخير كله . وقيل : الصدق . وقيل : أشرف الدين ، قاله عطاء . وقال ابن عطية : الطاعة . وقال مقاتل بن حيان : التقوى . وقال الزجاج : كل ما تقرّب به إلى الله من عمل خير . وقال معناه ابن عطية . قال أبو مسلم : وله مواضع ، فيقال : الصدق البر ، ومنه : صدقت وبررت ، وكرام بررة ، والإحسان : ومنه بررت والدي ، واللطف والتعاهد : ومنه يبر أصحابه إذا كان يزورهم ويتعاهدهم ، والهبة والصدقة : برّة بكذا إذا وهبه له .
وقال : ويحتمل لن تنالوا برّ الله بكم أي ، رحمته ولطفه . انتهى . وهو قول أبي بكر الوراق ، قال : معنى الآية لن تنالوا برّي بكم إلاَّ ببرّكم بإخوانكم ، والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم . وروي نحوه على ابن جرير . ويحتمل أن يريد : لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبراراً إلاَّ بالإنفاق المضاف إلى سائر أعمالكم ، قاله ابن عطية . وقد تقدّم شرح البرّ في قوله : ) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ ( ولكن فعلنا ما قال الناس في خصوصية هذا الموضع .
و : من ، في : مما تحبون ، للتبعيض ، ويدل على ذلك قراءة عبد الله : حتى تنفقوا بعض ما تحبون . و : ما ، موصولة ، والعائد محذوف .
والظاهر : أن المحبة هنا هو ميل النفس وتعلقها التعلق التام بالمنفق ، فيكون إخراجه على النفس أشق وأصعب من إخراج ما لا تتعلق به النفس ذلك التعلق ، ولذلك فسره الحسن ، والضحاك : : بأنه محبوب المال ، كقوله : ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ ( لذلك ما روي عن جماعة أنهم لهذه الآية تصدّقوا بأحب شيء إليهم ، فتصدّق أبو طلحة ببير حاء ، وتصدق زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها ، وابن عمر بالسكر واللوز لأنه كان يحبه ، وأبو ذر يفحل خير إبله وببرنس على مقرور ، وتلا الآية ، والربيع بن خيثم بالسكر لحبه له ، وأعتق عمر جارية أعجبته ، وابنه عبد الله جارية كانت أعجب شيء إليه .
وقيل : معنى مما تحبون ، نفائس المال وطيبه لا رديئه وخبيثه . وقيل : ما يكون محتاجاً إليه . وقيل : كل شيء ينفقه المسلم من ماله يطلب به وجه الله .
ولفظة : تحبون ، تنبو عن هذه الأقوال ، والذي يظهر أن الإنفاق هو في الندب ، لأن المزكي لا يجب عليه أن يخرج أشرف أمواله ولا أحبها إليه ، وأبعد من ذهب إلى أن هذه الآية منسوخة ، لأن الترغيب في الندب لوجه الله لا ينافي الزكاة . قال بعضهم : وتدل هذه الآية على أن الكلام يصير شعراً بأشياء ، منها : قصد المتكلم إلى أن يكون شعراً ، لأن هذه الآية على وزن بيت الرمل ، يسمى المجزؤ والمسبع ، وهو :

" صفحة رقم 547 "
يا خليليّ أربعا واستخبر ال
منزل الدارس عن حيّ حلال
رسماً بعسفان
ولا يجوز أن يقال : إن في القرآن شعراً .
( وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ ( تقدّم تفسير مثل هذا .

" صفحة رقم 3 "
2 ( آل عمران : ( 93 ) كل الطعام كان . . . . .
( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِىإِسْرَاءِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ ( ) ) 2
) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْراءيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ( قال أبو روق وابن السائب : نزلت حين قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أنا على ملة إبراهيم ) فقالت اليهود : فكيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ذلك حلالٌ لأبي إبراهيم ونحن نحلُّه ) فقالت اليهود : كلُّ شيء أصبحنا اليوم نحرِّمه فإنه كان محرماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله ذلك تكذيباً لهم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها والجامع بينهما أنه تعالى أخبر أنه لا ينالُ المرء البرّ إلا بالإنفاق مما يحب . ونبي الله إسرائيل روي في الحديث : ( أنه مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر لله نذراً إنْ عافاه اللَّهُ من سقمه أنْ يحرِّمَ ، أو ليحرمَنّ أحبَّ الطعام والشراب إليه ، وكان أحبُّ الطعام إليه لحوم الإبل ، وأحبُّ الشراب ألبانها ، ففعل ذلك تقرباً إلى الله . فقد اجتمعت هذه الآية وما قبلها في أنّ كلاًّ منهما فيما ترك ما يحبه الإنسان وما يؤثره على سبيل التقرب به لله تعالى . وكلٌّ : من صيغ العموم . والطعام : أصلُه مصدرٌ أُقيم مقام المفعول ، وهو اسم لكل ما يطعم ويؤكل . وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة أنه اسم للبر خاصة . قال الرازي : والآية تبطله لأنه استثنى منه ما حرم إسرائيل على نفسه . واتّفقوا على أنه شيء سوى الحنطة ، وسوى ما يتخذ منها . ومما يؤكد ذلك قوله في الماء ومن لم يطعمه . وقال : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم ) وأراد الذبائح انتهى .
ويُجاب عن الاستثناء أنه منقطع ، فلا يندرجُ تحت الطعام . وقال القفال : لم يبلغنا أنّ الميتة والخنزير كانا مباحين لهم مع انّهما طعام ، فيحتملُ أنْ يكونَ ذلك على الأطعمة التي كانت اليهود في وقت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) تدَّعي أنها كانت محرمة على إبراهيم ، فيزول الإشكال يعني إشكال العموم . والحل : الحلال ، وهو مصدرُ حلَّ نحو عزّ عزاً ومنه ( وأنت حل بهذا البلد ) أي حلالُ به . وفي الحديث عن عائشة : ( كنت أطيِّبُ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لحلِّه ولحرمه ) ولذلك استوى فيه الواحدُ والجمعُ والمذكر والمؤنث . قال : ( لا هنّ حلٌّ لهم ) وهي كالحرم ، أي الحرام . واللُّبس ، أي اللباس . وإسرائيل : هو يعقوب ، وتقدم الكلام عليه ، وتقدّم أنّ

" صفحة رقم 4 "
الذي حرمه إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها ؛ ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول : الحسن ، وعطاء ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعبد الله بن كثير في آخرين . وقيل : العروق . رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وهو قول : مجاهد أيضاً ، وقتادة ، والضحاك ، والسِدي ، وأبي مجلز في آخرين .
قال ابن عباس : عرضت له الآنساء فأضنته ، فجعل لله إنْ شفاه من ذلك أنْ لا يطعم عرقاً . قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم ، وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر . وروي عن ابن عباس أنَّه حرم العروق ولحوم الإبل . وقيل : زيادتا الكبد والكليتان والشحم إلا ما على الظهر قاله : عكرمة . وتقدَّم سببُ تحريمه لما حرمه .
قال ابن عطية : ولم يختلف فيما علمت أنّ سبب التحريم هو بمرض أصابه ، فجعل تحريم ذلك شكراً لله تعالى إنْ شفي . وقيل : هو وجع عرق النسا . وهذا الاستثناء يحتملُ الاتصال والانقطاع ، فإنْ كان متصلاً كان التقدير : إلاّ ما حرَّم إسرائيل على نفسه فحرم عليهم في التوراة ، فليست فيها الزوائد التي افتروها وادعوا تحريمها . وإنْ كان منقطعاً كان التقدير : لكنَّ إسرائيل حرم ذلك على نفسه خاصة ، ولم يحرمه الله على بني إسرائيل . والاتصال أظهر . وظاهر قوله : على نفسه ، أن ذلك باجتهاد منه لا بتحريم من الله تعالى . واستدل بذلك على أن للأنبياء أن يحرموا بالاجتهاد . وقيل : كان تحريمه بإذن الله تعالى . وقيل : يحتمل أنْ يكون التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا . وقال الأصم : لعل نفسه كانت مائلة إلى تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس وطلباً لمرضاة الله كما يفعله كثيرٌ من الزهاد ، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم .
واختلفوا في سبب التحريم للطعام الذي حرمه إسرائيل على بنيه ومن بعدهم من اليهود ، وهذا إذا قلنا : بأنّ الاستثناء متصل . أمّا إذا كان منقطعاً فلم يحرّم عليهم . وقال ابن عطية : حرمها عليهم بتحريم إسرائيل ، ولم يكن محرماً في التوراة ، وروي عن ابن عباس أن يعقوب قال : ( إنْ عافاني اللَّهُ لا يأكله لي ولد . وقال الضحاك : وافقوا أباهم في تحريمه ، لا أنه حرم عليهم بالشرع ، ثم أضافوا تحريمه إلى الشرع فأكذبهم الله تعالى . وقال ابن السائب : حرمه الله عليهم بعد التوراة لا فيها ، وكانوا إذا أصابوا ذنباً عظيماً حُرِّم به عليهم طعام طيب ، أو صبَّ عليهم عذاب ، ويؤكده ( فبظلم ) الآية .
وقيل : لم يحرم عليهم قبل نزول التوراة ولا بعدها ، ولا بتحريم إسرائيل عليهم ، ولا لموافقته بل قالوا ذلك تحرضاً وافتراء . وقال السدي : لما أنزل الله التوراة حرّم عليهم ما كانوا يحرّمون على أنفسهم قيل نزولها .
قال الزمخشري : والمعنى أنّ المطاعم كلها لم تزلْ حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة ، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فتبعوه على تحريمه وهو ردٌّ على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم بما نعى عليهم في قوله : ) فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ ( الآية . وجحودُ ما غاظهم واشمأزوا منه وامتغضوا . فما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم فقالوا : لسنا بأول مَن حرمت عليه ، وما هو إلا تحريم قديم كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرًّا ، إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما

" صفحة رقم 5 "
حرمت على من قبلنا . وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل الله ، وأكل الربا ، وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرِّم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم انتهى كلامه .
( من قبل أن تنزل التوراة ) قال أبو البقاء : مِن متعلقة ب ( حرم ) ، يعني في قوله : إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه . ويبعد ذلك ، إذْ هو من الاخبار بالواضح ، لأنه معلوم أنّ ما حرم إسرائيل على نفسه هو من قبل إنزال التوراة ضرورة لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة . ويظهر أنه متعلق بقوله : كان حلاً لبني إسرائيل ، أي من قبل أن تنزل التوراة ، وفَصَلَ بالاستثناء إذ هو فصل جائز وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن : في جواز أن ، يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً نحو : ما حبس إلا زيد عندك ، وما أوى إلا عمرو وإليك ، وما جاء إلا زيد ضاحكاً . وأجاز الكسائي ذلك في منصوب مطلقاً نحو : ما ضرب إلا زيد عمراً وأجاز هو وابنُ الأنباري ذلك في مرفوع نحو : ما ضرب إلا زيداً عمرو ، وأما تخريجه على مذهب غير الكسائي وأبي الحسن فيقدر له عامل من جنس ما قبله تقديره هنا : حل من قبل أن تنزل التوراة .
( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ). قل : خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : فأتوا محذوف تقديره : هذا الحق ، لا زعمُكُم معشر اليهود . فأتوا : وهذه أعظم محاجة أَن يُؤمروا بإحضار كتابهم الذي فيه شريعتهم ، فإنه ليس فيه ما ادّعوه بل هو مصدّق لما أخبر به ( صلى الله عليه وسلم ) ) : من أنّ تلك المطاعم كانت حلالاً لهم من قديم ، وأن التحريم هو حادث . وروي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة لظهور افتضاحهم بإتيانها ، بل بهتوا وذلك كعادتهم في كثير من أحوالهم . وفي استدعاء التوراة منهم وتلاوتها الحجةُ الواضحة على صدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ كان عليه السلام النبيّ الأميَّ الذي لم يقرأ الكتب ولا عرف أخبار الأمم السالفة ، ثم أخذ يحاجهم ويستشهد عليهم بما في كتبهم ولا يجدون من إنكاره محيصاً . وفي الآية دليل على جواز النسخ في الشرائع ، وهم ينكرون ذلك . وخرج قوله : إن كنتم صادقين مخرجَ الممكن ، وهم معلوم كذبهم . وذلك على سبيل الهزء بهم كقولك : إنْ كنت شجاعاً فالقني ، ومعلوم ، عندك أنَّه ليس بشجاع ، ولكن هزأت به إذ جعلت هذا الوصف مما يمكن أن يتصف به .
آل عمران : ( 94 ) فمن افترى على . . . . .
( فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( يحتمل أن يكون مندرجاً تحت القول ، ويحتمل أنْ يكون ابتداءَ إخبارٍ من الله بذلك ، وافتراؤه الكذب هو زعمه أن ذلك كان محرماً على بني إسرائيل قبل إنزال التوراة ، والإشارة بذلك قيل يحتمل ثلاثة أوجه . أحدها : أن يكون إلى التلاوة ، إذ مضمنها بيان مذهبهم وقيام الحجة البالغة القاطعة ، ويكونُ افتراء الكذب أنْ يُنسب إلى كتب الله ما ليس فيها . والثاني : أنْ يكون إلى استقرار التحريم في التوراة ، إذ المعنى : إلاّ ما حرّم إسرائيل على نفسه ، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم . وافتراء الكذب أنْ يزيد في المحرمات ما ليس فيها . والثالث : أنْ يكون إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه وقبل نزول التوراة من سنن يعقوب . وشرع ذلك دون إذن من الله . ويؤيد هذا الاحتمال قوله : ) فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ ( الآية . فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم ، وكانوا يشدّدون فيشدد عليهم الله كما فعلوا في أمر البقرة . وجاءت شريعتنا بخلاف هذا ، دين الله ( يسر يسروا ولا تعسروا ، وابعثت بالحنيفية السمحة ) ) اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( والأظهر في من أنها شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة . وجمع في فأولئك حملاً على المعنى . وهم : يحتمل أن تكون فصلاً ، ومبتدأً ، وبدلاً . والظلم : وضع الشيء في غير موضعه . وقيل : هو هنا الكفر .
آل عمران : ( 95 ) قل صدق الله . . . . .
( قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ( أمر تعالى نبيه أنْ يصدع بخلافهم ، أي الأمر الصدق هو ما أخبر الله به لا ما افتروه ومن الكذب . ونبّه بذلك على أنّ ما أخبر به من قوله : ) كُلُّ الطَّعَامِ ( وسائر ما تقدم صدق ، وأنه ملة إبراهيم . والأحسنُ أن يكون قوله : ( قل صدق الله ) أي في جميع ما أخبر به في كتبه المنزلة . وقيل : في أنّ محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو على ملة إبراهيم ، وإبراهيم كان مسلماً . وقيل في قوله : ( كل الطعام ) الآية قاله ابن السائب . وقيل : في أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً قاله : مقاتل وأبو سليمان

" صفحة رقم 6 "
الدمشقي ، ثم أمرهم باتباع ملة إبراهيم فقال :
) فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( وهي ملة الإسلام التي عليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمؤمنون معه ، فيخلصون من ملة اليهودية . وعرض بقوله : وما كان من المشركين : إلى أنهم مشركون في اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله . وتقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة البقرة تفسيراً وإعراباً فأغنى عن إعادته . وقرأ أبان بن ثعلب قل صدق : بإدغام اللام في الصاد ، و ( قل سيروا ) بإدغام اللام في السين . وأدغم حمزة والكسائي وهشام أبل سولت ) . قال ابنُ جني : علة ذلك فشوُّ هذين الحرفين في الفم وانتشار الصوت المثبت عنهما ، فقاربتا بذلك مخرج اللام ، فجاز إدغامها فيهما انتهى . وهو راجع لمعنى كلام سيبويه ، قال سيبويه : والإدغامُ يعني إدغام اللام مع الطاء والصاد وأخواتهما جائز ، وليس ككثرته مع الراء ، لأن هذه الحروف تراخين عنها وهي من الثنايا . قال : وجواز الإدغام لأنّ آخر مخرج اللام قريب من مخرجها انتهى كلامه .
( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ ( روي عن مجاهد : أنه تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود : بيتُ المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لأنّها مهاجرُ الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة . وقال المسلمون : بل الكعبة أفضلُ ، فنزلت . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وهو : أنه لما أمر تعالى باتباع ملة إبراهيم وكان حج البيت من أعظم شعائر ملة إبراهيم ومن خصوصيات دينه ، أخذ في ذكر البيت وفضائله ليبني على ذلك ذكر الحج ووجوبه . وأيضاً فإنّ اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوّة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقالوا : بيت المقدس أفضل وأحق بالاستقبال لأنه وضع قبل الكعبة ، وهو أرض المحشر ، وقبله جميع الأنبياء ، فأكذبهم الله في ذلك بقوله :
آل عمران : ( 96 ) إن أول بيت . . . . .
( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ) كما أكذبهم في دعواهم قبل : إنما حرم عليهم ما كان محرماً على يعقوب من قبل أن تنزل التوراة ، وأيضاً فإنّ كل فرقة من اليهود والنصارى زعمت أنها على ملة إبراهيم ، ومن شعائر ملته حجَّ الكعبة وهم لا يحجونها ، فأكذبهم الله في دعواهم تلك ، والأول هو الفرد السابق غيره . وتقدم الكلام على لفظ أول في قوله : ( ولا تكونوا أول كافر به ) ووضع جملة في موضع الصفة . واختلف في معنى كونه أول بيت وضع للناس . فقيل : هو أولُ بيت ظهر على وجه الماء حين خلقت السموات والأرض ، خلقه قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته . وقيل : هو أول بيت بناه آدم في الأرض . وقيل : لما أهبط آدم قالت له الملائكة : طُفْ حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم ببيت يقال له : الضراح ، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة يطوف به ملائكة السموات . وذكر الشريف أبو البركات أسعد بن علي بن أبي الغنائم الحسيني الجواني النسابة : أن شيث بن آدم هو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة على موضع الخيمة التي كان الله وضعها لآدم من الجنة ، فعلى هذه الأقاويل يكون أول بيت وضع للناس على ظاهره ، وروي عن ابن عباس أنه أول بيت حج بعد الطوفان ، فتكون الأولية باعتبار هذا الوصف من الحج إذْ كان قبله بيوت ، وروي عن عليّ أنه سأله رجل : أهو أول بيت ؟ فقال عليّ : لا قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة ، فأخذ الأولية بقيد هذه الحال . وقيل : أول من بناه إبراهيم ثم قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم فبنته العمالقة ، ثم هدم فبنته قريش . وقال أبو ذر : قلت يا رسول الله أيّ مسجد وضع أول ؟ قال : ( المسجد الحرام ) قلت ؛ ثم أي ؟ قال : ( المسجد الأقصى ) قلت : كم كان بينهما ؟ قال : ( أربعون سنة ) وظاهر هذا الحديث

" صفحة رقم 7 "
أنه من وضع إبراهيم ، وهو معارض لما ذكر في الأقوال السابقة : إلا إنّ حمل الوضع على التجديد فيمكن الجمع بينهما . وظاهر حديث أبي ذر يضعف قول الزجاج : إنّ بيت المقدس هو من بناء سليمان بن داود عليهما السلام ، بل يظهر منه أنه من وضع إبراهيم ، فكما وضع الكعبة وضع بيت المقدس . وقد بيَّن ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أن بين الوضعين أربعين سنة ) وأين زمانُ إبراهيم من زمان سليمان ومعنى وضع للناس : أي متعبداً يستوي في التعبد فيه الناس ، إذ غيره من البيوت يختص بأصحابها ، والمشترك فيه الناس هو محل طاعتهم وعبادتهم وقبلتهم . وقرأ الجمهور ( وُضع ) مبنياً للمفعول . وقرأ عكرمة وابن السميقع وضع مبنياً للفاعل ، فاحتمل أنْ يعود على الله ، واحتمل أن يعودَ على إبراهيم ، وهو أقرب في الذكر وأليق وأوفقق لحديث أبي ذر . وللناس متعلق بوضع ، واللام فيه للتعليل ، وللذي ببكة خبر إنّ . والنعنى : للبيت الذي ببكة . وأكدت النسبة بتأكيدين : إنّ واللام . وأخبر هنا عن النكرة وهو أول بيت لتخصصها بالإضافة ، وبالصفة التي هي وضع إمالها ، وإمّا لما أضيفت إليه . إذْ تخصيصه تخصيصٌ لها بالمعرفة وهو للذي ببكة ، لأن المقصود الإخبار عن أول بيت وضع للناس ، ويحسن الإخبار عن النكرة بالمعرفة دخول إنّ . ومن أمثلة سيبويه : أنّ قريباً منك زيد . تخصص قريب بلفظ منك ، فحسن الإخبار عنه . وقد جاء بغير تخصيص وهو جائز في الاختيار قال : وإنّ حراماً أن أسب مجاشعا
بآبائي الشم الكرام الخضارم
والباء في ببكة ظرفية كقولك : زيد بالبصرة . ويضعفُ أن يكون بكة هي المسجد ، لأنه يلزم أن يكونَ الشيء ظرفاً لنفسه ، وهو لا يصحّ .
( مُبَارَكاً وَهِىَ لّلْعَالَمِينَ ( أمّا بركته فلما يحصلُ فيه من الثواب وتكفير السيئات لمن

" صفحة رقم 8 "
حجه واعتمره وطاف به وعكف عنده . وقال القفال : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله : ( يحيي إليه ثمرات كل شيء ) . وقيل : بركتُهُ دوام العبادة فيه ولزومها ، لأنّ البركة لها معنيان : أحدهما : النمو ، والآخر : الثبوت ، ومنه البركة لثبوت الماء فيها . والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه ، والبراكاء الثبوت في القتال ، وتبارك الله ثبت ولم يزل . وقيل : بركته تضعيف الثواب فيه . روى ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( من طاف بالبيت لم يرفع قدماً ولم يضع أخرى إلا كتب الله بها له حسنة ورفع له بها درجة ) . وقال الفراء : سمي مباركاً لأنه مغفرة للذنوب . وقال ابن جرير : بركته تطهيره من الذنوب . وقيل : بركته أنَّ مَن دخله أمن حتى الوحش ، فيجتمع فيه الظبي والكلب . وأما كونه هدى فلأنه لما كان مقوماً مصلحاً كان فيه إرشاد . وبولغ بكونه هدىً ، أو هو على حذف مضاف أي : وذا هدى . قيل : ومعنى هدى أي قبلة . وقيل : رحمة . وقيل : صلاح . وقيل : بيان ودلالة على الله بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره تعالى . وقال ابن عطية : يحتمل هنا هدى أن يكون بمعنى الدعاء ، أي من حيث دعى العالمون إليه ، وانتصاب مباركاً على الحال . وجوزوا أنْ يكون حالاً من الضمير الذي استكن في وضع ، والعامل فيها وضع أي أنَّ أول بيت مباركاً ، أي في هذه الحال للذي ببكة . وهذا التقدير ليس بجائز ، لأنك فصلت بين العامل في الحال وبين الحال بأجنبي وهو : الخبر ، لأنه معمول لأنَّ خبر لها ، فإنْ أضمرت وضع بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال ، وكان تقديره : للذي ببكة وضع مباركاً . وعلى هذا التقدير ينبغي أن يحمل تفسير علي بن أبي طالب السابق ذكره عند ذكر كون هذا البيت أولاً ، إذ كان قد لاحظ في هذا البيت كونه وضع أولاً بقيد هذه الحال .
وجوزوا أيضاً أن يكون العامل في الحال العامل في ببكة ، أي استقر ببكة في حال بركته . وهو وجه ظاهر الجواز ، ولم يذكر الزمخشري غيره . وأما هدى فظاهره أنه معطوف على مباركاً ، والمعطوف على الحال حال . وجوَّز بعضهم أنْ يكون مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي وهو هدى ، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار .
آل عمران : ( 97 ) فيه آيات بينات . . . . .
( فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ ( أي علامات واضحات منها : مقام إبراهيم ، والحجر الذي قام عليه ، والحجر الأسود وهو : من حجارة الكعبة ، وهو يمين الله في الأرض يشهد لمن مسه . والحطيم ، وزمزم ، وأمن الخائف وهيبته وتعظيمه في قلوب الناس ، وأمر الفيل ، ورمى طير الله عنه بحجارة السجيل ، وكف الجبابرة عنه على وجه الدهر ، وإذعان نفوس العرب لتوفير هذه البقعة دون ناهٍ ولا زاجر ، وجباية الأرزاق إليه ، وهو ( بواد غير ذي زرع ) وحمايته من السيول . ودلالةُ عموم المطر إياه من جميع جوانبه على خصب آفاق الأرض ، فإنْ كان المطر من جانب أخصب الأفق الذي يليه . وذكر مكي وغيره : أنّ من آياته كون الطير لا يعلوم عليه . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، والطير يعاين يعلوه ، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره ، وتلك كانت من آياته انتهى . وأي عبد علا عليه عتق . وتعجيلُ العقوبة لمن عتا فيه ، وإجابة دعاء من دعا تحت الميزاب ، ومضاعفة أجر المصلي ، وغير ذلك من الآيات . وقوله : فيه آيات بينات ، الضمير في فيه عائد على البيت ، فينبغي أن لا يذكر من الآيات إلا ما كان في البيت . لكنهم توسعوا في الظرفية ، إذ لا يمكن حملها على الحقيقة لأنه كان يلزم أن الآيات تكون داخل الجدران . ووجهُ التوسع أنّ البيت وضع بحرمه وجميع فضائله ، فهي فيه على سبيل المجاز . ولذلك عدَّ المفسرون آياتٍ في الحرم وأشياء مما التزمت في شريعتنا من : تحريم قطع شجره

" صفحة رقم 9 "
ومنع الاصطياد فيه . والذي تعرضت له الآية هو مقام إبراهيم ، لأنه آية باقية على مر الأعصار . وذلك أنّه لمّا قام إبراهيم على حجر المقام وقت رفعه القواعد من البيت طال له البناء ، فكلما علا الجدار ارتفع الحجر به في الهواء ، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى كمل الجدار . ثم أراد الله إبقاء ذلك آية للعالمين ليّن الحجر فغرقت فيه قدما إبراهيم كأنها في طين ، فذلك الاثر باق إلى اليوم . وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الاعصار . وقال في ذلك أبو طالب : وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة
على قدميه حافياً غير ناعل
فما حفظ أن أحداً من الناس نازع في هذا القول . وقيل : سبب أثر قدميه في هذا الحجر أنه وافى مكة زائراً من الشام فقالت له زوجة إسماعيل : انزل . حتى اغسلَ رأسك ، فأبى أن ينزل ، فجاءت بهذا الحجر من جهة شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر ، فبقي أثر قدميه فيه . وارتفاعُ آيات على الفاعلية بالمجرور قبله ، فيكون المجرور في موضع الحال ، والعامل فيها محذوف ، وذلك المحذوف هو الحال حقيقة . ونسبة الحالية إلى الظرف والمجرور مجاز ، كنسبة الخبر إليها . إذا قلت : زيد في الدار ، أو عندك . ولذلك قال بعض أصحابنا : وما يعزى للظرف من خبرية وعمل ، فالأصح كونه لعامله . وكون فيه في موضع حال مقدّرة ، سواء كان العامل فيها هو العامل في ببكة ، أم كان العامل فيها هو وضع على ما أعربوه ، أو على ما أعربناه . ويجوز أو يكون جملة مستأنفة . أخبر الله تعالى أن فيه آيات بينات .
( مَّقَامِ إِبْراهِيمَ ( مقام : مفعل من القيام . وقرأ الجمهور : آيات بينات على الجمع . وقرأ أبيّ وعمرو بن عباس ومجاهد وأبو جعفر في رواية قتيبة ( آية بينة ) على التوحيد . فعلى قراءة الجمهور أعربوا مقام إبراهيم بدلاً ، وهو بدل كل من كل ، من قوله : آيات ، وأعربوه خبر مبتدأ محذوف . أي هنّ مقام إبراهيم . وعلى ما أعربوه فكيف يبدل المفرد من الجمع ، أو يخبر به عن الجمع ؟ وأجيب بوجهين : أحدهما : أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوّة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد كقوله تعالى : ) إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا ). والثاني : اشتماله على آيات ، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء آية لابراهيم خاصة ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنين آية . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد فيه ( آيات بينات مقام إبراهيم ) وأمن من دخله ، لأن الآيتين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة . وقال ابن عطية : والمترجح عندي أنّ المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم الله من الآيات ، وخصّا بالذكر لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ؛ إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم . فظاهرُ كلامه وكلام الزمخشري قبله : أن مقام إبراهيم وأمن الداخل تفسير للآيات وهي جمع ، ولكن لم يذكر أمن الداخل في الآية تفسيراً صناعياً ، إنما جاء ( ومن دخله كان آمناً ) جملة من شرط وجزاء ، أو مبتدأ أو خبر ، لا على سبيل أن يكون اسماً مفرداً يعطف على قوله : مقام إبراهيم ، فيكون ذلك تفسيراً صناعياً . بل لم يأت بعد قوله : ) بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ ( سوى مفرد وهو : مقام إبراهيم فقال . فإن قلت : كيف أجزت أنْ يكون مقام إبراهيم والا من عطف بيان وقوله : ومن دخله كان آمناً جملة مستأنفة : إما ابتدائية ، وإما اشترطية ؟ قلت : أجزت ذلك من حيث المعنى . ولأن قوله : ( ومن دخله كان آمناً ) دل على

" صفحة رقم 10 "
أمن داخله ، فكأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن داخله . ألا ترى أنك لو قلت فية آية بينة من دخله كان آمناً صحّ ، لأنه في معنى فيه آية بينة أمن مَن دخله انتهى سؤاله وجوابه وليس بواضح . لأن تقديره وأمن الداخل ، هو مرفوع عطفاً على مقام إبراهيم ، وفسر بهما الآيات . والجملة من قوله : ومن دخله كان آمناً لا موضع لها من الإعراب ، فتدافعا إلا أنْ اعتقد أنّ ذلك معطوف محذوف يدل عليه ما بعده ، فيمكن التوجيه . فلا يجعل قوله : ومن دخله كان آمناً في معنى : وأمن داخله ، إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب . قال الزمخشري : ويجوز أن يذكر هاتين الآيتين ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما . ونحوه في طي الذكر قول جرير : كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم
من العبيد وثلث من مواليها
ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( حبب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرة عيني في الصلاة ) انتهى كلامه . وفيه حذف معطوفين ، ولم يذكر الزمخشري في إعراب مقام إبراهيم إلا أنه عطف بيان لقوله : آيات بينات . ورد عليه ذلك ، لأن آيات نكرة ، ومقام إبراهيم معرفة ، ولا يجوز التخالف في عطف البيان . وقوله مخالف لإجماع الكوفيين والبصريين ، فلا يلتفت إليه . وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت ، فتتبع النكرة النكرة والمعرفة المعرفة ، وقد تبعهم في ذلك أبو علي الفارسي . وأما عند البصريين فلا يجوز إلا أنْ يكونا معرفتين ، ولا يجوز أنْ يكونا نكرتين . وما أعربه الكوفيون ومن وافقهم : عطف بيان وهو نكرة على النكرة قبله ، أعربه البصريون بدلاً ، ولم يقم لهم دليل على تعيين عطف البيان في النكرة ، فينبغي أن لا يجوز . والأولى والأصوب في إعراب مقام إبراهيم أنْ يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : أحدها : أي أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم . أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره منها : أي من الآيات البينات مقام إبراهيم . ويكون ذكر المقام لعظمه ولشهرته عندهم ، ولكونه مشاهداً لهم لم يتغير ، ولاذ كاره إياهم دين أبيهم إبراهيم . وأما على قراءة من قرأ : آية بينة بالتوحيد ، فإعرابه بدل ، وهو بدل معرفة من نكرة موصوفة ، كقوله تعالى : ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ ( ويكون الله تعالى قد أخبر عن هذه الآية العظيمة وحدها وهي مقام إبراهيم لما ذكرنا ، وإنْ كان في البيت آيات كثيرة . واختلفوا في تفسير مقام إبراهيم . فقال

" صفحة رقم 11 "
الجمهور : هو الحجر المعروف . وقال قوم : البيت كله مقام إبراهيم ، لأنه بناه ، وقام في جميع أقطاره . وقال قوم : مكة كلها مقام إبراهيم . وقال قوم : الحرم كله . والحرم مما يلي المدينة نحواً من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم ، ومما يلي العراق نحواً من ثمانية أميال يقال له المقطع ، ومما يلي عرفة تسعة أميال إلى منتهى الحديبية .
( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً ( : الضمير في ( ومن دخله ) عائد على البيت : إذْ هو المحدث عنه ، والمقيد بتلك القيود من البركة والهدى والآيات البينات من مقام إبراهيم وغيره . ولا يمكن أنْ يعود على مقام إبراهيم إذا فسّرناه بالحجر . وظاهر الآية وسياق الكلام أنّ هذه الجملة هي مفسرة لبعض آيات البيت ، ومذكرة للعرب بما كانوا عليه في الجاهلية من احترام هذا البيت ، وأمن من دخله من ذوي الحرائم . وكانت العرب يغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل ، وأخذ الأموال ، وأنواع الظلم ، إلا في الحرم كقوله تعالى : ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام ) رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا ( فأما في الإسلام فمن أصاب حدًّا فإن الحرم لا يعيذُه وإلى هذا ذهب : عطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغيره . فمن زنى ، أو سرق ، أو قتل ، أقيم عليه الحدّ واستحسن كثير ممن قال هذا القول : أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل فيه . وقال ابن عباس : من أحدث حدثاً واستجار بالبيت فهو آمن . والأمر في الإسلام على ما كان في الجاهلية ، فلا يعرض أحد لقاتل وليه . إلا أنه يجب على المسلمين أن لا يبايعوه ، ولا يكلموه ، ولا يؤووه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد . وقال بمثل هذا عطاء أيضاً ، والشعبي ، وعبيد بن عمير ، والسدي ، وابن جبير ، وغيرهم إلا أن أكثرهم قالوا : هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم ، أمّا من قتل فيه فيقام عليه الحد فيه . واختلف فقهاء الأمصار : إذا جنى في غير الحرم ثم التجأ إليه فقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، والحسن بن زياد ، وأحمد في رواية حنبل عنه : إن كانت الجناية في النفس لم يقتص منه ولا يخالط ، أو فيما دون النفس اقتص منه في الحرم . وقال مالك في رواية : لا يقتص منه فيه ، لا بقتل ولا فيما دون النفس ، ولا يخالط . قالوا : وانعقد الإجماع على أنّ من جنى فيه لا يؤمن ، لأنه هتك حرمة الحرم وردّ الأمان . فبقي حكم الآية فيمن جنى صار خارجاً منه ثم التجأ إليه . وقالوا : هذا خبر معناه الأمر . أي ومَن دخله فأمّنوه . وهو عام فيمن جنى فيه أو في غيره ثم دخله ، لكنْ صدَّ الإجماع عن العمل به فيمن جنى فيه وبقي حكم الآية مختصاً بمن جنى خارجاً منه ثم دخله . وقال يحيى بن جعدة في آخرين : آمناً من النار ، ولا بد من قيد في . ومن دخله كان آمناً : أي ومن دخله حاجًّا ، أو من دخله مخلصاً في دخوله . وقيل المعنى : ومن دخله عام عمرة القضاء مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لقوله : ) لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ). وقال جعفر الصادق : منْ دخله ورقى على الصفا أمن أمن الأنبياء . وظاهرُ الآية ما بدأنا به أولاً ، وكلّ هذه الأقوال سواه متكلفات ، وينبو اللفظ عنها ، ويخالف بعضها ظواهر الآيات وقواعد الشريعة ) وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ( روى عكرمة : أنه لما نزلت : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً قالت اليهود : نحن على الإسلام فنزلت : ولله على الناس حج البيت الآية ، قيل له : حجهم يا محمد . إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام ، فليحجوا إن كانوا مسلمين فقالت اليهود : لا نحجه أبداً . ودلت هذه الآية على تأكيد فرض الحج ، إذ جاء

" صفحة رقم 12 "
ذلك بقوله : ولله ، فيشعر بأن ذلك له تعالى ، وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء ، وجاء متعلقاً بالناس بلفظ العموم وإن كان المراد منه الخصوص ليكون من وجب عليه ذكر مرتين . قال الزمخشري : وفي هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد . فمنها قوله : ) وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه ، . من استطاع إليه سبيلاً وفيه ضربان من التأكيد : أحدهما : أن الإبدال تنبيه للمراد وتكرير له . والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين انتهى كلامه ، وهو حسن . وقرأ حمزة والكسائي وحفص حج بكسر الحاء ، والباقون بفتحها . وهما لغتان : الكسر لغة نجد ، والفتح لغة أهل العالية . وجعل سيبويه الحج بالكسر مصدراً نحو : ذكر ذكراً . وجعله الزجاج اسم العمل . ولم يختلفو في الفتح أنه مصدر ، وحج مبتدأ وخبره في المجرور الذي هو ولله وعلى الناس متعلق بالعامل في الجار والمجرور الذي هو خبر . وجوز أنْ يكونَ على الناس حالاً ، وأنْ يكون خبر الحج . ولا يجوز أن يكون ( ولله ) حالاً ، لما يلزم في ذلك من تقدّمها على العامل المعنوي . وحج مصدر أضيف إلى المفعول الذي هو البيت ، والألف واللام فيه للعهد . إذ قد تقدّم ( أنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة ) هذا الأصل ثم صار علماً بالغلبة . فمتى ذكر البيت لا يتبادر إلى الذهن إلا أنه الكعبة ، وكأنه صار كالنجم للثريا وقال الشاعر : لعمري لأنت البيت أكرم أهله
وأقعد في أفنائه بالأصائل
ولم يشترط في هذه الآية في وجوبه إلا الاستطاعة . وذكروا أن شروطه : العقل ، والبلوغ ، والحرية ، والإسلام ، والاستطاعة . وظاهر قوله : ) وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ ( وجوبه على العبد ، وهو مخاطب به ، وقال بذلك داود . وقال الجمهور : ليس مخاطباً به ، لأنه غير مستطيع ، إذ السيد يمنعه عن هذه العبادة لحقوقه . قالوا : وكذلك الصغير . فلو حج العبد في حال رقِّه ، والصبي قبل بلوغه ، ثم عتق وبلغ فعليهما حجة الإسلام . وظاهره الاكتفاء بحجة واحدة ، وعليه انعقد إجماع الجمهور خلافاً لبعض أهل الظاهر إذ قال : يجب في كل خمسة أعوام مرة ، والحديث الصحيح يرد عليه . والظاهر أنَّ شرطه القدرة على الوصول إليه بأي طريق قدر عليه من : مشي ، وتكفف ، وركوب بحر ، وإيجاز نفسه للخدمة . الرجال والنساء في ذلك سواء ، والمشروط مطلق الاستطاعة . وليست في الآية من المجملات فتحتاج إلى تفسير . ولم تتعرض الآية لوجوب الحج على الفور ، ولا على التراخي ، بل الظاهر أنه يجب في وقت حصول الاستطاعة . والقولان عن الحنفية والمالكية . وقال أبو عمر بن عبد البر : ويدل على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام الواجب عليه في وقته ، بخلاف من فوّت صلاة حتى خرج وقتها فقضاها . وأجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته أنت قاض . وكل من قال بالتراخي لا يجد في ذلك حدًّا إلا ما روي عن سحنون : أنه إذا زاد على الستين وهو قادر وترك فسق ، وروي قريب من هذا عن ابن القاسم .
وفي إعراب مَنْ خلاف ، ذهب الأكثرون إلى أنه بدل بعض من كل ، فتكون مَن موصولة في موضع جر ، وبدل بعض من كل لا بد فيه من الضمير ، فهو محذوف تقديره ، من استطاع إليه سبيلاً منهم . وقال الكسائي وغيره : من شرطية ، فتكون في موضع رفع بالابتداء . ويلزم حذف الضمير الرابط لهذه الجملة بما قبلها ، وحذف جواب الشرط ، إذ التقدير من استطاع إليه سبيلاً منهم فعليه الحج ، أو فعلية ذلك . والوجه الأوّل أولى لقلة الحذف فيه وكثرته في هذا . ويناسب الشرط مجيءُ الشرط بعده في قوله : ) وَمَن كَفَرَ ( وقيل : مَنْ موصولة في

" صفحة رقم 13 "
موضع رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم من استطاع إليه سبيلاً . وقال بعض البصريين : مَنْ موصولة في موضع رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو حج ، فيكون المصدر قد أضيف إلى المفعول ورفع به الفاعل نحو : عجبت من شرب العسل زيد ، وهذا القول ضعيف من حيث اللفظ والمعنى . أمّا من حيث اللفظ فإنّ إضافة المصدر للمفعول ورفع الفاعل به قليل في الكلام ، ولا يكاد يحفظ في كلام العرب إلا في الشعر ، حتى زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا في الشعر . وأمّا من حيث المعنى فإنه لا يصح ، لأنّه يكون المعنى : إنّ الله أوجب على الناس مستطيعهم وغير مستطيعهم أنْ يحج البيت المستطيع . ومتعلق الوجوب إنما هو المستطيع لا الناس على العموم ، والضمير في إليه يعود على البيت ، وقيل : على الحج . وإليه متعلق باستطاع ، وسبيلاً مفعول بقوله استطاع لأنه فعل متعد . قال تعالى : ) لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ( وكل موصل إلى شيء ، فهو سبيل إليه .
وظاهر الآية يدل على وجوب الحج على من استطاع إلى البيت سبيلاً ، وليست الاستطاعة من باب المجملات كما قدّمنا . وقال عمر ، وابنه ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن جبير : هي حال الذي يجد زاداً وراجلة ، وعلى هذا أكثر العلماء . وقال ابن الزبير والضحاك : إذا كان مستطيعاً غير شاق على نفسه وجب عليه . قال الضحاك : إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع ، وقيل له في ذلك ؛ فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة ، أكان يتركه ، بل كان ينطلق إليه ؟ ولو حبوا فكذلك يجب عليه الحج . وقال الحسن : مَنْ وجد شيئاً يبلغه فقد وجب عليه . وقال عكرمة : استطاعةَ السبيل الصحة . ومذهب مالك : أنَّ الرجل إذا وثق بقوته لزمه ، وعنه ذلك على قدر الطاقة .

" صفحة رقم 14 "
وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر ، وقد يقدر عليه من لا راحلة ولا زاد . وقال ابن عباس : من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه . وقال الشافعي : الاستطاعة على وجهين بنفسه : أولاً : فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك . واختلف قول مالك فيمن سأل ذاهباً وآيباً ممن ليست عادته ذلك في إقامته . فروى عنه ابن وهب : لا بأس بذلك . وروي عنه ابن القاسم : لا أرى ذلك ، ولا يخرج إلى الحج والغزو سائلاً . وكره مالك أن تحج النساء في البحر . واختلف عنه في حج النساء ماشيات إذا قدرن على ذلك . ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم ، واختلف إذا عدمته . فقال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق : المحرم من السبيل ولا حج عليها إلا مع ذي محرم . قال أبو حنيفة : إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً ، وإذا وجدت محرماً فهل لزوجها أن يمنعها في الفرض ؟ قال الشافعي : له أن يمنعها وعن مالك روايتان : المنع ، وعدمه . والمحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد بقرابة ، أو رضاع ، أو صهر ، والحرّ والعبد والمسلم والذمي في ذلك سواء ، إلا أنّ يكونَ مجوسياً يعتقد إباحة نكاحها أو مسلماً غير مأمون ، فلا تخرج ولا تسافر معه . وقال مالك : تخرج مع جماعة نساء . وقال الشافعي : مع حرة ثقة مسلمة . وقال ابن سيرين : مع رجل ثقة من المسلمين . وقال الأوزاعي : مع قوم عدول ، وتتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل ، ولا يقربها رجل .
واختلفوا في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة . فقال سفيان الثوري : إذا كان المكس ، ولو درهماً سقط فرض الحج عن الناس . وقال عبد الوهاب : إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض . فظاهر كلامه هذا أنّها إذا كانت كثيرة غير مجحفة به لسعة ماله فلا يسقط ، وعلى هذا جماعة أهل العلم ، وعليه مضت الأعصار . وأجمعوا على أن المريض والمعضوب لا يلزمهما المسير إلى الحج . فقال مالك : يسقط عن المعضوب فرض الحج ، ولا يحج عنه في حال حياته . فإن وصى أن يحج عنه بعد موته حج من الثلث ، وكان تطوّعاً . وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وابن المبارك ، وأحمد ، وإسحاق : إذا كان قادراً على مال يستأجر به لزمه ذلك ، وإذا بذل أحد له الطاعة والنيابة لزمه ذلك ببذل الطاعة عند الشافعي وأحمد وإسحاق . وقال أبو حنيفة : لا يلزمه الحج ببذل الطاعة ، ولو بذل له مالاً فالصحيح أنه لا يلزمه قبوله . ومسائلُ فروع الاستطاعة كثيرة مذكورة في كتب الفقه .
( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( قال ابن عباس : بوجوب الحج ، فمن زعم أنه ليس بفرض عليه فقد كفر . وقال مثله : الضحاك ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وعمران القطان . وقال ابن عمر وغيره : ومن كفر بالله واليوم الآخر . وقال ابن زيد : ومن كفر بهذه الآيات التي في البيت . وقال السدي وجماعة : ومَنْ كفر بأنْ وجد ما يحج به فلم يحج ، فهذا كفر معصية ، بخلاف القول الأول فإنه كفر جحود . ويصير على قول السدي لقوله : ( من ترك الصلاة فقد كفر ) ( لا ترجعوا بعدي

" صفحة رقم 15 "
كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) . على أحد التأويلين . وقال الزمخشري : ومنها يعني من أنواع التأكيد والتشديد قوله : ومن كفر ، مكان ومَن لم يحج تغليظاً على تارك الحج ، ولذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً ) ونحوه من التغليظ من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ، انتهى كلامه ، وهو من معنى كلام السدي . وقال سعيد بن المسيب : ومَن كفر بكون البيت قبله الحق ، فعلى هذا يكون راجعاً إلى اليهود الذين قالوا حين حوّلت القبلة : ) مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( وكفروا بها وقالوا : لا نحج إليها أبداً .
ومن شرطية وجواب الشرط الجملة المصدرة بالفاء ، والرابط لها بجملة الشرط هو العموم الذي في قوله : ) عَنِ الْعَالَمِينَ ( إذْ مَن كفر فهو مندرج تحت هذا العموم . وفي هذا اللفظ وعيد شديد لمن كفر قال ابن عطية : والقصد بالكلام : فإن الله غني عنهم ، ولكنْ عمَّ اللفظ ليبرع المعنى ويتنبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه عن جميع الوجوه ، حتى ليس به افتقار إلى شيء ، لا ربَّ سواه انتهى . وقال الزمخشري : ومنها يعني من أنواع التأكيد ذكر الاستغناء عنه ، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان . ومنها قوله : عن العالمين ، ولم يقل عنه . وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنّه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء عنه لا محالة . ولأنّه يدلُّ على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه . وقيل : في الكلام محذوف تقديره : فإن الله غني عن حج العالمين .
آل عمران : ( 98 ) قل يا أهل . . . . .
( قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ( : قال الطبري : سبب نزولها ونزول ما بعدها إلى قوله : ) وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( أن رجلاً من اليهود حاول الإغراء بين الأوس والخزرج واسمه : شاس بن قيس ، وكان أعمى شديد الضغن والحسد للمسلمين ، فرأى ائتلاف الأوس والخزرج ، فقال : ما لنا من قرار بهذه البلاد مع اجتماع ملا بني قيلة ، فأمر شاباً من اليهود أنْ يذكرهم يوم بعاث وما جرى فيه من الحرب وما قالوه من الشعر ، ففعل ، فتكلموا حتى ثاروا إلى السلاح بالحرة . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ) ؟ ووعظهم فرجعوا وعانق بعضهم بعضاً ، هذا ملخصه وذكروه مطولاً . وقال الحسن : وقتادة ، والسدي : نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام بأن يقولوا لهم : إنّ محمداً ليس بالموصوف في كتابنا ، والظاهر نداء أهل الكتاب عموماً والعامة ، وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم كقيامها على الخاصة . وكأنهم بترك الاستذلال والعدول إلى التقليد بمنزلة مَنْ علم ثم أنكره . وقيل : المراد علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوّته ، واستدل بقوله : ( وأنتم شهداء ) انتهى هذا القول . وخصّ أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار لأنهم هم المخاطبون في صدر هذه الآية المورد الدلائل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمجابون عن شبههم في ذلك . ولأن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوّة ، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة للرسول والبشارة به . ولما ذكر تعالى أنّ في البيت ) بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ ( وأوجب حجه ، ثم قال : ) وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( ناسب أنْ يُنكِرَ على الكفار كفرهم بآيات الله ، فناداهم بيا أهل الكتاب لينبههم على أنهم أهل الكتاب ، فلا يناسب مَنْ يعتزي إلى كتاب الله أنْ يكفر بآياته ، بل ينبغي طواعيته وإيمانه بها ، إذْ له مرجع من العلم يصير إليه إذا اعترته شبهة .
والآيات : هي العلامات التي نصبها الله دلالة على الحق . وقيل : آيات الله هي آيات من التوراة فيها صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ويحتمل القرآن ،

" صفحة رقم 16 "
ومعجزة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ( جملة حالية فيها تهديد ووعيد . أيْ إنّ مَن كان الله مطَّلعاً على أعماله مشاهداً له في جميع أحواله لا يناسبه أن يكفر بآياته ، فلا يجامع العلم بأن الله مطلع على جميع أعمال الكفر بآيات الله ، لأن من تيقن أن الله مجازيه لا يكاد يقع منه الكفر الذي هو أعظم الكبائر . وأتت صيغة ( شهيد ) لتدل على المبالغة بحسب المتعلق . لأن الشهادة يراد بها العلم في حق الله ، وصفاته تعالى من حيث هي هي لا تقبل التفاوت بالزيادة والنقصان . فإذا جاءت الصفة من أوصافة للمبالغة فذلك بحسب متعلقاتها . وتقدّم الكلام على ( لم ) وحذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها الجار . وقوله : ( على ما تعملون ) متعلق بقوله : شهيد . وما موصولة . وجوزوا أنْ تكون مصدرية ، أي على عملكم .
آل عمران : ( 99 ) قل يا أهل . . . . .
( قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( لمّا أنكر عليهم كفرهم في أنفسهم وضلالهم ، ولم يكتفوا حتى سعوا في إضلال مَنْ آمن ، أنكر عليهم تعالى ذلك ، فجمعوا بين الضلال والإضلال ) مِن سُندُسٍ سَنَةٍ سَيّئَةٌ فَعَلَيْهِ ). وصدّ : لازم ومتعد . يقال : صد عن كذا ، وصد غيره عن كذا . وقراءة الجمهور : يصدون ثلاثياً ، وهو متعد ومفعوله مَنْ آمن . وقرأ الحسن : تصدُّون من أصدّ ، عدى صدّ اللازم بالهمز ، وهما لغتان .
وقال ذو الرّمة :
أناس أصدُّوا الناس بالسيف عنهم
ومعنى صد هنا : صرف . وسبيل الله : هو دين الله ، وطريق شرعه ، وقد تقدّم أنها تذكر وتؤنث . ومن التأنيث قوله : فلا تبعد فكل فتى أناس
سيصبح سالكاً تلك السبيلا
قال الراغب : وقد جاء ) مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( دون قل ، وجاء هنا قل . فبدون قل هو استدعاء منه تعالى لهم إلى الحق ، فجعل خطابهم منه استلانة للقوم ليكونوا أقرب إلى الانقياد . ولما قصد الغض منهم ذكر قل تنبيهاً على أنهم غير مستأهلين أنْ يخاطبهم بنفسه ، وإنْ كان كلا الخطابين وصل على لسان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وأطلق أهل الكتاب على المدح تارة ، وعلى الذّم أخرى . وأهل القرآن والسنة لا ينطلق إلا على المدح ، لأن الكتاب قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل الله نحواً : ) يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ( وقد يراد به ما أنزل الله . وأيضاً فقد يصحُّ أنْ يُقال على سبيل الذمّ والتهكم ، كما لو قيل : يا أهل الكتاب لمن لا يعمل بمقتضاه ، انتهى ما لخص من كلامه .
والهاء في يبغونها عائدة على السبيل . قال الزجاج والطبري : يطلبون لها اعوجاجاً . تقول العرب : ابغني كذا بوصل الألف ، أي اطلبه . أي وأبغني بقطع الألف أعني على طلبه . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) كيف يبغونها عوجاً وهو محال ؟ ( قلت ) فيه معنيان : أحدهما : أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أنَّ فيها عوجاً بقولكم : إن شريعة موسى لا تنسخ ، وبتغييركم صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن وجهها ، ونحو ذلك . والثاني : أنكم تتعبون أنفسكم في إخفاء الحق ، وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم انتهى . وقيل : يبغون هنا من البغي وهو التعدي . أي يتعدّون عليها ، أو فيها . ويكون عوجاً على هذا التأويل نصبه على الحال من الضمير في تبغون

" صفحة رقم 17 "
أي عوجاً منكم وعدم استقامة انتهى . وعلى التأويل الأول يكون عوجاً مفعولاً به ، والجملة من قوله : ( تبغونها عوجاً تحتمل الاستئناف ، وتحتمل أن تكون حالاً من الضمير في تصدُّون أو من سبيل الله ، لأن فيها ضميرين يرجعان إليهما .
وأنتم شهداء أي بالعقل نحو : ( وألقى السمع وهو شهيد ) أي عارف بعقله ، وتارة بالفعل . نحو قال : ( فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) وتارة بإقامة ذلك ، أي شهدتم بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبل بعثه على ما في التوراة من صفته وصدقه . وقال الزمخشري : وأنتم شهداء أنها سبيل الله التي لا يصدّ عنها إلا ضال مضلٌّ . أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ، ويستشهدون في عظام أمورهم ، وهم الأحبار انتهى . قيل : وفي قوله : وأنتم شهداء دلالة على أن شهادة بعضهم على بعض جائزة ، لأنه تعالى سماهم شهداء ، ولا يصدق هذا الإسم إلا على من يكون له شهادة . وشهادتهم على المسلمين لا تجوز بإجماع ، فتعين وصفهم بأن تجوز شهادة بعضهم على بعض ، وهو قول أبي حنيفة وجماعة . والأكثرون على أنَّ شهادتهم لا تقبل بحال ، وأنّهم ليسوا من أهل الشهادة . وما الله بغافل عما تعملون وعيد شديد لهم ، وتقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته .
آل عمران : ( 100 ) يا أيها الذين . . . . .
( تَعْمَلُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ( لمّا أنكر تعالى عليهم صدهم عن الإسلام المؤمنين حذر المؤمنين من إغواء الكفار وإإضلالهم وناداهم بوصف الإيمان تنبيهاً على تباين ما بينهم وبين الكفار ، ولم يأت بلفظ ( قل ) ليكون ذلك خطاباً منه تعالى لهم وتأنيساً لهم . وأبرز نهيه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية ، لأنه لم تقع طاعتهم لهم . والإشارة ب يا أيها الذين آمنوا إلى الأوس والخزرج بسب ثائرة شاس بن قيس . وأطلق الطواعية لتدل على عموم البدل ، أي أنْ يصدرَ منك طواعية ما في أي شيء كان مما يحاولونه من إضلالكم ، ولم يقيد الطاعة بقصة الأوس والخزرج على ما ذكر في سبب النزول . والردّ هنا التَّصييرُ أي يصيرونكم . والكفر المشار إليه هنا ليس بكفر حقيقة ، لأن سبب النزول هو في إلقاء العداوة بين الأوس والخزرج . ولو وقعت لكانت معصية لا كفراً إلا أن يفعلوا ذلك مستحبين له . وقد يكون ذلك بتحسين أهل الكتاب لهم منهياً بعد منهي ، واستدراجهم شيئاً فشيئاً إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقية . وانتصاب كافرين على أنه مفعول ثان ليردّ ، لأنها هنا بمعنى صير كقوله : فرد شعورهنّ السود بيضا
وردّ وجوههنّ البيض سودا
وقيل : انتصب على الحال ، والقول الأول أظهر .
آل عمران : ( 101 ) وكيف تكفرون وأنتم . . . . .
( وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ( هذا سؤال استبعاد وقوع الكفر منهم مع هاتين الحالتين : وهما تلاوة كتاب الله عليهم وهو القرآن الظاهر الإعجاز ، وكينونةَ الرسول فيهم الظاهر على يديه الخوارق . ووجود هاتين الحالتين تنافي الكفر ولا تجامعه ، فلا يتطرّق إليهم كفر مع ذلك . وليس المعنى أنه وقع منهم الكفر فوبخوا على وقوعه لأنهم مؤمنون ، ولذلك نودوا بقوله : يا أيها الذين آمنوا . فليس نظيرُ قوله : ) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا ( والرسول هنا : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) بلا خلاف . والخطاب قال الزجاج : لأصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) خاصة ، لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان فيهم وهم يشاهدونه . وقيل : لجميع الأمة ، لأن آثاره وسنته فيهم ، وإنْ لم يشاهدوه . قال قتادة : في هذه الآية علمان بينان : كتاب الله ، ونبي الله . فأما نبي الله فقد مضى ، وأما كتاب الله فأبقاه الله بين أظهرهم رحمة منه ونعمة فيه ، حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته . وقيل : الخطاب

" صفحة رقم 18 "
للأوس والخزرج الذين نزلت هذه الآية فيما شجر بينهم على ما ذكره الجمهور . وقرأ الجمهور تتلى بالتاء . وقرأ الحسن والأعمش : يتلى بالياء ، لأجل الفصل ، ولأن التأنيث غير حقيقي ، ولأن الآيات هي القرآن . قال ابن عطية : وفيكم رسوله هي ظرفية الحضور والمشاهدة لشخصه ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو في أمّته إلى يوم القيامة بأقواله وآثاره . وقال الزمخشري : وكيف تكفرون معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب ، والمعنى : من أين يتطرّف إليكم الكفر ، والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية وبين أظهركم رسول الله ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم ؟ .
( وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِراطٍ مّسْتَقِيمٍ ( قال ابن جريج : ومن يؤمن بالله . ويناسب هذا القول قوله : ) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ ). وقيل : يستمسك بالقرآن . وقيل : يلتجىء إليه ، فيكون على هذا القول حقاً على الالتجاء إلى الله في دفع شرور الكفار . وجواب من فقد هدى وهو ماضي اللفظ مستقبل المعنى ، ودخلت قد للتوقع ، لأن المعتصم بالله متوقع للهدى .
وذكروا في هذه الآيات من فنون البلاغة والفصاحة : الاستفهام الذي يراد به الإنكار في ) لِمَ تَكْفُرُونَ ( ) لِمَ تَصُدُّونَ ( ) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ ( والتكرار : في يا أهل الكتاب ، وفي اسم الله في مواضع ، وفيما يعملون ، والطباق : في الإيمان والكفر ، وفي الكفر إذ هو ضلال والهداية ، وفي العوج والاستقامة ، والتجوز : بإطلاق اسم الجمع في فريقاً من الذين أوتوا الكتاب فقيل : هو يهودي غير معين . وقيل : هو شاس بن قيس اليهودي . وإطلاق العموم والمراد الخصوص : في يا أيها الذين آمنوا على قول الجمهور أنه خطاب للأوس والخزرج . والحذف في مواضع .
( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّ مُورُ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى

" صفحة رقم 19 "
وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاٌّ دُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِأايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الاٌّ نْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ( )
آل عمران : ( 102 ) يا أيها الذين . . . . .
أصبح : من الأفعال الناقصة لاتصاف الموصوف بالصفة وقت الصباح . وقد تأتي بمعنى صار وهي ناقصة أيضاً ، وتأتي أيضاً لازمة تقول : أصبحت أي دخلت في الصباح . وتقول : أصبح زيد ، أي أقام في الصباح ومنه . إذا سمعت بسري القين فاعلم أنه مصبح ، أي مقيم في الصباح .
شفا الشيء طرفه وحرفه ، وهو من ذوات الواو ، وتثنيته : شفوان ، وهو حرف كل جرم له مهوى كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار . ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى نحو : شفا جرف . وإلى الأسفل نحو : شفا حفرة . ويقال : أشفى على كذا أي أشرف . ومنه أشفى المريض على الموت . قال يعقوب : يقال للرجل عند موته وللقمر عند محاقه وللشمس عند غروبها ما بقي منه أو منها إلا شفا أي قليل . .
الحفرة : معروفة وهي واحدة الحفر ، فعلة بمعنى مفعوله ، كغرفة من الماء . أنقذ خلص .
الابيضاض والأسوداد معروفان ، ويقال : بيض فهو أبيض . وسود : فهو أسود ، ويقال : هما أصل الألوان . ذاق الشيء استطعمه ، وأصله بالفم ثم استعير لكل ما يحس ويدرك على وجه التشبيه بالذي يعرف عند الطعم . تقول العرب : قد ذقتَ من إكرام فلان ما يرغبني في قصده . ويقولون : ذقِ الفرقَ واعرف ما عنده . وقال تميم بن مقبل : أو كاهتزاز رديني تذاوقه
أيدي التجار فزادوا متنه لينا
وقال آخر : وإن الله ذاق حلوم قيس
فلما راء حفتها قلاها
يعنون بالذوق العلم ، إما بالحاسة ، وإما بغيرها . ثقفت الرجل غلبته وظفرت به .
( مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ). لما حذرهم تعالى من إضلال مَنْ يريدُ إضلالهم ، أمرهم بمجامع الطاعات ، فرهبهم أولاً بقوله : اتقوا الله ، إذ التقوى إشارة إلى التخويف من عذاب الله ، ثم جعلها سبباً للأمر بالاعتصام بدين الله ، ثم أردف الرهبة بالرغبة ، وهي قوله : ) وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ( وأعقب الأمر بالتقوى والأمر بالاعتصام بنهي آخر هو من تمام الاعتصام . قال ابن مسعود ، والربيع ، وقتادة ، والحسن : حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر . وروي مرفوعاً . وقيل : حق تقاته اتقاء جميع معاصيه . وقال قتادة ، والسدي ، وابن زيد ، والربيع : هي منسوخة بقوله : ) فَاتَّقُواْ

" صفحة رقم 20 "
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( أمروا أولاً بغاية التقوى حتى لا يقع إخلال بشيء ثم نسخ . وقال ابن عباس ، وطاوس : هي محكمة . ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ مَّا اسْتَطَعْتُم ( بيان لقوله : اتقوا الله حق تقاته . وقيل : هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه . وقيل : لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه . وقال ابن عباس : المعنى جاهدوا في الله حق جهاده . وقال الماتريدي : وفي حرف حفصة اعبدوا الله حق عبادته . وتقاة هنا مصدر ، وتقدم الكلام عليه في ) إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ).
قال ابن عطية : ويصح أن يكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإنْ كان لم يتصرف منه ، فيكون : كرماة ورام ، أو يكون جمع تقي ، إذ فعيل وفاعل بمنزلة . والمعنى على هذا : اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به ، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى انتهى كلامه . وهذا المعنى ينبو عنه هذا اللفظ ، إذ الظاهر أنّ قوله : حقّ تقاته من باب إضافة إلى موصوفها ، كما تقول : ضربت زيداً شديد الضرب ، أي الضرب الشديد . فكذلك هذا أي اتقوا الله الاتقاء الحق ، أي الواجب الثابت . أما إذا جعلت التقاة جمعاً فإنَّ التركيب يصير مثل : اضرب زيداً حق ضرابه ، فلا يدل هذا التركيب على معنى : اضرب زيداً كما يحق أن يكون ضرابه . بل لو صرح بهذا التركيب لاحتيج في فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها المعنى ، والتقدير : اضرب زيداً ضرباً حقاً كما يحق أن يكون ضرب ضرابه . ولا حاجة تدعو إلى تحميل اللفظ غير ظاهره وتكلف تقادير يصح بها معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ .
( وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ظاهره النهي عن أن يموتوا إلا وهم متلبسون بالإسلام . والمعنى : دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه . ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم : لا أرينك ههنا ، وإنما المراد لا تكن هنا فتكون رؤيتي لك . وقد تقدم لنا الكلام على هذا المعنى مستوفى في سورة البقرة في قوله : ) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ ( الآية والجملة من قوله : وأنتم مسلمون حالية ، والاستثناء مفرع من الأحوال . التقدير : ولا تموتن على حال من الأحوال إلا على حالة الإسلام . ومجيئُها إسمية أبلغُ لتكرر الضمير ، وللمواجهة فيها بالخطاب . وزعم بعضهم أنَّ الأظهر في الجملة أن يكون الحال حاصلة قبل ، ومستصحبة . وأمّا لو قيل : مسلمين ، لدلَّ على الاقتران بالموت لا متقدماً ولا متأخراً .
آل عمران : ( 103 ) واعتصموا بحبل الله . . . . .
( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ( أي استمسكوا وتحصّنوا . وحبل الله : العهْد ، أو القرآن ، أو الدين ، أو الطاعة ، أو إخلاص التوبة ، أو الجماعة ، أو إخلاص التوحيد ، أو الإسلام . أقوال للسلف يقرب بعضها من بعض . وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ) . وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا تخلق على كثرة الردّ من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم )

" صفحة رقم 21 "
وقولهم : اعتصمت بحبل فلان يحتمل أن يكون من باب التمثيل ، مثل استظهاره به ووثوقه بإمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه . ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة ، استعار الحبل للعهد والاعتصام للوثوق بالعهد ، وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير في ) وَاعْتَصِمُواْ ( ) وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( نهوا عن التفرق في الدين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنصارى . وقيل : عن المخاصمة والمعاداة التي كانوا عليها في الجاهلية . وقيل : عن إحداث ما يوجب التفرق ويزول معه الاجتماع . وقد تعلق بهذه الآية فريقان : نفاةُ القياس والاجتهاد كالنظام وأمثاله من الشيعة ، ومثبتو القياس والاجتهاد . قال الأولون ، غير جائز أن يكون التفرق والاختلاف ديناً لله تعالى مع نهي الله تعالى عنه . وقال الآخرون : التفرق المنهى عنه هو في أصول الدين والإسلام . ) وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ ( الخطاب لمشركي العرب قاله : الحسن وقتادة يعني مَن آمن منهم ، إذ كان القويُّ يستبيحَ الضعيف . وقيل : للأوس والخزرج . ورجح هذا بأن العرب وقت تزول هذه الآية لم تكن مجتمعة على الإسلام ، ولا مؤتلفة القلوب عليه ، وكانت الأوس والخزرج قد اجتمعت على الإسلام وتألفت عليه بعد العداوة المفرطة والحروب التي كانت بينهم ، ولما تقدم أنه أمرهم بالاعتصام بحبل الله وهو الدين ونهاهم عن التفرق وهو أمر ونهي ، بديمومة ما هم عليه إذ كانوا معتصمين ومؤتلفين ذكرهم بأنَّ ما هم عليه من الاعتصام بدين الإسلام وائتلاف القلوب إنما كان سببه إنعام الله عليهم بذلك . إذ حصل منه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم المستلزمة بحصول الفعل ، فذكر بالنعمة الدنيوية والأخروية . أما الدنيوية فتألف قلوبهم وصيرورتهم إخوة في الله متراحمين بعدما أقاموا متحاربين متقاتلين نحواً من مائة وعشرين سنة إلى أن ألف الله بينهم بالإسلام . وكان أعني الأوس والخزرج جداهم أخوان لأب وأم . وأما الأخروية فإنقاذهم من النار بعد أن كانوا أشفوا على دخولها . وبدأ أولاً بذكر النعمة الدنيوية لأنّها أسبق بالفعل ، ولاتصالها بقوله : ) وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( وصار نظير ) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ ( ومعنى فأصبحتم ، أي صرتم . وأصبح كما ذكرنا في المفردات تستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح ، وتستعمل بمعنى صار ، فلا يلحظ فيها وقت الصباح بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال . وعليه قوله : أصبحت لا أحمل السلاح ولا
أملك رأس البعير أن نفرا
قال ابن عطية : فأصبحتم عبارة عن الاستمرار ، وإنْ كانت اللفظة مخصوصة بوقت مّا ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبتدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال . فالحال التي يحسبها المرء من نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع : أصبحت لا أحمل السلاح ولا
أملك رأس البعير إن نفرا
وهذا الذي ذكره : من أن أصبح للاستمرار ، وعلله بما ذكره لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تستعمل على الوجهين اللذين ذكرتهما . وجوز الحوفي في ( إذ ) أن ينتصب باذكروا ، وجوز غيره أن ينتصب بنعمة . أي إنعام الله ،

" صفحة رقم 22 "
وبالعامل في عليكم . إذ جوزوا أن يكون حالاً من نعمة ، وجوزا أيضاً تعلق عليكم بنعمة ، وجوزوا في أصبحتم أن تكون ناقصة والخبر بنعمته والباء ظرفية وإخواناً حال يعمل فيها أصبح ، أو ما تعلق به الجار والمجرور . وأن يكون إخواناً خبر أصبح والجار حال يعمل فيه أصبح ، أو حال من إخواناً لأنه صفة له تقدمت عليه ، أو العامل فيه ما فيه من معنى تآخيتم بنعمته . وأن يكون أصبحتم تامة ، وبنعمته متعلق به ، أو في موضع الحال من فاعل أصبحتم أو من إخواناً ، وإخواناً حال . والذي يظهر أن أصبح ناقصة وإخواناً خبر ، وبنعمته متعلق بأصبحتم ، والباء للسبب لا ظرفية .
وقال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخواناً ، ومن النسب إخوة ، هكذا كثر استعمالهم . وفي كتاب الله تعالى : ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ( والصحيح أنهما يقالان من النسب . وفي الدين : وجمع أخ على أخوة لا يراه سيبويه ، بل أخوة عنده اسم جمع ، لأن فعلاً لا يجمع على فعله . وابن السراج يرى فعلة إذا فهم منه الجمع اسم جمع ، لأن فعلة لم يطرد جمعاً لشيء . والضمير في منها عائد على النار ، وهو أقرب مذكور ، أو على الحفرة . وحكى الطبري أن بعض الناس قال : يعود على الشفا ، وأنت من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث . كما قال جرير : أرى مر السنين أخذن مني
كما أخذ السرار من الهلال
قال ابن عطية : وليس الأمر كما ذكروا ، لأنه لا يحتاج في الآية إلى هذه الصناعة إلا لو لم يجد معاداً للضمير إلا الشفا . وهنا معنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة انتهى . وأقول : لا يحسن عوده إلا على الشفا ، لأنّ كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا عليه . وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك إذا قلت : كان زيد غلام جعفر ، لم يكن جعفر محدثاً عنه ، وليس أحد جزأي الإسناد . وكذلك لو قلت : ضرب زيد غلام هند ، لم تحدث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً مخصصاً للمحدث عنه . أمّا ذكر النار . فإنما جيء بها لتخصيص الحفرة ، وليست أيضاً أحد جزأي الإسناد ، لا محدثاً عنها . وأيضاً فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، لأن الإنقاذ منه يستلزم الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا . فعودُهُ على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى . ومثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على جرفها مشفين على الوقوع فيها . وقيل : شبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدينة من الموت بالشفا ، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً ، فأنقذهم الله بالإسلام . وقال السدي : بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال أعرابي لابن عباس وهو يفسر هذه الآية : والله ما أنقذهم منها ، وهو يريد أن يوقعهم فيها . فقال ابن عباس : خذوها من غير فقيه . وذكر المفسرون هنا قصة ابتداء إسلام الأنصار وما شجر بينهم بعد الإسلام ، وزوال ذلك ببركات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
( كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، إلا أنَّ آخر هذه مختتم بالهداية لمناسبة ما قبلها . وقال الزمخشري : ( لعلكم تهتدون ) إرادة أن تزدادوا هدىً . وقال ابن عطية : وقوله لعلكم تهتدون في حق البشر ، أي مَنْ تأمل منكم الحال رجاء الأهتداء . فالزمخشري جعل الترجي

" صفحة رقم 23 "
مجازاً عن إرادة الله زيادة الهدى ، وابن عطية أبقى الترجي على حقيقته ، لكنه جعل ذلك بالنسبة إلى البشر لا إلى الله تعالى ، إذ يستحيل الترجي من الله تعالى ، وفي كلا القولين المجاز . أما في قول الزمخشري فحيثُ جعل الترجي بمعنى إرادة الله ، وأمّا في قول ابن عطية فحيثُ أسند ما ظاهره الإسناد إليه تعالى إلى البشر .
آل عمران : ( 104 ) ولتكن منكم أمة . . . . .
( وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( الأمر متوجه لمت بتوجه الخطاب عليهم . قيل : وهو الأوس والخزرج على ما ذكره الجمهور . وأمرُه لهم بذلك أمرٌ لجميع المؤمنين ، ومن تابعهم إلى يوم القيامة ، فهو من الخطاب الخاص الذي يراد به العموم . ويحتمل أن يكونَ الخطاب عاماً فيدخل فيه الأوس والخزرج . والظاهرُ أنَّ قوله ) مّنكُمْ ( يدل على التبعيض ، وقاله : الضحاك والطبري . لأن الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصلح إلا لمن علم المعروف والمنكر ، وكيف يرتب الأمر في إقامته ، وكيف يباشر ؟ فإن الجاهل ربما أمر بمنكر ، ونهى عن معروف ، وربما عرف حكماً في مذهبه مخالفاً لمذهب غيره ، فينهى عن غير منكر ويأمر بغير معروف ، وقد يغلظ في مواضع اللين وبالعكس . فعلى هذا تكون مِنْ للتبعيض ، ويكون متعلق الأمر ببعض الأمة ، وهم الذين يصلحون لذلك . وذهب الزجاج إلى أن مِنْ لبيان الجنس ، وأتى على زعمه بنظائر من القرآن وكلام العرب ، ويكون متعلق الأمر جميع الأمة يكونون يدعون جميع العالم إلى الخير ، الكفار إلى الإسلام ، والعصاة إلى الطاعة . وظاهر هذا الأمر الفرضية ، فالجمهور على أنه فرض كفاية ، فإذا قام به بعض سقط عن الباقين . وذهب جماعة ، من العلماء إلى أنه فرض عين ، فيتعين على كل مسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متى قدر على ذلك وتمكّن منه . واختلفوا في الذي يسقط الوجوب . فقال قوم : الخشية على النفس ، وما عدا ذلك لا يسقطه . وقال قوم : إذا تحقق ضرباً أو حبساً أو إهانة سقط عنه الفرض ، وانتقل إلى الندب والأمر والنهي وإن كانا مطلقين في القرآن فقد تقيّد ذلك بالسنَّة بقولِه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده ، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) ولم يدفع أحد من علماء الأمة سَلَفها وخلَفها وجوب ذلك الأقوم من الحشوية وجهَّال أهل الحديث ، فإنّهم أنكروا فعال الفئة الباغية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح ، مع ما سمعوا من قوله تعالى : ) فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ( وزعموا أنّ السلطان لا يُنكرُ عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله ، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح . وقد ذكر أبو بكر الرازي في أحكامه فصلاً مشبعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ذكر فيه أنّ دماء أصحابِ الضرائب والمكوس مباحة ، وأنه يجب على المسلمين قتلهم ، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار له ولا تقدم بالقول .
يدعون إلى الخير هو الإسلام قاله مقاتل ، أو العمل بطاعة الله قاله أبو سليمان الدمشقي ، أو الجهاد والإسلام . وقرأ الجمهور : ولْتكن بسكون اللام . وقرأ أبو عبد الرحمن ، والحسن ، والزهري ، وعيسى بن عمر ، وأبو حيوة : بكسرها ، وعلَّةُ بنائها على الكسر مذكورة في النحو . وجوزوا في ( ولتكن ) أن تكون تامة ، فيكون منكم متعلقاً بها ، أو بمحذوف على أنه حال ، إذ لو تأخر لكان صفة لأمّة . وأن تكون ناقصة ، ويدعون الخبر ، وتعلق من على الوجهين السابقين . وجوزوا أيضاً أنْ يكونَ منكم الخبر ، ويدعون صفة . ومحط الفائدة إنما هو في يدعون فهو الخبر .
و ) يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( ذكر أولاً الدعاء إلى الخير وهو عام في التكاليف من الأفعال والتروك ، ثم جيء بالخاص إعلاماً بفضله وشرفه لقوله : ) وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ

" صفحة رقم 24 "
و ) الصَّلَواةِ الْوُسْطَى ( وفسر بعضهم المعروف بالتوحيد ، والمنكر بالكفر . ولا شك أن التوحيد رأس المعروف ، والكفر رأس المنكر . ولكنَّ الظاهر العموم في كل معروف مأمور به في الشرع ، وفي كل منهي نهي عنه في الشرع . وذكر المفسرون أحاديث مروية في فضل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وفي إثم من ترك ذلك ، وآثاراً عن الصحابة وغيرهم في ذلك ، وما طريق الوجوب هل السمع وحده كما ذهب إليه أبو هاشم ؟ أم السمع والعقل كما ذهب إليه أبوه أبو علي ؟ وهذا على آراء المعتزلة . وأما شرائط النهي والوجوب ، ومن يباشر ، وكيفية المباشرة ، وهل ينهى عما يرتكبه ، لم تتعرض الآية لشيء من ذلك ، وموضوع هذا كله علم الفقه .
وقرأ عثمان ، وعبد الله ، وابن الزبير : وينهون عن المنكر ، ويستعينون الله على ما أصابهم . ولم تثبت هذه الزيادة في سواد المصحف ، فلا يكون قرآناً . وفيها إشارة إلى ما يصيب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الأذى كما قال تعالى : ) وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ( وأولئك هم المفلحون : تقدم الكلام على هذه الجملة في أول البقرة . وهو تبشير عظيم ، ووعد كريم لمن اتصف بما قبل هذه الجملة .
آل عمران : ( 105 ) ولا تكونوا كالذين . . . . .
( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ ( هذه والآية قبلها كالشرح لقوله تعالى : ) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( فشرح الإعتصام بحبل الله بقوله : ) وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ ( ولا سيما على قول الزجاج . وشرح ) وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( بقوله : ) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ ( قال ابن عباس : هم الأمم السالفة التي افترقت في الدين . وقال الحسن : هم اليهود والنصارى اختلفوا وصاروا فرقاً . وقال : قتادة هم أصحاب البدع من هذه الأمة . زاد الزمخشري : وهم المشبهة ، والمجبرة ، والحشوية ، وأشباههم . وقال أبو أمامة : هم الحرورية ، وروي في ذلك حديث : قال بعض معاصرينا : في قول قتادة وأبي أمامة نظر ، فإنّ مبتدعة هذه الأمة والحرورية لم يكونوا إلا بعد موت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بزمان ، وكيف نهى الله المؤمنين أن يكونوا كمثل قوم ما ظهر تفرقهم ولا بدعهم إلا بعد انقطاع الوحي وموت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؟ فإنّك لا تنهى زيداً أنْ يكونَ مثلَ عمرو إلا بعد تقدّم أمر مكروه جرى من عمرو ، وليس لقوليهما وجه إلا أن يكون تفرقوا واختلفوا من الماضي الذي أراد به المستقبل ، فيكون المعنى : ولا تكونوا كالذين يتفرقون ويختلفون ، فيكون ذلك من إعجاز القرآن وإخباره بما لم يقع ثم وقع . انتهى كلامه . والبيِّناتُ على قول ابن عباس : آياتُ الله التي أنزلت على أهل كل ملة . وعلى قول الحسن : التوراة . وعلى قول قتادة وأبي أمامة : القرآن ) وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( يتّصفُ عذابُ الله بالعظيم ، إذ هو أمر نسبي يتفاوت فيه رتب المعذَّبين ، كعذاب أبي طالب وعذاب العصاة من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
آل عمران : ( 106 ) يوم تبيض وجوه . . . . .
( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ( الجمهور على أن ابيضاض الوجوه واسودادها على حقيقة اللون . والبياض من النور ، والسواد من الظلمة . قال الزمخشري : فمن كان من أهل نور الدين وُسمَ ببياض اللون وإسفاره وإشراقه ، وابيضت صحيفته وأشرقت ، وسعى النور بين يديه وبيمينه . ومن كان من أهل ظلمة الباطل وُسمَ بسواد اللون وكسوفه وكمده واسودت صحيفته وأظلمت ، وأحاطت به الظلمة من كل جانب . انتهى كلامه . وقال ابن عطية : وبياض الوجوه عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله قاله الزجاج وغيره . ويحتمل عندي أن تكون من آثار الوضوء كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : أأنتم الغر المحجلون ) من آثار الوضوء . وأما سوادُ الوجوه فقال المفسرون : هو عبارة عن

" صفحة رقم 25 "
ارتدادها وأظلامها بغمم العذاب . ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك تسويداً ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم ، على نحو حشرهم زرقاً ، وهذه أقبح طلعة . ومن ذلك قول بشار : وللبخيل على أمواله علل
زرق العيون عليها أوجه سود
انتهى كلامه . وقال قوم : البياض والسواد مثلان عبر بهما عن السرور والحزن لقوله تعالى : ) ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا ( وكقول العرب لمن نال أمنيته : ابيض وجهه . ولمن جاء خائباً : جاء مسودّ الوجه . وقال أبو طالب :
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
وقال امرؤ القيس :
وأوجههم عند المشاهد غران
وقال زهير :
وأبيض فياض يداه غمامة
وبدأ بالبياض لشرفه ، وأنه الحالة المثلى . وأسند الابيضاضَ والإسوداد إلى الوجوه وإنْ كان جميع الجسد أبيض أو أسود ، لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه ، وهو أشرف أعضائه . والمراد : وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين قاله أبيُّ بن كعب . وقيل : وجوه المهاجرين والأنصار ، ووجوه بني قريظة والنضير . وقيل : وجوه أهل السنة ، ووجوه أهل البدعة . وقال عطاء : وجوه المخلصين ، ووجوه المنافقين . وقيل : وجوه المؤمنين ، ووجوه أهل الكتاب والمنافقين . وقيل : وجوه المجاهدين ، ووجوه الفرار من الزحف . وقيل : تبيض بالقناعة ، وتسودّ بالطمع . وقال الكلبي : تسفر وجوه من قدر على السجود إذا دعوا إليه ، وتسودّ وجوه مَنْ لم يقدر .
واختلفوا في وقت ابيضاض الوجوه واسودادها ، فقيل : وقت البعث من القبور . وقيل : وقت قراءة الصحف . وقيل : وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان . وقيل : عند قوله : ) وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ).
وقيل : وقت أنْ يُؤمَرَ كل فريق بأن يتبع معبوده والعامل في ) يَوْمَ تَبْيَضُّ ( ما يتعلق به . ولهم عذاب عظيم أيْ وعذابٌ عظيم كائن لهم يوم تبيض وجوه . وقال الحوفي : العامل ، فيه محذوف تدل عليه الجملة السابقة ، أي : يعذبون يوم تبيض وجوه . وقال الزمخشري : بإضمار اذكروا ، أو بالظرف وهو لهم . وقال قوم : العامل عظيم ، وضعف من جهة المعنى لأنه يقتضي أنّ عظمَ العذاب في ذلك اليوم ، ولا يجوز أنْ يعمل فيه عذاب ، لأنه مصدر قد وصف . وقرأ يحيى بن وثاب ، وأبو رزين العقيلي ، وأبو نهيك : تبيض وتسودّ بكسر التاء فيهما ، وهي لغة تميم : وقرأ الحسن ، والزهري ، وابن محيصن ، وأبو الجوزاء : تبياض وتسواد بألف فيهما . ويجوز كسر التاء في تبياض وتسواد ، ولم ينقل أنه قرىء بذلك .
( فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ

" صفحة رقم 26 "
فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسودّ . وابتدىء بالذين اسودّت للاهتمام بالتحذير من حالهم ، ولمجاورة قوله : وتسودّ وجوه ، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم . فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ، ويشرح الصدر . وقد تقدّم الكلام على أما في أول البقرة وأنها حرف شرط يقتضي جواباً ، ولذلك دخلت الفاء في خبر المبتدأ بعدها ، والخبر هنا محذوف للعلم به . والتقدير : فيقال لهم : أكفرتم ؟ كما حذف القول في مواضع كثيرة كقوله : ) وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( أي يقولون : سلام عليكم . ولمّا حذف الخبر حذفت الفاء ، وإنْ كان حذفُها في غير هذا لا يكون إلا في الشعر نحو قوله : فأمّا القتال لا قتال لديكم
ولكنّ سيرا في عرض المواكب
يريد فلا قتال ، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم بنهاية التأميل في أسرار التنزيل : قد اعترض على النحاة في قولهم : لما حذف . يقال : حذفت الفاء بقوله تعالى : ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ ( تقديره فيقال لهم : أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف فيقال ، ولم تحذف الفاء . فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، فوقع ذلك جواباً له . ولقوله : أكفرتم ، ومن نظم العرب : إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ثم يجعلون لهما جواباً واحداً ، كما في قوله تعالى : ) فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( فقوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب للشرطين ، وليس أفلم جواب أمّا ، بل الفاء عاطفة على مقدّر والتقدير : أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي . انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي . أمّا قوله : قد اعترض على النحاة فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ، لأنه ما من نحوي إلا خرّج الآية على إضمار فيقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدّر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه . وأمّا ما اعترض به من قوله : ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى ( وأنهم قدروه فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف فيقال : ولم تحذف الفاء ، فدل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء ، فيقال التي هي جواب أمّا حتى يقال حذف ، فيقال : وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب أمّا ، ويقال بعدها محذوف . وفاء أفلم تحتمل وجهين ، أحدهما أن تكون زائدة . وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قولَ الشاعر : يموت أناس أو يشيب فتاهم
ويحدث ناس والصغير فيكبر
يريد : يكبر وقول الآخر : لما اتقى بيد عظيم جرمها
فتركت ضاحي جلدها بتذبذب

" صفحة رقم 27 "
يريد : تركت . وقال زهير : أراني إذا ما بت بتّ على هوى
فثم إذا أصبحت أصبحت غادياً
يريد ثم . وقول الأخفش : وزعموا أنهم يقولون أخوك ، فوجد يريدون أخوك وجد . والوجه الثاني : أن تكون الفاء تفسيرية ، وتقدم الكلام فيقال لهم : ما يسوؤهم ، فالم تكن آياتي ، ثم اعتنى بهمزة الاستفهام فتقدمت على الفاء التفسيرية ، كما تقدم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله : ) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ ( وهذا على مذهب من يثبت أن الفاء تكون تفسيرية نحو : توضأ زيد فغسل وجهه ويديه إلى آخر أفعال الوضوء . فالفاء هنا ليست مرتبة ، وإنما هي مفسرة للوضوء . كذلك تكون في ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ( مفسرة للقول الذي يسوؤهم وقول هذا الرجل . فلما بطل هذا يعني أن يكون الجواب فذوقوا أي تعين بطلان حذف ما قدره النحويون من قوله ، فيقال لهم لوجود هذا الفاء في أفلم تكن ، وقد بينا أن ذلك التقدير لم يبطل ، وأنه سواء في الآيتين . وإذا كان كذلك فجواب أمّا هو ، فيقال في الموضعين ، ومعنى الكلام عليه . وأمّا تقديره : أأهملتكم ، فلم تكن آياتي ، فهذه نزعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشري يقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يصح عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على الهمزة ، لكنْ اعتنى بالاستفهام ، فقدم على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين . وقد رجع الزمخشري أخيراً إلى مذهب الجماعة في ذلك ، وبطلان قوله الأول مذكور في النحو . وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك . وعلى تقدير قول هذا الرجل : أأهملتكم ، فلا بدّ من إضمار القول وتقديره ، فيقال : أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ ، والفاء جواب أما . وهو الذي يدل عليه الكلام ، ويقتضيه ضرورة . وقول هذا الرّجل : فوقع ذلك جواباً له ، ولقوله : أكفرتم ، يعني أنْ فذوقوا العذاب جواب لأمّا ، ولقوله : أكفرتم ؟ والاستفهام هنا لا جواب له ، إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم . وأمّا قول هذا الرّجل : ومن نظم العرب إلى آخره ، فليس كلام العرب على ما زعم ، بل يجعل لكل جواب أنَّ لا يكن ظاهراً فمقدر ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً ، وأما دعواه ذلك في قوله تعالى : ) فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم ( الآية . وزعمه أن قوله تعالى : ) فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ( جواب للشرطين . فقولٌ روي عن الكسائي . وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول محذوف تقديره : فاتبعوه . والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول . وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله : ) فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم ( الآية . والهمزة في ) أَكْفَرْتُمْ ( للتقرير والتوبيخ والتعجيب من حالهم . والخطاب في أكفرتم إلى آخره يتفرع على الاختلاف في الذين اسودت وجوههم ، فإنْ كانوا الكفار فالتقدير : بعد أن آمنتم حين أخذ عليكم الميثاق وأنتم في صلب آدم الكذّر ، وإن كانوا أهل البدع فتكون البدعة المخرجة عن الإيمان . وإن كانوا قريظة والنضير فيكون إيمانهم به قبل بعثه ، وكفرهم به بعده ، أو إيمانهم بالتوراة وما جاء فيها من نبوته ووصفه والأمر باتباعه ، وإن كانوا المنافقين فالمراد بالكفر كفرهم بقلوبهم ، وبالإيمان الإيمان بألسنتهم . وإن كانوا الحرورية أو المرتدين فقد كان حصل منهم الإيمان حقيقة وفي قوله : ) أَكْفَرْتُمْ ). قالوا : تلوين الخطاب وهو أحد أنواع الالتفات ، لأن قوله : فأما الذين اسودت غيبة ، وأكفرتم مواجهة بما كنتم ، الباء سببية وما مصدرية .
آل عمران : ( 107 ) وأما الذين ابيضت . . . . .
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( انظر تفاوت ما بين التقسيمين هناك جمع لمن اسودّت وجوههم بين التعنيف بالقول

" صفحة رقم 28 "
والعذاب ، وهنا جعلهم مستقرّين في الرحمة ، فالرّحمة ظرف لهم وهي شاملتهم . ولما أخبر تعالى أنَّهم مستقرّون في رحمة الله بيَّن أنّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال ، وأشار بلفظ الرّحمة إلى سابق عنايته بهم ، وأن العبد وإنْ كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى . وقال ابن عباس : المراد بالرحمة هنا الجنة ، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعاراً بأنَّ جانب الرحمة أغلب . وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه ، بل قال : ) فَذُوقُواْ الْعَذَابَ ( ولما ذكر العذاب علّله بفعلهم ، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة . وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر : فأما الذين اسوادت ، وأما الذين ابياضت بألف . وأصل افعلّ هذا افعلل يدل ، على ذلك اسوددت واحمررت ، وأن يكون للون أو عيب حسي ، كأسود ، وأعوج ، واعوز . وأن لا يكون من مضعف كاحم ، ولا معتل لام كألمى ، وأنْ لا يكون للمطاوعة . وندر نحو : انقضّ الحائط ، وابهار الليل ، وإشعار الرجل بفرق شعره ، وشذا رعوى ، لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب مطاوعاً لرعوته بمعنى كففته . وأما دخول الألف فالأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها ، ولزومه إذا لم يجأ بهما . وقد يكون العكس . فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى : ) مَدَّ ( ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى : ) تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ( واحمرّ خجلاً . وجواب أما ففي الجنة ، والمجرور خبر المبتدأ ، أي فمستقرون في الجنة . وهم فيها خالدون جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، لم تدخل في حيز أما ، ولا في إعراب ما بعده . دلّت على أنَّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) كيف موقع قوله : هم فيها خالدون بعد قوله : ففي رحمة الله ؟ ( قلت ) : موقع الاستئناف . كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا يظعنون عنها ولا يموتون انتهى . وهو حسن . وقيل : جواب أما ففي الجنة هم فيها خالدون ، وهم فيها خالدون ابتداء . وخبر وخالدون العامل في الظرفين ، وكرر على طريق التوكيد لما يدل عليه من الاستدعاء والتشويق إلى النعيم المقيم .
آل عمران : ( 108 ) تلك آيات الله . . . . .
( تِلْكَ ءايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ ( الإشارة بتلك قيل : إلى القرآن كله . وقيل : إلى ما أنزل من الآيات في أمر الأوس والخزرج واليهود الذين مكروا بهم ، والتقدم إليهم بتجنب الافتراق . وكشف تعالى للمؤمنين عن حالهم وحال أعدائهم بقوله : ) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ( وقيل : تلك بمعنى هذه لما انقصت صارت كأنها بعدت . وقال الزمخشري : تلك آيات الله الواردة في الوعد والوعيد ، وكذا قال ابن عطية . قال الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفارة وتنعيم المؤمنين .
وقرأ الجمهور نتلوها بالنون على سبيل الالتفات ، لما في إسناد التلاوة للمعظم ذاته من الفخامة والشرف . وقرأ أبو نهيك بالياء . والأحسن أنْ يكون الضمير المرفوع في نتلوها في هذه القراءة عائد على الله ، ليتحد الضمير . وليس فيه التفات ، لأنه ضمير غائب عاد على اسم غائب . ومعنى التلاوة : القراءة شيئاً بعد شيء ، وإسناد ذلك إلى الله على سبيل المجاز ، إذ التالي هو جبريلٌ لما أمره بالتلاوة كان كأنه هو التالي تعالى . وقيل : يجوز أن يكون معنى يتلوها ينزلها متوالية شيئاً بعد شيء . وجوزوا في قراءة أبي نهيك أن يكون ضمير الفاعل عائداً على جبريل وإنْ لم يجر له ذكر للعلم به .
ومعنى بالحق أي بإخبار الصدق . وقيل : المعنى متضمنة الأفاعيل التي هي أنفسها حق من كرامة قوم وتعذيب آخرين . وتلك مبتدأ أو آيات الله خبره ، ونتلوها جملة حالية . قالوا : والعامل فيها اسم الإشارة . وجوزوا أن يكون آيات الله بدلاً ، والخبر نتلوها . وقال الزجاج : في الكلام حذف تقديره تلك آيات القرآن المذكورة حجج الله ودلائله انتهى . فعلى هذا الذي قدره يكون خبر المبتدأ محذوف ، لأنّه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية . ولا حاجة إلى تقدير هذا

" صفحة رقم 29 "
المحذوف ، إذ الكلام مستغن عنه تام بنفسه . والباء في بالحق باء المصاحبة ، فهي في موضع الحال من ضمير المفعول أي : ملتبسة بالحق . وقال الزمخشري : ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه انتهى . فدسّ في قوله بما يستوجبانه دسيسة اعتزالية . ثم أخبر تعالى أنه لا يريد الظلم ، وهذا لم يرده لم يقع منه لأحد . فما وقع منه تعالى من تنعيم قوم وتعذيب آخرين ليس من باب الظلم ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه . روى أبو ذر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال فيما يروى عن ربه عز وجل أنه قال : ) يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا ( وفي الحديث الصحيح أيضاً أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ الْمُؤْمِنُ حَسَنَةٌ يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا ( وقيل : المعنى لا يزيد في إساءة المسيء ولا ينقص من إحسان المحسن ، وفيه تنبيه على أن تسويد الوجوه عدل انتهى .
وللعالمين في موضع المفعول للمصدر الذي هو ظلم ، والفاعل محذوف مع المصدر التقدير : ظلمه ، والعائد هو ضمير الله تعالى أي : ليس الله مريداً أن يظلم أحداً من العالمين . ونكر ظلماً لأنّه في سياق النفي ، فهو يعم . وقيل : المعنى أنه تعالى لا يريد ظلم العالمين بعضهم لبعض . واللفظ ينبو عن هذا المعنى ، إذ لو كان هذا المعنى مراداً لكان من أحق به من الكلام ، فكان يكون التركيب : وما الله يريد ظلماً من العالمين . وقال الزمخشري : وما الله يريد ظلماً فيأخذ أحذاً بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ينقص من ثواب محسن ، ثم قال : فسبحان من يحلم عن من يصفه بإرادة القبائح والرّضا بها ، انتهى كلامه جارياً على مذهبه الاعتزالي . ونقول له : فسبحان من يحلم عمن يصفه بأن يكون في ملكه ما لا يريد ، وإن إرادة العبد تغلب إرادة الرب تعالى الله عن ذلك .
آل عمران : ( 109 ) ولله ما في . . . . .
( وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ ( لما ذكر أحوال الكافرين والمؤمنين ، وأنه يختص بعمل من آمن فيرحمهم به ، ويختص بعمل من كفر فيعذبهم ، نبه على أنَّ هذا التصرف هو فيما يملكه ، فلا اعتراض عليه تعالى . ودلت الآية على اتساع ملكه ومرجع الأمور كلها إليه ، فهو غني عن الظلم ، لأن الظلم إنما يكون فيما كان مختصاً به عن الظالم . وتقدم شرح هاتين الجملتين فأغنى ذلك عن إعادته .
قالوا وتضمنت هذه الآيات الطباق : في تبيضّ وتسودّ ، وفي اسودّت وابيضّت ، وفي أكفرتم بعد إيمانكم ، وفي بالحق وظلماً . والتفصيل : في فأمّا وأمّا . والتجنيس : المماثل في أكفرتم وتكفرون . وتأكيد المظهر بالمضمر في : ففي رحمة الله هم فيها خالدون . والتكرار : في لفظ الله . ومحسنه : أنه في جمل متغايرة المعنى ، والمعروف في لسان العرب إذا اختلفت الجمل أعادت المظهر لا المضمر ، لأن في ذكره دلالة على تفخيم الأمر وتعظيمه ، وليس ذلك نظير .
لا أرى الموت يسبق الموت شيء

" صفحة رقم 30 "
لاتحاد الجملة . لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصداً للتفخيم . والإشارة في قوله : تلك ، وتلوين الخطاب في فأمّا الذين اسودّت وجوههم أكفرتم ، والتشبيه والتمثيل في تبيض وتسودّ ، إذا كان ذلك عبارة عن الطلاقة والكآبة والحذف في مواضع .
آل عمران : ( 110 ) كنتم خير أمة . . . . .
( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( قال عكرمة ومقاتل : نزلت في ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وقد قال لهم بعض اليهود : ديننا خير مما تدعوننا إليه ، ونحن خير وأفضل . وقيل : نزلت في المهاجرين . والذي يظهر أنها من تمام الخطاب الأول في قوله : ) مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ ( وتوالت بعد هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر ونواهٍ ، وكان قد استطرد من ذلك لذكر مَنْ يبيض وجهه ويسودّ ، وشيء من أحوالهم في الآخرة ، ثم عاد إلى الخطاب الأول فقال تعالى : كنتم خير أمّة تحريضاً بهذا الإخبار على الانقياد والطواعية . والظاهر أنّ الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولاً وهم : أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فتكون الإشارة بقوله : أمة إلى أمةٍ معينة وهي أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فالصحابة هم خيرها .
وقال الحسن ومجاهد وجماعة : الخطاب لجميع الأمة بأنهم خير الأمم ، ويؤيد هذا التأويل كونهم ) شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( وقوله : ) نَحْنُ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( الحديث وقوله : ) نَحْنُ ).
وطاهر كان هنا أنها الناقصة ، وخير أمة هو الخبر . ولا يراد بها هنا الدلالة على مضي الزمان وانقطاع النسبة نحو قولك : كان زيد قائماً ، بل المراد دوام النسبة كقوله : ) عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( ) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ( وكون كان تدل على الدوام ومرادفه لم يزل قولاً مرجوحاً ، بل الأصح أنها كسائر الأفعال تدل على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع . وقيل : كان هنا بمعنى صار ، أيْ صرتم خير أمة . وقيل : كان هنا تامة ، وخير أمة حال . وأبعد من ذهب إلى أنّها زائدة ، لأن الزائدة لا تكون أول كلام ، ولا عمل لها . وقال الزمخشري : كان عبارة عن وجود الشيء في من ماض على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارىء . ومنه قوله تعالى : ) وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً ).
ومنه قوله : كنتم خير أمة ، كأنه قيل : وجدتم خير أمة انتهى كلامه . فقوله : أنها لا تدل على عدم سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار ، فإذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق . فإذا قلت : كان زيد عالماً بمعنى صار ، دلت على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم . وقوله : ولا على انقطاع طارىء قد ذكرنا قبل أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ المضي منها على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع . وفرقٌ بين الدلالة والاستعمال ، ألا ترى أنك تقول : هذا اللفظ يدل على العموم ؟ ثم تستعمل حيث لا يراد العموم ، بل المراد الخصوص . وقوله : كأنه قال وجدتم خير أمة ، هذا يعارض أنها مثل قوله : ) وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة ، وأن خير أمة حال . وقوله : وكان الله غفوراً لا شك أنها هنا الناقصة فتعارضا . وقيل : المعنى : كنتم في علم الله . وقيل : في اللوح المحفوظ . وقيل : فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم . وقيل : هو على الحكاية ، وهو متصل بقوله : ) فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( أي فيقال لهم في القيامة : كنتم في الدنيا خير أمة ، وهذا قول بعيد من سياق الكلام . وخير مضاف للنكرة ، وهي أفعل تفضيل فيجب إفرادها وتذكيرها ، وإن كانت جارية على جمع . والمعنى : أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها . وحكم عليهم بأنهم خيرُ أمة ، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي : سبقهم إلى الإيما برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وبدارهم إلى نصرته ، ونقلهم عنه علم الشريعة ، وافتتاحهم البلاد . وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل . وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل

" صفحة رقم 31 "
أجرها ، لأنّهم سببٌ في إيجادها ، إذْ هم الذين سنوها ، وأوضحوا طريقها ( من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً .
ومعنى أخرجت : أظهرت وأبرزت ، ومخرجها هو الله تعالى ، وحذف للعلم به . وقال ابن عباس : أخرجت من مكة إلى المدينة ، وهي جملة في موضع الصفة لأمة ، أي خير أمة مخرجة ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة ، فتكون في موضع نصب أي مخرجة . وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ الغيبة ، ولم يراع لفظ الخطاب . وهما طريقان للعرب ، إذا تقدم ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب ، ثم جاء بعده خبره إسماً ، ثم جاء بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفاً ، فتارة يراعى حال ذلك الضمير فيكون ذلك الصالح للوصف على حسب الضمير فتقول : أنا رجل آمر بالمعروف ، وأنت رجل تأمر بالمعروف . ومنه ) بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ( وأنك امرؤ فيك جاهلية : وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية
كأنك منها قاعد في جوالق
وتارةً يراعى حال ذلك الاسم ، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسبه من الغيبة . فتقول : أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف . ومنه : كنتم خير أمة أخرجت ولو جاء أخرجتم فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربياً فصيحاً . والأولى جعله أخرجت للناس صفة لأمة ، لا لخير لتناسب الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في تأمرون وما بعده . وظاهر قوله : للناس أنه متعلق بأخرجت . وقيل : متعلق بخير . ولا يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس هذا اللفظ ، بل من موضع آخر . وقيل : بتأمرون ، والتقدير تأمرون الناس بالمعروف . فلما قدم المفعول جر باللام كقوله : ) إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ( أي تعبرون الرؤيا ، وهذا فيه بعد . تأمرون بالمعروف كلام خرج مخرج الثناء من الله قاله : الربيع . أو مخرج الشرط في الخيرية ، روى هذا المعنى عن : عمرو ، ومجاهد ، والزجاج . فقيل : هو مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم . وقال ابن عطية : تأمرون وما بعده أحوال في موضع نصب انتهى . وقاله الراغب : والاستئناف أمكن وأمدح . وأجاز الحوفي في أن يكون تأمرون خبراً بعد خبر ، وأن كون نعتاً لخير أمة . قيل : وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان ، لأنّ الإيمان مشترك بين جميع الأمم ، فليس المؤثر لحصول هذه الزيادة ، بل المؤثر كونهم أقوى حالاً في الأمر والنهي . وإنا الإيمان شرط للتأثير ، لأنه ما لم يوجد لم يضر شيء من الطاعات مؤثراً في صفة الخيرية ، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير . وإنما اكتفى بذكر الإيمان بالله عن الإيمان بالنبوّة لأنه مستلزم له انتهى . وهو من كلام محمد بن عمر الرازي . وقال الزمخشري : جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيماناً بالله ، لأن مَن آمن ببعض ، ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه ، فكأنه غير مؤمن بالله . ويقولون : نؤمن ببعض الآية انتهى . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي وتؤمنون برسول الله . والظاهر في المعروف ، والمنكر العموم . وقال ابن عباس : المعروف الرسول ، والمنكر عبادة الأصنام . وقال أبو العالية : المعروف التوحيد ، والمنكر الشرك .
( وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ( أي ولو آمن عامّتهم

" صفحة رقم 32 "
وسائرهم . ويعني الإيمان التام النافع . واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من آمن كما يقول من صدق كان خيراً له ، أي لكان هو ، أي الإيمان . وعلّق كينونة الإيمان خيراً لهم على تقدير حصوله توبيخاً لهم مقروناً بنصحه تعالى لهم أنْ لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب الله . وخبر هنا أفعل التفضيل ، والمعنى : لكان خيراً لهم مما هم عليه ، لأنهم إما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً في الرئاسة واستتباع العوام ، فلهم في هذا خط دنيوي . وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإسلام ، والحظ الأخروي الجزيل بما وعدوه على الإيمان من إيتائهم أجرهم مرتين . وقال ابن عطية : ولفظة خير صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظة خير من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها انتهى كلامه . وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أولى إذا أمكن ذلك ، وقد أمكن إذ الخيرية مطلقة فتحصل بأدنى مشاركة .
( مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( ظاهر اسم الفاعل التلبس بالفعل ، فأخبر تعالى أنَّ من أهل الكتاب من هو ملتبس بالإيمان كعبد الله بن سلام ، وأخيه ، وثعلبة بن سعيد ، ومن أسلم من اليهود . وكالنجاشي ، وبحيرا ، ومن أسلم من النصارى إذ كانوا مصدقين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبل أن يبعث وبعده . وهذا يدل على أنّ المراد بقوله : ) وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ ( الخصوص ، أي باقي أهل الكتاب إذ كانت طائفة منهم قد حصل لها الإيمان . وقيل : المراد باسم الفاعل هنا الاستقبال . أي منهم من يؤمن ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب العموم ، ويكون قوله : منهم المؤمنون إخباراً بمغيب وأنه سيقع من بعضهم الإيمان ، ولا يستمرون كلهم على الكفر . وأخبر تعالى أن أكثرهم الفاسقون ، فدل على أن المؤمنين منهم قليل . والألف واللام في المؤمنون وفي الفاسقون يدل على المبالغة والكمال في الوصفين ، وذلك طاهر لأن من آمن بكتابه وبالقرآن فهو كامل في إيمانه ، ومن كذب بكتابه إذ لم يتبع ما تضمنه من الإيمان برسول الله ، وكذب بالقرآن فهو أيضاً كامل في فسقه متمرد في كفره .
آل عمران : ( 111 ) لن يضروكم إلا . . . . .
( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( هاتان الجملتان تضمنتا الأخبار بمعنيين مستقبلين وهو : إنّ ضررهم إياكم لا يكون إلا أذى ، أي شيئاً تتأذون به ، لا ضرراً يكون فيه غلبة واستئصال . ولذلك إن قاتلوكم خذلوا ونصرتم ، وكلا هذين الأمرين وقع لأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ما ضرهم أحد من أهل الكتاب ضرراً يبالون به ، ولا قصدوا جهة كافر إلا كان لهم النصر عليهم والغلبة لهم .
والظاهر أن قوله : إلا أذى استثناء متصل ، وهو استثناء مفرغ من المصدر المحذوف التقدير : لن يضرُّوكم ضرراً إلا ضرراً يسيراً لا نكاية فيه ، ولا إجحاف لكم . وقال الفراء والزجاج والطبري وغيرهم : هو استثناء منقطع ، والتقدير : لن يضروكم لكنْ أذى باللسان ، فقيل : هو سماع كلمة الكفر . وقيل : هو بهتهم وتحريفهم . وقيل : موعد وطعن . وقيل : كذب يتقوّلونه على الله قاله : الحسن ، وقتادة .
ودلّت هذه الجملة على ترغيب المؤمنين في تصلبهم في دينهم وتثبيتهم عليه ، وعلى تحقير شأن الكفار ، إذ صاروا ليس لهم من ضرر المسلمين شيء إلاّ ما يصلون إليه من إسماع كلمة بسوء .
( وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ( ، هذه مبالغة في عدم مكافحة الكفار للمؤمنين إذا أرادوا قتالهم ، بل بنفس ما تقع المقابلة ولوا الأدبار ، فليسوا ممن يغلب ويقتل وهو مقبل على قرنه غير مدبر عنه . وهذه الجملة جاءت كالمؤكدة للجملة قبلها ، إذ تضمنت الإخبار أنهم لا تكون لهم غلبة ولا قهر ولا دولة على المؤمنين ، لأنّ حصول ذلك إنما يكون سببه صدق القتال والثبات فيه ، أو النصر المستمد من الله ، وكلاهما ليس لهم . وأتى بلفظ الإدبار لا بلفظ الظهور ، لما في ذكر الإدبار من الإهانة دون ما في الظهور ، ولأن ذلك أبلغ في الانهزام والهرب . ولذلك ورد في القرآن مستعملاً دون لفظ الظهور لقوله تعالى : ) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( ) وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ( ثم لا ينصرون : هذا استئنافُ أخبار أنّهم لا ينصرون أبداً . ولم يشرك في الجزاء فيجزم ، لأنه ليس مرتباً على الشرط ، بل التولية مترتبة على

" صفحة رقم 33 "
المقاتلة . والنصر منفى عنهم أبداً سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا ، إذ منع النصر سببه الكفر . فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء ، كما أن جملة الشرط والجزاء معطوفة على لن يضروكم إلا أذى . وليس امتناع الجزم لأجلهم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط . قال :
وثم للتراخي ، فلذلك لم تصلح في جواب الشرط . والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ ، لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح كلام . قال تعالى : ) وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم ( فجزم المعطوف بثم على جواب الشرط . وثمَّ هنا ليست للمهلة في الزمان ، وإنما هي للتراخي في الإخبار . فالإخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسرّ للنفس . ثم أخبر بعد ذلك بانتفاء النصر عنهم مطلقاً . وقال الزمخشري : التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الإدبار . ( فإن قلت ) : ما موقع الجملتين ، أعني منهم : المؤمنون ولن يضروكم ؟ ( قلت ) : هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب ، كما يقول القائل : وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ، ولذلك جاء من غير عاطف .
آل عمران : ( 112 ) ضربت عليهم الذلة . . . . .
( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ ( تقدم شرح هذه الجملة ، وهي وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام . قال الحسن : جاء الإسلام والمجوس تجبي اليهود الجزية ، وما كانت لهم غيرة ومنعه إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض ، فأزالها بالإسلام ولم تبق لهم راية في الأرض .
( أَيْنَمَا ثُقِفُواْ ( عام في الأمكنة . وهي شرط ، وما مزيدة بعدها ، وثقفوا في موضع جزم ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ، ومن أجاز تقديم جواب الشرط قال : ضربت هو الجواب ، ويلزم على هذا أن يكون ضرب الذلة مستقبلاً . وعلى الوجه الأول هو ماض يدل على المستقبل ، أي ضربت عليهم الذلة ، وحيثما ظفر بهم ووجدوا تضرب عليهم ، ودل ذكر الماضي على المستقبل ، كما دل في قول الشاعر : وندمان يزيد الكأس طيبا
سقيت إذا تغوّرت النجوم
التقدير : سقيت ، وأسقية إذا تغوّرت النجوم .
( إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النَّاسِ ( هذا استثناء ظاهره الانقطاع ، وهو قول : الفراء ، والزجاج . واختيار ابن عطية ، لأن الذلة لا تفارقهم . وقدره الفراء : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، فحذف ما يتعلق به الجار كما قال : حميد بن نور الهلالي :
رأتني بحبليها فصدت مخافة
ونظره ابن عطية بقوله تعالى : ) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ ( قال : لأن بادىء الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ . وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك . وإنما في الكلام محذوف يدركه فهم السامع الناظر في الأمر وتقديره : في أمتنا ، فلا نجاة من الموت إلا بحبل . نتهى كلامه . وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعاً ، لأنه مستثنى من جملة مقدّرة وهي قوله : فلا نجاة من الموت ، وهو متصل على هذا التقدير فلا يكون استثناء منقطعاً من الأول ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعاً متصلاً . والاستثناء المنقطع كما قرر في علم النحو على قسمين منه : ما يمكن أن يتسلط عليه العامل ، ومنه ما لا يمكن فيه ذلك ، ومنه هذه الآية . على تقدير الانقطاع ، إذ التقدير : لكن اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس ينجيهم من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال أموالهم . ويدل على أنه منقطع الأخبار بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة : ) وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ ( فلم يستثن

" صفحة رقم 34 "
هناك . وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل قال : وهو استثناء من أعم عام الأحوال ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس ، يعني : ذمة الله وذمة المسلمين . أي لا عزلهم قط إلا هذه الواحدة ، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية انتهى كلامه . وهو متجه وشبَّه العهد بالحبل لأنه يصل قوماً بقوم ، كما يفعل الحبل في الإجرام . والظاهر في تكرار الحبل أنه أريد حبلان ، وفسر حبل الله بالإسلام ، وحبل الناس بالعهد والذمة . وقيل : حبل الله هو الذي نص الله عليه من أخذ الجزية . والثاني : هو الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه وينقص بحسب الاجتهاد . وقيل : المراد حبل واحد ، إذ حبل المؤمنين هو حبل الله وهو العهد .
( وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ ( تقدم تفسير نظائر هذه الجمل فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
2 ( ) لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَائِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هِاذِهِ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاٌّ يَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَآأَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاٌّ نَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( ) ) 2
آل عمران : ( 113 ) ليسوا سواء من . . . . .
الآناء : الساعات . وفي مفردها لغات أني كمعي ، وأني كفتى ، وأني كنحي ، وأتى كظبي ، وانو كجرو

" صفحة رقم 35 "
الصر : البرد الشديد المحرق . وقيل : البارد بمعنى الصرصر كما قال : لا تعدلن إناء بين تضر بهم
نكباء ضرّ بأصحاب المحلات
وقالت ليلى الأخيلية : ولم يغلب الخصم الألد ويملأ
الجفان سديفاً يوم منكباء صرصر
وقال ابن كيسان : هو صوت لهب النار ، وهو اختيار الزجاج من الصرير . وهو الصوت من قولهم : صرَّ الشيء ، ومنه الريح الصرصر . وقال الزجاج : والصرُّ صوت النار التي في الريح .
البطانة في الثوب بإزاء الظهارة ، ويستعار لمن يختصه الإنسان كالشعار والدثار . يقال : بطن فلان من فلان بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به ، داخلاً في أمره . وقال الشاعر : أولئك خلصاني نعم وبطانتي
وهم عيبتي من دون كل قريب
ألوت في الأمر : قصرت فيه . قال زهير : سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم
فلم يفعلوا ولم يليموا لم يألووا
أي لم يقصروا . الخبال والخبل : الفساد الذي يلحق الحيوان . يقال : في قوائم الفرس خبل وخبال أي فساد من جهة الاضطراب . والخبل والجنون . ويقال : خبله الحب أي أفسده .
البغضاء : مصدر كالسراء والبأساء يقال : بغض الرجل فهو بغيض ، وأبغضته أنا اشتدت كراهتي له .
الأفواه معروفة ، والواحد منها في الأصل فوه . ولم تنطق به العرب بل قالت : فم . وفي الفم لغات تسع ذكرت في بعض كتب النحو .
العض : وضع الأسنان على الشيء بقوة ، والفعل منه على فِعل بكسر العين ، وهو بالضاد . فأماعظ الزمان وعظ الحرب فهو بالظاء أخت الطاء قال : وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتا أو مجلف
والعُض بضم العين علف أهل الأمصار مثل : الكسب والنوى المرضوض : يقال منه : أعض القوم إذا أكل

" صفحة رقم 36 "
إبلهم العض . وبعير عضاضيّ أي سمين ، كأنه منسوب إليه . والعِض بالكسر الداهية من الرجال .
الأنامل جمع أنملة ، ويقال : بفتح الميم وضمها ، وهي أطراف الأصابع . قال ابن عيسى : أصلها النمل المعروف ، وهي مشبهة به في الدقة والتصرف بالحركة . ومنه رجل نمل : أي نمام .
الغيض : مصدر غاضة ، وغيض اسم علم .
الفرح : معروف يقال منه : فرح بكسر العين .
الكيد : المكر كاده يكيده مكر به . وهو الاحتيال بالباطل . قال ابن قتيبة : وأصله المشقة من قولهم : فلان يكيد بنفسه ، أي يعالج مشقات النزع وسكرات الموت .
( لَيْسُواْ سَوَاء مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ ( سببت النزول إسلام عبد الله بن سلام وغيره من اليهود ، وقول الكفار من أحبارهم : ما آمن بمحمد إلا شرارنا ، ولو كانوا خياراً ما تركوا دين آبائهم قاله : ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج . والواو في ليسوا هي لأهل الكتاب السابق ذكرهم في قوله : ) وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( والأصح : أن الواو ضمير عائد على أهل الكتاب ، وسواء خبر ليس . والمعنى : ليس أهل الكتاب مستوين ، بل منهم من آمن بكتابه وبالقرآن ممن أدرك شريعة الإسلام ، أو كان على استقامة فمات قبل أن يدركها .
ومن أهل الكتاب أمة قائمة : مبتدأ وخبر . وقال الفراء : أمة مرتفعة بسواء ، أي ليس أهل الكتاب مستوياً من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة ، فحذفت هذه الجملة المعادلة ، ودل عليها القسم الأول كقوله : عصيت إليها القلب إني لأمره
سميع فما أدري أرشد طلابها
التقدير : أم غي فحذف لدلالة أرشد وقال : أراك فما أدري أهم ضممته
وذو الهم قدماً خاشع متضائل
التقدير : أم غيره . قال الفراء : لأن المساواة تقتضي شيئين : سواء العاكف فيه والبادي سواء محياهم ومماتهم . ويضعف قول الفراء من حيث الحذف . ومن حذف وضع الظاهر موضع المضمر ، إذ التقدير : ليس أهل الكتاب مستوياً منهم أمة قائمة كذا ، وأمة كافرة . وذهب أبو عبيدة : إلى أن الواو في ليسوا علامة جمع لا ضمير مثلها ، في قول الشاعر : يلومونني في شراء النخي
ل قومي وكلهم ألوم
واسم ليس : أمّة قائمة ، أي ليس سواء من أهل الكتاب أمّةً قائمة موصوفة بما ذكروا أمة كافرة .
قال ابن عطية : وما قاله أبو عبيدة خطأ مردود انتهى . ولم يبين جهة الخطأ ، وكأنه توهم أن اسم ليس هو أمة قائمة فقط ، وأنه لا محذوف . ثمّ إذ ليس الغرضُ تفاوت الأمة القائمة التالية ، فإذا قدر ثم محذوف لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردوداً . قيل : وما قاله أبو عبيدة هو على لغة أكلوني البراغيث ، وهي لغة رديئة والعرب على خلافها ، فلا يحمل عليها مع ما فيه من مخالفة الظاهر

" صفحة رقم 37 "
انتهى . وقد نازع السهيلي النحويين في قولهم : إنها لغة ضعيفة ، وكثيراً ما جاءت في الحديث . والإعراب الأول هو الظاهر . وهو : أن يكون من أهل الكتاب أمةٌ قائمة مستأنف بيان لانتفاء التسوية كما جاء ) يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ( بياناً لقوله : ) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ( والمراد بأهل الكتاب واليهود والنصارى .
وأمة قائمة أي مستقيمة من أقمت العود فقام ، أي استقام . قال مجاهد والحسن وابن جريج : عادلة . وقال ابن عباس وقتادة والربيع : قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية . وقال السدي : قانتة مطيعة ، وكلها راجع للقول الأوّل .
وقال ابن مسعود والسدي : الضمير في ليسوا عائد على اليهود . وأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذ تقدم ذكر اليهود وذكرُ هذه الأمة في قوله : ( كنتم خير أمة ) . والكتاب على هذا القول جنسُ كتب الله ، وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط . والمراد بقوله : من أهل الكتاب أمة قائمة أهل القرآن . والظاهر عود الضمير على أهل الكتاب المذكورين في قوله : ) وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ ( لتوالي الضمائر عائدة عليهم فكذلك ضمير ليسوا . وقال عطاء : من أهل الكتاب أمة قائمة الآية يريد أربعين رجلاً من أهل نجران من العرب ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم ، كانوا على دين عيسى وصدقوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وكان ناس من الأنصار موحدين ويغتسلون من الجنابة ، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حتى جاءهم منه أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة وقيس بن صرمة بن أنس . ) يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ( وصف الأمة القائمة بأنها تالية آيات الله ، وعبَّر بالتلاوة في ساعات الليل عن التهجد بالقرآن . وقوله : وهم يسجدون جملة في موضع الصفة أيضاً معطوفة على يتلون ، وصفهم بالتلاوة للقرآن وبالسجود . فتلاوة القرآن في القيام ، وأما السجود فلم تشرع فيه التلاوة . وجاءت الصفة الثانية اسمية لتدل على التوكيد بتكرر الضمير وهو هم ، والواو في يسجدون إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . وأخبر عن المبتدأ بالمضارع ، وجاءت الصفة الأولى بالمضارع أيضاً لتدل على التجدد ، وعطفت الثانية على الأولى بالواو لتشعر بأن تلك التلاوة كانت في صلاة ، فلم تكن التلاوة وحدها ولا السجود وحده .
وظاهر قوله : آناء الليل أنها جميع ساعات الليل . فيبعد صدور ذلك أعني التلاوة والسجود من كل شخص شخص ، وإنما يكون ذلك من جماعة إذْ بعضُ الناس يقوم أول الليل ، وبعضهم آخره ، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه ، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات استيعاب ساعات الليل بالقيام في تلاوة القرآن والسجود ، وعلى هذا كان صدر هذه الأمة . وعرف الناس القيام في أول الثلث الأخير من الليل ، أو قبله بقليل ، والقائم طول الليل قليل ، وقد كان في الصالحين مَنْ يلتزمه ، وقد ذكر الله القصد في ذلك في أول المزمل . وآناء الليل : ساعاته قاله الربيع وقتادة وغيرهما . وقال السدي : جوفه وهو من إطلاق الكل على الجزء ، إذ الجوف فرد من الجمع . وعن منصور : أنها نزلت في المصلين بين العشاءين ، وهو مخالف لظاهر قوله : ) يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ ). وعن ابن مسعود : أنها صلاة العتمة . وذكر أنّ سبب نزولها هو احتباكُ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في صلاة العتمة وكان عند

" صفحة رقم 38 "
بعض نسائه فلم يأت حتى مضى الليل ، فجاء ومنّا المصلي ومنا المضطجع فقال : ( أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة ) ولهذا السبب ذكر ابن مسعود أن قوله : ليسوا سواء عائد على اليهود وهذه الأمة ، وهو خلاف الظاهر . والظاهر من قوله : وهم يسجدون أنه أريد به السجود في الصلاة . وقيل : عبر بالسجود عن الصلاة تسمية للشيء بجزء شريف منه ، كما يعبر عنها بالركوع قاله : مقاتل ، والفراء ، والزجاج . لأن القراءة لا تكون في الركوع ولا في السجود ، فعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال ، أي يتلون آيات الله متلبسين بالصلاة . وقيل : سجود التلاوة . وقيل : أريد بالسجود الخشوع والخضوع . وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة معطوفة من الكلام الأوّل ، أخبر عنهم أيضاً أنهم أهل سجود ، ويحسِّنُهُ أنْ كانت التلاوة في غير صلاة . ويكون أيضاً على هذا التأويل في غير صلاة نعتاً عدد بواو العطف ، كما تقول : جاءني زيد الكريم والعاقل . وأجاز بعضهم في قوله : وهم يسجدون أن يكون حالاً من الضمير في قائمة ، وحالاً من أمة ، لأنها قد وصفت بقائمة . فتلخص في هذه الجملة قولان : أحدهما : أنها لا موضع لها من الإعراب ، بأن تكون مستأنفة . والقول الآخر : أن يكون لها موضع من الإعراب ويكون رفعاً بأن يكون في موضع الصفة ، أو بأن يكون نصباً بأن يكون في موضع الحال ، إما من الضمير في يتلون ، أو من الضمير في قائمة ، أو من أمة . ودلت هذه الآية على الترغيب في قيام الليل ، وقد جاء في كتاب الله : ) وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ( ) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً ( ) عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ قُمِ الَّيْلَ ). وفي الحديث : ( يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فتركه وقبله ، نعم الرجل عبد الله إلا أنه لا يقوم من الليل ) وغير ذلك كثير . وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال : إنا نجد كلاماً من كلام الرب عزّ وجل : أيحسب راعي إبل وغنم إذا جنه الليل انجدل كمن هو قائم وساجد الليل .
آل عمران : ( 114 ) يؤمنون بالله واليوم . . . . .
( يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ وَالاْخِرُ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( تقدم تفسير مثل هذه الجمل .
( وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ ( المسارعةُ في الخير ناشئة عن فرط الرغبة فيه ، لأنّ مَنْ رغب في أمر بادر إليه وإلى القيام به ، وآثر الفور على التراخي . وجاء في الحديث : ( اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ، وغناك قبل فقرك ) .
وصفهم تعالى بأنهم إذا دعوا إلى خير من نصر مظلوم ، وإغاثة مكروب ، وعبادة الله ، بادروا إلى فعله . والظاهر في يؤمنون أن يكون صفة أي تالية مؤمنة . وجوزوا أنْ تكون الجملة مستأنفة ، أو في موضع الحال من الضمير في يسجدون ، وأن تكون بدلاً من السجود . قيل : لأن السجود بمعنى الإيمان . قال الزمخشري : وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ، ومن الإيمان بالله ، لأن إيمانهم به كلا إيمان ، لإشراكهم به عزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض ، ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين ، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها انتهى لامه . وهو حسن . ولمّا ذكر تعالى هذه الأمة وصفها بصفات ست : إحداها : أنها قائمة ، أي مستقيمة على النهج القويم . ولمّا كانت الاستقامة وصفاً ثابتاً لها لا يتغير جاء باسم الفاعل . الثانية : الصلاة بالليل المعبر عنها بالتلاوة والسجود ، وهي العبادة التي يظهر بها الخلو لمناجاة الله بالليل . الثالثة : الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو الحامل على عبادة الله وذكر اليوم الآخر لأنّ فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل . وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ،

" صفحة رقم 39 "
إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه ، فصار الإيمان به واجباً .
الرابعة : الأمر بالمعروف .
الخامسة : النهي عن المنكر ، لما كملوا في أنفسهم سعوا في تكميل غيرهم بهذين الوصفين .
السادسة : المسارعة في الخيرات . وهي صفة تشمل أفعالهم المختصة بهم ، والأفعال المتعدية منهم إلى غيرهم . وهذه الصفات الثلاثة ناشئة أيضاً عن الإيمان ، فانظر إلى حسن سياق هذه الصفات حيث توسط الإيمان ، وتقدمت عليه الصفة المختصة بالإنسان في ذاته وهي الصلاة بالليل ، وتأخرت عنه الصفتان المتعدّيتان والصفة المشتركة ، وكلها نتائج عن الإيمان .
( وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ( هذه إشارة إلى من جمع هذه الصفات الست ، أي وأولئك الموصوفون بتلك الأوصاف من الذين صلحت أحوالهم عند الله . قال الزمخشري : ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين انتهى . ويشبه قوله قول ابن عباس من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وفيما قاله الزمخشري بعد بل : الظاهر أنَّ في الوصف بالصلاح زيادة على الوصف بالإسلام ، ولذلك سأل هذه الرتبة بعض الأنبياء فقال تعالى حكاية عن سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم : ) وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام : ) وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( وقال تعالى : ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ( وقال تعالى بعد ذكر إسماعيل : ) وَإِدْرِيسَ وَذِى الْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مّنَ الصَّالِحِينَ ). وقال : ) وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ( ومن للتبعيض . وقال ابن عطية : ويحسن أن تكون لبيان الجنس انتهى . ولم يتقدم شيء فيه إبهام فيبين جنسه .
آل عمران : ( 115 ) وما يفعلوا من . . . . .
( وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ ( قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو بكر بالتاء فيهما على الخطاب ، واختلفوا في المخاطب . فقال أبو حاتم : هو مردود إلى قوله : ) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ( فيكون من تلوين الخطاب ومعدوله . وقال مكي : التاء فيها عموم لجميع الأمة . والذي يظهر أنها التفات إلى قوله : أمة قائمة ، لما وصفهم بأوصاف جليلة اقبل عليهم تأنيساً لهم واستعطافاً عليهم ، فخاطبهم بأنّ ما تفعلون من الخير فلا تمنعون ثوابه . ولذلك اقتصر على قوله : من خير ، لأنه موضع عطف عليهم وترحم ، ولم يتعرض لذكر الشرّ . ومعلوم أن كل ما يفعل من خير وشر يترتب عليه موعوده . ويؤيد هذا الالتفات وأنه راجع إلى أمة قائمة قراءة الياء ، وهي قراءة : ابن عباس ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، واختيار أبي عبيد ، وباقي رواة أبي عمرو ، خير بين التاء والياء ، ومعلوم في هذه القراءة ، ومعلوم في هذه القراءة أن الضمير عائد على أمة قائمة ، كما عاد في قوله تعالى : يتلون وما بعده . وكفر : يتعدّى إلى واحد ، يقال : كفر النعمة ، وهنا ضمن معنى حرم ، أي : فلن تحرموا ثوابه ، ولما جاء وصفه تعالى بأنه شكور في معنى توفية الثواب ، نفى عنه تعالى نقيض الشكر وهو كفر الثواب ، أي حرمانه .
( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( لما كانت الآية واردة فيمن اتصف بالأوصاف الجميلة ، وأخبر تعالى أنه يثيب على فعل الخير ناسب ختم الآية بذكر علمه بالمتقين ، وإن كان عالماً بالمتقين وبضدهم . ومعنى عليم بهم : أنه مجازيهم على تقواهم ، وفي ذلك وعد للمتقين ، ووعيد للمفرطين .
آل عمران : ( 116 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا ( تقدم تفسير هذه الجملة في أوائل هذه السورة .
( وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( تقدم تفسير نظير هذه الجملة في أوائل البقرة ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة . وأنه لما ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ذكر شيئاً من أحوال الكافرين ليتضح الفرق بين القبيلين .
آل عمران : ( 117 ) مثل ما ينفقون . . . . .
( مَثَلُ مَا

" صفحة رقم 40 "
يُنْفِقُونَ فِى هِاذِهِ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ( لمّا ذكر تعالى أنَّ ما فعله المؤمنون من الخير فإنهم لا يحرمون ثوابه ، بل يجنون في الآخرة ثمرة ما غرسوه في الدنيا ، أخذ في بيان نفقة الكافرين ، فضرب لها مثلاً اقتضى بطلانها وذهابها مجاناً بغير عوض . قال مجاهد : نزلت في نفقات الكفار وصدقاتهم . وقال مقاتل : في نفقات سفلة اليهود على علمائهم . وقيل : في نفقة المشركين يوم بدر . وقيل : في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين . قال الزمخشري : شبّه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله بالزرع الذي حسَّه البرد فصار حطاماً . وقيل : هو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم . وقيل : ما أنفقوا في عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله انتهى .
وقال ابن عطية : معناه المثال القائم في النفس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثاً ، ومن حبطة يوم القيامة وكونه هباء منثوراً ، وذهابه كالمثال القائم في النفس . مَنْ زرع قوم نبت واخصرَّ وقوي الأمل فيه فهبت عليه ريح صرّ محرق فأهلكته انتهى . والظاهر أن ما في قوله : مثل ما ينفقون موصولة ، والعائد محذوف ، أيْ ينفقونه . والظاهر تشبيه ما ينفقونه بالريح ، والمعنى : تشبيهه بالحرث . فقيل : هو من التشبيه المركب لم يقابل فيه الإفراد بالإفراد ، وقد مر نظيره في قوله تعالى : ) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً ( ولذلك قال ثعلب : بدأ بالريح ، والمعنى على الحرث ، وهو اختيار الزمخشري . وقيل : وقع التشبيه بين شيئين وشيئين ، وذكر أحد المشبهين وترك ذكر الآخر ، ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازن المذكور الأول وترك ذكر الآخر ، ودل المذكوران على المتروكين . وهذا اختيار ابن عطية . قال : وهذه غاية البلاغة والإعجاز ، ومثل ذلك قوله تعالى : ) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ ( انتهى . ويجوز أن يكون على حذف مضاف من الأول تقديره : مثل مهلك ما ينفقون . أو من الثاني تقديره : كمثل مهلك ريح . وقيل : يجوز أن تكون ما مصدرية ، أي مثل إنفاقهم ، فيكون قد شبه المعقول بالمحسوس ، إذ شبه الإنفاق بالريح . وظاهر قوله : ينفقون أنه من نفقة المال . وقال السدي : معناه ينفقون من أقوالهم التي يبطنون ضدها . ويضعف هذا أنّها في الكفار الذين يعلنون لا في المنافقين الذين يبطنون . وقيل : متعلق الإنفاق هو أعمالهم من الكفر ونحوه ، هي كالريح التي فيها صر أبطلت أعمالهم كل ما لهم من صلة رحم وتحنثٍ بعتق ، كما يبطل الريح الزرع . قال ابن عطية : وهذا قول حسن ، لولا بعد الاستعارة في الإنفاق انتهى . وقال الراغب : ومنهم من قال : ما ينفقون عبارة عن أعمالهم كلها ، لكنه خص الإنفاق لكونه أظهروا أكثر انتهى .
وقرأ ابن هرمز والأعرج : تنفقون بالتاء على معنى قل لهم ، وأفرد ريحاً لأنّها مختصة بالعذاب ، كما أفردت في قوله : ) بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ ( ولئن أرسلنا ريحاً إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً الريح العقيم . كما أن الجمع مختص بالرحمة أن يرسل الرياح مبشرات ( ) ( ) وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ ( ) يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ ( ولذلك روي : ) اللَّهُمَّ بِئَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً ( وارتفاعُ صرّ على أنه فاعل بالمجرور قبله ، إذْ قد اعتمد بكونه وقع صفة للريح . فإنْ كان الصر البرد وهو قول : ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، أو

" صفحة رقم 41 "
صوت لهيب النار أو صوت الريح الشديدة . فظاهر كون ذلك في الريح . وإنْ كان الصرُّ صفةً للريح كالصرصر ، فالمعنى فيها قرةُ صرَ كما تقول : برد بارد ، وحذف الموصوف ، وقامت الصفة مقامه . أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة . كما قال : وفي الرحمن كاف للضعفاء . وقولهم : إن ضيعني فلان ففي الله كاف . المعنى الرحمن كاف ، والله كاف . وهذا فيه بعد .
وقوله : أصابت حرث قوم في موضع الصفة لريح . بدأ أولاً بالوصف بالمجرور ، ثم بالوصف بالجملة . وقوله : ظلموا أنفسهم جملة في موضع الصفة لقوم . وظاهره أنهم ظلموا أنفسهم بمعاصيهم ، فكان الإهلاك أشد إذ كان عقوبة لهم .
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنّ مصائب الدنيا إنما هي بمعاصي العبد . ويستنبط ذلك من غير ما آية في القرآن ، فيستقيم على ذلك أن كل حرث تحرقه الريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه . وقيل : ظلموا أنفسهم معناه زرعوا في غير أوان الزراعة ، أي وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل . وخص هؤلاء بالذكر لأن الحرث فيما جرى هذا المجرى أوعب وأشد تمكناً ، ونحا إلى هذا القول المهدوي .
( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ( جوز الزمخشري وغيره أنْ يعودَ الضمير على المنفقين ، أي : ما ظلمهم بأنْ لم تُقبل نفقاتهم . وأنْ يعودَ على أصحاب الحرث أي : ما ظلمهم بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي . وقال ابن عطية : الضمير في ظلمهم للكفار الذين تقدّم ضميرهم في ينفقون ، وليس هو للقوم ذوي الحرث ، لأنهم لم يذكروا ليردَّ عليهم ، ولا لتبين ظلمهم . وأيضاً قوله : ) وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ).
يدل على فعل الحال في حاضرين انتهى . وهو ترجيح حسن . وقرىء شاذاً : ولكنَّ بالتشديد ، واسمها أنفسهم ، والخبر يظلمون . والمعنى : يظلمونها هم . وحسنٌ حذفُ هذا الضمير ، وإنْ كان الحذف في مثله قليلاً كون ذلك فاصلة رأس آية ، فلو صرَّح به لزال هذا المعنى . ولا يجوز أنْ يعتقدَ أنَّ اسم لكن ضمير الشأن . وحذف وأنفسهم مفعول بيظلمون ، لأن حذف هذا الضمير يختص بالشعر .
آل عمران : ( 118 ) يا أيها الذين . . . . .
( ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ( نزلت في رجال من المؤمنين يواصلون رجالاً من يهود للجوار والحلف والرضاع قاله : ابن عباس . وقال أيضاً هو وقتادة والسدي والربيع : نزلت في المنافقين . نهى اللَّهُ المؤمنين عنهم شبه الصديق الصدق بما يباشرُ بطن الإنسان من ثوبه . يقال : له بطانة ووليجة . وقوله : من دونكم في موضع الصفة لبطانة ، وقدّره الزمخشري : من دون أبناء جنسكم ، وهم المسلمون . وقيل : يتعلق من بقوله : لا تتخذوا . وقيل : مِنْ زائدة ، أي بطانة دونكم . والمعنى : أنهم نهوا أن يتخذوا أصفياء من غير المؤمنين . ودل هذا النهي على المنع من استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستبانه إليهم . وقد عتب عمر أبا موسى على استكتابه ذمياً ، وتلا عليه هذه الآية . وقد قيل لعمر في كاتب مجيد من نصارى الحيرة : ألا يكتب عنك ؟ فقال : إذن أتخذ بطانة .
والجملة من قوله : ) لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ( لا موضع لها من الإعراب ، إذ جاءت بياناً لحال البطانة الكافرة ، هي والجمل التي بعدها لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة . ومن ذهب إلى أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به من ، فبعيد عن فهم الكلام الفصيح . لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة ، ثم نبه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين ، وودادة مشقتهم ، وظهور بغضهم . والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند

" صفحة رقم 42 "
انتفائهما . وألا متعد إلى واحد بحرف الجر ، يقال : ما ألوت في الأمر أي ما قصرت فيه . وقيل : انتصب خبالاً على التمييز المنقول من المفعول ، كقوله تعالى : ) وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً ( التقدير : لا يألونكم خبالكم ، أي في خبالكم . فكان أصل هذا المفعول حرف الجر . وقيل : انتصابه على إسقاط حرف ، التقدير : لا يألونكم في تخبيلكم . وقيل : انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال . قال ابن عطية : معناه لا يقصرون لكم لكم فيما فيه الفساد عليكم . فعلى هذا يكون قد تعدى للضمير على إسقاط اللام ، وللخبال على إسقاط في . وقال الزمخشري : يقال : أَلا في الأمر يألو إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدّي إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحاً ، ولا آلوك جهداً ، على التضمين . والمعنى : لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه انتهى .
( وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ ( قال ابن جرير : ودّوا إضلالكم . وقال الزجاج : مشقتكم . وقال الراغب : المعاندة والمعانتة يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة أن تتحرّى مع الممانعة المشقة انتهى . ويقال : عِنت بكسر النون ، وأصله انهياض العظم بعد جبره . وما في قوله : ما عنتم مصدرية ، وهذه الجملة مستأنفة كما قلنا في التي قبلها . وجوّزوا أن يكون نعتاً لبطانة ، وحالاً من الضمير في يألونكم ، وقد معه مرادة .
( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ ( وقرأ عبد الله : قد بدا ، لأنّ الفاعل مؤنث مجازاً أو على معنى البغض ، أي لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم حتى يصرحوا بذلك بأفواههم . وذكر الأفواه دون الألسنة إشعاراً بأن ما تلفظوا به يملأ أفواههم ، كما يقال : كلمة تملأ الفم إذا تشدّق بها . وقيل : المعنى لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أنْ ينفلتَ من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين انتهى .
ولمّا ذكر تعالى ما انطووا عليه من ودادهم عنت المؤمنين ، وهو إخبار عن فعل قلبي ، ذكر ما أنتجه ذلك الفعل القلبي من الفعل البدني ، وهو : ظهور البغض منهم للمؤمنين في أقوالهم ، فجمعوا بين كراهة القلوب وبذاذة الألسن . ثم ذكر أنَّ ما أبطنوه من الشر والإيذاء للمؤمنين والبغض لهم أعظم مما ظهر منهم فقال :
) وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ( أي أكثر مما ظهر منها . والظاهر أنَّ بدوَّ البغضاء منهم هو للمؤمنين ، أي اظهروا للمؤمنين البغض . وقال قتادة : قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك . وقيل : بدت بإقرارهم بعد الجحود ، وهذه صفة المجاهر . وأسند الإخفاء إلى الصدور مجازاً ، إذ هي محال القلوب التي تخفي كما قال : ) فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ).
) قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ ( أي الدالة على وجوب الإخلاص في الدين ، وموالاة المؤمنين ، ومعاداة الكفار .
( إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( أي ما بين لكم فعملتم به ، أو إنْ كنتم عقلاء وقد علم تعالى أنهم عقلاء ، لكن علقه على هذا الشرط على سبيل الهزّ للنفوس كقولك : إن كنت رجلاً فافعل كذا . وقال ابن جرير : معناه إن كنتم تعقلون عن الله أمره ونهيه . وقيل : إنْ كنتم تعقلون فلا تصافوهم ، بل عاملوهم معاملة الأعداء . وقيل : معنى إن معنى إذ أي إذ كنتم عقلاء .
آل عمران : ( 119 ) ها أنتم أولاء . . . . .
( هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ ( تقدّم لنا الكلام على نظيرها ، أنتم أولاء في قوله : ) هأَنتُمْ هَاؤُلاء حَاجَجْتُمْ ( قراءة وإعراباً . وتلخيصه هنا أن يكونَ أولاء خبراً عن أنتم ، وتحبونهم مستأنف أو حال أو صلة ، على أن يكون أولاء موصولاً أو خبراً لأنتم ، وأولاء مناداً ، أو يكون أولاء مبتدأ ثانياً ، وتحبونهم خبر عنه ، والجملة خبر عن الأوّل . أو يكون أولاء في موضع نصب نحو : أنا زيداً ضربته ، فيكون من الاشتغال . واسم الإشارة في هذين الوجهين واقع على غير ما وقع عليه أنتم ، لأن أنتم خطاب للمؤمنين ، وأولاء إشارة إلى الكافرين . وفي الأوجه السابقة مدلوله ومدلول أنتم واحد . وهو : المؤمنون . وعلى تقدير الاستئناف في تحبونهم ، لا ينعقد مما قبله مبتدأ وخبر إلا بإضمار وصفٍ تقديره : أنتم أولاء الخاطئون في موالاة غير المؤمنين إذ تحبونهم ولا يحبونكم . بيان لخطئهم في موالاتهم حيثُ يبذلون المحبة لمن يبغضهم ،

" صفحة رقم 43 "
وضمير المفعول في تحبونهم قالوا لمنافقي اليهود . وفي الزمخشري : لمنافقي أهل الكتاب . والذي يظهر أنّه عائد على بطانة من دون المؤمنين ، فهو كل منافق حتى منافق المشركين .
والمحبة هنا : الميل بالطبع لموضع القرابة والرضاع والحلف قاله ابن عباس . أو لأجل إظهار الإيمان والإحسان إلى المؤمنين قاله : أبو العالية : أو الرحمة لهم لما يقع منهم من المعاصي قاله : قتادة . أو إرادة الإسلام لهم قاله : المفضل والزجاج . وهذا ليس بجيد ، لأنه لا يقع توبيخ على معنى إرادة إسلام الكافر ، أو المصافاة ، لأنها من ثمرة المحبة .
وتؤمنون بالكتاب كله ، الكتاب : اسم جنس ، أي بالكتب المنزلة قاله : ابن عباس . والتوراة والإنجيل أو التوراة أقوال ثلاثة ، وثم جملة محذوفة تقديرها : ولا تؤمنون به كله بل يقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض . يدلُّ عليها إثبات المقابل في تحبونهم ولا يحبونكم . والواو في وتؤمنون للعطف على تحبونهم ، فلها من الإعراب ما لها . وقال الزمخشري : والواو في وتؤمنون للحال ، وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم . والحال : إنكم تؤمنون بكتابهم كله ، وهم مع ذلك يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونحوه . فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون انتهى كلامه وهو حسن . إلا أنه فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو : أنه جعل الواو في وتؤمنون للحال ، وأنها منتصبة من لا يحبونكم . والمضارعُ المثبت إذا وقع حالاً لا تدخل عليه واوٍ الحال تقول : جاء زيد يضحك ، ولا يجوز ويضحك . فأما قولهم : قمت وأصك عينه ففي غاية الشذوذ . وقد أوَّل على إضمار مبتدأ أي قمت وأنا أصك عينه ، فتصير الجملة اسمية . ويحتمل هذا التأويل هنا ، أي : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كلِّه ، لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف . قال ابن عطية : وتؤمنون بالكتاب كله يقتضي أن الآية في منافقي اليهود ، لا منافقي العرب . ويعترضها : أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن ، كما كان المنافقون من العرب ، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيف القينقاعي . فلم يبق إلا أنَّ قولهم : آمنا ، معناه صدّقنا أنه نبي مبعوث إليكم . أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وأخوانكم لا نضمر لكم إلا المودّة ، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة . وهذا منزع قد حفظ أن كثيراً من اليهود كان يذهب إليه . ويدل على هذا التأويل أنَّ المعادل لقولهم : آمنا غض الأنامل من الغيظ ، وليس فيه ما يقتضي الارتداد كما في قوله : ) وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ ( بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودّة . وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال : هم الأباضية . وهذه الصفة قد تترتب في أهل البدع من الناس إلى يوم القيامة انتهى كلامه . وما ذكر من أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن إلاَّ ما روي من أمر زيد فيه نظر ، فإنه قد روى أن جماعة منهم كانوا يعتمدون ذلك ، ذكره البيهقي وغيره . ولو لم يرو ذلك إلا عن زيد القينقاعي لكان في ذلك مذمة لهم بذلك ، إذ وجد ذلك في جنسهم . وكثيراً ما تمدح العرب أو تذم بفعل الواحد من القبيلة ، ويؤيد صدور ذلك من اليهود قوله تعالى : ) وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءاخِرَهُ ).

" صفحة رقم 44 "
) وإذ لقوكم قالوا آمنا ( هذا الإخبار جرى على منازعتهم في التوراة والستر والخبث ، إذ لم يذكروا متعلق الإيمان ، ولكنَّهم يوهمون المؤمنين بهذا اللفظ أنهم مؤمنون .
( وَإِذَا خَلَوْاْ ( أي خلا بعضهم ببعض وانفردوا دونكم . والمعنى : خلت مجالسهم ، منكم ، فأسند الخلو إليهم على سبيل المجاز .
( عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ( وظاهره فعل ذلك ، وأنه يقع منهم عض الأنامل لشدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذ ما يريدون . ومنه قول أبي طالب : وقد صالحوا قوماً علينا أشحة
يعضون عضاً خلفنا بالأباهم
وقال الآخر : إذا رأوني أطال الله غيظهم
عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم
وقال الآخر : وقد شهدت قيس فما كان نصرها
قتيببة إلا عضها بالأباهم
وقال الحرث بن ظالم المرّي : وأقتل أقواماً لئاماً أذلة
يعضون من غيظ رؤوس الأباهم
ويوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام . وهذا العض هو بالأسنان ، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغاضبة . كما أن ضرب اليد على اليد يتبع هيئة النفس المتلهفة على فائت قريب الفوت . وكما أن قرع السن هيئة تتبع هيئة النفس النادمة ، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه . ويحتمل أن لا يكون ثَمَّ عض أنامل ، ويكون ذلك من مجاز التمثيل عبر بذلك عن شدة الغيظ ، والتأسف على ما يفوتهم من إذايتكم . ونبه تعالى بهذه الآية على أن من كان بهذه الأوصاف من : بغض المؤمنين ، والكفر بالقرآن ، والرياء بإظهار ما لا ينطوي عليه باطنه ، جدير بأن لا يتخذ صديقاً .
( قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ( ظاهره : أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمر بأن يقول لهم ذلك . وهي صيغة أمر ، ومعناها الدّعاء أن : أذن الله لنبيه أن يدعو عليهم لمّا يئس من إيمانهم ، هذا قول الطبري . وكثير من المفسرين قالوا : فله أن يدعو مواجهة . وقيل : أمر هو وأمته أن يواجهوهم بهذا . فعلى هذا زال معنى الدعاء ، وبقي معنى التقريع ، قاله : ابن عطية . وقيل : صورته أمر ، ومعناه الخبر ، والباء للحال أي تموتون ومعكم الغيظ وهو على جهة الذم على قبيح ما عملوه . وقال الزمخشري : دعا عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به . والمراد بزيادة الغيظ ما يغيظهم من قوة الإسلام وعزة أهله ، وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار انتهى كلامه . وليس ما فسر به ظاهر قوله : قل موتوا بغيظكم ، ويكون ما قاله الزمخشري يشبه قولهم : مت بدائك ، أي أبقى الله داءك حتى تموت به . لكنْ في لفظ الزمخشري زيادة الغيظ ، ولا يدل عليه لفظ القرآن . قال بعض شيوخنا : هذا ليس بأمر جازم ، لأنه لو كان أمراً لماتوا من فورهم كما جاء فقال لهم الله

" صفحة رقم 45 "
موتوا . وليس بدعاء ، لأنه لو أمره بالدعاء لماتوا جميعهم على هذه الصفة ، فإن دعوته لا ترد . وقد آمن منهم بعد هذه الآية كثير ، وليس بخبر لأنه لو كان خبر الوقع على حكم ما أخبر به يعني ولم يؤمن أحد بعد ، وإنما هو أمر معناه التوبيخ والتقريع كقوله : اعملوا ما شئتم ، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت . قيل : ويجوز أن لا يكون ثم قول ، وإنْ يكون أمراً بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ، كأنه قيل : حدث نفسك بذلك .
( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( قيل : يجوز أن يكون من جملة المقول ، والمعنى : أخبرْهُم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرّونه بينكم وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه . ويجوز أنْ لا تدخل تحت القول ، ومعناه : قل لهم ذلك ، ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون ، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو مضمرات صدورهم لم يظهروه بألسنتهم . والظاهر الأول أورد ذلك على أنّه وعيد مواجهون به .
والذات لفظ مشترك ومعناه هنا أنه تأنيث ذي بمعنى صاحب . فاصله هنا عليم بالمضمرات ذوات الصدور ، ثم حذف الموصوف ، وغلبت إقامة الصفة مقامه . ومعنى صاحبة الصدور : الملازمة له التي لا تنفك عنه كما تقول : فلان صاحب فلان ، ومنه أصحاب الجنة أصحاب النار . واختلفوا في الوقف على ذات . فقال الأخفش والفراء وابن كيسان : بالتاء مراعاة لرسم المصحف . وقال الكسائي والجرمي : بالهاء لأنها تاء تأنيث .
آل عمران : ( 120 ) إن تمسسكم حسنة . . . . .
( إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ( الحسنة هنا ما يسر من رخاء وخصب ونصرة وغنيمة ، ونحو ذلك من المنافع . والسيئة ضد ذلك . بين تعالى بذلك فرط عداوتهم حيث يسوءهم ما نال المؤمنين من الخير ، ويفرحون بما يصيبهم من الشدة . قال الزمخشري : المس مستعار لمعنى الإصابة ، فكان المعنى واحداً . ألا ترى إلى قوله : ) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ ( الآية ) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ( ) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( وقال ابن عطية : ذكر الله تعالى المس في الحسنة ليبين أن بادني طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ، ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة ، وهي عبارة عن التمكن . لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكن منه ، أو فيه . فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة ، إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد ، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين انتهى كلامه . والنكرة هنا في سياق الشرط بأن تعم عموم البدل ، ولم يأت معرفاً لإيهام التعيين بالعهد ، ولإيهام العموم الشمولي . وقابل الحسنة بالسيئة ، والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة .
قال قتادة والربيع وابن جريج : الحسنة بظهوركم على العدو ، والغنيمة منهم ، والتتابع بالدخول في دينكم ، وخصب معاشكم . والسيئة بإخفاق سرية منكم ، أو إصابة عدو منكم ، أو اختلاف بينكم . وقال الحسن : الحسنة الألفة ، واجتماع الكلمة . والسيئة إصابة العدو ، واختلاف الكلمة . وقال ابن قتيبة : الحسنة النعمة . والسيئة المصيبة . وهذه الأقوال هي على سبيل التمثيل ، وليست على سبيل التعيين .
( وَأَن تَصْبِرُواْ تَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ( قال ابن عباس : وإن تصبروا على أذاهم ، وتتقوا الله ، ولا تقنطوا ، ولا تسأموا أذاهم وإن تكرر . وقال مقاتل : وإنْ تصبروا على أمر الله ، وتتقوا مباطنتهم . وقال ابن عباس أيضاً : وإنْ تصبروا على الإيمان وتتقوا الشرك . وقيل : وإنْ تصبروا على الطاعة وتتقوا المعاصي . وقيل : وإن تصبروا على حربهم . والذي يظهر أنه لم يذكر هنا متعلق الصبر ، ولا متعلق التقوى . لكنَّ الصبر هو حبس النفس على المكروه ، والتقوى اتخاذ الوقاية من عذاب الله . فيحسنُ أنْ يقدَّرَ المحذوف من جنس ما دل عليه لفظ الصبر ولفظ التقوى . وفي هذا تبشير للمؤمنين ، وتثبيت لنفوسهم ، وإرشاد إلى الاستعانة على كيد العدو بالصبر والتقوى .
وقرأ الجمهور : أن تمسسكم

" صفحة رقم 46 "
بالتاء . وقرأ السلمي بالياء معجمة من أسفل ، لأن تأنيث الحسنة مجازى . وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحمزة في رواية عنه : لا يضركم من ضار يضير . ويقال : ضار يضور ، وكلاهما بمعنى ضرَّ . وقرأ الكوفيون وابن عامر : لا يضرُّكم بضم الضاد والراء المشدّدة ، من ضرّ يَضُرُّ . واختلف ، أحركةُ الراء إعرابٌ فهو مرفوعٌ أم حركة اتباع لضمة الضاد وهو مجزوم كقولك : مدّ ؟ ونسب هذا إلى سيبويه ، فخرج الإعراب على التقديم . والتقدير : لا يضركم أن تصبروا ، ونسب هذا القول إلى سيبويه . وخرج أيضاً على أنّ لا بمعنى ليس ، مع إضمار الفاء . والتقدير : فليس يضركم ، وقاله : الفراء والكسائي . وقرأ عاصم فيما روى أبو زيد عن المفضل عنه : بضم الضاد ، وفتح الراء المشددة . وهي أحسن من قراءة ضم الراء نحو لم يرد زيد ، والفتح هو الكثير المستعمل . وقرأ الضحاك : بضم الضاد ، وكسر الراء المشدّدة على أصل التقاء الساكنين . وقال ابن عطية : فأما الكسر فلا أعرفه قراءة ، وعبارة الزجاج في ذلك متجوز فيها ، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة انتهى . وهي قراءة كما ذكرنا عن الضحاك . وقرأ أبيُّ لا يضرركم بفك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز ، وعليها في الآية إن تمسَسْكم . ولغة سائر العرب الإدغام في هذا كله .
( إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( من قرأ بالياء فهو وعيد ، والمعنى : محيط جزاؤه . وعبر بالإحاطة عن الاطلاع التام والقدرة والسلطان . ومن قرأ بالتاء وهو : الحسن بن أبي الحسن فعلى الالتفات للكفار ، أو على إضمار قل : لهم يا محمد . أو على أنه خطاب للمؤمنين تضمن توعدهم في اتخاذ بطانة من الكفار .
قالوا : وتضمنت هذه الآيات ضروباً من البلاغة والفصاحة . منها : الوصل والقطع في ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة . والتكرار : في أصحاب النار هم . والعدول عن اسم الفاعل إلى غيره : في يتلون وما بعده ، وفي يظلمون . والاكتفاء بذكر بعض الشيء عن كله إذا كان فيه دلالة على الباقي في : يؤمنون بالله واليوم الآخر . والمقابلة : في تأمرون وتنهون ، وفي المعروف والمنكر . ويجوز أن يكون طباقاً معنوياً ، وفي حسنة وسيئة ، وفي تسؤهم ويفرحوا . والاختصاص : وفي عليم بذات الصدور . والتشبيه : في مثل ما ينقون ، وفي بطانة ، وفي عضوا عليكم الأنامل من الغيظ على أحد التأويلين ، وفي تمسسكم حسنة وتصبكم سيئة . شبه حصولهما بالمس والإصابة ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، والصحيح أن هذه استعارة . وفي محيط شبه القدرة على الأشياء والعلم بها بالشيء المحدق بالشيء من جميع جهاته ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس . والتجنيس المماثل : في ظلمهم ويظلمون ، وفي تحبونهم ولا يحبونكم ، وفي تؤمنون وآمنا ، وفي من الغيظ

" صفحة رقم 47 "
وبغيظكم . والالتفات : في وما تفعلوا من خير فلن تكفرواه على قراءة من قرأ بالتاء ، وفي ما تعملون محيط على أحد الوجهين . وتسمية الشيء باسم محلة : في من أفواههم عبر بها عن الألسنة لأنها محلها . والحذف في مواضع .
2 ( ) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالاَفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَىإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ ( ) ) 2
آل عمران : ( 121 ) وإذ غدوت من . . . . .
غدا الرجل : خرج غدوة . والغدو يكون في أول النهار . وفي استعمال غدا بمعنى صار ، فيكون فعلاً ناقصاً خلاف .
الهم : دون العزم ، والفعل منه هم يهمُّ . وتقول العرب : هممْتُ وهمَّتْ يحذفون أحد المضعفين كما قالوا : أمست ، وظلت ، وأحست ، في مسست وظللت وأحسست . وأوّلُ ما يمر الأمر بالقلب يسمى خاطراً ، فإذا تردد صار حديث نفس ، فإذ ترجَّح فعله صار هماً ، فإذا قوي واشتد صار عزماً ، فإذا قوي العزم واشتدّ حصل الفعل أو القول .
الفشل في البدن : الإعياء . وفي الحرب : الجبن والخور ، وفي الرأي : العجز والفساد . وفعله : فشِل بكسر الشين .
التوكل : تفعل من وكل أمره إلى فلان ، إذا فوَّضه له . قال ابن فارس : هو إظهار العجز والاعتماد على غيرك ، يقال : فلان وكلة تكلة ، أي عاجز بكل أمره إلى غيره . وقيل : هو من الوكالة ، وهو تفويض الأمر إلى غيره ثقة بحسن تدبيره .
بدر في الآية : اسم علم لما بين مكة والمدينة . سمي بذلك لصفائه ، أو لرؤية البدر فيه لصفائه ، أو لاستدارته . قيل : وسمي باسم صاحبه بدر بن كلدة . قيل : بل بدر بن بجيل بن النضر بن كنانة . وقيل : هو بئر لغفار . وقيل : هو اسم وادي الصفراء . وقيل : اسم قرية بين المدينة والجار .
الفور : العجلة والإسراع . تقول : اصنع هذا على الفور . وأصلُه من فارت القدر اشتد غليانها ، وبادر ما فيها إلى الخروج . ويقال : فار غضبه إذا جاش وتحرك . وتقول : خرج من فوره ، أي من ساعته ، لم يلبث استعير الفور للسرعة ، ثم سميت به الحالة التي لا ريب فيها ولا تعريج على شيء من صاحبها .
الخمسة : رتبة من العدد معروفة ، ويصرف منها فعل يقال : خمست الأربعة أي صيرتهم في خمسة .
الطرف : جانب الشيء الأخير ، ثم يستعمل للقطعة من الشيء

" صفحة رقم 48 "
وإنْ لم يكن جانباً أخيراً . الكبت : الهزيمة . وقيل : الصرع على الوجه أو إلى اليدين . وقال النقاش وغيره : التاء بدل من الدال . أصله : كبده ، أي فعل فعلاً يؤذي كبده . الخيبة : عدم الظفر بالمطلوب .
( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىء الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ( قال المسور بن مخرمة : قلت لعبد الرحمن بن عوف : أيْ خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد ، فقال : اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجد : ) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ إِلَىَّ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم ( ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما نهاهم عن اتخاذ بطانةٍ مِن الكفار ووعدهم أنّهم إنْ صبروا واتقوا فلا يضرُّكم كيدهم . ذكرهم بحالة اتفق فيها بعض طواعية ، واتباع لبعض المنافقين ، وهو ما جرى يوم أحد لعبد الله بن أبي بن سلول حين انخذل عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، واتبعه في الانخذال ثلاثمائة رجل من المنافقين وغيرهم من المؤمنين . والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحذ ، وفيها نزلت هذه الآيات كلها ، وهو قول : عبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والزهري ، والسدي ، وابن إسحاق . وقال الحسن : كان هذا الغدو في غزوة الأحزاب . وهو قول : مجاهد ، ومقاتل ، وهو ضعيف . لأن يوم الأحزاب كان فيه ظفر المؤمنين ، ولم يجر فيه شيء مما ذكر في هذه الآيات بل قصتاهما متباينتان . وقال الحسن أيضاً : كان هذا الغدو يوم بدر . وذكر المفسرون قصة غزوة أحد وهي مستوعبة في كتب السير ، ونحن نذكر منها ما يتعلق بألفاظ الآية بعض تعلقٍ عند تفسيرها . وظاهر قوله : وإذ غدوت ، خروجه غدوة من عند أهله . وفسر ذلك بخروجه من حجرة عائشة يوم الجمعة غدوة حين استشار الناس ، فمِنْ مشير بالإقامة وعدم الخروج إلى القتال . وأن المشركين إنْ جاؤا قاتلوهم بالمدينة ، وكان ذلك رأيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ومن مشير بالخروج وهم : جماعة من صالحي المؤمنين فأتتهم وقعة بدر وتبوئة المؤمنين مقاعد للقتال ، على هذا القول هو أن يقسمَ أفطار المدينة على قبائل الأنصار . وقيل : غدوه هو نهوضه يوم الجمعة بعد الصلاة وتبوئته في وقت حضور القتال . وسماه غدواً إذ كان قد عزم عليه غدوة . وقيل : غدوه كان يوم السبت للقتال . ولما لم تكن تلك الليلة موافقة للغدو وكأنه كان في أهله ، والعامل في إذا ذكر . وقيل : هو معطوف على قوله : ) قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ( أي وآية إذ غدوت ، وهذا في غاية البعد . ولولا أنه مسطور في الكتب ما ذكرته . وكذلك قولُ مَنْ جعل من في معنى مع ، أي : وإذ غدوت مع أهلك . وهذه تخريجات يقولها وينقلها على سبيل التجويز من لا بصر له بلسان العرب . ومعنى تبويّء تنزل ، من المباءة وهي المرجع ومنه ) لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً ( فليتبوأ مقعده من النار ، وقال الشاعر : كم صاحب لي صالح
بوّأته بيديّ لحدا

" صفحة رقم 49 "
وقال الأعشى : وما بوّأ الرحمن بيتك منزلا
بشرقيّ أجياد الصفا والمحرم
ومقاعد : جمع مقعد ، وهو هناك مكان القعود . والمعنى : مواطن ومواقف . وقد استعمل المقعد والمقام في معنى المكان . ومنه : ) فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ( ) وَقَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ).
وقال الزمخشري : وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار انتهى . أمّا إجراء قعد مجرى صار فقال أصحابنا : إنما جاء في لفظة واحدة وهي شاذة لا تتعدى ، وهي في قولهم : شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة ، أي صارت . وقد نقد على الزمخشري تخريج قوله تعالى : ) فَتَقْعُدَ مَلُومًا عَلَى ( أن معناه : فتصير ، لأن ذلك عند النحويين لا يطرد . وفي اليواقيت لأبي عمر الزاهد قال ابن الأعرابي : القعد الصيرورة ، والعرب تقول : قعد فلان أميراً بعدما كان مأموراً أي صار . وأمّا إجراء قام مجرى صار فلا أعلم أحداً عدّها في أخوات كان ، ولا ذكر أنها تأتي بمعنى صار ، ولا ذكر لها خبراً إلا أبا عبد الله بن هشام الحضراوي فإنه قال في قول الشاعر : على ما قام يشتمني لئيم
إنها من أفعال المقاربة
وقال ابن عطية : لفظة القعود أدل على الثبوت ، ولا سيما أنّ الرماة إنما كانوا قعوداً ، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولاً ، والمبارزة والسرعان يجولون . وجمع المقاعد لأنه عيّن لهم مواقف يكونون فيها : كالميمنة والميسرة ، والقلب ، والشاقة . وبيّن لكل فريق منهم موضعهم الذي يقفون فيه .
خرج ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعد صلاة الجمعة ، وأصبح بالشعب يوم السبت للنصف من شوال ، فمشى على رجليه ، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح . إنْ رأى صدراً خارجاً قال : ( تأخر ) ، وكان نزوله في غدوة الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد . وأمر عبد الله بنَ جبير على الرماة وقال لهم : ( انصحوا عنا بالنبل ) لا يأتونا من ورائنا ) .
وتبوىء جملة حالية من ضمير المخاطب . فقيل : هي حال مقدرة ، أي خرجت قاصد التبوئة ، لأن وقت الغدو لم يكن وقت التبوئة . وقرأ الجمهور تبوىء من بوّأ . وقرأ عبد الله : تبوِّىء من أبوأ ، عداه الجمهور بالتضعيف ، وعبد الله بالهمزة . وقرأ يحيى بن وثاب : تبوى بوزن تحيا ، عداه بالهمزة ، وسهل لام الفعل بإبدال الهمزة ياء نحو : يقرى في يقرىء . وقرأ عبد الله : للمؤمنين بلام الجر على معنى : ترتب وتهيىء . ويظهر أنَّ الأصل تعديته لواحد بنفسه ، وللآخر باللام لأن ثلاثيه لا يتعدى بنفسه ، إنما يتعدى بحرف جر .
وقرأ الأشهب : مقاعد القتال على الإضافة ، وانتصاب مقاعد على أنه مفعول ثان لتبوى . ومَنْ قرأ للمؤمنين كان مفعولاً لتبوىء ، وعداه باللام كما في قوله : ) وَإِذْ بَوَّأْنَا أَنَاْ لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ( وقيل : اللام في لابراهيم زائدة ، واللام في للقتال لام العلة تتعلق بتبوىء . وقيل : في موضع الصفة لمقاعد . وفي الآية دليل على أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر ويختارون لهم المواضع للحرب ، وعلى

" صفحة رقم 50 "
الأجناد طاعتهم قاله : الماتريدي . وهو ظاهر .
( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( أي سميع وقوالكم ، عليم بنياتكم . وجاءت هاتان الصفتان هنا لأنّ في ابتداء هذه الغزوة مشاورة ومجاوبة بأقوال مختلفة ، وانطواء على نيات مضطربة حبسما تضمنته قصة غزوة أُحد .
آل عمران : ( 122 ) إذ همت طائفتان . . . . .
( إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ ( الطائفتان : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وهما الجناحان قاله : ابن عباس ، وجابر ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والربيع ، والسدي ، وجمهور المفسرين . وقيل : الطائفتان هما من الأنصار والمهاجرين .
روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خرج في ألف . وقيل : في تسعمائة وخمسين ، والمشركون في ثلاثة آلاف . ووعدهم الفتح إن صبروا ، فانخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس . وسببُ انخذاله أنه أشار على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالمدينة حين شاوره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولم يشاوره قبلها ، فأشار عليه بالمقام في المدينة فلم يفعل وخرج ، فغضب عبد الله وقال : أطاعهم ، وعصاني . وقال : يا قوم علامَ نقتل أنفسنا وأولادنا ، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري . وفي رواية أبو جابر السلمي فقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم . فقال عبد الله : لو نعلمُ قتالاً لاتبعناكم ، فهم الجبان باتباع عبد الله ، فعصمهم الله ومضوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال ابن عباس : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا ، وهذا لهمّ غير مؤاخذ به ، إذ ليس بعزيمة ، إنما هو ترجيح من غير عزم . ولا شك أن النفس عندما تلاقى الحروب ومن يجالدها يزيد عليها مثلين وأكثر ، يلحقها بعض الضعف عن الملاقاة ، ثم يوطئها صاحبها على القتال فتثبت وتستقر . ألا ترى إلى قول الشاعر : وقولي : كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
وإذ همت : بدل من إذ غدوت . قال الزمخشري : أو عمل فيه معنى سميع عليم انتهى . وهذا غير محرر ، لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين ، فتحريره أن يقول : أو عمل فيه معنى سميع أو عليم ، وتكون المسألة من باب التنازع . وجوز أن يكون معمولاً لتبوى ، ولغدوت . وهمّ يتعدى بالباء ، فالتقدير : بأن تفشلا والمعنى : أن تفشلا عن القتال . وأما أحسن قول الشاعر في التحريض على القتال والنهي عن الفشل : قاتلوا القوم بالخداع ولا
يأخذكم عن قتالهم فشل
القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا
وأدغم السبعة تاء التأنيث في الطاء ، وعن قالون خلاف ذكرناه في عقد اللآلىء في القراءات السبع العوالي من إنشائنا . والظاهر أن هذا لهم كان عند تبوئة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) مقاعد للقتال وانخذال عبد الله بمن انخذل . وقيل : حين أشاروا عليه بالخروج وخالفوا عبد الله بن أبي . وفي قوله : طائفتان إشارة لطيفة إلى الكناية عن من يقع منه ما لا يناسب والستر عليه ، إذ لم يعين الطائفتين بأنفسهما ، ولا صح بمن هما منه من القبائل ستراً عليهما .
( وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ( معنى الولاية هنا التثبيت والنصر ، فلا ينبغي لهما أن يفشلا . وقيل : جعلها من أوليائه المثابرين على طاعته . وفي البخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : فينا نزلت ) إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ( قال : نحن الطائفتان بنو

" صفحة رقم 51 "
حارثة ، وبنو سلمة . وما تحب أنها لم تنزل لقول الله : ) وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ( ، قال ذلك جابر لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأنّ تلك الهمة المصفوح عنها لكونها ليست عزماً ، كانت سبباً لنزولها . وقرأ عبد الله : والله وليهم أعاد الضمير على المعنى لا على لفظ التثنية ، كقوله : ) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( ) هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ ( وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، بل جاءت مستأنفة لثناء الله على هاتين الطائفتين .
( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( لما ذكر تعالى ما همت به الطائفتان من الفشل ، وأخبر تعالى أنه وليهما ، ومَنْ كان الله وليه فلا يفوض أمره لا إليه . أمرهم بالتوكل عليه ، وقدم المجرور للاعتناء بمن يتوكل عليه ، أو للاختصاص على مذهب من يرى ذلك . ونبّه على الوصف الذي يقتضي ذلك وهو الإيمان ، لأنَّ مَنْ آمن بالله خير أن لا يكون اتكاله إلا عليه ، ولذلك قال : ) وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( وأتى به عاماً لتندرج الطائفتان الهامّتان وغيرهم في هذا الأمر ، وأن متعلقة من قام به الإيمان . وفي هذا الأمر تحريض على التغبيط بما فعلته الطائفتان من اتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمسير معه .
آل عمران : ( 123 ) ولقد نصركم الله . . . . .
( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ( لمّا أمرهم بالتوكل عليه ذكّرهم بما يوجب التوكل عليه ، وهو ما سنى لهم ويسر من الفتح والنصر يوم بدر ، وهم في حال قلة وذلة ، إذ كان ذلك النصر ثمرة التوكل عليه والثقة به . والنصر المشار إليه ببدر بالملائكة ، أو بإلقاء الرعب ، أو بكف الحصى التي رمى بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو بإرادة الله لقوله : ) وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( أقوال .
والجملة من قوله : وأنتم أذلة حال من المفعول في نصركم ، والمعنى : وأنتم أذلة في أعين غيركم ، إذ كانوا أعزة في أنفسهم ، وكانوا بالنسبة إلى عدوهم ، وجميع الكفار في أقطار الأرض عند المتأمل مغلوبين . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ) .
والأذلة : جمع ذليل . وجمع الكثرة ذلان ، فجاء على جمع القلة ليدل أنهم كانوا قليلين . والذلة التي ظهرت لغيرهم عليهم هي ما كانوا عليه من الضعف وقلة السلاح والمال والمركوب . خرجوا على النواضح يعتقب النفر على البعير الواحد ، وما كان معهم من الخيل إلا فرس واحد ، ومع عدوهم مائة فرس . وكان عدد المسلمين ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلاً : سبعة وسبعون من المهاجرين وصاحب رايتهم علي بن أبي طالب ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وصاحب رايتهم سعد بن عبادة . وقيل : ثلاثمائة وستة عشر رجلاً . وقيل : ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً . وفي رواية : ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً . وكان عدوهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل . وما أحسن قول الشاعر : وقائلة ما بال أسوة عاديا
تفانت وفيها قلة وخمول
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش ، وعلى يوم بدر انبنى الإسلام . وكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان لثمانية عشر شهراً من الهجرة .
( فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( أمر بالتقوى مطلقاً . وقيل : في الثبات مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وترجيه الشكر إمّا على الأنعام السابق بالنصر يوم بدر ، أو على الأنعام المرجو أنْ يقع . فكأنه قيل : لعلكم ينعم عليكم نعمة أخرى فتشكرونها . وضع الشكر موضع الأنعام لأنه سبب له .
آل عمران : ( 124 ) إذ تقول للمؤمنين . . . . .
( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ

" صفحة رقم 52 "
أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى ( ظاهر هذه الآية اتصالها بما قبلها ، وأنّها من قصة بدر ، وهو قول الجمهور ، فيكون إذ معمولاً لنصركم . وقيل : هذا من تمام قصة أحد ، فيكون قوله : ) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ( معترضاً بين الكلامين لما فيه من التحريض على التوكل والثبات للقتال . وحجة هذا القول أن يوم بدر كان المدد فيه من الملائكة بألف ، وهنا بثلاثة آلاف وخمسة آلاف . والكفار يوم بدر كانوا ألفاً ، والمسلمون على الثلث . فكان عدد الكفار ثلاثة آلاف ، فوعدوا بثلاثة آلاف من الملائكة . وقال : ويأتوكم من فورهم ، أي الإمداد . ويوم بدر ذهب المسلمون إليهم . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف يصح أن يقوله لهم يوم أُحد ، ولم ينزل فيه الملائكة ؟ ( قلت ) : قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم . فلم يصبروا عن الغنائم ، ولم يتقوا حيث خالفوا أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فلذلك لم تنزل الملائكة ، ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت . وإنما قدّم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ، ويثقوا بنصر الله انتهى كلامه .
وقوله : لم تنزل فيه الملائكة ليس مجمعاً عليه ، بل قال مجاهد : حضرت فيه الملائكة ولم تقاتل ، فعلى قول مجاهد يسقط السؤال . وقوله : قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم ، فلم يصبروا عن الغنائم ، ولم يتقوا إلى آخره المشروط بالصبر والتقوى هو الإمداد بخمسة آلاف . أمّا الإمداد الأوّل وهو بثلاثة آلاف فليس بمشروط ، ولا يلزم من عدم إنزال خمسة آلاف لفوات شرطه أن لا ينزل ثلاثة آلاف ، ولا شيء منها ، وأجيب عن عدم إنزال ثلاثة آلاف : أنه وعدٌ من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال ، وأمرهم بالسكون والثبات فيها ، فكان هذا الوعد مشروطاً بالثبوت في تلك المقاعد . فلما أهملوا الشرط لم يحصل المشروط انتهى . ولا خفاء بضعف هذا الجواب . قال الضحاك : كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد ، ففرّ الناس وولوا مدبرين فلم يهدهم الله ، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة . وقال ابن زيد : لم يصبروا . وقال عكرمة : لم يصبروا ، ولم يتقوا يوم أحد ، فلم يمدوا . ولو مدوا لم ينهزموا . وكان الوعد بالإمداد يوم بدر ، ورجح أنه قال ذلك يوم بدر ، فظاهر اتصال الكلام . ولأن قلة العدد ، والعدد كان يوم بدر ، فكانوا إلى تقوية قلوبهم بالوعد أحوج . ولأنّ الوعد بثلاثة آلاف كان ، غير مشروط ، فوجب حصوله . وإنما حصل يوم بدر والجمع بين ألف وثلاثة آلاف كان غير مشروط ، فوجب حصوله ، وإنما حصل يوم بدر أنهم مدوا أولاً بألف ، ثم زيد فيهم ألفان ، وصارت ثلاثة آلاف . أو مدوا بألف أولاً ، ثم بلغهم إمداد المشركين بعدد كثير ، فوعد بالخمسة على تقدير إمداد الكفار . فلم يمد الكفار ، فاستغنى عن إمداد المسلمين .
والظاهر في هذه الأعداد إدخال الناقص في الرائد ، فيكون وعدوا بألف ، ثم ضم إليه ألفان ، ثم ألفان ، فصار خمسة . ومن ضم الناقص إلى الزائد وجعل ذلك في قصة أحد ، فيكونون قد وعدوا بثمانية آلاف . أو في قصة بدر فيكونون قد وعدوا بتسعة آلاف . ولم تتعرض الآية الكريمة لنزول الملائكة ، ولا لقتالهم المشركين وقتلهم ، بل هو أمر مسكوت عنه في الآية . وقد تظاهرت الروايات وتظافرت على أن الملائكة حضرت بدراً وقاتلت . ذكر ذلك ابن عطية عن جماعة من الصحابة بما يوقف عليه في كتابه . ولما لم تتعرض له الآية لم نكثر كتابنا بنقله . وذكر ابن عطية أن الشعبي قال : لم تمد المؤمنون بالملائكة يوم بدر ، وكانت الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) مدداً ، وهي تحضر حروب المسلمين إلى يوم القيامة . قال : وخالف الناس الشعبي في هذه المقالة ، وذكر أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ما نصه وأجمع أهل التفسير والسير : على أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا

" صفحة رقم 53 "
الكفار . ثم قال : وأما أبو بكر الأصم فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار ، وذكر عنه حججاً ثم قال : وكل هذه الشبه تليق بمن ينكر القرآن والنبوّة ، لأن القرآن والسنة ناطقان بذلك ، يعني بإنزال الملائكة . ثم قال : واختلفوا في نصرة الملائكة . فقيل : بالقتال . وقيل : بتقوية نفوس المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكفار . والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال ، وأن يكون مجرد حضورهم كافياً انتهى كلامه .
ودخلت أداة الاستفهام على حرف النفي على سبيل الإنكار ، لانتفاء الكفاية بهذا العدد من الملائكة . وكان حرف النفي ( لن ) الذي هو أبلغ في الاستقبال من لا ، إشعاراً بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكتهم كالآيسين من النصرة .
وبلى : إيجاب لما بعد لن ، يعني : بلى يكفيكم الإمداد بهم ، فأوجب الكفاية . وفي مصحف أبيّ : ألا يكفيكم انتهى . ومعظمه من كلام الزمخشري .
وقال ابن عطية : ألن يكفيَكُم تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد من الملائكة ؟ ومن حيث كان الأمر بيتاً في نفسه أن الملائكة كافية ، بادر المتكلم إلى جواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه فقال : بلى ، وهي جواب المقررين . وهذا يحسن في الأمور البينة التي لا محيد في جوابها ، ونحوه قوله تعالى : ) قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ ( انتهى . وقال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي : ألن يكفيكم جواب الصحابة حين قالوا : هلا أعلمتنا بالقتال لنتأهب . فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ألن يكفيكم ) . قال ابن عيسى : والكفاية مقدار سد الخلة ، والإمداد إعطاء الشيء حالاً بعد حال انتهى .
وقرأ الحسن : بثلاثة آلاف يقف على الهاء ، وكذلك بخمسة آلاف . قال ابن عطية : ووجه هذه القراءة ضعيف ، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال ، إذ هما كالاسم الواحد ، وإنما الثاني كمال الأول . والهاء إنما هي أمارة وقف ، فتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال ، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع . فمن ذلك ما حكاه الفراء أنهم يقولون : أكلت لحما شاة ، يريدون لحم شاة ، فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف ، كما قالوا في الوقف قالا : يريدون . قال : ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها في مواضع الروية والتثبت . ومن ذلك في الشعر قول الشاعر : ينباع من زفرى غضوب جسرة
زيانة مثل الغنيق المكرم
يريد ينبع فمطل . ومنه قول الآخر : أقول إذ خرَّت على الكلكال
يا ناقتا ما جلت من مجال
يريد الكلكال فمطل . ومنه قول الآخر : فأنت من الغوائل حين ترمى
ومن ذم الرجال بمنتزاح
يريد بمنتزح . قال أبو الفتح : فإذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة ، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه ، إذ هما في الحقيقة إثنان انتهى كلامه . وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب ، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى الوقف ، أبدلها هاء في الوصل ، كما أبدلوا لها هاء في الوقف ، وموجود في كلامهم إجراء الوصل مجرى الوقف ، وإجراء الوقف مجرى الوصل . وأما قوله : لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع ، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة . وأشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاءً في الوصل ، وإنما هو نظير قولهم : ثلاثة

" صفحة رقم 54 "
أربعة ، أبدل التاء هاء ، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها ، وحذف الهمزة ، فأجرى الوصل مجرى الوقف في الإبدال . ولأجل الوصل نقل إذ لا يكون هذا النقل إلا في الوصل .
وقرىء شاذاً بثلاثة آلاف بتكسين التاء في الوصل ، أجراه مجرى الوقف . واختلفوا في هذه التاء الساكنة أهي بدل من الهاء التي يوقف عليها أم تاء التأنيث هي ؟ وهي التي يوقف عليها بالتاء كما هي ؟ وهي لغة .
وقرأ الجمهور منزلين بالتخفيف مبنياً للمفعول ، وابن عامر بالتشديد مبنياً للمفعول أيضاً ، والهمزة والتضعيف للتعدية فهما سيان . وقرأ ابن أبي عبلة : منزلين بتشديد الزاي وكسرها مبنياً للفاعل . وبعض القراء بتخفيفها وكسرها مبنياً للفاعل أيضاً ، والمعنى : ينزلون النصر .
آل عمران : ( 125 ) بلى إن تصبروا . . . . .
( إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُسَوّمِينَ ( رتب تعالى على مجموع الصبر والتقوى وإتيان العدد من فورهم إمداده تعالى المؤمنين بأكثر من العدد السابق وعلّقه على وجودها ، بحيث لا يتأخر نزول الملائكة عن تحليهم بثلاثة الأوصاف . ومعنى من فورهم : من سفرهم . هذا قاله ابن عباس . أو من وجههم هذا قاله : الحسن ، وقتادة ، والسدي . قيل : وهي لغة هذيل ، وقيس ، وغيلان ، وكنانة : أو من غصبهم هذا قاله : مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو صالح مولى أم هانىء أو معناه في نهضتهم هذه قاله : ابن عطية . أو المعنى من ساعتهم هذه قاله الزمخشري .
ولفظة الفور تدل على السرعة والعجلة . تقول : افعل هذا على الفور ، لا على التراخي . ومنه الفور في الحج والوضوء . وفي إسناد الإمداد إلى لفظة ربكم دون غيره من أسماء الله إشعارٌ بحسن النظر لهم ، واللطف بهم .
وقرأ الصاحبان والأخوان مسوّمين بفتح الواو ، وأبو عمرو وابن كثير وعاصم : بكسرها . وقيل : من السوم ، وهي العلامة يكون على الشاة وغيرها ، يجعل عليها لون يخالف لونها لتعرف . وقيل : من السوم وهو ترك البهيمة ترعى . فعلى الأول روي أن الملائكة كانت بعمائم بيض ، إلا جبريل فبعمامة صفراء كالزبير قاله : ابن إسحاق ، والزجاج . وقيل : بعمائم صفر كالزبير قاله : عروة وعبد الله ابنا الزبير ، وعباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير ، والكلبي وزاد : مرخاة على أكتافهم . قيل : وكانوا على خيل بلق ، وكانت سيماهم قاله : قتادة ، والربيع . أو خيلهم مجزوزة النواصي والأذناب ، معلمتها بالصوف والعهن . قاله : مجاهد . فبفتح الواو ومعلمين ، وبكسرها معلمين أنفسهم أو خيلهم . ورجح الطبري قراءة الكسر ، بأنه عليه الصلاة والسلام قاله يوم بدر : ) سوّموا فإن الملائكة قد سوّمته ( وعلى القول الثاني : وهو السوم . فمعنى مسوِّمين بكسر الواو : وسوّموا خيلهم أي أعطوها من الجري والجولان للقتال ، ومنه سائمة الماشية . وأما بفتح الواو فيصح فيه هذا المعنى أيضاً ، قاله : المهدوي وابن فورك . أي سوّمهم الله تعالى ، بمعنى أنه جعلهم يجولون ويجرون للقتال . وقال أبو زيد : سوّم الرجل خيله أي أرسلها في الغارة . وحكى بعض البصريين : سوّم الرجل غلامه أرسله وخلى سبيله . ولهذا قال الأخفش : معنى مسوّمين مرسلين . وفي الآية دليل على جواز اتخاذ العلامة للقبائل والكتائب لتتميز كل قبيلة وكتيبة عند الحرب .
آل عمران : ( 126 ) وما جعله الله . . . . .
( وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ( الظاهر أن الهاء في جعله عائدة على المصدر والمفهوم من يمددكم وهو الإمداد . وجوّز أن يعود على التسويم ، أو على النصر ، أو على التنزيل ، أو على العدد ، أو على الوعد . وإلاّ بشرى مستثنى من المفعول له ، أي : ما جعله الله لشيء إلا بشرى لكم . فهو استثناء فرغ له العامل ، وبشرى مفعول من أجله . وشروط نصبه موجودة وهو :

" صفحة رقم 55 "
أنه مصدر متحد الفاعل والزمان . ولتطمئن معطوف على موضع بشرى ، إذ أصله لبشرى . ولما اختلف الفاعل في ولتطمئن ، أتى باللام إذ فات شرط اتحاد الفاعل ، لأن فاعل بشرى هو الله ، وفاعل تطمئن هو قلوبكم . وتطمئن منصوب بإضمار أن بعد لام كي ، فهو من عطف الإسم على توهم . موضع اسم آخر ، وجعل على هذا التقدير متعدية إلى واحد .
وقال الحوفي : إلا بشرى في موضع نصب على البدل من الهاء ، وهي عائدة على الوعد بالمدد . وقيل : بشرى مفعول ثان لجعله الله . فعلي هذين القولين تتعلق اللام في لتطمئن بمحذوف ، إذ ليس قبله عطف يعطف عليها . قالوا : تقديره ولتطمئن قلوبكم به بشركم . وبشرى : فعلى مصدر كرجعى ، وهو مصدر من بشر الثلاثي المجرد ، والهاء في به تعود على ما عادت عليه في جعله على الخلاف المتقدم .
وقال ابن عطية : اللام في ولتطمئن متعلقة بفعل مضمر يدل عليه جعله . ومعنى الآية : وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به ، وتطمئن به قلوبكم انتهى . وكأنه رأى أنه لا يمكن عنده أن يعطف ولتطمئن على بشرى على الموضع ، لأن من شرط العطف على الموضع عند أصحابنا أن يكون ثم محزر للموضع ، ولا محرز هنا ، لأن عامل الجر مفقود . ومن لم يشترط المحرز فيجوز ذلك على مذهبه ، وإن لا فيكون من باب العطف على التوهم كما ذكرناه أولاً .
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي : قال بعضهم : الواو زائدة في ولتطمئن . وقال أيضاً في ذكر الإمداد : مطلوبان ، أحدهما : إدخال السرور في قلوبهم ، وهو المراد بقوله : ألا بشرى . والثاني : حصول الطمأنينة بالنصر ، فلا تجبنوا ، وهذا هو المقصود الأصلي . ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين ، فعطف الفعل على الإسم . ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة أدخل حرف التعليل انتهى . وفيه بعض ترتيب وتناقش في قوله : فعطف الفعل على الاسم ، إذ ليس من عطف الفعل على الاسم . وفي قوله : أدخل حرف التعليل ، وليس ذلك لما ذكر .
( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( حصر كينونة النصر في جهته ، لا أنَّ ذلك يكون من تكثير المقاتلة ، ولا من إمداد الملائكة . وذكر الإمداد بالملائكة تقوية لرجاء النصر لهم ، وتثبيتاً لقلوبهم . وذكر وصف العزة وهو الوصف الدال على الغلبة ، ووصف الحكمة وهو الوصف الدال على وضع الأشياء مواضعها من : نصرٍ وخذلان وغير ذلك .
آل عمران : ( 127 ) ليقطع طرفا من . . . . .
( لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ ( الطرف : من قتل ببدر هم سبعون من رؤساء قريش ، أو من قتل بأحد وهم إثنان وعشرون رجلاً على الصحيح . وقال السدي : ثمانية عشر ، أو مجموع المقتولين في الوقعتين ثلاثة أقوال . وكنى عن الجماعة بقوله : طرفاً ، لأن من قتله المسلمون في حرب هم طرف من الكفار ، إذ هم الذين يلون القاتلين ، فهم حاشية منهم . فكان جميع الكفار رفقة ، وهؤلاء المقتولون طرفاً منها . قيل : ويحتمل أن يراد بقوله : طرفاً دابراً أي آخراً ، وهو راجع لمعنى الطرف ، لأن آخر الشيء طرف منه ) أَوْ يَكْبِتَهُمْ ( : أي ليخزيهم ويغيظهم ، فيرجعوا غير ظافرين بشيء مما أملوه . ومتى وقع النصر على الكفار ، فإما بقتل ، وإما بخيبة ، وإما بهما . وهو كقوله : ) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً ). وقرأ الجمهور أو تكبتهم بالتاء . وقرأ لاحق بن حميد : أو يكبدهم بالدال مكان التاء ، والمعنى : يصيب الحزن كبدهم . وللمفسرين في يكبتهم أقوال : يهزمهم قاله : ابن عباس والزجاج ، أو يخزيهم قاله : قتادة ومقاتل ، أو يصرعهم قاله . أبو عبيدة واليزيدي ، أو يهلكهم قاله : أبو عبيدة . أو يلعنهم قاله : السدي . أو يظفر عليهم قاله : المبرد . أو يغيظهم قاله : النضر بن شميل ، واختاره ابن قتيبة . وأما قراءة لاحق فهي من إبدال الدال بالتاء كما قالوا . هوت الثوب وهرده إذا حرفه ، وسبت رأسه وسبده إذا حلقه ، فكذلك كبت العدو وكبده أي أصاب كبده .
واللام في ليقطع يتعلق قيل : بمحذوف تقيديره أمدكم أو نصركم . وقال الحوفي : يتعلق

" صفحة رقم 56 "
بقوله : ) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ ( أي نصركم ليقطع . قال : ويجوز أن يتعلق بقوله : ) وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ ). ويجوز أن تكون متعلقة بيمددكم . وقال ابن عطية : وقد يحتمل أن تكون اللام متعلقة بجعله ، وقيل : هو معطوف على قوله . ولتطمئن ، وحذف حرف العطف منه ، التقدير : ) وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ( ، وتكون الجملة من قوله : وما النصر إلا من عند الله اعتراضية بين المعطوف عليه والمعطوف . والذي يظهر أنْ تتعلق بأقرب مذكور وهو : العامل في من عند الله وهو خبر المبتدأ . كأنّ التقدير : وما النصر إلا كائن من عند الله ، لا من عند غيره . لأحد أمرين : إما قطع طرف من الكفار بقتل وأسر ، وإما بخزي وانقلاب بخيبة . وتكون الألف واللام في النصر ليست للعهد في نصر مخصوص ، بل هي للعموم ، أي : لا يكون نصر أي نصر من الله للمسلمين على الكفار إلا لأحد أمرين .
2 (
آل عمران : ( 128 ) ليس لك من . . . . .
( لَيْسَ لَكَ مِنَ الاٌّ مْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِىأُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ) ) 2
) خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء ( اختلف في سبب النزول وملخصه : أنه لعن ناساً أو شخصاً عين أنه عتبة بن أبي وقاص ، أو أشخاصاً دعا عليهم وعينوا : أبا سفيان ، والحارث بن هشام ، وصفوان بن أمية . أو قبائل عين منها : لحيان ، ورعل ، وذكوان ، وعصية . أو هم بسبب الذين انهزموا يوم أحد ، أو استأذن ربه أن يدعو . ودعا يوم أحد حين شجَّ في وجهه ، وكسرت رباعيته ، ورمي بالحجارة ، حتى صرع لجنبه ، فلحقه ناس من فلاحهم ، ومال إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم ، فنزلت . فعلى هذه الأسباب يكون معنى الآية : التوقيف على أن جميع الأمور إنما هي لله ، فيدخل فيها هداية هؤلاء وإقرارهم على حالة . وفي خطابه : دليل على صدور أمر منه أو هم به ، أو استئذان في الدعاء كما تقدّم ذكره ، وأن عواقب الأمور بيد الله . قال الكوفيون : نسخت هذه الآية القنوت على رعل وذكوان وعصية وغيرهم من المشركين . وقال السخاوي : ليس هذا شرط الناسخ ، لأنه لم ينسخ قرآناً .
( أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ( قيل : هو عطف على ما قبله من الأفعال المنصوبة . ويكون قوله : ليس لك من الأمر شيء جملة اعتراضية ، والمعنى : أن الله مالك أمرهم ، فإما أنْ يهلكهم ، أو يهزمهم ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر . وقيل : أن مضمرة بعد أو ، بمعنى : إلا أن ، وهي التي في قولهم : لألزمنك أو تقضيني حقي ، والمعنى : أنه ليس له من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم بالإسلام فيسر بهداهم ، أو يعذبهم بقتل وأسر في الدنيا ، أو بنار في الآخرة ، فيستشفى بذلك ويستريح . وعلى هذا التأويل تكون الجملة المنفية للتأسيس ، لا للتأكيد . وقيل : أو يتوب معطوف على الأمر . وقيل : على شيء . أي : ليس لك من الأمر ، أو من توبتهم ، أو تعذيبهم شيء . أو ليس لك من الأمر شيء ، أو تعذيبهم . والظاهر من هذه التخاريج الأربعة هو الأول . وأبعد من ذهب إلى أن قوله : ليس لك من الأمر ، أي أمر الطائفتين اللتين همتا أن تفشلا .
وقال ابن بحر : من الأمر أي ، من هذا النصر ، وإنما هو من الله كما قال : ) وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ( وقيل : المراد بالأمر أمر القتال . والظاهر الحمل على العموم ، والأمور كلها لله تعالى .
وقرأ أبي : أو يتوب عليهم أو يعذبهم برفعهما على معنى : أو هو يتوب عليهم ، ثم نبه على العلة المقتضية للتعذيب بقوله : فإنهم ظالمون ، وأتى بأنْ الدالة على التأكيد في نسبة الظلم إليهم .
( وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ

" صفحة رقم 57 "
آل عمران : ( 129 ) ولله ما في . . . . .
لمّا قدم ليس لك من الأمر شيء ، بيَّن أن الأمور إنما هي لمن له الملك ، والملك فجاء بهذه الجملة مؤكدة للجملة السابقة . وتقدم شرح هذه الجملة . وما : إشارة إلى جملة العالم وما هيأته ، فلذلك حسنت ما هنا .
( يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء ( لما تقدّم قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم ، أتى بهذه الجملة موضحةً أن تصرفاته تعالى على وفق مشيئته ، وناسب البداءة بالغفران ، والإرداف بالعذاب ما تقدم من قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم ، ولم يشرط في الغفران هنا التوبة . إذ يغفر تعالى لمن يشاء من تائب وغير تائب ، ما عدا ما استثناه تعالى من الشرك . وقال الزمخشري ما نصه عن الحسن رحمه الله : يغفر لمن يشاء بالتوبة ، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين . ويعذب من يشاء ، ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب . وعن عطاء : يغفر لمن يتوب إليه ، ويعذب من لقيه ظالماً وأتباعه قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، تفسير بين لمن يشاء ، فإنهم المتوب عليهم أو الظالمون . ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون ويتعامون عن آيات الله تعالى ، فيخبطون خبط عشواء ، ويطيبون أنفسهم بما يفترون . عن ابن عباس من قولهم : يهب الذنب الكبير لمن يشاء ، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير . انتهى كلامه . وهو مذهب المعتزلة . وذلك أن من مات مصراً على كبيرة لا يغفر الله له . وما ذكره عن الحسن لا يصح ألبتّة . ومذهب أهل السنة ؛ أنّ الله تعالى يغفر لمن يشاء وإنّ مات مصرًّا على كبيرة غير تائب منها .
( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( في هذه الجملة ترجيح لجهة الإحسان والإنعام ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً (
آل عمران : ( 130 ) يا أيها الذين . . . . .
قال ابن عطية : هذا النهي عن أكل الربا اعترض أثناء قصة أحد ، ولا أحفظ شيئاً في ذلك مروياً انتهى .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ومجيئها بين أثناء القصة : أنّه لما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من غيرهم ، واستطرد لذكر قصة أحد . وكان الكفار أكثر معاملاتهم بالربا مع أمثالهم ومع المؤمنين ، وهذه المعاملة مؤدية إلى مخالطة الكفار ، نهوا عن هذه المعاملة التي هي الربا قطعاً لمخالطة الكفار ومودّتهم ، واتخاذ إخلاء منهم ، لا سيما والمؤمنون في أول حال الإسلام ذوو إعسار ، والكفار من اليهود وغيرهم ذوو يسار . وكان أيضاً أكل الحرام له مدخل عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية ، كما جاء في الحديث : ( إن الله تعالى لا يستجيب لمن مطعمه حرام ومشربه حرام إذا دعا ) ( وأن آكل الحرام يقول إذا حج : لبيك وسعديك . فيقول الله له : لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك ) فناسب ذكر هذه الآية هنا .
وقيل : ناسب اعتراض هذه الجملة هنا أنه تعالى وعد المؤمنين بالنصر والإمداد مقروناً بالصبر والتقوى ، فبدأ بالأهم منها وهو : ما كانوا يتعاطونه من أكل الأموال بالباطل ، وأمر بالتقوى ، ثم بالطاعة . وقيل : لما قال تعالى : ) وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( وبيّن أنّ ما فيهما من الموجودات ملك له ، ولا يجوز أنْ يتصرّف في شيء منها إلا بإذنه على الوجه الذي شرعه . وآكلُ الربا متصرّف في ماله بغير الوجه الذي أمر ، نبَّه تعالى على ذلك ، ونهى عما كانوا في الإسلام مستمرّين عليه من حكم الجاهلية ، وقد تقدم الربا في سورة البقرة .
وانتصب أضعافاً ، فانهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها ، كان الطالب يقول : أتقضي أم تربي ، وربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين ، لأنه إذا لم يجد وفاء زاد في الدين ، وزاد في الأصل . وأشار بقوله : مضاعفة ، إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاماً بعد عام . والربا محرم جميع أنواعه ، فهذه الحال لا مفهوم لها ، وليست قيداً في النهي ، إذ ما لا يقع أضعافاً مضاعفة مساوٍ في التحريم لما كان أضعافاً مضاعفة . وقد تقدم الكلام في نسبة الآكل إلى الربا في البقرة .
وقيل : المضاعفة منصرفة إلى الأموال . فإن كان الربا في السن يرفعونها ابنة

" صفحة رقم 58 "
مخاض بابنة لبون ، ثم حقة ، ثم جذعة ، ثم رباع ، هكذا إلى فوق . وإن كان في النقود فمائة إلى قابل بمائتين ، فإن لم يوفهما فأربعمائة . والأضعاف : جمع ضعف ، وهو من جموع القلة . فلذلك أردفه بالمضاعفة . ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( لما نهاهم عن أمر صعب عليهم فراقه وهو الربا ، أمر بتقوى الله إذ هي الحاملة على مخالفة ما تعوده المرء مما نهي الشرع عنه . ثم ذكر أنّ التقوى سبب لرجاء الفلاح وهو الفوز ، وأمر بها مطلقاً لا مقيداً بفعل الربا ، لأنه لما نهى عن الربا كان المؤمنون أسرع شيء لطواعية الله تعالى ، فلم يأت واتقوا الله في أكل الربا بل أمروا بالتقوى ، لا بالنسبة إلى شيء خاص منعوه من جهة الشريعة . ) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (
آل عمران : ( 131 ) واتقوا النار التي . . . . .
لما تقدم ( واتقوا الله ) والذوات لا تتقى ، فإنما المتقي محذوف أوضحه في هذه الآية . فقال : واتقوا النار . والألف واللام في النار للجنس ، فيجوز أن تكون النار التي وعد بها آكل الربا أخف من نار الكافر ، أي أعدّ جنسها للكافرين . ويجوز أنّ تكون للعهد ، فيكون آكل الربا قد توعد بالنار التي يعذب بها الكافر . وقيل : توعد أكلة الربا بنارالكفرة ، إذ النار سبع طبقات : العليا منها وهي جهنم للعصاة ، والخمس للكفار ، والدرك الأسفل للمنافقين . فأكلة الربا يعذبون بنار الكفار ، لا بنار العصاة . وقال ابن عباس : هذا تهديد للمؤمنين لئلا يستحلوا الربا .
وقال الزجاج : والمعنى واتقوا أن تحلوا ما حرم الله فتكفروا . وقيل : اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان وتستوجبون به النار . وكان أبو حنيفة يقول : هي أخوف آية في القرآن ، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه باجتناب محارمه . قال الزمخشري : وقد أمد ذلك أتبعه بما من تعليق رجاء المؤمن لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله ، ومن تأمل هذه الآيات وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع الفارغة ، والتمني على الله تعالى . وفي ذكره تعالى لعل وعسى في نحو هذه المواضع ، وإن قال الناس ما قالوا ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى ، وصعوبة إصابة رضا الله عز وجل ، وعزّة التوصل إلى رحمته وثوابه انتهى . كلامه وهو جار على مذهبه من تقنيط العاصي غير التائب من رحمة ربه ، وولوعه بمذهبه يجعله يحمل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله ، أو ما هو بعيد عنها . وتقدم شرح أعدت للكافرين في أوائل البقرة .
آل عمران : ( 132 ) وأطيعوا الله والرسول . . . . .
( وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( قيل : أطيعوا الله في الفرائض ، والرسول في السنن . وقيل : في تحريم الربا ، والرسول فيما بلغكم من التحريم . وقيل : وأطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به وينهاكم عنه . فإن طاعة الرسول طاعة الله قال تعالى : ) مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ( وقال المهدوي : ذكر الرسول زيادة في التبيين والتأكيد والتعريف بأن طاعته طاعة الله . وقال ابن إسحاق : هذه الآية هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد ، وانهزام من فرَّ ، وزوال الرماة من مركزهم . وقيل : صيغتها الأمر ومعناها العتب على المؤمنين فيما جرى منهم من أكل الربا ، والمخالفة يوم أحد . والرحمة من الله إرادة الخير لعبيده ، أو ثوابهم على أعمالهم .
وقد تضمنت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبديع . من ذلك العام المراد به الخاص : في من أهلك ، قال الجمهور : أراد به بيت عائشة . فالاختصاص في : والله سميع عليم ، وفي : فليتوكل المؤمنون ، وفي : ما في السموات وما في الأرض ، وفي : يغفر لمن يشاء ويعذب من

" صفحة رقم 59 "
يشاء خص نفسه بذلك كقوله : ) وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ( نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم ( وفي ) ( وفي ) العَزِيزُ الحَكِيمُ ( لأن العز من ثمرات النصر ، والتدبير الحسن من ثمرات الحكمة .
والتشبيه : في ليقطع طرفاً ، شبه من قتل منهم وتفرّق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه وانخرم نظامه ، وفي : ولتطمئن قلوبكم شبه زوال الخوف عن القلب وسكونه عن غليانه باطمئنان الرّجل الساكن الحركة . وفي : فينقلبوا خائبين شبه رجوعهم بلا ظفر ولا غنيمة بمن أمل خيراً من رجل فأمّه ، فأخفق أمله وقصده . والطباق : في نصركم وأنتم أذلة ، النصر إعزاز وهو ضد الذل . وفي : يغفر ويعذب ، الغفران ترك المؤاخذة والتعذيب المؤاخذة بالذنب . والتجوز بإطلاق التثنية على الجمع في : أن يفشلا . وبإقامة اللام مقام إلى في : ليس لك أي إليك ، أو مقام على : أي ليس عليك . والحذف والاعتراض في مواضع اقتضت ذلك والتجنيس المماثل في : أضعافاً مضاعفة . وتسمية الشيء بما يؤول إليه في : لا تأكلوا سمَّى الأخذ أكلاً ، لأنه يؤول إليه .
2 ( ) وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالاٌّ رْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَائِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاٌّ عْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاٌّ يَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ( ) ) 2
آل عمران : ( 133 ) وسارعوا إلى مغفرة . . . . .
الكظم : الإمساك على غيظ وغم . والكظيم : الممتلىء أسفار ، وهو المكظوم . وقال عبد المطلب : فخضضت قومي واحتسبت قتالهم
والقوم من خوف المنايا كظم
وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كان يخرج من كثرته ، فضبطه ومنعه كظم له . ويقال : كظم القربة إذا شدّها وهي ملأى . والكظام : السير الذي يشد به فمها . وكظم البعير : جرته ردها في جوفه ، أو حبسها قبل أن يرسلها إلى فيه

" صفحة رقم 60 "
ويقال : كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ، ومنه قول الراعي : فأفضن بعد كظومهن بجرة
من ذي الأباطح أذرعين حقيلا
الحقيل : موضع ، والحقيل أيضاً نبت . ويقال : لا تمنع الإبل جرتها إلا عند الجهد والفزع ، فلا تجتر . ومنه قول أعشى باهلة يصف نحار الإبل : قد تكظم البزل منه حين تبصره
حتى تقطع في أجوافها الجرر
الإصرار : اعتزام الدوام على الأمر . وترك الإقلاع عنه ، من صرّ الدنانير ربط عليها . وقال أبو السمال :
علم الله أنها مني صرى
أي عزيمة . وقال الحطيئة يصف الخيل : عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا
علاليها بالمحضرات أصرت
أي ثبتت على عدوها . وقال آخر : يصر بالليل ما تخفى شواكله
يا ويح كل مصر القلب ختار
السنة : الطريقة . وقال المفضل : الأمة وأنشد : ما عاين الناس من فضل كفضلكم
ولا رؤى مثله في سالف السنن
وسنة الإنسان الشيء الذي يعمله ويواليه ، كقول خالد الهذلي لأبي ذؤيب : فلا تجزعن من سنة أنت سرتها
فأول راض سنة من يسيرها
وقال سليمان بن قتيبة : وإن الألى بألطف من آل هاشم
تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وقال لبيد : من أمة سنت لهم آباؤهم
ولكل قوم سنة وإمامها
وقال الخليل : سن الشيء صورة . والمسنون المصور ، وسن عليهم شراً صبه ، والماء والدرع صبهما . واشتقاق السنة يجوز أن يكون من أحد هذين المعنيين ، أو من سن السنان والنصل حدهما على المسن ، أو من سن الإبل إذا أحسن

" صفحة رقم 61 "
رعيها . السير في الأرض : الذهاب .
وهن الشيء ضعف ، ووهنه الشيء أضعفه . يكون متعدياً ولازماً . وفي الحديث : ( وهنتهم حمى يثرب ) والوهن الضعف . وقال زهير :
فأصبح الحبل منها واهناً خلقاً
القرح والقرح لغتان ، كالضعف والضعف ، والكره والكره : الفتحُ لغة الحجاز : وهو الجرح . قال حندج : وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة
لعل منايانا تحولن أبؤسا
وقال الأخفش : هما مصدران . ومن قال : القَرح بالفتح الجرح ، وبالضم المد ، فيحتاج في ذلك إلى صحة نقل عن العرب . وأصل الكلمة الخلوص ، ومنه : ماء قراح لا كدورة فيه ، وأرض قراح خالصة الطين ، وقريحة الرجل خالصة طبعه .
المداولة : المعاودة ، وهي المعاهدة مرة بعد مرة . يقال : داولت بينهم الشيء فتداولوه . قال : يرد المياه فلا يزال مداويا
في الناس بين تميل وسماع
وأدلته جعلت له دولة وتصريفاً ، والدولة بالضم المصدر ، وبالفتح الفعلة الواحدة ، فلذلك يقال : في دولة فلان ، لأنها مرة في الدهر . والدور والدول متقاربان ، لكن الدور أعم . فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيوي .
المحص كالفحص ، لكن الفحص يقال في إبراز الشيء عن خلال أشياء منفصلة عنه . والمحص عن إبرازه عن أشياء متصلة به . قال الخليل : التمحيص التخليص عن العيوب ، ويقال : محص الحبل إذا زال عنه بكثرة مره على اليد زبيره وأملس ، هكذا ساق الزجاج اللفظة الحبل . ورواها النقاش : محص الجمل إذا زال عنه وبره وأملس . وقال حنيف الحناتم : وقد ورد ماء اسمه طويلع ، إنك لمحص الرشاء ، بعيد المستقى ، مطل على الأعداء . المعنى : أنه لبعده يملس حبله بمر الأيدي . ) وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( قرأ ابن عامر ونافع : سارعوا بغير واو على الاستئناف ، والباقون بالواو على العطف . لما أمروا بتقوى النار أمروا بالمبادرة إلى أسباب المغفرة والجنة . وأمال الدوري في قراءة الكسائي : وسارعوا لكسرة الراء . وقرأ أبي وعبد الله : وسابقوا والمسارعة : مفاعلة . إذ الناس كل واحد منهم ليصل قبل غيره فبينهم في ذلك مفاعلة . ألا ترى إلى قوله : ) فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ( والمسارعة إلى سبب المغفرة وهو الإخلاص ، قاله عثمان . أو أداء الفرائض قاله علي . أو الإسلام قاله : ابن عباس . أو

" صفحة رقم 62 "
التكبيرة الأولى من الصلاة مع الإمام قاله : أنس ومكحول . أو الطاعة قاله : سعيد بن جبير . أو التوبة قاله : عكرمة . أو الهجرة قاله : أبو العالية . أو الجهاد قاله : الضحاك . أو الصلوات الخمس قاله : يمان . أو الأعمال الصالحة قاله : مقاتل . وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التعيين والحصر .
قال الزمخشري : ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الإقبال على ما يستحقان به انتهى . وفي ذكر الاستحقاق دسيسة الاعتزال ، وتقدم ذكر المغفرة على الجنة لأنها السبب الموصل إلى الجنة ، وحذف المضاف من السموات أي : عرض السموات بعد حذف أداة التشبيه أي : كعرض . وبعد هذا التقدير اختلفوا ، هل هو تشبيه حقيقي ؟ أو ذهب به مذهب السعة العظيمة ؟ لما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في الغاية القصوى ، إذ السموات والأرض أوسع ما علمه الناس من مخلوقاته وأبسطه ، وخص العرض لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة ، فعلى هذا لا يراد عرض ولا طول حقيقة قاله : الزجاج . وتقول العرب : بلاد عريضة ، أي واسعة . وقال الشاعر : كأن بلاد الله وهي عريضة
على الخائف المطلوب كفة حابل
والقول الأول عن ابن عباس وغيره . قال ابن عباس وسعيد بن جبير : والجمهور تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ، فذلك عرض الجنة ، ولا يعلم طولها إلا الله انتهى ولا ينكر هذا . فقد ورد في الحديث في وصف الجنة وسعتها ما يشهد لذلك . وأورد ابن عطية من ذلك أشياء في كتابه . والجنة على هذا القول أكبر من السموات ، وهي ممتدّة في الطول حيث شاء الله . وخص العرض بالذكر لدلالته على الطول ، والطول إذا ذكر لا يدل على سعة العرض ، إذ قد يكون العرض يسيراً كعرض الخيط .
وقال قوم : معناه كعرض السموات والأرض طباقاً ، لا بأنْ تقرن كبسط الثياب . فالجنة في السماء وعرضها كعرضها ، وعرض ما وازاها من الأرضين إلى السابعة ، وهذه دلالة على العظيم . وأغنى ذكر العرض عن ذكر الطول . وقال ابن فورك : الجنة في السماء ، ويزاد فيها يوم القيامة ، وتقدم الكلام في الجنة أخلقت ؟ وهو ظاهر القرآن . ونص الآثار الصحيحة النبوية أم لم تخلق ؟ بعدُ وهو قول : المعتزلة ، ووافقهم من أهل بلادنا القاضي منذر بن سعيد . وأما قول ابن فورك أنه يزاد فيها فيحتاج إلى صحة نقل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الكلبي : الجنان أربع : جنة عدن ، وجنة المأوى ، وجنة الفردوس ، وجنة النعيم . كل جنة منها كعرض السماء والأرض ، لو وصل بعضها ببعض ما علم طولها إلا الله . وقال ابن بحر : هو من عرض المتاع على البيع ، لا العرض المقابل للطول . أي لو عورضت بها لساوها نصيب كل واحد منكم ، وجاء إعدادها للمتقين فخصوا بالذكر تشريفاً لهم ، وإعلاماً بأنهم الأصل في ذلك ، وغيرهم تبع لهم في إعدادها . وإن أريد بالمتقين متقو الشرك كان عاماً في كل مسلم طائع أو عاص .
آل عمران : ( 134 ) الذين ينفقون في . . . . .
( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ( قال ابن عباس والكلبي ومقاتل : السراء اليسر ، والضراء العسر . وقال عبيد بن عمير والضحاك : الرخاء والشدّة . وقيل : في الحياة ، وبعد الموت بأن يوصى . وقيل : في الفرح وفي

" صفحة رقم 63 "
الترح . وقيل : فيما يسرّ كالنفقة على الولد والقرابة ، وفيما يضر كالنفقة على الأعداء . وقيل : في ضيافة الغني والإهداء إليه ، وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدّق به عليهم . وقيل : في المنشط والمكره . ويحتمل التقييد بهاتين الحالتين ، ويحتمل أن يعني بهما جميع الأحوال ، لأن هاتين الحالتين لا يخلو المنفق أن يكون على إحداهما . والمعنى : لا يمنعهم حال سرور ولا حال ابتلاء عن بذل المعروف . وروي عن عائشة أنها تصدّقت بحبة عنب . وعن بعض السلف ببصلة . وابتدىء بصفة التقوى الشاملة لجميع الأوصاف الشريفة ، ثم جيء بعدها بصفة البذل ، إذ كانت أشق على النفس وأدل على الإخلاص . وأعظم الأعمال للحاجة إلى ذلك في الجهاد ، ومواساة الفقراء . ويجوز في الدين الاتباعُ والقطعُ للرفع والنصب .
( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ( أي الممسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر ، ولا يظهر له أثر ، والغيظ : أصل الغضب ، وكثيراً ما يتلازمان ، ولذلك فسره بعضهم هنا بالغضب .
والغيظ فعل نفساني لا يظهر على الجوارح ، والغضب فعل لها معه ظهور في الجوارح ، وفعل مّا ولا بد ، ولذلك أسند إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم ، ولا يسند الغيظ إليه تعالى . ووردت أحاديث في كظم الغيظ وهو من أعظم العبادة . وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً ) وعنه عليه السلام : ( ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجراً من جرعة غيظ في الله ) وعن عائشة أن خادماً لها غاظها فقالت : لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء وقال مقاتل : بلغنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال في هذه الآية : ) إن هذه في أمّتي لقليل وقد كانوا أكثر في الأمم الماضية ) . وأنشد أبو القاسم بن حبيب : وإذا غضبت فكن وقوراً كاظما
للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفاً تصبر ساعة
يرضى بها عنك الإله ويدفع
) وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ( أي الجناة والمسيئين . وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع : المماليك . وهذا مثال ، إذ الأرقاء تكثر ذنوبهم لجهلهم وملازمتهم ، وإنفاذ العقوبة عليهم سهل للقدرة عليهم . وقال الحسن : والكاظمين الغيظ عن الأرقاء ، والعافين عن الناس إذا جهلوا عليهم . ووردت أخبار نبوية في العفو منها : ( ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فليدخلوا الجنة ، فيقال : من ذا الذي أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا ) . ورواه أبو سفيان للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه . ويجوز في الكاظمين والعافين القطع إلى النصب والاتباع ، بشرط اتباع الذين ينفقون ) وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( الألف واللام للجنس ، فيتناول كل محسن . أو للعهد فيكون ذلك إشارة إلى من تقدّم ذكره من المتصفين بتلك الأوصاف . والأظهر الأول ، فيعم هؤلاء وغيرهم . وهذه الآية في المندوب إليه . ألا ترى إلى حديث جبريل عليه السلام : ( ما الإيمان ) فبين له العقائد ( ما الإسلام ) ؟ فبين له الفرائض . ( ما الإحسان ؟ ) قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ) والمعنى : أن الله يحب المحسنين ، وهم الذين يوقعون الأعمال الصالحة ، مراقبين الله كأنهم مشاهدوه . وقال الحسن : الإحسان أن تعم ولا تخص ، كالريح والمطر والشمس والقمر . وقال الثوري : الإحسان أن تحسن إلى المسيء ، فإنَّ الإحسان إليه مناجزة كنقد السوق ، خذ مني وهات .
آل عمران : ( 135 ) والذين إذا فعلوا . . . . .
( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا

" صفحة رقم 64 "
ْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ( نزلت في قول الجمهور بسبب منهال التمار ، ويكنى : أبا مقبل ، أتته امرأة تشتري منه تمراً فضمها وقبلها ثم ندم . وقيل : ضرب على عجزها .
والعطف بالواو مشعر بالمغايرة . لمّا ذكر الصنف الأعلى وهم المتقون الموصوفون بتلك الأوصاف الجميلة ، ذكر مَنْ دونهم ممن قارف المعاصي وتاب وأقلع ، وليس من باب عطف الصفات واتحاد الموصوف . وقيل : أنه من عطف الصفات ، وأنه من نعت المتقين روى ذلك عن الحسن .
قال ابن عباس : الفاحشة الزنا ، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة . وقال مقاتل : الفاحشة الزنا ، وظلم النفس سائر المعاصي . وقال النخعي : الفاحشة القبائح ، وظلم النفس من الفاحشة وهو لزيادة البيان . وقيل : جميع المعاصي وظلم النفس العمل بغير علم ولا حجة . وقال الباقر : الفاحشة النظر إلى الأفعال ، وظلم النفس رؤية النجاة بالأعمال . وقيل : الفاحشة الكبيرة ، وظلم النفس الصغيرة . وقيل : الفاحشة ما تظوهر به من المعاصي ، وقيل : ما أخفى منها . وقال مقاتل والكلبي : الفاحشة ما دون الزنا من قبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل ، وظلم النفس بالمعصية ، وقيل : الفاحشة الذنب الذي فيه تبعة للمخلوقين ، وظلم النفس ما بين العبد وبين ربه . وهذه تخصيصات تحتاج إلى دليل . وكثر استعمال الفاحشة في الزنا ، ولذلك قال جابر حين سمع الآية : زنوا ورب الكعبة .
ومعنى ذكروا الله ذكروا وعيده قاله : ابن جرير وغيره . وقيل : العرض على الله قاله الضحاك . أو السؤال عنه يوم القيامة قاله : الكلبي ومقاتل والواقدي . وقيل : نهى الله . وقيل : غفرانه . وقيل : تعرضوا لذكره بالقلوب ليبعثهم على التوبة . وقيل : عظيم عفوه فطمعوا في مغفرته . وقيل : إحسانه فاستحيوا من إساءتهم . وهذه الأقوال كلها على أن الذكر هو بالقلب . وقيل : هو باللسان ، وهو الاستغفار . ذكروا الله بقلوبهم : اللهم اغفر لنا ذنوبنا ، قاله : ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وعطاء في آخرين . وروي عن أبي هريرة ( ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) ولا بدّ مع ذكر اللسان من مواطأة القلب ، وإلاّ فلا اعتبار بهذا الاستغفار . ومن استغفر وهو مصرّفاً فاستغفاره يحتاج إلى استغفار . والاستغفار سؤال الله بعد التوبة الغفران .
وقيل : ندموا وإن لم يسألوا . والظاهر الأول . ومفعول استغفروا الله محذوف لفهم المعنى ، أي فاستغفروه لذنوبهم . وتقدم الكلام على هذا الفعل وتعديته .
( وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ( جملة اعتراض المتعاطفين ، أو بين ذي الحال والحال . وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة إعراباً في قوله : ) وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( وهذه الجملة الاعتراضية فيها ترفيق للنفس ، وداعية إلى رجاء الله وسعة عفوه ، واختصاصه بغفران الذنب . قال الزمخشري : وصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة ، وأنَّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنّه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب ، لأنّ العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز . وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط . وأنّ الذنوب وإنْ جلت فإنَّ عفوه أجل ، وكرمه أعظم . والمعنى : أنه وحده معه مصححات المغفرة انتهى . وهو كلام حسن ، غير أنه لم يخرج عن ألفاظ المعتزلة في قوله : وإنّ عدله يوجب المغفرة للتائب . وفي قوله : وجب العفو والتجاوز ، ولو لم

" صفحة رقم 65 "
نعلم أن مذهبه الاعتزال لتأولنا كلامه بأن هذا الوجوب هو بالوعد الصادق ، فهو من جهة السمع لا من جهة العقل فقط .
( وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( أي ولم يقيموا على قبيح فعلهم . وهذه الجملة معطوفة على فاستغفروا ، فهي من بعض أجزاء الجزاء المترتب على الشرط . ويجوز أن تكون الواو للحال ويكون حالاً من الفاعل في فاستغفروا فهي من بعض أجزاء الجزاء ، أي : فاستغفروا لذنوبهم غير مصرّين . وما موصولة اسمية ، ويجوز أن تكون مصدرية .
قال قتادة : الإصرار المضي في الذنب قدماً . وقال الحسن : هو إتيان الذنب حتى يتوب . وقال مجاهد : لم يصرّوا لم يمضوا . وقال السدي : هو ترك الاستغفار والسكوت عنه مع الذنب . والجملة من قوله : وهم يعلمون قال الزمخشري : حال من فعل الإصرار ، وحرف النفي منصب عليهما معاً ، والمعنى : وليسوا ممن يصرّ على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها ، لأنه قد يعذر من لم يعلم قبح القبيح .
وفي هذه الآيات بيان قاطع أن الذين آمنوا على ثلاث طبقات : متقون ، وتائبون ، ومصرّون . وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ، ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه انتهى كلامه . وآخره على طريقته الاعتزالية من : أن من مات مصرًّا دخل النار ولا يخرج منها أبداً . وأجاز أبو البقاء أن يكون : وهم يعلمون حالاً من الضمير في فاستغفروا ، فإنْ أعربنا ولم يصرّوا جملة حالية من الضمير في فاستغفروا ، جاز أن يكون : وهم يعلمون حالاً منه أيضاً . وإن كان ولم يصروا معطوفاً على فاستغفروا كان ما قاله أبو البقاء بعيداً للفصل بين ذي الحال والحال بالجملة . وأما متعلق العلم فتقدم في كلام الزمخشري .
وقال أبو البقاء : وهم يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو الله عنها . وقال ابن عباس والحسن : وهم يعلمون أن تركه أولى من التمادي . وقال مجاهد وأبو عمارة : يعلمون أن الله يتوب على من تاب . وقال السدي ومقاتل : يعلمون أنهم قد أذنبوا . وقيل : يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها ، أطلق اسم العلم على الذكر لأنه من ثمرته . وقال ابن إسحاق : يعلمون ما حرمت عليهم . وقال الحسين بن الفضل : يعلمون أنّ لهم رباً يغفر الذنب . وقال ابن بحر : يعلمون بالذنب . وقيل : يعلمون العفو عن الذنوب وإن كثرت .
آل عمران : ( 136 ) أولئك جزاؤهم مغفرة . . . . .
( أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ( أولئك إشارة إلى الصنفين . وجوّز أن يكون مختصاً بالصنف الثاني ، ويكون : والذين إذا فعلوا مبتدأ ، وأولئك وما بعده خبره ، وجزاؤهم مغفرة مبتدأ وخبر في موضع خبر أولئك . وثم محذوف أي : جزاء أعمالهم مغفرة من ربهم لذنوبهم .
وقال ابن عطية : أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب ، وليس يجب عليه تعالى من جهة العقل شيء ، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره . وقال الزمخشري : قال أجر العاملين بعد قوله جزاؤهم ، لأنهما في معنى واحد ، وإنما خالف بين اللفظين لزيادة

" صفحة رقم 66 "
التنبيه على أن ذلك جزاء واجب على عمل ، وأجر مستحق عليه ، لا كما يقول المبطلون . وروى أن الله عزّ وجل أوحى إلى موسى عليه السلام : ما أقلَّ حياء من يطمعُ في جنتي بغير عمل ، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي ؟ وعن شهر بن حوشب : طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور ، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة . وعن الحسن يقول الله يوم القيامة : جوزوا الصراط بعفوي ، وادخلوا الجنة برحمتي ، واقتسموها بأعمالكم . وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد : ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
انتهى ما ذكره ، والبيت الذي كانت رابعة تنشده هو لعبد الله بن المبارك . وكلام الزمخشري جار على مذهبه الاعتزال من أن الإيمان دون عمل لا ينفع في الآخرة .
( وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( المخصوص بالمدح محذوف تقديره : ونعم أجر العاملين ذلك ، أي المغفرة والجنة
آل عمران : ( 137 ) قد خلت من . . . . .
( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ ( الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : أنه إنْ ظهر عليكم الكفار يوم أحد فإن حسن العاقبة للمتقين ، وإنْ أديل الكفار فالعاقبة للمؤمنين . وكذلكم كفاركم هؤلاء عاقبتهم إلى الهلاك . وقال النقاش : الخطاب للكفار لقوله بعد ) وَلاَ تَهِنُواْ ( ولما ذكر تعالى الجمل المعترضة في قصة أحد عاد إلى كمالها ، فخاطبهم بأنه إنْ وقعت إدالة الكفار فالعاقبة للمؤمنين . والمعنى : قد تقدّمت ومضت .
وقال الزجاج : أهل سنن أي طرائق أو أمم ، على شرح المفضل أنّ السنة الأمة . وقال الحسن : سنة أقضية في إهلاك الأمم السالفة عاد وثمود وغيرهم . وقال ابن زيد : أمثال . وقال ابن عباس : وقائع وطلب السير في الأرض ، وإن كانت أحوال من تقدّم تدرك بالأخبار دون السير . لأن الأخبار إنما تكون ممن سار وعاين ، وعنه ينقل : فطلب منه الوجه الأكمل إذ للمشاهدة أثر أقوى من أثر السماع . وقيل : السير هنا مجاز عن التفكر ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس . وقال الجمهور : النظر هنا من نظر العين . وقال قوم : هو بالفكر . والجملة الاستفهامية في موضع المفعول لانظروا لأنها معلقة وكيف في موضع نصب خبر كان . والمعنى : ما سنة الله في الأمم المكذبين من وقائعه كما قال تعالى : ) فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ( ) وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ ).
وفي هذه الآية دلالة على جواز السفر في فجاج الأرض للاعتبار ، ونظر ما حوت من عجائب مخلوقات الله تعالى ، وزيارة الصالحين وزيارة الأماكن المعظمة كما يفعله سياح هذه الملة ، وجواز النظر في كتب المؤرخين لأنها سبيل إلى معرفة سير العالم وما جرى عليهم من المثلاث .
آل عمران : ( 138 ) هذا بيان للناس . . . . .
( هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ ( قال الحسن وقتادة وابن جريج والربيع : الإشارة إلى القرآن . وقيل : الإشارة إلى قوله : قد خلت من قبلكم سنن قاله : ابن إسحاق ، والطبري ، وجماعة . أيْ هذا تفسير للناس إنْ قبلوه . وقال الشعبي : هذا بيان للناس من العمى . وقال الزمخشري : هذا بيان للناس ، إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب . يعني : حثهم على النظر في سوء عواقب

" صفحة رقم 67 "
المكذبين قبلهم ، والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم . وهدى وموعظة للمتقين يعني : أنه مع كونه بياناً وتنبيهاً للمكذبين فهو زيادة وتثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين . ويجوز أنْ يكون قد خلت جملة معترضة للبعث على الإيمان ، وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين . ويكون قوله : هذا بيان إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرين انتهى كلامه . وهو حسن . ولما كان ظاهراً واضحاً قال : بيان للناس . ولما كانت الموعظة والهدى لا يكونان إلاّ لمَنْ اتقى خص بذلك المتقين ، لأن من عمى فكره وقسا فؤاده لا يهتدي ولا يتعظ ، فلا يناسب أن يضاف إليه العدى والموعظة .
آل عمران : ( 139 ) ولا تهنوا ولا . . . . .
( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ). لمّا انهزَم مَن انهزم من المؤمنين أقبل خالدٌ يريد أنْ يعلوَ الجبل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك ) فنزلت قاله : ابن عباس . وزاد الواقدي : أنّ رماة المسلمين صعدوا الجبل ورموا بحبل المشركين حتى هزموهم ، فذلك قوله : وأنتم الأعلون . وقال القرطبي : وأنتم الغالبون بعد أحد ، فلم يخرجوا بعد ذلك إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهده عليه السلام ، وفي كل عسكر كان بعدُ ولو لم يكن فيه إلاّ واحدٌ من الصحابة . وقال الكلبي : نزلت بعد أحد حين أمروا بطلب القوم مع ما أصابهم من الجراح . وقال : لا يخرج إلاّ من شهد معنا أمس ، فاشتدّ ذلك على المسلمين فنزلت . نهاهم عن أن يضعفوا عن جهاد أعدائهم ، وعن الحزن على من استشهد من إخوانهم ، فإنّهم صاروا إلى كرامة الله قاله : ابن عباس . أو لأجل هزيمتهم وقتلهم يوم أحد قاله : مقاتل . أو لما أصاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من شجّه وكسر رباعيته ذكره : الماوردي . أو لما فات من الغنيمة ذكره : أحمد النيسابوري . أو لمجموع ذلك . وآنسهم بقوله : وأنتم الأعلون ، أي الغالبون وأصحاب العاقبة . وهو إخبار بعلو كلمة الإسلام قاله : الجمهور ، وهو الظاهر .
وقيل : ) أَنتُمْ الاْعْلَوْنَ ( ، أي قد أصبتم ببدر ضعف ما أصابوا منكم بأحد أسراً وقتلاً فيكونُ وأنتم الأعلون نصباً على الحال ، أي لاتحزنوا عالين أي منصورين على عدوكم انتهى . وأما كونُه من علوهم الجبل كما أشير إليه في سبب النزول فروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير . قال ابن عطية : ومن كرم الخلق أن لا يهن الإنسان في حربه وخصامه ، ولا يلين إذا كان محقاً ، وأن يتقضى جميع قدرته ، ولا يضرع ولو مات . وإنما يحسن اللين في السلم والرضا ، ومنه قوله عليه السلام : ( المؤمن هين لين والمؤمنون هينون لينون ) وقال منذر بن سعيد : يجب بهذه الآية ألا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة وشوكة ، فإن كانوا في قطر مّا على غير ذلك فينظر الإمام لهم في لا صلح انتهى .
وفي قوله : وأنتم الأعلون دلالة على فضيلة هذه الأمة ، إذ خاطبهم مثل ما خاطب موسى كليمه ( صلى الله عليه وسلم ) ) على نبينا وعليه ، إذ قال له : لا تخف إنك أنت الأعلى . وتعلق قوله : إن كنتم مؤمنين بالنهي ، فيكون ذلك هزاً للنفوس يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله ، وقلة المبالاة بالأعداء . أو بالجملة الخبرية : أي إنْ صدقتم بما وعدكم وبشركم به من الغلبة . ويكون شرطاً على بابه يحصل به الطعن على من ظهر نفاقه في ذلك اليوم ، أي : لا تكون الغلبة والعلو إلا للمؤمنين ، فاستمسكوا بالإيمان .
آل عمران : ( 140 ) إن يمسسكم قرح . . . . .
( ءانٍ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ ( المعنى : إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر ، ثم لم يضعفوا إنْ قاتلوكم بعد ذلك ، فلا تضعفوا أنتم . أو فقد مس القوم في غزوة أحد قبل مخالفة أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ونحوه ، فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون . وهذه تسلية منه تعالى للمؤمنين والتأسي فيه أعظم مسلاة . وقالت الخنساء : ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي

" صفحة رقم 68 "
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي
والمثلية تصدق بأدنى مشابهة . وقال ابن عباس والحسن : أصاب المؤمنين يوم أحد ما أصاب المشركين يوم بدر ، استشهد من المؤمنين يوم أحد سبعون . وقال الزمخشري : قتل يومئذ أي يوم أحد خلق من الكفار ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ) إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ( فعلى قوله يكون مس القوم قرح مثله يوم بدر . وأبعد من ذهب إلى أن القوم هنا الأمم التي قد خلت ، أي نال مؤمنهم من أذى كافرهم مثل الذي نالكم من أعدائكم . ثم كانت العاقبة للمؤمنين ، فلكم بهم أسوة . فإنّ تأسيكم بهم مما يخفف ألمكم ، ويثبت عند اللقاء أقدامكم .
وقرأ الأخوان وأبو بكر والأعمش من طريقة قُرح بضم القاف فيهما ، وباقي السبعة بالفتح ، والسبعة على تسكين الراء . قال أبو علي : والفتح أولى انتهى . ولا أولوية إذ كلاهما متواتر . وقرأ أبو السمال وابن السميقع قَرَح بفتح القاف والراء ، وهي لغة : كالطرد والطرد ، والشل والشلل . وقرأ الأعمش : إنْ تمسسكم بالتاء من فوق قروح بالجمع ، وجواب الشرط محذوف تقديره : فتأسوا فقد مس القوم قرح ، لأن الماضي معنى يمتنع أن يكون جواباً للشرط . ومن زعم أن جواب الشرط هو فقد مس ، فهو ذاهل .
( وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ( أخبر تعالى على سبيل التسلية أن الأيام على قديم الدهر لا تبقى لناس على حالة واحدة . والمراد بالأيام أوقات الغلبة والظفر ، يصرفها الله على ما أراد تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ، كما جاء الحرب سجال . وقال : فيوم علينا ويوم لنا
ويوم نساء ويوم نسر
وسمع بعض العرب الأقحاح قارئاً يقرأ هذه الآية فقال : إنما هو نداولها بين العرب ، فقيل له : إنما هو بين الناس ، فقال : أنا الله ، ذهب ملك العرب ورب الكعبة . وقرىء شاذاً . يداولها بالياء . وهو جار على الغيبة قبله وبعده . وقراءة النون فيها التفات ، وإخبار بنون العظمة المناسبة لمداولة الأيام ، والأيام : صفة لتلك ، أو بدل ، أو عطف بيان . والخبر نداولها ، أو خبر لتلك ، ونداولها جملة حالية .
( وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( هذه لام كي قبلها حرف العطف ، فتتعلق بمحذوف متأخر أي : فعلنا ذلك وهو المداولة ، أو نيل الكفار منكم . أو هو معطوف على سبب محذوف هو وعامله أي : فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم . هكذا قدّره الزمخشري وغيره ، ولم يعين فاعل العلة المحذوفة إنما كنى عنه بكيت وكيت ، ولا يكنى عن الشيء حتى يعرف . ففي هذا الوجه حذف العلة ، وحذف عاملها ، وإبهام فاعلها . فالوجه الأول أظهر إذ ليس فيه غير حذف العامل . ويعلم هنا ظاهره التعدي إلى واحد ، فيكون كعرف . وقيل : يتعدّى إلى ثنين ، الثاني محذوف تقديره : مميزين بالإيمان من غيرهم . أي الحكمة في هذه المداولة : أنْ يصير الذين آمنوا متميزين عن من يدعي الإيمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإسلام .
وعلم الله تعالى لا يتجدد ، بل لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها ، وهو من باب التمثيل بمعنى فعلنا ذلك فعْلَ مَنْ يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت . وقيل : معناه ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم أزلاً أنهم يؤمنون ، ويساوق علمه إيمانهم ووجودهم ، وإلا فقد علمهم في الأزل . إذْ علمه لا

" صفحة رقم 69 "
يطرأ عليه التغير . ومثلُه أن يضرب حاكم رجلاً ثم يبين سبب الضرب ويقول : فعلت هذا التبيين لا ضرب مستحقاً معناه : ليظهر أن فعلي وافق استحقاقه . وقيل : معناه وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء ، وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات . وقيل : العلم باق على مدلوله ، وهو على حذف مضاف التقدير : وليعلم أولياء الله ، فأسند ذلك إلى نفسه تفخيماً . ) وَيَتَّخِذُ مِنْهُمْ شُهَدَاء ( أي بالقتل في سبيله ، فيكرمهم بالشهادة . يعني يوم أحد . وقد ورد في فضل الشهيد غير ما آية وحديث . أو شهداء على الناس يوم القيامة أي وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلي به صبركم على الشدائد من قوله تعالى : ) لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ). والقول الأول أظهر وأليق بقصة أحد .
( وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( أي لا يحب من لا يكون ثابتاً على الإيمان صابراً على الجهاد . وفيه إشارة إلى أن من انخذل يوم أحد كعبد الله بن أبي وأتباعه من المنافقين ، فإنهم بانخذالهم ، لم يطهر إيمانهم بل نجم نفاقهم ، ولم يصلحوا لاتخاذهم شهداء بأن يقتلوا في سبيل الله . وذلك إشارة أيضاً إلى أن ما فعل من ادالة الكفار ، ليس سببه المحبة منه تعالى ، بل ما ذكر من الفوائد من ظهور إيمان المؤمن وثبوته ، واصطفائه من شاء من المؤمنين للشهادة . وهذه الجملة اعترضت بين بعض العلل وبعض ، لما فيها من التشديد والتأكيد . وأ مناط انتفاء المحبة هو الظلم ، وهو دليل على فحاشته وقبحه من سائر الأوصاف القبيحة .
آل عمران : ( 141 ) وليمحص الله الذين . . . . .
( وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( أي يطهرهم من الذنوب ، ويخلصهم من العيوب ، ويصفيهم . قال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي ومقاتل وابن قتيبة في آخرين : التمحيص الابتلاء والاختبار . قال الشاعر : رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففا
فكشفه التمحيص حتى بداليا
وقال الزجاج : التنقية والتخليص ، وذكره عن : المبرد ، وعن الخليل . وقيل : التطهير . وقال الفراء : هو على حذف مضاف ، أي وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا .
( وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ( أي يهلكهم شيئاً فشيئاً . والمعنى : أن الدولة إن كانت للكافرين على المؤمنين كانت سبباً لتمييز المؤمن من غيره ، وسبباً لاستشهاد من قتل منهم ، وسبباً لتطهير المؤمن من الذنب . فقد جمعت فوائد كثيرة للمؤمنين ، وإن كان النصر للمؤمنين على الكافرين كان سبباً لمحقهم بالكلية واستئصالهم قاله : ابن عباس . وقال ابن عباس أيضاً : ينقصهم ويقللهم ، وقاله : الفراء . وقال مقاتل : يذهب دعوتهم . وقيل : يحبط أعمالهم ، ذكره الزجاج ، فيكون على حذف مضاف .
والظاهر أن المراد بالكافرين هنا طائفة مخصوصة ، وهم الذين حاربوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . لأنه تعالى لم يمحق كل كافر ، بل كثير منهم باق على كفره . فلفظة الكافرين عام أريد به الخصوص . قيل : وقابل تمحيص المؤمن بمحق الكافر ، لأن التمحيص إهلاك الذنوب ، والمحق إهلاك النفوس ، وهي مقابلة لطيفة في المعنى انتهى . وفي ذكر ما يلحق المؤمن عند إدالة الكفار تسلية لهم وتبشير بهذه الفوائد الجليلة ، وأن تلك الإدالة لم تكن لهوانٍ بهم ، ولا تحط من أقدارهم ، بل لما ذكر تعالى .
وقد تضمنت هذه الآيات فنوناً من الفصاحة والبديع والبيان : من ذلك الاعتراض في : والله يحب المحسنين ، وفي : ومن يغفر الذنوب إلا الله ، وفي : والله لا يحب الظالمين . وتسمية الشيء باسم سببه في : إلى مغفرة من ربكم . والتشبيه في : عرضها السموات والأرض . وقيل : هذه استعارة وإضافة الحكم إلى الأكثر في أعدّت للمتقين ، وهي معدة لهم ولغيرهم من العصاة . والطباق في : السرّاء والضرّاء ، وفي : ولا تهنوا والأعلون ، لأن الوهن والعلو ضدان . وفي آمنوا

" صفحة رقم 70 "
والظالمين ، لأن الظالمين هنا هم الكافرون ، وفي : آمنوا ويمحق الكافرين . والعام يراد به الخاص في : والعافين عن الناس يعني من ظلمهم أو المماليك . والتكرار في : واتقوا الله ، واتقوا النار ، وفي لفظ الجلالة ، وفي والله يحب ، وذكروا الله ، وفي وليعلم الله ، والله لا يحب ، وليمحص الله ، وفي الذين ينفقون ، والذين إذا فعلوا . والاختصاص في : يحب المحسنين ، وفي : وهم يعلمون ، وفي : عاقبة المكذبين ، وفي : موعظة للمتقين ، وفي : إن كنتم مؤمنين ، وفي : لا يحب الظالمين ، وفي : وليمحص الله الذين آمنوا ، وفي : ويمحق الكافرين . والاستعارة في : فسيروا ، على أنه من سير الفكر لا القدم ، وفي : وأنتم الأعلون ، إذا لم تكن من علو المكان ، وفي : تلك الأيام نداولها ، وفي : وليمحص ويمحق ، والإشارة في هذا بيان . وفي : وتلك الأيام . وإدخال حرف الشرط في الأمر المحقق في : إن كنتم مؤمنين ، إذا علق عليه النهي والحذف في عدة مواضع .
2 ( ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاٌّ خِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِىأَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَأاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاٌّ خِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاٌّ مْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاٌّ خِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّه

" صفحة رقم 71 "
ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( )
آل عمران : ( 142 ) أم حسبتم أن . . . . .
كائن : كلمة يكثر بها بمعنى كم الخبرية . وقلَّ الاستفهام بها . والكاف للتشبيه ، دخلت على أي وزال معنى التشبيه ، هذا مذهب سيبويه والخليل ، والوقف على قولهما بغير تنوين . وزعم أبو الفتح : أنّ أيا وزنه فعل ، وهو مصدر أوى يأوى إذا انضم واجتمع ، أصله : أوى عمل فيه ما عمل في طي مصدر طوي . وهذا كله دعوى لا يقوم دليل على شيء منها . والذي يظهر أنه اسم مبني بسيط لا تركيب فيه ، يأتي للتكثير مثل كم ، وفيه لغات : الأولى وهي التي تقدمت . وكائن ومن ادعى أن هذه اسم فاعل من كان فقوله بعيد . وكئن على وزن كعن ، وكأين وكيين ، ويوقف عليها بالنون . وأكثر ما يجيء تمييزها مصحوباً بمن . ووهم ابن عصفور في قوله : إنه يلزمه مِنْ ، وإذا حذفت انتصب التمييز سواء أوليها أم لم يليها ، نحو قول الشاعر : أطرد اليأس بالرجاء فكاين
آلماً عم يسره بعد عسر
وقول الآخر : وكائن لنا فضلاً عليكم ونعمة
قديماً ولا تدرون ما من منعم
الرعب : الخوف ، رعبته فهو مرعوب . وأصله من الملي . يقال : سيل راعب يملأ الوادي ، ورعبت الحوض ملأته .
السلطان : الحجة والبرهان ، ومنه قيل للوالي : سلطان . وقيل : اشتقاق السلطان من السليط ، وهو ما يضيء به السراج من دهن السمسم . وقيل : السليط الحديد ، والسلاطة الحدة ، والسلاطة من التسليط وهو القهر . والسلطان من ذلك فالنون زائدة . والسليطة : المرأة الصخابة . والسليط : الرجل الفصيح اللسان .
المثوى : مفعل من ثوى يثوى أقام . يكون للمصدر والزمان والمكان ، والثواء : الإقامة بالمكان .
الحس : القتل الذريع ، يقال : حسه يحسه . قال الشاعر : حسسناهم بالسيف حساً فأصبحت
بقيتهم قد شردوا وتبدّدوا
وجراد محسوس قتله البرد ، وسنة حسوس أتت على كل شيء .
التنازع : الاختلاف ، وهو من النزع وهو الجذب . ونزع ينزع جذب ، وهو متعد إلى واحد . ونازع متعد إلى اثنين ، وتنازع متعد إلى واحد . قال : فلما تنازعنا الحديث وأسمحت
هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( هذه الآية وما بعدها عتب شديد لمن وقعت منهم الهفوات يوم أحد . واستفهم على سبيل الإنكار أنْ يظنَّ أحد أنْ يدخل الجنة وهو مخلّ بما افترض عليه من الجهاد والصبر عليه . والمراد بنفي العلم انتفاء متعلقه ، لأنه منتف بانتفائه كما قال تعالى : ) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ ( المعنى : لم يكن فيهم خير ، لأنّ ما لم يتعلق به علم الله تعالى موجوداً لا يكون موجوداً أبداً .
وأمْ هنا منقطعة في قول الأكثرين تتقدر ببل ، والهمزة على ما قرر في النحو . وقيل :

" صفحة رقم 72 "
هي بمعنى الهمزة . وقيل : أم متصلة . قال ابن بحر : هي عديلة همزة تتقدر من معنى ما تتقدم ، وذلك أنَّ قوله : ) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا ( إلى آخر القصة يقتضي أن يتبع ذلك : أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمل مشقة وأن تجاهدوا فيعلم الله ذلك منكم واقعاً . انتهى كلامه . وتقدّم لنا إبطال مثل هذا القول . وهذا الاستفهام الذي تضمنته معناه الإنكار والإضراب الذي تضمنته أيضاً هو ترك لما قبله من غير إبطال وأخذ فيما بعده .
وقال أبو مسلم الأصبهاني : أم حسبتم نهيٌ وقع بلفظ الاستفهام الذي يأتي للتبكيت . وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولما يقع منكم الجهاد . لما قال : ) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ( كان في معنى : أتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به ، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر . وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب الصبر على تحمل مشاقها ، وبين وجوه مصالحها في الدين والدنيا . فلما كان كذلك كان من البعد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه القاعدة انتهى كلامه . وظاهره : أن أم متصلة ، وخسبتم هنا بمعنى ظننتم الترجيحية ، وسدّ مسد مفعوليها أن وما بعدها على مذهب سيبويه ، وسد مسد مفعول واحد والثاني محذوف على مذهب أبي الحسن .
ولما يعلم : جملة حالية ، وهي نفي مؤكد لمعادلته للمثبت المؤكد بقد . فإذا قلت : قد قام زيد ففيه من التثبيت والتأكيد ما ليس في قولك : قام زيد . فإذا نفيته قلت : لما يقم زيد . وإذا قلت : قام زيد كان نفيه لم يقم زيد ، قاله سيبويه وغيره . وقال الزمخشري : ولما بمعنى لم ، إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدلَّ على نفي الجهاد فيما مضى ، وعلى توقعه فيما يستقبل . وتقول : وعدني أن يفعل كذا ، ولما تريد ، ولم يفعل ، وأنا أتوقع فعله انتهى كلامه . وهذا الذي قاله في لما أنَّها تدل على توقع الفعل المنهى بها فيما يستقبل ، لا أعلم أحداً من النحويين ذكره . بل ذكروا أنك إذا قلت : لما يخرج زيد دلَّ ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار . أمّا أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا ، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يقارب ما قاله الزمخشري . قال : لما لتعريض الوجود بخلاف لم .
وقرأ الجمهور بكسر الميم لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن وثاب والنخعي بفتحها ، وخرج على أنه اتباع لفتحة اللام وعلى إرادة النون الخفيفة وحذفها كما قال الشاعر : لا تهين الفقير علك أن
تركع يوماً والدهر قد رفعه
وقرأ الجمهور : ( ويعلم ) برفع الميم فقيل : هو مجزوم ، وأتبع الميم اللام في الفتح كقراءة من قرأ : ولما يعلم بفتح الميم على أحد التخريجين . وقيل : هو منصوب . فعلى مذهب البصريين بإضمار أن بعد واو مع نحو ، لا تأكل السمك وتشرب اللبن . وعلى مذهب الكوفيين بواو الصرف ، وتقرير المذهبين في علم النحو . وقرأ الحسن وابن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد بكسر الميم عطفاً على ولما يعلم . وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو ويعلم برفع الميم . قال الزمخشري : على أن الواو للحال كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون انتهى . ولا يصلح ما قال ، لأن واو الحال لا تدخل على المضارع ، لايجوز : جاء زيدو يضحك ، وأنت تريد جاء زيد يضحك ، لأن المضارع واقع موقع

" صفحة رقم 73 "
اسم الفاعل . فكما لا يجوز جاء زيد وضاحكاً ، كذلك لا يجوز جاء زيد ويضحك . فإنْ أوّلَ على أن المضارع خبرُ مبتدأ محذوف أمكن ذلك ، التقدير : وهو يعلم الصابرين كما أولوا قوله : نجوت وأرهنهم مالكاً ، أي وأنا أرهنهم . وخرج غير الزمخشري قراءة الرفع على استئناف الاخبار ، أي : وهو يعلم الصابرين .
وفي إنكار الله تعالى على من ظنّ أنّ دخول الجنة يكون مع انتفاء الجهاد ، والصبر عند لقاء العدوّ دليل على فرضية الجهاد إذ ذاك ، والثبات للعدوّ وقد ذكر في الحديث : ( أن التولي عند الزحف من السبع الموبقات ) .
آل عمران : ( 143 ) ولقد كنتم تمنون . . . . .
( وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( الخطاب للمؤمنين ، وظاهره العموم والمراد الخصوص . وذلك أن جماعة من المؤمنين لم يحضروا غزوة بدر ، إذ كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إنما خرج مبادراً يريد عير القريش ، فلم يظنوا حرباً ، وفاز أهل بدر بما فازوا به من الكرامة في الدنيا والآخرة ، فتمنوا لقاء العدوّ ليكون لهم يوم كيوم بدر ، وهم الذين حرضوا على الخروج لأحد . فلما كان في يوم أحد ما كان من قتل عبد الله بن قميئة مصعب بن عمير الذّاب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ظاناً أنه رسول الله وقال : قتلت محمداً وصرخ بذلك صارخ ، وفشاد ذلك في الناس انكفوا فارّين ، فدعاهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( إلي عباد الله ) حتى انحازت إليه طائفة واستعذروا عن انكفافهم قائلين : أتانا خبر قتلك ، فرعبت قلوبنا ، فولينا مدبرين ، فنزلت هذه الآية تلومهم على ما صدر منهم مع ما كانوا قرروا على أنفسهم من تمني الموت . وعبر عن ملاقاة الرجال ومجالدتهم بالحديد بالموت ، إذ هي حالة تتضمن في الأغلب الموت ، فلا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت . ومتمني الموت في الجهاد ليس متمنياً لغلبة الكافر المسلم ، إنما يجيء إلا من طابت نفسه بالموت . ومتمني الموت في الجهاد ليس متمنياً لغلبة الكافر المسلم ، إنما يجيء ذلك في الضمن لا أنه مقصود ، إنما مقصده نيل رتبة الشهادة لما فيه من الكرامة عند الله . وأنشد عبد الله بن رواحة وقد نهض إلى موته وقال لهم : ردّكم الله تعالى فقال : لكنني أسأل الرحمن مغفرة
وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
رشد الله من غاز وقد رشدا
) مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ ( : أي من قبل أن تشاهدوا شدائده ومضائقه . وضمير المفعول في تلقوه عائد على الموت ، وقيل : على العدوّ ، وأضمر لدلالة الكلام عليه . والأوّل أظهر ، لأنه يعود على مذكور . وقرأ النخعي والزهري : تلا قوه ومعناها ومعنى تلقوه سواء ، من حيثُ أنّ معنى لقي يتضمن أنه من اثنين ، وإنْ لم يكنْ على وزن فاعل . وقرأ مجاهد من قبلُ بضم اللام مقطوعاً عن الإضافة ، فيكون موضع أنْ تلقوه نصباً على أنه بدل اشتمال من الموت . فقد رأيتموه أي عاينتم أسبابه وهي الحرب المستعرة كما قال :
لقد رأيت الموت قبل ذوقه
وقال : ووجدت ريح الموت من تلقائهم
في مأزق والخيل لم تتبدّد

" صفحة رقم 74 "
وقيل : معنى الرؤية هنا العلم ، ويحتاج إلى حذف المفعول الثاني أي : فقد علمتم الموت حاضراً ، وحذف لدلالة المعنى عليه . وحذف أحد مفعولي ظن وأخواتها عزيز جداً ، ولذلك وقع فيه الخلاف بين النحويين . وقرأ طلحة بن مصرف . فلقد رأيتموه باللام ، وأنتم تنظرون جملة حالية للتأكيد ، ورفع ما يحتمله رأيتموه من المجاز أو من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين ، أي معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا ، فعلى هذا يكون متعلق النظر متعلق الرؤية ، وهذا قول الأخفش ، وهو الظاهر . وقيل : وأنتم بصراء أي ليس بأعينكم علة . ويرجع معناه إلى القول الأول ، وقاله الزجاج والأخفش أيضاً . وقيل : تنظرون إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وما فعل به . وقيل : تنظرون نظر تأمل بعد الرؤية . وقيل : تنظرون في أسباب النجاة والفرار ، وفي أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) هل قتل أم لا ؟ وقيل : تنظرون ما تمنيتم وهو عائد على الموت . وقيل : تنظرون في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب ، هل وفيتم أو خالفتم ؟ فعلى هذا المعنى لا تكون جملة حالية ، بل هي جملة مستأنفة الاخبار أتى بها على سبيل التوبيخ . فكأنه قيل : وأنتم حسباء أنفسكم فتأملوا قبح فعلكم . وهذه الآية وإن كانت صيغتها صيغة الخبر فمعناها العتب والإنكار على من انهزم يوم أحد ، وفيها محذوف أخيراً بعد قوله : فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ، أي تفرقهم بعد رؤية أسبابه وكشف الغيب ، أنَّ متعلق تمنيكم نكصتم عنه وقال ابن الأنباري : يقال : إنَّ معنى رأيتموه قابلتموه وأنتم تنظرون بعيونكم ، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حين اختلف معناهما ، لأن الأول بمعنى المقابلة والمواجهة والثاني بمعنى رؤية العين انتهى . ويكون إذ ذاك ، وأنتم تنظرون جملة في موضع الحال المبينة لا المؤكدة إلا أن المشهور في اللغة أن الرؤية هي الأبصار ، لا المقابلة والمواجهة .
آل عمران : ( 144 ) وما محمد إلا . . . . .
( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ( هذا استمرار في عتبهم آخر أن محمداً رسول كمن مضى من الرسل ، بلّغ عن الله كما بلغوا . وليس بقاء الرسل شرطاً في بقاء شرائعهم ، بل هم يموتون وتبقى شرائعهم يلتزمها أتباعهم . فكما مضت الرسل وانقضوا ، فكذلك حكمهم هو في ذلك واحد .
وقرأ الجمهور الرسل بالتعريف على سبيل التفخيم للرسل ، والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله . وفي مصحف عبد الله رسل بالتنكير ، وبها قرأ : ابن عباس ، وقحطان بن عبد الله . ووجهها أنه موضع تبشير لأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في معنى الحياة ، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك . وهكذا يتصل في أماكن الاقتضاء به بالشيء ومنه : ) وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ ( ) وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ( إلى غير ذلك . ذكر هذا الفرق بين التعريف والتنكير في نحو هذا المساق أبو الفتح ، وقراءة التعريف أوجه ، إذ تدل على تساوي كل في الخلق والموت ، فهذا الرسول هو مثلهم في ذلك .
( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن ( لما صرخ بأن محمداً قد قتل ، تزلزلت أقدام المؤمنين ورعبت قلوبهم وأمعنوا في الفرار ، وكانوا ثلاث فرق : فرقة قالت : ما نصنع بالحياة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؟ قاتلوا على ما قاتل عليه ، فقاتلوا حتى قتلوا ، منهم : أنس بن النضر . وفرقة قالوا : نلقى إليهم بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا . وفرقة أظهرت النفاق وقالوا : ارجعوا إلى دينكم الأوّل ، فلو كان محمد نبياً ما قتل .
وظاهر الانقلاب على العقبين هو الارتداد . وقيل : هو بالفرار لا الارتداد . وقد جاء هذا اللفظ في الارتداد والكفر في قوله : ( لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) وهذه الهمزة هي همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار . والفاء للعطف ، وأصلها التقديم . إذ التقدير : فأإن مات . لكنهم يعتنون بالاستفهام فيقدّممونه على حرف العطف ، وقد تقدّم لنا مثل هذا وخلاف الزمخشري فيه . وقال الخطيب كمال الدين الزملكاني : الأوجه أن يقدّر محذوف بعد الهمزة وقيل الفاء ، تكون الفاء عاطفة عليه . ولو صرّح به لقيل :

" صفحة رقم 75 "
أتؤمنون به مدة حياته ، فإن مات ارتددتم ، فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد وفاتهم انتهى . وهذه نزعة زمخشرية . وقد تقدم الكلام معه في نحو ذلك . وأن هذه الفاء إنما عطفت الجملة المستفهم عنها على الجملة الخبرية قبلها ، وهمزة الاستفهام داخلة على جملة الشرط وجزائه . وجزاؤه ، هو انقلبتم ، فلا تغير همزة الاستفهام شيئاً من أحكام الشرط وجزائه . فإذا كانا مضارعين كانا مجزومين نحو : أإن تأتني آتك . وذهب يونس إلى أن الفعل الثاني يبني على أداة الاستفهام ، فينوي به التقديم ، ولا بد إذ ذاك من جعل الفعل الأول ماضياً لأن جواب الشرط محذوف ، ولا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط لا يظهر فيه عمل لأداة الشرط ، فيلزم عنده أن تقول : أإن أكرمتني أكرمك . التقدير فيه : أكرمك أن أكرمتني ، ولا يجوز عنده إنْ تكرمني أكرمك بجزمهما أصلاً ، ولا إن تكرمني أكرمك بجزم الأول ورفع الثاني إلا في ضرورة الشعر . والكلام على هذه المسألة مستوفى في علم النحو . فعلى مذهب يونس : تكون همزة الاستفهام دخلت في التقدير على انقلبتم ، وهو ماض معناه الاستقبال ، لأنه مقيد بالموت أو بالقتل . وجواب الشرط عند يونس محذوف ، وبقول يونس : قال كثير من المفسرين في الآية قالوا : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ، لأن الغرض إنما هو أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد . ودخلت إنْ هنا على المحقق وليس من مظانها ، لأنه أورد مورد المشكوك فيه للتردد بين الموت والقتل ، وتجويزُ قتله عند أكثر المخاطبين . ألا ترى إليهم حين سمعوا أنه قتل اضطربوا وفروا ، وانقسموا إلى ثلاث فرق ، ومن ثبت منهم فقاتل حتى قتل ؟ قال بعضهم : يا قوم إنْ كان محمد قد قتل فإنَّ رب محمد لم يقتل ، موتوا على ما مات عليه . وقال بعضهم : إنْ كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم . فهذا يدل على تجويز أكثر المخاطبين لأن يقتل . فأمَّا العلم بأنه لا يقتل من جهة قوله تعالى : ) وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( فهو مختص بالعلماء من المؤمنين وذوي البصيرة منهم ، ومن سمع هذه الآية وعرف سبب نزولها .
( وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً ( أي مَنْ رجع إلى الكفر أو ارتدّ فاراً عن القتال وعن ما كان عليه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أمر الجهاد على التفسيرين السابقين . وهذه الجملة الشرطية هي عامة في أنَّ كل من انقلب على عقبيه فلا يضر إلا نفسه ، ولا يلحق من ذلك شيء لله تعالى ، لأنه تعالى لا يجوز عليه مضار العبد . ولم تقع ردّة من أحد من المسلمين في ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين .
وقرأ الجمهور على عقبيه بالتثنية . وقرأ ابن أبي إسحاق على عقبه بالإفراد ، وانتصاب شيئاً على المصدر . أي : شيئاً من الضرر لا قليلاً ولا كثيراً . والانقلاب على الأعقاب أو على العقبين أو العقب من باب التمثيل مثّل من يرجع إلى دينه الأول بمن ينقلب على عقبيه . وتضمنت هذه الجملة الوعيد الشديد .
( وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ( وعد عظيم بالجزاء . وجاء بالسين التي هي في قول بعضهم : قرينة التفسير في الاستقبال ، أي : لا يتأخر جزاء الله إياهم عنهم . والشاكرين هم الذين صبروا على دينه ، وصدقوا الله فيما وعدوه ، وثبتوا . شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام ، ولم يكفروها ، كأنس بن النضر ، وسعد بن الربيع ، والأنصاري الذي كان يتشخط في دمه ، وغيرهم ممن ثبت ذلك اليوم .
والشاكرون لفظ عام يندرج فيه كل شاكر فعلاً وقولاً . وقد تقدم الكلام على الشكر . وظاهر هذا الجزاء أنه في الآخرة . وقيل : في الدنيا بالرزق ، والتمكين في الأرض . وفسروا الشاكرين هنا بالثابتين على دينهم قاله : علي . وقال هو والحسن بن أبي الحسن أبو بكر ، أمير الشاكرين يشيران إلى ثباته يوم مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، واضطراب الناس إذ ذاك ، وثباته في أمر الردة وما قام به من أعباء الإسلام . وفسر أيضاً بالطائعين .
آل عمران : ( 145 ) وما كان لنفس . . . . .
( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ( قال الزمخشري : المعنى أن موت الأنفس محال أنْ تكون إلا

" صفحة رقم 76 "
بمشيئة الله ، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله له فيه تمثيلاً . ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك ، فليس له أن يقبض نفساً إلا بإذن من الله . وهو على معنيين : أحدهما : تحريضهم على الجهاد ، وتشجيعهم على لقاء العدو ، بإعلامهم أن الحذر لا ينفع ، وأن أحد إلا بموت قبل بلوغ أجله وإنْ خاض المهالك واقتحم المعارك . والثاني : ذكر ما صنع الله تعالى برسوله عند غلبة العدوّ ، والتفافهم عليه ، وإسلام قومه له نهزة للمختلسين من الحفظ والكلاء وتأخر الأجل انتهى كلام الزمخشري . وهو حسن وهو بسط كلام غيره من المفسرين أنه لا تموت نفس إلا بأجل محتوم . فالجبن لا يزيد في الحياة والشجاعة لا تنقص منها . وفي هذه الجملة تقوية للنفوس على الجهاد ، وفيها تسلية في موت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقول العرب : ما كان لزيد أن يفعل معناه انتفاء الفعل عن زيد وامتناعه . فتارة يكون الامتناع في مثل هذا التركيب لكونه ممتنعاً عقلاً كقوله تعالى : ) مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( وقوله : ) مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ( وتارة لكونه ممتنعاً عادة نحو : ما كان لزيد أن يطير . وتارة لكونه ممتنعاً شرعاً كقوله تعالى : ) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً ( وتارة ( وتارة لكونه ممتنعاً أدباً ، كقول أبي بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويفهم هذا من سياق الكلام . ولا تتضمن هذه الصيغة نهياً كما يقوله بعضهم .
وقوله : لنفس ، المراد الجنس لا نفس واحدة . ومعنى : إلا بإذن الله ، أي بتمكينه وتسويغه ذلك . وقد تقدم شرح الإذن ، والأحسن فيه أنه تمكين من الشيء مع العلم به ، فإنْ انضاف إلى ذلك قول فيكون أمراً . والمعنى : إلا بإذن الله للملك الموكل بالقبض . وأن تموت في موضع اسم كان ، ولنفس هو في موضع الخبر ، فيتعلق بمحذوف . وجعل بعضهم كان رائدة . فيكون أن تموت في موضع مبتدأ ، ولنفس في موضع خبره . وقدره الزجاج على المعنى فقال : وما كانت نفس لتموت ، فجعل ما كان اسماً خبراً ، وما كان خبراً اسماً ، ولا يريد بذلك الإعراب ، إنّما فسر من جهة المعنى . وقال أبو البقاء : اللام في : لنفس ، للتبيين متعلقة بكان انتهى . وهذا لا يتم إلا أن كانت كان تامة . وقول من قال : هي متعلقة بمحذوف تقديره : وما كان الموت لنفس وإن تموت ، تبيين للمحذوف مرغوب عنه ، لأن اسم كان إن كانت ناقصة أو الفاعل إن كانت تامة لا يجوز حذفه ، ولما في حذفه أنْ لو جاز من حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز على مذهب البصريين .
( ( وتارة لكونه ممتنعاً أدباً ، كقول أبي بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويفهم هذا من سياق الكلام . ولا تتضمن هذه الصيغة نهياً كما يقوله بعضهم .
وقوله : لنفس ، المراد الجنس لا نفس واحدة . ومعنى : إلا بإذن الله ، أي بتمكينه وتسويغه ذلك . وقد تقدم شرح الإذن ، والأحسن فيه أنه تمكين من الشيء مع العلم به ، فإنْ انضاف إلى ذلك قول فيكون أمراً . والمعنى : إلا بإذن الله للملك الموكل بالقبض . وأن تموت في موضع اسم كان ، ولنفس هو في موضع الخبر ، فيتعلق بمحذوف . وجعل بعضهم كان رائدة . فيكون أن تموت في موضع مبتدأ ، ولنفس في موضع خبره . وقدره الزجاج على المعنى فقال : وما كانت نفس لتموت ، فجعل ما كان اسماً خبراً ، وما كان خبراً اسماً ، ولا يريد بذلك الإعراب ، إنّما فسر من جهة المعنى . وقال أبو البقاء : اللام في : لنفس ، للتبيين متعلقة بكان انتهى . وهذا لا يتم إلا أن كانت كان تامة . وقول من قال : هي متعلقة بمحذوف تقديره : وما كان الموت لنفس وإن تموت ، تبيين للمحذوف مرغوب عنه ، لأن اسم كان إن كانت ناقصة أو الفاعل إن كانت تامة لا يجوز حذفه ، ولما في حذفه أنْ لو جاز من حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز على مذهب البصريين .
( كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ( أي له أجل لا يتقدم ولا يتأخر وفي هذا رد على المعتزلة في قولهم بالأجلينْ والكتابة هنا عبارة عن القضاء ، وقيل : مكتوباً في اللوح المحفوظ مبيناً فيه . ويحتمل هذا الكلام أن يكون جواباً لقولهم : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . وانتصاب كتاباً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة والتقدير : كتب الله كتاباً مؤجلاً ونظيره : ) كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ صُنْعَ اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ ). وقيل : هو منصوب على الإغراء ، أي الزموا وآمنوا بالقدر وهذا بعيد . وقال ابن عطية : كتاباً نصب على التمييز ، وهذا لا يظهر فإن التمييز كما قسمه النحاة ينقسم إلى منقول وغير منقول ، وأقسامه في النوعين محصورة ، وليس هذا واحداً منها .
( وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاْخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ( هذا تعريض بالذين رغبوا في الغنائم يوم أحد واشتغلوا بها ، والذين ثبتوا على القتال فيه ولم يشغلهم شيء عن نصرة الدين ، وهذا الجزاء من إيتاء الله من أراد ثواب الدنيا مشروط بمشيئة الله تعالى ، كما جاء في الآية الأخرى : ) عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ).
وقوله : ( نؤته بالنون فيهما ) وفي : سنجزي قراءة الجمهور وهو التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى تكلم بنون العظمة . وقرأ الأعمش : يؤته بالياء فيهما وفي سيجزي ، وهو جار على ما سبق من الغيبة . قال ابن عطية : وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه انتهى . وهو وهم ، وصوابه : على إضمار الفاعل ، والضمير عائد على الله . وظاهر التقسيم يقتضي اختصاص كل واحد بما أراد ، لأن من كانت نيته مقصورة على طلب دنياه لا نصيب له في

" صفحة رقم 77 "
الآخرة ، لكن من كانت نيته مقصورة على طلب الآخرة قد يؤتى نصيباً من الدنيا .
وللمفسرين فيها أقوال : نؤته نصيباً من الغنيمة لجهاده الكفار ، أو لم نحرمه ما قسمناه له إذ من طلب الدّنيا بعمل الآخرة نؤته منها ، وما له في الآخرة من نصيب . أو هي خاصة في أصحاب أحد أو من أراد ثواب الدنيا بالتعرض لها بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي عليها في الدنيا والآخرة .
( وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ ( وعدٌ لمن شكر نعم الله فقصر همه ونيته على طلب ثواب الآخرة . قال ابن فورك : وفيه إشارة إلى أنهم ينعمهم الله بنعيم الدنيا ، ولا يقصرهم على نعيم الآخرة . وأظهر الحرميان ، وعاصم ، وابن عامر في بعض طرق من رواية هشام ، وابن ذكوان دال يرد عند ثواب ، وأدغم في الوصل . وقرأ قالون والحلواني عن هشام من طريق : باختلاس الحركة ، وقرأ الباقون بالإشباع . وأما في الوقف فبالسكون للجميع . ووجه الإسكان أن الهاء لما وقعت موقع المحذوف الذي كان حقه لو لم يكن حرف علة أن يسكن ، فأعطيت الهاء ما تستحقه من السكون . ووجه الاختلاس بأنه استصحب ما كان للهاء قبل أن تحذف الياء ، لأنه قبل الحذف كان أصله يؤتيه والحذف عارض فلا يعتدّ به . ووجه الإشباع بأنّه جاز نظر إلى اللفظ وإنْ كانت الهاء متصلة بحركة والأولى ترك هذه التوجيهات . فإنّ اختلاس الضمة والكسرة بعد متحرك لغة حكاها الكسائي عن بني عقيل وبني كلاب . قال الكسائي : سمعت أعراب كلاب وعقيل يقولون : ) إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ ( ولربه لكنود بغير تمام وله مال ، وله مال . وغير بني كلاب وبني عقيل لا يوجد في كلامهم اختلاس ، ولا سكون في له وشبهه إلا في ضرورة نحو قول الشاعر :
له رجل كأنه صوت حاد
إذا طلب الوسيقة أو زَمير
وقول الآخر : واشرب الماء ما بي نحوه عطش
إلا لأن عيونه سيل واديها
آل عمران : ( 146 ) وكأين من نبي . . . . .
( وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَتْلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ ( لما كان من المؤمنين ما كان يوم أحد وعتب عليهم الله ما حذر منهم في الآيات التي تقدمت ، أخبرهم بأنّ الأمم السالفة قتلت أنبياء لهم كثيرون أو قتل ربيون كثير معهم ، فلم يلحقهم ما لحقكم من الوهن والضعف ، ولا ثناهم عن القتال فجعهم بقتل أنبيائهم ، أو قتل ربيبهم ، بل مضوا قدماً في نصرة دينهم صابرين على ما حل بهم . وقتل نبي أو أتباعه من أعظم المصاب ، فكذلك كان ينبغي لكم التأسي بمن مضى من صالحي الأمم السابقة ، هذا وأنتم خير الأمم ، ونبيكم خير الأنبياء . وفي هذه الجملة من العتب لمن فرّ عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقرأ الجمهور وكأين قالوا : وهي أصل الكلمة ، إذ هي أي دخل عليها كاف التشبيه ، وكتبت بنون في المصحف ، ووقف عليها أبو عمرو . وسورة بن المبارك عن الكسائي بياء دون نون ، ووقف الجمهور على النون اتباعاً للرسم . واعتل لذلك أبو علي الفارسي بما يوقف عليه في كلامه وذلك على عادة المعللين ، ومما جاء على هذه اللغة قول الشاعر : وكائن في المعاسر من أناس
أخوهم فوقهم وهم كرام
وقرأ ابن كثير : وكائن وهي أكثر استعمالاً في لسان العرب وأشعارها . قال : .
وكائن رددنا عنكم من مدجج

" صفحة رقم 78 "
وقرأ ابن محيصين والأشهب العقيلي : وكأين على مثال كعين . وقرأ بعض القراء من الشواذ كيئن ، وهو مقلوب قراءة ابن محيصين . وقرأ ابن محيصين أيضاً فيما حكاه الداني كان على مثال كع وقال الشاعر : كان صديق خلته صادق الأخا
أبان اختباري أنه لي مداهن
وقرأ الحسن كي بكاف بعدها ياء مكسورة منونة . وقد طول المفسرون ابن عطية وغيره بتعليل هذه التصرفات في كأين ، وبما عمل في كأين ، فلذلك أضربنا عن ذكره صفحاً .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو قتل مبنياً للمفعول ، وقتادة كذلك ، إلا أنه شدّد التاء ، وباقي السبعة قاتل بألف فعلاً ماضياً . وعلى كل من هذه القرآت يصلح أن يسند الفعل إلى الضمير ، فيكون صاحب الضمير هو الذي قتل أو قتل على معنى التكثير بالنسة لكثرة الأشخاص ، لا بالنسبة لفرد فرد . إذ القتل لا يتكثر في كل فرد فرد . أو هو قاتل ويكون قوله : معه ربيون محتملاً أن تكون جملة في موضع الحال ، فيرتفع ربيون بالابتداء ، والظرف قبله خبره ، ولم يحتج إلى الواو لأجل الضمير في معه العائد على ذي الحال ، ومحتملاً أن يرتفع ربيون على الفاعلية بالظرف ، ويكون الظرف هو الواقع حالاً التقدير : كائناً معه ربيون ، وهذا هو الأحسن . لأن وقوع الحال مفرداً أحسن من وقوعه جملة . وقد اعتمد الظرف لكونه وقع حالاً فيعمل وهي حال محكية ، فلذلك ارتفع ربيون بالظرف . وإنْ كان العامل ماضياً لأنه حكى الحال كقوله تعالى : ) وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ( وذلك على مذهب البصريين . وأما الكسائي وهشام فإنه يجوز عندهما إعمال اسم الفاعل الماضي غير المعرف بالألف واللام من غير تأويل ، بكونه حكاية حال ، ويصلح أن يسند الفعل إلى ربيون فلا يكون فيه ضمير ، ويكون الربيون هم الذين قتلوا أو قتلوا أو قاتلوا ، وموضع كأين رفع على الابتداء . والظاهر أن خبره بالجملة من قوله : قتل أو قتل أو قاتل ، سواء أرفع الفعل الضمير ، أم الربيين . وجوزوا أن يكون قتل إذا رفع الضمير في موضع الصفة ومعه ربيون في موضع الخبر كما تقول : كم من رجل صالح معه مال . أو في موضع الصفة فيكون قد وصف بكونه مقتولاً ، أو مقتلاً ، أو مقاتلاً ، وبكونه معه ربيون كثير . ويكون خبر كأين قد حذف تقديره : في الدنيا أو مضى . وهذا ضعيف ، لأن الكلام مستقل بنفسه لا يحتاج إلى تكلف إضمار . وأما إذا رفع الظاهر فجوزوا أن تكون الجملة الفعلية من قتل ومتعلقاتها في موضع الصفة لنبي ، والخبر محذوف . وهذا كما قلنا ضعيف . ولما ذكروا أن أصل كأين هو أي دخلت عليها كاف التشبيه فجرتها ، فهي عاملة فيها ، كما دخلت على ذا في قولهم : له عندي كذا . وكما دخلت على أنّ في قولهم : كأن ادعى أكثرهم إن كأن ، بقيت فيها الكاف على معنى التشبيه . وإن كذا ، وكأن ، زال عنهما معنى التشبيه . فعلى هذا لا تتعلق الكاف بشيء ، وصار معنى كأين معنى كم ، فلا تدل على التشبيه ألبتة . وقال الحوفي : أما العامل في الكاف فإن حملناها على حكم الأصل فمحمول على المعنى ، والمعنى : إصابتكم كإصابة من تقدّم من الأنبياء وأصحابهم . وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى كم ، كان العامل بتقدير الابتداء ، وكانت في موضع رفع وقتل الخبر . ومن متعلقة بمعنى الاستقرار ، والتقدير الأول أوضح لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى بما يجب من الخفض في أي . وإذا كانت أي على بابها من معاملة اللفظ ، فمن متعلقة بما تعلقت به الكاف من المعنى المدلول عليه انتهى كلامه . وهو كلام فيه غرابة . وجرهم إلى التخليط في هذه الكلمة ادّعاؤهم بأنها مركبة من : كاف التشبيه ، وإن أصلها أي : فجرت بكاف التشبيه . وهي دعوى لا يقوم على صحتها دليل . وقد ذكرنا رأينا فيها أنها بسيطة مبنية على السكون ، والنون من أصل الكلمة وليس بتنوين ، وحملت في البناء على نظيرتها كم . وإلى أن الفعل مسند إلى الضمير .
ذهب الطبري وجماعة ورجح ذلك بأن القصة هي سبب غزوة أحد ، وتخاذل المؤمنين حين قتل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فضرب المثل بنبي قتل . ويؤيد هذا

" صفحة رقم 79 "
الترجيح قوله : أفإن مات أو قتل . وقد قال ابن عباس في قوله : ) وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ ( النبي ، يتقل ، فكيف لا يخان ؟ وإذا أسند لغير النبي كان المعنى تثبيت المؤمنين لفقد مَن فقد منهم فقط . وإلى أن الفعل مسند إلى الربيين ذهب الحسن وجماعة . قال هو وابن جبير : لم يقتل نبي في حرب قط . وقال ابن : عطية قراءة من قرأ قاتل أعم في المدح ، لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي . ويحسن عندي على هذه القراءة إسناد الفعل إلى الربيين ، وعلى قراءة قتل إسناده إلى نبي انتهى كلامه . ونقول : قتل : يظهر أنها مدح ، وهي أبلغ في مقصود الخطاب ، لأنها نص في وقوع القتل ، ويستلزم المقاتلة . وقاتل : لا تدل على القتل ، إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل . قد تكون مقاتلة ولا يقع قتل . وما ذكر من أنه يحسن عنده ما ذكر لا يظهر حسنه ، بل القراءتان تحتملان الوجهين . وقال أبو الفتح بن جني : في قراءة قتادة لا يحسن أن يستند الفعل إلى الربيين لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل في قتل شخص واحد . فإن قيل : يستند إلى نبي مراعاة لمعنى كأين ، فالجواب : أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله : من نبي ، ودل الضمير المفرد في معه على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد ، فخرج الكلام على معنى كأين . قال أبو الفتح : وهذه القراءة تقوى قول من قال لمن قتل وقاتل : إنما يستند إلى الربيين . انتهى كلامه وليس بظاهر . لأن كأين مثل كم ، وأنت خبير إذا قلت : كم من عانٍ فككته ، فأفردت . راعيت لفظ كم ومعناها الجمع : وإذا قلت : كم من عان فككتهم ، راعيت معنى كم لا لفظها . وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير ، والمراد به الجمع . فلا فرق من حيثُ المعنى بين فككته وفككتهم ، كذلك لا فرق بين قتلوا معهم ربيون وقتل معه ربيون ، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارة ، ومراعاة المعنى تارة ، لأن مدلول كم وكأين كثير ، والمعنى جمع كثير . وإذا أخبرت عن جمع كثير فتارةً تفرد مراعاة للفظ ، وتارةً تجمع مراعاة للمعنى كما قال تعالى : ) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( فقال : منتصر ، وقال : ويولون . فأفرد منتصر ، وجمع في يولون . وقول أبي الفتح في جواب السؤال الذي فرضه : أن اللفظ قد جرى على جهة الإفراد في قوله : من نبي ، أي روعي لفظ كأين لكون تمييزها جاء مفرداً ، فناسب لما ميزت بمفرد أن يراعي لفظها ، والمعنى على الجمع . وقوله : ودل الضمير المفرد في معه على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد ، هذا المراد مشترك بين أن يفرد الضمير ، أو يجمع . لأن الضمير المفرد ليس معناه هنا إفراد مدلوله ، بل لا فرق بينه مفرداً ومجموعاً من حيث المعنى . وإذ لا فرق فدلالته عامة ، وهي دلالته على كل فرد فرد . وقوله : فخرج الكلام عن معنى كأين ، لم يخرج الكلام عن معنى كأين ، إنما خرج عن جمع الضمير على معني كأين دون لفظها ، لأنه إذا أفرد لفظاً لم يكن مدلوله مفرداً ، إنما يكون جمعاً كما قالوا : هو أحسن الفتيان وأجمله ، معناه : وأجملهم . ومن أسند قتل أو قتل إلى ربيون ، فالمعنى عنده : قتل بعضهم . كما تقول : قتل بنو فلان في وقعة كذا ، أي جماعة منهم .
والربي عابد الرب . وكسر الراء من تغيير النسب ، كما قالوا : أمسي في النسبة إلى أمس ، قاله : الأخفش . أو الجماعة قاله : أبو عبيدة . أو منسوب إلى الرّبة وهي الجماعة ، ثم جمع بالواو والنون قاله : الزجاج . أو الجماعة الكثيرة قاله : يونس بن حبيب . وربيون منسوب إليها . قال قطرب : جماعة العلماء على قول يونس ، وأمّا المفسرون فقال ابن مسعود ، وابن عباس : هم الألوف ، واختاره الفراء وغيره . عدد ذلك بعض المفسرين فقال : هم عشرة آلاف . وقال ابن عباس في رواية ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ،

" صفحة رقم 80 "
والسدي ، والربيع : هم الجماعات الكثيرة ، واختاره ابن قتيبة . وقال ابن عباس في رواية الحسن : هم العلماء الأتقياء الصبر على ما يصيبهم . واختاره اليزيدي والزجاج . وقال ابن زيد : الاتباع ، والربانيون الولاة . وقال ابن فارس : الصالحون العارفون بالله . وقيل : وزراء الأنبياء . وقال الضحاك : الربية الواحدة ألف ، والربيون جمعها . وقال الكلبي : الربية الواحدة عشرة آلاف . وقال النقاش : هم المكثرون العلم من قولهم : ربا الشيء بربو إذا كثر . وهذا لا يصح لاختلاف المادتين ، لأن ربا أصوله راء وباء وواو ، وأصول هذا راء وباء وباء . وقرأ الجمهور بكسر الراء . وقرأ علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، وأبو رجاء ، وعمرو بن عبيد ، وعطاء بن السائب بضم الراء ، وهو من تغيير النسب . كما قالوا : دهري بضم الدال ، وهو منسوب إلى الدهر الطويل . وقرأ ابن عباس فيما روى قتادة عنه : بفتح الراء . قال ابن جني : هي لغة تميم ، وكلها لغات والضمير في وهنوا عائد على الربيين ، إن كان الضمير في قتل عائداً على النبي . وإن كان ربيون مسنداً إليه الفعل مبنياً للفاعل ، فكذلك أو للمفعول ، فالضمير يعود على من بقي منهم ، إذ المعنى يدل عليه . إذ لا يصح عوده على ربيون لأجل العطف بالفاء ، لما أصابهم في سبيل الله بقتل أنبيائهم أو ربيبهم .
وقرأ الجمهور : وهنوا بفتح الهاء . وقرأ الأعمش ، والحسن ، وأبو السمال بكسرها . وهما لغتان ، وهن يهن كوعد يعد ، ووهن يوهن كوجل يوجل . وقرأ عكرمة وأبو السمال أيضاً : وهنوا بإسكان الهاء كما قالوا نعم في نعم ، وشهد في شهد . وتميم تسكن عين فعل .
وما ضعفوا عن الجهاد بعد ما أصابهم ، وقيل : ما ضعف يقينهم ، ولا انحلت عزيمتهم . وأصل الضعف نقصان القوة ، ثم يستعمل في الرأي والعقل . وقرىء ضعَفوا بفتح العين وحكاها الكسائي لغة .
وما استكانوا قال ابن إسحاق : ما قعدوا عن الجهاد في دينهم . وقال السدي : ما ذلوا . وقال عطاء : ما تضرعوا . وقال مقاتل : ما استسلموا . وقال أبو العالية : ما جبنوا . وقال المفضل : ما خشعوا . وقال قتادة والربيع : ما ارتدوا عن نصرتهم دينهم ، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بربهم . وكل هذه أقوال متقاربة . وهذا تعريض لما أصابهم يوم أحد من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وبضعفهم عند ذلك من مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم ، حين أراد بعضهم أن يعتضد بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان .
واستكان ظاهره أنه استفعل من الكون ، فتكون أصل ألفه واواً أو من قول العرب : مات فلان بكينة سوء ، أي بحالة سوء . وكأنه يكينه إذا خضعه قال هذا : الأزهري وأبو علي . فعلى قولهما أصل الألف ياء . وقال الفراء وطائفة من النحاة : أنه افتعل من السكون ، وأشبعت الفتحة فتولد منها ألف . كما قال : أعوذ بالله من العقراب ، يريد من العقرب . وهذا الإشباع لا يكون إلا في الشعر . وهذه الكلمة في جميع تصاريفها بنيت على هذا الحرف تقول : استكان بستكين فهو مستكين ومستكان له ، والإشباع لا يكون على هذا الحدّ .
( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ( أي على قتال

" صفحة رقم 81 "
عدوهم قاله : الجمهور . أو على دينهم وقتال الكفار . والظاهر العموم لكل صابر على ما أصابه من قتل في سبيل الله ، أو جرح ، أو بلاء ، أو أذى يناله بقولٍ أو فعلٍ أو مصيبة في نفسه ، أو أهله أو ماله ، أو ما يجري مجرى ذلك . وكثيراً ما تمدحت العرب بالصبر وحرصت عليه كما قال طرفة بن العبد : وتشكي النفس ما أصاب بها
فاصبري إنك من قوم صبر
إن تلاقي منفسياً لاتلفنا
فرح الخير ولا نكبو لضر
آل عمران : ( 147 ) وما كان قولهم . . . . .
( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( لما ذكر ما كانوا عليه من الجلد والصبر وعدم الوهن والاستكانة للعدو ، وذلك كله من الأفعال النفسانية التي يظهر أثرها على الجوارح ، ذكر ما كانوا عليه من الإنابة والاستغفار والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء ، وحصر قولهم في ذلك القول ، فلم يكن لهم ملجأ ولا مفزع إلا إلى الله تعالى ، ولا قول إلا هذا القول . لا ما كنتم عليه يوم أحد من الاضطراب ، واختلاف الأقوال . فمن قائل : نأخذ أماناً من أبي سفيان ، ومن قائل : نرجع إلى ديننا ، ومن قائل ما قال حين فرّ . وهؤلاء قد فجعوا بموت نبيهم أو ربيبهم لم يهنوا ، بل صبروا وقالوا هذا القول ، وهم ربيون أحبار هضماً لأنفسهم ، وإشعاراً أنَّ ما نزل من بلاد الدنيا إنما هو بذنوب من البشر ، كما كان في قصة أحد بعصيان من عصى .
وقرأ الجمهور قولهم بالنصب على أنه خبر كان . وإن قالوا في موضع الاسم ، جعلوا ما كان أعرف الاسم ، لأن إنَّ وصلتها تتنزل منزلة الضمير . وقولهم : مضاف للضمير ، يتنزل منزلة العلم . وقرأت طائفة منهم حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم فيما ذكره المهدوي برفع قولهم ، جعلوه اسم كان ، والخبران قالوا . والوجهان فصيحان ، وإن كان الأول أكثر . وقد قرىء : ثم لم تكن فتنتهم بالوجهين في السبعة ، وقدم طلب الاستغفار على طلب تثبيت الأقدام والنصرة ، ليكون طلبهم ذلك إلى الله عن زكاة وطهارة . فيكون طلبهم التثبيت بتقديم الاستغفار حرياً بالإجابة ، وذنوبنا وإسرافنا متقاربان من حيث المعنى ، فجاء ذلك على سبيل التأكيد .
وقيل : الذنوب ما دون الكبائر ، والإسراف الكبائر . وقال أبو عبيدة : الذنوب هي الخطايا ، وإسرافنا أي تفريطنا . وقال الضحاك : الذنوب عام ، والإسراف في الأمر الكبائر خاصة .
والإقدام هنا قيل : حقيقة ، دعوا بتثبيت الأقدام في مواطىء الحرب ولقاء العدوّ كي لا تزل . وقيل : المعنى شجّعْ قلوبنا على لقاء العدوّ . وقيل : ثبت قلوبنا على دينك . والأحسن حمله على الحقيقة لأنه من مظانها . وثبوت القدم في الحرب لا يكون إلا من ثبوت صاحبها في الدين . وكثيراً ما جاءت هذه اللفظة دائرة في الحرب ومع النصرة كقوله : ( أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا ) ) إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ ( وقيل : اغفر لنا ذنوبنا في المخالفة ، وإسرافنا في الهزيمة ، وثبت أقدامنا بالمصابرة ، وانصرنا على القوم الكافرين بالمجاهدة .
قال ابن فورك : في هذا الدعاء ردّ على القدرية لقولهم : إن الله لا يخلق أفعال العبد ، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعي فيما لم يفعله ، وفي هذا دليل على مشروعية الدعاء عند لقاء العدو ، وأن يدعو بهذا الدعاء المعين . وقد جاء في القرآن أدعية أعقب الله بالإجابة فيها
آل عمران : ( 148 ) فآتاهم الله ثواب . . . . .
( فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَةِ ( قرأ الجحدري : فأثابهم من الإثابة . ولمّا تقدم في دعائهم ما يتضمن الإجابة فيه الثوابين وهو قولهم : اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا ، فهذا يتضمن ثواب الآخرة . وثبت أقدامنا وانصرنا يتضمن ثواب الدنيا ، أخبر تعالى أنه منحهم الثوابين . وهناك بدؤا في الطلب بالأهم عندهم ، وهو ما ينشأ عنه ثواب الآخرة ، وهنا أخبر بما أعطاهم مقدماً . ذكر ثواب الدنيا ليكون ذلك إشعاراً لهم بقبول دعائهم وإجابتهم إلى طلبهم ،

" صفحة رقم 82 "
ولأن ذلك في الزمان متقدم على ثواب الآخرة . قال قتادة وابن إسحاق وغيرهما : ثواب الدنيا هو الظهور على عدوهم . وقال ابن جريج : هو الظفر والغنيمة . وقال الزمخشري : ثواب الدّنيا من النصرة والغنيمة والعز وطيب الذكر . وقال النقاش : ليس إلا الظفر والغلبة ، لأن الغنيمة لم تحل إلا لهذه الأمّة . وهذا صحيح ثبت في الحديث الصحيح : ( وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ) وهي إحدى الخمس الذي أوتيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولم يؤتها أحد قبله . وحسن ثواب الآخرة الجنة بلا خلاف قاله : ابن عطية . وقيل : الأجر والمغفرة . وخص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه ، وأنه هو المعتد به عنده ) تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَةَ ( وترغيباً في طلب ما يحصله من العمل الصالح ومناسبة لآخر الآية . قال علي : من عمل لدنياه أضرّ بآخرته ، ومن عمل لآخرته أضرّ بدنياه ، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام .
( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( قد فسر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الإحسان حين سئل عن حقيقته في حديث سؤال جبريل : ) ءانٍ تَعْبُدِ اللَّهِ كَأَنَّكَ ( وفسره المفسرون هنا بأحد قولين ، وهو من أحسن ما بينه وبين ربه في لزوم طاعته ، أو من ثبت في القتال مع نبيه حتى يقتل أو يغلب .
آل عمران : ( 149 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ ( الخطاب عامّ يتناول أهل أحد وغيرهم . وما زال الكفار مثابرين على رجوع المؤمنين عن دينهم ، ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء . وودُّوا لو تكفرون ، لن تنفعكم ) وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ). ) وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ( وقيل : الخطاب خاص بمن كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من المؤمنين يوم أحد . فعلى الأول علق على مطلق طاعتهم الرد على العقب والانقلاب بالخسران وهذا غاية في التحرز منهم والمجانبة لهم ، فلا يطاعون في شيء ولا يشاورون ، لأن ذلك يستجر إلى موافقتهم ، ويكون الذين كفروا عاماً . وعلى القول الثاني : يكون الذين كفروا خاصاً . فقال عليّ وابن عباس : هم المنافقون قالوا للمؤمنين لما رجعوا من أحد : لو كان نبياً ما أصابه الذي أصابه فارجعوا إلى إخوانكم . وقال ابن جريج : هم اليهود والنصارى وقاله : الحسن . وعنه : إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم لأنهم كانوا يستغوونهم ، ويوقعون لهم الشبه ، ويقولون : لو كان لكم نبياً حقاً لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم ، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس ، يوماً له ويوماً عليه .
وقال السدي : هم أبو سفيان وأصحابه من عباد الأوثان . وقال الحسن أيضاً : هو كعب وأصحابه . وقال أبو بكر الرّازي : فيها دلالة على النهي عن طاعة الكفار مطلقاً ، لكن أجمع المسلمون على أنه لا يندرج تحته من وثقنا بنصحه منهم ، كالجاسوس والخرّيت الذي يهدي إلى الطريق ، وصاحب الرأي ذي المصلحة الظاهرة ، والزوجة تشير بصواب . والردة هنا على العقب كناية عن الرجوع إلى الكفر . وخاسرين : أي مغبونين ببيعكم الآخرة .
آل عمران : ( 150 ) بل الله مولاكم . . . . .
( بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ( بل : لترك الكلام الأول من غير إبطال وأخذ في كلام غيره . والمعنى : ليس الكفار أولياء فيطاعوا في شيء ، بل الله مولاكم . وقرأ الحسن : بنصب الجلالة على معنى : بل أطيعوا الله ، لأن الشرط السابق يتضمن معنى النهي ، أي لا تطيعوا الكفار فتكفروا ، بل أطيعوا الله مولاكم .
( وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ( لما ذكر أنه مولاهم ، أي ناصرهم ذكر أنّه خير ناصر لا يحتاج معه إلى نصرة أحد ، ولا ولايته . وفي هذا

" صفحة رقم 83 "
دلالة على أن من قاتل لنصر دين الله لا يخذل ولا يغلب لأن الله مولاه . وقال تعالى : ) إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ( ) إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ).
آل عمران : ( 151 ) سنلقي في قلوب . . . . .
( سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ ( أي هؤلاء الكفار ، وإنْ كانوا ظاهرين عليكم يوم أحد فإنا نخذلهم بإلقاء الرعب في قلوبهم . وأتى بالسين القريبة الاستقبال ، وكذا وقع . لألقى الله في قلوبهم الرّعب يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب من المسلمين ، ولهم إذ ذاك القوة والغلبة . وقيل : ذهبوا إلى مكة ، فلما كانوا ببعض الطريق قالوا : ما صنعنا شيئاً قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرّعب في قلوبهم فأمسكوا . والإلقاء حقيقة في الإجرام ، واستعير هنا للجعل ، ونظيره : ) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( ومثله قول الشاعر : هما نفثا في فيّ من فمويهما
على النابح العاوي أشد رجام
وقرأ الجمهور : سنلقي بالنون ، وهو مشعر بعظم ما يلقي ، إذ أسنده إلى المتكلم بنون العظمة . وقرأ أيوب السختياني : سيلقي بالياء جرياً على الغيبة السابقة في قوله : ) وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ( وقدم في قلوبهم : وهو مجرور على المفعول للاهتمام بالمحل الملقى فيه قبل ذكر الملقى . وقرأ ابن عامر والكسائي : الرعب بضم العين ، والباقون بسكونها . فقيل : لغتان . وقيل : الأصل السكون ، وضم اتباعاً كالصبح والصبح . وقيل : الأصل الضم ، وسكن تخفيفاً ، كالرّسل والرسل . وذكروا في إلقاء الرعب في قلوب الكفار يوم أحد قصة طويلة أردنا أن لا نخلي الكتاب من شيء منها ، فلخصنا منها أن علياً أخبر الرسول بأن أبا سفيان وأصحابه حين ارتحلوا ركبوا الإبل وجنبوا الخيل ، فسرَّ بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثم رجع الرسول إلى المدينة فتجهزوا تبع المشركين إلى حمراء الأسد . وأن معبد الخزاعي جاء إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو كافر ممتعض مما حل بالمسلمين ، وكانت خزاعة تميل إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأن المشركين هموا بالرجوع إلى القتال فخذلهم صفوان بن أمية ومعبد . وقال معبد : خرجوا يتحرقون عليكم في جمع لم أر مثله ، ولم أر إلا نواصي خيلهم قد جاءتكم . وحملني ما رأيت أني قلت في ذلك شعراً وأنشد : كادت تهد من الأصوات راحلتي
إذ سالت الأرض بالحرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابله
عند اللقاء ولا ميل مهازيل
فظلت أعدو أظن الأرض مائلة
لما سموا برئيس غير مخذول
إلى آخر الشعر ، فوقع الرعب في قلوب الكفار . وقوله : سنلقي ، وعد للمؤمنين بالنصر بعد أحد ، والظفر . وقال : ) خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ( وفيها دلالة على صدق نبوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذ أخبر عن الله بأنه يلقي الرعب في قلوبهم فكان كما أخبر به .
( بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً ( الباء للسبب ، وما مصدرية : أي بسبب إشراكهم بالله آلهة لم ينزل بإشراكها حجة ولا برهاناً ، وتسليط النفي على الإنزال ، والمقصود : نفي السلطان ، أي آلهة لا سلطان في إشراكها ، فينزل نحو قوله :
على لاحب لا يهتدى بمناره

" صفحة رقم 84 "
أي لا منار له فيهتدى به وقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر
أي لا ينجحر الضب فيرى بها . والمرادُ نفي السلطان والنزول معاً . وكان الإشراك بالله سبباً لإلقاء الرعب ، لأنهم يكرهون الموت ويؤثرون الحياة ، إذ لم تتعلق آمالهم بالآخرة ولا بثواب فيها ولا عقاب ، فصار اعتقادهم ذلك مؤثراً في الرغبة في الحياة الدنيا كما قالوا : ) وَأَنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( وفي قوله : ما لم ينزل به سلطاناً ، دليل على إبطال التقليد ، إذ لا برهان مع المقلد .
( وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ( أخبر تعالى بأن مصيرهم ومرجعهم إلى النار فهم في الدنيا مرعوبون وفي الآخرة معذبون ، بسبب إشراكهم . فهو جالب لهم الشر في الدنيا والآخرة .
( وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ( بالغ في ذم مثواهم والمخصوص بالذم محذوف ، أي : وبئس مثوى الظالمين النار . وجعل النار مأواهم ومثواهم . وبدأ بالمأوى وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ولا يلزم منه الثواء ، لأن الثواء دال على الإقامة ، فجعلها مأوى ومثوى كما قال تعالى : ) وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ( ونبه على الوصف الذي استحقوا به النار وهو الظلم ، ومجاوزة الحد إذ أشركوا بالله غيره . كما قال : ) إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ).
آل عمران : ( 152 ) ولقد صدقكم الله . . . . .
( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا ( هذا جواب لمن رجع إلى المدينة من المؤمنين قالوا : وعدنا الله النصر والإمداد بالملائكة ، فمن أي وجه أتينا فنزلت إعلاماً أنه تعالى صدقهم الوعد ونصرهم على أعدائهم أولاً ، وكان الإمداد مشروطاً بالصبر والتقوى . واتفق من بعضهم من المخالفة ما نص الله في كتابه ، وجاءت المخاطبة بجمع ضمير المؤمنين في هذه الآيات ، وإنْ كان لم يصدر ما يعاتب عليه من جميعهم ، وذلك على طريقة العرب في نسبة ما يقع من بعضهم للجميع على سبيل التجوز ، وفي ذلك إبقاء على مع فعل وستر ، إذ لم يعين وزجر لمن لم يفعل أن يفعل .
وصدق الوعد : هو أنهم هزموا المشركين أولاً ، وكان لعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب والزبير وأبي دجانة وعاصم بن أبي الأفلح بلاء عظلم في ذلك اليوم ، وهو مذكور في السير . وكان المشركون في ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس . والمسلمون في سبعمائة رجل . وتعدت صدق هنا لى اثنين ، ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر ، تقول : صدقت زيداً الحديث ، وصدقت زيداً في الحديث ، ذكرها بعض النحويين في باب ما يتعدى إلى اثنين . ويجوز أن يتعدى إلى الثاني بحرف الجر ، فيكون من باب استغفر . واختار والعامل في إذ صدقكم .
ومعنى تحسونهم : تقتلونهم . وكانوا قتلوا من المشركين اثنين وعشرين رجلاً . وقرأ عبيد بن عمير تحسونهم رباعياً من الإحساس ، أي تذهبون حسهم بالقتل . وتمني القتل بوقت الفشل وهو : الجبن ، والضعف .
والتنازع وهو التجاذب في الأمر . وهذا التنازع صدر من الرماة . كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد رتب الرماة على فم الوادي وقال : ( اثبتوا مكانكم ، وإن رأيتمونا هزمناهم ، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم ) ووعدهم بالنصر إن انتهوا إلى أمره . فلما انهزم المشركون قال بعض الرماة : قد انهزموا فما موقفنا هنا ؟ الغنيمة الغنيمة ، الحقوا بالمسلمين . وقال بعضهم : بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : التنازع هو ما صدر من المسلمين من الاختلاف حين صيح أن محمداً قد قتل .
والعصيان هو ذهاب من ذهب من الرماة من مكانه طلباً للنهب والغنيمة ، وكان خالد حين رأى قلة الرماة صاح في خيله وحمل على مَنْ بقي من الرماة فقتلهم ، وحمل على عسكر المسلمين فتراجع المشركون ، فأصيب من المسلمين يومئذ سبعون رجلاً .
من بعد ما أراكم ما تحبون ، وهو ظفر المؤمنين وغلبتهم . قال الزبير بن العوام : لقد رأيتني أنظر إلى

" صفحة رقم 85 "
خدم هند وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا .
وإذاً في قوله : إذا فشلتم ، قيل : بمعنى إذ ، وحتى حرف جر ولا جواب لها إذ ذاك ، ويتعلق بتحسونهم أي : تقتلونهم إلى هذا الوقت . وقيل : حتى حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية ، كما تدخل على جمل الابتداء والجواب ملفوظ به وهو قوله : وتنازعتم على زيادة الواو ، قاله : الفراء وغيره . وثم صرفكم على زيادة ثم ، وهذان القولان واللذان قبلهما ضعاف . والصحيح : أنه محذوف لدلالة المعنى عليه ، فقدره ابن عطية : انهزمتم . والزمخشري : منعكم نصرة ، وغيرهما : امتحنتم . والتقادير متقاربة . وحذفُ جواب الشرط لفهم المعنى جائز لقوله تعالى : ) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الاْرْضِ أَوْ ( تقديره فافعل ويظهر أن الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو : انقسمتم إلى قسمين . ويدل عليه ما بعده ، وهو نظير : ) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ( التقدير : انقسموا قسمين : فمنهم مقتصد لا يقال : كيف ، يقال : انقسموا فيمن فشل وتنازع ، وعصى . لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلهم ، بل من بعضهم كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية .
وقال أبو بكر الرازي : دلت هذه الآية على تقدم وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر على عدوهم ما لم يعصوا بتنازعهم وفشلهم ، وكان كما أخبر به هزموهم وقتلوا ، ودل ذلك على صدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) النبي بأن الأخبار بالغيوب من خصائص الربوبية وصفات الألوهية لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله عليها ، ولا ينتهي علمها إلينا إلا على لسان رسول يخبر بها عن الله تعالى . ) مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَةَ ( قال ابن عباس وجمهور المفسرين : الدنيا الغنيمة . وقال ابن مسعود ، ما شعرنا أن أحداً من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ، والذين أرادوا الآخرة هم الذين ثبتوا في مركزهم مع أميرهم عبد الله بن جبير في نفر دون العشرة قتلوا جميعاً ، وكان الرماة خمسين ذهب منهم نيف على أربعين للنهب وعصوا الأمر . وممن أراد الآخرة من ثبت بعد تخلخل المسلمين فقاتل حتى قتل ، كأنس بن النضر وغيره ممن لم يضطرب في قتاله ولا في دينه . وهاتان الجملتان اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف . ) ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ( أي جعلكم تنصرفون . ) لِيَبْتَلِيَكُمْ ( أي ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها . وقيل : صرفكم عنهم أي لم تتماد الكسرة عليكم فيستأصلوكم . وقيل : المعنى لم يكلفكم طلبهم عقيب انصرافهم . وتأولته المعتزلة على معنى : ثم انصرفتم عنهم ، فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين ابتلاء للمؤمنين . وقيل : معنى ليبتليكم أي لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص . ) وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ( قيل : عن عقوبتكم على فراركم ، ولم يؤاخذكم به . وقيل : برد العدو عنكم . وقيل : بترك الأمر بالعود إلى قتالهم من فوركم . وقيل : بترك الاستئصال بعد المعصية والمخالفة . فمعنى عفا عنكم أبقى عليكم .
قال الحسن : قتل منهم جماعة سبعون ، وقتل عم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وشج وجهه وكسرت رباعيته . وإنما العفو إن لم يستأصلهم هؤلاء مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وفي سبيل الله غضاب لله يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم . يا فسق الفاسقين اليوم يحل كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم انتهى كلام الحسن . والظاهر أن العفو إنما هو عن الذنب ، أي لم يؤاخذكم بالعصيان . ويدل عليه قرينة قوله :

" صفحة رقم 86 "
وعصيتم . والمعنى : أن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بكم ، فعفا عنكم ، فهو إخبار بالعفو عما كان يستحق بالذنب من العقاب . وقال بهذا : ابن جريج ، وابن إسحاق ، وجماعة . وفيه مع ذلك تحذير . ) وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( أي في الأحوال ، أو بالعفو .
وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع ضروباً : من ذلك الاستفهام الذي معناه الإنكار في : أم حسبتم . والتجنيس المماثل في : انقلبتم ومن ينقلب ، وفي ثواب الدنيا وحسن ثواب . والمغاير في قولهم : إلا أن قالوا . وتسمية الشيء باسم سببه في : تمنون الموت أي الجهاد في سبيل الله ، وفي قوله : وثبت أقدامنا فيمن فسر ذلك بالقلوب ، لأن ثبات الأقدام متسبب عن ثبات القلوب . والالتفات في : وسنجزي الشاكرين . والتكرار في : ولما يعلم ويعلم لاختلاف المتعلق . أو للتنبيه على فضل الصابر . وفي : أفإن مات أو قتل لأن العرف في الموت خلاف العرف في القتل ، والمعنى : مفارقة الروح الجسد فهو واحد . ومن في ومن يرد ثواب الجملتين ، وفي : ذنوبنا وإسرافنا في قول من سوى بينهما ، وفي : ثواب وحسن ثواب . وفي : لفظ الجلالة ، وفي : منكم من يريد الجملتين . والتقسيم في : ومن يرد وفي منكم من يريد . والاختصاص في : الشاكرين ، والصابرين ، والمؤمنين . والطباق : في آمنوا أن تطيعوا الذين كفروا . والتشبيه في : يردّوكم على أعقابكم ، شبه الرجوع عن الدين بالراجع القهقري ، والذي حبط عمله بالكفر بالخاسر الذي ضاع ربحه ورأس ماله وبالمنقلب الذي يروح في طريق ويغدو في أخرى ، وفي قوله : سنلقى . وقيل : هذا كله استعارة . والحذف في عدة مواضع .
2 ( ) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِىأُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاٌّ مْرِ مِن شَىْءٍ قُلْ إِنَّ الاٌّ مْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِىأَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاٌّ مْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الاٌّ رْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيىِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله

" صفحة رقم 87 "
تُحْشَرُونَ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاٌّ مْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( )
آل عمران : ( 153 ) إذ تصعدون ولا . . . . .
الإصعاد : ابتداء السفر ، والمخرج . والصعود : مصدر صعد رقى من سفل إلى علو ، قاله : الفراء ، وأبو حاتم والزجاج . وقال القتبي : أصعد أبعد في الذهاب ، فكأنه إبعاد كإبعاد الارتفاع . قال : ألا أيهذا السائلي أين صعدت
فإن لها في أرض يثرب موعدا
وأنشد أبو عبيدة : قد كنت تبكيني على الاصعاد
فاليوم سرحت وصاح الحادي
وقال المفضل : صعد ، وأصعد ، وصعد بمعنى واحد . والصعيد : وجه الأرض . وصعدة : إسم من أسماء الأرض . وأصعد : معناه دخل في الصعيد .
فات الشيء أعجز إدراكه ، وهو متعد ، ومصدره : فوت ، وهو قياس فعل المتعدي .
النعاس : النوم الخفيف . يقال : نعس ينعس نعاساً فهو ناعس ، ولا يقال : نعسان . وقال الفراء : قد سمعتها ولكني لا أشتهيها .
المضجع : المكان الذي يتكأ فيه للنوم ، ومنه : ) وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ ( والمضاجع : المصارع ، وهي أماكن القتل ، سميت بذلك لضجعة المقتول فيها .
الغزو القصد وكذلك المغزى ، ثم أطلق على قصد مخصوص وهو : الإيقاع بالعدو . وتقول : غزا بني فلان ، أوقع بهم القتل والنهب وما أشبه ذلك . وغزى : جمع غازٍ ، كعاف وعفى . وقالوا : غزاء بالمدر . وكلاهما لا ينقاس . أجرى جمع فاعل الصفة من المعتل اللام مجرى صحيحها ، كركع وصوام . والقياس : فعله كقاض وقضاة . ويقال : أغزت الناقة عسر لقاحها . وأتان مغزية تأخر نتاجها ثم تنتج .
يقال : لأن الشيء يلين ، فهو ليّن . والمصدر : لين ولَيان بفتح اللام ، وأصله في الجرم وهو نعومته ، وانتفاء خشونته ، ولا يدرك إلا باللمس . ثم

" صفحة رقم 88 "
توسعوا ونقلوه إلى المعاني .
الفظاظة الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً . قال الشاعر في ابنة له : أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ
وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
الغلظ : أصله في الجرم ، وهو تكثر أجزائه . ثم يستعمل في قلة الانفعال والإشفاق والرحمة . كما قال : يبكي علينا ولا نبكي على أحد
لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
الانفضاض : التفرق . وفضضت الشيء كسرتُه ، وهو تفرقة أجزائه .
الخذل والخذلان : هو الترك في موضع يحتاج فيه إلى التارك . وأصله : من خذل الظبي ، ولهذا قيل لها : خاذل إذا تركتها أمها . وهذا على النسب أي ذات خذل ، لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى مخذولة ، ويقال : خاذلة . قال الشاعر : بجيد مغزلة إدماء خاذلة
من الظباء تراعي شادناً خرقا
ويقال أيضاً لها : خذول فعول ، بمعنى مفعول . قال : خذول تراعي ربرباً بخميلة
تناول أطراف البريد وترتدي
الغلول : أخذ المال من الغنيمة في خفاء . والفعل منه غلَّ يَغُلُّ بضم الغين . والغل الضغن ، والفعل منه غلَّ يغِلُ بكسر الغين . وقال أبو علي : تقول العرب : أغل الرجل إغلالاً ، خان في الأمانة . قال النمر : جزى الله عني جمرة بن نوفل
جزاء مغل بالأمانة كاذب
وقال بعض النحويين : الغلول مأخوذ من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والروح . ويقال أيضاً في الغلول : أغل إغلالاً وأغلّ الحارز سرق شيئاً من اللحم مع الجلد . ويقال : أغله وجده غالاً كقولك : أبخلته وجدته بخيلاً . السخط مصدر سخط ، جاء على القياس . ويقال فيه : السُخْطُ بضم السين وسكون الخاء . ويقال : مات فلان في سخطة الملك أي في سخطة . والسخط الكراهة المفرطة ، ويقابله الرضا . ) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ

" صفحة رقم 89 "
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ } هذه الجمل التي تضمنت التوبيخ والعتب الشديد . إذ هو تذكار بفرار من فرّ وبالغ في الهرب ، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يدعوه إليه . فمن شدّة الفرار واشتغاله بنفسه وهو يروم نجاتها لم يصغ إلى دعاء الرسول ، وهذا من أعظم العتب حيث فرّ ، والحالة أن رسول الله يدعوه إليه .
وقرأ الجمهور : تصعدون مضارع أصعد ، والهمزة في أصعد للدخول . أي : دخلتم في الصعيد ، ذهبتم فيه . كما تقول : أصب ح زيد ، أي دخل في الصباح . فالمعنى : إذ تذهبون في الأرض . وتبين ذلك قراءة أبي : إذ تصعدون في الوادي . وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن ومجاهد وقتادة واليزيدي : تصعدون من صعد في الجبل إذا ارتقى إليه . وقرأ أبو حيرة : تصعدون من تصعد في السلم ، وأصله : تتصعدون ، فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في ذلك ، أي تاء المضارعة ؟ أم تاء تفعل ؟ والجمع بينهما أنهم أولاً أصعدوا في الوادي لما أرهقهم العدو ، وصعدوا في الجبل . وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل : يصعدون ولا يلوون بالياء على الخروج من الخطاب إلى الغائب . والعامل في إذا ذكر محذوفة . أو عصيتم ، أو تنازعتم ، أو فشلتم ، أو عفا عنكم ، أو ليبتليكم ، أو صرفكم ، وهذان عن الزمخشري ، وما قبله عن ابن عطية . والثلاثة قبله بعيدة لطول الفصل . والأول جيد ، لأنَّ ما قبل إذ جمل مستقلة يحسن السكوت عليها ، فليس لها تعلق إعرابي بما بعدها ، إنما تتعلق به من حيث أنَّ السياق كله في قصة واحدة . وتعلقه بصرفكم جيد من حيث المعنى ، وبعفا عنكم جيد من حيث القرب .
ومعنى ولا تلوون على أحد : أي لا ترجعون لأحد من شدة الفرار . لوى بكذا ذهب به . ولوى عليه : كر عليه وعطف . وهذا أشد في المبالغة من قوله :
أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا
لأنه في الآية نفي عام ، وفي هذا نفي خاص ، وهو على من تعذرا ، وقال دريد بن الصمة : وهل يرد المنهزم شيء وقرىء تلؤن بإبدال واو وهمزة وذلك لكراهة إجتماع الواوين وقياس هذه الواو المضمومة ، أن لاتبدل همزة لأن الضمة فيها عارضة ، ومتى وقعت الواو غير ، وهي مضمومة فلا يجوز الإبدال منها همزة إلا بشرطين أحدهما : أن تكون الضمة لازمة . الثاني : أن لا تكون يمكن تخفيفها بالإسكان . مثال ذلك : فووج وفوول . وغوور . فهنا يجوز فؤوج وقؤول وغؤور بالهمز . ومثل كونها عارضة : هذا دلوك . ومثل إمكان تخفيفها بالإسكان : هذا سور ، ونور ، جمع سوار ونوار . فإنك تقول فيهما : سور ونور . ونبه بعض أصحابنا على شرط آخر وهو لا بد منه ، وهو : أن لا يكون مدغماً فيها نحو : تعود ، فلا يجوز فيه تعوذ بإبدال الواو المضمومة همزة . وزاد بعض النحويين شرطاً آخر وهو : أن لا تكون الواو زائدة نحو : الترهوك وهذا الشرط ليس مجمعاً عليه . وقرأ الحسن : تلون ، وخرجوها على قراءة من همز الواو ، ونقل الحركة إلى اللام ، وحذف الهمزة . قال ابن عطية : وحذفت إحدى الواوين الساكنين ، وكان قد قال في هذه القراءة : هي قراءة متركبة على قراءة من همز الواو المضمومة ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام انتهى . وهذا كلام عجيب تخيل هذا الرجل أنه قد نقلت الحركة إلى اللام فاجتمع واوان ساكنان ، إحداهما : الواو التي هي عين الكلمة ، والأخرى : واو الضمير . فحذفت إحدى الواوين لأنهما ساكنان ، وهذا قول من لم يمعن في صناعة النحو . لأنها إذا كانت متركبة على لغة من همز الواو ثم نقل حركتها إلى اللام ، فإن الهمزة إذ ذاك تحذف ، ولا يلتقي واوان ساكنان . ولو قال : استثقلت الضمة على الواو ، لأن الضمة كأنها واو ، فصار ذلك كأنه جمع ثلاث واواوت ، فتنقلب الضمة إلى اللام ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الأولى منهما ، ولم يبهم في قوله إحدى الواوين لأمكن ذلك في توجيه هذه القراءة الشاذة ، أما أنْ يبنى ذلك على أنه على لغة من همز على زعمه ، فلا يتصور . ويحتمل أن يكون مضارع ولي وعدي بعلي ، على تضمين معنى العطف . أي : لا تعطفون على أحد . وقرأ

" صفحة رقم 90 "
الأعمش وأبو بكر في رواية عن عاصم : تلوون من ألوى ، وهي لغة في لوى . وظاهر قوله على أحد العموم .
وقيل : المراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعبر بأحد عنه تعظيماً له وصوناً لاسمه أن يذكر عند ذهابهم عنه ، قاله : ابن عباس والكلبي .
وقرأ حميد بن قيس على أُحُد بضم الهمزة والحاء ، وهو الجبل . قال ابن عطية : والقراءة الشهيرة أقوى ، لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرّ الناس عنه ، وهذه الحال من أصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم انتهى . وقال غيره : الخطاب فيه لمن أمعن في الهرب ولم يصعد الجبل على من صعد . ويجوز أن يكون أراد بقوله : ولا تلوون على أحد ، أي من كان على جبل أحد ، وهو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومن معه الذين صعدوا . وتلوون هو من ليّ العنق ، لأن مَن عرج على الشيء يلوي عنقه ، أو عنان دابته . والألف واللام في الرسول للعهد . ودعاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، روي أنه كان يقول : ( إليّ عباد الله ) والناس يفرون عنه . وروي : ( أي عباد الله ارجعوا ) قاله : ابن عباس : وفي رواية : ( ارجعوا إليّ فإني رسول الله من يكر له الجنة ) وهو قول : السدي ، والربيع . قال القرطبي : وكان دعاؤه تغيير للمنكر ، ومحال أن يرى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه .
ومعنى في أخراكم : أي في ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، وهي المتأخرة . يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم ، كما تقول : في أولهم وأولاهم بتأويل مقدّمتهم وجماعتهم الأولى . وفي قوله : في أخراكم دلالة عظيمة على شجاعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإن الوقوف على أعقاب الشجعان وهم فرار والثبات فيه إنما هو للأبطال الأنجاد ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أشجع الناس . قال سلمة : كنا إذا احمرّ البأس اتقيناه برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ ( الفاعل بأثابكم هو الله تعالى . وقال الفراء : الإثابة هنا بمعنى المغالبة انتهى . وسمى الغم ثواباً على معنى أنه قائم في هذه النازلة مقام الثواب الذي كان يحصل لولا الفرار . فهو نظير قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
وقوله : أخاف زياد أن يكون عطاؤه
أداهم سوداً أو محدرجة سمرا
جعل القيود والسياط عطاء ، ومحدرجة بمعنى مدحرجة . والباء في بغم : إمّا أن تكون للمصاحبة ، أو للسبب . فإن كانت للمصاحبة وهي التي عبر بعضهم عنها بمعنى : مع . والمعنى : غماً مصاحباً لغم ، فيكون الغمان إذ ذاك لهم . فالأول : هو ما أصابهم من الهزيمة والقتل . والثاني : إشراف خالد بخيل المشركين عليهم ، قاله : ابن عباس ، ومقاتل . وقيل : الغم الأوّل سببه فرارهم الأوّل ، والثاني سببه فرارهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل قاله : مجاهد . وقيل : الأوّل ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من الجراح والقتل . والثاني حين سمعوا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قتل ، قاله : قتادة والربيع . وقيل : عكس هذا الترتيب ، وعزاه ابن عطية إلى قتادة ومجاهد . وقيل : الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح . والثاني : إشراف أبي سفيان عليهم ، ذكره الثعلبي . وقيل : الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق . والثاني : إشراف أبي

" صفحة رقم 91 "
سفيان على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومن كان معه ، قاله : السدي ومجاهد أيضاً وغيرهما . وعبر الزمخشري عن هذا المعنى وهو اجتماع الغمين لهم بقوله : غماً بعد غم ، وغماً متصلاً بغم من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والجرح ، والقتل ، وظفر المشركين ، وفوت الغنيمة ، والنصر انتهى كلامه . وقوله : غماً بعد غم تفسير للمعنى ، لا تفسير إعراب . لأن الباء لا تكون بمعنى بعد . وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك . ولذلك قال بعضهم : إن المعنى غماً على غم ، فينبغي أن يحمل على تفسير المعنى ، وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك . ولذلك قالبعضهم : إن المعنى غماً على غم ، فينبغي أن يحمل على تفسير المعنى ، وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك . وإن كانت الباء للسبب وهي التي عبر بعضهم عنها أنها بمعنى الجزا ، فيكون الغم الأوّل للصحابة . والثاني قال الحسن وغيره : متعلقه المشركون يوم بدر . والمعنى : أثابكم غماً بالغم الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر . قال ابن عطية : فالباء على هذا باء معادلة ، كما قال أبو سفيان يوم بدر : والحرب سجال . وقال قوم منهم الزجاج ، وتبعه الزمخشري : متعلقه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمعنى : جازاكم غماً بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وسائر المؤمنين بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير في : فأثابكم للرسول ، أي فآساكم في الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم ، فأثابكم عما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم ، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم ، كيلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ، ولا على ما أصابكم من غلبة العدوّ انتهى كلامه . وهو خلاف الظاهر . لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو الله تعالى ، وذلك في قوله : ) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ ( وقوله : ) ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ( ) وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ( والله فيكون قوله : ) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ ( وقوله : ) ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ( ) وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ( والله فيكون قوله : فأثابكم مسنداً إلى الله تعالى . وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعى عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يده يدعوهم ، فلم يجيء مقصوداً لأن يحدث عنه ، إنما الجملة التي ذكر فيها في تقدير المفرد إذ هي حال . وقال الزمخشري : فأثابكم عطف على صرفكم انتهى . وفيه بعدٌ لطول الفصل بين المتعاطفين . والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون ، لأنه مضارع في معنى الماضي ، لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي ، إذ هي ظرف لما مضى . والمعنى : إذ صعدتم وما لويتم على أحد فأثابكم .
( لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ ( اللام لام كي ، وتتعلق بقوله : فأثابكم . فقيل : لا زائدة لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن . فالمعنى : على أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم موافقتهم قاله : أبو البقاء وغيره . وتكون كهي في قوله : ) لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ( إذ تقديره : لأن يعلم . ويكون أعلمهم بذلك تبكيتاً لهم ، وزجراً أنْ يعودوا لمثله . والجمهور على أن لا ثابتة على معناها من النفي . واختلفوا في تعليل الإثابة بانتفاء الحزن على ما ذكر .
فقال الزمخشري : لكيلا تحزنوا لتتمرّنوا على تجرع الغموم ، وتضروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار انتهى . فجعل العلة في الحقيقة ثبوتية ، وهي التمرن على تجرع الغموم والاعتياد لاحتمال الشدائد ، ورتب على ذلك انتفاء الحزن ، وجعل ظرف الحزن هو مستقبل لا تعلق به بقصة أحد ، بل لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة . وقال ابن عطية : المعنى لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم أذيتم أنفسكم . وعادة البشر أنَّ جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما وقع هو مع ظنه البراءة بنفسه انتهى . وهذا تفسير مخالف لتفسير الزمخشري . ومن المفسرين من ذهب إلى أن قوله :

" صفحة رقم 92 "
لكيلا تحزنوا متعلق بقوله : ولقد عفا عنكم ، ويكون الله أعلمهم بذلك تسلية لمصابهم وعوضاً لهم عن ما أصابهم من الغم ، لأن عفوه يذهب كل غم . وفيه بعد لطول الفصل ، ولأن ظاهره تعلقه بمجاورة وهو فأثابكم .
قال ابن عباس : والذي فاتهم من الغنيمة ، والذي أصابهم من الفشل والهزيمة ، ومما تحتمله الآية : أنه لما ذكر اصعادهم وفرارهم مجدّين في الهرب في حال ادعاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) إليه بالرجوع عن الهرب والانحياز إلى فئته ، كان الجد في الهرب سبباً لاتصال الغموم بهم ، وشغلهم بأنفسهم طلباً للنجاة من الموت ، فصار ذلك أي : شغلهم بأنفسهم واغتمامهم المتصل بهم من جهة خوف القتل سبباً لانتفاء الحزن على فائت من الغنيمة ، ومصاب من الجراح والقتل لإخوانهم ، كأنه قيل : صاروا في حالة من اغتمامهم واهتمامم بنجاة أنفسهم بحيث لا يخطر لهم ببال حزن على شيء فايت ولا مصاب وإن جل ، فقد شغلهم بأنفسهم لينتفي الحزن منهم . ) وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( هذه الجملة تقتضي تهديداً ، وخص العمل هنا وإن كان تعالى خبيراً بجميع الأحوال من الأعمال والأقوال والنيات ، تنبيهاً على أعمالهم من تولية الأدبار والمبالغة في الفرار ، وهي أعمال تخشى عاقبتها وعقابها .
آل عمران : ( 154 ) ثم أنزل عليكم . . . . .
( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً ( الأمنة : الأمن ، قاله : ابن قتيبة وغيره . وفرق آخرون فقالوا : الأمنة تكون مع بقاء أسباب الخوف ، والأمن يكون مع زوال أسبابه . وقرأ الجمهور : أمنة بفتح الميم ، على أنه بمعنى الأمن . أو جمع آمن كبار وبرره ، ويأتي إعرابه . وقرأ النخعي وابن محيصن : أمْنة بسكون الميم ، بمعنى الأمن . ومعنى الآية : امتنان الله عليهم بأمنهم بعد الخوف والغم ، بحيث صاروا من الأمن ينامون . وذلك أن الشديد الخوف والغم لا يكاد ينام . ونقل المفسرون ما أخبرت به الصحابة من غلبة النوم الذي غشيهم كأبي طلحة : والزبير ، وابن مسعود . واختلفوا في الوقت الذي غشيهم فيه النعاس .
فقال الجمهور : حين ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لعلي وكان من المتحيزين إليه : ( إذهب فانظر إلى القوم فإنْ كانوا جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عائدون إلى المدينة فاتقوا الله واصبروا ) ووطنهم على القتال ، فمضى علي ثم رجع فأخبر : أنهم جنبوا الخيل ، وقعدوا على أثقالهم عجالاً ، فأمن المؤمنون المصدقون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وألقى الله تعالى عليهم النعاس . وبقي المنافقون الذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أنّ أبا سفيان يؤم المدينة ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية . وثبت في البخاري من حديث أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، وفي طريق رفعت رأسي فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته . وهذا يدل على أنهم غشيهم النعاس وهم في المصاف وسياق الآية والحديث الأول يدلان على خلاف ذلك . قال تعالى ) فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ ). والغم كان بعد أن كسروا وتفرقوا عن مصافهم ورحل المشركون عنهم . والجمع بين هذين القولين : أن المصاف الذي أخبر عنه أبو طلحة كان في الجبل بعد الكسرة ، أشرف عليهم أبو سفيان من علو في الخيل الكثيرة ، فرماهم من كان انحاز إلى الجبل من الصحابة بالحجارة ، وأغنى هناك عمر حتى أنزلوهم ، وما زالوا صافين حتى جاءهم خبر قريش أنهم عزموا على الرّحيل إلى مكة ، فأنزل الله عليهم النعاس في ذلك الموطن ، فأمنوا ولم يأمن المنافقون . والفاعل بانزل ضمير يعود على الله تعالى ، وهو معطوف على فأثابكم . وعليكم يدل على تجلل النعاس واستعلائه وغلبته ، ونسبة الإنزال مجاز لأن حقيقته في الإجرام . وأعربوا أمنة مفعولاً بأنزل ، ونعاساً بدل منه ، وهو بدل اشتمال . لأن كلاًّ منهما قد يتصور اشتماله على الآخر ، أو يتصور اشتمال العامل عليهما على الخلاف في ذلك . أو عطف بيان ، ولا

" صفحة رقم 93 "
يجوز على رأي الجمهور من البصريين لأن من شرط عطف البيان عندهم أن يكون في المعارف . أو مفعول من أجله وهو ضعيف ، لاختلال أحد الشروط وهو : اتحاد الفاعل ، ففاعل الإنزال هو الله تعالى ، وفاعل النعاس هو المنزل عليهم ، وهذا الشرط هو على مذهب الجمهور من النحويين . وقيل : نعاساً هو مفعول أنزل ، وأمنة حال منه ، لأنه في الأصل نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال . التقدير : نعاساً ذا أمنة ، لأن النعاس ليس هو الأمن . أو حال من المجرور على تقدير : ذوي أمنة . أو على أنه جمع آمن ، أي آمنين ، أو مفعول من أجله أي لأمنة قاله : الزمخشري ، وهو ضعيف بما ضعفنا به قول من أعرب نعاساً مفعولاً من أجله .
( يَغْشَى طَائِفَةً مّنْكُمْ ( هم المؤمنون . ويدل هذا على أن قوله : ثم أنزل عليكم ، عام مخصوص ، لأنه في الحقيقة ما أنزل إلا على من آمن .
وقرأ حمزة والكسائي : تغشى بالتاء حملاً على لفظ أمنة هكذا قالوا . وقالوا : الجملة في موضع الصفة ، وهذا ليس بواضح ، لأن النحويين نصوا على أن الصفة مقدمة على البدل وعلى عطف البيان إذا اجتمعت . فمن أعرب نعاساً بدلاً أو عطف بيان لا يتم له ذلك ، لأنه مخالف لهذه القاعدة ، ومن أعربه مفعولاً من أجله ففيه أيضاً الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الفضلة . وفي جواز ذلك نظر مع ما نبهنا عليه من فوات الشرط وهو : اتحاد الفاعل . فإن جعلت تغشى جملة مستأنفة وكأنها جواب لسؤال من سأل : ما حكم هذه الأمنة ؟ فأخبر تعالى تغشى طائفة منكم ، جاز ذلك . وقال ابن عطية : أسند الفعل إلى ضمير المبدل منه انتهى . لما أعرب نعاساً بدلاً من أمنة ، كان القياس أن يحدث عن البدل لا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه . فإذا قلت : إن هنداً حسنها فاتن ، كان الخبر عن حسنها ، هذا هو المشهور في كلام العرب . وأجاز بعض أصحابنا أن يخبر عن المبدل منه كما أجاز ذلك ابن عطية في الآية ، واستدل على ذلك بقوله : إن السيوف غدوها ورواحها
تركت هوازن مثل قرن الأعضب
ويقول الآخر : وكأنه لهق السراة كأنه
ما حاجبيه معين بسواد
فقال : تركت ، ولم يقل تركاً . وقال معين : ولم يقل معينان ، فأعاد الضمير على المبدل منه وهو السيوف ، والضمير في كأنه ولم يعد على البدل وهي : غدوها ورواحها وحاجبيه . وما زائدة بين المبدل منه والبدل . ولا حجة فيما استدل به لاحتمال أن يكون انتصاب غدوها ورواحها على الظرف لا على البدل ، ولاحتمال أن يكون معين خبراً عن حاجبيه ، لأنه يجوز أن يخبر عن الاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ، كاليدين والرجلين والعينين والحاجبين إخبار الواحد . كما قال : لمن زحلوقه زل
بها العينان تنهل
وقال : وكأنّ في العينين حبّ قرنفل
أو سنبلاً كحلت به فانهلت
فقال تنهل وكحلت به ، ولم يقل تنهلان ولا كحلتا به وهذا كما أجازوا أن يخبر عن الواحد من هذين إخبار المثنى ، قال :

" صفحة رقم 94 "
إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى
بصحراء فلج ظلتا تكفان
فقال : ظلتا ولم يقل : ظلت تكف . وقرأ الباقون : يغشى بالياء ، حمله على لفظ النعاس .
( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَىْء قُلْ إِنَّ ( قال مكي : أجمع المفسرون على أن هذه الطائفة هم المنافقون ، وقالوا : غشي النعاس أهل الإيمان والإخلاص ، فكان سبباً لأمنهم وثباتهم . وعرى منه أهل النفاق والشك ، فكان سبباً لجزعهم وانكشافهم عن مراتبهم في مصافهم انتهى .
ويقال : أهمني الشيء ، أي : كان من همي وقصدي . أي : مما أهم به أو قصد . وأهمني الأمر أقلقني وأدخلني في الهم ، أي الغم . فعلى هذا اختلف المفسرون في قد أهمتهم أنفسهم . فقال قتادة والرّبيع وابن إسحاق وأكثرهم : هو بمعنى الغم ، والمعنى : أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة قد جلبت إليهم خوف القتل ، وهذا معنى قول الزمخشري : أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الغموم والأشجان ، فهم في التشاكي . وقال بعض المفسرين : هو مِن هَمَّ بالشيء أراد فعله . والمعنى : أهمتهم أنفسهم المكاشفة ونبذ الدين . وهذا القول من قال : قد قتل محمد فنلرجع إلى ديننا الأول ، ونحو هذا من الأقوال . وقال الزمخشري في قوله : قد أهمتهم أنفسهم ، ما بهم إلا همّ أنفسهم ، لا هم الدّين ، ولا هم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمسلمين انتهى . فيكون من قولهم : أهمني الشيء أي : كان من همي وإرادتي . والمعنى : أهمهم خلاص أنفسهم خاصة ، أي : كان من همهم وإرادتهم خلاص أنفسهم فقط ، ومن غير الحق يظنون أن الإسلام ليس بحق ، وأن أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يذهب ويزول .
ومعنى ظن الجاهلية عند الجمهور : المدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام ، كما قال : ) حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ( ) وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ ( وكما تقول : شعر الجاهلية . وقال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأساً دهاقاً . وقال بعض المفسرين : المعنى ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه ، ونحا إلى هذا القول : قتادة والطبري . قال مقاتل : ظنوا أن أمره مضمحل . وقال الزجاج : إن مدّته قد انقضت . وقال الضحاك عن ابن عباس : ظنوا أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد قتل . وقيل : ظن الجاهلية إبطال النبوّات والشرائع . وقيل : يأسهم من نصر الله وشكهم في سابق وعده بالنصرة . وقيل : يظنون أن الحق ما عليه الكفار ، فلذلك نصروا . وقيل : كذبوا بالقدر . قال الزمخشري : وظن الجاهلية كقولك : خاتم الجود ورجل صدق ، تريد الظن المختص بالملة الجاهلية . ويجوز أنْ يراد ظن أهل الجاهلية ، أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله . انتهى وظاهر قوله : هل لنا من الأمر من شيء الاستفهام ؟ فقيل : سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، هل لهم معاشر المسلمين من النصر والظهور على العدوّ شي أي نصيب ؟ وأجيبوا بقوله : ) قُلْ إِنَّ الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ ( وهو النصر والغلبة . كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ، وأن جندنا لهم الغالبون . وقيل : المعنى ليس النصر لنا ، بل هو للمشركين . وقال قتادة وابن جريج : قيل لعبد الله بن أبيّ بن سلول : قتل بنو الخزرج ، فقال : وهل لنا من الأمر من شيء ؟ يريد : أن الرأي ليس لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا ولم نخرج ولم يقتل أحد منا . وهذا منهم قول بأجلين . وذكر المهدوي وابن فورك : أن المعنى لسنا على حق في اتباع محمد . ويضعف هذا التأويل الرد عليهم بقوله : قل . فأفهم أن كلامهم إنما هو في معنى سوء الرأي في الخروج ، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد .
وعلى هذا المعنى وما قبله من قول قتادة وابن جريج يكون الاستفهام معناه النفي . ولما أكد في كلامهم بزيادة من في قوله : من شيء ، جاء الكلام مؤكداً بأنَّ ، وبولغ في توكيد العموم بقوله : كله لله . فكان الجواب أبلغ .
والخطاب بقوله : قل ، متوجه إلى الرسول بلا خلاف .

" صفحة رقم 95 "
والذي يظهر أنه استفهام باق على حقيقته ، لأنهم أجيبوا بقوله : قل إن الأمر كله لله . ولو كان معناه النفي لم يجابوا بذلك ، لأنّ من نفي عن نفسه أن يكون له شيء من الأمر لا يجاوب بذلك ، إلا إنْ قدر مع جملة النفي جملة ثبوتية لغيرهم ، فكان المعنى : ليس لنا من الأمر من شيء بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه ، فيمكن أن يكون ذلك جواباً لهذا المقدّر . وهذه الجملة الجوابية معترضة بين الجمل التي أخبر الله بها عنهم .
والواو في قوله : وطائفة ، واو الحال . وطائفة مبتدأ ، والجملة المتصلة به خبره . وجاز الابتداء بالنكرة هنا إذ فيه مسوغان : أحدهما : واو الحال وقد ذكرها بعضهم في المسوغات ، ولم يذكر ذلك أكثر أصحابنا وقال الشاعر : سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا
محياك أخفى ضوؤه كل شارق
والمسوغ الثاني : أن الموضع موضع تفصيل . إذ المعنى : يغشى طائفة منكم ، وطائفة لم يناموا ، فصار نظير قوله : إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
بشق وشق عندنا لم يحوّل
ونصب طائفة على أن تكون المسألة من باب الاشتغال على هذا التقدير من الإعراب جائز . ويجوز أن يكون قد أهمتهم في موضع الصفة ، ويظنون الخبر . ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً ، والجملتان صفتان ، التقدير : ومنكم طائفة . ويجوز أن يكون يظنون حالاً من الضمير في أهمتهم ، وانتصاب غير الحق . قال أبو البقاء : على أنه مفعول أول لتظنون ، أي أمراً غير الحق ، وبالله الثاني . وقال الزمخشري : غير الحق في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون بالله ظن الجاهلية ، وغير الحق تأكيد ليظنون كقولك : هذا القول غير ما تقول ، وهذا القول لا قولك ، انتهى . فعلى هذا لم يذكر ليظنون مفعولين ، وتكون الباء ظرفية كما تقول : ظننت بزيد . وإذا كان كذلك لم تتعد ظننت إلى مفعولين ، وإنما المعنى : جعلت مكان ظني زيداً . وقد نص النحويون على هذا . وعليه : فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج
سراتهم في السائريّ المسرد
أي : اجعلوا مكان ظنكم ألفي مدحج . وانتصاب ظن على أنه مصدر تشبيهي ، أي : ظناً مثل ظن الجاهلية . ويجوز في : يقولون أن يكون صفة ، أو حالاً من الضمير في يظنون ، أو خبراً بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار في غير ما اتفقوا على جواز تعداده . ومن شيء في موضع مبتدأ ، إذ من زائدة ، وخبره في لنا ، ومن الأمر في موضع الحال ، لأنه لو تأخر عن شيء لكان نعتاً له ، فيتعلق بمحذوف . وأجاز أبو البقاء أن يكون من الأمر هو الخبر ، ولنا تبيين وبه تتم الفائدة كقوله تعالى : ) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( وهذا لا يجوز : لأن ما جاء للتبيين العامل فيه مقدر ، وتقديره : أعني لنا هو جملة أخرى ، فيبقى المبتدأ والخبر جملة لا تستقل بالفائدة ، وذلك لا يجوز . وأما تمثيله بقوله : ولم يكن له كفواً أحد فهما لا سواء ، لأن له معمول لكفواً ، وليس تبييناً . فيكون عامله مقدراً ، والمعنى : ولم يكن أحد كفواً له ، أي مكافياً له ، فصار نظير لم يكن له ضار بالعمرو ، فقوله : لعمرو ليس تبينناً ، بل معمولاً لضارب . وقرأ الجمهور كله بالنصب تأكيداً للأمر . وقرأ أبو عمر : وكله على أنه مبتدأ ، ويجوز أن يعرب توكيداً للأمر على الموضع على مذهب من يجيز ذلك وهو : الجرمي ، والزجاج ، والفراء . قال ابن عطية : ورجح الناس قراءة

" صفحة رقم 96 "
الجمهور ، لأن التأكيد أملك بلفظة كلّ انتهى . ولا ترجيح ، إذ كل من القراءتين متواتر ، والابتداء بكل كثير في لسان العرب .
( يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ ( قيل : معناه يتسترون بهذه الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة . ويحتمل أن يكون إخباراً عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزغات . وقيل : الذي أخفوه قولهم : لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا . وقيل : الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد .
( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاْمْرِ شَىْء مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ( قال الزبير بن العوام فيما أسند عنه الطبري : والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف والنعاسُ يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . ومعتب هذا شهد بدراً ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وكان مغموصاً عليه بالنفاق . والمعنى : ما قتل إشرافنا وخيارنا ، وهذا إطلاق اسم الكل على البعض مجازاً .
وقوله : يقولون ، يجوز أن يكون هو الذي أخفوه ، فيكون ذلك تفسيراً بعد إبهام قوله : ما لا يبدون لك . ومعناه : يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض .
وقوله : من الأمر ، فسَّر الأمر هنا بما فسر في قول عبد الله بن أبي بن سلول : هل لنا من الأمر من شيء . فقيل : المعنى لو كان الأمر كما قال محمد إن الأمر كله لله ولأوليائه وإنهم الغالبون ، لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة ، وقيل : من الرأي والتدبير . وقيل : من دين محمد . أي لسنا على حق في اتباعه .
وجواب لو هو الجملة المنفية بما . وإذا نفيت بما فالفصيح أن لا تدخل عليه اللام .
قيل : وفي قصة أحد اضطراب . ففي أولها أن عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين رجعوا ولم يشهدوا أحداً ، فعلى هذا يكون قالوا هذا بالمدينة ، ولم يقتل أحد منهم ولا من أصحابهم بالمدينة ، وإنما قتلوا بأحد ، فكيف جاء قوله هاهنا ، وحديث الزبير في سماعه معتباً يقول ذلك دليل على أن معتباً حضر أحداً ؟ فإن صح حديث الزبير فيكون قد تخلف عن عبد الله بعض المنافقين وحضر أحداً ، فيتجه قوله هاهنا ، وإنْ لم يصح فيوجه قوله : هاهنا إلى أنه إشارة إلى أحد إشارة القريب الحاضر لقرب أحد من المدينة . ) قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ( هذا النوع عند علماء البيان يسمى الاحتجاج النظري : وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدلّ عليه بضروب من المعقول نحو : ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( ) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ( ) أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ ( وبعضهم يسميه : المذهب الكلامي . ومنه قول الشاعر : جرى القضاء بما فيه فإن تلم
فلا ملام على ما خط بالقلم
وكتب : بمعنى فرض ، أو قضى وحتم ، أو خط في اللوح ، أو كتب ذلك الملك عليهم وهم أجنة ، أقوال . ومعنى الآية : أنه لو تخلفتم في البيوت لخرج من حتم عليه القتل إلى مكان مصرعه فقتل فيه ، وهذا رد على قول معتب ، ودليل على أن كل امرىء له أجل واحد لا يتعداه . فإنْ قيل : فهو الأجل الذي سبق له في الأزل وإلاّ مات لذلك الأجل ، ولا فرق بين موته وخروج روحه بالقتل ، أو بأي أسباب المرض ، أو فجأه من غير مرض هو أجل واحد لكل امرىء وإن تعددت الأسباب . وقد تكلم الزمخشري هنا بألفاظ مسهبة على عادته . فقال : لو كنتم في بيوتكم يعني من علم الله أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب ذلك في اللوح المحفوظ ، لم يكن بد من وجوده . فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من بينكم الذين علم الله أنهم يقتلون إلى مضاجعهم وهي مصارعهم ، ليكون ما علم أنه يكون . والمعنى : أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين ، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله . وإنما

" صفحة رقم 97 "
ينكبون به في بعض الأوقات . تمحيص لهم ، وترغيب في الشهادة ، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة . انتهى كلامه . وهو نوع من الخطابة والمعنى في الآية واضح جداً لا يحتاج إلى هذا التطويل .
وقرأ الجمهور : لبرز ، ثلاثياً مبنياً للفاعل . أي لصاروا في البراز من الأرض . وقرأ أبو حيوة : لبرّز مبنياً للمفعول مشدّد الراء ، عدي برز بالتضعيف . وقرأ الجمهور : كتب مبنياً للمفعول ، ورفع القتل . وقرىء : كتب مبنياً للفاعل ، ونصب القتل . وقرأ الحسن والزهري : القتالُ مرفوعاً . وتحتمل هذه القراءة الاستغناء عن المنافقين ، أي : لو تخلفتم أنتم لبرز المطيعون المؤمنون الذين فرض عليهم القتال ، وخرجوا طائعين إلى مواضع استشهادهم ، فاستغنى بهم عنكم .
( وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ ( تقدم معنى الابتلاء والتحيص . فقيل : المعنى إنّ الله فرض عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم ، وليمحص عنكم سيئاتكم إنْ تبتم وأخلصتم . وقيل : ليعاملكم معاملة المختبر . وقيل : ليقع منكم مشاهدة علمه غيباً كقوله : ) فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ). وقيل : هو على حذف مضاف . أي : وليبتلي أولياء الله ما في صدوركم ، فإضافة إليه تعالى تفخيماً لشأنه . والواو قيل : زائدة . وقيل : للعطف على علة محذوفة ، أي : ليقضي الله أمره وليبتلي . وقال ابن بحر : عطف على ليبتليكم ، لما طال الكلام أعاده ثم عطف عليه ليمحص . وقيل : تتعلق اللام بفعل متأخر ، التقدير : وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة . وكان متعلق الابتلاء ما انطوت عليه الصدور وهي القلوب كما قال : ) وَلَاكِنِ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( ومتعلق التمحيص وهو التصفية والتطهير ما انطوت عليه القلوب من النيات والعقائد .
( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وجاء بها عقيب قوله : وليمحص ما في قلوبكم على معنى : أنه عليم بما انطوت عليه الصدور ، وما أضمرته من العقائد ، فهو يمحص منها ما أراد تمحيصه .
آل عمران : ( 155 ) إن الذين تولوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ( خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى هذه الآية قال : لما كان يوم أحد فهزمنا مررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني انزو كأنني أروى ، والناس يقولون : قتل محمد ، فقلت : لا أجد أحداً يقول : قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا على الجبل ، فنزلت هذه الآية كلها . وقال عكرمة : نزلت فيمن فرّ من المؤمنين فراراً كثيراً منهم : رافع بن المعلى ، وأبو حذيفة بن عتبة ، ورجل آخر .
والذين تولوا : كل من ولى الدبر عن المشركين يوم أحد قاله : عمر ، وقتادة ، والربيع . أو كل من قرب من المدينة وقت الهزيمة قاله السدي . أو رجال بأعيانهم قاله : ابن إسحاق منهم : عتبة بن عثمان الزرقي ، وأخوه سعد وغيرهما ، بلغوا الجلعب جبلاً بناحية المدينة مما يلي الأعوص فأقاموا به ثلاثاً ، ثم رجعوا إلى سول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال لهم : ) لَقَدِ ( ولم يبق مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلاً أبو بكر ، وعلي ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وباقيهم من الأنصار منهم : أبو طلحة ، وظاهر تولوا يدل على مطلق التولي يوم اللقاء ، سواء فرّ إلى المدينة ، أم صعد الجبل .
والجمع : اسم جمع . ونص النحويون على أن اسم الجمع لا يثني ، لكنه هنا أطلق يراد به معقولية اسم الجمع ، بل بعض الخصوصيات . أي : جمع المؤمنين ، وجمع المشركين ، فلذلك صحت تثنيته . ونظير ذلك قوله :

" صفحة رقم 98 "
وكل رفيقي كلّ رحل وإن هما
تعاطي القنا قوماً هما أخوان
فثنى قوماً لأنه أراد معنى القبيلة . واستزل هنا استفعل لطلب ، أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه ، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه ، هكذا قالوه . ولا يلزم من طلب الشيء واستدعائه حصوله ، فالأولى أن يكون استفعل هنا بمعنى أفعل ، فيكون المعنى : أزلهم الشيطان ، فيدل على حصول الزلل ، ويكون استزل وأزل بمعنى واحد ، كاستبان وأبان ، واستبل وأبل كقوله تعالى : ) فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ( على أحد تأويلاته . واستزلال الشيطان إياهم سابق على وقت التولي ، أي كانوا أطاعوا الشيطان واجترحوا ذنوباً قبل منعتهم النصر ففروا . وقيل : الاستزلال هو توليهم ذلك اليوم . أي : إنما استزلهم الشيطان في التولي ببعض ما سبقت لهم من الذنوب ، لأن الذنب يجرّ إلى الذنب ، فيكون نظير ذلك بما عصوا . وفي هذين القولين يكون بعض ما كسبوا هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالثبات فيه ، فجرهم ذلك إلى الهزيمة . ولا يظهر هذا لأنَّ الذين تركوا المركز من الرماة كانوا دون الأربعين ، فيكون من باب إطلاق اسم الكل على البعض . وقال المهدوي : ببعض ما كسبوا هو حبهم الغنيمة ، والحرص على الحياة . وذهب الزجاج وغيره إلى أن المعنى : إنْ الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة ، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها ، فأخروا الجهاد حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حالة مرضية . ولا يظهر هذا القول لأنهم كانوا قادرين على التوبة قبل القتال وفي حال القتال ، ( والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ) وظاهر التولي : هو تولي الإدبار والفرار عن القتال ، فلا يدخل فيه من صعد إلى الجبل ، لأنه من متحيز إلى جهة اجتمع في التحيز إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومن ثبت معه فيها . وظاهر هذا التولي أنه معصية لذكر استزلال الشيطان وعفو الله عنهم . ومن ذهب إلى أن هذا التولي ليس معصية ، لأنهم قصدوا التحصن بالمدينة ، وقطع طمع العدو منهم ، لما سمعوا أن محمداً قد قتل . أو لكونهم لم يسمعوا دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ ( للهول الذي كانوا فيه . أو لكونهم كانوا سبعمائة والعدوّ ثلاثة آلاف ، وعند هذا يجوز الانهزام . أو لكونهم ظنوا أن الرسول ما انحاز إلى الجبل ، وأنه يجعل ظهره المدينة . فمذهبه خلاف الظاهر ، وهذه الأشياء يجوز الفرار معها . وقد ذكر تعالى استزلال الشيطان إياهم وعفوه تعالى عنهم ، ولا يكون ذلك فيما يجوز فعله . وجاء قوله : ببعض ما كسبوا ، ولم يجيء بما كسبوا ، لأنه تعالى يعفو عن كثير كما قال تعالى : ) وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ( فالاستزلال كان بسبب بعض الذنوب التي لم يعف عنها ، فجعلت سبباً للاستزلال . ولو كان معفواً عنه لما كان سبباً للاستزلال .
( وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ( الجمهور على أن معنى العفو هنا هو حط التبعات في الدنيا والآخرة . وكذلك تأوله عثمان في محاورة جرت بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ، قال له عبد الرحمن : قد كنت تولَّيْتَ مع من تولى يوم الجمع ، يعني يوم أحد . فقال له عثمان : قال الله : ولقد عفا الله عنهم ، فكنت فيمن عفا الله عنه . وكذلك ابن عمر مع الرجل العراقي حين نشده بحرمة هذا البيت : أتعلم أنَّ عثمان فرّ يوم أحد ؟ أجابه : بأنه يشهد أن الله قد عفا عنه .
وقال ابن جريج : معنى عفا الله عنهم أنه لم يعاقبهم . قال ابن عطية : والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت ، وعدها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرهما ) انتهى ولما كان مذهب الزمخشري أن العفو والغفران عن الذنب لا يكون إلا لمن تاب ، وأنَّ الذنب إذا لم يتب منه لا يكون معه العفو ، دسّ مذهبه في هذه الجملة ،

" صفحة رقم 99 "
فقال : ولقد عفا الله عهم لتوبتهم واعتذارهم انتهى .
( أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( أي غفور الذنوب حليم لا يعاجل بالعقوبة . وجاءت هذه الجملة كالتعليل لعفوه تعالى عن هؤلاء الذين تولوا يوم أحد ، لأنَّ الله تعالى واسع المغفرة ، واسع الحلم .
آل عمران : ( 156 ) يا أيها الذين . . . . .
( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الاْرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا ( لما تقدم من قول المنافقين : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ، وأخبر الله عنهم أنهم قالوا لإخوانهم : وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ، وكان قولاً باطلاً واعتقاداً فاسداً نهى تعالى المؤمنين أنْ يكونوا مثلهم في هذه المقالة الفاسدة والاعتقاد السيىء . وهو أن من سافر في تجارة ونحوها فمات ، أو قاتل فقتل ، لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض نفسه للسفر فيه أو للقتال ، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين ، والكفار القائلون . قيل : هو عام ، أي اعتقاد الجميع هذا قاله : ابن إسحاق وغيره ، أو عبد الله بن أبي وأصحابه سمع منهم هذا القول قاله : مجاهد والسدي وغيرهما ، أو هو ومعتب وجدّ بن قيس وأصحابهم .
واللام في : لإخوانهم لام السبب ، أي لأجل إخوانهم . وليست لام التبليغ ، نحو : قلت لك . والإخوة هنا إخوة النسب ، إذ كان قتلى أحد من الأنصار وأكثرهم من الخزرج ، ولم يقتل من المهاجرين إلا أربعة . وقيل : خمسة . ويكون القائلون منافقي الأنصار جمعهم أب قريب ، أو بعيد ، أو إخوة المعتقد والتآلف ، كقوله : ) فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ( وقال : صفحنا عن بني ذهل
وقلنا القوم إخوان
والضرب في الأرض : الإبعاد فيها ، والذهاب لحاجة الإنسان . وقال السدي : الضرب هنا السير في التجارة . وقال ابن إسحاق : السير في الطاعات .
وإذا ظرف لما يستقبل . وقالوا : ماض ، فلا يمكن أن يعمل فيه . فمنهم من جرده عن الاستقبال وجعله لمطلق الوقت بمعنى حين ، فاعمل فيه قال : وقال ابن عطية : دخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث الذين اسم في إبهام يعم من قال في الماضي ، ومن يقول في المستقبل ، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف قيل إذا ضربوا في الأرض مع قالوا ؟ ( قلت ) : هو حكاية الحال الماضية ، كقولك : حين تضربون في الأرض انتهى كلامه . ويمكن إقرار إذا على ما استقر لها من الاستقبال ، والعامل فيها مضاف مستقبل محذوف ، وهو لا بدّ من تقدير مضاف غاية ما فيه أنّا نقدره مستقبلاً حتى يعمل في الظرف المستقبل ، لكنْ يكون الضمير في قوله : لو كانوا عائداً على إخوانهم لفظاً ، وعلى غيرهم معنى ، مثل قوله تعالى : ) وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ( وقول العرب : عندي درهم ونصفه . وقول الشاعر : قالت : ألا ليتما هذا الحمام لنا
إلى حمامتنا ونصفه فقد
المعنى : من معمر آخر ونصف درهم آخر ، ونصف حمام آخر ، ونصف حمام آخر ، فعاد الضمير على درهم والحمام لفظاً لا معنى . كذلك الضمير في قوله : لو كانو ، يعود على إخوانهم لفظاً . والمعنى : لو كان إخواننا الآخرون . ويكون معنى الآية : وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كان إخواننا الآخرون الذين تقدّم موتهم وقتلهم عندنا أي مقيمين لم يسافروا ما ماتوا وما قتلوا ، فتكون هذه المقالة تثبيطاً لإخوانهم الباقين عن الضرب في الأرض وعن الغزو ، وإيهاماً لهم أنْ يصيبهم مثل ما أصاب إخوانهم الآخرين الذين سبق موتهم وقتلهم بالضرب في الأرض والغزو ،

" صفحة رقم 100 "
ويكون العامل في إذا هلاك وهو مصدر ينحل بأنْ والمضارع ، أي مخافة أن يهلك إخوانهم الباقون إذا ضربوا في الأرض ، أو كانوا غزاً . وهذا أبلغ في المعنى إذ عرضوا للأحياء بالإقامة لئلا يصيبهم ما أصاب من مات أو قتل . قالوا : ويجوز أنْ يكون وقالوا في معنى . ويقولون : وتعمل في إذا ، ويجوز أن يكون إذا بمعنى إذ فيبقى ، وقالوا على مضيه . وفي الكلام إذ ذاك حذف تقديره : إذا ضربوا في الأرض فماتوا ، أو كانوا غزاً فقتلوا . وما أجهل مَنْ يدعي أنّه لولا الضربُ في الأرض والغزو وترك القعود في الوطن لما مات المسافر ولا الغازي ، وأين عقل هؤلاء من عقل أبي ذؤيب على جاهليته حيث يقول : يقولون لي : لو كان بالرمل لم يمت
نسيبة والطرّاق يكذب قيلها
ولو أنني استودعته الشمس لارتقت
إليه المنايا عينها ، ورسولها
قال الرازي : وذكر الغزو بعد الضرب ، لأن من الغزو ما لا يكون ضرباً ، لأن الضرب الإبعاد ، والجهاد قد يكون قريب المسافة ، فلذلك أفرد الغزو عن الضرب انتهى . يعني : أَنّ بينهما عموماً وخصوصاً فتغايراً ، فصح إفراده ، إذ لم يندرج من جهة تحته . وقيل : لا يفهم الغزو من الضرب ، وإنما قدم لكثرته كما قال تعالى : ) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مّنَ ).
وقرأ الجمهور غزاً بتشديد الزاي ، وقرأ الحسن والزهري بتخفيف الزاي . ووجه على حذف أحد المضعفين تخفيفاً ، وعلى حذف التاء ، والمراد : غزاة . وقال بعض من وجهٍ على أنّه حُذف التاء وهو : ابن عطية ، قال : وهذا الحذف كثير في كلامهم ، ومنه قول الشاعر يمدح الكسائي : أبى الذمّ أخلاق الكسائي وانتحى
به المجد أخلاق الأبوّ السوابق
يريد الأبوة . جمع أب ، كما أن العمومة جمع عم ، والبنوّة جمع ابن . وقد قالوا : ابن وبنوّ انتهى . وقوله : وهذا الحذف كثير في كلامهم ليس كما ذكر ، بل لا يوجد مثل رام ورمى ، ولا حام وحمى ، يريد : رماة وحماة . وإنْ أراد حذف التاء من حيث الجملة كثير في كلامهم فالمدعي إنما هو الحذف من فعله ، ولا نقول أنَّ الحذف أعني حذف التاء كثيرٌ في كلامهم ، لأنه يشعر أن بناء الجمع جاء عليها ، ثم حذفت كثيراً وليس كذلك ، بل الجمع جاء على فعول نحو : عم وعموم ، وفحل وفحول ، ثم جيء بالتاء لتأكيد معنى الجمع ، فلا نقول في عموم : أنه حذفت منه التاء كثيراً لأن الجمع لم يبن عليها ، بخلاف قضاة ورماة فإن الجمع بني عليها . وإنما تكلف النحويون لدخولها فيما كان لا ينبغي أن تدخل فيه ، إنَّ ذلك على سبيل تأكيد الجمع ، لمَّا رأوا زائداً لا معنى له ذكروا أنّه جاء بمعنى التوكيد ، كالزوائد التي لا يفهم لها معنى غير التأكيد . وأمّا البيت فالذي يقوله النحويون فيه : أنه مما شذ جمعه ولم يعل ، فيقال فيه : أبى كما قالوا : عصى في عصا ، وهو عندهم جمع على فعول ، وليس أصله أبوه . ولا يجمع ابن على بنوّة ، وإنما هما مصدران . والجملة من لو وجوابها هي معمول القول فهي في موضع نصب على المفعول ، وجاءت على نظم ما بعد إذا من تقديم نفي الموت على نفي القتل ، كما قدم الضرب على الغزو . والضمير في : لو كانوا ، هو لقتلى أحد ، قاله : الجمهور . أو للسرية الذين قتلوا ببئر معونة قاله : بكر بن سهل الدمياطي . وقرأ الجمهور : وما قتلوا بتخفيف التاء . وقرأ الحسن : بتشديدها للتكثير في المحال ، لا بالنسبة إلى محل واحد ، لأنه لا يمكن التكثير فيه .
( لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ ( اختلفوا في هذه اللام فقيل : هي لام كي . وقيل : لام الصيرورة . فإذا كانت لام كي فبماذا تتعلق ، ولماذا يشار بذلك ؟ فذهب بعضهم : إلى أنّها تتعلق بمحذوف يدل

" صفحة رقم 101 "
عليه معنى الكلام وسياقه ، التقدير : أوقع ذلك ، أي القول والمعتقد في قلوبهم ليجعله حسرة عليهم . وإنما احتيج إلى تقدير هذا المحذوف لأنه لا يصح أن تتعلق اللام على أنها لام كي يقال : لأنهم لم يقولوا تلك المقالة ليجعل الله لأنه لا يصح أن تتعلق اللام على أنها لام كي يقال ؛ لأنهم لم يقولوا تلك المقالة ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ، فلا يصح ذلك أن يكون تعليلاً لقولهم ، وإنما قالوا ذلك تثبيطاً للمؤمنين عن الجهاد . ولا يصح أن يتعلق بالنهي وهو : لا يكونوا كالذين كفروا . لأن جعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم ، لا يكون سبباً لنهي الله المؤمنين عن مماثلة الكفار .
قال الزمخشري : وقد أورد سؤالاً على ما تتعلق به ليجعل ، قال : أو لا يكونوا بمعنى : لا يكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ، ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة ، ويصون منها قلوبكم انتهى كلمه . وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه ، لأن جعل الحسرة لا يكون سبباً للنهي كما قلنا ، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي وهو : انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل امتصال النهي وهو : انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم ، إذ لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه . فلا تضربوا في الأرض ولا تغزوا ، فالتبس على الزمخشري استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء ، وفهم هذا فيه خفاء ودقة . وقال ابن عيسى وغيره : اللام متعلقة بالكون ، أي : لا تكونوا كهؤلاء ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم دونكم انتهى . ومنه أخذ الزمخشري قوله : لكن ابن عيسى نص على ما تتعلق به اللام ، وذاك لم ينص . وقد بينا فساد هذا القول .
وإذا كانت لام الصيرورة والعاقبة تعلقت بقالوا ، والمعنى : أنهم لم يقولوا لجعل الحسرة ، إنما قالوا ذلك لعلة ، فصار مآل ذلك إلى الحسرة والندامة ، ونظروه بقوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ، ولم يلتقطوه لذلك ، إنما آل أمره إلى ذلك . وأكثر أصحابنا لا يثبتون للام هذا المعنى أعني أن تكون اللام للعاقبة والمآل وينسبون هذا المذهب للأخفش . وأما الإِشارة بذلك فقال الزجاج : هو إشارة إلى الظن ، وهو أنهم إذا ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يقتلوا ، كان حسرتهم على من قتل منهم أشدّ . وقال الزمخشري : ما معناه الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول . وقال ابن عطية : الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم ، جعل الله ذلك حسرة ، لأن الذي يتيقن أن كل موت وقتل بأجل سابق يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه ، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت يتحسر ويتلهف انتهى . وهذه أقوال متوافقة فيما أشير بذلك إليه . وقيل : الإِشارة بذلك إلى نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد ، لأنهم إذا رأوا أن الله قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم . وقال ابن عطية : ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معاً ، فتأمله انتهى .
وهذه كلها أقوال تخالف الظاهر . والذي يقتضيه ظاهر الآية أن الإشارة إلى المصدر المفهوم من قالوا ، وأن اللام للصيرورة ، والمعنى : أنهم قالوا هذه المقالة قاصدين التثبيط عن الجهاد والإبعاد في الأرض ، سواء كانوا معتقدين صحتها أو لم يكونوا معتقديها ، إذْ كثير من الكفار قائل بأجل واحد ، فخاب هذا القصد ، وجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم أي غماً على ما فاتهم ، إذ لم يبلغوا مقصدهم من التثبيط عن الجهاد . وظاهر جعل الحسرة وحصولها أنه يكون ذلك في الدنيا وهو الغم الذي يلحقهم على ما فات من بلوغ مقصدهم . وقيل : الجعل يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة ، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة . وأسند الجعل إلى الله ، لأنه هو الذي يضع الغم والحسرة في قلوبهم عقوبة لهم على هذا القول الفاسد .
( وَاللَّهُ يُحْيىِ وَيُمِيتُ ( رد عليهم في تلك المقالة الفاسدة ، بل ذلك بقضائه الحتم والأمر بيده . قد يحيي المسافر والغازي ، ويميت المقيم والقاعد . وقال خالد بن الوليد عنه موته : ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أنا ذا أموت كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء . وقيل : هذه الجملة متعلقة بقوله : ) حَلِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ ( أي : لا تقولوا مثل قولهم ، فإن الله هو المحيي ، من قدر حياته لم يقتل في الجهاد ، والمميت من قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد ، قاله : الرازي . وقال أيضاً : المراد منه إبطال شبهتهم ، أي لا تأثير لشيء آخر في

" صفحة رقم 102 "
الحياة والموت ، لأن قضاءه لا يتبدل . ولا يلزم ذلك في الأعمال ، لأنَّ له أن يفعل ما يشاء انتهى . ورد عليه هذا الفرق بين الموت والحياة وسائر الأعمال ، لأن سائر الأعمال مفروغ منها كالموت والحياة ، فما قدر وقوعه منها فلا بدّ من وقوعه ، وما لم يقدر فيستحيل وقوعه ، فإذاً لا فرق .
( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( قال الراغب : علق ذلك بالبصر لا بالسمع ، وإنْ كان الصادر منهم قولاً مسموعاً لا فعلاً مرئياً . لما كان ذلك القول من الكافر قصداً منهم إلى عمل يحاولونه ، فخص البصر بذلك كقولك لمن يقول شيئاً وهو يقصد فعلاً يحاوله : أنا أرى ما تفعله . وقرأ ابن كثير والأخوان بما يعملون بالياء على الغيبة ، وهو وعيد للمنافقين . وقرأ الباقون بالتاء على خطاب المؤمنين ، كما قال : لا تكونوا ، فهو توكيد للنهي ووعيد لمن خالف ، ووعد لمن امتثل .
آل عمران : ( 157 ) ولئن قتلتم في . . . . .
( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ ( تقدم قبل هذا تكذيب الكفار في دعواهم : أنّ من مات أو قتل في سفر وغزو لو كان أقام ما مات وما قتل ، ونهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل هذه المقالة ، لأنها سبب للتخاذل عن الغزو وأخبر في هذه الجملة أنه أنْ ثم ما يحذرونه من القتل في سبيل الله أو الموت فيه ، فما يحصل لهم من مغفرة الله ورحمته بسبب ذلك خير مما يجمعون من حطام الدنيا ومنافعها ، لو لم يهلكوا بالقتل أو الموت ، وأكد دلك بالقسم . لأن اللام في لئن هي الموطئة للقسم ، وجواب القسم هو : لمغفرة . وكان نكرة إشارة إلى أن أيسر جزء من المغفرة والرحمة خير من الدنيا ، وأنه كاف في فوز المؤمن . وجاز الابتداء به لأنه وصف بقوله من الله . وعطف عليه نكرة ومسوغ الابتداء بها ، كونها عطفت على ما يسوغ به الابتداء . أو كونها موصوفة في المعنى إذ التقدير : ورحمة منه . وثمَّ صفة أخرى محذوفة لا بدّ منها وتقديرها : ورحمة لكم . وخير هنا على بابها من كونها افعل تفضيل ، كما روي عن ابن عباس : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء . وارتفاع خير على أنه خبر عن قوله : لمغفرة .
قال ابن عطية وتحتمل الآية أن يكون قوله : لمغفرة إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل الله ، فسمى ذلك مغفرة ورحمة ، إذ هما مقترنان به . ويجيء التقدير لذلك : مغفرة ورحمة . وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر . وقوله : خير صفة لا خبر ابتداء انتهى قوله . وهو خلاف الظاهر . وجواب الشرط الذي هو إنْ قتلتم محذوف ، لدلالة جواب القسم عليه . وقول الزمخشري : سدَّ مسدَّ جواب الشرط إنْ عنى أنه حذف لدلالته عليه فصحيح ، وإنْ عنى أنه لا يحتاج إلى تقدير فليس بصحيح . وظاهر الآية يدل على أنه جعلت المغفرة والرحمة لمن اتفق له أحد هذين : القتل في سبيل الله ، أو الموت فيه .
وقال الرازي : لمغفرة من الله إشارة إلى تعبده خوفاً من عقابه ، ورحمة إشارة إلى تعبده لطلب ثوابه انتهى . وليس بالظاهر . وقدم القتل هنا لأنه ابتداء إخبار ، فقدّم الأشرف الأهم في تحصيل المغفرة والرحمة ، إذ القتل في سبيل الله أعظم ثواباً من الموت في سبيله .
قال الراغب : تضمنت هاتان الآيتان إلزاماً هو جار مجرى قياسين شرطيين اقتضيا الحرص على القتل في سبيل الله تمثيله : إنْ قتلتم في سبيل الله ، أو متّم ، حصلت لكم المغفرة والرحمة ، وهما خير مما تجمعون . فإذاً الموت والقتل في سبيل الله خير مما تجمعون . ولئن متم أو قتلتم فالحشر لكم حاصل . وإذا كان الموت والقتل لا بدّ منه والحشر فنتيجة ذلك أن القتل والموت اللذين يوجبان المغرفة والرحمة خير من القتل والموت اللذين لا يوجبانهما انتهى .
وقرأ الإبنان والأبوان بضم الميم في جميع القرآن ، وحفص في هذين أو متمم ، ولئن متم ، وكسر الباقون . والضم أقيس وأشهر . والكسر مستعمل كثيراً وهو شاذ في القياس ، جعله المازني من فعل يفعل ، نظير دمت تدوم ، وفضلت تفضل ، وكذا أبو علي ، فحكما عليه بالشذوذ . وقد نقل غيرهما فيه لغتين إحداهما : فعل يفعل ، فتقول مات يموت . والأخرى : فعل يفعل نحو مات يمات ، أصله موت . فعلى هذا ليس بشاذ ، إذ هو مثل خاف يخاف ، فأصله موت يموت . فمن قرأ بالكسر فعلى هذه اللغة ولا شذوذ فيه ، وهي لغة الحجاز يقولون : متم من مات يمات قال الشاعر : عيشي ولا تومي بأن تماتي )

" صفحة رقم 103 "
وسفلى مضر يقولون : مُتّم بضم الميم من مات يموت ، نقله الكوفيون : وقرأ الجمهور : تجمعون بالتاء على سياق الخطاب في قوله : ولئن قتلتم . وقرأ قوم منهم حفص عن عاصم بالياء ، أي مما يجمعه الكفار المنافقون وغيرهم . آل عمران : ( 158 ) ولئن متم أو . . . . .
( وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ( هذا خطاب عام للمؤمن والكافر . أعلم فيه أن مصير الجميع إليه ، فيجازي كلاً بعمله . هكذا قال بعضهم . وكأنه لما رأى الموت والقتل أطلقا ولم يقيدا بذكر سبيل الله كما قيدا في الآية ، فهم أنَّ ذلك عام . والظاهر أنّه خطاب للمؤمنين كالخطاب السابق ، ولذلك قدره الزمخشري : لإلى الرّحيم الواسع الرحمة المميت العظيم الثواب تحشرون . قال : ولوقوع اسم الله هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به سيان ليس بالخفي انتهى . يشير بذلك إلى مذهبه : من أن التقديم يؤذن بالاختصاص ، فكان المعنى عنده : فإلى الله لا غيره تحشرون . وهو عندنا لا يدل بالوضع على ذلك ، وإنما يدل التقديم على الاعتناء بالشيء والاهتمام بذكره ، كما قال سيبويه : وزاده حسناً هنا أنّ تأخر الفعل هنا فاضلة ، فلو تأخر المجرور لفات هذا الغرض وتضمنت الآية تحقير أمر الدنيا والحرص على الشهادة ، وأنَّ مصير العالم كلهم إلى الله ، فالموافاة على الشهادة أمثل بالمرء ليحرز ثوابها ويجده وقت الحشر . وقدّم الموت هنا على القتل لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر ، وتزهيد في الدنيا والحياة ، والموت فيها مطلق لم يقيد بشيء . فإما أنْ يكون الخطاب مختصاً بمن خوطب قبلُ أو عاماً واندرج أولئك فيه ، فقدِّم لعمومه ، ولأنه أغلب في الناس منا لقتل ، فهذه ثلاثة مواضع . ما ماتوا وما قتلوا : فقدم الموت على القتل لمناسبة ما قبله من قوله : ) إِذَا ضَرَبُواْ فِى الاْرْضِ أَوْ كَانُواْ ( وتقدّم القتل على الموت بعد ، لأنه محل تحريض على الجهاد ، فقدم الأهم والأشرف . وقدم الموت هنا لأنه الأغلب ، ولم يؤكد الفعل الواقع جواباً للقسم المحذوف لأنه فصل بين اللام المتلقى بها القسم وبينه بالجار والمجرور . ولو تأخر لكان : لتحشرن إليه كقوله : ليقولن ما يحبسه . وسواء كان الفصل بمعمول الفعل كهذا ، أو بسوف . كقوله : ) السّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( أو بقد كقول الشاعر :
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه
وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
قال أبو علي : الأصل دخول النون فرقاً بين لام اليمين ولام الابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلات ، فبدخول لام اليمين على الفضلة وقع الفصل ، فلم يحتج إلى النون . وبدخولها على سوف وقع الفرق ، فلم يحتج إلى النون ، لأن لام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً ، أمّا إذا كان مستقبلاً فلا .
آل عمران : ( 159 ) فبما رحمة من . . . . .
( فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ( متعلق الرحمة المؤمنون . فالمعنى : فبرحمة من الله عليهم لِنْت لهم ، فتكون الرحمة امتن بها عليهم . أي : دمثت أخلاقك ولان جانبك لهم بعدما خالفوا أمرك وعصوك في هذه القراءة ، وذلك برحمة الله إياهم . وقيل : متعلق الرحمة المخاطب ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي برحمة الله إياك جعلك لين الجانب موطأ الأكناف ، فرحمتهم ولنت لهم ، ولم تؤاخذهم بالعصيان والفرار وإفرادك للأعداء ، ويكون ذلك امتناناً على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ويحتمل أن يكون متعلق الرحمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بأن جعله على خلق عظيم ، وبعثه بتتميم محاسن الأخلاق والمؤمنين ، بأن لينه لهم .
وما هنا زائدة للتأكيد ، وزيادتها بين الباء وعن ومن والكاف ، وبين مجروراتها شيء معروف في اللسان ، مقرر في علم العربية . وذهب بعض الناس إلى أنها منكرة تامة ، ورحمة بدل منها . كأنه قيل : فبشيء أبهم ، ثم أبدل على سبيل التوضيح ، فقال : رحمة . وكان قائل هذا يفر من الإطلاق عليها أنهار زائدة . وقيل : ما هنا استفهامية . قال الرازي : قال المحققون : دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز ، وهنا يجوز أن تكون ما استفهامية للتعجب تقديره : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وذلك بأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم

" صفحة رقم 104 "
أنه ما أظهر البتة تغليظاً في القول ، ولا خشونة في الكلام ، علموا أنَّ هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك انتهى كلامه . وما قاله المحققون : صحيح ، لكنَّ زيادة ما للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية ، فضلاً عن مَنْ يتعاطى تفسير كلام الله ، وليس ما في هذا المكان مما يتوهمه أحد مهملاً فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن يكون استفهاماً للتعجب . ثمّ إنَّ تقديره ذلك : فبأي رحمة ، دليل على أنّه جعل ما مضافة للرحمة ، وما ذهب إليه خطى من وجهين : أحدهما : أنه لا تضاف ما الاستفهامية ، ولا أسماء الاستفهام غير أي بلا خلاف ، وكم على مذهب أبي إسحاق . والثاني : إذا لم تصح الإضافة فيكون إعرابه بدلاً ، وإذا كان بدلاً من اسم الاستفهام فلا بدّ من إعادة همزة الاستفهام في البدل ، وهذا الرجل لحظ المعنى ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه والتسور عليه . قول الزجاج في ما هذه ؟ إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين .
( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( بين تعالى أن ثمرة اللين هي المحبة ، والاجتماع عليه . وأن خلافها من الجفوة والخشونة مؤد إلى التفرق ، والمعنى : لو شافهتهم بالملامة على ما صدر منهم من المخالفة والفرار لتفرّقوا من حولك هيبة منك وحياءً ، فكان ذلك سبباً لتفرّق كلمة الإسلام وضعف مادته ، وإطماعاً للعدو واللين والرفق ، فيكون فيما لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله تعالى . وقال تعالى في حق الكفار : ) وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( وفي وصفه ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الكتب المنزلة أنه ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق . والوصفان قيل بمعنى واحد ، فجمعاً للتأكيد . وقيل : الفظاظة الجفوة قولاً وفعلاً . وغلظ القلب : عبارة عن كونه خلق صلباً لا يلين ولا يتأثر ، وعن الغلظ تنشأ الفظاظة تقدم ما هو ظاهر للحس على ما هو خاف ، وإنما يعلم بظهور أثره .
( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ ( أمره تعالى بالعفو عنهم ، وذلك فيما كان خاصاً به من تبعة له عليهم ، وبالاستغفار لهم فيما هو مختص بحق الله تعالى وبمشاورتهم . وفيها فوائد تطييب نفوسهم ، والرفع من مقدارهم بصفاء قلبه لهم ، حيث أهلهم للمشاورة ، وجعلهم خواص بعد ما صدر منهم ، وتشريع المشاورة لمن بعده ، والاستظهار برأيهم فيما لم ينزل فيه وحي . فقد يكون عندهم من أمور الدنيا ما ينتفع به ، واختبار عقولهم ، فينزلهم منازلهم ، واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح . وجرى على مناهج العرب وعادتها في الاستشارة في الأمور ، وإذا لم يشاور أحداً منهم حصل في نفسه شيء ، ولذلك عز على عليّ وأهل البيت كونهم استبد عليهم في المشورة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، وفيما ذا أمر أن يشاورهم . قيل : في أمر الحرب والدنيا وقيل : في الدين والدنيا ما لم يرد نص ، ولذلك استشار في أسرى بدر .
وظاهر هذه الأوامر يقتضي أنه أمر بهذه الأشياء ، ولا تدل على تريب زماني . وقال ابن عطية : أمر بتدريج بليغ ، أمر بالعفو عنهم فيما يخصه ، فإذا صاروا في هذه الدرجة أمر باستغفار فيما لله ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلاً للاستشارة في الأمور انتهى . وفيه بعض تلخيص ، ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ ، ولكنْ هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض . أمر أولاً بالعفو عنهم ، إذ عفوه عنهم مسقط لحقه ، ودليل على رضاه ( صلى الله عليه وسلم ) ) عليهم ، وعدم مؤاخذته . ولما سقط حقه بعفوه استغفر لهم الله ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم ، ويحصل لهم رضاه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ورضا الله تعالى . ولما زالت عنهم التبعات من الجانبين شاورهم إيذاناً بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة ، إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقداً فيه المودة والعقل والتجربة . والظاهر أن قوله : فاعف عنهم أمرٌ له بالعفو . وقيل : معناه سلني العفو عنهم لأعفو عنهم ، والمعفو عنه والمسؤول الاستغفار لأجله . قيل : قرارهم يوم أحد ، وترك إجابته ، وزوال الرّماة عن مراكزهم . وقيل : ما يبدون من هفواتهم وألسنتهم من السقطات التي لا يعتقدونها ، كمناداتهم من وراء الحجرات . وقول بعضهم : إنْ كان ابن عمتك وجر رداءه حتى أثر في عنقه ، وغير ذلك مما وقع منهم على سبيل الهفوة . ومن غريب النقول والمقول وضعيفه الذي ينزه عنه القرآن قول بعضهم : أن قوله تعالى : وشاورهم في الأمر ، أنه من المقلوب ، والمعنى : وليشاوروك في الأمر . وذكر المفسرون هنا جملة مما ورد في المشاورة من الآيات والأحاديث

" صفحة رقم 105 "
والآثار . وذكر ابن عطية : إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدّين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف له . والمستشار في الدّين عالم دين ، وقلَّ ما يكون ذلك إلا في عاقل . قال الحسن : ما كمل دين امرىء لم يكمل عقله ، وفي الأمور الدنيوية عاقل مجرب وادفى المستشير انتهى كلام ابن عطية ، وفيه بعض تلخيص . وقراءة الجمهور : في الأمر ، وليس على العموم . إذ لا يشاور في التحليل والتحريم . والأمر : اسم جنس يقع للكل وللبعض . وقرأ ابن عباس : في بعض الأمر ) فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ( أي : فإذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاجعلْ تفويضك فيه إلى الله تعالى ، فإنه العالم بالأصلح لك ، والأرشد لأمرك ، لا يعلمه من أشار عليك . وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه ، والفكر فيه . وإن ذلك مطلوب شرعاً خلافاً لما كان عليه بعض العرب من : ترك المشورة ، ومن : الاستبداد برأيه من غير فكر في عاقبة ، كما قال : إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه
ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
وقرأ الجمهور عزمت على الخطاب كالذي قبله . وقرأ عكرمة وجابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر الصادق عزمت بضم التاء على أنها ضمير لله تعالى والمعنى فإذا عزمت لك على شيء أي أرشدتك إليه وجعلتك تقصده ويكون قوله على الله من باب الالتفات إذ لو جرى على نسق ضم التاء لكان فتوكل عليّ ونظيره في نسبة العزم إلى الله على سبيل التجوز قول أم سلمة ، ثم عزم الله ) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ ( حث على التوكل على الله ، إذ أخبر أنّه يحب من توكل عليه ، والمرءُ ساع فيما يحصل له محبة الله تعالى .
وقد تضمنت هذه الآيات فنوناً من البيان والبديع والإبهام في : ولا تلوون على أحد ، فمن قال : هو الرسول أبهمه تعظيماً لشأنه ، ولأن التصريح فيه هضم لقدره . والتجنيس المماثل في : غما بغمّ ، ثم أنزل عليكم من بعد الغمّ . والطباق : في يخفون ويبدون ، وفي فاتكم وأصابكم . والتجنيس المغاير في : تظنون وظن ، وفي فتوكل والمتوكلين . وذكر بعضهم ذلك في فظاً ولا تفضوا ، وليس منه ، لأنه قد اختلفت المادّتان والتفسير بعد الإبهام في ما لا يبدون يقولون . والاحتجاج النظري في : لو كنتم في بيوتكم والاعتراض في : قل إن الأمر كله لله . والاختصاص في : بذات الصدور ، وفي بما تعملون بصير ، وفي يحب المتوكلين . والإشارة في قوله : ليجعل الله ذلك حسرة . والاستعارة في : إذا ضربوا في ا لأرض ، وفي لنت ، وفي غليظ القلب ، والتكرار في : ما ماتوا ، وما قتلوا ، وما بعدهما ، وفي : على الله إن الله . وزيادة الحرف للتأكيد في : فبما رحمة . والالتفات والحذف في عدة مواضع .
آل عمران : ( 160 ) إن ينصركم الله . . . . .
( إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ ( هذا التفات ، إذْ هو خروج من غيبة إلى الخطاب . ولما أمره بمشاورتهم وبالتوكل عليه ، أوضح أنَّ ما صدر من النصر أو الخذلان إنما هو راجع لما يشاء . وأنَّه متى نصركم لا يمكن أن يغلبكم أحد ، ومتى خذلكم فلا ناصر لكم فيما وقع لكم من النصر ، أو بكم من الخذلان كيومي : بدر وأحد ، فبمشيئته . وفي هذا تسلية لهم عما وقع لهم من الفرار . ثم أمرهم بالتوكل ، وناط الأمر بالمؤمنين ، فنبه على الوصف الذي يناسب معه التوكل وهو الإيمان ، لأن المؤمن مصدق بأن الله هو الفاعل المختار بيده النصر والخذلان . وأشركهم مع نبيهم في مطلوبية التوكل ، وهو إضافة الأمور إلى الله تعالى وتفويضها إليه .
والتوكل على الله من فروض الإيمان ، ولكنه يقترن بالتشمير في الطاعة والجزامة بغاية الجهد ، ومعاطاة أسباب التحرز ، وليس الإلقاء باليد والإهمال لما يجب مراعاته بتوكل ، وإنما هو كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( قيدها وتوكل ) ونظير هذه الآية : ) مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ( والضمير في من بعده عائد على الله تعالى ، إمّا على حذف مضاف أي : من بعد خذلانه ، أي من بعد ما يخذل من الذي ينصر

" صفحة رقم 106 "
وإما أنْ لا يحتاج إلى تقدير هذا المحذوف ، بل يكون المعنى : إذا جاوزته إلى غيره وقد خذلك فمن ذا الذي تجاوزه إليه فينصرك ؟ ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على المصدر المفهوم من قوله : وإن يخذلكم ، أي : من بعد الخذلان . وجاء جواب : إن ينصركم الله بصريح النفي العام ، وجواب وإن يخذلكم يتضمن النفي وهو الاستفهام ، وهو من تنويع الكلام في الفصاحة والتلطف بالمؤمنين حتى لا يصرّح لهم بأنه لا ناصر لهم ، بل أبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يقتضي السؤال عن الناصر ، وإن كان المعنى على نفي الناصر . لكنْ فرَّقَ بين الصريح والمتضمن ، فلم يجر المؤمنين في ذلك مجرى الكفار الذي نص عليه بالصريح أنه لا ناصر لهم كقوله : ) أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ ( وظاهره النصرة أنها في لقاء العدو ، والإعانة على مكافحته ، والاستيلاء عليه . وأكثر المفسرين جعلوا النصرة بالحجة القاهرة ، وبالعاقبة في الآخرة . فقالوا : المعنى إنْ حصلت لكم النصرة فلا تعدوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غلبة ، وإن خذلكم في ذلك فلا تعدوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا نصرة ، فالنصرة والخذلان معتبران بالمآل . وفي قوله : إن ينصركم الله إشارة إلى الترغيب في طاعة الله ، لأنه بين فيما تقدم أنّ من اتقى الله نصره .
وقال الزمخشري في قوله : وعلى الله ، وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه ، علمهم أنّه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانكم يوجب ذلك ويقتضيه انتهى كلامه . وأخذ الاختصاص من تقديم الجار والمجرور وذلك على طريقته ، بأن تقديم المفعول يوجب الحصر والاختصاص . وقرأ الجمهور : يخذلكم من خذل . وقرأ عبيد بن عمير : يخذلكم من أخذل رباعياً . والهمزة فيه للجعل أي : يجعلكم
آل عمران : ( 161 ) وما كان لنبي . . . . .
( وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ ( قال ابن عباس ، وعكرمة ، وابن جبير : فقدت قطيفة حمراء من المغانم يوم بدر فقال بعض من كان مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : لعلّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أخذها ، فنزلت ، وقائل ذلك مؤمن لم يظن في ذلك حرجاً . وقيل : منافق ، وروي أن المفقود سيف . وقال النقاش : قالت الرماة يوم أحد : الغنيمة الغنيمة ، أيها الناس إنّا نخشى أن يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أخذ شيئاً فهو له ، فلما ذكروا ذلك قال : ( خشيتم أن نغل ) فنزلت . وروي نحوه عن الكلبي ومقاتل . وقيل غير هذا من ذلك ما قال ابن إسحاق : إنما نزلت إعلاماً بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يكتم شيئاً مما أمر بتبليغه .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها من حيث أنها تضمنت حكماً من أحكام الغنائم في الجهاد ، وهي من المعاصي المتوعد عليها بالنار كما جاء في قصة مدعم ، فحذرهم من ذلك . وتقدم لنا الكلام في معنى ما كان لزيد أن يفعل . وقرأ ابن عباس وابن كثير وأبو عمرو وعاصم أن يغلّ من غلّ مبنياً للفاعل ، والمعنى : أنه لا يمكن ذلك منه ، لأن الغلول معصية ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) معصوم من المعاصي ، فلا يمكن أن يقع في شيء منها . وهذا النفي إشارة إلى أنه لا ينبغي أن أن يتوهم فيه ذلك ، ولا أن ينسب إليه شيء من ذلك . وقرأ ابن مسعود وباقي السبعة : أن يُغَل بضم الياء وفتح الغين مبنياً للمفعول . فقال الجمهور : هو من غل . والمعنى : ليس لأحد أن يخونه في الغنيمة ، فهي نهي للناس عن الغلول في المغانم ، وخص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالذكر وإن كان ذلك حراماً مع غيره ، لأن المعصية بحضرة النبي أشنع لما يحب من تعظيمه وتوقيره ، كالمعصية بالمكان الشريف ، واليوم المعظم . وقيل : هو من أغل رباعياً ، والمعنى : أنه يوجد غالاً كما تقول : أحمد الرجل وجد محموداً . وقال أبو علي الفارسي : هو من أغل أي نسب إلى الغلول . وقيل له : غللت كقولهم : أكفر الرجل ، نسب إلى الكفر .
( وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( ظاهر هذا أنه يأتي بعين ما غل ، ورد ذلك في صحيح

" صفحة رقم 107 "
البخاري ومسلم . ففي الحديث ذكر الغلول وعظمه وعظم أمره ، ثم قال : ( لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : ما أملك لك من الله شيئاً ، قد أبلغتك ) الحديث وكذلك ما جاء في حديث ابن اللتبية : ( والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئاً إلا جاء به يحمله يوم القيامة على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ) . وروي عنه أيضاً وفرس له حمجة وفي حديث مدعم : ( أن الشملة التي غلت من المغانم يوم حنين لتشتعل عليه ناراً ومجيئه بما غلّ فضيحة له على رؤوس الاشهاد يوم القيامة ) وقال الكلبي بمثل له ذلك الشيء الذي غله في النار ، ثم يقال له : انزل فخذه ، فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ صومعته وقع في النار ، ثم كلف أن ينزل إليه فيخرجه ، يفعل ذلك به . وقيل : يأتي حاملاً إثْم ما غلَّ . وقيل : يؤخذ من حسناته عوض ما غل . وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم الغلول والوعيد عليه .
( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( هذه جملة معطوفة على الجملة الشرطية لما ذكر من مسألة الغلول ، وما يجري لصاحبها يوم القيامة . ذكر أن ذلك الجزاء ليس مختصاً بمن غلّ ، بل كل نفس توفى جزاء ما كسبت من غير ظلم ، فصار الغال مذكوراً مرتين : مرّة بخصوصه ، ومرّة باندراجه في هذا العام ليعلم أنه غير متخلص من تبعة ما غل ، ومن تبعة ما كسبت من غير الغلول . وتقدّم تفسير هذه الجملة ، فأغنى عن إعادته هنا .
آل عمران : ( 162 ) أفمن اتبع رضوان . . . . .
( أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( هذا لاستفهام معناه النفي ، أي ليس من اتبع رضا الله فامتثل أوامره واجتنب مناهيه كمن عصاه فباء بسخطه ، وهذا من الاستعارة البديعية . جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به ، وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئاً عن اتباعه ورجع مصحوباً بما يخالف الاتباع . وفي الآية من حيث المعنى حذف والتقدير : أفمن اتبع ما يؤول به إلى رضا الله عنه ، فباء برضاه كمن لم يتبع ذلك فباء بسخطه . وقال سعيد بن جبير والضحاك والجمهور : أفمن اتبع رضوان الله فلم يغل كمن باء بسخط من الله حين غل . وقال الزجاج : أفمن اتبع رضوان الله باتباع الرسول يوم أحد ، كمن باء بسخط من الله بتخلفه وهم جماعة من المنافقين . وقال الزّجاج أيضاً : رضوان الله الجهاد ، والسخط الفرار . وقيل : رضا الله طاعته ، وسخطه عقابه . وقيل : سخطه معصيته قاله ابن إسحاق . ويعسر ما يزعم الزمخشري من تقدير معطوف بين همزة الاستفهام وبين حرف العطف في مثل هذا التركيب ، وتقديره متكلف جداً فيه ، رجح إذ ذاك مذهب الجمهور : من أن الفاء محلها قبل الهمزة ، لكْن قدّمت الهمزة لأنْ الاستفهام له صدر الكلام . وتقدّم اختلاف القراء في رضوان في أوائل هذه السورة ، والظاهر استئناف .
( وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ( : أخبر أنَّ مَن باء بسخط من الله فمكانه الذي يأوي إليه هو جهنم ، وأفهم هذا أن مقابله وهو من اتبع رضوان الله مأواه الجنة . ويحتمل أن تكون في صلة مَن فوصلها بقوله : باء . وبهذه الجملة كان المعنى : كمن باء بسخط الله ، وآل إلى النار . وبئس المصير : أي جهنم .
آل عمران : ( 163 ) هم درجات عند . . . . .
( هُمْ دَرَجَاتٌ ( قال ابن عباس والحسن : لكل درجات من الجنة والنار . وقال أبو عبيدة : كقوله : هم طبقات . وقال مجاهد وقتادة : أي ذوو درجات ، فإن بعض

" صفحة رقم 108 "
المؤمنين أفضل من بعض . وقيل : يعود على الغال وتارك الغلول ، والدرجة : الرتبة . وقال الرازي : تقديره لهم درجات . قال بعض المصنفين رادّاً عليه : اتبع الرّازي في ذلك أكثر المفسرين بجهله وجهلهم بلسان العرب ، لأن حذف لام الجر هنا لا مساغ له ، لأنه إنما تحذف لام الجر في مواضع الضرورة ، أو لكثرة الاستعمال ، وهذا ليس من تلك المواضع . على أن المعنى دون حذفها حسن متمكن جداً ، لأنه لما قال : أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ، وكأنه منتظر للجواب قيل له في الجواب : لا ، ليسوا سواء ، بل هم درجات .
( عَندَ اللَّهِ ( على حسب أعمالهم . وهذا معنى صحيح لا يحتاج معه إلى تقدير حذف اللام ، لو كان سائغاً كيف وهو غير سائغ انتهى كلام المصنف . ويحمل تفسير ابن عباس والحسن أن المعنى : لكل درجات من الجنة والنار على تفسير المعنى ، لا تفسير اللفظ الأعرابي . والظاهرمن قولهم : هم درجات ، أن الضمير عائد على الجميع ، فهم متفاوتون في الثواب والعقاب ، وقد جاء التفاوت في العذاب كما جاء التفاوت في الثواب . ومعنى عند الله على هذا القول : في حكم الله . وقيل : الضمير يعود على أهل الرضوان ، فيكون عند الله معناها التشريف والمكانة لا المكان . كقوله : ) عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( والدرجات إذ ذاك مخصوصة بالجنة وهذا معنى قول : ابن جبير وأبي صالح ومقاتل ، وظاهر ما قاله مجاهد والسدّي . والدرجات المنازل بعضها أغلى من بعض من المسافة أو في التكرمة . وقرأ الجمهور درجات ، فهي مطابقة للفظ هم . وقرأ النخعي درجة بالإفراء .
( وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( أي : عالم بأعمالهم ودرجاتها ، فمجازيهم على حسبها .
وتضمنت هذه الآيات الطباق في : ينصركم ويخذلكم ، وفي رضوان الله وبسخط . والتكرار في : ينصركم وينصركم ، وفي الجلالة في مواضع . والتجنيس المماثل : في يغل وما غل . والاستفهام الذي معناه في : أفمن اتبع الآية . والاختصاص في : فليتوكل المؤمنون ، وفي : وما كان لنبي ، وفي : بما يعملون خص العمل دون القول لأن العمل جل ما يترتب عليه الجزاء . والحذف في عدة مواضع .
2 ( ) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( ) ) 2 .
( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ (
آل عمران : ( 164 ) لقد من الله . . . . .
مناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر الفريقين : فريق الرضوان ، وفريق السخط ، وأنهم درجات عند الله مجملاً من غير تفصيل ، فصَّل أحوالهم وبدأ بالمؤمنين ، وذكر ما امتن عليهم به من بعث الرسول إليهم تالياً لآيات الله ، ومبيناً لهم طريق الهدى ، ومطهراً لهم من أرجاس الشرك ، ومنقذاً لهم من غمرة الضلالة بعد أن كانوا فيها . وسلاهم عما أصابهم يوم أحد من الخذلان والقتل والجرح ، لما أنالهم يوم بدر من الظفر والغنيمة . ثم فصَّل حال المنافقين الذين هم أهل السخط بما نص عليه تعالى .
ومعنى مَن تطوّل وتفضل ، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون ببعثه ، والظاهر عمومه . فعلى هذا يكون معنى من أنفسهم من أهل ملتهم ، كما قال : ) لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( والمعنى : من جنس بني آدم ، والامتنان بذلك لحصول الأنس بكونه من الإنس ، فيسهل المتلقى منه ، وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين ، ولمعرفة قوى جنسهم . فإذا ظهرت المعجزة أدركوا أنَّ ذلك ليس في قوى بني آدم ، فعلموا أنّه من عند الله ، فكان ذلك داعية إلى الإجابة . ولو كان الرسول من غير الجنس لتخيل أن تلك المعجزة هي في طباعه ، أشار إلى هذه العلة الماتريدي .
وقيل : المراد بالمؤمنين العرب ، لأنه ليس حيٌّ من أحياء العرب إلا

" صفحة رقم 109 "
له فيهم نسب ، من قبل أمهاته ، إلا بني تغلب لنصرانيتهم قاله : النقاش ، فصار بعثه فيهم شرفاً لهم على سائر الأمم .
ويكون معنى من أنفسهم : أي من جنسهم عربياً مثلهم . وقيل : من ولد إسماعيل ، كما أنهم من ولده . قال ابن عباس وقتادة : قال من أنفسهم لكونه معروف النسب فيهم ، معروفاً بالأمانة والصدق . قال أبو سليمان الدمشقي : ليسهل عليهم التعليم منه ، لموافقة اللسان . وقال الماوردي : لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم انتهى .
والمنة عليهم بكونه من أنفسهم ، إذْ كان اللسان واحداً ، فيسهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه . وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة ، فكان ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به . وقرىء شاذاً : لمن منّ الله على المؤمنين بمن الجارة ومن مجرور بها بدل قد منّ . قال الزمخشري : وفيه وجهان : أنْ يراد لمن منّ الله على المؤمنين منه أو بعثه فيهم ، فحذف لقيام الدلالة . أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك : أخطب ما يكون الأمير ، إذ كان قائما بمعنى لمن مَنَّ الله على المؤمنين وقت بعثه انتهى .
أمّا الوجه الأوّل فهو سائغ ، وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع منها : ) وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ( ) وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ ( ) وَمَا دُونِ ذَلِكَ ( على قول . وأما الوجه الثاني فهو فاسد ، لأنه جعل إذ مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة ألبتة ، إنما تكون ظرفاً أو مضافاً إليها اسم زمان ، ومفعولة باذكر على قول . أمّا أنْ تستعملَ مبتدأة فلم يثبت ذلك في لسان العرب ، ليس في كلامهم نحو : إذ قام زيد طويل وأنت تريد وقت قيام زيد طويل . وقد قال أبو علي الفارسي : لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين ، ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين ، ولا مبتدأين انتهى كلامه . وأمّا قوله : في محل الرفع كإذا ، فهذا التشبيه فاسد ، لأن المشبه مرفوع بالابتداء ، والمشبه به ليس مبتدأ . إنما هو ظرف في موضع الخبر على زعم من يرى ذلك . وليس في الحقيقة في موضع رفع ، بل هو في موضع نصب بالعامل المحذوف ، وذلك العامل هو مرفوع . فإذا قال النحاة : هذا الظرف الواقع خبراً في محل الرفع ، فيعنون أنه لما قام مقام المرفوع صار في محله ، وهو في التحقيق في موضع نصب كما ذكرنا . وأما قوله في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً ، فهذا في غاية الفساد . لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب ، لا يجيز أن ينطق به ، إنما هو أمر تقديري . ونصّ أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإعراب أخطب مبتدأ ، أنَّ هذه الحال سدت مسد الخبر ، وأنه مما يجب حذف الخبر فيه لسد هذه الحال مسده . وفي تقرير هذا الخبر أربعة مذاهب ، ذكرت في مبسوطات النحو .
وقرأ الجمهور : من أنفُسهم بضم الفاء ، جمع نفس . وقرأت فاطمة ، وعائشة ، والضحاك ،

" صفحة رقم 110 "
وأبو الجوزاء : من أنفَسهم بفتح الفاء من النفاسة ، والشيء النفيس . وروي عن أنس أنه سمعها كذلك من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وروى عليّ عنه عليه السلام : ( أنا من أنفسكم نسباً وحسباً وصهراً ، ولا في آبائي من آدم إلى يوم ولدت سفاح كلها نكاح والحمد لله ) .
قيل : والمعنى من أشرفهم ، لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل ، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان ، وخندف ذروة مضر ، ومدركة ذروة خندف ، وقريش ذروة مدركة ، وذروة قريش محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وفيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضي الله عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع اسماعيل ، وضئضىء معه ، وعنصر مضر ، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا الحكام على الناس ، ثم إنَّ ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل . وقال ابن عباس : ما خلق الله نفساً هي أكرم على الله من محمد رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وما أقسم بحياة أحد غيره فقال : لعمرك .
( يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ( تقدّم تفسير هذه الجمل .
( وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ ( أي من قبل بعثه .
( لَفِى ضَلَالَ ( أي حيرة واضحة فهداهم به . وإنْ هنا هي الخففة من الثقيلة ، وتقدّم الكلام عليها وعلى اللام في قوله : ) وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ( والخلاف في ذلك فأغنى عن إعادته هنا . وقال الزمخشري : إنْ هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، وتقديره : وإنّ الشأن والحديث كانوا من قبل لفي ضلال مبين . انتهى . وقال مكي : وقد ذكر أنه قبل إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، أي : وما كانوا من قبلُ إلا في ضلال مبين ، قال : وهذا قول الكوفيين . وأما سيبويه فإنه قال : إنْ مخففة من الثقيلة ، واسمها مضمر ، والتقدير على قوله : وإنهم كانوا من قبل في ضلال مبين . فظهر من كلام الزمخشري أنه حين خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن والحديث . ومن كلام مكي أنها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير عائد على المؤمنين ، وكلا هذين الوجهين لا نعرف . نحو : يا ذهب إليه . إنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنّك إذا قلت : إن زيداً قائم ثم خففت ، فمذهب البصريين فيها إذ ذاك وجهان : أحدهما : جواز الأعمال ، ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشدّدة ، إلا أنها لا تعمل في مضمر . ومنع ذلك الكوفيون ، وهم محجوجون بالسماع الثابت من لسان العرب . والوجه الثاني : وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل ، لا في ظاهر ، ولا في مضمر لا ملفوظ به ولا مقدّر ألبتة . فإنْ وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ، ولزمت اللام في ثاني مضمونيها إن لم ينف ، وفي أولهما إن تأخر فنقول : إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيداً قائم . وإنْ وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من فواتح الابتداء . وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم . والجملة من قوله : وإن كانوا ، حالية . والظاهر أن العامل فيها هو : ويعلمهم ، فهو حال من المفعول .
( أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا

" صفحة رقم 111 "
آل عمران : ( 165 ) أو لما أصابتكم . . . . .
الهمزة للاستفهام الذي معناه الإنكار . وقال ابن عطية : دخلت عليها ألف التقرير ، على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال . وقال الزمخشري : ولمّا نصب بقلتم وأصابتكم في محل الجرّ بإضافة لما إليه ، وتقديره : أقلتم حين أصابتكم ، وأنَّى هذا نصب لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع . ( فإن قلت ) : علامَ عطفت الواو هذه الجملة ؟ ( قلت ) : على ما مضى من قصة أحد من قوله : ) ولقد صدقكم الله وعده ) ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف ، فكأنه قال : أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا ؟ انتهى .
أمّا العطف على ما مضى من قصة أحد من قوله : ولقد صدقكم الله وعده . ففيه بعدٌ ، وبعيد أن يقع مثله في القرآن . وأمّا العطف على محذوف فهو جار على ما تقرر في غير موضع من مذهبه ، وقد رددناه عليه . وأما على مذهب الجمهور سيبويه وغيره قالوا : وأصلها التقديم ، وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها . وأمّا قوله : ولما نصب إلى آخره وتقديره : وقلتم حينئذ كذا ، فجعل لمّا بمعنى حين فهذا ليس مذهب سيبويه ، وإنما هو مذهب أبي علي الفارسي . زعم أنّ لمّا ظرف زمان بمعنى حين ، والجملة بعدها في موضع جرّ بها ، فجعلها من الظروف التي تجب إضافتها إلى الجمل ، وجعلها معمولة للفعل الواقع جواباً لها في نحو : لما جاء زيد جاء عمرو ، فلما في موضع نصب بجاء من قولك : جاء عمرو . وأمّا مذهب سيبويه فلما حرف لا ظرف ، وهو حرف وجوب لوجوب ، ومذهب سيبويه هو الصحيح . وقد بينا فساد مذهب أبي علي من وجوه في كتابنا المسمى : بالتكميل .
والمصيبة : هي ما نزل بالمؤمنين يوم أحد من قتل سبعين منهم ، وكفهم عن الثبات للقتال . وإسنادُ الإصابة إلى المصيبة هو مجاز ، كإسناد الإرادة إلى الجدار ، والمثلان اللذان أصابوهما . قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والربيع ، وجماعة : قتلهم يوم بدر سبعين ، وأسرهم سبعين ، فالمثلية وقعت في العدد من إصابة الرجال . وقال الزجاج : قتلهم يوم بدر سبعين وقتلهم يوم أحد اثنين وعشرين ، فهو قتل بقتل ، ولا مدخل للأسرى في الآية ، لأنهم فدوا فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين ، وقيل : المثلية في الانهزام . هزم المؤمنون الكفار يوم بدر ، وهزموهم أولاً يوم أحد ، وهزمهم المشركون في آخر يوم أحد . وملخص ذلك : هل المثلية في الإصابة من قتل وأسر ، أو من قتل ، أو من هزيمة ؟ ثلاثة أقوال ، والأظهر الأول . لأن قوله : قد أصبتم مثليها هو على طريق التفضل منه تعالى على المؤمنين يا دالتهم على الكفار ، والتسلية لهم على ما أصابهم ، فيكون ذلك بالأبلغ في التسلية . وتنبيههم على أنهم قتلوا منهم سبعين ، وأسروا سبعين أبلغ في المنة وفي التسلية . وأدعى إلى أن يذكروا نعم الله عليهم السابقة ، وأن يتناسوا ما جرى عليهم يوم أحد .
وأنى هذا : جملة من مبتدأ وخبر ، وهي في موضع نصب على أنها معمولة لقوله : قلتم . قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار لما أصابهم ، والمعنى : كيف أصابنا هذا ونحن نقاتل أعداء الله ، وقد وعدنا بالنصر وإمداد الملائكة ؟ فاستفهموا على سبيل التعجب عن ذلك . وأنى سؤال عن الحال هنا ، ولا يناسب أن يكون هنا بمعنى أين أو متى ، لأنّ الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا ، إنما الاستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجب . وقال الزمخشري : أنى هذا من أين هذا ، كقوله : ( أنى لك هذا ) لقوله : ( من عند أنفسكم ) وقوله : ( من عند الله ) انتهى كلامه . والظرف إذا وقع خبر للمبتدأ ألا يقدر داخلاً عليه حرف جر غير في ، أما أنْ يقدَّر داخلاً عليه مِنْ فلا ، لأنه إنما انتصب على إسقاط في . ولك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة في ألاّ أن يتسع في الفعل فينصبه

" صفحة رقم 112 "
نصب التشبيه بالمفعول به ، فتقدير الزمخشري : أنى هذا ، من أين هذا تقدير غير سائغ ، واستدلاله على هذا التقدير بقوله : من عند أنفسكم ، وقوله : من عند الله ، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها . وأمّا على ما قررناه ، فإنّ الجواب جاء على مراعاة المعنى ، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ . وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقاً له في اللفظ ، ومراعي فيه المعنى لا اللفظ . والسؤال بأبي سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر ، والجواب بقوله : من عند أنفسكم يتضمن تعيين الكيفية ، لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى . لو قيل على سبيل التعجب والإنكار : كيف لا يحج زيد الصالح ، وأجيب ذلك بأن يقال : بعدم استطاعته حصل الجواب وانتظم من المعنى ، أنه لا يحج وهو غير مستطيع .
( قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ( الإضمار في هو راجع إلى المصيبة على المعنى ، لا على اللفظ . وتقدم تفسير المصيبة في تفسير مقابل المثلين : أهو القتل المقابل للقتل والأسر ، أو المقابل للقتل فقط ؟ أو الانهزام المقابل للانهزامين ؟ والمعنى : أن سبب هذه المصيبة صدر من عند أنفسكم . فقيل : هو الفداء الذي آثروه على القتل يوم بدر من غير إذن الله تعالى ، قال معناه : عمر بن الخطاب ، وعليّ ، والحسن ، وروى عليّ في ذلك : أنّه لما فرغت هزيمة المشركين يوم بدر جاء جبريل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : ( يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسرى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : أن يقدموا الأسرى فتضرب أعناقهم ، أو يأخذوا الفداء على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسرى ، فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الناس ، فذكر ذلك لهم فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وأخواننا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ، ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره ) . فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلاً . وقال الجمهور : هو مخالفة الرسول في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك الكفار بشر مجلس ، فخالفوا وخرجوا حتى جرت القصة . وقالت طائفة منهم ابن عباس ، ومقاتل : هو عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين . وقد لخص الزمخشري هذه الأقوال الثلاثة أحسن تلخيص . فقال : المعنى أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة ، أو لتخليتكم المركز . وعن عليّ : لأخذكم الفداء من أساري بدر قبل أن يؤذَن لكم انتهى . ولم يعين الله تعالى السبب ما هو لطفاً بالمؤمنين في خطابه تعالى لهم . والظاهر في قوله : ( أنَّى هذا ) هو من سؤال المؤمنين على سبيل التعجب .
وذكر الرازي أن الله لما حكى عن المنافقين طعنهم في الرسول بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة ، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم : لو كان رسولاً من عند الله لما انهزم عسكره يوم أحد ، وهو المراد من قولهم : أنَّى هذا . فأجاب عنه بقوله : قل هو من عند أنفسكم ، أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم انتهى كلامه . ودل على أن قوله : أنى هذا من كلام المنافقين . وقال الماتريدي أيضاً : إنّه من كلام المنافقين . والظاهر ما قلناه أنه من كلام المؤمنين ، وهم المخاطبون بقوله : ( أو لما أصابتكم مصيبة ) لأن المنافقين لم تصبهم مصيبة ، لأنهم رجعوا مع عبد الله بن أبي ولم يحضروا القتال ، إلا أن تجوز في قوله : أصابتكم مصيبة بمعنى أصابت أقرباءكم وأخوانكم ، فهو يمكن على بعد .
( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ( أي قادر على النصر ، وعلى منعه ، وعلى أن يصيب بكم تارة ، ويصيب منكم أخرى . ونبه بذلك على أن ما أصابهم كان لوهن في دينهم ، لا لضعف في قدرة الله ، لأن من هو قادر على كل شيء

" صفحة رقم 113 "
هو قادر على دفاعهم على كل حال .
آل عمران : ( 166 ) وما أصابكم يوم . . . . .
( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ ( هو يوم أحد . والجمعان ، جمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكفار قريش ، والخطاب للمؤمنين . وما موصولة مبتدأ ، والخبر قوله : فبإذن الله ، وهو على إضمار أي : فهو بإذن الله . ودخول الفاء هنا . قال الحوفي : لما في الكلام من معنى الشرط لطلبته للفعل . وقال ابن عطية : ودخلت الفاء رابطة مسددة . وذلك للإبهام الذي في ما فأشبه الكلام الشرط ، وهذا كما قال سيبويه : الذي قام فله درهمان ، فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء انتهى كلامه . وهو أحسن من كلام الحوفي ، لأن الحوفي زعم أن في الكلام معنى الشرط . وقال ابن عطية : فأشبه الكلام الشرط . ودخول الفاء على ما قاله الجمهور وقرروه قلق هنا ، وذلك أنهم قرّروا في جواز دخول الفاء على خبر الموصول أنّ الصلة تكون مستقلة ، فلا يجيزون الذي قام أمس فله درهم ، لأن هذه الفاء إنما دخلت في خبر الموصول لشبهه بالشرط . فكما أن فعل الشرط لا يكون ماضياً من حيث المعنى ، فكذلك الصلة .
والذي أصابهم يوم التقى الجمعان هو ماض حقيقة ، فهو إخبار عن ماض من حيث المعنى . فعلى ما قرّروه يشكل دخول الفاء هنا . والذي نذهب إليه : أنه يجوز دخول الفاء في الخبر الصلة ماضية من جهة المعنى لورود هذه الآية ، ولقوله تعالى : ) وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ( ومعلوم أن هذا ماض معنى مقطوع بوقوعه صلة وخبر ، أو يكون ذلك على تأويل : وما يتبين إصابته إياكم . كما تأولوا : ( إنْ كان قميصه قدّ ) أي إن تبين كون قميصه قدّ . وإذا تقرّر هذا فينبغي أن يحمل عليه قوله تعالى : ) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم فإن ظاهر هذه كلها أخبار عن الأمور الماضية . ويكون المعنى على التبين المستقبل .
وفسر الإذن هنا بالعلم . وعبر عنه به لأنه من مقتضايه قاله : الزُّجاج . أو بتمكين الله وتخليته بين الجمعين قاله : القفال . أو بمرأى ومسمع ، أو بقضائه وقدره . وقال الزمخشري : فهو كائن بإذن الله ، استعار الإذن لتخلية الكفار ، وأنه لم يمنعهم منهم ليبتلهم ، لأن الآذن مخل بين المأذون له ومراده . انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال ، لأنَّ قتل الكفار للمؤمنين قبيح عنده ، فلا إذن فيه . وقال ابن عطية : يحسن دخول الفاء إذا كان سبب الإعطاء ، وكذلك ترتيب هذه الآية . فالمعنى : إنما هو وما أذن الله فيه فهو الذي أصاب ، لكنْ قدّم الأهم في نفوسهم والأقرب إلى حسهم . والإذن : التمكين من الشيء مع العلم به انتهى كلامه . لما كان من حيث المعنى أن الإصابة مترتبة على تمكين الله ، من ذلك حملُ الآية على ذلك ، وادّعى تقديماً وتأخيراً ، ولا تحتاج الآية إلى ذلك ، لأنه ليس شرطاً وجزاء فيحتاج فيه إلى ذلك ، بل هذا من باب الاخبار عن شيء ماض ، والاخبار صحيح . أخبر تعالى أنّ الذي أصابهم يوم أحد كان لا محالة بإذن الله ، فهذا إخبار صحيح ، ومعنى صحيح ، فلا نتكلف تقديماً ولا تأخيراً ، وتجعله من باب الشرط والجزاء .
( وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ

" صفحة رقم 114 "
آل عمران : ( 167 ) وليعلم الذين نافقوا . . . . .
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ ( هو على حذف مضاف أي : وليعلم إيمان المؤمنين ، ويعلم نفاق الذين نافقوا . أو المعنى : وليميز أعيان المؤمنين من أعيان المنافقين . وقيل : ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين مساوقاً للعلم الذي لم يزل ولا يزال . وقيل : ليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء . وقد تقدم تأويل مثل هذا في قوله : ) لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ ( وقالوا : تتعلق الآية بمحذوف أي : ولكذا فعل ذلك . والذي يظهر أنه معطوف على قوله : بإذن الله ، عطف السبب على السبب . ولا فرق بين الباء واللام ، فهو متعلق بما تعلقت به الباء من قوله : فهو كائن . والذين نافقوا هنا عبد الله بن أبي وأصحابه .
( وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ ( القائل : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أبو جابر بن عبد الله لما انخذل عبدُ الله بن أبي في نحو ثلاثمائة تبعهم عبد الله فقال لهم : اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم ، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، ونحو هذا من القول . فقال عبد الله بن أبي : ما أرى أن يكون قتال ، ولو علمناه لكنا معكم . فلما يئس منهم عبد الله قال : اذهبوا أعداء الله ، فسيغني الله عنكم ، ومضى حتى استشهد . قال السدي : وابن جريج ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، والفرّاء : معناه : كثروا السواد وإن لم تقاتلوا فتدفعون القوم بالتكثير . وقال أبو عون الأنصاري معناه : رابطوا ، وهو قريب من الأول ، لأن المرابط في الثغور دافع للعدو ، إذ لولاه لطرقها . قال أنس : رأيت عبد الله بن أم مكتوم يوم القادسية وعليه درع بجر أطرافها ، وبيده راية سوداء ، فقيل له : أليس قد أنزل الله عذرك ؟ قال : بلى ولكني أكثر المسلمين بنفسي . وقيل : القتال بالأنفس ، والدفع بالأموال . وقيل : المعنى أو ادفعوا حمية ، لأنه لمّا دعاهم أولاً إلى أن يقاتلوا في سبيل الله وجد عزائمهم منحلة عن ذلك ، إذ لا باعث لهم في ذلك لنفاقهم ، فاستدعى منهم أن يدفعوا عن الحوزة ، فنبه على ما يقاتل لأجله : إمّا لإعلاء الدين ، أو لحمى الذمار . ألا ترى إلى قول قزمان : والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي . وقول الأنصاري وقد رأى قريشاً ترعى زرع قناة : أترعى زروع بني قيلة ولما تضارب ، مع أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره .
وأو على بابها من أنها لأحد الشيئين . وقيل : يحتمل أن تكون بمعنى الواو ، فطلب منهم الشيئين : القتال في سبيل الله ، والدفع عن الحريم والأهل والمال . فكفار قريش لا تفرق بين المؤمن والمنافق في القتل والسبي والنهب ، والظاهر أن قوله : وقيل لهم ، كلام مستأنف . قسم الأمر عليهم فيه بين أن يقاتلوا للآخرة ، أو يدفعوا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم . حكى الله عنهم ما يدل على نفاقهم في هذا السؤال والجواب ، ويحتمل أن يكون قوله : وقيل لهم معطوف على نافقوا ، فيكون من الصلة .
( قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ ( إنما لم ترد بالفاء لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاؤهم إلى القتال كأنه قيل : فماذا قالوا ؟ فقيل : قالوا لو نعلم ، ونعلمُ هنا في معنى علمنا ، لأنّ لو من القرائن التي تخلص المضارع

" صفحة رقم 115 "
لمعنى الماضي إذا كانت حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، فإذا كانت بمعنى إنْ الشرطية تخلص المضارع لمعنى الاستقبال . ومضمون هذا الجواب أنهم علقوا الاتباع على تقدير وجود علم القتال ، وعلمهم للقتال منتف ، فانتفى الاتباع واخبارهم بانتفاء علم القتال منهم إمّا على سبيل المكابرة والمكادبة ، إذ معلوم أنه إذا خرج عسكران وتلاقيا وقد قصد أحدهما الآخر من شقة بعيدة في عدد كثير وعدد ، وخرج إليهم العسكر الآخر من بلدهم للقائهم قبل أن يصلوا بلدهم واثقين بنصر الله مقاتلين في سبيل الله ، وإن كانوا أقل من أولئك ، أنه سينشب بينهم قتال لا محالة ، فأنكروا علم ذلك رأساً لما كانوا عليه من النفاق والدغل والفرح بالاستيلاء على المؤمنين . وإمّا على سبيل التخطئة لهم في ظنهم أن ذلك قتال في سبيل الله . وليس كذلك ، إنما هو رمي النفوس في التهلكة ، إذ لا مقاومة لهم بحرب الكفار لكثرتهم وقلة المؤمنين ، لأن رأى عبد الله بن أبي كان في الإقامة بالمدينة وجعلها ظهراً للمؤمنين ، وما كان يستصوب الخروج كما مرّ ذكره في قصة أحد .
( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ ( وجه الأقربية التي هي الزيادة في القرب إنهم كانوا يظهرون الإيمان ، ولم تكن تظهر لهم إمارة تدل على الكفر ، فلما انخذلوا عن المؤمنين وقالوا ما قالوا زادوا قرباً للكفر ، وتباعدوا عن الإيمان . وقيل : هو على حذف مضاف أي : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين .
وأقرب هنا افعل تفضيل ، وهي من القرب المقابل للبعد . ويعدّي بإلى وباللام وبمن ، فيقال : زيد أقرب لكذا ، وإلى كذا ، ومن كذا من عمرو . فمن الأولى ليست التي يتعدى بها افعل التفضيل مطلقاً في نحو : زيد أفضل من عمرو . وحرفا الجر هنا يتعلقان بأقرب ، وهذا من خواص أفعل التفضيل إنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد ، وليس أحدهما معطوفاً على الآخر . ولا بدلاً منه بخلاف سائر العوامل ، فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد إلا بالعطف ، أو على سبيل البدل . فتقول : زيد بالنحو أبصر منه بالفقه .
والعامل في يومئذ أقرب . ومنهم متعلق بأقرب أيضاً ، والجملة المعوض منها التنوين هي السابقة ، أي : هم قوم إذ قالوا : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم . وذهب بعض المفسرين فيما حكى النقاش : إلى أن أقرب ليس هو هنا المقابل للأبعد ، وإنما هو من القَرَب بفتح القاف والراء وهو المطلب ، والقارب طالب الماء ، وليلة القرب ليلة الوداد ، فاللفظة بمعنى الطلب . ويتعين على هذا القول التعدية باللام ، ولا يجوز أن تعدّى بإلى ولا بمن التي لا تصحب كل أفعل التفضيل ، وصار نظير زيد أقرب لعمرو من بكر . وأكثر العلماء على أن هذه الجملة تضمنت النص على كفرهم . قال الحسن : إذا قال الله : أقرب ، فهو اليقين بأنهم مشركون . كقوله : ( مائة ألف أو يزيدون ) فالزيادة لا شك فيها ، والمكلف لا ينفك عن الكفر أو الإيمان . فلما دلت على الأقربية من الكفر لزم حصول الكفر .
وقال الواحدي في الوسيط : هذه الآية دليل على أنَّ من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ، لأنه تعالى لم يطلق القول عليهم بتكفيرهم مع أنهم كانوا كافرين مع إظهارهم لقول : لا إلاه إلا الله محمد رسول الله . قال الماتريدي : أقرب أي ألزم على الكفر ، وأقبل له مع وجود الكفر منهم حقيقة ، لا على القرب إليه قبل الوقوع والوجود لقوله : ) ءانٍ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ ( أي هي لهم لا على القرب قبل الوجود ، لكنهم لما كانوا أهل نفاق والكفر لم يفارق قلوبهم وما كان من أيمانهم ، كان بظاهر اللسان قد يفارقها في أكثر أوقاتهم ، وصفوا به . ويحتمل أن يحمل على القرب من حيث كانوا شاكين في الأمر ، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان ، فهو أقرب إلى الكفر . أو من حيث قالوا للمؤمنين : ( ألم نكن معكم ) وللكافرين : ( ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ) أو من حيث ما أظهروا من الإيمان كذب ، والكفر نفسه كذب . فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم أقرب إليه وهو الكفر ، أو من

" صفحة رقم 116 "
حيث أنهم أحق به أن يعرفوا . كما جعل الله لهم أعلاماً يعرفون بها ، أو من حيث لا يعبدون الله ولا يعرفونه ، بل هم عباد الأصنام لاتخاذهم لها أرباباً ، أو لتقرّبهم بها إلى الله ، فإذا أصابتهم شدّة فرعوا إلى الله ، والمؤمنون يرجعون إلى الله في الشدّة والرخاء .
( يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ( أي يظهرون من الإسلام ما يحقنون به دماءهم ، ويحفظون أهليهم من السبي ، وأموالهم من النهب . وليس ما يظهرون ما تنطوي عليه ضمائرهم ، بل هو لا يتجاوز أفواههم ومخارج الحروف منها ، ولم تع قلوبهم منه شيئاً . وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم ، وأنَّ إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم ، بخلاف إيمان المؤمنين في مواطأة عقد قلوبهم للفظ ألسنتهم . قال ابن عطية : بأفواههم توكيد مثل : يطير بجناحيه انتهى . ولا يظهر أنه توكيد ، إذِ القولُ ينطلق على اللساني والنفساني ، فهو مخصص لأحد الانطلاقين إلا إنْ قلنا : إنّ إطلاقه على النفساني مجاز ، فيكون إذ ذاك توكيداً لحقيقة القول .
( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ( أي من الكفر وعداوة الدين . وقال : أعلم ، لأن علمه تعالى بهم علم إحاطة بتفاصيل ما يكتمونه وكيفياته ، ونحن نعلم بعض ذلك علماً مجملاً . وتضمنت هذه الجملة التوعد الشديد لهم ، إذ المعنى : ترتب الجزاء على علمه تعالى بما يكتمون .
( الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا (
آل عمران : ( 168 ) الذين قالوا لإخوانهم . . . . .
هذه الآية نظير قوله : ( وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض ) الآية وفسر الإخوان هنا بما فسر به هناك . وتحتمل لام الجر ما احتملته في تلك ، وجوزوا في إعراب الذين وجوهاً : الرفع على النعت للذين نافقوا ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو على أنه بدل من الواو في يكتمون ، والنصب على الذم أي : أذم الذين ، والجرّ على البدل من الضمير في بأفواههم أو في قلوبهم .
والجملة من قوله : وقعدوا حالية أي : وقد قعدوا . ووقوع الماضي حالاً في مثل هذا التركيب مصحوباً بقد ، أو بالواو ، أو بهما ، أو دونهما ، ثابت من لسان العرب بالسماع . ومتعلق الطاعة هو ترك الخروج . والقعود كما قعدوا هم ، وهذا منهم قول بالأجلين أي : لو وافقونا في التخلف والقعود ما قتلوا ، كما لم نقتل نحن . وقرأ الحسن : ما قتلوا بالتشديد . ) قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( أكذبهم الله تعالى في دعواهم ذلك ، فكأنه قيل : القتل ضرب من الموت ، فإنْ كان لكم سبيل إلى دفعه عن أنفسكم بفعل اختياري فادفعوا عنها الموت ، وإن لم يكن ذلك دلّ على أنكم مبطلون في دعواكم . والدرة : الدفع ، وتقدّمت مادته في قوله : ( فادارأتم فيها ) وقال دغفل النسابة : صادف درء السيل درأ يدفعه
والعبء لا تعرفه أو ترفعه
والمعنى : إنْ كنتم صادقين في دعواكم أنَّ التحيل والتحرز ينجي من الموت ، فجدّوا أنتم في دفعه ، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلاً بل لا بد أن يتعلق بكم بعض أسباب المنون . وهب أنكم على زعمكم دفعتم بالقعود هذا السبب الخاص ، فادفعوا سائر أسباب الموت ، وهذا لا يمكن لكم ألبتة . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود ، فما معنى قوله : إن كنتم صادقين ؟ ( قلت ) : معناه أنّ النجاة من القتل يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال ، وأن يكون غيره . لأن أسباب النجاة كثيرة . وقد يكون قتال الرجل نجاته ، ولو لم يقاتل لقتل ، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وإنكم صادقون في مقاتلتكم وما أنكرتم أن يكون السبب غيره ؟ ووجه

" صفحة رقم 117 "
آخر : إن كنتم صادقين في قولكم : لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا ، يعني : أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين ، كما قتلوا مقاتلين . وقوله : فادرؤا عن أنفسكم الموت ، استهزاء بهم ، أي إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا انتهى كلامه . وهو حسن على طوله .
( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ (
آل عمران : ( 169 ) ولا تحسبن الذين . . . . .
قيل : هم قتلى أحد ، وقيل : شهداء بئر معونة . وقيل : شهداء بدر . وهل سبب ذلك قول من استشهد وقد دخل الجنة فأكل كل من ثمارها : من يبلغ عنا أخواننا أنا في الجنة نرزق ، لا تزهدوا في الجهاد . فقال الله : أنا أبلغ عنكم ، فنزلت . أو قول من لم يستشهد من أولياء الشهداء : إذا أصابتهم نعمة نحن في النعمة والسرور ، وآباؤنا وأبناؤنا وأخواننا في القبور ، فنزلت .
وقرأ الجمهور : ولا تحسبن بالتاء ، أي ولا تحسبن أيها السامع . وقال الزمخشري : الخطاب لرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو لكل أحد . وقرأ حميد بن قيس وهشام بخلاف عنه بالياء ، أي : ولا يحسبن هو ، أي : حاسب واحد . قال ابن عطية : وأرى هذه القراءة بضم الياء ، فالمعنى : ولا يحسبن الناس انتهى .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلاً ، ويكون التقدير : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً ، أي : لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً . ( فإن قلت ) : كيف جاز حذف المفعول الأوّل ؟ ( قلت ) : هو في الأصل مبتدأ فحذف كما حذف المبتدأ في قوله : أحياء . والمعنى : هم أحياء لدلالة الكلام عليها انتهى كلامه . وما ذهب إليه من أن التقدير : ولا تحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً لا يجوز ، لأنَّ فيه تقديم المضمر على مفسره ، وهو محصور في أماكن لا تتعدى وهي باب : رب بلا خلاف ، نحو : ربه رجلاً أكرمته ، وباب نعم وبئس في نحو : نعم رجلاً زيد على مذهب البصريين ، وباب التنازع على مذهب سيبويه في نحو : ضرباني وضربت الزيدين ، وضمير الأمر والشأن وهو المسمى بالمجهول عند الكوفيين نحو : هو زيد منطلق ، وباب البدل على خلاف فيه بين البصريين في نحو : مررت به زيد ، وزاد بعض أصحابنا أن يكون الظاهر المفسر خبراً للضمير ، وجعل منه قوله تعالى : ) وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( التقدير عنده : ما الحياة إلا حياتنا الدّنيا . وهذا الذي قدره الزمخشري ليس واحداً من هذه الأماكن المذكورة . وأما سؤاله وجوابه فإنه قد يتمشى على رأي الجمهور في أنه : يجوز حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها اختصاراً ، وحذف الاختصار هو لفهم المعنى ، لكنه عندهم قليل جداً . قال أبو عليّ الفارسي : حذفه عزيز جداً ، كما أن حذف خبر كان كذلك ، وإن اختلفت جهتا القبح انتهى . قول أبي علي . وقد ذهب الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن ملكون الحضرمي الإشبيلي إلى منع ذلك اقتصاراً ، والحجة له وعليه مذكورة في علم النحو . وما كان بهذه المثابة ممنوعاً عند بعضهم عزيزاً حذفه عند الجمهور ، ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى . فتأويل مَن تأوّل الفاعل مضمراً يفسره المعنى ، أي : لا يحسبن هو أي أحد ، أو حاسب أولى . وتنفق القراءتان في كون الفاعل ضميراً وإن اختلفت بالخطاب والغيبة .
وتقدم الكلام على معنى موت الشهداء وحياتهم في قوله : ) وَلاَ تَقُولُوا

" صفحة رقم 118 "
لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء } فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقرأ الحسن وابن عامر قتلوا بالتشديد . وروي عن عاصم : قاتلوا . وقرأ الجمهور : قتلوا مخففاً . وقرأ الجمهور : بل أحياء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : بل هم أحياء . وقرأ ابن أبي عبلة : أحياء بالنصب . قال الزمخشري : على معنى بل أحسبهم أحياء انتهى . وتبع في إضمار هذا الفعل الزجاج قال الزجاج : ويجوز النصب على معنى : بل أحسبهم أحياءً . ورده عليه أبو علي الفارسي في الإغفال وقال : لا يجوز ذلك ، لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة . فوجهُ قراءة ابن أبي عبلة أن يُضمر فعلاً غير المحسبة اعتقدهم أو اجعلهم ، وذلك ضعيف ، إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر انتهى كلام أبي علي . وقوله : لا يجوز ذلك لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة معناه : أنَّ المتيقن لا يعبر عنه بالمحسبة ، لأنها لا تكون لليقين . وهذا الذي ذكره هو الأكثر ، وقد يقع حسب لليقين كما تقع ظن ، لكنه في ظن كثير ، وفي حسب قليل . ومن ذلك في حسب قول الشاعر : حسبت التقى والحمد خير تجارة
رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلا
وقول الآخر : شهدت وفاتوني وكنت حسبتني
فقيراً إلى أن يشهدوا وتغيبي
فلو قدر بعد : بل أحسبهم بمعنى أعلمهم ، لصحَّ لدلالة المعنى عليه ، لا لدلالة لفظ ولا تحسبن ، لاختلاف مدلوليهما . وإذا اختلف المدلول فلا يدل أحدهما على الآخر . وقوله : ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة غير مسلم ، لأنه إذا امتنع من حيث المعنى إضماره أضمر غيره لدلالة المعنى عليه لا اللفظ . وقوله : أو اجعلهم ، هذا لا يصح ألبتة ، سواء كانت اجعلهم بمعنى اخلقهم ، أو صيرهم ، أو سمهم ، أو القهم . وقوله : وذلك ضعيف أي النصب ، وقوله : إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر إن عنى من حيث اللفظ فصحيح ، وإن عنى من حيثُ المعنى فغير مسلم له ، بل المعنى يسوغ النصب على معنى اعتقدهم ، وهذا على تسليم إن حسب لا يذهب بها مذهب العلم .
ومعنى عند ربهم : بالمكانة والزلفى ، لا بالمكان . قال ابن عطية : فيه حذف مضاف تقديره : عند كرامة ربهم ، لأن عند تقتضي غاية القرب ، ولذلك يصغر قاله سيبويه انتهى . ويحتمل عند ربهم أن يكون خبراً ثانياً ، وصفة ، وحالاً . وكذلك يرزقون : يجوز أن يكون خبراً ثالثاً ، وأن يكون صفة ثانية . وقدَّم صفة الظرف على صفة الجملة ، لأن الأفصح هذا وهو : أن يقدم الظرف أو المحرور على الجملة إذا كانا وصفين ، ولأن المعنى في الوصف بالزلفى عند الله والقرب منه أشرف من الوصف بالرزق . وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف ، ويكون العامل فيه في الحقيقة هو العامل في الظرف .
قال ابن عطية : أخبر تعالى عن الشهداء أنهم في الجنة يرزقون ، هذا موضع الفائدة . ولا محالة أنهم ماتوا ، وإنَّ أجسادهم في التراب ، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين . وفضّلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم . فقوله : بل أحياء مقدمة لقوله : يرزقون ، إذ لا يرزق إلا حي . وهذا كما يقول لمن ذم رجلاً . بل هو رجل فاضل ، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل انتهى ما قاله ابن عطية . ولا يلزم ما ذكره من أن لفظة أحياء جيء بها مجتلبة لذكر الرزق ، لكون الحياة مشتركاً فيها الشهيد والمؤمنون ، لأنه يجوز أن يكون هذا الإخبار بحياة الشهداء متقدماً على الإخبار بأن أرواح المؤمنين على العموم حية فاستفيد ، أو لا حياة أرواح الشهداء ، ثم جاء بعد الإخبار بحياة أرواح

" صفحة رقم 119 "
المؤمنين . وأيضاً ففي ذكره النص على نقيض ما حسبوه وهو : كون الشهداء أمواتاً . والبعد عن أن يراد بقوله : يرزقون ، ما يحتمله المضارع من الاستقبال . فإذا سبقه ما يدل على الالتباس بالوصف حالة الإخبار كان حكم ما بعده حكمه ، إذ الأصل في الأخبار أن يكونَ من أسندت إليه متصفاً بذلك في الحال ، إلا إن دلت قرينة على مضي أو استقبال من لفظ أو معنى ، فيصار إليه .
آل عمران : ( 170 ) فرحين بما آتاهم . . . . .
( فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( أي مسرورين بما أعطاهم الله من قربه ، ودخول جنته ، ورزقهم فيها ، إلى سائر ما أكرمهم به ، ولا تعارض بين : فرحين ، وبين ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( في قصة قارون . لأنّ ذاك بالملاذ الدنيوية ، وهذا بالملاذ الأخروية . ولذلك جاء قلْ بفضل الله وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا وجاء : ) وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ).
ومن يحتمل أن تكون للسبب ، أي : ما آتاهم الله متسبب عن فضله ، فتتعلق الباء بآتاهم . ويحتمل أن تكون للتبعيض ، فتكون في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على ما ، أي : بما آتاهموه الله كائناً من فضله . ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية ، فتتعلق بآتاهم . وجوّزوا في فرحين أن يكون حالاً من الضمير في يرزقون ، أو من الضمير في الظرف ، أو من الضمير في أحياء ، وأن يكون صفة لأحياء إذا نصب .
( وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ ( وهم : جميع المؤمنين ، أي : يحصل لهم البشرى بانتفاء الخوف والحزن عن أخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم في الشهادة ، فهم فرحون بما حصل لهم ، مستبشرون بما يحصل لأخوانهم المؤمنين قاله : الزجاج وابن فورك وغيرهما . وقال قتادة وابن جريج والربيع وغيرهم : هم الشهداء الذين يأتونهم بعد من أخوانهم المؤمنين الذين تركوهم يجاهدون فيستشهدون ، فرحوا لأنفسهم ولمن يلحق بهم من الشهداء ، إذ يصيرون إلى ما صاروا إليه من كرامة الله تعالى .
قال ابن عطية : وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة ، بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار . انتهى كلامه . أما قوله : ليست بمعنى طلب البشارة فصحيح ، وأما قوله : بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار ، فيعني أنها تكون بمعنى الفعل المجرد كاستغنى بمعنى غني ، واستمجد بمعنى مجد ، ونقل أنه يقال : بشِر الرجل بكسر الشين ، فيكون استبشر بمعناه . ولا يتعين هذا المعنى ، بل يجوز أن يكون مطاوعاً لأفعل ، وهو الأظهر أي : أبشره الله فاستبشر ، كقولهم : أكانه فاستكان ، وأشلاه فاستشلى ، وأراحه فاستراح ، وأحكمه فاستحكم ، وأكنه فاستكنّ ، وأمرّه فاستمرّ ، وهو كثير . وإنما كان هذا الأظهر هنا ، لأنه من حيث المطاوعة يكون منفعلاً عن غيره ، فحصلت له البشر بابشار الله له بذلك . ولا يلزم هذا المعنى إذا كان بمعنى المجرد ، لأنه لا يدل على المطاوعة . ومعنى : من خلفهم ، قد بقوا بعدهم ، وهم قد تقدّموهم إذا كان المعنى بالذين لم يلحقوا الشهداء ، وإن كان المعنيّ بهم المؤمنين فمعنى لم يلحقوا بهم أي : لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم .
( أَن لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( وجوزوا في إعراب ويستبشرون أن يكون معطوفاً على فرحين ومستبشرين كقوله : ( صافات ويقبضن ) أي قابضات وأن يكون على إضمارهم . والوا للحال ، فتكون حالية من الضمير في فرحين ، أو من ضمير المفعولين في آتاهم ، أو للعطف . ويكون مستأنفاً من باب عطف الجملة الاسمية أو الفعلية على نظيرها .
وإن هي المخففة من

" صفحة رقم 120 "
الثقيلة ، واسمها محذوف ضمير الشأن ، وخبرها الجملة المنفية بلا . وإن ما بعدها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من الذين ، فيكون هو المستبشر به في الحقيقة . أو منصوب على أنه مفعول من أجله ، فيكون علة للاستبشار ، والمستبشر به غيره . التقدير : لأنه لا خوف عليهم . والذوات لا يستبشر بها فلا بد من تقدير مضاف مناسب ، وتقدّم تفسير : لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فأغني عن إعادته .
وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة ، والجد في الجهاد ، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم ، وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيمتنى مثله لإخوانه في الله ، وبشرى للمؤمنين بالفوز في المآب قاله : الزمخشري . وهو كلام حسن .
قيل : وتضمنت هذه الآيات من ضروب البديع ، الطباق في قوله : لقد منّ الله الآية ، إذ التقدير منّ الله عليهم بالهداية ، فيكون في هذا المقدّر . وفي قوله : في ضلال مبين ، وفي : يقولون بأفواههم ، والقول ظاهر ويكتمون . وفي قالوا لإخوانهم وقعدوا ، إذ التقدير حين خرجوا وقعدوا هم . وفي : أمواتاً بل أحياء وفي : فرحين ويحزنون . والتكرار في : وليعلم المؤمنين ، وليعلم الذين نافقوا الاختلاف متعلق العلم . وفي فرحين ويستبشرون . والتجنيس المغاير في : إصابتكم مصيبة ، والمماثل في : أصابتكم قد أصبتم . والاستفهام الذي يراد به الإنكار في : أو لما أصابتكم . والاحتجاج النظري في : قل فادرأوا عن أنفسكم . والتأكيد في : ولا هم يحزنون . والحذف في عدة مواضع لا يتم المعنى إلا بتقديرها .
2 ( ) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاٌّ خِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاًّنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَات

" صفحة رقم 121 "
ِ وَالاٌّ رْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( )
آل عمران : ( 171 ) يستبشرون بنعمة من . . . . .
الحظ النصيب ، وإذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير . ماز و مير : فصل الشيء من الشيء . قال يعقوب : هما لغتان بمعنى واحد انتهى . والتضعيف ليس للنقل . وقيل : التشديد أقرب إلى الفخامة وأكثر في الاستعمال ، ألا ترى أنهم استعملوا المصدر على نية التشديد فقالوا : التمييز ، ولم يقولوا الميز انتهى . ويعني : ولم تقولوه مسموعاً ، وأما بطريق القياس فيقال . وقيل : لا يكون ما زالا في كثير من كثير ، فأما واحد من واحد فيتميز على معنى يعزل ، ولهذا قال أبو معاذ : يقال : ميزت بين شيئين ، ومزت بين الأشياء . اجتبى : اختار واصطفى ، وهي من جبيت الماء ، والمال وجبوتهما فاجتبى ، افتعل منه . فيحتمل أن تكون اللام واو أو ياء .
( يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ( كرر الفعل على سبيل التوكيد ، إن كانت النعمة والفضل بياناً لمتعلق الاستبشار الأول ، قاله : الزمخشري . قال : وكرّر يستبشرون ليعلق به ما هو بيان لقوله : ) أَن لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( من ذكر النعمة والفضل ، وأن ذلك أجر لهم على إيمانهم ، يجب في عدل الله وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع انتهى . وهو على طريقة الاعتزال ، في ذكره وجوب الأجر وتحصيله على إيمانهم . وسلك ابن عطية طريقة أهل السنة فقال : أكد استبشارهم بقوله : يستبشرون ، ثم بين بقوله : وفضل إدخالهم الجنة الذي هو فضل منه ، لا بعمل أحد ، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال انتهى .
وقال غيرهما : هو بدل من الأول ، فلذلك لم يدخل عليه واو العطف . ومن ذهب إلى أنّ الجملة حال من الضمير في يحزنون ، ويحزنون هو العامل فيها ، فبعيد عن الصواب . لأن الظاهر اختلاف المنفى عنه الحزن والمستبشر ، ولأن الحال قيد ، والحزن ليس بمقيد . والظاهر أنَّ قوله : يستبشرون ليس بتأكيد للأول ، بل هو استئناف متعلق بهم أنفسهم ، لا بالذين لم يلحقوا بهم . فقد اختلف متعلق الفعلين ، فلا تأكيد لأن هذا المستبشر به هو لهم ، وهو : نعمة الله عليهم وفضله . وفي التنكثير دلالة على بعض غير معين ، وإشارة إلى إبهام المراد تعظيماً لأمره وتنبيهاً على صعوبة إدراكه ، كما جاء فيها ) مَا لاَ عِينٌ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشّرَ ( والظاهر تباين النعمة والفضل للعطف ، ويناسب شرحهما أن ينزل على قوله : ) لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( وزيادة فالحسنى هي النعمة ، والزيادة هي الفضل لقرينة قوله : أحسنوا وقوله ) لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ).
وقال الزجاج : النعمة هي الجزاء والفضل زائد عليه قدر الجزاء . وقيل : النعمة قدر الكفاية ، والفضل المضاعف عليها مع مضاعفة السرور بها واللذة . وقيل : الفضل داخل في النعمة دلالة على اتساعها ، وأنها ليست كنعم الدنيا . وقرأ الكسائي وجماعة : وإن الله بكسر الهمزة على الاستئناف ويؤيده قراءة عبد الله ومصحفه : والله لا يضيع أجره . وقال الزمخشري : وعلى أن

" صفحة رقم 122 "
الجملة اعتراض ، وهي قراءة الكسائي انتهى . وليست الجملة هنا اعتراضاً لأنها لم تدخل بين شيئين أحدهما يتعلق بالآخر ، وإنما جاءت لاستئناف أخبار . وقرأ باقي السبعة والجمهور : بفتح الهمزة عطفاً على متعلق الاستبشار ، فهو داخل فيه . قال أبو علي : يستبشرون بتوفير ذلك عليهم ، ووصوله إليهم ، لأنه إذا لم يضعه وصل إليهم ولم يبخسوه . ولا يصح الاستبشار بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ، لأن الاستبشار إنما يكون بما لم يتقدم به علم ، وقد علموا قبل موتهم إن الله لا يضيع أجر المؤمنين ، فهم يستبشرون بأن الله ما أضاع أجورهم حتى اختصهم بالشهادة ومنحهم أتم النعمة ، وختم لهم بالنجاة والفوز ، وقد كانوا يخشون على إيمانهم ، ويخافون سوء الخاتمة المحبطة للأعمال ، فلما رأوا ما للمؤمنين عند الله من السعادة وما اختصهم به من حسن الخاتمة التي تصحّ معها الأجور وتضاعف الأعمال ، استبشروا ، لأنهم كانوا على وجل من ذلك انتهى كلامه . وفيه تطويل شبيه بالخطابة . قيل : ويجوز أن يكون الاستبشار لمن خلفوه بعدهم من المؤمنين لما عاينوا منزلته عند الله .
آل عمران : ( 172 ) الذين استجابوا لله . . . . .
( الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( قيل : الاستجابة كانت أثر الانصراف من أحغد . استنفر الرسول لطلب الكفار ، فاستجاب له تسعون . وذلك لمّا ذكر للرّسول أنّ أبا سفيان في جمع كثير ، فأبى الرسول إلا أن يطلبهم ، فسبقه أبو سفيان ودخل مكة فنزلت ، قاله : عمرو بن دينار . وفي ذكر هذا السبب اختلاف في مواضع . وقيل : الاستجابة كانت من العام القابل بعد قصة أحد ، حيث تواعد أبو سفيان ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) موسم بدر ، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان فارعب ، وبدا له الرّجوع وقال لنعيم بن مسعود : واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى ، وهو عام جدب لا يصلح لنا ، فثبطتهم عنا واعلمهم أنا في جمع كثير ففعل ، وخوفهم ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بأصحابه وأقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان فنزلت . قال معناه : مجاهد وعكرمة . وقيل : لما كان الثاني من أحد وهو يوم الأحد ، نادى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الناس باتباع المشركين ، وقال : ) لا يَخْرُجْنَ مَعَنَا إِلاَّ مَنْ نَفْساً بِالاْمْسِ ( وكانت بالناس جراحة وفرح عظيم ، ولكن تجلدوا ، ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد وهي : على ثمانية أميال من المدينة وأقام بها ثلاثة أيام ، وجرت قصة معبد بن أبي معبد ، وقد ذكرت ومرّت قريش ، فانصرف الرسول إلى المدينة فنزلت . وروى أنه خرج أخوان وبهما جراحة شديدة ، وضعف أحدهما فكان أخوه يحمله عقبة ويمشي هو عقبة ، ولما لم تتم استجابة العبد لله إلا باستجابته للرسول جمع بينهما ، لأنّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . قيل : والاستجابتان مختلفتان ، فإنهما بالنسبة إلى الله بالتوحيد والعبادة ، وللرّسول بتلقي الرّسالة منه والنصيحة له . والظاهر أنها استجابة واحدة ، وهو إجابتهم له حين انتدبهم لاتباع الكفار على ما نقل في سبب النزول . والإحسان هنا ما هو زائد على الإيمان من الاتصاف بما يستحب مع الاتصاف بما يجب .
والظاهر إعراب الذين مبتدأ ، والجملة بعده الخبر . وجوزوا الاتباع نعتاً ، أو بدلاً ، والقطع إلى الرفع والنصب . ومن في منهم قال الزمخشري : للتبيين مثلها في قوله تعالى : ) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ( لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا ، إلا بعضهم . وعن عروة بن الزبير قالت لي عائشة : أن أبويك لممن استجابوا لله والرسول تعني : أبا بكر والزبير انتهى . وقال أبو البقاء : منهم حال من الضمير في أحسنوا ، فعلى هذا تكون من للتبعيض وهو قول من لا يرى أن من تكون لبيان الجنس .
آل عمران : ( 173 ) الذين قال لهم . . . . .
( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ( قيل : أريد

" صفحة رقم 123 "
بالناس الأول أبو نعيم بن مسعود الأشجعي ، وهو قول : ابن قتيبة ، وضعفه ابن عطية . وبالثاني : أبو سفيان . وتقدّم ذكر قصة نعيم وذكرها المفسرون مطولة ، وفيها : أنَّ أبا سفيان جعل له جعلاً على تثبيط الصحابة عن بدر الصغرى وذلك عشرة من الإبل ضمنها له سهيل بن عمرو ، فقدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأفزع الناس وخوفهم اللقاء ، فقال الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي ) فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فتجهز للقتال وقال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فوافى بدراً الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون : قد جمعوا لكم ، وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام ، فأقام ببدر ينتظر أبا سفيان ، وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة ، فسمى أهل مكة حسبة جيش السويق قالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق . وكانت مع الصحابة تجارات ونفقات ، فباعوا وأصابوا للدّرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة غانمين ، وحسبها الرسول لهم غزوة ، وظفر في وجهة ذلك بمعاوية بن المغيرة بن العاص وأبي غزة الجمحي فقتلهما . فعلى هذا القول أن المثبط أبو نعيم وحده ، وأطلق عليه الناس على سبيل المجاز ، لأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ، ويلبس البرود ، وما له إلا فرس واحد ، وبرد واحد ، قاله الزمخشري . وقال أيضاً : ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامّونه ويصلون جناح كلامه ، ويثبطون مثل تثبيطه انتهى . ولا يجيء هذا على تقدير السؤال وهو : أن نعيماً وحده هو المثبط ، لأنه قد انضاف إليه ناس ، فلا يكون إذ ذاك منفرداً بالتثبيط .
وقيل : الناس الأول ركب من عبد القيس مرّوا على أبي سفيان يريدون المدينة للميرة ، فجعل لهم جعلاً وهو حمل إبلهم زبيباً على أن يخبروا أنه جمع ليستأصل بقية المؤمنين ، فأخبروا بذلك ، فقال الرسول وأصحابه وهم إذ ذاك بحمراء الأسد : ) حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ( والناس الثاني قريش ، وهذا القول أقرب إلى مدلول اللفظ .
وجوزوا في إعراب الذين قال : أوجه الذين قبله ، والفاعل بزاد ضمير مستكن يعود على المصدر المفهوم من قال أي : فزادهم ذلك القول إيماناً . وأجاز الزمخشري أن يعود إلى القول ، وأن يعود إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده . وهما ضعيفان ، من حيث أن الأول لا يزيد إيماناً إلا بالنطق به ، لا هو في نفسه . ومن حيثُ أنَّ الثاني إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجزي على ذلك الجمع ، لا على المفرد . فيقول : مفارقه شابت ، باعتبار الإخبار عن الجمع ، ولا يجوز مفارقه شاب ، باعتبار مفرقه شاب .
وظاهر اللفظ أن الإيمان يزيد ، ومعناه هنا : أنَّ ذلك القول زادهم تثبيتاً واستعداداً ، فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال . وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال قوم : يزيد وينقص باعتبار الطاعات ، لأنها من ثمرات الإيمان ، وينقص بالمعصية وهو : مذهب مالك ونسب للشافعي . وقال قوم : من جهة أعمال القلوب كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة . وقال قوم : من طريق الأدلة وكثرتها وتظافرها على معتقد واحد . وقال قوم : من طريق نزول الفرائض والإخبار في مدة الرسول . وقال قوم : لا يقبل الزيادة والنقص ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وحكاه الباقلاني عن الشافعي . وقال أبو المعالي في الإرشاد : زيادته من حيث ثبوته وتعاوره دائماً ، لأنه عرض لا يثبت زمانين ، فهو للصالح متعاقب متوال ، وللفاسق والغافل غير متوال ، فهذا معنى الزيادة والنقص . وذهب قوم : إلى ما نطق به النص ، وهو أنه يزيد ولا ينقص ، وهو مذهب المعتزلة . وروى شبهه عن ابن المبارك . والذي يظهر أن الإيمان إذا أريد به

" صفحة رقم 124 "
التصديق فيعلق بشيء واحد : أنه تستحيل فيه الزيادة والنقص ، فإنما ذلك بحسب متعلقاته دون ذاته ، وحجج هذه الأقوال مذكورة في المصنفات التي تضمنت هذه المسألة ، وقد أفردها بعض العلماء بالتصنيف في كتاب . ولما تقدّم من المثبطين إخبار بأنّ قريشاً قد جمعوا لكم ، وأمر منهم لهم بخشيتهم لهذا الجمع الذي جمعوه ، ترتب على هذا القول شيئان : أحدهما : قلبي وهو زيادة الإيمان ، وهو مقابل للأمر بالخشية . فأخبر بحصول طمأنينة في القلب تقابل الخشية ، وأخبر بعد بما يقابل جمع الناس وهو : إنّ كافيهم شر الناس هو الله تعالى ، ثم أثنوا عليه تعالى بقوله : ونعم الوكيل ، فدلّ على أنّ قولهم : حسبنا الله هو من المبالغة في التوكل عليه ، وربط أمورهم به تعالى . فانظر إلى براعة هذا الكلام وبلاغته ، حيث قوبل قول بقول ، ومتعلق قلب بمتعلق قلب . وتقدّم الكلام في حسب في قوله : ) فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ( ومن قولهم : أحسبه الشيء كفاه . وحسب بمعنى المحسب ، أي الكافي ، أطلق ويراد به معنى اسم الفاعل . ألا ترى أنه يوصف به فتقول : مررت برجل حسبك من رجل ، أي : كافيك . فتصف به النكرة ، إذ إضافته غير محضة ، لكونه في معنى اسم الفاعل غير الماضي المجرد من أل . وقال : وحسبك من غنى شبع وريّ أي كافيك . والوكيل : فعيل بمعنى مفعول ، أي الموكول إليه الأمرور . قيل : وهذه الحسبلة هي قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار . والمخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى ، التقدير : ونعم الوكيل الله . قال ابن الأنباري : الوكيل الرّب قاله : قوم انتهى . والمعنى : أنه من أسماء صفاته تعالى كما تقول : القهار هو الله . وقيل : هو بمعنى الولي والحفيظ ، وهو راجع إلى معنى الموكول إليه الأمور . قال الفرّاء : والوكيل الكفيل
آل عمران : ( 174 ) فانقلبوا بنعمة من . . . . .
( فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ( أي : فرجعوا من بدر مصحوبين بنعمة من الله وهي : السلامة وحذر العدوّ إياهم ، وفضل : وهو الريح في التجارة . كقوله : ) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ( هذا الذي اختاره الزمخشري في تفسير هذا الانقلاب ، ولم يذكر غيره ، وهو قول مجاهد . قال ابن عطية : والجمهور على أن معنى هذه الآية فانقلبوا بنعمة ، يريد : في السلامة والظهور ، وفي اتباع العدو ، وحماية الحوزة ، وبفضل في الأجر الذي حازوه ، والفخر الذي تخللوه ، وأنها في غزوة أحد في الخرجة إلى حمراء الأسد . وشذ مجاهد وقال : في خروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى بدر الصغرى ، وذكر قصة نعيم وأبي سفيان . قال : والصواب ما قاله الجمهور : إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد ، انتهى كلامه .
والكلام في هذه الآية مبني على الخلاف في قوله : ) الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ( وقد تقدّم ذكره عند ذكر تفسيرها . وفرق بعضهم بين الانقلاب والرجوع ، بأن الانقلاب صيرورة الشيء إلى خلاف ما كان عليه . قال : ويوضح هذا أنك تقول : انقلبت الخمر خلاًّ ، ولا تقول : رجعت الخمر خلاًّ انتهى كلامه ، وفي ذلك نظر . وقيل : النعمة الأجر قاله : مجاهد . وقيل : العافية والنصر . قاله : الزجاج . قيل : والفضل ربح التجارة قاله : مجاهد ، والسدي ، والزهري . وتقدّم حكاية هذا القول عن مجاهد . وقيل : أصابوا سرية بالصفراء فرزقوا منها قاله : مقاتل . وقيل : الثواب ذكره الماوردي . والجملة من قوله : لم يمسسهم سوء في موضع الحال ، أي سالمين . وبنعمة حال أيضاً ، لأن الباء فيه باء المصاحبة ، أي : انقلبوا متنعمين سالمين . والجملة الحالية المنفية بلم المشتملة على ضمير ذي الحال ، يجوز دخول الواو عليها ، وعدم دخولها . فمن الأوّل قوله تعالى : ) أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ ( ولم يوح إليه شيء ، وقول الشاعر :
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويل

" صفحة رقم 125 "
ومن الثاني قوله تعالى : ) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً ( وقول قيس بن الأسلب : واضرب القوس يوم الوغى
بالسيف لم يقصر به باعي
ووهم الأستاذ أبو الحسن بن خروف في ذلك فزعم : أنها إذا كانت الجملة ماضية معنى لا لفظاً احتاجت إلى الواو كان فيها ضميراً ، ولم يكن فيها . والمستعمل في لسان العرب ما ذكرناه .
واتباعهم رضوان الله هو بخروجهم إلى العدو ، وجراءتهم ، وطواعيتهم للرسول الله . وختمها بقوله : والله ذو فضل عظيم ، مناسب لقوله : ) بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ( تفضل عليهم بالتيسير والتوفيق في ما فعلوه ، وفي ذلك تحسير لمن تخلف عن الخروج حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء من الثواب في الآخرة والثناء الجميل في الدنيا . وروي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزواً ؟ فأعطاهم الله تعالى ثواب الغزو ، ورضي عنهم . وهذه عاقبة تفويض أمرهم إليه تعالى ، جازاهم بنعمته ، وفضله ، وسلامتهم واتباعهم رضاه .
آل عمران : ( 175 ) إنما ذلكم الشيطان . . . . .
( إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( ما : هي الكافة لأنَّ عن العمل . وهي التي يزعم معظم أهل أصول الفقه أنّها إذا لم تكن موصولة أفادت مع أنَّ الحصر . وذلكم : إشارة إلى الركب المثبط . وقيل : المراد بالشيطان نعيم بن مسعود ، أو أبو سفيان . فعلى هذا الأقوال تكون الإشارة إلى أعيان . وقيل : ذلكم إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين عن رسالة أبي سفيان ، وتحميل أبي سفيان ذلك الكلام ، وجزع من جزع منه من مؤمن أو متردّد . فعلى هذا تكون الإشارة إلى معانٍ ، ولا بد إذ ذاك من تقدير مضاف محذوف تقديره : إنما ذلكم فعل الشيطان . وقدّره الزمخشري قول الشيطان ، أي قول إبليس . فتكون الإشارة على هذا التقدير إلى القول السابق وهو : أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم . وعلى هذه الأقوال كلها فالخبر عن المبتدأ الذي هو ذلكم بالشيطان هو مجاز ، لأن الأعيان ليست من نفس الشيطان ، ولا ما جرى من قول فقط ، أو من قول ، وما انضم إليه مما صدر من العدوّ من تخويف ، وما صدر من جزع ، ليس نفس قول الشيطان ولا فعله ، وإنما نسب إليه وأضيف ، لأنه ناشىء عن وسوسته وإغوائه وإلقائه .
والتشديد في يخوّف للنقل ، كان قبله يتعدّى لواحد ، فلما ضعف صار يتعدّى لاثنين . وهو من الأفعال التي يجوز حذف مفعوليها ، وأحدهما اقتصار أو اختصار ، أو هنا تعدّى إلى واحد ، والآخر محذوف . فيجوز أن يكون الأوّل ويكون التقدير : يخوفكم أولياء ، أي شر أوليائه في هذا الوجه . لأن الذوات لا تخاف ، ويكون المخوفون إذ ذاك المؤمنين ، ويجوز أن يكون المحذوف المفعول الثاني ، أي : يخوّف أولياءه شرّ الكفار ، ويكون أولياءه في هذا الوجه هم المنافقون ، ومَن في قلبه مرض المتخلفون عن الخروج مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أي : أنه لا يتعدّى تخويفه المنافقين ، ولا يصل إليكم تخويفه . وعلى الوجه الأوّل يكون أولياءه هم الكفار : أبو سفيان ومن معه . ويدل على هذا الوجه قراءة ابن مسعود وابن عباس يخوفكم أولياءه ، إذ ظهر فيها أن المحذوف هو المفعول الأوّل . وقرأ أبيّ والنخعي : يخوفكم بأوليائه ، فيجوز أن تكون الباء زائدة مثلها في يقرأن بالسور ، ويكون المفعول الثاني هو بأوليائه ، أي : أولياءه ، كقراءة الجمهور . ويجوز أن تكون البار للسبب ، ويكون مفعول يخوّف الثاني محذوفاً أي : يخوّفكم الشرّ بأوليائه ، فيكونون آلة للتخويف . وقد حمل بعض المعربين قراءة الجمهور يخوف أولياءه على أن التقدير : بأوليائه ، فيكون إذ ذاك قد حذف مفعولاً يخوف لدلالة ، المعنى على الحذف ، والتقدير : يخوفكم الشرّ بأوليائه ، وهذا بعيد . والأحسن في الإعراب أن يكون ذلكم مبتدأ ، والشيطان خبره ، ويخوف جملة حالية ، يدل على أن هذه الجملة حال مجيء المفرد منصوباً على الحال مكانها نحو قوله تعالى : ) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً ( ) وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا ( وأجاز أبو البقاء أن يكون الشيطان بدلاً أو عطف بيان ، ويكون بخوف

" صفحة رقم 126 "
خبراً عن ذلكم . وقال الزمخشري : الشيطان خبر ذلكم ، بمعنى : إنما ذلكم المثبط هو الشيطان ، ويخوّف أولياءه جملة مستأنفة بيان لتثبيطه ، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة ، ويخوف الخبر . والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان انتهى كلامه . فعلى هذا القول تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب . وإنما قال : والمراد بالشيطان نعيم ، أو أبو سفيان ، لأنه لا يكون صفة ، والمراد به إبليس . لأنه إذا أريد به إبليس كان إذ ذاك علماً بالغلبة ، إذ أصله صفة كالعيوق ، ثم غلب على إبليس ، كما غلب العيوق على النجم الذي ينطلق عليه .
وقال ابن عطية : وذلكم في الإعراب ابتداء ، والشيطان مبتدأ آخر ، ويخوف أولياءه خبر عن الشيطان ، والجملة خبر الابتداء الأوّل . وهذا الإعراب خبر في تناسق المعنى من أن يكون الشيطان خبر ذلكم ، لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة انتهى . وهذا الذي اختاره إعراب لا يجوز ، إن كان الضمير في أولياءه عائداً على الشيطان ، لأن الجملة الواقعة خبراً عن ذلكم ليس فيها رابط يربطها بقوله : ذلكم ، وليست نفس المبتدأ في المعنى نحو قولهم : هجيري أبي بكر لا إلاه إلا الله ، وإنْ كان عائداً على ذلكم ، ويكون ذلك عن الشيطان جاز ، وصار نظير : إنما هند زيد يضرب غلامها والمعنى : إذ ذاك ، إنما ذلكم الربك ، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أولياءه ، أي : أولياء الركب ، أو أبي سفيان . والضمير المنصوب في تخافوهم الظاهر عوده على أولياءه ، هذا إذا كان المراد بقوله : أولياءه كفار قريش ، وغيرهم من أولياء الشيطان . وإن كان المراد به المنافقين ، فيكون عائداً على الناس من قوله : ) إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ( قوى نفوس المسلمين فنهاهم عن خوف أولياء الشيطان ، وأمر بخوفه تعالى ، وعلق ذلك على الإيمان . أي إنَّ وصف الإيمان يناسب أن لا يخاف المؤمن إلا الله كقوله : ) وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ ( وأبرز هذا الشرط في صفة الإمكان ، وإن كان واقعاً إذ هم متصفون بالإيمان ، كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل كذا . وأثبت أبو عمروياء وخافون وهي ضمير المفعول ، والأصل الإثبات . ويجوز حذفها للوقف على نون الوقاية بالسكون ، فتذهب الدلالة على المحذوف
آل عمران : ( 176 ) ولا يحزنك الذين . . . . .
( وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً ( لما نهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان ، وأمرهم بخوفه وحده تعالى ، نهى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن الحزن لمسارعة من سارع في الكفر . والمعنى : لا يتوقع حزناً ولا ضرراً منهم ، ولذلك علله بقوله : إنهم لن يضروا الله شيئاً ، أي : لن يضروا نبي الله والمؤمنين . والمنفي هنا ضرر خاص ، وهو إبطال الإسلام وكيده حتى يضمحلّ ، فهذا لن يقع أبداً ، بل أمرهم يضمحل ويعلو أمرك عليهم .
قيل : نزلت في المنافقين . وقيل : نزلت في قوم ارتدوا . وقيل : المراد كفار قريش . وقيل : رؤساء اليهود . والأولى حمله على العموم كقوله : ) قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ ( وقيل : مثير الحزن وهو شفقته ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإيثاره إسلامهم حتى ينقذهم من النار ، فنهى عن المبالغة في ذلك كقوله تعالى : ) فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( وقوله : ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَن لا يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( وهذا من فرط رحمته للناس ، ورأفته بهم .
وقرأ نافع : يحزنك من أحزن ، وكذا حيث وقع المضارع ، إلا في لا يحزنهم الفزع الأكبر ، فقرأه من حزن كقراءة الجماعة في جميع القرآن . يقال : حزن الرّجل أصابه الحزن ، وحزنته جعلت فيه ذلك ، وأحزنته جعلته حزيناً . وقرأ النحوي : يسرعون من أسرع في جميع القرآن . قال ابن عطية : وقراءة الجماعة أبلغ ، لأن من يسارع غيره أشد اجتهاداً من الذي يسرع وحده . وفي ضمن قوله : إنهم لن يضروا الله شيئاً دلالة على أنَّ وبال ذلك عائد عليهم ، ولا يضرون إلا أنفسهم . وانتصب شيئاً على المصدر ، أي شيئاً من الضرر . وقيل : انتصابه على

" صفحة رقم 127 "
إسقاط حرف الجر أي شيء ) يُرِيدُ اللَّهُ أَن لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( بين تعالى أنَّ ما هم عليه من المسارعة في الكفر هو بإرادة الله تعالى ، أنهم لا يهديهم إلى الإيمان ، فيكون لهم نصيب من نعيم الآخرة . فهذه تسلية منه تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) في ترك الحرب ، لأن مراد الله منهم هو ما هم عليه ، ولهم بدل النعيم عذاب عظيم . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هل قيل : لا يجعل الله لهم حظاً في الآخرة ، وأي فائدة في ذكر الإرادة ؟ ( قلت ) : فائدته الإشعار بأن الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصاً لم يبق معه صارف قط ، حين يسارعون في الكفر تنبيهاً على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه ، حتى أن أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم انتهى . وفيه دسيسة اعتزال لأنه استشعر أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة موجبة ، أن سبب ذلك هو مريد له تعالى وهو : الكفر . ومن مذهبه أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يشاؤه ، فتأول تعلق إرادته بانتفاء حظهم من الآخرة بتعلقها بانتفاء رحمته لهم لفرط كفرهم .
ونقل الماوردي في يريد ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يحكم بذلك . والثاني : يريد في الآخرة أن يحرمهم ثوابهم لإحباط أعمالهم بكفرهم . والثالث : يريد يحبط أعمالهم بما استحقوه من ذنوبهم قاله : ابن إسحاق .
آل عمران : ( 177 ) إن الذين اشتروا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( هذا عام في الكفار كلهم . وقوله : ) وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ ( كان عاماً ، فكرر هذا على سبيل التوكيد وإن كان خاصاً بالمنافقين أو المرتدين أو كفار قريش ، فيكون ليس تكريراً على سبيل التأكيد ، بل حكم على العام بأنهم لن يضروا الله شيئاً . ويندرج فيه ذلك الخاص أيضاً ، فيكون الحكم في حقهم على سبيل التأكيد ، ويكون قد جمع للخاص العذاب بنوعية من العظم والألم ، وهو أبلغ في حقهم في العذاب . وجعل ذلك اشتراء . من حيث تمكنهم من قبول الخير والشر ، فآثروا الكفر على الإيمان .
آل عمران : ( 178 ) ولا يحسبن الذين . . . . .
( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( معنى نملي : نمهل ونمد في العمر . والملاءة المدة من الدهر ، والملوان الليل والنهار . ويقال : ملاك الله نعمته ، أي منحكها عمراً طويلاً ، وقرأ حمزة تحسين بتاء الخطاب ، فيكون الذين كفروا مفعولاً أول . ولا يجوز أن يكون : إنما نملي لهم خير ، في موضع المفعول الثاني ، لأنه ينسبك منه مصدر المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول من حيث المعنى ، والمصدر لا يكون الذات ، فخرج ذلك على حذف مضاف من الأول أي : ولا تحسبن شأن الذين كفروا . أو من الثاني أي : ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب ، أنَّ الإملاء خير لأنفسهم حتى يصح كون الثاني هو الأول . وخرجه الأستاذ أبو الحسن بن الباذش والزمخشري : على أن يكون إنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من الذين . قال ابن الباذش : ويكون المفعول الثاني حذف لدلالة الكلام عليه ، ويكون التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا خيرية إملائنا لهم كائنة أو واقعة . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد ؟ ( قلت ) : صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحيّ ، ألا تراك تقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك انتهى . كلامه وهذا التخريج الذي خرجه ابن الباذش والزمخشري سبقهما إليه الكسائي والفراء ، فالأوجه هذه القراءة التكرير والتأكيد . التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا ، ولا تحسبن إنما نملي لهم . قال الفرّاء ومثله : هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم ، أي ما ينظرون إلا أن تأتيهم انتهى . وقدر بعضهم قول الكسائي والفراء فقال : حذف المفعول الثاني من هذه الأفعال لا يجوز عند أحد ، فهو غلط منهما انتهى .
وقد أشبعنا الكلام في حذف أحد مفعولي ظن اختصارا

" صفحة رقم 128 "
فيما تقدم من قول الزمخشري في قوله : ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً ( إن تقديره : ولا تحسبنهم . وذكرنا هناك أنَّ مذهب ابن ملكون أنه لا يجوز ذلك ، وأن مذهب الجمهور الجواز لكنه عزيز جداً بحيث لا يوجد في لسان العرب إلا نادراً وأن القرآن ينبغي أن ينزه عنه . وعلى البدل خرج هذه القراءة أبو إسحاق الزجاج ، لكن ظاهر كلامه أنها بنصب خير . قال : وقد قرأ بها خلق كثير ، وساق عليها مثالاً قول الشاعر : فما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل ، وعلى هذا يكون : إنما نملي بدل ، وخيراً : المفعول الثاني أي إملائنا خيراً . وأنكر أبو بكر بن مجاهد هذه القراءة التي حكاها الزجاج ، وزعم أنه لم يقرأ بها أحد . وابن مجاهد في باب القراءات هو المرجوع إليه .
وقال أبو حاتم : سمعت الأخفش يذكر قبح أن يحتج بها لأهل القدر لأنه كان منهم ، ويجعله على التقديم والتأخير كأنه قال : ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ، إنما نملي لهم خير لأنفسهم انتهى . وعلى مقالة الأخفش يكون إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً في موضع المفعول الثاني ، وإنما نملي لهم خير مبتدأ وخبر ، أي إملاؤنا لهم خير لأنفسهم . وجاز الابتداء بأن المفتوحة ، لأن مذهب الأخفش جواز ذلك . ولإشكال هذه القراءة زعم أبو حاتم وغيره أنها لحن وردّوها . وقال أبو علي الفارسي : ينبغي أن تكون الألف من إنما مكسورة في هذه القراءة ، وتكون إن وما دخلت عليه في موضع المفعول الثاني . وقال مكي في مشكله : ما علمت أحداً قرأ تحسبن بالتاء من فوق ، وكسر الألف من إنما . وقرأ باقي السبعة والجمهور يحسبنَّ بالياء ، وإعرابُ هذه القراءة ظاهر ، لأن الفاعل هو الذين كفروا ، وسدّت إنما نملي لهم خير مسد مفعولي يحسبنَّ كما تقول : حسبت أن زيداً قائم . وتحتمل ما في هذه القراءة وفي التي قبلها أن تكون موصولة بمعنى الذي ، ومصدرية ، أي : أن الذي نملي ، وحذف العائد أي : عليه وفيه شرط جواز الحذف من كونه متصلاً معمولاً لفعل تام متعيناً للربط ، أو أنَّ إملائنا خير . وجوّز بعضهم أن يسند الفعل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فيكون فاعل الغيب كفاعل الخطاب ، فتكون القراءتان بمعنى واحد .
وقرأ يحيى بن وثاب : ولا يحسبن بالياء ، وإنما نملي بالكسر . فإن كان الفعل مسنداً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فيكون المفعول الأول الذين كفروا ، ويكون إنما نملي لهم جملة في موضع المفعول الثاني . وإن كان مسنداً للذين كفروا فيحتاج يحسبن إلى مفعولين . فلو كانت إنما مفتوحة سدت مسد المفعولين ، ولكن يحيى قرأ بالكسر ، فخرج على ذلك التعليق فكسرت إن ، وإن لم تكن اللام في حيزها . والجملة المعلق عنها الفعل في موضع مفعولي يحسبن ، وهو بعيد : لحذف اللام نظير تعليق الفعل عن العمل ، مع حذف اللام من المبتدأ كقوله :
إني وجدت ملاك الشيمة الأدب
أي لملاك الشيمة الأدب ، ولولا اعتقاد حذف اللام لنصب . وحكى الزمخشري أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر إنما الأولى ، وفتح الثانية . ووجه ذلك على أن المعنى : ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً كما يفعلون ، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان . والجملة من إنما نملي لهم خير لأنفسهم اعتراض بين الفعل ومعموله ، ومعناه : أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدة ، وترك المعاجلة بالعقوبة . وظاهر الذين كفروا العموم .
وقال ابن عباس : نزلت في اليهود والنصارى والمنافقين . وقال عطاء : في قريظة والنضير . وقال مقاتل : في مشركي مكة . وقال=

8. تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 129 "
= الزجاج : هؤلاء قوم أعلم الله نبيه أنهم لا يؤمنون أبداً ، وليست في كل كافر ، إذ قد يكون الإملاء مما يدخله في الإيمان ، فيكون أحسن له . وقال مكي : هذا هو الصحيح من المعاني . وقال ابن عطية : معنى هذه الآية الرد على الكفار في قولهم : إنّ كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضا الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده . وأخبر الله تعالى أنَّ ذلك التأخير والإهمال إنما هو إملاء واستدراج لتكثير الآثام . قال عبد الله بن مسعود : ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا والموت خير لها أمّا البرّة فلتسرع إلى رحمة الله . وقرأ : ) وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لّلابْرَارِ ( وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثماً ، وقرأ هذه الآية انتهى .
وقال الزمخشري : والإملاء لهم تحليتهم ، وشأنهم مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء . وقيل : هو إمهالهم وإطالة عمرهم ، والمعنى : أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم ، إنَّما نملي لهم جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها ، كأنه قيل : ما بالهم يحسبون الإملاء خيراً لهم ، فقيل : إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً . ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضاً لله تعالى في إملائه لهم ؟ ( قلت ) : هو علة الإملاء ، وما كلّ علة بغرض . ألا تراك تقول : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ ، وليس شيء منها بغرض لك ، وإنما هي علل وأسباب . فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإملاء ، وسبباً فيه . ( فإن قلت ) : كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء ، كما كان العجز علة للقعود عن الحرب ؟ ( قلت ) : لمّا كان في علم الله المحيط بكلّ شيء أنَّهم مزدادون إثماً ، فكان الإملاء وقع لأجله وبسببه على طريق المجاز انتهى كلامه . وكله جار على طريقة المعتزلة . وقال الماتريدي : المعتزلة تناولوها على وجهين : أحدهما : على التقديم والتأخير . أي : ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادو إثماً ، إنما نملي لهم خير لأنفسهم . الثاني : أنّ هذا إخبار منه سبحانه وتعالى عن حسبانهم فيما يؤول إليه أمرهم في العاقبة ، بمعنى أنهم حسبوا أن إمهالهم في الدّنيا وإصابتهم الصحة والسلامة والأموال خير لأنفسهم في العاقبة ، بل عاقبة ذلك شرٌّ . وفي التأويل إفساد النظم ، وفي الثاني تنبيه على من لايجوز تنبيهه . فإنّ الأخبار عن العاقبة يكون لسهو في الابتداء أو غفله ، والعالم في الابتداء لا ينبه نفسه انتهى كلامه . وكتبوا ما متصلة بأن في الموضعين . قيل : وكان القياس الأولى في علم الخط أن تكتب مفصوله ، ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا تخالف ، ونتبع سنة الإمام في المصاحف . وأما الثانية ، فحقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون العمل ، ولا يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي . ولا مصدرية ، لأن لازم كي لا يصحّ وقوعها خبر للمبتدأ ولا لنواسخه . وقيل : اللام في ليزدادوا للصيرورة . ) وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( هذه الواو في : ولهم ، للعطف . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما معنى قوله : ولهم عذاب مهين على هذه القراءة ، يعني قراءة يحيى بن وثاب بكسر إنما الأولى وفتح الثانية ؟ ( قلت ) : معناه ولا تحسبوا أن إملاءنا الزيادة الإثم وللتعذيب ، والواو للحال . كأنه قيل : ليزدادوا إثماً معداً لهم عذاب مهين انتهى . والذين نقلوا قراءة يحيى لم يذكروا أن أحداً قرأ الثانية بالفتح إلا هو ، إنما ذكروا أنه قرأ الأولى بالكسر . ولكنّ الزمخشري من ولوعه بنصرة مذهبه يروم رد كل شيء إليه . ولما قرر في هذه القراءة أنّ المعنى على نهي الكافر أن يحسب إنما يملي الله لزيادة الإثم ، وأنه إنما يملي لأجل الخير كان قوله : ولهم عذاب مهين يدفع هذا التفسير ، فخرج ذلك على أن الواو للحال حتى يزول هذا التدافع الذي بين هذه القراءة وبين ظاهر آخر الآية . ووصف تعالى عذابه في مقاطع هذه الآيات الثلاث : بعظيم ، وأليم ، ومهين . ولكل من هذه الصفات

" صفحة رقم 130 "
مناسبة تقتضي ختم الآية بها . أما الأولى فإن المسارعة في الشيء والمبادرة في تحصيله والتحلي به يقتضي جلالة ما سورع فيه ، وأنه من النفاسة والعظم بحيث يتسابق فيه ، فختمت الآية بعظم الثواب وهو جزاؤهم على المسارعة في الكفر إشعاراً بخساسة ما سابقوا فيه . وأما الثانية فإنه ذكر فيها اشتراء الكفر بالإيمان ، ومن عادة المشتري الاغتباط بما اشتراه والسرور به والفرح ، فختمت الآية لأن صفقته خسرت بألم العذاب ، كما يجده المشتري المغبون في تجارته . وأما الثالثة فإنه ذكر الإملاء وهو الإمتاع بالمال والبنين والصحة وكان هذا الإمتاع سبباً للتعزز والتمتع والاستطاعة فختمت الآية بإهانة العذاب لهم . وأن ذلك الإملاء المنتج عنه في الدنيا التعزز والاستطالة مآله في الآخرة إلى إهانتهم بالعذاب الذي يهين الجبابرة .
آل عمران : ( 179 ) ما كان الله . . . . .
( مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ ( الخطاب في أنتم للمؤمنين ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها المؤمنون من اختلاطكم بالمنافقين . وإشكال أمرهم وإجراء المنافق مجرى المؤمن ، ولكنه ميز بعضاً من بعض بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء من الأقوال والأفعال قاله : مجاهد ، وابن جريج ، وابن إسحاق . وقيل : الخطاب للكفار ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها الكفار من اختلاطكم بالمؤمنين قاله : قتادة ، والسدي . قال السدي وغيره : قال الكفار في بعض جدلهم : أنت يا محمد تزعم في الرّجل منا أنّه من أهل النار ، وأنّه إذا اتبعك من أهل الجنة ، فكيف يصح هذا ؟ ولكنْ أخبرنا بمن يؤمن منا ، وبمن يبقى على كفره ، فنزلت . فقيل لهم : لا بد من التمييز . وقال ابن عباس : وأكثر المفسرين الخطاب للكفار والمنافقين . وقيل : الخطاب للمؤمنين والكافرين ، وهو قريب مما قاله الزمخشري : غاية ما فيه أنه بدل الكافرين بالمنافقين فقال : ( فإن قلت ) : لمن الخطابُ في أنتم ؟ ( قلت ) : للمصدقين جميعاً من أهل الإخلاص والنفاق ، كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض ، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم ، لاتفاقكم على التصديق جميعاً حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه بأخباره بأحوالكم . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب ، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل الله ، فيجعل ذلك عياراً على عقائدكم ، وشاهداً بضمائركم ، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال ، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها ، فإنّ ذلك مما استأثر الله به انتهى . ومعنى هذا القول لابن كيسان . قال ابن كيسان : المعنى ما يذركم على الإقرار حتى يختبركم بالشرائع والتكاليف ، فأخذه الزمخشري والقول الذي قبله ونمقهما ببلاغته وحسن خطابته .
وقيل : المعنى ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم عليهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يفرق بينكم وبينهم . وقيل : كانوا يستهزؤن بالمؤمنين سراً فقال : لا يدعكم على ما أنتم عليه من الطعن فيهم والاستهزاء ، ولكن يمتحنكم لتفتضحوا ويظهر نفاقكم عندهم ، لا في دار واحدة ، ولكن يجعل لهم داراً أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب ، فيجعل الخبيث في النار ، والطيب في يالجنة . والخبيث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بالهجرة والجهاد . وقال مجاهد : الطيب المؤمن ، والخبيث المنافق ، ميز بينهما يوم أحد . وقيل : الخببث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بإخراج أحدهما من صلب الآخر . وقيل : تمييز الخبيث هو إخراج الذنوب من أحياء المؤمنين بالبلايا والرزايا . وقيل : الخبيث العاصي ، والطيب المطيع ، والألف واللام في الخبيث والطيب للجنس أو للعهد ، إذ كان المعهود في ذلك الوقت أن

" صفحة رقم 131 "
الخبيث هو الكافر والطيب هو المؤمن كما قال : ) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ( الآية .
واللام في قوله : ليذر هي المسماة لام الجحود ، وهي عند الكوفيين زائدة لتأكيد النفي ، وتعمل بنفسها النصب في المضارع . وخبر كان هو الفعل بعدها فتقول : ما كان زيد يقوم ، وما كان زيد ليقوم ، إذا أكدت النفي . ومذهب البصريين أنَّ خبر كان محذوف ، وأن النصب بعد هذه اللام بأن مضمرة واجبة الإضمار ، وأنَّ اللام مقوية لطلب ذلك المحذوف لما بعدها ، وأنَّ التقدير : ما كان الله مريداً ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ، أي : ما كان مريداً لترك المؤمنين . وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتابنا المسمى بالتكميل في شرح التسهيل . وحتى للغاية المجرّدة ، والتقدير : إلى أن يميزها كذا قالوا ، وهو مشكل على أن تكون غاية على ظاهر اللفظ ، لأنه يكون المعنى : لا يتركهم مختلطين إلى أن يميز ، فيكون قد غيا نفي الترك إلى وجود التمييز ، فإذا وجد التمييز تركهم على ما هم عليه من الاختلاط ، وصار نظير ما أضرب زيداً إلى أن يجيء عمرو ، فمفهومه : إذا جاء عمرو ضربت زيداً ، وليس المراد من الآية هذا المعنى ، وإنما هي غاية لما تضمنه الكلام السابق من المعنى الذي يصح أن يكون غاية له . ومعنى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه : أنه تعالى يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان ، إلى أن يميز الخبيث من الطيب . وقرأ الأخوان : يميز من ميز ، وباقي السبعة يميز من ماز . وفي رواية عن ابن كثير : يميز من أماز ، والهمزة ليست للنقل ، كما أن التضعيف ليس للنقل ، بل أفعل وفعل بمعنى الثلاثي المجرّد كحزن وأحزن ، وقدر الله

" صفحة رقم 132 "
وقدّر ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ( لمّا قدم أنه تعالى هو الذي يميز الخبيث من الطيب وليس لهم تمييز ذلك ، أخبر أنه لا يطلع أحداً من المخاطبين على الغيب .
( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى ( أي : يختار ويصطفي ) مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء ( فيطلعه على ما شاء من المغيبات . فوقوع لكنَّ هنا لكون ما بعدها ضداً لما قبلها في المعنى . إذ تضمن اجتباء من شاء من رسله اطلاعه إياه على ما أراد تعالى من علم الغيب ، فاطلاع الرسول على الغيب هو باطلاع الله تعالى بوحي إليه ، فيخبر بأنَّ في الغيب كذا من نفاق هذا وإخلاص هذا فهو عالم بذلك من جهة الوحي ، لا من جهة اطلاعه نفسه من غير واسطة وحي على المغيبات . قال السدي وغيره : ليطلعكم على الغيب ، فيمن يؤمن ، ومن يبقى كافراً ، ولكنَّ هذا رسول مجتبي . وقال مجاهد وابن جريج وغيره : هي في أمر أحدٍ أي : ليطلعكم على أنكم تهزمون ، أو تكفون عن القتال . وقيل : ليطلعكم على المنافقين تصريحاً بهم ، وتسمية بأعيانهم ، ولكنْ بقرائن أفعالهم وأقوالهم . والغيب هنا ما غاب عن البشر مما هو في علم الله تعالى من الحوادث التي تحدث ، ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين ، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس . وقال الزجاج وغيره : روي أن بعض الكفار قال : لم لا يكون جميعنا أنبياء ؟ فنزلت . وقيل : قالوا : لِم لمْ يوحَ إلينا في أمر محمد ؟ فنزلت . وقيل : قالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً فهلا كان الوحي إلينا ، فنزلت . وقيل : كانت الشياطين يصعدون إلى السماء فيسترقون السمع ، فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأنزلها الله بعد بعثته . ولكن الله يصطفي من يشاء فيجعله رسولاً فيوحي إليه ، أي : ليس الوحي من السماء لغير الأنبياء . وظاهر الآية هو ما قدّمناه من أنه تعالى هو الذي يميز بين الخبيث والطيب ، أخبر أنكم لا تدركون أنتم ذلك ، لأنه تعالى لم يطلعكم على ما أكنته القلوب من الإيمان والنفاق ، ولكنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ذلك ، فتطلعون عليه من جهة الرسول بأخباره لكم عن ذلك بوحي الله . وهذا معنى ما روي أيضاً عن السدي أنه قال : حكم بأنه يظهر هذا التمييز . ثم بيّن بهذه الآية أنه لا يجوز أن يجعل هذا التمييز في عوام الناس بأن يطلعهم على غيبة فيقولون : إنَّ فلاناً منافق ، وفلاناً مؤمن . بل سنة الله تعالى جارية بأنْ لا يطلع عوام الناس ، ولا سبيل لهم إلى معرفة ذلك إلا بالامتحان . فأمّا معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء ، ولهذا قال تعالى : ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ، فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن وهذا منافق . وهذه الأقوال كلها والتفاسير مشعرة بأنَّ هذا الغيب الذي نفى الله اطلاع الناس عليه راجع إلى أحوال المؤمنين والمنافقين ، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل العموم . أي : ما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالمغيبات من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عنه ، بل الله يخص من يشاء من عباده بذلك وهو الرسول ، فتندرج أحوال المنافق والمؤمن في هذا العام .
( مَّا كَانَ اللَّهُ ( لما ذكر أنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على المغيبات ، أمر بالتصديق بالمجتبى ، والمجتبي ومن يشاء هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ ثبتت نبوته باطلاع الله إياه على المغيبات ، وأخباره لكم بها في غير ما موطن . وجمع في قوله ورسله تنبيهاً على أنّ طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحدة ، وهو ظهور المعجز على أيديهم . قال الزمخشري في قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسله ، بأن تقدروه حق قدره ، وتعلمونه وحده مطلعاً على الغيوب ، وأن ينزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عباداً مجتبين لا

" صفحة رقم 133 "
يعلمون إلا ما علمهم الله ، ولا يخبرون إلا بما أخبر الله به من الغيوب ، وليسوا من علم الغيب في شيء انتهى .
( وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( رتب حصول الأجر العظيم على الإيمان ، والمعنى : الإيمان السابق ، وهو الإيمان بالله ورسله ، وعلى التقوى وهي زائدة على الإيمان ، وكأنها مرادة في الجملة السابقة فكأنه قيل : فآمنوا بالله ورسله واتقوا الله .
آل عمران : ( 180 ) ولا يحسبن الذين . . . . .
( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ( قال السدي وجماعة : نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله . وقال ابن عباس في رواية عطية ، ومجاهد وابن جريج وجماعة ، واختاره الزجاج : في أهل الكتاب وبخلهم وتبيان ما علمهم الله من أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : نزلت في مانعي الزكاة المفروضة قاله : ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وابن عباس في رواية أبي صالح والشعبي ومجاهد . وقيل : في النفقة على العيال وذوي الأرحام .
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد في الآيات السابقة ، شرع في التحريض هنا على بذل الأموال في الجهاد وغيره ، وبيّن الوعيد الشديد لمن يبخل ، والبخل الشرعي عبارة عن منع بذل الواجب . وقرأ حمزة تحسين بالتاء ، فتكون الذين أول مفعولين لتحسبن ، وهو على حذف مضاف أي : بخل الذين . وقرأ باقي السبعة بالياء . فإنْ كان الفعل مسنداً إلى الضمير ، فيكون المفعول الأول محذوفاً تقديره : بخلهم ، وحذف لدلالة يبخلون عليه . وحذفه كما قلنا : عزيز جداً عند الجمهور ، فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على حذف مضاف ، وهو فصل . وقرأ الأعمش بإسقاط هو ، وخيراً هو المفعول بتحسبن . قال ابن عطية : ودل قوله : يبخلون على هذا البخل المقدر ، كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر : إذا نهى السفيه جرى إليه
وخالف والسفيه إلى خلاف
والمعنى : جرى إلى السفه انتهى . وليست الدلالة فيهما سواء لوجهين : أحدهما أن الدال في الآية هو الفعل ، وفي البيت هو اسم الفاعل ، ودلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة اسم الفاعل ، ولذلك كثر إضمار المصدر لدلالة الفعل عليه في القرآن وكلام العرب ، ولم تكثر دلالة اسم الفاعل على المصدر إنما جاء في هذا البيت أو في غيره إنْ وجد . والثاني أن في الآية حذفاً لظاهر ، إذ قدروا المحذوف بخلهم ، وأما في البيت فهو إضمار ، لا حذف . ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد العربية ، وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال ، إذا جعلنا الفعل مسنداً للذين ، وذلك أن تحسبن تطلب مفعولين ، ويبخلون يطلب مفعولاً بحرف جر ، فقوله : ما آتاهم يطلبه يحسبن ، على أن يكون المفعول الأول ، ويكون هو فصلاً ، وخيراً المفعول الثاني ويطلبه يبخلون بتوسط حرف الجر ، فاعمل الثاني على الأفصح في لسان العرب ، وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون . فعدى بحرف الجر واحد معموله ، وحذف معمول تحسين الأول ، وبقي معموله الثاني ، لأنه لم يتنازع فيه ، إنما التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول . وساغ حذفه وحده ، كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه : متى رأيت أو فلت : زيد منطلق ، لأن رأيت وقلت في هذه المسألة تنازعا زيد منطلق ، وفي الآية : لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد ، وتقدير المعنى : ولا تحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به ، فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلاً لما آتاهم المحذوف ، لا لتقديرهم بخلهم . ونظير هذا

" صفحة رقم 134 "
التركيب ظن الذي مرّ بهند هي المنطلقة المعنى ، ظن هنداً الشخص الذي مرّ بها هي المنطلقة ، فالذي تنازعه الفعلان هو الاسم الأول ، فاعمل الفعل الثاني وبقي الأول يطلب محذوفاً ، ويطلب المفعول الثاني مثبتاً ، إذ لم يقع فيه التنازع . ولما تضمن النهي انتفاء كون البخل أو المبخول به خيراً لهم ، وكان تحت الانتفاء قسمان : أحدهما أن لا خير ولا شر ، والآخر إثبات الشر ، أتى بالجملة التي تعين أحد القسمين وهو : إثبات كونه شراً لهم .
( سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( هذا تفسير لقوله : ) بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ( والظاهر حمله على المجاز ، أي سيلزمون عقابه إلزام الطوق ، وفي المثل لمن جاء بهنة تقلدها طوق الحمامة . وقال إبراهيم النخعي : سيُجعل لهم يوم القيامة طوق من نار . قال مجاهد وغيره : هو من الطاقة لا من التطويق ، والمعنى : سيحملون عقاب ما بخلوا به . كقوله : ) وَعَلَى الَّذِينَ ( وقال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به . وهذا التفسير لا يناسب قوله : إن البخل هو العلم الذي تفضل الله عليهم به من أمر الرسول . وقال أبو وائل : هو الرجل يرزقه الله مالاً فيمنع منه قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله ، فيجعل حية يطوقها فيقول : ما لي ولك ، فيقول : أنا مالك . وجاء في الحديث : ( ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه ) والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة .
( وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( فيه قولان : أحدهما أنه تعالى له ملك جميع ما يقع من إرث في السموات والأرض ، وأنه هو المالك له حقيقة ، فكل ما يحصل لمخلوقاته مما ينسب إليهم ملكه هو مالكه حقيقة . وهذا كان هو مالكه فما لكم تبخلون بشيء أنتم ممتعون به لا مالكوه حقيقة ، كما قال تعالى : ) وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ). والقول الثاني : أنه خبر بفناء العالم ، وأنَّ جميع ما يخلقونه فهو وارثه . وهو خطاب على ما يفهم البشر ، دلّ على فناء الجميع ، وأنه لا يبقى مالك إلا الله ، وإن كان ملكه على كل شيء لم يزل .
( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ختم بهذه الصفة ومعناها التهديد والوعيد على قبيح مرتكبهم من البخل . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : يعملون على الغيبة جرياً على يبخلون وسيطوّقون . وقرأ الباقون : بالتاء على الالتفات ، فيكون ذلك خطاباً للباخلين . وقال ابن عطية : وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة ، لأنه قد تقدّم ) وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ ). انتهى . فلا يكون على قوله التفاتاً ، والأحسن الالتفات .
وتضمنت هذه الآيات فنوناً من البلاغة والبديع . الاختصاص في : أجر المؤمنين . والتكرار في : يستبشرون ، وفي : لن يضروا الله شيئاً ، وفي : اسمه في عدة مواضع ، وفي : لا يحسبن الذين كفروا ، وفي ذكر الإملاء . والطباق في : اشتروا الكفر بالإيمان ، وفي : ليطلعكم على الغيب . والاستعارة في : يسارعون ، وفي : اشتروا ، وفي : نملي وفي : ليزدادوا إثماً ، وفي : الخبيث والطيب . والتجنيس المماثل في : فآمنوا وإن تؤمنوا . والالتفات في : أنتم إن كان خطاباً للمؤمنين ، إذ لو جرى على لفظ المؤمنين لكان على ما هم عليه ، وإن كان خطاباً لغيرهم كان من تلوين الخطاب ، وفي : تعملون خبير فيمن قرأ بتاء الخطاب . والحذف في مواضع .
2 ( ) لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الاٌّ نبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّه

" صفحة رقم 135 "
لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَواةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ( )
آل عمران : ( 181 ) لقد سمع الله . . . . .
الزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب . يقال : زبرت أي كتبت ، فهو بمعنى مفعول أي : مزبور ، كالركوب بمعنى المركوب . وقال امرؤ القيس : لمن طلل أبصرته فشجاني
كخط زبور في عسيب يمان
ويقال : زبرته قرأته ، وزبرته حسنته ، وتزبرته زجرته . وقيل : اشتقاق الزبور من الزبرة ، وهي القطعة من الحديد التي تركت بحالها .
الزحزحة : التنحية والإبعاد ، تكرير الزح وهو الجذب بعجلة ويقال : مكان زحزح أي بعيد .
الفوز : النجاة مما يحذر والظفر بما يؤمل ، وسميت الأرض القفر البعيدة المخوف من الهلاك فيها مفازة على سبيل التفاؤل ، لا من قطعها فاز . وقيل : لأنها مظنة تفويز ، ومظنة هلاك . تقول العرب : فوّز الرجل مات .
( لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ( نزلت في فنحاص بن عازوراء ، حاوره أبو بكر في الإسلام وأن يقرض الله قرضاً حسناً فقال : هذه المقالة فضربه أبو بكر ومنعه من قبله العهد ، فشكاه إلى الرسول وأنكر ما قال ، فنزلت تكذيباً لفنحاص ، وتصديقاً للصديق قاله : ابن عباس ، وعكرمة ، والسدّي ، ومقاتل ، وابن إسحاق رضي الله عنهم ، وساقوا القصة مطولة . وقال قتادة : نزلت في حيي بن أخطب ، وقال هو أيضاً والحسن ومعمر وغيرهم : في اليهود . وذكر أبو سليمان الدمشقي في الياس بن عمر . ولما نزل ) مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( قال أو قالوا : إنما يستقرض الفقير الغني ، والظاهر أن قائل ذلك جمع ، فيمكن أن ذلك صدر من فنحاص أو حيي أولاً ، ثم تقاولها اليهود ، أو صدر ذلك من واحد فقط ، ونسب للجماعة على عادة كلام العرب في نسبتها إلى القبيلة فعل الواحد منها .
ومعنى لقد سمع الله : أنه لم يخف عليه تعالى مقالتهم ، ومقالتهم هذه إما على سبيل الاستهزاء بما نزل من طلب الإقراض ، وإما على سبيل الجدل والإلزام ، لأن من طلب الإقراض كان فقيراً . وإما على الإعتقاد ، ولا يستبعد ذلك من عقولهم ، إذ قد حكى الله عنهم ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ( وأياماً كان من هذه الأسباب ، فذلك دليل

" صفحة رقم 136 "
على تمردهم في الكفر والمبالغة فيه ، حيث نسبوا الموجَد الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود الغني بذاته عما أوجده الوصف الدال على الافتقار لبعض ما أوجده ، ونسبوا العكس إلى أنفسهم ، وجاءت الجملة مؤكدة باللام مؤذنة بعلمه بمقالتهم ومؤكدة له ، وحيث نسبوا إلى الله ما نسبوا ، أكدوا الجملة بأن على سبيل المبالغة . وحيث نسبوا إلى أنفسهم ما نسبوا لم يؤكدوا ، بل أخرجوا الجملة مخرج ما لا يحتاج إلى تأكيد ، كأنَّ الغنى وصف لهم لا يمكن فيه نزاع ، فيحتاج إلى أنْ يؤكد .
( سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الاْنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ( الظاهر إجراء الكتابة على أنها حقيقة ، قال ذلك كثير من العلماء . وأنها تكتب الأعمال في صحف ، وأن تلك الصحف هي التي توزن ، ويحدث الله سبحانه وتعالى فيها الخفة والثقل بحسب ما كتب فيها من الخير والشر . وقيل : سنكتب ما قالوا في القرآن حتى يعلم القوم شدة تعنتهم وحسدهم في الطعن عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وذهب قوم : إلى أن الكتابة مجاز ومعناها الإحصاء للشيء وضبطه وعدم إهماله وكينونته في علم الله شيئاً محفوظاً لا ينسى ، كما يثبت المكتوب . وذهب إلى أن معنى سنكتب : سنوجب عليهم في الآخرة جزاء ما قالوه في الدنيا كقوله : ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( وجاء سنكتب بلفظ المستقبل دون لفظ الماضي ، لأنه تضمن المجازاة على ما قالوه . وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى . ونسب إليهم قتلهم الأنبياء ، وإن كان من فعل آبائهم ، لما كانوا راضين به . وقد سموا أيضاً رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهموا بقتله ، ودل هذا القول وهذا الفعل على جميع الأقوال والأفعال القبيحة التي صدرت منهم . إذ القول في هذه الآية أشنع الأقوال في الله تعالى ، والقتل أشنع الأفعال التي فعلوها مع أنبياء الله تعالى ، وتشريك القتل مع هذا القول يدل على أنهما يسببان في استحقاق العقاب . ولما كان الصادر منهم قولاً وفعلاً ناسب أن يكون الجزاء قولاً وفعلاً ، فتضمن القول والفعل قوله تعالى : ونقول ذوقوا عذاب الحريق . وفي الجمع بين القول والفعل أعظم انتقام ، ويقال للمنتقم منه : أحس وذق .
وقال أبو سفيان لحمزة رضي الله عنه لما طعنه وحشي : ذق عقق ، واستعير لمباشرة العذاب الذوق ، لأن الذوق من أبلغ أنواع المباشرة ، وحاستها متميزة جداً . والحريق : المحرق فعيل بمعنى مفعل ، كأليم بمعنى مؤلم . وقيل : الحريق طبقة من طباق جهنم . وقيل : الحريق الملتهب من النار ، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة ، والملتهبة أشدها . والظاهر أنَّ هذا القول يكون عند دخولهم جهنم . وقيل : قد يكون عند الحساب ، أو عند الموت . وأنَّ وما بعدها محكى بقالوا . وأجاز أبو البقاء أن يكون محكياً بالمصدر ، فيكون من باب الأعمال . قال : وإعمالُ الأول أصلٌ ضعيف ، ويزداد ضعفاً لأن الثاني فعل والأول مصدر ، وإعمال الفعل أقوى . والظاهر أنَّ ما فيما قالوا موصولة بمعنى الذي ، وأجيز أن تكون مصدرية .
وقرأ الجمهور : سنكتب وقتلهم بالنصب . ونقول : بنون المتكلم المعظم . أو تكون للملائكة . وقرأ الحسن والأعرج سيكتب بالياء على الغيبة . وقرأ حمزة : سيكتب بالياء مبنياً للمفعول ، وقتلهم بالرفع عطفاً على ما ، إذ هي مرفوعة بسيكتب ، ويقول بالياء على الغيبة . وقرأ طلحة بن مصرّف : سنكتب ما يقولون . وحكى الداني عنه : ستكتب ما قالوا بتاء مضمومة على معنى مقالتهم . وقرأ ابن مسعود : ويقال ذوقوا . ونقلوا عن أبي معاذ النحويّ أنّ في حرف ابن مسعود سنكتبُ ما يقولون ونقول لهم ذوقوا .
آل عمران : ( 182 ) ذلك بما قدمت . . . . .
( ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ( الإشارة إلى ما تقدم من عقابهم ، ونسب ما قدموه من المعاصي القولية والفعلية والاعتقادية إلى الأيدي على سبيل التغليب ، لأن الأيدي تزاول أكثر الأعمال ، فكان كل عمل واقع بها . وهذه الجملة داخلة في المقول ، وبخوا بذلك ، وذكر لهم السبب الذي أوجب لهم العقاب . ويحتمل أن يكون خطاباً لمعاصري الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يوم نزل الآية ، فلا يندرج تحت معمول قوله ونقول .
( وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( هذا معطوف على قوله : بما قدمت أيديكم ، أي ذلك العقاب حاصل بسبب معاصيكم ، وعدل الله تعالى

" صفحة رقم 137 "
فيكم . وجاء لفظ ظلام الموضوع للتكثير ، وهذا تكثير بسبب المتعلق . وذهب بعضهم إلى أن فعالاً قد يجيء لا يراد به الكثرة ، كقول طرفة : ولست بحلال التلاع مخافة
ولكن متى يسترقد القوم أرفد
لا يريد أنه قد يحل التلاع قليلاً ، لأن عجز البيت يدفعه ، فدلّ على نفي البخل في كل حال ، وتمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة ، وقيل : إذا نفى الظلم الكثير اتبع القليل ضرورة ، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضرر كان للظلم القليل المنفعة أترك .
وقال القاضي : العذاب الذي توعد أن يفعله بهم : لو كان ظالماً لكان عظيماً ، فنفاه على جد عظمه لو كان ثابتاً والعبيد جمع عبد ، كالكليب . وقد جاء اسم الجمع على هذا الوزن نحو الضيفن وغيره من جمع التكسير ، جواز الأخبار عنه أخبار الواحد كأسماء الجموع ، وناسب لفظ هذا الجمع دون لفظ العباد ، لمناسبة الفواصل التي قبله مما جاءت على هذا الوزن ، كما ناسب ذلك في سورة فصلت ، وكما ناسب لفظ العباد في سورة غافر ما قبله وما بعده . قال ابن عطية : وجمع عبداً في هذه الآية على عبيد لأنه مكان تشقيق وتنجية من ظلم انتهى كلامه . ولا تظهر لي هذه العلة التي ذكرها في هذا الجمع . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فلم عطف قوله : وأن الله ليس بظلام للعبيد ، ( عَلَى مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ( وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكاً لاجتراحهم السيئات في استحقاقهم العذاب ؟ ( قلت ) : معنى كونه غير ظلام للعبيد : أنه عادل عليهم ، ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويثب المحسن انتهى . وفيه رائحة الاعتزال .
آل عمران : ( 183 ) الذين قالوا إن . . . . .
( الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ( قال الكعبي : نزلت في كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا ، وزيد بن مانوه ، وفنحاص بن عازوراء ، وحيي بن أخطب ، أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقالوا : تزعم أن الله بعثك إلينا رسولاً ، وأنزل عليك كتاباً ، وأن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدقناك . وظاهر هذا القول أنه عهد إليهم في التوراة ، فقيل : كان هذا في التوراة ، ولكن كان تمام الكلام حتى يأتيكم المسيح ومحمد ، فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان . وقيل : كان أمر القرابين ثابتاً ، إلى أن نسخت على لسان المسيح . وقيل : ذكرهم هذا العهد هو من كذبهم على الله تعالى ، وافترائهم عليه ، وعلى أنبيائه .
ومعنى عهد : وصي ، والعهد أخص من الأمر ، لأنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان ، وتقدم تفسيره . وتعدى نؤمن باللام كما في قوله : ) فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى ( يؤمن لله . والقربان : ما يتقرّب به من شاة أو بقرة أو غير ذلك ، وهو في الأصل مصدر سمي المفعول به كالرهن ، وكان حكمه قديماً في الأنبياء . ألا ترى إلى قصة ابني آدم ، وكان أكل النار ذلك القربان دليلاً على قبول العمل من صدقة أو عمل ، أو صدق مقالة . وإذا لم تنزل النار فليس بمقبول ، وكانت النار أيضاً تنزل للغنائم فتحرقها . وإسناد الأكل إلى النار مجاز واستعارة عن إذهاب الشيء وإفنائه ، إذ حقيقة الأكل إنما توجد في الحيوان المتغذي ، والقربان وأكل النار معجز للنبي يوجب الإيمان به ، فهو وسائر المعجزات سواء . ولله أن يعين من الآيات ما شاء لأنبيائه ، وهذا نظير ما يقترحونه من الآيات على سبيل التبكيت والتعجيز . وقد أخبر تعالى أنه لو نزل ما اقترحوه لما آمنوا .
والذين قالوا صفة للذين قالوا . وقال الزجاج : الذين صفة للعبيد . قال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى والوصف انتهى . وهو كما قال . وجوزوا قطعة للرّفع ، والنصب

" صفحة رقم 138 "
واتباعه بدلاً . وفي أن لا نؤمن تقدير حرف جر ، فحذف وبقي على الخلاف فيه : أهو في موضع نصب أو جر ؟ وأن يكون مفعولاً به على تضمين عهد معنى الزم ، فكأنه ألزمنا أن لا نؤمن . وقرأ عيسى بن عمر بقرُبان بضم الراء . قال ابن عطية : اتباعاً لضمة القاف ، وليس بلغة . لأنه ليس في الكلام فُعُلان بضم الفاء والعين . وحكى سيبويه السلطان بضم اللام ، وقال : إن ذلك على الاتباع انتهى . ولم يقل سيبويه : إنَّ ذلك على الاتباع ، بل قال : ولا نعلم في الكلام فعلان ولا فعلان ، ولا شيئاً من هذا النحو لم يذكره . ولكنه جاء فعلان وهو قليل ، قالوا : السلطان وهو اسم انتهى . وقال الشارح : صاحب في اللغة لا يسكن ولا يتبع ، وكذا ذكر التصريفيون أنه بناء مستقبل . قالوا فيما لحقه زيادتان بعد اللام وعلى فعلان ولم يجيء إلا اسماً : وهو قليل نحو سلطان .
( قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( رد الله تعالى عليهم وأكذبهم في اقتراحهم ، وألزمهم أنهم قد جاءتهم الرسل بالذي قالوه من الإتيان بالقربان الذي تأكله النار وبالآيات غيره ، فلم يؤمنوا بهم ، بل قتلوهم . ولم يكتفوا بتكذيبهم حتى أوقعوا بهم شر فعل ، وهو إتلاف النفس بالقتل . فالمعنى أن هذا منكم معشر اليهود تعلل وتعنت ، ولو جاءهم بالقربان لتعللوا بغير ذلك مما يقترحونه . والاقتراح لا غاية له ، ولا يجاب طالبه إلا إذا أراد الله هلاكه ، كقصة قوم صالح وغيره . وكذلك قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في اقتراح قريش فأبى عليه السلام وقال : ) بَلِ ادْعُوهُمْ ( ومعنى : إن كنتم صادقين في دعواكم أنّ الإيمان يلزم بإتيان البينات والقربان ، أو صادقين في أنّ الله عهد إليكم .
آل عمران : ( 184 ) فإن كذبوك فقد . . . . .
( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ جَاءوا بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ( الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وذلك على سبيل التسلية لما ظهر كذبهم على الله بذكر العهد الذي افتروه ، وكان في ضمنه تكذيبه إذ علقوا الإيمان به على شيء مقترح منهم على سبيل التعنت ، ولم يجبهم الله لذلك ، فسلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بأن هذا دأبهم ، وسبق منهم تكذيبهم لرسل جاءوا بما يوجب الإيمان من ظهور المعجزات الواضحة الدلالة على صدقهم ، وبالكتب السماوية الإلهية النيرة المزيلة لظلم الشبه .
والزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب سمي بذلك قيل : لأنه مكتوب ، إذ يقال : زبره كتبه . أو لكونه زاجراً من زبره زجره ، وبه سمي كتاب داود زبوراً لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ ، أو لأحكامه . والزبر : الأحكام . وقال الزجاج : الزبور كل كتاب فيه حكمة . قيل : والكتاب هو الزبر . وجمع بين اللفظين على سبيل التأكيد ، أو لاختلاف معنييهما ، مع أن المراد واحد ، ولكن اختلف معنياهما من حيث الصفة . وقيل : الكتاب هنا جنس للتوراة والإنجيل وغيرهما ، ويحتمل أن يراد بقوله : والزبر الزواجر من غير أن يراد به الكتب . أي : جاؤوا بالمعجزات الواضحة والتخويفات والكتب النيرة .
وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه التقدير : وإن يكذبوك فتسلّ به . ولا يمكن أن يكون فقد كذب رسل الجواب لمضيه ، إذ جواب الشرط مستقبل لا محالة لترتبه على المستقبل ، وما يوجد في كلام المعربين أنَّ مثل هذا من الماضي هو جواب الشرط ، فهو على سبيل التسامح لا الحقيقة . وبنى الفعل للمفعول لأنه لم يقتصر في تكذيب الرسل على تكذيب اليهود وحدهم لأنبيائهم ، بل نبه على أنَّ من عادة اليهود وغيرهم من الأمم تكذيب الأنبياء ، فكان المعنى : فقد كذبت أمم من اليهود وغيرهم الرسل . قيل : ونكر رسل لكثرتهم وشياعهم . ومن قبلك : متعلق بكذب ، والجملة من قوله : جاؤوا في موضع الصفة لرسل انتهى . والباء في بالبينات تحتمل الحال والتعدية ، أي : جاؤا أممهم مصحوبين بالبينات ، أو جاؤوا البينات . وقرأ الجمهور : والزبر . وقرأ ابن عامر : وبالزبر ، وكذا هي في مصاحف أهل الشأم . وقرأ هشام بخلاف عنه وبالكتاب . وقرأ الجمهور : والكتاب . وإعادة حرف الجر في العطف هو على سبيل التأكيد . وكان ذكر الكتاب مفرداً وإنَّ كان مجموعاً من حيث المعنى لتناسب الفواصل ، ولم يلحظ فيه أن يجمع كالمعطوف عليهما لذلك .
آل عمران : ( 185 ) كل نفس ذائقة . . . . .
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ( تضمنت هذه الجملة وما بعدها الوعظ والتسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن الدنيا وأهلها ، والوعد بالنجاة في الآخرة بذكر الموت ، والفكرة فيه تهون ما يصدر من الكفار من تكذيب وغيره . ولمّا تقدّم ذكر

" صفحة رقم 139 "
المكذبين الكاذبين على الله من اليهود والمنافقين وذكرهم المؤمنين ، نبهوا كلهم على أنهم ميتون ومآلهم إلى الآخرة ، ففيها يظهر الناجي والهالك ، وأنَّ ما تعلقوا به في الدنيا من مال وأهل وعشيرة إنما هو على سبيل التمتع المغرور به ، كلها تضمحل وتزول ولا يبقى إلا ما عمله الإنسان ، وهو يوفاه في الآخرة ، يوفى على طاعته ومعصيته .
وقال محمد بن عمر الرازي : في هذه الآية دلالة على أن النفس لا تموت بموت البدن ، وعلى أن النفس . غير البدن انتهى . وهذه مكابرة في الدلالة ، فإنّ ظاهر الآية يدل على أن النفس تموت . قال أيضاً : لفظ النفس مختص بالأجسام انتهى . وقرأ اليزيدي : ذائقة بالتنوين ، الموت بالنصب ، وذلك فيما نقله عنه الزمخشري . ونقلها ابن عطية عن أبي حيوة ، ونقلها غيرهما عن الأعمش ، ويحيى ، وابن أبي إسحاق . وقرأ الأعمش فيما نقله الزمخشري ذائقة بغير تنوين الموت بالنصب ومثله : فألفيته غر مستعتب
ولا ذاكر الله إلا قليلا
حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، كقراءة من قرأ ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ( بحذف التنوين من أحد ) وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( لفظ التوفية يدل على التكميل يوم القيامة ، فما قبله من كون القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، هو بعض الأجور . وما لم يدخل الجنة أو النار فهو غير موفى . والذي يدل عليه السياق أنّ الأجور هي ما يترتب على الطاعة والمعصية ، وإن كان الغالب في الاستعمال أنّ الأجر هو ما يترتب على عمل الطاعة . ولهذا قال ابن عطية : وخص تعالى ذكر الأجور لشرفها ، وإشارة إلى مغفرته لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمّته . ولا محالة أنّ يوم القيامة يقع فيه الأجور ، وتوفية العقوبات انتهى .
( فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ( علق الفوز وهو نيل الحظ من الخير والنجاة من الشرّ على التنحية من النار ودخول الجنة ، لأن من لم ينج عن النار بل أدخلها ، وإن كان سيدخل الجنة لم يفز كمن يدخلها من أهل الكبائر . ومن نحى عنها ولم يدخل الجنة كأصحاب اوعراف ، لم يفز أيضاً . وروي في الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إلاه إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ، قيل : فاز معناه نجا . وقيل : سبق . وقيل : غنم .
( وَما الْحَيَواةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ( المتاع : ما يستمتع به من آلات وأموال وغير ذلك . وفسرّه عكرمة : بالفأس ، والقصعة ، والقدر . وفسره الحسن فقال : هو كخضرة النبات ، ولعب البنات لا حاصل له يلمع لمع السراب ، ويمر مرّ السحاب ، وهذا من عكرمة والحسن على سبيل التمثيل . قال الزمخشري : شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ، ثم يتبين له فساده ورداءته ، والشيطان هو المدلس . الغرور انتهى . وقال سعيد بن جبير : إنما هذا المن آثرها على الآخرة ، فأمّا من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ . وقال عكرمة أيضاً : متاع الغرور القوارير التي لا بد لها من الانكسار والفساد ، فكذلك أمر الدنيا كله . وهذا تشبيه من عكرمة والغرور الخدع والترجئة بالباطل . وقال عبد الرحمن بن سابط : متاع الغرور كزاد الراعي يزود الكف من التمر والشيء من الدقيق يشرب عليه

" صفحة رقم 140 "
اللبن ، يعني : أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به ولا يبلغه سفره . ومن كلام العرب عش ولا تغتر . أي : لا تجتزىء بما لا يكفيك . وقال ابن عرفة : الغرور ما رأيت له ظاهراً حسناً وله باطن مكروه أو مجهول ، والشيطان غرور لأنه يحمل على مخبآت الناس ووراء ذلك ما يسوء . قال : ومن هذا بيع الغرور ، وهو ما كان له ظاهر بيع وباطن مجهول . وقال أبو مسلم الأصبهاني : وما الحياة الدنيا بحذف المضاف تقديره : وما نفع الحياة الدنيا إلا نفع الغرور . أي : نفع يغفل عن النفع الحقيقي لدوامه ، وهو النفع في الحياة الأخروية . وإضافة المتاع إلى الغرور أنْ جعل الغرور جمعاً فهو كقولك : نفع الغافلين . وإنْ جعل مصدراً فهو كقولك : نفع إغفال ، أي إهمال فيورث الغفلة عن التأهب للآخرة . وقرأ عبد الله بن عمر : المغرور بفتح الغين ، وفسَّر بالشيطان ويحتمل أن يكون فعولاً بمعنى مفعول ، أي : متاع المغرور ، أي : المخدوع .
وتضمنت هذه الآيات التجنيس المغاير في قوله : الذين قالوا : والمماثل في : قالوا ، وسنكتب ما قالوا ، وفي : كذبوك فقد كذب . والطباق في : فقير وأغنياء ، وفي : الموت والحياة ، وفي : زحزح عن النار وأدخل الجنة . والالتفات في : سنكتب ونقول ، وفي : أجوركم ، إذ تقدمه كل نفس . والتكرار في : لفظ الجلالة ، وفي البينات . والاستعارة في : سنكتب على قول من لم يجعل الكتابة حقيقة ، وفي : قدّمت أيديكم ، وفي : تأكله النار ، وفي : ذوقوا وذائقة . والمذهب الكلامي في فلم قتلتموهم . والاختصاص في : أيديكم . والإشارة في : ذلك ، والشرط المتجوز فيه . والزيادة للتوكيد في : وبالزبر وبالكتاب في قراءة من قرأ كذلك . والحذف في مواضع .
2 ( ) لَتُبْلَوُنَّ فِىأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الاٍّ مُورِ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاّيَاتٍ لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَأامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الاٌّ بْرَارِ رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِل

" صفحة رقم 141 "
ٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِأايَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلائِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( )
آل عمران : ( 186 ) لتبلون في أموالكم . . . . .
الجنوب : جمع جنب وهو معروف . المرابطة : الملازمة في الثغر للجهاد ، وأصلها من ربط الخيل .
( لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ( قيل : نزلت في قصة عبد الله بن أبي حين قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقد قرأ عليهم الرسول القرآن : إنْ كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا . وردّ عليه ابن رواحة فقال : اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله . وتسابَّ المسلمون والمشركون واليهود . وقيل : فيما جرى بين أبي بكر وفنحاص . وقيل : في كعب بن الأشرف كان يحرّض المشركين على الرسول وأصحابه في شعره ، وأعلمهم تعالى بهذا الابتلاء والسماع ليكونوا أحمل لما يرد عليهم من ذلك ، إذا سبق الإخبار به بخلاف من يأتيه الأمر فجأة فاته يكثر تألمه . والآية مسوقة في ذمّ أهل الكتاب وغيرهم من المشركين ، فناسبت ما قبلها من الآيات التي جاءت في ذم أهل الكتاب وغيرهم من المشركين .
والظاهر في قوله : لتبلون أنهم المؤمنون . وقال عطاء : المهاجرون ، أخذ المشركون رباعهم فباعوها ، وأموالهم فنهبوها . وقيل : الابتلاء في الأموال هو ما أصيبوا به من نهب أموالهم وعددهم يوم أحد . والظاهر أنّ هذا خطاب للمؤمنين بما سيقع من الامتحان في الأموال ، بما يقع فيها من المصائب والذهاب والإنفاق في سبيل الله وفي تكاليف الشرع ، والابتلاء في النفس بالشهوات أو الفروض البدنية أو الأمراض ، أو فقد الأقارب والعشائر ، أو بالقتل والجراحات والأسر ، وأنواع المخاوف أقوال . وقدم الأموال على الأنفس على سبيل الترقي إلى الأشرف ، أو على سبيل الكثرة . لأنّ الرّزايا في الأموال أكثر من الرّزايا في الأنفس . والأذى : اسم جامع في معنى الضرر ،

" صفحة رقم 142 "
ويشمل أقوالهم في الرسول وأصحابه ، وفي الله تعالى وأنبيائه . والمطاعن في الدين وتخطئة من آمن ، وهجاء كعب وتشبيه بنساء المؤمنين .
( وَأَن تَصْبِرُواْ ( على ذلك الابتلاء وذلك السماع .
( وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ ( أي فإن الصبر والتقوى .
( مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ ( قيل : من أشدها وأحسنها . والعزم : إمضاء الأمر المروّى المنقح . وقال النقاش : العزم هو الحزم بمعنى واحد ، الحاء مبدلة من العين . قال ابن عطية : وهذا خطأ . الحزم جودة النظر في الأمر ، ونتيجته الحذر من الخطأ فيه . والعزم قصد الإمضاء ، والله تعالى يقول : ) وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ ( فالمشاورة وما كان في معناها والحزم . والعرب تقول : قد أحزم لو أعزم . وقال الزمخشري : من عزم الأمور من معزومات الأمور . أي : مما يجب عليه العزم من الأمور . أو مما عزم الله أن يكون ، يعني : أن ذلك عزمة من عزمات الله لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا . وقيل : من عزم الأمور من جدها . وقال مجاهد في قوله : فإذا عزم الأمر ، أي فإذا وجد الأمر
آل عمران : ( 187 ) وإذ أخذ الله . . . . .
( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ( هم اليهود أخذ عليهم الميثاق في أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فكتموه ونبذوه قاله : ابن عباس ، وابن جبير ، والسدي ، وابن جريج . وقال قوم : هم اليهود والنصارى . وقال الجمهور : هي عامة في كل من علمه الله علماً ، وعلماء هذا الأمة داخلون في هذا الميثاق . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر : بالياء فيهما على الغيبة ، إذ قبله الذين أوتوا الكتاب وبعده فنبذوه . وقرأ باقي السبعة : بالتاء للخطاب ، وهي كقوله : ) لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ ( قرىء بالتاء والياء ، والظاهر عود الضمير إلى الكتاب . وقيل : هو للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : للميثاق . وقيل : للإيمان بالرسول لقوله :
) لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ( وارتفاع ولا تكتموانه لكونه وقع حالاً ، أي : غير كاتمين له وليس داخلاً في المقسم عليه . قالوا وللحال لا العطف ، كقوله : ) فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانّ ( وقوله : ولا يسأل في قراءة من خفف النون ورفع اللام . وقيل : الواو للعطف ، وهو من جملة المقسم عليه . ولمّا كان منفياً بلا لم يؤكد ، تقول : والله لا يقوم زيد ، فلا تدخله النون . وهذا الوجه عندي أعرب وأفصح ، لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ ، قبل لا ، حتى تكون الجملة اسمية في موضع الحال ، إذ المضارع المنفي بلالاً تدخل عليه واو الحال . وقرأ عبد الله : ليبينونه بغير نون التوكيد . قال ابن عطية : وقد لا تلزم هذه النون لام التوكيد ، قاله : سيبويه انتهى . وهذا ليس معروفاً من قول البصريين ، بل تعاقب اللام والنون عندهم ضرورة . والكوفيون يجيزون ذلك في سعة الكلام ، فيجيزون : والله لأقوم ، ووالله أقومن . وقال الشاعر : وعيشك يا سلمى لا وقن إنني
لما شئت مستحل ولو أنه القتل
وقال آخر : يميناً لأبغض كل امرىء
يزخرف قولاً ولا يفعل

" صفحة رقم 143 "
وقرأ ابن عباس : ميثاق النبيين لتبيننه للناس ، فيعود الضمير في فنبذوه على الناس إذ يستحيل عوده على النبيين ، أي : فنبذه الناس المبين لهم الميثاق ، وتقدم تفسير معنى : ) فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ( في قوله : ) نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ).
) وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ( وتقدم تفسير مثل هذه الجملة والكلام في إعراب ما بعد بئس فأغنى عن الإعادة .
آل عمران : ( 188 ) لا تحسبن الذين . . . . .
( لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ ( نزلت في المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الغزو ، فإذا جاء استعذروا له ، فيظهر القبول ويستغفر لهم ، ففضحهم الله بهذه الآية قاله : أبو سعيد الخدري وابن زيد وجماعة . وقال كثير من المفسرين : نزلت في أحبار اليهود . وأتى تكون بمعنى فعل ، كقوله تعالى : ) إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ( أي مفعولاً . فمعنى بما أتوا بما فعلوا ، ويدل عليه قراءة أبى بما فعلوا . وفي الذي فعلوه وفرحوا به أقوال : أحدها كتم ما سألهم عنه الرسول ، وإخبارهم بغيره ، وأروه أنهم قد أخبروه به واستحمدوا بذلك إليه قاله : ابن عباس . الثاني ما أصابوا من الدنيا وأحبوا أن يقال : إنهم علماء قاله : ابن عباس أيضاً . الثالث قولهم : نحن على دين إبراهيم ، وكتمهم أمر الرسول قاله : ابن جبير . الرابع كتبهم إلى اليهود يهود الأرض كلها أن محمداً ليس بنبي ، فأثبتوا على دينكم ، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به . وقالوا : نحن أهل الصوم والصلاة وأولياء الله قاله : الضحاك والسدي . الخامس قول يهود خيبر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه : نحن على دينكم ، ونحن لكم ردء ، وهم مستمسكون بضلالهم ، وأرادوا أن يحمدهم بما لم يفعلوا قاله : قتادة . السادس تجهيز اليهود جيشاً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وإنفاقهم على ذلك الجيش قاله : النخعي . السابع إخبار جماعة من اليهود للمسلمين حين خرجوا من عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد أخبرهم بأشياء عرفوها ، فحمدهم المسلمون على ذلك ، وأبطنوا خلاف ما أظهر ، وأذكره الزجاج . الثامن اتباع الناس لهم في تبديل تأويل التوراة ، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك ، ولم يفعلوا شيئاً نافعاً ولا صحيحاً قاله : مجاهد . التاسع تخلف المنافقين عن الغزو وحلفهم للمسلمين أنهم يسرّون بنصرهم ، وكانوا يحبون أن يقال أنهم في حكم المجاهدين قاله : أبو سعيد الخدري .
والأقوال السابقة غير هذا الأخير مبنية على أن الآية نزلت في اليهود . قيل : ويجوز أن يكون شاملاً لكل من يأتي بحسنة فرح بها فرح إعجاب ، ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد ، وبما ليس فيه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : لا يحسبن ولا يحسبنهم بالياء فيهما ، ورفع باء يحسبنهم على إسناد يحسبن للذين ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما ما قاله أبو عليّ : وهو أن لا يحسبن لم يقع على شيء ، والذين رفع به . وقد تجيء هذه الأفعال لغواً لا في حكم الجمل المفيدة نحو قوله : وما خلت أبقي بيننا من مودّة
عراض المداكي المسنفات القلائصا
وقال الخليل : العرب تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيد ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد . قال ابن عطية : فتتجه

" صفحة رقم 144 "
القراءة بكون فلا يحسبنهم بدلاً من الأول ، وقد تعدّى إلى المفعولين وهما : الضمير وبمفازة ، واستغنى بذلك عن المفعولين ، كما استغنى في قوله : بأي كتاب أم بأية سنة
ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب
أي : وتحسب حبهم عاراً عليّ . والوجه الثاني ما قاله الزمخشري : وهو أن يكون المفعول الأول محذوفاً على لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة ، بمعنى : لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين . وفلا يحسبنهم تأكيد ، وتقدّم لنا الرد على الزمخشري في تقديره لا يحسبنهم الذين في قوله : ) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا ( وإن هذا التقدير لا يصح فيطلع هناك . وتعدى في هذه القراءة فعل الحسبان إلى ضميريه المتصلين : المرفوع والمنصوب ، وهو مما يختص به ظننت وأخواتها ، ومن غيرها : وجدت ، وفقدت ، وعدمت ، وذلك مقرّر في علم النحو .
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم : لا تحسبن ، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب ، وفتح الباء فيهما خطاباً للرسول ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما ذكره ابن عطية ، وهو أن المفعول الأول هو : الذين يفرحون . والثاني محذوف لدلالة ما بعده عليه كما قيل آنفاً في المفعولين . وحسن تكرار الفعل فلا يحسبنهم لطول الكلام ، وهي عادة العرب ، وذلك تقريب لذهن المخاطب . والوجه الثاني ذكره الزمخشري ، قال : وأحد المفعولين الذين يفرحون ، والثاني بمفازة . وقوله : فلا يحسبنهم توكيد تقديره لا يحسبنهم ، فلا يحسبنهم فائزين . وقرىء لا تحسبن فلا تحسبنهم بتاء الخطاب وضم الباء فيهما خطاباً للمؤمنين . ويجيء الخلاف في المفعول الثاني كالخلاف فيه في قراءة الكوفيين . وقرأ نافع وابن عامر : لا يحسبن بياء الغيبة ، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب ، وفتح الباء فيهما ، وخرجت هذه القراءة على حذف مفعولي يحسبن لدلالة ما بعدهما عليهما . ولا يجوز في هذه القراءة البدل الذي جوّز في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين لاختلاف الفاعل . وإذا كان فلا يحسبنهم توكيداً أو بدلاً ، فدخول الفاء إنما يتوجه على أن تكون زائدة ، إذ لا يصح أن تكون للعطف ، ولا أن تكون فاء جواب الجزاء . وأنشدوا على زيادة الفاء قول الشاعر : حتى تركت العائدات يعدنه
يقلن فلا تبعد وقلت له : ابعد
وقال آخر : لما اتقى بيد عظيم جرمها
فتركت ضاحي : كفه يتذبذب
أي : لا تبعد ، وأي تركت . وقرأ النخعي ومروان بن الحكم بما آتوا بمعنى : أعطوا . وقرأ ابن جبير والسلمي : بما أوتوا مبنياً للمفعول . وتقدّمت الأقوال في أتوا ، وبعضها يستقيم على هاتين القراءتين .
وفي حرف عبد الله بما لم يفعلوا بمفازة ، وأسقط فلا يحسبنهم . ومفازة مفعلة من فاز ، وهي للمكان أي : موضع فوز ، أي : نجاة . وقال الفرّاء : أي يبعد من العذاب ، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه . وفي هذه الآية دلالة على أن تزين الإنسان بما

" صفحة رقم 145 "
ليس فيه وحبه المدح عليه منهى عنه ومذموم شرعاً . وقال تعالى : ) لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( وفي الحديث الصحيح : ) المتشبع بما ليس فيه كلابس ثوبي زور ( وقد أخبر تعالى عنهم بالعذاب الأليم في قوله : ولهم عذاب أليم . وناسب وصفه بأليم لأجل فرحهم ومحبتهم المحمدة على ما لم يفعلوا .
آل عمران : ( 189 ) ولله ملك السماوات . . . . .
( وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ( ذكر تعالى أنهم من جملة ما ملك ، وأنه قادر عليهم ، فهم مملوكون مقهورون مقدور عليهم ، فليسوا بناجين من العذاب .
آل عمران : ( 190 ) إن في خلق . . . . .
( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ ( تقدّم شرح نظير هذه الجملة في سورة البقرة . ومعنى لآيات : العلامات واضحة على الصانع وباهر حكمته ، ولا يظهر ذلك إلا لذوي العقول ينظرون في ذلك بطريق الفكر والاستدلال ، لا كما تنظر البهائم . وروي ابن جبير عن ابن عباس أن قريشاً قالوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً ، حين ذكرت اليهود والنصارى لهم بعض ما جاء به من المعجزات موسى عليهما السلام ، فنزلت هذه الآية . ومناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة ، لأنه تعالى لمّا ذكر أنه مالك السموات والأرض ، وذكر قدرته ، ذكر أنّ في خلقهما دلالات واضحة لذوي العقول .
آل عمران : ( 191 ) الذين يذكرون الله . . . . .
( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( الظاهر أن الذكر هو باللسان مع حضور القلب ، وأنه التحميد والتهليل والتكبير ، ونحو ذلك من الاذكار . هذه الهيئات الثلاثة هي غالب ما يكون عليها المرء ، فاستعملت والمراد بها جميع الأحوال . كما قالت عائشة : ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يذكر الله على كل أحيانه ) وظاهر هذا الحديث والآية يدل على جواز ذكر الله على الخلاء . وقال بجواز ذلك : عبد الله بن عمر ، وابن سيرين والنخعي . وكرهه : ابن عباس ، وعطاء ، والشعبي . وعن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكروا الله فقال بعضهم : أما قال الله تعالى : قياماً وقعوداً ؟ فقاموا يذكرون الله على أقدامهم .
وروي في الحديث : ( من أحب أن يرتع في رياض لجنة فليكثر ذكر الله ( وإلى أن المراد بالذكر هو الظاهر الذي ذكرناه . ذهب ابن جريج والجمهور : والذكر من أعظم العبادات ، والأحاديث فيه كثيرة . وقال ابن عباس وجماعة : المراد بالذكر الصلوات ، ففي حال العذر يصلونها قعوداً وعلى جنوبهم ، وسماها ذكراً لاشتمالها على الذكر . وقيل : المراد بالذكر صلاة النفل يصليها كيف شاء . وجلب المفسرون في هذه الآية أشياء من كيفية إيقاع الصلاة في القيام والقعود والاضطجاع ، وخلاف الفقهاء في ذلك ، ودلائلهم . وذلك مقرر في علم الفقه . وعلى الظاهر من تفسير الذكر فتقديم القيام ، لأن الذكر فيه أخف على الإنسان ، ثم انتقل إلى حالة القعود والذكر فيه أشق منه في حالة القيام ، لأن الإنسان لا يقعد غالباً إلا لشغل يشتغل به من صناعة أو غيرها . ثم انتقل إلى هيئة الاضطجاع والذكر فيها أشق منه في هيئة القعود ، لأن الاضطجاع هو هيئة استراحة وفراغ عن الشواغل . ويمكن في هذه الهيئات أن يكون التقديم لما هو أقصر زماناً ، فبدىء بالقيام لأنها هيئة زمانها في الغالب أقصر من زمان القعود ، ثم بالقعود إذ زمانه أطول ، وبالاضطجاع إذ زمانه أطول من زمان القعود . ألا ترى أنَّ الليل جميعه هو زمان الاضطجاع ، وهو مقابل لزمان القعود والقيام ، وهو النهار ؟ وأما إذا كان الذكر يراد به الصلاة المفروضة ، فالهيئات جاءت على سبيل الندرة . فمن قدر على القيام لا يصلي قاعداً ، ومن قدر على القعود لا يصلي مضطجعاً ، وأما إذا كان يراد به صلاة النفل فالهيئات على سبيل

" صفحة رقم 146 "
الأفضلية ، إذ الأفضل التنفل قائماً ثم قاعداً ثم مضطجعاً . وأبعد في التفسير من ذهب إلى أن المعنى : يذكرون الله قياماً بأوامره ، وقعوداً عن زواجره ، وعلى جنوبهم أي تجانبهم مخالفة أمره ونهيه . وهذا شبيه بكلام أرباب القلوب ، وقريب من الباطنية .
وجوزوا في الذين النعت والقطع للرفع والنصب ، وعلى جنوبهم حال معطوفة على حال ، وهنا عطف المجرور على صريح الاسم . وفي قوله : دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً عطف صريح الاسم على المجرور .
( ( وإلى أن المراد بالذكر هو الظاهر الذي ذكرناه . ذهب ابن جريج والجمهور : والذكر من أعظم العبادات ، والأحاديث فيه كثيرة . وقال ابن عباس وجماعة : المراد بالذكر الصلوات ، ففي حال العذر يصلونها قعوداً وعلى جنوبهم ، وسماها ذكراً لاشتمالها على الذكر . وقيل : المراد بالذكر صلاة النفل يصليها كيف شاء . وجلب المفسرون في هذه الآية أشياء من كيفية إيقاع الصلاة في القيام والقعود والاضطجاع ، وخلاف الفقهاء في ذلك ، ودلائلهم . وذلك مقرر في علم الفقه . وعلى الظاهر من تفسير الذكر فتقديم القيام ، لأن الذكر فيه أخف على الإنسان ، ثم انتقل إلى حالة القعود والذكر فيه أشق منه في حالة القيام ، لأن الإنسان لا يقعد غالباً إلا لشغل يشتغل به من صناعة أو غيرها . ثم انتقل إلى هيئة الاضطجاع والذكر فيها أشق منه في هيئة القعود ، لأن الاضطجاع هو هيئة استراحة وفراغ عن الشواغل . ويمكن في هذه الهيئات أن يكون التقديم لما هو أقصر زماناً ، فبدىء بالقيام لأنها هيئة زمانها في الغالب أقصر من زمان القعود ، ثم بالقعود إذ زمانه أطول ، وبالاضطجاع إذ زمانه أطول من زمان القعود . ألا ترى أنَّ الليل جميعه هو زمان الاضطجاع ، وهو مقابل لزمان القعود والقيام ، وهو النهار ؟ وأما إذا كان الذكر يراد به الصلاة المفروضة ، فالهيئات جاءت على سبيل الندرة . فمن قدر على القيام لا يصلي قاعداً ، ومن قدر على القعود لا يصلي مضطجعاً ، وأما إذا كان يراد به صلاة النفل فالهيئات على سبيل الأفضلية ، إذ الأفضل التنفل قائماً ثم قاعداً ثم مضطجعاً . وأبعد في التفسير من ذهب إلى أن المعنى : يذكرون الله قياماً بأوامره ، وقعوداً عن زواجره ، وعلى جنوبهم أي تجانبهم مخالفة أمره ونهيه . وهذا شبيه بكلام أرباب القلوب ، وقريب من الباطنية .
وجوزوا في الذين النعت والقطع للرفع والنصب ، وعلى جنوبهم حال معطوفة على حال ، وهنا عطف المجرور على صريح الاسم . وفي قوله : دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً عطف صريح الاسم على المجرور .
( وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الظاهر أنه معطوف على الصلة ، فلا موضع له من الإعراب . وقيل : الجملة في موضع نصب على الحال ، عطفت على الحال قبلها . ولما ذكر الذكر الذي محله اللسان ، ذكر الفكر الذي محله القلب . ويحتمل خلق أن يراد به المصدر ، فإن الفكرة في الخلق لهذه المصنوعات الغريبة الشكل والقدرة على إنشاء هذه من العدم الصرف ، يدل على القدرة التامة والعلم والأحدية إلى سائر الصفات العلية . وفي الفكر في ذلك ما يبهر العقول ، ويستغرق الخواطر . ويحتمل أن يراد به المخلوق ، ويكون أضافه من حيث المعنى إلى الظرفين ، لا إلى المفعول ، والفكر في ما أودع الله في السموات من الكواكب النيرة والأفلاك التي جاء النصر فيها وما أودع في الأرض من الحيوانات والنبات والمعادن ، واختلاف أجناسها وأنواعها وأشخاصها أيضاً يبهر العقل ويكثر العبر وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
ومر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) على قوم يتفكرون في الله فقال : ( تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره ) . وقال بعض العلماء : المتفكر في ذات الله كالناظر في عين الشمس ، لأنه تعالى ليس كمثله شيء . وإنما التفكر وانبساط الذهن في المخلوقات وفي مخلوق الآخرة . وفي الحديث : ( لا عبادة كتفكر ) . وذكر المفسرون من كلام الناس في التفكر ومن أعيان المتفكرين كثيراً ، رأينا أن لا نطول كتابنا بنقلها ) رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( هذه الجملة محكية بقول محذوف تقديره : يقولون . وهذا الفعل في موضع نصب على الحال ، والإشارة بهذا إلى الخلق إن كان المراد المخلوق ، أو إلى السموات والأرض لأنها في معنى المخلوق . أي : ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلاً . قيل : المعنى خلقاً أي : لغير غاية ، بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه ، فيوحد ويعبد . فمن فعل ذلك نعمته ، ومن ضل عن ذلك عذبته . وقال الزمخشري : المعنى ما خلقته خلقاً باطلاً بغير حكمة بل خلقته لداعي حكمة عظيمة وهو : أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ، ووجوب طاعتك ، واجتناب معصيتك . ولذلك وصل به قوله : فقنا عذاب النار ، ولأنه جزاء من عصى ولم يطع انتهى . وفيه إشارات المعتزلة من قوله : بل خلقته لداعي حكمة عظيمة ، وعلى هذا فيكون انتصاب باطلاً على أنه نعت لمصدر محذوف . وقيل : انتصب باطلاً على الحال من المفعول . وقيل : انتصب على إسقاط الباء ، أي بباطل ، بل خلقته بقدرتك التي هي حق . وقيل : على إسقاط اللام وهو مفعول من أجله ، وفاعل بمعنى المصدر أي بطولاً . وقيل : على أنه مفعول ثان لخلق ، وهي بمعنى جعل التي تتعدى إلى اثنين ، وهذا عكس المنقول في النحو وهو : أنَّ جعل يكون بمعنى خلق ، فيتعدى لواحد . أما أن

" صفحة رقم 147 "
خلق يكون بمعنى جعل فيتعدى لاثنين ، فلا أعلم أحداً ممن له معرفة ذهب إلى ذلك . والباطل : الزائل الذاهب ومنه :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
والأحسن من أعاريبه انتصابه على الحال من هذا ، وهي حال لا يستغنى عنها نحو قوله : ) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ( لا يجوز في هذه الحال أن تحذف لئلا يكون المعنى على النفي ، وهو لا يجوز .
ولما تضمنت هذه الجملة الإقرار بأنّ هذا الخلق البديع لم يكن باطلاً ، والتنبيه على أن هذا كلام أولي الألباب الذاكرين الله على جميع أحوالهم والمتفكرين في الخلق ، دلّ على أن غيرهم من أهل الغفلة والجهالة يذهبون إلى خلاف هذه المقالة ، فنزهوه تعالى عن ما يقول أولئك المبطلون مَن ما أشار إليه تعالى في قوله : لاعبين ، وفي قوله : ) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( واعترض بهذا التنزيه المتضمن براءة الله من جميع النقائص وأفعال المحدثين . بين ذلك الإقرار وبين رغبتهم إلى ربهم بأن يقيهم عذاب النار ، ولم يكن لهم همّ في شيء من أحوال الدنيا ، ولا اكتراث بها ، إنما تضرّعوا في سؤال وقايتهم العذاب يوم القيامة . وهذا السؤال هو نتيجة الذكر والفكر والإقرار والتنزيه . والفاء في : فقنا للعطف ، وترتيب السؤال على الإقرار المذكور . وقيل : لترتيب السؤال على ما تضمنه سبحان من الفعل ، أي : نزهناك عما يقول الجاهلون فقنا . وأبعد من ذهب إلى أنه للترتيب على ما تضمن النداء .
آل عمران : ( 192 ) ربنا إنك من . . . . .
( رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ( هذه استجارة واستعادة . أي : فلا تفعل بنا ذلك ، ولا تجعلنا ممن يعمل بعملها . ومعنى أخزيته : ففضحته . من خزى الرجل يخزى خزياً ، إذا افتضح . وخزاية إذا استحيا الفعل واحد واختلف في المصدر فمن الافتضاح خزي ، ومن الاستحياء خزاية . ومن ذلك ) وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى ( أي لا تفضحون . وقيل : المعنى أهنته . وقال المفضل : أهلكته . ويقال : خزيته وأخزيته ثلاثياً ورباعياً ، والرباعي أكثر وأفصح . وقال الزجاج : المخزى في اللغة هو المذل المحقور بأمر قد لزمه ، يقال : أخزيته ألزمته حجة أذللته معها . وقال أنس وسعيد ، وقتادة ، ومقاتل ، وابن جريج ، وغيرهم : هي إشارة إلى من يخلد في النار ، أما من يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي . وقال جابر بن عبد الله وغيره : كل من دخل النار فهو مخزى وإن خرج منها ، وإنّ في دون ذلك لخزياً ، واختاره ابن جريج وأبو سليمان الدمشقي .
( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( هو من قول الداعين . وقال ابن عباس : الظالمون هنا هم الكافرون ، وهو قول جمهور المفسرين . وقد صرح به في قوله : ) وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( وقوله : ) إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( ويناسب هذا التفسير أن يكون ما قبله فيمن يخلد في النار ، لأن نفي الناصر إما بمنع أو شفاعة مختص بالكفار ، وأما المؤمن فالله ناصره والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) شافعه ، وبعض المؤمنين يشفع لبعض كما ورد في الحديث . وقال الزمخشري : وما للظالمين اللام إشارة إلى من يدخل النار ، وإعلام بأن من يدخل النار ، فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها انتهى . وهو على طريقة الاعتزال أنَّ من يدخل النار لا يخرج منها أبداً ، سواء كان كافراً أم فاسقاً ، ومن مفعوله لفعل الشرط . وحكى بعض المعربين ما نصه ، وأجاز قوم أن يكون من منصوباً بفعل دل عليه جواب الشرط وهو : فقد أخزيته . وأجاز آخرون أن يكون من مبتدأ ، والشرط وجوابه الخير انتهى . أما القول الأول فصادر عن جاهل بعلم النحو ، وأما الثاني فإعراب من مبتدأ في غاية الضعف . وأما إدخاله جواب الشرط في الخبر مع فعل الشرط فجهالة . ومن أعظم وزراً ممن تكلم في كتاب الله بغير علم .
آل عمران : ( 193 ) ربنا إننا سمعنا . . . . .
( رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا ( سمع إن دخل على

" صفحة رقم 148 "
مسموع تعدي لواحد نحو : سمعت كلام زيد ، كغيره من أفعال الحواس . وإن دخل على ذات وجاء بعده فعل أو اسم في معناه نحو : سمعت زيداً يتكلم ، وسمعت زيداً يقول كذا ، ففي هذه المسألة خلاف . منهم من ذهب إلى أن ذلك الفعل أو الاسم إن كان قبله نكرة كان صفة لها ، أو معرفة كان حالاً منها . ومنهم من ذهب إلى أن ذلك الفعل أو الاسم هو في موضع المفعول الثاني لسمع ، وجعل سمع مما يعدي إلى واحد إن دخل على مسموع ، وإلى اثنين إن دخل على ذات ، وهذا مذهب أبي علي الفارسي . والصحيح القول الأول ، وهذا مقرر في علم النحو . فعلى هذا يكون ينادي في موضع الصفة لأن قبله نكره ، وعلى مذهب أبي علي يكون في موضع المفعول الثاني . وذهب الزمخشري إلى القول الأول قال : تقول : سمعت رجلاً يقول كذا ، وسمعت زيداً يتكلم ، لتوقع الفعل على الرّجل ، وتحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع ، أو جعلته حالاً عنه ، فأغناك عن ذكره . ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بدٌّ . وإن يقال : سمعت كلام فلان ، أو قوله انتهى كلامه . وقوله : ولولا الوصف أو الحال إلى آخره ليس كذلك ، بل لا يكون وصف ولا حال ، ويدخل سمع على ذات ، لا على مسموع . وذلك إذا كان في الكلام ما يشعر بالمسموع وإن لم يكن وصفاً ولا حالاً ، ومنه قوله تعالى : ) هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ( أغني ذكر ظرف الدعاء عن ذكر المسموع .
والمنادى هنا هو الرّسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال تعالى : ) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ( ) ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ ( قاله ابن جريج وابن زيد وغيرهما : أو القرآن ، قاله : محمد بن كعب القرظي ، قال : لأن كلّ المؤمنين لم يلقوا الرّسول ، فعلى الأول يكون وصفه بالنداء حقيقة ، وعلى الثاني مجازاً ، وجمع بين قوله : منادياً ينادي ، لأنه ذكر الأول مطلقاً وقيد الثاني تفخيماً لشأن المنادى ، لأنه لا منادى أعظم من منادٍ ينادي للإيمان . وذلك أنَّ المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب ، أو لإطفاء الثائرة ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض النوازل ، أو لبعض المنافع . فإذا قلت : ينادي للإيمان فقد رفعت من شأن المنادي وفخمته . واللام متعلقة بينادي ، ويعدي نادي ، ودعا ، وندب باللام وبالي ، كما يعدي بهما هدي لوقوع معنى الاختصاص ، وانتهاء الغاية جميعاً . ولهذا قال بعضهم : إن اللام بمعنى إلى . لما كان ينادي في معنى يدعو ، حسن وصولها باللام بمعنى : إلى . وقيل : اللام لام العلة ، أي لأجل الإيمان . وقيل : اللام بمعنى الباء ، أي بالإيمان . والسماع محمول على حقيقته ، أي سمعنا صوت مناد . قيل : ومن جعل المنادي هو القرآن ، فالسماع عنده مجاز عن القبول ، وأن مفسرة التقدير : أنْ آمنوا . وجوز أن تكون مصدرية وصلت بفعل الأمر ، أي : بأن آمنوا . فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب ، وعلى الثاني لها موضع وهو الجر ، أو النصب على الخلاف . وعطف فآمنا بالفاء مؤذن بتعجيل القبول ، وتسبيب الإيمان عن السماع من غير تراخ ، والمعنى : فآمنا بك أو بربنا .
( رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا ( قال ابن عباس : الذنوب هي الكبائر ، والسيئات هي الصغائر . ويؤيده : ) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ ( وقيل : الذنوب ترك الطاعات ، والسيئات فعل المعاصي . وقيل : غفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض ، لكنه كرر للتأكيد ، ولأنها مناح من الستر وإزالة حكم الذنوب بعد حصوله ، والغفران والتكفير بمعنى ، والذنوب والسيئات بمعنى ، وجمع بينهما تأكيداً ومبالغة ، وليكون في ذلك إلحاج في الدعاء . فقد روى : ( إن الله يحب الملحين في الدعاء ) . وقيل : في التفكير معنى وهو : التغطية ، ليأمنوا الفضوح . والكفارة هي الطاعة المغطية للسيئة ، كالعتق والصيام والإطعام . ورجل مكفر بالسلاح ، أي مغطى .
( وَتَوَفَّنَا مَعَ الاْبْرَارِ ( جمع بر ، على زن فعل ، كصلف . أو جمع بار على وزن فاعل كضارب ، وأدغمت الراء في الراء . وهم : الطائعون لله ، وتقدم معنى البرّ . وقيل : هم هنا الذين بروا الآباء والأبناء . ومع هنا مجاز عن الصحبة الزمانية إلى الصحبة في الوصف ، أي : توفنا أبراراً معدودين في جملة الأبرار . والمعنى : اجعلنا ممن توفيتهم طائعين لك . وقيل : المعنى احشرنا معهم في الجنة .
آل عمران : ( 194 ) ربنا وآتنا ما . . . . .
( رَبَّنَا وَءاتِنَا وَعَدتَّنَا عَلَى

" صفحة رقم 149 "
رُسُلِكَ ( الظاهر أنهم سألوا ربهم أن يعطيهم ما وعدهم على رسله ، ففسر هذا الموعود به بالجنة قاله : ابن عباس . وقيل : الموعود به النصر على الأعداء . وقيل : استغفار الأنبياء ، كاستغفار نوح وابراهيم ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعليهم أجمعين ، واستغفار الملائكة لهم .
وقوله : على رسلك هو على حذف مضاف ، فقدره الطبري وابن عطية : على ألسنة رسلك . وقدره الزمخشري : على تصديق رسلك . قال : فعلى هذه صلة للوعد في قولك : وعد الله الجنة على الطاعة . والمعنى : ما وعدتنا على تصديق رسلك . ألا تراه كيف اتبع ذكر المنادي للإيمان وهو الرسول ، وقوله : آمنا وهو التصديق . ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف أي : ما وعدتنا منزلاً على رسلك ، أو محمولاً على رسلك ، لأنَّ الرسل يحملون ذلك ، فإنما عليه ما حمل انتهى . وهذا الوجه الذي ذكر آخراً أنه يجوز لبس بجائز ، لأن من قواعد النحويين أن الجارّ والمجرور والظرف متى كان العامل فيهما مقيداً فلا بد من ذكر ذلك العامل ، ولا يجوز حذفه ، ولا يحذف العامل إلا إذا كان كوناً مطلقاً . مثال ذلك : زيد ضاحك في الدار ، لا يجوز حذف ضاحك ألبتة . وإذا قلت : زيد في الدار فالعامل كون مطلق يحذف . وكذلك زيد ناج من بني تميم ، لا يجوز حذف ناج . ولو قلت : زيد من بني تميم جاز على تقدير كائن من بني تميم ، والمحذوف فيما جوزه الزمخشري وهو قوله : منزلاً أو محمولاً ، لا يجوز حذفه على ما تقرر في علم النحو . وإذا كان العامل في الظرف أو المجرور مقيداً صار ذلك الظرف أو المجرور ناقصاً ، فلا يجوز أن يقع صلة ، ولا خبر إلا في الحال . ولا في الأصل ، ولاصفة ، ولا حالاً ، ولا معنى سؤالهم : أن يعطيهم ما وعدهم ، أن يثيبهم على الإيمان والطاعة حتى يكونوا ممن يؤتيهم الله ما وعد المؤمنين ، ومعلوم أنه تعالى منجز ما وعد ، فسألوا إنجاز ما ترتب على الإيمان . والمعنى : التثبيت على الإيمان حتى يكونوا ممن يستحق برحمة الله تعالى إنجاز الوعد . وقيل : هذا السؤال جاء على سبيل الالتجاء إلى الله تعالى والتضرّع له ، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستغفرون ، مع علمهم أنهم معفور لهم ، يقصدون بذلك التذلل والتضرع إليه والالتجاء . وقيل : استبطؤوا النصر الذي وعدوا به فسألوا أن يعجل لهم وعده ، فعلى هذا وهو أن يكون الموعود به النصر يكون الإيتاء في الدّنيا ، وعلى ن يكون الجنة يكون الإيتاء في الآخرة . وقرأ الأعمش : على رسلك بإسكان السين .
( وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( فسر الإخزاء هنا بما فسر في فقد أخزيته . ويوم القيامة معمول لقوله : ولا تخزنا . ويجوز أن يكون من باب الإعمال ، إذ يصلح أن يكون منصوباً بتخزنا وبآتنا ما وعدتنا ، إذا كان الموعود به الجنة .
( إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( ظاهره أنه تعليل لقوله : ) رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا ). وقال ابن عطية : إشارة إلى قوله تعالى : ) يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( فهذا وعده تعالى ، وهو دال على أنّ الخزي إنما هو مع الخلود انتهى .
وانظر إلى حسن محاورة هؤلاء الذاكرين المتفكرين ، فإنهم خاطبوا الله تعالى بلفظة ربنا ، وهي إشارة إلى أنه ربهم أصلحهم وهيأهم للعباد ، فأخبروا أولاً بنتيجة الفكر وهو قولهم : ) رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( ثم سألوه أن يقيهم النار بعد تنزيهه عن النقائص . وأخبروا عن حال من يدخل النار وهم الظالمون الذين لا يذكرون الله ، ولا يتفكرون في مصنوعاته . ثم ذكروا أيضاً ما أنتج لهم الفكر من إجابة الداعي إلى الإيمان ، إذ ذاك مترتب على أنه تعالى ما خلق هذا الخلق العجيب باطلاً . ثم سألوا غفران ذنوبهم ووفاتهم على الإيمان الذي أخبروا به في قولهم : فآمنا . ثم سألوا الله الجنة وإنْ لا يفضحهم يوم القيامة ، وذلك هو غاية ما سألوه .
وتكرر لفظ ربنا خمس مرات ، كلّ ذلك على سبيل الاستعطاف وتطلب رحمة الله تعالى بندائه بهذا الاسم الشريف الدال على التربية والملك

" صفحة رقم 150 "
والإصلاح . وكذلك تكرر هذا الاسم في قصة آدم ونوح وغيرهما . وفي تكرار ربنا ربنا دلالة على جواز الإلحاح في المسألة ، واعتماد كثرة الطلب من الله تعالى . وفي الحديث : ( ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام ) وقال الحسن : ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم . وهذه مسألة أجمع عليها علماء الأمصار خلافاً لبعض الصوفية ، إذا جاز ذلك فيما يتعلق بالآخرة لا بالدنيا ، ولبعض المتصوفة أيضاً إذ قال الله تعالى : ) مِن رَّأْسِهِ قُضِىَ الاْمْرُ ( واجتنب النهي وارتفع عنه كلف طلباته ودعائه . خرج أبو نصر الوايلي السجستاني الحافظ في كتاب الإبانة عن أبي هريرة : ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة ) يعني : أن في خلق السموات والأرض . قال العلماء : ويستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه ، ويستفتح قيامه بقراءة هذا العشر آيات اقتداء بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما ، ثم يصلي ما كتب له ، فيجمع بين التفكر والعمل
آل عمران : ( 195 ) فاستجاب لهم ربهم . . . . .
( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ ( روي أن أم سلمة قالت : يا رسول الله قد ذكر الله الرّجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك ، فنزلت ، ونزل آيات في معناها فيها ذكر النساء . ومعنى استجاب : أجاب ، ويعدى بنفسه وباللام . وتقدم الكلام في ) فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى ( ونقل تاج القرّاء أن أجاب عام ، واستجاب خاص في حصول المطلوب . وقرأ الجمهور : إني على إسقاط الباء ، أي : بأني . وقرأ أبي بأني بالباء . وقرأ عيسى بن عمر : إني بكسر الهمزة ، فيكون على إضمار القول على قول البصريين ، أو على الحكاية بقوله : فاستجاب . لأن فيه معنى القول على طريقة الكوفيين . وقرأ الجمهور : أضيع من أضاع . وقرأ بعضهم : أضيع بالتشديد من ضيَّع ، والهمزة والتشديد فيه للنقل كما قال الشاعر : كمرضعة أولاد أخرى وضيَّعت
بنى بطنها هذا الضلال عن القصد
ومعنى ذلك : لا أترك جزاء عامل منكم . ومنكم في موضع الصفة ، أي : كائن منكم . وقوله : من ذكر أو أنثى ، قيل : من تبيين لجنس العامل ، فيكون التقدير الذي هو ذكر أو أنثى . ومن قيل : زائدة لتقدم النفي في الكلام . وقيل : مِنْ في موضع الحال من الضمير الذي في العامل في منكم أي : عامل كائن منكم كائناً من ذكر أو أنثى . وقال أبو البقاء : من ذكر أو أنثى بدل من منكم ، بدل الشيء من الشيء ، وهما لعينٍ واحدة انتهى . فيكون قد أعاد العامل وهو حرف الجر ، ويكون بدلاً تفصيلياً من مخاطب . ويعكر على أن يكون بدلاً تفصيلياً عطفه بأو ، والبدل التفصيلي لا يكون إلا بالواو كقوله : وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رمى فيها الزمان فشلت
ويعكر على كونه من مخاطب أنَّ مذهب الجمهور : أنه لا يجوز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة ، وأجاز ذلك الأخفش . هكذا أطلق بعض أصحابنا الخلاف وقيده بعضهم بما كان البدل فيه لإحاطة ، فإنه يجوز إذ ذاك . وهذا التقييد صحيح ، ومنه ( تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا ) فقوله لأوّلنا وآخرنا بدل من ضمير المتكلم في قوله : لنا وقول الشاعر :

" صفحة رقم 151 "
فما برحت أقدامنا في مقامنا
ثلاثتنا حتى أرينا المنائيا
فثلاثتنا بدل من ضمير المتكلم . وأجاز ذلك لأنه بدل في معنى التوكيد ، ويشهد لمذهب الأخفش قول الشاعر : بكم قريش كفينا كل معضلة
وأم نهج الهدى من كان ضليلا
وقول الآخر : وشوهاء تغدو بي إلى صارخ الوغى
بمستلئم مثل الفنيق المرجل
فقريش بدل من ضمير المخاطب . وبمستلئم بدل من ضمير المتكلم . وقد تجيء أو في معنى الواو إذا عطفت ما لا بد منه كقوله : قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم
من بين ملجم مهره أو سافع
يريد : وسافع . فكذلك يجوز ذلك هنا في أو ، أن تكون بمعنى الواو ، لأنه لما ذكر عمل عامل دل على العموم ، ثم أبدل منه على سبيل التأكيد ، وعطف على حد الجزئين ما لا بد منه ، لأنه لا يؤكد العموم إلا بعموم مثله ، فلم يكن بدّ من العطف حتى يفيد المجموع من المتعاطفين تأكيد العموم ، فصار نظير من بين ملجم مهره أو سافع . لأنّ بين لا تدخل على شيء واحد ، فلا بد من عطف مصاحب مجرورها .
ومعنى بعضكم من بعض : أي مجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد ، فكل واحد منكم من الآخر أي من أصله . فإذا كنتم مشتركين في الأصل ، فكذلك أنتم مشتركون في الأجر وتقبل العمل . فيكون من هنا تفيد التبعيض الحقيقي ، ويشير بذلك الاشتراك الأصلي إلى الاشتراك في الأجر على حدّ واحد . وقيل : معناه بعضكم من بعض في الدين والنصرة ، والمعنى : أن وصف الإيمان يجمعهم ، كما جاء ( المسلمون تتكافاً دماؤهم ) وقيل : معناه الذكور من الإناث ، والإناث من الذكور ، فكذلك الثواب . فكما اشتركوا في هذه البعضية كذلك اشتركوا في الأجر والثواب . ومحصول معنى هذه الجملة : أنه جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده العاملين ، وقد تقدّم ذكر سبب نزولها وهو : سؤال أم سلمة وخرّجه الحاكم في صحيحه .
( فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى ( لما ذكر تعالى أنه لا يضيع عمل عاملٍ ، ذكرَ مَنْ عمل الأعمال السنية التي يستحق بها أن لا يضيع عمله ، وأن لا يترك جزاؤه . فذكر أولاً الهجرة وهي : الخروج من الوطن الذي لا يمكن إقامة دينه فيه إلى المكان الذي يمكن ذلك فيه ، وهذا من أصعب شيء على الإنسان ، إذ هو مفارقة المكان الذي ربا فيه ونشأ مع أهله وعلى طريقتهم ، ولولا نوازع الغوى المربى على وازع النشأة ما أمكنه ذلك . ألا ترى لقول الشاعر هما لابن الرومي : وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وقال ابن الصفي رفاعة بن عاصم الفقعسي : أحب بلاد الله ما بين منعج
إليّ وسلمى أن يصوب سحابها

" صفحة رقم 152 "
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي
وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها
بها طال تجراري ردائي حقبة
وزينب ريّا الحجل درم كعابها
واسم الهجرة وفضلها الخاص قد انقطع بعد الفتح ، ولكنّ المعنى باق إلى يوم القيامة . وقد تقدّم معنى المفاعلة في هاجر ، ثم ذكر الإخراج من الديار وهو : أنهم ألجئوا واضطروا إلى ذلك ، وفيه إلزام الذنب للكفار . والمعنى : أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء عشرة الكفار وقبيح أفعالهم معهم ، كما قال تعالى : ) وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ( وإذا كان الخروج برأي الإنسان وقوة منه على الأعداء جاء الكلام بنسبة الخروج إليه ، فقيل : خرج فلان ، قال معناه : ابن عطية . قال : فمن ذلك إنكار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده .
وردني إلى الله من طردته كل مطرّد
فقال له الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أنت طرّدتني كل مطرد ) إنكاراً عليه . ومن ذلك قول كعب بن زهير : في عصبة من قريش قال قائلهم
ببطن مكة لما أسلموا زولوا زالوا فما زال انكاس ولا كشف
عند اللقاء ولا ميل معازيل
انتهى . ثم ذكر الإذابة في سبيل الله ، والمعنى : في دين الله . وبدأ أولاً بالخاص وهي الهجرة وكانت تطلق على الهجرة إلى المدينة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وثنى بما ينشأ عنه ما هو أعم من الهجرة وهو الإخراج من الديار . فقد يخرج إلى الهجرة إلى المدينة أو إلى غيرها كخروج من خرج إلى الحبشة ، وكخروج أبي جندل إذ لم يترك يقيم بالمدينة . وأتى ثالثاً بذكر الإذاية وهي أعم من أن تكون بإخراج من الديار أو غير ذلك من أنواع الأذى ، وارتقى بعد هذه الأوصاف السنية إلى رتبة جهاد من أخرجه ومقاومته واستشهاده في دين الله ، فجمع بين رتب هذه الأعمال من تنقيص أحواله في الحياة لأجل دين الله بالمهاجرة ، وإخراجه من داره وإذايته في الله ، ومآله أخيراً إلى إفنائه بالقتل في سبيل الله . والظاهر : الإخبار عن مَن جمع هذه الأوصاف كلها بالخبر الذي بعد ، ويجوز أن يكون ذلك من عطف الصلاة . والمعنى : اختلاف الموصول لا اتحاده ، فكأنه قيل : فالذين هاجروا ، والذين أخرجوا والذين أوذوا ، والذين قاتلوا ، والذين قتلوا ، ويكون الخبر عن كل من هؤلاء . وقرأ جمهور السبعة : وقاتلوا وقتلوا ، وقرأ حمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا يبدآن بالمبني للمفعول ، ثم بالمبني للفاعل ، فتتخرج هذه القراءة على أن الواو لا تدل على الترتيب ، فيكون الثاني وقع أولاً ويجوز أن يكون ذلك على التوزيع فالمعنى : قتل بعضهم وقاتل باقيهم . وقرأ عمر بن عبد العزيز : وقتلوا وقتلوا بغير ألف ، وبدأ ببناء الأول للفاعل ، وبناء الثاني للمفعول ، وهي قراءة حسنة في المعنى ، مستوفية للحالين على الترتيب المتعارف . وقرأ محارب بن دثار : وقتلوا بفتح القاف وقاتلوا . وقرأ طلحة بن مصرف : وقتلوا وقاتلوا بضم قاف الأولى ، وتشديد التاء ، وهي في التخريج كالقراءة الأولى . وقرأ أبو رجاء والحسن :
) وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ ( بتشديد التاء والبناء للمفعول ، أي قطعوا في المعركة .
( لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( لأكفرن : جواب قسم محذوف ، والقسم وما تلقى به خبر عن قوله : ) فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ ( وفي هذه الآية ونظيرها من قوله : ) وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنَّهُمْ ( ) وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( وقول الشاعر

" صفحة رقم 153 "
جشأت فقلت اللذ خشيت ليأتين
وإذا أتاك فلات حين مناص
رد على أحمد بن يحيى ثعلب إذ زعم أن الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ لا تكون قسمية .
( ثَوَاباً مّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ( انتصب ثواباً على المصدر المؤكد ، وإن كان الثواب هو المثاب به ، كما كان العطاء هو المعطى . واستعمل في بعض المواضع بمعنى المصدر الذي هو الإعطاء ، فوضع ثواباً موضع إثابة ، أو موضع تثويباً ، لأنَّ ما قبله في معنى لأثيبنهم . ونظيره صنع الله ووعد الله . وجوّز أن يكون حالاً من جنات أي : مثاباً بها ، أو من ضمير المفعول في : ) وَلاَدْخِلَنَّهُمْ ( أي مثابين . وأن يكون بدلاً من جنات على تضمين ، ولأدخلنهم معنى : ولأعطينهم . وأن يكون مفعولاً بفعل محذوف يدل عليه المعنى أي : يعطيهم ثواباً . وقيل : انتصب على التمييز . وقال الكسائي : هو منصوب على القطع ، ولا يتوجه لي معنى هذين القولين هنا .
ومعنى : من عند الله ، أي من جهة فضل الله ، وهو مختص به ، لا يثيبه غيره ، ولا يقدر عليه . كما تقول عندي ما تريد ، تريد اختصاصك به وتملكه ، وإن لم يكن بحضرتك . وأعربوا عنده حسن الثواب مبتدأ ، وخبراً في موضع خبر المبتدأ الأول . والأحسن أن يرتفع حسن على الفاعلية ، إذ قد اعتمد الظرف بوقوعه خبراً فالتقدير : والله مستقر ، أو استقرّ عنده حسن الثواب . قال الزمخشريّ : وهذا تعليم من الله كيف يدعى ، وكيف يبتهل إليه ويتضرّع ، وتكرير ربنا من باب الابتهال ، وإعلام بما يوجب حسن الإجابة وحسن الإثابة من احتمال المشاق في دين الله والصبر على صعوبة تكاليفة ، وقطع لأطماع الكسالى المتمنين عليه ، وتسجيل على من لا يرى الثواب موصولاً إليه بالعمل بالجهل والغباوة انتهى . وآخر كلامه إشارة إلى مذهبه المعتزلة وطعن على أهل السنة والجماعة .
آل عمران : ( 196 ) لا يغرنك تقلب . . . . .
( لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ ( قيل : نزلت في اليهود كانوا يضربون في الأرض فيصيبون الأموال قاله : ابن عباس . وقال أيضاً : هم أهل مكة . وروي أنَّ ناساً من المؤمنين كانوا يرون ما كانوا فيه من الخصب والرخاء ولين العيش ، فيقولون : إنّ أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد . وقال مقاتل : في مشركي العرب والذين كفروا لفظ عام ، والكاف للخطاب . فقيل : لكل سامع . وقيل : هو خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمراد أمته . قاله : ابن عطية . وقال : نزلت لا يغرنك في هذه الآية منزلة لا تظن أن حال الكفار حسنة فتهتم لذلك ، وذلك أن المغتر فارح بالشيء الذي يغتر به . فالكفار مغترون بتقلبهم ، والمؤمنون مهتمون به . لكنه ربما يقع في نفس مؤمن أنَّ هذا الإملاء للكفار إنما هو خير لهم ، فيجيء هذا جنوحاً إلى حالهم ، ونوعاً من الاغترار ، ولذلك حسنت لا يغرنك . ونظيره قول عمر لحفصة : ( لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) المعنى : لا تغتري بما يتم لتلك من الإدلال فتقعي فيه فيطلقك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) انتهى . وقال الزمخشري : لا يغرنك الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو لكل أحد . أي : لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق ، والمضطرب ودرك العاجل وإصابة حظوظ الدنيا ، ولا نغترر بظاهر ما ترى من تبسطهم في الأرض وتصرفهم في البلاد . ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يغتر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بذلك حتى ينهى عنه وعن الاغترار به ؟ ( قلت ) : فيه وجهان : أحدهما أن مدرة القوم ومقدمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً ، فكأنه قيل : لا يغرنكم . والثاني أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان غير مغرور بحالهم ، فأكد عليه ما كان وثبت على التزامه كقوله : ) وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْكَافِرِينَ ( ) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( ) فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ ( وهذا في النهي

" صفحة رقم 154 "
نظير قوله في الأمر : ) اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( ) خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ ( وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب ، وهو في المعنى للمخاطب . وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب ، لأن التقلب لو غره لاغتر به ، فمنع السبب ليمتنع المسبب انتهى كلامه . وملخص الوجهين اللذين ذكرهما : أن يكون الخطاب له والمراد أمّته ، أوله على جهة التأكيد والتنبيه ، وإن كان معصوماً من الوقوع فيه كما قيل : قد يهزّ الحسام وهو حسام
ويجب الجواد وهو جواد
وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب : لا يغرنك ولا يصدنك ولا يغرنكم وشبهه بالنون الخفيفة . وتقلبهم : هو تصرفهم في التجارات قاله : ابن عباس ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج . أو ما يجري عليهم من النعم قاله : عكرمة ، ومقاتل . أو تصرّفهم غير مأخوذين بذنوبهم قاله : بعض المفسرين .
آل عمران : ( 197 ) متاع قليل ثم . . . . .
( مَتَاعٌ قَلِيلٌ ( أي ذلك التقلب والتبسط شيء قليل متعوا به ، ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . وقلته باعتبار انقضائه وزواله ، وروي : ) مَا الدُّنْيَا فِى الاْخِرَةِ إِلاَّ مّثْلُ مَا يَجْعَلْ أَحَدَكُمُ مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ( أخرجه الترمذي .
وروي : ) مَا ( أو باعتبار ما فاتهم من نعيم الآخرة ، أو باعتبار ما أعدّ الله للمؤمنين من الثواب .
( اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ( ثم المكان الذي يأوون إليه إنما هو جهنم ، وعبر بالمأوى إشعاراً بانتقالهم عن الأماكن التي تقلبوا فيها وكان البلاد التي تقلبوا فيها إنما كانت لهم أماكن انتقال من مكان إلى مكان ، لا قرار لهم ولا خلود . ثم المأوى الذي يأوون إليه ويستقرّون فيه هو جهنم .
( وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( أي وبئس المهاد جهنم . وقال الحطيئة : أطوّف ما أطوى ثم آوى
إلى بيت قعيدته لكاع
آل عمران : ( 198 ) لكن الذين اتقوا . . . . .
( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ( لما تضمن ما تقدم إن ذلك التقلب والتصرف في البلاد هو متاع قليل ، وإنهم يأوون بعد إلى جهنم ، فدل على قلّة ما متعوا به ، لأنّ ذلك منقض بانقضاء حياتهم ، ودلّ على استقرارهم في النار . استدرك بلكن الأخبار عن المتقين بمقابل ما أخبر به عن الكافرين ، وذلك شيئان : أحدهما مكان استقرار وهي الجنات ، والثاني ذكر الخلود فيها وهو الإقامة دائماً والتمتع بنعيمها سرمداً . فقابل جهنم بالجنات ، وقابل قلة متاعهم بالخلود الذي هو الديمومة في النعيم ، فوقعت لكن هنا أحسن موقع ، لأنه آل معنى الجملتين إلى تكذيب الكفار وإلى تنعيم المتقين ، فهي واقعة بين الضدين . وقرأ الجمهور : لكنْ خفيفة النون . وقرأ أبو جعفر : بالتشديد ، ولم يظهر لها عمل ، لأن اسمها مبني .
( نُزُلاٍ مّنْ عِندِ اللَّهِ ( النزل ما يعد للنازل من الضيافة والقرى . ويجوز تسكين راية ، وبه قرأ : الحسن ، والنخعي ، ومسلمة بن محارب ، والأعمش . وقال الشاعر : وكنا إذا الجبار بالجيش خافنا
جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

" صفحة رقم 155 "
قال ابن عباس : النزل الثواب ، وهي كقوله : ) ثَوَاباً مّن عِندِ اللَّهِ ( وقال ابن فارس : النزل ما يهيأ للنزيل ، والنزيل الضيف . وقيل : النزل الرزق وما يتغذى به . ومنه : ) فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ ( أي فغذاؤه . ويقال : أقمت للقوم نزلهم أي ما يصلح أن ينزل عليه من الغذاء ، وجمعه أنزال . وقال الهروي : الأنزال التي سويت ، ونزل عليها . ومعنى من عند الله : أي لا من عند غيره ، وسماه نزلاً لأنه ارتفع عنهم تكاليف السعي والكسب ، فهو شيء مهيأ يهيأ لهم لا تعب عليهم في تحصيله هناك ، ولا مشقة . كالطعام المهيأ للضيف لم يتعب في تحصيله ، ولا في تسويته ومعالجته . وانتصاب نزلاً قالوا : إما على الحال من جنات لتخصصها بالوصف ، والعامل فيها العامل في لهم . وإما بإضمار فعل أي : جعلها نزلاً . وإمّا على المصدر المؤكد فقدره ابن عطية : تكرمة ، وقدره الزمخشري : رزقاً أو عطاء . وقال الفرّاء : انتصب على التفسير كما تقول : هو لك هبة وصدقة انتهى . وهذا القول راجع إلى الحال .
( وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لّلابْرَارِ ( ظاهره حوالة الصلة على ما تقدم من قوله : نزلاً من عند الله . والمعنى : أن الذي أعده الله للأبرار في الآخرة خير لهم ، فيحتمل أن يكون المفضل عليه بالنسبة للأبرار أي خير لهم مما هم فيه في الدنيا ، وإليه ذهب : ابن مسعود . وجاء ) وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرحِمِينَ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ( ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى الكفار ، أي : خير لهم مما يتقلب فيه الكفار من المتاع الزائل . وقيل : خير هنا ليست للتفضيل ، كما أنها في قوله تعالى : ) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( والأظهر ما قدمناه .
وللأبرار متعلق بخير ، والأبرار هم المتقون الذين أخبر عنهم بأن لهم جنات . وقيل : فيه تقديم وتأخير . أي الذي عند الله للأبرار خير لهم ، وهذا ذهول عن قاعدة العربية من أن المجرور إذ ذاك يتعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة للموصول ، فيكون المجرور داخلاً في حيز الصلة ، ولا يخبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها .
آل عمران : ( 199 ) وإن من أهل . . . . .
( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ ( لما مات أصمحة النجاشي ملك الحبشة . ومعنى أصمحة بالعربية عطية ، قال سفيان بن عيينة وغيره : ( صلى عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) فقال قائل : يصلي عليه العلج النصراني وهو في أرضه فنزلت ، قاله : جابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وأنس . وقال الحسن وقتادة : في النجاشي وأصحابه . وقال ابن عباس فيما روى عنه أبو صالح : في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وبه قال : مجاهد . وقال ابن جريج وابن زيد ومقاتل : في عبد الله بن سلام وأصحابه . وقال عطاء : في أربعين من نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم ، كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ومِن في لمن الظاهر أنها موصولة ، وأجيز أن تكون نكرة موصوفة أي : لقوماً . والذي أنزل إلينا هو القرآن ، والذي أنزل إليهم هو كتابهم .
( خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِئَايَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ( كما اشترت بها أحبارهم الذين لم يؤمنوا . وانتصاب خاشعين على الحال من الضمير في يؤمن ، وكذلك لا يشترون هو في موضع نصب على الحال . وقيل : حال من الضمير في

" صفحة رقم 156 "
إليهم ، والعامل فيها أنزل . وقيل : حال من الضمير في لا يشترون ، وهما قولان ضعيفان . ومن جعل من نكرة موصوفة ، يجوز أن يكون خاشعين ولا يشترون صفتين للنكرة . وجمع خاشعين على معنى من كما جمع في وما أنزل إليهم . وحمل أولاً على اللفظ في قوله : يؤمن ، فأفرد وإذا اجتمع الحملان ، فالأولى أن يبدأ بالحمل على اللفظ . وأتى في الآية بلفظ يؤمن دون آمن ، وإن كان إيمان من نزل فيهم قد وقع إشارة إلى الديمومة والاستمرار . ووصفهم بالخشوع وهو التذلل والخضوع المنافي للتعاظم والاستكبار ، كما قال تعالى : ) وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ).
) أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ ( أي ثواب إيمانهم ، وهذا الأجر مضاعف مرتين بنص الحديث الصحيح : ) وَإِنَّ مِنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ يُؤْتَى أَجْرُهُ مَّرَّتَيْنِ ( يضاعف لهم الثواب بما تضاعف منهم من الأسباب . وعند ظرف في موضع الحال ، والعامل فيه العامل في لهم ، ومعنى عند ربهم : أي في الجنة .
( إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( أي سريع الإتيان بيوم القيامة وهو يوم الحساب . والمعنى : أنَّ أجرهم قريب إتيانه أو سريع حسابه لنفوذ علمه ، فهو عالم بما لكل عامل من الأجر . وتقدم تفسير هذه الجملة مستوفى .
آل عمران : ( 200 ) يا أيها الذين . . . . .
( ِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الوصاية التي جمعت الظهور في الدنيا على العدو ، والفوز بنعيم الآخرة ، فأمره تعالى بالصبر والمصابرة والرباط . فقيل : اصبروا وصابروا بمعنى واحد للتأكيد . وقال الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وابن جريج : اصبروا على طاعة الله في تكاليفه ، وصابروا أعداء الله في الجهاد ، ورابطوا في الثغور في سبيل الله . أي : ارتبطوا الخيل كما يرتبطها أعداؤكم . وقال أبي ومحمد بن كعب القرظي : هي مصابرة وعد الله بالنصر ، أي : لا تسأموا وانتظروا الفرج . وقيل : رابطوا ، استعدوا للجهاد كما قال : ) وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ). وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : الرباط انتظاراً الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) غزو مرابط فيه . واحتج بقوله عليه السلام : ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ثلاثاً ( فعلى هذا لا يكون رابطوا من باب المفاعلة . قال ابن عطية : والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله ، أصلها من ربط الخيل ، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطاً ، فارساً كان أو راجلاً ، واللقطة مأخوذة من الربط . وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ فذلكم الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله ، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية ، والرباط اللغوي هو الأول . والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما قاله : ابن المواز ، ورواه . فأما سكان الثغور دائماً بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هناك فهم وإن كانوا حماة ، ليسوا بمرابطين انتهى كلامه . وقال الزمخشري : وصابروا أعداء الله في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب ، لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً . والمصابرة باب من الصبر ، ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تحقيقاً لشدته وصعوبته . ورابطوا : وأقيموا في الثغور رباطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو . قال الله تعالى : ) ( فعلى هذا لا يكون رابطوا من باب المفاعلة . قال ابن عطية : والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله ، أصلها من ربط الخيل ، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطاً ، فارساً كان أو راجلاً ، واللقطة مأخوذة من الربط . وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؛ فذلكم الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله ، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية ، والرباط اللغوي هو الأول . والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما قاله : ابن المواز ، ورواه . فأما سكان الثغور دائماً بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هناك فهم وإن كانوا حماة ، ليسوا بمرابطين انتهى كلامه . وقال الزمخشري : وصابروا أعداء الله في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب ، لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً . والمصابرة باب من الصبر ، ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تحقيقاً لشدته وصعوبته . ورابطوا : وأقيموا في الثغور رباطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو . قال الله تعالى : ) وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ( وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام

" صفحة رقم 157 "
شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة ) انتهى كلام الزمخشري . وفي البخاري قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ) وفي مسلم : ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه رزقه وأمن الفتان ) وفي سنن أبي داود قال : ( كل الميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتاني القبر ) .
وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع الاستعارة . عبر بأخذ الميثاق عن التزامهم أحكام ما أنزل عليهم من التوراة والإنجيل ، وبالنبذ وراء ظهورهم عن ترك عملهم بمقتضى تلك الأحكام ، وباشتراء ثمن قليل عن ما تعوضوه من الحطام على كتم آيات الله ، وبسماع المنادي إن كان القرآن عن ما تلقوه من الأمر والنهي والوعد والوعيد بالاستجابة عن قبول مسألتهم ، وبانتفاء التضييع عن عدم مجازته على يسير أعمالهم ، وبالتقلب عن ضربهم في الأرض لطلب المكاسب ، وبالمهاد عن المكان المستقر فيه ، وبالنزل عما يعجل الله لهم في الجنة من الكرامة ، وبالخشوع الذي هو تهدم المكان وتغير معالمه عن خضوعهم وتذللهم بين يديه ، وبالسرعة التي هي حقيقة في المشي عن تعجيل كرامته . قيل : ويحتمل أن يكون الحساب استعير للجزاء ، كما استعير ( ولم أدر ما حسابيه ) لأن الكفار لا يقام لهم حساب كما قال تعالى : ) فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ( والطباق في : لتبيينه للناس ولا تكتمونه ، وفي السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، فالسماء جهة العلو والأرض جهة السفل ، والليل عبارة عن الظلمة والنهار عبارة عن النور ، وفي : قياماً وقعوداً ومن : ذكر أو أنثى . والتكرار : في لا تحسبن فلا تحسبنهم ، وفي : ربنا في خمسة مواضع ، وفي : فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا إن كان المعنى واحد وفي : ما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ، وفي : ثواباً وحسن لثواب . والاختصاص في : لأولي الألباب ، وفي : وما للظالمين من أنصار ، وفي : توفنا مع الأبرار ، وفي : ولا تحزنا يوم القيامة ، وفي : وما عند الله خير للأبرار . والتجنيس المماثل في : أن آمنوا فآمنا ، وفي : عمل عامل منكم . والمغاير في : منادياً ينادي . والإشارة في : ما خلقت هذا باطلاً ، والحذف في مواضع .

" صفحة رقم 158 "
4
( سورة النساء )
مائة وخمس وسبعون آية وهي مدنية
2 ( ) يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالاٌّ رْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً وَءَاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ وَءَاتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاٌّ قْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاٌّ قْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ( ) ) 2
النساء : ( 1 ) يا أيها الناس . . . . .
الرقيب : فعيل للمبالغة من رقب يرقب رقباً ورقوباً ورقباناً ، أحد النظر إلى أمر ليتحققه على ما هو عليه . ويقترن به

" صفحة رقم 159 "
الحفظ ومنه قيل للذي يرقب خروج السهم : رقيب .
وقال أبو داود :
كمقاعد الرقباء للضضرباء أيديهم نواهد
والرقيب : السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء . والرقيب : ضرب من الحيات ، والمرقب : المكان العالي المشرف الذي يقف عليه الرقيب . والارتقاب : الانتظار .
الحوب : ازثم . يقال : حاب يحوب حوباً وحوباً وحاباً وحؤوباً وحيابه . قال : المخبل السعدي . فلا يدخلني الدهر قبرك حوب
فإنك تلقاه عليك حسيب
وقال آخر : وإن تهاجرين تكففاه
غرايته لقد خطيا وحابا
وقيل : الحوب بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم ، وتحوَّب الرجل ألقى الحوب عن نفسه كتحنث وتأثم وتحرج . وفلان يتحوب من كذا يتوقع . وأصل الحوب : الزجر للإبل ، فسمى الإثم حوباً لأنه يزجر عنه ، وبه الحوبة الحاجة ، ومنه في الدعاء إليك أرفع حوبتي . ويقال : الحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة .
مثنى وثلاث ورباع : معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة . ولا يراد بالمعدول عنه التوكيد ، إنما يراد بذلك تكرار العدد إلى غاية المعدود . كقوله : ونفروا بعيراً بعيراً ، وفصلت الحساب لك باباً باباً ، ويتحتم منع صرفها لهذا العدل . والوصف على مذهب سيبويه والخليل وأبي عمرو ، وأجاز الفرّاء أن تصرف ، ومنع الصرف عنده أولى . وعلة المنع عنده العدل والتعريف بنية الألف واللام ، وامتنع عنده إضافتها لأنها في نية الألف واللام . وامتنع ظهور الألف واللام لأنها في نية الإضافة ، وقد ذكرنا الردّ عليه في كتاب التكميل من تأليفنا .
وقال الزمخشري : إنما منعت الصرف لما فيها من العدلين : عدلها عن صيغتها ، وعدلها عن تكريرها . وهي نكرات تعرفن بلام التعريف يقال : فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع انتهى كلامه . وما ذهب إليه من امتناع الصرف لما فيها من العدلين : عدلها عن صيغتها ، وعدلها عن تكرّرها ، لا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك ، بل المذاهب في علة منع الصرف المنقولة أربعة : أحدها : ما نقلناه عن سيبويه . والثاني : ما نقلناه عن الفراء . والثالث : ما نقل عن الزجاج وهو لأنها معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وأنه عدل عن التأنيث . والرابع : ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف هي تكرار العدل فيه ، لأنه

" صفحة رقم 160 "
عدل عن لفظ اثنين وعدل عن معناه . وذلك أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة تقول : جاءني اثنان وثلاثة ، ولا يجوز : جاءني مثنى وثلاث حتى يتقدّم قبله جمع ، لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل . فإذا قال : جاءني القوم مثنى ، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين . فأما الاعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الأخبار عن مقدار المعدودون غيره . فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى ، فلذلك جاز أن تقوم العلة مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين انتهى ما قرر به هذا المذهب .
وقد ردّ الناس على الزجاج قوله : أنه عدل عن التأنيث بما يوقف عليه في كتب النحو ، والزمخشري لم يسلك شيئاً من هذه العلل المنقولة ، فإن كان تقدّمه سلف ممن قال ذلك فيكون قد تبعه ، وإلا فيكون مما انفرد بمقالته . وأما قوله : يعرفن بلام التعريف ، يقال : فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع ، فهو معترض من وجهين : أحدهما : زعمه أنها تعرف بلام التعريف ، وهذا لم يذهب إليه أحد ، بل لم يستعمل في لسان العرب إلا نكرات . والثاني : أنه مثل بها ، وقد وليت العوامل في قوله : فلان ينكح المثنى ، ولا يلي العوامل ، إنما يتقدّمها ما يلي العوامل ، ولا تقع إلا خبراً كما جاء : ) صَلَواةِ الَّيْلَ مَثْنَى ). أو حالاً نحو : ) مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى ( أو صفه نحو : ) أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( وقوله :
ذئاب يبغى الناس مثنى وموحدا
وقد تجيء مضافة قليلاً نحو ، قول الآخر :
بمثنى الزقاق المترعات وبالجزر
وقد ذكر بعضهم أنها تلي العوامل عل قلة ، وقد يستدل له بقول الشاعر : ضربت خماس ضربة عبشمي
أدار سداس أن لا يستقيما
ومن أحكام هذا المعدول أنه لا يؤنث ، فلا تقول : مثناة ، ولا ثلاثة ، ولا رباعة ، بل يجري بغير تاء على المذكر والمؤنث . عال : يعول عولاً وعيالة ، مال . وميزان فلان عائل . وعال الحاكم في حكمه جار ، وقال أبو طالب في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) :
له شاهد من نفسه غير عائل
وحكى ابن الأعرابي : أن العرب تقول : عال الرجل يعول كثر عياله . ويقال : عال يعيل افتقر وصار عالة . وعال الرجل عياله يعولهم ما نهم ومنه : ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) والعول في الفريضة مجاوزته لحد السهام المسماة . وجماع القول في عال : أنها تكون لازمة ومتعدية . فاللازمة بمعنى : مال ، وجار ، وكثر

" صفحة رقم 161 "
عياله ، وتفاقم ، وهذا مضارعه يعول . وعال الرجل افتقر ، وعال في الأرض ذهب فيها ، وهذا مضارعه يعيل . والمتعدية بمعنى أثقل ، ومان من المؤنة . وغلب منه أعيل صبري وأعجز . وإذا كان بمعنى أعجز فهو من ذوات الياء ، تقول : عالني الشيء يعيلني عيلاً ومعيلاً أعجزني ، وباقي المتعدّي من ذوات الواو .
الصدقة على وزن سمرة المهر ، وقد تسكن الدال ، وضمها وفتح الصاد لغة أهل الحجاز . ويقال : صدقة بوزن غرفة . وتضم داله فيقال : صدقة وأصدقها أمهرها .
النحلة : العطية عن طيب نفس . والنحلة الشرعة ، ونحلة الإسلام خير النحل . وفلان ينحل بكذا أي يدين به .
هنيئاً مريئاً : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه . ويقال : هنا يهنا بغير همز ، وهنأني الطعام ومرّأني ، فإذا لم تذكر هنأني قلت : أمرأني رباعياً ، واستعمل مع هنأني ثلاثياً للاتباع . قال سيبويه : هنيئاً مريئاً صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل ، للدلالة التي في الكلام عليه كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئاً مريئاً انتهى . وقال كثير : هنيئاً مريئاً غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت
قيل : واشتقاق الهنيء من هناء البعير ، وهو الدواء الذي يطلى به من الجرب ، ويوضع في عقره . ومنه قوله : متبذل تبدو محاسنه
يضع الهناء مواضع النقب
والمريء ما يساغ في الحلق ، ومنه قيل لمجرى الطعام في الحلقوم إلى فم المعدة : المريء . آنس كذا أحس به وشعر . قال :
آنست شاة وأفزعها القناص عصراً وقددنا الامساء
وقال الفراء : وجد . وقال الزجاج : علم . وقال عطاء : أبصر . وقال ابن عباس : عرف . وهي أقوال متقاربة . السديد من القول هو الموافق للحق منه . أعلمه الرماية كل يوم
فلما اشتدّ ساعده رماني
المعنى : لما وافق الأغراض التي يرمي إليها . صلى بالنار تسخن بها ، وصليته أدنيته منها . التسعير : الجمر المشتعل من سعرت النار أوقدتها ، ومنه مسعر حرب .
( تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء ( الجمهور على أن هذه السورة مدنية إلا قوله تعالى : ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ). وقال النحاس : مكية . وقال النقاش : نزلت عند الهجرة من مكة إلى المدينة انتهى . ولا خلاف أنّ فيها ما نزل بالمدينة . وفي البخاري : آخر آية نزلت ) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ ).
ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولي الألباب ، ونبه تعالى بقوله : ) أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ ( على المجازاة . و أخبر أنَّ بعضهم من بعض في أصل التوالد ، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل ، وتفرَّع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدم الاختلاف ، ولينبه

" صفحة رقم 162 "
بذلك على أنّ أصل الجنس الإنساني كان عابداً لله مفرده بالتوحيد والتقوى ، طائعاً له ، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه . فنادى تعالى : دعاء عامًّا للناس ، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر ، وجعل سبباً للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة . ومن كان قادراً على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفع والضر فهو جدير بأنْ يتقي . ونبه بقوله : من نفس واحدة ، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناس إلى بعض ، وألف له دون غيره ، ليتألف بذلك عباده على تقواه . والظاهر في الناس : العموم ، لأن الألف واللام فيه تفيده ، وللأمر بالتقوى وللعلة ، إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان . وقيل : المراد بالناس أهل مكة ، كان صاحب هذا القول ينظر إلى قوله : ) تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( لأن العرب هم الذين يتساءلون بذلك . يقول : أنشدك بالله وبالرحم . وقيل : المراد المؤمنون نظراً إلى قوله : ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ( وقوله : ( المسلم أخو المسلم ) والأغلب أنه إذا كان الخطاب والنداء بيا أيها الناس وكان للكفرة فقط ، أو لهم مع غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية ، لأنهم غير عارفين بالله ، فنبهوا على الفكر في ذلك لأن يعرفوا نحو : ) الاْمُورُ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ( ) قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ( وإذا كان الخطاب للمؤمنين أعقب بذكر النعم لمعرفتهم بالربوبية .
قيل : وجعل هذا المطلع مطلعاً السورتين : إحداهما : هذه وهي الرابعة من النصف الأول . والثانية : سورة الحج ، وهي الرابعة من النصف الثاني . وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد . وبدأ بالمبدأ بأنه الأول ، وهو ظاهر الأمر بالتقوى أنها تقوى عامّة فيما يتقي من موجب العقاب ، ولذلك فسر باجتناب ما جاء فيه الوعيد . وقيل : يجوز أن يكون أراد بالتقوى خاصة ، وهو أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله . فقيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم بأن جعلكم صنواناً مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب لبعضكم على بعض ولبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه . وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة .
وقال ابن عباس : المراد بالتقوى الطاعة . وقال مقاتل : الخشية . وقيل : اجتناب الكبائر والصغائر . والمراد بقوله : من نفس واحدة آدم . وقرأ الجمهور : واحدة بالتاء على تأنيث لفظ النفس . وقرأ ابن أبي عبلة : واحد على مراعاة المعنى ، إذ المراد به آدم ، أو على أن النفس تذكر وتؤنث ، فجاءت قراءته على تذكير النفس . ومعنى الخلق هنا : الاختراع بطريق التفريع ، والرجوع إلى أصل واحد كما قال الشاعر : إلى عرق الثرى وشجت عروقي
وهذا الموت يسلبني شبابي
قال : في ري الظمآن ، ودلت الإضافة على جواز إضافة الشيء إلى الأصل الذي يرجع إليه ، وأن يعد ذلك الراجع إلى التوالد والتعاقب والتتابع . وعلى أنّا لسنا فيه كما زعم بعض الدهرية ، وإلا لقال : أخرجكم من نفس واحدة ، فأضاف خلقنا إلى آدم ، وإن لم نكن من نفسه بل كنا من نطفة واحدة حصلت بمن اتصل به من أولاده ، ولكنه الأصل انتهى . وقال الأصم : لا يدل العقل على أنَّ الخلق مخلوقين من نفس واحدة ، بل السمع . ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) ) أميّاً ما قرأ كتاباً ، كان معنى

" صفحة رقم 163 "
خلقكم دليلاً على التوحيد ، ومن نفس واحدة دليلاً على النبوّة انتهى .
وفي قوله : من نفس واحدة إشارة إلى ترك المفاخرة والكبر ، لتعريفه إياهم بأنهم من أصل واحد ودلالة على المعاد ، لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفين من شخص واحد فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى . وزوجها : هي حواء . وظاهر منها ابتداء خلق حوّاء من نفسه ، وأنه هو أصلها الذي اخترعت وأنشئت منه ، وبه قال : ابن عباس ، ومجاهد ، والسدّي . وقتادة قالوا إن الله تعالى خلق آدم وحشاً في الجنة وحده ، ثم نام فانتزع الله تعالى أحد أضلاعه القصرى من شماله . وقيل : من يمينه ، فحلق منها حواء . قال ابن عطية : ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام : ( إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها ) . انتهى . ويحتمل أن يكون ذلك على جهة التمثيل لاضطراب أخلاقهن ، وكونهن لا يثبتن على حالة واحدة ، أي : صعبات المراس ، فهي كالضلع العوجاء كما جاء خلق الإنسان من عجل . ويؤيد هذا التأويل قوله : إن المرأة ، فأتى بالجنس ولم يقل : إن حوّاء . وقيل : هو على حذف مضاف ، التقدير : وخلق من جنسها زوجها قاله : ابن بحر وأبو مسلم لقوله : ) مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً ( ) وَرَسُولاً مِنْهُمْ ). قال القاضي : الأول أقوى ، إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة . ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة من لابتداء الغاية ، فلما كان ابتداء الخلق وقع بآدم ، صح أن يقال خلقكم من نفس واحدة . ولما كان قادراً على خلق آدم من التراب كان قادراً على خلق حواء أيضاً كذلك . وقيل : لا حذف ، والضمير في منها ، ليس عائداً على نفس ، بل هو عائد على الطينة التي فصلت عن طينة آدم . وخلقت منها حواء أي : أنها خلقت مما خلق منه آدم . وظاهر قول ابن عباس ومن تقدم : أنها خلقت وآدم في الجنة ، وبه قال : ابن مسعود . وقيل : قبل دخوله الجنة وبه قال : كعب الأحبار ووهب ، وابن إسحاق . وجاءت الواو في عطف هذه الصلة على أحد محاملها ، من أنَّ خلق حواء كان قبل خلق الناس . إذ الواو لا تدل على ترتيب زماني كما تقرر في علم العربية ، وإنما تقدم ذكر الصلة المتعلقة بخلق الناس ، وإن كان مدلولها واقعاً بعد خلق حواء ، لأجل أنهم المنادون المأمورون بتقوى ربهم . فكان ذكر ما تعلق بهم أولاً آكد ، ونظيره : ) قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( ومعلوم أنّ خلقهم تأخر عن خلق من قبلهم . ولكنهم لما كانوا هم المأمورين بالعبادة والمنادين لأجلها ، اعتنى بذكر التنبيه على إنشائهم أولاً ، ثم ذكر إنشاء من كان قبلهم . وقد تكلف الزمخشري في إقرار ما عطف بالواو متأخراً عن ما عطف عليه ، فقدر معطوفاً عليه محذوفاً متقدماً على المعطوف في الزمان ، فقال : يعطف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها وخلق منها زوجها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه . والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها ، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حوّاء من ضلع من أضلاعها . ولا حاجة إلى تكلف هذا الوجه مع مساغ الوجه الذي ذكرناه على ما اقتضته العربية . وقد ذكر ذلك الوجه الزمخشري فقال : يعطف على خلقكم . ويكون الخطاب في : يا أيها الناس الذين بعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والمعنى : خلقكم من نفس آدم ، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حوّاء انتهى . ويجوز أن يكون قوله : وخلق منها زوجها معطوفاً على اسم الفاعل الذي هو واحدة التقدير من نفس وحدت ، أي انفردت . وخلق منها زوجها ، فيكون نظير ) صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ( وتقول العرب : وحد يحد وحدا ووحدة ، بمعنى انفرد .
ومن غريب التفسير أنه عنى بالنفس الروح المذكورة فيما قيل أنه قال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله خلق الأرواح قبل الأجسام بكذا وكذا سنة ) وعنى بزوجها البدن ، وعنى بالخلق التركيب . وإلى نحوه أشار بقوله تعالى : ) وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( وقوله : ) سُبْحَانَ الَّذِى خَلَق الاْزْواجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الاْرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ ( ولا يصح ذلك في النبات إلا على معنى التركيب . وبدأ بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على أنها لا تنفك من تركيب

" صفحة رقم 164 "
والواحد في الحقيقة ليس إلا الله تعالى انتهى . وهذا مخالف لكلام المتقدمين ، قال بعضهم : ونبه بقوله : وخلق منها زوجها على نقصها وكمالها ، لكونها بعضه . وبث منهما أي من تلك النفس ، وزوجها أي : نشر وفرق في الوجود . ويقال : أبث الله الخلق رباعياً ، وبث ثلاثياً ، وهو الوارد في القرآن رجالاً كثيراً ونساء . قيل : نكر لما في التنكير من الشيوع ولم يكتف بالشيوع حتى صرح بالكثرة وقدم الرجال لفضلهم على النساء ، وخص رجالاً بذكر الوصف بالكثرة ، فقيل : حذف وصف الثاني لدلالة وصف الأول عليه ، والتقدير : ونساء كثيرة . وقيل : لا يقدر الوصف وإن كان المعنى فيه صحيحاً ، لأنّه نبه بخصوصية الرجال بوصف الكثرة ، على أن اللائف بحالهم الاشتهار والخروج والبروز ، واللائق بحال النساء الخمول والاختفاء . وفي تنويع ما خلق من آدم وحوّاء إلى رجال ونساء دليل على انتفاء الخنثى ، إذ حصر ما خلق في هذين النوعين ، فإنْ وجد ما ظاهره الإشكال فلا بد من صيرورته إلى هذين النوعين . وقرىء : وخالق منها زوجها ، وبات على اسم الفاعل وهو : خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو خالق .
( وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( كرر الأمر بالتقوى تأكيداً للأول . وقيل : لاختلاف التعليل وذكر أولاً : الرب الذي يدل على الإحسان والتربية ، وثانياً : الله الذي يدل على القهر والهيبة . بنى أولاً على الترغيب ، وثانياً على الترهيب . كقوله : ) يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ( و ) وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ( كأنه قال : إنه ربك أحسن إليك فاتق مخالفته ، فإن لم تتقه لذلك فاتقه لأنه شديد العقاب . وقرأ الجمهور من السبعة : تساءلون . وقرأ الكوفيون : بتخفيف السين ، وأصله تتساءلون .
قال ابن عطية : وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً ، وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة . قال أبو علي : وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال ، كما قالوا : طست فابدلوا من السين الواحدة تاء ، إذ الأصل طس . قال العجاج :
لو عرضت لأسقفي قس
أشعث في هيكله مندس
حن إليها كحنين الطس
انتهى . أما قول ابن عطية : حذفوا التاء الثانية فهذا مذهب أهل البصرة . وذهب هشام بن معاوية الضرير الكوفي : إلى أنّ المحذوفة هي الأولى ، وهي تاء المضارعة ، وهي مسألة خلاف ذكرت دلائلها في علم النحو . وأما قوله : وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى ، كان ينبغي أن ينبه على الإثبات ، إذ يجوز الإثبات وهو الأصل ، والإدغام وهو قريب من الأصل ، إذ لم يذهب الحرف إلا بأن أبدل منه مماثل ما بعده وأدغم . والحذف . أما الإدغام فلا يختص به ، بل ذلك في الأمر والمضارع والماضي واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر . وأما الحذف فيختص بما دخلت عليه التاء من المضارع ، فقوله : لاجتماع حروف متقاربة ظاهرة تعليل الحذف فقط لقربه ، أو تعليل الحذف والإدغام ، وليس كذلك . أما إن كان تعليلاً فليس كذلك ، بل الحذف علة اجتماع متماثلة لا متقاربة . وأما إن كان تعليلاً لهما

" صفحة رقم 165 "
فيصح الإدغام لا الحذف كما ذكرنا .
وأما قول أبي علي : إذا اجتمعت المتقاربة فكذا ، فلا يعني أن ذلك حكم لازم ، إنما معناه : أنه قد يكون التخفيف بكذا ، فكم وجد من اجتماع متقاربة لم يخفف لا بحذف ولا إدغام ولا بدل . وأما تمثيله بطست في طس فليس البدل هنا لاجتماع ، بل هذا من اجتماع المثلين كقولهم في لص لصت .
ومعنى يتساءلون به : أي يتعاطون به السؤال ، فيسأل بعضكم بعضاً . أو يقول : أسألك بالله أن تفعل ، وظاهر تفاعل الاشتراك أي : تسأله بالله ، ويسألك بالله . وقالت طائفة : معناه تسألون به حقوقكم وتجعلونه معظماً لها . وقرأ عبد الله : تسألون به مضارع سأل الثلاثي . وقرى : تسلون بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى السين . قال ابن عباس : معنى تساءلون به أي تتعاطفون . وقال الضحاك والربيع : تتعاقدون وتتعاهدون .
وقال الزجاج : تتطلبون به حقوقكم والأرحام . قرأ جمهور : السبعة بنصب الميم .
وقرأ حمزة : بجرها ، وهي قراءة النخعي وقتادة والأعمش .
وقرأ عبد الله بن يزيد : بضمها ، فأما النصب فظاهره أن يكون معطوفاً على لفظ الجلالة ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، التقدير : واتقوا الله ، وقطع الأرحام . وعلى هذا المعنى فسرها ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم .
والجامع بين تقوى الله وتقوى الأرحام هذا القدر المشترك ، وإن اختلف معنى التقويين ، لأن تقوى الله بالتزام طاعته واجتناب معاصيه ، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يفضل بالبر والإحسان ، وبالحمل على القدر المشترك يندفع قول القاضي : كيف يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة ؟ ونقول أيضاً أنه في الحقيقة من باب عطف الخاص على العام ، لأن المعنى : واتقوا الله أي اتقوا مخالفة الله . وفي عطف الأرحام على اسم الله دلالة على عظم ذنب قطع الرحم ، وانظر إلى قوله : ) لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى ( كيف قرن ذلك بعبادة الله في أخذ الميثاق .
وفي الحديث : ( من أبرّ ؟ قال : أمّك وفيه : أنت ومالك لأبيك ) وقال تعالى في ذم من أضله : من الفاسقين ) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ). وقيل : النصب عطفاً على موضع به كما تقول : مررت بزيد وعمراً . لما لم يشاركه في الاتباع على اللفظ اتبع على موضعه . ويؤيد هذا القول قراءة عبد الله : تساءلون به وبالأرحام . أما الرفع فوجه على أنه مبتدأ والخبر محذوف قدره ابن عطية : والأرحام أهل أن توصل . وقدره الزمخشري : والأرحام مما يتقي ، أو مما يتساءل به ، وتقديره أحسن من تقدير ابن عطية ، إذا قدر ما يدل عليه اللفظ السابق ، وابن عطية قدر من المعنى . وأما الجر فظاهره أنه معطوف على المضمر المجرور من غير إعادة الجار ، وعلى هذا فسرها الحسن والنخعي ومجاهد . ويؤيده قراءة عبد الله : وبالأرحام . وكانوا يتناشدون بذكر الله والرحم .
قال الزمخشري : وليس بسديد يعني : الجر عطفاً على الضمير . قال : لأن الضمير المتصل متصل كاسمه ، والجار والمجرور كشيء واحد ، فكانا في قولك : مررت به وزيد ، وهذا غلامه وزيد شديدي الاتصال ، فلما اشتد الاتصال لتكرره اشتبه العطف على بعض الكلمة فلم يجر ، ووجب تكرير العامل كقولك : مررت به وبزيد ، وهذا غلامه وغلام زيد . ألا ترى إلى صحة رأيتك وزيداً ، ومررت بزيد وعمرو لما لم يقو الاتصال لأنه لم يتكرر ؟ وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ، ونظير هذا قول الشاعر :

" صفحة رقم 166 "
فما بك والأيام من عجب وقال ابن عطية : وهذه القراءة عند رؤساء نحويين البصرة لا تجوز ، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض . قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان ، يحل كل واحدمنهما محل صاحبه . فكما لا يجوز مررت بزيدوك ، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد . وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر كما قال :
فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا
فاذهب فما بك والأيام من عجب
وكما قال :
تعلق في مثل السواري سيوفنا
وما بينها والكف غوط تعانف
واستسهلها بعض النحويين انتهى كلام ابن عطية . وتعليل المازني معترض بأنه يجوز أن تقول : رأيتك وزيداً ، ولا يجوز رأيت زيداوك ، فكان القياس رأيتك وزيداً ، أن لا يجوز . وقال ابن عطية أيضاً : المضمر المخفوض لا ينفصل ، فهو كحرف من الكلمة ، ولا يعطف على حرف .
ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان : أحدهما : أن ذكر الأرحام مما تساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا تفريق في

" صفحة رقم 167 "
معنى الكلام . وغض من فصاحته ، وإنما الفصاحة في أن تكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة . والوجه الثاني : أن في ذكرها على ذلك تقدير التساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ) انتهى كلامه . وذهبت طائفة إلى أنَّ الواو في والأرحام واو القسم لا واو العطف ، والمتلقى به القسم هي الجملة بعده . ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما جاء في غير ما آية في كتاب الله تعالى ، وذهبوا إلى تخريج ذلك فراراً من العطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار ، وذهاباً إلى أن في القسم بها تنبيهاً على صلتها وتعظيماً لشأنها ، وأنها من الله تعالى بمكان . قال ابن عطية : وهذا قول يأباه نظم الكلام وسره انتهى . وما ذهب إليه أهل البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية : من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار ، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح ، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز . وقد أطلنا الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى : ) وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ). وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرنا ونظمها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
وأما قول ابن عطية : ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان ، فجسارة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه . إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قرأ بها سلف الأمة ، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت . وأقرأ الصحابة أُبيّ بن كعب عمدَ إلى ردّها بشيء خطر له في ذهنه ، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري ، فإنه كثيراً ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم ، وحمزة رضي الله عنه : أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش ، وحمدان بن أعين ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد الصادق ، ولم يقرأ حمزة حرفاً من كتاب الله إلا بأثر . وكان حمزة صالحاً ورعاً ثقةً في الحديث ، وهو من الطبقة الثالثة ، ولد سنة ثمانين وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة ، وأم الناس سنة مائة ، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة منهم : سفيان الثوري ، والحسن بن صالح . ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الثوري ، والحسن بن صالح . ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي . وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم : غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض . وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظناً بها وبقارئها ، فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك . ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم ، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون ، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون ، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية ، لا صحاب الكنانيس المشتغلون بضروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ( لا يراد بكان تقييد الخبر بالمخبر عنه في الزمان الماضي المنقطع في حق الله تعالى ، وإن كان موضوع كان ذلك ، بل المعنى على الديمومة فهو تعالى رقيب في الماضي وغيره علينا ، والرقيب تقدم شرحه في المفردات . وقال بعضهم : هنا هو العليم ، والمعنى : أنه مراع لكم لايخفى عليه ن أمركم شيء فاتقوه
النساء : ( 2 ) وآتوا اليتامى أموالهم . . . . .
( وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ ( قال مقاتل والكلبي : نزلت في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ طلب المال فمنعه . ومناسبتها لما قبلها أنه لما وصل الأرحام أتبع بالأيتام ، لأنهم صاروا بحيث لا كافل لهم ، ففارق حالهم حال مَن له رحم ماسه . وظاهره الأمر بإعطاء اليتامى أموالهم .
واليتم في بني آدم : فقد الأب ، وهو جمع يشمل الذكور والإناث . وينقطع هذا الاسم شرعاً بالبلوغ ، فلا بد من مجاز ، ما في اليتامى لإطلاقه على البالغين اعتباراً وتسمية بما

" صفحة رقم 168 "
كانوا عليه شرعاً قبل البلوغ من اسم اليتم ، فيكون الأولياء قد أمروا بأن لا تؤخر الأموال عن حد البلوغ ، ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد . وأمّا أن يكون المجاز في أوتوا ، ويكون معنى إيتاؤهم الأموال : الإنفاق عليهم منها شيئاً فشيئاً ، وأن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء ، ويكفوا عنها أيديهم الخاطئة . وعلى كلا المعنيين الخطاب لمن له وضع اليد على مال اليتيم شرعاً . وقال ابن زيد : الخطاب لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير ، فقيل لهم : ورثوهم أموالهم ، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالاً طيباً حراماً خبيثاً ، فيجيء فعلكم ذلك تبدلاً . وقيل : كان الولي يربح على يتيمه فتستنفد تلك الأرباح مال اليتيم ، فنهوا عن ذلك . واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على السفيه لا يحجر عليه بلوغه خمساً وعشرين سنة . قال : لأن وآتوا اليتامى مطلق يتناول سفيهاً وغيره ، أونس منه الرشد أولاً ، ترك العمل به قبل السن المذكور بالإنفاق على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن شرط في وجوب دفع المال إليه ، وهذا الإجماع لم يوجد بعد هذا السن ، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهره . وأجيب بأنّ هذه الآية عامة وخصصت بقوله : وابتلوا اليتامى ولا تؤتوا السفهاء ، ولا شك أن الخاص مقدم على العام ) وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ ( قال ابن المسيب والنخعي والزهر والضحاك والسدي : كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله ، والدرهم الطيب بالزيف من ماله . وقال مجاهد وأبو صالح : المعنى ولا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم ، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله . وقيل : المعنى ولا تأكلوا أموالهم خبيثاً وتدعوا أموالكم طيباً . وقيل : المعنى لا تأخذوا مال اليتيم وهو خبيث ليؤخذ منكم المال الذي لكم وهو طيب . وقيل : لا تأكلوا أموالهم في الدنيا فتكون هي نار تأكلونها وتتركون الموعود لكم في الآخرة بسبب إبقاء الخبائث والمحرمات ، وقيل : لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو : اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو : حفظها والتورع منها . وتفعل هنا بمعنى استفعل كتعجل ، وتأخر بمعنى استعجل واستأخر . وظاهره أن الخبيث والطيب وصفان في الأجرام المتبدلة والمتبدل به ، فإما أن يكون ذلك باعتبار اللغة فيكونان بمعنى الكريه المتناول واللذيذ ، وإما أن يكون باعتبار الشرع فيكونان بمعنى الحرام والجلال . أما أن يكونا وصفين لاختزال الأموال وحفظها ففيه بعد ظاهر ، وإن كان له تعلق ما بقوله : وآتوا اليتامى أموالهم .
وقرأ ابن محيصن : ولا تبدلوا بإدغام التاء الأولى في الثانية .
( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ ( لما نهوا عن استبدال الخبيث من أموالهم بالطيب من أموال اليتامى ، ارتقى في النهي إلى ما هو أفظع من الاستبدال وهو : أكل أموال اليتامى فنهوا عنه . ومعنى إلى أموالكم : قيل مع أموالكم ، وقيل : إلى في موضع الحال التقدير : مضمومة إلى أموالكم . وقيل : تتعلق بتأكلوا على معنى التضمين أي : ولا تضموا أموالهم في الأكل إلى موالكم . وحكمة : إلى أموالكم ، وإن كانوا منهيين عن أكل أموال اليتامى بغير حق ، أنه تنبيه على غنى الأولياء . كأنه قيل : ولا تأكلوا أموالهم مع كونكم ذوي مال أي : مع غناكم ، لأنه قد أذن للولي إذا كان فقيراً أن يأكل بالمعروف . وهذا نص على النهي عن الأكل ، وفي حكمه التمول على جميع وجوهه .
وقال مجاهد : الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق ، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك ، ثم نسخ منه النهي بقوله تعالى : وإن تخالطوهم فإخوانكم ). وقال الحسن قريباً من هذا .
قال : تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط ، فاجتنبوه من قبل أنفسهم ، فخفف عنهم في آية

" صفحة رقم 169 "
البقرة . وحسنَّ هذا القول الزمخشري بقوله : وحقيقته ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم ، وتسوية بينه وبين الحلال . قال : ( فإن قلت ) قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم ، فلم ورد النهي عن أكله معها ؟ ( قلت ) : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال ، وهم على ذلك يطمعون فيها ، كان القبح أبلغ والذم أحق . ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فتعي عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم انتهى كلامه . وملخصه أن قوله : إلى أموالكم ليس قيداً للاحتراز ، إنما جيء به لتقبيح فعلهم ، ولأن يكون نهياً عن الواقع ، فيكون نظير قوله : ) أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً ( وإن كان الربا على سائر أحواله منهياً عنه . وما قدمناه نحن يكون ذلك قيداً للاحتراز ، فإنه إذا كان الولي فقيراً جاز أن يأكل بالمعروف ، فيكون النهي منسحباً على أكل مال اليتيم لمن كان غنياً كقوله : ) وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ).
) إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ( قرأ الجمهور بضم الحاء ، والحسن بفتحها وهي لغة بني تميم وغيرهم ، وبعض القراء : إنه كان حاباً كبيراً ، وكلها مصادر . قال ابن عباس والحسن وغيرهما : الحوب الإثم . وقيل : الظلم . وقيل : الوحشة . والضمير في إنه عائد على الأكل . وقيل : على لتبدل . وعوده على الأكل أقرب لقربه منه ، ويجوز أن يعود عليهما . كأنه قيل : إن ذلك كما قال : فيها خطوط من سواد وبلق
كأنه في الجلد توليع البهق
أي كان ذلك
النساء : ( 3 ) وإن خفتم ألا . . . . .
( وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت : ) نزلت في أولياء اليتامى الذين يعبجهم جمال ولياتهم فيريدون أن يبخسوهم في المهر لمكان ولا يتهم عليهن . قيل لهم : أقسطوا في مهورهن ، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوج ما طاب له من الاجنبيات اللواتي بما كسن في حقوقهن . وقاله أيضاً ربيعة . وقال عكرمة : نزلت في قريش يتزوج منهم الرجل العشرة وأكثر وأقل ، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فيتزوج منه ، فقيل له : إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا . وقال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، والسدي : كانت العرب تتخرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء ، يتزوجون العشرة فأكثر ، فنزلت في ذلك : كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك فتحرجوا في النساء ، وانكحوا على هذا الحد الذي يبعد الحور عنه . وقال مجاهد : إنما الآية تحذير من الزنا وزجر عنه ، كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك تحرجوا من الزنا ، وانكحوا على ما حد لكم . وعلى هذه الأقوال غير الأول لا يختص اليتامى بإناث ولا ذكور ، وعلى ما روي عن عائشة يكون مختصاً بالإناث كأنه قيل في يتامى النساء .
والظاهر من هذه الأقوال أن يكون التقدير : وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح يتامى النساء فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن ، لما أمروا بأن يؤتوا اليتامى أموالهم ، ونهوا عن الاستبدال المذكور ، وعن أكل أموال اليتامى ، كان في ذلك مزيداً اعتناء باليتامى واحتراز من ظلمهم كما قال تعالى : ) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً ( فحوطب أولياء يتامى النساء أو الناس بقوله : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أي : في نكاح يتامى النساء ، فانكحوا غيرهن ، وعلى هذا الذي اخترناه من أن المعنى في نكاح اليتامى . فاليتامى إن كان أريد به اليتم

" صفحة رقم 170 "
الشرعي فينطلق على الصغيرات اللاتي لم يبلغن .
وقد استدل بذلك أبو حنيفة على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ وقال : أما بعد البلوغ فليست يتيمة ، بدليل أنها لو أرادت أن تحط عن صداق مثلها جاز لها . خلافاً لمالك والشافعي والجمهور إذ قالوا : لا يجوز وإن كان المراد اليتم اللغوي ، فيندرج فيه البالغات ، والبالغة يجوز تزويجها بدون مهر المثل إذا رضيتُ ، فأي معنى للعدول إلى نكاح غيرها ؟ والجواب : أن العدول إنما كان لأن الوليّ يستضعفها ويستولي على مالها وهي لا تقدر على مقاومته ، وإذا كان المراد باليتامى هنا البالغات فلا حجة لأبي حنيفة في الآية على جواز تزويج الصغيرة التي لم تبلغ . ومعنى : خفتم حذرتم ، وهو على موضوعه في اللغة من أن الخوف هو الحذر . وقال أبو عبيدة : معنى خفتم هنا أيقنتم ، وخاف تكون بمعنى أيقن ، ودليله قول الشاعر :
فقلت لهم خافوا بألفي مدحج
وما قاله لا يصح ، لا يثبت من كلام العرب خاف بمعنى أيقن ، وإنما خاف من أفعال التوقع ، وقد يميل فيه الظن إلى أحد الجائزين . وقد روى ذلك البيت : فقلت لهم : ظنوا بألفي مدحج . هذه الرواية أشهر من خافوا . قال الراغب : الخوف يقال فيما فيه رجاء مّا ، ولهذا لا يقال : خفت أن لا أقدر على بلوغ السماء ، أو نسف الجبال انتهى .
ومعنى أن لا تقسطوا أي : أن لا تعدلوا . أي : وإن خفتم الجوز وأقسط : بمعنى عدل . وقرأ النخعي وابن وثاب تقسطوا بفتح التاء من قسط ، والمشهور في قسط أنه بمعنى جار . وقال الزجاج : ويقال قسط بمعنى أقسط أي عدل . فإن حملت هذه القراءة على مشهور اللغة كانت لا زائدة ، أي : وإن خفتم أن تقسطوا أي : إن تجوروا ، والآن لا يتم إلا باعتقاد زيادتها . وإن حملت على أن تقسطوا بمعنى تقسطوا ، كانت للنفي كما في تقسطوا .
وقرأ ابن أبي عبلة من طاب . وقرأ الجمهور : ما طاب . فقيل : ما بمعنى من ، وهذا مذهب من يجوز وقوع ما على آحاد العقلاء ، وهو مذهب مرجوح . وقيل : عبر بما عن النساء ، لأن إناث العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء . وقيل : ما واقعة على النوع ، أي : فانكحوا النوع الذي طاب لكم من النساء ، وهذا قول أصحابنا أنّ ما تقع على أنواع من يعقل . وقال أبو العباس : ما لتعميم الجنس على المبالغة ، وكان هذا القول هو القول الذي قبله . وقيل : ما مصدرية ، والمصدر مقدّر باسم الفاعل . والمعنى : فانحوا النكاح الذي طاب لكم . وقيل : ما نكرة موصوفة ، أي : فانكحوا جنساً أو عدداً يطيب لكم . وقيل : ما ظرفية مصدرية ، أي : مدة طيب النكاح لكم . والظاهر أنّ ما مفعولة بقوله : فانكحوا ، وأنّ من النساء معناه : من البالغات . ومن فيه إما لبيان الجنس للإبهام الذي في ما على مذهب من يثبت لها هذا المعنى ، وإمّا للتبعيض وتتعلق بمحذوف أي : كائناً من النساء ، ويكون في موضع الحال . وأما إذا كانت ما مصدرية أو ظرفية ، فمفعول فانكحوا هو من النساء ، كما تقول : أكلتُ من الرغيف ، والتقدير فيه : شيئاً من الرغيف . ولا يجوز أن يكون مفعول فانكحوا مثنى ، لأن هذا المعدول من العدد لا يلي العوامل كما تقرر في المفردات .
وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش طاب بالامالة . وفي مصحف أبي

" صفحة رقم 171 "
طيب بالياء ، وهو دليل الإمالة . وظاهر فانكحوا الوجوب ، وبه قال أهل الظاهر مستدلين بهذا الأمر وبغيره . وقال غيرهم : هو ندب لقوم ، وإباحة الآخرين بحسب قرائن المرء ، والنكاح في الجملة مندوب إليه . ومعنى ما طاب : أي ما حل ، لأن المحرمات من النساء كثير قاله : الحسن وابن جبير وأبو مالك . وقيل : ما استطابته النفس ومال إليه القلب . قالوا : ولا يتناول قوله فانكحوا الجيد .
ولما كان قوله : ما طاب لكم من النساء عامًّا في الأعداد كلها ، خص ذلك بقوله : مثنى وثلاث ورباع . فظاهر هذا التخصيص تقسيم المنكوحات إلى أنَّ لنا أن أن نتزوج اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولا يجوز لنا أن نتزوج خمسة خمسة ، ولا ما بعد ذلك من الأعداد . وذلك كما تقول : أقسم الدراهم بين الزيدين درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، فمعنى ذلك أن تقع القسمة على هذا التفصيل دون غيره . فلا يجوز لنا أن نعطى أحداً من المقسوم عليهم خمسة خمسة ، ولا يسوغ دخول أو هنا مكان الواو ، لأنه كان يصير المعنى أنهم لا ينكحون كلهم إلا على أحد أنواع العدد المذكور ، وليس لهم أن يجعلوا بعضه على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع ، لأن أو لأحد الشيئين أو الأشياء . والواو تدل على مطلق الجمع ، فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجمع إن شاؤا مختلفين في تلك الأعداد ، وإن شاؤا متفقين فيها محظوراً عليهم ما زاد . وذهب بعض الشيعة : إلى أنه يجوز النكاح بلا عدد ، كما يجوز التسري بلا عدد . وليست الآية تدل على توقيت في العدد ، بل تدل على الإباحة كقولك : تناول ما أحببت واحداً واثنين وثلاثاً . وذكر بعض مقتضى العموم جاء على طريق التبيين ، ولا يقتضي الاقتصار عليه . وذهب بعضهم إلى أنه يجوز نكاح تسع ، لأن الواو تقتضي الجمع . فمعنى : مثنى وثلاث ورباع اثنين وثلاثاً وأربعاً وذلك تسع ، وأكد ذلك بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) مات عن تسع . وذهب بعضهم إلى أنَّ هذه الأعداد وكونها عطفت بالواو تدلّ على نكاح جواز ثمانية عشر ، لأن كل عدد منها معدول عن مكرر مرتين ، وإذا جمعت تلك المكررات كانت ثمانية عشر . والكلام على هذه الأقوال استدلالاً وإبطالاً مذكور في كتب الفقه الخلافية .
وأجمع فقهاء الأمصار على أنه لا تجوز الزيادة على أربع . والظاهر أنه لا يباح النكاح مثنى أو ثلاث أو رباع إلا لمن خاف الجور في اليتامى لأجل تعليقه عليه ، أما مَن لم يخف فمفهوم الشرط يدل على أنه لا يجوز له ذلك ، والإجماع على خلاف ما دلّ عليه الظاهر من اختصاص الإباحة بمن خاف الجور . أجمع المسلمون على أنَّ مَن لم يجف الجور في أموال اليتامى يجوز له أن ينكح أكثر من واحدة ثنتين وثلاثاً وأربعاً كمن خاف . فدل على أن الآية جواب لمن خاف ذلك ، وحكمها أعم .
وقرأ النخعي وابن وثاب : وربع ساقطة الألف ، كما حذفت في قوله : وحلياناً برداً يريد بارداً . وإذا أعربنا ما من ما طاب مفعوله وتكون موصولة ، فانتصاب مثنى وما بعده على الحال منها ، وقال أبو البقاء : حال من النساء . وقال ابن عطية : موضعها من الإعراب نصب على البدل من ما طاب ، وهي نكرات لا تتصرف لأنها معدولة وصفه انتهى . وهما إعرابان ضعيفان . أمّا الأوّل فلأن المحدث عنه هو ما طاب ، ومن النساء جاء على سبيل التبيين وليس محدثاً عنه ، فلا يكون الحال منه ، وإن كان يلزم من تقييده بالحال تقييد المنكوحات . وأما الثاني فالبدل هو على نية تكرار العامل ، فيلزم من ذلك أن يباشرها العامل . وقد تقرر في المفردات أنها لا يباشرها العامل . وأيضاً فإنه قال : إنها نكرة وصفة ، وما كان نكرة وصفة فإنه إذا جاء تابعاً لنكرة كان صفة لها كقوله تعالى : ) أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( وما وقع صفة للنكرة وقع حالاً للمعرفة . وما طاب معرفة فلزم أن يكون مثنى حالاً .
( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( أي أن لا تعدلوا بين ثنتين إن نكحتموهما ، أو بين ثلاث أو أربع إن نكحتموهن في القسم أو النفقة أو الكسوة ، فاختاروا واحدة . أو ما ملكت أيمانكم هذا إن حملنا فانكحوا على تزوجوا ، وإن حملناه على الوطء قدرنا الفعل الناصب لقوله : فواحدة . فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم . ويحتمل أن يكون من باب علفتها تبناً وماء باردا

" صفحة رقم 172 "
على أحد التخريجين فيه ، والتقدير : فانكحوا أي تزوجوا واحدة ، أوطئوا ما ملكت أيمانكم . ولم يقيد مملوكات اليمين بعدد ، فيجوز أن يطأ ما شاء منهن لأنه لا يجب العدل بينهن لا في القسم ولا في النفقة ولا في الكسوة . وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر وابن هرمز : فواحدة بالرفع . ووجه ذلك ابن عطية على أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر مقدر أي : فواحدة كافية . ووجهه الزمخشري على أنه مرفوع على الخبر أي : فالمقنع ، أو فحسبكم واحدة ، أو ما ملكت أيمانكم . وأو هنا لأحد الشيئين : إما على التخيير ، وإما على الإباحة .
وروي عن أبي عمرو : فما ملكت أيمانكم يريد به الإماء ، والمعنى : على هذا أن خاف أن لا يعدل في عشرة واحدة فما ملكت يمينه . وقرأ ابن أبي عبلة : أو من ملكت أيمانكم ، وأسند الملك إلى اليمين لأنها صفة مدح ، واليمين مخصوصة بالمحاسن . ألا ترى أنها هي المنفقة في قوله : ( حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) وهي المعاهدة والمتلقية لرايات المجد ، والمأمور في تناول المأكول بالأكل بها ، والمنهي عن الاستنجاء بها . وهذان شرطان مستقلان لكل واحد منهما جواب مستقل ، فأول الشرطين : وإن ختفم أن لا تقسطوا ، وجوابه : فانكحوا . صرف من خاف من الجور في نكاح اليتامى إلى نكاح البالغات منهن ومن غيرهن وذكر تلك الأعداد . وثاني الشرطين قوله : فإن خفتم أن لا تعدلوا وجوابه : فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم صرف من خاف من الجور في نكاح ما ذكر من العدد إلى نكاح واحدة ، أو تسرّ بما ملك وذلك على سبيل اللطف بالمكلف والرفق به ، والتعطف على النساء والنظر لهن .
وذهب بعض الناس إلى أن هذه الجمل اشتملت على شرط واحد ، وجملة اعتراض . فالشرط : وإن خفتم أن لا تقسطوا ، وجوابه : فواحدة . وجملة الاعتراض قوله : فانكحوا ما طاب لكمك من النساء مثنى وثلاث ورباع ، وكرر الشرط بقوله : فإن خفتم أن لا تعدلوا . لما طال الكلام بالاعتراض إذ معناه : كما جاء في فلما جاءهم ما عرفوا بعد قوله ، ولما جاءهم كتاب من عند الله إذ طال الفصل بين لما وجوابها فأعيدت . وكذلك ) فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ ( بعد قوله : ) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ ( إذ طال الفصل بما بعده بين : لا تحسبن ، وبين بمفازة ، فأعيدت الجملة ، وصار المعنى على هذا التقدير ، إن لم تستطيعوا أن تعدلوا فانكحوا واحدة . قال : وقد ثبت أنهم لا يستطيعون العدل بقوله : ) وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ ( انتهى هذا القول وهو منسوب إلى أبي علي . ولعله لا يصح عنه ، فإن أبا علي كان من علم النحو بمكان ، وهذا القول فيه إفساد نظم القرآن التركيبي ، وبطلان للأحكام الشرعية : لأنه إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله : ولن تستطيعوا بما نتج من الدلالة ، اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غير واحدة ، أو يتسرّى بما ملكت يمينه . ويبقى هذا الفصل بالاعتراض بين الشرط وبين جوابه لغواً لا فائدة له على زعمه . والعدل المنفي استطاعته غير هذا العدل المنفي هنا ، ذاك عدل في ميل القلب وقد رفع الحرج فيه عن الإنسان ، وهذا عدل في القسم والنفقة . ولذلك نفيت هناك استطاعته ، وعلق هنا على خوف انتفائه ، لأن الخوف فيه رجاء وظن غالباً . وانتزع الشافعي من قوله : فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ، أن الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح ، خلافاً لأبي حنيفة ، إذ عكس . ووجه انتزاعه ذلك واستدلاله بالآية أنه تعالى خير بين تزوج الواحدة والتسري ، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة ، والحكمة سكون النفس بالأزواج ، وتحصين الدين ومصالح البيت ، وكل ذلك حاصل بالطريقين ، وأجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري ، فوجب أن يكون أفضل من النكاح ، لأن الزائد على المتساويين يكون زائداً على المساوي الثاني لا محالة .
( ذَلِكَ أَدْنَى أَن لا تَعْدِلُواْ ( الإشارة إلى اختيار الحرة الواحدة والأمة . أدنى من الدنو أي : أقرب أن لا تعولوا ، أي : أن لا تميلوا عن الحق .

" صفحة رقم 173 "
قاله : ابن عباس ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وأبو مالك ، والسدّي . وقال مجاهد : لا تضلوا . وقال النخعي : لا تخونوا .
وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي : معناه لا يكثر عيالكم . وقد رد على الشافعي في هذا القول من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ، أما من جهة المعنى فقال أبو بكر بن داود والرازي ما معناه : غلط الشافعي ، لأن صاحب الإماء في العيال كصاحب الأزواج . وقال الزجاج : إن الله قد أباح كثرة السراري ، وفي ذلك تكثير العيال ، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا ؟ وقال صاحب النظم : قال : أولاً أن لا تعدلوا فيجب أن يكون ضد العدل هو الجور ، وأما من جهة اللفظ ويقتضي أيضاً الرد من جهة المعنى ، فتفسير الشافعي تعولوا بتعيلوا . وقالوا : يقال أعال يعيل إذا كثر عياله ، فهو من ذوات الياء لا من ذوات الواو ، فقد اختلفا في المادة ، فليس معنى تعولوا تعيلوا . وقال الرازي أيضاً عن الشافعي : أنه خالف المفسرين . وما قاله ليس بصحيح ، بل قد قال بمقالته زيد بن أسلم وابن زيد كما قدمناه وغيرهم . وأما تفسيره تعولوا بتعيلوا فليس فيه دليل على أنه أراد أن تعولوا وتعيلوا من مادة واحدة ، وأنهما يجمعهما اشتقاق واحد ، بل قد يكون اللفظان في معنى واحد ولا يجمعهما اشتقاق واحد ، نحو قولهم : دمت ودشير ، وسبط وسبطة ، فكذلك هذا .
وقد نقل عال الرجل يعول ، أي كثر عياله ابن الأعرابي ، كما ذكرناه في المفردات . ونقله أيضاً الكسائي قال : وهي لغة فصيحة . قال الكسائي : العرب تقول : عال يعول ، وأعال يعيل كثر عياله ، ونقلها أيضاً أبو عمرو الدوري المقري وكان إماماً في اللغة غير مدافع قال : هي لغة حمير .
وأنشد أبو عمرو حجة لها : وإن الموت يأخذ كل حي
بلا شك وأن أمشي وعالا
أمشي كثرت ماشيته ، وعال كثر عياله . وجعل الزمخشري كلام الشافعي وتفسيره تعولوا تكثر عيالكم على أن جعله من قولك : عال الرجل عياله يعولهم . وقال : لا يظن به أنه حول تعيلوا إلى تعولوا ، وأثنى على الشافعي بأنه كان أعلى كعباً وأطول باعاً في كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا .
قال : ولكن للعلماء طرقاً وأساليب ، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات . وأما ما رد به ابن داود والرازي والزجاج فقال ابن عطية : هذا القدح يشير إلى قدح الزجاج غير صحيح ، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع ، وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة .
وقال الزمخشري : الغرض بالتزوج التوالد والتناسل ، بخلاف التسري . ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن ، فكان التسري مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج ، والواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع . وقال القفال : إذا كثرت الجواري فله أن يكلفهن الكسب فينفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضاً ، وتقل العيال . أما إذا كانت حرة فلا يكون الأمر كذلك انتهى . وروي عن الشافعي أيضاً أنه فسر قوله تعالى : أن لا تعولوا بمعنى أن لا تفتقروا ، ولا يريد أن تعولوا من مادة تعيلوا من عال يعيل إذا افتقر ، إنما يريد أيضاً الكناية ، لأن كثرة العيال يتسبب عنها الفقر . والظاهر أن المعنى : أن اختيار الحرة الواحدة أو الأمة أقرب إلى انتفاء الجور ، إذا هو المحذور المعلق على خوفه الاختيار المذكور . أي : عبر عن قوله : أن لا تعولوا بأن لا يكثر عيالكم ، فإنه عبر عن المسبب بالسبب ، لأن كثرة العيال ينشأ عنه الجور .
وقرأ طلحة أن لا تعيلوا بفتح التاء ، أي لا تفتقروا من العيلة كقوله : ) وَإِنْ خِفْتُمْ ( وقال الشاعر :

" صفحة رقم 174 "
فما يدري الفقير متى غناه
ولا يدري الغني متى يعيل
وقرأ طاوس : أن لا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله ، وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي من حيث المعنى الذي قصده . وأن تتعلق بأدنى وهي في موضع نصب أو جر على الخلاف ، إذ التقدير : أدنى إلى أن لا تعولوا . وافعل التفضيل إذا كان الفعل يتعدى بحرف جر يتعدّى هو إليه . تقول : دنوت إلى كذا فلذلك كان التقدير أدنى إلى أن تعولوا . ويجوز أن يكون الحرف المحذوف لام الجر ، لأنك تقول : دنوت لكذا .
النساء : ( 4 ) وآتوا النساء صدقاتهن . . . . .
( وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ( الظاهر : أن الخطاب للأزواج ، لأن الخطاب قبله لهم ، قاله : ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وابن جريج . قيل : كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول : أرثك وترثيني فتقول : نعم . فأمروا أن يسرعوا إعطاء المهور . وقيل : الخطاب لأولياء النساء ، وكانت عادة بعض العرب أن يأكل ولي المرأة مهرها ، فرفع الله ذلك بالإسلام . قاله : أبو صالح ، واختاره : الفراء وابن قتيبة . وقيل : المراد بالآية ترك ما كان يفعله المتشاغرون من تزويج امرأة بأخرى ، وأمروا بضرب المهور قاله : حضرمي ، والأمر بإيتاء النساء صدقاتهن نحلة يتناول هذه الصور كلها .
والصدقات المهور . قال ابن عباس وابن جريج وابن زيد وقتادة : نحلة فريضة . وقيل : عطية تمليك قاله الكلبي والفراء . وقيل : شرعة وديناً قاله : ابن الأعرابي . قال الراغب : والنحلة أخص من الهبة ، إذ كل هبة نحلة ولا ينعكس ، وسمي الصداق نحلة من حيث لا يجب في مقابلته أكثر من تمتع دون عوض مالي . ومن قال : النحلة الفريضة نظر إلى حكم الآية ، لا إلى موضوع اللفظ والاشتقاق ، والآية اقتضت إتيانهن الصداق انتهى . ودل هذا الأمر على التحرج من التعرض لمهور النساء كما دل الأمر في : ) وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ ( ، وأنهما متساويان في التحريم . ولما أذن في نكاح الأربع أمر الأزواج والأولياء باجتناب ما كانوا عليه من سنن الجاهلية .
وقرأ الجمهور صدقاتهن جمع صدقة ، على وزن سمرة . وقرأ قتادة وغيره : بإسكان الدال وضم الصاد . وقرأ مجاهد وموسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم : بضمها . وقرأ النخعي وابن وثاب : صدقتهن بضمها والافراد ، وانتصب نحلة على أنه مصدر على غير الصدر ، لأن معنى : وآتوا انحلوا فالنصب فيها بآتوا . وقيل : بانحلوهن مضمرة . وقيل : مصدر في موضع الحال ، إما عن الفاعلين أي ناحلين ، وإما من المفعول الأول أو الثاني أي : منحولات . وقيل : انتصب على إضمار فعل بمعنى شرع ، أي : أنحل الله ذلك نحلة ، أي شرعه شرعة وديناً . وقيل : إذا كان بمعنى شرعة فيجوز انتصابه على أنه مفعول من أجله ، أو حال من الصدقات . وفي قوله : وآتوا النساء صدقاتهن دلالة على وجوب الصداق للمرأة ، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن بعض أهل العراق : أن السيد إذا زوج عبده بأمته لا يجب فيه صداق ، وليس في الآية تعرض لمقدار الصداق ، ولا لشيء من أحكامه . وقد تكلم بعض المفسرين في ذلك هنا ، ومحل الكلام في ذلك هو كتب الفقه .
( فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( الخطاب فيه الخلاف : أهو للأزواج ؟ أو للأولياء ؟ وهو مبني على الخلاف في : وآتوا النساء . وقال حضرمي : سبب نزولها أن قوماً تحرجوا أن يرجع إليهم شيء ما دفعوا إلى الزوجات ، والضمير في : منه ، عائد على الصداق قاله : عكرمة . إذ لو وقع مكان صدقاتهن لكان جائزاً وصار شبيهاً بقولهم : هو أحسن الفتيان وأجمله لصلاحية ، هو أحسن فتى . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد ، فيكون متناولاً بعضه . فلو أنث لتناول ظاهرة هبة الصداق كله ، لأن بعض الصدقات واحد منها فصاعداً انتهى . وأقول : حسن

" صفحة رقم 175 "
تذكير الضمير ، لأن معنى : فإن طبن ، فإن طابت كل واحدة ، ولذلك أفرد متكأ . وقيل : يعود على صدقاتهن مسلوكاً به مسلك اسم الإشارة ، كأنه قيل عن شيء من ذلك . واسم الإشارة وإن كان مفرداً قد يشار به إلى مجموع كقوله : ) قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ ). وقد تقدّمت عليه أشياء كثيرة . وقيل : لرؤبة كيف قلت : كأنه في الجلد توليع البهق ، وقد تقدم ، فيها خطوط من سواد وبلق . فقال : أردت كان ذاك . وقيل : يعود على المال ، وهو غير مذكور ، ولكن يدل عليه صدقاتهن . وقيل : يعود على الإيتاء وهو المصدر الدال عليه : وآتوا ، قاله الراغب ، وذكره ابن عطية . ويتعلق المجروران بقوله : طبن ، ومنه في موضع الصفة لشيء ، فيتعلق بمحذوف ، وظاهر من التبعيض . وفيه إشارة إلى أن ما تهبه يكون بعضاً من الصداق ، ولذلك ذهب الليث بن سعد إلى أنه لا يجوز تبرعها له إلا باليسير . وقال ابن عطية : ومن تتضمن الجنس هاهنا . وكذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك .
وانتصب نفساً على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من الفاعل . وإذا جاء التمييز بعد جمع وكان منتصباً عن تمام الجملة ، فإما أن يكون موافقاً لما قبله في المعنى ، أو مخالفاً فإن كان موافقاً طابقه في الجمعية نحو : كرم الزيدون رجالاً ، كما يطابق لو كان خبراً ، وإن كان مخالفاً ، فإما أن يكون مفرداً لمدلول أو مختلفة ، إن كان مفرداً لمدلول لزم إفراد اللفظ الدال كقولك في أبناء رجل واحد : كرم بنو فلان أصلاً وأباً . وكقولك : زكاة الأتقياء ، وجاد الأذكياء وعياً . وذلك إذا لم تقصد بالمصدر اختلاف الأنواع لاختلاف محاله . وإن كان مختلف المدلول ، فإما أن يلبس أفراده لو أفرد ، أو لا يلبس . فإن ألبس وجبت المطابقة نحو : كرم الزيدون آباء ، أي : كرم آباء الزيدين . ولو قلت : كرم الزيدون أباً ، لأوهم أن أباهم واحد موصوف بالكرم . وإن لم يلبس جاز الإفراد والجمع . والإفراد أولى ، كقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً إذ معلوم أن لكل نفساً ، وإنهن لسن مشتركات في نفس واحدة . وقرّ الزيدون عيناً ، ويجوز أنفساً وأعيناً . وحسن الإفراد أيضاً في الآية ما ذكرناه قبل من محسن تذكير الضمير وإفراده ، وهو أن المعنى : فإن طابت كل واحدة عن شيء منه نفساً .
وقال بعض البصريين : أراد بالنفس الهوى . والهوى مصدر ، والمصادر لا تثني ولا تجمع . وجواب الشرط : فكلوه ، وهو أمر إباحة . والمعنى : فانتفعوا به . وعبر بالأكل لأنه معظم الانتفاع .
وهنيئاً مريئاً أي : شافياً سائغاً . وقال أبو حمزة : هنيئاً لا إثم فيه ، مريئاً لأداء فيه . وقيل : هنيئاً لذيذاً ، مريئاً محمود العاقبة . وقيل : هنيئاً مريئاً أي ما لا تنغيص فيه . وقيل : ما ساغ في مجراه ولا غص به من تحساه . وقيل : هنيئاً مريئاً أي : حلالاً طيباً . وقرأ الحسن والزهري : هنياً مرياً دون همزة ، أبدلوا الهمزة التي هي لام الكلمة ياء ، وأدغموا فيها ياء المدّ . وانتصاب هنيئاً على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : فكلوه أكلاً هنيئاً ، أو على أنه حال من ضمير المفعول ، هكذا أعربه الزمخشري وغيره . وهو قول مخالف لقول أئمة العربية ، لأنه عند سيبويه وغيره : منصوب بإضمارفعل لا يجوز إظهاره . وقد ذكرنا في المفردات نص سيبويه على ذلك . فعلى ما قاله أئمة العربية يكون هنيئاً مريئاً من جملة أخرى غير قوله : فكلوه هنيئاً مريئاً ، ولا تعلق له به من حيث الإعراب ، بل من

" صفحة رقم 176 "
حيث المعنى . وجماع القول في هنيئاً : أنها حال قائمة مقام الفاعل الناصب لها . فإذا قيل : إن فلاناً أصاب خيراً فقلت هنيئاً له ، ذلك فالأصل ثبت له ذلك هنيئاً فحذف ثبت ، وأقيم هنيئاً مقامه . واختلفوا إذ ذاك فيما يرتفع به ذلك . فذهب السيرافي إلى أنه مرفوع بذلك الفعل المختزل الذي هو ثبت ، وهنيئاً حال من ذلك ، وفي هنيئاً ضمير يعود على ذلك . وإذا قلت : هنيئاً ولم تقل له ذلك ، بل اقتصرت على قولك : هنيئاً ، ففيه ضمير مستتر يعود على ذي الحال ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في ثبت المحذوفة . وذهب الفارسي إلى أن ذلك إذا قلت : هنيئاً له ، ذلك مرفوع بهنيئاً القائم مقام الفعل المحذوف ، لأنه صار عوضاً منه ، فعمل عمله . كما أنك إذا قلت : زيد في الدار ، رفع المجرور الضمير الذي كان مرفوعاً بمستقر ، لأنه عوض منه . ولا يكون في هنيئاً ضمير ، لأنه قد رفع الظاهر الذي هو اسم الإشارة . وإذا قلت : هنيئاً ففيه ضمير فاعل بها ، وهو الضمير فاعلاً لثبت ، ويكون هنيئاً قد قام مقام الفعل المختزل مفرعاً من الفعل . وإذا قلت : هنيئاً مريئاً ، فاختلفوا في نصب مريء . فذهب بعضهم : إلى أنه صفة لقولك هنيئاً ، وممن ذهب إلى ذلك الحوفي . وذهب الفارسي : إلى أن انتصابه انتصاب قولك هنيئاً ، فالتقدير عنده : ثبت مريئاً ، ولا يجوز عنده أن يكون صفة لهنيئاً ، من جهة أنَّ هنيئاً لما كان عوضاً من الفعل صار حكمه حكم الفعل الذي ناب منابه ، والفعل لا يوصف ، فكذلك لا يوصف هو . وقد ألمّ الزمخشري بشيء مما قاله النحاة في هنيئاً لكنه حرفه فقال بعد أن قدّم أن انتصابه على أنه وصف للمصدر ، أو حال من الضمير في فكلوه أي : كلوه وهو هنيء مريء . قال : وقد يوقف على فكلوه ، ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء ، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدر ، كأنه قيل : هنئاً مرئاً انتهى . وتحريفه أنه جعلهما أقيما مقام المصدر ، فانتصابهما على هذا انتصاب المصدر ، ولذلك قال : كأنه قيل هنأ مرأ ، فصار كقولك : سقياً ورعياً ، أي : هناءة ومراءة . والنحاة يجعلون انتصاب هنيئاً على الحال ، وانتصاب مريئاً على ما ذكرناه من الخلاف . إما على الحال ، وإما على الوصف . ويدل على فساد ما حرفه الزمخشري وصحة قول النحاة ارتفاع الأسماء الظاهرة بعد هنيئاً مريئاً ، ولو كانا ينتصبان انتصاب المصادر . والمراد بها : الدعاء . أجاز ذلك فيها تقول : سقياً لك ورعياً ، ولا يجوز سقياً الله لك ، ولا رعياً الله لك ، وإن كان ذلك جائزاً في فعله فتقول : سقاك الله ورعاك . والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدها قول الشاعر : هنيئاً مريئاً غيرداء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت
فما : مرفوع بما تقدّم من هنيء أو مريء . أو بثبت المحذوفة على اختلاف السيرافي وأبي عليّ على طريق الأعمال . وجاز الأعمال في هذه المسألة وإن لم يكن بينهما رابط عطف ، لكون مريئاً لا يستعمل إلا تابعاً لهنيئاً ، فصارا كأنهما مرتبطان لذلك . ولو كان ذلك في الفعل لم يجز لو قلت : قام خرج زيد ، لم يصح أن يكون من الأعمال إلا على نية حرف العطف . وذهب بعضهم : إلى أنّ مريئاً يستعمل وحده غير تابع لهنيئاً ، ولا يحفظ ذلك من كلام العرب ، وهنيئاً مريئاً اسما فاعل للمبالغة . وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءآ على وزن فعيل ، كالصهيل والهدير ، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر .
وظاهر الآية يدل على أنّ المرأة إذا وهبت لزوجها شيئاً من صداقها طيبة بها نفسها غير مضطرة إلى ذلك بإلحاح أو شكاسة خلق ، أو سوء معاشرة ، فيجوز له أن يأخذ ذلك منها ويتملكه وينتفع به . ولم يوقت هذا التبرع بوقت ، ولا استثناء فيه رجوع . وذهب الأوزاعي : إلى أنه لا يجوز تبرعها ما لم تلد ، أو تقم في بيت زوجها سنة ، فلو رجعت بعد الهبة فقال شريح وعبد الملك بن مروان : لها أن ترجع . وروى مثله عن عمر . كتب عمر إلى قضاته : أن النساء

" صفحة رقم 177 "
يعطين رغبة ورهبة ، فأيما امرأة أعطت زوجها ثم أرادت أن ترجع فلها ذلك . قال شريح : لو طابت نفسها لما رجعت . وقال عبد الملك : قال تعالى : ) فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً ( وكلا القولين خلاف الظاهر من هذه الآية . وفي تعليق القبول على طيب النفس ذون لفظة الهبة أو الإسماح ، دلالة على وجوب الاحتياط في الأخذ ، وإعلام أنّ المراعى هو طيب نفسها بالموهوب . وفي قوله : هنيئاً مريئاً مبالغة في الإباحة والقبول وزوال التبعة .
النساء : ( 5 ) ولا تؤتوا السفهاء . . . . .
( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ( قال ابن مسعود والحسن والضحاك والسدي وغيرهم : نزلت في ولد الرجل الصغار وامرأته . وقال ابن جبير : في المحجورين . وقال مجاهد : في النساء خاصة . وقال أبو موسى الأشعري والطبري وغيرهما : نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كائناً من كان . ويضعف قول مجاهد أنها في النساء ، كونها جمع سفيهة ، والعرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات قاله : ابن عطية . ونقلوا أنّ العرب جمعت شفيهة على سفهاء ، فهذا اللفظ قد قالته العرب للمؤنث ، فلا يضعف قول مجاهد . وإن كان جمع فعيلة الصفة للمؤنث نادراً لكنه قد نقل في هذا اللفظ خصوصاً . وتخصيص ابن عطية جمع فعيلة بفعائل أو فعيلات ليس بجيد ، لأنه يطرد فيه فعال كظريفة وظراف ، وكريمة وكرام ، ويوافق في ذلك المذكر . وإطلاقه فعيلة دون أن يخصها بأن لا يكون بمعنى مفعولة نحو : قتيلة ، ليس بجيد ، لأن فعيلة لا تجمع على فعائل .
وقيل : عنى بالسفهاء الوارثين الذين يعلم من حالهم أنهم يتسفهون في استعمال ما تناله أيديهم ، فنهى عن جمع المال الذي ترثه السفهاء . والسفهاء : هم المبذرون الأموال بالإنفاق فيما لا ينبغي ، ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرّف فيها . والظاهر في قوله : أموالكم أن المال مضاف إلى المخاطبين بقوله : ولا تؤتوا . قال أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة : نهى أن يدفع إلى السفيه شيء من مال غيره ، وإذا وقع النهي عن هذا فإن لا يؤتى شيئاً من مال نفسه أولى وأحرى بالنهي ، وعلى هذا القول : وهو أن يكون الخطاب لأرباب الأموال . قيل : يكون في ذلك دلالة على أن الوصية للمرأة جائزة ، وهو قول عامة أهل العلم . وأوصى عمر إلى حفصة . وروي عن عطاء : أنها لا تكون وصياً . قال : ولو فعل حولت إلى رجل من قومه .
قيل : ويندرج تحتها الجاهل بأحكام البيع . وروي عن عمر أنه قال : ( من لم يتفقه في الدين فلا يتجر في أسواقنا ، والكفار ) . وكره العلماء أن يوكلَ المسلم ذمياً بالبيع والشراء ، أو يدفع إليه يضاربه . وقال ابن جبير : يريد أموال السفهاء ، وإضافها إلى المخاطبين تغبيط بالأموال ، أي : هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أغراضكم وتصونكم وتعظم أقذاركم . ومن مثل هذا : ) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( وما جرى مجراه . وهذا القول ذكره الزمخشري أولاً قال : والخطاب للأولياء ، وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقيم به الناس معائشهم . كما قال : ولا تقتلوا أنفسكم ، ( فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ( ، والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله : ) وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ).
وقرأ الحسن والنخعي : اللاتي . وقرأ الجمهور : التي . قال ابن عطية : والأموال جمع لا يعقل ، فالأصوب فيه قراءة الجماعة انتهى . واللاتي جمع في المعنى للتي ، فكان قياسه أن لا يوصف به الإماء وصف مفرده بالتي ، والمذكر لا يوصف بالتي سواء كان عاقلاً أو غير عاقل ، فكان قياس جمعه أن لا يوصف بجمع التي الذي هو اللاتي . والوصف بالتي يجري مجرى الوصف بغيره من الصفات التي تلحقها التاء للمؤنث . فإذا كان لنا جمع لا يعقل فيجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على الواحدة المؤنثة ، ويجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على جمع المؤنثات فتقول : عندي جذوع منكسرة ، كما تقول : امرأة طويلة ، وجذوع منكسرات . كما تقول :

" صفحة رقم 178 "
نساء صالحات جرى الوصف في ذلك مجرى الفعل . والأولى في الكلام معاملته معاملة ما جرى على الواحدة ، هذا إذا كان جمع ما لا يعقل للكثرة . فإذا كان جمع فلة ، فالأولى عكس هذا الحكم : فأجذاع منكسرات أولى من أجذاع منكسرة ، وهذا فيما وجد له الجمعان : جمع القلة ، وجمع الكثرة . أمّا ما لا يجمع إلا على أحدهما ، فينبغي أن يكون حكمه على حسب ما تطلقه عليه من القلة والكثرة . وإذا تقرر هذا نتج أنَّ التي أولى من اللاتي ، لأنه تابع لجمع لا يعقل . ولم يجمع مال على غيره ، ولا يراد به القلة لجريان الوصف به مجرى الوصف بالصفة التي تلحقها التاء للمؤنث ، فلذلك كانت قراءة الجماعة أصوب . وقال الفراء : تقول العرب في النساء : اللاتي ، أكثر مما تقول التي . وفي الأموال تقول التي أكثر مما تقول اللاتي ، وكلاهما في كليهما جائز . وقرىء شاذ اللواتي ، وهو أيضاً في المعنى جمع التي ومعنى قياماً تقومون بها وتنتعشون بها ، ولو ضيعتموها لتلفت أحوالكم . قال الضحاك : جعلها الله قياماً لأنه يقام بها الحج والجهاد وإكمال البر ، وبها فكاك الرقاب من رق ومن النار ، وكان السلف تقول : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك ما يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس . وعن سفيان الثوري وكانت له بضاعة يقلبها : لولاها لتمندل أي : بنو العباس . وكانوا يقولون : اتجروا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل كل دينه . وقرأ نافع وابن عامر : قيماً ، وجمهور السبعة : قياماً ، وعبد الله بن عمر : قواماً بكسر القاف ، والحسن وعيسى بن عمر : قواماً بفتحها . ورويت عن أبي عمرو . وقرىء شاذاً : قوماً . فأما فيما فمقدر كالقيام ، والقيام قاله : الكسائي والفراء والأخفش ، وليس مقصوراً من قيام . وقيل : هو مقصور منه . قالوا : وحذفت الألف كما حذفت في خيم وأصله خيام ، أو جمع قيمة كديم جمع قاله : البصريون غير الأخفش . ورده أبو علي : بأنه وصف به في قوله : ) دِينًا قِيَمًا ( والقيم لا يوصف به ، وإنما هو مصدر بمعن القيام الذي يراد به الثبات والدوام . ورد هذا بأنه لو كان مصدراً لما أعلّ كما لم يعلوا حولاً وعوضاً ، لأنه على غير مثال الفعل ، لا سيما الثلاثية المجردة . وأجيب : بأنه اتبع فعله في الإعلال فأعل ، لأنه مصدر بمعنى القيام ، فكما أعل القيام أعل هو . وحكى الأخفش : قيماً وقوماً ، قال : والقياس تصحيح الواو ، وإنما اعتلت على وجه الشذوذ كقولهم : تيره ، وقول بني ضبة : طيال في جمع طويل ، وقول الجميع : جياد في جمع جواد . وإذا أعلوا ديماً لاعتلال ديمة ، فإن إعلال المصدر لاعتلال فعله أولى . ألا ترى إلى صحة الجمع مع اعتلال مفرده في معيشة ومعائش ، ومقامة ومقاوم ، ولم يصححوا مصدراً أعلوا فعله . وقيل : يحتمل هنا أن يكون جمع قيمة ، وإن كان لا يحتمله ديناً قيماً . وأما قيام فظاهر فيه المصدر ، وأما قوام فقيل : مصدر قاوم . وقيل : هو اسم غير مصدر ، وهو ما يقام به كقولك : هو ملاك الأمر لما يملك به . وأما قوام فخطأ عند أبي حاتم . وقال : القوام امتداد القامة ، وجوزه الكسائي . وقال : هو في معنى القوام ، يعني أنه مصدر . وقيل : اسم للمصدر . وقيل : القوام القامة ، والمعنى : التي جعلها الله سبب بقاء قاماتكم .
( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ( أي : اطعموهم واجعلوا لهم نصيباً . قيل : معناه فيمن يلزم الرجل نفقته من زوجته وبنيه الصغار . قال ابن عباس : لا تعمد إلى هلاك الشيء الذي جعله الله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، وأمسك ذلك وأصلحه ، وكن أنت تنفق عليهم في رزقهم وكسوتهم ومؤونتهم . وقيل : في المحجورين ، وهو خلاف مرتب على الخلاف في المخاطبين بقوله : وآتوا من هم . والمعنى على هذا القول : اجعلوها مكاناً لزرقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا ، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال ، فلا يأكلها الإنفاق . قيل : وقال فيها : ولم يقل منها تنبيهاً على ما قاله عليه السلام : ( ابتغوا في أموال اليتامى التجارة لا تأكلها الزكاة ) والمستحب أن يكون الإنفاق عليهم من فضلاتها المكتسبة . وقيل في : بمعنى من ، أي منها .
( وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ( المعروف : ما تألفه النفوس

" صفحة رقم 179 "
وتأنس إليه ويقتضيه الشرع ، فإن كان المراد بالسفهاء المحجورين ، فمن المعروف وعدهم الوعد الحسن بأنكم إذا رشدتم سلمنا إليكم أموالكم قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، ومقاتل ، وابن جريج . وقال عطاء : إذا ربحت أعطيتك ، وإذا غنمت في غزاتي ، جعلت لك حظاً . وإن كان المراد النساء والبنين الأصاغر والسفهاء الأجانب ، فتدعو لهم : بارك الله فيكم ، وحاطكم ، وشبهه قاله : ابن زيد . وقال الضحاك : الرد الجميل . ولما أمرالله تعالى أولاً بإيتاء اليتامى بقوله : ) وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ ( وأمر ثانياً بإيتاء أموال النساء بقوله : ) وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ ( وكان ذلك عاماً من غير تخصيص بين في هذه الآية . إنَّ ذلك الإيتاء إنما هو لغير السفيه ، وخص ذلك العموم ، وقيد الإطلاق الذي في الأمر بالإيتاء .
النساء : ( 6 ) وابتلوا اليتامى حتى . . . . .
( وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ( قيل : توفي رفاعة وترك ابنه ثابتاً صغيراً فسأل : إنَّ ابن أخي في حجري ، فما يحل لي من ماله ، ومتى أدفع إليه ماله ؟ فنزلت . وقيل : توفي أوس بن ثابت ، ويقال : أوس بن سويد عن زوجته أم كجه وثلاث بنات وابني عم سويد . وقيل : قتادة وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا المرأة ولا البنات شيئاً . وقيل : المانع ارثهن هو عم بنيها واسمه : ثعلبة . وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا البنات ولا الابن الصغير الذكر ، فشكتهما أم كجه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فدعاهما ، فقال : لا يا رسول الله ، ولدها لا يركب فرساً ، ولا يحمل كلا ، ولا ينكى عدواً فقال : ( انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله ) فنزلت .
وابتلاء اليتامى اختبارهم في عقولهم قاله : ابن عباس والسدي ، ومقاتل ، وسفيان . أو في عقولهم ودينهم وحفظهم لأموالهم وحسن تصرفهم فيها . ذكره : الثعلبي . وكيفية اختبار الصغير أن يدفع إليه نزر يسيرمن المال يتصرف فيه ، والوصي يراعي حاله فيه لئلا يتلفه . واختبار الصغيرة أن يرد إليها أمر البيت والنظر في الاستغزال دفعاً وأجرة واستيفاء . واختلاف كل منهما بحال ما يلق به وبما يعانيه من الأشغال والصنائع ، فإذا أنس منه الرشد بعد البلوغ والاختبار دفع إليه ماله ، وأشهد عليه هذا ظاهر الآية ، وهو يعقب الدفع . والإشهاد الإيناس المشروط . وقال ابن سيرين : لا يدفع إليه بعد الإيناس والاختبار المذكورين حتى تمضي عليه سنة وتداولة الفصول الأربع ، ولم تتعرض الآية لسن البلوغ ، ولا بماذا يكون . وتكلم فيها هنا بعض المفسرين . والكلام في البلوغ مذكور في كتب الفقه . وظاهر الآية أنه إن لم يؤنس منه رشد بقي محجوراً عليه دائماً ، ولا يدفع إليه المال ، وبه قال الجمهور . وقال النخعي وأبو حنيفة : ينتظر به خمس وعشرون سنة ، ويدفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس . وظاهر الآية يدل على استبداد الوصي بالدفع والاستقلال به . وقالت طائفة : يفتقر إلى أن يدفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده ، أو يكون ممن يأمنه الحاكم . وظاهر عموم اليتامى اندراج البنات في هذا الحكم ، فيكون حكمهن حكم البنين في ذلك . فقيل : يعتبر رشدها ، وإن لم تتزوج بالبلوغ . وقيل : المدة بعد الدخول خمسة أعوام . وقيل : سنة . وقيل : سبعة في ذاب الأب ، وعام واحد في اليتيمة التي لا وصي لها .
وحتى هنا غاية للابتلاء ، ودخلت على الشرط وهو : إذاً ، وجوابه : فإن آنستم ، وجوابه وجواب إن آنستم : فادفعوا . وإيناس الرشد مترتب على بلوغ النكاح ، فيلزم أن يكون بعده . وحتى إذا دخلت على الشرط لا تكون عاملة ، بل هي التي تقع بعدها الجمل كقوله

" صفحة رقم 180 "
وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
وقوله :
وحتى ماء دجلة أشكل
على أن في هذه المسألة خلافاً ذهب الزّجاج وابن درستويه إلى أن الجملة في موضع جر ، وذهب الجمهور إلى أنها غير عاملة البتة . وفي قوله : بلغوا النكاح تقدير محذوف وهو : بلغوا حد النكاح أو وقته . وقال ابن عباس : معنى آنستم عرفتم . وقال عطاء : رأيتم . وقال الفراء : وجدتم . وقال الزجاج : علمتم . وهذه الأقوال متقاربة .
وقرأ ابن مسعود : فإن أحستم ، يريد أحسستم . فحذف عين الكلمة ، وهذا الحذف شذوذ لم يرد إلا في ألفاظ يسيرة . وحكى غير سيبويه : أنها لغة سليم ، وأنها تطرد في عين كل فعل مضاعف اتصل بتاء الضمير أو نونه . وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن وأبو السمال وعيسى الثقفي : رَشَداً بفتحتين . وقرىء شاذاً : رُشُداً بضمتين ، ونكر رشداً لأن معناه نوع من الرشد ، وطرف ومخيلة من مخيلته ، ولا ينتظر به تمام الرشد . قال ابن عطية ومالك : يرى الشرطين : البلوغ والرشد ، وحيئنذ يدفع المال . وأبو حنيفة : يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحفظ له سفه ، كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد . وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول ، وخوف العنت . والتمثيل عندي في دفع المال بتوالي الشرطين غير صحيح ، وذلك أنّ البلوغ لم تسقه الآية سبباً في الشرط ، ولكنها حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها ، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه . فقال : إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو : الرشد حينئذ . وفصاحة الكلام تدل على ذلك لأن التوقيت بالبلوغ جاء بإذا ، والمشروط جاء بإن التي هي قاعدة حروف الشرط . وإذا ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر . وقال : فعلوا ذلك مضطرين ، وإنما جوزى بها لأنها تحتاج إلى جواب ، ولأنها يليها الفعل مظهراً أو مضمراً . واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها . ألا ترى أنك تقول : أجيئك إذا احمرّ البسر ، ولا تقول : إن احمرّ البسر انتهى كلامه . ودل كلامه على أنّ إذا ظرف مجرّد من معنى الشرط ، وهذا مخالف لكلام النحويين . بل النحويون كالمجمعين على أنّ إذا ظرف لما يستقبل فيه معنى الشرط غالباً ، وإن صرح أحد منهم بأنها ليست أداة شرط فإنما يعني أنها لا تجزم كأدوات الشرط ، لا نفي كونها تأتي للشرط . وكيف تقول ذلك ، والغالب عليها أنها تكون شرطاً ؟ ولم تتعرّض الآية إلى حكم من أونس منه الرشد بعد البلوغ ، ودفع إليه ماله ، ثم عاد إلى السفه ، أيعود الحجر عليه أم لا ؟ وفيه قولان : قال مالك : يعود . وقال أبو حنيفة : لا يعود ، والقولان عن الشافعي .
( وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ ( تقدم أنه يعبر بالأكل عن الأخذ ، لأن الأكل أعظم وجوه الانتفاع بالمأخوذ . وهذه الجملة مستقلة . نهاهم تعالى عن أكل أموال اليتامى وإتلافها بسوء التصرف ، وليست معطوفة على جواب الشرط ، لأنه وشرطه مترتبان على بلوغ النكاح . وهو معارض لقوله : وبداراً أن يكبروا ، فيلزم منه مشقة على ما ترتب عليه ، وذلك ممتنع . وبهذا الذي قرّرناه يتضح خطأ من جعل ولا تأكلوها عطفاً على فادفعوا ، وليس تقييد النهي بأكل أموال اليتامى في هاتين الحالتين مما يبيح الأكل بدونهما ، فيكون من باب دليل الخطاب . والإسراف : الإفراط في الإنفاق ، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق . قال : أعطوا هنيدة تجدوها ثمانية
ما في عطائهم منّ ولا سرف

" صفحة رقم 181 "
أي : ليس يخطئون مواضع العطاء . قال ابن عباس وغيره : ومبادرة كبرهم أن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول : أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله .
وانتصب إسرافاً وبداراً على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي : مسرفين ومبادرين . والبدار مصدر بادر ، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين . لأن اليتيم مبادر إلى الكبر ، والولي مبادر إلى خذ ماله ، فكأنهما مستبقان . ويجوز أن يكون من واحد ، وأجيز أن ينتصبا على المفعول من أجله ، أي : لإسرافكم ومبادرتكم . وإن يكبروا مفعول بالمصدر ، أي : كبركم كقوله : ) أَوْ إِطْعَامٌ يَتِيماً ( وفي إعمال المصدر المنوّن خلاف . وقيل : التقدير مخافة أن يكبروا ، فيكون أن يكبروا مفعولاً من أجله ، ومفعول بداراً محذوف .
( وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ( ظاهر هذه الجملة يدل على أنه تقسيم لحال الوصي على اليتيم ، فأمره تعالى بالاستعفاف عن ماله إن كان غنياً ، واقتناعه بما رزقه الله تعالى من الغنى ، وأباح له الأكل بالمعروف من مال اليتيم إن كان فقيراً ، بحيث يأخذ قوتاً محتاطاً في تقديره .
وظاهر هذه الإباحة أنه لا تبعة عليه ، ولا يترتب في ذمته ما أخذ مما يسد جوعته بما لا يكون رفيعاً من الثياب ، ولا يقضي إذا أيسر قاله : إبراهيم ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، وعلى هذا القول الفقهاء . وقال عمرو ، ابن عباس ، وعبيدة ، والشعبي ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وابن جبير : يقضي إذا أيسر ، ولا يستلف أكثر من حاجته . وبه قال الأوزاعي . وقال ابن عباس أيضاً وأبو العالية ، والحسن ، والشعبي : إنما يأكل بالمعروف إذا شرب من اللبن ، وأكل من التمر ، بما يهنأ الجرباء ويليط الحوض ، ويجد التمر وما أشبهه . فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للولي أخذها .
وقالت طائفة : المعروف أن يكون له أجر بقدر عمله وخدمته ، وهذه رواية عن الإمام أحمد . وفصل الحسن بن حي فقال : إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف ، أو وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه ، وأجرته على بيت المال . وفصل أبو حنيفة وصاحباه فقالوا : إن كان وصي اليتيم مقيماً فلا يجوز له أن يأخذ من ماله شيئاً ، وإن كان مسافراً فله أن يأخذ ما يحتاج إليه ، ولا يقتني شيئاً . وفصل الشعبي فقال : إن كان مضطراً بحال من يجوز له أكل الميتة أكل بقدر حاجته وردّ إذا وجد ، وإلاّ فلا يأكل لا سفراً ولا حضراً . وقال مجاهد : هذه الإباحة منسوخة بقوله : ) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ). وقال أبو يوسف : لعلها منسوخة بقوله : ) وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( فليس له أن يأخذ قرضاً ولا غيره . وقال ابن عباس والنخعي أيضاً : هذا الأمر ليس متعلقاً بمال اليتيم ، والمعنى : أنّ الغني يستعفف بغناه ، وأما الفقير فيأكل بالمعروف من مال نفسه ، ويقوم على نفسه بماله حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه . واختار هذا القول من الشافعية الكيا الطبري . وقيل : إن كان مال اليتيم كثيراً يحتاج إلى قيام كثير عليه بحيث يشغل الولي عن مصالح نفسه ومهماته فرض له في مال اليتيم أجر عمله ، وإن كان لا يشغله فلا يأكل منه شيئاً ، غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن ، وأكل قليل الطعام والسمن ، غير مضربه ولا مستكثر منه على ما جرت به العادة والمسامحة . وقالت طائفة منهم ربيعة ويحيى بن سعيد : هذا تقسيم لحال اليتيم ، لا لحال الوصي . والمعنى : من كان منهم غنياً فليعف بماله ، ومن كان منهم فقيراً فليقتر عليه بالمعروف والاقتصاد . ويكون من خطاب العين ، ويراد به الغير . خوطب اليتامى بالاستعفاف والأكل بالمعروف ، والمراد الأولياء . لأن اليتامى ليسوا من أهل الخطاب ، فكأنه قال للأولياء والأوصياء : إن كان اليتيم غنياً فانفقوا عليه نفقة متعفف مقتصد لئلا يذهب ماله بالتوسع في نفقته ، وإن كان فقيراً فلينفق عليه بقدر ماله لئلا يذهب فيبقى كلا مضعفاً .
فهذه أقوال ملخصها : هل تقسيم في الولي أو الصبي قولان : فإذا كان في الولي فهل الأمر متوجه إلى مال نفسه ، أو مال الصبي ؟ قولان . وإذا كان متوجهاً إلى مال الصبي ، هل ذلك منسوخ أم لا ؟ قولان . وإذا لم يكن منسوخاً ، فهل يكون تفصيلاً بالنسبة إلى الأكل أو المأكول ؟ قولان . فإذا كان بالنسبة إلى الأكل ، فهل يختص بولي الأب ،

" صفحة رقم 182 "
أو بالمسافر ، أو بالمضطر ، أو بالمشتغل بذلك عن مهمات نفسه ؟ أقوال . وإذا كان بالنسبة للمأكول ، فهل يختص بالتافه أم يتعدّى إلى غيره ؟ قولان . وإذا تعدّى إلى غيره ، فهل يكون أجرة أم لا ؟ قولان . وإذا لم يكن أجرة فأخذ ، فهل يترتب ديناً في ذمته يجب قضاؤه إذا أيسر أم لا ؟ قولان . ودلائل هذه الأقوال مذكورة في مسائل الخلاف . ولفظه فليستعفف أبلغ من فليعف ، لأن فيه طلب زيادة العفة .
( فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ ( أمر تعالى بالإشهاد لحسم مادة النزاع ، وسوء الظن بهم ، والسلامة من الضمان والغرم على تقدير إنكار اليتيم ، وطيب خاطر اليتيم بفك الحجر عنه ، وانتظامه في سلك من يعامل ويعامل . وإذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع يمينه عند أبي حنيفة وأصحابه ، وعند مالك . والشافعي : لا يصدق إلا بالبينة . فكان في الإشهاد الاحتراز من توجه الحلف المفضي إلى التهمة ، أو من وجوب الضمان إذ لم يقم البينة . وظاهر الأمر أنه واجب . وقال قوم : هو ندب .
وظاهر الآية الأمر بالإشهاد عليهم إذا دفع إليهم أموالهم ، وهي المأمور بدفعها في قوله : ) وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ( وقال عمرو بن جبير : هذا الإشهاد إنما هو على دفع الولي ما استقرضه من مال اليتيم حالة فقره إذا أيسر . وقيل : فيها دليل على وجوب القضاء على من أكل من مال اليتيم ، المعنى : أقرضتم أو أكلتم فأشهدوا هذا غرمتم . وقيل : المعنى إذا أنفقتم شيئاً على المولى عليه فاشهدوا ، حتى لو وقع خلاف أمكن إقامة البينة ، فإن مالاً قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بإشهاد على دفعه .
( وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ( أي كافياً في الشهادة عليكم . ومعناه : محسباً من أحسبني كذا ، أي كفاني ، قاله : الأعمش والطبري . فيكون فعيلاً بمعنى مفعل ، أو محاسباً ، أو حاسباً لأعمالكم يجازيكم بها ، فعليكم بالصدق ، وإياكم والكذب . فيكون في ذلك وعيد لجاحد الحق .
وحسيب فعيل بمعنى مفاعل ، كجليس وخليط ، أو بمعنى فاعل ، حول للمبالغة في الحسبان . وقال ابن عباس والسدي ومقاتل : معنى حسيباً شهيداً . وفي كفى خلاف : أهي اسم فعل ، أم فعل ؟ والصحيح أنها فعل ، وفاعله اسم الله ، والباء زائدة . وقيل : الفاعل مضمر وهو ضمير الاكتفاء ، أي : كفى هو ، أي الاكتفاء بالله ، والباء ليست بزائدة ، فيكون بالله في موضع نصب ، ويتعلق إذ ذاك بالفاعل . وهذا الوجه لا يسوغ إلا على مذهب الكوفيين ، حيث يجيزون أعمال ضمير المصدر كأعمال ظاهره . وإن عنى بالإضمار الحذف ففيه إعمال المصدر وهو موصول ، وإبقاء معموله وهو عند البصريين لا يجوز ، أعني : حذف الفاعل وحذف المصدر . وانتصب حسيباً على التمييز لصلاحية دخول مَن عليه . وقيل : على الحال . وكفى هنا متعدية إلى واحد وهو محذوف ، التقدير : وكفاكم الله حسيباً . وتأتي بغير هذا المعنى ، فتعديه إلى اثنين كقوله : ) فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ (
النساء : ( 7 ) للرجال نصيب مما . . . . .
( لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ( قيل : سبب نزولها هو خير أم كجه وقد تقدم ، قاله : عكرمة وقتادة وابن زيد . قال المروزي : كان اليونان يعطون جميع المال للبنات ، لأن الرّجل لا يعجز عن الكسب ، والمرأة تعجز . وكانت العرب لا يعطون البنات ، فردَّ الله على الفريقين . والمعنيّ : بالرجال الذكور ، وبالنساء الإناث كقوله : ) وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء ).
وأبهم في قوله : نصيب ، ومما ترك في موضع الصفة لنصيب . وقيل : يتعلق بلفظ نصيب فهو من تمامه . والوالدان : يعني والدي الرجال والنساء ، وهما أبواهم ، وسمى الأب والد ، لأن الولد منه ، ومن الوالدة . وللاشتراك جاء الفرق بينهما بالتاء كقوله : ) لاَ تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِهَا ( وجمع بالألف والتاء قياساً كقوله : ) وَالْوالِداتُ ( قال ابن عطية : كما قال الشاعر :

" صفحة رقم 183 "
بحيث يعتشّ الغراب البائض
لأن البيض من الأنثى والذكر انتهى . ولا يتعين أن يراد بالغراب هنا الذكر ، لأن لفظ الغراب ينطلق على الذكر والأنثى ، وليس مما فرق بينه وبين مؤنثه بالتاء . فهو كالّرعوب ينطلق على الذكر والأنثى ، ولا يرجح كونه ذكراً وصفه بالبائض ، وهو وصف مذكر لاحتمال أن يكون ذكر حملاً على اللفظ ، ولا يرجح كونه ذكراً وصفه بالبائض ، وهو وصف مذكر لاحتمال أن يكون ذكر جملاً على اللفظ ، إذ لم تظهر فيه علامة تأنيث كما أنث المذكر حملاً على لفظ التأنيث في قوله : وعنترة الفلحاء . وفي قوله : أبوك حليفة ولدته أخرى .
والأقربون : هم المتوارثون من ذوي القرابات . وقد أبهم في لفظ الأقربون كما أبهم في النصيب ، وعين الوارث والمقدار في الآيات بعدها . وقوله : مما قلّ منه ، هو بدل من قوله : مما ترك إلا خيراً ، أعيد معه حرف الجر ، والضمير في منه عائد على من قوله : مما ترك إلا خير . واكتفى بذكره في هذه الجملة ، وهو مراد في الجملة الأولى ، ولم يضطرّ إلى ذكره لأن البدل جاء على سبيل التوكيد ، إذ ليس فيه إلا توضيح أنه أريد بقوله : مما ترك العموم في المتروك . وهذا البدل فيه ذكر توعى المتروك من القلة أو الكثرة .
وقال أبو البقاء : مما قلّ يجوز أن يكون حالاً من الضمير المحذوف في ترك ، أي : مما تركه مستقراً مما قلّ .
ومعنى نصيباً مفروضاً : أي حظاً مقطوعاً به لا بد لهم من أن يحوزوه . وقال الزجاج ومكي : نصيباً منصوب على الحال ، المعنى : لهؤلاء أنصباء على ما ذكرنا هنا في حال الفرض . وقال الفراء : نصب لأنه أخرجه مخرج المصدر ، ولذلك وحده كقولك له : عليّ كذا حقاً لازماً ، ونحوه : ) فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ ( ولو كان اسماً صحيحاً لم ينصب ، لا تقول : لك عليّ حق درهماً انتهى . وقال الزمخشري قريباً من هذا القول قال : ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد لقوله : فريضة من الله ، كأنه قسمة مفروضة . وقال ابن عطية نحواً من كلام الزجاج قال : إنما هو اسم نصب كما ينصب المصدر في موضع الحال تقديره : فرضاً . ولذلك جاز نصبه كما تقول له : عليّ كذا وكذا حقاً واجباً ، ولولا معنى المصدر الذي فيه ما جاز في اسم الذي ليس بمصدر هذا النصب ، ولكنّ حقه الرفع انتهى كلامه . وهو مركب من كلام الزجاج والفراء ، وهما متباينان لأن الانتصاب على الحال مباين للانتصاب على المصدر المؤكد مخالف له . وقال الزمخشري : ونصيباً مفروضاً نصب على الاختصاص بمعنى أعني : نصيباً مفروضاً مقطوعاً واجباً انتهى . فإن عني بالاختصاص ما اصطلح عليه النحويون فهو مردود بكونه نكرة ، والمنصوب على الاختصاص نصوا على أنه لا يكون نكرة . وقيل : انتصب نصب المصدر الصريح ، لأنه مصدر أي نصيبه نصيباً . وقيل : حال من النكرة ، لأنها قد وصفت . وقيل : بفعل محذوف تقديره : جعلته أو ، أوجبت لهم نصيباً . وقيل : حال من الفاعل في قلّ أو كثر .
واستدلّ بظاهر هذه الآية على وجوب القسمة في الحقوق المتميزة إذا أمكنت وطلب ذلك كل واحد من الشريكين بلا خلاف . واختلفوا في قسمة المتروك على الفرائض ، إذا كانت القسمة بغيره على حاله كالحمام والرحا والبثر والدار التي تبطل منافعها بافتراق السهام . فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة : تقسم . وقال ابن أبي ليلى وأبو ثور : لا تقسم . قال ابن المنذر : وهو أصح القولين . واستدل بها أيضاً على وجوب توريث الأخ للميت مع البنت ،

" صفحة رقم 184 "
فإذا أخذت النصف أخذ الباقي . واختلف في ابني عم أحدهما أخ لام ، فقال عليّ وزيد : للأخ من الأم السدس ، وما بقي بينهما نصفان ، وهو قول فقهاء الأمصار . وقال عمر وعبد الله وشريح والحسن : المال للأخ من الأم .
النساء : ( 8 ) وإذا حضر القسمة . . . . .
( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ( قيل : نزلت في أرباب الأموال يقسمونها عندما يحضر الموت في وصية ، وجهات يختارونها ، ويحضرهم من القرابات محجوب عن الإرث ، فيوصون للأجانب ويتركون المحجوبين فيحرمون الإرث والوصية قاله : ابن عباس وابن المسيب وابن زيد وأبو جعفر . وقيل : نزلت في أرباب الفرائض يحضرهم أيضاً محجوب ، فأمروا أن يرضخوا لهم مما أعطاهم الله . روي عن ابن عباس وابن المسيب : أنها منسوخة ، وبه قال : عكرمة والضحاك قالوا : كانت قسمة جعلها الله ثلاثة أصناف ، ثم نسخ ذلك بآية الميراث ، وأعطى كل ذي حظ حظه ، وجعل الوصية للذين يحرمون ولا يرثون . وقيل : هي محكمة أمر الله من استحق إرثاً ، وحضر القسمة قريب أو يتيم أو مسكين لا يرث ، أن لا يحرموا إن كان المال كثيراً ، وأن يعتذر إليهم إن كان قليلاً ، وأمر به أبو موسى الأشعري . وقال الحسن والنخعي : كان المؤمنون يفعلون ذلك يقسمون لهم من العين الورق والفضة ، فإذا قسموا الأرضين والرقيق قالوا لهم قولاً معروفاً : بورك فيكم . وفعله عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وتلا هذه الآية . وإذا كان الوارث صغيراً لا يتصرف ، هل يفعل ذلك الولي أولاً ؟ قولان . والظاهر من سياق هذه الآية عقيب ما قبلها أنها في الوارثين لا في المحتضرين الموضين ، والذي يظهر من القسمة أنها مصدر بمعنى القسم قال تعالى : ) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ).
وقيل : المراد بالقسمة المقسوم . وقيل : القسمة الإسم من الاقتسام لا من القسم ، كالخيرة من الاختيار . ولا يكاد الفصحاء يقولون قسمت بينهم قسمة ، وروى ذلك الكسائي . وقسمتك ما أخذته من الإقسام ، والجمع قسم . وقال الخليل : القسم الحظ والنصيب من الجزء ، ويقال : قاسمت فلاناً المال وتقاسمناه واقتسمناه ، والقسم الذي يقاسمك .
وظاهر قوله : فارزقوهم ، الوجوب . وبه قال جماعة منهم : مجاهد ، وعطاء ، والزهري . وقال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن : هو ندب . وفي قوله : فارزقوهم إضافة الرزق إلى غير الله تعالى ، كما قال : ) وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ ( وقيل : كان ذلك في الورثة واجباً فنسخته آية الميراث ، والضمير في : منه عائد على المال المقسوم ، ودل عليه القسمة ، لأن القسمة وهي المصدر تدل على متعلقها وهو المال . وقيل : يعود إلى ما من قوله : ما ترك الوالدان والأقربون . ومن قال : القسمة المقسوم ، أعاد الضمير إلى القسمة على معنى التذكير ، إذ المراد المقسوم . وقدّم اليتامى على المساكين لأنّ ضعفهم أكثر ، وحاجتهم أشد ، فوضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم للأجر . والظاهر أنهم يرزقون من عين المال المقسوم ، ورأى عبيدة وابن سيرين : أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعام يأكلونه ، وفعلاً ذلك وذبحاشاة من التركة ، وقسم عند عبيدة مال ليتيم فاشترى منه شاة وذبحها ، وقال عبيدة : لولا هذه لكانت من مالي . وقوله : منه يدل على التبعيض ، ولا تقدير فيه بالإجماع ، وهذا مما يدل على الندب . إذ لو كان لهؤلاء حق معين لبين الله قدر ذلك الحق ، كما بين في سائر الحقوق . وعلى هذا فقهاء الأمصار إذا كان الورثة كبار ، وإن كانوا صغاراً فليس إلا القول المعروف .
والضمير في قوله : وقولوا لهم ، عائد على ما عاد عليه الضمير في : فارزقوهم ، وهم : أولو القربى واليتامى والمساكين . وقال ابن جرير : الآية محكمة في الوصية ، والضمير في فارزقوهم عائد على أولي القربى الموصي لهم ، وفي لهم عائد على اليتامى والمساكين . أمر أن يقال لهم قول معروف . وقيل أيضاً بتفريق الضمير ، ويكون المراد من

" صفحة رقم 185 "
أولي القربى الذين يرثون ، والمراد من اليتامى والمساكين الذين لا يرثون . فقوله : فارزقوهم راجع إلى أولي القربى . وقوله : لهم ، راجع إلى اليتامى والمساكين . وما قيل من تفريق الضمير تحكم لا دليل عليه .
والمقول المعروف فسره هنا ابن جبير أن يقول لهم : هذا المال لقوم غيب أو ليتامى صغار ، وليس لكم فيه حق . وقيل : الدعاء لهم بالرزق والغنى . وقيل : هو القول الدال على استقلال ما أرضخوهم به ، وروي عن ابن جبير . وقيل : العدة الحسنة بأن يقال : هؤلاء أيتام صغار ، فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم قاله ، عطاء بن يسار ، عن ابن جبير . وقيل : المعروف ما يؤنس به من دعاء وغيره . وظاهر الكلام أن الأصناف الثلاثة يجمع لهم بين الرزق والقول المعروف . وقيل : إما أن يعطوا وإما أن يقال لهم قول معروف .
النساء : ( 9 ) وليخش الذين لو . . . . .
( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً ( ظاهر هذه الجملة أنه أمر بخشية الله واتقائه . والقول السديد من ينظر في حال ذرية ضعاف لتنبيهه على ذلك بكونه هو يترك ذرية ضعافاً ، فيدخل في ذلك ولاة الأيتام ، وبه فسر ابن عباس . والذي ينهى المحتضر عن الوصية لذوي القربى ، ومن يستحق ويحسن له الإمساك على قرابته وأولاده . وبه فسر مقسم وحضرمي ، والذي يأمر المحتضر بالوصية لفلان وفلان ويذكره بأن يقدم لنفسه ، وقصده إيذاء ورثته بذلك . وبه فسر ابن عباس أيضاً وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد . وقالت فرقة : المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس ، وإن لم يكونوا في حجرهم . وأن يسددو لهم القول كما يحبون أن يفعل بأولادهم . قال الزمخشري : ويجوز أن يتصل بما قبله ، وأن يكون آمراً للورثة بالشفقة على الذين يحضرون القسمة من ضعفاء أقاربهم واليتامى والمساكين ، وأن يتصور أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين ، هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخشية ؟ انتهى كلامه . وهو ممكن أن يكون مراداً . قال القاضي : الأليق بما تقدم وما تأخر أن يكون من الآيات الواردة في الأيتام ، فجعل تعالى آخر ما دعاهم به إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ، ولا شك أن هذا من أقوى البواعث في هذا المقصود على الاحتياط فيه .
وقرأ الزهري والحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر : بكسر لام الأمر في : وليخش ، وفي : فليتقوا ، وليقولوا . وقرأ الجمهور : بالإسكان . ومفعول وليخش محذوف ، ويحتمل أن يكون اسم الجلالة أي الله ، ويحتمل أن يكون هذا الحذف على طريق الأعمال ، أعمل فليتقوا . وحذف معمول الأول ، إذ هو منصوب يجوز أن يحذف اقتصاراً ، فكان حذفه اختصاراً أجوز ، ويصير نحو قولك : أكرمت فبررت زيداً . وصلة الذين الجملة من لو وجوابها . قال ابن عطية : تقديره لو تركوا لخانوا . ويجوز حذف اللام في جواب لو تقول : لو قام زيد لقام عمرو ، ولو قام زيد قام عمرو ، انتهى كلامه . وقال الزمخشري : معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً وذلك عند احتضارهم ، خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل : لقد زاد الحياة إليّ حبا
بناتي إنهنّ من الضعاف
أحاذر أن يرثن البؤس بعدي
وأن يشربن رنقاً بعد صاف
انتهى كلامه . وقال غيرهما : لو تركوا ، لو يمتنع بها الشيء لامتناع غيره ، وخافوا جواب لو انتهى .
فظاهر هذه

" صفحة رقم 186 "
النصوص أنّ لو هنا التي تكون تعليقاً في الماضي ، وهي التي يعبر عنها سيبويه : بأنها حرف لما كان يقع لوقوع غيره . ويعبر غيره عنها بأنها حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره . وذهب صاحب التسهيل : إلى أنَّ لو هنا شرطية بمعنى أن فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال ، والتقدير : وليخش الذين إن تركوا من خلفهم . قال : ولو وقع بعد لو هذه مضارع لكان مستقبل المعنى كما يكون بعد أن قال الشاعر : لا يلفك الراجيك إلا مظهرا
خلق الكريم ولو تكون عديماً
وكان قائل هذا توهم أنه لما أمروا بالخشية ، والأمر مستقبل ، ومتعلق الأمر هو موصول ، لم يصلح أن تكون الصلة ماضية على تقدير دالة على العدم الذي ينافي امتثال الأمر . وحسن مكان لو لفظ أن فقال : إنها تعليق في المستقبل ، وأنها بمعنى إن . وكأن الزمخشري عرض له هذا التوهم ، فلذلك قال : معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا ، فلم تدخل لو على مستقبل ، بل أدخلت على شارفوا الذي هو ماض أسند للموصول حالة الأمر . وهذا الذي توهموه لا يلزم في الصلة إلا إن كانت الصلة ماضية في المعنى ، واقعة بالفعل . إذ معنى : لو تركوا من خلفهم ، أي ماتوا فتركوا من خلفهم ، فلو كان كذلك للزم التأويل في لو أن تكون بمعنى : أن إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل من مات بالفعل . أما إذا كان ماضياً على تقدير يصح أن يقع صلة ، وأن يكون العامل في الموصول الفعل المستقبل نحو قولك : ليزرنا الذي لو مات أمس بكيناه . وأصل لو أن تكون تعليقاً في الماضي ، ولا يذهب إلى أنه يكون في المستقبل بمعنى : إن ، إلا إذ دلّ على ذلك قرينة كالبيت المتقدّم . لأن جواب لو فيه محذوف مستقبل لاستقبال ما دل عليه وهو قوله : لا يلفك . وكذلك قوله : قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم
دون النساء ولو بانت بإطهار
لدخول ما بعدها في حيز إذا ، وإذا للمستقبل . ولو قال قائل : لو قام زيد قام عمر ، ولتبادر إلى الذهن أنه تعليق في الماضي دون المستقبل . ومن خلفهم متعلق بتركوا . وأجاز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من ذرية .
وقرأ الجمهور ضعافاً جمع ضعيف ، كظريف وظراف . وأمال فتحة العين حمزة ، وجمعه على فعال قياس . وقرأ ابن محيصن : ضعفاً بضمتين ، وتنوين الفاء . وقرأت عائشة والسلمي والزهري وأبو حيوة وابن محيصن أيضاً : ضعفاء بضم الضاد والمد ، كظريف وظرفاء ، وهو أيضاً قياس . وقرىء ضعافى وضعافى بقالإمالة ، نحو سكارى وسكارى . وأمال حمزة خافوا للكسرة التي تعرض له في نحو : خفت . وانظر إلى حسن ترتيب هذه الأوامر حيث بدأ أولاً بالخشية التي محلها القلب وهي الاحتراز من الشيء بمقتضى العلم ، وهي الحاملة على التقوى ، ثم أمر بالتقوى ثانياً وهي متسببة عن الخشية ، إذ هي جعل المرء نفسه في وقاية مما يخشاه . ثم أمر بالقول السديد ، وهو ما يظهر من الفعل الناشىء عن التقوى الناشئة عن الخشية . ولا يراد تخصيص القول السديد فقط ، بل المعنى على الفعل والقول السديدين . وإنما اقتصر على القول السديد لسهولة ذلك على الإنسان ، كأنه قيل : أقل ما يسلك هو القول السديد . قال مجاهد : يقولون للذين يفرقون المال زد فلاناً وأعط فلاناً . وقيل : هو الأمر بإخراج الثلث فقط . وقيل : هو تلقين المحتضر الشهادة . وقيل : الصدق في الشهادة . وقيل : الموافق للحق . وقيل : للعدل . وقيل : للقصد . وكلها متقاربة .
والسداد : الاستواء في القول والفعل . وأصل السد إزالة الاختلال . والسديد يقال في معنى الفاعل ، وفي معنى المفعول . ورجل

" صفحة رقم 187 "
سديد متردد بين المعنيين ، فإنه يسدّد من قبل متبوعه ، ويسدّد لتابعه .
النساء : ( 10 ) إن الذين يأكلون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ( نزلت في المشركين كانوا يأكلون أموال اليتامى ولا يورثونهم ولا النساء ، قاله : ابن زيد . وقيل : في حنظلة بن الشمردل ، ولي يتيماً فأكل ماله . وقيل : في زيد بن زيد الغطفاني ولي مال ابن أخيه فأكله ، قاله : مقاتل . وقال الأكثرون : نزلت في الأوصياء الذين يأكلون من أموال اليتامى ما لم يبح لهم ، وهي تتناول كل أكل بظلم لم يكن وصياً وانتصاب ظلماً على أنه مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله ، وخبران هي الجملة من قوله : إنما يأكلون . وفي ذلك دليل على جواز وقوع الجملة المصدرة بأن خبراً ، لأن وفي ذلك خلاف . وحسن ذلك هنا تباعدهما بكون اسم إنّ موصولاً ، فطال الكلام بذكر صلته . وفي بطونهم : معناه ملء بطونهم يقال : أكل في بطنه ، وفي بعض بطنه . كما قال : كلوا في بعض بطنكم تعفوا
فإن زمانكم زمن خميص
والظاهر : تعلق في بطونهم بيأكلون ، وقاله الحوفي . وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال من قوله : ناراً . ونبّه بقوله : في بطونهم على نقصهم ، ووصفهم بالشره في الأكل ، والتهافت في نيل الحرام بسبب البطن . وأين يكون هؤلاء من قول الشاعر ؟
تراه خميص البطن والزاد حاضر
وقول الشنفري : وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
وظاهر قوله : ناراً أنهم يأكلون ناراً حقيقة . وفي حديث أبي سعيد عن ليلة الإسراء قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( رأيت قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صحراً من نار يخرج من أسافلهم ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ويأكلهم النار حقيقة ) قالت طائفة : وقيل : هو مجاز ، لما كان أكل مال اليتيم يجر إلى النار والتعذيب ، بها عبر عن ذلك بالأكل في البطن ، ونبه على الحامل على أخذ المال وهو البطن الذي هو أخس الأشياء التي ينتفع بالمال لأجلها ، إذ مآل ما يوضع فيه إلى الاضمحلال والذهاب في أقرب زمان . ولذلك قال : ) أَمَّا مَلأٌ الإِنسَانَ وِعَاء شَرّاً مِنْ بَطْنِهِ ).
وقرأ الجمهور : وسيصلون مبنياً للفاعل من الثلاثي . وقرأ ابن عامر وأبو بكر : بضم الياء وفتح اللام مبنياً للمفعول من الثلاثي . وابن أبي عبلة : بضم الياء وفتح الصاد واللام مشدّدة مبنياً للمفعول . والصلامن : التسخن بقرب النار ، والإحراق إتلاف الشيء بالنار . وعبر بالصلا بالنار عن العذاب الدائم بها ، إذ النار لا تذهب ذواتهم بالكلية ، بل كما قال : ) كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ ( وهذا وعيد عظيم على هذه المعصية . وجاء يأكلون

" صفحة رقم 188 "
بالمضارع دون سين الاستقبال ، وسيصلون بالسين ، فإن كان الأكل للنار حقيقة فهو مستقبل ، واستغنى عن تقييده بالسين بعطف المستقبل عليه . وإن كان مجازاً فليس بمستقبل ، إذ المعنى : يأكلون ما يجر إلى النار ويكون سبباً إلى العذاب بها . ولما كان لفظ نار مطلقاً في قوله : إنما يأكلون في بطونهم ناراً ، قيد في قوله سعيراً ، إذ هو الجمر المتقد .
وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والفصاحة . الطباق في : واحدة وزوجها ، وفي غنياً وفقيراً ، وفي : قل أو كثر . والتكرار في : اتقوا ، وفي : خلق ، وفي : خفتم ، وأن لا تقسطوا ، وأن لا تعدلوا من جهة المعنى ، وفي اليتامى ، وفي النساء ، وفي فادفعوا إليهم أموالهم ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم ، وفي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، وفي قوله : وليخش ، وخافوا من جهة المعنى على قول من جعلهما مترادفين ، وإطلاق اسم المسبب على السبب في : ولا تأكلوا وشبهه لأن الأخذ سبب للأكل . وتسمية الشيء باسم ما كان عليه في : وآتوا اليتامى ، سماهم يتامى بعد البلوغ . والتأكيد بالاتباع في : هنيئاً مريئاً وتسمية الشيء باسم ما يؤول اليه في : نصيب مما ترك ، وفي ناراً على قول من زعم أنها حقيقة . والتجنيس المماثل في : فادفعوا فإذا دفعتم ، والمغاير في : وقولوا لهم قولاً . والزيادة للزيادة في المعنى في : فليستعفف . وإطلاق كل على بعض في : الأقربون ، إذ المراد أرباب الفرائض . وإقامة الظرف المكاني مقام الزماني في : خلفهم ، أي من بعد وفاتهم . والاختصاص في : بطونهم ، خصها دون غيرها لأنها محل للمأكولات . والتعريض في : في بطونهم ، عرض بذكر البطون لحسنهم وسقوط هممهم والعرب تذم بذلك قال : دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وتأكيد الحقيقة بما يرفع احتمال المجاز بقوله : في بطونهم . رفع المجاز العارض في قوله : ) أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ( وهذا على قول من حمله على الحقيقة ، ومن حمله على المجاز فيكون عنده من ترشيخ المجاز ، ونظير كونه رافعاً للمجاز قوله : ) يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( ، وقوله : ) يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ). والحذف في عدة مواضع .
2 ( ) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِىأَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاٍّ نْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلاًّبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاٌّ مِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلاٌّ مِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ) ) 2
النساء : ( 11 ) يوصيكم الله في . . . . .
( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( لما أبهم في قوله : ) نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ ( في المقدار والأقربين ، بيّن في هذه الآية المقادير ومن يرث من الأقربين ، وبدأ بالأولاد وارثهم من والديهم ، كما بدأ في قوله : للرّجال نصيب مما ترك الوالدان بهم . وفي قوله : يوصيكم الله في أولادكم إجمال أيضاً بينه بعد . وبدأ بقوله : للذكر ، وتبين ما له دلالة على فضله . وكان تقديم الذكر أدل على فضله من ذكر بيان نقص الأنثى عنه ، ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث ، فكفاهم إن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن إذ هن يدلين بما يدلون به من

" صفحة رقم 189 "
الولدية .
وقد اختلف القول في سبب النزول ، ومضمن أكثر تلك الأقاويل : أنهم كانوا لا يورّثون البنات كما تقدم ، فنزلت تبييناً لذلك ولغيره . وقيل : نزلت في جابر إذ مرض ، فعاده الرسول فقال : كيف أصنع في مالي ؟ وقيل : كان الإرث للولد والوصية للوالدين ، فنسخ بهذه الآيات . قيل : معنى يوصيكم يأمركم . كقوله : ) ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ( وعدل إلى لفظ الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام ، وطلب حصوله سرعة ، وقيل : يعهد إليكم كقوله : ) مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ( وقيل : يبين لكم في أولادكم مقادير ما أثبت لهم من الحق مطلقاً بقوله ) لّلرّجَالِ وَأَلَّوِ الاْرْحَامِ ( وقيل : يفرض لكم . وهذه أقوال متقاربة .
والخطاب في : يوصيكم ، للمؤمنين ، وفي أولادكم : هو على حذف مضاف . أي : في أولاد موتاكم ، لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده ويفرض عليه ذلك ، وإن كان المعنى بيوصيكم يبين جاز أن يخاطب الحي ، ولا يحتاج إلى حذف مضاف . والأولاد يشمل الذكور والإناث ، إلا أنه خص من هذا العموم من قام به مانع الإرث ، فأما الرّق فمانع بالإجماع ، وأما الكفر فكذلك ، إلا ما ذهب إليه معاذ من : أن المسلم يرث الكافر . وأما القتل فإن قتل أباه لم يرث ، وكذا إذا قتل جده وأخاه أو عمه ، لا يرث من الدية ، هذا مذهب ابن المسيب ، وعطاء ، ومجاهد ، والزهري ، والأوزاعي ، ومالك ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وابن المنذر . وقال أبو حنيفة وسفيان وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد : لا يرث من المال ، ولا من الدية شيئاً . واستثنى النخعي من عموم أولادكم الأسير ، فقال : لا يرث .
وقال الجمهور : إذا علمت حياته يرث ، فإن جهلت فحكمه حكم المفقود . واستثنى من العموم الميراث من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأما الجنين فإن خرج ميتاً لم يرث ، وإن خرج حياً فقال القاسم ، وابن سيرين ، وقتادة ، والشعبي ، والزهري ، ومالك ، والشافعي : يستهل صارخاً ، ولو عطس أو تحرك أو صاح أو رضع أو كان فيه نفس . وقال الأوزاعي وسفيان والشافعي : إذا عرفت حياته بشيء من هذه ، وإن لم يستهل فحكمه حكم الحي في الإرث . وأما الجنين في بطن أمه فلا خلاف في أنه يرث ، وإنما الخلاف في قسمة المال الذي له فيه سهم . وذلك مذكور في كتب الفقه . وأما الخنثى فداخل في عموم أولادكم ، ولا خلاف في توريثه ، والخلاف فيما يرث وفيما يعرف به أنه خنثى ، وذلك مذكور في كتب الفقه . وأما المفقود فقال أبو حنيفة : لا يرث في حال فقده من أحد شيئاً .
وقال الشافعي : يوقف نصيبه حتى يتحقق موته ، وهو ظاهر قول مالك : وأما المجنون والمعتوه والسفيه فيرثون إجماعاً ، والولد حقيقة في ولد الصلب ويستعمل في ولد الابن ، والظاهر أنه مجاز . إذ لو كان حقيقة بطريق الاشتراك أو التواطىء لشارك ولد الصلب مطلقاً ، والحكم أنه لا يرث إلا عند عدم ولد الصلب ، أو عند وجود من لا يأخذ جميع الميراث منهم .
وهذا البحث جار في الأب والجد والأم والجدة ، والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة لاتفاق الصحابة على أنَّ الجد ليس له حكم مذكور في القرآن ، ولو كان اسم الأب يتناوله حقيقة لما صح هذا الاتفاق . ولو أوصى لولد فلان فعند الشافعي لا يدخل ولد الولد ، وعند مالك يدخل ، وعند أبي حنيفة يدخل إن لم يكن لفلان ولد صلب .
وللذكر : إما أن يقدّر محذوف أي : للذكر منهم ، أو تنوب الألف واللام عن الضمير على رأي من يرى ذلك التقدير لذكرهم . ومثل : صفة لمبتدأ محذوف تقديره حظ مثل .
قال الفراء : ولم يعمل يوصيكم في مثل إجراء له مجرى القبول في حكاية الجمل ، فالجملة في موضع نصب بيوصيكم . وقال الكسائي : ارتفع مثل على حذف أن تقديره : أنّ للذكر . وبه قرأ ابن أبي عبلة وأريد بقوله : للذكر مثل حظ الأنثيين حالة اجتماع الذكر والأنثيين فله سهمان ، كما أن لهما سهمين . وأما إذا انفرد الابن فيأخذ المال أو البنتان ، فسيأتي حكم ذلك . ولم تتعر الآية للنص على هاتين المسألتين .
وقال أبو مسلم الأصبهاني : نصيب الذكر هنا هو الثلثان ، فوجب أن يكون نصيب الانثيين . وقال أبو بكر الرازي : إذا كان نصيبها مع الذكر الثلث ، فلا أن يكون نصيبها مع أنثى الثلث أولى ، لأن الذكر أقوى من الأنثى . وقيل : حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى ، وإلا لزم حظ

" صفحة رقم 190 "
الذكر مثل حظ الأنثى ، وهو خلاف النص ، فوجب أن يكون حظهما الثلثين ، لأنه لا قائل بالفرق . فهذه وجوه ثلاثة مستنبطة من الآية تدل على أن فرض البنتين الثلثان . ووجه رابع من القياس الجلي وهو أنه لم يذكر هنا حكم الثنتين ، وذكر حكم الواحدة وما فوق الثنتين . وفي آخر السورة ذكر حكم الأخت الواحدة ، وحكم الأختين ، ولم يذكر حكم الأخوات ، فصارت الآيتان مجملتين من وجه ، مبينتين من وجه .
فنقول : لما كان نصيب الأختين الثلثين ، كانت البنتان أولى بذلك لأنهما أقرب إلى الميت . ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزاد على الثلثين ، وجب أن لا يزاد نصيب الأخوات على ذلك ، لأن البنت لما كانت أشدّ اتصالاً بالميت امتنع جعل الأضعف زائداً على الأقوى . وقال الماتريدي : في الآية دليل على أن المال كله للذكر إذا لم كن معه أنثى ، لأنه جعل للذكر مثل ما للأنثيين . وقد جعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر بقوله : ) وَإِن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ ( فدل على أن للذكر حالة الانفراد مثلي ذلك ومثلاً النصف ، هو الكل انتهى .
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة : يوصيكم بالتشديد . وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة والأعرج : ثلثاً والثلث والربع والسدس والثمن بإسكان الوسط ، والجمهور بالضم ، وهي لغة الحجاز وبني أسد ، قاله : النحاس من الثلث إلى العشر . وقال الزجاج هي لغة واحدة ، والسكون تخفيف ، وتقدير الآية : يوصيكم الله في شأن أولادكم الوارثين للذكر منهم حظ مثل حظ الأنثيين حالة اجتماعهم مما ترك المورثون أن انفرد بالإرب ، فإن كان معهما ذو فرض كان ما يبقى من المال لهما ، والفروض هي المذكورة في القرآن وهي ستة : النصف ، والربع ، والثمن ، والثلثان ، والثلث ، والسدس .
( فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ( ظاهر هذا التقسيم أنّ ما زاد على الثنتين من الأولاد يرثن الثلثين مما ترك موروثهما ، وظاهر السياق انحصار الوارث فيهن . ولما كان لفظ الأولاد يشمل الذكور والإناث ، وقصد هنا بيان حكم الإناث ، أخلص الضمير للتأنيث . إذ الإناث أحد قسمي ما ينطلق عليه الأولاد ، فعاد الضمير على أحد القسمين ، وكأن قوله تعالى : ) فِى أَوْلَادِكُمْ ( في قوة قوله : ) فِى أَوْلَادِكُمْ ( الذكور والإناث . وإذا كان الضمير قد عاد على جمع التكسير العاقل المذكر بالنون في نحو قوله : ورب الشياطين ومن أضللن كما يعود على الإناث كقوله : ) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ ( فلأن يعود على جمع التكسير العاقل الجامع للمذكر والمؤنث ، باعتبار أحد القسمين الذي هو المؤنث أولى ، واسم كان الضمير العائد على أحد قسمي الأولاد ، والخبر نساء بصفته الذي هو فوق اثنتين ، لأنه لا تستقل فائدة الأخبار بقوله : نساء وحده ، وهي صفة للتأكيد ترفع أن يراد بالجمع قبلهما طريق المجاز ، إذ قد يطلق الجمع ويراد به التشبيه وأجاز الزمخشري نساء خبراً ثانياً ، لكان ، وليس بشيء ، لأن الخبر لا بد أن تستقل به فائدة الإسناد . ولو سكت على قوله فإن كن نساء لكان نظير ، أن كان الزيدون رجالاً ، وهذا ليس بكلام . وقال بعض البصريين : التقدير وإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين . وقدره الزمخشري : البنات أو المولودات .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هل يصح أن يكون الضميران في كن وكانت مبهمين ، ويكون نساء وواحدة تفسيراً لهما على أن كان تامّة ؟ ( قلت ) : لا أبعد ذلك انتهى . ونعني بالإبهام أنهما لا يعودان على مفسر متقدّم ، بل يكون مفسرهما هو المنصوب بعدهما ، وهذا الذي لم يبعده الزمخمشري هو بعيد ، أو ممنوع ألبتة . لأن كان ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمراً يفسره ما بعده ، بل هو مختص من الأفعال بنعم وبئس وما حمل عليهما ، وفي باب التنازع على ما قرر في

" صفحة رقم 191 "
النحو . ومعنى فوق اثنتين : أكثر من اثنتين بالغات ما بلغن من العدد ، فليس لهن إلا الثلثان . ومن زعم أن معنى قوله : نساء فوق اثنتين ، اثنتان فما فوقهما ، وأنّ قوة الكلام تقتضي ذلك كابن عطية ، أو أنّ فوق زائدة مستدلاً بأن فوق قد زيدت في قوله : ) فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ ( فلا يحتاج في ردّ ما زعم إلى حجة لوضوح فساده . وذكروا أنّ حكم الثنتين في الميراث الثلثان كالبنات . قالوا : ولم يخالف في ذلك إلا ابن عباس ، فإنه يرى لهما النصف إذا انفردا كحالهما إذا اجتمعا مع الذكر ، وما احتجوا به تقدّم ذكره . وورد في الحديث في قصة أوس بن ثابت : ( أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أعطى البنتين الثلثين ) وبنات الابن أو الأخوات الأشقاء أو لأب كبنات الصلب في الثلثين إذا انفردن عن من يحجبهن .
( وَإِن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ ( قرأ الجمهور واحدة بالنصب على أنه خبر كان ، أي : وإن كانت هي أي البنت فذة ليس معها أخرى . وقرأ نافع واحدة بالرفع على إن كان تامة وواحدة الفاعل . وقرأ السلمي : النصف بضم النون ، وهي قراءة عليّ وزيد في جميع القرآن . وتقدّم الخلاف في ضم النون وكسرها في ( فنصف ما فرضتم ( في البقرة . وبنت الابن إذا لم تكن بنت صلب ، والأخت الشقيقة أو لأب ، والزوج إذا لم يكن للزوجة ولد ، ولا ولد ابن كبنت الصلب لكل منهم النصف .
( ( في البقرة . وبنت الابن إذا لم تكن بنت صلب ، والأخت الشقيقة أو لأب ، والزوج إذا لم يكن للزوجة ولد ، ولا ولد ابن كبنت الصلب لكل منهم النصف .
( وَلاِبَوَيْهِ لِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ( لما ذكر الفروع ومقدار ما يرثون أخذ في ذكر الأصول ومقدار ما يرثون ، فذكر أنّ الميت يرث منه أبواه كل واحد السدس إن كان للميت ولد ، وأبواه هما : أبوه وأمه . وغلب لفظ الأب في التثنية كما قيل : القمران ، فغلب القمر لتذكيره على الشمس ، وهي تثنية لا تقاس . وشمل قوله : وله ولد الذكر والأنثى ، والواحد والجماعة .
وظاهر الآية أن فرض الأب السدس إذا كان للميت ولد أي ولد كان ، وباقي المال للولد ذكراً كان أو أنثى . والحكم عند الجمهور أنه لو كان الولد أنثى أخذ السدس فرضاً ، والباقي تعصيباً . وتعلقت الروافض بظاهر لفظ ولد فقالوا : السدس لكل واحد من أبويه ، والباقي للبنت أو الابن ، إذ الولد يقع على : الذكر ، والأنثى ، والجد ، وبنات الابن مع البنت ، والأخوات لأب مع أخت لأب وأم ، والواحدة من ولد الأم ، والجدات كالأب مع البنت في السدس . وقال مالك : لا ترث جدة أبي الأب . وقال ابن سيرين : لا ترث أم الأم .
والضمير في لأبويه عائد على ما عاد عليه الضمير في ترك ، وهو ضمير الميت الدال عليه معنى الكلام وسياقه . ولكل واحد منهما بدل من أبويه ، ويفيد معنى التفصيل . وتبيين أن السدس لكل واحد ، إذ لولا هذا البدل لكان الظاهر اشتراكهما في السدس ، وهو أبلغ وآكد من قولك : لكل واحد من أبويه السدس ، إذ تكرر ذكرهما مرتين : مرة بالإظهار ، ومرة بالضمير العائد عليهما . قال الزمخشري : والسدس مبتدأ ، وخبره لأبويه ، والبدل متوسط بينهما انتهى . وقال أبو البقاء : السدس رفع بالابتداء ، ولكل واحد منهما الخبر ، ولكل بدل من الأبوين ، ومنهما نعت لواحد . وهذا البدل هو بدل بعض من كل ، ولذلك أتى بالضمير ، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء ، وهما لعين واحدة ، لجواز أبواك يصنعان كذا ، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا . بل تقول : يصنع كذا . وفي قول الزمخشري : والسدس مبتدأ وخبره لأبويه نظر ، لأنّ البدل هو الذي يكون الخبر له

" صفحة رقم 192 "
دون المبدل منه ، كما مثلناه في قولك : أبواك كل واحد منهما يصنع كذا ، إذا أعربنا كلا بدلاً . وكما تقول : إنّ زيداً عينه حسنه ، فلذلك ينبغي أن يكون إذا وقع البدل خبراً فلا يكون المبدل منه هو الخبر ، واستغنى عن جعل المبدل منه خبراً بالبدل كما استغنى عن الاخبار عن اسم إن وهو المبدل منه بالاخبار عن البدل . ولو كان التركيب : ولأبويه السدسان لا وهم التنصيف أو الترجيح في المقدار بين الأبوين ، فكان هذا التركيب القرآني في غاية النصية والفصاحة ، وظاهر قوله : ولأبويه ، أنهما اللذان ولدا الميت قريباً لا جداه ، ولا مَن علا من الأجداد . وزعموا أن قوله : أولادكم ، يتناول من سفل من الأبناء . قالوا : لأنّ الأبوين لفظ مثنى لا يحتمل العموم ولا الجمع ، بخلاف قوله : في أولادكم . وفيما قالوه : نظروهما عندي سواء في الدلالة ، إن نظر إلى حمل اللفظ على حقيقته فلا يتناول إلا الأبناء الذين ولدهم الأبوان قريباً ، لا من سفل كالأبوين لا يتناول إلا من ولداه قريباً ، لا من علا . أو إلى حمل اللفظ على مجازه ، فيشترك اللفظان في ذلك ، فينطلق الأبوان على من ولداه قريباً . ومن علا كما ينطلق الأولاد على من ولداهم قريباً . ومن سفل يبين حمله على الحقيقة في الموضعين أنَّ ابن الابن لا يرث الابن ، وأن الجدة لا يفرض لها الثلث بإجماع ، فلم ينزل ابن الابن منزلة الابن مع وجوده ، ولا الحدة منزلة الأم .
( فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاِمّهِ الثُّلُثُ ( قوله : فإن لم يكن له ولد قسيم لقوله : ) إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ( وورثه أبواه دليل عل أنهما انفردا بميراثه ليس معهما أحد من أهل السهام ، لا ولد ولا غيره ، فيكون قوله : وورثه أبواه حكما لهما بجميع المال . فإذا خلص للأم الثلث كان الثاني وهو الثلثان للأب ، فذكر القسم الواحد يدل على الآخر كما تقول : هذا المال لزيد وعمرو ، لزيد منه الثلث ، فيعلم قطعاً أن باقيه وهو الثلثان لعمرو . فلو كان معهما زوج كان للأم السدس وهو : الثلث بالإضافة إلى الأب . وقال ابن عباس وشريح : للأم الثلث من جميع المال مع الروح ، والنصف للزوج ، وما بقي للأب ، فيكون معنى : وورثه أبواه منفردين أو مع غير ولد ، وهذا مخالف لظاهر قوله : وورثه أبواه . إذ يدل على أنهما انفرد بالإرث ، فيتقاسمان للذكر مثل حظ الأنثيين . ولا شك أن الأب أقوى في الإرث من الأم ، إذ يضعف نصيبه على نصيبها إذ انفرد بالإرث ، ويرث بالفرض وبالتعصيب وبهما . وفي قول ابن عباس وشريح : يكون لها مع الزوج والأب مثل حظ الذكرين ، فتصير أقوى من الأب ، وتصير الأنثى لها مثلاً حظ الذكر ، ولا دليل على ذلك من نص ولا قياس .
وفي إقامة الجد مقام الأب خلاف . فمن قال : أنه أب وحجب به الإخوة جماعة منهم : أبو بكر رضي الله عنه ، ولم يخالفه أحد من الصحابة في أيام حياته . وقال بمقالته بعد وفاته : أبي ومعاذ ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، وابن الزبير عبد الله ، وعائشة ، وعطاء ، وطاووس ، والحسن ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وإسحاق ، وأبو ثور . وذهب علي ، وزيد ، وابن مسعود : إلى توريث الجد مع الأخوة ، ولا ينقص من الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأم أو للأب ، إلا مع ذوي الفروض ، فإنه لا ينقص معهم من السدس شيئاً في قول : زيد ، وهو قول : مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، ومحمد ، وأبي يوسف . كان عليّ يشرك بين الجد والإخوة في السدس ، ولا ينقصه من السدس شيئاً مع ذوي الفروض وغيرهم ، وهو قول ابن أبي ليلى . وذهب الجمهور : إلى أنَّ الجد يسقط بني الإخوة من الميراث ، إلا ما روي عن الشعبي عن علي : أنه أجرى بني الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة .
وأما أم الأم فتسمى أما مجاز ، لكن لا يفرض لها الثلث إجماعاً ، وأجمعوا على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم ، وعلى أن الأم تحجب أمها وأم الأب ، وعلى أن الأب لا يحجب أم الأم . واختلفوا في توريث الجدة وابنتها . فروي عن عثمان وعلي وزيد : أنها لا ترث وابنتها حية ، وبه قال : الأوزاعي ، والثوري ، ومالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي . وروي عن عثمان وعلي أيضاً ، وعمروابن مسعود وأبي موسى وجابر : أنها ترث معها . وقال به : شريك ، وعبيد الله بن

" صفحة رقم 193 "
الحسن ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر . وقال : كما أن الجد لا يحجبه إلا الأب ، كذلك الجدة لا يحجبها إلا الأم . وقرأ الإخوان : فلامه هنا موضعين ، وفي القصص ) فِى أُمّهَا ( وفي الزخرف : في ) أُمُّ الْكِتَابِ ( بكسر الهمزة ، لمناسبة الكسرة والياء . وكذا قرأ من ) بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ( في النحل والزمر والنجم ، أو ) بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ ( في النور . وزاد حمزة : في هذه كسر الميم اتباعاً لكسرة الهمزة وهذا في الدرج . فإذا ابتدأ بضم الهمزة ، وهي قراءة الجماعة درجاً وابتداء . وذكر سيبويه أن كسر الهمزة من أم بعد الياء ، والكسر لغة . وذكر الكسائي والفراء : أنها لغة هوازن وهذيل .
( فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلاِمِهِ السُّدُسُ ( ، وصار الأب يأخذ خمسة الأسداس . وذهب ابن عباس إلى أن الأخوة يأخذون ما حجبوا الأم عنه وهو السدس ، ولا يأخذه الأب . وروي عنه : أن الأب يأخذه لا الأخوة ، لقول الجماعة من العلماء . قال قتادة : وإنما أخذه الأب دونهم لأنه يمونهم ويلي نكاحهم والنفقة عليهم . وظاهر لفظ إخوة اختصاصه بالجمع المذكر ، لأن إخوة جمع أخ . وقد ذهب إلى ذلك طائفة فقالوا : الأخوة تحجب الأم عن الثلث دون الأخوات ، وعندنا يتناول الجمعين على سبيل التعليب . فإذن يصير المراد بقوله : أخوة ، مطلق الأخوة ، أي : أشقاء ، أو لأب ، أو لأم ، ذكوراً أو إناثاً ، أو الصنفين . وظاهر لفظ أخوة ، الجمع . وأن الذين يحطون الأم إلى السدس ثلاثة فصاعداً ، وهو قول : ابن عباس : الأخوات عنده في حكم الواحد لا يحطان كما لا يحط ، فالجمهور على أن الأخوين حكمهما في الحط حكم الثلاث فصاعداً .
ومنشأ الخلاف : هل الجمع أقله اثنان أو ثلاثة ؟ وهي مسألة يبحث فيها في أصول الفقه ، والبحث فيها في علم النحو أليق . وقال الزمخشري : الأخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية ، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية ، وهو موضع الدلالة على الجمع المطلق ، فدل بالأخوة عليه انتهى . ولا نسلم له دعوى أن الأخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة ، بل تفيد معنى الجمعية التي بعد التثنية بغير كمية فيما بعد التثنية ، فيحتاج في إثبات دعواه إلى دليل . وظاهر أخوة الإطلاق ، فيتناول الأخوة من الأم فيحجبون كما قلنا قبل . وذهب الروافض : إلى أنّ الأخوة من الأم لا يحجبون الأم ، لأنهم يدلون بها ، فلا يجوز أن يحجبوها ويجعلوه لغيرها فيصيرون ضارين لها نافعين لغيرها . واستدل بهذه الآية على أن البنت تقلب حق الأم من الثلث إلى السدس بقوله : فإن كان له أخوة ، لأنها إذا حرمت الثلث بالأخوة وانتقلت إلى السدس فلان تحرم بالبنت أولى .
( مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ ( المعنى : أنَّ قسمة المال بين من ذكر إنما تكون

" صفحة رقم 194 "
بعد خروج ما يجب إخراجه بوصية ، أو بدين . وليس تعلق الدين والوصية بالتركة سواء ، إذ لو هلك من التركة شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعاً ، ويبقى الباقي بينهم بالشركة ، ولا يسقط من الدين شيء بهلاك شيء من التركة . وتفصيل الميراث على ما ذكروا أنه بعد الوصية يدل على أنه لا يراد ظاهر إطلاق وصية من جواز الوصية بقليل المال وكثيره ، بل دل ذلك على جواز الوصية بنقص المال . ويبين أيضاً ذلك قوله : ) لّلرّجَالِ نَصِيبٌ ( ، الآية . إذ لو جازت الوصية بجميع المال لكان هذا الجواز ناسخاً لهذه الآية ، وقد دل الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول على أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث . وقد استحبوا النقصان عنه هذا إذا كان له وارث ، فإن لم يكن له وارث ، فقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح : لا تجوز الوصية إلا في الثلث . وقال شريك وأبو حنيفة وأصحابه : يجوز بجميع ماله ، لأنّ الامتناع في الوصية بأكثر من الثلث معلل بوجود الورثة ، فإذا لم يوجد وأجاز لظاهر إطلاق الوصية ، لأنه إذا فقد موجب تخصيص البعض جاز حمل اللفظ على ظاهره .
وقد استدل بقوله : من بعد وصية يوصي بها أو دين ، على أنه إذا لم يكن دين لآدمي ولا وصية ، يكون جميع ماله لورثته وأنه إن كان عليه حج أو زكاة أو كفارة أو نذر لا يجب إخراجه إلا أن يوصي بذلك . وفي هذا الاستدلال نظر . والوصية مندوب إليها ، وقد كانت واجبة قبل نزول الفرائض فنسخت . وادعى قوم وجوبها . وتتعلق من بمحذوف أي : يستحقون ذلك ، كما فصل من بعد وصية ، ويوصي في موضع الصفة ، وبها متعلق بيوصي ، وهو مضارع وقع موقع الماضي . والمعنى : من بعد وصية أوصى بها . ومعنى : أو دين ، لزمه . وقدم الوصية على الدين ، وإن كان أداء الدين هو المقدم على الوصية بإجماع اهتماماً بها وبعثاً على إخراجها ، إذ كانت مأخوذة من غير عوض شاقاً على الورثة إخراجها مظنة للتفريط فيها ، بخلاف الدين . فإنّ نفس الوارث موطنة على أدائه ، ولذلك سوى بينها وبين الدين بلفظ : أو ، في الوجوب . أو لأنّ الوصية مندوب إليها في الشرع محضوض عليها ، فصارت للمؤمن كالأمر اللازم له . والدين لا يلزم أن يوجد ، إذ قد يكون على الميت دين وقد لا يكون ، فبدىء بما كان وقوعه كاللازم ، وأخر ما لا يلزم وجوده . ولهذه الحكمة كان العطف بأو ، إذ لو كان الدين لا يموت أحد إلا وهو راتب لازم له ، لكان العطف بالواو ، أو لأن الوصية حظ مساكين وضعاف ، والدين حظ غريم يطلبه بقوة . وله فيه مقال . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى أو ؟ ( قلت ) : معناها الإباحة ، وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما قدم على قسمة الميراث كقولك : جالس الحسن ، أو ابن سيرين انتهى .
ودلت الآية على أن الميراث لا يكون إلا بعد إخراج ما وجب بالوصية أو الدين ، فدل على أنّ إخراج ما وجب بها سابق على الميراث ، ولم يدل على أنهما أسبق ما يخرج من مال الميت ، إذ الأسبق هو مؤنة تجهيزه من غسله وتكفينه وحمله ووضعه في قبره ، أو ما يحتاج إليه من ذلك . وقرأ الابنان وأبو بكر : يوصي فيهما مبنياً للمفعول ، وتابعهم حفص على الثاني فقط ، وقرأهما الباقون : مبنياً للفاعل .
( وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً ( قال ابن عباس والحسن : هو في الآخرة لا يدرون أي الوالدين أرفع درجة عند الله ليشفع في ولده ، وكذا الولد في والديه . وقال مجاهد وابن سيرين والسدي : معناه في الدّنيا ، أي : إذا اضطر إلى إنفاقهم للفاقة . ونحا إليه الزجاج ، وقد ينفقون دون اضطرار . وقال ابن زيد : في الدنيا والآخرة ، واللفظ يقتضي ذلك . وروى عن مجاهد : أقرب لكم نفعاً في الميراث والشفاعة . وقال ابن بحر : أسرع موتاً فيرثه الآخر . وقال ابن عيسى : أي فاقسموا الميراث على ما بين لكم من يعلم النفع والمصلحة ، فإنكم لا تدرون أنتم ذلك ،

" صفحة رقم 195 "
وقريب منه قول الزجاج . قال : معنى الكلام أنه تعالى قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة ، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم ، فتضعون الأموال على غير حكمة ، ولهذا أتبعه بقوله : ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ( أي عليم بما يصلح لخلقه ، حكيم فيما فرض . قال ابن عطية : وهذا تعريض للحكمة في ذلك ، وتأنيس للعرب الذين كانوا يورّثون على غير هذه الصفة .
وقيل : تضمنت هذه الجملة النهي عن تمني موت الموروث . وقيل : المعنى في أقرب لكم نفعاً الأب بالحفظ والتربية ، أو الأولاد بالطاعة والخدمة والشفقة . وقريب من هذا قول أبي يعلى ، قال : معناه أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع ، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعاً ، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء ، والآباء ينتفعون في كبرهم بالابناء . وقال الزمخشري معلقاً هذه الجملة : بالوصية ، وأنها جاءت ترغيباً فيها وتأكيداً . قال : لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون ، أمن أوصى منهم أم من لم يوص يعني : أن من أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته ، فهو أقرب لكم نفعاً ، وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا ، وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهاباً إلى حقيقة الأمر ، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلاً قريباً في الصورة إلا أنه فانِ ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى ، وثواب الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باقٍ فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى انتهى كلامه . وهو خطابه . والوصية في الآية لم يأتِ ذكرها لمشروعيتها وأحكامها في نفسها ، وإنما جاء ذكرها ليبين أنّ القسمة تكون بعد إخراجها وإخراج الدين ، فليست مما يحدث عنها ، وتفسر هذه الجملة بها . ولكنه لما اختلف حكم الابن والأب في الميراث ، فكان حكم الابن إذا مات الأب عنه وعن أنثى ، أن يرث مثل حظ الأنثيين ، وكان حكم الأبوين إذا مات الابن عنهما وعن ولد أن يرث كل منهما السدس ، وكان يتبادر إلى الذهن أن يكون نصيب الوالد أوفر من نصيب الابن ، إذ ذاك لماله على الولد من الإحسان والتربية من نشئه إلى اكتسابه المال إلى موته ، مع ما أمر به الابن في حياته من بر أبيه . أو يكون نصيبه مثل نصيب ابنه في تلك الحالة إجراء للأصل مجرى الفرع في الإرث ، بين تعالى أنّ قسمته هي القسمة التي اختارها وشرعها ، وأن الآباء والأبناء الذين شرع في ميراثهم ما شرع لا ندري نحن أيهم أقرب نفعاً ، بل علم ذلك منوط بعلم الله وحكمته . فالذي شرعه هو الحق لا ما يخطر بعقولنا نحن ، فإذا كان علم ذلك عازباً عنا فلا نخوض فيما لا نعلمه ، إذ هي أوضاع من الشارع لا نعلم نحن عللها ولا ندركها ، بل يجب التسليم فيها لله ولرسوله . وجميع المقدرات الشرعية في كونها لا تعقل عللها هي مثل قسمة المواريث سواء .
قالوا : وارتفع أيهم على الابتداء ، وخبره أقرب ، والجملة في موضع نصب لتدرون ، وتدرون من أفعال القلوب . وأيهم استفهام تعلق عن العمل في لفظه ، لأن الاستفهام في غير الاستثبات لا يعمل فيه ما قبله على ما قرر في علم النحو ، ويجوز فيه عندي وجه آخر لم يذكروه وهو على مذهب سيبويه ، وهو : أن تكون أيهم موصولة مبنية على الضم ، وهي مفعول ببتدرون ، وأقرب خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أقرب ، فيكون نظير قوله تعالى : ) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ ( وقد اجتمع شرط جواز بنائها وهو أنها مضافة لفظاً محذوف صدر صلتها ) فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ ( انتصب فريضة انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن معنى يوصيكم الله يفرض الله لكم . وقال مكي وغيره هي حال مؤكدة لأن الفريضة ليست مصدراً . ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ( أي عليماً بمصالح العباد ، حكيماً فيما فرض ، وقسم من المواريث وغيرها . وتقدّم الكلام في كان إذا جاءت في نسبة الخبر لله تعالى ، ومن زعم أنها التامة وانتصب عليماً على الحال فقوله : ضعيف ، أو أنهار زائدة فقوله : خطأ .
( وَلَاكِنِ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ ( لما ذكر تعالى ميراث الفروع من الأصول ، وميراث الأصول من الفروع ، أخذ في ذكر ميراث المتصلين بالسبب لا بالنسب وهو للزوجية هنا ، ولم يذكر في القرآن التوارث بسبب الولاء . والتوارث المستقر في الشرع هو بالنسب ، والسبب الشامل للزوجية والولاء . وكان في صدر الإسلام يتوارث بالموالاة والخلف والهجرة ، فنسخ ذلك . وقدّم ذكر ميراث سبب الزوجية على ذكر الكلالة وإن كان بالنسب ، لتواشج ما بين الزوجين واتصالهما ، واستغناء كل منهما بعشرة صاحبه دون عشرة الكلاله ، وبدىء بخطاب الرجال لما لهم من الدرجات على النساء . ولما كان الذكر من الأولاد حظه مع الأنثى مثل حظ الأنثيين ، جعل في سبب التزوج الذكر له مثلاً حظ الأنثى . ومعنى : كان لهن ولد أي : منكم أيها الوارثون ، أو من غيركم . والولد : هنا ظاهره أنه من ولدته لبطنها ذكراً كان أو أنثى واحداً كان أو أكثر ، وحكم بني الذكور منها وإن سفلوا حكم الولد للبطن ، في أن فرض الزوج منها الربع مع وجوده بإجماع .
( وَلَهُنَّ الرُّبُعُ

" صفحة رقم 196 "
مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مّن بَعْدِ (
النساء : ( 12 ) ولكم نصف ما . . . . .
لما ذكر تعالى ميراث الفروع من الأصول ، وميراث الأصول من الفروع ، أخذ في ذكر ميراث المتصلين بالسبب لا بالنسب وهو للزوجية هنا ، ولم يذكر في القرآن التوارث بالموالاة ، والخلف ، والهجرة فنسخ ذلك ، وقدم ذكر ميراث سبب الزوجية على ذكر الكلالة ، وإن كان بالنسب لتواشج ما بين الزوجين ، واتصالهما ، واستغناء كل منهما بعشرة صاحبه ، دون عشرة الكلالة ، وبدئ بخطاب الرجال ، لما لهم من الدرجات على النساء ، ولما كان للذكر من الأولاد حظه مع الأنثى مثل حظ الأنثيين جعل في سبب التزوج الذكر له مثلا حظ الأنثى ، ومعنى ) كان لهن ولد ( أي : منكم أيها الوارثون ، أو من غيركم ، والولد هنا ظاهره أنه من ولدته لبطنها ذكرا أو انثى ، واحدا كان أو أكثر ، وحكم بتي الذكور منها ، وإن سفلوا حكم الولد للبطن في أن فرض الزوج منها الربع مع وجوده بإلإجماع ) ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين ( الولد هنا كالولد في تلك الآية . والربع والثمن يشترك فيه الزوجات إن وجدن ، وتنفرد به الواحدة . وظاهر الآية : أنهما يعطيان فرضهما المذكور في الآيتين من غير عول ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس . وذهب الجمهور إلى أنّ العول يلحق فرض الزوج والزوجة ، كما يلحق سائر الفرائض المسماة .
( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ ( الكلالة : خلو الميت عن الوالد ولولد قاله : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وسليم بن عبيد ، وقتادة ، والحكم ، وابن زيد ، والسبيعي . وقالت طائفة : هي الخلوّ من الولد فقط . وروي عن أبي بكر وعمر ثم رجعا عنه إلى القول الأوّل . وروى أيضاً عن ابن عباس ، وذلك مستقر من قوله في الأخوة مع الوالدين : إنهم يحطون الأم ويأخذون ما يحطونه . ويلزم على قوله : إذ ورثهم بأن الفريضة كلالة أن يعطيهم الثلث بالنص . وقالت طائفة منهم : الحكم بن عيينة ، هي الخلو من الولد . قال ابن عطية : وهذا إن القولان ضعيفان ، لأنّ من بقي والده أو ولده فهو موروث بنسب لا بتكلل . وأجمعت الأمة الآن على أنَّ الأخوة لا يرثون مع ابن ولا أرب ، وعلى هذا مضت الأعصار والأمصار انتهى .
واختلف في اشتقاقها . فقيل : من الكلال وهو الإعياء ، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بعد إعياء . قال الأعشى : فا ليت لا أرثي لها من كلالة
ولا من وجى حتى نلاقي محمدا
وقال الزمخشري : والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال ، وهو ذهاب القوة من الإعياء . فاستعيرت للقرابة

" صفحة رقم 197 "
من غير جهة الولد والوالد ، لأنها بالإضافة إلى قرابتها كالة ضعيفة . انتهى . وقيل : هي مشتقة من تكلله النسب أحاط به . وإذا لم يترك والداً ولا ولداً فقد انقطع طرفاه ، وهما عمودا نسبه ، وبقي موروثه لمن يتكلله نسبه أي : يحيط به من نواحيه كالإكليل . ومنه روض مكلل بالزهر . وقال الفرزدق : ورثتم قناة المجد لا عن كلاله
عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
وقال الأخفش : الكلالة من لا يرثه أب ولا أم . والذي عليه الجمهور أنَّ الكلالة الميت الذي لا ولد له ولا مولود ، وهو قول جمهور أهل اللغة صاحب العين ، وأبي منصور اللغوي ، وابن عرفة ، وابن الأنباري ، والعتبي ، وأبي عبيدة . وغلط أبو عبيدة في ذكر الأخ مع الأب والولد . وقطرب في قوله : الكلالة اسم اسم لمن عدا الأبوين والأخ ، وسمى ما عدا الأب والولد كلالة ، لأنه بذهاب طرفيه تكلله الورثة وطافوا به من جوانبه . ويرجح هذا القول نزول الآية في جابر ولم يكن له يوم نزولها ابن ولا أب ، لأنّ أباه قتل يوم أحد فصارت قصة جابر بياناً لمراد الآية . وأما الكلالة في الآية فقال عطاء : هو المال . وقالت طائفة : الكلالة الورثة ، وهو قول الراغب قال : الكلالة اسم لكل وارث . قال الشاعر : والمرء يجمع للغنى
وللكلالة ما يسيم
وقال عمرو بن عباس : الكلالة الميت الموروث . وقالت طائفة : الورثة بجملتها كلهم كلالة .
وقرأ الجمهور : يورث بفتح الراء مبنياً للمفعول ، من أورث مبنياً للمفعول . وقرأ الحسن : كسرها مبنياً للفاعل من أورث أيضاً . وقرأ أبو رجاء والحسن والأعمش : بكسر الراء وتشديدها . من ورّث . فأما على قراءة الجمهور ومعنى الكلالة أنه الميت أو الوارث ، فانتصاب الكلالة على الحال من الضمير المستكن في يورث . وإذا وقع على الوارث احتيج إلى تقدير : ذا كلالة ، لأن الكلالة إذ ذاك ليست نفس الضمير في يورث . وإن كان معنى الكلالة القرابة ، فانتصابها على أنها مفعول من أجله أي : يورث لأجل الكلالة . وأما على قراءة الحسن وأبي رجاء ، فإن كانت الكلالة هي الميت فانتصابها على الحال ، والمفعولان محذوفان ، التقدير : يورث وارثه ماله في حال كونه كلالة . وإن كان المعنى بها الوارث فانتصاب الكلالة على المفعول به بيورث ، ويكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره : يورث كلالة ماله أو القرابة ، فعلى المفعول من أجله والمفعولان محذوفان أيضاً ، ويجوز في كان أن تكون ناقصة ، فيكون يورث في موضع نصب على الخبر . وتامة فتكون في موضع رفع على الصفة . ويجوز إذا كانت ناقصة والكلالة بمعنى الميت ، أن يكون يورث صفة ، وينتصب كلالة على خبر كان ، أو بمعنى الوارث . فيجوز ذلك على حذف مضاف أي : وإن كان رجل موروث ذا كلالة . وقال عطاء : الكلالة المال ، فينتصب كلالة على أنه مفعول ثان ، سواء بني الفعل للفاعل أو للمفعول . وقال ابن زيد : الكلالة الوراثة ، وينتصب على الحال أو على النعت لمصدر محذوف تقديره : وراثة كلاله .
وقد كثر الاختلاف في الكلالة ، وملخص ما قيل فيها : أنها الوارث ، أو الميت الموروث ، أو المال الموروث ، أو الوراثة ، أو القرابة . وظاهر قوله : يورث أي : يورث منه ، فيكون هو الموروث لا الوارث . ويوضحه قراءة من كسر الراء . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فإن جعلت يورث على البناء للمفعول من أورث فما وجهه ؟ ( قلت ) : الرجل حينئذ هو الوارث لا الموروث . ( فإن قلت ) : فالضمير في قوله : فلكل واحد منهما إلى من يرجع حينئذ ؟ ( قلت ) : إلى الرجل وإلى أخيه وأخته ، وعلى الأول إليهما ( فإن قلت ) : إذا رجع

" صفحة رقم 198 "
الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر والأنثى ، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه ؟ قلت : نعم ، لأنك إذا قلت : السدس له ، أو لواحدٍ من الأخ أو الأخت على التخيير ، فقد سويت بين الذكر والأنثى انتهى كلامه . وملخص ما قال : أن يكون المعنى : إن كان أحد اللذين يورثهما غيرهما من رجل أو امرأة له أحد هذين من أخ أو أخت ، فلكل واحد منهما السدس . وعطف وامرأة على رجل ، وحذف منها ما قيد به الرجل لدلالة المعنى ، والتقدير : أو امرأة تورث كلالة . وإن كان مجرد العطف لا يقتضي تقييد المعطوف بقيد المعطوف عليه . والضمير في : وله ، عائد على الرجل نظير : ( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها ( في كونه عاد على المعطوف عليه . وإن كان يجوز أن يعاد الضمير على المعطوف تقول : زيد أو هند قامت ، نقل ذلك الأخفش والفراء . وقد تقدم لنا ذكر هذا الحكم . وزاد الفراء وجهاً ثالثاً وهو : أن يسند الضمير إليهما . قال الفراء : عادة العرب إذا رددت بين اسمين بأو ، وأن تعيد الضمير إليهما جميعاً ، وإلى حدهما أيهما شئت . تقول : مَن كان له أخ أو أخت فليصله . وإن شئت فليصلها انتهى . وعلى هذا الوجه ظاهر قوله : ) ( في كونه عاد على المعطوف عليه . وإن كان يجوز أن يعاد الضمير على المعطوف تقول : زيد أو هند قامت ، نقل ذلك الأخفش والفراء . وقد تقدم لنا ذكر هذا الحكم . وزاد الفراء وجهاً ثالثاً وهو : أن يسند الضمير إليهما . قال الفراء : عادة العرب إذا رددت بين اسمين بأو ، وأن تعيد الضمير إليهما جميعاً ، وإلى حدهما أيهما شئت . تقول : مَن كان له أخ أو أخت فليصله . وإن شئت فليصلها انتهى . وعلى هذا الوجه ظاهر قوله : ) إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ( وقد تأوله من منع الوجه . وأصل أخت أخوة على وزن شررة ، كما أن بنتاً أصله بنية على أحد القولين في ابن ، أهو المحذوف منه واو أو ياء ؟ قيل : فلما حذفت لام الكلمة وتاء التأنيث ، وألحقوا الكلمة بقفل وجذع بزيادة التاء آخرهما قال الفراء : ضم أول أخت ليدل على أن المحذوف واو ، وكسر أول بنت ليدل على أن المحذوف ياء انتهى . ودلت هذه التاء التي للإلحاق على ما دلت عليه تاء التأنيث من التأنيث . وظاهر قوله : وله أخ أو أخت الإطلاق ، إذ الأخوة تكون بين الأحقاف والأعيان وأولاده العلات ، وأحمعوا على أنّ المراد في هذه الآية الأخوة للأم . ويوضح ذلك قراءة أبيّ وله أخ أو أخت من الأم . وقراءة سعد بن أبي وقاص : وله أخ أو أخت من أم ، واختلاف الحكمين هنا ، وفي آخر السورة يدل على اختلاف المحكوم له ، إذ هنا الإبنان أو الأخوة يشتركون في الثلث فقط ذكوراً أو إناثاً بالسوية بينهم . وهناك يحوزون المال للذكر مثل حظ الأنثيين ، والبنتان لهما الثلثان ، والضمير في منهما الظاهر أنه يعود على أخ أو أخت . وعلى ما جوزه الزمخشري يعود على أحد رجل وامرأة واحد أخ وأخت ، ولو ماتت عن زوج وأم وأشقاء فله النصف ولهما السدس ، ولهم الباقي أولاً فلهم الثلث . أو أخوين لأم أشقاء فهذه الحمادية . فهل يشترك الجميع في الثلث ، أم ينفرد به الأخوان لأم ؟ قولان ، قال بالتشريك عمر في آخر قضائه ، وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو حنيفة وأصحابه . وقال بالانفراد : علي وأبو موسى ، وأبي ، وابن عباس .
( فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثُّلُثِ ( الإشارة بذلك إلى أخ أو أخت ، أي أكثر من واحد . لأنّ المحكوم عليه بأن له السدس هو كل واحد من الأخ والأخت فهو واحد ، ولم يحكم على الاثنين بأن لهما جميعاً السدس ، فتصح الأكثرية فيما أشير إليه وهو ذلك ، بل المعنى هنا بأكثر يعني : فإن كان من يرث زائداً على ذلك أي : على الواحد ، لأنه لا يصح أن يقول هذا أكثر من واحد إلا بهذا المعنى ، لتنافي معنى كثير وواحد ، إذ الواحد لا كثرة فيه . وفي قوله : فإن كانوا ، وفهم شركاء غلب ضمير المذكر ، ولذلك جاء بالواو وبلفظ ، فهم هذا كله على ما قررت فيه الأحكام . وظاهر الآية : أنه إذا ترك أخاً أو أختاً ، أي أحد هذين ، فلكل واحد منهما السدس أو أكثر اشتركوا في الثلث ، أما إذا ترك اثنين من أخ أو أخت ، فلا يدل على ذلك ظاهر الآية .
( مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً مّنَ اللَّهِ ( الضمير في يوصي عائد على رجل ، كما عاد عليه في : وله أخ . ويقوي عود الضمير عليه أنه هو الموروث لا الوارث ، لأن الذي يوصي أو يكون عليه الدين هو الموروث لا الوارث . ومن فسر قوله : ) وَإِن كَانَ رَجُلٌ ( أنه هو الوارث لا الموروث ، جعل الفاعل في يوصي عائداً على ما دل عليه المعنى من الوارث . كما دل المعنى على الفاعل في قوله : ) فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ( لأنه علم أن الموصي والتارك لا يكون إلا الموروث ، لا الوارث . والمراد : غير مضار ، ورثته بوصيته أو دينه . ووجوه المضارة كثيرة : كان يوصي بأكثر من الثلث ، أو

" صفحة رقم 199 "
لوارثه ، أو بالثلث ، أو يحابى به ، أو يهبه ، أو يصرفه إلى وجوه القرب من عتق وشبهه فراراً عن وارث محتاج ، أو يقر بدين ليس عليه . ومشهور مذهب مالك أنه ما دام في الثلث لا بعد مضاراً ، وينبغي اعتبار هذا القيد وهو انتفاء الضرر فيما تقدم من ذكر قوله : ) مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا ( ) وتوصون ويوصين ( ويكون قد حذف مما سبق لدلالة ما بعده عليه ، فلا يختص من حيث المعنى انتفاء الضرر بهذه الآية المتأخرة . قال ابن عباس : الضرار في الوصية من الكبائر ، ورواه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) من حديث أبي هريرة : ( من ضار في وصيته ألقاه الله في وادي جهنم ) . وقال قتادة : نهى الله عن الضرار في الحياة وعند الممات .
قالوا : وانتصاب غير مضار على الحال من الضمير المستكن في يوصي ، والعامل فيهما يوصي . ولا يجوز ما قالوه ، لأن فيه فصلاً بين العامل والمعمول بأجنبي منهما وهو قوله : أو دين . لأن قوله : أو دين ، معطوف على وصية الموصوفة بالعامل في الحال . ولو كان على ما قالوه من الأعراب لكان التركيب من بعد وصية يوصي بها غير مضار أو دين . وعلى قراءة من قرأ : يوصَى بفتح الصاد مبنياً للمفعول ، لا يصح أن يكون حالاً لما ذكرناه ، ولأنّ المضار لم يذكر لأنه محذوف قام مقامه المفعول الذي لم يسم فاعله ، ولا يصح وقوع الحال من ذلك المحذوف . لو قلت : تُرسل الرياح مبشراً بها بكسر الشين ، لم يجز وإن كان المعنى يرسل الله الرياح مبشراً بها . والذي يظهر أنه يقدر له ناصب يدل عليه ما قبله من المعنى ، ويكون عاماً لمعنى ما يتسلط على المال بالوصية أو الدين ، وتقديره : يلزم ذلك ماله أو يوجبه فيه غير مضار بورثته بذلك الإلزام أو الإيجاب . وقيل : يضمر يوصي لدلالة يوصي عليه ، كقراءة يسبح بفتح الباء . وقال رجال : أي يسبحه رجال . وانتصاب وصية من الله على أنه مصدر مؤكد أي : يوصيكم الله بذلك وصية ، كما انتصب ) لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ ).
وقال ابن عطية : هو مصدر في موضع الحال ، والعامل يوصيكم . وقيل : هو نصب على لخروج من قوله : ) فَلِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ ( أو من قوله : ) فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثُّلُثِ ( وجوز هو والزمخشري نصب وصية بمضار على سبيل التجوز ، لأن المضارة في الحقيقة إنما تقع بالورثة لا بالوصية ، لكنه ما كان الورثة قد وصى الله تعالى بهم صار الضرر الواقع بالورثة كأنه وقع بالوصية . ويؤيد هذا التخريج قراءة الحسن غير مضار وصية ، فخفض وصية بإضافة مضار إليه ، وهو نظير يا سارق الليلة المعنى : يا سارقي في الليلة ، لكنه اتسع في الفعل فعداه إلى الظرف تعديته للمفعول به ، وكذلك التقدير في هذا غير مضار في : وصية من الله ، فاتسع وعدي اسم الفاعل إلى ما يصل إليه بوساطة في تعديته للمفعول به .
( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( عليم بمن جار أو عدل ، حليم عن الجائر لا يعاجله بالعقوبة قاله : الزمخشري . وفيه دسيسة الاعتزال أي : أنّ الجائر وإن لم يعاجله الله بالعقوبة فلا بد له منها . والذي يدل عليه لفظ حليم هو أن لا يؤاخذ بالذنب كما يقوله أهل السنة . وعلى قولهم يكون هذا الوصف يدل على الصفح عنه البتة . وحسن ذلك هنا لأنه لما وصف نفسه بقوله : عليم ، ودل على اطلاعه على ما يفعله الموروث في مضارته بورثته في وصيته ودينه ، وأنّ ذكر علمه بذلك دليل على مجازاته على مضارته ، أعقب ذلك بالصفة الدالة على الصفح عمن شاء ، وذلك على عادة أكثر القرآن بأنه لا يذكر ما يدل على العقاب ، إلا ويردف بما دل على العفو . وانظر إلى حسن هذا التقسيم في الميراث ، وسبب الميراث هو الاتصال بالميت ، فإن كان بغير واسطة فهو النسب أو الزوجية ، أو بواسطة فهو الكلالة . فتقدّم الأول على الثاني لأنه ذاتي ، والثاني عرض ، وأخّر الكلالة عنهما لأن الاثنين لا يعرض لهما سقوط بالكلية ، ولكون اتصالهما بغير واسطة ، ولأكثرية المخالطة .

" صفحة رقم 200 "
انتهى ملخصاً من كلام الرازي في تفسيره .
النساء : ( 13 ) تلك حدود الله . . . . .
( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ( قيل : الإشارة بتلك إلى القسمة المتقدّمة في المواريث . والأولى أن تكون إشارة إلى الأحكام السابقة في أحوال اليتامى والزوجات والوصايا والمواريث ، وجعل هذه الشرائع حدوداً ، لأنها مؤقتة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتعدوها إلى غيرها . وقال ابن عباس : حدود الله طاعته . وقال السدّي : شروطه . وقيل : فرائضه . وقيل : سننه . وهذه أقوال متقاربة .
( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( لما أشار تعالى إلى حدوده التي حدَّها قسَّم الناس إلى عامل بها مطيع ، وإلى غير عامل بها عاص . وبدأ بالمطبع لأن الغالب على من كان مؤمناً بالله تعالى الطاعة ، إذ السورة مفتتحة بخطاب الناس عامّة ، ثم أردف بخطاب من يتصف بالإيمان إلى آخر المواريث ، ولأن قسم الخير ينبغي أن يبتدأ به وأن يعتني بتقديمه . وحمل أولاً على لفظ من في قوله : يطع ، ويدخله ، فأفرد ثم حمل على المعنى في قوله : خالدين . وانتصاب خالدين على الحال المقدرة ، والعامل فيه يدخله ، وصاحب الحال هو ضمير المفعول في يدخله .
قال ابن عطية : وجمع خالدين على معنى من بعد أن تقدم الإفراد مراعاة للفظ من ، وعكس هذا لا يجوز انتهى . وما ذكر أنه لا يجوز من تقدم الحمل على المعنى ثم على اللفظ جائز عند النحويين ، وفي مراعاة الحملين تفصيل وخلاف مذكور في كتب النحو المطولة . وقال الزمخشري : وانتصب خالدين وخالداً على الحال . ( فإن قلت ) : هل يجوز أن يكونا صفتين لجنات وناراً ؟ ( قلت ) : لا ، لأنهما جريا على غير من هما له ، فلا بد من الضمير وهو قولك : خالدين هم فيها ، وخالداً هو : فيها انتهى . وما ذكره ليس مجمعاً عليه ، بل فرع على مذهب البصريين . وأما عند الكوفيين فيجوز ذلك ، ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذا لم يلبس على تفصيل لهم في ذلك ذكر في النحو . وقد جوز ذلك في الآية الزجاج والتبريزي أخذ بمذهب الكوفيين . وقرأ نافع وابن عامر : ندخله هنا ، وفي : ندخله ناراً بنون العظمة . وقرأ الباقون : بالياء عائداً على الله تعالى . قال الراغب : ووصف الفوز بالعظم اعتبار يفوز الدّنيا الموصوف بقوله : ) قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( والصغير والقليل في وصفهما متقاربان .
( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (
النساء : ( 14 ) ومن يعص الله . . . . .
لما ذكر ثواب مراعي الحدود ذكر عقاب من يتعداها ، وغلظ في قسم المعاصي ، ولم يكتف بالعصيان بل أكد ذلك بقوله : ويتعدّ حدوده ، وناسب الختم بالعذاب المهين ، لأن العاصي المتعدّي للحدود برز في صورة من اغتر وتجاسر على معصية الله . وقد تقل المبالاة بالشدائد ما لم ينضم إليها الهوان ، ولهذا قالوا : المنية ولا الدنية . قيل : وأفرد خالداً هنا ، وجمع في خالدين فيها ، لأنّ أهل الطاعة أهل الشفاعة ، وإذا شفع في غير دخلها ، والعاصي لا يدخل النار به غيره ، فبقي وحيداً انتهى .
وتضمنت هذه الآيات من أصناف البديع : التفصيل في : الوارث والأنصباء بعد الإبهام في قوله : للرجال نصيب الآية . والعدول من صيغة : يأمركم الله إلى يوصيكم ، لما في الوصية

" صفحة رقم 201 "
من التأكيد والحرص على اتباعها . والطباق في : للذكر مثل حظ الأنثيين ، وفي : من يطع ومن يعص ، وإعادة الضمير إلى غير مذكور لقوة الدلالة على ذلك في قوله : مما ترك أي : ترك الموروث . والتكرار في : لفظ كان ، وفي فريضة من الله ، أن الله ، وفي : ولداً ، وأبواه ، وفي : من يعد وصية يوصي بها أو دين ، وفي : وصية من الله أن الله ، وفي : حدود الله ، وفي : الله ورسوله . وتلوين الخطاب في : من قرأ ندخله بالنون . والحذف في مواضع .
2 ( ) وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَأاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الاٌّ نَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَائِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الاٌّ خِ وَبَنَاتُ الاٍّ خْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاٍّ خْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَاب

" صفحة رقم 202 "
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } )
النساء : ( 15 ) واللاتي يأتين الفاحشة . . . . .
العشرة : الصحبة والمخالطة . يقال : عاشروا ، وتعاشروا ، واعتشروا . وكان ذلك من أعشار الجذور ، لأنها مقاسمة ومخالطة . الإفضاء إلى الشيء : الوصول إلى فضاء منه ، أي سعة غير محصورة . وفي مثل الناس فوضى فضى أي : مختلطون ، يباشر بعضهم بعضاً . ويقال : فضاً يفضو فضاًء إذا اتسع ، فألف أفضى منقلبة عن ياء أصلها واو . المقت : البغض المقرون باستحقار حصل بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه . العمة : أخت الأب . الخالة : أخت الأم ، وألفها منقلبة عن واو ، دليل ذلك قولهم : أخوال في جمع الخال ، ورجل مخول كريم الأخوال . الربيبة : بنت زوج الرجل من غيره . الحَجر بفتح الحاء وكسرها : مقدّم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حال اللبس ، ثم استعملت

" صفحة رقم 203 "
اللفظة في السير والحفظ ، لأن اللابس إنما يحفظ طفلاً ، وما أشبهه في ذلك الموضع من الثوب ، وجمعه حجور . الحليلة : الزوجة ، والحليل الزوج قال : أغشى فتاة الحي عند حليلها
وإذا غزا في الجيش لا أغشاها
سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة . وذهب الزجاج وغيره إلى أنها من لفظ الحلال ، فهي حليلة بمعنى محللة . وقيل : كل واحد منهما يحل إزار صاحبه . الصلب : الظهر ، وصلب صلابة قوي واشتدّ . وذكر الفراء في كتاب لغات القرآن له : أن الصلب وهو الظهر ، على وزن قفل هو لغة أهل الحجاز ويقول فيه تميم وأسد : الصلب بفتح الصاد واللام . قال : وأنشدني بعضهم :
وصلب مثل العنان المؤدم قال وأنشدني بعض بني أسد إذا أقوم أتشكي صلبي المحصنة : المرأة العفيفة . يقال : أحصنت فهي محصن ، وحصنت فهي حصان عفت عن الرّيبة ومنعت نفسها منها . وقال شمر : يقال امرأة حصان ، وحاصن . قال : وحاصن من حاصنات ملس
من الأذى ومن فراق الوقس
ومصدر حصنت حصن . قال سيبويه : وقال أبو عبيدة والكسائي : حصانة . ويقال في اسم الفاعل من أحصن وأسهب وأبعج ، مفعل بفتح عين الكلمة ، وهو شذوذ نقله ثعلب عن ابن الأعرابي . وأصل الإحصان المنع ، ومنه قيل للدرع وللمدينة : حصينة والحصن وفرس حصان . المسافحة والسفاح : الزنا ، وأصله من السفح وهو الصب ، يسفح كل من الزانيين نطفته . الخدن والخدين : الصاحب . الطول : الفضل ، يقال منه : طال عليه يطول طولاً فضل عليه . وقال الليث والزجاج : الطول القدرة . انتهى . ويقال له : عليه طول أي زيادة وفضل ، وقد طاله طولاً فهو طائل . قال الشاعر :

" صفحة رقم 204 "
لقد زادني حباً لنفسي أنني
بغيض إلى كل امرىء غير طائل
ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه ، كما أن القصر قصور فيه ونقصان . الفتاة الحديثة السن والفتاء الحداثة . قال : فقد ذهب المروءة والفتاء . وقال ابن منصور الجواليقي : المتفتية والفتاة المراهقة ، والفتى الرفيق ، ومنه : ) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ( والفتى : العبد . ومنه : ) لا يَقُلْ أَحَدَكُمُ ). الميل : العدول عن طريق الاستواء . ) يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ ( قال مجاهد واختاره أبو مسلم بن بحر الأصبهاني : هذه الآية نزلت في النساء . والمراد بالفاحشة هنا : المساحقة ، جعل حدّهن الحبس إلى أن يمتن أو يتزوجن . قال : ونزلت ) وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ( في أهل اللواط . والتي في النور : في ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى ( وخالف جمهور المفسرين . وبناه أبو مسلم على أصل له : وهو يرى أنه ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمر بالإحسان إلى النساء فذكر إيتاء صدقاتهن وتوريثهن ، وقد كن لا يورثن في الجاهلية ، ذكر التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة ، وفي الحقيقة هو إحسان إليهن ، إذ هو نظر في أمر آخرتهن ، ولئلا يتوهم أنّ من الإحسان إليهن أن لا تقام عليهن الحدود فيصير ذلك سبباً لوقوعهن في أنواع المفاسد . ولأنه تعالى لمّا ذكر حدوده وأشار بتلك إلى جميع ما وقع من أول السورة إلى موضع الإشارة ، فكان في مبدأ السورة التحصن بالتزويج ، وإباحة ما أباح من نكاح أربع لمن باح ذلك ، استطرد بعد ذلك إلى حكم من خالف ما أمر الله به من النكاح من الزواني ، وأفردهن بالذكر أولاً ، لأنهن على ما قيل أدخل في باب الشهوة من الرجال ، ثم ذكرهن ثانياً مع الرجال الزانين في قوله : ) وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ( فصار ذكر النساء الزواني مرّتين : مرة بالإفراد ، ومرّة بالشمول .
واللاتي جمع من حيث المعنى للتي ، ولها جموع كثيرة أغربها : اللاآت ، وإعرابها إعراب الهندات .
ومعنى يأتين الفاحشة : يجئن ويغشين . والفاحشة هنا الزنا بإجماع من المفسرين ، إلا ما نقل عن مجاهد وتبعه أبو مسلم في أن المراد به المساحقة ، ويأتي الكلام معه في ذلك ، وأطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح . قيل : فإن قيل : القتل والكفر أكبر من الزنا ، قيل : القوى المدبرة للبدن ثلاث : الناطقة وفسادها بالكفر والبدعة وشبههما ، والغضبية وفسادها بالقتل والغضب وشبههما ، وشهوانية وفسادها بالزنا واللواط والسحر وهي : أخس هذه القوى ، ففسادها أخس أنواع الفساد ، فلهذا خص هذا العمل بالفاحشة . وحجة أبي مسلم في أن الفاحشة هي السحاق قوله : ) وَاللَاتِى يَأْتِينَ وَمِنْ نِسَائِكُمْ ( وفي الرجال : ) وَاللَّذَانَ ( ومنكم وظاهره التخصيص ، وبأن ذلك لا يكون فيه نسخ ، وبأنه لا يلزم فيه التكرار . ولأن تفسير السبيل بالرجم أو الجلد والتغريب عند القائلين بأنها نزلت في الزنا ، يكون عليهن لا لهن ، وعلى قولنا : يكون السبيل تيسر الشهوة لهن بطريق النكاح . وردوا على أبي مسلم بأن ما قاله لم يقله أحد من المفسرين ، فكان باطلاً . وأجاب : بأنه قاله مجاهد ، فلم يكن إجماعاً وتفسير السبيل بالحديث الثابت : ) قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ( ( الثيب ترجم والبكر تجلد ) فدل على أن ذلك في الزناة . وأجاب بأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد ، وأنه غير جائز . وبأن الصحابة اختلفوا في أحكام اللوطية ولم يتمسك أحد منهم بقوله : واللذان يأتيانها منكم ، فدل على أنها ليست فيهم . وأجاب بأن مطلوب الصحابة : هل يقام الحد على اللوطي وليس فيها دلالة على ذلك لا بالنفي ولا بالإثبات ؟ فلهذا لم يرجعوا إليه . انتهى . ما احتج به أبو مسلم ، وما ردّ به عليه ، وما أجاب به . والذي يقتضيه ظاهر اللفظ هو قول مجاهد وغيره : أن اللاتي مختص بالنساء ، وهو عام أحصنت أو لم تحصن . وإن واللذان مختص بالذكور ، وهو عام في المحصن وغير المحصن . فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى . ويكون هاتان الآيتان وآية النور قد استوفت أصناف الزناة ، ويؤيد هذا الظاهر قوله : من نسائكم وقوله : منكم ، لا يقال : إن السحاق واللواط لم يكونا معروفين في العرب ولا في

" صفحة رقم 205 "
الجاهلية ، لأن ذلك كان موجوداً فيهم ، لكنه كان قليلاً . ومن ذلك قول طرفة بن العبد : ملك النهار وأنت الليل مومسة
ماء الرجال على فخذيك كالقرس
وقال الراجز : يا عجباً لساحقات الورس
الجاعلات المكس فوق المكس
وقرأ عبد الله : واللاتي يأتين بالفاحشة ، وقوله : من نسائكم اختلف ، هل المراد الزوجات أو الحرائر أو المؤمنات أو الثيبات دون الأبكار ؟ لأن لفظ النساء مختص في العرف بالثيب ، أقوال . الأول : قاله قتادة والسدي وغيرهما . قال ابن عطية : قوله من نسائكم إضافة في معنى الإسلام ، لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين ينسب ولا يلحقها هذا الحكم انتهى . وظاهر استعمال النساء مضافة للمؤمنين في الزوجات كقوله تعالى : ) لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ ( ) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ( وكون المراد الزوجات وأن الآية فيهم ، هو قول أكثر المفسرين . وأمر تعالى باستشهاد أربعة تغليظاً على المدعي ، وستراً لهذه المعصية . وقيل : يترتب على كل واحد شاهدان . وقوله : عليهن ، أي على إتيانهن الفاحشة . والظاهر أنه يختص بالذكور المؤمنين لقوله : أربعة منكم ، وأنه يجوز الاستشهاد لمعاينة الزنا . وإن تعمد النظر إلى الفرح لا يقدح في العدالة إذا كان ذلك لأجل الزنا .
وإعراب اللاتي مبتدأ ، وخبره فاستشهدوا . وجاز دخول الفاء في الخبر ، وإن كان لا يجوز فاضربه على الابتداء والخبر ، لأن المبتدأ موصول بفعل مستحق به الخبر ، وهو مستوف شروط ما تدخل الفاء في خبره ، فأجرى الموصول لذلك مجرى اسم الشرط . وإذ قد أجرى مجراه بدخول الفاء فلا يجوز أن ينتصب بإضمار فعل يفسره فاستشهدوا ، فيكون من باب الاشتغال ، لأن فاستشهدوا لا يصح أن يعمل فيه لجريانه مجرى اسم الشرط ، فلا يصح أن يفسر هكذا . قال بعضهم : وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره : اقصدوا اللاتي . وقيل : خير اللاتي محذوف تقديره : فيما يتلى عليكم حكم اللاتي يأتين ، كقول سيبويه في قوله : ) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ( وفي قوله : ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى ( وعلى ذلك جملة سيبويه . ويتعلق من نسائكم بمحذوف ، لأنه في موضع الحال من الفاعل في : يأتين ، تقديره : كائنات من نسائكم . ومنكم يحتمل أن يتعلق بقوله : فاستشهدوا ، أو بمحذوف فيكون صفة لأربعة ، أي : كائنين منكم .
( فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ( أي : فإن شهد أربعة منكم عليهن . والمخاطب بهذا الأمر : أهم الأزواج أمروا بذلك إذا بدت من الزوجة فاحشة الزنا ، ولا تقربوهن عقوبة لهن وكانت من جنس جريمتهن ؟ أم الأولياء إذا بدت ممن لهم عليهن ولاية ونظر يحبسن حتى يمتن ؟ أو أولو الأمر من الولاة والقضاة إذ هم الذين يقيمون الحدود وينهون عن الفواحش ؟ أقوال ثلاثة . والظاهر أن الإمساك في البيوت إلى الغاية المذكورة كان على سبيل الحدِّ لهن ، وأنَّ حدهن كان ذلك حتى نسخ ، وهو الصحيح ، قاله : ابن عباس ، والحسن . والحبس في البيت آلم وأوجع من الضرب والإهانة ، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك أخذ المهر على ما ذكره السدي ، لأن ألم الحبس مستمر ، وألم الضرب يذهب . قال ابن زيد : منعن من النكاح حتى يمتن عقوبة لهن حين طلبن النكاح من غير وجهه . وقال قوم : ليس بحدٍ بل هو إمساك لهن بعد أن يحدهنّ الإمام صيانة لهن أن يقعن في مثل ما جرى لهن بسبب الخروج من البيوت ، وعلى هذا لا يكون الإمساك حداً . وإذا كان يتوفى بمعنى يميت ، فيكون التقدير حتى يتوفاهن ملك الموت . وقد صرح بهذا المضاف المحذوف ، وهنا في قوله : قل يتوفاكم ملك الموت . وإن كان المعنى بالتوفي الأخذ ، فلا يحتاج إلى حذف مضاف ، إذ يصير التقدير : حتى يأخذهن الموت . والسبيل الذي جعله الله لهن مبني على الاختلاف المراد بالآية . فقيل : هو النكاح المحصن لهن المغنى عن السفاح ، وهذا على تأويل أن الخطاب للأولياء أو للأمراء أو القضاة ، دون الأزواج . وقيل : السبيل هو ما استقر عليه حكم الزنا من الحد ، وهو ) البكر بالبكر جلد مائة وتغريب

" صفحة رقم 206 "
عام ، والثيب بالثيب ( رمى بالحجارة . وثبت تفسير السبيل بهذا من حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فوجب المصير إليه . وحديث عبادة ليس بناسخ لهذه الآية ، ولا لأنه الجلد ، بل هو مبين لمجمل في هذه الآية إذ غيا إمساكهن في البيوت إلى أن يجعل لهن سبيلاً ، وهو مخصص لعموم آية الجلد . وعلى هذا لا يصح طعن أبي بكر الرازي على الشافعي في قوله : إن السنة لا تنسخ القرآن ، بدعواه أنَّ آية الحبس منسوخة ، بحديث عبادة ، وحديث عبادة منسوخ بآية الجلد ، فيلزم من ذلك نسخ القرآن بالسنة ، والسنة بالقرآن ، خلاف قول الشافعي ، بل البيان والتخصيص أولى من ادعاء نسخ ثلاث مرات على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة ، إذ زعموا أن آية الحبس منسوخة بالحديث ، وأن الحديث منسوخ بآية الجلد ، وآية الجلد منسوخة بآية الرجم .
النساء : ( 16 ) واللذان يأتيانها منكم . . . . .
( وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا ( تقدم قول مجاهد واختيار أبي مسلم أنها في اللواطة ، ويؤيده ظاهر التثنية . وظاهر منكم إذ ذلك في الحقيقة هو للذكور ، والجمهور على أنها في الزناة الذكور والإناث . واللذان أريد به الزاني والزانية ، وغلب المذكر على المؤنث ، وترتب الأذى على إتيان الفاحشة وهو مقيد بالشهادة على إتيانها . وبين ذلك في الآية السابقة وهو : شهادة أربعة . والأمر بالأذى بدل على مطلق الأذى بقول أو فعل أو بهما .
فقال ابن عباس : هو النيل باللسان واليد ، وضرب النعال وما أشبهه . وقال قتادة والسدي : هو التعبير والتوبيخ . وقال قوم : بالفعل دون القول . وقالت فرقة : هو السب والجفا دون تعيير . وقيل : الأذى المأمور به هو الجمع بين الحدين : الجلد والرجم ، وهو قول علي ، وفعله في الهمدانية : جلدها ثم رجمها .
وظاهر قوله : واللذان يأتيانها العموم . وقال قتادة والسدي وابن زيد وغيرهم : هي في الرجل والمرأة البكرين ، وأما الأولى ففي النساء المزوجات ، ويدخل معهن في ذلك من أحصن من الرجال بالمعنى . ورجح هذا القول الطبري . وأجمعوا على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد ، إلا في تفسير على الأذى فلا نسخ ، وإلا في قول من قال : إن الأذى بالتعيير مع الجلد باق فلا نسخ عنده ، إذ لا تعارض ، بل يجمعان على شخص واحد . وإذا حملت الآيتان على الزنا تكون الأولى قد دلت على حبس الزواني ، والثانية على إيذائها وإيذائه ، فيكون الإيذاء مشتركاً بينهما ، والحبس مختص بالمرأة فيجمع عليها الحبس والإيذاء ، هذا ظاهر اللفظ . وقيل : جعلت عقوبة المرأة الحبس لتنقطع مادة هذه المعصية ، وعقوبة الرجل الإيذاء ، ولم يجعل الحبس لاحتياجه إلى البروز والاكتساب . وأما على قول قتادة والسدي : من أن الأولى في الثيب والثانية في البكر من الرجال والنساء ، فقد اختلف متعلق العقوبتين ، فليس الإيذاء مشتركاً . وذهب الحسن إلى أن هذه الآية قبل الآية المتقدمة ، ثم نزل ) فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ ( يعني إن لم يتبن

" صفحة رقم 207 "
وأصررن فامسكوهن إلى إيضاح حالهن ، وهذا قول يوجب فساد الترتيب ، فهو بعيد . وعلى هذه الأقوال يظهر للتكرار فوائد . وعلى قول قتادة والسدي : لا تكرار ، وكذلك لا تكرار على قول : مجاهد وأبي مسلم .
وإعراب واللذان كإعراب واللاتي . وقرأ الجمهور : واللذان بتخفيف المنون . وقرأ ابن كثير : بالتشديد . وذكر المفسرون علة حذف الياء ، وعلة تشديد النون ، وموضوع ذلك علم النحو . وقرأ عبد الله : والذين يفعلونه منكم ، وهي قراءة مخالفة لسواد مصحف الإمام ، ومتدافعة مع ما بعدها . إذ هذا جمع ، وضمير جمع وما بعدهما ضمير تثنية ، لكنه يتكلف له تأويل : بأن الذين جمع تحته صنفا الذكور والإناث ، فعاد الضمير بعده مثنى باعتبار الصنفين ، كما عاد الضمير مجموعاً على المثنى باعتبار أن المثنى تحتهما أفراد كثيرة هي في معنى الجمع في قوله : ) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( ) هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ ( والأولى اعتقاد قراءة عبد الله أنها على جهة التفسير ، وأن المراد بالتثنية العموم في الزناة . وقرىء واللذأن بالهمزة وتشديد النون ، وتوجيه هذه القراءة أنه لما شدد النون التقى ساكنان ، ففر القارىء من التقائهما إلى إبدال الألف همزة تشبيهاً لها بألف فاعل المدغم عينه في لامه ، كما قرىء : ) وَلاَ الضَّالّينَ ( ) وَلاَ جَانٌّ ( وقد تقدم لنا الكلام في ذلك مشبعاً في قوله : ولا الضالين في الفاتحة .
( فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا ( أي : إن تابا عن الفاحشة وأصلحا عملهما فاتركوا أذاهما . والمعنى : أعرضوا عن أذاهما . وقيل : الأمر بكف الأذى عنهما منسوخ بآية الجلد . قال ابن عطية : وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا ، لأنّ تركهم إنما هو إعراض . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( وليس هذا الإعراض في الآيتين أمراً بهجرةٍ ، ولكنها متاركة معرض ، وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة . انتهى كلامه .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً ( أي رجاعاً بعباده عن معصيته إلى طاعته ، رحيماً لهم بترك أذاهم إذا تابوا .
النساء : ( 17 ) إنما التوبة على . . . . .
( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً ( تقدم الكلام في إنما وفي دلالتها على الحصر ، أهو من حيث الوضع ، أو الاستعمال ؟ أم دلالة لها عليه ؟ وتقدم الكلام في التوبة وشروطها ، فأغنى ذلك عن إعادته . وقوله : إنما التوبة على الله هو على حذف مضاف من المبتدأ والخبر ، والتقدير : إنما قبول التوبة مترتب على فضل الله ، فتكون على باقية على بابها . وقال الزمخشري : يعني إنما القبول والغفران واجب على الله تعالى لهؤلاء انتهى . وهذا الذي قاله هو على طريق المعتزلة ، والذي نعتقده أن الله لا يجب عليه تعالى شيء من جهة العقل ، فأما ما ظاهره الوجوب من جهة السمع على نفسه كتخليد الكفار وقبول الإيمان من الكافر بشرطه فذلك واقع قطعاً ، وأما قبول التوبة فلا يحب على الله عقلاً وأما من جهة السمع فتظافرت ظواهر الآي والسنة على قبول الله التوبة ، وأفادت القطع بذلك . وقد ذهب أبو المعالي الجويني وغيره : إلى أن هذه الظواهر إنما تفيد غلبة الظن لا القطع بقبول التوبة ، والتوبة فرض بإجماع الأمة ، وتصح وإن نقضها في ثاني حال بمعاودة الذنب ومن ذنب ، وإن أقام على ذنب غيره خلافاً للمعتزلة ومن نحا نحوهم ممن ينتمي إلى السنة ، إذ ذهبوا إلى أنه لا يكون تائباً من أقام على ذنب . وقيل : على بمعنى عند . وقال الحسن : بمعنى من ، والسوء يعم الكفر والمعاصي غيره سمي بذلك لأنه تسوء عاقبته .
وموضع بجهالة حال ، أي : جاهلين ذوي سفه وقلة تحصيل ، إذ ارتكاب السوء ، لا يكون إلا عن غلبة الهوى للعقل ، والعقل يدعو إلى الطاعة ، والهوى والشهوة يدعوان إلى المخالفة ، فكل عاص جاهل بهذا التفسير . ولا تكون الجهالة هنا التعمد ، كما ذهب إليه الضحاك . وروي عن مجاهد لإجماع المسلمين : على أنَّ من تعمد الذنب وتاب ، تاب الله

" صفحة رقم 208 "
عليه . وأجمع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على أن كل معصية هي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً . وقال الكلبي : بجهالة أي لا يجهل كونها معصية ، ولكن لا يعلم كنه العقوبة . وقال عكرمة : أمور الدّنيا كلها جهالة ، يعني ما اختص بها وخرج عن طاعته الله . وقال الزجاج : جهالته من حيث آثر اللذة الفانية على اللذة الباقية ، والحظ العاجل على الآجل . وقيل : الجهالة الإصرار على المعصية ، ولذلك عقبه بقوله : ثم يتوبون من قريب . وقيل : معناه فعله غير مصرّ عليه ، فأشبه الجاهل الذي لا يتعمد الشيء . وقال الترمذي : جهل الفعل الوقوع فيه من غير قصد ، فيكون المراد منه العفو عن الخطأ ، ويحتمل قصد الفعل والجهل بموقعه أي : حرام ، أو في الحرمة : أي : قدر هي فيرتكبه مع الجهالة بحاله ، لا قصد الاستخفاف به والتهاون به . والعمل بالجهالة قد يكون عن غلبة شهوة ، فيعمل لغرض اقتضاء الشهوة على طمع أنه سيتوب من بعد ويصير صالحاً ، وقد يكون على طمع المغفرة والاتكال على رحمته وكرمه . وقد تكون الجهالة جهالة عقوبة عليه .
ومعنى من قريب : أي من زمان قريب . والقرب هنا بالنسبة إلى زمان المعصية ، وهي بقية مدة حياته إلى أن يغرغر ، أو بالنسبة إلى زمان مفارقة الرّوح . فإذا كانت توبته تقبل في هذا الوقت فقبولها قبله أجدر ، وقد بين غاية منع قبول التوبة في الآية بعدها بحضور الموت . وقيل : قبل أن يحيط السوء بحسناته ، أي قبل أن تكثر سيئاته وتزيد على حسناته ، فيبقى كأنه بلا حسنات . وقيل : قبل أن تتراكم ظلمات قلبه بكثرة ذنوبه ، ويؤديه ذلك إلى الكفر المحيط . وقال عكرمة والضحاك ومحمد بن قيس وأبو مجلز وابن زيد وغيرهم : قبل المعاينة للملائكة والسوق . وقال ابن عباس والسدي : قبل المرض والموت . فذكر ابن عباس أحسن أوقات التوبة ، وذكر من قبله آخر وقتها . وقال ابن عباس أيضاً : قبل أن ينزل به سلطان الموت ، وروى أبو أيوب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) وعن الحسن أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض : وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده ، فقال : وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر . قيل : وسميت هذه المدة قريبة لأن الأجل آتِ ، وكل ما هو آت قريب . وتنبيهاً على أن مدة عمر الإنسان وإن طالت فهي قليلة قريبة ، ولأنّ الإنسان يتوقع كل لحظة نزول الموت به ، وما هذه حاله فإنه يوصف بالقرب .
وارتفاع التوبة على الابتداء ، والخبر هو على الله ، وللذين متعلق بما يتعلق به على الله ، والتقدير : إنما التوبة مستقرة على فضل الله وإحسانه للذين . وقال أبو البقاء : في هذا الوجه يكون للذين يعملون السوء حالاً من الضمير في قوله : على الله ، والعامل فيها الظرف ، والاستقرار أي ثابتة للذين انتهى . ولا يحتاج إلى هذا التكلف . وأجاز أبو البقاء أن يكون الخبر للذين ، ويتعلق على الله بمحذوف ، ويكون حالاً من محذوف أيضاً والتقدير : إنما التوبة إذا كنت ، أو إذ كانت على الله . فإذا وإذ ظرفان العامل فيهما للذين ، لأن الظرف يعمل فيه المعنى وإن تقدم عليه . وكان تامة ، وصاحب الحال ضمير الفاعل لكان . قال : ولا يجوز أن يكون على الله حالاً يعمل فيها للذين ، لأنه عامل معنوي ، والحال لا يتقدم على المعنوي . ونظير هذه المسألة قولهم : هذا بسرا أطيب منه رطباً انتهى . وهو وجه متكلف في الإعراب ، غير متضح في المعنى ، وبجهالة في موضع الحال أي : مصحوبين بجهالة . ويجوز عندي أن تكون باء السبب أي الحامل

" صفحة رقم 209 "
لهم على عمل السوء هو الجهالة ، إذ لو كانوا عالمين بما يترتب على المعصية متذكرين له حالة إتيان المعصية ما عملوها كقوله ( لا يزني الزاني حتى يزني وهو مؤمن ) لأن العقل حينئذ يكون مغلوباً أو مسلوباً . ومن في قوله : من قريب ، تتعلق بيتوبون ، وفيها وجهان : أحدهما : أنها للتبعيض ، أي بعض زمان قريب ، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب . والثاني : أن تكون لابتداء الغاية ، أي يبتدىء التوبة من زمان قريب من المعصية لئلا يقع في الإصرار . ومفهوم ابتداء الغاية : أنه لو تاب من زمان بعيد فإنه يخرج عن من خصّ بكرامة ختم قبول التوبة على الله المذكورة في الآية بعلى ، في قوله : على الله . وقوله : يتوب الله عليهم ، ويكون من جملة الموعودين بكلمة عسى في قوله : فأولئك ) عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ).
ودخول من الابتدائية على الزمان لا يجيزه البصريون ، وحذف الموصوف هنا وهو زمان ، وقامت الصفة التي هي قريب مقامه ، ليس مقيساً . لأن هذه الصفة وهي القريب ليست من الصفات التي يجوز حذفها بقياس ، لأنها ليست مما استعملت استعمال الأسماء ، فلم يلفظ بموصوفها كالأبطح ، والأبرق ، ولا مختصة بجنس الموصوف نحو : مررت بمهندس ، ولا تقدم ذكر موصوفها نحو : اسقني ماء ولو بارداً ، وما لم يكن كذلك مما كان الوصف فيه اسماً وحذف فيه الموصوف وأقيمت صفته مقامه فليس بقياس .
فأولئك يتوب الله عليهم ، لما ذكر تعالى أنَّ قبول التوبة على الله لمن ذكر أنه تعالى هو يتعطف عليهم ويرحمهم ، ولذلك اختلف متعلقاً التوبة باختلاف المجرور . لأن الأول على الله ، والثاني عليهم ، ففسر كل بما يناسبه . ولما ضمَّن يتوب معنى ما يعدى بعلى عداه بعلى ، كأنه قال : يعطف عليهم . وفي على الأولى روعي فيها المضاف المحذوف وهو قبول . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما فائدة قوله فأولئك يتوب الله عليهم بعد قوله : إنما التوبة على الله لهم ؟ ( قلت ) : قوله : إنما التوبة على الله إعلام بوجوبها عليه ، كما يجب على العبد بعض الطاعات . وقوله : فأولئك يتوب الله عليهم ، عدة بأنه يفي بما وجب عليه ، وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة ، كما بعد العبد الوفاء بالواجب . انتهى كلامه . وهو مشير إلى طريق الاعتزال في قولهم : إنَّ الله يجب عليه ، وتقدم ذكر مذهبهم في ذلك . وقال محمد بن عمر الرازي ما ملخصه : إن قوله : إنما التوبة على الله إعلام بأنه يجب قبولها لزوم إحسان لا استحقاق ، ويتوب عليهم إخبار بأنه سيفعل ذلك . أو يكون الأولى بمعنى الهداية إلى التوبة والإرشاد ، ويتوب عليهم بمعنى يقبل توبتهم . وكان الله عليماً حكيماً . أي عليماً بمن يطيع ويعصى ، حكيماً أي : يضع الأشياء مواضعها ، فيقبل توبة من أناب إليه .
النساء : ( 18 ) وليست التوبة للذين . . . . .
( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الاْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ( نفى تعالى أن يكون التوبة للعاصي الصائر في حيز اليأس من الحياة ، ولا للذي وافى على الكفر . فالأول : كفرعون إذ لم ينفعه إيمانه وهو في غمرة الماء والغرق ، وكالذين قال تعالى فيهم : ) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( وحضور الموت أول أحوال الآخرة ، فكما أن من مات على الكفر لا تقبل منه التوبة في الآخرة ، فكذلك هذا الذي حضره الموت . قال الزمخشري : سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت ، وبين الذين ماتوا على الكفر أنه لا توبة لهم ، لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة . فكما أنَّ الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين ، فكذلك المسوف إلى حضرة الموت ، لمجاوزة كل واحد منهما . أوانَّ التكليف والاختيار انتهى كلامه . وهو على طريق الاعتزال . زعمت المعتزلة أن العلم بالله في دار التكليف يجوز أن يكون نظرياً ، فإذا صار العلم بالله ضرورياً سقط التكليف . وأهلُ الآخرة لأجل مشاهدتهم أهوالها يعرفون الله بالضرورة ، فلذلك سقط التكليف . وكذلك الحالة التي يحصل عندها العلم بالله على سبيل الاضطرار . والذي قاله المحققون : إن القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة ، لأن جماعة من بني

" صفحة رقم 210 "
إسرائيل أماتهم الله ، ثم أحياهم وكلفهم ، فدل على أنّ مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف ، ولأن الشدائد التي تلقاها عند قرب الموت ليست أكثر مما تلقاها بالقولنج والطلق وغيرهما ، وليس شيء من هذه يمنع من بقاء التكليف ، فكذلك تلك . ولأنّه عند القرب يصير مضطراً فيكون ذلك سبباً للقبول ، ولكنه تعالى يفعل ما يشاء . وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات ، وبعدله أخبر عن عدم قبولها في وقت آخر ، وله أن يجعل المقبول مردود ، والمردود مقبولاً ، ( لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( وقد رد على المعتزلة في دعواهم سقوط التكليف بالعلم بالله إذا صار ضرورة ، وفي دعواهم أنّ مشاهدة أحوال الآخرة يوجب العلم بالله على سبيل الاضطرار .
وقال الربيع : نزلت وليست التوبة في المسلمين ، ثم نسخها : ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( فحتم أن لا يغفر للكافرين ، وأرجى المؤمنين إلى مشيئته . وطعن على ابن زيد : بأن الآية خبر ، والأخبار لا تنسخ . وأجيب : بأنها تضمنت تقرير حكم شرعي ، فيجوز نسخ ذلك الحكم ، ولا يحتاج إلى ادعاء نسخ ، لأن هذه الآية لم تتضمن أنَّ من لا توبة له مقبولة من المؤمنين لا يغفر له ، فيحتاج أن ينسخ بقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . وظاهر قوله : ولا الذين يموتون وهم كفار أن هؤلاء مغايرون لقوله : الذين يعملون السيئات ، لأنّ أصل المتعاطفين أن يكونا غيرين ، وللتأكيد بلا المشعرة بانتفاء الحكم عن كل واحد تقول : هذا ليس لزيد وعمرو بل لأحدهما ، وليس هذا لزيد ولا لعمر ، وفينتفي عن كل واحد منهما ، ولا يجوز أن تقول : بل لأحدهما ، وليس هذا لزيد ولا لعمرو ، فينتفي عن كل واحد منهما ، ولا يجوز أن تقول : بل لأحدهما . وإذا تقرر هذا اتضح ضعف قول الزمخشري في قوله : ( فإن قلت ) : من المراد بالذين يعملون السيئات ، أهم الفساق من أهل القبلة ، أم الكفار ؟ ( قلت ) : فيه وجهان : أحدهما : أن يراد به الكفار لظاهر قوله : وهم كفار ، وأن يراد الفساق لأن الكلام إنما وقع في الزانيين ، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا ، ويكون قوله : وهم كفار وارداً على سبيل التغليظ كقوله : ) وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( وقوله : ( سقط : فليمت إن شاء يهوديا ، أو نصرانيا من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر ، لأن من كان مصدقا ، ومات وهو لا يحدث نفسه بالتوبة حاله قريبة من حالة الكافر ، لأنه لا يجتري على ذلك إلا قلب مصمت انتهى كلامه ، وهو في غاية الاضطراب ، لأنه قبل ذلك حمل الآية على أنها دالة على قسمين ، أحدهما الذين سوفوا التوبة إلى حضور الموت ، والثاني الذين ماتوا على الكفر ، وفي هذا الجواب حمل الآية ، على أنها أريد بها أحد القسمين ، إما الكفار فقط ، وهو الذين وصفوا عنده ، بأنهم يعملون السيئات ، ويموتون على الكفر ، وعلل هذا الوجه بقوله لظاهر قوله ( وهم كفار ) فجعل هذه الحالة على أنه أريد بالذين يعملون السيئات هم الكفار ، وإما الفساق من المؤمنين ، فيكون قوله ( وهم كفار ) لا يراد به الكفر حقيقة ، ولا أنهم يوافون على الكفر حقيقة ، وإنما جاء ذلك على سبيل التغليظ عنده ، فقد خالف تفسيره في هذا الجواب صدر تفسيره للآية أولا ، وكل ذلك انتصار لمذهبه ، حتى يترتب العذاب إما للكافر ، وإما للفاسق ، فخرج بذلك عن قوانين النحو ، والحمل على الظاهر لأنه قوله ( وهم كفار ) ليس ظاهره إلا أنه قيد في قوله ( ولا الذين يموتون ) وظاهره الموافاة على الكفر حقيقة ، وكما أنه شرط في انتفاء قبول التوبة الذين يعملون السيئات وإيقاعها في حال حضور الموت ، وكذلك شرط في ذلك كفرهم حالة الموت وظاهر العطف التغاير والزمخشري كما قيل في المثل ، حبك الشي يعمي ويصم ، وجاء ( يعلمون ) بصيغة المضارع ، لا بصيغة الماضي إشعارا بأنهم مصرون على عمل السيئات إلى أن يحضره الموت ، وظاهر قوله ( تبت الآن ) توبة شريطية ، فلم تقبل ، لأنه لم يقطع بها ، وقوله ( وليست التوبة ) ظاهره النفي ، لوجودها ، والمعنى على نفي القبول أي : أت توبتهم وإن وجدت ليست مقبولة ، وظاهر قوله ( ولا الذين يموتون وهم كفار ) وقوع الموت حقيقة ، فالمعنى أنهم لو تابوا في الآخرة لم تقبل توبتهم ، لأنه لا يمكن ذلك في الدنيا ، لأنهم ماتوا ملتبسين في الكفر ، قيل : يحتمل أن يراد

" صفحة رقم 211 "
بقوله ( يموتون ) يقربون من الموت ، كما في قوله ( حضر أحدهم الموت ) أي علاماته فكما أنّ التوبة عن المعصية لا تقبل عند القرب من الموت ، كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت .
( أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( يحتمل أن تكون الإشارة إلى الصنفين ، ويكونان قد شركا في إعداد العذاب لهما ، وإن كان عذاب أحدهما منقطعاً والآخر خالداً . ويكون ذلك وعيداً للعاصي الذي لم يتب إلا عند معاينة الموت حيث شرّك بينه وبين الذي وافى على الكفر ، ويحتمل أن يكون أولئك إشارة إلى الصنف الأخير إذ هو أقرب مذكور . واسم الإشارة يجري مجرى الضمير ، فيشار به إلى أقرب مذكور ، كما يعود الضمير على أقرب مذكور ، ويكون إعداد العذاب مرتباً على الموافاة على الكفر ، إذ الكفر هو مقطع الرجاء من عفو الله تعالى . وظاهر الإعداد أنّ النار مخلوقة وسبق الكلام على ذلك .
وقال الزمخشري : أولئك أعتدنا لهم في الوعيد ، نظير قوله : ) أُوْلَائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ( في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة انتهى . وتلطف الزمخشري في دسه الاعتزال هنا ، وذلك أنه كان قد قرر أول كلامه بأنّ من نفى عنهم التوبة صنفان ، ثم ذكر هذا عقيبه ، وفهم منه أن الوعيد في حق هذين الصنفين ، كائن لا محالة ، كما أن الوعد للذين تقبل توبتهم من الصنف المذكور ، قبل هذه الآية واقع لا محالة ، فدل على أنّ العصاة الذين لا توبة لهم وعيدهم كائن مع وعيد الكفار ، وهذا هو مذهب المعتزلة . ومع احتمال أن يكون أولئك إشارة إلى الذين يوافون على الكفر ، ويرجح ذلك بأن فعل الكافر أقبح من فعل الفاسق ، لا يتعين أن يكون الوعيد مقطوعاً به للفاسق . وعلى تقدير أن يكون الوعيد للفاسق الذي لا توبة له ، فلا يلزم وقوع ما دل عليه ، إذ يجوز العقاب ويجوز العفو . وفائدة وروده حصول التخويف للفاسق . وكل وعيد للفساق الذين ماتوا على الإسلام فهو مقيد بقوله تعالى : ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( وهذه هي الآية المحكمة التي يرجع إليها .
وذهب أبو العالية الرياحي وسفيان الثوري : إلى أن قوله : ) لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ( في حق المنافقين ، واختاره المروزي . قال : فرق بالعطف ، ودل على أنَّ المراد بالأول المنافقون . كما فرق بينهم في قوله : ) فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( لأن المنافق كان مخالفاً للكافر بظاهره في الدنيا . والذي يظهر أنها في عصاة المؤمنين الذين يتوبون حال اليأس من الحياة ، لأن المنافقين مندرجون في قوله : ) وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ( فهم قسم من الكفار لا قسيم لهم . وقيل : إنما التوبة على الله في الصغائر ، وليست التوبة للذين يعملون السيئات في الكبائر ، ولا الذين يموتون وهم كفار في الكفر .
النساء : ( 19 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً ( قال ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، وأبو مجلز : كان أولياء الميت أحق بامرأته من أهلها ، إن شاؤوا تزوجها أحدهم ، أو زوجوها غيرهم ، أو منعوها . وكان ابنه من غيرها يتزوجها ، وكان ذلك في الأنصار لازماً ، وفي قريش مباحاً . وقال مجاهد : كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه ، إذا لم يكن ولدها . وقال السدي : إن سبق الولي فوضع ثوبه عليها كان أحق بها ، أو سبقته إلى أهلها كانت أحق بنفسها ، فأذهب الله ذلك بهذه الآية .
والخطاب على هذا للأولياء نهو أن يرثوا النساء المخلفات عن الموتى كما يورث المال . والمراد نفي الوراثة في حال الطوع والكراهة ، لا جوازها في حال الطوع استدلالاً بالآية ، فخرج هذا الكره مخرج الغالب ، لأن غالب أحوالهن أن يكنّ مجبورات على ذلك إذ كان أولياؤه أحق بها من أولياء نفسها . وقيل : هو إمساكهن دون تزويج حتى يمتن فيرثون أموالهن ، أو في حجرة يتيمة لها مال فيكره أن يزوجها غيره محافظة

" صفحة رقم 212 "
على مالها ، فيتزوجها كرهاً لأجله . أو تحته عجوز ذات مال ، ويتوق إلى شابة فيمسك العجوز لمالها ، ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها ، أو تموت فيرث مالها . والخطاب للأزواج ، وعلى هذا القول وما قبله يكون الموروث مالهن ، لا هن . وانتصب كرهاً على أنه مصدر في موضع الحال من النساء ، فيقدر باسم فاعل أي : كإرهاب ، أو باسم مفعول أي : مكرهات . وقرأ الحرميان وأبو عمرو : وبفتح الكاف ، حيث وقع وحمزة والكسائي بضمها ، وعاصم وابن عامر بفتحها في هذه السورة وفي التوبة ، وبضمها في الأحقاف وفي المؤمنين ، وهما لغتان : كالصمت والصمت قاله : الكسائي والأخفش وأبو علي . وقال الفراء : الفتح بمعنى الإكراه ، والضم من فعلك تفعله كارهاً له من غير مكره كالأشياء التي فيها مشقة وتعب ، وقاله : أبو عمرو بن العلاء وابن قتيبة أيضاً . وتقدّم الكلام عليه في قوله : ) وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ( في البقرة . وقرىء : لا تحل لكم بالتاء على تقدير لا نحل لكم الوراثة ، كقراءة من قرأ : ) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ( أي إلا مقالتهم ، وانتصاب النساء على أنه مفعول به إمّا لكونهن هن أنفسهن الموروثات ، وإما على حذف مضاف أي : أموال النساء .
( وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ ( أي لا تحبسوهن ولا تضيقوا عليهن . وظاهر هذا الخطاب أنه للأزواج لقوله : ببعض ما آتيتموهن ، لأن الزوج هو الذي أعطاها الصداق . وكان يكره صحبة زوجته ولها عليه مهر ، فيحبسها ويضربها حتى تفتدي منه قاله : ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي . أو ينكح الشريفة فلا توافقه ، فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ، ويشهد على ذلك ، فإذا خطبت وأرضته أذن لها ، وإلا عضلها قاله : ابن زيد . أو كانت عادتهم منع المطلقة من الزوج ثلاثاً فنهوا عن ذلك . وقيل : هو خطاب للأولياء كما بين في قوله : ) لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً ( ويحتمل أن يكون الخطاب للأولياء والأزواج في قوله : ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( فلقوا في هذا الخطاب ، ثم أفرد كل في النهي بما يناسبه ، فخوطب الأولياء بقوله : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ، وخوطب الأزواج بقوله : ولا تعضلوهن ، فعاد كل خطاب إلى من يناسبه . وتقدّم تفسير العضل في البقرة في قوله : ) فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ( والباء في ببعض ما آتيتموهن للتعدية ، أي : لتذهبوا بعض ما آتيتموهن . ويحتمل أن تكون الباء للمصاحبة أي : لتذهبوا مصحوبين ببعض ما آتيتموهن .
( إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ ( هذا استثناء متصل ، ولا حاجة إلى دعوى الانقطاع فيه كما ذهب إليه بعضهم . وهو استثناء من ظرف زمان عام ، أو من علة . كأنه قيل : ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت أن يأتين . أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين . والظاهر أن الخطاب بقوله : ولا تعضلوهن للأزواج إذ ليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعاً من الأمة ، وإنما ذلك للزوج على ما تبين .
والفاحشة هنا الزنا قاله : أبو قلابة والحسن . قال الحسن : إذا زنت البكر جلدت مائة ونفيت سنة ، وردت إلى زوجها ما أخذت منه . وقال أبو قلابة : إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارّها ويشق عليها حتى تفتدي منه . وقال السدي : إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن . وقال عطاء : كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود . وقال ابن سيرين وأبو قلابة : لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها . وقال قتادة : لا يحل له أن يحبسها ضراراً حتى تفتدي منه ، يعني : وإن

" صفحة رقم 213 "
زنت . وقال ابن عباس وعائشة والضحاك وغيرهم : الفاحشة هنا النشوز ، فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها ، وهذا مذهب مالك وقال قوم : الفاحشة البدء باللسان وسوء العشرة قولاً وفعلاً وهذا في معنى النشوز . والمعنى : إلا أن يكون سوء العشرة من جهتين ، فيجوز أخذ مالهن على سبيل الخلع . ويدل على هذا المعنى قراءة أبي : إلا أن يفحشن عليكم ، وقراءة ابن مسعود : إلا أن يفحشن وعاشروهن ، وهما قراءتان مخالفتان لمصحف الإمام ، وكذا ذكر الداني عن ابن عباس وعكرمة . والذي ينبغي أن يحمل عليه أن ذلك على سبيل التفسير والإيضاح ، لا على أن ذلك قرآن . ورأى بعضهم أن لا يتجاوز ما أعطاها ركوناً لقوله : ) لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ ( وقال مالك : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملكه . وظاهر الاستثناء يقتضي إباحة العضل له ليذهب ببعض ما أعطاها لأكله ، ولا ما لم يعطها من ماله إذا أتت بالفاحشة المبينة . وقرأ ابن كثير وأبو بكر : مبينة هنا ، وفي الأحزاب ، والطلاق بفتح الياء ، أي أي يبينها من يدعيها ويوضحها . وقرأ الباقون : بالكسر أي : بينة في نفسها ظاهرة . وهي اسم فاعل من بين ، وهوفعل لازم بمعنى بان أي ظهر ، وظاهر قوله : ولا تعضلوهن ، أن لا نهى ، فالفعل مجزوم بها ، والواو عاطفة جملة طلبية على جملة خبرية . فإن قلنا : شرط عطف الجمل المناسبة ، فالمناسبة أن تلك الخبرية تضمنت معنى النهي كأنه قال : لا ترثوا النساء كرهاً فإنه غير حلال لكم ولا تعضلوهن . وإن قلنا : لا يشترط في العطف المناسبة وهو مذهب سيبويه ، فظاهر . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون تعضلوهن نصباً عطفاً على ترثوا ، فتكون الواو مشركة عاطفة فعلاً على فعل . وقرأ ابن مسعود : ولا أن تعضلوهن ، فهذه القراء تقوي احتمال النصب ، وأن العضل مما لا يحلّ بالنصّ . وعلى تأويل الجزم هي نهي معوض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهة ، واحتمال النصب أقوى انتهى ما ذكره من تجويز هذا الوجه ، وهو لا يجوز . وذلك أنك إذا عطفت فعلاً منفياً بلا على مثبت وكانا منصوبين ، فإنّ الناصب لا يقدر إلا بعد حرف العطف ، لا بعد لا . فإذا قلت : أريد أن أتوب ولا أدخل النار ، فالتقدير : أريد أن أتوب وأن لا أدخل النار ، لأن الفعل يطلب الأول على سبيل الثبوت ، والثاني على سبيل النفي . فالمعنى : أريد التوبة وانتفاء دخولي النار . فلو كان الفعل المتسلط على المتعاطفين منفياً ، فكذلك ولو قدّرت هذا التقدير في الآية لم يصح لو قلت : لا يحل لكم أن لا تعضلوهن لم يصح ، إلا أن تجعل لا زائدة لا نافية ، وهو خلاف الظاهر . وأما أن تقدر أن بعد لا النافية فلا يصح . وإذا قدرت أنّ بعد لا كان من باب عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر ، لا من باب عطف الفعل على الفعل ، فالتبس على ابن عطية العطفان ، وظن أنه بصلاحية تقدير أن بعد لا يكون من عطف الفعل على الفعل ، وفرق بين قولك : لا أريد أن يقوم وأن لا يخرج ، وقولك : لا أريد أن يقوم ولا أن يخرج ، ففي الأول : نفي إرادة وجود قيامه وإرادة انتفاء خروجه ، فقد أراد خروجه . وفي الثانية نفي إرادة وجود قيامه ، ووجود خروجه ، فلا يريد لا القيام ولا الخروج . وهذا في فهمه بعض غموض على من لم يتمرن في علم العربية . .
( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( هذا أمر بحسن المعاشرة ، والظاهر أنه أمر للأزواج ، لأن التلبس بالمعاشرة غالباً إنما هو للأزواج ، وكانوا يسيئون معاشرة النساء ، وبالمعروف هو النصفة في المبيت والنفقة ، والإجمال في القول . ويقال : المرأة تسمن من أذنها .
( فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ( أدب تعالى عباده بهذا . والمعنى : أنه لا تحملكم الكراهة على سوء المعاشرة ، فإن كراهة الأنفس للشيء لا تدل على انتفاء الخير منه ، كما قال تعالى : ) وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ( ولعل ما كرهت النفس يكون أصلح في الدين وأحمد في العاقبة ، وما أحبته يكون بضد ذلك . ولما كانت عسى فعلاً جامداً دخلت عليه فاء الجواب ، وعسى هنا تامّة ، فلا تحتاج إلى اسم وخبر . والضمير في فيه عائد على شيء أي : ويجعل الله في ذلك الشيء المكروه . ( وقيل ) :

" صفحة رقم 214 "
عائد على الكره وهو المصدر المفهوم من الفعل . ( وقيل ) : عائد على الصبر . وفسر ابن عباس والسدي : الخير بالولد الصالح ، وهو على سبيل التمثيل لا الحصر . وانظر إلى فصاحة فعسى أن تكرهوا شيئاً ، حيث علّق الكراهة بلفظ شيء الشامل شمول البدل ، ولم يعلق الكراهة بضميرهن ، فكان يكون فعسى أن تكرهوهن . وسياق الآية يدل على أن المعنى الحث على إمساكهن وعلى صحبتهن ، وإن كره الإنسان منهن شيئاً من أخلاقهن . ولذلك جاء بعده :
النساء : ( 20 ) وإن أردتم استبدال . . . . .
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج . ( وقيل ) : معنى الآية : ويجعل الله في فراقكم لهنّ خيراً كثيراً لكم ولهن ، كقوله : ) وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ ( قاله الأصم : وهذا القول بعيد من سياق الآية ، ومما يدل عليه ما قبلها وما بعدها . وقلّ أن ترى متعاشرين يرضى كل واحد منهما جميع خلق الآخر ، ويقال : ما تعاشر إثنان إلا وأحدهما يتغاضى عن الآخر . وفي صحيح مسلم : ( لا يفزك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر ) . وأنشدوا في هذا المعنى : ومن لا يغمض عينه عن صديقه
وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبع جاهداً كل عثرة يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
) وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً ( لمّا أذن في مضارتهن إذا أتين بفاحشة ليذهب ببعض ما أعطاها ، بنى تحريم ذلك في غير حال الفاحشة ، وأقام الإرادة مقام الفعل . فكأنه قال : وإن استبدلتم . أو حذف معطوف أي : واستبدلتم . وظاهر قوله : وآتيتم أن الواو للحال ، أي : وقد آتيتم . وقيل : هو معطوف على فعل الشرط وليس بظاهر . والاستبدال وضع الشيء مكان الشيء والمعنى : أنه إذا كان الفراق من اختياركم فلا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً . واستدل بقوله : وآتيتم إحداهن قنطاراً على جواز المغالاة في الصدقات ، وقد استدلت بذلك المرأة التي خاطبت عمر حين خطب وقال : ) إِلاَّ لاِجَلٍ مّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ). وقال قوم : لا تدل على المغالاة ، لأنه تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة كأنه : قيل وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد ، وهذا شبيه بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من بنى مسجداً لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة ) ومعلوم أن مسجداً لا يكون كمفحص قطاة ، وإنما هو تمثيل للمبالغة في الصغر . وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) لمن أمهر مائتين وجاء يستعين في مهره وغضب ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة ) وقال محمد بن عمر الرازي : لا دلالة فيها على المغالاة لأن قوله : وآتيتم لا يدل على جواز إيتاء القنطار ، ولا يلزم من جعل الشيء شرطاً لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع كقوله : ) مَن قَتَلَ لَهُ ( انتهى . ولما كان قوله : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ، خطاباً لجماعة كان متعلق الاستبدال أزواجاً مكان أزواج ، واكتفى بالمفرد عن الجمع لدلالة جمع المستبدلين ، إذ لا يوهم اشتراط المخاطبين في زوج واحدة مكان زوج واحدة ، ولا إرادة معنى الجماع عاد الضمير في قوله : إحداهن جمعاً والتي نهى أن نأخذ منها هي المستبدل مكانها ، إلا المستبدلة . إذ تلك هي التي أعطاها المال ، لا التي أراد استحداثها بدليل قوله : ) أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ( وقال : وآتيتم إحداهن قنطاراً ليدل على أن قوله : وآتيتم المراد منه ، وأتى كل واحد منكم إحداهن ، أي إحدى الأزواج قنطاراً ، ولم يقل : وآتيتموهن قنطاراً

" صفحة رقم 215 "
لئلا يتوهم أن الجميع المخاطبين أتوا الأزواج قنطاراً . والمراد : آتى كل واحد زوجته قنطاراً . فدل لفظ إحداهن على أن الضمير في : آتيتم ، المراد منه كل واحد واحد ، كما دل لفظ : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج على أن المراد استبدال أزواج مكان أزواج ، فأريد بالمفرد هنا الجمع لدلالة : وإن أردتم . وأريد بقوله : وآتيتم كل واحد واحد لدلالة إحداهن ، وهي مفردة على ذلك . وهذا من لطيف البلاغة ، ولا يدل على هذا المعنى بأوجز من هذا ولا أفصح . وتقدّم الكلام في قنطار في أول آل عمران والضمير في منه عائد على قنطار . وقرأ ابن محيصن : بوصل ألف إحداهن ، كما قرىء : أنها لإحدى الكبقر بوصل الألف ، حذفت على جهة التحقيق كما قال :
وتسمع من تحت العجاج لها ازملا
وقال :
إن لم أقاتل فألبسوني برقعا
وظاهر قوله : فلا تأخذوا منه شيئاً تحريم أخذ شيء مما آتاها إذا كان استبدال مكانها بإرادته . قالوا : وهذا مقيد بقوله : ) فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ ( قالوا : وانعقد عليه الإجماع . ويجري هذا المجرى المختلعة لأنها طابت نفسها أن تدفع للزوج ما افتدت به . وقال بكر بن عبد الله المزني : لا تأخذ من المختلعة شيئاً لقوله : فلا تأخذوا منه شيئاً وآية البقرة منسوخة بهذا ، وتقدّم الكلام في ذلك في سورة البقرة . وظاهر قوله : وآتيتم إحداهن قنطاراً ، والنهي بعده يدل على عموم ما آتاها ، سواء كان مهراً أو غيره .
أفضى بعضكم إلى بعض لأن هذا لا يقتضي أن يكون الذي آتاها مهراً فقط ، بل المعنى : أنه قد صار بينهما من الاختلاط والامتزاج ما لا يناسب أن يأخذ شيئاً مما آتاها ، سواء كان مهراً أو غيره . وقال أبو بكر الرازي : لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموماً في جميع ما تضمنه الاسم ، ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه ، ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأوّل انتهى كلامه . وهو منه تسليم أن المراد بقوله : وكيف تأخذونه ، أي المهر . وبينا أنه لا يلزم ذلك . قال أبو بكر الرازي : وفي الآية دليل على أن من أسلف امرأته نفقتها لمدة ثم ماتت قبل انقضاء المدة ، لا يرجع في ميراثها بشيء مما أعطاها لعموم اللفظ لأنه جائز ، أن يريد أن يتزوج أخرى بعد موتها مستبدلاً بها مكان الأولى . وظاهر الأمر قد تناول هذه الحالة انتهى . وليس بظاهرٍ لأنّ الاستبدال يقتضي وجود البدل والمبدل منه ، أما إذا كان قد عدم فلا يصح ذلك ، لأن المستبدل يترك هذا ويأخذ آخر بدلاً منه ، فإذا كان معدوماً فكيف يتركه ويأخذ بدله آخر ؟ وظاهر الآية يدل على تحريم أخذ شيء مما أعطاها إن أراد الاستبدال ، وآخر الآية يدل بتعليله بالإفضاء على العموم ، في حالة الاستبدال وغيرها . ومفهوم الشرط غير مراد ، وإنما خص بالذكر لأنها حالة قد يتوهم فيها أنه لمكان الاستبدال وقيام غيرها مقامها ، له أن يأخذ مهرها ويعطيه الثانية ، وهي أولى به من المفارقة . فبيّن الله أنه لا يأخذ منها شيئاً . وإذا كانت هذه التي استبدل مكانها لم يبح له أحد شيء مما آتاها ، مع سقوط حقه عن بضعها ، فأحرى أن لا يباح له ذلك مع بقاء حقه واستباحة بضعها ، وكونه أبلغ في الانتفاع بها منها بنفسه . وقرأ أبو السمال وأبو جعفر : شيا بفتح الياء وتنوينها ، حذف الهمزة وألقى حركتها على الياء .
( أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ( أصل البهتان : الكذب الذي يواجه به الإنسان صاحبه على جهة المكابرة فيبهت المكذوب عليه . أي : يتحير ثم سمى كل باطل يتحير من بطلانه بهتاناً . وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار ، أي : أتفعلون هذا مع ظهور قبحه ؟ وسمي بهتاناً لأنهم كانوا إذا أرادوا تطليق امرأة رموها بفاحشة حتى

" صفحة رقم 216 "
تخاف وتفتدي منه مهرها ، فجاءت الآية على الأمر الغالب . وقيل : سمي بهتاناً لأنه كان فرض لها المهر ، واسترداده يدل على أنه يقول : لم أفرضه ، وهذا بهتان . وانتصب بهتاناً وإثماً على أنهما مصدران في موضع الحال من الفاعل ، التقدير : باهتين وآثمين . أو من المفعول التقدير : مبهتاً محيراً لشنعته وقبح الأحدونة ، أو مفعولين من أجلهما أي : أتأخذونه لبهتانكم وإثمكم ؟ قال ذلك الزمخشري قال : وإن لم يكن غرضاً كقولك : قعد عن القتال جبناً .
النساء : ( 21 ) وكيف تأخذونه وقد . . . . .
( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ( وهذا استفهام إنكار أيضاً ، أنكر أولاً الأخذ ، ونبه على امتناع الأخذ بكونه بهتاناً وإثماً . وأنكر ثانياً حاله الأخذ ، وأنها ليست مما يمكن أن يجامع حال الإفضاء ، لأن الإفضاء وهو المباشرة والدنوّ الذي ما بعده دنو ، يقتضي أن لا يؤخذ معه شيء مما أعطاه الزوج ، ثم عطف على الإفضاء أخذ النساء الميثاق الغليظ من الأزواج . والإفضاء : الجماع قاله ، ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي . وقال عمر ، وعلي ، وناس من الصحابة ، والكلبي ، والفراء : هي الخلوة والميثاق ، هو قوله تعالى : ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( قاله : ابن عباس ، والحسن ، والضحاك ، وابن سيرين ، والسدي ، وقتادة . قال قتادة : وكان يقال للنكاح في صدر الإسلام : عليكم لتمسكنَّ بمعروف ، أو لتسرحنَّ بإحسان . وقال مجاهد وابن زيد : الميثاق كلمة الله التي استحللتم بها فروجهن ، وهي قول الرجل : نكحت وملكت النكاح ونحوه . وقال عكرمة : هو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ) وقال قوم : الميثاق الولد ، إذ به تتأكد أسباب الحرمة وتقوى دواعي الألفة . وقيل : ما شرط في العقد من أنّ على كل واحد منهما تقوى الله ، وحسن الصحبة والمعاشرة بالمعروف ، وما جرى مجرى ذلك . وقال الزمخشري : الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة ، كأنه قيل : وأخذن به منكم ميثاقاً غليظاً ، أي بإفضاء بعضكم إلى بعض . ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه ، فقد قالوا : صحبه عشرين يوماً قرابة ، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج ؟ انتهى كلامه .
النساء : ( 22 ) ولا تنكحوا ما . . . . .
( وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ( تقدم ذكر شيء من سبب نزول هذه الآية في قوله : ) لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً ( وقد ذكروا قصصاً مضمونها : أنّ من العرب مَن كان يتزوج امرأة أبيه ، وسموا جماعة تزوجوا زوجات آبائهم بعد موت آبائهم ، فأنزل الله تحريم ذلك . وتقدّم الخلاف في النكاح : أهو حقيقة في الوطء ، أم في العقد ، أم مشترك ؟ قالوا : ولم يأت النكاح بمعنى العقد إلا في ) فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ( وهذا الحصر منقوض بقوله : ) إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ). واختلف في ما من قوله : ما نكح . فالمتبادر إلى الذهن أنها مفعوله ، وأنها واقعة على النوع كهي في قوله تعالى : ) فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( أي : ولا تنكحوا النوع الذي نكح آباؤكم . وقد تقرر في علم العربية أنّ ما تقع على أنواع من يعقل ، وهذا على مذهب من يمنع وقوعها على آحاد من يعقل . أمّا مَن يجيز ذلك فإنه يتضح حمل ما في اة ية عليه ، وقد زعم أنه مذهب سيبويه . وعلى هذا المفهوم من إطلاق ما على منكوحات الآباء تلقت الصحابة الآية واستدلوا بها على تحريم نكاح الأبناء حلائل الآباء . قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين فنزلت هذه الآية في ذلك . وقال ابن عباس : كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل ، فهي عليك حرام .
وقال قوم : ما مصدرية . والتقدير : ولا تنكحوا نكاح آبائكم أي : مثل نكاح آبائكم الفاسد ، أو الحرام الذي كانوا يتعاطونه في الجاهلية كالشغار وغيره ، كما تقول : ضربت ضرب الأمير أي : مثل ضرب الأمير . ويبين كونه حراماً أو فاسداً قوله : ) إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ( واختار هذا القول محمد بن جرير قال : ولو كان معناه ولا

" صفحة رقم 217 "
تنكحوا النساء اللاتي نكح آباؤكم ، لوجب أن يكون موضع ما من . وحمل ابن عباس وعكرمة وقتادة وعطاء النكاح هنا على الوطء ، لأنهم كانوا يرثون نكاح نسائهم . وقال ابن زيد في جماعة : المراد به العقد الصحيح ، لا ما كان منهم بالزنا انتهى .
والاستثناء في قوله : إلا ما قد سلف منقطع ، إذ لا يجامع الاستقبال الماضي ، والمعنى : أنه لما حرم عليهم أن ينكحوا ما نكح آباؤهم ، دلّ على أن متعاطي ذلك بعد التحريم آثم ، وتطرق الوهم إلى ما صدر منهم قبل النهي ما حكمه . فقيل : إلا ما قد سلف أي : لكن ما قد سلف ، فلم يكن يتعلق به النهي فلا إثم فيه . ولما حمل ابن زيد النكاح على العقد الصحيح ، حمل قوله : إلا ما قد سلف ، على ما كان يتعاطاه بعضهم من الزنا ، فقال : إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا بالنساء ، فذلك جائز لكم زواجهم في الإسلام ، أنه كان فاحشة ومقتاً وكأنه قيل : ولا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم إلا ما قد سلف من زناهم ، فإنه يجوز لكم أن تتزوجوهم ، ويكون على هذا استثناء منقطعاً . وقيل عن ابن زيد : إن معنى الآية النهي أن يطأ الرجل امرأة وطنها أبوه إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بالمرأة ، فإنه يجوز للابن تزوجها ، فعلى هذا يكون إلا ما قد سلف استثناء متصلاً ، إذ ما قد سلف مندرج تحت قوله : ما نكح ، إذ المراد : ما وطىء آباؤكم . وما وطىء يشمل الموطوءة بزنا وغيره ، والتقدير : ما وطىء آباؤكم إلا التي تقدم هو أي : وطؤها بزنا من آبائكم فانكحوهن . ومن جعل ما في قوله : ما نكح مصدرية كما قررناه ، قال : المعنى إلا ما تقدم منكم من تلك العقود الفاسدة فمباح لكم الإقامة عليه في الإسلام ، إذ كان مما تقرر الإسلام عليه . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف استثنى ما قد سلف من ما نكح آباؤكم ؟ ( قلت ) : كما استثنى غير أن سيوفهم من قوله : ولا عيب فيهم . يعني : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه ، فلا يحل لكم غيره ، وذلك غير ممكن . والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته ، كما يعلق بالمجال في التأبيد في نحو قولهم : حتى يبيض القار ، وحتى يلج الجمل في اسم الخياط . انتهى كلامه . وقال الأخفش المعنى : تعذبون به إلا ما قد سلف ، فقد وضعه الله عنكم .
وقيل : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء أنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف ، وهذا جهل بعلم النحو ، وعلم المعاني . أما من حيث علم النحو فما كان في حيز أن لا يتقدم عليها ، وكذلك المستثنى لا يتقدم على الجملة التي هو من متعلقاتها بالاتصال أو الانقطاع ، وإن كان في هذا خلاف ولا يلتفت إليه . وأما من حيث المعنى فإنه أخبر أنه فاحشة ومقت في الزمان الماضي ، فلا يصح أن يستثنى منه الماضي ، إذ يصير المعنى هو فاحشة في الزمان الماضي ، إلا ما وقع منه في الزمان الماضي فليس بفاحشة ، وهذا معنى لا يمكن أن يقع في القرآن ، ولا في كلام عربي لتهافته . والذي يظهر من الآية أن كل امرأة نكحها أبو الرجل بعقد أو ملك فإنه يحرم عليه أن ينكحها بعقد أو ملك ، لأن النكاح ينطلق على الموطوءة بعقد أو ملك ، لأنه ليس الإنكاح أو سفاح ، والسفاح هو الزنا ، والنكاح هو المباح ، وأشار إلى تحريم ذلك بقوله :
) إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً ( أي أن نكاح الأبناء نساء آبائهم هو فاحشة أي : بالغة في القبح . ومقت : أي يمقت الله فاعله ، قاله أبو سليمان الدمشقي . أو تمقته العرب أي : مبغض محتقر عندهم ، وكان ناس من ذوي المروآت في الجاهلية يمقتونه . قال أبو عبيدة وغيره : كانت العرب تسمي الولد الذي يجىء من زوج الوالد المقتي ، نسبة إلى المقت . ومن فسر الا ما قد سلف بالزنا جعل الضمير في أنه عائد عليه أي : انَّ ما قد سلف من زنا الآباء كان فاحشة ، وكان يستعمل كثيراً بمعنى لم يزل ، فالمعنى : أنَّ ذلك لم يزل فاحشة ، بل هو متصف بالفحش في الماضي والحال والمستقبل ، فالفحش وصف لازم له .
وقال المبرد : هي زائدة . ورد عليه بوجود الخبر ، إذ الزائدة لا خبر لها . وينبغي أن يتأول كلامه على أنَّ كان لا يراد بها تقييد الخبر بالزمن الماضي فقط ، فجعلها زائدة بهذا الاعتبار .
وساء سبيلاً هذه مبالغة في الذم ، كما يبالغ ببئس . فان كان فيها

" صفحة رقم 218 "
ضمير يعود على ما عاد عليه ضمير إنّه ، فانها لا تجري عليها أحكام بئس . وإنْ كان الضمير فيها مبهماً كما يزعم أهل البصرة فتفسيره سبيلاً ، ويكون المخصوص بالذم اذ ذاك محذوفاً التقدير : وبئس سبيلاً سبيل هذا النكاح ، كما جاء بئس الشراب أي : ذلك الماء الذي كالمهل . وبالغ في ذم هذه السبيل ، إذ هي سبيل موصلة إلى عذاب الله . وقال البراء بن عازب : لقيت خالي ومعه الراية فقلت : أين تريد ؟ قال : أرسلني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ان أضرب عنقه .
النساء : ( 23 ) حرمت عليكم أمهاتكم . . . . .
( حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ( لما تقدم تحريم نكاح امرأة الأب على ابنه وليست أمه ، كان تحريم أمه أولى بالتحريم . وليس هذا من المجمل ، بل هذا مما حذف منه المضاف الدلالة المعنى عليه . لأنه إذا قيل : حرم عليك الخمر ، إنما يفهم منه شربها . وحرمت عليك الميتة أي : أكلها . وهذا من هذا القبيل ، فالمعنى : نكاح أمهاتكم . ولأنه قد تقدم ما يدل عليه وهو قوله : ) وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء ).
وقال محمد بن عمر الرازي : فيها عندي بحث من وجوه : أحدها : أنَّ بناء الفعل للمفعول لا تصريح فيه بأن المحرّم هو الله . وثانيها : أنّ حرمت لا يدل على التأبيد ، إذ يمكن تقسيمه إلى المؤبد والمؤقت . وثالثها : أنّ عليكم خطاب مشافهة ، فيختصّ بالحاضرين . ورابعها : أنّ حرمت ماض ، فلا يتناول الحال والمستقبل . وخامسها : أنه يقتضي أنه يحرم على كل أحد جميع أمهاتهم . وسادسها : أنَّ حرمت يشعر ظاهره بسبق الحل ، إذ لو كان حراماً لما قيل : حرمت . وثبت بهذه الوجوه أنّ ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب انتهى ملخصاً .
وهذه البحوث التي ذكرها لا تختص بهذا الموضع ولا طائل فيها ، إذ من البواعث على حذف الفاعل العلم به ، ومعلوم أنّ المحرّم هو الله تعالى . ألا ترى إلى آخر الآية وهو قوله : ) وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ( وقال بعد : ) وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ( على قراءة من بناه للفاعل . ومتى جاء التحريم من الله فلا يفهم منه إلا التأبيد ، فإن كان له حالة إباحة نصّ عليها كقوله : ) فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ( وأما أنه صيغة ماض فيخصه فالأفعال التي جاءت يستفاد منها الأحكام الشرعية ، وإن كانت بصيغة الماضي فإنها لا تخصه ، فإنها نظير أقسمت لأضربن زيداً لا يراد بها أنه صدر منه إقسام في زمان ماض . فإن كان الحكم ثابتاً قبل ورود الفعل ففائدته تقرير ذلك الحكم الثابت ، وإن لم كن ثابتاً ففائدته إنشاء ذلك الحكم وتجديده . وأمّا أن الظاهر أنه يحرم على كلّ أحد جميع أمهاتهم فليس بظاهر ، ولا مفهوم من اللفظ . لأنّ عليكم أمهاتكم عام يقابله عام ، ومدلول العموم أن تقابل كل واحد بكلّ واحد واحد . أما أن يأخذ ذلك على طريق الجمعية فلا ، لأنها ليست دلالة العام . فإنما المفهوم : حرم على كل واحد واحد منكم كلّ واحدة ، واحدة من أم نفسه . والمعنى : حرم على هذا أمة . وعلى هذا أمّة والأمّ المحرّمة شرعاً هي كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك ، أو من جهة أمك . ولفظ الأم حقيقة في التي ولدتك نفسه . ودلالة لفظ الأم على الجدّة إن كان بالتواطىء أو بالاشتراك ، وجاز حمله على المشتركين ، كان حقيقة ، وتناولها النص . وإن كان بالمجاز وجاز حمله على الحقيقة والمجاز ، فكذلك وإلا فيستفاد تحريم الجدّات من الإجماع أو من نصّ آخر .
وحرمة الأمهات والبنات كانت من زمان آدم عليه السلام إلى زماننا هذا ، وذكروا أنّ سبب هذا التحريم : أنّ الوطء إذلال وامتهان ، فصينت الأمهات عنه ، إذ إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الأنعام .
والبنت المحرّمة كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث أو ذكور ، وبنت البنت هل تسمى بنتاً حقيقة ، أو مجاز الكلام فيها كالكلام في الجدة ، وقد كان في العرب من تزوج ابنته وهو حاجب بن زرارة تمجس ، ذكر ذلك : النضر بن شميل في كتاب المثالب .
( وَأَخَواتُكُمْ ( الأخت المحرمة كل من جمعك وإياها صلب أو بطن

" صفحة رقم 219 "
) وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ ( العمة : أخت الأب ، والخالة : أخت الأم . وخص تحريم العمات والخالات دون أولادهن . وتحرم عمة الأب وخالته وعمة الأم وخالتها ، وعمة العمة . وأم خالة العمة فإن كانت العمة أخت أب لأم ، أو لأب وأم ، فلا تحل خالة العمة لأنها أخت الجدة . وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط ، فخالتها أجنبية من بني أخيها تحلّ للرجال ، ويجمع بينها وبين النساء . وأما عمة الخالة فإن كانت الخالة أخت أم لأب فلا تحل عمة الخالة ، لأنها أخت جد . وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أختها .
( وَبَنَاتُ الاْخِ وَبَنَاتُ الاْخْتِ ( تحرم بناتهما وإن سفلن . وأفرد الأخ والأخت ولم يأت جمعاً ، لأنه أضيف إليه الجمع ، فكان لفظ الإفراد أخف ، وأريد به الجنس المنتظم في الدلالة الواحدة وغيره . فهؤلاء سبع من النسب تحريمهن مؤبد . وأما اللواتي صرن محرمات بسبب طارىء فذكرهن في القرآن سبعاً وهن في قوله تعالى :
) وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُم مّنَ الرَّضَاعَةِ ( وسمى المرضعات أمهات لأجل الحرمة ، كما سمى أزواج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمهات المؤمنين . ولما سمى المرضعة أماً والمرضعة مع الراضع أختاً ، نبّه بذلك على إجراء الرضاع مجرى النسب . وذلك لأنه حرم بسبب النسب سبع : اثنتان هما المنتسبتان بطريق الولادة وهما : الأم والبنت . وخمس بطريق الأخوة وهن : الأخت ، والعمة ، والخالة ، وبنت الأخ ، وبنت الأخت . ولما ذكر الرضاع ذكر من كل قسم من هذين القسمين صورة تنبيهاً على الباقي ، فذكر من قسم قرابة الأولاد الأمهات ، ومن قسم قرابة الأخوة والأخوات ، ونبه بهذين المثالين على أنّ الحال في باب الرضاع كالحال في باب النسب . ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أكد هذا بصريح قوله : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فصار صريح الحديث مطابقاً لما أشارت إليه الآية . فزوج المرضعة أبوه ، وأبواه جداه ، وأخته عمته . وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهو أخوته وأخواته لأبيه ، وأم المرضعة جدته ، وأختها خالته . وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم أخوته وأخوانه لأبيه وأمه . وأما ولدها من غيره فهم أخوته وأخواته لأمه .
وقالوا : تحريم الرضاع كتحريم النسب إلا في مسألتين : إحداهما أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ، ويجوز له أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع . لأن المعنى في النسب وطؤه أمها ، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع . والثانية : لا يجوز أن يتزوج أم أخيه من النسب ، ويجوز في الرضاع . لأن المانع في النسب وطء الأب إياها ، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع ، وظاهر الكلام إطلاق الرضاع . ولم تتعرض الآية إلى سن الراضع ، ولا عدد الرضعات . ولا للبن الفحل ، ولا لإرضاع الرجل لبن نقسه للصبي ، أو إيجاره به ، أو تسعيطه بحيث يصل إلى الجوف . وفي هذا كله خلاف مذكور في كتب الفقه . وقرأ الجمهور : اللاتي أرضعنكم . وقرأ عبد الله : اللاي بالياء . وقرأ ابن هرمز : التي . وقرأ أبو حيوة : من الرضاعة بكسر الراء .
( وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ( الجمهور على أنها على العموم . فسواء عقد عليها ولم يدخل ، أم دخل بها . وروي عن علي ومجاهد وغيرهما : أنه إذا طلقها قبل الدخول ، فله أن يتزوج أمها . وأنها في ذلك بمنزلة الربيبة .
( وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ ( ظاهره أنه يشترط في تحريمها أن تكون في حجره ، وإلى هذا ذهب علي ، وبه أخذ داود وأهل الظاهر . فلو لم تكن في حجره وفارق أمها بعد الدخول جاز له أن يتزوجها . قالوا : حرم الله الربيبة بشرطين : أحدهما : أن تكون في حجر الزوج . الثاني : الدخول بالأم . فإذا فقد أحد الشرطين لم يوجد التحريم . واحتجوا بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة ) فشرط الحجر . وقال الطحاوي وغيره : إضافتهن إلى الحجور حملاً على

" صفحة رقم 220 "
أغلب ما يكون الربائب ، وهي محرمة وإن لم تكن في الحجر . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما فائدة قوله : في حجوركم ؟ ( قلت ) فائدته التعليل للتحريم ، وأنهن لاحتضانكم لهن ، أو لكونهن بصدد احتضانكم . وفي حكم التقلب في حجوركم إذا دخلتم بأمهاتهن ، وتمكن حكم الزواج بدخولكم جرت أولادهن مجرى أولادكم ، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم انتهى . وفيه بعض اختصار .
( مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ( ظاهر هذا أنه متعلق بقوله : وربائبكم فقط . واللاتي : صفة لنسائكم المجرور بمن ، ولا جائز أن يكون اللاتي وصفاً لنسائكم من قوله : وأمهات نسائكم ، ونسائكم المجرور بمن ، لأن العامل في المنعوتين قد اختلف : هذا مجرور بمن ، وذاك مجرور بالإضافة . ولا جائز أن يكون من نسائكم متعلقاً بمحذوف ينتظم أمهات نسائكم وربائبكم ، لاختلاف مدلول حرف الجر إذ ذاك ، لأنه بالنسبة إلى قوله : وأمهات نسائكم يكون من نسائكم لبيان النساء ، وتمييز المدخول بها من غير المدخول بهن . وبالنسبة إلى قوله : وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، يكون من نسائكم لبيان ابتداء الغاية كما تقول : هذا ابني من فلانة . قال الزمخشري : إلا أنّ أعلقه بالنساء والربائب ، وأجعل من للاتصال كقوله تعالى : ) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ ( ، فإني لست منك ولست مني ، ما أنا من دد ولا الدد مني . وأمهات النساء متصلات بالنساء ، لأنهن أمهاتهن . كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن ، لأنهن بناتهن انتهى . ولا نعلم أحداً ذهب إلى أنَّ من معاني من الاتصال . وأما ما شبه به من الآية والشعر والحديث ، فمتأول : وإذا جعلنا من نسائكم متعلقاً بالنساء ، والربائب كما زعم الزمخشري . فلا بد من صلاحيته لكل من النساء والربائب . فأما تركيبه مع لربائب ففي غاية الفصاحة والحسن ، وهو نظم الآية . وأما تركيبه مع قوله : وأمهات نسائكم ، فإنه يصير : وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، فهذا تركيب لا يمكن أن يقع في القرآن ، ولا في كلام فصيح ، لعدم الاحتياج في إفادة هذا المعنى إلى قوله : من نسائكم . والدخول هنا كناية عن الجماع لقولهم : بني عليها ، وضرب عليها الحجاب .
والباء : للتعدية ، والمعنى : اللاتي أدخلتموهن الستر قاله : ابن عباس ، وطاوس ، وابن دينار . فلو طلقها بعد البناء وقبل الجماع ، جاز أن يتزوج ابنتها . وقال عطاء ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث : إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها ، وحرمت على الأب والابن ، وهو أحد قولي الشافعي . واختلفوا في النظر إليها بشهوة ، فقال ابن أبي ليلى : لا يحرم النظر حتى تلمس ، وهو قول الشافعي . وقال مالك : يحرم النظر إلى شعرها ، أو شيء من محاسنها بلذة . وقال الكوفيون : يحرم النظر إلى فرجها بشهوة . وقال الثوري : يحرم إذا كان تعمد النظر إلى فرجها ، ولم يذكر الشهوة . وقال عطاء ، وحماد بن أبي سليمان : إذا نظر إلى فرج امرأة فلا ينكح أمها ولا ابنتها ، وعدوا هذا الحكم إلى الإماء . وقال الحسن : إذا ملك الأمة وغمزها بشهوة ، أو كشفها ، أو قبلها ، لا تحل لولده بحال . وأمر مسروق أن تباع جاريته بعد موته وقال : أما أني لم أصب منها إلا ما يحرمها على ولدي من اللمس والنظر . وجرد عمر أمة خلا بها فاستوهبها ابن له فقال : لا تحل لك .
( فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ( أي : في نكاح الربائب . وليس جواز نكاح الربائب موقوفاً على انتفاء مطلق الدخول ، بل لا بد من محذوف مقدر تقديره : فإن لم

" صفحة رقم 221 "
تكونوا دخلتم بهن ، وفارقتموهن بطلاق منكم إياهن ، أو موت منهن .
( وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ( أجمعوا على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء ، وما عقد عليه الأبناء على الآباء كان مع العقد وطء ، أو لم يكن . والحليلة : اسم يختص بالزوجة دون ملك اليمين ، ولذلك جاء في أزواج أدعيائهم . ولما علق حكم التحريم بالتسمية دون الوطء ، اقتضى تحريمهن بالعقد دون شرط الوطء . وجاء الذين من أصلابكم وهو وصف لقوله : أبنائكم ، برفع المجاز الذي يحتمله لفظ أبنائكم إذ كانوا يطلقون على من اتخذته العرب ابناً من غيرهم ، وتبنته ابناً ، كما كانوا يقولون : زيد بن محمد ، إلى أن نزل : ) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ ( الآية وكما قالت امرأة أبي حذيفة في سالم : إنا كنا نراه ابناً . وقد تزوج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت عمته ، أميمة بنت عبد المطلب حين فارقها زيد بن حارثة ، وأجمعوا على أن حليلة الابن من الرضاع في التحريم كحليلة الابن من الصلب ، استناداً إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) وظاهر قوله : وحلائل أبنائكم اختصاص ذلك بالزوجات كما ذكرناه ، واتفقوا على أنَّ مطلق عقد الشراء للجارية لا يحرمها على أبيه ولا ابنه ، فلو لمسها أو قبلها حرمت على أبيه وابنه ، لا يختلف في تحريم ذلك . واختلفوا في مجرد النظر بشهوة .
( وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ ( أن تجمعوا في موضع رفع لعطفه على مرفوع ، والمعنى : وإن تجمعوا بين الأختين في النكاح ، لأن سياق الآية إنما هو في النكاح ، وإن كان الجمع بين الأختين أعم من أن يكون في زوجين ، أو بملك اليمين . فأما إذا كان على سبيل التزويج ، فأجمعت الأمة على تحريم العقد على ذلك سواء وقع العقدان معاً ، أم مرتباً . واختلفوا في تزويج المرأة في عدة أختها : فروي عن زيد ، وابن عباس ، وعبيدة ، وعطاء ، وابن سيرين ، ومجاهد في آخرين من التابعين : أن ذلك لا يجوز فبعضهم أطلق العدة ، وبعضهم قال : إذا كانت من الثلاث وهو قول : أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وزفر ، والثوري ، والحسن بن صالح . وروي عن عروة ، والقاسم ، وخلاس : أنه يجوز له ذلك إذا كانت من طلاق بائن ، وهو قول : مالك والأوزاعي والليث والشافعي . واختلف عن سعيد والحسن وعطاء . والجواز ظاهر الآية ، إذا لم يكن الطلاق رجعياً . وأما الجمع بينهما بملك اليمين فلا خلاف في شرائهما ودخولهما في ملكه ، وأما الجمع بينهما في الوطء : فذهب عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، والزبير ، وابن عمر ، وعمار وزيد : إلى أنه لا يجوز ذلك . وهل ذلك على سبيل الكراهة أو التحريم ؟ فذكر ابن المنذر عن جمهور أهل العلم : الكراهة . وذكر عن إسحاق : التحريم وكان المستنصر بالله أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي زكريا بن أبي محمد بن أبي حفص ملك أفريقية قد سأل أحد شيوخنا الذين لقيناهم بتونس ، وهو الشيخ العابد المنقطع أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الإشبيلي : ألا ترى عن الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ؟ فأجابه بالمنع ، وكان غيره قد أفتاه بالجواز . واستدل شيخنا على منع ذلك بظاهر قوله : وأن تجمعوا بين الأختين . وروي عن عثمان ، وابن عباس : إباحة ذلك . وإذا اندرج أيضاً الجمع بينهما بأن يجمع بينهما في الوطء بتزوج وملك يمين ، فيكون قد تزوج واحدة ، وملك أختها . وقد أكثر المفسرون من الفروع هنا ، وموضع ذلك كتب الفقه .
( إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ( إستثناء منقطع يتعلق بالأخير ، وهو : أن تجمعوا بين الأختين . والمعنى : لكن ما سلف من ذلك ، ووقع . وأزالت شريعة الإسلام حكمه ، فإن الله يغفره والإسلام يجبه ويدل على عدم المؤاخذة به قوله .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ( وقد يكون معنى قوله : إلا ما قد سلف ، فلا ينفسخ به العقد على أختين ، بل يخير بين من شاء منهما ، فيطلق الواحدة ، ويمسك الأخرى كما جاء في حديث فيروز الديلمي : أنه أسلم وتحته أختان فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( طلق إحداهما وأمسك الأخرى ) وظاهر حديث فيروز : التخيير من غير نظر إلى وقت العقد ، وهو

" صفحة رقم 222 "
مذهب مالك ، ومحمد ، والليث ، وذهب : أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، والثوري إلى أنه يختار من سبق نكاحها ، فإن كانا في عقد واحد فرق بينه وبينهما . وقال عطاء ، والسدي : هذا الاستثناء يدل على أن ما تقدّم قبل ورود النهي كان مباحاً ، هذا يعقوب عليه السلام جمع بين أم يوسف وأختها . ويضعف هذا لبعد صحة إسناد قصة يعقوب في ذلك ، وكون هذا التحريم متعلقاً بشرعنا نحن ، لا يظهر منه ذكر عفو عنه فيما فعل غيرنا .
النساء : ( 24 ) والمحصنات من النساء . . . . .
( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ ( الإحصان : التزوج ، أو الحرية ، أو الإسلام ، أو العفة . وعلى هذه المعاني تصرفت هذه اللفظة في القرآن ، ويفسر كل مكان بما يناسبه منها . وروى أبو سعيد أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعث جيشاً إلى أوطاس ، فلقوا عدوًّا وأصابوا سبباً لهن أزواج من المشركين ، فتأثم المسلمون من غشيانهن ، فنزلت . فالمحصنات هنا المزوجات . والمستثنى هو السبايا ، فإذا وقعت في سهمه من لها زوج فهي حلال له ، وإلى هذا ذهب : أبو سعيد ، وابن عباس ، وأبو قلابة ، ومكحول ، والزهري ، وابن زيد ، وهذا كما قال الفرزدق : وذات حليل أنكحتها رماحنا
حلال لمن يبنى بها لم تطلق
وقيل : المحصنات المزوجات ، والمستثنى هن الإماء ، فتحرم المزوجات إلا ما ملك منهن بشراء ، أو هبة ، أو صدقة ، أو إرث . فإن مالكها أحق ببضعها من الزوج ، وبيعها ، وهبتها ، والصدقة بها وارثها طلاق لها . وإلى هذا ذهب عبد الله ، وأبي جابر ، وابن عباس أيضاً ، وسعيد ، والحسن . وذهب عمرو بن عباس أيضاً ، وأبو العالية ، وعبيدة ، وطاووس ، وابن جبير ، وعطاء : إلى أن المحصنات هن العفائف ، وأريد به كل النساء حرام ، والشرائع كلها تقتضي ذلك . والمستثنى معناه : إلا ما ملكت أيمانكم بنكاح أو بملك ، فيدخل ذلك كله تحت ملك اليمين . وبهذا التأويل يكون المعنى تحريم الزنا . وروي عن عمر في المحصنات أنهن الحرائر ؟ فعلى هذا يكون قوله : إلا ما ملكت أيمانكم أي بنكاح إن كان الاستثناء متصلاً ، وإن كان أريد به الإماء كان منقطعاً . قيل : والذي يقتضيه لفظ الإحصان أن تعلق بالقدر المشترك بين معانية الأربعة ، وإن اختلفت جهات الإحصان ، ويحمل قوله : إلا ما ملكت أيمانكم على ظاهر استعماله في القرآن وفي السنة . وعرف العلماء من أن المراد به الإماء ، ويعود الاستثناء إلى ما صح أن يعود عليه من جهات الإحصان . وكل ما صح ملكها ملك يمين حلت لمالكها من مسبية أو مملوكة مزوجة .
ولم يختلف القراء السبعة في فتح الصاد من قوله : والمحصنات من النساء ، واختلفوا في سوى هذا فقرأ الكسائي : بكسر الصاد ، سواء كان معرفاً بالألف واللام ، أم نكرة . وقرأ باقيهم وعلقمة : بالفتح ، كهذا المتفق عليه . وقرأ يزيد بن قطيب : والمحصنات بضم الصاد اتباعاً لضمة الميم ، كما قالوا : منتن ، ولم يعتدّوا بالحاجز لأنه ساكن ، فهو حاجز غير حصين . وقال مكي : فائدة قوله : من النساء ، أنّ المحصنات تقع على الأنفس فقوله : ) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( لو أريد به النساء خاصة ، لما حدّ مَن قذف رجلاً بنص القرآن ، وأجمعوا على أن حده بهذا النص .
( كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ( انتصب بإضمار فعل وهو فعل مؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله : حرمت عليكم . وكأنه قيل : كتب الله عليكم تحريم ذلك كتاباً . ومن جعل ذلك متعلقاً بقوله

" صفحة رقم 223 "
) فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( كما ذهب إليه عبيدة السلماني ، فقد أبعد وما ذهب إليه الكسائي من أنه يجوز تقديم المفعول في باب الإعراب الظروف والمجرورات مستدلاً بهذه الآية ، إذ تقدير ذلك عنده : عليكم كتاب الله أي : الزموا كتاب الله . لا يتم دليله لاحتماله أن يكون مصدراً مؤكداً كما ذكرناه . ويؤكد هذا التأويل قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع اليماني : كتب الله عليكم ، جعله فعلاً ماضياً رافعاً ما بعده ، أي : كتب الله عليكم تحريم ذلك . وروي عن ابن السميقع أيضاً أنه قرأ : كتب الله عليكم جمعاً ورفعاً أي : هذه كتب الله عليكم أي : فرائضه ولازماته .
( وَأُحِلَّ لَكُمْ وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ( لما نص على المحرمات في النكاح أخبر تعالى أنه أحل ما سوى من ذكر ، وظاهر ذلك العموم . وبهذا الظاهر استدلت الخوارج ومن وافقهم من الشيعة على جواز نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها ، والجمع بينهما . وقد أطال الاستدلال في ذلك أبو جفعر الطاوسي أحد علماء الشيعة الاثنى عشرية في كتابه في التفسير ، وملخص ما قال : أنه لا يعارض القرآن بخبر آحاد . وهو ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ) بل إذا ورد حديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عرض على القرآن ، فإن وافقه قبل ، وإلا ردّ . وما ذهبوا إليه ليس بصحيح ، لأن الحديث لم يعارض القرآن ، غاية ما فيه تخصيص عموم ، ومعظم العمومات التي جاءت في القرآن لا بد فيها من التخصيصات ، وليس الحديث خبر آحاد بل هو مستفيض ، روي عن جماعة من الصحابة رواه : عليّ ، وابن عباس ، وجابر ، وابن عمر ، وأبو موسى ، وأبو سعيد ، وأبو هريرة ، وعائشة . حتى ذكر بعض العلماء أنه متوتر موجب للعلم والعمل . وذكر ابن عطية : إجماع الأمة على تحريم الجمع ، وكأنه لم يعتد بخلاف من ذكر لشذوذه ، ولا يعدّ هذا التخصيص نسخاً للعموم خلافاً لبعضهم . وقد خصص بعضهم هذا العموم بالأقارب من غير ذوات المحارم كأنه قيل : وأحلّ لكم ما وراء ذلكم من أقاربكم ، فهي حلال لكم تزويجهن ، وإلى هذا ذهب عطاء والسدي ، وخصة قتادة بالإماء : أي : وأحل لكم ما وراء ذلكم من الإماء . وأبعد عبيدة والسدي في ردّ ذلك إلى مثنى وثلاث ورباع والمعنى : وأحلّ لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح . وقال السدي أيضاً في قوله : ما وراء ذلكم يعني النكاح فيما دون الفرج . والظاهر العموم إلا ما خصته السنة المستفيضة من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ، فيندرج تحت هذا العموم الجمع بين المرأة وبنت عمها ، وبينها وبين بنت عمتها ، وبينها وبين بنت خالها ، أو بنت خالتها . وقد روى المنع من ذلك عن : إسحاق بن طلحة ، وعكرمة ، وقتادة ، وعطاء . وقد نكح حسن بن حسين بن عليّ في ليلة واحدة بنت محمد بن عليّ ، وبنت عمر بن عليّ ، فجمع بين ابنتي عمّ . وقد كره مالك هذا ، وليس بحرام عنده .
قال ابن المنذر : لا أعلم أحد ، أبطل هذا النكاح وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح ، غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ، ولا إجماع ، وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة انتهى . واندرج تحت هذا العموم أيضاً أنه لو زنا بامرأة لم يحرم عليه نكاحها لأجل زناه بها ، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها . ولو زنا بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم يحرما عليه بذلك ، وعلى هذا أكثر أهل العلم . وروي عن عمران بن حصين والشعبي ، وعطاء ، والحسن ، وسفيان ، وأحمد ، وإسحاق ، أنهما يحرمان عليه ، وبه قال : أبو حنيفة . ويندرج أيضاً تحت هذا العموم : أنه لو عبت رجل برجل لم تحرم عليه أمّه ولا ابنته ، وبه قال : مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابه قالوا : لا يحرم النكاح العبث بالرجال . وقال الثوري ، وعبيد الله بن الحسن : هو مثل وطء المرأة سواء في تحريم الأم والبنت ، فمن حرم بهذا من النساء حرم من الرجال . وقال

" صفحة رقم 224 "
الأوزاعي في غلامين : يعبث أحدهما بالآخر فتولد للمفعول به جارية قال : لا يتزوجها الفاعل .
وقرأ حمزة والكسائي وحفص : وأحل مبنياً للمفعول ، وهو معطوف على قوله : ) حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ). وقرأ باقي السبعة : وأحل مبنياً للفاعل ، والفاعل ضمير يعود على الله تعالى ، وهو أيضاً معطوف على قوله : حرمت . ولا فرق في العطف بين أن يكون الفعل مبنياً للفاعل ، أو للمفعول . ولا يشترط المناسبة ولا يختار ، وإن اختلف الفاعل المحذوف لقيام المفعول مقامه ، والفاعل الذي أسند إليه الفعل المبني للفاعل ، فكيف إذا اتحد كهذا ، لأنه معلوم أن الفاعل المحذوف في حرمت : هو الله تعالى ، وهو الفاعل المضمير في : أحلّ المبني للفاعل .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : علام عطف قوله : وأحل لكم ؟ ( قلت ) : على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله : أي كتب الله عليكم تحريم ذلك ، وأحل لكم ما وراء ذلكم . ويدل عليه قراءة اليماني : كتب الله عليكم ، وأحل لكم . ثم قال : ومن قرأ ) وَأُحِلَّ لَكُمْ ( على البناء للمفعول ، فقد عطفه على : حرّمت عليكم انتهى كلامه . ففرق في العطف بين القراءتين ، وما اختاره من التفرقة غير مختار . لأن انتصاب كتاب الله عليكم إنما هو انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله : حرمت ، فالعامل فيه وهو كتب ، إنما هو تأكيد لقوله : حرمت ، فلم يؤت بهذه الجملة على سبيل التأسيس للحكم ، إنما التأسيس حاصل بقوله : حرمت ، وهذه جيء بها على سبيل التأكيد لتلك الجملة المؤسسة وما كان سبيله هكذا فلا يناسب أن يعطف عليه الجملة المؤسسة للحكم ، إنما يناسب أن يعطف على جملة مؤسسة مثلها ، لا سيما والجملتان متقابلتان : إذا حداهما للتحريم ، والأخرى للتحليل ، فناسب أن يعطف هذه على هذه . وقد أجاز الزمخشري ذلك في قراءة من قرأ : وأحل مبنياً للمفعول ، فكذلك يجوز فيه مبنياً للفاعل ، ومفعول أحلّ هو : ما وراء ذلكم .
قال ابن عطية : والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرّمات ، فهو وراء أولئك بهذا الوجه . وقال الفراء : ما وراء ذلكم أي : ما سوى ذلكم . وقال الزجاج : ما دون ذلكم ، أي : ما بعد هذه الأشياء التي حرمت . وهذه التفاسير بعضها يقرب من بعض .
وموضع أن تبتغوا نصب على أنه بدل اشتمال من ما وراء ذلكم ، ويشمل الابتغاء بالمال النكاح والشراء . وقيل : الابتغاء بالمال هو على وجه النكاح . وقال الزمخشري : أن تبتغوا مفعول له ، بمعنى : بين لكم ما يحل مما يحرم ، إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم التي جعل الله لكم قياماً في حال كونكم محصنين غير مسافحين لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم ، فتخسروا دنياكم ودينكم ، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين انتهى كلامه . وانظر إلى جعجعة هذه الألفاظ وكثرتها ، وتحميل لفظ القرآن ما لا يدل عليه ، وتفسير الواضح الجلي باللفظ المعقد ، ودس مذهب الاعتزال في غضون هذه الألفاظ الطويلة دساً خفياً إذ فسر قوله : وأحل لكم بمعنى بين لكم ما يحل . وجعل قوله : أن تبتغوا على حذف مضافين : أي إرادة أن يكون ابتغاؤكم ، أي : إرادة كون ابتغائكم بأموالكم . وفسر الأموال بعد بالمهور ، وما يخرج في المناكح ، فتضمن تفسيره : أنه تعالى بين لكم ما يحل لإرادته كون ابتغائكم بالمهور ، فاختصت إرادته بالحلال الذي هو النكاح دون السفاح . وظاهر الآية غير هذا الذي فهمه الزمخشري . إذ الظاهر أنه تعالى أحلّ لنا ابتغاء ما سوى المحرمات السابق ذكرها بأموالنا حالة الإحصان ، لا حالة السفاح . وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يعرب : أن تبتغوا مفعولاً له ، كما ذهب إليه الزمخشري ، لأنه فات شرط من شروط المفعول له ، وهو اتحاد الفاعل في العامل والمفعول له . لأن الفاعل بقوله : وأحل ، هو الله تعالى . والفاعل في :

" صفحة رقم 225 "
أن تبتغوا ، هو ضمير المخاطبين ، فقد اختلفا . ولما أحس الزمخشري أن كان أحس بهذا ، جعل أن تبتغوا على حذف إرادة حتى يتحد الفاعل في قوله : وأحلّ ، وفي المفعول له ، ولم يجعل أن تبتغوا مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه ، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك . ومفعول تبتغوا مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه ، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك . ومفعول تبتغوا محذوف اختصاراً ، إذ هو ضمير يعود على ما من قوله : ما وراء ذلكم ، وتقديره : أن تبتغوه .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : أين مفعول تبتغوا ؟ ( قلت ) : يجوز أن يكون مقدراً وهو . النساء ، وأجود أن لا يقدر . وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم انتهى كلامه . فأما تقديره : إذا كان مقدراً بالنساء فإنه لما جعله مفعولاً له غاير بين متعلق المفعول له وبين متعلق المعلول . وأما قوله : وأجود أن لا يقدر ، وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم ، فهو مخالف للظاهر ، لأن مدلول تبتغوا ليس مدلول تخرجوا ، ولأن تعدى تبتغوا إلى الأموال بالباء ليس على طريق المفعول به الصريح ، كما هو في تخرجوا ، وهذا كله تكلف ينبغي أن ينزه كتاب الله عنه .
وظاهر قوله : بأموالكم ، أنه يطلق على ما يسمى مالاً وإن قلَّ وهو قول : أبي سعيد ، والحسن ، وابن المسيب ، وعطاء ، والليث ، وابن أبي ليلى ، والثوري ، والحسن بن صالح ، والشافعي ، وربيعة قالوا : يجوز النكاح على قليل المال وكثيره . وقيل : لا مهر أقل من عشرة دراهم ، وروي عن عليّ ، والشعبي ، والنخعي ، في آخرين من التابعين . وهو قول : أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وزفر ، والحسن ، ومحمد بن زياد . وقال مالك : أقلّ المهر ربع دينار أو ثلاثة دراهم . وقال أبو بكر الرازي : من كان له درهم أو درهمان لا يقال عنده مال ، وظاهر قوله : بأموالكم يدلّ على أنه لا يجوز أن يكون المهر منفعة ، لا تعليم قرآن ولا غيره ، وقد أجاز أن يكون المهر خدمتها مدة معلومة جماعة من العلماء ، ولهم في ذلك تفصيل . وأجاز أن يكون تعليم سورة من القرآن الشافعي ، ومنع من ذلك : مالك والليث ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وحججهم في كتب الفقه وفي كتب أحكام القرآن .
والاحصان : الفقه ، وتحصين النفس عن الوقوع في الحرام . وانتصب محصنين على الحال ، وغير مسافحين حال مؤكدة ، لأن الإحصان لا يجامع السفاح وكذلك قوله : ) وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ ( والمسافحون هم الزانون المبتذلون ، وكذلك المسافحات هن الزواني المبتذلات اللواتي هن سوق للزنا . ومتخذوا الأخدان هم الزناة المتسترون الذين يصحبون واحدة واحدة ، وكذلك متخذات الأخدان هن الزواني المتسترات اللواتي يصحبن واحداً واحداً ، ويزنين خفية . وهذان نوعان كانا في زمن الجاهلية قاله : ابن عباس ، والشعبي ، والضحاك ، وغيرهم . وأصل المسافح من السفح ، وهو الصب للمني . وكان الفاجر يقول للفاجرة : سافحيني وماذيني من المذي .
( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ( قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن زيد ، وغيرهم : المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ، ولو مرة ، فقد وجب إعطاء الأجر وهو المهر ، ولفظة ما تدل على أن يسيرالوطء يوجب إيتاء الأجرة . وقال الزمخشر : فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة ، أو عقد عليهن ، فآتوهن أجورهن عليه انتهى . وأدرج في الاستمتاع الخلوة الصحيحة على مذهب أبي حنيفة ، إذ هو مذهبه . وقد فسر ابن عباس وغيره الاستمتاع هنا بالوطء ، لأن إيتاء الأجر كاملاً لا يترتب إلا عليه ، وذلك على مذهبه ومذهب من يرى ذلك .
وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد ، والسدي ، وغيرهم : الآية في نكاح المتعة . وقرأ أبي ، وابن عباس ، وابن جبير : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن . وقال ابن عباس لأبي نضرة : هكذا أنزلها الله . وروي عن عليّ أنه قال : لولا أنّ عمر نهى عن

" صفحة رقم 226 "
المتعة ما زنى إلا شقي . وروي عن ابن عباس : جواز نكاح المتعة مطلقاً . وقيل عنه : بجوازها عند الضرورة ، والأصح عنه الرجوع إلى تحريمها . واتفق على تحريمها فقهاء الأمصار . وقال عمران بن حصين : أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالمتعة ، ومات بعدما أمرنا بها ، ولم ينهنا عنه قال رجل بعده برأيه ما شاء . وعلى هذا جماعة من أهل البيت والتابعين . وقد ثبت تحريمها عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من حديث عليّ وغيره . وقد اختلفوا في ناسخ نكاح المتعة ، وفي كيفيته ، وفي شروطه ، وفيما يترتب عليه من لحاق ولد أو حدّ بما هو مذكور في كتب الفقه ، وكتب أحكام

" صفحة رقم 227 "

" صفحة رقم 228 "
القرآن ، وما من قوله : فما استمتعتم به منهن ، مبتدأ . ويجوز أن تكون شرطية ، والخبر الفعل الذي يليها ، والجواب : فآتوهن ، ولا بد إذ ذاك من راجع يعود على اسم الشرط . فإن كانت ما واقعة على الاستمتاع فالراجع محذوف تقديره : فأتوهن أجورهن من أجله أي : من أجل ما استمتعتم به . وإن كانت ما واقعة على النوع المستمتع به من الأزواج ، فالراجع هو المفعول بآتوهن وهو الضمير ، ويكون أعاد أولاً في به على لفظ ما ، وأعاد على المعنى في : فآتوهن ، ومن في : منهن على هذا يحتمل أن يكون تبعيضاً . وقيل : يحتمل أن يكون للبيان . ويجوز أن تكون ما موصولة ، وخبرها إذ ذاك هو : فآتوهن ، والعائد الضمير المنصب في : فآتوهن إن كانت واقعة على النساء ، أو محذوف إن كانت واقعة على الاستمتاع على ما بين قبل .
والأجور : هي المهور . وهذا نص على أنّ المهر يسمى أجراً ، إذ هو مقابل لما يستمتع به . وقد اختلف في المعقود عليه بالنكاح ما هو ؟ أهو بدن المرأة ، أو منفعة العضو ، أو الكل ؟ وقال القرطبي : الظاهر المجموع ، فإن العقد يقتضي كل هذا . وإن كان الاستمتاع هنا المتعة ، فالأجر هنا لا يراد به المهر بل العوض كقوله : ) لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ( وقوله : ) لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ( وظاهر الآية : أنه يجب المسمى في النكاح الفاسد لصدق قوله : فما استمتعتم به منهن عليه جمهور العلماء ، على أنه لا يجب فيه إلا مهر المثل ، ولا يجب المسمى . والحجة لهم : ) أَيَّمَا امْرَأَتُ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( وانتصب فريضة على الحال من أجورهن ، أو مصدر على غير الصدر . أي : فآتوهن أجورهن إيتاء ، لأن الإيتاء مفروض . أو مصدر مؤكد أي : فرض ذلك فريضة .
( وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ( لما أمروا بإيتاء أجور النساء المستمتع بهن ، كان ذلك يقتضي الوجوب ، فأخبره تعالى أنه لا حرج ولا إثم في نقص ما تراضوا عليه ، أو رده ، أو تأخره . أعني : الرجال والنساء من بعد الفريضة . فلها إن ترده عليه ، وإن تنقص ، وإن تؤخر ، هذا ما يدل عليه سياق الكلام . وهو نظير ) فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( وإلى هذا ذهب الحسن وابن زيد . وقال السدي : هو في المتعة . والمعنى : فيما تراضيتم به من

" صفحة رقم 229 "
بعد الفريضة زيادة في الأجل ، وزيادة في المهر قبل استبراء الرحم . وقال ابن عباس : في رد ما أعطيتموهن إليكم . وقال ابن المعتمر : فيما تراضيتم به من النقصان في الصداق إذا أعسرتم . وقيل : معناه إبراء المرأة عن المهر ، أو توفيته ، جو توفية الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول . وقيل : فيما تراضيتم به من بعد فرقة ، أو إقامة بعد أداء الفريضة ، وروي عن ابن عباس وقد استدل على الزيادة في المهر بقوله : ) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ( ، قيل : لأن ما عموم في الزيادة والنقصان والتأخير والحظ والإبراء ، وعموم اللفظ يقتضي جواز الجميع ، وهو بالزيادة أخص منه بغيرها مما ذكرناه ، لأن المرأة والحظ والتأجيل لا يحتاج في وقوعه إلى رضا الرجل ، والاقتصار على ما ذكر دون الزيادة يسقط فائدة ذكر تراضيهما . وذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إلى أن الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة ، وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها . وإن طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة . وقال مالك : تصح الزيادة ، فإن طلقها قبل الدخول رجع ما زادها إليه ، وإن مات عنها قبل أن يقبض فلا شيء لها . وقال الشافعي وزفر : الزيادة بمنزلة هبة مستقبلة إن أقبضها جازت ، وإلا بطلت .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً ( بما يصلح أمر عباده .
( حَكِيماً ( في تقديره وتدبيره وتشريعه .
النساء : ( 25 ) ومن لم يستطع . . . . .
( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ( الطول : السعة في المال قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، والسدي ، وابن زيد ، ومالك في المدونة . وقال ابن مسعود ، وجابر ، وعطاء ، والشعبي ، والنخعي ، وربيعة : الطول هنا الجلد والصبر لمن أحب أمة وهو بها حتى صار لا يستطيع أن يتزوج غيرها فله أن يتزوجها ، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة . والمحصنات هنا الحرائر ، يدل على ذلك التقسيم بينهن وبين الإماء . وقالت فرقة : معناه العفائف ، وهو ضعيف .
واختلفوا في جواز نكاح الأمة لواجد طول الحرة . وظاهر الآية يدل على أنّ من لم يستطع ما يتزوج به الحرة المؤمنة وخاف العنت ، فيجوز له أن يتزوج الأمة المؤمنة ، ويكون هذا تخصيصاً العموم قوله : ) وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ( فيكون تخصيصاً في الناكح بشرط أن لا يجد طول الحرة ويخاف العنت ، وتخصيصاً في إمائكم بقوله : من فتيانكم المؤمنات ، وتخصيص جواز نكاح الإماء بالمؤمنات لغير واجد طول الحرة ، هو مذهب أهل الحجاز . فلا يجوز له نكاح الأمة الكتابية ، وبه قال : الأوزاعي ، والليث ، ومالك ، والشافعي . وذهب العراقيون أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد والثوري ومن التابعين الحسن ومجاهد إلى جواز ذلك . ونكاح الأمة المؤمنة أفضل ، فحملوه على الفضل لا على الوجوب . واستدلوا على أنّ الإيمان ليس بشرط بكونه وصف به الحرائر في قوله : أن ينكح المحصنات المؤمنات ، وليس بشرط فيهن اتفاقاً ، لكنه أفضل .
وقال ابن عباس : وسع الله على هذه الأمة بنكاح الأمة ، واليهودية ، والنصرانية . وقد اختلف السلف في ذلك اختلافاً كثيراً : روي عن ابن عباس ، وجابر ، وابن جبير ، والشعبي ، ومكحول : لا يتزوج الأمة إلا من لا يجد طولاً للحرة ، وهذا هو ظاهر القرآن . وروي عن مسروق ، والشعبي : أن نكاحها

" صفحة رقم 230 "
بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير ، يعني : أنه يباح عند الضرورة . وروي عن علي ، وأبي جعفر ، ومجاهد ، وابن المسيب ، وابراهيم ، والحسن ، والزهري : أن له نكاحها ، وإن كان موسراً . وروي عن عطاء ، وجابر بن زيد : أنه يتزوجها إن خشي أن يزني بها ، ولو كان تحته حرة . فال عطاء : يتزوج الأمة على الحرة . وقال ابن مسعود : لا يتزوجها عليها إلا المملوك . وقال عمر ، وعلي ، وابن المسيب ، ومكحول في آخرين : لا يتزوجها عليها . وهذا الذي يقتضيه النظر ، لأن القرآن دل على أنه لا ينكح الأمة إلا مَن لا يجد طولاً للحرة . فإذا كانت تحته حرة ، فبالأولى أن لا يجوز له نكاح الأمة ، لأن وجدان الطول للحرة إنما هو سبب لتحصيلها ، فإذا كانت حاصلة كان أولى بالمنع . وقال إبراهيم : يتزوج الأمة على الحرة إن كان له من الأمة ولد . وقال ابن المسيب : لا ينكحها عليها إلا أن تشاء الحرة ، ويقسم للحرة يومين ، وللأمة يوماً وظاهر قوله : فمما ملكت أيمانكم ، جواز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة أربعاً من الإماء إن شاء . وروي عن ابن عباس : أنه لا يتزوج من الإماء أكثر من واحدة ، وإذا لم يكن شرطاً في الأمة الإيمان فظاهر قوله : فمما ملكت أيمانكم من فتيانكم ، أنه لو كانت الكتابية مولاها كافر لم يجز نكاحها ، لأنه خاطب بقوله : فمما ملكت أيمانكم من فتيانكم المؤمنات ، فاختص بفتيات المؤمنين ، وروي عن أبي يوسف : جواز ذلك على كراهة . وإذا لم يكن الإيمان شرطاً في نكاح الأمة ، فالظاهر جواز نكاح الأمة الكافرة مطلقاً ، سواء كانت كتابية ، أو مجوسية ، أو وثنية ، أم غير ذلك من أنواع الكفار .
وأجمعوا على تحريم نكاح الأمة الكافرة غير الكتابية : كالمجوسية ، والوثنية ، وغيرهما . وأما وطء المجوسية بملك اليمين فأجازه : طاوس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار . ودلت على هذا القول ظواهر القرآن في عموم : ما ملكت أيمانكم ، وعموم ) إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( قالوا : وهذا قول شاذ مهجور ، لم يلتفت إليه أحد من فقهاء الأمصار . وقالوا : لا يحل له أن يطأها حتى تسلم . وقالوا : إنما كان نكاح الأمة منحطاً عن نكاح الحرة لما فيه من اتباع الولد لأمه في الرق ، ولثبوت حق سيدها فيها ، وفي استخدامها ، ولتبذلها بالولوج والخروج ، وفي ذلك نقصان نكاحها ومهانته إذ رضي بهذا كله ، والعزة من صفات المؤمنين .
ومن مبتدأ ، وظاهره أنه شرط . والفاء في : فمما ملكت فاء الجواب ، ومن تتعلق بمحذوف تقديره : فلينكح من ما ملكت . ويجوز أن يكون مَن موصولة ، ويكون العامل المحذوف الذي يتعلق به قوله : مما ملكت جملة في موضع الخبر . ومسوغات دخول الفاء في خبر المبتدأ موجودة هنا . والظاهر أنَّ مفعول يستطع هو طولاً ، وأن ينكح على هذا أجازوا ، فيه أن يكون أصله بحرف جر ، فمنهم من قدره بإلى ، ومنهم من قدره باللام أي : طولاً إلى أن ينكح ، أو لأن ينكح ، ثم حذف حرف الجر ، فإذا قدر إلى ، كان المعنى : ومَن لم يستطع منكم وصلة إلى أن ينكح . وإذا قدر باللام ، كان في موضع الصفة القدير : طولاً أي : مهراً كائناً لنكاح المحصنات . وقيل : اللام المقدرة لام المفعول له أي : طولاً لأجل نكاح المحصنات ، وأجازوا أن يكون : أن ينكح في موضع نصب على المفعول به ، وناصبة طول . إذ جعلوه مصدر طلت الشيء أي نلته ، قالوا : ومنه قول الفرزدق : إن الفرزدق صخرة عادية
طالت فليس تنالها الأوعالا
أي وطالت إلا وعال أي : ويكون التقدير ومَن لم يستطع منكم أن ينال نكاح المحصنات . ويكون قد أعمل المصدر المنون في المفعول به كقوله :

" صفحة رقم 231 "
يضرب بالسيوف رؤوس قوم
أزلناها مهن عن المقيل
وهذا على مذهب البصريين إذ أجازوا إعمال المصدر المنون . وإلى أنَّ طولاً مفعول ل يستطيع ، وإن ينكح في موضع مفعول بقوله : طولاً ، إذ هو مصدر . ذهب أبو علي في التذكرة ، وأجازوا أيضاً أن يكون أن ينكح بدلاً من طول ، قالوا : بدل الشيء من الشيء ، وهما لشيء واحد ، لأن الطول هو القدرة والنكاح قدرة . وأجازوا أن يكون مفعول يستطع قوله : أن ينكح . وفي نصب قوله : طولاً وجهان : أحدهما : أن يكون مفعولاً من أجله على حذف مضاف ، أي : ومن لم يستطع منكم لعدم طول نكاح المحصنات . والثاني : قاله : ابن عطية . قال : ويصح أن يكون طولاً نصب على المصدر ، والعامل فيه الاستطاعة ، لأنها بمعنى يتقارب . وأن ينكح على هذا مفعول بالاستطاعة ، أو بالمصدر انتهى كلامه . وكأنه يعني أنَّ الطول هو استطاعة ، فيكون التقدير : ومن لم يستطع منكم استطاعة أن ينكح .
وما من قوله : فمما ملكت ، موصولة اسمية أي : فلينكح من النوع الذي ملكته أيمانكم . ومن فتياتكم : في موضع الحال من الضمير المحذوف في ما ملكت ، العائد على ما . ومفعول الفعل المحذوف الذي هو فلينكح محذوف ، التقدير : فلينكح أمة مما ملكت أيمانكم . ومِن للتبعيض ، نحو : أكلت من الرغيف . وقيل : مِن في من ما زائدة ، ومفعول ذلك الفعل هو ما من قوله : ما ملكت أيمانكم . وقيل : مفعوله فتياتكم على زيادة من . وقيل : مفعوله المؤمنات ، والتقدير : فلينكح مما ملكت أيمانكم من فتياتكم الفتيات المؤمنات . والأظهر أن المؤمنات صفة لفتياتكم . وقيل : ما مصدرية التقدير ، من ملك إيمانكم . وعلى هذا يتعلق من فتياتكم بقوله : ملكت .
ومن أغرب ما سطروه في كتب التفسير ونقلوه عن قول الطبري : أنّ فاعل ذلك الفعل المحذوف هو قوله : ) بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ ( وفي الكلام تقديم وتأخير . والتقدير : وَمَنْ لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضهم من بعض الفتيات ، وهذا قول ينزه حمل كتاب الله عليه ، لأنه قول جمع الجهل بعلم النحو وعلم المعاني ، وتفكيك نظم القرآن عن أسلوبه الفصيح ، فلا ينبغي أن يسطر ولا يلتفت إليه . ومنكم : خطاب للناكحين ، وفي : أيمانكم من فتياتكم خطاب للمالكين ، وليس المعنى أن الرجل ينكح فتاة نفسه ، وهذا التوسع في اللغة كثير .
( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ( لما خاطب المؤمنين بالحكم الذي ذكره من تجويز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة للأمة المؤمنة ، نبّه على أنّ الإيمان هو وصف باطن ، وأنّ المطلع عليه هو الله . فالمعنى : أنه لا يشترط في إيمان الفتيات أن يكونوا عالمين بذلك العلم اليقين ، لأن ذلك إنما هو لله تعالى ، فيكفي من الإيمان منهن إظهاره . فمن كانت مظهرة للإيمان فنكاحها صحيح ، وربما كانت خرساء ، أو قريبة عهد بسباء وأظهرت الإيمان ، فيكتفي بذلك منها .
والخطاب في بإيمانكم للمؤمنين ذكورهم وإناثهم ، حرهم ورقهم ، وانتظم الإيمان في هذا الخطاب ، ولم يفردن بذلك فلم يأت والله أعلم بإيمانهن ، لئلا يخرج غيرهن عن هذا الخطاب . والمقصود : عموم الخطاب ، إذ كلهم محكوم عليه بذلك . وكم أمة تفوق حرة في الإيمان وفعل الخير ، وامرأة تفوق رجلاً في ذلك ، وفي ذلك تأنيس لنكاح الإماء ، وأن المؤمن لا يعتبر الأفضل الإيمان ، لا فضل الأحساب والأنساب ) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ لا فَضَّلَ صَلَّى أَرَءيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ).
) بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ ( هذه جملة من مبتدأ وخبر ، وقد تقدم قول الطبري في أن ارتفاع بعضكم على الفاعلية بالفعل المحذوف ، ومعنى هذه الجملة الابتدائية : التأنيس أيضاً بنكاح الإماء ، وأن الأحرار والأرقاء كلهم متواصلون متناسبون يرجعون إلى أصل واحد ، وقد اشتركوا في الإيمان ، فليس بضائر نكاح الإماء . وفيه توطئة العرب ، إذ كانت في الجاهلية تستهجن ولد الأمة ، وكانوا يسمونه الهجين ، فلما جاء الشرع أزال ذلك . وما أحسن ما روي عن عليّ من قوله :

" صفحة رقم 232 "
الناس من جهة التمثيل أكفاء
أبوهم آدم والأم حواء
) فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ( هذا أمر إباحة ، والمعنى : بولاية ملاكهن . والمراد بالنكاح هنا : العقد ، ولذلك ذكر إيتاء الأجر بعده أي المهر . وسمي ملاك الإماء أهلاً لهن ، لأنهم كالأهل ، إذ رجوع الأمة إلى سيدها في كثير من الأحكام . وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) لاَ تُحِلُّواْ بِاللَّهِ حَسِيباً مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ ). وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) مَوَالِىَ الْقَوْمَ مِنْهُمْ ).
وقيل : هو على حذف مضاف بإذن أهل ولايتهن ، وأهل ولاية نكاحهن هم الملاك . ومقتضى هذا الخطاب أنّ الأدب شرط في صحة النكاح ، فلو تزوجت بغير إذن السيد لم يصح النكاح ، ولو أجازه السيد بخلاف العبد . فإنه لو تزوج بغير إذن سيده فإن مذهب الحسن وعطاء ، وابن المسيب ، وشريح ، والشعبي ، ومالك ، وأبي حنيفة : أنّ تزوجه موقوف على إذن السيد ، فإن أجازه جاز ، وإن ردَّه بطل . وقال الأوزاعي ، والشافعي ، وداود : لا يجوز ، أجازه المولى أو لم يجزه .
وأجمعوا على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده ، وكان ابن عمر يعده زانياً ويحدّه ، وهو قول : أبي ثور .
وقال عطاء : لا حد عليه ، وليس بزنا ، ولكنه أخطأ السنة . وهو قول أكثر السلف . وظاهر قوله : بإذن أهلهن أنه يشمل الملاك ذكوراً وإناثاً ، فيشترط إذن المرأة في تزويج أمتها ، وإذا كان المراد بالإذن هو العقد فيجوز للمرأة أن تزوج أمتها وتباشر العقد ، كما يجوز للذكر . وقال الشافعي : لا يجوز ، بل توكل غيرها في التزويج . وقال الزمخشري : بإذن أهلهن ، اشترط الإذن للموالي في نكاحهن ، ويحتج به لقول أبي حنيفة : إنَّ لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن ، لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم .
( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ ( الأجور هنا المهور . وفيه دليل على وجوب إيتاء الأمة مهرها لها ، وأنها أحق بمهرها من سيدها ، وهذا مذهب مالك ، قال : ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز . وجمهور العلماء : على أنه يجب دفعه للسيد دونها . قيل : الإماء وما في أيديهن مال الموالي ، فكان أداؤه إليهن أداء إلى الموالي . وقيل : على حذف مضاف أي : وآتوا مواليهن . وقيل : حذف بإذن أهلهن بعد قوله : ) وَمَن لَّمْ ( لدلالة قوله : ) فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ( عليه وصار نظيراً ) لَحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ( أي فروجهن ، ( وَالذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذكِراتِ ( أي الله كثيراً .
وقال بعضهم : أجورهن نفقاتهن . وكون الأجور يراد بها المهور هو الوجه ، لأن النفقة تتعلق بالتمكين لا بالعقد . وظاهر قوله : بالمعروف ، أنه متعلق بقوله : وآتوهن أجورهن . قيل : ومعناه بغير مطل وضرار ، وإخراج إلى اقتضاء ولز . وقيل : معناه بالشرع والسنة أي : المعروف من مهور أمثالهن اللاتي ساوينهن في المال والحسب . وقيل : بالمعروف ، متعلق بقوله : فانكحوهن ، أي : فانكحوهن بالمعروف بإذن أهلهن ، ومهر مثلهن ، والإشهاد على ذلك . فإن ذلك هو المعروف في غالب الأنكحة .
( مُحْصَنَات ( أي عفائف ، ويحتمل مسلمات .
( غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ( أي غير معلنات بالزنا .
( وَلاَ مُتَّخِذَاتِ ( أي : ولا متسترات بالزنا مع أخدانهن . وهذا تقسيم الواقع لأن الزانية إما أن تكون لا ترديد لامس ، وإما أن تقتصر على واحد ، وعلى هذين النوعين كان زنا الجاهلية . قال ابن عباس : كان قوم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي منه . والخدن : هو الصديق للمرأة يزني بها سراً ، فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن . وانتصاب محصنات على الحال ، والظاهر أنّ العامل فيه : وآتوهن ، ويجوز على هذا الوجه أن يكون معنى محصنات مزوجات أي : وآتوهن أجورهن في حال تزويجهن ، لا في حال سفاح ، ولا اتخاذ خدن . قيل : ويجوز أن يكون العامل في محصنات فانكحوهن محصنات أي : عفائف أو مسلمات ، غير زوان .
( أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( قال الجمهور ومنهم ابن مسعود : الإحصان هنا

" صفحة رقم 233 "
الإسلام . والمعنى : أن الأمة المسلمة عليها نصف حد الحرة المسلمة . وقد ضعف هذا القول ، بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدّمت في قوله : ) مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ( فكيف يقال في المؤمنات : فإذا أسلمن ؟ قاله : إسماعيل القاضي . وقال ابن عطية : ذلك غير لازم ، لأنه جائز أن يقطع في الكلام ويزيد ، فإذا كنّ على هذه الصفة المتقدمة من الإيمان فإن أتين فعليهن ، وذلك سائغ صحيح انتهى . وليس كلامه بظاهر ، لأن أسلمن فعل دخلت عليه أداة الشرط ، فهو مستقبل مفروض التجدد والحدوث فيما يستقبل ، فلا يمكن أن يعبر به عن الإسلام ، لأن الإسلام متقدم سابق لهن . ثم إنه شرط جا بعد قوله تعالى : ) فَانكِحُوهُنَّ ( فكأنه قيل : فإذا أحصن بالنكاح ، فإن أتين .
ومن فسر الإحصان هنا بالإسلام جعله شرطاً في وجوب الحد ، فلو زنت الكافر لم تحد ، وهذا قول : الشعبي ، والزهري ، وغيرهما ، وقد روي عن الشافعي . وقالت فرقة : هو التزويج ، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها قاله : ابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، وقتادة . وقالت فرقة : هو التزوج . وتحد الأمة المسلمة بالسنة تزوجت أو لم تتزوج ، بالحديث الثابت في صحيح البخاري ومسلم ، وهو أنه قيل : يا رسول الله ، الأمة ، إذا زنت ولم تحصن ، فأوجب عليها الحد ) . قال الزهري : فالمتزوجة محدودة بالقرآن ، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث . وهذا السؤال من الصحابة يقتضي أنهم فهموا أنّ معنى : فإذا أحصن ، تزوجن . وجواب الرسول : يقتضي تقرير ذلك ، ولا مفهوم لشرط الإحسان الذي هو التزوج ، لأنه وجب عليه الحد بالسنة وإن لم تحصن ، وإنما نبه على حالة الإحصان الذي هو التزوج ، لئلا يتوهم أنّ حدها إذا تزوجت كخد الحرة إذا أحصنت وهو الرجم ، فزال هذا التوهم بالإخبار : أنه ليس عليها إلا نصف الحد الذي يجب على الحرائر اللواتي لم يحصن بالتزويج ، وهو الجلد خمسين .
والمراد بالعذاب الجلد كقوله تعالى : ) وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ولا يمكن أن يراد الرجم ، لأنّ الرجم لا يتنصف . والمراد بفاحشة هنا : الزنا ، بدليل إلزام الحد . والظاهر أنه يجب نصف ما على الحرة من العذاب ، والحرة عذابها جلد مائة وتغريب عام ، فحد الأمة خمسون وتغريب ستة أشهر . وإلى هذا ذهب جماعة من التابعين ، واختاره الطبري . وذهب ابن عباس والجمهور : إلى أنه ليس عليها إلا جلد خمسين فقط ، ولا تغرب . فإن كانت الألف واللام في العذاب لعهد العذاب المذكور في القرآن فهو الجلد فقط ، وإن كانت للعهد في العذاب المستقر في الشرع على الحرة كان الجلد والتغريب . والظاهر وجوب الحد من قوله : فعليهن ، فلا يجوز العفو عن الأمة من السيد إذا زنت ، وهو مذهب الجمهور . وذهب الحسن إلى أن للسيد أن يعفو ، ولم تتعرض الآية لمن يقيم الحد عليها .
قال ابن شهاب : مضت السنة أن يحدّ الأمة والعبد في الزنا أهلوهم ، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان ، فليس لأحد أن يفتات عليه . وقال ابن أبي ليلى : أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم . وأقام الحد على عبيدهم جماعة من الصحابة منهم : ابن عمر ، وأنس . وجاءت بذلك ظواهر الأحاديث كقوله : ) إِذَا ( وبه قال الثوري والأوزاعي . وقال مالك والليث : يحد السيد إلا في القطع ، فلا يقطع إلا الإمام . وقال أبو حنيفة : لا يقيم الحدود على العبيد والإماء إلا السلطان دون المواليْ وظاهر الآية يدل على وجوب الحد عليها في حال كونها أمة ، فلو عتقت قبل أن يقام عليها الحد أقيم عليها حد أمة ، وهذا مجمع عليه . والمحصنات هنا الإبكار

" صفحة رقم 234 "
الحرائر ، لأنّ الثيب عليها الرجم . وظاهر الآية أنه لا يجب إلا هذا الحدّ . وذهب أهل الظاهر منهم داود : إلى أنه يجب بيعها إذا زنت زنية رابعة .
وقرأ حمزة والكسائي : أحصن مبنياً للفاعل ، وباقي السبعة : مبنياً للمفعول إلا عاصماً ، فاختلف عنه . ومن بناه للمفعول فهو ظاهر حدًّا في أنه أريد به التزوج ، ويقوى حمله مبنياً للفاعل على هذا المعنى أي : أحصن أنفسهن بالتزويج . وجواب فإذا الشرط وجوابه وهو قوله : فإن أتين بفاحشة فعليهن ، فالفاء في : فإن أتين هي فاء الجواب ، لا فاء العطف ، ولذلك ترتب الثاني ، وجوابه على وجود الأول ، لأنّ الجواب مترتب على الشرط في الوجود ، وهو نظير : إن دخلت الدار فإن كلمت زيداً فأنت طالق ، لا يقع الطلاق إلا إذا دخلت الدار أولاً ثم كلمت زيداً ثانياً . ولو أسقطت الفاء من الشرط الثاني لكان له حكم غير هذا ، وتفصيل ذكر في النحو . ومن العذاب في موضع الحال من الضمير المستكن في صلة ما .
( مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ( ذلك إشارة إلى نكاح عادم طول الحرّة المؤمنة . والعنت : هو الزنا . قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، والضحاك ، وعطية العوفي ، وعبد الرحمن بن زيد . والعنت : أصله المشقة ، وسمي الزنا عنتاً باسم ما يعقبه من المشقة في الدنيا والآخرة . قال المبرد : أصل العنت أن يحمله العشق والشبق على الزنا ، فيلقى العذاب في الآخرة ، والحدّ في الدنيا . وقال أبو عبيدة والزجاج : العنت الهلاك . وقالت طائفة : الحد . وقالت طائفة : الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة . وظاهر هذا أنه إذا لم يخش العنت لا يجوز له نكاح الأمة . والذي دلّ عليه ظاهر القرآن : أنه لا يجوز نكاح الحرّ الأمة إلا بثلاثة شروط : ) اثْنَانِ فِى ( وهما : عدم طول الحرّة المؤمنة ، وخوف العنت . وواحد في الأمة وهو الإيمان .
( مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ( ظاهره الإخبار عن صبر خاص ، وهو غير نكاح الإماء ، وقاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير والسدي : وجهة الخيرية كونه لا يرق ولده ، وأن لا يبتذل هو ، وينتقص في العادة بنكاح الأمة . وفي سنن ابن ماجة من حديث أنس قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقول : ( من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر ) وجاء في الحديث : ( انكحوا الأكفاء واختاروا لنطفكم ) . وقيل : المراد وإن تصبروا عن الزنا بنكاح لإماء خير لكم ، وعلى هذا فالخيرية ظاهرة . ويكون على هذا القول في الآية إيناس لنكاح الإماء ، وتقريب منه ، إذ كانت العرب تنفر عنه . وإذا جعل : وإن تصبروا عاماً ، اندرج فيه الصبر المقيد وهو : عن نكاح الإماء ، وعن الزنا . إذ الصبر خير ، من عدمه ، لأنه يدل على شجاعة النفس وقوة عزمها ، وعظم إبائها ، وشدة حفاظها . وهذا كله يستحسنه العقل ، ويندب إليه الشرع ، وربما أوجبه في بعض المواضع . وجعل الله تعالى أجر الصابر موفاة بغير حساب ، وقد قال بعض أهل العلم : إنّ سائر العبادات لا بد لها من الصبر . قال تعالى : ) وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ ).
) وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( لما ندب بقوله : وأن تصبروا إلى الصبر عن نكاح الإماء ، صار كأنه في حيز الكراهة ، فجاء بصفة الغفران المؤذنة بأنَّ ذلك مما سامح فيه تعالى ، وبصفة الرحمة حيث رخص في نكاحهن وأباحه .
النساء : ( 26 ) يريد الله ليبين . . . . .
( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ( مفعول يتوب محذوف وتقديره : يريد الله هذا هو مذهب سيبويه فيما نقل ابن عطية ، أي : تحليل ما حلل ، وتحريم ما حرم ، وتشريع ما تقدّم ذكره . والمعنى : يريد الله تكليف ما كلف به عباده مما ذكر لأجل التبيين لهم بهدايتهم ، فمتعلق الإرادة غير التبيين وما عطف عليه ، هذا مذهب البصريين . ولا يجوز عندهم أن يكون متعلف الإرادة التبيين ، لأنه يؤدي إلى تعدي الفعل إلى مفعوله المتأخر بوساطة اللام ، وإلى إضمار أنّ بعد لام ليست لام الجحود ، ولا لام كي ، وكلاهما لا يجوز عندهم . ومذهب الكوفيين : أن

" صفحة رقم 235 "
متعلق الإرادة هو التبيين ، واللام هي الناصبة بنفسها لا أن مضمرة بعدها . وقال بعض البصريين : إذا جا مثل هذا قدر الفعل الذي قبل اللام بالمصدر فالتقدير : إرادة الله لما يريد ليبين ، وكذلك أريد لا ينسى ذكرها ، أي : إرادتي لا ينسى ذكرها . وكذلك قوله تعالى : ) وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( أي : أمرنا بما أمرنا لنسلم انتهى . وهذا القول نسبه ابن عيسى لسيبويه والبصريين ، وهذا يبحث في علم النحو .
وقال الزمخشري : أصله يريد الله أن يبين لكم ، فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين ، كما زيدت في لا أبا لك لتأكيد إضافة الأب ، والمعنى : يريد الله أن يبين لكم ما خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم انتهى كلامه وهو خارج عن أقوال البصريين والكوفيين . وأما كونه خارجاً عن أقوال البصريين فلأنه جعل اللام مؤكدة مقوية لتعدي يريد ، والمفعول متأخر ، وأضمر أن بعد هذه اللام . وأما كونه خارجاً عن قول الكوفيين فإنهم يجعلون النصب باللام ، لا بأن ، وهو جعل النصب بأن مضمرة بعد اللام . وذهب بعض النحويين إلى أن اللام في قوله : ليبين لكم ، لام العاقبة ، قال : كما في قوله : ليكون لهم عدواً وحزناً ) ولم يذكر مفعول يبين .
قال عطاء : يبين لكم ما يقربكم . وقال الكلبي : يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير . وقيل : ما فصل من المحرمات والمحللات . وقيل : شرائع دينكم ، ومصالح أموركم . وقيل : طريق من قبلكم إلى الجنة . ويجوز عندي أن يكون من باب الإعمال ، فيكون مفعول ليبين ضميراً محذوفاً يفسره مفعول ويهديكم ، نحو : ضربت وأهنت زيداً ، التقدير : ليبينها لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، أي ليبين لكم سنن الذين من قبلكم .
والسنن : جمع سنة ، وهي الطريقة . واختلفوا في قوله : سنن الذين من قبلكم ، هل ذلك على ظاهره من الهداية لسننهم ؟ أو على التشبيه ؟ أي : سنناً مثل سنن الذين الذين من قبلكم . فمن قال بالأول أراد أنّ السنن هي ما حرم علينا وعليهم بالنسب والرضاع والمصاهرة . وقيل : المراد بالسنن ما عنى في قوله تعالى : ) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( وقيل : المراد بها ما ذكره في قوله تعالى : ) شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ( وقيل : طرق من قبلكم إلى الجنة . وقيل : مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين ، والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم ، وهذا قريب مما قبله . وعلى هذا الأقوال فيكون الذين من قبلكم المراد به الأنبياء وأهل الخير . وقيل : المراد بقوله سنن طرق أهل الخير والرشد والغي ، ومن كان قبلكم من أهل الحق والباطل ، لتجتنبوا الباطل ، وتتبعوا الحق .
والذين قالوا : إنّ ذلك على التشبيه قالوا : إن المعنى أنّ طرق الأمم السابقة في هدايتها كان بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وبيان الأحكام ، وكذلك جعل طريقكم أنتم . فأراد أن يرشدكم إلى شرائع دينكم وأحكام ملتكم بالبيان والتفصيل ، كما أرشد الذين من قبلكم من المؤمنين . وقيل : الهداية في أحد أمرين : أما أنا خوطبنا في كل قصة نهياً أو أمراً كما خوطبوا هم أيضاً في قصصهم ، وشرع لنا كما شرع لهم ، فهدايتنا سننهم في الإرشاد ، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم . والأمر الثاني : أنّ هدايتنا سننهم في أنّ سمعنا وأطعنا كما سمعوا وأطاعوا ، فوقع التماثل من هذه الجهة .
والمراد بالهداية هنا الإرشاد والتوضيح ، ولا يتوجه غير ذلك بقرينة السنن ، والذين من قبلناهم المؤمنون من كل شريعة . وقال صاحب ري الظمآن وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي : قوله تعالى : يريد الله ليبين لكم ، أي : يريد أن يبين ، أو يريد إنزال الآيات ليبين لكم . وقوله تعالى : ويهديكم ، قال المفسرون : معناهما واحد ، والتكرار لأجل التأكيد ، وهذا ضعيف . والحق أنَّ المراد من الأول تبيين التكاليف ، ثم قال : ويهديكم . وفيه قولان : أحدهما : أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة ، فقد كان الحكم

" صفحة رقم 236 "
كذلك أيضاً في جميع الشرائع ، وإن كانت مختلفة في نفسها ، متفقة في باب المصالح انتهى . وتقدم معنى هذه الأقوال التي ذكرها . وقوله : أي يريد أن يبين ، موافق لقول الزمخشري .
( وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ( أي يردكم من عصيانه إلى طاعته ، ويوفقكم لها .
( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( عليم بأحوالكم وبما تقدم من الشرائع والمصالح ، حكيم يصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان .
النساء : ( 27 ) والله يريد أن . . . . .
( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً ( تعلق الإرادة أولاً بالتوبة على سبيل العلية على ما اخترناه من الأقوال ، لأن قوله : ويتوب عليكم ، معطوف على العلة ، فهو علة . ونعلقها هنا على سبيل المفعولية ، فقد اختلف التعلقان فلا تكرار . وكما أراد سبب التوبة فقد أراد التوبة عليهم ، إذ قد يصح إرادة السبب دون الفعل . ومن ذهب إلى أنّ متعلق الإرادة في الموضعين واحد كان قوله : والله يريد أن يتوب عليكم تكراراً لقوله : ويتوب عليكم ، لأن قوله : ويتوب عليكم ، معطوف على مفعول ، فهو مفعول به . قال ابن عطية : وتكرار إرادة الله للتوبة على عباده تقوية للأخبار الأول ، وليس المقصد في الآية إلا الأخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات ، فقدمت إرادة الله توطئة مظهرة لفساد متبعي الشهوات . انتهى كلامه . فاختار مذهب الكوفيين في أن جعلوا قوله : ليبين ، في معنى أن يبين ، فيكون مفعولاً ليريد ، وعطف عليه : ويتوب ، فهو مفعول مثله ، ولذلك قال : وتكرار إرادة الله التوبة على عباده إلى آخر كلامه . وكان قد حكى قول الكوفيين وقال : وهذا ضعيف ، فرجع أخيراً إلى ما ضعفه ، وكان قد قدم أنَّ مذهب سيبويه : أنَّ مفعول : يريد ، محذوف ، والتقدير : يريد الله هذا التبيين .
والشهوات جمع شهوة ، وهي ما يغلب على النفس محبته وهواه . ولما كانت التكاليف الشرعية فيها قمع النفس وردها عن مشتهياتها ، كان اتباع شهواتها سبباً لكل مذمّة ، وعبر عن الكافر والفاسق بمتبع الشهوات كما قال تعالى : ) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَواةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ( واتباع الشهوة في كل حال مذموم ، لأن ذلك ائتمار لها من حيث ما دعته الشهوة إليه . أما إذا كان الاتباع من حيث العقل أو الشرع فذلك هو اتباع لهما لا للشهوة . ومتبعو الشهوات هنا هم الزناة قاله : مجاهد . أو اليهود والنصارى قاله : السدي . أو اليهود خاصة لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب ، أو المجو كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب ، ونكاح بنات الأخ ، وبنات الأخت ، فلما حرّمهنّ الله قالوا : فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة ، والعمة عليكم حرام ، فانكحوا بنات الأخ والأخت ، أو متبعو كل شهوة قاله : ابن زيد ، ورجحه الطبري . وظاهره العموم والميل ، وإن كان مطلقاً فالمراد هنا الميل عن الحق ، وهو الجور والخروج عن قصد السبيل . ولذلك قابل إرادة الله بإرادة متبعي الشهوات ، وشتان ما بين الإرادتين . وأكد فعل الميل بالمصدر على سبيل المبالغة ، لم يكتف حتى وصفه بالعظم . وذلك أن الميول قد تختلف ، فقد يترك الإنسان فعل الخير لعارض شغل أو لكسل أو لفسق يستلذ به ، أو لضلالة بأن يسبق له سوء اعتقاد . ويتفاوت رتب معالجة هذه الأشياء ، فبعضها أسهل من بعض ، فوصف مثل هؤلاء بالعظم ، إذ هو أبعد الميول معالجة وهو الكفر . كما قال تعالى : ) وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ ( ) وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ).
وقرأ الجمهور : أن تميلوا بتاء الخطاب . وقرىء : بالياء على الغيبة . فالضمير في يميلوا يعود على الذين يتبعون الشهوات . وقرأ الجمهور : ميلاً بسكون الياء . وقرأ الحسن : بفتحها ، وجاءت الجملة الأولى اسمية ، والثانية فعلية لإظهار تأكيد الجملة الأولى ، لأنها أدل على الثبوت . ولتكرير اسم الله تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار . وأما الجملة الثانية فجاءت فعلية مشعرة بالتجدد ، لأن أرادتهم تتجدد في كل وقت . والواو في قوله : ويريد للعطف على ما قررناه . وأجاز الراغب أن تكون الواو للحال لا للعطف ، قال : تنبيهاً على أنه يريد التوبة عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا ، فخالف بين الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجمل الأولى ، وتأخيره في

" صفحة رقم 237 "
الجملة الثانية ، ليبين أنَّ الثاني ليس على العطف انتهى . وهذا ليس بجيد ، لأنّ إرادته تعالى التوبة علينا ليست مقيدة بإرادة غيره الميل ، ولأنّ المضارع باشرته الواو ، وذلك لا يجوز ، وقد جاء منه شيء نادر يؤوّل على إضمار مبتدأ قبله ، لا ينبغي أن يحمل القرآن عليه ، لا سيما إذا كان للكلام محمل صحيح فصيح ، فحمله على النادر تعسف لا يجوز .
النساء : ( 28 ) يريد الله أن . . . . .
( يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ ( لم يذكر متعلق التخفيف ، وفي ذلك أقوال : أحدها أن يكون في إباحة نكاح الأمة وغيره من الرخص . الثاني في تكليف النظر وإزالة الحيرة فيما بين لكم مما يجوز لكم من النكاح وما لا يجوز . الثالث : في وضع الاصر المكتوب على من قبلنا ، وبمجيء هذه الملة الحنيفية سهلة سمحة . الرابع : بإيصالكم إلى ثواب ما كلفكم من تحمل التكاليف . الخامس : أن يخفف عنكم إثم ما ترتكبون من المآثم لجهلكم .
وأعربوا هذه الجملة حالاً من قوله : والله يريد أن يتوب عليكم ، والعامل في الحال يريد ، التقدير : والله يريد أن يتوب عليكم مريداً أن يخفف عنكم ، وهذا الإعراب ضعيف ، لأنه قد فصل بين العامل والحال بجملة معطوفة على الجملة التي في ضمنها العامل ، وهي جملة أجنبية من العامل والحال ، فلا ينبغي أن يتجوز إلا بسماع من العرب . ولأنه رفع الفعل الواقع حالاً الاسم الظاهر ، وينبغي أن يرفع ضميره لا ظاهره ، فصار نظير : زيد يخرج يضرب زيد عمراً . والذي سمع من ذلك إنما هو في الجملة الابتدائية ، أو في شيء من نواسخها . أما في جملة الحال فلا أعرف ذلك . وجواز ذلك فيما ورد إنما هو فصيح حيث يراد التفخيم والتعظيم ، فيكون الربط في الجملة الواقعة خبراً بالظاهر . أما جملة الحال أو الصفة فيحتاج الربط بالظاهر فيها إلى سماع من العرب ، والأحسن أن تكون الجملة مستأنفة ، فلا موضع لها من الإعراب . أخبر بها تعالى عن إرادته التخفيف عنا ، كما جاء ) يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ).
) وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ( قال مجاهد وطاووس وابن زيد : الإخبار عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء ، أي لما علمنا ضعفكم عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء . قال طاووس : ليس يكون الإنسان أضعف منه في أمر النساء . وقال ابن المسيب : ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا أتاهم من النساء ، فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشق بالأخرى ، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء .
قال الزمخشري : ضعيفاً لا يصبر عن الشهوات ، وعلى مشاق الطاعات . قال ابن عطية : ثم بعد هذا المقصد أي : تخفيف الله بإباحة الإماء ، يخرج الآية مخرج التفضل ، لأنها تتناول كل ما خفف الله عن عباده وجعله الدين يسراً ، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاماً حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب . قال الراغب : ووصف الإنسان بأنه خلق ضعيفاً ، إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى نحو : ) أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ( أو باعتباره بنفسه دون ما يعتريه من فيض الله ومعونته ، أو اعتباراً بكثرة حاجاته وافتقار بعضهم إلى بعض ، أو اعتباراً بمبدئه ومنتهاه كما قال تعالى : ) اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ( فأما إذا اعتبر بعقله وما أعطاه من القوة التي يتمكن بها من خلافة الله في أرضه ويبلغ بها في الآخرة إلى جواره تعالى ، فهو أقوى ما في هذا العالم . ولهذا قال تعالى : ) وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ). وقال الحسن : ضعيفاً لأنه خلق من ماء مهين . قال الله تعالى : الذي خلقكم من ضعف .
وقرأ ابن عباس ومجاهد : وخلق الإنسان مبنياً للفاعل مسنداً إلى ضمير اسم الله ، وانتصاب ضعيفاً على الحال . وقيل : انتصب على التمييز . لأنه يجوز أن يقدر بمن ، وهذا

" صفحة رقم 238 "
ليس بشيء . وقيل : انتصب على إسقاط حرف الجر ، والتقدير : من شيء ضعيف ، أي من طين ، أو من نطفة وعلقة ومضغة . ولما حذف الموصوف والجابر انتصبت الصفة بالفعل نفسه . قال ابن عطية : ويصح أن يكون خلق بمعنى جعل ، فيكسبها ذلك قوّة التعدي إلى مفعولين ، فيكون قوله : ضعيفاً مفعولاً ثانياً انتهى . وهذا هو الذي ذكره من أنّ خلق يتعدى إلى اثنين بجعلها بمعنى جعل ، لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إلى ذلك ، بل الذي ذكر الناس أنّ من أقسام جعل أن يكونن بمعنى خلق ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( أما العكس فلم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه ، والمتأخرون الذين تتبعوا هذه الأفعال لم يذكروا ذلك . وقد تضمنت هذه الآيات أنواعاً من البيان والبديع . منها : التجوّز بإطلاق اسم الكل على البعض في قوله : يأتين الفاحشة ، لأن أل تستغرق كل فاحشة وليس المراد بل بعضها ، وإنما أطلق على البعض اسم الكل تعظيماً لقبحه وفحشه ، فإن كان العرف في الفاحشة الزنا ، فليس من هذا الباب إذ تكون الألف واللام للعهد . والتجوّز بالمراد من المطلق بعض مدلوله في قوله : فآذوهما إذ فسر بالتعيير أو الضرب بالنعال ، أو الجمع بينهما ، وبقوله : سبيلاً والمراد الحد ، أو رجم المحصن . وبقوله : فأعرضوا عنهما أي اتركوهما . وإسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله : حتى يتوفاهنّ الموت ، وفي قوله : حتى إذا حضر أحدهم الموت . والتجنيس المغاير في : إن تابا إن الله كان توّاباً ، وفي : أرضعنكم ومن الرضاعة ، وفي : محصنات فإذا أحصنّ . والتجنيس المماثل في : فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا ، وفي : ولا تنكحوا ما نكح . والتكرار في : اسم الله في مواضع ، وفي : إنما التوبة وليست التوبة ، وفي : زوج مكان زوج ، وفي : أمّهاتكم وأمّهاتكم اللاتي ، وفي : إلا ما قد سلف ، وفي : المؤمنات في قوله : المحصنات المؤمنات ، وفي : فتياتكم المؤمنات ، وفي : فريضة ومن بعد الفريضة ، وفي : المحصنات من النساء والمحصنات ، ونصف ما على المحصنات ، وفي : بعضكم من بعض ، وفي : يريد في أربعة مواضع ، وفي : يتوب وأن يتوب ، وفي : إطلاق المستقبل على الماضي ، في : واللاتي يأتين الفاحشة وفي : واللذان يأتيانها منكم ، وفي : يعملون السوء وفي : ثم يتوبون ، وفي : يريد وفي : ليبين ، لأن إرادة الله وبيانه قديمان ، إذ تبيانه في كتبه المنزلة والإرادة والكلام من صفات ذاته وهي قديمة . والإشارة والإيماء في قوله ؛ كرهاً ، فإن تحريم الإرث كرهاً يومىء إلى جوازه طوعاً ، وقد صرح بذلك في قوله : فإن طين ، وفي قوله : ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ ، فله أن يعضلها على غير هذه الصفة لمصلحة لها تتعلق بها ، أو بمالها ، وفي : أنه كان فاحشة أومأ إلى نكاح الأبناء في الجاهلية نساء الآباء ، وفي : أحل لكم ما وراء ذلكم إشارة إلى ما تقدم في المحرمات ، ذلك لمن خشي العنت إشارة إلى تزويج الإماء . والمبالغة في تفخيم الأمر وتأكيده في قوله : وآتيتم إحداهنّ قنطاراً عظم الأمر حتى ينتهي عنه . والاستعارة في قوله : وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً ، استعار الأخذ للوثوق بالميثاق والتمسك به ، والميثاق معنى لا يتهيأ فيه الأخذ حقيقة ، وفي : كتاب الله عليكم أي فرض الله ، استعار للفرض لفظ الكتاب لثبوته وتقريره ، فدل بالأمر المحسوس على المعنى المعقول . وفي : محصنين ، استعار لفظ الإحصان وهو الامتناع في المكان الحصين للامتناع بالعقاب ، واستعار لكثرة الزنا السفح وهو صب الماء في الأنهار والعيون بتدفق وسرعة ، وكذلك : فآتوهن أجورهن استعار لفظ الأجور للمهور ، والأجر هو ما يدل على عمل ، فجعل تمكين المرأة من الانتفاع بها كأنه عمل تعمله . وفي قوله : طولاً استعارة للمهر يتوصل به للغرض ، والطول وهو الفضل يتوصل به إلى معالي الأمور . وفي قوله : يتبعون الشهوات استعار الاتباع والميل اللذين هما حقيقة في الإجرام لموافقة هوى النفس المؤدي إلى الخروج عن الحق . وفي قوله : أن يخفف ، والتخفيف أصله من خفة الوزن وثقل الجرم ، وتخفيف التكاليف رفع مشاقها من النفس ، وذلك من

" صفحة رقم 239 "
المعاني . وتسمية الشيء بما يؤول إليه في قوله : أن ترثوا النساء كرهاً ، سمي تزويج النساء أو منعهن للأزواج إرثاً ، لأن ذلك سبب الإرث في الجاهلية . وفي قوله : وخلق الإنسان ضعيفاً جعله ضعيفاً باسم ما يؤول إليه ، أو باسم أصله . والطباق المعنوي في قوله : وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ، وقد فسر الخير الكثير بما هو محبوب . وفي قوله : والمحصنات من النساء ، أي حرام عليكم ثم قال : وأحل لكم . والذي يظهر أنه من الطباق اللفظي ، لأن صدر الآية حرمت عليكم أمهاتكم ، ثم نسق المحرمات ، ثم قال : وأحل لكم ، فهذا هو الطباق . وفي قوله : محصنين غير مسافحين ، والمحصن الذي يمنع فرجه ، والمسافح الذي يبذله . والاحتراس في قوله : اللاتي دخلتم بهن احترز من اللاتي لم يدخل بهن ، وفي وربائبكم اللاتي في جحوركم احترس من اللاتي ليست في الحجور . وفي قوله : والمحصنات من النساء إذا المحصنات قد يراد بها الأنفس المحصنات ، فيدخل تحتها الرجال ، فاحترز بقوله : من النساء . والاعتراض بقوله : والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض . والحذف في مواضع لا يتم المعنى إلا بها .
2 ( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاٌّ قْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَأاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيداً الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْل

" صفحة رقم 240 "
وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً ( )
النساء : ( 29 ) يا أيها الذين . . . . .
الجار : القريب المسكن منك ، وألفه منقلبة عن واو لقولهم : جاورت ، ويجمع على جيران وجيرة . والجنب : البعيد . والجنابة البعد قال : فلا تحرمني نائلاً عن جنابة
فإني امرؤ وسط القباب غريب
وهو من الاجتناب ، وهو أن يترك الرجل جانباً . وقال تعالى : ) وَاجْنُبْنِى ( أي بعدني ، وهو وصف على فعل كناقة سرح .
المختال : المتكبر ، وهو اسم فاعل من اختال ، وألفه منقلبة عن ياء لقولهم : الخيلاء والمخيلة . ويقال : خال الرجل يخول خولاً إذا تكبر وأعجب بنفسه ، فتكون هذه مادة أخرى ، لأن تلك مركبة من خيل خ ي ل ، وهذه مادة من خ و ل . الفخور : فعول من فخر ، والفخر عد المناقب على سبيل الشغوف والتطاول .
القرين : فعيل بمعنى مفاعل ، من قارنه إذا لازمه وخالطه ، ومنه سميت الزوجة قرينة . ومنه قيل لما يلزمن الإبل والبقر : قرينان ، وللحبل الذي يشدان به قرن قال الشاعر : وابن اللبون إذا ما لزفى قرن
لم يستطع صوله البزل القناعيس
وقال : كمدخل رأسه لم يدنه أحد
من القرينين حتى لزه القرن
) ضَعِيفاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ( تقدم شرح نظير هذه الجملة في قوله : ) وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ ( ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما بين كيفية التصرف في النفوس بالنكاح ، بيّن كيفية التصرف في الأموال الموصلة إلى النكاح ، وإلى ملك اليمين ، وأن المهور والأثمان المبذولة في ذلك لا تكون مما ملكت بالباطل ، والباطل هو كل طريق لم تبحه الشريعة ، فيدخل فيه : السرقة ، والخيانة ، والغصب ، والقمار ، وعقود الربا ، وأثمان البياعات الفاسدة ، فيدخل فيه بيع العربان وهو : أن يأخذ منك السلعة ويكرى الدابة ويعطى درهماً مثلاً عرباناً ، فإن اشترى ، أو ركب ، فالدرهم من ثمن السلعة أو الكراء ، وإلا فهو للبائع . فهذا لا يصح ولا يجوز عند جماهير الفقهاء ، لأنه من باب أكل المال بالباطل . وأجاز قوم منهم : ابن سيرين ، ومجاهد ، ونافع بن عبيد ، وزيد بن أسلم : بيع العربان على ما وصفناه ، والحجج في كتب الفقه .
وقد اختلف السلف في تفسير قوله : بالباطل . فقال ابن عباس والحسن : هو أن يأكله بغير عوض . وعلى هذا التفسير قال ابن عباس : هي منسوخة ، إذ يجوز أكل المال بغير عوض إذا كان هبة أو صدقة أو تمليكاً أو وارثاً ، أو نحو ذلك مما أباحت الشريعة أخذه بغير عوض . وقال السدي : هو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم ، وغير ذلك مما لم يبح الله تعالى أكل المال به . وعلى هذا تكون الآية محكمة وهو قول ابن مسعود

" صفحة رقم 241 "
والجمهور . وقال بعضهم : الآية مجملة ، لأن معنى قوله : بالباطل ، بطريق غير مشروع . ولمّا لم تكن هذه الطريق المشروعة مذكورة هنا على التفصيل ، صارت الآية مجملة . وإضافة الأموال إلى المخاطبين معناه : أموال بعضكم . كما قال تعالى : ) وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( وقوله : ) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( وقيل : يشمل قوله : أموالكم ، مال الغير ومال نفسه . فنهى أن يأكل مال غيره إلا بطريق مشروع ، ونهى أن يأكل مال نفسه بالباطل ، وهو : إنفاقه في معاصي الله تعالى . وعبر هنا عن أخذ المال بالأكل ، لأن الأكل من أغلب مقاصده وألزمها .
( إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ ( هذا استثناء منقطع لوجهين : أحدهما : أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل فتستثنى منها سواء أفسرت قوله بالباطل بغير عوض كما قال : ابن عباس ، أم بغير طريق شرعي كما قاله غيره . والثاني : أن الاستثناء إنما وقع على الكون ، والكون معنى من المعاني ليس مالاً من الأموال . ومن ذهب إلى أنه استثناء متصل فغير مصيب لما ذكرناه . وهذا الاستثناء المنقطع لا يدل على الحصر في أنه لا يجوز أكل المال إلا بالتجارة فقط ، بل ذكر نوع غالب من أكل المال به وهو : التجارة ، إذ أسباب الرزق أكثرها متعلق بها .
وفي قوله : عن تراض دلالة على أنّ ما كان على طريق التجارة فشرطه التراضي ، وهو من اثنين : الباذل للثمن ، والبائع للعين . ولم يذكر في الآية غير التراضي ، فعلى هذا ظاهر الآية يدل على أنه لو باع ما يساوي مائة بدرهم جاز إذا تراضيا على ذلك ، وسواء أعلم مقدار ما يساوي أم لم يعلم . وقالت فرقة : إذا لم يعلم قدر الغبن وتجاوز الثلث ، ردّ البيع . وظاهرها يدل على أنه إذا تعاقد بالكلام أنه تراض منهما ولا خيار لهما ، وإن لم يتفرقا . وبه قال : أبو حنيفة ، ومالك ، وروى نحوه عن عمر . وقال الثوري ، والليث ، وعبيد الله بن الحسن ، والشافعي : إذا عقدا فهما على الخيار ما لم يتفرّقا ، واستثنوا صوراً لا يشترط فيها التفرق ، واختلفوا في التفرق . فقيل : بأن يتوارى كل منهما عن صاحبه . وقال الليث : بقيام كل منهما من المجلس . وكل من أوجب الخيار يقول : إذا خيره في المجلس فاختار ، فقد وجب البيع . وروى خيار المجلس عن عمر أيضاً . وأطال المفسرون بذكر الاحتجاج لكل من هذه المذاهب ، وموضوع ذلك كتب الفقه .
والتجارة اسم يقع على عقود المعاوضات المقصود منها طلب الأرباح . وأن تكون في موضع نصب أي : لكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه . وقرأ الكوفيون : تجارة بالنصب ، على أن تكون ناقصة على قدير مضمر فيها يعود على الأموال ، أو يفسره التجارة ، والتقدير : إلا أن تكون الأموال تجارة ، أو يكون التقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض منكم . كما قال : إذا كان يوماً ذا كوكب أشنعا . أي إذا كان هواي اليوم يوماً ذا كوكب . واختار قراءة الكوفيين أبو عبيد ، وقرأ باقي السبعة : تجارة بالرفع ، على أنّ كان تامة . وقال مكي بن أبي طالب : الأكثر في كلام العرب أن قولهم إلا أن تكون في الاستثناء بغير ضمير فيها على معنى يحدث أو يقع ، وهذا مخالف لاختيار أبي عبيد . وقال ابن عطية : تمام كان يترجح عند بعض لأنها صلة ، فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها ، وهذا ترجيح ليس بالقوي ، ولكنه حسن انتهى ما ذكره . ويحتاج هذا الكلام إلى فكر ، ولعله نقص من النسخة شيء يتضح به هذا المعنى الذي أراده . وعن تراض : صفة للتجارة أي : تجارة صادرة عن تراض .
( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( ظاهره النهي عن قتل الإنسان نفسه كما يفعله بعض الجهلة بقصد منه ، أو بحملها على غرر يموت بسببه ، كما يصنع بعض الفتاك بالملوك ، فإنهم يقتلون الملك ويقتلون بلا شك . وقد

" صفحة رقم 242 "
احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد ، وأقر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) احتجاجه . وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردّة والزنا بعد الإحصان . قال ابن عطية : وأجمع المتأوّلون أنّ القصد النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضاً . وقال الزمخشري عن الحسن : إن المعنى لا تقتلوا أخوانكم انتهى . وعلى هذا المعنى أضاف القتل إلى أنفسهم لأنهم كنفس واحدة ، أو من جنس واحد ، أو من جوهر واحد . ولأنه إذا قتل قتلَ على سبيل القصاص ، وكأنه هو الذي قتل نفسه . وما ذكره ابن عطية من إجماع المتأوّلين ذكر غيره فيه الخلاف . قال ما ملخصه : يحتمل أن يراد حقيقة القتل ، فيحتمل أن يكون المعنى : لا يقتل بعضكم بعضاً . ويحتمل أن يكون المعنى : لا يقتل أحد نفسه لضر نزل به ، أو ظلم أصابه ، أو جرح أخرجه عن حد الاستقامة . ويحتمل أن يراد مجاز القتل أي : يأكل المال بالباطل ، أو بطلب المال والانهماك فيه ، أو يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى الهلاك ، أو يفعل هذه المعاص والاستمرار عليها . فيكون القتل عبر به عن الهلاك مجازاً كما جاء : شاهد قتل ثلاثاً نفسه ، والمشهود له ، والمشهود عليه أي : أهلك . وقرأ علي والحسن : ولا تقتلوا بالتشديد .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ( حيث نهاكم عن إتلاف النفوس ، وعن أكل الحرام ، وبين لكم جهة الحل التي ينبغي أن يكون قوام الأنفس . وحياتها بما يكتسب منها ، لأنّ طيب الكسب ينبني عليه صلاح العبادات وقبولها . ألا ترى إلى ما ورد مَن حجّ بمال حرام أنه إذا قال : لبيك قال الله له : لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك . وألا ترى إلى الداعي ربه ومطعمه حرام وملبسه حرام كيف جاء أنّى يستجاب له ؟ وكان النهي عن أكل المال بالباطل متقدماً على النهي عن قتل أنفسهم ، لأنه أكثر وقوعاً ، وأفشى في الناس من القتل ، لا سيما إن كان المراد ظاهر الآية من أنه نهى أن يقتل الإنسان نفسه ، فإن هذه الحالة نادرة . وقيل : رحيماً حيث لم يكلفكم قتل أنفسكم حين التوبة كما كلف بني إسرائيل قتلهم أنفسهم ، وجعل ذلك توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم .
النساء : ( 30 ) ومن يفعل ذلك . . . . .
( وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ( الإشارة بذلك إلى ما وقع النهي عنه في هذه الجملة من أكل المال بالباطل ، وقتل الأنفس . لأن النهي عنهما جاء متسقاً مسروداً ، ثم ورد الوعيد حسب النهي . وذهب إلى هذا القول جماعة . وتقييد أكل المال بالباطل بالاعتداء والظلم على هذا القول ليس المعنى أن يقع على جهة لا يكون اعتداء وظلماً ، بل هو من الأوصاف التي لا يقع الفعل إلا عليه . وقيل : إنما قال : عدواناً وظلماً ليخرج منه السهو والغلط ، وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام . وأما تقييد قتل الأنفس على تفسير قتل بعضنا بعضاً بقوله : عدواناً وظلماً ، فإنما ذلك لأنّ القتل يقع كذلك ، ويقع خطأ واقتصاصاً . وقيل الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور وهو : قتل الأنفس ، وهو قول عطاء ، واختيار الزمخشري . قال : ذلك إشارة إلى القتل أي : ومن يقدم على قتل الأنفس عدواناً وظلماً لا خطأ ولا اقتصاصاً انتهى . ويكون نظير قوله : ) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ( وذهب الطبري : إلى أنّ ذلك إشارة إلى ما سبق من النهي الذي لم يقترن به وعيد وهو من قوله : ) أَلِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ( إلى هذا النهي الذي هو ولا تقتلوا أنفسكم ، فأما ما قبل ذلك من النهي فقد اقترن به الوعيد . وما ذهب إليه الطبري بعيد جداً لأن كل جملة قد استقلت بنفسها ، ولا يظهر لها تعلق بما بعدها إلا تعلق المناسبة ، ولا تعلق اضطرار المعنى . وأبعد من قول الطبري ما ذهب إليه جماعة من أن ذلك إشارة إلى كل ما نهى عنه من القضايا ، من أول السورة إلى النهي الذي أعقبه قوله : ومن يفعل ذلك . وجوز الماتريدي أن يكون ذلك إشارة إلى أكل المال بالباطل ، قال : وذلك يرجع إلى ما سبق من أكل المال بالباطل ، أو قتل النفس بغير حق ، أو إليهما جميعاً انتهى . فعلى هذا القول يكون في المشار إليه بذلك خمسة أقوال .
وانتصاب عدواناً وظلماً على المفعول من

" صفحة رقم 243 "
أجله ، وجوزوا أن يكونا مصدرين في موضع الحال ، أي : معتدين وظالمين . وقرىء عدواناً بالكسر . وقرأ الجمهور : نصليه بضم النون . وقرأ النخعي والأعمش : بفتحها من صلاة ، ومنه شاة مصلية . وقرىء أيضاً : نصليه مشدداً . وقرىء : يصليه بالياء ، والظاهر أن الفاعل هو ضمير يعود على الله أي : فسوف يصليه هو أي : الله تعالى . وأجاز الزمخشري أن يعود الضمير على ذلك قال : لكونه سبباً للمصلي ، وفيه بعد . ومدلول ناراً مطلق ، والمراد والله أعلم تقييدها بوصف الشدّة ، أو ما يناسب هذا الجرم العظيم من أكل المال بالباطل وقتل الأنفس .
( وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ( ذلك إشارة إلى إصلائه النار ، ويسره عليه تعالى سهولته ، لأن حجته بالغة وحكمه لا معقب له . وقال الزمخشري : لأن الحكمة تدعو إليه ، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه ، وفيه دسيسة الاعتزال .
النساء : ( 31 ) إن تجتنبوا كبائر . . . . .
( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً ( مناسبة هذه الآية ظاهره ، لأنه تعالى لمّا ذكر الوعيد على فعل بعض الكبائر ، ذكر الوعد على اجتناب الكبائر . والظاهر أنّ الذنوب تنقسم إلى كبائر وسيئات ، وهي التي عبر عنها أكثر العلماء بالصغائر . وقد اختلفوا في ذلك ، فذهب الجمهور إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر ، فمن الصغائر النظرة واللمسة والقبلة ونحو ذلك مما يقع عليه اسم التحريم ، وتكفر الصغائر باجتناب الكبائر . وذهب جماعة من الأصوليين منهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني ، وأبو المعالي ، وأبو نصر عبد الرحيم القشيري : إلى أن الذنوب كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال : الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر ، والقبلة المحرّمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا ، ولا ذنب يغفر باجتناب ذنب آخر ، بل كل ذنب كبيرة وصاحبه ومرتكبه في المشيئة غير الكفر . وحملوا قوله تعالى : كبائر ما تنهون عنه على أنواع الشرك والكفر قالوا : ويؤيده قراءة كبير على التوحيد ، وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ) فقال له رجل : يا رسول الله وإن كان يسيراً ؟ قال : ( وإن كان قضيباً من أراك ) فقد جاء الوعيد على اليسير ، كما جا على الكثير . وروي عن ابن عباس مثل قول هؤلاء قال : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة .
والذين ذهبوا إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر ، وأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر على ما اقتضاه ظاهر الآية وعضده الحديث الثابت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في صحيح مسلم من قوله : ( ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله ) وفي صحيح مسلم : ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ) .
واختلفوا في الكبائر فقال ابن مسعود : هي ثلاث ، القنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله . وروي عنه أيضاً أنها أربع : فزاد الإشراك بالله . وقال علي : هي سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة . وقال عبيد بن عمير : الكبائر سبع كقول عليّ في كل واحدة منها آية في كتاب الله ، وجعل الآية في التعرب : ) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ( الآية وفي البخاري : ) اتَّقَوْاْ السَّبُعُ ( فذكر هذه إلا التعرب ، فجاء بدله السحر . وقد ذهب قوم إلى أن هذه الكبائر هي هذه السبع التي ثبتت في البخاري . وقال ابن عمر : فذكر هذه إلا السحر ، وزاد الإلحاد في المسجد الحرام . والذي يستسخر

" صفحة رقم 244 "
بالوالدين من العقوق . وقال ابن مسعود أيضاً والنخعي : هي جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ، وهي : ) يَسِيراً إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( وقال ابن عباس أيضاً فيما روي عنه : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع . وقال ابن عباس أيضاً : الكبائر كل ما ورد عليه وعيد بنار ، أو عذاب ، أو لعنة ، أو ما أشبه ذلك . وإلى نحو من هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي القرطبي ، قال : قد أطلت التفتيش عن هذا منذ سنين فصحّ لي أن كلّ ما توعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر ، ووجدناه عليه السلام قد أحل في الكبائر بنص لفظه أشياء غير التي ذكر في الحديث يعني الذي في البخاري فمنها ، قول الزور ، وعقوق الوالدين ، والكذب عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتعريض المرء أبويه للسبّ بأن يسبّ آباء الناس ، وذكر عليه السلام الوعيد الشديد بالنار على الكبر ، وعلى كفر نعمة المحسن في الحق ، وعلى النياحة في المآتم ، وحلق الشعر فيها ، وخرق الجيوب ، والنميمة ، وترك التحفظ من البول ، وقطيعة الرحم ، وعلى الخمر ، وعلى تعذيب الحيوان بغير الذكاة لأكل ما يحل أكله منها أو ما أبيح أكله منها ، وعلى لسان الإزار على سبيل التجوه ، وعلى المنان بما يفعل من الخير ، وعلى المنفق سلعته بالحلف الكاذب ، وعلى المانع فضل مائه من الشارب ، وعلى الغلول ، وعلى متابعة الأئمة للدنيا فإن أعطوا منها وفي لهم وإن لم يعطوا منها لم يوف لهم ، وعلى المقطتع بيمينه حق امرىء مسلم ، وعلى الإمام الغاش لرعيته ، ومن ادعى إلى غير أبيه ، وعلى العبد الآبق ، وعلى من غل ، ومن ادعى ما ليس له ، وعلى لاعن من لا يستحق اللعن ، وعلى بغض الأنصار ، وعلى تارك الصلاة ، وعلى تارك الزكاة ، وعلى بغض عليّ رضي الله عنه ، ووجدنا الوعيد الشديد في نص القرآن قد جاء على الزناة ، وعلى المفسدين في الأرض بالحرابة ، فصح بهذا قول ابن عباس انتهى كلامه . عني قوله هي : إلى السبعين أقرب منها إلى السبع . وروي عن ابن عباس أنه قال : هي إلى سبعمائة أقرب ، لأنه لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار .
وقد اختلف القائلون بأنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ، هل التكفير قطعي ؟ أو غالب ظن ؟ فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث ذهبوا إلى أنه قطعيّ كما دلت عليه الآية والأحاديث ، والأصوليون قالوا : هو على غلبة الظن ، وقالوا : لو كان ذلك قطعياً لكانت الصغائر في حكم المباح يقطع بأن لا تبعة فيه ، ووصف مدخلاً بقوله : كريماً ومعنى كرمه : فضيلته ، ونفى العيوب عنه كما تقول : ثوب كريم ، وفلان كريم المحتد . ومعنى تكفير السيئات إزالة ما يستحق عليها من العقوبات ، وجعلها كأن لم تكن ، وذلك مرتب على اجتناب الكبائر .
وقرأ ابن عباس وابن جبير : أن تجتنبوا كبير على الافراد ، وقد ذكرنا من احتج به على أنه أريد الكفر . وأمّا من لم يقل ذلك فهو عنده جنس .
وقرأ المفضل عن عاصم : يكفر ويدخلكم بالياء على الغيبة .
وقرأ ابن عباس : من سيئاتكم بزيادة من .
وقرأ نافع : مدخلاً هنا ، وفي الحج بفتح الميم ، ورويت عن أبي بكر . وقرأ باقي السبعة بضمها وانتصاب المضموم الميم إمّا على المصدر أي : إدخالاً ، والمدخل فيه محذوف أي : ويدخلكم الجنة إدخالاً كريماً . وإمّا على أنه مكان الدخول ، فيجيء الخلاف الذي في دخل ، أهي متعدية لهذه الأماكن على سبيل التعدية للمفعول ؟ أم على سبيل الظرف ؟ فإذا دخلت همزة النقل فالخلاف . وأما انتصاب المفتوح الميم فيحتمل أن يكون مصدر الدخل المطاوع لأدخل ، التقدير : ويدخلكم فتدخلون دخولاً كريماً ، وحذف فتدخلون لدلالة المطاوع عليه ، ولدلالة مصدره أيضاً . ويحتمل أن يراد به المكان ، فينتصب إذ ذاك إما بيدخلكم ، وإما بدخلتم المحذوفة على الخلاف ، أهو مفعول به أو ظرف .
النساء : ( 32 ) ولا تتمنوا ما . . . . .
( وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( قال قتادة والسدي : لما نزل ) لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( قال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل

" صفحة رقم 245 "
على النساء في الحسنات كالميراث .
وقال النساء : إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كالميراث . وقال عكرمة : قال النساء : وددنا أنّ الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر مثل ما يصيب الرجال . وزاد مجاهد : أن ذلك عن أم سلمة . وأنها قالت : وإنما لنا نصف الميراث فنزلت . وروي عنها أنها قالت : ليتنا كنا رجالاً فنزلت .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما نهى عن أكل المال بالباطل ، وعن قتل الأنفس ، وكان ما نهى عنه مدعاة إلى التبسط في الدنيا والعلو فيها وتحصيل حطامها ، نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض ، إذ التمني لذلك سبب مؤثر في تحصيل الدنيا وشوق النفس إليها بكل طريق ، فلم يكتف بالنهي عن تحصيل المال بالباطل وقتل الأنفس ، حتى نهى عن السبب المحرّض على ذلك ، وكانت المبادرة إلى النهي عن المسبب آكد لفظاعته ومشقته فبدىء به ، ثم أتبع بالنهي عن السبب حسماً لمادة المسبب ، وليوافق العمل القلبي العمل الخارجي فيستوي الباطن والظاهر في الامتناع عن الأفعال القبيحة . وظاهر الآية يدل على النهي أن يتمنى الإنسان لنفسه ما فضل به عليه غيره ، بل عليه أن يرضى بما قسم الله له .
وتمني ذلك هو أن يكون له مثل ما لذلك المفضل . وقال ابن عباس وعطاء : هو أن يتمنى مال غيره . وقال الزمخشري : نهوا عن الحسد ، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال ، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد ، وبما يصلح للمقسوم له من بسط في الرزق أو قبض انتهى . وهو كلام حسن . وظاهر النهي إنما يتناول ما فضل الله به بعضهم على بعض . أما تمني أشياء من أحوال صالحة له في الدنيا وأعمال يرجو بها الثواب في الآخرة فهو حسن لم يدخل في الآية . وقد جاء في الحديث : ) وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ ( وفي آخر الآية : ) وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ( فدل على جواز ذلك . وإذا كان مطلق تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض منهياً عنه ، فإن يكون ذلك بقيد . زوال نعمة من فضل عليه عنه بجهة الأحرى . والأولى إذ هو الحسد المنهى عنه في الشرع ، والمستعاذ بالله منه في نص القرآن . وقد اختلفوا إذا تمنى حصول مثل نعمة المفضل عليه له من غير أن تذهب عن المفضل ، فظاهر الآية المنع ، وبه قال المحققون ، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ، ومضرة عليه في الدنيا ، فلا يجوز أن يقول : اللهم أعطني . داراً مثل دار فلان ، ولا زوجاً مثل زوجه ، بل يسأل الله ما شاء من غير تعرض لمن فضل عليه . وقد أجازه بعض الناس .
( لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبْنَ ( قال ابن عباس وقتادة : معناه من الميراث ، لأن العرب كانت لا تورث النساء . وضعف هذا القول لأن لفظ الاكتساب ينبو عنه ، لأن الاكتساب يدل على الاعتمال والتطلب للمكسوب ، وهذا لا يكون في الإرث ، لأنه مال يأخذه الوارث عفواً بغير اكتساب فيه ، وتفسير قتادة هذا متركب على ما قاله في سبب نزول الآية . وقيل : يعبر بالكسب عن الإصابة ، كما روي أنّ بعض العرب أصاب كنزاً فقال له ابنه : بالله يا أبه أعطني من كسبك نصيباً ، أي مما أصبت . ومنه قول خديجة رضي الله عنها : وتكسب المعدوم . قالوا : ومنه قول الشاعر : فإن أكسبوني نزر مال فإنني
كسبتهم حمداً يدوم مع الدهر
وقالت فرقة : المعنى أن الله تعالى جعل لكل من الصنفين مكاسب تختص به ، فلا يتمنى أحد منها ما جعل للآخر .

" صفحة رقم 246 "
فجعل للرجال الجهاد والإنفاق في المعيشة ، وحمل التكاليف الشاقة كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك . وجعل للنساء الحمل ومشقته ، وحسن التبعل ، وحفظ غيب الزوج ، وخدمة البيوت . وقيل : المعنى مما اكتسب من نعيم الدنيا ، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له . وهذه الأقوال الثلاثة هي بالنسبة لأحوال الدنيا . وقالت فرقة : المعنى نصيب من الأجر والحسنات . وقال الزمخشري : جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف الله من حاله الموجبة للبسط والقبض كسباً له انتهى . وفي قوله : عرف الله نظره ، فإنه لا يقال في الله عارف ، نص الأئمة على ذلك ، لأن المعرفة في اللغة تستدعي قبلها جهلاً بالمعروف ، وذلك بخلاف العلم ، فإنه لا يستدعي جهلاً قبله . وتسمية ما قسم الله كسباً له فيه نظر أيضاً ، فإنّ الاكتساب يقتضي الاعتمال والتطلب كما قلناه ، إلا إن قلنا أنَّ أكثر ما قسم له يستدعي اكتساباً من الشخص ، فأطلق الاكتساب على جميع ما قسم له تغليباً للأكثر . وفي تعليق النصيب بالاكتساب حض على العمل ، وتنبيه على كسب الخير .
( وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ( أي من زيادة إحسانه ونعمه . لما نهاهم عن تمني ما فضل به بعضهم ، أمرهم بأن يعتمدوا في المزيد عليه تبارك وتعالى . وظاهر قوله : من فضله ، العموم فيما يتعلق بأحوال الدنيا وأحوال الآخرة ، لأن ظاهر قوله : ) وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ ( ما فضل العموم أيضاً ، وهو قول الجمهور . وقال ابن جبير وليث بن أبي سليم : هذا في العبادات والدين وأعمال البر ، وليس في فضل الدنيا . وفي قوله : من فضله ، دلالة على عدم تعيين المطلوب ، لكن يطلب من فضل الله ما يكون سبباً لإصلاح دينه ودنياه على سبيل الإطلاق ، كما قال تعالى : ) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاْخِرَةِ حَسَنَةً ).
وقرأ ابن كثير والكسائي : وسلوا بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على السين ، وذلك إذا كان أمراً للمخاطب ، وقبل السين واو أو فاء نحو : ) فسل الذين يقرؤن ( و ) فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ ). وقرأ باقي السبعة بالهمز . قال ابن عطية : إلا في قوله : ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( فإنهم أجمعوا على الهمز فيه انتهى . وهذا الذي ذكره ابن عطية وهم ، بل نصوص المقرئين في كتبهم على أن واسألوا ما أنفقتم من جملة المختلف فيه . بيَّن ابن كثير والكسائي ، وبين الجماعة ، ونص على ذلك بلفظه ابن شيطا في كتاب التذكار ، ولعل الوهم وقع له في ذلك من قول ابن مجاهد في كتاب السبعة له ، ولم يختلفوا في قوله : ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( أنه مهموز لأنه لغائب انتهى . وروى الكسائي عن اسماعيل بن جعفر عن أبي جعفر وشيبة : أنهما لم يهمزا وسل ولا فسل ، مثل قراءة الكسائي ، وحذف الهمزة في سل لغة الحجاز ، وإثباتها لغة لبعض تميم . وروى اليزيدي عن أبي عمرو : أن لغة قريش سل . فإذا أدخلوا الواو والفاء همزوا ، وسأل يقتضي مفعولين ، والثاني لقوله : واسألوا الله هو قوله : من فضله . كما تقول : أطعمت زيداً من اللحم ، وكسوته من الحرير ، والتقدير : شيئاً من فضله ، وشيئاً من اللحم ، وشيئاً من الحرير . وقال بعض النحويين : من زائدة ، والتقدير : وسلوا الله فضله ، وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش . وقال ابن عطية : ويحسن عندي أن يقدر المفعول أمانيكم إذ ما تقدم يحسن هذا المعنى .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً ( أي علمه محيط بجميع الأشياء فهو عالم بما فضل به بعضكم على بعض وما يصلح لكلّ منكم من توسيع أو تقتير فإياكم والاعتراض بتمن أو غيره وهو عالم أيضاً بسؤالكم من فضله فيستجيب دعاءكم
النساء : ( 33 ) ولكل جعلنا موالي . . . . .
( وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ( لمّا نهى عن التمني المذكور ، وأمر بسؤال الله من فضله ، أخبر تعالى بشيء من أحوال الميراث ، وأنّ في شرعه ذلك مصلحة عظيمة من تحصيل مال للوارث لم يسع فيه ، ولم يتعنّ بطلبه ، فرب ساع لقاعد . وكلّ لا تستعمل إلا مضافة ، إما الظاهر ، وإما المقدر ، واختلفوا في تعيين المقدّر هنا ،

" صفحة رقم 247 "
فقيل : المحذوف إنسان ، وقيل : المحذوف مال . والمولى : لفظ مشترك بين معان كثيرة ، منها : الوارث وهو الذي يحسن أن يفسر به هنا ، لأنه يصلح لتقدير إنسان وتقدير مال ، وبذلك فسر ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم : أن الموالي العصبة والورثة ، فإذا فرّ عنا على أنّ المعنى : ولكلّ إنسان ، احتمل وجوهاً :
أحدها : أن يكون لكلّ متعلقاً بجعلنا ، والضمير في ترك عائد على كل المضاف لإنسان ، والتقدير : وجعل لكل إنسان وارثاً مما ترك ، فيتعلق مما بما في معنى موالي من معنى الفعل ، أو بمضمر يفسره المعنى ، التقدير : يرثون مما ترك ، وتكون الجملة قد تمت عند قوله : مما ترك ، ويرتفع الولدان على إضمار كأنه قيل : ومن الوارث ؟ فقيل : هم الوالدان والأقربون ورّاثاً ، والكلام جملتان .
والوجه الثاني : أن يكون التقدير وجعلنا لكل إنسان موالي ، أي ورّاثاً . ثم أضمر فعل أي : يرث الموالي مما ترك الوالدان ، فيكون الفاعل بترك الوالدان . وكأنه لما أبهم في قوله : وجعلنا لكل إنسان موالي ، بيَّن أن ذلك الإنسان الذي جعل له ورثة هو الوالدان والأقربون ، فأولئك الورّاث يرثون مما ترك والداهم وأقربوهم ، ويكون الوالدان والأقربون موروثين . وعلى هذين الوجهين لا يكون في : جعلنا ، مضمر محذوف ، ويكون مفعول جعلناه لفظ موالي . والكلام جملتان .
الوجه الثالث : أن يكون التقدير : ولكل قوم جعلناهم موالي أي : ورّاثاً نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم ، فيكون جعلنا صفة لكلَ ، والضمير من الجملة الواقعة صفة محذوف ، وهو مفعول جعلنا . وموالي منصوب على الحال ، وفاعل ترك الوالدان . والكلام منعقد من مبتدأ وخبر ، فيتعلق لكل بمحذوف ، إذ هو خبر المبتدأ المحذوف القائم مقامه صفته وهو الجار والمجرور ، إذ قدر نصيب مما ترك . والكلام إذ ذاك جملة واحدة كما تقول : لكل من خلقه الله إنساناً من رزق الله ، أي حظ من رزقه الله . وإذا فرعنا على أن المعنى : ولكل مال ، فقالوا : التقدير ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون ، جعلنا موالي أي ورّاثاً يلونه ويحرزونه . وعلى هذا التقدير يكون مما ترك في موضع الصفة لكل ، والوالدان واوقربون فاعل بترك ويكونون موروثين ، ولكل متعلق بجعلنا . إلا أن في هذا التقدير الفصل بين الصفة والموصوف بالجملة المتعلقة بالفعل الذي فيها المجرور وهو نظير قولك : بكل رجل مررت تميمي ، وفي جواز ذلك نظر .
واختلفوا في المراد بالمعاقدة هنا . فقال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وقتادة وغيرهم : هي الحلف . فإنّ العرب كانت تتوار بالحلف ، فقرر ذلك بهذه الآية ثم نسخ بقوله : ) وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ( وعنه أيضاً هي : الحلف ، والنصيب هو المؤازرة في الحق والنصر ، والوفاء بالكلف ، لا الميراث . وقال ابن عباس أيضاً : هي المؤاخاة ، كانوا يتوارثون بها حتى نسخ . وعنه كان المهاجرون يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم حتى نسخ بما تقدم ، وبقي اثنان : النصيب من النصر والمعونة ، ومن المال على جهة الندب في الوصية . وقال ابن المسيب : هي التبني والنصيب الذي أمرنا بإتيانه ، هو الوصية لا الميراث ، ومعنى عاقدت أيمانكم في هذا القول : عاقدتهم أيمانكم وما سحتموهم . وقيل : كانوا يتوارثون بالتبني لقوم يموتون قبل الوصية ووجوبها ، فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصي له . وقيل : المعاقدة هنا الزواج ، والنكاح يسمى عقداً ، فذكر الوالدين والأقربين ، وذكر معهم الزوج والزوجة . وقيل : المعاقدة هنا الولاء . وقيل : هي حلف أبي بكر الصديق أن لا يورث عبد الرحمن شيئاً ، فلما أسلم أمره الله أن يؤتيه نصيبه من المال ، قال أبو روق : وفيهما نزلت .
فتلخص من هذه الأقوال في المعاقدة أهي الحلف أن لا يورث الحالف ؟ أم المؤاخاة ؟ أم التبني ؟ أم الوصية المشروحة ؟ أم الزواج ؟ أم الموالاة ؟ سبعة أقوال . قال ابن عطية : ولفظة المعاقدة والإيمان ترجح أنّ المراد الأحلاف ، لأنّ ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان انتهى .
وكيفية الحلف في الجاهلية : كان الرجل يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وناري نارك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك . فيكون للحليف التسدس من ميراث الحليف ، فنسخ الله ذلك . وعلى الأقوال السابقة جاء الخلاف في قوله : ) وَالَّذِينَ فِى أَيْمَانِكُمْ ( أهو منسوخ أم لا ؟ وقد استدل بها على

" صفحة رقم 248 "
ميراث مولى الموالاة وبه قال : أبو يوسف ، وأبو حنيفة ، وزفر ، ومحمد ، قالوا : من أسلم على يد رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره ، فميراثه له . وروى نحوه عن يحيى بن سعيد ، وربيعة ، وابن المسيب ، والزهري ، وابراهيم ، والحسن ، وعمر ، وابن مسعود . وقال مالك ، وابن شبرمة ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي : ميراثه للمسلمين . وقد أطال الكلام في هذه المسألة أبو بكر الرازي ناصراً مذهب أبي حنيفة .
وقرأ الكوفيون : عقدت بتخفيف القاف من غير ألف ، وشدّد القاف حمزة من رواية عليّ بن كبشة ، والباقون عاقدت بألف ، وجوزوا في إعراب الذين وجوهاً . أحدها : أن يكون مبتدأ والخبر فآتوهم . والثاني : أن يكون منصوباً من باب الاشتغال نحو : زيداً فاضربه . الثالث : أن يكون مرفوعاً معطوفاً على الوالدان والأقربون ، والضمير في فآتوهم عائد على موالي إذا كان الوالدان ومن عطف عليه موروثين ، وإن كانوا وارثين فيجوز أن يعود على موالي ، ويجوز أن يعود على الوالدين والمعطوف عليه . الرابع : أن يكون منصوباً معطوفاً على موالي قاله : أبو البقاء ، وقال : أي وجعلنا الذين عاقدت ورّاثاً ، وكان ذلك ونسخ انتهى . ولا يمكن أن يكون على هذا التقدير الذي قدّره أن يكون معطوفاً على موالي لفساد العطف ، إذ يصير التقدير : ولكل إنسان ، أو : لكل شيء من المال جعلنا ورّاثاً . والذين عاقدت أيمانكم ، فإن كان من عطف الجمل وحذف المفعول الثاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك ، أي جعلنا ورّاثاً لكل شيء من المال ، أي : لكل إنسان ، وجعلنا الذين عاقدت أيمانكم ورّاثاً . وهو بعد ذلك توجيه متكلف ، ومفعول عاقدت ضمير محذوف أي : عاقدتهم أيمانكم ، وكذلك في قراءة عقدت هو محذوف تقديره : عقدت حلفهم ، أو عهدهم أيمانكم . وإسناد المعاقدة أو العقد للإيمان سواء أريد بها القسم ، أم الجارحة ، مجاز بل فاعل ذلك هو الشخص .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيداً ( لما ذكر تعالى تشريع التوريث ، وأمر بإيتاء النصيب ، أخبر تعالى أنه مطلع على كل شيء فهو المجازى به ، وفي ذلك تهديد للعاصي ، ووعد للمطيع ، وتنبيه على أنه شهيد على المعاقدة بينكم . والصلة فأوفوا بالعهد .
النساء : ( 34 ) الرجال قوامون على . . . . .
( الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ ( قيل : سبب نزول هذه الآية أنَّ امرأة لطمها زوجها فاستعدت ، فقضى لها بالقصاص ، فنزلت . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أردت أمراً وأراد الله غيره ) قاله : الحسن ، وقتادة ، وابن جريج ، والسدي وغيرهم . فذكر التبريزي والزمخشري وابن عطية : أنها حبيبة بنت زيد بن أبي زهير زوج الربيع بن عمر ، وأحد النقباء من الأنصار . وطولوا القصة وفي آخرها : فرفع القصاص بين الرجل والمرأة ، وقال الكلبي : هي حبيبة بنت محمد بن سلمة زوج سعيد بن الربيع . وقال أبو روق : هي جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى زوج ثابت بن قيس بن شماس . وقيل : نزل معها : ) وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يَقْضِى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ( وفي سبب من عين المرأة أن زوجها لطمها بسبب نشوزها . وقيل : سبب النزول قول أم سلمة المتقدم : لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة قيل : المراد بالرحال هنا من فيهم صدامة وحزم ، لا مطلق من له لحية . فكم من ذي لحية لا يكون له نفع ولا ضر ولا حرم ، ولذلك يقال : رجل بين الرجولية والرجولة . ولذلك ادعى بعض المفسرين أنَّ في الكلام حذفا تقديره : الرجال قوامون على النساء إن كانوا رجالاً . وأنشد : أكل امرىء تحسبين امرأ
ونار توقد بالليل ناراً

" صفحة رقم 249 "
والذي يظهر أنَّ هذا إخبار عن الجنس لم يتعرض فيه إلى اعتبار أفراده ، كأنه قيل : هذا الجنس قوام على هذا الجنس . وقال ابن عباس : قوّامون مسلطون على تأديب النساء في الحق . ويشهد لهذا القول طاعتهن لهم في طاعة الله . وقوام : صفة مبالغة ، ويقال : قيام وقيم ، وهو الذي يقوم بالأمر ويحفظه . وفي الحديث : ( أنت قيام السموات والأرض ومن فيهن ) والباء في بما للسبب ، وما مصدرية أي : بتفضيل الله . ومن جعلها بمعنى الذي فقد أبعد ، إذ لا ضمير في الجملة وتقديره محذوفاً مسوّغ لحذفه ، فلا يجوز .
والضمير في بعضهم عائد على الرجال والنساء . وذكر تغليباً للمذكر على المؤنث ، والمراد بالبعض الأول الرجال ، وبالثاني النساء . والمعنى : أنهم قوّامون عليهن بسبب تفصيل الله الرجال على النساء ، هكذا قرروا هذا المعنى . قالوا : وعدل عن الضميرين فلم يأت بما فضل الله عليهن لما في ذكر بعض من الإبهام الذي لا يقتضي عموم الضمير ، فرب أنثى فضلت ذكراً . وفي هذا دليل على أن الولاية تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة ، وذكروا أشياء مما فضل به الرجال على النساء على سبيل التمثيل . فقال الربيع : الجمعة والجماعة . وقال الحسن : النفقة عليهن . وينبو عنه قوله : وبما أنفقوا . وقيل : التصرف والتجارات . وقيل : الغزو ، وكمال الدين ، والعقل . وقيل : العقل والرأي ، وحل الأربع ، وملك النكاح ، والطلاق ، والرجعة ، وكمال العبادات ، وفضيلة الشهادات ، والتعصيب ، وزيادة السهم في الميراث ، والديات ، والصلاحية للنبوة ، والخلافة ، والإمامة ، والخطابة ، والجهاد ، والرمي ، والآذان ، والاعتكاف ، والحمالة ، والقسامة ، وانتساب الأولاد ، واللحي ، وكشف الوجوه ، والعمائم التي هي تيجان العرب ، والولاية ، والتزويج ، والاستدعاء إلى الفراش ، والكتابة في الغالب ، وعدد الزوجات ، والوطء بملك اليمين .
وبما أنفقوا من أموالهم : معناه عليهن ، وما : مصدرية ، أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف فيه مسوّغ الحذف . قيل : المعنى بما أخرجوا بسبب النكاح من مهورهن ، ومن النفقات عليهن المستمرة . وروى معاذ : أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ) لَوْ أُمِرْتُ أَحَدًا ءانٍ يَسْجُدُ لاِحَدٍ ). قال القرطبي : فهم الجمهور من قوله : وبما أنفقوا من أموالهم ، أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواماً عليها ، وإذا لم يكن قواماً عليها كان لها فسخ العقد لزوال المعقود الذي شرع لأجله النكاح . وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة ، وهو مذهب مالك والشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يفسخ لقوله : ) أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ).
فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ( قال ابن عباس : الصالحات المحسنات لأزواجهنّ ، لأنهن إذا أحسن لأزواجهن فقد صلح حالهن معهم . وقال ابن المبارك : المعاملات بالخير . وقيل : اللائي أصلحن الله لأزواجهن قال تعالى : ) ( قال ابن عباس : الصالحات المحسنات لأزواجهنّ ، لأنهن إذا أحسن لأزواجهن فقد صلح حالهن معهم . وقال ابن المبارك : المعاملات بالخير . وقيل : اللائي أصلحن الله لأزواجهن قال تعالى : ) وَأَصْلَحْنَا لَهُ ). وقيل : اللواتي أصلحن أقوالهن وأفعالهن . وقيل : الصلاة الدين هنا .
وهذه الأقوال متقاربة . والقانتات : المطيعات لأزواجهن ، أو لله تعالى في حفظ أزواجهن ، وامتثال أمرهم ، أو لله تعالى في كل أحوالهن ، أو قائمات بما عليهن للأزواج ، أو المصليات ، أقوال آخرها للزجاج . حافظات للغيب : قال عطاء وقتادة : يحفظن ما غاب عن الأزواج ، وما يجب لهن من صيانة أنفسهن لهن ، ولا يتحدثن بما كان بينهم وبينهن . وقال ابن عطية : الغيب ، كل ما غاب عن علم زوجها مما استتر عنه ، وذلك يعم حال غيبة الزوج ، وحال حضوره . وقال الزمخشري : الغيب خلاف الشهادة ، أي حافظات لمواجب الغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن ، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الزوج والبيوت والأموال انتهى . والألف واللام في الغيب تغني عن الضمير ، والاستغناء بها كثير كقوله : ) مِنّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْس

" صفحة رقم 250 "
ُ شَيْباً ( أي رأسي . وقال ذو الرّمة : لمياء في شفتيها حوّة لعس
وفي اللثات وفي أنيابها شنب
تريد : وفي لثاتها . وروى أبو هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرّتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها ، ثم قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) هذه الآية .
وقرأ الجمهور : برفع الجلالة ، فالظاهر أن تكون ما مصدرية ، والتقدير : بحفظ الله إياهن . قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد . ويحتمل هذا الحفظ وجوهاً أي : يحفظ ، أي : بتوفيقه إياهن لحفظ الغيب ، أو لحفظه إياهن حين أوصى بهن الأزواج في كتابه وأمر رسوله ، فقال : ( استوصوا بالنساء خيراً ) أو بحفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على حفظ الغيب ، وأوعدهن العذاب الشديد على الخيانة . وجوزوا أن تكون ما بمعنى الذي ، والعائد على ما محذوف ، والتقدير : بما حفظه الله لهن من مهور أزواجهن ، والنفقة عليهن ، قاله الزجاج . وقال ابن عطية : ويكون المعنى إما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها ، وإما أوامره ونواهيه للنساء ، وكأنها حفظه ، فمعناه : أن النساء يحفظن بإزاء ذلك وبقدره . وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة .
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : بنصب الجلالة فالظاهر أنَّ ما بمعنى الذي ، وفي حفظ ضمير يعود على ما مرفوع أي : بالطاعة والبر الذي حفظ الله في امتثال أمره . وقيل : التقدير بالأمر الذي حفظ حق الله وأمانته ، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم . وقدره ابن جني : بما حفظ دين الله ، أو أمر الله . وحذف المضاف متعين تقديره : لأن الذات المقدسة لا ينسب إليها أنها يحفظها أحد . وقيل : ما مصدرية ، وفي حفظ ضمير مرفوع تقديره : بما حفظن الله ، وهو عائد على الصالحات . قيل : وحذف ذلك الضمير ، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر كما قال : فإن الحوادث أودي بها .
يريد : أو دين بها . والمعنى : يحفظن الله في أمره حين امتثلته . والأحسن في هذا أن لا يقال أنه حذف الضمير ، بل يقال : إنه عاد الضمير عليهن مفرداً ، كأنه لوحظ الجنس ، وكأن الصالحات في معنى من صلح ، وهذا كله توجيه شذوذ أدّى إليه قول من قال في هذه القراءة : إنّ ما مصدرية . ولا حاجة إلى هذا القول ، بل ينزه القرآن عنه . وفي قراءة عبد الله ومصحفه : فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله ، فأصلحوا إليهن . وينبغي حملها على التفسير لأنها مخالفة لسواد الإمام ، وفيها زيادة . وقد صح عنه بالنقل الذي لا شك فيه أنه قرأ : وأقرأ على رسم السواد ، فلذلك ينبغي أن تحمل هذه القراءة على التفسير . قال ابن جني : والتكسير أشبه بالمعنى ، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصودة هنا . ومعنى قوله : فأصلحوا إليهن أي أحسنوا ضمن أصلحوا معنى أحسنوا ، ولذلك عداه بإلى . روى في الحديث : ( يستغفر للمرأة المطيعة لزوجها الطير في الهواء ، والحيتان في البحر ، والملائكة في السماء ، والسباع في البراري ) . قالت أم سلمة : قلت : يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور ؟ فقال : نساء الدنيا أفضل من الحور . قلت : يا رسول الله بم ؟ قال : بصلاتهن ، وصيامهن ، وعبادتهن ، وطاعة أزواجهن .
( وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ( لما ذكر تعال صالحات الأزواج وأنهن من المطيعات الحافظات للغيب ، ذكر مقابلهن وهن العاصيات للأزواج . والخوف هنا قيل : معناه اليقين ، ذهب في ذلك إلى أنّ الأوامر التي بعد ذلك إنما يوجبها وقوع النشوز لا توقعه ، واحتج في جواز وقوع الخوف موقع اليقين بقول أبي محجن الثقفي رضي الله عنه :

" صفحة رقم 251 "
ولا تدفنني بالفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وقيل الخوف علي بابه من بعض الظن . قال : أتاني كلام من نصيب بقوله
وما خفت ياسلام أنك عاتبي
أي : وما ظننت . وفي الحديث : ( أمرت بالسواك حتى خفت لأدردن ) وقيل : الخوف على بابه من ضد الأمن ، فالمعنى : يحذرون ويتوقعون ، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادىء ما يتخوف . والنشوز : أن تتعوج المرأة ويرتفع خلقها وتستعلي على زوجها ، ويقال : نسور بالسين والراء المهملتين ، ويقال : نصور ، ويقال : نشوص . وامرأة ناشر وناشص . قال الأعشي : تجللها شيخ عشاء فأصبحت
مضاعية تأتي الكواهن ناشصا
قال ابن عباس : نشوزهنّ عصيانهنّ . وقال عطاء : نشوزها أن لا تتعطر ، وتمنعه من نفسه ، وتتغير عن أشياء كانت تتصنع للزوج بها . وقال أبو منصور : نشوزها كراهيتها للزوج . وقيل : امتناعها من المقام معه في بيته ، وإقامتها في مكان لا يريد الإقامة فيه . وقيل : منعها نفسها من الاستمتاع بها إذا طلبها لذلك . وهذه الأقوال كلها متقاربة .
ووعظهن : تذكيرهن أمر الله بطاعة الزوج ، وتعريفهن أنّ الله أباح ضربهن عند عصيانهن ، وعقاب الله لهن على العصيان قاله : ابن عباس . وقال مجاهد : يقول لها : اتقي الله ، وارجعي إلى فراشك . وقيل : يقول لها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) وقال : ( لا تمنعه نفسها ولو كانت على قتب ) . وقال : ( أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) وزاد آخرون أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق وامرأة بات عليها زوجها ساخطاً وإمام قوم هم له كارهون ) .
وهجرهن في المضاجع : تركهن لكراهة في المراقد . والمضجع المكان الذي يضطجع فيه على جنب . وأصل الاضطجاع الاستلقاء ، يقال : ضجيع ضجوعاً واضطجع استلقى للنوم ، وأضجعته أملته إلى الأرض ، وكل شيء أملته من إناء وغيره فقد أضجعته . قال ابن عباس وابن جبير : معناه لا تجامعوهن . وقال الضحاك والسدي : اتركوا كلامهن ، وولوهن ظهوركم في الفراش . وقال مجاهد : فارقوهن في الفرش ، أي ناموا ناحية في فرش غير فرشهن . وقال عكرمة

" صفحة رقم 252 "
والحسن : قولوا لهن في المضاجع هجراً ، أي كلاماً غليظاً . وقيل : اهجروهن في الكلام ثلاثة أيام فما دونها . وكنى بالمضاجع عن البيوت ، لأن كل مكان يصلح أن يكون محلاً للاضطجاع . وقال النخعي ، والشعبي ، وقتادة ، والحسن : من الهجران ، وهو البعد وقيل : اهجروهن بترك الجماع والاجتماع ، وإظهار التجهم ، والإعراض عنهن مدة نهايتها شهراً كما فعل عليه السلام ( حين حلف أن لا يدخل على نسائه شهراً ) وقيل : اربطوهن بالهجار ، وأكرهوهن على الجماع من قولهم : هجر البعير إذا شده بالهجار ، وهو حبل يشدّ به البعير قاله : الطبري ورجحه . وقدح في سائر الأقوال . وقال الزمخشري في قول الطبري : وهذا من تفسير الثقلاء انتهى . وقيل في للسبب : أي اهجروهن بسبب تخلفهن عن الفرش . وقرأ عبد الله والنخعي : في المضجع على الأفراد وفيه معنى الجمع ، لأنه اسم جنس .
وضربهن هو أن يكون غير مبرح ولا ناهك ، كما جاء في الحديث . قال ابن عباس : بالسواك ونحوه . والضرب غير المبرح هو الذي لا يهشم عظماً ، ولا يتلف عضواً ، ولا يعقب شيئاً ، والناهك البالغ ، وليجتنب الوجه . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( علق سوطك حيث يراه أهلك ) وعن أسماء بنت الصديق رضي الله عنها : كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير ، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها . وهذا يخالف قول ابن عباس ، وكذلك ما رواه ابن وهب عن مالك : أن أسماء زوج الزبير كانت تخرج حتى عوتبت في ذلك وعيب عليها وعلى ضرّاتها ، فعقد شعر واحدة بالأخرى ، ثم ضربهما ضرباً شديداً ، وكانت الضرّة أحسن اتقاء ، وكانت أسماء لا تتقي الضرب ، فكان الضرب بها أكثر ، فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال : يا بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح ، ولعله أن يكون زوجك في الجنة .
وظاهر الآية يدل : على أنه يعظ ، ويهجر في المضجع ، ويضرب التي يخاف نشوزها . ويجمع بينها ، ويبدأ بما شاء ، لأن الواو لا ترتب . وقال بهذا قوم وقال الجمهور : الوعظ عند خوف النشوز ، والضرب عند ظهوره . وقال ابن عطية : هذه العظة والهجر والضرب مراتب ، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها . وقال الزمخشري : أمر بوعظهن أولاً ، ثم بهجرانهن في المضاجع ، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران . وقال الرازي ما ملخصه : يبدأ بلين القول في الوعظ ، فإن لم يفد فبخشنه ، ثم يترك مضاجعتها ، ثم بالإعراض عنها كلية ، ثم بالضرب الخفيف كاللطمة واللكزة ونحوها مما يشعر بالاحتقار وإسقاط الحرمة ، ثم بالضرب بالسوط والقضيب اللين ونحوه مما يحصل به الألم والإنكاء ولا يحصل عنه هشم ولا إراقة دم ، فإن لم يفد شيء من ذلك ربطها بالهجار وهو الحبل ، وأكرهها على الوطء ، لأن ذلك حقه . وأي شيء من هذه رجعت به عن نشوزها على ما رتبناه لم يجز له أن ينتقل إلى غيره لقوله : .
( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ( انتهى . وقوله : فإن أطعنكم أي : وافقنكم وانقدن إلى ما أوجب الله عليهن من طاعتكم . يدل على أنهن كن عاصيات بالنشوز ، وأن النشوز منهن كان واقعاً ، فإذن ليس الأمر مرتباً على خوف النشوز . وآخرها يدل على أنه مرتب على عصيانهن بالنشوز ، فهذا مما حمل على تأول الخوف بمعنى التيقن . والأحسن عندي أن يكون ثمّ معطوفاً حذف لفهم المعنى واقتضائه له ، وتقديره : واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن . كما حذف في قوله : ) أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ ( تقديره فضرب فانفجرت ، لأن الانفجار لا يتسبب عن الأمر ، إنما هو متسبب عن الضرب . فرتبت هذه الأوامر على الملفوظ به . والمحذوف : أمر بالوعظ عند خوف النشوز ، وأمر بالهجر والضرب عند النشوز .
ومعنى فلا تبغوا : فلا تطلبوا عليهن سبيلاً من السبل الثلاثة المباحة وهي : الوعظ ، والهجر ، والضرب . وقال سفيان : معناه لا تكلفوهن ما ليس في

" صفحة رقم 253 "
قدرتهن من الميل والمحبة ، فإن ذلك إلى الله . وقيل : يحتمل أن يكون تبعوا من البغي وهو الظلم ، والمعنى : فلا تبغوا عليهن من طريق من الطرق . وانتصاب سبيلاً على هذا هو على إسقاط الخافض . وقيل : المعنى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً من سبل البغي لهن والإضرار بهن توصيلاً بذلك إلى نشوزهن أي : إذا كانت طائعة فلا يفعل معها ما يؤدي إلى نشوزها . ولفظ عليهن يؤذن بهذا المعنى . وسبيلاً نكرة في سياق النفي ، فيعم النهي عن الأذى بقول أو فعل .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ( لما كان في تأديبهن بما أمر تعالى به الزوج اعتلاء للزوج على المرأة ، ختم تعالى الآية بصفة العلو والكبر ، لينبه العبد على أن المتصف بذلك حقيقة هو الله تعالى . وإنما أذن لكم فيما أذن على سبيل التأديب لهن ، فلا تستعلوا عليهن ، ولا تتكبروا عليهن ، فإنَّ ذلك ليس مشروعاً لكم . وفي هذا وعظ عظيم للأزواج ، وإنذار أنَّ قدرة الله عليكم فوق قدرتكم عليهن . وفي حديث أبي مسعود وقد ضرب غلاماً له اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد . أو يكون المعنى : إنكم تعصونه تعالى على علو شأنه وكبرياء سلطانه ، ثم يتوب عليكم ، فيحق لكم أن تعفوا عنهن إذا أطعنكم .
النساء : ( 35 ) وإن خفتم شقاق . . . . .
( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا ( الخلاف في الخوف هنا مثله في : واللاتي تخافون . ولما كان حال المرأة مع زوجها إمّا الطواعية ، وإمّا النشوز . وكان النشوز إمّا تعقبه الطواعية ، وإمّا النشوز المستمر ، فإن أعقبته الطواعية فتعود كالطائعة أولاً . وإن استمر النشوز واشتدّ ، بعث الحكمان .
والشقاق : المشاقة . والأصل شقاقاً بينهما ، فاتسع وأضيف . والمعنى على الظرف كما تقول : يعجبني سير الليلة المقمرة . أو يكون استعمل اسماً وزال معنى الظرف ، أو أجرى البين هنا مجرى حالهما وعشرتهما وصحبتهما .
والخطاب في : وإن خفتم ، وفي فابعثوا ، للحكام ، ومن يتولى الفصل بين الناس . وقيل : للأولياء لأنهم الذين يلون أمر الناس في العقود والفسوخ ، ولهم نصب الحكمين . وقيل : خطاب للمؤمنين . وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للأزواج ، إذ لو كان خطاباً للأزواج لقال : وإن خافا شقاق بينهما فليبعثا ، أو لقال : فإن خفتم شقاق بينكم ، لكنه انتقال من خطاب الأزواج إلى خطاب من له الحكم والفصل بين الناس ، وإلى أنه خطاب للأزواج ذهب الحسن والسدي . والضمير في بينهما عائد على الزوجين ، ولم يجرد ذكرهما ، لكن جرى ما يدل عليهما من ذكر الرجال والنساء .
والحكم : هو من يصلح للحكومة بين الناس والإصلاح . ولم تتعرّض الآية لماذا يحكمان فيه ، وإنما كان من الأهل ، لأنه أعرف بباطن الحال ، وتسكن إليه النفس ، ويطلع كل منهما حكمه على ما في ضميره من حب وبغض وإرادة صحبة وفرقة . قال جماعة من العلماء : لا بد أن يكونا عارفين بأحوال الزوجين ، عدلين ، حسني السياسة والنظر في حصول المصلحة ، عالمين بحكم الله في الواقعة التي حكما فيها . فإن لم يكن من أهلهما من يصلح لذلك أرسل من غيرهما عدلين عالمين ، وذلك إذا أشكل أمرهما ورغباً فيمن يفصل بينهما . وقال بعض العلماء : إنما هذا الشرط في الحكمين اللذين يبعثهما الحاكم . وأما الحكمان اللذان يبعثهما الزوجان فلا يشترط فيهما إلا أن يكونا بالغين عاقلين مسلمين ، من أهل العفاف والستر ، يغلب على الظن نصحهما . واختلفوا في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان ، فذهب الجمهور إلى أنهما ينظران في كل شيء ، ويحملان على الظالم ، ويمضيان ما رأيا من بقاء أو فراق ، وبه قال : مالك ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأبو ثور . وهو مروي عن : علي ، وعثمان ، وابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، ومجاهد ، وأبي سلمة ، وطاووس . قال مالك : إذا رأيا التفريق فرقا ، سواء أوافق مذهب قاضي البلد أو خالفه ، وكلاه أم لا ، والفراق أم لا ، والفراق في ذلك طلاق بائن ، وقالت طائفة : لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرّحا بتقديمهما عليه ، فالحكمان وكيلان : أحدهما للزوج ، والآخر للزوجة ، ولا تقع الفرقة إلا برضا الزوجين ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وعن الشافعي القولان . وقال الحسن وغيره : ينظر الحكمان في الإصلاح وفي الأخذ والإعطاء ، إلا في الفرقة فإنّها ليست إليهما . وأما ما يقول الحكمان ، فقال جماعة : يقول حكم الزوج له أخبرني ما في خاطرك ، فإن قال : لا حاجة لي فيها ، خذ لي ما استطعت وفرق بيننا ، علم أن النشوز من قبله . وإن قال : أهواها ورضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيننا ، علم أنه

" صفحة رقم 254 "
ليس بناشز ويقول الحكم من جهتها لها كذلك ، فإذا ظهر لهما أن النشوز من جهته وعظاه ، وزجراه ، ونهياه .
( إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ( الضمير في يريدا عائد على الحكمين قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما . وفي بينهما عائد على الزوجين ، أي : قصدا إصلاح ذات البين ، وصحت نيتهما ، ونصحا لوجه الله ، وفق الله بين الزوجين وألف بينهما ، وألقى في نفوسهما المودة . وقيل : الضميران معاً عائدان على الحكمين أي : إن قصدا إصلاح ذات البين ، وفق الله بينهما فيجتمعان على كلمة واحدة ، ويتساعدان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض . وقيل : الضميران عائدان على الزوجين أي : إن يرد الزوجان إصلاحاً بينهما ، وزوال شقاق ، يزل الله ذلك ويؤلف بينهما . وقيل : يكون في يريدا عائداً على الزوجين ، وفي بينهما عائداً على الحكمين : أي : إن يرد الزوجان إصلاحاً وفق الله بين الحكمين فاجتمعا على كلمة واحدة ، وأصلحا ، ونصحا .
وظاهر الآية أنه لا بد من إرسال الحكمين وبه قال الجمهور .
وروي عن مالك : أنه يجري إرسال واحد ، ولم تتعرض الآية لعدالة الحكمين ، فلو كانا غير عدلين فقال عبد الملك : حكمهما منقوض . وقال ابن العربي : الصحيح نفوذه . وأجمع أهل الحل والعقد : على أن الحكمين يجوز تحكيمهما . وذهبت الخوارج : إلى أن التحكيم ليس بجائز ، ولو فرّق الحكمان بين الزوجين خلعا برضا الزوجين . فهل يصح من غير أمر سلطان ؟ ذهب الحسن وابن سيرين : إلى أنه لا يجوز الصلح إلا عند السلطان . وذهب عمر وعثمان وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين : إلى أنه يصح من غير أمر السلطان منهم : مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ( يعلم ما يقصد الحكمان ، وكيف يوفقا بين المختلفين ، ويخبر خفايا ما ينطقان به في أمر الزوجين .
النساء : ( 36 ) واعبدوا الله ولا . . . . .
( وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر أنّ الرجال قوامون على النساء بتفضيل الله إياهم عليهن ، وبإنفاق أموالهم ، ودل بمفهوم اللقب أنه لا يكون قواماً على غيرهن ، أوضح أنه مع كونه قواماً على النساء هو أيضاً مأمور بالإحسان إلى الوالدين ، وإلى من عطفه على الوالدين . فجاءت حثاً على الإحسان ، واستطراداً لمكارم الأخلاق . وأن المؤمن لا يكتفي من التكاليف الإحسانية بما يتعلق بزوجته فقط ، بل عليه غيرها من بر الوالدين وغيرهم . وافتتح التوصل إلى ذلك بالأمر بإفراد الله تعالى بالعبادة ، إذ هي مبدأ الخير الذي تترتب الأعمال الصالحة عليه . ونظير : ) وَإِذَا أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا ( وتقدم شرح قوله : ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ( إلا أن هنا وبذي ، وهناك وذي ، وإعادة الباء تدل على التوكيد والمبالغة ، فبولغ في هذه الآية لأنها في حق هذه الأمة ، ولم يبالغ في حق تلك ، لأنها في حق بني إسرائيل . والاعتناء بهذه الأمة أكثر من الاعتناء بغيرها ، إذ هي خير أمة أخرجت للناس . وقرأ ابن أبي عبلة : وبالوالدين إحسان بالرفع ، وهومبتدأ أو خبر فيه ما في المنصوب من معنى الأمر ، وإن كان جملة خبرية نحو قوله :
فصبر جميل فكلانا مبتلي
) وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى ( قال ابن عباس : ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد ، ومقاتل في آخرين : هو الجار القريب النسب ، والجار الجنب هو الجار الأجنبي ، الذي لا قرابة بينك وبينه . وقال بلعاء بن قيس : لا يجتوينا مجاور أبدا
ذو رحم أو مجاور جنب
وقال نوف الشامي : هو الجار المسلم .
( وَالْجَارِ الْجُنُبِ ( هو : الجار اليهودي ، والنصراني . فهي عنده قرابة الإسلام ، وأجنبية الكفر . وقالت فرقة ، هو الجار القريب المسكن منك ، والجنب هو البعيد المسكن منك . كأنه انتزع

" صفحة رقم 255 "
من الحديث الذي فيه : إن لي جارين فإلى أهيما أهدي ؟ قال : ( إلى أقربهما منك باباً ) . وقال ميمون بن مهران : والجار ذي القربى أريد به الجار القريب . قال ابن عطية : وهذا خطأ في اللسان ، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللام والإضافة ، وكان وجه الكلام : وجار ذي القربى انتهى . ويمكن تصحيح قول ميمون على أن لا يكون جمعاً بين الألف واللام والإضافة على ما زعم ابن عطية بأن يكون قوله : ذي القربى بدلاً من قوله : والجار ، على حذف مضاف التقدير : والجار جار ذي القربى ، فحذف جار لدلالة الجار عليه ، وقد حذفوا البدل في مثل هذا . قال الشاعر : رحم الله أعظما دفنوها
بسجستان طلحة الطلحات
يريد : أعظم طلحة الطلحات . ومن كلام العرب : لو يعلمون العلم الكبيرة سنة ، يريدون : علم الكبيرة سنة . والجنب : هو البعيد ، سمي بذلك لبعده عن القرابة . وقال : فلا تحرمني نائلاً عن جنابة . والمجاورة مساكنة الرجل الرجل في محله ، أو مدينة ، أو كينونة أربعين داراً من كل جانب ، أو يعتبر بسماع الأذان ، أو بسماع الإقامة ، أقوال أربعة ثانيها : قول الأوزاعي . وروى في ذلك حديثاً أنه عليه الصلاة والسلام ( أمر مناديه ينادي : ) ألا إنَّ أربعين داراً جواز ، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) والمجاورة مراتب ، بعضها ألصق من بعض ، أقربها الزوجة . قال الأعشى :
أجارتنا بيني فإنك طالقة
وقرىء : والجار ذا القربى . قال الزمخشري : نصباً على الاختصاص كما قرىء ) حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ( تنبيهاً على عظم حقه لإدلائه بحقي الجوار والقربى انتهى ، وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه : والجار الجنُب بفتح الجيم وسكون النون ، ومعناه البعيد . وسئل أعرابي عن الجار الجنب فقال : هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه .
( وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ ( قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك : هو الرفيق في السفر . وقال علي وابن مسعود والنخعي ، وابن أبي ليلى : الزوجة . وقال ابن زيد : هو من يعتريك ويلمّ بك لتنفعه . وقال الزمخشري : هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقاً في سفر ، وإما جاراً ملاصقاً ، وإما شريكاً في تعلم علم أو حرفة ، وإما قاعداً إلى جنبك في مجلس أو مسجداً ، أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه ، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه ، وتجعله ذريعة للإحسان . وقال مجاهد أيضاً : هو الذي يصحبك سفراً وحضراً . وقيل : الرفيق الصالح .
( وَابْنِ السَّبِيلِ ( تقدّم شرحه .
( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( قيل : ما وقعت على العاقل باعتبار النوع كقوله تعالى : ) فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ ( وقيل : لأنها أعم من من ، فتشمل الحيوانات على إطلاقها من عبيد وغيرهم ، والحيوانات غير الارقاء أكثر في يد الإنسان من الارقاء ، فغلب جانب الكثرة ، فأمر الله تعالى

" صفحة رقم 256 "
بالإحسان إلى كل مملوك من آدمي وحيوان غيره . وقد ورد غير ما حديث في الوصية بالارقاء خيراً في صحيح مسلم وغيره . ومن غريب التفسير ما نقل عن سهل التستري قال : الجار ذو القربى هو القلب ، والجار الجنب النفس ، والصاحب بالجنب العقل الذي يجهر على اقتداء السنة والشرائع ، وابن السبيل الجوارح المطيعة .
( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ( نفى تعالى محبته عمن اتصف بهاتين الصفتين : الاختيال وهو التكبر ، والفخر هو عد المناقب على سبيل التطاول بها والتعاظم على الناس . لأنّ من اتصف بهاتين الصفتين حملتاه على الإخلال بمن ذكر في الآية ممن يكون لهم حاجة إليه . وقال أبو رجاء الهروي : لا تجد سيىء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً ، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً . قال الزمخشري : والمختال التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه ، فلا يحتفى بهم ، ولا يلتفت إليهم . وقال غيره : ذكر تعالى الاختيال لأن المختال يأنف من ذوي قرابته إذا كانوا فقراء ، ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء ، ومن الأيتام لاستضعافهم ومن المساكين لاحتقارهم ، ومن ابن السبيل لبعده عن أهله وماله ، ومن مماليكه لأسرهم في يده انتهى . وتظافرت هذه النقول على أن ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية إنما جاء تنبيهاً على أنّ من اتصف بالخيلاء والفخر بأنف من الإحسان للأصناف المذكورين ، وأن الحامل له على ذلك اتصافه بتينك الصفتين . والذي يظهر لي أنّ مسافهما غير هذا المساق الذي ذكروه ، وذلك أنه تعالى لما أمر بالإحسان للأصناف المذكورة والتحفي بهم وإكرامهم ، كان في العادة أن ينشأ عن من اتصف بمكارم الأخلاق أن يجد في نفسه زهواً وخيلاً ، وافتخاراً بما صدر منه من الإحسان . وكثيراً ما افتخرت العرب بذلك وتعاظمت في نثرها ونظمها به ، فأراد تعالى أن ينبه على التحلي بصفة التواضع ، وأن لا يرى لنفسه شفوفاً على من أحسن إليه ، وأن لا يفخر عليه كما قال تعالى : ) لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى ( فنفى تعالى محبته عن المتحلي بهذين الوصفين . وكان المعنى أنهم أمروا بعبادة الله تعالى ، وبالإحسان إلى الوالدين . ومن ذكر معهما : ونهوا عن الخيلاء والفخر ، فكأنه قيل : ولا تختالوا وتفخروا على من أحسنتم إليه ، إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً . إلا أنّ ما ذكرناه لا يتم إلا على أن يكون الذين يبخلون مبتدأ مقتطعاً مما قبله ، أما إن كان متصلاً بما قبله فيأتي المعنى الذي ذكره المفسرون ، ويأتي إعراب الذين يبخلون ، وبه يتضح المعنى الذي ذكروه ، والمعنى الذي ذكرناه إن شاء الله تعالى .
النساء : ( 37 ) الذين يبخلون ويأمرون . . . . .
( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ( نزلت هذه الآية في قوم كفار . روى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد ، وحضرمي : أنها نزلت في أحبار اليهود بخلوا بالإعلام بأمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكتموا ما عندهم من العلم في ذلك ، وأمروا بالبخل على جهتين : أمروا أتباعهم بجحود أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقالوا للأنصار : لم تنفقون على المهاجرين فتفتقرون ؟ وقيل : نزلت في المنافقين . وقيل : في مشركي مكة .
وعلى اختلاف سبب النزول اختلف أقوال المفسرين من المعنى بالذين يبخلون . وقيل : هي عامّة في كل من يبخل ويأمر بالبخل من اليهود وغيرهم . والبخل في كلام العرب : منع السائل شيئاً مما في يد المسؤول من المال ، وعنده فضل . قال طاووس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس . والبخل في الشريعة ، هو منع الواجب . وقال الراغب : لم يرد البخل بالمال ، بل بجميع ما فيه نفع للغير انتهى . ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين ومن ذكر معهما من المحتاجين على سبيل ابتداع أمر الله ، بيّن أنّ من لا يفعل ذلك قسمان . أحدهما : البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال ألبتة حتى أفرط في ذلك وأمر بالبخل . والثاني : الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، لا لغرض أمر الله وامتثاله وطاعته . وذمّ تعالى القسمين بأن أعقب القسم الأول : وأعتدنا للكافرين ، وأعقب الثاني بقوله : ) وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً ).
والبخل أنواع : بخل بالمال ، وبخل بالعلم وبخل

" صفحة رقم 257 "
بالطعام ، وبخل بالسلام ، وبخل بالكلام ، وبخل على الأقارب دون الأجانب ، وبخل بالجاه ، وكلها نقائض ورذائل مذمومة عقلاً وشرعاً وقد جاءت أحاديث في مدح السماحة وذم البخل منها : ) مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الْخَلْقِ ( وظاهر قوله بالبخل أنه متعلق بقوله : ويأمرون ، كما تقول : أمرت زيداً بالصبر ، فالبخل مأمور به . وقيل : متعلق الأمر محذوف ، والباء في بالبخل حالية ، والمعنى : ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل ، فيكون نحو ما أشار إليه الشاعر بقوله : أجمعت أمرين ضاع الحزم بينهما
تيه الملوك وأفعال المماليك
وقرأ الجمهور : بالبخل بضم الباء وسكون الخاء . وعيسى بن عمرو الحسن : بضمهما . وحمزة الكسائي : بفتحهما ، وابن الزبير وقتادة وجماعة . بفتح الباء ، وسكون الخاء . وهي كلها لغات . قال الفرّاء : البخل مثقلة لأسد ، والبخل خفيفة لتميم ، والبخل لأهل الحجاز . ويخففون أيضاً فتصير لغتهم ولغة تميم واحدة ، وبعض بكر بن وائل بقولون البخل قال جرير : تريدين أن ترضي وأنت بخيلة
ومن ذا الذي يرضي الأخلاء بالبخل
وأنشدني المفضل :
وأوفاهم أوان بخل
وينشد هذا البيت بفتحتين وضمتين :
وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده لذو بخل كل على من يصاحب
واختلفوا في إعراب الذين يبخلون ، فقيل : هو في موضع نصب بدل من قوله : من كان . وقيل : من قوله مختالاً فخوراً . أفرد اسم كان ، والخبر على لفظ من ، وجمع الذين حملا على المعنى . وقيل : انتصب على الذم . ويجوز عندي أن يكون صفة لمن ، ولم يذكروا هذا الوجه . وقيل : هو في موضع رفع على إضمار مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين . وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون بدلاً من الضمير في فخوراً ، وهو قلق . فهذه ستة أوجه يكون فيها الذين يبخلون متعلقاً بما قبله ، ويكون الباخلون منفياً عنهم محبة الله تعالى ، وتكون الآية إذن في المؤمنين ، والمعنى : أحسنوا أيها المؤمنون إلى مَن سمى الله ، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم وهي : الخيلاء ، والفخر ، والبخل ، والأمر به ، وكتمان ما أعطاهم الله من الرزق والمال . وقيل : الذين يبخلون في موضع رفع على الابتداء ، واختلفوا في الخبر : أهو محذوف ؟ أم ملفوظ به ؟ فقيل : هو ملفوظ به وهو قوله : ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ( ويكون الرابط محذوفاً تقديره : مثقال ذرة لهم ، أو لا يظلمهم مثقال ذرة . وإلى هذا ذهب الزجاج ، وهو بعيد متكلف لكثرة الفواصل بين المبتدأ والخبر ، ولأن الخبر لا ينتظم مع المبتدأ معناه : انتظاماً واضحاً لأنّ سياق المبتدأ وما عطف عليه ظاهراً من قوله : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، لا يناسب أن يخبر عنه بقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً ، بل مساق أنّ الله لا يظلم أن يكون استئناف كلام إخباراً عن عدله وعن فضله تعالى وتقدس . وقيل : هو محذوف فقدره الزمخشري : الذين يبخلون ويفعلون

" صفحة رقم 258 "
ويصنعون أحقاء بكل ملامة . وقدره ابن عطية : معذبون أو مجازون ونحوه . وقدره أبو البقاء : أولئك قرناؤهم الشيطان ، وقدره أيضاً : مبغضون . ويحتمل أن يكون التقدير : كافرون ) وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ ( فإن كان ما قبل الخبر مما يقتضي كفراً حقيقة كتفسيرهم البخل بأنه بخل بصفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وبإظهار نبوّته . والأمر بالبخل لأتباعهم أي : بكتمان ذلك ، وكتمهم ما تضمنته التوراة من نبوّته وشريعته ، كان قوله : وأعتدنا للكافرين ، حقيقة فإن كان ما قبل الخبر كفر نعمة كتفسيرهم : أنها في المؤمنين ، كان قوله : وأعتدنا للكافرين كفر نعمة ولكل من هذه التقادير مناسب من الآية ، والآية على هذه التقادير . وقول الزجاج : في الكفار ، ويبين ذلك سبب النزول المتقدم . وتقدم تفسير البخل والأمر به ، والكتمان على هذا الوجه في سبب النزول . وأعتدنا للكافرين : أي أعددنا وهيأنا . والعتيد : الحاضر المهيأ والمهين الذي فيه خزي وذل ، وهو أنكى وأشد على المعذب .
النساء : ( 38 ) والذين ينفقون أموالهم . . . . .
( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ ( تقدم تفسير مثل هذه الآية في قوله : ) كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( وهناً : ولا باليوم الآخر ، وهناك : واليوم الآخر . قال السدّي ، والزجاج وأبو سليمان الدّمشقي والجمهور : هم المنافقون نزلت فيهم ، وإنفاقهم هو إعطاؤهم الزكاة ، وإخراجهم المال في السفر للغزو رئاء ودفعاً عن أنفسهم ، لا إيماناً ولا حباً في الدّين . وقال ابن عباس : ومقاتل ، ومجاهد : نزلت في اليهود . وضعفه الطبري من حيث أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر . ووجه ابن عطية هذا القول بأنهم لم يؤمنوا على ما ينبغي جعل إيمانهم كلا إيمان من حيث لا ينفعهم . وقيل : هم مشركو مكة ، لأنهم كانوا ينكرون البعث . وإنفاق اليهود هو ما أعانوا به قريشاً في غزوة أحد وغزوة الخندق ، وإنفاق مشركي مكة هو ما كان في عداوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وطلبهم الانتصار .
وفي إعراب والذين ينفقون وجوه : أحدها : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، ويقدر : معذبون ، أو قرينهم الشيطان ، ويكون العطف من عطف الجمل . والثاني : أن يكون معطوفاً على الكافرين ، فيكون مجروراً قاله : الطبري . والثالث : أن يكون معطوفاً على الذين يبخلون ، فيكون إعرابه كإعراب الذين يبخلون . والعطف في هذين الوجهين من عطف المفردات . ورئاء مصدر راء ، أو انتصابه على أنه مفعول من أجله ، وفيه شروطه فلاينبغي أن يعدل عنه . وقيل : هو مصدر في موضع الحال قاله : ابن عطية ، ولم يذكر غيره . وظاهر قوله : ولا يؤمنون أنه عطف على صلة الذين ، فيكون صلة . ولا يضر الفصل بين إبعاض الصلة بمعمول للصلة ، إذ انتصاب رئاء على وجهيه بينفقون . وجوّزوا أن يكون : ولا يؤمنون في موضع الحال ، فتكون الواو واو الحال أي : غير مؤمنين ، والعامل فيها ينفقون أيضاً . وحكى المهدوي : أنه يجوز انتصاب رئاء على الحال من نفس الموصول لا من الضمير في ينفقون ، فعلى هذا لا يجوز أن يكون : ولا يؤمنون معطوفاً على الصلة ، ولا حالاً من ضمير ينفقون ، لما يلزم من الفصل بين أبعاض الصلة ، أو بين معمول الصلة بأجنبي وهو رئاء المنصوب على الحال من نفس الموصول ، بل يكون قوله : ولا يؤمنون مستأنف . وهذا وجه متكلف . وتعلق رئاء بقوله : ينفقون واضح ، إما على المفعول له ، أو الحال ، فلا ينبغي أن يعدل عنه . وتكرار لا وحرف الجر في قوله : ولا باليوم الآخر مفيد لانتفاء كل واحد من الإيمان بالله ، ومن الإيمان باليوم الآخر . لأنك إذا قلت : لا أضرب زيداً وعمراً ، احتمل أن لا تجمع بين ضربيهما . ولذلك يجوز أن تقول بعد ذلك : بل أحدهما . واحتمل نفي الضرب عن كل واحد منهما علي سبيل الجمع ، وعلى سبيل الإفراد . فإذا قلت : لا أضرب زيداً ولا عمراً ، تعين هذا الاحتمال الثاني الذي كان دون تكرار .
( وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً ( لما ذكر تعالى من اتصف بالبخل والأمر به ، وكتمان فضل الله تعالى ، والإنفاق رئاء ، وانتفاء إيمانه بالله وباليوم الآخر ، ذكر أن هذه من نتائج مقارنة الشيطان ومخالطته وملازمته للمتصف بذلك ، لأنها شر محض ،

" صفحة رقم 259 "
إذ جمعت بين سوء الإعتقاد الصادر عنه الإنفاق رئاء ، وسائر تلك الأوصاف المذمومة . ولذلك قدم تلك الأوصاف وذكر ما صدرت عنه وهو انتفاء الإيمان بالموحد ، وبدار الجزاء . ثم ذكر أنّ ذلك من مقارنة الشيطان .
والقرين هنا فعيل بمعنى مفاعل ، كالجليس والخليط أي : المجالس والمخالط . والشيطان هنا جنس لا يراد به إبليس وحده وهو كقوله : ) وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( وله متعلق بقريناً أي : قريناً له . والفاء جواب الشرط ، وساء هنا هي التي بمعنى بئس للمبالغة في الذم ، وفاعلها على مذهب البصريين ضمير عام ، وقريناً تمييز لذلك الضمير . والمخصوص بالذمّ محذوف وهو العائد على الشيطان الذي هو قرين ، ولا يجوز أن يكون ساء هنا هي المتعدية ومفعولها محذوف وقريناً حال ، لأنها إذ ذاك تكون فعلاً متصرفاً فلا تدخله الفاء ، أو تدخله مصحوبة بقد . وقد جوّزوا انتصاب قريناً على الحال ، أو على القطع ، وهو ضعيف . وبولغ في ذمّ هذا القرين لحمله على تلك الأوصاف الذميمة . قال الزمخشري وغيره : ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار انتهى . فتكون المقارنة إذ ذاك في الآخرة يقرن به في النار فيتلاعنان ويتباغضان كما قال : ) مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ ( و ) إِذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ ). وقال الجمهور : هذه المقارنة هي في الدنيا كقوله : ) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُواْ لَهُم ( ونقيض له شيطاناً فهو له قرين ( وقال قرينه ربنا ما أطغيته ( قال ابن عطية : وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى : ) ( وقال قرينه ربنا ما أطغيته ( قال ابن عطية : وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى : ) ( قال ابن عطية : وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى : ) بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ( وذلك مردود ، لأنّ بدلاً حال ، وفي هذا نظر . والذي قاله الطبري صحيح ، وبدلاً تمييز لا حال ، وهو مفسر للضمير المستكن في بئس على مذهب البصريين ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : هم أي الشيطان وذريته . وإنما ذهب إلى إعراب المنصوب بعد نعم وبئس حالاً الكوفيون على اختلاف بينهم مقرر في علم النحو .
2 ( ) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ( ) ) 2
) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ (
النساء : ( 39 ) وماذا عليهم لو . . . . .
ظاهر هذا الكلام أنه ملتحم لحمة واحدة ، والمراد بذلك : ذمّهم وتوبيخهم وتجهيلهم بمكان سعادتهم ، وإلا فكل الفلاح والمنفعة في اتصافهم بما ذكر تعالى . فعلى هذا الظاهر يحتمل أن يكون الكلام جمليتن ، وتكون لو على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، والتقدير : وماذا عليهم في الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق في سبيل الله لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله لحصلت لهم السعادة . ويحتمل أن يكون جملة واحدة ، وذلك على مذهب من يثبن أن لو تكون مصدرية في معنى : أن كأنه قيل : وماذا عليهم أن آمنوا ، أي في الإيمان بالله ، ولا جواب لها إذ ذاك ، فيكون كقوله : وماذا عليه أن ذكرت أوانسا
كغزلان رمل في محاريب أقيال
قالوا : ويجوز أن يكون قوله : وماذا عليهم ، مستقلاً لا تعلق به بما بعده ، بل ما بعده مستأنف . أي : وماذا عليهم يوم القيامة من الوبال والنكال باتصافهم بالبخل وتلك الأوصاف المذمومة ، ثم استأنف وقال : لو آمنوا ، وحذف جواب لو . وقال ابن عطية : وجواب لو في قوله : ماذا ، فهو جواب مقدم انتهى . فإن أراد ظاهر هذا الكلام فليس موافقاً لكلام النحويين ، لأن الاستفهام لا يقع جواب لو ، ولأن قولهم : أكرمتك لو قام زيد ، إن ثبت أنه من كلام العرب حمل على أكرمتك دال على الجواب ، لا جواب كما قالوا في قولهم : أنت ظالم إن فعلت . وإن أراد تفسير المعنى فيمكن ما قاله .
وماذا : يحتمل أن تكون كلها استفهاماً ، والخبر في عليهم . ويحتمل أن يكون ما هو الاستفهام ، وذا بمعنى الذي وهو الخبر ، وعليهم صلة ذا . وإذا كان لو آمنوا بالله واليوم الآخر من متعلقات قوله : وماذا

" صفحة رقم 260 "
عليهم ، كان في ذلك تفجع عليهم واحتياط وشفقة ، وقد تعلقت المعتزلة بذلك . قال أبو بكر الرازي : تدل على بطلان مذهب الجهمية أهل الجبر ، لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما أجاز أن يقال ذلك فيهم ، لأنّ عَذرهم واضح وهو أنّهم غير متمكنين مما دعوا إليه ، ولا قادرين ، كما لا يقال للأعمى : ماذا عليه لو أبصر ، ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحاً . وفي ذلك أوضح دليل على أنّ الله قد قطع عذرهم في فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات ، وأنهم متمكنون من فعلها انتهى كلامه . وهو قول المعتزلة والمذاهب في هذا أربعة كما تقرر : الجبرية ، والقدرية ، والمعتزلة ، وأهل السنة . قال ابن عطية : والانفصال عن شبهة المعتزلة أنّ المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان ، وأما الاختراع فالله المنفرد به انتهى . ولما صفهم تعالى بتلك الأوصاف المذمومة كان فيه الترقي من وصف قبيح إلى أقبح منه ، فبدأ أولاً بالبخل ، ثم بالأمر به ، ثم بكتمان فضل الله ، ثم بالإنفاق رياء ، ثم بالكفر بالله وباليوم الآخر . ولما وبخهم وتلطف في استدعائهم بدأ بالإيمان بالله واليوم الآخر ، إذ بذلك تحصل السعادة الأبدية ، ثم عطف عليه الإنفاق أي : في سبيل الله ، إذ به يحصل نفي تلك الأوصاف القبيحة من البخل ، والأمر به وكتمان فضل الله والإنفاق رئاء الناس .
( وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً ( خبر يتضمن وعيداً وتنبيهاً على سوء بواطنهم ، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم .
قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبديع . التكرار وهو في : نصيب مما اكتسبوا ، ونصيب مما اكتسبن . والجلالة : في واسئلوا الله ، إن الله ، وحكماً من أهله ، وحكماً من أهلها ، وبعضكم على بعض ، والجار ذي القربى ، والجار الجنب ، والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . وقوله : لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وقريناً وساء قريناً . والجلالة في : مما رزقهم الله ، وكان الله . والتجنيس المغاير في : حافظات للغيب بما حفظ الله ، وفي : يبخلون وبالبخل . ونسق الصفات من غير حرف في : قانتات حافظات . والنسق بالحروف على طريق ذكر الأوكد فالأوكد في : وبالوالدين إحساناً وما بعده . والطابق المعنوي في : نشوزهنّ فإن أطعنكم ، وفي : شقاق بينهما ويوفق الله . والاختصاص في قوله : من أهله ومن أهلها ، وفي قوله : عاقدت أيمانكم . والإبهام في قوله : به شيئاً وإحساناً ، وما ملكت فشيوع شيئاً وإحساناً وما واضح . والتعريض في : مختالاً فخوراً . أعرض بذلك إلى ذم الكبر المؤدّي للبعد عن الأقارب الفقراء واحتقارهم واحتقار من ذكر معهم . والتأكيد بإضافة الملك إلى اليمين في : وما ملكت أيمانكم . والتمثيل : في ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً . والحذف في عدّة مواضع .
2 ( ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَاؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاٌّ رْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ( )

" صفحة رقم 261 "
النساء : ( 40 ) إن الله لا . . . . .
المثقال : مفعال من الثقل ، ومثقال كل شيء وزنه ، ولا تظنّ أنه الدينار لا غير . الذرة : النملة الصغيرة وقيل : أصغر ما تكون إذا مر عليها حول ، وقيل في وصفها . الحمراء . قيل : إذا مر عليها حول صغرت وجرت . قال : من القاصرات الطرف لو دب محول
من الذر فوق الاتب منها لاثرا
وقال حسان : لو يدب الحولى من ولد الذر
ر عليها لأندبتها الكلوم
وقيل عن ابن عباس : الذرة رأس النملة . وقيل عنه : أدخل يده في التراب ورفعها ثم نفخ فيه ، وقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة . وقيل : كل جزء الهباء في الكوة ذرة . وقيل : الذرة هي الخردلة .
السكر : انسداد طريق التمييز بشرب ما يسكر من قولهم : سكرت عين البازي ، إذا خالها النوم . ومنه : سكر النهر إذا اسندت مجاريه وسكرته أنا . والسكر : أيضاً بضم السين السد . قال : فما زلنا على الشرب
نداوي السكر بالسكر
والسكر : بالفتح ما أسكر ، أي منع من التمييز .
الغائط : ما انخفض من الأرض ، وجمعه غيطان . ويقال : عيط وغوط . وزعم ابن جني : أن غيطاً فعيل ، إذ أصله عنده غيط مثل هين وسيد إذا أخففتهما . والصحيح : أنه فعل . كما أنّ غوطاً فعل ، لأن العرب قالت : غاط يغوط ويغيط ، فأتت به مرة في ذوات الياء ، ومرة في ذوات الواو . وجمعوا غوطاً على أغواط ويقال : تغوّط إذا أحدث وغاط في الأرض يغيط ويغوط غاب فيها حتى لا يظهر إلا لمن وقف عليه . وكان الرجل إذا أراد التبرز ارتاد غائطاً من الأرض يستتر فيه عن أعين الناس ، ثم قيل : للحدث . نفسه غائطاً ، كما قيل : سال الميزان وجرى النهر .
( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ( نزلت في المهاجرين الأوّلين . وقيل : في الخصوم . وقيل : في عامة المؤمنين . ومناسبة هذه لما قبلها واضحة لأنه تعالى لما أمر بعبادته تعالى وبالإحسان للوالدين ومن ذكر معهم ، ثم أعقب ذلك بذم البخل والأوصاف المذكورة معه ، ثم وبخ من لم يؤمن ، ولم ينفق في طاعة الله ، فكان هذا كله توطئة لذكر الجزاء على الحسنات والسيئات فأخبر تعالى بصفة عدله ، وأنه عزّ وجل لا يظلم أدنى شيء ، ثم أخبر بصفة الإحسان فقال :
) وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ( وضرب مثلاً لأحقر الأشياء وزن ذرة ، وذلك مبالغة عظيمة في الانتفاء عن الظلم البتة . وظاهر قوله : مثقال ذرّة ، أن الذرّة لها وزن . وقيل : الذرّة لا وزن لها ، وأنه امتحن ذلك فلم يكن لها وزن . وإذا كان تعالى لا يظلم مثقال ذرّة فلأن لا يظلم فوق ذلك أبلغ ، ولما كانت الذرة أصغر الموجودات ضرب بها المثل في القلة . وقرأ ابن مسعود : مثقال نملة ، ولعل ذلك على سبيل الشرح للذرة .
قال الزمخشري : وفيه دليل على أنه لو نقص من أجره أدنى شيء وأصغره ، أو زاد في العقاب ، لكان ظلماً . وأنه لا يفعله لاستحالته في الحكمة ، لا لاستحالته

" صفحة رقم 262 "
في القدرة انتهى . وهي نزعة اعتزالية . وثبت في صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِناً حَسَنَةٌ يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا ( ويظلم يتعدّى لواحد ، وهو محذوف وتقديره : لا يظلم أحداً مثقال ذرة . وينتصب مثقال على أنه نعت لمصدر محذوف أي : ظلماً وزن ذرّة ، كما تقول : لا أظلم قليلاً ولا كثيراً . وقيل : ضمنت معنى ما يتعدّى لاثنين ، فانتصب مثقال على أنه مفعول ثان ، والأول محذوف التقدير : لا ينقص ، أو لا يغضب ، أو لا يبخس أحداً مثقال ذرة من الخير أو الشر ، ( وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ).
حذفت النون من تلك لكثرة الاستعمال ، وكان القياس إثبات الواو ، لأن الواو إنما حذفت لالتقاء الساكنين . فكان ينبغي أنه إذا حذفت ترجع الواو ، ولأن الموجب لحذفها قد زال . ولجواز حذفها شرط على مذهب سيبويه وهو : أن تلاقي ساكنان ، فإن لاقته نحو : لم يكن ابنك قائماً ، ولم يكن الرجل ذاهباً ، لم يجز حذفها . وأجازه يونس ، وشرط جواز هذا الحذف دخول جازم على مضارع معرب مرفوع بالضمة ، فلو كان مبنياً على نون التوكيد ، أو نون الإناث ، أو مرفوعاً بالنون ، لم يجز حذفها .
وقرأ الجمهور : حسنة بالنصب ، فتكون ناقصة ، واسمها مستتر فيها عائد على مثقال . وأنث الفعل لعوده على مضاف إلى مؤنث ، أو على مراعاة المعنى ، لأن مثقال معناه زنة أي : وإن تك زنة ذرّة . وقرأ الحسن والحرميان : حسنة بالرفع على أن تك تامة ، التقدير : وإن تقع أو توجد حسنة . وقرأ الإبنان : يضعفها مشدّدة من غير ألف . قال أبو علي : المعنى فيهما واحد ، وهما لغتان . ويدل على هذا قراءة من قرأ ) يُضَاعِفُ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ( و ) فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ). وقال أبو عبيدة في كتاب المجاز والطبري : ضاعف يقتضي مراراً كثيرة ، وضعف يقتضي مرتين ، وكلام العرب يقتضي عكس هذا . لأنّ المضاعفة تقتضي زيادة المثل ، فإذا شدّدت اقتضت البنية التكثير فوق مرتين إلى أقصى ما يزيد من العدد ، وقد تقدم لنا الكلام في هذا . وقال الزمخشري : يضاعف ثوابها لاستحقاقها ضده الثواب في كل وقت من الأوقات المستقبلة غير المتناهية . وورد تضعيف الحسنة لعشر أمثالها في كتاب الله ، وتضعيف النفقة إلى سبعمائة ، ووردت أحاديث التضعيف ألفاً وألف ألف ، ولا تضاد في ذلك ، إذ المراد الكثرة لا التحديد . وإن أريد التحديد فلا تضاد أيضاً ، لأن الموعود بذلك جميع المؤمنين ، ويختلف باختلاف الأعمال . وظاهر قوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية أنها عامة في كل أحد ، وتخصيص ذلك بالمهاجرين غير ظاهر من لدنه أي : من عنده على سبيل التفضل . قال الزمخشري : سماه أجراً لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته . انتهى قال ابن مسعود وابن جبير وابن زيد الأجر : هنا الجنة . وقيل : لا حد له ولا عد .
النساء : ( 41 ) فكيف إذا جئنا . . . . .
( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( هو نبيهم يشهد عليهم بما فعلوا كما قال تعالى : ) وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ( والأمة هنا من بعث إليهم النبي من مؤمن به وكافر . لمّا أعلم تعالى بعدله وإيتاء فضله أتبع ذلك بأن نبه على الحالة التي يحضرونها للجزاء ويشهد عليهم فيها .
وكيف في موضع رفع إن كان المحذوف مبتدأ التقدير : فكيف حال هؤلاء السابق ذكرهم ، أو كيف صنعهم . وهذا المبتدأ هو العامل في إذا ، أو في موضع نصب إن كان المحذوف فعلاً أي : فكيف يصنعون ، أو كيف يكونون . والفعل أيضاً هو العامل في إذا . ونقل ابن عطية عن مكيّ : أن العامل في كيف جئنا . قال : وهو خطأ ، والاستفهام هنا للتوبيخ ، والتقريع ، والإشارة بهؤلاء إلى أمة الرسول . وقال مقاتل : إلى الكفار . وقيل : إلى اليهود والنصارى . وقيل : إلى كفار قريش . وقيل : إلى المكذبين وشهادته بالتبليغ لأمته قاله : ابن مسعود ، وابن جريج ، والسدي ، ومقاتل . أو بإيمانهم قاله أبو

" صفحة رقم 263 "
العالية ، أو بأعمالهم قاله : مجاهد وقتادة . والظاهر أن الشهادة تكون على المشهود عليهم . وقيل : على بمعنى اللام ، أي : وجئنا بك لهؤلاء ، وهذا فيه بعد . وقال الزجاجي : يشهد لهم وعليهم ، وحذف المشهود عليهم في قوله : إذا جئنا من كل أمة بشهيد لجريان ذكره في الجار والمجرور فاختصر ، والتقدير : من كل أمة بشهيد على أمته . وظاهر المقابلة يقتضي أن تكون الشهادة عليهم لا لهم ، ولا يكون عليهم إلا والمشهود عليهم كانوا منكرين مكذبين بما شهد عليهم به . وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه ، وكذلك حين قرأ عليه ابن مسعود ذرفت عيناه وبكاؤه والله أعلم هو إشفاق على أمته ورحمة لهم من هول ذلك اليوم . وظاهر قوله : وجئنا بك ، أنه معطوف على قوله : جئنا من كل أمة . وقيل : حال على تقدير قد أي وقد جئنا .
النساء : ( 42 ) يومئذ يود الذين . . . . .
( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ ( التنوين في يومئذ هو تنوين العوض ، حذفت الجملة السابقة وعوض منها هذا التنوين ، والتقدير : يوم إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول أي : كفروا بالله وعصوا رسوله . والرسول : هنا اسم جنس ، ويحتمل أن يكون التنوين عوضاً من الجملة الأخيرة ، ويكون الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وأبرز ظاهراً ، ولم يأت وعصوك لما في ذكر الرسول من الشرف والتنويه بالرسالة التي هي أشرف ما تحملها الإنسان من الله تعالى ، إذ هي سبب السعادة الدنيوية والأخروية ، والعامل في : يوم يودّ . ومعنى يودّ : يتمنى . وظاهر وعصوا أنه معطوف على كفروا . وقيل : هو على إضمار موصول آخر أي : والدين عصوا فهما فرقتان . وقيل : الواو واو الحال أي : كفروا وقد عصوا الرسول . وقال الحوفي : يجوز أن يكون يوم مبنياً مع إذ ، لأنّ الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤه معه . وإذ في هذا الموضع اسم ليست بظرف ، لأن الظروف إذا أضيف إليها خرجت إلى معنى الاسمية من أجل تخصيص المضاف إليها ، كما تخصص الأسماء ، ومع استحقاقها الجرّ ، والجرّ ليس من علامات الظروف انتهى ، وهو كلام جيد .
وقرأ الجمهور : وعصوا الرسول بضم الواو . وقرأ يحيى بن يعمر وأبو السمال : وعصوا الرسول بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : تسوى بضم التاء وتخفيف السين مبنياً للمفعول ، وهو مضارع سوى . وقرأ نافع ، وابن عامر : بفتح التاء وتشديد السين ، وأصله تتسوى ، فأدغمت التاء في السين ، وهو مضارع تسوى . وقرأ حمزة والكسائي : تسوّى بفتح التاء وتخفيف السين ، وذلك على حذف التاء ، إذ أصله تتسوى وهو مضارع تسوى . فعلى قراءة من قرأ تتسوى وتسوّى فتكون الأرض فاعلة . قال أبو عبيدة وجماعة : معناه لو تنشق الأرض ويكونون فيها ، وتنسوي هي في نفسها عليهم . والباء بمعنى على . وقالت فرقة : معناه لو تسوّى هي معهم في أن يكونوا تراباً كالبهائم ، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المسوية معهم ، والمعنى : إنما هو أنهم يستوون مع الأرض . ففي اللفظ قلب يخرج على قولهم : أدخلت القلنسوة في رأسي . وعلى قراءة من قرأ : تسوى مبنياً للمفعول ، فالمعنى أن الله يفعل ذلك على حسب المعنيين السابقين . وقيل : المعنى لو دفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى ، ومعنى هذا القول هو معنى القول الأول . وقيل : المعنى لو تعدل بهم الأرض أي : يؤخذ منهم ما عليها فدية .
والعامل في يومئذ يود ، ومفعول يود محذوف تقديره : تسوية الأرض بهم ، ودلّ عليه قوله : لو تسوى بهم الأرض . ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابه محذوف تقديره : لسروا بذلك ، وحذف لدلالة يودّ عليه . ومن أجاز في لو أن تكون مصدرية مثل أن جوز ذلك هنا ، وكانت إذ ذاك لا جواب لها ، بل تكون في موضع مفعول يود .
( وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ( روي عن ابن عباس أن معنى هذه : ودوا إذ فضحتحهم

" صفحة رقم 264 "
جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم . وروي عنه أيضاً : أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله شيئاً . وقال الحسن : القيامة مواقف ، ففي موطن يعرفون سوء أعمالهم ويسألون أن يردوا إلى الدنيا ، وفي موطن يكتمون ويقولون : والله ربنا ما كنا مشركين . وقال الفراء والزجاج : هو كلام مستأنف لا يتعلق بقوله : وتسوى بهم الأرض ، والمعنى : لا يقدرون على كتمان الحديث لأنه ظاهر عند الله . وقيل : ودوا لو سويت بهم الأرض ، وأنهم لم يكتموا الله حديثاً . وقيل : لم يعتقدوا أنهم مشركون ، وإنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة ، ذكر هذين القولين : ابن الأنباري . قال القاضي : أخبروا بما توهموا ، وكانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين ، وذلك لا يخرجهم أنهم قد كذبوا . وإذا كانت الجملة مندرجة تحت يود فقال الجمهور : هو قولهم والله ربنا ما كنا مشركين ، ما كنا نعمل من سوء ، وهذا يتعلق بالآخرة . وقال عطاء : أمر الرسول ونعته وبعثه ، وهذا متعلق بالدنيا انتهى . ما خص من كتاب التحرير والتحبير .
وقال ابن عطية ما ملخصه : استأنف الكلام وأخبر أنهم لا يكتمون حديثاً لنطق جوارحهم بذلك كله حتى يقول بعضهم : والله ربنا ما كنا مشركين ، فيقول الله تعالى : كذبتم ، ثم تنطق جوارحهم فلا تكتم حديثاً ، وهذا قول ابن عباس . وقالت طائفة مثله : إلا أنها قالت : استأنف ليخبر أنّ الكتم لا ينفع وإن كتموا لعلم الله جميع أسرارهم ، فالمعنى : ليس ذلك المقام الهائل مقاماً ينفع فيه الكتم . والفرق بين هذا والأول ، أن الأول يقتضي أنّ الكتم لا يقع بوجه ، والآخر يقتضي أنّ الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع ، كما تقول : هذا مجلس لا يقال فيه باطل ، وأنت تريد أنه لا ينفع فيه ولا يستمع إليه . وقالت طائفة : الكلام كله متصل ، والمعنى : ويودون أنهم لا يكتمون الله حديثاً . وودّهم ذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين . وقالت طائفة : هي مواطن وفرق انتهى . وقال الزمخشري : لا يقدرون على كتمانه ، لأن جوارحهم تشهد عليهم .
وقيل : الواو وللحال يودون أن يدفنوا تحت الأرض ، وأنهم لا يكتمون الله حديثاً ، ولا يكذبون في قولهم : والله ربنا ما كنا مشركين . لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم ، ختم الله على أفواههم عند ذلك وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم ، والشهادة عليهم بالشرك . فلشدة الأمر عليهم يتمنون أن تسوى بهم الأرض انتهى . والذي يتلخص في هذه الجملة أن الواو في قوله : ولا يكتمون إما أن تكون للحال ، أو للعطف فإن كانت للحال كان المعنى : أنهم يوم القيامة يودون إن كانوا ماتوا وسويت بهم الأرض ، غير كاتمين الله حديثاً ، فهي حال من بهم ، والعامل فيها تسوى . وهذه الحال على جعل لو مصدرية بمعنى أن ، ويصح أيضاً الحال على جعل لو حرفاً لما سيقع لوقوع غيره ، أي : لو تسوى بهم الأرض غير كاتمين الله حديثاً لكان بغيتهم وطلبتهم . ويجوز أن يكون حالاً من الذين كفروا ، والعامل يود على تقدير أن تكون لو مصدرية أي : يوم القيامة يود الذين كفروا إن كانوا سويت بهم الأرض غير كاتمين ، وتكون هذه الحال قيدا في الودادة . أي تقع الودادة منهم لما ذكر في حال انتفاء الكتمان ، وهي حالة إقرارهم بما كانوا عليه في الدّنيا من الكفر والتكذيب ، ويكون إقرارهم في موطن دون موطن ، إذ قد ورد أنهم يكتمون ، ويبعد أن يكون حالاً على هذا الوجه . ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره للفصل بين الحال ، وعاملها بالجملة . وإن كانت الواو في : ولا يكتمون ، للعطف فيحتمل أن يكون من عطف المفردات ، ومن عطف الجمل . فإن كانت من عطف المفردات كان ذلك معطوفاً على مفعول يود أي : يودّون تسوية الأرض بهم وانتفاء الكتمان . ويحتمل أن يكون انتفاء الكتمان في الدنيا ، ويحتمل أن يكون في الآخرة ، وهو قولهم : والله ربنا ما كنا مشركين . ويبعد جدًّا أن يكون عطف على مفعول يود المحذوف ، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره . وإن كانت من عطف الجمل فيحتمل أن يكون معطوفاً على يود ، أي : يودّون كذا ولا يكتمون الله حديثاً ، فأخبر تعالى عنهم بخبرين

" صفحة رقم 265 "
الودادة وانتفاء الكتمان ، ويكون انتفاء الكتمان في بعض مواقف القيامة . ويحتمل أن يكون مفعول يود محذوفاً كما قرّرناه ، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف كما تقدّم . والجملة من قوله : ولا يكتمون معطوفة على لو ومقتضيتها ، ويكون تعالى قد أخبر بثلاث جمل : جملة الودادة ، والجملة التعليقية من لو وجوابها ، وجملة انتفاء الكتمان .
النساء : ( 43 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ( روي أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل التحريم ، وحانت صلاة ، فتقدّم أحدهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت . وقيل : نزلت بسبب قول ثانياً : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، وكانوا يتحامونها أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها ، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر ، إلى أن سأل عمر ثالثاً فنزل تحريمها مطلقاً . وهذه الآية محكمة عند الجمهور . وذهب ابن عباس إلى أنها منسوخة بآية المائدة . وأعجب من هذا قول عكرمة : أن قوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى منسوخ بقوله : ) يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ ( الآية أي أبيح لهم أن يؤخروا الصلاة حتى يزول السكر ، ثم نسخ ذلك فأمروا بالصلاة على كل حال ، ثم نسخ شرب الخمر بقوله : ) فَاجْتَنِبُوهُ ( ولم ينزل الله هذه الآية في إباحة الخمر فلا تكون منسوخة ، ولا أباح بعد إنزالها مجامعة الصلاة مع السكر . ووجه قول ابن عباس : أنّ مفهوم الخطاب يدل على جواز السكر ، وإنما حرم قربان الصلاة في تلك الحال ، فنسخ ما فهم من جواز الشرب والسكر بتحريم الخمر .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي : أنه لما أمر تعالى بعبادة الله والإخلاص فيها ، وأمر ببرّ الوالدين ومكارم الأخلاق ، وذم البخل واستطر منه إلى شيء من أحوال القيامة ، وكان قد وقع من بعض المسلمين تخليط في الصلاة التي هي رأس العبادة بسبب شرب الخمر ، ناسب أن تخلص الصلاة من شوائب الكدر التي يوقعها على غير وجهها ، فأمر تعالى بإتيانها على وجهها دون ما يفسدها ، ليجمع لهم بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم ، وبين الخلق والخطاب بقوله : يا أيها الذين آمنوا للصاحين ، لأن السكران إذا عدم التمييز لسكره ليس بمخاطب ، لكنه مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه ، وبتكفيره ما أضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرّر تكليفه إياها قبل السكر ، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق على ما ذهب إليه بعض الناس .
وبالغ تعالى في النهي عن أن يصلّي المؤمن وهو سكران بقوله : ) لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ لاِنْ ( ) أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ ( ) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ( والمعنى : لا تغشوا الصلاة . وقيل : هو على حذف مضاف أي : لا تقربوا مواضع الصلاة لقوله : ولا جنباً إلا عابري سبيل على أحد التأويلين في عابري سبيل ، وسيأتي إن شاء الله . ومواضع الصلاة هي المساجد لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ) .
والجمهور على أن المراد : وأنتم سكارى من الخمر . وقال الضحاك : المراد السكر من النوم ، لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه ) وقال عبيدة السلماني : المراد بقوله وأنتم سكارى إذا كنتم حاقنين ، لقوله عليه السلام : ( لا يصلين أحدكم وهو حاقن ) . وفي رواية : ( وهو ضام فخذيه ) واستضعف قول الضحاك

" صفحة رقم 266 "
وعبيدة واستبعد . وقال القرطبي : قولهما صحيح المعنى ، لأن المطلوب من المصلي الإقبال على عبادة الله تعالى بقلبه وقالبه ، بصرف الأسباب التي تشوّش عليه وتقل خشوعه من : نوم ، وحقنة ، وجوع ، وغيره مما يشغل البال . وظاهر الآية يدل على النهي عن قربان الصلاة في حالة السكر . وقيل : المراد النهي عن السكر ، لأن الصلاة قد فرضت عليهم وأوقات السكر ليست محفوظة عندهم ولا بمقدرة ، لأن السكر قد يقع تارة بالقليل وتارة بالكثير ، وإذا لم يتحرر وقت ذلك عندهم تركوا الشرب احتياطاً لأداء ما فرض عليهم من الصلوات . وأيضاً فالسكر يختلف باختلاف أمزجة الشاربين ، فمنهم من سكره الكثير ، ومنهم من سكره القليل .
وقرأ الجمهور : سكارى بضم السين . واختلفوا : أهو جمع تكسير ؟ أم اسم جمع ؟ ومذهب سيبويه أنه جمع تكسير . قال سيبويه في حد تكسير الصفات : وقد يكسرون بعض هذه على فعالى ، وذلك قول بعضهم : سكارى وعجالى . فهذا نصَّ منه على أن فعلى جمع . ووهم الأستاذ أبو الحسن بن الباذش فنسب إلى سيبويه أنه اسم جمع ، وأن سيبويه بين ذلك في الأبنية . قال ابن الباذش : وهو القياس ، لأنه جاء على بناء لم يجيء عليه جمع ألبتة ، وليس في الأبنية إلا نص سيبويه على أنه تكسير ، وذلك أنه قال : ويكون فعالى في الاسم نحو حبارى وسماني وكباري ، ولا يكون وصفاً ، إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع نحو عجالى وسكارى وكسالى . وحكى السيرافي فيه القولين ، ورجح أنه تكسير ، وأنه الذي يدل عليه كلام سيبويه . وقرأت فرقة : سكارى بفتح السين نحو ندمان وندامى ، وهو جمع تكسير . وقرأ النخعي : سكرى ، فاحتمل أن يكون صفة لواحدة مؤنثة كامرأة سكرى ، وجرى على جماعة إذ معناه : وأنتم جماعة سكرى . وقال ابن جني : هو جمع سكران على وزن فعلى كقوله : روبي نياماً وكقولهم : هلكى وميدي جمع هالك ومائد . وقرأ الأعمش : سكرى بضم السين على وزن حبلى ، وتخريجه على أنه صفة لجماعة أي : وأنتم جماعة سكرى . وحكى جناح بن حبيش : كسلى وكسلى بالضم والفتح قاله الزمخشري . ومعنى حتى تعلموا ما تقولون : حتى تصحوا فتعلموا . جعل غاية السبب والمراد السبب ، لأنه ما دام سكران لا يعلم ما يقول وظاهر الآية يدل على أن السكران لا يعلم ما يقول ، ولذلك ذهب عثمان ، وابن عباس ، وطاووس ، وعطاء ، والقاسم ، وربيعة ، والليث ، وإسحاق ، وأبو ثور ، والمزني إلى أن السكران لا يلزمه طلاق ، واختاره الطبري . وقال أجمع العلماء : على أن طلاق المعتوه لا يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس ، معتوه بالوسواس . ولا يختلفون في أنّ طلاق من ذهب عقله بالبنج غير جائز ، فكذلك من سكر من الشراب . وروي عن عمر ومعاوية وجماعة من التابعين : أنّ طلاقه نافذ عليه وهو قول : أبي حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي . قال أبو حنيفة : أفعاله وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي إلا الردة ، فإنه إذا ارتد لا تبين امرأته منه . وقال أبو يوسف : يكون مرتداً في حال سكره ، وهو قول الشافعي ، إلا أنه لا يقتله في حال سكره ، ولا يستتيبه . واختلف قوله في الطلاق ، وألزم مالك السكران الطلاق والقود في الجراح والعقل ، ولم يلزمه النكاح والبيع . قال الماوردي : وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزمه طلاقه . وقال محمد بن عبد الحكم : لا يلزمه طلاق ولا عتاق . واختلفوا في السكر . فقيل : هو الذي لا يعرف صاحبه الرجل من المرأة قاله : جماعة من السلف ، وهو مذهب أبي حنيفة ، ويدل عليه قوله : حتى تعلموا ما تقولون . فظاهره يدل على أنّ السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول . وقال الثوري : السكر اختلال العقل ، فإذا خلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف حده . وقال أحمد : إذا تغير عقله في حاله الصحة فهو سكران . وحكى عن مالك نحوه .
قيل : وفي الآية دلالة على أن الشرب كان مباحاً في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر . وقال القفال : يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء

" صفحة رقم 267 "
والشجاعة والحمية ، وأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حالة الجنون والإغماء فما أبيح قصده ، بل لو أنفق من غير قصد كان مرفوعاً عن صاحبه .
( وَلاَ جُنُباً ( هذه حالة معطوفة على قوله : وأنتم سكارى . إذ هي جملة حالية ، والجملة الاسمية أبلغ لتكرار الضمير ، فالتقييد بها أبلغ في الانتفاء منها من التقييد بالمفرد الذي هو : ولا جنباً . ودخول لا دالٌ على مراعاة كل قيد منهما بانفراده . وإذا كان النهي عن إيقاع الصلاة مصاحبة لكل حال منهما بانفراده ، فالنهي عن إيقاعها بهما مجتمعين ، وأدخل في الحظر . والجنب : هو غير الصحابة : لا غسل إلا على من أنزل ، وبه قال الأعمش وداود . وهي مسألة تذكر أدلتها في علم الفقه .
والجنب من الجنابة وهي البعد ، كأنه جانب الطهر ، أو من الجنب كأنه ضاجع ومس بجنبه . قال الزمخشري : الجنب يستوي فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث ، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب انتهى . والذي ذكره هو المشهور في اللغة والفصيح ، وبه جاء القرآن . وقد جمعوه جمع سلامة بالواو وإلنون قالوا : قوم جنبون ، وجمع تكسير قالوا : قوم أجناب . وأما تثنيته فقالوا : جنبان .
( إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ ( العبور : الخطور والجواز ، ومنه ناقة عبر الهواجر وعبر أسفار قال : عيرانه سرح اليدين شمله
عبر الهواجر كالهجف الخاضب
وعابر السبيل هو المارّ في المسجد من غير لبث فيه ، وهو مذهب الشافعي قال : يمرّ فيه ولا يقعد فيه . وقال الليث : لا يمرّ فيه إلا إن كان بابه إلى المسجد . وقال أحمد وإسحاق : إذا توضأ الجنب فلا بأس به أن يقعد في المسجد . وقال الزمخشري : من فسر الصلاة بالمسجد قال : معناه لا تقربوا المسجد جنباً إلا مجتازين فيه ، إذا كان الطريق فيه إلى الماء ، أو كان الماء فيه ، أو احتلمتم فيه . وقيل : إنّ رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرّاً إلا في المسجد ، فرخص لهم .
وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أن يمرّ فيه وهو جنب ، إلا لعلي . لأنه بيته كان في المسجد ) وقال عليّ وابن عباس أيضاً وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم : عابر السبيل المسافر ، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم وهو مذهب أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وزفر ، قالوا : لا يدخل المسجد إلا الطاهر سواء أراد القعود فيه أم الاجتياز ، وهو قول : مالك والثوري وجماعة . ورجح هذا القول بأن قوله : لا تقربوا الصلاة يبقى على ظاهره ، وحقيقته بخلاف تأويل مواضع الصلاة فإنه مجاز ، ولا يعدل إليه إلا بعد تعذر حمل الكلام على حقيقته . وليس في المسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر ، وفي الصلاة قراءة مشروطة يمنع لأجل تعذر إقامتها من فعل الصلاة . وسمي المسافر عابر سبيل لأنه على الطريق ، كما سمي ابن السبيل .
وأفاد الكلام معنيين : أحدهما : جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء والصلاة به . والثاني : أن التيمم لا يرفع الجنابة ، لأنه سماه جنباً مع كونه متيمماً . وعلى هذا المعنى فسر الزمخشري الآية أولاً فقال : إلا عابري سبيل ، الاستثناء من عامة أحوال المخاطبين ، وانتصابه على الحال . فإن قلت : كيف جمع بين هذه الحال والتي قبلها ؟ قلت : كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر وعبور السبيل عبارة عنه . ويجوز أن لا يكون حالاً ولكن صفة كقوله : جنباً أي : ولا تقربوا الصلاة جنباً غير عابري سبيل ، أي : جنباً مقيمين غير معذورين . فإن قلت : كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر ؟ قلت : أريد

" صفحة رقم 268 "
بالجنب الذين لم يغتسلوا ، كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين حتى تغتسلوا ، إلا أن تكونوا مسافرين انتهى كلامه . ومن قال : بمنع الجنب من المرور في المسجد والجلوس فيه تعظيماً له ، فالأولى أن يمنعه والحائض من قراءة القرآن ، وبه قال الجمهور ، فلا يجوز لهما أن يقرآ منه شيئاً سواء كان كثيراً أم قليلاً حتى يغتسلا ، ورخص مالك لهما في الآية اليسيرة للتعوذ ، وأجاز للحائض أن تقرأ مطلقاً إذا خافت النسيان عند الحيض ، وذكروا هذه المسألة ولا تعلق لها في التفسير بلفظ القرآن .
( حَتَّى تَغْتَسِلُواْ ( هذه غاية لامتناع الجنب من الصلاة ، وهي داخلة في الحظر إلى أن يوقع الاغتسال مستوعباً جميعه . والخلاف : هل يدخل في ماهية الغسل إمرار اليد أو شبهها مع الماء على المغسول ؟ فلو انغمس في الماء أو صبه عليه فمشهور مذهب مالك : أنه لا يجزئه حتى يتدلك ، وبه قال المزني : ومذهب الجمهور : أنه يجزئه من غير تدلك . وهل يجب في الغسل تخليل اللحية ؟ فيه عن مالك خلاف . وأما المضمضة والاستنشاق في الغسل فذهب أبو حنيفة إلى فرضيتهما فيه لا في الوضوء . وقال ابن أبي ليلى وإسحاق وأحمد وبعض أصحاب داود : هما فرض فيهما . وروي عن عطاء ، والزهي وقال مجاهد وجماعة من التابعين ، ومالك ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي ، ومحمد بن جرير : ليسا بفرض فيهما . وروي عن أحمد : أن المضمضة سنة ، والاستنشاق فرض ، وقال به بعض أصحاب داود . وظاهر قوله : حتى تغتسلوا حصول الاغتسال ، ولم يشترط فيه نية الاغتسال ، بل ذكر حصول مطلق الاغتسال ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه في كل طهارة بالماء . وروي هذا الوليد بن مسلم عن مالك ، ومشهور مذهبه أنه لا بد من النية ، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور .
( وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ ( قال الجمهور : نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع ، حين أقام على التماس العقد . وقال النخعي : في قوم أصابتهم جراح وأجنبوا . وقيل : كان ذلك عبد الرحمن بن عوف ، ومرضى يعني في الحضر . ويدل على مطلق المرض قل أو كثر ، زاد أو نقص ، تأخر برؤه أو تعجل ، وبه قال داود . فأجاز التيمم لكل من صدق عليه مطلق الاسم . وخصص العلماء غيره المرض بالجدري ، والحصبة ، والعلل المخوف عليها من الماء فقالوا : إن خاف تيمم بلا خلاف ، إلا ما روي عن عطاء والحسن : أنه يتطهر وإن مات ، وهما محجوجان بحديث عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل ، وأنه أشفق أن يهلك إن اغتسل فتيمم ، فأقرّه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على ذلك ، خرجه أبو داود والدارقطني .
وإن خاف حدوث مرض أو زيادته ، أو تأخر البرء ، فذهب أبو حنيفة ومالك : إلى أنه يتيمم . وقال الشافعي : لا يجوز ، وقيل : الصحيح عن الشافعي أنه إذا خاف طول المرض جاز له التيمم . وظاهر قوله تعالى : أو على سفر مطلق السفر ، فلو لم يجد الماء في الحضر جاز له التيمم عند مالك وأبي حنيفة ومحمد . وقال الشافعي والطبري : لا يتيمم . وقال الليث والشافعي أيضاً : إن خاف فوت الوقت تيمم وصلى ، ثم إذا وجد الماء أعاد . وقال أبو يوسف وزفر : لا يتيمم إلا لخوف الوقت . والسفر المبيح عند الجمهور مطلق السفر ، سواء أكان مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر . وشرط قوم سفراً تقصر فيه الصلاة ، وشرط آخرون أن يكون سفر طاعة . وقال أبو حنيفة : لو خرج من مصره لغير سفر فلم يجد الماء جاز له التيمم ، وقد المسافة أن يكون بينه وبين الماء ميل . وقيل : إذا كان بحيث لا يسمع أصوات الناس ، لأنه في معنى المسافر . فلو وجد ماء قليلاً إن توضأ به خاف على نفسه العطش تيمم على قول الجمهور ، فلو وجده بثمن مثله فلا خلاف أنه يلزمه شراؤه ، أو بما زاد . فمذهب أبي حنيفة والشافعي . يتيمم . ومذهب مالك : يشتريه بماله كله ويبقى عديماً . فلو حال بينه وبين الماء عدو أو سبع أو غير ذلك مما يحول فكالعادم للماء .
ومجيئه من الغائط كناية عن الحدث

" صفحة رقم 269 "
بالغائط ، وحمل عليه الريح والبول والمني والودي ، لا خلاف أن هذه الستة أحداث . وقد اختلفوا في أشياء ذكرت في كتب الفقه . وقرأ ابن مسعود : من الغيط وخرج على وجهين : أحدهما : أنه مصدر إذ قالوا : غاط يغيط . والثاني : أن أصله فيعل ، ثم حذف كميت . واختلفوا في تفسير اللمس ، فقال عمرو بن مسعود وغيرهما : هو اللمس باليد ، ولا ذكر للجنب إنما يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء . قال أبو عمر : لم يقل بقولهم أحد من فقهاء الأمصار لحديث عمار ، وأبي ذر ، وعمران بن حصين في تيمم الجنب . وقال علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة : المراد الجماع ، والجنب يتيمم . ولا ذكر للامس بيده ، وهو مذهب أبي حنيفة . فلو قبل ولو بلذة لم ينتقض الوضوء . وقال مالك : الملامس بالجماع يتيمم ، وكذا باليد إذا التذ فإن لمس بغير شهوة فلا وضوء ، وبه قال أحمد وإسحاق . وقال الشافعي : إذا أفضى بشيء من جسده إلى بدن المرأة نقض الطهارة ، وهو قول : ابن مسعود ، وابن عمر ، والزهري ، وربيعة ، وعبيدة ، والشعبي ، وابراهيم ، ومنصور ، وابن سيرين . وقال الأوزاعي : إن كان باليد نقض وإلا فلا . وقرأ حمزة ، والكسائي : لمستم وباقي السبعة بالألف ، وفاعل هنا موافق فعل المجرّد نحو : جاوزت الشيء وجزته ، وليست لأقسام الفاعلية والمفعولية لفظاً ، والاشتراك فيهما معنى ، وقد حملها الشافعيّ على ذلك في أظهر قوليه .
فقال : الملموس كاللامس في نقض الطهارة .
وقوله : أو على سفر في موضع نصب عطفاً على مرضى . وفي قوله : أو جاء ، أو لامستم دليل على جواز وقوع الماضي خبراً لكان من غير قد وادّعاء إضمارها تكلف خلافاً للكوفيين لعطفها على خبر كان ، والمعطوف على الخبر خبر . فلم تجدوا ماء الضمير عائد على من أسند إليهم الحكم في الأخبار الأربعة . وفيه تغليب الخطاب إذ قد اجتمع خطاب وغيبة ، فالخطاب : كنتم مرضى ، أو على سفر ، أو لامستم . والغيبة قوله : أو جاء أحد . وما أحسن ما جاءت هذه الغيبة ، لأنه لما كنى عن الحاجة بالغائط كره إسناد ذلك إلى المخاطبين ، فنزع به إلى لفظ الغائب بقوله : أو جاء أحد ، وهذا من أحسن الملاحظات وأجمل المخاطبات . ولما كان المرض والسفر ولمس النساء لا يفحش الخطاب بها جاءت على سبيل الخطاب . وظاهر انتفاء الوجدان سبق تطلبه وعدم الوصول إليه ، فأما في حق المريض فجعل الموجود حساً في حقه إذا كان لا يستطيع استعماله كالمفقود شرعاً ، وأما غيره باقي الأربعة فانتفاء وجدان الماء في حقهم هو على ظاهره . وفلم تجدوا معطوف على فعل الشرط فتيمموا صعيداً طيباً هذا جواب الشرط ، أمر الله تعالى بالتيمم عند حصول سبب من هذه الأسباب الأربعة وفقدان الماء .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين ، وبين المحدثين والمجنبين ، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة ، والحدث سبب لوجوب الوضوء ، والجنابة سبب لوجوب الغسل ؟ ( قلت ) : أراد سبحانه وتعالى أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون للماء في التيمم والتراب ، فخص أولاً من بينهم مرضاهم وسفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم ، لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة ، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو ، أو سبع ، أو عدم آلة استقاء ، أو إرهاق في مكان لا ماء فيه ، أو غير ذلك مما لا يكثر كثرة المرض والسفر انتهى . وفيه تفسيره : أو لامستم النساء أنه أريد به الجماع الذي تترتب عليه الجنابة ، فسر ذلك على مذهب أبي حنيفة ، ولم ينقل غيره من المذاهب . وملخص ما طول به : أنه اعتذر عن تقديم المرض والسفر بما ذكر . ومن يحمل اللمس على ظاهره يقول : إن هذا من باب الترقي من الإقل إلى الأكثر ، لأن حالة المرض أقل من حالة السفر ، وحالة السفر أقل من حالة قضاء الحاجة ، وحالة قضاء الحاجة أقل من حالة لمس المرأة . ألا ترى أن حالة الصحة غالباً أكثر من حال المرض ، وكذا في سائر البواقي ؟ .

" صفحة رقم 270 "
قال أبو عبيدة والفراء : الصعيد التراب . وقال الليث : الصعيد الأرض المستوية لا شيء فيها من غراس ونبات ، وهو قول قتادة ، قال : الصعيد الأرض الملساء . وقال الخليل : الصعيد ما صعد من وجه الأض ، يريد وجه الأرض . وقال الزجاج : الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره ، وإن كان صخراً لا تراب عليه زاد غيره : أو رملاً ، أو معدناً ، أو سبخة . والطيب الطاهر وهذا تفسير طائفة ، ومذهب أبي حنيفة ومالك واختيار الطبري . ومنه ) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيّبِينَ ( أي طاهرين من أدناس المخالفات . وقال قوم : الطيب هنا الحلال ، قاله سفيان الثوري وغيره . وقال الشافعي وجماعة : الطيب المنبت ، وقاله ابن عباس لقوله تعالى : ) وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ ( فالصعيد على هذا التراب . وهؤلاء يجيزون التيمم بغير ذلك ، فمحل الإجماع هو أن يتيمم بتراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب . ومحل المنع إجماعاً هو : أن يتيمم على ذهب صرف ، أو فضة ، أو ياقوت ، أو زمرد ، وأطعمة كخبز ولحم ، أو على نجاسة ، واختلف في المعادن : فأجيز ، وهو مذهب مالك ، ومنع وهو مذهب الشافعي . وفي الملح ، وفي الثلج ، وفي التراب المنقول ، وفي المطبوخ كالآجر ، وعلى الجدار ، وعلى النبات ، والعود ، والشجر خلاف . وأجاز الثوري وأحمد بغبار اليد . وقال أحمد وأبو يوسف : لا يجوز إلا بالتراب والرمل ، والجمهور على إجازته بالسباخ ، إلا ابن راهويه . وأجاز ابن علية وابن كيسان التيمم بالمسك والزعفران .
وظاهر الكلام : أنّ التيمم مسح الوجه واليدين من الصعيد الطيب ، فمتى حصلت هذه الكيفية حصل التيمم . والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً بين الوجه واليدين والباء في بوجوهكم مما يعدى بها الفعل تارة ، وتارة بنفسه . حكى سيبويه : مسحت رأسه وبرأسه ، وخشنت صدره وبصدره على معنى واحد . وظاهر مسح الوجه التعميم ، فيمسحه جميعه كما يغسله بالماء جميعه . وأجاز بعضهم أن لا يتتبع الغضون . وأما اليدان فظاهر مسحهما تعميم مدلولهما ، وهي تنطلق لغة إلى المناكب ، وبه قال ابن شهاب ، قال : يمسح إلى الآباط ، وروى ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه . وفي سنن أبي داود : ( أنه عليه السلام مسح إلى انصاف ذراعيه ) قال ابن عطية : لم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت انتهى . وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث : أنه يمسح إلى بلوغ المرفقين فرضاً واجباً ، وهو قول : جابر ، وابن عمر ، والحسن ، وابراهيم . وذهب طائفة إلى أنه يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان ، وهو : قول علي ، وعطاء ، والشعبي ، ومكحول ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود بن علي ، والطبري ، والشافعي في القديم ، وروي عن مالك . وذهب الشعبي إلى أنه يمسح كفيه فقط ، وبه قال بعض فقهاء الحديث ، وهو الذي ينبغي أن يذهب إليه لصحته في الحديث . ففي مسلم من حديث عمار ( إنما كان يكفيك أن يضرب بيدك الأرض ثم تنفخ وتمسح بها وجهك وكفيك ) وعنه في هذا الحديث : ( وضرب بيده الأرض فنفض يديه ، فمسح وجهه وكفيه ) وللبخاري : ( أدناهما من فيه ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه ) وفي مسلم أيضاً : ( أما يكفيك أن تقول بيدك هكذا ، ثم ضرب بيده الأرض ضربة واحدة ، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه ) وعند أبي داود ( فضرب بيده الأرض فقبضها ، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين ، ثم مسح وجهه ) . فهذه الأحاديث الصحيحة مبينة ما تطرق إليه الاحتمال في الآية من محل المسح وكيفيته .
وظاهر هذه الأحاديث الصحيحة وظاهر الآية يدل على الاجتزاء بضربة واحدة للوجه واليدين ، وهو قول : عطاء والشعبي في رواية ، والأوزاعي في الأشهر عنه ، وأحمد وإسحاق وداود والطبري . وذهب مالك في المدوّنة ، والأوزاعي في رواية ، وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم ، والثوري ، والليث ، وابن أبي سلمة : إلى وجوب ضربتين ضربة للوجه ، وضربة لليدين ، وذهب ابن أبي ليلى والحسن إلى أنه ضربتان ، ويمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه ، ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما . وأحكام التيمم ومسائله كثيرة مذكورة في كتب

" صفحة رقم 271 "
الفقه ، ولم يذكر في هذه السورة منه ، وذكر ذلك في المائدة ، فدلت على مذهب الشافعي في نقل شيء من الممسوح به إلى الوجه والكفين ، وحمل هذا المطلق على ذلك المقيد ، ولذلك قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما تصنع بقوله في سورة المائدة : ) فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ ( أي بعضه وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه ؟ ( قلت ) : قالوا : إنها أي من لابتداء الغاية ( فإن قلت ) : قولهم أنها لابتداء الغاية قول متعسف ، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل : مسحت برأسه من الدهن ، ومن الماء ، ومن التراب ، إلا معنى التبعيض ( قلت ) : هو كما تقول ، والإذعان للحق أحق من المراء .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ( كناية عن الترخيص والتيسير ، لأن مَن كانت عاته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم ، آثر أِّن يكون ميسراً غير معسر انتهى كلامه . والعجب منه إذ أذعن إلى الحق ، وليس من عادته ، بل عادته أن يحرف الكلام عن ظاهره ويحمله على غير محمله لأجل ما تقرر من مذهبه . وأيضاً فكلامه أخيراً حيث أطلق أن الله يعفو عن الخطائين ويغفر لهم ، العجب له إذ لم يقيد ذلك بالتوبة على مذهبه وعادته فيما هو يشبه هذا الكلام .
2 ( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ) ) 2
) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ (
النساء : ( 44 ) ألم تر إلى . . . . .
قال قتادة : نزلت في اليهود . وفي رواية عن ابن عباس : في رفاعة بن زيد بن التابوت . وقيل : في غيره من اليهود . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر شيئاً من أحوال الآخرة ، وأن الكفار إذ ذاك يودون لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً ، وجاءت هذه الآية بعد ذلك كالاعتراض بين ذكر أحوال الكفار في الآخرة ، وذكر أحوالهم في الدنيا وما هم عليه من معاداة المؤمنين ، وكيف يعاملون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الذي يأتي شهيداً عليهم وعلى غيرهم . ولما كان اليهود أشد إنكاراً للحق ، وأبعد من قبول الخير . وكان قد تقدّم أيضاً الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ، وهم أشد الناس تحلياً بهذين الوصفين ، أخذ يذكرهم بخصوصيتهم . وتقدم تفسير ألم تر إلى الذين في قوله تعالى : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ ( فأغنى عن إعادته . .
والنصيب : الحظ . ومن الكتاب : يحتمل أن يتعلق بأوتوا ، ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنصيباً . وظاهر لفظ الذين أوتوا ، يشمل اليهود والنصارى ، ويكون الكتاب عبارة عن التوراة والإنجيل . وقيل : الكتاب هنا التوراة ، والنصيب قيل : بعض علم التوراة ، لا العمل بما فيها . وقيل : علم ما هو حجة عليهم منه فحسب . وقيل : كفرهم به . وقيل : علم نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
( يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ ( المعنى : يشترون الضلالة بالهدى ، كما قال : ) أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ).
قال ابن عباس : استبدلوا الضلالة بالإيمان . وقال مقاتل : استبدلوا التكذيب بالنبي بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره واستنصارهم به انتهى . ودل لفظ الاشتراء على إيثار الضلالة على الهدى ، فصار ذلك بغياً شديداً عليهم ، وتوبيخاً فاضحاً لهم ، حيث هم عندهم حظ من علم التوراة والإنجيل ، ومع ذلك آثروا الكفر على الإيمان . وكتابهم طافح بوجوب اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل . وقيل : اشتراء الضلالة هنا هو ما كانوا يبذلون من أموالهم لأحبارهم على تثبيت دينهم قاله : الزجاج .
( وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ( أي : لم يكفهم أن

" صفحة رقم 272 "
ضلوا في أنفسهم حتى تعلقت آمالهم يضلا لكم أنتم أيها المؤمنون عن سبيل الحق ، لأنهم لما علموا أنهم قد خرجوا من الحق إلى الباطل كرهوا أن يكون المؤمنون مختصين باتباع الحق ، فأرادوا أن يضلوا كما ضلوا هم كما قال تعالى : ) وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ( وقرأ النخعي : وتريدون بالتاء باثنتين من فوق ، قيل : معناه وتريدون أيها المؤمنون أن تضلوا السبيل أي : تدعون الصواب في اجتنابهم ، وتحسبونهم غير أعداء الله . وقرىء : أن يضلوا بالياء وفتح الضاد وكسرها .
النساء : ( 45 ) والله أعلم بأعدائكم . . . . .
( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ( فيه تنبيه على الوصف المنافي لوداد الخير للمؤمنين وهي العداوة . وفيه إشارة إلى التحذير منهم ، وتوبيخ على الاستنامة إليهم والركون ، والمعنى : أنه تعالى قد أخبر بعداوتهم للمؤمنين ، فيجب حذرهم كما قال تعالى : ) هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ( واعلم على بابها من التفضيل ، أي : أعلم بأعدائكم منكم . وقيل : بمعنى عليم ، أي عليم بأعدائكم .
( وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً ( ومن كان الله وليه ونصيره فلا يبالي بالأعداء ، فثقوا بولايته ونصرته دونهم أو لا تبالوا بهم ، فإنه ينصركم عليهم ، ويكفيكم مكرهم . وقيل : المعنى ولياً لرسوله ، نصيراً لدينه .
والباء في بالله زائدة ويجوز حذفها كما قال : سحيم :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وزيادتها في فاعل كفى وفاعل يكفى مطردة كما قال تعالى : ) أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ ( وقال الزجاج : دخلت الباء في الفاعل ، لأن معنى الكلام الأمر أي : اكتفوا بالله . وكلام الزجاج مشعر أن الباء ليست بزائدة ، ولا يصح ما قال من المعنى ، لأن الأمر يقتضي أن يكون فاعله هم المخاطبون ، ويكون بالله متعلقاً به . وكون الباء دخلت في الفاعل يقتضي أن يكون الفاعل هو الله لا المخاطبون ، فتناقض قوله . وقال ابن السراج : معناه كفى الاكتفاء بالله ، وهذا أيضاً يدل على أن الباء ليست زائدة إذ تتعلق بالاكتفاء ، فالاكتفاء هو الفاعل لكفى . وهذا أيضاً لا يصح لأنّ فيه حذف المصدر وهو موصول ، وإبقاء معموله وهو لا يجوز إلا في الشعر نحو قوله : هل تذكرنّ إلى الدّيرين هجرتكم
ومسحكم صلبكم رحمان قربانا
التقدير : وقولكم يا رحمن قرباناً . وقال ابن عطية : بالله في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض ، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في صورة الخبر ، أي : اكتفوا بالله ، فالباء تدل على المراد من ذلك . وهذا الذي قاله ابن عطية ملفق بعضه من كلام الزجاج ، وهو أفسد من قول الزجاج ، لأنه زاد على تناقض اختلاف الفاعل اختلاف معنى الحرف ، إذ بالنسبة لكون الله فاعلاً هو زائد ، وبالنسبة إلى أن معناه اكتفوا بالله هو غير زائد . وقال ابن عيسى : إنما دخلت الباء في كفى بالله لأنه كان يتصل الفاعل وبدخول الباء اتصل اتصال المضاف واتصال الفاعل ، لأن الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره ، فضوعف لفظها المضاعفة معناها ، وهو كلام يحتاج إلى تأويل . وقد تقدم الكلام على كفى بالله في قوله : ) فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ( لكن تكرر هنا لما تضمن من مزيد : نقول : ورد بعضها . وانتصاب ولياً ونصيراً قيل : على الحال . وقيل : على التمييز ، وهو أجود لجواز دخول من .

" صفحة رقم 273 "
) مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ (
النساء : ( 46 ) من الذين هادوا . . . . .
ظاهره الانقطاع في الإعراب عن ما قبله ، فيكون على حذف موصوف هو مبتدأ ، ومن الذين خبره ، والتقدير : من الذين خبره ، والتقدير : من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم ، وهذا مذهب سيبويه ، وأبى عليّ ، وحذف الموصوف بعد من جائز وإن كانت الصفة فعلاً كقولهم : منا ظعن ، ومنا أقام أي : منا نفر ظعن ، ومنا نفر أقام . وقال الشاعر : وما الدهر إلا تارتان فمنهما
أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
يريد : فمننهما تارة أموت فيها . وخرّجه الفرّاء على إضمار من الموصولة أي : من الذين هادوا من يحرفون الكلم ، وهذا عند البصريين لا يجوز . وتأولوا ما جاء مما يشبه هذا على أنه من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، قال الفرّاء : ومثله قول ذي الرّمة : فظلوا ومنهم دمعه سابق لها
وآخر يثني دمعة العين باليد
وهذا لا يتعين أن يكون المحذوف موصولاً ، بل يترجح أن يكون موصوفاً لعطف النكرة عليه وهو آخر ، إذ يكون التقدير : فظلوا ومنهم عاشق دمعه سابق لها . وقيل : هو على إضمار مبتدأ التقدير : هم من الذين هادوا ، ويحرفون حال من ضمير هادوا ، ومن الذين هادوا متعلق بما قبله ، فقيل : بنصيراً أي نصيراً من الذين هادوا ، وعداه بمن كما عداه في : ) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ ( وفمن ينصرنا من بأس الله ( ومنعناه وفمن يمنعنا . وقيل : من الذين هادوا بيان لقوله : بأعدائكم ، وما بينهما اعتراض . وقيل : حال من الفاعل في يريدون قاله أبو البقاء . قال : ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في أوتوا لأن شيئاً واحداً لا يكون له أكثر من حال واحدة ، إلا أن يعطف بعض الأحوال على بعض ، ولا يكون حالاً من الذين لهذا المعنى انتهى . وما ذكره من أن ذا الحال إذا لم يكن متعدداً لا يقتضي أكثر من حال واحدة ، مسئلة خلاف فمن النحويين من أجاز ذلك . وقيل : من الذين هادوا بيان ) ( ومنعناه وفمن يمنعنا . وقيل : من الذين هادوا بيان لقوله : بأعدائكم ، وما بينهما اعتراض . وقيل : حال من الفاعل في يريدون قاله أبو البقاء . قال : ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في أوتوا لأن شيئاً واحداً لا يكون له أكثر من حال واحدة ، إلا أن يعطف بعض الأحوال على بعض ، ولا يكون حالاً من الذين لهذا المعنى انتهى . وما ذكره من أن ذا الحال إذا لم يكن متعدداً لا يقتضي أكثر من حال واحدة ، مسئلة خلاف فمن النحويين من أجاز ذلك . وقيل : من الذين هادوا بيان ) لِلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ ( لأنهم يهود ونصارى ، وقوله : ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ( وكفى بالله ولياً ) وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً ( ) وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً ( جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض قاله الزمخشر ، وبدأ به . ويضعفه أن هذه جمل ثلاث ، وإذا كان الفارسي قد منع أن يعترض بجملتين ، فأحرى أن يمنع أن يعترض بثلاث .
يحرفون الكلم أي : كلم التوراة ، وهو قول الجمهور . أو كلم القرآن وهو قول طائفة ، أو كلم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو قول ابن عباس . قال : كان اليهود يأتون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويسألونه عن الأمر فيخبرهم ، ويرى أنهم يأخذون بقوله ، فإذا انصرفوا من عنده حرفوا

" صفحة رقم 274 "
الكلام . وكذا قال مكي : إنه كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فتحريف كلم التوراة بتغيير اللفظ ، وهو الأقل لتحريفهم أسمر ربعة في صفته عليه السلام بآدم طوال مكانه ، وتحريفهم الرجم بالحديد له ، وبتغيير التأويل ، وهو الأكثر قاله الطبري . وكانوا يتأوّلون التوراة بغير التأويل الذي تقتضيه معاني ألفاظها الأمور يختارونها ويتوصلون بها إلى موال سفلتهم ، وأن التحريف في كلم القرآن أو كلم الرسول فلا يكون إلا في التأويل .
وقرىء : يحرّفون الكلم بكسر الكاف وسكون اللام ، جمع كلمة تخفيف كلمة . وقرأ النخعي وأبو رجاء : يحرفون الكلام ، وجاء هنا عن مواضعه . وفي المائدة جاء : ) عَن مَّواضِعِهِ ( وجاء ) مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ ).
قال الزمخشري : أما عن مواضعه فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه . وأما من بعد مواضعه : فالمعنى أنه كانت له مواضع هو قمن بان يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره ، والمعنيان متقاربان انتهى . والذي يظهر أنهما سياقان ، فحيث وصفوا بشدة التمرد والطغيان ، وإظهار العداوة ، واشترائهم الضلالة ، ونقض الميثاق ، جاء يحرفون الكلم عن مواضعه . ألا ترى إلى قوله : ) وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ( وقوله : ) فِيمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ ( فكأنهم لم يتركوا الكلم من التحريف عن ما يراد بها ، ولم تستقر في مواضعها ، فيكون التحريف بعد استقرارها ، بل بادروا إلى تحريفها بأول وهلة . وحيث وصفوا ببعض لين وترديد وتحكيم للرسول في بعض الأمر ، جاء من بعد مواضعه . ألا ترى إلى قوله : ) يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ ( وقوله بعد : ) فَانٍ جَاءوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ( فكأنهم لم يبادروا بالتحريف ، بل عرض لهم التحريف بعد استقرار الكلم في مواضعها . وقد يقال : أنهما شيئان ، لكنه حذف هنا . وفي أول المائدة : من بعد مواضعه ، لأن قوله : عن مواضعه يدل على استقرار مواضع له ، وحذف في ثاني المائدة عن مواضعه . لأن التحريف من بعد مواضعه يدل على أنه تحريف عن مواضعه ، فالأصل يحرفون الكلم من بعد مواضعه . فحذف هنا البعدية ، وهناك حذف عنها . كل ذلك توسع في العبارة ، وكانت البداءة هنا بقوله : عن مواضعه ، لأنه أخضر . وفيه تنصيص باللفظ على عن ، وعلى المواضع ، وإشارة إلى البعدية .
( وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ( أي : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك ، أو سمعناه جهراً ، وعصيناه سراً قولان . والظاهر أنهم شافهوا بالجملتين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) مبالغة منهم في عتوهم في الكفر ، وجرياً على عادتهم مع الأنبياء . ألا ترى إلى قوله : ) خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ).
) وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ( هذا الكلام غير موجه ، ويحتمل وجوهاً . والظاهر أنهم أرادوا به الوجه المكروه لسياق ما قبله من قوله : سمعنا وعصينا ، فيكون معناه : اسمع لا سمعت . دعوا عليه بالموت أو بالصمم ، وأرادوا ذلك في الباطن ، وأرادوا في الظاهر تعظيمه بذلك . إذ يحتمل أن يكون المعنى : واسمع غير مأمور وغير صالح أن تسمع مأموراً بذلك . وقال الزمخشري : أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ومعناه : غير مسمع جواباً يوافقك ، فكأنك لم تسمع شيئاً انتهى ، وقاله ابن عباس . قال الزمخشري : أو اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه ، فسمعك عنه ناب . ويجوز على هذا أن يكون غير مسمع مفعول اسمع ، أي : اسمع كلاماً غير مسمع إياك ، لأنّ أذنك لا تعيه نبوّا عنه . ويحتمل المدح أي : اسمع غير مسمع مكروهاً من قولك : أسمع فلان فلاناً إذا سبه . قال ابن عطية : ومن قال : غير مسمع غير مقبول منك ، فإنه لا يساعده التصريف ، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد انتهى . ووجه أن التصريف لا يساعد عليه هو

" صفحة رقم 275 "
أن العرب لا تقول أسمعتك بمعنى قبلت منك ، وإنما تقول : سمعت منك بمعنى قبلت ، فيعبرون عن القبول بالسماع على جهة المجاز ، لا بالأسماع . ولو أريد ما قاله الحسن ومجاهد لكان اللفظ : واسمع غير مسموع منك .
( وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدّينِ ( تقدم تفسير راعنا في قوله تعالى : ) مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ ( أي فتلا بها . وتحريفاً عن الحق إلى الباطل حيث يضعون راعنا مكان انظرنا ، وغير مسمع مكان لا أسمعت مكروهاً . أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً . وانتصاب غير مسمع على الحال من المضمر في اسمع ، وتقدم إعراب الزمخشري إياه مفعولاً في أحد التقادير ، وانتصاب لياً وطعناً على المفعول من أجله .
وقيل : هما مصدران في موضع الحال أي : لاوين وطاعنين . ومعنى : وطعنا في الدين ، أي باللسان . وطعنهم فيه إنكار نبوّته ، وتغيير نعته ، أو عيب أحكام شريعته ، أو تجهيله . وقولهم : لو كان نبياً لدرى أنا نسبه ، أو استخفافهم واعتراضهم وتشكيكهم اتباعه أقوال أربعة . قال ابن عطية : وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل ، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة ، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب انتهى . وهو يحكي عن يهود الأندلس ، وقد شاهدناهم وشاهدنا يهود ديار مصر على هذه الطريقة ، وكأنهم يربون أولادهم الصغار على ذلك ، ويحفظونهم ما يخاطبون به المسلمين مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جاؤا بالقول المحتمل ذي الوجهين ، بعدما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا ؟ ( قلت ) : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ، ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء ، ويحتمل أن يقولوه فيما بينهم ، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ، ولكنهم لما لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطقوا به .
( وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ ( أي : لو تبدّلوا بالعصيان الطاعة ، ومن الطاعة الإيمان بك ، واقتصروا على لفظ اسمع ، وتبدلوا براعنا قولهم : وانظرنا ، فعدلوا عن الألفاظ الدالة على عدم الانقياد ، والموهمة إلى ما أمروا به ، لكان أي : ذلك القول ، خيراً لهم عند الله وأعدل أي : أقوم وأصوب . قال عكرمة ومجاهد وغيرهما : أنظرنا أي انتظرنا بمعنى أفهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك ، كما قال الحطيئة : وقد نظرتكم أثناء صادرة
للخمس طال بها مسحى وابساسي
وقالت فرقة : معناه انظر إلينا ، وكأنه استدعاء اهتبال وتحف منهم . ومنه قول ابن قيس الرقيان :
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن كما تنظر الاراك الظباء
وقرأ أبي : وأنظرنا من الأنظار وهو الإمهال . قال الزمخشري : المعنى ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا لكان قولهم ذلك خيراً لهم وأقوم وأعدل وأسد انتهى . فسبك من أنهم قالوا مصدراً مرتفعاً بثبت على الفاعلية ، وهذا مذهب المبرد خلافاً لسيبويه . إذ يرى سيبويه أنّ أن بعد لو مع ما عملت فيه مقدر باسم مبتدأ ، وهل الخبر محذوف ، أم لا يحتاج إلى تقدير خبر لجريان المسند والمسند إليه في صلة أن ؟ قولان أصحهما هذا . فالزمخشري وافق مذهب المبرد ، وهو مذهب مرجوح في علم النحو .
( وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ( أي : أبعدهم الله عن الهدى بسبب كفرهم السابق . وقال الزمخشري : أي خذلهم بسبب كفرهم وأبعدهم عن ألطافه انتهى . وهذا على طريقة الاعتزالي .
( فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( استثناء من ضمير المفعول في لعنهم أي : إلا قليلاً لم يلعنهم فآمنوا ، أو استثناء من الفاعل في : فلا يؤمنون ،

" صفحة رقم 276 "
أي : إلا قليلاً فآمنوا كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، وغيرهما . أو هو راجع إلى المصدر المفهوم من قوله : فلا يؤمنون أي : إلا إيماناً قليلاً قلله إذ آمنوا بالتوحيد ، وكفروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وبشرائعه . وقال الزمخشري : إلا إيماناً قليلاً أي : ضعيفاً ركيكاً لا يعبأ به ، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره . وأراد بالقلة العدم كقوله : قليل التشكي للهموم تصيبه . أي عديم التشكي .
وقال ابن عطية : من عبر بالقلة عن الإيمان قال : هي عبارة عن عدمه ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قلما تنبت كذا ، وهي لا تنبته جملة . وهذا الذي ذكره الزمخشري وابن عطية من أن التقليل يراد به العدم هو صحيح في نفسه ، لكن ليس هذا التركيب الاستثنائي من تراكيبه . فإذا قلت : لا أقوم إلا قليلاً ، لم يوضع هذا لانتقاء القيام ألبتة ، بل هذا يدل على انتفاء القيام منك إلا قليلاً فيوجد منك . وإذا قلت : قلما يقوم أحد إلا زيد ، وأقل رجل يقول ذلك احتمل هذا ، أن يراد به التقليل المقابل للتكثير ، واحتمل أن يراد به النفي المحض . وكأنك قلت : ما يقوم أحد إلا زيد ، وما رجل يقول ذلك . إمّا أن تنفى ثم توجب ويصير الإيجاب بعد النفي يدل على النفي ، فلا إذ تكون إلا وما بعدها على هذا التقدير ، جيء بها لغواً لا فائدة فيه ، إذ الانتفاء قد فهم من قولك : لا أقوم . فأيُّ فائدة في استثناء مثبت يراد به الانتفاء المفهوم من الجملة السابقة ، وأيضاً ، فإنه يؤدي إلى أنه يكون ما بعد إلا موافقاً لما قبلها في المعنى . وباب الاستثناء لا يكون فيه ما بعد إلا موافقاً لما قبلها ، وظاهر قوله : فلا يؤمنون إلا قليلاً ، إذا جعلناه عائداً إلى الإيمان ، إنّ الإيمان يتجزأ بالقلة والكثرة ، فيزيد وينقص ، والجواب : إن زيادته ونقصه هو بحسب قلة المتعلقات وكثرتها .
وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبديع . قالوا : التجوز بإطلاق الشيء على ما يقاربه في المعنى في قوله : إن الله لا يظلم ، أطلق الظلم على انتقاص الأجر من حيث أن نقصه عن الموعود به قريب في المعنى من الظلم . والتنبيه بما هو أدنى على ما هو أعلى في قوله : مثقال ذرة . والإبهام في قوله : يضاعفها ، إذ لم يبين فيه المضاعفة في الأجر . والسؤال عن المعلوم لتوبيخ السامع ، أو تقريره لنفسه في : فكيف إذا جئنا . والعدول من بناء إلى بناء لمعنى في : بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً . والتجنيس المماثل في : وجئنا وفي : وجئنا وفي : بشهيد وشهيداً . والتجنيس المغاير : في واسمع غير مسمع . والتجوز بإطلاق المحل على الحال فيه في : من الغائط . والكناية في : أو لامستم النساء . والتقديم والتأخير في : إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا إلى قوله : فتيمموا . والاستفهام المراد به التعجب في : ألم تر . والاستعارة في : يشترون الضلالة . والطباق في : هذا أي بالهدى ، والطباق الظاهر في : وعصينا وأطعنا . والتكرار في : وكفى بالله ولياً ، وكفى بالله ، وفي سمعنا وسمعنا . والحذف في عدة مواضع .
( ) يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُون

" صفحة رقم 277 "
َ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَاؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً ( )
النساء : ( 47 ) يا أيها الذين . . . . .
طمس : متعد ولازم . تقول : طمس المطر الأعلام أي محا آثارها ، وطمست الأعلام درست ، وطمس الطريق درس وعفت أعلامه قاله : أبو زيد . ومن المتعدّي : ) وَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ( أي استؤصلت . وقال ابن عرفة في قوله : اطمس على أموالهم أي أذهبها كلية ، وأعمى مطموس أي : مسدود العينين . وقال كعب : من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت
عرضتها طامس الأعلام مجهول
والطمس والطسم والطلس والدرس كلها متقاربة في المعنى . الفتيل : فعيل بمعنى مفعول . فقيل : هو الخيط الذي في شق نواة التمرة . وقيل : ما خرج من الوسخ من بين كفيك وأصبعيك إذا فتلتهما . الجبت : اسم لصنم ثم صار مستعملاً لكل باطل ، ولذلك اختلفت فيه أقاويل المفسرين على ما سيأتي . وقال قطرب : الجبت الجبس ، وهو الذي لا خير عنده ، قلبت السين تاء . قيل : وإنما قال هذا لأن الجبت مهمل . النقير : النقطة التي على ظهر النواة منها تنبت النخلة قاله : ابن عباس . وقال الضحاك : هو البياض الذي في وسطها . النضج : أخذ الشيء في التهري وتفرق أجزائه ، ومنه نضج اللحم ، ونضج الثمرة . يقال : نضج الشيء ينضج نضجاً ونضاجاً . الجلد معروف .
( قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ءامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ ( دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أحبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا إلى الإسلام وقال لهم : ) إِنَّكُمْ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ ( فقالوا : ما نعرف ذلك ، فنزلت . قاله ابن عباس . ومناسبة

" صفحة رقم 278 "
هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما رجاهم بقوله : ) وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ ( الآية . خاطب من يرجى إيمانه منهم بالأمر بالإيمان ، وقرن بالوعيد البالغ على تركه ليكون أدعى لهم إلى الإيمان والتصديق به ، ثم أزال خوفهم من سوء الكبائر السابقة بقوله : ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ( الآية . وأعلمهم أن تزكيتهم أنفسهم بما لم يزكهم به الله لا ينفع .
والذين أوتوا الكتاب هنا اليهود ، والكتاب التوراة قاله : الجمهور ، أو اليهود والنصارى قاله : الماوردي وابن عطية . والكتاب التوراة والإنجيل ، وبما نزلنا هو القرآن بلا خلاف ، ولما معكم من شرع وملة لا لما معهم من مبدل ومغير من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدباها . قرأ الجمهور : نطمس بكسر الميم . وقرأ أبو رجاء : بضمها . وهما لغتان ، والظاهر أن يراد بالوجوه مدلولها الحقيقي ، وأما طمسها فقال ابن عباس وعطية العوفي : هو أن تزال العينان خاصة منها وترد في القفا ، فيكون ذلك رداً على الدبر ويمشي القهقرى . وعلى هذا يكون ذلك على حذف مضاف أي : من قبل أن نطمس عيون وجوه ، ولا يراد بذلك مطلق وجوه ، بل المعنى وجوهكم . وقالت طائفة : طمس الوجوه أن يعفى آثار الحواس منها فترجع كسائر الأعضاء في الخلو من آثار الحواس منها ، والرد على الإدبار هو بالمعنى أي : خلوه من الحواس . دثر الوجه لكونه عابراً بها ، وحسن هذا القول الزمخشري وجوزه وأوضحه ، فقال : إن نطمس وجوهاً أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ، فنردها على أدبارها ، فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الإقفاء مطموسة مثلها . والفاء للتسبيب ، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بالعقابين أحدهما عقيب الآخر ردها على أدبارها بعد طمسها ، فالمعنى : أن نطمس وجوهاً فننكسها الوجوه إلى خلف ، والإقفاء إلى قدام انتهى . والطمس بمعنى المحو الذي ذكره مروي عن ابن عباس ، واختاره القتبي . وقال قتادة والضحاك : معناه نعمى أعينها . وذكر الوجوه وأراد العيون ، لأن الطمس من نعوت العين . قال تعالى : ) فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ). ويروى هذا أيضاً عن ابن عباس . وقال الفراء : طمس الوجوه جعلها منابت للشعر كوجوه القردة . وقيل : ردها إلى صورة بشيعة كوجوه الخنازير والقردة . وقال مجاهد والسدّي والحسن . ذلك تجوز ، والمراد وجوه الهدى والرشد ، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها ، والرد على الإدبار التصيير إلى الكفر . وقال ابن زيد : الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها ، وطمسها إخراجهم منها . والرد على الإدبار رجوعهم إلى الشام من حيث أتوا أولاً . وحسّن الزمخشري هذا القول ، فقال : ووجه آخر وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير ، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة ، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي : من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ، وتكسوها صغارهم وأدبارهم ، أو نردهم إلى حيث جاؤا منه . وهي أذرعات الشام ، يريد إجلاء بني النضير انتهى .
( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ( هو معطوف على قوله : أن نطمس . وظاهر اللعنة هو المتعارف كما في قوله : ) مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ). وقال الحسن : معناه نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت . وقال ابن عطية : هم أصحاب ايلة الذين اعتدوا في السبت بالصيد ، وكانت لعنتهم إن مسخوا خنازير وقردة . وقيل : معناه نهيمهم في التيه حتى يموت أكثرهم .
وظاهر قوله : من قبل أن نطمس أو نلعن ، أنَّ ذلك يكون في الدنيا . ولذلك روي أنَّ عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه فأسلم وقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي . وقال

" صفحة رقم 279 "
مالك : كان إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية ، فوضع كفه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه ، وقال : والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي . وقيل : الطمس المسخ لليهود قبل يوم القيامة ولا بد . وقيل : المراد أنه يحل بهم في القيامة ، فيكون ذلك أنكى لهم لفضيحتهم بين الأوّلين والآخرين ، ويكون ذلك أول ما عجل لهم من العذاب . وهذا إذا حمل طمس الوجوه على الحقيقة ، وإمّا إن أريد بذلك تغيير أحوال وجهائهم أو وجوه الهدى والرشد ، فقد وقع ذلك . وإن كان الطمس غير ذلك فقد حصل اللعن ، فإ نهم ملعونون بكل لسان . وتعليق الإيمان بقبلية أحد أمرين لا يلزم منه وقوعهما ، بل متى وقع أحدهما صح التعليق ، ولا يلزم من ذلك تعيين أحدهما . وقيل : الوعيد مشروط بالإيمان ، وقد آمن منهم ناس . ومن قبل : متعلق بآمنوا ، وعلى أدبارها متعلق بفنردها .
وقال أبو البقاء : على أدبارها حال من ضمير الوجوه ، والضمير المنصوب في نلعنهم .
قيل : عائد على الوجوه إن أريد به الوجهاء ، أو عائد على أصحاب الوجوه ، لأن المعنى : من قبل أن نطمس وجوه قوم ، أو على الذين أوتوا الكتاب على طريق الالتفات ، وهذا عندي أحسن . ومحسن هذا الالتفات هو أنه تعالى لما ناداهم كان ذلك تشريفاً لهم ، وهز السماع ما يلقيه إليهم ، ثم ألقى إليهم الأمر بالإيمان بما نزل ، ثم ذكر أنّ الذي نزل هو مصدق لما معهم من كتاب ، فكان ذلك أدعى إلى الإيمان ، ثم ذكر هذا الوعيد البالغ فحذف المضاف إليه من قوله : من قبل أن نطمس وجوهاً والمعنى : وجوهكم ، ثم عطف عليه قوله : أو نلعنهم ، فأتى بضمير الغيبة ، لأن الخطاب حين كان الوعيد بطمس الوجوه وباللعنة ليس لهم ليبقى التأنيس والهم والاستدعاء إلى الإيمان غير مشوب بمفاجأة الخطاب الذي يوحش السامع ويروع القلب ويصير أدعى إلى عدم القبول ، وهذا من جليل المخاطبة . وبديع المحاورة .
( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ( الأمر هنا واحد الأمور ، واكتفى به لأنه دال على الجنس ، وهو عبارة عن المخلوقات : كالعذاب ، واللعنة ، والمغفرة . وقيل : المراد به المأمور ، مصدر وقع موقع المفعول ، والمعنى : الذي أراده أوجده . وقيل : معناه أنَّ كل أمر أخر تكوينه فهو كائن لا محالة والمعنى : أنه تعالى لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله . وقال : وكان إخباراً عن جريان عادة الله في تهديده الأمم السالفة ، وأنَّ ذلك واقع لا محالة ، فاحترزوا وكونوا على حذر من هذا الوعيد . ولذلك قال الزمخشري : ولا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا يعني : الطمس واللعنة .
النساء : ( 48 ) إن الله لا . . . . .
( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( قال ابن الكلبي : نزلت في وحشي وأصحابه ، وكان جعل له على قتل حمزة رضي الله عنه أن يعتق ، فلم يوف له ، فقدم مكة وندم على الذي صنعه هو وأصحابه ، فكتبوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إنا قد ندمنا على ما صنعنا ، وليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول بمكة : ) وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ ( الآيات وقد دعونا مع الله إلهاً آخر ، وقتلنا النفس التي حرم الله ، وزنينا ، فلولا هذه الآيات لاتبعناك ، فنزلت : ) إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ ( الآيات ، فبعث بها إليهم فكتبوا : إنَّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً ، فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية ، فبعث بها إليهم ، فبعثوا إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته ، فنزلت : ) قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ( الآيات فبعث بها إليهم ، فدخلوا في الإسلام ، فقبل منهم ثم قال لوحشي :
أخبرني كيف قتلت حمزة ) ؟ فلما أخبره قال : ) حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ ( فلحق وحشي بالشام إلى أن مات .
وأجمع المسلمون على تخليد من مات كافراً في النار ، وعلى تخليد من مات مؤمناً لم يذنب قط في الجنة . فأما تائب مات على توبته فالجمهور : على أنه لاحق بالمؤمن الذي لم يذنب ، وطريقة بعض المتكلمين أنه في المشيئة . وأما مذنب مات قبل توبته فالخوارج تقول : هو مخلد في النار

" صفحة رقم 280 "
سواء كان صاحب كبيرة أم صاحب صغيرة . والمرجئة تقول : هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته . والمعتزلة تقول : إن كان صاحب كبيرة خلد في النار . وأما أهل السنة فيقولون : هو في المشيئة ، فإن شاء غفر له وأدخله الجنة من أول وهلة ، وإن شاء عذبه وأخرجه من النار وأدخله الجنة بعد مخلداً فيها .
وسبب هذا الاختلاف تعارض عمومات آيات الوعيد وآيات الوعد ، فالخوارج جعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كافرين ومؤمنين غير تائبين . وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن الذي لم يذنب قط ، أو المذنب التائب . والمرجئة جعلوا آيات الوعيد مخصوصة في الكفار ، وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن تقيهم وعاصيهم . وأهل السنة خصصوا آيات الوعيد بالكفر وبمن سبق في علمه أنه يعذبه من المؤمنين العصاة ، وخصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب ، وبالتائب ، وبمن سبق في علمه العفو عنه من المؤمنين العصاة . والمعتزلة خصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب ، وبالتائب . وآيات الوعيد بالكافر وذي الكبيرة الذي لم يتب .
وهذه الآية هي الحاكمة بالنص في موضع النزاع ، وهي جلت الشك ، وردّت على هذه الطوائف الثلاث . فقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ، والمعنى : أنَّ من مات مشركاً لا يغفر له ، هو أصل مجمع عليه من الطوائف الأربع . وقوله : ويغفر ما دون ذلك ، راد على الخوارج وعلى المعتزلة ، لأن ما دون ذلك عام تدخل فيه الكبائر والصغائر . وقوله : لمن يشاء رادّ على المرجئة ، إذ مدلوله أنَّ غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم على ما شاء تعالى ، بخلاف ما زعموه بأن كل مؤمن مغفور له . وأدلة هؤلاء الطوائف مذكورة في علم أصول الدين . وقد رامت المعتزلة والمرجئة ردّ هذه الآية إلى مقالاتهما بتأويلات لا تصح ، وهي منافية لما دلت عليه الآية .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : قد ثبت أن الله عزّ وعلا يغفر الشرك لمن تاب منه ، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة ، فما وجه قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ؟ ( قلت ) : الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين إلى قوله : لمن يشاء كأنه قيل : إنّ الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك . على أن المراد بالأول مَن لم يتب ، وبالثاني مَن تاب . ونظيره قولك : إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يستأهله انتهى كلامه . فتأول الآية على مذهبه . وقوله : قد ثبت أن الله عز وعلا يغفر الشرك لمن تاب عنه ، هذا مجمع عليه . وقوله : وإنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة . فنقول له : وأين ثبت هذا ؟ وإنما يستدلون بعمومات تحتمل التخصيص ، كاستدلالهم بقوله : ) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً ( الآية ، وقد خصصها ابن عباس بالمستحل ذلك وهو كافر . وقوله : قال : فجزاؤه إن جازاه الله . وقال : الخلود يراد به المكث الطويل لا الديمومة لا إلى نهاية ، وكلام العرب شاهد بذلك . وقوله : إن الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين إلى قوله : لمن يشاء ، إن عنى أنّ الجار يتعلق بالفعلين ، فلا يصح ذلك . وإن عنى أن يقيد الأول بالمشيئة كما قيد الثاني فهو تأويل . والذي يفهم من كلامه أنّ الضمير الفاعل في قوله : يشاء عائد على مِنْ ، لا على الله . لأن المعنى عنده : أنّ الله لا يغفر الشرك لمن يشاء أن لا يغفر له بكونه مات على الشرك غير تائب منه ، ويغفر ما دون الشرك من الكبائر لمن يشاء أن يغفر له بكونه تاب منها . والذي يدل عليه ظاهر الكلام أنه لا قيد في الفعل الأول بالمشيئة ، وإن كانت جميع الكائنات متوقفاً وجودها على مشيئته على مذهبنا . وأنّ الفاعل في يشاء هو عائد على الله تعالى ، لا على من ، والمعنى : ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له . وفي قوله تعالى : لمن يشاء ، ترجئة عظيمة بكون من مات على ذنب غير الشرك لانقطع عليه بالعذاب ، وإن مات مصرّاً .
قال عبد الله بن عمر : كنا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا له أنه من أهل النار ، حتى نزلت هذه الآية ، فأمسكنا عن الشهادات . وفي حديث عبادة بن الصامت في آخره ( ومن أصاب

" صفحة رقم 281 "
شيئاً من ذلك أي من المعاصي التي تقدّم ذكرها فستره عليه ، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ) أخرجه مسلم . ويروى عن علي وغيره من الصحابة : ما في القرآن آية أحب إلينا من هذه الآية . وفي هذه الآية دليل على أن اليهودي يسمى مشركاً في عرف الشرع ، وإلا كان مغايراً للمشرك ، فوجب أن يكون مغفوراً له . ولأن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود ، فاليهود داخلة تحت اسم الشرك . فأما قوله : ) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ ( ثم قال : ) وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( وقوله : ) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ ( ) وَلَمْ يَكُن الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ( فالمغايرة وقعت بحسب المفهوم اللغوي ، والاتحاد بحسب المفهوم الشرعي .
وقد قال الزجاج : كل كافر مشرك ، لأنه إذا كفر مثلاً ة بنبي زعم أنّ هذه الآيات التي أتى بها ليست من عند الله ، فيجعل ما لا يكون إلا لله لغير الله ، فيصير مشركاً بهذا المعنى . فعلى هذا يكون التقدير : إنّ الله لا يغفر كفر من كفر به ، أو بنبي من أنبيائه . والمراد : إذ ألقى الله بذلك ، لأن الإيمان يزيل عنه إطلاق الوصف بما تقدمه من الكفر بإجماع ، ولقوله عليه السلام : ) الإسْلَامِ يُحِبُّ مَا قَبْلِهِ ).
) وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ( أي اختلق وافتعل ما لا يمكن . وسئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أي الذنب أعظم ؟ قال : ( أن تجعل الله نداً وقد خلقك ) .
النساء : ( 49 ) ألم تر إلى . . . . .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ ( ( قال الجمهور : هم اليهود . وقال الحسن وابن زيد : هم النصارى . قال ابن مسعود : يزكي بعضهم بعضاً لتقبل عليهم الملوك وسفلتهم ، ويواصلوهم بالرشا . وقال عطية عن ابن عباس : قالوا آباؤنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ويشفعون لنا . وقال الضحاك والسدي في آخرين : أتى مرحب بن زيد وبحري بن عمرو وجماعة من اليهود إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومعهم أطفالهم فقالوا : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا . فقالوا : نحن كهم ما أذنبنا بالليل يكفر عنا بالنهار ، وما أذنبنا بالنهار يكفر عنا بالليل فنزلت . وقيل : هو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه . وعلى القول بأنهم اليهود والنصارى فتزكيهم أنفسهم . قال عكرمة ، ومجاهد ، وأبو مالك : كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم فيصلون بهم ويقولون : ليست لهم ذنوب ، فإذا صلى بنا المغفور له غفر لنا . وقال قتادة والحسن : هو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ) ( قال الجمهور : هم اليهود . وقال الحسن وابن زيد : هم النصارى . قال ابن مسعود : يزكي بعضهم بعضاً لتقبل عليهم الملوك وسفلتهم ، ويواصلوهم بالرشا . وقال عطية عن ابن عباس : قالوا آباؤنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ويشفعون لنا . وقال الضحاك والسدي في آخرين : أتى مرحب بن زيد وبحري بن عمرو وجماعة من اليهود إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومعهم أطفالهم فقالوا : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا . فقالوا : نحن كهم ما أذنبنا بالليل يكفر عنا بالنهار ، وما أذنبنا بالنهار يكفر عنا بالليل فنزلت . وقيل : هو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه . وعلى القول بأنهم اليهود والنصارى فتزكيهم أنفسهم . قال عكرمة ، ومجاهد ، وأبو مالك : كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم فيصلون بهم ويقولون : ليست لهم ذنوب ، فإذا صلى بنا المغفور له غفر لنا . وقال قتادة والحسن : هو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ) لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( ) كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ( وفي الآية دلالة على الغض ممن يزكي نفسه بلسانه ويصفها بزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله . وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( والله إني لأمين في السماء ، أمين في الأرض ) حين قال له المنافقون : إعدل في القسمة ، أكذاب لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه ، وشتان من شهد الله له بالتزكية ، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم . قاله الزمخشري وفيه بعض تلخيص .
قال الراغب ما ملخصه : التزكية ضربان : بالفعل ، وهو أن يتحرى فعل ما يظهره وبالقول ، وهو الإخبار عنه بذلك ومدحه به . وحظر أن يزكي الإنسان نفسه ، بل أن يزكي غيره ، إلا على وجه مخصوص . فالتزكية إخبار بما ينطوي عليه الإنسان ، ولا يعلم ذلك إلا الله تعالى .
( بَلِ اللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء ( : بل إضراب عن تزكيتهم أنفسهم ، إذ ليسوا أهلاً لذلك . واعلم أنّ المزكي هو الله تعالى ، وأنه تعالى هو المعتد بتزكيته ، إذ هو العالم ببواطن الأشياء والمطلع على خفياتها . ومعنى يزكي من يشاء أي : من يشاء تزكيته بأن جعله طاهراً مطهراً ، فذلك هو الذي يصفه الله تعالى بأنه مزكي .
( وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ( إشارة إلى أقلّ شيء كقوله : ) إِنَّ اللَّهَ لا

" صفحة رقم 282 "
َ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ( فإذا كان تعالى لا يظلم مقدار فتيل ، فكيف يظلم ما هو أكبر منه ؟ وجوزوا أن يعود الضمير في : ولا يظلمون ، إلى الذين يزكون أنفسهم ، وأن يعود إلى من على المعنى ، إذ لو عاد على اللفظ لكان : ولا يظلم وهو أظهر ، لأنه أقرب مذكور ، ولقطع بل ما بعدها عن ما قبلها . وقيل : يعود على المذكورين من زكى نفسه ، ومن يزكيه الله . ولم يذكر ابن عطية غير هذا القول .
وقال الزمخشري : ولا يظلمون أي ، الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم ، أو من يشاء يثابون ولا ينقصون من ثوابهم ونحوه ، فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى انتهى . وقرأ الجمهور : ألم تر بفتح الراء . وقرأ السلمي : بسكونها إجراء للوصل مجرى الوقف . وقيل : هي لغة قوم لا يكتفون بالجزم بحذف لام الفعل ، بل يسكنون بعده عين الفعل . وقرأ الجمهور : ولا يظلمون بالياء . وقرأت طائفة : ولا تظلمون بتاء الخطاب ، وانتصاب فتيلاً . قال ابن عطية : على أنه مفعول ثان ، ويعني على تضمين تظلمون معنى ما يتعدى لاثنين ، والمعنى : مقدار فتيل ، وهو كناية عن أحقر شيء ، وإلى أنه الخيط الذي في شق النواة ذهب ابن عباس وعطاء ومجاهد ، وإلى أنه ما يخرج من بين الأصابع أو الكفين بالفتل ذهب ابن عباس أيضاً . وأبو مالك والسدي ، وإلى أنه نفس الشق ذهب الحسن .
النساء : ( 50 ) انظر كيف يفترون . . . . .
( انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ ( هو خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ولمّا خاطبه أولاً بقوله : ) أَلَمْ تَرَ ( أي ألا تعجب لهؤلاء الذين يزكون أنفسهم ؟ خاطبه ثانياً بالنظر في كيفية افترائهم الكذب على الله ، وأتى بصيغة يفترون الدالة على الملابسة والديمومة ، ولم يخص الكذب في تزكيتهم أنفسهم ، بل عمم في ذلك وفي غيره . وأي ذنب أعظم ممن يفتري على الله الكذب ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ( فمن أظلم ممن كذب على الله .
وكيف : سؤال عن حال ، وانتصابه على الحال ، والعامل فيه يفترون ، والجملة في موضع نصب بانظر ، لأن انظر معلقة . وقال ابن عطية : وكيف يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون ؟ ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في قوله : يفترون انتهى . أما قوله : يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون فصحيح على ما قررناه ، وأما قوله ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في قوله يفترون ، فهذا لم يذهب إليه أحد ، لأنّ كيف ليست من الأسماء التي يجوز الابتداء بها ، وإنما قوله : كيف يفترون على الله الكذب في التركيب نظير كيف يضرب زيد عمراً ، ولو كانت مما يجوز الابتداء بها ما جاز أن يكون مبتدأ في هذا التركيب ، لأنه ذكر أنّ الخبر هي الجملة من قوله : يفترون ، وليس فيها رابط يربط هذه الجملة بالمبتدأ ، وليست الجملة نفس المبتدأ في المعنى ، فلا يحتاج إلى رابط . فهذا الذي قال فيه : ويصح ، هو فاسد على كل تقدير .
( وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً ( تقدّم الكلام في نظير وكفى به . والضمير في به ، عائد على الافتراء ، وهو الذي أنكر عليهم . وقيل : على الكذب . وقال الزمخشري : وكفى بزعمهم لأنه قال : ( كيف يفترون على الله الكذب ) في زعمهم أنهم عند الله أزكياء ، وكفى بزعمهم هذا اثماً مبيناً من بين سائر آثامهم انتهى . فجعل افتراءهم الكذب مخصوصاً بالتزكية ، وذكرنا نحن أنَّه في هذا وفي غيره ، وانتصاب اثماً على التمييز ، ومعنى مبيناً أي : بينا واضحاً لكل أحد .
وقال ابن عطية : وكفى به خبر في ضمنه تعجب وتعجيب من الأمر ، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب أن يكتفي لهم بهذا الكذب اثماً ، ولا يطلب لهم غيره ، إذ هو موبق ومهلك انتهى . وفي ما ذكر من أن الباء دخلت لتدل على معنى الأمر بالتعجب نظر ، وقد أمعنا الكلام في قوله .
( وكفى بالله ولياً ) فيطالع هناك .
النساء : ( 51 ) ألم تر إلى . . . . .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( أجمعوا أنَّها في اليهود . وسبب نزولها أنَّ كعب بن الأشرف ويحيى بن أخطب وجماعة معهما وردوا مكة يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقالوا : أنتم أهل كتاب ، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ، ففعلوا . وقال أبو سفيان : أنحن

" صفحة رقم 283 "
أهدى سبيلاً أم محمد ؟ فقال كعب : ماذا يقول محمد ؟ قالوا : يأمر بعبادة الله وحده ، وينهى عن الشرك . قال : وما دينكم ؟ قالوا : نحن ولاة البيت نسقي الحاج ، ونقرى الضيف ، ونفك العانى ، وذكروا أفعالهم . فقال : أنتم أهدى سبيلاً . وفي بعض ألفاظ هذا السبب خلاف قاله ابن عباس . وقال عكرمة ، خرج كعب في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ، والكتاب هنا التوراة على قول الجمهور ، ويحتمل أن يكون التوراة والأنجيل .
والجبت والطاغوت صنمان كانا لقريش قاله : عكرمة وغيره . أو الجبت هنا حيي ، والطاغوت كعب ، قاله : ابن عباس أيضاً . أو الجبت السحر ، والطاغوت الشيطان ، قاله : مجاهد ، والشعبي وروى عن عمر والجبت الساحر ، والطاغوت الشيطان قاله : زيد بن أسلم . أو الجبت الساحر ، والطاغوت الكاهن ، قاله : رفيع وابن جبير . أو الجبت الكاهن ، والطاغوت الشيطان ، قاله : ابن جبير أيضاً . أو الجبت الكاهن ، والطاغوت الساحر ، قاله : ابن سيرين . أو الجبت الشيطان ، والطاغوت الكاهن قاله : قتادة . أو الجبت كعب ، والطاغوت الشيطان كان في صورة انسان ، أو الجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله ، والطاغوت الشيطان قاله : الزمخشري . أو الجبت والطاغوت كل معبود من دون الله من حجر ، أو صورة ، أو شيطان قاله : الزجاج ، وابن قتيبة .
وأورد بعض المفسرين الخلاف مفرقاً فقال : الجبت السحر قاله : عمر ، ومجاهد ، والشعبي . أو الأصنام رواه عطية عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، والفراء ، أو كعب بن الأشرف . رواه الضحاك ، عن ابن عباس . وليث ، عن مجاهد . أو الكاهن روى عن ابن عباس ، وبه قال : مكحول ، وابن سيرين . أو الشيطان قاله : ابن جبير في رواية ، وقتادة والسدى أو الساحر قاله : أبو العالية وابن زيد . وروى أبو بشر عن ابن جبير قال : الجبت الساحر بلسان الحبشة ، وأما الطاغوت فالشيطان قاله : عمر ، ومجاهد في رواية الشعبي وابن زيد . أو المترجمون بين يدى الأصنام رواه العوفى عن ابن عباس ، أو كعب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال : الضحاك ، والفرّاء . أو الكاهن قاله عكرمة أو الساحر ، روى عن ابن عباس ، وابن سيرين ، ومكحول ، أو كل ما عبد من دون الله قاله : مالك . وقال قوم : الجبت والطاغوت مترادفان على معنى واحد ، والجمهور وأقوال المفسرين على خلاف ذلك ، وأنهما اثنان . وقد جعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الكلام على المغيبات جبتاً لكون علم الغيب يختص بالله تعالى . خرج أبو داود في سننه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( الطرق والطيرة والعيافة من الجبت ) الطرق الزجر ، والعيافة الخط . فان الجبت والطاغوت الأصنام أو ما عبد من دون الله ، فالإيمان بهما التصديق بأنهما آلهة يشركونهما في العبادة مع الله ، وان كان حيياً ، وكعباً ، أو جماعة من اليهود ، أو الساحر ، أو الكاهن ، أو الشيطان ، فالإيمان بهم عبارة عن طاعتهم وموافقتهم على ما هم عليه ، ويكون من باب اطلاق ثمرة الإيمان وهي الطاعة على الإيمان .
( وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً ( الضمير في يقولون عائد على الذين أوتوا . وفي سبب النزول ان كعباً هو قائل هذه المقالة ، والجملة من يؤمنون حال ، ويقولون معطوف على يؤمنون فهي حال . ويحتمل أنْ يكون استئناف أخبار تبين التعجب منهم كأنه قال : ألا تعجب إلى حال الذين أوتوا نصيباً ، فكأنه قيل : وما حالهم وهم قد أوتوا نصيباً من كتاب الله ؟ فقال : يؤمنون بكذا ، يقولون كذا . أي : أن أحوالهم متنافية . فكونهم أوتوا نصيباً من الكتاب يقتضي لهم أن لا يقعوا فيما وقعوا فيه ، ولكن الحامل لهم على ذلك هو الحسد . واللام في للذين كفروا للتبليغ

" صفحة رقم 284 "
متعلقة بيقولون . والذين كفروا هم قريش ، والإشارة بهؤلاء إليهم ، والذين آمنوا هم النبي وأمته . والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه ، أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم .
النساء : ( 52 ) أولئك الذين لعنهم . . . . .
( أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ( اشارة إلى مَنْ آمن بالجبت والطاغوت وقال تلك المقالة ، أبعدهم الله تعالى ومقتهم .
( وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ( أي من ينصره ويمنعه من آثار اللعنة وهو العذاب العظيم .
النساء : ( 53 ) أم لهم نصيب . . . . .
( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الْمُلْكِ ( أم هنا منقطعة التقدير : بل ألهم نصيب من الملك انتقل من الكلام إلى كلام تام ، واستفهم على الانكار أن يكون لهم نصيب من الملك . وحكى ابن قتيبة أنَّ أم يستفهم بها ابتداء . وقال بعض المفسرين . أم هنا بمعنى بل ، وفسروا على سبيل الاخبار أنهم ملوك أهل الدنيا وعتو وتنعم لا يبغون غير ذلك ، فهم بخلاء حريصون على أن . لا يكون ظهور لغيرهم . والمعنى على القول الأوّل : ألهم نصيب من الملك ؟ فلو كان لهم نصيب من الملك لبخلوا به . والملك ملك أهل الدنيا ، وهو الظاهر . أو ملك الله لقوله : ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق ) وقيل : المال ، لأنه به ينال الملك وهو أساسه . وقيل : استحقاق الطاعة . وقيل : النبوة . وقيل : صدق الفراسة ذكره الماوردي . والأفصح إلغاء اذن بعد حرف العطف الواو والفاء ، وعليه أكثر القرّاء .
وقرأ عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس : لا يؤنوا بحذف النون على إعمال اذن . والناس هنا العرب ، أو المؤمنون ، أو النبي ، أو من اليهود وغيرهم أقوال . والنقير : النقطة في ظهر النواة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعطاء ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، والسدى ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة في آخرين . وقيل : القشر يكون في وسط النواة ، رواه التميمي عن ابن عباس . أو الخيط في وسط النواة ، روى عن مجاهد ، أو نقر الرجل الشيء بطرف إبهامه رواه أبو العالية عن ابن عباس . أو حبة النواة التي في وسطها رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد . وقال الأزهري : الفتيل والنقير ، والقطمير ، يضرب مثلاً للشيء التافة الحقير ، وخصت الأشياء الحقيرة بقوله : ( فتيلاً في قوله : ولا يظلمون فتيلا ) وهنا بقوله نقيراً الوفاق النظير من الفواصل .
النساء : ( 54 ) أم يحسدون الناس . . . . .
( أم يحسدون الناس على مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( أم أيضاً منقطعة فتقدّر ببل . والهمزة قبل : للانتقال من كلام إلى كلام ، والهمزة للاستفهام الذي يصحبه الانكار . أنكر عليهم أولاً البخل ، ثم ثانياً الحسد . فالبخل منع وصول خير من الإنسان إلى غيره ، والحسد تمنّى زوال ما أعطى الله الانسان من الخير وايتاؤه له . نعى الله تعالى عليهم تحليهم بهاتين الخصلتين الذميمتين ، ولمّا كان الحسد شر الخصلتين ترقي إلى ذكره بعد ذكر البخل . والناس هنا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والفضل النبوة ، قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، والضحاك ، ومقاتل .
وقال ابن عباس ، والسدي أيضاً : والفضل ما أبيح له من النساء . وسبب نزول الآية عندهم أنّ اليهود قالت لكفار العرب : انظروا إلى هذا الذي يقول أنه بعث بالتواضع ، وأنه لا يملأ بطنه طعاماً ، ليس همه إلا في النساء ونحو هذا ، فنزلت . والمعنى : لم تخصونه بالحسد ، ولا تحسدون آل إبراهيم يعني : سليمان وداود في أنهما أعطيا النبوة والكتاب ، وأعطيا مع ذلك ملكاً عظيماً في أمر النساء ، وهو ما روى أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية ، ولداود مائة امرأة . فالملك في هذه القول إباحة النساء ، كأنه المقصود أولاً بالذكر . وقال قتادة : الناس هنا العرب حسدتها بنو إسرائيل ان كان الرسول منها ، والفضل هنا الرسول . والمعنى : لم يحسدون العرب على هذا النبي وقد أوتى أسلافهم أنبياء . وكتبا كالتوراة والزبور ، وحكمة وهي الفهم في الدين ما لم ينص عليه الكتاب ؟ وروى عن ابن عباس أنه قال : نحن الناس يريد قريشاً .
( فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة

" صفحة رقم 285 "
وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ( أي ملك سليمان قاله : ابن عباس . وقال مجاهد : هو النبوّة . وقال همام بن الحرث وأبو مسلمة وابن زيد هو التأييد بالملائكة . وقيل : الناس هنا الرسول ، وأبو بكر ، وعمر . والكتاب : التوراة والإنجيل أو هما ، والزبور أقوال ، والحكمة النبوّة قاله : السدي ومقاتل . أو الفقه في الدين قاله أبو سليمان الدمشقي . وقيل : الملك العظيم هو الجمع بين سياسة الدنيا وشرع الدين ذكره الماوردي . وقال الزمخشري : أم يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم ، فقد آتينا الزام لهم بما عرفوه من ايتاء الله لكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتى أسلافه . وعن ابن عباس : الملك في آل إبراهيم ملك يوسف ، وداود ، وسليمان ، انتهى كلامه . وهو كلام حسن .
النساء : ( 55 ) فمنهم من آمن . . . . .
( فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ ( أي : من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ، ومنهم من كفر كقوله : ( فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ) قاله السدي : أو فمن آل إبراهيم من آمن بالكتاب ، أو فمن اليهود المخاطبين بقوله : ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا ) من آمن به أي بالقرآن ، وهو المأمور بالإيمان به في قوله : بما نزلنا قاله مجاهد ، ومقاتل ، والفراء ، والجمهور ولذلك ارتفع الطمس ولم يقع . أو فمن اليهود من آمن بالفضل الذي أوتيه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أو العرب على ما تقدّم . أو فمن اليهود من آمن به ، أي بما ذكر من حديث آل إبراهيم . أو فمن اليهود من آمن برسول الله ، ومنهم مَنْ أنكر نبوّته . والظاهر أنه تعالى لما أنكر على اليهود حسدهم الناس على فضل الله الذي آتاهم ، أتى بما بعده على سبيل الاستطراد والنظر والاستدلال عليهم بأنه لا ينبغي لكم أن تحسدوا فقد جاز أسلافكم من الشرف ما ينبغي أن لا تحسدوا أحداً .
وتضمنت هذه الآية تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في كونهم يحسدونه ولا يتبعونه ، فذكر أنَّهم أيضاً مع أسلافهم وأنبيائهم انقسموا إلى مؤمن وكافر ، هذا وهم أسلافهم فكيف بنبي ليس هو منهم ؟ .
وقرأ ابن مسعود وابن عباس ، وابن جبير ، وعكرمة ، وابن يعمر ، والجحدري : ومن صد عنه برفع الصاد مبنياً للمفعول . وقرأ أبي وأبو الحوراء وأبو رجاء والحوقي ، بكسر الصاد مبنياً للمفعول . والمضاعف المدغم الثلاثي يجوز فيه إذا بني للمفعول ما جاز في باع إذا بني للمفعول ، فتقول : حب زيد بالضم ، وحب بالكسر . ويجوز الاشمام . والصد ليس مقابلاً للإيمان إلا من حيث المعنى ، وكان المعنى والله أعلم : فمنهم من آمن به واتبعه ، ومنهم من كذب به وصد عنه .
( وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ( أي احتراقاً والتهاباً أي لمن صدّ عنه . وسعيراً يميز وهو شدة توقد النار . والتقدير : وكفى بسعير جهنم سعيراً ، وهو كناية عن شدة العذاب والعقوبة .
النساء : ( 56 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً ( لما ذكر قوله : ومنهم من صد عنه ، وكفى بجهنم سعيراً أتبع ذلك بما أعد الله للكافرين بآياته ، ثم بعد يتبع بما أعد للمؤمنين ، وصار نظير وتسود وجوه ، ( فأما الذين اسودت وجوههم ) . وقرأ الجمهور نصليهم من أصلى . وقرأ حميد : نصليهم من صليت . وقرأ سلام ويعقوب : نصليهم بضم الهاء .
( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ( انتصاب على كل الظرف لأنه مضاف إلى ما المصدرية الظرفية ، والعامل فيه بدلناهم ، وهي جملة فيها معنى الشرط ، وهي في موضع الحال ، والعامل فيها نصليهم . والتبديل على معنيين : تبديل في الصفات مع بقاء العين ، وتبديل في الذوات بأن تذهب العين وتجيء مكانها عين أخرى ، يقال : هذا بدل هذا . والظاهر في الآية هذا المعنى الثاني . وأنه إذا نضج ذلك الجلد وتهري وتلاشى جيء بجلد آخر مكانه ، ولهذا قال : جلوداً غيرها . قال السدي : إن الجلود تخلق من اللحم ، فإذا أحرق جلد بدله الله من

" صفحة رقم 286 "
لحم الكافر جلداً آخر . وقيل : هي بعينها تعاد بعد إحراقها ، كما تعاد الأجساد بعد البلى في القبور ، فيكون ذلك عائداً إلى الصفة ، لا إلى الذات . وقال الفضيل : يجعل النضج غير نضيج . وقيل : تبدل كل يوم سبع مرات . وقال الحسن : سبعين . وأبعد من ذهب إلى أن الجلود هي سرابيل من قطران تخالط جلودهم مخالطة لا يمكن إزالتها . فيبدل الله تلك السرابيل كل يوم مائة مرة . أو كما قيل : مائة ألف مرة . وسميت جلوداً لملابستها الجلود . وأبعد أيضاً من ذهب إلى أن هذا استعاره عن الدوام ، كلما انتهى فقد ابتدأ من أوله ، يعني : كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة ، بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا ، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه . وقال ابن عباس : يلبسهم الله جلوداً بيضاء كأنها قراطيس . وقال عبد العزيز بن يحيى : يلبس أهل النار جلوداً تؤلمهم ولا تؤلم هي .
( لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ ( أي ذلك التبديل كلما نضجت الجلود ، هو ليذوقوا ألم العذاب . وأتى بلفظ الذوق المشعر بالإحساس الأول وهو آلم ، فجعل كلما وقع التبديل كان لذوق العذاب بخلاف من تمرن على العذاب . وقال الزمخشري : ليذوقوا العذاب ليدوم لهم دونه ولا ينقطع ، كقولك للعزيز : أعزك الله أي أدامك على عزك ، وزادك فيه .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً ( أي عزيزاً لا يغالب ، حكيماً يضع الأشياء مواضعها . وقال الزمخشري : عزيز لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين ، حكيماً لا يعذب إلا بعدل من يستحقه .
2 ( ) وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ( ) ) 2
النساء : ( 57 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
( وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ( لما ذكر تعالى وعيد الكفار أعقب بوعد المؤمنين ، وجاءت جملة الكفار مؤكدة بأن على سبيل تحقيق الوعيد المؤكد ، ولم يحتج إلى ذلك في جملة المؤمنين ، وأتى فيها بالسين المشعرة بقصر مدة التنفيس على سبيل تقريب الخير من المؤمن وتبشيره به .
( لَّهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَةٌ ( تقدم تفسير مثل هذا .
( وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ( قال ابن عطية : أي يقي من الحر والبرد . ويصح أن يريد أنه ظل لا ينتقل ، كما يفعل ظل الدنيا فأكده بقوله : ظليلاً لذلك ويصح أن يصفه بظليل لامتداده ، فقد قال عليه السلام : ( إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها ) انتهى كلامه . وقال أبو مسلم الظليل : هو القوي المتمكن . قال : ونعت الشيء بمثل ما اشتق من لفظه يكون مبالغة كقولهم : ليل أليل ، وداهية دهياء . وقال أبو عبد الله الرازي : وإنما قال ظل ظليلاً لأن بلاد العرب في غاية الحرارة ، فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة ، ولهذا المعنى جعل كناية عن الراحة ووصفه بالظليل مبالغة في الراحة . وقال الزمخشري : ظليل صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه ، كما يقال : ليل أليل ، ويوم أيوم ، وما أشبه ذلك وهو ما كان فينانا لا جوب فيه ، ودائماً لا تنسخه الشمس . وسجسجا لا حرّ فيه ولا برد ، وليس ذلك إلا ظل الجنة رزقنا الله بتوفيقه ما

" صفحة رقم 287 "
يزلف إليه التقيؤ تحت ذلك الظل . وفي قراءة عبد الله : سيدخلهم بالياء انتهى . وقال الحسن : قد يكون ظل ليس بظليل يدخله الحر والشمس ، فلذلك وصف ظل الجنة بأنه ظليل . وعن الحسن : ظل أهل الجنة يقي الحر والسموم ، وظل أهل النار من يحموم لا بارد ولا كريم . ويقال : إنّ أوقات الجنة كلها سواء اعتدال ، لا حر فيها ولا برد . وقرأ النخعي وابن وثاب : سيدخلهم بالياء ، وكذا ويدخلهم ظلاً ، فمن قرأ بالنون وهم الجمهور فلاحظ قوله في وعيد الكفار : ) سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ( ومن قرأ بالياء لاحظ قوله : ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً ( فأجراه على الغيبة .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع . الاستفهام الذي يراد به التعجب في : ألم تر في الموضعين . والخطاب العام ويراد به الخاص في : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا وهو دعاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ابن صوريا وكعباً وغيرهما من الأحبار إلى الإيمان حسب ما في سبب النزول . والاستعارة في قوله : من قبل أن نطمس وجوهاً ، في قول من قال : هو الصرف عن الحق ، وفي : ليذوقوا العذاب ، أطلق اسم الذوق الذي هو مختص بحاسة اللسان وسقف الحلق على وصول الألم للقلب . والطباق في : فتردّها على أدبارها ، والوجه ضد القفا ، وفي للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا ، وفي : إن الذين كفروا والذين آمنوا ، وفي : من آمن ومن صدّ ، وهذا طباق معنوي . والاستطراد في : أو نلعنهم كما لعن أصحاب السبت . والتكرار في : يغفر ، وفي : لفظ الجلالة ، وفي : لفظ الناس ، وفي : آتينا وآتيناهم ، وفي : فمنهم ومنهم ، وفي : جلودهم وجلوداً ، وفي : سندخلهم وندخلهم . والتجنيس المماثل في : نلعنهم كما لعنا وفي : لا يغفر ويغفر ، وفي : لعنهم الله ومن يلعن الله ، وفي : لا يؤتون ما آتاهم آتينا وآتيناهم وفي : يؤمنون بالجبت وآمنوا أهدى . والتعجب : بلفظ الأمر في قوله : انظر كيف يفترون . وتلوين الخطاب في : يفترون أقام المضارع مقام الماضي إعلاماً أنهم مستمرون على ذلك . والاستفهام الذي معناه التوبيخ والتقريع في : أم لهم نصيب وفي : أم يحسدون . والإشارة في : أولئك الذين . والتقسيم في : فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه . والتعريض في : فإذن لا يؤتون الناس نقيراً عرض بشدة بخلهم . وإطلاق الجمع على الواحد في : أم يحسدون الناس إذا فسر بالرسول ، وإقامة المنكر مقام المعرف لملاحظة الشيوع . والكثرة في : سوف نصليهم ناراً . والاختصاص في : عزيزاً حكيماً . والحذف في : مواضع .
( ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحَمَانَاتِ إِلَىأَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاٌّ مْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم

" صفحة رقم 288 "
ْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَائِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِىأَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ( )
النساء : ( 58 ) إن الله يأمركم . . . . .
الزعم : قول يقترن به الإعتقاد الظني . وهو بضم الزاي وفتحها وكسرها . قال الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي : فإن تزعميني كنت أجهل فيكم
فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
وقال ابن دريد : أكثر ما يقع على الباطل . وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( مطية الرجل زعموا ) . وقال الأعشى : ونبئت قيساً ولم أبله
كما زعموا خير أهل اليمن
فقال الممدوح وما هو إلا الزعم وحرمه . وإذا قال سيبويه : زعم الخليل ، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به ، وكان أقوى . وذكر صاحب العين : أنَّ الأحسن في زعم أنْ توقع على أنْ قال ، قال . وقد توقع في الشعر على الاسم . وأنشد بيت أبي ذؤيب هذا وقول الآخر : زعمتني شيخاً ولست بشيخ
إنما الشيخ من يدب دبيبا
ويقال : زعم بمعنى كفل ، وبمعنى رأس ، فيتعدى إلى مفعول واحد مرة ، وبحرف جر أخرى . ويقال : زعمت الشاة أي سمنت ، وبمعنى هزلت ، ولا يتعدى . التوفيق : مصدر وفق ، والوفاق والوفق ضد المخالفة .
( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ( سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وقاله : مجاهد والزهري وابن جريج ومقاتل ما ذكروا في قصة مطولة مضمونها : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أخذ مفتاح الكعبة من سادنيها عثمان بن طلحة ، وابن عمه شيبة بن عثمان بعد تأب منن عثمان ولم يكن أسلم ، فسأل العباس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يجمع له بين السقاية والسدانة ، فنزلت . فرد المفتاح إليهما وأسلم عثمان . وقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( خذوها ابني طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم ) . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقاله : زيد بن أسلم ،

" صفحة رقم 289 "
ومكحول ، واختاره أبو سليمان الدمشقي : نزلت في الأمراء أن يؤدوا الأمانة فيما ائتمنهم الله من أمر رعيته . وقيل : نزلت عامة ، وهو مروي عن : أبي ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين ، وذكر عمل الصالحات ، نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة ، فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أذاء الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى ، وهو من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين . ولما كان الترتيب الصحيح أنْ يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ، ثم يشتغل بحال غيره ، أمر بأداء الأمانة أولاً ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق . والظاهر في : يأمركم أنّ الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة .
وقال ابن جريج : خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في شأن مفتاح الكعبة . وقال علي ، وابن أسلم ، وشهر ، وابن زيد : خطاب لولاة المسلمين خاصة ، فهو للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمرائه ، ثم يتناول مَن بعدهم . وقال ابن عباس : في الولاة أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ، ويردوهنّ إلى الأزواج . وقيل : خطاب لليهود أمروا برد ما عندهم من الأمانة ، من نعتِ الرسول أنْ يظهروه لأهله ، إذ الخطاب معهم قبل هذه الآية . ونقل التبريزي : أنها خطاب لأمراء السرايا بحفظ الغنائم ووضعها في أهلها . وقيل : ذلك عام فيما كلفه العبد من العبادات . والأظهر ما قدمناه من أنّ الخطاب عام يتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ، ورد الظلامات ، وعدل الحكومات . ومنه دونهم من الناس في الودائع ، والعواري ، والشهادات ، والرجل يحكم في نازلة . قال ابن عباس : لم يرخص الله لموسر ولا معسر أنْ يمسك الأمانة .
وقرىء : أن تؤدّوا الأمانة على التوحيد ، وأن تحكموا ، ظاهره : أن يكون معطوفاً على أن تؤدّوا ، وفصل بين حرف العطف والمعطوف بإذا . وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحابنا وجعله كقوله : ) رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاْخِرَةِ حَسَنَةً ( ) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً ( ) سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الاْرْضِ مِثْلَهُنَّ ( ففصل في هذه الآية بين الواو والمعطوف بالمجرور . وأبو عليّ يخص هذا بالشعر ، وليس بصواب . فإن كان المعطوف مجروراً أعيد الجار نحو : امرر بزيد وغداً بعمرو . ولكنَّ قوله : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا ، ليس من هذه الآيات ، لأن حرف الجر يتعلق في هذه الآيات بالعامل في المعطوف ، والظرف هنا ظاهره أنه منصوب بأن تحكموا ، ولا يمكن ذلك لأن الفعل في صلة أن ، ولا يمكن أن ينتصب بالناصب لأنْ تحكموا لأنّ الأمر ليس واقعاً وقت الحكم . وقد خرجه على هذا بعضهم . والذي يظهر أنّ إذاً معمولة لأنْ تحكموا مقدرة ، وأنْ تحكموا المذكورة مفسرة لتلك المقدرة ، هذا إذا فرغنا على قول الجمهور . وأما إذا قلنا بمذهب الفرّاء فإذا منصوبة بأن تحكموا هذه الملفوظ بها ، لأنه يجير : يعجبني العسل أن يشرب ، فتقدم معمول صلة أنْ عليها .
( إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ( أصله : معم ما ، وما معرفة تامة على مذهب سيبويه والكسائي . كأنه قال : نعم الشيء يعظكم به ، أي شيء يعظكم به . ويعظكم صفة لشيء ، وشيء هو المخصوص بالمدح وموصولة على مذهب الفارسي في أحد قوليه . والمخصوص محذوف التقدير : نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل ، ونكرة في موضع نصب على التمييز و يعظكم صفة له على مذهب الفارسي في أحد قوليه ، والمخصوص محذوف تقديره كتقدير ما قبله . وقد تأولت ما هنا على كل هذه الأقوال ، وتحقيق ذلك في علم النحو . وقال ابن عطية : وما المردفة على نعم إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في ربما ، ومما في قوله : وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مما يحرك شفتيه وكقول الشاعر

" صفحة رقم 290 "
وإنا لمما نضرب الكبشر ضربة
على رأسه تلقى اللسان من الفم
ونحوه . وفي هذا هي بمنزلة ربما ، وهي لها مخالفة في المعنى : لأنّ ربما معناها التقليل ، ومما معناها التكثير . ومع أن ما موطئه ، فهي بمعنى الذي . وما وطأت إلا وهي اسم ، ولكنّ القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل انتهى كلامه . وهو كلام متهافت ، لأنه من حيث جعلها موطئة مهيئة لا تكون اسماً ، ومن حيث جعلها بمعنى الذي لا تكون مهيئة موطئة فتدافعا . وقرأ الجمهور : نعماً بكسر العين اتباعاً لحركة العين . وقرأ بعض القراء : نعماً بفتح النون على الأصل ، إذ الأصل نعم على وزن شهد . ونسب إلى أبي عمرو سكون العين ، فيكون جمعاً بين ساكنين .
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً ( أي لأقوالكم الصادرة منكم في الأحكام .
( بَصِيراً ( بردّ الأمانات إلى أهلها .
النساء : ( 59 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ ( قيل : نزلت في أمراء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وذكروا قصةً طويلة مضمونها : أنَّ عماراً أجار رجلاً قد أسلم ، وفر أصحابه حين أنذروا بالسرة فهربوا ، وأقام الرجل وإنّ أميرها خالداً أخذ الرجل وماله ، فأخبره عمار بإسلامه وإجارته إياه فقال خالد : وأنت تجيز ؟ فاستبا وارتفعا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير على أمير .
ومناسبتها لما قبلها أنه لما أمر الولاة أن يحكموا بالعدل أمر الرعية بطاعتهم ، قال عطاء : أطيعوا الله في فريضته ، والرسول في سنته . وقال ابن زيد : في أوامره ونواهيه ، والرسول ما دام حياً ، وسنته بعد وفاته . وقيل : فيما شرع ، والرسول فيما شرح . وقال ابن عباس ، وأبو هريرة ، والسدي ، وابن زيد : أولو الأمر هم الأمراء . وقال مجاهد : أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال التبريزي : المهاجرون والأنصار . وقيل : الصحابة والتابعون . وقيل : الخلفاء الأربع . وقال عكرمة : أبو بكر وعمر . وقال جابر ، والحسن ، وعطاء ، وأبو العالية ، ومجاهد أيضاً : العلماء ، واختاره مالك . وقال ميمون ، ومقاتل ، والكلبي ، أمراء السرايا ، أو الأئمة من أهل البيت قاله : الشيعة . أو عليّ وحده قالوه أيضاً . والظاهر أنه كل مَن ولي أمر شيء ولاية صحيحة . قالوا : حتى المرأة يجب عليها طاعة زوجها ، والعبد مع سيده ، والولد مع والديه ، واليتيم مع وصية فيما يرضى الله وله فيه مصلحة .
وقال الزمخشري : والمراد ، بأولي الأمر منكم ، أمراء الحق ، لأن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم ، فلا يعطفون على الله ورسوله . وكان أول الخلفاء يقول : أطيعوني ما عدلت فيكم ، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم . وعن أبي حازم : أن مسلمة بن عبد الملك قال له : ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله وأولي الأمر منكم ؟ قال : أليس قد نزعت منكم إذ خالفتم الحق بقوله : ) فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ). وقيل : هم أمراء السرايا . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع أميري فقد أطاعني ، ومن يعص أميري فقد عصاني ) وقيل : هم العلماء الدّينون الذين يعلمون الناس الدّين ، يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر انتهى . وقال سهل التستري : أطيعوا السلطان في سبعة : ضرب الدنانير ، والدراهم ، والمكاييل ، والأوزان ، والأحكام ، والحج ، والجمعة ، والعيدين ، والجهاد . وإذا نهى السلطان العالم أن يفتى فليس له أن يفتى ، فإنْ أفتى فهو عاص وإنْ كان أميراً جائراً . قيل : ويحمل قول سهل على أنه يترك الفتيا إذا خاف منه على نفسه .

" صفحة رقم 291 "
وقال ابن خويز منداد : وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان فيه طاعة ، ولا تجب فيما كان فيه معصية . قال : ولذلك قلنا : أن أمراء زماننا لا تجوز طاعتهم ، ولا معاونتهم ، ولا تعظيمهم ، ويجب الغزو معهم متى غزوا ، والحكم من قبلهم ، وتولية الإمامة والحسبة ، وإقامة ذلك على وجه الشريعة . فإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم ، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أنْ يخافوا فتصلى معهم تقية ، وتعاد الصلاة فيما بعد . انتهى .
واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول من قال : بإمام معصوم بقوله : وأولي الأمر منكم . فإنّ الأمراء والفقهاء يجوز عليهم الغلط والسهو ، وقد أمرنا بطاعتهم . ومَن شرط الإمام العصمة فلا يجوز ذلك عليه ، ولا يجوز أن يكون المراد الإمام لأنه قال في نسق الخطاب : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ، فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجباً ، وكان هو يقطع التنازع ، فلما أمر برد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة دون الإمام ، دلّ على بطلان الإمامة . وتأويلهم : أنّ أولى الأمر عليّ رضي الله عنه فاسد ، لأنّ أولي الأمر جمع ، وعليّ واحد . وكان الناس مأمورين بطاعة أولي الأمر في حياة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعليّ لم يكن إماماً في حياته ، فثبت أنهم كانوا أمراء ، وعلى المولى عليهم طاعتهم ما لم يأمروا بمعصية . فكذلك بعد موتهم في لزوم اتباعهم طاعتهم ما لم تكن معصية . وقال أبو عبد الله الرازي : وأولي الأمر منكم إشارة إلى الإجماع ، والدليل عليه أنه أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر بطاعته على الجزم والقطع لا بد أن يكون معصوماً عن الخطأ ، وإلاّ لكان بتقدير إقدامه على الخطأ مأموراً باتباعه ، والخطأ منهى عنه ، فيؤدّي إلى اجتماع الأمر والنهي في فعل واحد باعتبار واحد ، وأنه محال . وليس أحد معصوماً بعد الرسول إلا جمع الأمة أهل العقد والحلّ ، وموجب ذلك أنّ إجماع الأمة حجة .
( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ( قال مجاهد ، وقتادة ، والسدي ، والأعمش ، وميمون بن مهران : فردوه إلى كتاب الله ، وسؤال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في حياته ، وإلى سنته بعد وفاته . وقال قوم منهم الأصم : معناه قولوا : الله ورسوله أعلم . وقال الزمخشري : فإن اختلفتم أنتم وأولوا الأمر في شيء من أمور الذين فردوه ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة انتهى . وقد استدل نفاة القياس ومثبتوه بقوله : فردوه إلى الله ورسوله ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الفقه .
( إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( شرط وجوابه محذوف ، أي : فردوه إلى الله والرسول . وهو شرط يراد به الحض على اتباع الحق ، لأنه ناداهم أولاً بيا أيها الذين آمنوا ، فصار نصير : إن كنت ابني فأطعني . وفيه إشعار بوعيد من لم يرد إلى الله والرسول .
( ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ( ذلك الرد إلى الكتاب والسنة ، أو إلى أن تقولوا : الله ورسوله أعلم . وقال قتادة ، والسدي ، وابن زيد : أحسن عاقبة . وقال مجاهد : أحسن جزاء . وقيل : أحسن تأويلاً من تأويلكم أنتم . وقالت فرقة : المعنى : أن الله ورسوله أحسن نظراً وتأويلاً منكم إذا انفردتم بتأويلكم .
النساء : ( 60 ) ألم تر إلى . . . . .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ ( ذكر في سبب نزولها قصص طويل ملخصه : أنّ أبا بردة الأسلمي كان كاهناً يقضي بين اليهود ، فتنافر إليه نفر من أسلم ، أو أنّ قيساً الأنصاري أحد مَن يدعي الإسلام ورجلاً من اليهود تداعيا إلى الكاهن وتركا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعدما دعا اليهودي إلى الرسول ، والأنصاري يأبى إلا الكاهن . أو أنّ منافقاً ويهودياً اختصما ، فاختار اليهودي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، واختار المنافق كعب بن الأشرف ، فأبى اليهودي ، ونجاكما إلى الرسول ، فقضى لليهودي ، فخرجا ولزمه المنافق ، وقال : ننطلق إلى عمر ، فانطلقا إليه فقال اليهودي : قد تحاكمنا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) )

" صفحة رقم 292 "
فلم يرض بقضائه ، فأقرّ المنافق بذلك عند عمر ، فقتله عمر وقال : هكذا أقضي فيمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأنه تعالى لما أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر ، ذكر أنه يعجب بعد ورود هذا الأمر من حال مَن يدَّعي الإيمان ويريد أن يتحاكم إلى الطاغوت ويترك الرسول . وظاهر الآية يقتضي أن تكون نزلت في المنافقين ، لأنه قال : يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، فلو كانت في يهود أو في مؤمن ويهودي كان ذلك بعيداً من لفظ الآية ، إلا إنْ حمل على التوزيع ، فيجعل بما أنزل إليك في منافق ، وما أنزل من قبلك في يهودي ، وشملوا في ضمير يزعمون فيمكن . وقال السدي : نزلت في المنافقين من قريظة والنضير ، تفاخروا بسبب تكافؤ دمائهم ، إذ كانت النضير في الجاهلية تدي من قتلت وتستقيه إذا قتلت قريظة منهم ، فأبت قريظة لما جاء الإسلام ، وطلبوا المنافرة ، فدعا المؤمنون منهم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ودعا المنافقون إلى بردة الكاهن ، فنزلت . وقال الحسن : احتكم المنافقون بالقداح التي يضرب بها عند الأوثان فنزلت . أو لسبب اختلافهم في أسباب النزول اختلفوا في الطاغوت . فقيل : كعب بن الأشرف . وقيل : الأوثان . وقيل : ما عبد من دون الله . وقيل : الكهان .
( وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ( جملة حالية من قوله : يريدون ، ويريدون حال ، فهي حال متداخل . وأعاد الضمير هنا مذكراً ، وأعاده مؤنثاً في قوله : اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها . وقرأ بها هنا عباس بن الفضل على التأنيث ، وأعاد الضمير كضمير جمع العقلاء في قوله : ) أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم ).
) وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً ( ضلالاً ليس جارياً على يضلهم ، فيحتمل أن يكون جعل مكان إضلال ، ويحتمل أن يكون مصدر المطاوع يضلهم ، أي : فيضلون ضلالاً بعيداً . وقرأ الجمهور : بما أنزل إليك وما أنزل مبنياً للمفعول فيهما . وقرىء : مبنياً للفاعل فيهما .
النساء : ( 61 ) وإذا قيل لهم . . . . .
( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ( قرأ الحسن : تعالوا بضم اللام . قال أبو الفتح : وجهها أنَّ لام الفعل من تعاليت حذفت تخفيفاً ، وضمت اللام التي هي عين الفعل لوقوع واو الجمع بعدها . ولظهر الزمخشري حذف لام الكلمة هنا بحذفها في قولهم : ما باليت به بالة ، وأصله : بالية كعافية . وكمذهب الكسائي في آية ، أن أصلها أيلة فحذفت اللام . قال : ومنه قول أهل مكة : تعالي بكسر اللام للمرأة . وفي شعر الحمداني :
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
والوجه : فتح اللام انتهى . وقول الزمخشري : قول أهل مكة تعالي يحتمل أن تكون عربية قديمة ، ويحتمل أن يكون ذلك مما غبرته عن وجهه العربي فلا يكون عربياً . وأما قوله في شعر الحمداني فقد صرّح بعضهم بأنه أبو فراس ، وطالعت ديوانه جمع الحسين بن خالويه فلم أجد ذلك فيه . وبنو حمدان كثيرون ، وفيهم عدة من الشعراء ، وعلى تقدير

" صفحة رقم 293 "
ثبوت ذلك في شعرهم لا حجة فيه ، لأنه لا يستشهد بكلام المولدين . والظاهر من قوله : رأيت المنافقين أنها من رؤية العين ، صدوا مجاهرة وتصريحاً ، ويحتمل أن يكون من رؤية القلب أي : علمت . ويكون صدهم مكراً وتخابثاً ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه . وصدوداً : مصدر لصد ، وهو هنا متعد بحرف الجر ، وقد يتعدى بنفسه نحو : ( قصدهم عن السبيل ) وقياس صدّ في المصدر فعل نحو : صده صدّاً . وحكى ابن عطية : أن صدوداً هنا ليس مصدراً ، والمصدر عنده صد .
النساء : ( 62 ) فكيف إذا أصابتهم . . . . .
( فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ( قال الزجاج : كيف في موضع نصب تقديره : كيف تراهم ، أو في موضع رفع أي : فكيف صنيعهم والمصيبة . قال الزجاج : قتل عمر الذي ردّ حكم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : كل مصيبة تصيب المنافقين في الدنيا والآخرة ، ثم عاد الكلام إلى ما سبق يخبر عن فعلهم فقال : ثم جاؤك يحلفون بالله . وقيل : هي هدم مسجد الضرار ، وفيه نزلت الآية ، حلفوا دفاعاً عن أنفسهم ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة وموافقة الكتاب . وقيل : ترك الاستعانة بهم وما يلحقهم من الذل من قوله : فقل إن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً ، والذي قدّمت أيديهم ردهم حكم الرسول أو معاصيهم المتقدّمة أو نفاقهم واستهزاؤهم ثلاثة أقوال . وقيل في قوله : إلا إحساناً وتوفيقاً أي : ما أردنا بطلب دم صاحبنا الذي قتله عمر إلا إحساناً إلينا ، وما يوافق الحق في أمرنا . وقيل : ما أردنا بالرفع إلى عمر إلا إحساناً إلى صاحبنا بحكومة العدل ، وتوفيقاً بينه وبين خصمه . وقيل : جاؤا يعتذرون إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من محاكمتهم إلى غيره ما أردنا في عدولنا عنك إلا إحساناً بالتقريب في الحكم ، وتوفيقاً بين الخصوم ، دون الحمل على الحق . وفي قوله : فكيف إذا أصابتهم مصيبة ، وعيد لهم على فعلهم ، وأنهم سيندمون عليه عند حلول بأس الله تعالى حين لا ينفعهم الندم ، ولا يغني عنهم الاعتذار .
النساء : ( 63 ) أولئك الذين يعلم . . . . .
( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ( أي : يعلم ما في قلوبهم من النفاق . والمعنى : يعلمه فيجازيهم عليه ، أو يجازيهم على ما أسرّوه من الكفر ، وأظهروه من الحلف الكاذب . وعبر بالعلم عن المجازاة . فأعرض عنهم : أي عن معاتبتهم وشغل البال بهم ، وقبول إيمانهم وأعذارهم . وقيل : المعنى بالإعراض معاملتهم بالرفق والإناة ، ففي ذلك تأديب لهم ، وهو عتابهم . ولا يراد بالإعراض الهجر والقطيعة ، فإنّ قوله : وعظهم يمنع من ذلك . وعظهم : أي خوفهم بعذاب الله وازجرهم ، وأنكر عليهم أن يعودوا لمثل ما فعلوا .
والقول البليغ هو الزجر والردع . قال الحسن : هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق . ويتعلق قوله : في أنفسهم بقوله : قل على أحد معنيين ، أي : قل لهم خالياً بهم لا يكون معهم أحد من غيرهم مساراً لأنّ النصح إذا كان في السرّ كان أنجح ، وكان بصدد أن يقبل سريعاً . ومعنى بليغاً : أي مؤثراً فيهم . أو قلْ لهم في معنى أنفسهم النجسة المنطوية على النفاق قولاً يبلغ منهم ما يزجرهم عن العود إلى ما فعلوا .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ثم تعلق قوله : في أنفسهم ؟ ( قلت ) : بقوله : بليغاً أي : قلْ لهم قولاً بليغاً في أنفسهم ، مؤثراً في قلوبهم يغتمون به اغتماماً ، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً ، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إنْ نجم منهم النفاق ، وأطلع قرنه ، وأخبرهن أنَّ ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله ، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين . وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان ، وإسراركم الكفر وإضماره ، فإن فعلتم ما

" صفحة رقم 294 "
تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف انتهى كلامه . وتعليقه في أنفسهم بقوله : بليغاً لا يجوز على مذهب البصريين ، لأن معمول الصفة لا يتقدّم عندهم على الموصوف . لو قلت : هذا رجل ضارب زيداً لم يجز أن تقول : هذا زيداً رجل ضارب ، لأن حق المعمول ألا يحل إلا في موضع يحل فيه العامل ، ومعلوم أن النعت لا يتقدّم على المنعوت ، لأنه تابع ، والتابع في ذلك بمذهب الكوفيين . وأما ما ذكره الزمخشري بعد ذلك من الكلام المسهب فهو من نوع الخطابة ، وتحميل لفظ القرآن ما لا يحتمله ، وتقويل الله تعالى ما لم يقله ، وتلك عادته في تفسيره وهو تكثير الألفاظ . ونسبة أشياء إلى الله تعالى لم يقلها الله تعالى ، ولا دل عليها اللفظ دلالة واضحة ، والتفسير في الحقيقة إنما هو شرح اللفظ المستغلق عند السامع مما هو واضح عنده مما يرادفه أو يقاربه ، أو له دلالة عليه بإحدى طرق الدلالات . وحكى عن مجاهد أن قوله : في أنفسهم متعلق بقوله : مصيبة ، وهو مؤخر بمعنى التقديم ، وهذا ينزه مجاهد أن يقوله ، فإنه في غاية الفساد .
2 ( ) وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِىأَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاّتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقاً ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً ( ) ) 2
النساء : ( 64 ) وما أرسلنا من . . . . .
شجرأمر : التبس ، يشجر شجوراً وشجراً ، وشاجر الرجل غيره في الأمر نازعه فيه ، وتشاجروا . وخشبات الهودج يقال لها شجار لتداخل بعضها ببعض . ورمح شاجر ، والشجير الذي امتزجت مودته بمودّة غيره ، وهو من الشجر شبه

" صفحة رقم 295 "
بالتفاف الأغصان . وقد تقدّم ذكر هذه المادّة في البقرة وأعيدت لمزيد الفائدة .
نفر الرجل ينفر نفيراً ، خرج مجداً بكسر الفاء في المضارع وضمها ، وأصله الفزع ، يقال : نفر إليه إذا فزع إليه ، أي طلب إزالة الفزع . والنفير النافور ، والنفر الجماعة . ونفرت الدابة تفرُ بضم الفاء نفوراً أي هربت باستعجال .
الثبة : الجماعة الإثنان والثلاثة في كلام العرب قاله : الماتريدي . وقيل : هي فوق العشرة من الرجال ، وزنها فعلة . ولامها قيل : واو ، وقيل : ياء ، مشتقة من تثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه ، كأنك جمعت محاسنه . ومن قال : إن لامها واو ، جعلها من ثبا يثبو مثل حلا يحلو . وتجمع بالألف والتاء وبالواو والنون فتضم في هذا الجمع تاؤها ، أو تكسر وثبة الحوض وسطه الذي يثوب الماء إليه ، المحذوف منه عينه ، لأنه من ثاب يثوب ، وتصغيره ثويبة كما تقول في سه سييهة ، وتصغير تلك ثبية . البطء التثبط عن الشيء . يقال : أبطأ وبطؤ مثل أسرع وسرع مقابله ، وبطآن اسم فعل بمعنى بطؤ .
( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( نبه تعالى على جلالة الرسل ، وأنّ العالم يلزمهم طاعتهم ، والرسول منهم تجب طاعته . ولام ليطاع لام كي ، وهو استثناء مفرّغ من المفعول من أجله أي : وما أرسلنا من رسول بشيء من الأشياء إلا لأجل الطاعة . وبإذن الله أي بأمره ، قاله : ابن عباس . أو بعلمه وتوفيقه وإرشاده . وحقيقة الإذن التمكين مع العلم بقدر ما مكن فيه . والظاهر أن بإذن الله متعلق بقوله : ليطاع . وقيل : بأرسلنا أي : وما أرسلنا بأمر الله أي : بشريعته ، ودينه وعبادته من رسول إلا ليطاع . قال ابن عطية : وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ ، خاص المعنى ، لأنّا نقطع أنَّ الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه أن لا يطيعوه ، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم ، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم ، وهو تخريج حسن . لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن وفقه لذلك ، فكأنه أذن له انتهى . ولا يلزم ما ذكره من أن الكلام عام اللفظ خاص المعنى ، لأن قوله : ليطاع مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله ، ولا يلزم من الفاعل المحذوف أن يكون عاماً ، فيكون التقدير : ليطيعه العالم ، بل المحذوف ينبعي أن يكون خاصاً ليوافق الموجود ، فيكون أصله : إلا ليطيعه من أردنا طاعته . وقال عبد الله الرازي : والآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعاً في تلك الشريعة ، ومتبوعاً فيها ، إذ لو كان لا يدعو إلا إلى شرع مَن قبله لم يكن هو في الحقيقة مطاعاً ، بل المطاع هو الرسول المتقدم الذي هو الواضع لتلك الشريعة ، والله تعالى حكم على كل رسول بأنه مطاع انتهى . ولا يعجبني قوله : الواضع لتلك الشريعة ، والأحسن أن يقال : الذي جاء بتلك الشريعة من عند الله .
( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً ( ظلموا أنفسهم بسخطهم لقضائك أو بتحاكمهم إلى الطاغوت ، أو بجميع ما صدر عنهم من المعاصي . جاؤوك فاستغفروا الله بالإخلاص ، واعتذروا إليك . واستغفر لهم الرسول أي : شفع لهم الرسول في غفران ذنوبهم . والعامل في إذ جاؤوك ، والتفت في قوله : واستغفر لهم الرسول ، ولم يجيء على ضمير الخطاب في جاؤوك تفخيماً لشأن الرسول ، وتعظيماً لاستغفاره ، وتنبيهاً على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله تعالى بمكان ، وعلى أنَّ هذا الوصف الشريف وهو إرسال الله إياه موجب لطاعته ، وعلى أنه

" صفحة رقم 296 "
مندرج في عموم قوله : ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( ومعنى وجدوا : علموا ، أي : بإخباره أنه قبل توبتهم ورحمهم .
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : فائدة ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم بأنهم بتحاكمهم إلى الطاغوت خالفوا حكم الله ، وأساءوا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فوجب عليهم أن يعتذروا ويطلبوا من الرسول الاستغفار ، أو لمّا لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم التمرد ، فإذا تابوا وجب أن يظهر منهم ما يزيد التمرد بأن يذهبوا إلى الرسول ويطلبوا منه الاستغفار ، أو إذا تابوا بالتوبة أتوا بها على وجه من الخلل ، فإذا انضم إليها استغفار الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) صارت مستحقة . والآية تدل على قبول توبة التائب لأنه قال بعدها : ) لَوَجَدُواْ اللَّهَ ( وهذا لا ينطبق على ذلك الكلام إلا إذا كان المراد من قوله : ) تَوَّاباً رَّحِيماً ( قبول توبته انتهى . وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره وحثا من ترابه على رأسه ثم قال : يا خير من دفنت في الترب أعظمه
فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم قال : قد قلت : يا رسول الله فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله فوعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله عليك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك الآية ، وقد ظلمت نفسي وجئت أستغفر الله ذنبي ، فاستغفر لي من ربي ، فنودي من القبر أنه قد غفر لك .
النساء : ( 65 ) فلا وربك لا . . . . .
( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ( قال مجاهد وغيره : نزلت فيمن أراد التحاكم إلى الطاغوت . ورجحه الطبري لأنه أشبه بنسف الآيات . وقيل : في شأن الرجل الذي خاصم الزبير في السقي بماء الحرة ، وأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ) فغضب وقال : ( إن كان ابن عمتك ، فغضب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) واستوعب للزبير حقه فقال : احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسل الماء ) . والرجل هو من الأنصار بدري . وقيل : هو حاطب بن أبي بلتعة . وقيل : نزلت نافية لإيمان الرجل الذي قتله عمر ، لكونه رد حكم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ومقيمة عذر عمر في قتله ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما كنت أظن أنّ عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن ) . وأقسم بإضافة الرب إلى كاف الخطاب تعظيماً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو التفات راجع إلى قوله : ) جاؤوك ( ولا في قوله : فلا . قال الطبري : هي رد على ما تقدم تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله : وربك لا يؤمنون . وقال غيره : قدم لا على القسم اهتماماً بالنفي ، ثم كررها بعد توكيداً للإهتمام بالنفي ، وكان يصح إسقاط لا الثانية ، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ، ويذهب معنى الاهتمام . وقيل : الثانية زائدة ، والقسم معترض بين حرف النفي والمنفي . وقال

" صفحة رقم 297 "
الزمخشري : لا مزيدة لتأكيد معنى القسم ، كما زيدت في لئلا يعلم لتأكيد وجوب العلم . ولا يؤمنون جواب القسم . ( فإن قلت ) : هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر لا في . لا يؤمنون . ( قلت ) : يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه ، وذلك قوله : ) فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( انتهى كلامه . ومثل الآية قول الشاعر : ولا والله لا يلقى لما بي
ولا للما بهم أبداً دواء
وحتى هنا غاية ، أي : ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية ، فإذا وجد ما بعد الغاية كانوا مؤمنين . وفيما شجر بينهم عام في كل أمر وقع بينهم فيه نزاع وتجاذب . ومعنى يحكموك ، يجعلوك حكماً . وفي الكلام حذف التقدير : فتقضي بينهم .
( ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً ( أي ضيقاً من حكمك . وقال مجاهد : شكا لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له البيان . وقال الضحاك : إثماً أي : سبب إثم . والمعنى : لا يخطر ببالهم ما يأثمون به من عدم الرضا . وقيل : هماً وحزناً ، ويسلموا أي ينقادوا ويذعنوا لقضائك ، لا يعارضون فيه بشيء قاله : ابن عباس والجمهور . وقيل : معناه ويسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك ، ذكره الماوردي ، وأكد الفعل بالمصدر على سبيل صدور التسليم حقيقة ، وحسَّنه كونه فاصلة . وقرأ أبو السمال : فيما شجر بسكون الجيم ، وكأنه فرَّ من توالي الحركات ، وليس بقوي لخفة الفتحة بخلاف الضمة والكسرة ، فإن السكون بدلهما مطرد على لغة تميم .
النساء : ( 66 ) ولو أنا كتبنا . . . . .
( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ ( قالت اليهود لما لم يرض المنافق بحكم الرسول : ما رأينا أسخف من هؤلاء لا يؤمنون بمحمد ويتبعونه ، ويطؤن عقبه ، ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا ، وبلغ القتل فينا سبعين ألفاً . فقال ثابت بن قيس : لو كتب ذلك علينا لفعلنا فنزلت . وروي هذا السبب بألفاظ متغايرة والمعنى قريب .
ومعنى الآية : أنه تعالى لو فرض عليهم أنْ يقتلوا أنفسهم ، إمّا أن يقتل نفسه بيده ، أو يقتل بعضهم بعضاً ، أو أن يخرجوا من ديارهم كما فرض ذلك على بني إسرائيل حين استتيبوا من عبادة العجل لم يطع منهم إلا القليل ، وهذا فيه توبيخ عظيم حيث لا يمتثل أمر الله إلا القليل . وقال السبيعي : لما نزلت قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : ( إنّ من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ) قال ابن وهب : الرجل القائل ذلك هو أبو بكر . وروي عنه أنه قال : لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي . وذكر النقاش : أنه عمر . وذكر أبو الليث السمرقندي : أن القائل منهم عمار ، وابن مسعود ، وثابت بن قيس .
والضمير في عليهم قيل : يعود على المنافقين ، أي : ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة ، وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم . وقيل : يعود على الناس مؤمنهم ومنافقهم . وكسر النون مِن أن ، وضم الواو من أو ، أبو عمرو . وكسرهما حمزة وعاصم ، وضمهما باقي السبعة . وأن هنا يحتمل أن تكون تفسيرية ، وأن تكون مصدرية على ما قرروا أنَّ أنْ توصل بفعل الأمر .
وفي الآية دليل على صعوبة الخروج من الديار ، إذ قرنه الله تعالى بقتل الأنفس ، وقد خرج الصحابة المهاجرون من ديارهم وفارقوا أهاليهم حين أمرهم الله تعالى بالهجرة ، وارتفع قليل ، على البدل من الواو في فعلوه على مذهب البصريين ، وعلى العطف على الضمير على قول الكوفيين

" صفحة رقم 298 "
وبالرفع قرأ الجمهور . وقرأ أبيّ ، وابن أي إسحاق ، وابن عامر ، وعيسى بن عمر : إلا قليلاً بالنصب ، ونص النحويون على أن الاختيار في مثل هذا التركيب اتباع ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل أو العطف ، باعتبار المذهبين اللذين ذكرناهما .
وقال الزمخشري : وقرىء إلا قليلاً بالنصب على أصل الاستثناء ، أو على إلا فعلاً قليلاً انتهى . الأما النصب على أصل الاستثناء فهو الذي وجه الناس عليه هذه القراءة . وأما قوله : على إلا فعلا قليلاً فهو ضعيف لمخالفة مفهوم التأويل قراءة الرفع ، ولقوله منهم فإنه تعلق على هذا التركيب : لو قلت ما ضربوا زيداً إلا ضرباً قليلاً منهم لم يحسن أن يكون منهم لا فائدة في ذكره . وضمير النصب في فعلوه عائد على أحد المصدرين المفهومين من قوله : أن اقتلوا أو اخرجوا . وقال أبو عبد الله الرازي : الكناية في قوله ما فعلوه عائد على القتل والخروج معاً ، وذلك لأن الفعل جنس واحد ، وإن اختلفت صورته انتهى . وهو كلام غير نحوي .
( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ( الضمير في : ولو أنهم مختص بالمنافقين ، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاماً وآخرها خاصاً . قال الزمخشري : ما يوعظون به من اتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وطاعته ، والانقياد لما يراه ويحكم به ، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ، لكان خيراً لهم في عاجلهم وآجلهم ، وأشد تثبيتاً لإيمانهم ، وأبعد من الاضطراب فيه . وقال ابن عطية : ولو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيراً لهم ، وتثبيتاً معناه يقيناً وتصديقاً انتهى . وكلاهما شرح ما يوعظون به بخلاف ما يدل عليه الظاهر . لأنّ الذي يوعظ به ليس هو اتباع الرسول وطاعته ، وليس مذلول ما يوعظون به اتعظوا وأنابوا ، وقيل : الوعظ هنا بمعنى الأمر أي : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به فانتهوا عما نهوا عنه . وقال في ري الظمآن : ما يوعظون به أي : ما يوصون ويؤمرون به من الإخلاص والتسليم . وقال الراغب : أخبر أنهم لو قبلوا الموعظة لكان خيراً لهم . وقال أبو عبد الله الرازي : المراد أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا ، وسمي هذا التكليف والأمر وعظاً ، لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، والثواب والعقاب ، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظاً . وقال الماتريدي : وقيل ما يوعظون به من الأمر من القرآن .
وهذه كلها تفاسير تخالف الظاهر ، لأن الوعظ هو التذكار بما يحل بمن خالف أمر الله تعالى من العقاب ، فلموعظ به هي الجمل الدالة على ذلك ، ولا يمكن حمله على هذا الظاهر ، لأنهم لم يؤمروا بأنْ يفعلوا الموعظ به ، وإنما عرض لهم شرح ذلك بما خالف الظاهر ، لأنهم علقوا به بقوله : ما يوعظون ، على طريقة ما يفهم من قولك : وعظتك بكذا ، فتكون الباء قد دخلت على الشيء الموعظ به وهي الجملة الدالة على الوعظ . أما إذا كان المعنى على أنّ الباء للسببية فيحمل إذ ذاك اللفظ على الظاهر ، ويصح المعنى ، ويكون التقدير : ولو أنهم فعلوا الشيء الذي يوعظون بسببه أي : بسبب تركه . ودلّ على حذف تركه قوله : ولو أنهم فعلوا . ويبقى لفظ يوعظون على ظاهره ، ولا يحتاج إلى ما تأولوه .
لكان خيراً لهم : أي يحصل لهم خير الدارين ، فلا يكون أفعل التفضيل . ويحتمل أن يكونه أي : لكان أنفع لهم من غيره : وأشد تثبيتاً ، لأنه حق ، فهو أبقى وأثبت . أو لأنّ الطاعة تدعو إلى أمثالها ، أو لأنّ الإنسان يطلب أولاً تحصيل الخير ، فإذا حصله طلب بقاءه . فقوله : لكان خيراً لهم إشارة إلى الحالة الأولى . وقوله : وأشد تثبيتاً إشارة إلى الحالة الثانية . قاله : أبو عبد الله الرازي .
النساء : ( 67 - 68 ) وإذا لآتيناهم من . . . . .
( وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( قال الزمخشري : وإذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : وماذا يكون لهم أيضاً بعد التثبيت ؟ فقيل : وإذا لو ثبتوا لآتيناهم . لأنّ إذا جواب وجزاء انتهى . وظاهر قول الزمخشري : لأن إذا جواب وجزاء يفهم منه أنها تكون للمعنيين في حال واحد على كل حال ، وهذه مسألة خلاف . ذهب

" صفحة رقم 299 "
الفارسي إلى أنها قد تكون جواباً فقط في موضع ، وجواباً وجزاء في موضع نفي ، مثل : إذن أظنك صادقاً لمن قال : أزورك ، هي جواب خاصة . وفي مثل : إذن أكرمك لمن قال : أزورك ، هي جواب وجزاء . وذهب الأستاذ أبو عليّ إلى أنها تتقدر بالجواب والجزاء في كل موضع وقوفاً مع ظاهر كلام سيبويه . والصحيح قول الفارسي ، وهي مسألة يبحث عنها في علم النحو .
والأجر كناية عن الثواب على الطاعة ، ووصفه بالعظم باعتبار الكثرة ، أو باعتبار الشرف . والصراط المستقيم هو الإيمان المؤدّي إلى الجنة قاله : ابن عطية . وقيل : هو الطريق إلى الجنة . وقيل : الأعمال الصالحة . ولما فسر ابن عطية الصراط المستقيم بالإيمان قال : وجاء ترتيب هذه الآية كذا . ومعلوم أنَّ الهداية قبل إعطاء الأجر ، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب ، فالمعنى : وكهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر انتهى . وأمّا إذا فسرت الهداية إلى الصراط هنا بأنه طريق الجنة ، أو الأعمال الصالحة ، فإنه يظهر الترتيب .
النساء : ( 69 ) ومن يطع الله . . . . .
( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ( قال الكلبي : نزلت في ثوبان مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكان شديد الحب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأتى ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه فقال : ( يا ثوبان ما غير لونك ؟ ) فقال : يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع ، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك ، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك ، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين ، وإنِّي وإن كنت أدخل الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك ، وإنْ لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبداً . انتهى قول الكلبي . وحكى مثل قول ثوبان عن جماعة من الصحابة منهم : عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري ، وهو الذي أرى الأذان قال : يا رسول الله ، إذا مت ومتنا ، كنتَ في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك ، وذكر حزنه على ذلك ، فنزلت . وحكى مكي عن عبد الله هذا أنه لما مات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : اللهم اعمني حتى لا أرى شيئاً بعده ، فعمى . والمعنى في مع النبيين : إنه معهم في دار واحدة ، وكل من فيها رزق الرضا بحاله ، وهم بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإنْ بعد مكانه .
وقيل : المعية هنا كونهم يرفعون إلى منازل الأنبياء متى شاؤا تكرمة لهم ، ثم يعودون إلى منازلهم . وقيل : إنّ الأنبياء والصدّيقين والشهداء ينحدرون إلى من أسفل منهم ليتذاكروا نعمة الله ، ذكره المهدوي في تفسيره الكبير . قال أبو عبد الله الرازي : هذه الآية تنبيه على أمرين من أحوال المعاد : الأول : إشراق الأرواح بأنوار المعرفة . والثاني : كونهم مع النبيين . وليس المراد بهذه المعية في الدرجة ، فإنّ ذلك ممتنع ، بل معناه : إن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا بقيت بعد المفارقة تلك العلائق ، فينعكس الشعاع من بعضها على بعض ، فتصير أنوارها في غاية القوة ، فهذا ما خطر لي انتهى كلامه . وهو شبيه بما قالته الفلاسفة في الأرواح إذا فارقت الأجساد . وأهل الإسلام يأبون هذه الألفاظ ومدلولاتها ، ولكن من غلب عليه شيء وحبه جرى في كلامه . وقوله : مع الذي أنعم الله عليهم ، تفسير لقوله : ) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ( وهم من ذكر في هذه الآية . والظاهر أن قوله : من النبيين ، تفسير للذين أنعم الله عليهم . فكأنه قيل : من يطع الله ورسوله منكم ألحقه الله بالذين تقدمهم ممن أنعم عليهم . قال الراغب : ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب : النبي بالنبي ، والصديق بالصديق ، والشهيد بالشهيد ، والصالح بالصالح . وأجاز الراغب أن يتعلق من النبيين بقوله : ومن يطع الله والرسول . أي : من النبيين ومن بعدهم ، ويكون قوله

" صفحة رقم 300 "
فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم إشارة إلى الملأ الأعلى . ثم قال : ) وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( ويبين ذلك قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين الموت ) اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى ( وهذا ظاهر انتهى . وهذا الوجه الذي هو عنده ظاهر فاسد من جهة المعنى ، ومن جهة النحو . أما من جهة المعنى فإنّ الرسول هنا هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أخبر الله تعالى أنْ من يطيعه ويطيع رسوله فهو مع من ذكر ، ولو كان من النبيين معلقاً بقوله : ومن يطع الله والرسول ، لكان قوله : من النبيين تفسيراً لمن في قوله : ومن يطع . فيلزم أن يكون في زمان الرسول أو بعده أنبياء يطيعونه ، وهذا غير ممكن ، لأنه قد أخبر تعالى أنّ محمداً هو خاتم النبيين . وقال هو ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا نبي بعدي ) . وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها ، لو قلت : إنْ تقم هند فعمرو ذاهب ضاحكة ، لم يجز .
واختلفوا في الأوصاف الثلاثة التي بعد النبيين . فقال بعضهم : كلها أوصاف لموصوف واحد ، وهي صفات متداخلة ، فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أنْ يكون صديقاً وشهيداً وصالحاً . وقيل : المراد بكل وصف صنف من الناس . فأما الصديق فهو فعيل للمبالغة كشريب . فقيل : هو الكثير الصدق ، وقيل : هو الكثير الصدقة . وللمفسرين في تفسيره وجوه : الأول : أنّ كل من صدق بكل الذي لا يتخالجه فيه شك فهو صديق لقوله تعالى : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ ). الثاني : أفاضل أصحاب الرسول . الثالث : السابق إلى تصديق الرسول . فصار في ذلك قدوة لسائر الناس . وأما الشهيد : فهو المقتول في سبيل الله ، المخصوص بفضل الميتة . وفرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة ، لأنهم أكرم من أن يشفع فيهم . وقد تقدم الكلام في كونهم سموا شهداء ، ولكن لفظ الشهداء في الآية يعم أنواع الشهداء الذين ذكرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال أبو عبد الله الرازي : لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر ، بل نقول : الشهيد فعيل بمعنى فاعل ، وهو الذي يشهد لدين الله تارة بالحجة بالبيان ، وتارة بالسيف والسنان . فالشهداء هم القائمون بالقسط ، وهم الذين ذكرهم الله في قوله : ) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ). والصالح : هو الذي يكون صالحاً في اعتقاده وعمله . وجاء هذا التركيب على هذا القول على حسب التنزل من الأعلى إلى الأدنى ، إلى أدنى منه . وفي هذا الترغيب للمؤمنين في طاعة الله وطاعة رسوله ، حيث وعدوا بمرافقة أقرب عباد الله إلى الله ، وأرفعهم درجات عنده .
وقال الراغب : قسم الله المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام ، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض ، وحث كافة الناس أنْ يتأخروا عن منزل واحد منهم : الأول : الأنبياء الذين تمدهم قوة الإلهية ، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من قريب . ولذلك قال تعالى : ) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ). الثاني : الصديقون وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة ، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من بعيد وإياه عني أمير المؤمنين حين قيل له : هل رأيت الله ؟ فقال : ما كنت لأعبد شيئاً لم أره ثم قال : ( لم تره العيون بشواهد الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان . الثالث : الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين . ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب ، كحال حارثة حيث قال : كأني أنظر إلى عرش ربي ، وإياه قصد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) حيث قال : ( اعبد الله كأنك تراه ) . الرابع : الصالحون ، وهم الذين يعرفون الشيء باتباعات وتقليدات الراسخين في العلم ، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة . وإياه قصد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بقوله : ( اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) انتهى كلامه . وهو شبيه بكلام المتصوفة .
وقال عكرمة : النبيون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والصديقون أبو بكر ، والشهداء عمر وعثمان وعلي ، والصالحون صالحو أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) انتهى .

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدليل البديل

مجلد1 ومجلد 2. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغز... مجلد3.و 4. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغزالي أ... مجلد 5.و6. إحياء علوم الدين محمد...