مجلد7.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي
" صفحة رقم 500 "
الآيات ، خبراً بعد خبر ، وذلك على رأي من يجيز تعداد الأخبار بغير حرف عطف ، إذا
كان لمبتدأ واحد ، ولم يكن في معنى خبر واحد ، وجوّزوا أن يكون : من ، لبيان الجنس
، وذلك على رأي من يجيز أن تكون : من ، لبيان الجنس . ولا يتأتى ذلك هنا من جهة
المعنى إلاَّ بمجاز ، لأن تقدير : من ، البيانية بالموصول . ولو قلت : ذلك نتلوه
عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم ، لاحتيج إلى تأويل ، لأن هذا المشار إليه من
نبأ من تقدم ذكره ليس هو جميع الآيات ، والذكر الحكيم إنما هو بعض الآيات ، فيحتاج
إلى تأويل أنه جعل بعض الآيات ، والذكر هو الآيات ، والذكر على سبيل المجاز .
وممن ذهب إلى أنها لبيان الجنس : أبو محمد بن عطية ، وبدأ به ، ثم قال : ويجوز أن
تكون للتبعيض وجوّزوا أن يكون ذلك منصوباً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، فيكون من
باب الإشتغال ، أي : نتلو ذلك نتلوه عليك ، والرفع على الإبتداء أفصح لأنه عرى من
مرجح النصب على الإشتغال ؛ فزيدٌ ضربته ، أفصح من : زيداً ضربته ، وإن كان عربياً
، وعلى هذا الإعراب يكون : نتلوه ، لا موضع له من الإعراب ، لأنه مفسر لذلك الفعل
المحذوف ، ويكون : من الآيات ، حالاً من ضمير النصب في : نتلوه .
وأجاز الزمخشري أن يكون : ذلك ، بمعنى : الذي ، و : نتلوه ، صلته . و : الآيات ،
الخبر . وقاله الزجاج قبله ، وهذه نزعة كوفية ، يجيزون في أسماء الإشارة أن تكون
موصولة ، ولا يجوز ذلك عند البصريين ، إلاَّ في : ذا ، وحدها إذا سبقها : ما ،
الإستفهامية باتفاق ، أو : من ، الإستفهامية باختلاف . وتقرير هذا في علم النحو .
وجوّزوا أيضاً أن يكون : ذلك ، مبتدأ و : من الآيات ، خبر . و : نتلوه ، حال . وأن
يكون : ذلك ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك . و : نتلوه ، حال .
والظاهر في قوله : ) وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ ( أنه معطوف على الآيات ، ومن جعلها
للقسم وجواب القسم : ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى ( فقد أبعد .
آل عمران : ( 59 ) إن مثل عيسى . . . . .
( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( قال ابن عباس ، وعكرمة ،
وقتادة ، والسدي وغيرهم : جادل وفد نجران النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في أمر
عيسى ، وقالوا : بلغنا أنك تشتم صاحبنا ، وتقول : هو ، عبد ، فقال النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) ) : ( وما يضرّ ذلك عيسى ، أجل هو عبد الله ، وكلمته ألقاها إلى
مريم ، وروح منه ) . فقالوا : فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به ؟
فخرجوا ، فنزلت .
وفي بعض الروايات أنهم قالوا : فإن كنت صدقاً فأرنا مثله فنزلت .
وروي وكيع عن مبارك عن الحسن قال : جاء راهباً نجران فعرض عليهما الإسلام فقال
أحدهما : قد أسلمنا قبلك ، فقال : ( كذبتما ، يمنعكما من الإسلام ثلاث : عبادتكما
الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وقولكما لله ولد . قالا : من أبو عيسى ؟ وكان لا يعجل
حتى يأمره ربه . فأنزل ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى ( وتقدم الكلام في تفسير نحو هذا
التركيب في قولهم : ) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً ).
وقال الزمخشري : إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم ، فجعل المثل بمعنى الشأن
والحال . وهو راجع لقول من قال : المثل هنا الصفة : كقوله : ) مَّثَلُ الْجَنَّةِ
( وفي هذا إقرار الكاف في قوله : ) كَمَثَلِ ءادَمَ ( على معناها التشبيهي .
وقال ابن عطية : في قول من قال إن المثل هنا بمعنى الصفة ما نصه : وهذا عندي خطأ
وضعف في فهم الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول ، من
عيسى فهو كالمتصور من آدم ، إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب
من غير فحل . وكذلك ) مَّثَلُ الْجَنَّةِ ( عبارة عن المتصوّر منها .
وفي هذه الآية صحة القياس أي إذا تصور أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى . والكاف في
) كَمَثَلِ ءادَمَ ( اسم على ما ذكرناه من المعنى . إنتهى كلامه .
ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا ، وكلام من جعل المثل بمعنى الشأن والحال . أو
بمعنى الصفة ، وفي ( ري الظمآن ) قيل : المثل بمعنى الصفة ، وقولك صفة عيسى كصفة
آدم كلام مطرد ، على هذا جل اللغويين والمفسرين ، وخالف أبو علي الفارسي الجميع ،
وقال : المثل بمعنى الصفة لا يمكن تصحيحه في اللغة ، إنما المثل الشبه .
على هذا تدور تصاريف الكلمة ، ولا معنى للوصفية في التشابه . والمثل كلمة يرسلها
قائلها لحكمة يشبه بها الأمور ، ويقابل بها الأحوال . إنتهى .
ومن جعل
" صفحة رقم 501 "
المثل هنا مرادفاً للمثل ، كالشبه : والشبه . قال : جمع بين أداتي تشبيه على طريق
التأكيد للشبه ، والتنبيه على عظم خطره وقدره .
وقال بعض هؤلاء : الكاف زائدة . وقال بعضهم : مثل زائدة ، وجعل بعضهم المثل هنا من
ضرب الأمثال . وقال : العرب تضرب الأمثال لبيان ما خفي معناه ودق إيضاحه ، لما خفي
سر ولادة عيسى من غير أب ، لأنه خالف المعروف ، ضرب الله المثل بآدم الذي استقرّ
في الأذهان . وعلم أنه أوجد من غير أب ولا أمّ ، كذلك خلق عيسى بلا أب ، ولا بد من
مشاركة معنوية بين من ضرب به المثل ، وبين من ضرب له المثل ، من وجه واحد ، أو من
وجوه لا يشترط الإشتراك في سائر الصفات . والمعنى الذي وقعت فيه المشاركة بين آدم
وعيسى كون كل واحد منهما خلق من غير أب . وقال بعض أهل العلم : المشاركة بين ( آدم
وعيسى في خمسة عشر وصفاً : في التكوين ، و : في الخلق من العناصر التي ركب الله
منها الدنيا . وفي العبودية ، وفي النبوّة . وفي المحنة : عيسى باليهود ، وآدم
بابليس ، وفي : أكلهما الطعام والشراب ، وفي الفقر إلى الله . وفي الصورة ، وفي
الرفع إلى بالسماء والإنزال منها إلى الأرض ، وفي الإلهام ، عطس آدم فألهم ، فقال
الحمد لله . وألهم عيسى ، حين أخرج من بطن أمّة فقال : ) إِنّى عَبْدُ اللَّهِ (
وفي العلم ، قال : ) وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء ( وقال : ) وَيُعَلّمُهُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ( وفي نفخ الروح فيهما ) وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى (
) فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( وفي الموت ، وفي فقد الأب ، ومعنى : عند الله
أي عند من يعرف حقيقة الأمر ، وكيف هو . أي : هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ولم
تطلعوا على كنهه .
والعامل في : عند ، العامل في : كاف التشبيه ، وهذا التشبيه هو من أحد الطرفين كما
تقدّم ، وهو الوجود من غير أب وهما نظيران في أن كلاًّ منهما أوجده الله خارجاً
عما استقروا واستمرّ في العادة من خلق الإنسان متولداً من ذكر وأنثى ، كما قال
تعالى : ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى
( والوجود من غير أب وأمّ أغرب في العادة من وجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب
ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وأسر بعض
العلماء بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أب له . قال : فآدم
أولى لأنه لا أبوين له . قالوا : كان يحيي الموتى . قال : فخرقيل أولى لأن عيسى
أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف . فقالوا : كان يبريء الأكمه والأبرص .
قال : فجر جيس أولى لأنه طحن وأحرق ، ثم قام سالماً . إنتهى .
وصح أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ردّ عين قتادة بعد ما قلعت ، وردّ الله
نورها ، وصح أن أعمى دعا له فردّ الله له بصره .
وفي حديث الشاب الذي أتي به ليتعلم من سحر الساحر ، فترك الساحر ودخل في دين عيسى
وتعبد به ، فصار يبرىء الأكمه والأبرص ، وفيه انه دعا لجليس الملك وابن عمه ، وكان
أعمى ، فردّ الله عليه بصره .
( خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( هي من تسمية الشيى باسم أصله . كقوله ) اللَّهُ الَّذِى
خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ( كان تراباً ثم صار طيناً وخلق منه
آدم . كما قال : ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مّن طِينٍ ( وقال
تعالى : ) إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ ( وقال : ) قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ
خَلَقْتَ طِينًا ).
والضمير المنصوب في : خلقه ، عائد على آدم ، وهذه الجملة تفسيرية لمثل آدم ، فلا
موضع لها من الإعراب . وقيل : هي في موضع الحال ، وقدر مع خلقه مقدرة ، والعامل
فيها معنى التشبيه . قال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون خلقه صفة لآدم ولا حالاً منه
. قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها ، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه
تفسير المثل . إنتهى كلامه . وفيه نظر ، والمعنى : قدره جسداً من طين ) ثُمَّ
قَالَ لَهُ كُن ( أي أنشأه بشراً ، قاله الزمشخري ، وسبقه إلى معناه أبو مسلم .
قلنا : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء . لا بمعنى التقدير ، لم يأت بقوله : ) ثُمَّ
قَالَ لَهُ كُن ( لأن ما خلق لا يقال له : كن ، ولا ينشأ إلاَّ إن كان معنى )
ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن ( عبارة عن نفخ
" صفحة رقم 502 "
الروح فيه ، وقاله عبد الجبار . فيمكن أن يكون خلقه بمعنى أنشأه لا بمعنى قدّره .
قيل : أو يكون : كن ، عبارة عن كونه لحماً ودماً ، وقوله : فيكون ، حكاية حال
ماضية ولا قول هناك حقيقة ، وإنما ذلك على سبيل التمثيل ، وكناية عن سرعة الخلق
والتمكن من ايجاد ما يريد تعالى إيجاده ، إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر .
و : ثم ، قيل لترتيب الخبر ، لأن قوله : كن ، لم يتأخر عن خلقه ، وإنما هو في
المعنى تفسير للخلق ، ويجوز أن يكون للترتيب الزماني أي : أنشأه أولاً من طين ، ثم
بعد زمان أوجد فيه الروح أي صيره لحماً ودماً على من قال ذلك .
وقال الراغب : ومعنى : كن . بعد : خلقه من تراب : كن إنساناً حياً ناطقاً ، وهو لم
يكن كذلك ، بل كان دهراً ملقىً لا روح فيه ، ثم جعل له الروج . وقوله : كن عبارة
عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنساناً . إنتهى .
والضمير في : له ، عائد على آدم وأبعد من زعم أنه عائد على عيسى ، وأبعد من هذا
قول من زعم أنه يجوز أن يعود على كل مخلوق خلق بكن ، وهو قول الحوفي .
آل عمران : ( 60 ) الحق من ربك . . . . .
( الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ( جملة من مبتدأ وخبر ، أخبر تعالى أن الحق ، وهو الشيء
الثابت الذي لا شك فيه هو وارد إليك من ربك ، فجميع ما أنبأك به حق ، فيدخل فيه
قصة عيسى وآدم وجميع أنبائه تعالى ، ويجوز أن يكون : الحق ، خبر مبتدأ محذوف ، أي
: هو . أي : خبر عيسى في كونه خلق من أم فقط هو الحق ، و : من ربك ، حال أو : خبر
ثان وأخبر عن قصة عيسى بأنها حق . ومع كونها حقاً فهي إخبار صادر عن الله .
( فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ ( قيل : الخطاب بهذا لكل سامع قصة عيسى ،
والأخبار الواردة من الله تعالى . وقيل : المراد به أمّة من ظاهر الخطاب له . قال
الزمخشري : ونهيه عن الامتراء وجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يكون
ممترياً ، من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة ، وأن يكون لطفاً لغيره . وقال
الراغب : الامتراء استخراج الرأي للشك العارض ، ويجعل عبارة عن الشك ، وقال : فلا
تكن من الممترين ولم يكن ممترياً ليكون فيه ذمّ من شك في عيسى .
آل عمران : ( 61 ) فمن حاجك فيه . . . . .
( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( أي : من نازعك
وجادلك ، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين ، وكان الأمر كذلك بينه ( صلى
الله عليه وسلم ) ) وبين وفد نجران .
والضمير في : فيه ، عائد على عيسى ، لأن المنازعة كانت فيه ، ولأن تصدير الآية
السابقة في قوله : ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى ( وما بعده جاء من تمام أمره ، وقيل :
يعود على الحق ، وظاهر من العموم في كل من يحاجّ في أمر عيسى . وقيل : المراد وفد
نجران .
و : من ، يصح أن تكون موصولة ، ويصح أن تكون شرطية ، و : العلم هنا : الوحي الذي
جاء به جبريل ، وقيل : الآيات المتقدّمة في أمر عيسى ، الموجبة للعمل . و : ما ،
في : ما جاءك ، موصولة بمعنى : الذي ، وفي : جاءك ، ضمير الفاعل يعود عليها . و :
من العلم ، متعلق بمحذوف في موضع الحال ، أي : كائناً من العلم . وتكون : من ،
تبعيضية . ويجوز أن تكون لبيان الجنس على مذهب من يرى ذلك ، قال بعضهم ، ويخرج على
قول الأخفش : أن تكون : ما ، مصدرية ، و : من ، زائدة ، والتقدير : من بعد مجيء
العلم إياك .
( فَقُلْ تَعَالَوْاْ ( قرأ الجمهور بفتح اللام وهو الأصل والقياس ، إذا التقدير
تفاعل ، وألفة منقلبة عن ياء وأصلها واو ، فإذا أمرت الواحد قلت : تعال ، كما تقول
: إخش واسعَ . وقرأ الحسن ، وأبو واقد ، وأبو السمال : بضم اللام ، ووجههم أن أصله
: تعاليوا ، كما تقول : تجادلوا ، نقل الضمة من الياء إلى اللام بعد حذف فتحتها ،
فبقيت الياء ساكنة وواو الضمير ساكنة فخذفت الياء لإلتقاء الساكنين ، وهذا تعليل
شذوذ .
( نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا
وأَنفُسَكُمْ ( أي : يدعُ كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة . وظاهر
هذا أن الدعاء والمباهلة بين المخاطب : بقل : وبين من حاجه ، وفسر على هذا الوجه :
الأبناء بالحسن والحسين ، و : بنسائه : فاطمة ، و : الأنفس بعلىّ . قال الشعبي :
ويدل على أن ذلك مختص بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) مع حاجة ما ثبت في صحيح
مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص ، قال : لما نزلت هذه الآية : ) تَعَالَوْاْ نَدْعُ
أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ( دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : فاطمة
وحسناً وحسيناً ، فقال : ( اللهم هؤلاء أهلي ) .
وقال قوم : المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين ، بدليل ظاهر قوله ندع أبناءنا
وأبناءكم على الجمع ، ولما دعاهم دعا بأهله الذين في حوزته ، ولو عزم نصارى
" صفحة رقم 503 "
نجران على المباهلة وجاؤا لها ، لأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) المسلمين أن
يخرجوا بأهاليهم لمباهلته .
وقيل : المراد : بأنفسنا ، الإخوان ، قاله ابن قتتيبة . قال تعالى : ) وَلاَ
تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( أي : إخوانكم . وقيل : أهل دينه ، قاله أبو سليمان
الدمشقي . وقيل : الأزواج ، وقيل : أراد القرابة القريبة ، ذكرهما عليّ بن أحمد
النيسابوري .
( ثُمَّ نَبْتَهِلْ ( أي : ندع بالالتعان . وقيل : نتضرّع إلى الله ، قاله ابن
عباس . وقال مقاتل : نخلص في الدعاء . وقال الكلبي : نجهد في الدعاء . وقيل :
نتداعى بالهلاك .
( فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( أي : يقول كل منا : لعن الله
الكاذب منا في أمر عيسى ، وفي هذا دليل على جواز اللعن لمن أقام على كفره ، وقد
لعن ( صلى الله عليه وسلم ) ) اليهود . قال أبو بكر الرازي : وفي الآية دليل على
أن الحسن والحسين ابنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال أبو أحمد بن
علان : كانا إذ ذاك مكلفين ، لأن المباهلة عنده لا تصح إلاَّ من مكلف .
وقد طوّل المفسرون بما رووا في قصة المباهلة ، ومضمونها أنه دعاهم إلى المباهلة ،
وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعليّ إلى الميعاد ، وأنهم كفوا عن ذلك ، ورضوا
بالإقامة على دينهم وأن يؤدّوا الجزية ، وأخبرهم أحبارهم أنهم إن باهلوا عذبوا ،
وأخبر هو ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنهم إن باهلوا عذبوا ، وفي ترك النصارى
الملاعنة لعلمهم بنبوّته شاهد عظيم على صحة نبوّته .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاَّ لتبيين الكاذب منه ومن
خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ .
قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على
تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك
الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل ، وألصقهم
بالقلوب . وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثم كانوا يسوقون مع
أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة
الحقائق ، وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم ، وقرب منزلتهم ،
وليؤذن بأنهم مقدّمون على الأنفس يفدون بها ، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل
أصحاب الكساء عليهم السلام ، وفيه برهان واضح على صحة نبوّة النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) ) ، لأنه لم ير واحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك . إنتهى كلامه
.
وقال ابن عطية : وما رواه الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوّته أحج لنا
على سائر الكفرة ، وأليق بحال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ودعاء النساء
والأبناء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين ، وظاهر
الأمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) جاءهم بما يخصه ، ولو عزموا استدعى
المؤمنين بأبنائهم ونسائهم ، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط . إنتهى .
وفي الآية دليل على المظاهرة بطريق الإعجاز على من يدعي الباطل بعد وضوح البرهان
بطريق القياس ، ومن أغرب الاستدلال ما استدلّ به من الآية محمد بن عليّ الحمصي .
وكان متكلماً على طريق الإثنى عشرية . على : أن علينا أفضل من جميع الأنبياء سوى
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال : وذلك أن قوله تعالى : ) وَأَنفُسَنَا
وأَنفُسَكُمْ ( ليس المراد نفس محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأن الإنسان لا
يدعو نفسه ، بل المراد غيره . وأجمعوا على أن الذي هو غيره : عليّ ، فدلت الآية
على أن نفسه نفس الرسول ، ولا يمكن أن يكون عينها ، فالمراد مثلها ، وذلك يقتضي
العموم إلاَّ أنه ترك في حق النبوّة الفضل لقيام الدليل ودل الإجماع على أنه كان (
صلى الله عليه وسلم ) ) أفضل من سائر الأنبياء ، فلزم أن يكون عليّ كذلك .
قال : ويؤكد ذلك الحديث المنقول عنه من الموافق والمخالف : ( من أراد أن يرى آدم
في علمه ، ونوحاً في طاعته ، وإبراهيم في حلمه ، وموسى في قومه ، وعيسى في صفوته
فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب ) . فيدل ذلك على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم
.
قال : وذلك يدل على أنه أفضل من جميع الأنبياء والصحابة .
" صفحة رقم 504 "
وأجاب الرازي : بأن الإجماع منعقد على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أفضل ممن
ليس بنبي ، وعليّ لم يكن نبياً ، فلزم القطع بأنه مخصوص في حق جميع الأنبياء .
وقال الرازي : استدلال الحمصي فاسد من وجوه .
منها قوله : إن الإنسان لا يدعو نفسه بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه ، تقول العرب :
دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني ، وهذا يسميه أبو علي بالتجريد .
ومنها قوله : وأجمعوا على أن الذي هو غيره هو عليّ ، ليس بصحيح ، بدليل الأقوال
التي سيقت في المعنى بقوله : وأنفسنا .
ومنها قوله : فيكون نفسه مثل نفسه ، ولا يلزم من المماثلة أن تكون في جميع الأشياء
، بل تكفي المماثلة في شيء مّا ، هذا الذي عليه أهل اللغة ، لا الذي يقوله
المتكلمون : من أن المماثلة تكون في جميع صفات النفس ، هذا اصطلاح منهم لا لغة .
فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة ، وهي كونه من بني هاشم ، والعرب تقول : هذا
من أنفسنا ، أي : من قبيلتنا . وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له . وهذه
النزغة التي ذهب إليها هذا الحمصي من كون علي أفضل من الأنبياء عليهم السلام سوى
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتلقفها بعض من ينتحل كلام الصوفية ، ووسع المجال
فيها ، فزعم أن الولي أفضل من النبي ، ولم يقصر ذلك على وليّ واحد ، كما قصر ذلك
الحمصي ، بل زعم : أن رتبة الولاية التي لا نبوة معها أفضل من رتبة النبوة . قال :
لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، والنبي يأخذ عن الله بواسطة ومن أخذ بلا
واسطة أفضل ممن أخذ بواسطة . وهذه المقالة مخالفة لمقالات أهل الإسلام . نعوذ
بالله من ذلك ، ولا أحد أكذب ممن يدعي أن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، لقد
يقشعرّ المؤمن من سماع هذا الافتراء وحكى لي من لا أتهمه عن بعض المنتمين ، إلى
أنه من أهل الصلاح ، أنه رؤي في يده كتاب ينظر فيه ، فسئل عنه . فقال : فيه ما
أخذته عن رسول الله ، وفيه ما أخذته عن الله شفاهاً ، أو شافهني به ، الشك من
السامع . فانظر إلى جراءة هذا الكاذب على الله حيث ادعى مقام من كلمه الله : كموسى
ومحمد عليهما الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء
قيل : وفي هذه الآية ضروب من البلاغة : منها إسناد الفعل إلى غير فاعله ، وهو : )
إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ( والله لم يشافهه بذلك ، بل بإخبار جبريل أو
غيره من الملائكة . والاستعارة في : ) مُتَوَفّيكَ ( وفي : ) فَوْقَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ ( والتفصيل لما أجمل في : ) إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ ( بقوله :
فأما ، وأمّا ، والزيادة لزيادة المعنى في ) مّن نَّاصِرِينَ ( أو : المثل في قوله
) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى ). والتجوز بوضع المضارع موضع الماضي في قوله ) نَتْلُوهُ (
وفي ) فَيَكُونُ ( وبالجمع بين أداتي تشبيه على قول في ) كَمَثَلِ ءادَمَ ( وبالتجوز
بتسمية الشيء باسم أصله في ) خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ). وخطاب العين ، والمراد به
غيره ، في ) فَلاَ تَكُن مّنَ ). والعام يراد به الخاص في ) تَعَالَوْاْ نَدْعُ
أَبْنَاءنَا ( الآية
" صفحة رقم 505 "
والتجوز بإقامة ابن العم مقام النفس على أشهر الأقوال ، والحذف في مواضع كثيرة .
2 ( ) إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ
سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ
بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ياأَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِىإِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ
وَالإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هاأَنتُمْ هَاؤُلاءِ
حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ
بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ
يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ وَهَاذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِىُّ
الْمُؤْمِنِينَ ( ) ) 2
آل عمران : ( 62 ) إن هذا لهو . . . . .
( إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ( هذا خبر من الله جزم مؤكد فصل به بين
المختصمين ، والإشارة إلى القرآن على قول الجمهور ، والظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم
من أخبار عيسى ، وكونه مخلوقاً من غير أب ، قاله ابن عباس ، وابن جريج ، وابن زيد
، وغيرهم . أي : هذا هو الحق لا ما يدعيه النصارى فيه من كونه إلهاً أو ابن الله ،
ولا ما تدعيه اليهود فيه ، وقيل : هذا إشارة إلى ما بعده من قوله ) وَمَا مِنْ
إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ ( ويضعف بأن هذه الجملة ليست بقصص وبوجود حرف العطف في قوله
: وما قال بعضهم إلاَّ إن أراد بالقصص الخبر ، فيصح على هذا ، ويكون التقدير : إن
الخبر الحق أنه ما من إله إلاَّ الله . انتهى . لكن يمنع من هذا التقدير وجود واو
العطف واللام في : لهو ، دخلت على الفصل . والقصص خبر إن ، والحق صفة له ، والقصص
مصدر ، أو فعل بمعنى مفعول ، أي : المقصوص كالقبض ، بمعنى المقبوض ، ويجوز أن يكون
: هو ، مبتدأ و : القصص ، خبره ، والجملة ، في موضع خبر إن ووصف القصص بالحق إشارة
إلى القصص المكذوب الذي أتى به نصارى نجران ، وغيرهم ، في أمر عيسى وإلا هيته .
( وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ ( أي : المختص بالإلهية هو الله وحده ، وفيه
ردّ على الثنوية والنصارى ، وكل من يدعي غير الله إلهاً .
و : من ، زائدة لاستغراق الجنس ، و : إله ، مبتدأ محذوف الخبر ، و : الله ، بدل
منه على الموضع ، ولا يجوز البدل على اللفظ ، لأنه يلزم منه زيادة : من ، في الواجب
، ويجوز في العربية في نحو هذا التركيب نصب ما بعد : إلاَّ ، نحو ما من شجاع إلاَّ
زيداً ، ولم يقرأ بالنصب في هذه الآية ، وإن كان جائزاً في العربية النصب على
الاستثناء .
( وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( إشارة إلى وصفي الإلهية وهما :
القدرة الناشئة عن الغلبة فلا يمتنع عليه شيء ، والعلم المعبر عنه بالحكمة فيما
صنع والإتقان لما اخترع ، فلا يخفي عنه شيء . وهاتان الصفتان منفيتان عن عيسى .
ويجوز في : لهو ، من الإعراب ما جاز في : لهو القصص ، وتقديم ذكر فائدة الفصل .
( فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (
آل عمران : ( 63 ) فإن تولوا فإن . . . . .
قال مقاتل : فإن تولوا عن الملاعنة . وقال الزجاج : عن البيان الذي أبانه رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقال أبو سليمان الدمشقي : عن الإقرار بالوحدانية
والتنزيه عن الصاحبة والولد وقال المرسيّ : عن هذا الذكر وقيل : عن الإيمان .
و : تولوا ، ماضٍ أو مضارع حذفت تاؤه ، وجواب الشرط في الظاهر الجملة من قوله : )
فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( ، والمعنى : ما يترتب على علمه
بالمفسدين من معاقبته لهم ، فعبر عن العقاب بالعلم الذي ينشأ عنه عقابهم ، ونبه
على العلة التي
" صفحة رقم 506 "
توجب العقاب ، وهي الإفساد ، ولذلك أتى بالاسم الظاهر دون الضمير ، وأتى به جمعاً
ليدل على العموم الشامل لهؤلاء الذين تولوا ولغيرهم ، ولكونه رأس آية ، ودل على أن
توليهم إفساد أي إفساد .
آل عمران : ( 64 ) قل يا أهل . . . . .
( قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ ( نزلت في وفد نجران ، قاله الحسن ، والسدي ، ومحمد بن جعفر بن
الزبير قال ابن زيد : لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة ، دعوا إلى أيسر
من ذلك ، وهي الكلمة السواء وقال ابن عباس : نزلت في القسيسين والرهبان ، بعث بها
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى جعفر وأصحابه بالحبشة ، فقرأها جعفر ،
والنجاشي جالس وأشراف الحبشة وقال قتادة ، والربيع ، وابن جريج : في يهود المدينة
، وهم الذين حاجوا في إبراهيم . وقيل : نزلت في اليهود والنصارى ، قالوا : يا محمد
ما تريد إلاَّ أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير ؟
ولفظ : يا أهل الكتاب ، يعم كل من أوتي كتاباً ، ولذلك دعا رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) اليهود بالآية ، والأقرب حمله على النصارى لأن الدلالة وردت عليهم ،
والمباهلة معهم ، وخاطبهم : بيا أهل الكتاب ، هزاً لهم في استماع ما يلقى إليهم ،
وتنبيهاً على أن من كان أهل كتاب من الله ينبغي أن يتبع كتاب الله ، ولما قطعهم
بالدلال الواضحة فلم يذعنوا ، ودعاهم إلى المباهلة فامتنعوا ، عدل إلى نوع من
التلطف ، وهو : دعاؤهم إلى كلمة فيها إنصاف بينهم .
وقرأ أبو السمال : كلمة ، كضربة ، و : كلمة ، كسدرة ، وتقدّم هذا عند قوله : )
مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ ( والكلمة هي ما فسرت به بعد . وقال أبو العالية : ) لاَ
إِلَاهَ إِلاَّ اللَّهُ ( ، وهذا تفسير المعنى .
وعبر بالكلمة عن الكلمات ، لأن الكلمة قد تطلقها العرب على الكلام ، وإلى هذا ذهب
الزجاج ، إما لوضع المفرد موضع الجمع ، كما قال : بها جيفُ الحسرى ، فأما عظامها
فبيض ، وأما جلدها فصليب
وإما لكون الكلمات مرتبطة بعضها ببعض ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة إذا اختلّ جزء
منها اختلت الكلمة ، لأن كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، هي كلمات لا تتم النسبة
المقصودة فيها من حصر الإلهية في الله إلا بمجموعها .
وقرأ الجمهور : سواء ، بالجر على الصفة . وقرأ الحسن : سواء ، بالنصب ، وخرجه
الحوفي والزمخشري على أنه مصدر . قال الزمخشري : بمعنى استوت استواء ، فيكون :
سواء ، بمعنى استواء ، ويجوز أن ينتصب على الحال من : كلمة ، وإن كان نكرة
" صفحة رقم 507 "
ذو الحال ، وقد أجاز ذلك سيبويه وقاسه ، والحال والصفة متلاقيان من حيث المعنى ،
والمصدر يحتاج إلى إضمار عامل ، وإلى تأويل : سواء ، بمعنى : استواء ، والأشهر
استعمال : سواء ، بمعنى اسم الفاعل ، أي : مستو ، وقد تقدّم الكلام على سواء في
أول سورة البقرة ، وقال قتادة ، والربيع ، والزجاج : هنا يعني بالسواء العدل ، وهو
من : استوى الشيء ، وقال زهير : أروني خطة لا ضيم فيها
يسوي بيننا فيها السواء
والمعنى : إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم . وقال أبو عبيدة : تقول العرب : قد دعاك
فلان إلى سواء فاقبل منه . وفي مصحف عبد الله : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم . وقال
ابن عباس : أي كلمة مستوية ، أي مستقيمة . وقيل : إلى كلمة قصد . قال ابن عطية :
والذي أقوله في لفظة : سواء ، أنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع ،
وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون ، صغيرهم وكبيرهم ، وقد كانت سيرة
المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً ، فلم يكونوا على استواء حال ، فدعاهم بهذه
الآية إلى ما يألف النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه ، فسواء على هذا التأويل
بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مالً سواء بيني وبينه ، والفرق بين هذا التفسير
وبين تفسير لفظة : العدل ، أنك لو دعوت أسيراً عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه ،
لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل ، على هذا الحد جاءت لفظة : سواء ، في
قوله تعالى ) فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء ( على بعض التأويلات ، وإن دعوت
أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حرّاً مقاسماً لك . في عيشك لكنت قد دعوته إلى السواء
الذي هو استواء الحال على ما فسرته واللفظة على كل تأويل فيها معنى العدل ، ولكني
لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال ، وهو عندي حسن ، لأن
النفوس تألفه ، والله الموفق للصواب . انتهى كلامه ، وهو تكثير لا طائل تحته ،
والظاهر انتصاب الظرف بسواء .
( أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ ( موضع : أن ، جر على البدل من : كلمة ، بدل شيء
من شيء ، ويجوز أن في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هي أن لا نعبد إلاَّ الله
. وجوّزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : سواء ، وارتفاع : أن لا نعبد ، على
الابتداء والخبر قوله : بيننا
" صفحة رقم 508 "
وبينكم . قالوا : والجملة صفة للكلمة ، وهذا وهم لعرو الجملة من رابط يربطها
بالموصوف ، وجوزوا أيضاً ارتفاع : أن لا نعبد ، بالظرف ، ولا يصح إلاَّ على مذهب
الأخفش والكوفيين حيث أجازوا إعمال الظرف من غير اعتماد ، والبصريون يمنعون ذلك ،
وجوز علي بن عيسى أن يكون التقدير : إلى كلمة مستو بيننا وبينكم فيها الامتناع من
عبادة غير الله ، فعلى هذا يكون : أن لا نعبد ، في موضع رفع على الفاعل بسواء ،
إلاَّ أن فيه إضمار الرابط ، وهو فيها ، وهو ضعيف .
والمعنى : أن نفرد الله وحده بالعبادة ولا نشرك به شيئاً ، أي : لا نجعل له شريكاً
. وشيئاً يحتمل أن يكون مفعولاً به ، ويحتمل أن يكون مصدراً أي شيئاً من الإشراك ،
والفعل في سياق النفي ، فيعم متعلقاته من مفعول به ومصدر وزمان ومكان وهيئة .
( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ ( أي لا نتخذهم
أرباباً فنعتقد فيهم الإلهية ونعبدهم على ذلك : كعزير وعيسى ، قاله مقاتل ،
والزجاج ، وعكرمة .
وقيل عنه : إنه سجود بعضهم لبعض أو لا نطيع الأساقفة والرؤساء فيما أمروا به من
الكفر والمعاصي ونجعل طاعتهم شرعاً . قاله ابن جريج ، كقوله تعالى ) اتَّخَذُواْ
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ ( وعن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله . قال : ( أليس كانوا
يحلون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم ) ؟ قال : نعم . قال : ( هو ذاك ) .
وفي قوله : بعضنا بعضاً ، إشارة لطيفة ، وهي أن البعضية تنافي الإلهية إذ هي تماثل
في البشرية ، وما كان مثلك استحال أن يكون إلهاً ، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من
شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوّة في قولهم : ) إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ
مّثْلُنَا ( ) إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( ) أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ
مِثْلِنَا ( فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا فيه أشد استبعاداً : وهذه
الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى ، يؤكد بعضها بعضاً ، إذ
اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله ، ولكن
الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام ، لأنهم كانوا مبالغين في التمسك بعبادة غير
الله ، فناسب ذلك التوكيد في انتفاء ذلك ، والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة :
عبدوا عيسى ، وأشركوا بقولهم : ثالث ثلاثة واتخذوا أحبارهم أرباباً في الطاعة لهم
في تحليلٍ وتحريمٍ وفي السجود لهم .
قال الطبري : في قوله : ) أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ ( أنزلوهم منزلة ربهم في
قبول التحريم والتحليل لما لم يحرمه الله ، ولم يحله . وهذا يدل على بطلان القول
بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، كتقديرات دون مستند ، والقول
بوجوب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي ، كما ذهب إليه الرّوافض . انتهى .
وفيه بعض اختصار .
( فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( أي : فإن تولوا
عن الكلمة السواء فأشهدوهم أنكم منقادون إليها ، وهذا مبالغة في المباينة لهم ، أي
: إذا كنتم متولين عن هذه الكلمة ، فإنا قابلون لها ومطيعون . وعبر عن العلم
بالشهادة على سبيل المبالغة ، إذ خرج ذلك من حيز المعقول إلى حيز المشهود ، وهو
المحضر في الحسّ . قال ابن عطية : هذا أمر بإعلام بمخالفتهم ومواجهتهم بذلك ،
وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم
كيف يكون . انتهى .
وقال الزمخشري : أي لزمتكم الحجة ، فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون
دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع ، أو غيرهما : اعترف بأني أنا
الغالب ، وسلم لي الغلبة ، ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا
واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره . انتهى .
وهذه الآية في الكتاب الذي وجه به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) دحية إلى
عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل .
( قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إِبْراهِيمَ وَمَا
أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
" صفحة رقم 509 "
آل عمران : ( 65 ) يا أهل الكتاب . . . . .
عن ابن عباس وغيره . أن اليهود قالوا : كان إبراهيم يهودياً ، وأن النصارى قالوا :
كان نصرانياً . فأنزلها الله منكراً عليهم . وقال ابن عباس ، والحسن : كان إبراهيم
سأل الله أن يجعل له ) لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( فاستجاب الله دعاءه حتى ادعته
كل فرقة .
و : ما ، في قوله : لمَ ، استفهامية حذفت ألفها مع حرف الجر ، ولذلك علة ذكرت في
النحو ، وتتعلق : اللام بتحاجون ، ومعنى هذا الاستفهام الإنكار ، ومعنى : في
إبراهيم ، في شرعه ودينه وما كان عليه ، ومعنى : المحاجة ، ادعاء من الطائفتين أنه
منها وجدالهم في ذلك ، فرد الله عليهم ذلك بأن شريعة اليهود والنصارى متأخرة عن
إبراهيم ، وهو متقدم عليهما ، ومحال أن ينسب المتقدم إلى المتأخر ، ولظهور فساد
هذه الدعوى قال : ) أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( أي : هذا كلام من لا يعقل ، إذ العقل
يمنع من ذلك . ولا يناسب أن يكون موافقاً لهم ، لا في العقائد ولا في الأحكام .
أمّا في العقائد فعبادتهم عيسى وادعاؤهم أنه الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة .
وادعاء اليهود أن عزيراً ابن الله ، ولم يكونا موجودين في زمان إبراهيم .
وأما الأحكام فإن التوراة والإنجيل فيهما أحكام مخالفة للأحكام التي كانت عليها
شريعة إبراهيم ، ومن ذلك قوله ) فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( وقوله : ) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ
عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ ( وغير ذلك فلا يمكن أن يكون إبراهيم على دين
حدث بعده بأزمنة متطاوله .
ذكر المؤرخون أن بين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبينه وبين عيسى ألفان . وروي أبو
صالح عن ابن عباس : أنه كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة ، وبين
موسى وعيسى ألف سنة وستمائة واثنان وثلاثون سنة .
وقال ابن إسحاق : كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة ، وبين موسى
وعيسى ألف وتسعمائة سنة وخمس وعشرون .
والواو في : ) وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ ( لعطف جملة على جملة ، هكذا ذكروا .
والذي يظهر أنها للحال كهي في قوله تعالى : ) لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ
وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ( وقوله ) لِمَ تَلْبِسُونَ ( ثم قال ) وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ ( وقوله : ) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا
فَأَحْيَاكُمْ ( أنكر عليهم ادّعاء أن إبراهيم كان على شريعة اليهود أو النصارى ،
والحال أن شريعتيهما متأخرتان عنه في الوجود ، فكيف يكون عليها مع تقدمه عليها ؟
وأمّا الحنيفية والإسلام فمن الأوصاف التي يختص بها كل ذي دين حق ، ولذلك قال
تعالى : ) إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( إذ الحنيف هو المائل للحق ،
والمسلم هو المستسلم للحق ، وقد أخبر القرآن بأن إبراهيم ) كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا
).
وفي قوله : ) أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( توبيخ على استحالة مقالتهم ، وتنبيه على ما
يظهر به غلطهم ومكابرتهم .
آل عمران : ( 66 ) ها أنتم هؤلاء . . . . .
( هأَنتُمْ هَاؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ
فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ( الذي لهم به علم هو دينهم الذي وجدوه في كتبهم
وثبت عندهم صحته ، والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم ودينه ، ليس موجوداً في
كتبهم ، ولا أتتهم به أنبياؤهم ، ولا شاهدوه فيعلموه . قاله قتادة ، والسدي ،
والربيع ، وغيرهم . وهو الظاهر لما حف به من قبله ، ومن بعده من الحديث في إبراهيم
، ونسب هذا القول إلى الطبري ابن عطية ، وقال : ذهب عنه أن ما كان هكذا فلا يحتاج
معهم فيه إلى محاجة ، لأنهم يجدونه عند محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) كما كان
هنالك على حقيقته .
وقيل : الذي لهم به علم هو أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنهم وجدوا نعته
في
" صفحة رقم 510 "
كتبهم ، فجادلوا بالباطل . والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم .
والظاهر في قوله : ) فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ ( إثبات العلم لهم . وقال ابن عطية :
فيما لكم به علم على زعمكم ، وإنما المعنى : فيما يشبه دعواكم ، ويكون الدليل
العقلي يرد عليكم . وقال قتادة أيضاً : حاججتم فيما شهدتم ورأيتم ، فلم تحاجون
فيما لم تشاهدوا ولم تعلموا ؟ وقال الرازي : ) ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء ( الآية .
أي : زعمتم أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن ، فكيف تحاجون فيما لا
علم لكم به ؟ وهو ادّعاؤهم أن شريعة إبراهيم مخالفة لشريعة محمد ( صلى الله عليه
وسلم ) ) ؟
ويحتمل أن يكون قوله ) لَكُم بِهِ عِلمٌ ( أي : تدعون علمه لا أنه وصفهم بالعلم
حقيقة ، فكيف يحاجون فيما لا علم لهم به ألبتة .
وقرأ الكوفيون ، وابن عامر ، والبزي : ها أنتم ، بألف بعد الهاء بعدها همزة : أنتم
، محققة . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بهاء بعدها ألف بعدها همزة مسهلة بين
بين ، وأبدل أناس هذه الهمزة ألفاً محضة لورش : ها ، للتنبيه لأنه يكثر وجودها مع
المضمرات المرفوعة مفصولاً بينها وبين اسم الإشارة حيث لا استفهام ، وأصلها أن
تباشر إسم الإشارة ، لكن اعتني بحرف التنبيه ، فقدم ، وذلك نحو قول العرب : ها
أناذا قائماً ، و : ها أنت ذا تصنع كذا . و : ها هوذا قائماً . ولم ينبه المخاطب
هنا على وجود ذاته ، بل نبه على حال غفل عنها لشغفه بما التبس به ، وتلك الحالة هي
أنهم حاجوا فيما لا يعلمون ، ولم ترد به التوراة والإنجيل ، فتقول لهم : هب أنكم
تحتجون فيما تدعون أن قد ورد به كتب الله المتقدمة ، فلم تحتجون فيما ليس كذلك ؟
وتكون الجملة خبرية وهو الأصل ، لأنه قد صدرت منهم المحاجة فيما يعلمون ، ولذاك
أنكر عليهم بعد المحاجة فيما ليس لهم به علم ، وعلى هذا يكون : ها ، قد أعيدت مع
اسم الإشارة توكيداً ، وتكون في قراءة قنبل قد حذف ألف : ها ، كما حذفها من وقف
على : ) أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ ( يا أيه بالسكون وليس الحذف فيها يقوى في القياس .
وقال أبو عمرو ابن العلاء ، وأبو الحسن الأخفش : الأصل في : ها أنتم . فأبدل من
الهمزة الأولى التي للاستفهام هاء . لأنها أختها . واستحسنه النحاس . وإبدال
الهمزة هاء مسموع في كلمات ولا ينقاس ، ولم يسمع ذلك في همزة الاستفهام ، لا يحفظ
من كلامهم : هتضرب زيداً ، بمعنى : زيداً إلاَّ في بيت نادر جاءت فيه : ها ، بدل
همزة الاستفهام ، وهو : وأتت صواحبها وقلن هذا الذي
منح المودّة غيرنا وجفانا
ثم فصل بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام ، وهمزة : أنت ، لا يناسب ، لأنه إنما
يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين ، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى : هاء ، ألا
ترى أنهم حذفوا الهمزة في نحو : أريقه ، إذ أصله : أأريقه ؟ فلما أبدلوها هاء لم
يحذفوا ، بل قالوا : أهريقه .
وقد وجهوا قراءة قنبل على أن : الهاء ، بدل من همزة الاستفهام لكونها هاء لا ألف
بعدها ، وعلى هذا من أثبت الألف ، فيكون عنده فاصلة بين الهاء المبدلة من همزة
الاستفهام ، وبين همزة : أنتم ، أجرى البدل في الفصل مجرى المبدل منه ، والاستفهام
على هذا معناه التعجب من حماقتهم ، وأمّا من سهل فلأنها همزة بعد ألف على حد
تسهيلهم إياها في : هيأه . وأمّا تحقيقها فهو الأصل ، وأمّا إبدالها ألفاً فقد
تقدّم الكلام في ذلك في قوله ) أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ ).
و : أنتم ، مبتدأ ، و : هؤلاء . الخبر . و : حاججتم ، جملة حالية . كقول : ها أنت
ذا قائماً . وهي من الأحوال التي ليست يستغنى عنها ، كقوله : ) ثُمَّ أَنتُمْ
هَاؤُلاء تَقْتُلُونَ ( على أحسن الوجوه في إعرابه .
وقال الزمخشري : أنتم ، مبتدأ ، و : هؤلاء ، خبره ، و : حاججتم ، جملة مستأنفة
مبينة للجملة الأولى ، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقي ، وبيان حماقتكم ، وقلة
عقولكم ، أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل ، فلم تحاجون
فيما ليس لكم به علم ، ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم ؟ انتهى .
وأجازوا أن يكون : هؤلاء ، بدلاً ، وعطف بيان ، والخبر : حاججتم ، وأجازوا أن يكون
" صفحة رقم 511 "
هؤلاء ، موصولاً بمعنى الذي ، وهو خبر المبتدأ ، أو : حاججتم ، صلته . وهذا على
رأي الكوفيين . وأجازوا أيضاً أن يكون منادي أي : يا هؤلاء ، وحذف منه حرف النداء
، ولا يجوز حذف حرف النداء من المشار على مذهب البصريين ، ويجوز على مذهب الكوفيين
، وقد جاء في الشعر حذفه ، وهو قليل ، نحو قول رجل من طيء : إن أُلالى وصفوا قومي
لهم فهم
هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً
وقال : لا يغرّنكم أولاء من القو
م جنوح للسلم فهو خداع
يريد : يا هذا اعتصم ، و : يا أولاء .
( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( أي : يعلم دين إبراهيم الذي
حاججتم فيه ، وكيف حال الشرائع في الموافقة . والمخالفة ، وأنتم لا تعلمون ذلك ،
وهو تأكيد لما قبله من نفي العلم عنهم في شأن إبراهيم ، وفي قوله : والله يعلم ،
استدعاء لهم أن يسمعوا ، كما تقول لمن تخبره بشيء لا يعلمه : إسمع فإني أعلم ما لا
تعلم .
( مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا
مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (
آل عمران : ( 67 ) ما كان إبراهيم . . . . .
أعلم تعالى براءة إبراهيم من هذه الأديان ، وبدأ بانتفاء اليهودية ، لأن شريعة
اليهود أقدم من شريعة النصارى ، وكرر ، لا ، لتأكيد النفي عن كل واحد من الدينين ،
ثم استدرك ما كان عليه بقوله ) وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا ( ووقعت لكن هنا
أحسن موقعها ، إذ هي واقعة بين النقضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل .
ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى ، كان الاستدارك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتهما
، ثم نفى على سبيل التكميل للتبري من سائر الأديان كونه من المشركين ، وهم : عبدة
الأصنام ، كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم ، وكالمجوس عبدة النار ،
وكالصابئة عبدة الكواكب ، ولم ينص على تفصيلهم ، لأن الإشراك يجمعهم .
وقيل : أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيراً والمسيح ، فتكون هذه
الجملة توكيداً لما قبلها من قوله ) مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ
نَصْرَانِيّا ( وجاء : من المشركين ، ولم يجىء : وما كان مشركاً ، فيناسب النفي
قبله ، لأنها رأس آية .
وقال ابن عطية : نفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان ؛
ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية . وجاء ترتيب النفي على غاية
الفصاحة ، نفي نفس الملل ، وقرر الحال الحسنة ، ثم نفي نفياً بين به أن تلك الملل
فيها هذا الفساد الذي هو الشرك ، وهذا كما تقول : ما أخذت لك مالاً ، بل حفظته .
وما كنت سارقاً ، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ . انتهى كلامه .
وتلخص بما تقدم أن قوله . ) وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ثلاثة أقوال :
أحدهما : أن المشركين عبدة الأصنام والنار والكواكب والثاني : أنهم اليهود
والنصارى والثالث : عبدة الأوثان واليهود والنصارى .
وقال عبد الجبار : معنى ) مَا كَانَ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا ( لم يكن على
الدين الذي يدين به هؤلاء المحاجون ، ولكن كان على جهة الدين الذي يدين به
المسلمون . وليس المراد أن شريعة موسى وعيسى لم تكن صحيحة .
وقال علي بن عيسى : لا يوصف إبراهيم بأنه كان يهودياً ولا نصرانياً لأنهما صفتا
دمّ لاختصاصهما بفرقتين ضالتين ، وهما طريقان محرّفان عن دين موسى وعيسى ، وكونه
مسلماً لا يوجب أن يكون على شريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بل كان على جهة
الإسلام .
والحنيف : اسم لمن يستقبل في صلاته الكعبة ، ويحج إليها ، ويضحي
" صفحة رقم 512 "
ويختتن . ثم سمي من كان على دين إبراهيم حنيفاً . انتهى .
وفي حديث زيد بن عمرو بن نفيل : أنه خرج إلى الشام يسأل عن الدين ، وأنه لقي
عالماً من اليهود ، ثم عالماً من النصارى ، فقال له اليهودي : لن تكون على ديننا
حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله . وقال له النصراني : لن تكون على ديننا حتى تأخذ
بنصيبك من لعنة الله . فقال زيد : ما أفرّ إلاَّ من غضب الله ، ومن لعنته . فهل
تدلاني على دين ليس فيه هذا ؟ قالا : ما نعلمه إلاَّ أن تكون حنيفاً . قال : وما
الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم ، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، وكان لا يعبد إلاَّ
الله وحده ، فلم يزل رافعاً يديه إلى السماء . وقال : اللهم إني أشهدك أني على دين
إبراهيم .
وقال الرازي ما ملخصه : إن النفي إن كان في الأصول ، فتكون في الموافقة ليهود زمان
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ونصاراه . لأنهم غيروا فقالوا : المسيح ابن
الله ، وعزير ابن الله . لا في الأصول التي كان عليها اليهود والنصارى الذين كانوا
على ما جاء به موسى وعيسى ، وجميع الأنبياء متوافقون في الأصول ، وإن كان في
الفروع فلأن الله نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى وعيسى ، وأما موافقته لشريعة محمد
( صلى الله عليه وسلم ) ) فإن كان في الأصول فظاهر ، وإن كان في الفروع فتكون
الموافقة في الأكثر ، وإن خالف في الأقل فلم يقدح في الموافقة .
( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَاذَا
النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنُونَ (
آل عمران : ( 68 ) إن أولى الناس . . . . .
قال ابن عباس : قالت رؤساء اليهود : والله يا محمد ، لقد علمت أنا أولى الناس بدين
إبراهيم منك ومن غيرك ، وإنه كان يهودياً ، وما بك إلاَّ الحسد . فنزلت .
وروي حديث طويل في اجتماع جعفر وأصحابه ، وعمرو بن العاص ، وأصحابه . بالنجاشي ،
وفيه : أن النجاشي قال : لا دهورة اليوم على حزب إبراهيم . أي : لا خوف ولا تبعة ،
فقال عمرو : من حزب إبراهيم ؟ فقال النجاشي : هؤلاء الرهط وصاحبهم ، يعني : جعفراً
وأصحابه . ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( لكل نبي ولاة من
النبيين ، وإن وليي منهم أبي ، وخليل ربي إبراهيم ) . ثم قرأ هذه الآية . ومعنى : أولى
الناس : أخصهم به وأقربهم منه من الولي ، وهو القرب . والذين اتبعوه يشمل كل من
اتبعه في زمانه وغير زمانه ، فيدخل فيه متبعوه في زمان الفترات . وعنى بالأتباع
أتباعه في شريعته .
وقال عليّ بن عيسى : أحقهم بنصرته أي : بالمعونة وبالحجة ، فمن تبعه في زمانه نصره
بمعونته على مخالفته . ومحمد والمؤمنون نصروه بالحجة له أنه كان محقاً سالماً من
المطاعن ، وهذا النبي : يعني به محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وخص بالذكر من
سائر من اتبعه لتخصيصه بالشرف والفضيلة ، كقوله ) وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ).
) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( قيل : آمنوا من أمّة محمد ، وخصوا أيضاً بالذكر تشريفاً
لهم ، إذ هم أفضل الأتباع للرسل ، كما أن رسولهم أفضل الرسل . وقيل : المؤمنون في
كل زمان وعطف ) وَهَاذَا النَّبِىُّ ( على خبر إن ، ومن أعرب ) وَهَاذَا
النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ ( مبتدأ والخبر : هم المتبعون له ، فقد
تكلف إضماراً لا ضرورة تدعو إليه .
وقرىء : وهذا النبيّ ، بالنصب عطفاً على : الهاء ، في اتبعوه ، فيكون متبعاً لا
متبعاً : أي : أحق الناس بإبراهيم من اتبعه ، ومحمداً صلى الله عليهما وسلم ،
ويكون : والذين آمنوا ، عطفاً على خبر : إن ، فهو في موضع رفع .
وقرىء : وهذا النبي ، بالجر ، ووجه على أنه عطف على : إبراهيم ، أي : إن أولى
الناس بإبراهيم وبهذا النبي للذين اتبعوا إبراهيم . و : النبي ، قالوا : بدل من
هذا ، أو : نعت ، أو : عطف بيان . ونبه على الوصف الذي يكون به الله ولياً لعباده
، وهو : الإيمان . فقال : وليّ المؤمنين ، ولم يقل : وليهم . وهذا وعد لهم بالنصر
في الدنيا ، وبالفوز في الآخرة . وهذا كما قال تعالى : ) اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ ءامَنُواْ ).
قيل : وجمعت هذه الآيات من البلاغة :
" صفحة رقم 513 "
التنبيه والإشارة والجمع بين حرفي التأكيد ، وبالفصل في قوله : ) إِنَّ هَاذَا
لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ( وفي : ) وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ (
والإختصاص في : ) عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( وفي : ) وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ (
والتجوز بإطلاق اسم الواحد على الجمع في : ) إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء ( وباطلاق اسم
الجنس على نوعه في : ) مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( إذا فسر باليهود . والتكرار في :
إلا الله ، و : إنّ الله ، وفي : يا أهل الكتاب تعالوا ، يا أهل الكتاب لم . وفي :
إبراهيم ، و : ما كان إبراهيم ، و : إن أولى الناس بإبراهيم . والتشبيه في :
أرباباً ، لما أطاعوهم في التحليل والتحريم ، وأذعنوا إليهم أطلقب عليه : أرباباً
تشبيهاً بالرب المستحق للعبادة والربوبية ، والإجمال في الخطاب في : يا أهل الكتاب
، تعالوا يا أهل الكتاب ، لم تحاجون ، كقول إبراهيم : يا أبت . وكقول الشاعر :
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفوناً
وقول الآخر : بني عمنا لا تنبشوا الشر بيننا
فكم من رماد صار منه لهيب والتجنيس المماثل في : أولى وولي
.
2 ( ) وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا
يُضِلُّونَ إِلاَ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ
( ) ) 2
آل عمران : ( 69 ) ودت طائفة من . . . . .
( وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ( أجمع المفسرون
على أنها نزلت في : معاذ ، وحذيفة ، وعمار . دعاهم يهود : بني النضير ، وقريظة ،
وقينقاع ، إلى دينهم . وقيل : دعاهم جماعة من أهل نجران ومن يهود وقال ابن عباس :
هم اليهود ، قالوا لمعاذ وعمار تركتما دينكما واتبعتما دين محمد ، فنزلت . وقيل :
عيرتهم اليهود بوقعة أحد .
وقال أبو مسلم الأصبهاني : ودّ بمعنى : تمنى ، فتستعمل معها : لو ، و : أن ، وربما
جمع بينهما ، فيقال : وددت أن لو فعل ، ومصدره : الودادة ، والأسم منه : وُدّ ،
وقد يتداخلان في المصدر والأسم . قال الراغب : إذا كان : ودّ ، بمعنى أحبّ لا يجوز
إدخال : لوغ فيه أبداً . وقال عليّ بن عيسى : إذا كان : ودّ ، بمعنى : تمنى ، صلح
للماضي والحال والمستقبل ، وإذا كان بمعنى المحبة والإرادة لم يصلح للماضي لأن
الإرادة كاستدعاء الفعل . وإذا كان للحال والمستقبل جاز : أن ولو ، وإذا كان
للماضي لم يجز : أن ، لأن : أن ، للمستقبل . وما قال فيه نظر ، ألا ترى أن : أن ،
توصل بالفعل الماضي نحو : سرّني أن قمت ؟ .
( مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( في موضع الصفة لطائفة ، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم .
وقال ابن عطية : ويحتمل : من ، أن تكون لبيان الجنس ، وتكون الطائفة جميع أهل
الكتاب ، وما قاله يبعد من دلالة اللفظ ، ولو ، هنا قالوا بمعنى : أن فتكون مصدرية
، ولا يقول بذلك جمهور البصريين ، والأولى إقرارها على وضعها . ومفعول : ودّ ،
محذوف ، وجواب : لو ، محذوف ، حذف من كلَ من الجملتين ما يدل المعنى عليه ،
التقدير : ودّوا إضلالكم لو يضلونكم لسرّوا بذلك ، وقد تقدم لنا الكلام في نظير
هذا مشبعاً في قوله : ) يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ( فيطالع
هناك .
ومعنى : يضلونكم ، يردّونكم إلى كفركم ، قاله ابن عباس . وقيل : يهلكونكم ، قاله
ابن جرير ، والدمشقي . قال ابن عطية : واستدل يعني ابن جرير الطبري ببيت جرير
" صفحة رقم 514 "
كنت القذى في موج أخضر مزيد
قذف الأتىّ به فضلّ ضلالا
وبقول النابغة : فآب مضلُّوه بعين جلية
وغودر بالجولان حزم ونائل
وهو تفسير غير مخلص ولا خاص باللفظة ، وإنما اطرد له ، لأن هذا الضلال في الآية في
البيتين اقترن به هلاك ، وأمّا أن يفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم . إنتهى .
وقال غير ابن عطية أضلّ الضلال في اللغة الهلاك من قولهم : ضل اللبن في الماء ،
إذا صار مستهلكاً فيه . وقيل : معناه يوقعونكم في الضلال ، ويلقون إليكم ما
يشككونكم به في دينكم ، قاله أبو علي .
( وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ ( إن كان معناه الإهلاك فالمعنى أنهم يهلكون
أنفسهم وأشياعهم ، لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله وغضبه ، وإن كان
المعنى الإخراج عن الدين فذلك حاصل لهم بجحد نبوّة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) ) ، وتغيير صفته صاروا بذلك كفاراً ، وخرجوا عن ملة موسى وعيسى . وإن كان المعنى
الإيقاع في الضلال ، فذلك حاصل لهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج وإنزال
الكتب وإرسال الرسل .
وقال ابن عطية : إعلام أن سوء فعلهم عائد عليهم ، وأنه يبعدهم عن الإسلام . وقال
الزمخشري : وما يعود وبال الضلال إلاَّ عليهم ، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم
وإضلالهم ، أو : وما يقدرون على إضلال المسلمين ، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم
. إنتهى .
( وَمَا يَشْعُرُونَ ( إن ذلك الضلال هو مختص بهم أي : لا يفطنون لذلك لما دق أمره
وخفي عليهم لما اعترى قلوبهم من القساوة ، فهم لا يعلمون أنهم يضلون أنفسهم . ودل
ذلك على أن من أخطأ الحق جاهلاً كان ضالاً ، أو ) وَمَا يَشْعُرُونَ ( أنهم لا
يصلون إلى إضلالكم ، أو : لا يفطنون بصحة الإسلام ، وواجب عليهم أن يعلموا لظهور
البراهين والحجج ، ذكره القرطبي . أو : ما يشعرون أن الله يدل المسلمين على حالهم
، ويطلعهم على مكرهم وضلالتهم ، ذكره ابن الجوزي .
وفي قوله : ما يشعرون ، مبالغة في ذمهم حيث فقدوا المنفعة بحواسهم .
آل عمران : ( 70 ) يا أهل الكتاب . . . . .
( ياأَهْلَ ِ الْكِتَابِ لَمَن تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ ( قال ابن عباس : هي
التوراة والإنجيل من وصف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والإيمان به ، كما بين
في قوله : ) يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ (
قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وابن جريح . أو : القرآن من جهة قولهم : )
إِنَّمَا يُعَلّمُهُ ( ) كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ ( ) أَسَاطِيرُ
الاْوَّلِينَ ( والآيات التي أظهرها على يديه من : انشقاق القمر ، وحنين الجذع ،
وتسبيح الحصى ، وغير ذكل . أو : محمد والإسلام ، قاله قتادة ، أو : ما تلاه من
أسرار كتبهم وغريب أخبارهم ، قاله ابن بحر أو : كتب الله ، أو : الآيات التي يبين
لهم فيها صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وصحة نبوّته ، وأمروا فيها باتباعه
، قاله أبو علي .
( وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ( جملة حالية أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون
أنها آيات الله ، ومتعلق الشهادة محذوف ، يقدّر على حسب تفسير الآيات ، فيقدّر بما
يناسب ما فسرت
" صفحة رقم 515 "
به ، فلذلك قال قتادة ، والسدي ، والربيع : وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من
كتابكم الذي فيه البشارة .
وقيل : تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها ، وقيل : بما عليكم فيه من
الحجة . وقيل : إن كتبكم حق ، ولا تتبعون ما أنزل فيها . وقيل : بصحتها إذا خلوتم
.
فيكون : تشهدون ، بمعنى : تقرون وتعترفون . وقال الراغب : أو عنى ما يكون من
شهادتهم ) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ ).
وقيل : تكفرون بآيات الله : تنكرون كون القرآن معجزاً ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم
أنه معجز .
( ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (
آل عمران : ( 71 ) يا أهل الكتاب . . . . .
تقدّم تفسير مثل هذا في قوله : ) وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ( وفسر
: اللبس ، بالخلط والتغطية ، وتكلم المفسرون هنا ، ففسروا الحق بما يجدونه في
كتبهم من صفة الرسول ، والباطل الذي يكتبونه بأيديهم ويحرفونه : قال معناه الحسن ،
وابن زيد .
وقيل : إظهار الإسلام وإبطال اليهودية والنصرانية ، قال قتادة ، وابن جرير
والثعلبي . وقيل : الإيمان بموسى وعيسى ، والكفر بالرسول . وقال أبو علي : يتأولون
الآيات التي فيها الدلالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) على خلاف
تأويلها ، ليظهر منها للعوامّ خلاف ما هي عليه ، وأنتم تعلمون بطلان ما تقولون .
وقيل : هو ما ذكره تعالى بعد ذلك من قوله : ) بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى ( وقيل :
إقرارهم ببعض أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والباطل : كتمانهم لبعض أمره ،
وهذان القولان عن ابن عباس . وقيل : إقرارهم بنبوته ورسالته ، والباطل قول أحبارهم
: ليس رسولاً ألينا ، بل شريعتنا مؤبدة .
وقرأ يحيى بن وثاب : تلبسون ، بفتح الباء مضارع : لبس ، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه ،
والباء في : بالباطل ، للحال أي : مصحوباً بالباطل .
وقرأ أبو مجلز : تلبسون ، بضم التاء وكسر الباء المشدّدة ، والتشديد هنا للتكثير ،
كقولهم : جرّحت وقتلت ، وأجاز الفراء ، والزجاج في : ويكتمون ، النصب ، فتسقط
النون من حيث العربية على قولك : لم تجمعون ذاوذاً ؟ فيكون نصباً على الصرف في قول
الكوفيين ، وبإضمار : أن ، في قول البصريين . وأنكر ذلك أبو علي ، وقال :
الإستفهام وقع على اللبس فحسب .
وأما : يكتمون ، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاَّ الرفع بمعنى أنه ليس معطوف على :
تلبسون ، بل هو استئناف ، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق ، وقال ابن
عطية : قال أبو علي : الصرف ها هنا يقبح ، وكذلك إضمار : أن ، لأن : يكتمون ،
معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ،
واللبس موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، وبمنزلة ،
قولك : أتقوم فأقوم ؟ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب ، إلاَّ في ضرورة شعر
، كما روي :
والحق بالحجاز فاستريحا
وقد قال سيبويه : في قولك : أسرت حتى تدخلها ، الا يجوز إلاَّ النصب ، في : تدخل ،
لأن السير مستفهم عنه غير موجب . وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلها ، رفعت ، لأن
السير موجب ، والاستفهام إنما وقع عن غيره . إنتهى ما نقله ابن عطية عن أبي علي .
والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله ، لأن ما قبله فيه : أن الأستفهام وقع على اللبس
فحسب ، وأما : يكتمون ، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاّ الرفع ، وفيما نقله ابن عطية
أن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطف على
" صفحة رقم 516 "
اشتراكهما في الإستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى
وبين أن يكون : ويكتمون ، إخباراً محضاً لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب ،
وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل
بإضمار أن في جوابه ، تبعه في ذلك ابن مالك . فقال في ( التسهيل ) حين عد ما يضمر
: أن ، لزوماً في الجواب ، فقال : أو لإستفهام لا يتضمن وقوع الفعل ، فإن تضمن وقع
الفعل لم يجز النصب عنده ، نحو : لم ضربت زيداً ، فيجازيك ؟ لأن الضرب قد وقع ولم
نر أحداً من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي ، وتبعه فيه ابن مالك في
الاستفهام ، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله ، إما لكونه ليس ثم فعل ، ولا ما في
معناه ينسبك منه ، وإما لإستحالة سبك مصدر مراد استقباله لأجل مضي الفعل ، فإنما
يقدر فيه مصدر استقباله مما يدل عليه المعنى ، فإذا قال : لم ضربت زيداً فأضربك .
أي : ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا ، وما ردّ به أبو عليّ على أبي إسحاق ليس
بمتجه . لأن قوله : ) لِمَ تَلْبِسُونَ ( ليس نصاً على أن المضارع أريد به الماضي
حقيقة ، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره ، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود
أمثاله . ولو فرضنا أنه ماض حقيقة ، فلا ردّ فيه على أبي إسحاق ، لأنه كما قررنا
قبل : إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة ، سبكناه من لازم الجملة .
وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع ، نحو : أين ذهب
زيد فنتبعه ؟ وكذلك في : كم مالك فنعرفه ؟ و : من أبوك فنكرمه ؟ لكنه يتخرج على ما
سبق ذكره من أن التقدير : ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا . و : ليكن منك
إعلام بقدر مالك فمعرفة منا . و : ليكن منك إعلام بأبيك فاكرام منا له .
وقرأ عبيد بن عمير : لم تلبسوا ، وتكتموا ، بحذف النون فيهما ، قالوا : وذلك جزم ،
قالوا : ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق : لِمَ بلم في عمل
الجزم . وقال السجاوندي : ولا وجه له إلاَّ أن : لم ، تجزم الفعل عند قوم كلم .
إنتهى . والثابت في لسان العرب أن : لَم ، لا ينجزم ما بعدها ، ولم أر أحداً من
النحويين ذكر أن لِمَ تجري مجرى : لَمُ في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا ،
وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع ، وقد جاء ذلك في النثر قليلاً جداً ،
وذلك في قراءة أبي عمر ، ومن بعض طرقه قالوا : ساحران تظاهران ، تتشديد الطاء ، أي
أنتما ساحران تتظاهرن فأدغم التاء في الظاء وحذف النون ، وأما في النظم ، فنحو :
قول الراجز :
أبيت أسرى وتبيتي تدلكي
يريد : وتبيتين تدلكين . وقال : فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو
ستحتلبوها لاقحاً غير باهل
والظاهر أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل ، وكتم الحق ، وكأن الحق منقسم إلى قسمين
: قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز ، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر .
( وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( جملة حالية تنعي عليهم ما التبسوا به من لبس الحق
بالباطل وكتمانه ، أي : لا يناسب من علم الحق أن يكتمه ، ولا أن يخلطه بالباطل ،
والسؤال عن السبب سؤال عن المسبب ، فإذا أنكر السبب فبالأولى أن ينكر المسبب ،
وختمت الآية قبل هذه بقوله : ) وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ( وهذه بقوله : ) وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ ( لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر بآيات الله ، وهي أخص من الحق ،
لأن آيات الله بعض الحق ، والشهادة أخص من العلم ، فناسب الأخص الأخص ، وهنا الحق
أعم من الآيات وغيرها ، والعلم أعم من الشهادة ، فناسب الأعم الأعم . وقالوا في
" صفحة رقم 517 "
قوله : ) وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( أي : أنه نبي حق ، وأن جاء به من عند الله حق .
وقيل : قال : ) وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ليتبين لهم الأمر الذي يصح به التكليف ،
ويقوم عليهم به الحجة . وقيل : ) وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( الحق بما عرفتموه من
كتبكم وما سمعتموه من ألسنة أنبيائكم .
وفي هذه الآيات أنواع من البديع . الطباق في قوله : الحق بالباطل ، والطباق
المعنوي في قوله : لم تكفرون وأنتم تشهدون ، لأن الشهادة إقرار وإظهار ، والكفر
ستر . والتجنيس المماثل في : يضلونك وما يضلون والتكرار في : أهل الكتاب والحذف في
مواضع قد بينت .
2 ( ) وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءَامِنُواْ بِالَّذِيأُنزِلَ
عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى
هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ
عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ) ) 2
) وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى
الَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (
آل عمران : ( 72 ) وقالت طائفة من . . . . .
قال الحسن ، والسدي : تواطأ اثنا عشر حبراً من يهود خيبر وقرى عرينة ، وقال بعضهم
لبعض : ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الإعتقاد ، واكفروا به في آخر
النهار ، وقولوا إنا نظرنا في كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمداً ليس كذلك ،
وظهر لنا كذبه وبطلان دينه ، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم ، وقالوا : هم أهل
الكتاب فهم أعلم منا ، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم ، فنزلت .
وقال مجاهد ، ومقاتل ، والكلبي : هذا في شأن القبلة ، لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك
على اليهود ، فقال كعب بن الأشرف وأصحابه : صلوا إليها أول النهار ، وارجعوا إلى
كعبتكم الصخرة آخره ، فنزلت .
وقال ابن عباس ، ومجاهد : صلوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) صلاة الصبح ، ثم
ارجعوا آخر النهار فصلوا صلاتها ليرى الناس أنه قد بدت لهم منه ضلالة بعد أن كانوا
اتبعوه ، فنزلت .
وقال السدي : قالت اليهود لسفلتهم : آمنوا بمحمد أول النهار ، فإذا كان بالعشي
قولوا : قد عرفنا علماؤنا أنكم لستم على شيء ، فنزلت .
وحكى ابن عطية ، عن الحسن : أن يهود خيبر قالت ذلك ليهود المدينة . انتهى . جعلت
اليهود هذا سبباً إلى خديعة المسلمين .
والمقول لهم محذوف ، فيحتمل أن يكون بعض هذه الطائفة لبعض ، ويحتمل أن يكون المقول
لهم ليسوا من هذه الطائفة ، والمراد : بآمنوا ، أظهروا الإيمان ، ولا يمكن أن يراد
به التصديق ، وفي قوله : ) بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ ( حذف أي
: على زعمهم ، وإلاَّ فهم يكذبون ، ولا يصدقون أن الله أنزل شيئاً على المؤمنين .
وانتصب : وجه النهار ، على الظرف ومعناه : أول النهار ، شبه بوجه الإنسان إذ هو
أول ما يواجه منه .
وقال الربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير بن خزيمة العبسي : من كان مسروراً
بمقتل مالك
فليأت نسوتنا بوجه نهار
والضمير في : آخره ، عائد على النهار ، أي : آخر النهار .
والناصب للظرف الأول : آمنوا ، وللآخر : اكفروا . وقيل : الناصب لقوله : وجه
النهار ، أنزل . أي : بالذي أنزل على الذين آمنوا في أول النهار ، والضمير في :
آخره ، يعود على الذي
" صفحة رقم 518 "
أنزل ، أي : واكفروا آخر المنزل ، وهذا فيه بعد ومخالفة لأسباب النزول ، ومتعلق
الرجوع محذوف أي : يرجعون عن دينهم .
وظاهر الآية الدلالة على هذا القول ، وأما امتثال الأمر ممن أمر به فسكوت عن وقوعه
، وأسباب النزول تدل على وقوعه ، وهذا القول طمعوا أن ينخدع العرب به ، أو يقول
قائلهم : هؤلاء أهل الكتاب القديم وجودة النظر والإطلاع ، دخلوا في هذا الأمر
ورجعوا عنه ، وفيه تثبيت أيضاً لضعفائهم على دينهم .
آل عمران : ( 73 ) ولا تؤمنوا إلا . . . . .
( وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( اللام في : لمن ، قيل :
زائدة للتأكيد ، كقوله ) عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم ( أي ردفكم ، وقال الشاعر
: ما كنت أخدع للخليل بخلة
حتى يكون لي الخليل خدوعاً
أراد : ما كنت أخدع الخليل ، والأجود أن لا تكون : اللام ، زائدة بل ضمن ، آمن
معنى : أقر واعترف ، فعدى باللام . وقال أبو علي : وقد تعدّى آمن باللام في قوله )
فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرّيَّةٌ ( ) وَءامَنتُمْ لَهُ ( ) وَيُؤْمِن
بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ( انتهى . والأجود ما ذكرناه من جملة قول
طائفة اليهود ، لأنه معطوف على كلامهم ، ولذلك قال ابن عطية : لا خلاف بين أهل
التأويل أن هذا القول من كلام الطائفة . انتهى . وليس كذلك ، بل من المفسرين من
ذهب إلى أن ذلك من كلام الله ، يثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود
وتزويرهم ، فأما إذا كان من كلام طائفة اليهود ، فالظاهر أنه انقطع كلامهم إذ لا
خلاف ، ولا شك أن قوله : ) قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ( من كلام الله
مخاطباً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وما بعده يظهر أنه من كلام الله ، وأنه
من جملة قوله لنبيه وأن يؤتى مفعول من أجله ، وتقدير الكلام : قل يا محمد لأولئك
اليهود الذين قالوا : إن الهدى هدى الله ، لا ما رمتم من الخداع بتلك المقالة ، وذاك
الفعل ، لمخافة ) أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ
عِندَ رَبّكُمْ ( قلتم ذلك القول ودبرتم تلك المكيدة ، أي : فعلتم ذلك حسداً
وخوفاً من أن تذهب رئاستكم ، ويشارككم أحد فيما أوتيتم من فضل العلم ، أو يحاجوكم
عند ربكم ، أي : يقيمون الحجة عليكم عند الله إذ كتابكم طافح ، بنبوّة رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ) ، وملزم لكم أن تؤمنوا به وتتبعوه ، ويؤيد هذا المعنى قوله
: ) قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( إلى آخره ، ويؤيد
هذا المعنى أيضاً قراءة ابن كثير أن يؤتي على الاستفهام الذي معناه الإنكار عليهم
والتقرير والتوبيخ والاستفهام الذي معناه الإنكار هو مثبت من حيث المعنى ، أي
ألمخافة أن يؤتى أحد . مثل ما أوتيتم ؟ أو يحاجوكم عند ربكم قلتم ذلك وفعلتموه ؟
ويكون : أو يحاجوكم ، معطوفاً على : يؤتى ، وأو : للتنويع ، وأجازوا أن يكون : هدى
الله ، بدلاً من : الهدى . لا خبراً لأن . والخبر قوله : ) أَن يُؤْتَى أَحَدٌ
مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ( أي أن هدى الله إيتاء أحد مثل ما أوتيتم من العلم ، ويكون
: أو يحاجوكم ، منصوباً بإضمار : أن ، بعد أو بمعنى : حتى ، أي : حتى يحاجوكم عند
ربكم فيغلبوكم ويدحضوا حجتكم عند الله ، لأنكم تعلمون صحة دين الإسلام ، وأنه
يلزمكم اتباع هذا النبي ، ولا يكون : أو يحاجوكم ، معطوفاً على :
" صفحة رقم 519 "
يؤتى ، وداخلاً في خبر إن ، و : أحد ، في هذين القولين ليس الذي يأتي في العموم
مختصاً به ، لأن ذلك شرطه أن يكون في نفي ، أو في خبر نفي ، بل : أحد ، هنا بمعنى
: واحد ، وهو مفرد ، إذ عنى به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإنما جمع
الضمير في : يحاجوكم ، لأنه عائد على الرسول وأتباعه ، لأن الرسالة تدل على
الأتباع . وقال بعض النحويين : إن ، هنا للنفي بمعنى : لا ، التقدير : لا يؤتى أحد
مثل ما أوتيتم ، ونقل ذلك أيضاً عن الفراء ، وتكون : أو ، بمعنى إلاَّ ، والمعنى
إذ ذاك : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ أن يحاجوكم ، فإن إيتاءه ما أوتيتم
مقرون بمغالبتكم ومحاجتكم عند ربكم ، لأن من آتاه الله الوحي لا بد أن يحاجهم عند ربهم
في كونهم لا يتبعونه ، فقوله : أو يحاجوكم ، حال من جهة المعنى لازمة ، إذ لا يوحي
الله إلى رسول إلاَّ وهو محاج مخالفيه . وفي هذا القول يكون ، أحد ، هو الذي
للعموم . لتقدّم النفي عليه ، وجمع الضمير في : يحاجوكم ، حملاً على معنى : أحد ،
كقوله تعالى ) فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( جمع حاجزين حملاً على
معنى : أحد ، لا على لفظه ، إذ لو حمل على لفظه لأفرد .
لكن في هذا القول القول بأن : أن ، المفتوحة تأتي للنفي بمعنى لا ، ولم يقم على
ذلك دليل من كلام العرب . والخطاب في : أو يتتم ، وفي : يحاجوكم ، على هذه الأقوال
الثلاثة للطائفة السابقة ، القائلة : ) بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى ( وأجاز بعض
النحويين أن يكون المعنى : أن لا يؤتى أحد ، وحذفت : لا ، لأن في الكلام دليلاً
على الحذف . قال كقوله : ) يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( أي : لا
تضلوا . وردّ ذلك أبو العباس ، وقال : لا تحذف : لا ، وإنما المعنى : كراهة أن
تضلوا ، وكذلك هنا : كراهة أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم ، أي : ممن خالف دين الإسلام
، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين .
والخطاب في : أوتيتم ، و : يحاجوكم ، لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فعلى
هذا : أن يؤتى مفعول من أجله على حذف كراهة ، ويحتاج إلى تقديره عامل فيه ، ويصعب
تقديره ، إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها بكراهة الإيتاء المذكور .
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله : أن يؤتى ، بدلا من قوله : هدى الله ، ويكون
المعنى : قل إن الهدى هدى الله وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن . ويكون قوله : أو
يحاجوكم ، بمعنى : أو فليحاجوكم ، فإنهم يغلبونكم . انتهى هذا القول . وفيه الجزم
بلام الأمر وهي محذوفة ولا يجوز ذلك على مذهب البصريين إلاَّ في الضرورة .
وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب : أن يؤتى ، بفعل مضمر يدل عليه قوله ) وَلاَ
تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( كأنه قيل : ) قُلْ إِنَّ الْهُدَى
هُدَى اللَّهِ ( فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا . انتهى كلامه . وهو بعيد ،
لأن فيه حذف حرف النهي ومعموله ، ولم يحفظ ذلك من لسانهم . وأجازوا أن يكون قوله )
أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ (
ليس داخلاً تحت قوله : قل ، بل هو من تمام قول الطائفة ، متصل بقوله : ) وَلاَ
تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( ويكون قوله : ) هَلْ أُنَبّئُكُمْ
الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ( جملة اعتراضية بين ما قبلها وما بعدها .
ويحتمل هذا القول وجوها :
أحدهما : أن يكون المعنى : ولا تصدّقوا تصديقاً صحيحاً وتؤمنوا إلاَّ لمن جاء بمثل
دينكم ، مخافة أن يؤتى أحد من النبوّة والكرامة مثل ما أوتيتم ، ومخافة أن يحاجوكم
بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم يستمروا عليه ، وهذا القول ، على هذا المعنى ،
ثمرة الحسد والكفر مع المعرفة بصحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الثاني : أن يكون التقدير : أن لا يؤتى ، فحذفت : لا ، لدلالة الكلام ، ويكون ذلك
منتفياً داخلاً في حيز : إلاَّ ، لا مقدراً دخوله قبلها ، والمعنى : ولا تؤمنوا
لأحد بشيء إلاَّ لمن تبع دينكم ، بانتفاء أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وانتفاء أن
يحاجوكم عند ربكم أي : إلاَّ بانتفاء كذا .
الثالث : أن يكون التقدير : بأن يؤتى ، ويكون متعلقاً بتؤمنوا ، ولا يكون داخلاً في
حيز إلاَّ ، والمعنى : ولا تؤمنوا بأن
" صفحة رقم 520 "
يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ لمن تبع دينكم ، وجاء بمثله ، وعاضداً له ، فإن ذلك
لا يؤتاه غيركم . ويكون معنى : ) أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ ( بمعنى :
إلاَّ أن يحاجوكم ، كما تقول : أنا لا أتركك أو تقضيني حقي ، وهذا القول على هذا
المعنى ثمرة التكذيب لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، على اعتقاد أن النبوّة لا
تكون إلاَّ في بني إسرائيل .
الرابع : أن يكون المعنى : لا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوّته إذ قد علمتم صحتها
إلاَّ لليهود الذين هم منكم ، و ) أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ( صفة
لحال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فالمعنى : تستروا بإقراركم أن قد أوتي أحد
مثل أوتيتم ، أو فإنهم يعنون العرب ، يحاجونكم بالإقراب عند ربكم . وقال الزمخشري
في هذا الوجه ، وبدأ به ما نصه : ولا تؤمنوا ، متعلق بقوله : أن يؤتى أحد ، و : ما
بينهما اعتراض ، أي : ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ لأهل
دينكم دون غيرهم ، أرادوا : أسِرُّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم
ولا تفشوه إلا لأشياعكم وحدهم دون المسلمين ، لئلا يزتدهم ثباتاً ودون المشركين لئلا
يدعوهم إلى الإسلام : ) أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ ( عطف على ) أَن
يُؤْتَى ( والضمير في : يحاجوكم ، لأحدَ لأنه في معنى الجميع بمعنى : ولا تؤمنوا
لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ، ويغالبونكم عند الله
بالحجة . انتهى كلامه .
وأما : أحد ، على هذه الأقوال فإن كان الذي للعموم ، وكان ما قبله مقدراً بالنفي ،
كقول بعضهم إن المعنى : لا يؤتى ، أو : إن المعنى : أن لا يؤتى أحد ، فهو جار على
المألوف في لسان العرب من أنه لا يأتي إلاَّ في النفي أو ما أشبه النفي : كالنهي ،
وإن كان الفعل مثبتاً يدخل هنا لأنه تقدم النفي في أول الكلام ، كما دخلت من في
قوله : ) أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ ( للنفي قبله في قوله : ) مَّا
يَوَدُّ ).
ومعنى الاعتراض على هذه الأوجه أنه أخبر تعالى بأن ما راموا من الكيد والخداع
بقولهم : ) بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى ( الآية ، لا يجدي شيئاً ، ولا يصدّ عن
الإيمان من أراد الله إيمانه ، لأن الهدى هو هدى الله ، فليس لأحد أن يحصله لأحد ،
ولا أن ينفيه عن أحد .
وقرأ ابن كثير : أن يؤتى أحد ؟ بالمدّ على الاستفهام ، وخرجه أبو عليّ على أنه من
قول الطائفة ، ولا يمكن أن يحمل على ما قبله من الفعل ، لأن الإستفهام قاطع ،
فيكون في موضع رفع على الإبتداء وخبره محذوف تقديره تصدّقون به ، أو تعترفون ، أو
تذكرونه لغيركم ، ونحوه مما يدل عليه الكلام . و : يحاجوكم ، معطوف على : أن يؤتى
.
قال أبو علي : ويجوز أن يكون موضع : أن ، نصباً ، فيكون المعنى : أتشيعون ، أو :
أتذكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ؟ ويكون بمعنى : أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم
؟ فعلى كلا الوجهين معنى الآية توبيخ من الأحبار للاتباع على تصديقهم بأن محمداً
نبي مبعوث ، ويكون : أو يحاجوكم ، في تأويل نصب أن بمعنى : أو تريدون أن يحاجوكم ؟
.
قال أبو عليّ وأحد ، على قراءة ابن كثير هو الذي لا يدل على الكثرة ، وقد منع
الإستفهام القاطع من أن يشيع لامتناع دخوله في النفي الذي في أول الكلام ، فلم يبق
إلاَّ أنه : أحد ، الذي في قولك : أحد وعشرون ، وهو يقع في الإيجاب ، لأنه في معنى
: واحد ، وجمع ضميره في قوله : أو يحاجوكم ، حملاً على المعنى ، إذ : لأحد ،
المراد بمثل النبوّة أتباع فهو في المعنى للكثرة قال أبو عليّ : وهذا موضع ينبغى
أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير ، لأن الأسماء المفردة ليس
بالمستمر أن يدل على الكثرة . انتهى تخريج أبي علي لقراءة ابن كثير ، وقد تقدم
تخريج قراءته على أن يكون قوله : أن يؤتيى ، مفعولاً من أجله ، على أن يكون داخلاً
تحت القول من قول الطائفة ، وهو أظهر من جعله من قول الطائفة .
وقد اختلف السلف في هذه الآية ، فذهب السدّي وغيره إلى أن الكلام كله من قوله : )
قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ( إلى آخر الآية مما أمر الله به محمداً ( صلى
الله عليه وسلم ) ) أن يقوله لأمّته .
وذهب قتادة ، والربيع : إلى أن هذا كله من قول الله ، أمره أن يقوله للطائفة التي
قالت : ) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( وذهب مجاهد وغيره إلى
أن قوله ) أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ
رَبّكُمْ ( كله من قول الطائفة لأتباعهم ، وقوله ) قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى
اللَّهِ ( اعتراض بين ما قبله وما بعده من
" صفحة رقم 521 "
قول الطائفة لأتباعهم . وذهب ابن جريج إلى أن قوله : ) أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ
مَا أُوتِيتُمْ ( داخل تحت الأمر الذي هو : قل ، يقوله الرسول لليهود ، وتم مقوله
في قوله : أوتيتم . وأما قوله : ) أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ ( فهو متصل
بقول الطائفة ) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( وعلى هذه ،
الانحاء ترتيب الأوجه السابقة .
وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي يؤتى ، بكسر الهمزة بمعنى : لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من
الكرامة ، وهذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام خطاباً من الطائفة القائلة ؟ ويكون
قولها : أو يحاجوكم ، بمعنى : أو ، فليحاجوكم ، وهذا على التصميم على أنه لا يؤتى
أحد مثل ما أوتى ، أو يكون بمعنى : إلاَّ أن يحاجوكم ، وهذا على تجويز : أن يؤتى ،
أحد ذلك إذا قامت الحجة له . هذا تفسير ابن عطية لهذه القراءة ، وهذا على أن يكون
من قول الطائفة .
وقال أيضاً في تفسيرها : كأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) يخبر أمّته أن الله لا
يعطي أحداً ، ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمّة محمد من كونها وسطاً ، فهذا
التفسير على أنه من كلام محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأمّته ، ومندرج تحت : قل
.
وعلى التفسير الأول فسرها الزمخشري ، قال : وقرىء : إن يؤتى أحد على : إن ،
النافية وهو متصل بكلام أهل الكتاب أي : ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم وقولوا ما
يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم ، أي : ما يؤتون مثله فلا يحاجوكم .
قال ابن عطية : وقرأ الحسن : ان يؤتى أحدٌ ، بكسر التاء على اسناد الفعل إلى : أحد
، والمعنى أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه ، وأظهر ما في هذه القراءة أن
يكون خطاباً من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأمته ، والمفعول محذوف تقديره : ان
يؤتى أحد أحداً . انتهى . ولم يتعرّض ابن عطية للفظ : ان ، في هذه القراءة : أهي
بالكسر أم بالفتح .
وقال السجاوندي : وقرأ الأعمش : ان يؤتى ، و : الحسن : ان يؤتى أحداً ، جعلا : أن
، نافية ، وإن لم تكن بعد إلاَّ كقوله تعالى : ) فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ كَمْ
فِيهِ ( و : أو ، بمعنى : إلاَّ إن ، وهذا يحتمل قول الله عز وجل ، ومع اعتراض :
قل ، قول اليهود . انتهى .
وفي معنى : الهدى ، هنا قولان : أحدهما : ما أوتيه المؤمنون من التصديق برسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ) . والثاني : التوفيق والدلالة إلى الخير حتى يسلم ، أو
يثبت على الإسلام .
ويحتمل : عند ربكم ، وجهين : أحدهما : أن ذلك في الآخرة . والثاني : عند كتب ربكم
الشاهدة عليكم ولكم ، وأضاف ذلك إلى الرب تشريفاً ، وكان المعنى : أو يحاجوكم عند
الحق ، وعلى هذين المعنيين تدور تفاسير الآية ، فيحمل كل منها على ما يناسب من
هذين المعنيين .
( قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( هذا توكيد لمعنى )
قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ( وفي ذلك تكذيب لليهود حيث قالوا : شريعة موسى
مؤبدة ولن يؤتى الله أحداً مثل ما أوتي بنو إسرائل من النبوّة ، فالفضل هو بيد
الله . أي : متصرّف فيه كالشيء في اليد ، وهذه كناية عن قدرة التصرّف والتمكن فيها
والباري تعالى منزه عن الجارحة . ثم أخبر بأنه يعطيه من أراد ، فاختصاصه بالفضل من
شاء ، إنما سببه الإرادة فقط ، وفسر : الفضل ، هنا بالنبوّة دهواكم والنبوة أشرف
أفراده .
( وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ( تقدّم تفسيره .
آل عمران : ( 74 ) يختص برحمته من . . . . .
( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ( قال الحسن ، ومجاهد ، والربيع : يفرد
بنبوّته من يشاء . وقال ابن جريج : بالإسلام والقرآن . وقال ابن عباس ، ومقاتل :
الإسلام . وقيل : كثرة الذكر لله تعالى .
( وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( تقدّم تفسير هذا وتفسير ما قبله في آخر
آية : ) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( وتضمنت هذه
الآيات من البديع : التجنيس المماثل ، والتكرار في : آمنوا وآمنوا ، وفي الهدى ،
هدى الله
" صفحة رقم 522 "
وفي : يؤتى وأوتيتم ، وفي : ان افضل ، وذو الفضل والتكرار أيضاً في : اسم الله ،
في أربعة مواضع . والطباق : في آمنوا واكفروا ، وفي وجه النهار وفي آخره ،
والإختصاص . في : وجه النهار ، لأنه وقت اجتماعهم بالمؤمنين يراؤونهم ، وآخره لأنه
وقت خلوتهم بأمثالهم من الكفار ، والحذف في مواضع .
2 ( ) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ
وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا
دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى
الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا
أُوْلَائِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ
وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم
بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ
اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ
عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ
تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ( ) ) 2
آل عمران : ( 75 ) ومن أهل الكتاب . . . . .
الدينار : معروف وهو أربعة وعشرون قيراماً ، والقيراط : ثلاث حبات من وسط الشعير ،
فمجموعه : اثنتان وسبعون حبة ، وهو مجمع عليه . وفاؤه بدل من نون ، يدل على ذلك
الجمع ، قالوا : دنانير ، وأصله : دنار ، أبدل من أول المثلين ، كما أبدلوا من
النون في ثالث الأمثال ياءً في : تظنيت . أصله تظننت ، لأنه من الظن ، وهو بدل
مسموع ، والدينار : لفظ أعجمي تصرّفت فيه العرب وألحقته بمفردات كلامها .
دام : ثبت ، والمضارع : يدوم ، فوزنه ، فعل نحو قال : يقول ، قال الفراء : هذه لغة
الحجاز وتميم ، تقول : دِمت ، بكسر الدال . قال : ويجتمعون في المضارع ، يقولون :
يدوم . وقال أبو إسحاق يقول : دمت تدام ، مثل : نمت تنام ، وهي لغة ، فعلى هذا
يكون وزن دام ، فعل بكسر العين ، نحو : خاف يخاف . والتدويم الاستدارة حول الشيء .
ومنه قول ذي الرمة :
والشمس حيرى لها في الجوّ تدويم
وقال علقمة في وصف خمر : تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها
ولا يخالطها في الرأس تدويم
والدوام : الدوار ، يأخذ في رأس الإنسان فيرى الأشياء تدور به . وتدويم الطائر في
السماء ثبوته إذا صف واستدار
" صفحة رقم 523 "
ومنه : الماء الدائم ، كأنه يستدير حول مركزه .
لوى الحبل والتوى : فتله ثم استعمل في الإراغة في الحجج والخصومات ، ومنه : ليان
الغريم : وهو دفعه ومطله ، ومنه : خصم ألوى : شديد الخصومة ، شبهت المعاني
بالأجرام .
اللسان : الجارحة المعروفة . قال أبو عمرو : اللسان يذكر ويؤنث ، فمن ذكر جمعه
ألسنة ومن أنث أجمعه ألسنا . وقال الفراء : اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلاَّ
مذكراً . انتهى . ويعبر باللسان عن الكلام ، وهو أيضاً يذكر ويؤنث إذا أريد به ذلك
.
الرباني : منسوب إلى الرب ، وزيدت الألف والنون مبالغة . كما قالوا : لحياني ،
وشعراني ، ورقباني . فلا يفردون هذه الزيادة عن ياء النسبة . وقال قوم : هو منسوب
إلى ربان ، وهو معلم الناس وسائسهم ، والألف والنون فيه كهي في : غضبان وعطشان ،
ثم نسب إليه فقالوا : رباني ، فعلى هذا يكون من النسب في الوصف ، كما قالوا :
أحمري في أحمر ، و : دواري في دّوار ، وكلا القولين شاذ لا يقاس عليه .
درس الكتاب يدرسه : أدمن قراءته وتكريره ، ودرس المنزل : عفا ، وطلل دارس : عافٍ .
( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ
وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا (
الجمهور على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى أخبر الله تعالى بذم الخونة منهم ،
فظاهره أن في اليهود والنصارى من يؤتمن فيفي ومن يؤتمن فيخون . وقيل : أهل الكتاب
عنى به أهل القرآن ، قاله ابن جريج . وهذا ضعيف حداً لما يأتي بعده من قولهم : )
ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( وقيل :
المراد بأهل الكتاب : اليهود ، لأن هذا القول ) لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ
سَبِيلٌ ( لم يقله ولا يعتقده إلاَّ اليهود .
وقيل : ) مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ( هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم . و :
) مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ ( هم اليهدو لغلبة الخيانة عليهم . وعين منهم
كعب بن الأشرف وأصحابه . وقيل : ) مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ( هم من أسلم
من أهل الكتاب . و : ) مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ ( من لم يسلم منهم .
وروي أنه بايع بعض العرب بعض اليهود وأودعوهم فخانوا من أسلم ، وقالوا : قد خرجتم
عن دينكم الذي عليه بايعناكم ، وفي كتابنا : لا حرمة لأموالكم ، فكذبهم الله تعالى
. قيل : وهذا سبب نزول هذه الآية .
وعن ابن عباس : ) مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ ( هو عبد الله بن سلام
، استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً ، فأدّاه إليه . و : ) مَّنْ إِن
تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ ( فنحاص بن عازوراء ، استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده
وخانه . انتهى . ولا ينحصر الشرط في ذينك المعينين ، بل كل منهما فرد ممن يندرج
تحت : من . ألا ترى كيف جمع في قوله : ) ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ
عَلَيْنَا ( قالوا والمخاطب بقوله : تأمنه ، هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) )
بلا خلاف ، ويحتمل أن يكون السامع من أهل الإسلام ، وبيّنه قولهم : ) لَيْسَ
عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( فجمع الأمّيين وهم اتباع النبي الأمي .
وقرأ أبي بن كعب : تأمنه ، في الحرفين ، و : تئمنا ، في يوسف . وقرأ ابن مسعود ،
والأشهب العقيلي ، وابن وثاب : تيمنه ، بتاء مكسورة وياء ساكنة بعدها ، قال الداني
: وهي لغة تميم . وأما إبدال الهمزة ياء في : تئمنه ، فلكسرة ما قبلها كما أبدلوا
في بئر .
وقد ذكرنا الكلام على حروف المضارعة من : ي فعل ، ومن : ما أوله همزة وصل عند
الكلام على قوله ) نَسْتَعِينُ ( فأغنى عن إعادته .
وقال : ابن عطية ، حين ذكر قراءة أبي : وما أراها إلاَّ لغة : قرشية ، وهي كسر نون
الجماعة : كنستعين ، وألف المتكلم ، كقول ابن عمر : لا إخاله ، وتاء الخاطب كهذه
الآية ، ولا يكسرون الياء في الغائب ، وبها قرأ أبي في : تئمنه . انتهى . ولم يبين
ما يكسر فيه حروف
" صفحة رقم 524 "
المضارعة بقانون كلي ، وما ظنه من أنها لغة قرشية ليس كما ظنّ . وقد بينا ذلك في )
نَسْتَعِينُ ( وتقدّم تفسير : القنطار ، في قوله : ) وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنطَرَةِ ).
وقرأ الجمهور : يؤده ، بكسر الهاء ووصلها بياء . وقرأ قالون باختلاس الحركة ، وقرأ
أبو عمرو ، وأبو بكر ، وحمزة ، والأعمش بالسكون . قال أبو إسحاق : وهذا الإسكان
الذي روي عن هؤلاء غلط بيِّن ، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا
يجوز أن تسكن في الوصل . وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة ، فغلطب عليه كما
غلط عليه في : بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه ، وهو ضابط لمثل هذا ، أنه كان يكسر
كسراً خفيفاً . انتهى كلام ابن إسحاق . وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط
ليس بشيء ، إذ هي قراءة في السبعة ، وهي متواترة ، وكفى أنها منقولة من إمام
البصريين أبي عمرو بن العلاء . فإنه عربي صريح ، وسامع لغة ، وإمام في النحو ، ولم
يكن ليذهب عنه جواز مثل هذا .
وقد أجاز ذلك الفراء وهو إمام في النحو واللغة . وحكى ذلك لغة لبعض العرب تجزم في
الوصل والقطع .
وقد روى الكسائي أن لغة عقيل وكلاب : أنهم يختلسون الحركة في هذه الهاء إذا كانت
بعد متحرك ، وأنهم يسكنون أيضاً . قال الكسائي : سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون : )
لِرَبّهِ لَكَنُودٌ ( بالجزم ، و : لربه لكنود ، بغير تمام وله مال وغير عقيل
وكلاب لا يوجد في كلامهم اختلاس ولا سكون في : له ، وشبهه إلاَّ في ضرورة نحو قوله
.
له زجل كأنه صوت حاد
وقال :
إلا لأن عيونه سيل واديها
ونص بعض أصحابنا على أن حركة هذه الهاء بعد الفعل الذاهب منه حرف لوقف أو جزم يجوز
فيها الإشباع ، ويجوز الاختلاس ، ويجوز السكون . وأبو إسحاق الزجاج ، يقال عنه :
إنه لم يكن إماماً في اللغة ، ولذلك أنكد على ثعلب في كتابه : ( الفصيح ) مواضع
زعم أن العرب لا تقولها ، وردّ الناس على أبي إسحاق في إنكاره ، ونقلوها من لغة
العرب . وممن ردّ عليه : أبو منصور الجواليقي ، وكان ثعلب إماماً في اللغة وإماماً
في النحو على مذهب الكوفيين ، ونقلوا أيضاً قراءتين : إحداهما ضم الهاء ووصلها
بواو ، وهي قراءة الزهري ، والأخرى : ضمها دون وصل ، وبها قرأ سلام .
والباء في : بقنطار ، وفي : بدينارد قيل : للإلصاق . وقيل : بمعنى على ، إذا الأصل
أن تتعدى بعلى ، كما قال مالك : ) لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ ( وقال : ) هَلْ
امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ ( وقيل : بمعنى في أي
: في حفظ قنطار ، وفي حفظ دينار . والذي يظهر أن القنطار والدينار مثالان للكثير
والقليل ، فيدخل أكثر من القنطار وأقل . وفي الدينار أقل منه .
قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد طبقه يعني في الدينار لا يجوز إلاَّ في دينار فما
زاد ، ولم يعن بذكر الخائنين في : أقل ، إذ هم طغام حثالة . انتهى .
ومعنى : ) إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ( قال قتادة ، ومجاهد ، والزجاج ،
والفراء ، وابن قتيبة : متقاضياً بأنواع التقاضي من : الخفر ، والمرافعة إلى
الحكام ، فليس المراد هيئة القيام ، إنما هو من قيام المرء على أشغاله : أي
اجتهاده فيها .
وقال السدي وغيره : قائماً على رأسه وهي الهيئة المعروفة وذلك نهاية الخفر ، لأن
معنى ذلك الخفر ، لأن معنى ذلك أنه في صدد شغل آخر يريد أن يستقبله . وذهب إلى هذا
التأويل جماعة من الفقهاء ، وانتزعوا من الآية جواز السجن ، لأن الذي يقوم عليه
غريمه هو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء ، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين
السجن . وقيل : قائماً بوجهك فيها بك ويستحي منك . وقيل : معنى : دمت عليه قائماً
، أي : مستعلياً ، فإن استلان جانبك لم يؤدّ إليك أمانتك .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وابن
" صفحة رقم 525 "
أبي ليلى ، والفياض بن غزوان ، وطلحة ، وغيرهم : دمت بكسر الدال ، وتقدم أنها لغة
تميم وتقدم الخلاف في مضارعه .
و : ما ، في : ما دمت ، مصدرية ظرفية . و : دمت ، ناقصة فخبرها : قائماً ، وأجاز
أبو البقاء أن تكون : ما ، مصدرية فقط لا ظرفية ، فتتقدر بمصدر ، وذلك المصدر
ينتصب على الحال ، فيكون ذلك استثناءً من الأحوال لا من الأزمان . قال : والتقدير
: إلاَّ في حال ملازمتك له . فعلى هذا يكون : قائماً ، منصوباً على الحال ، لا
خبراً لدام ، لأن شرط نقص : دام ، أن يكون صلة لما المصدرية الظرفية .
( ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( روي أن
بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال . العرب لكونهم أهل أوثان ، فلما جاء
الإسلام ، وأسلم من أسلم من العرب ، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد ، فنزلت
الآية مانعة من ذلك . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : كل شيء من أمر
الجاهلية فهو تحت قدمي ، إلاَّ الأمانة فإنها مؤادّة إلى البر والفاجر . (
والإشارة بذلك إلى ترك الأداء الذي دل عليه لا يؤدّه ، أي : كونهم لا يؤدّون
الأمانة كان بسبب قولهم .
والضمير في : بأنهم ، قيل : عائد على اليهود وقيل : عائد على لفيف بني إسرائيل .
والأظهر أنه عائد على : من ، في قوله : ) مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ( وجمع حملاً على المعنى ، أي : ترك الأداء في الدّينا فما
دونه وفما فوقه كائن بسبب قول المانع للأداء الخائن : ) لَيْسَ عَلَيْنَا فِى
الامّيِينَ ( وهم الذين ليسوا من أهل الكتاب ، وهم العرب . وتقدّم كونهم سموا
أمّيين في سورة البقرة .
والسبيل ، قيل : العتاب والذم وقيل : الحجة على ، نحو قول حميد بن ثور :
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة
من السرح موجود عليّ طريق
وقوله : فأولئك ما عليهم من سبيل من هذا المعنى ، وهو كثير في القرآن وكلام العرب
وقيل : السبيل هنا الفعل المؤدّي إلى الإثم . والمعنى : ليس عليهم طريق فيما
يستحلون من أموال المؤمنين الأمّيين .
قال : وسبب استباحتهم لأموال الأمّيين أنهم عندهم مشركون ، وهم بعد إسلامهم باقون
على ما كانوا عليه ، وذلك لتكذيب اليهود للقرآن وللنبي e
وقيل : لأنهم انتقض العهد الذي كان بينهم بسبب إسلامهم ، فصاروا كالمحاربين ،
فاستحلوا أموالهم وقيل : لأن ذلك مباح في كتابهم أخذ مال من خالفهم .
وقال الكلبي : قالت اليهود : الأموال كلها كانت لنا ، فما في أيدي العرب منها فهو
لنا ، وأنهم ظلمونا وغصبونا ، فلا سبيل علينا في أخذ أموالنا منهم وروى عبد الرزاق
، عن معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن صعصعة ، أن رجلاً قال لابن عباس : أنا
نصيب في الغزو من أموال أهل الذمّة : الشاة والدجاجة ، ويقولون : ليس علينا بذلك
بأس ، فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب : ) لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ
سَبِيلٌ ( أنهم إذا أدّوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلاَّ عن طيب أنفسهم . وذكر
هذا الأثر الزمخشري ، وابن عطية ، وفيه بعد ذكر الشاة أو الدجاجة ، قال : فيقولون
ماذا قال ؟ يقول : ليس علينا في ذلك بأس .
( وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ( أي القول الكذب يفترونه على الله
بادعائهم أن ذلك في كتابهم . قال السدّي ، وابن جريج ، وغيرهما : ادعت طائفة من
أهل الكتاب أن في التوراة إحلالاً لهم أموال الأمّيين كذباً منها وهي عالمة بكذبها
، فيكون الكذب المقول هنا هو هذا الكذب المخصوص في هذا الفصل . والظاهر أنه أعم من
هذا ، فيندرج هذا
" صفحة رقم 526 "
فيه ، أي : هم يكذبون على الله في غير ما شيء وهم علماء بموضع الصدق .
وجوّزوا أن يكون : علينا ، خبر : ليس ، وأن يكون الخبر : في الأمّيين ، وذهب قوم
إلى عمل : ليس ، في الجار ، فيجوز على هذا أن يتعلق بها .
قيل : ويجوز أن يرتفع : سبيل ، بعلينا ، وفي : ليس ، ضمير الأمر ، ويتعلق : على
الله ، بيقولون بمعنى : يفترون .
قيل : ويجوز أن يكون حالاً من الكذب مقدماً عليه ولا يتعلق بالكذب .
قيل : لأن الصلة لا تتقدّم على الموصول .
( وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( جملة حالية تنعى عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب ، أي : إن
العلم بالشيء يبعد ويقبح أن يكذب فيه ، فكذبهم ليس عن غفلة ولا جهل ، إنما هو عن
علم .
آل عمران : ( 76 ) بلى من أوفى . . . . .
( بَلَى ( جواب لقولهم : ) لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( وهذا مناقض
لدعواهم ، والمعنى : بلى عليهم في الأمّيين سبيل ، وقد تقدّم القول في : بلى ، في
قوله ) بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَةً ( فأغنى عن إعادته هنا .
( مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (
أخبر تعالى بأن من أوفى بالعهد واتقى الله في نقضه فهو محبوب عند الله وقال ابن
عباس : اتقى هنا معناه اتقى الشرك ، وهذه الجملة مقررة للجملة المحذوفة بعد بلى ،
و : من ، يحتمل أن تكون موصولة ، والأظهر أنها شرطية ، و : أوفى ، لغة الحجاز و :
وفى ، خفيفة لغة نجد و : وفى ، مشدّدة لغة أيضاً . وتقدّم ذكر هذه اللغات .
والظاهر في : بعهده ، أن الضمير عائد على : من وقيل : يعود على الله تعالى ، ويدخل
في الوفاء بالعهد ، العهد الأعظم من ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ) ، سواء أضيف العهد إلى : من ، أو : إلى الله ، والشرائط
للجملة الخبرية أو الجزائية بمن هو العموم الذي في المتقين ، أو ما قبله ، فرد من
أفراده ، ويحتمل أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة المعنى عليه ، التقدير : يحبه الله
، ثم قال ) فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( وأتى بلفظ : المتقين ، عاماً
تشريفاً للتقوى وحظاً عليها .
آل عمران : ( 77 ) إن الذين يشترون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا
( نزلت في أحبار اليهود : أبي رافع ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وكعب بن الأشرف ،
وحيي بن أخطب ، قاله عكرمة . أو : فيمن حرّف نعته ( صلى الله عليه وسلم ) ) من
اليهود ، قاله الحسن . أو : في خصومة الأشعث بن قيس مع يهودي ، أو مع بعض قرابته .
أو : في رجل حلف على سلعة مساءً لأعطي بها أول النهار كذا ، يميناً كاذبة ، قاله
مجاهد ، والشعبي .
والإضافة في ) بِعَهْدِ اللَّهِ ( إما للفاعل وإما للمفعول ، أي : بعهد الله إياه
من الإيمان بالرسول الذي بعث مصدّقاً لما معهم ، وبأيمانهم التي حلفوها لنؤمنن به
ولننصرنه ، أو بعهد الله . والاشتراء هنا مجاز ، والثمن القليل : متاع الدنيا من
الرشى والتراؤس ونحو ذلك ، والظاهر أنها في أهل الكتاب لما احتف بها من الآيات
التي قبلها والآيات التي بعدها .
( أُوْلَائِكَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاْخِرَةِ ( أي : لا نصيب لهم في الآخرة ،
اعتاضوا بالقليل الفاني عن النعيم الباقي ، ونعني : لا نصيب له من الخير ، نفي
نصيب الخير عنه .
( وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ ( قال الطبري : أي بما يسرهم وقال غيره : لا يكلمهم
جملة وإنما تحاسبهم الملائكة ، قاله الزّجاج . وقال قوم : هو عبارة عن الغضب ، أي
: لا يحفل بهم ، ولا يرضى عنهم ، وقاله ابن بحر . وقد تقدّم في البقرة شرح : )
وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ ).
) وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( قال الزمخشري : ولا ينظر إليهم
مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم ، تقول : فلان لا ينظر إلى فلان ، يريد نفي
اعتداده به ، واحسانه إليه .
فإن قلت أي فرق بين استعماله
" صفحة رقم 527 "
فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه .
قلت أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية ، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره
نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان ، وإن لم يكن ثَمّ نظر ،
ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه
فيمن يجوز عليه النظر . انتهى كلامه . وقال غيره : ولا ينظر أي : لا يرحم قال :
فقلت انظري يا أحسن الناس كلهم
لذي غلة صديان قد شفه الوجدُ
) وَلاَ يُزَكّيهِمْ ( ولا يثني عليهم أو لا ينمي أعمالهم ، فهي تنمية لهم ، أو لا
يطهرهم من الذنوب . أقوال ثلاثة ، وتقدّم شرحه في البقرة .
( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( تقدّم شرحه أيضاً .
آل عمران : ( 78 ) وإن منهم لفريقا . . . . .
( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا ( أي : من اليهود ، قاله الحسن : أو : من أهل
الكتابين ، قاله ابن عباس . وعن ابن عباس أيضاً : هم اليهود الذين قدموا على كعب
بن الأشرف غيّروا التوراة . وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صفة رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) ، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم .
( يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ ( أي :
يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف ، قاله الزمخشري وقال ابن عطية : يحرفون
ويتحيلون لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ،
ومثال ذلك قولهم : راعنا ، وأسمع غير مسمع ، ونحو ذلك وليس التبديل المحض . انتهى
.
والذي يظهر أن الليّ وقع بالكتاب أي : بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض
الناس ، بل التحريف والتبديل وقع في الألفاظ ، والمعاني تبع للألفاظ ، ومن طالع
التوراة علم يقيناً أن التبديل في الألفاظ والمعاني ، لأنها تضمنت أشياء يجزم
العاقل أنها ليست من عند الله ، ولا أن ذلك يقع في كتاب إلهي من كثرة التناقض في
الإخبار والأعداد ونسبة أشياء إلى الله تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك ، ونسبة
أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر من الخمر والزنا ببناتهم . وغير ذلك من
القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها ، فضلاً عن منصب النبوة .
وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي ، رحمه الله تعالى ، كتاباً
في ( السؤالات على ألفاظ التوراة ومعانيه ) ومن طالع ذلك الكتاب رأى فيه عجائب
وغرائب ، وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها ، هذا مع خلوها من ذكر : الآخرة ،
والبعث ، والحشر ، والنشر ، والعذاب والنعيم الأخرويين ، والتبشير برسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأين هذا من قوله تعالى ) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِىَّ الامّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ
وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ ( وقوله تعالى وقد ذكر رسوله وصحابته . ) ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى
التَّوْرَاةِ ).
وقد نص تعالى في القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة ، قال تعالى : )
قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لّلنَّاسِ
تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ( وقال تعالى )
يَصْنَعُونَ يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ
كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ( فدلت هاتان الآيتان على أن
الذي أخفوه من الكتاب كثير ، ودل بمفهوم الصفة أن الذي أبدوه من الكتاب قليل .
وقرأ الجمهور : يلوون ، مضارع : لوى وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ،
وأبو حاتم عن نافع : يلوون بالتشديد ، مضارع : لوّى ، مشدّداً . ونسبها الزمخشري
لأهل المدينة ، والتضعيف للمبالغة والتكتير في الفعل لا للتعدية وقرأ حميد : يلون
، بضم اللام ، ونسبها الزمخشري إلى أنها رواية عن مجاهد ، وابن كثير ، ووجهت على أن
الأصل : يلوون ، ثم أبدلت الواو همزة ، ثم نقلت حركتها إلى الساكن قبلها ، وحذفت
هي .
والكتاب : هنا التوراة ، والمخاطب في :
" صفحة رقم 528 "
لتحسبوه ، المسلمون وقرىء : ليحسبوه ، بالياء وهو يعود على الذين يلوون ألسنتهم
لهم ، أي : ليحسبه المسلمون ، والضمير المفعول في : ليحسبوه ، عائد على ما دل عليه
ما قبله من المحرف ، أي ليحسبوا المحرف من الكتاب .
ويحتمل أن يكون قوله : بالكتاب ، على حذف مضاف أي : يلوون ألسنتهم بشبه الكتاب ،
فيعود الضمير على ذلك المضاف المحذوف ، كقوله تعالى : ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى
بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَاهُ ( أي : أو كذي ظلمات ، فأعاد المفعول في : يغشاه ، على :
ذي ، المحذوف .
( وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ( أي : وما المحرف والمبدل الذي لووه بألسنتهم من
التوراة ، فلا تظنوا ذلك أنه من التوراة .
( وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( تأكيد لما قصدوه من حسبان المسلمين أنه
من الكتاب ، وافتراء عظيم على الله ، إذ لم يكتفوا بهذا الفعل القبيح من التبديل
والتحريف حتى عضدوا ذلك بالقول ليطابق الفعل القول ، ودل ذلك على أنهم لا يعرضون ،
ولا يودّون في ذلك ، بل يصرحون بأنه في التوراة هكذا ، وقد أنزله الله على موسى
كذلك ، وذلك لفرط جرأتهم على الله ويأسهم من الآخرة .
( وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( رد عليهم في إخبارهم بالكذب ، وهذا تأكيد لقوله
) وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ( نفي أولاً أخص ، إذ التعليل كان لأخص ، ونفي هنا
أعم ، لأن الدعوى منهم كانت الأعم ، لأن كونه من عند الله أعم من أن يكون في
التوراة أو غيرها .
قال أبو بكر الرازي : هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله ولا
من فعله ، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده وقد نفى الله تعالى نفياً عامّاً
لكون المعاصي من عنده . انتهى . وهذا مذهب المعتزلة ، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم
.
وقال ابن عطية ) وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( نفي أن يكون منزلاً كما ادّعوا ،
وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ، ومنهم بالتكسب . ولم تعن الآية إلاَّ
معنى التنزيل ، فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله : ) وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ
).
) وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( تقدّم تفسير مثل هذا
آنفاً .
آل عمران : ( 79 ) ما كان لبشر . . . . .
( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يَأْتِيهِ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللَّهِ
( روي أن أبا رافع القرظي قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حين اجتمت الأحبار
من يهود ، والوفد من نصارى نجران : يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً كما
عبدت النصارى عيسى فقال الرئيس من نصارى نجران : أَوَ ذاك تريد يا محمد واليه
تدعونا ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( معاذ الله ما بذلك أمرت ولا
إليه دعوت ) ، فنزلت .
وقيل : قال رجل : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك ؟
قال : ( لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق
لأهله ) .
واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله : ) مَا كَانَ لِبَشَرٍ ( فقال ابن عباس
، والربيع ، وابن جريج ، وجماعة : الإشارة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ،
وذكروا سبب النزول المذكور .
وقال النقاش ، وغيره : الإشارة إلى عيسى ، والآية رادّة على النصارى الذين قالوا :
عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره ، ومعنى ) مَا كَانَ
لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ ( وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون ، والمراد نفي
الخبر ، وذلك على قسمين .
أحدهما : أن يكون الانتفاء من حيث العقل ، ويعبر عنه بالنفي التام ، ومثاله قوله :
) مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ( ) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ
تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ).
والثاني : أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء ، ويعبر عنه بالنفي غير التام ،
ومثاله قول أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدّم أن
يصلى بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذين النفي فيه ، وهذه الآية من القسم
الأول ، لأنا نعلم أنه الله لا يعطي الكَذَبُة والمدَّعين النبوّة ، وفي هذه الآية
دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام .
والكتاب : هنا اسم جنس ، والحكم : قيل بمعنى الحكمة ، ومنه : ( إن من الشعر لحكماً
) . وقيل : الحكم هنا السنة ، يعنون لمقابلته الكتاب ، والظاهر أن الحكم هنا
القضاء والفصل بين الناس ، وهذا من باب الترقي ، بدأ أولاً بالكتاب وهو العلم ، ثم
ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوّة وهي
مجمع الخير ، ثم يقول للناس .
أتى بلفظ : ثم ، التي هي للمهلة تعظيماً لهذا القول ، وإذا انتفى هذا القول بعد
المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى ، أي : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا
القول ، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم .
( كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ
" صفحة رقم 529 "
اللَّهِ ( عباداً جمع عبد . قال ابن عطية : ومن جموعه : عبيد وعبدّي . قال بعض
اللغويين : هذه الجموع كلها بمعنى . وقال قوم : العباد لله والعبيد للبشر . وقال
قوم : العبدي إنما يقال في العبيد بني العبيد ، كأنه مبالغة تقتضى الاستغراق في
العبودية .
والذي استقرئت في لفظة : العباد ، أنه جمع عبد ، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع
والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن فانظر قوله تعالى
: ) وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ ( ) وَعِبَادُ مُّكْرَمُونَ ( ) قُلْ
ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( وقول عيسى في معنى الشفاعة
والتعريض ) إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ).
وأما : العبيد ، فيستعمل في التحقير ، ومنه قول امرىء القيس : قولاً لدودان عبيد
العصا
ما غركم بالأسد الباسل
ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلاَّ عبيد لأبي ، ومنه ) وَمَا رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه
تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة ، لم يقع هنا ،
ولذلك أنس بها في قوله : ) قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى
أَنفُسِهِمْ ( فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في حيز فصاحة القرآن
العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله : ) كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن
دُونِ اللَّهِ ( اعبدوني واجعلوني إلهاً . انتهى كلام ابن عطية . وفيه بعض مناقشة
.
أما قوله : ومن جموعه : عبيد وعبدي ، أما عبيد فالأصح أنه جمع . وقيل : اسم جمع ،
و : أما عبدبي فاسم جمع ، وألفاء للتأنيث . وأما ما استقرأه أن عباداً يساق في
مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ،
وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ العباد ، وقوله : وأما العبيد فيستعمل في تحقير ،
وأنشد بيت أمرىء القيس ، وقول حمزة وقوله تعالى ) بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فليس
باستقراء صحيح ، وإنما كثر استعمال : عباد ، دون : عبيد ، لأن فعالاً في جمع فعل
غير اليائي العين قياس مطرد ، وجمع فعل على فعيل لا يطرد .
قال سيبويه : وربما جاء فعيلاً وهو قليل ، نحو : الكليب والعبيد . انتهى .
فلما كان فعال هو المقيس في جمع : عبد ، جاء : عباد ، كثيراً . وأما ) وَمَا
رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فحسن مجيئه هنا وإن لم يكن مقيساً أنه جاء
لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله ) أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
( وبعده ) قَالُواْ ءاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ ( فحسن مجيئه بلفظ العبيد
مواخاة هاتين الفاصلتين ، ونظير هذا قوله في سورة ق : ) وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ
لّلْعَبِيدِ ( لأن قبله ) قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم
بِالْوَعِيدِ ( وبعده ) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ
هَلْ مِن مَّزِيدٍ ( وأما مدلوله فمدلول : عباد ، سواء .
وأما بيت امرىء القيس فلم يفهم التحقير من لفظ : عبيد ، إنما فهم من إضافتهم إلى
العصا ، ومن مجموع البيت . وكذلك قول حمزة إنما فهم منه معنى التحقير من قرينة
الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت ، وفي وقول حمزة على أحد الجائزين .
وقرأ الجمهور : ثم يقول ، بالنصب عطفاً على : أن يؤتيه ، وقرأ شبل عن ابن كثير ،
ومحبوب عن أبي عمرو : بالرفع على القطع أي : ثم هو يقول . وقرأ الجمهور : عباداً
لي ، بتسكين ياء الإضافة . وقرأ عيسى بن عمر : بفتحها .
( وَلَاكِن كُونُواْ ( هذا على إضمار القول تقديره : ولكن يقول كونوا ربانيين ،
والرباني الحكيم العالم ، قاله قتادة ، وأبو رزين . أو : الفقيه ، قاله علي ، وابن
عباس ، والحسن ، ومجاهد . أو : العالم الحليم ، قاله قتادة وغيره . أو : الحكيم
الفقيه ، قاله ابن عباس . أو : الفقيه العالم ، قاله الحسن ، والضحاك . أو : والي
الأمر يربيهم ويصلحهم ، قاله ابن زيد .
" صفحة رقم 530 "
أو : الحكيم التقي ، قاله ابن جبير . أو : المعلم ، قاله الزجاج . أو : العالم ،
قاله المبرد . أو : التائب لربه ، قاله المؤرج . أو : الشديد التمسك بدين الله
وطاعته ، قاله الزمخشري . أو : العالم الحكيم الناصح لله في خلقه ، قاله عطاء . أو
: العالم العامل بعلمه ، قاله ابن جبير . أو : العالم المعلم ، قاله بعضهم . وهذه
أقوال متقاربة .
وللصوفية في تفسيره أقوال كثيرة غير هذه ، وقال مجاهد : الرباني فوق الحبر ، لأن
الحبر هو العالم ، والرباني الذي جمع إلى العلم والفقه النظر بالسياسة والتدبير
والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم . وفي البخاري : الرباني الذي
يربي الناس بصغار العلم قبل كباره .
قال ابن عطية : فجملة ما يقال في الرباني : إنه العالم المصيب في التقدير من
الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس انتهى . ولما مات ابن عباس قال محمد بن
الحنفية : اليوم مات رباني هذه الآمة .
( رَبَّانِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ
تَدْرُسُونَ ( الباء للسبب ، و : ما ، الظاهر أنها مصدرية ، و : تعلمون ، متعدٍ
لواحد على قراءة الحرميين وأبي عمرو إذ قرؤوا بالتخفيف مضارع علم ، فأما قراءة
باقي السبعة بضم التاء وفتح العين وتشديد اللام المكسورة ، فيتعدّى إلى اثنين ، إذ
هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد ، وأول المفعولين محذوف تقديره : تعلمون
الناس الكتاب . وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى ، وقد تقدّم أني لا أرى
شيئاً من هذه التراجيح ، لأنها كلها منقولة متواترة قرآناً ، فلا ترجيح في إحدى
القراءتين على الأخرى .
وقرأ مجاهد ، والحسن : تعلمون ، بفتح التاء والعين واللام المشددة ، وهو مضارع
حذفت منه التاء ، التقدير : تتعلمون ، وقد تقدم الخلاف في المحذوف منهما .
وقرأ أبو حيوة : تدرسون بكسر الراء . وروي عنه : تدرّسون ، بضم التاء وفتح الدال
وكسر الراء المشددة أي : تدرسون غيركم العلم ، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا
للتعدية . وقرىء : تدرسون ، منن أدرس بمعنى درّس نحو : أكرم وكرّم ، و : أنزل نزّل
، وقال الزمخشري : أوجب أن تكون الرئاسة التي هي قوّة التمسك بطاعة الله مسببة عن
العلم والدراسة ، وكفى به دليلا على خيبة سعى من جهد نفسه وكد روحه في جمع العلم ،
ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا
تنفعه بثمرها ، ثم قال أيضاً ، بعد أسطر : وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به
فليس من الله في شيء ، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع حيث لم تثبت النسبة إليه
إلاَّ للمتمسكين بطاعته . انتهى كلامه . وفيه دسيسة الاعتزال ، وهو أنه : لا يكون
مؤمناً عالماً إلاَّ بالعمل ، وأن العمل شرط في صحة الإيمان .
2 ( ) وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ
أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ) ) 2
آل عمران : ( 80 ) ولا يأمركم أن . . . . .
( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيّيْنَ أَرْبَابًا
( قرأ الحرميان ، والنحويان ، والأعشى والبرجمي : برفع الراء على القطع ، ويختلس
أبو عمرو الحركة على أصله ، والفاعل ضمير مستكن في يأمر عائد على الله ، قاله
سيبويه ، والزجاج . وقال ابن جريج : عائد على : بشر ، الموصوف بما سبق ، وهو محمد
( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمعنى على هذه القراءة : أنه لا يقع من بشر موصوف
بما وصف به أن يجعل نفسه رباً فيعبد ، ولا هو أيضاً يأمر باتخاذ غيره من ملائكة
وأنبياء أرباباً ، فانتفى أن يدعو لنفسه ولغيره . وإن كان الضمير عائداً على الله
فيكون إخباراً من الله أنه لم يأمر بذلك ، فانتفى أمر الله بذلك ، وأمر أنبيائه .
وقرأ عاصم وابن عامر ، وحمزة ولا يأمركم ، بنصب الراء ، وخرجه أبو علي وغيره على
أن يكون المعنى : ولا له أن يأمركم ، فقدروا : أن ، مضمرة بعد : لا ، وتكون : لا ،
مؤكدة معنى النفي السابق ، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام . وأنت تريد
انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، فلا للتوكيد في النفي السابق ، وصار المعنى : ما
كان من زيد إتيان ولا منه قيام .
وقال الطبري قوله : ولا يأمركم ، بالنصب معطوف على
" صفحة رقم 531 "
قوله : ثم يقول : قال ابن عطية : وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى . انتهى كلامه . ولم
يبين جهة الخطأ ولا عدم التئام المعنى به ، ووجه الخطأ انه إذا كان معطوفاً على :
ثم يقول ، وكانت لا لتأسيس النفي ، فلا يمكن إلاَّ أن يقدر العامل قبل : لا ، وهو
: أن ، فينسبك من : ان ، والفعل المنفي مصدرٍ منتف فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف
بما وصف به انتفاء امره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً ، وإذا لم يكن له
الأنتفاء كان له الثبوت ، فصار آمراً باتخاذهم أرباباً وهو خطأ ، فإذا جعلت لا
لتأكيد النفي السابق كان النفي منسحباً على المصدرين المقدر ثبوتهما ، فينتفي قوله
: ) كُونُواْ عِبَادًا لّى ( وأمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً ، ويوضح هذا
المعنى وضع : غير ، موضع : لا ، فإذا قلت : ما لزيد فقه ولا نحو ، كانت : لا ،
لتأكيد النفي ، وانتفى عنه الوصفان ، ولو جعلت : لا ، لتأسيس النفي كانت بمعنى :
غير ، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه وثبوت النحو له ، إذ لو قلت : ما لزيد فقه
وغير نحو ، كان في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلت : ماله غير نحو . ألا ترى أنك
إذا قلت : جئت بلا زاد ، كان المعنى : جئت بغير زاد ، وإذا قلت : ما جئت بغير زاد
، معناه : أنك جئت بزاد ؟ لأن : لا ، هنا لتأسيس النفي ، وأن يكون من عطف المنفي
بلا على الثبت الداخل عليه النفي ، نحو : ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم ، تريد :
ما أريد أن لا تتعلم .
وأجاز الزمخشري أن أن تكون : لا ، لتأسيس النفي ، فذكر أولاً كونها زائدة لتأكيد
معنى النفي ، ثم قال : والثاني أن يجعل : لا ، غير مزيده ، والمعنى : أن رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ) كان ينهي قريشاً عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى
عن عبادة عزير والمسيح ، فلما قالوا له : أنتخذك رباً ، قيل لهم : ما كان لبشر أن
يستنبئه الله ، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء .
قال : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، وينصرها قراءة عبد الله : ولن
يأمركم ، انتهى كلام الزمخشري .
( أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ( هذا استفهام إنكار
وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح ، إذ الأمر بالكفر على كل حال منكر ، ومعناه :
أنه لا يأمر بكفر لا بعد الأسلام ولا قبله ، سواء كان الآمر الله أم الذي استنبأه
الله .
وفي هذه الآية دلالة على أن المخاطبين كانوا مسملمين ، ودلالة على أن الكفر ملة
واحدة إذ الذين اتخذوا الملائكة أرباباً ثم الصابئة وعبدة الأوثان ، والذين اتخذوا
النبيين أرباباً هم اليهود والنصارى والمجوس ، ومع هذا الاختلاف سمى الله الجميع :
كفراً . و : بعد ، ينتصب بالكفر ، أو : بيأمركم ، وإذ ، مضافة للجملة الإسمية
كقوله : ) وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ ( وأضيف إليها : بعد ، ولا يضاف
إليها إلاَّ ظرف زمان .
( ) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن
كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى
ذالِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ
مِّنَ الشَّاهِدِينَ ( )
آل عمران : ( 81 ) وإذ أخذ الله . . . . .
( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنصُرُنَّهُ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى : لما نفى عن أهل الكتاب
قبائح أقوالهم وأفعالهم ، وكان مما ذكر أخيراً اشتراءهم بآيات الله ثمناً قليلاً ،
وما يؤول أمرهم إليه في الآخرة ، وإن منهم من بدل في كتابه وغير ، وصف رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ) ونزه رسوله عن الأمر بأن يعبد هو أو غيره ، بل تفرّد بالله
تعالى بالعبادة ، أخذ تعالى يقيم الحجة على أهل الكتاب وغيرهم ممن أنكر نبوّته
ودينه ، فذكر أخذ الميثاق على أنبيائهم بالإيمان برسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) ) ، والتصديق له ، والقيام بنصرته ، وإقرارهم بذلك ، وشهادتهم على أنفسهم ،
" صفحة رقم 532 "
وشهادته تعالى عليهم بذلك ، وهذا العهد مذكور في كتبهم وشاهد بذلك أنبياؤهم .
وقرأ أبي ، وعبد الله : ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، بدل : النبيين ، وكذا هو في
مصحفيهما . وروي عن مجاهد أنه قال : هكذا هو القرآن ، وإثبات النبيين خطأ من
الكاتب ، وهذا لا يصح عنه لأن الرواة الثقات نقلوا عنه أنه قرأ : النبيين كعبد
الله بن كثير وغيره ، وإن صح ذلك عن غيره فهو خطأ مردود بإجماع الصحابة على مصحف
عثمان .
والخطاب بقوله : وإذ أخذ ، يجوز أن يكون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أمره أن
يذكر أهل الكتاب بما هو في كتبهم من أخذ الميثاق على النبيين ، ويجوز أن يتوجه إلى
أهل الكتاب أمروا أن يذكروا ذلك ، وعلى هذين التقديرين يكون العامل : أذكر ، أو :
أذكروا ، ويجوز أن يكون العامل في : إذ ، قال من قوله : ) قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ (
وهو حسن ، إذ لا تكلف فيه .
قيل : ويجوز أن يكون معطوفاً على ما تقدم من لفظ إذ ، والعامل فيها : اصطفى ، وهذا
بعيد جداً .
وظاهر الكلام يدل على أن الله هو الآخذ ميثاق النبيين فروي عن عليّ ، وابن عباس ،
وطاووس ، والحسن ، والسدّي : أن الذين أخذ ميثاقهم هم الأنبياء دون أممهم ، أخذ
عليهم أن يصدّق بعضهم بعضاً ، وأن ينصر بعضهم بعضاً ، ونصرة كل نبي لمن بعده توصية
من آمن به أن ينصره إذا أدرك زمانه . وينبو عن هذا المعنى لفظ : ) ثُمَّ جَاءكُمْ
رَسُولٌ ( إلى آخر الكلام .
وقال ابن عباس أيضاً فيما روى عنه : أخذ ميثاق النبيين وأممهم على الأيمان بمحمد (
صلى الله عليه وسلم ) ) ونصره ، واجتزأ بذكر النبيين من ذكر أممها لأن الأمم أتباع
للأنبياء ، ويدل عليه قول عليّ كرّم الله وجهه : ما بعث الله نبياً إلاَّ أخذ عليه
العهد في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأمره بأخذ العهد على قومه فيه بأن
يؤمنوا به وينصروه إن أدركوا زمانه . وروي عن ابن عباس أيضاً : أنه تعالى لما أخرج
ذرية آدم من صلبه أخذ الميثاق على جميع المرسلين أن يقروا بمحمد ( صلى الله عليه
وسلم ) ) . وعلى هذين القولين يكون قوله : ) ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ ( عني به واحد
وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولا يكون جنساً . ويبعد قول ابن عباس : أن
الميثاق كان حين أخرجهم من ظهر آدم كالذر .
قرأ حمزة : لما آتيناكم ، لأن الظاهر أن ذلك كان بعد إيتاء الكتاب والحكمة . و :
ميثاق ، مضاف إلى النبيين ، فيحتمل أن يكون النبيون هم الموثقون للعهد على أممهم ،
ويحتمل أن يكونوا هم الموثق عليهم ، والذي يدل عليه ما قبل الآية من قوله : ) مَا
كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ ( الآية وما بعدها من قوله : ) وَمِنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا ( أن المراد بقوله ) ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ (
هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولذلك جاء مصدقاً لما معكم . وكثيراً ما وصف
بهذا الوصف في القرآن رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ألا ترى إلى قوله )
وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ
فَرِيقٌ ( ؟ وكذلك وصف كتابه بأنه مصدق لما في كتبهم ، وإذا تقرر هذا كان المجاز
في صدر الآية فيكون على حذف مضاف أي : وإذ أخذ الله ميثاق أتباع النبيين من أهل
الكتاب ، أو ميثاق أولاد النبيين ، فيوافق صدر الآية ما بعدها ، وجعل ذلك ميثاقاً
للنبيين على سبيل التعظيم لهذا الميثاق ، أو يكون المأخوذ عليهم الميثاق مقدّراً
بعد النبيين ، التقدير : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على أممهم . ويبين هذا
التأويل قراءة أبي ، وعبد الله : ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، ويبين أيضاً أن
الميثاق كان على الأمم قوله : ) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ ( ومحال هذا الفرض في حق النبيين ، وإنما ذلك في حق الأتباع .
وقرأ جمهور السبعة : لما ، بفتح اللام وتخفيف الميم وقرأ حمزة : لما ، بكسر اللام
وقرأ سعيد بن جبير ، والحسن : لما ، بتشديد الميم .
فأما توجيه قراءة الجمهور ففيه أربعة أقوال .
أحدهما : أن : ما ، شرطية منصوبة على المفعول بالفعل بعدها ، واللام قبلها موطئة
لمجيء : ما ، بعدها جواباً باللقسم ، وهو أخذ الله ميثاق . و : من ، في قوله : من
كتاب ، كهي ، في قوله : ) مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ ( والفعل بعد : ما ، ماضٍ معناه
الاستقبال لتقدم ، ما ، الشرطية عليه . وقوله : ثم جاءكم ، معطوف على الفعل بعد :
ما ، فهو في حيز الشرط ، ويلزم أن يكون في قوله : ثم جاءكم ، رابط يربطها بما عطفت
عليه ، لأن : جاءكم ، معطوف على الفعل بعد : ما ، و : لتؤمنن به ، جواب لقوله )
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ ( ونظيره من الكلام في التركيب : أقسم
لأيهم صحبت ، ثم أحسن إليه رجل تميمي لأحسنن إليه ، تريد لأحسنن إلى الرجل التميمي
. فلأحسنن جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف لدلالة
" صفحة رقم 533 "
جواب القسم عليه ، وكذلك في الآية جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ،
والضمير في : به ، عائد على : رسول ، وهذا القول ، وهو أن : ما ، شرطية هو قول
الكسائي .
وسأل سيبويه الخليل عن هذه الآية فقال ما نصه : ما ، ههنا بمنزلة : الذي ، ودخلت
اللام كما دخلت على : إن ، حين قلت : والله لئن فعلت لأفعلن ، فاللام في : ما ،
كهذه التي في : أن ، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا انتهى ثم قال
سيبويه : ومثل ذلك ) لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ ( إنما دخلت
اللام على نية اليمين انتهى .
وقال أبو علي : لم يرد الخليل بقوله : بمنزلة الذي أنها موصولة ، بل أنها اسم ،
كما أن الذي اسم وأقر أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً : ) وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا
لَيُوَفّيَنَّهُمْ ( وفي قوله : ) وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ( انتهى .
وتحصل من كلام الخليل وسيبويه أن : ما ، في : لما أتيتكم ، شرطية وقد خرجها على
الشرطية غير هؤلاء : كالمازني ، والزجاج ، وأبي علي ، والزمخشري ، وابن عطية وفيه خدش
لطيف جدّاً ، وهو أنه : إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه
، وإذا كان كذلك فالمحذوف من جنس المثبت ، ومتعلقاته متعلقاته ، فإذا قلت : والله
لمن جاءني لأكرمنه ، فجواب : مَنْ ، محذوف ، التقدير : من جاءني أكرمه . وفي الآية
اسم الشرط : ما ، وجوابه محذوف من جنس جواب القسم ، وهو الفعل المقسم عليه ،
ومتعلق الفعل هو ضمير الرسول بواسطة حرف الجر لا ضمير : ما ، المقدّر ، فجواب : ما
، المقدّر إن كان من جنس جواب القسم فلا يجوز ذلك ، لأنه تعد . والجملة الجوابية
إذ ذاك من ضمير يعود على اسم الشرط ، وإن كان من غير جنس جواب القسم فيكف يدل عليه
جواب القسم وهو من غير جنسه وهو لا يحذف إلاَّ إذا كان من جنس جواب القسم ؟ ألا
ترى أنك لو قلت : والله لئن ضربني زيد لأضربنه ؟ فكيف تقدره : إن ضربني زيد أضربه
؟ ولا يجوز أن يكون التقدير : والله إن ضربني زيد أشكه لأضربنه ، لأن : لأضربنه ،
لا يدل على : أشكه ، فهذا ما يرد على قول من خرج : ما ، على أنها شرطية .
وأما قول الزمخشري : ولتؤمنن ، ساد مسد جواب القسم ، والشرط جميعاً فقول ظاهره
مخالف لقول من جعل : ما ، شرطية ، لأنهم نصوا على أن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب
القسم عليه ، اللهم إن عنى أنه من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب يسد مسدهما ،
فيمكن أن يقال ؛ وأما من حيث تفسير الإعراب فلا يصح ، لأن كلاًّ منهما ، أعني :
الشرط والقسم ، يطلب جواباً على حدة ، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما ، لأن
الشرط يقتضيه على جهة العمل فيه ، فيكون في موضع جزم ، والقسم يطلبه على جهة
التعلق المعنوي به بغير عمل فيه ، فلا موضع له من الإعراب . ومحال أن يكون الشيء
الواحد له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب .
والقول الثاني : قاله أبو علي الفارسي وغيره ، وهو : أن تكون : ما ، موصولة مبتدأة
، وصلتها : آتيناكم ، والعائد محذوف تقديره : آتيناكموه ، و : ثم جاءكم ، معطوف
على الصلة ، والعائد منها على الموصول محذوف تقديره : ثم جاءكم رسول به ، فحذف
لدلالة المعنى عليه ، هكذا خرجوه ، وزعموا أن ذلك على مذهب سيبويه ، وخرجوه على
مذهب الأخفش : أن الربط لهذه الجملة العارية عن الضمير حصل بقوله : لما معكم ،
لأنه هو الموصول ، فكأنه قيل : ثم جاءكم رسول مصدق له ، وقد جاء الربط في الصلة
بغير الضمير ، إلاَّ أنه قليل : روي من كلامهم : أبو سعيد الذي رويت عن الخدري ،
يريدون : رويت عنه وقال : فيا رب ليلى أنت في كل موطن
وأنت الذي في رحمة الله أطمع
يريد في رحمته أطمع .
وخبر المبتدأ ، الذي هو : ما ، الجملة من القسم المحذوف وجوابه ، وهو : لتؤمنن به
، والضمير في : به ، عائد على الموصول المبتدأ ، ولا يعود على : رسول ، لئلا تخلو
الجملة التي وقعت خبراً عن المبتدأ من رابط يربطها به ،
" صفحة رقم 534 "
والجملة الابتدائية التي هي : لما آتيناكم ، إلى آخره هي الجملة المتلقى بها ما
أجرى مجرى القسم ، وهو قوله : ) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ ).
والقول الثالث : قاله بعض أهل العلم ، وهو : أن تكون : ما ، موصولة مفعولة بفعل
جواب القسم ، التقدير : لتبلغن ما آتيناكم من كتاب وحكمة ، قال : إلاَّ أنه حذف :
لتبلغن ، لدلالة عليه ، لأن لام القسم إنما تقع على الفعل ، فلما دلت هذه اللام
على هذا الفعل حذف ، ثم قال تعالى : ) ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا
مَعَكُمْ ( وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنصُرُنَّهُ ( وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ، انتهى . ويعني : يكون :
لتؤمنن به ، جواب قسم محذوف ، وهذا بعيد جداً لا يحفظ من كلامهم ، والله لزيداً
تريد ليضربن زيداً .
والقول الرابع : قاله ابن أبي إسحاق ، وهو : أن يكون : لما ، تخفيف لما ، والتقدير
: حين آتيناكم ، ويأتي توجيه قراءة التشديد .
وأمّا توجيه قراءة حمزة : فاللام هي للتعليل ، و : ما ، موصولة : بآتيناكم ،
والعائد محذوف . و : ثم جاءكم ، معطوف على الصلة ، والرابط لها بالموصول إما إضمار
: به ، على ما نسب إلى سيبويه ، وإما هذا الظاهر الذي هو : لما معكم ، لأنه في
المعنى هو الموصول على مذهب أبي الحسن .
وقول الزمخشري : فجواب : أخذ الله ميثاق النبيين هو لتؤمنن به ، والضمير في : به ،
عائد على رسول ، ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور ، لو
قلت : أقسمت للخبر الذي بلغني عن عمر ولأحسنن إليه ، جاز . وأجاز الزمخشري ، في
قراءة حمزة ، أن تكون : ما ، مصدرية ، وبدأ به في توجيه هذه القراءة ، قال :
ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم
لتؤمنن به ، على أن : ما ، مصدرية ، والفعلان معها أعني : آتيناكم وجاءكم ، في
معنى المصدرين ، واللام داخلة للتعليل على معنى : أخذ الله ميثاقهم ليؤمنن بالرسول
ولينصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة ، وأن الرسول الذي أمرتكم بالإيمان به ونصرته
موافق لكم غير مخالف . انتهى كلامه . إلاَّ أن ظاهر هذا التعليل الذي ذكره ، وهذا
التقدير الذي قدره ، أنه تعليل للفعل المقسم عليه ، فإن عنى هذا الظاهر فهو مخالف
لظاهر الآية ، لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخذ الميثاق لا لمتعلقة ،
وهو الإيمان . فاللام متعلقة بأخذ ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله :
لتؤمنن به ، ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما
قبلها . تقول : والله لأضربن زيداً ، فلا يجوز : والله زيداً لاضربن ، فعلى هذا لا
يجوز أن تتعلق اللام في : لما ، بقوله : لتؤمنن به .
وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب ، إذا كان ظرفاً أو مجروراً ، تقدّمه ،
وجعل من ذلك عوض لا نتفرق ، وقوله تعالى : ) عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ
نَادِمِينَ ( فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله : لتؤمنن به ، وفي هذه المسألة تفصيل
يذكر في علم النحو .
وذكر السجاوندي ، عن صاحب النظم : أن هذه اللام في قراءة حمزة هي بمعنى : بعد ،
كقول النابغة : توهمت آيات لها فعرفتها
لستة أعوام وذا العام سابع
فعلى ذا لا تكون اللام في : لما ، للتعليل .
وأمّا توجيه قراءة سعيد بن جبير ، والحسن : لما ، فقال أبو إسحاق : أي لما آتاكم
الكتاب والحكمة أخذ الميثاق ، وتكون : لما ، تؤول إلى الجزاء كما تقول : لما جئتني
أكرمتك . انتهى كلامه .
قال ابن عطية : ويظهر أن : لما ، هذه هي الظرفية ، أي : لما كنتم بهذه الحال رؤساء
الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق ، إذ على القادة يؤخذ ، فيجيء على هذا المعنى
كالمعنى في قراءة حمزة .
وقال الزمخشري : لما ، بالتشديد بمعنى : حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم
رسول مصدّق وجب عليكم الإيمان به ونصرته . انتهى . فاتفق ابن عطية والزمخشري على
أن : لما
" صفحة رقم 535 "
ظرفية ، واختلفا في تقدير الجواب العامل في : لما ، على زعمهما . فقدّره ابن عطية
من القسم ، وقدّره الزمخشري من جواب القسم ، وكلا قوليهما مخالف لمذهب سيبويه في :
لما ، المقتضية جواباً ، فإنها عند سيبويه حرف وجواب لوجوب ، وليست ظرفية بمعنى :
حين ، ولا بمعنى غيره ، وإنما ذهب إلى ظرفيتها أبو علي الفارسي .
وقد تكلمنا على ذلك كلاماً مشبعاً في كتاب ( التكميل لشرح التسهيل ) وبينا أن
الصحيح مذهب سيبويه .
وذهب ابن جني في تخريج هذه القراءة إلى أن أصلها : لمن ما ، وزيدت : من ، في
الواجب على مذهب الأخفش ، ثم أدغمت كما يجب في مثل هذا ، فجاء : لمما ، فثقل
اجتماع ثلاث ميمات ، فحذفت الميم الأولى فبقي : لما .
قال ابن عطية : وتفسير هذه القراءة على هذا التوجيه الملحق تفسير : لما ، بفتح
الميم مخففة ، وقد تقدّم . انتهى .
وظاهر كلامه أن : من ، في قوله : لمن ما ، زائدة في الواجب على مذهب الأخفش ، وقد
ذكر هذا التقدير في توجيه قراءة : لما ، بالتشديد الزمخشري ولم ينسبه إلى أحد ،
فقال : وقيل أصله : لمن مّا ، فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي : الميمان والنون
المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم ، فحذفوا إحداها ، فصارت : لما ، ومعناه : لمن
أجل ما آتيناكم لتؤمنن به ، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى . انتهى كلامه . وهو
مخالف لكلام ابن جني في : من ، المقدّر دخولها على : ما ، فإن ظاهر كلام ابن جني
أنها زائدة ، وظاهر كلام الزمخشري أنها ليست بزائدة ، لأنه جعلها للتعليل .
وفي قول الزمخشري : فحذفوا إحداهما ، إبهام في المحذوف ، وقد عينها ابن جني : بأن
المحذوفة هي الأولى ، وهذا التوجيه في قراءة التشديد في غاية البعد ، وينزه كلام
العرب أن يأتي فيه مثله ، فكيف كلام الله تعالى ؟ وكان ابن جني كثير التحمل في
كلام العرب . ويلزم في : لما ، على ما قرره الزمخشري أن تكون اللام في : لمن ما
آتيناكم ، زائدة ، ولا تكون اللام الموطئة ، لأن اللام الموطئة إنما تدخل على
أدوات الشرط لا على حرف الجر ، لو قلت : أقسم بالله لمن أجلك لأضربن عمراً ، لم
يجز ، وإنما سميت موطئة لأنها توطىء ما يصلح أن يكون جواباً للشرط للقسم ، فيصير
جواب الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه .
وقرأ نافع : آتيناكم ، على التعظيم وتنزيل الواحد منزلة الجمع ، وقرأ الجمهور :
آتيتكم ، على الإفراد وهو الموافق لما قبله وما بعده ، إذ تقدّمه ) وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ ( وجاء بعده ) إِصْرِى ).
وقرأ عبد الله : رسول مصدّقاً ، نصبه على الحال ، وهو جائز من النكرة ، وإن تقدّمت
النكرة . وقد ذكرنا أن سيبويه قاسه ، ويحسن هذه القراءة أنه نكرة في اللفظ معرفة
من حيث المعنى ، لأن المعني به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) على قول الجمهور ،
وقوله : لما آتيتكم ، إن أريد جميع الأنبياء ، وهو ظاهر اللفظ ، فإن أريد بالإيتاء
الإنزال فليس كلهم أنزل عليهم ، فيكون من خطاب الكل بخطاب أشرف أنواعه ، ويكون
التعميم في الأنبياء مجازاً ، وإن أريد بالإيتاء كونه مهتدى به وداعياً إلى العمل
به صح ذلك في جميع الأنبياء ، ويكون التعميم حقيقة . وكذلك إن أريد بالأنبياء
المجاز ، وهو : أممهم ، يكون إيتاؤهم الكتاب كونه تعالى جعله هادياً لهم وداعياً .
( ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ ( أي : ثم جاء في زمانكم .
ومعنى التصديق كونه موافقاً في التوحيد والنبوّات وأصول الشرائع ، وجميعهم متفقون
على أن الحق في زمان كل نبي شرعه وفي قول : رسول ، دلالة على أن الميثاق المأخوذ
هو ما قرر في العقول من الدلائل التي توجب الإنقياد لأمر الله ، وفي قوله : )
مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ ( دلالة على أن الميثاق هو شرحه لصفات الرسول في كتب
الأنبياء ، فهذان الوجهان محتملان ، وأوجب الإيمان أولاً ، والنصرة ثانياً ، وهو
ترتيب ظاهر .
( قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى ( ظاهره أن الضمير في
: قال ، عائد على الله تعالى ، وفي : أقررتم ، خوطب به الأنبياء المأخوذ عليهم
الميثاق على الخلاف ، أهو على ظاهره ؟ أم هو على حذف مضاف ؟ أم هو مما حذف بعد
النبيين وتقديره ميثاق النبيين على أممهم ؟ لم يكتف بأخذ الميثاق حتى استنطقه
بالإقرار بالإيمان به والنصرة له .
قيل : ويحتمل أن يكون الضمير في : قال ، على كل فرد فرد من النبين ، أي : قال كل
نبي لأمته : أأقررتم ، ومعنى هذا القول على هذا الاحتمال الإثبات والتأكيد ، لم
يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم ، بل طالبوهم بالإقرار بالقول .
ويكون : إصري ، على الظاهر مضافاً إلى الله تعالى ، وعلى هذا القول الثاني يكون
مضافاً إلى النبي والإصر : العهد لأنه مما يؤصر أي يشدّ ويعقد . وقرىء بضم الهمزة
، وهي مروية
" صفحة رقم 536 "
عن أبي بكر عن عاصم ، فيحتمل أن يكون ذلك لغة في : اصر ، كما قالوا : اناقة أسفار
عبر ، وعبر أسفار ، وهي المعدّة للأسفار . ويحتمل أن يكون جمعاً لإصار ، كإزار
وأزر ومعنى الأخذ هنا : القبول .
( قَالُواْ أَقْرَرْنَا ( معناه أقررنا بالإيمان به وبنصرته ، وقبلنا ذلك
والتزمناه . وثم جملة محذوفة أي : أقررنا وأخذنا على ذلك الإصر ، وحذفت لدلالة ما
تقدم عليها .
( قَالَ فَاشْهَدُواْ ( الظاهر أنه تعالى قال للنبيين المأخوذ عليهم الميثاق :
فاشهدوا ، ومعناه من الشهادة أي : ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأخذ الإصر ، قاله
مقاتل . وقيل : فاشهدوا هو خطاب لملائكة ، قاله ابن المسيب . وقيل : معنى :
فاشهدوا ، بينوا هذا الميثاق للخاص والعام لكيلا يبقى لأحد عذر في الجهل به ،
وأصله : أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى ، قاله الزجاج ، ويكون : اشهدوا ،
بمعنى : أدّوا ، لا يمعنى : تحملوا . وقيل : معناه استيقنوا ما قررته عليكم من هذا
الميثاق وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له ، قاله ابن عباس . وقيل : فاشهدوا ،
خطاب للأنبياء إذا قلنا : إن أخذ الميثاق كان على أتباعهم أمروا بأن يكونوا شاهدين
على أممهم ، وروي هذا عن عليّ بن أبي طالب .
وعلى القول : بأن المعنى في : قال أأقررتم ، أي : قال كل نبي ، يكون المعنى على
بكل نبي لأمّته فاشهدوا ، أي : ليشهد بعضكم على بعض . وقوله : فاشهدوا ، معطوف على
محذوف التقدير ، قال : أأقرتم فاشهدوا ، فالفاء دخلت للعطف . ونظير ذلك قوله :
ألقيت زيداً ؟ قال : فأحسن إليه . التقدير : لقيت زيداً فاحسن إليه ، فما فيه
الفاء بعض المقول ، ولا يجوز أن يكون كل المقول لأجل الفاء ، ألا ترى قال :
أأقررتم ، وقوله : قالوا أقررنا ؟ لما كان كل المقول لم تدخل بالفاء .
( وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ ( يحتمل الاسئناف على سبيل بالتوكيد ،
ويحتمل أن يكون جملة حالية
2 ( ) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ) ) 2
) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (
آل عمران : ( 82 ) فمن تولى بعد . . . . .
أي : من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول ، وعن نصرته بعد أخذ الميثاق والإقرار
والتزام العهد ، قاله عليّ بن أبي طالب وغيره . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد
بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق ، على أن قوله تعالى : فاشهدوا ، أمر بالأداء
.
و : من ، الظاهر أنها شرط ، والجملة من : فأولئك وما بعده جزاء ، ويحتمل أن تكون
موصولة ، وأعاد الضمير في : تولى ، مفرداً على لفظ : من وجمع في : فأولئك ، حملاً
على المعنى ، وهذه : ذلك الجملة تدل عل أن الذين أخذ منهم الميثاق هم أتباع
الأنبياء ، لأنه حكم تعالى بالفسق على من تولى بعد ذلك ، وهذا الحكم لا يليق إلاَّ
بأمم الأنبياء ، وأيضاً فالأنبياء ، عليهم السلام ، كانوا أمواتاً عند مبعثه ( صلى
الله عليه وسلم ) ) ، يعلمنا أن المأخوذ عليهم الميثاق هم أممهم .
وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة . منها : الطباق : في : بقنطار وبدينار ،
إذ أريد بهما القليل والكثير ، وفي : يؤدّه ولا يؤدّه ، لأن الأداء معناه الدفع
وعدمه معناه المنع ، وهما ضدان ، وفي قوله : بالكفر ومسلمون ، والتجنيس المغاير في
: اتقى والمتقين ، وفي : فاشهدوا والشاهدين ، والتجنيس المماثل في : ولا يأمركم
أيأمركم ، وفي : أقررتم وأقررنا . والإشارة في قوله : ذلك بأنهم ، وفي أولئك لا
خلاق لهم . والسؤال والجواب ، وهو في : قال أأقررتم ؟ ثم : قالوا أقررنا .
والاختصاص في : يحب المتقين ، وفي يوم القيامة ، اختصه بالذكر لأنه اليوم الذي
تظهر فيه مجازاة الأعمال . والتكرار في : يؤدّه ولا يؤده ، وفي اسم الله في مواضع
، وفي : من الكتاب وما هو من الكتاب . والاستعارة في : يشترون بعهد الله . والالتفات
في : لما آتيتكم ، وهو خطاب بعد قوله : النبيين ، وهو لفظ غائب . والحذف في عدة
مواضع تقدمت .
" صفحة رقم 537 "
2 ( ) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ
وَالاٌّ رْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ
وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاٌّ سْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى
وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
وَهُوَ فِى الاٌّ خِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا
كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَائِكَ
جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ
يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ
ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ
أَحَدِهِم مِّلْءُ الاٌّ رْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ( ) ) 2
آل عمران : ( 83 ) أفغير دين الله . . . . .
الملء : مقدار ما يملأ ، وهو اسم يثنى ويجمع يقال : ملء القدح ، وملآه ، وثلاثة
أملائه ، وبفتح الميم المصدر ، يقال : ملأت الشيء املأه ملأ ، والملاءة التي تلبس
، وهي الملحفة بضم الميم والهمز . وتقدمت هذه المادة في شرح : الملأ .
( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ( روي عن ابن عباس : اختصم أهل الكتاب فزعمت
كل فرقة أنها أولى بدين إبراهيم ، فقال النبي كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم ،
فغضبوا . وقالوا : والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك . فنزلت هذه الآية .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهر جداً .
والهمزة في : أفغير ؟ للإنكار والتنبيه على الخطأ في التولي والإعراض ، وأضيف
الدين إلى الله لأنه تعالى هو الذي شرعه وتعبد به الخلق ، ومعنى : تبغون ، تطلبون
، وهو هنا بمعنى : تدينون لأنهم متلبسون بدين غير دين الله لا طالبوه ، وعبر
بالطلب إشعاراً بأنهم في كل الوقت باحثون عنه ومستخرجوه ومبتغوه .
وقال الماتريدي : فإن قيل كل عاقل يبتغي دين الله ويدعي أنّ الذي هو عليه دين الله
.
قيل : الجواب من وجهين .
أحدهما : أنه لما قصر في الطلب جعل في المعنى كأنه باغ غير دين الله ، إذ لو كان
باغياً لبالغ في الطلب من الوجه الذي يوصل إليه منه ، فكأنه ليس باغياً من حيث
المعنى ، ولكنه من حيث الصورة .
والثاني : أنه قد بان للبعض في الابتغاء ما هو الحق لظهور الحجج والآيات ، ولكن
أبى إلاَّ العناد ، فهو باغ غير دين الله ، فتكون الآية في المعاندين . انتهى
كلامه .
وقرأ أبو عمرو ، وحفص ، وعياش ، ويعقوب ، وسهل : يبغون ، بالياء على الغيبة ،
وينسبها ابن عطية لأبي عمرو ، وعاصم بكماله . وقرأ الباقون : بالتاء ، على الخطاب
، فالياء على نسق : هم الفاسقون ، والتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ،
والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها ، وقدمت الهمزة اعتناء بالاستفهام . والتقدير
: فأغير ؟ وجوّز
" صفحة رقم 538 "
هذا الوجه الزمخشري ، وهو قول جميع النحاة قبله . قال : ويجوز أن يعطف على محذوف
تقديره : أيتولون فغير دين الله يبغون . انتهى . وقد تقدم ذكر هذا والكلام على
مذهبه في ذلك ، وأمعنا الكلام عليه في كتاب ( التكميل ) من تأليفنا .
وانتصب : غير ، على أنه مفعول يبغون ، وقدم على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار
الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل ، قاله الزمخشري . ولا تحقيق فيه ،
لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات ، إنما يتوجه إلى الأفعال
التي تتعلق بالذوات ، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله ،
وانما جاء تقديم المفعول هنا من باب الاتساع ، وشبه : يبغون ، بالفاصلة بآخر الفعل
.
( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ طَوْعًا وَكَرْهًا ( أسلم عند
الجمهور : استسلم وانقاد ، قال ابن عباس : أسلم طوعاً بحالته الناطقة عند أخذ
الميثاق عليه ، وكرهاً عند دعاء الأنبياء لهم إلى الإسلام . وقال مجاهد : سجود ظل
المؤمن طائعاً وسجود ظل الكافر كاره . كما قال تعالى : ) وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن
فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوّ
وَالاْصَالِ ( وقال مجاهد أيضاً ، وأبو العالية ، والشعبي : ما يقار معناه : أسلم
أقرّ بالخالقية والعبودية ، وإن كان فيهم من أشرك في العبادة ، فمن أشرك أسلم
كرهاً . ومن أخلص أسلم طوعاً . وقال الحسن : أسلم قوم طوعاً وقوم خوف السيف . وقال
مطر الوراق : أسلم من في السموات طوعاً وكذلك الأنصار ، وبنو سليم ، وعبد القيس ،
وأسلم سائر الناس كرهاً حذر القتال والسيف . وأسلم على هذا القول في ضمنه الإيمان
. وقال قتادة : الإسلام كرهاً هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه .
وقال ابن عطية : ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك ، وهذا غير موجود إلاَّ في
أفراد . انتهى . وقال عكرمة : طوعاً باضطرار الحجة . وقال الزمخشري : طوعاً بالنظر
في الأدلة والإنصاف من نفسه ، وكرهاً و بالسيف ، أو بمعاينة ما يلجىء إلى الإسلام
كنتق الجبل على بني إسرائيل ، وإدراك الغرق فرعون ، والإشفاء على الموت ) فَلَمَّا
رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ). انتهى . فلفق
الزمخشري تفسير : طوعاً ، من قول عكرمة وتفسير قوله : وكرهاً ، من قول مطر الوراق
وقول قتادة . وقال الكلبي : طوعاً بالولادة على الإسلام ، وكرهاً بالسيف .
وقال ابن كيسان : المعنى : وله خضع من في السموات والأرض فيما صورهم فيه ودبرهم
عليه ، وما يحدث فيهم فهم لا يمتنعون عليه كرهوا ذلك أو أحبوه ، رضوا بذلك أو
سخطوه ؛ وهذا معنى قول الزجاج : إن الأسلام هنا الخضوع لنفوذ أمره في جبلته ، لا
يقدر أحد أن يمتنع مما جبل عليه ولا أن يغيره والذي يظهر عموم من في السموات ،
وخصوص من في الأرض .
والطوع هو الذي لا تكلف فيه ، والكره ما فيه مشقة ، فإسلام من في السموات طوع صرف
إذ هم خالون من الشهوات الداعية إلى المخالفة ، وإسلام من في الأرض ، من كان منهم
معصوماً كان طوعاً ، ومن كان غير معصوم كان كرهاً ، بمعنى أنه في مشقة ، لأن
التكاليف جاءت على مخالفة الشهوات النفسانية ، فلو لم يأت رسول من الله مبشر
بالثواب ومنذر بالعقاب لم يلتزم الإنسان شيئاً من التكاليف .
وهذه الأقوال لا تخرج : أسلم ، فيها عن أن يحمل على الاستسلام ، وعلى الإعتقاد ،
وعلى الإقرار باللسان ، وعلى التزام الأحكام . وقد قيل بهذا كله .
والجملة من قوله : ) وَلَهُ أَسْلَمَ ( حالية . و : طوعاً وكرهاً ، مصدران في موضع
الحال ، أي : طائعين وكارهين . وقيل : هما مصدران على خلاف الصدر .
" صفحة رقم 539 "
وقرأ الأعمش : كرهاً ، بضم الكاف ، والجمهور بفتحها .
( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( تهديد عظبم لمن اتبع وابتغى غير دين الله ، وتقدّم معنى
الرجوع إليه ، ويحتمل أن يكون قد عطف على قوله : ) وَلَهُ أَسْلَمَ ( فيكون
مشاركاً له في الحالية ، وكأنه نعى عليهم ابتغاء غير دين من انقاد إليه المكلفون
كلهم ومن إليه مرجعهم ، فيجازيهم على أعمالهم . والمعنى : أن من كان بهاتين
الصفتين لا يبتغي ديناً غير دينه ، ويحتمل أن يكون اسئتنافاً وإخباراً بأنه تعالى
إليه مصيرهم ومنقلبهم فيجازيهم بأعمالهم .
وقرأ حفص ، وعباس ، ويعقوب ، وسهل : يرجعون ، بالياء على الغيبة ، فيحتخمل أن يكون
عائداً على من أسلم ، ويحتمل أن يكون عائداً على غير ضمير يبغون ، فيكون على سبيل
الالتفات على قراءة من قرأ : تبغون ، بالتاء إذ يكون قد انتقل من خطاب إلى غيبة .
وقرأ الباقون : بالتاء ، فإن عاد الضمير على من كان التفاتاً ، أو على ضمير :
تبغون ، كان التفاتاً على قراءة من قرأ : يبغون ، بالياء ، أو يكون قد انتقل من
غيبة إلى خطاب .
آل عمران : ( 84 ) قل آمنا بالله . . . . .
( قُلْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى
إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاْسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ
مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ ( هذه الآية موافقة لما في البقرة إلاَّ في : قل
، وفي : علينا ، وفي : عيسى والنبيون ، وقد تقدّم شرح ما في البقرة فأغنى عن
إعادته هنا ، إلاَّ ما وقع فيه الخلاف ، فنقول : الظاهر في : قل ، أنه خطاب للنبي
( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أمر أن يخبر عن نفسه وعن أمته بقوله : آمنا به ، ويقوي
أنه إخبار عنه وعن أمته قوله أخيراً : ونحن له مسلمون . وأفرده بالخطاب بقوله : قل
، لأنه تقدّم ذكره في أخذ الميثاق في قوله : ثم جاءكم رسول ، فعينه في هذا التكليف
ليظهر فيه كونه مصدّقاً لما مع الأنبياء الذين أخذ عليهم الميثاق . وقال : آمنا ،
تنبيهاً على أن هذا التكليف ليس من خواصه ، بل هو لازم لكل المؤمنين . قال تعالى :
، كل آمن بالله ( بعد قوله : ) ( بعد قوله : ) الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ
مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ).
قال الزمخشري ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من الله
لقدر نبيه وقال ابن عطية : المعنى قل يا محمد ، أنت وأمتك : آمنا بالله ، فيظهر من
كلام ابن عطية أن ثم معطوفاً حذف ، وأن ثم الأمر متوجه إلى النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) ) وأمته .
وأما تعدية أنزل ، هنا : بعلى ، وفي البقرة بإلى فقال ابن عطية : الإنزال على نبي
الأمة إنزال عليها .
وقال الزمخشري : فإن قلت لم عدَّى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء ، وفيما تقدّم
من مثلها بحرف الانتهاء ؟ .
قلت لوجود المعنيين جميعاً ، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهى إلى الرسل ، فجاء تارة
بأحد المعنيين وأخرى بالآخر .
وقال الراغب : إنما قال هنا : على ، لأن ذلك لما كان خطاباً للنبي ( صلى الله عليه
وسلم ) ) ، وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشر كان لفظ على المختص
بالعلوّ أولى به ، وهناك ، لما كان خطاباً للأمة ، وقد وصل إليهم بواسطة النبي (
صلى الله عليه وسلم ) ) ، كان لفظ : إلى ، المختص بالإيصال أولى ، ويجوز أن يقال :
أنزل عليه إنما على ما أمر المنزل عليه أن يبلغ غيره ، وأنزل إليه على ما خص به في
نفسه . وإليه نهاية الإنزال ، وعلى ذلك قال : ) أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ( وقال : ) وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ( خص هنا : بإلى ،
لما كان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيان المنزل ، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب .
انتهى كلامه .
وذكر الزمخشري أن : من قال هذا الفرق فقد تعسف ، قال : ألا ترى إلى قوله : ) بِمَا
أَنزَلَ إِلَيْكَ ( ) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ( وإلى قوله : ) وَقَالَت
طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ ( ؟ انتهى .
وأما إعادة لفظ : وما أوتي ، فلأنه لما كان لفظ الخطاب عاماً ، ومن حكم خطاب العام
البسط دون الإيجاز ، ولما كان الخطاب هنا خاصاً اكتفى فيه بالإيجاز .
آل عمران : ( 85 ) ومن يبتغ غير . . . . .
( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ( الإسلام هنا
قيل هو الاستسلام إلى الله والتفويض إليه ، وهو
" صفحة رقم 540 "
مطلوب في كل زمان ومكان وشريعة ، ولذلك فسره الزمخشري بالتوحيد ، وإسلام الوجه لله
.
وقيل : المراد بالإسلام شريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بيَّن تعالى أن من
تحرّى بعد مبعثه شريعة غير شريعته فغير مقبول منه ، وهو الدين الذي وافق في
معتقداته دين من ذكر من الأنبياء .
قيل : وعن ابن عباس لما نزلت : ) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ
وَالنَّصَارَى ( الآية أنزل الله بعدها : ) وَمَن يَبْتَغِ ( الآية . وهذا إشارة
إلى نسخ ) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ). وعن عكرمة : لما نزلت قالوا للنبي ( صلى
الله عليه وسلم ) ) : قد أسلمنا قبلك ونحن المسلمون ، فقال الله له : حجهم يا محمد
، وأنزل ) وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( فحج المسلمون وقعد الكفار .
وقيل : نزلت في الحارث بن سويد ، وستأتي قصته بعد هذا . وقبول العمل هو رضاه
وإثابة فاعله عليه .
وانتصب : ديناً على التمييز : لغير ، لأن : غير ، مبهمة ، ففسرت بدين ، كما أن
مثلاً مبهمة فتفسر أيضاً . وهذا كقولهم : لنا غيرها إبلاً وشاء ، ومفعول : يبتغ هو
: غير ، وقيل : ديناً ، مفعول ، و : غير ، منصوب على الحال لأنه لو تأخر كان نعتاً
وقيل : ديناً ، بدل من : غير ، والجمهور على إظهار الغينين وروي عن أبي عمرو
الإدغام .
( وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( الخسران في الآخرة هو حرمان الثواب
وحصول العقاب شبه في تضييع زمانه في الدنيا باتباع غير الإسلام بالذي خسر في
بضاعته ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة قد عطفت على جواب الشرط ، فيكون قد ترتب على
ابتغاء غير الإسلام ديناً عدم القبول والخسران ، ويحتمل أن لا تكون معطوفة عليه بل
هي استئناف إخبار عن حاله في الآخرة .
و : في الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده ، أي : وهو خاسر في الآخرة ، أو :
بإضمار أعني ، أو : بالخاسرين على أن الألف واللام ليست موصولة بل للتعريف ، كهي
في : الرجل ، أو : به على أنها موصولة ، وتسومح في الظرف والمجرور لأنه يتسع فيهما
ما لا يتسع في غيرهما ، وكلُّ منقول ، وقد تقدّم لنا نظير .
آل عمران : ( 86 ) كيف يهدي الله . . . . .
( كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ
أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ ( نزلت في أهل الكتاب آمنوا بالتوراة والإنجيل وفيهما ذكر محمد (
صلى الله عليه وسلم ) ) ، فغيروه وكفروا بعد إيمانهم بنبوّته ، قاله الحسن وروى
عطية قريباً منه عن ابن عباس وقال مقاتل : في عشرة رهط ارتدوا فيهم الحارث بن سويد
الأنصاري ، فندم ورجع ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، وذكر مجاهد ، والسدّي : أن
الحارث كان يظهر الإسلام ، فلما كان يوم أحد قتل المجدر بن زياد بدم كان له عليه ،
وقتل زيد بن قيس ، وارتد ولحق بالمشركين ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
) عمر أن يقتله إن ظفر به ، ففاته ، ثم بعث إلى أخيه من مكة يطلب التوبة ، فنزلت
إلى قوله : ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ( فكتب بها قومه ، إليه فرجع تائباً .
ورواه عكرمة عن ابن عباس ، ولم يسمه ، ولم يذكر سوى أنه رجل من الأنصار ارتد فلحق
بالمشركين ، وخرجه النسائي عن ابن عباس مطولاً وقيل : لحق بالروم وقيل : ارتد
الحارث في أحد عشر رجلاً ، وسمى منهم الزمخشري : طعمة بن أبيرق ، والحارث بن سويد
بن الصامت ، ووحوح بن الأسلت ، وذكر عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ، وسمى منهم : أبا
عامر الراهب ، والحارث ووجوهاً .
وقال النقاش : نزلت في طعمة بن أبيرق . ألفاظ الآية تعم كل من ذكر وغيرهم . وقيل :
هي في عامة المشركين وقال مجاهد : حمل الآيات إلى الحارث رجل من قومه فقرأها عليه
فقال له الحارث : إنك والله ما علمت لصدوق ، وإن رسول الله لأصدق منك ، وإن الله
تعالى لأصدق
" صفحة رقم 541 "
الثلاثة . قال فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه .
كيف : سؤال عن الأحوال ، وهي هنا للتعجيب والتعظيم لكفرهم بعد الإيمان ، أي : كيف
يستحق الهداية من أتى بما ينافيها بعد التباسه بها ووضوحها ؟ فاستبعد حصولها لهم
مع شدّة الجرائم ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( كيف تفلح أمة أدمت وجه
نبيها ) ؟ .
وقال الزمخشري : كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف لما علم الله من تصميمهم على
كفرهم ؟ انتهى . وهذه نزعة إعتزالية ، إذ ليس المعنى عنده : إن الله يخلق الهداية
فيهم كما لا يخلق الضلال فيهم ، بل هما مخلوقان للعبد .
وقيل : الاستفهام هنا يراد به الجحد ، والمعنى : ليس يهدي ، ونظيره قول الشاعر :
فهذي سيوف ، يا صديّ بن مالك
كثير ، ولكن : أين بالسيف ضارب ؟
وقول الآخر : كيف نَومي على الفراش ولما
يشمل الشام غارة شعواء ؟
والهداية هنا هي إلى الإيمان واتباع الحق ، وأبعد من زعم أن المعنى : لا يهديهم
إلى الجنة إلاَّ إن تجوَّز ، فأطلق المسبب على السبب ، لأن دخول الجنة مسبب عن
الإيمان ، فيعود إلى القول الأول .
وشهدوا : ظاهره أنه معطوف على قوله كفروا ، وبه قال الحوفي ، وابن عطية ، ورده مكي
وقال : لا يجوز عطف : شهدوا ، على : كفروا ، لفساد المعنى ، ولم يبين من أي جهة
فساد المعنى ، وكأنه توهم الترتيب ، فلذلك فسد المعنى عنده وقال ابن عطية : المعنى
مفهوم أن الشهادة قبل الكفر ، و : الواو ، لا ترتب ، وأجاز قوم منهم : مكي ،
والزمخشري : أن يكون معطوفاً على : ما في إيمانهم ، من معنى الفعل ، إذ المعنى :
بعد أن آمنوا وشهدوا . وأجاز الزمخشري وغيره أن تكون : الواو ، للحال لا للعطف ،
التقدير : كفروا بعد إيمانهم وقد شهدوا ، والعامل فيه : كفروا .
والرسول هنا : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قاله الجمهور ، وجوّز أن يكون
الرسول هنا بمعنى الرسالة ، وفيه بعد .
والبينات : هي شواهد القرآن ، والمعجزات التي تأتي بمثلها الأنبياء .
( وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( أي : لا يخلق في قلوبهم
الهداية . و : الظالمين ، عام معناه الخصوص أي : لا يهدي من قضى عليه بأنه يموت
على الكفر قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على
هدى من الله ، فتجيء الآية عامة تامة العموم . انتهى . وهذا المعنى الذي ذكره ينبو
عنه لفظ الآية وقال الزمخشري : الظالمين ، المعاندين الذين علم الله أن اللطف لا
ينفعهم . انتهى . وتفسيره على طريقته الإعتزالية .
آل عمران : ( 87 - 88 ) أولئك جزاؤهم أن . . . . .
( أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ
وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ( تقدم تفسير مثل هذه الجملة . وتوجيه قراءة الحسن : والناس
أجمعون ، في سورة البقرة ، فأغنى عن إعادته ، إلاَّ أن هنا ) أُوْلَئِكَ
جَزَآؤُهُمْ ( أي : جزاء كفرهم ، وهناك ) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ (
، لأن هناك جاء الإخبار عن من مات كافراً ، فلذلك تحتمت اللعنة عليهم ، وهنا ليس
كذلك ، ألا ترى إلى سبب النزول ؟ وأن أكثر الأقوال إنها نزلت في قوم ارتدوا ثم
راجعوا الإسلام ؟ ولذلك جاء الاستثناء وهو قوله
آل عمران : ( 89 ) إلا الذين تابوا . . . . .
: ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ ( وهو استثناء متصل ، ولذلك قال
) مِن بَعْدِ ذالِكَ ( أي : من بعد ذلك الكفر العظيم .
( وَأَصْلَحُواْ ( أي : ما أفسدوا ، أو : دخلوا في الصلاح ، كما تقول : أمسى زيد
أي : دخل في المساء وقيل : معنى أصلحوا أظهروا أنهم كانوا على ضلال ، وتقدم تفسير
هذه اللفظة في البقرة في قوله ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُوا
" صفحة رقم 542 "
ْ وَبَيَّنُواْ ).
) فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( غفور أي لكفرهم ، رحيم لقبول توبتهم ، وهما
صيغتان مبالغة دالتان على سعة رحمته .
آل عمران : ( 90 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن
تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ( نزلت في اليهود ، كفروا
بعيسى وبالإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد ( صلى
الله عليه وسلم ) ) بعد إيمانهم بنعته ، قاله قتادة ، والحسن وقيل : في اليهود كفروا
بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعد إيمانهم بصفاته ، وإقرارهم أنها في التوراة ،
ثم ازدادوا كفراً بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من
الافتراء والبهت والسعى على الاسلام ، قاله أبو العالية . أو : معنى : ثم ازدادوا
كفراً ، تموا على كفرهم وبلغوا الموت به ، فيدخل فيه اليهود والمرتدون ، قاله
مجاهد ، وقال نحوه السدي وقيل : نزلت فيمن مات على الكفر من أصحاب الحارث بن سويد
، فإنهم قالوا : نقيم ببكة ونتربص بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ريب المنون ،
قاله الكلبي .
ويفسر بهذه الأقوال معنى ازدياد الكفر ، وهو بحسب متعلقاته ، إذ الإيمان والكفر في
التحقيق لا يزدادان ولا ينقصان ، وإنما تحصل الزيادة والنقصان للمتعلقات ، فينسب
ذلك إليهما على سبيل المجاز . وازدادوا افتعلوا من الزيادة ، وانتصاب : كفراً ،
على التمييز المنقول من الفاعل ، المعني : ثم ازداد كفرهم ، والدال الأولى بدل من
تاء الافتعال .
ويحتمل قوله ) لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ( وجهين : .
أحدهما : أنه تكون منهم توبة ولا تقبل ، وقد علم أن توبة كل كافر تقبل سواء كفر
بعد إيمان وازداد كفراً ، أم كان كافراً أول مرة . فاجتيج في ذلك إلى تخصيص ، فقال
الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي : نفي توبتهم مختص بالحشرجة والغرغرة والمعاينة
قال النحاس : وهذا قول حسن ، كقوله : ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ( الآية . وقال أبو العالية : لن تقبل توبتهم من الذنوب
التي أصابوها مع إقامتهم على الكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن
عباس : لن تقبل توبتهم لأنها توبة غير خالصة ، إذ هم مرتدون ، وعزموا على إظهار
التوبة لستر أحوالهم وفي ضمائرهم الكفر وقال مجاهد : لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا
ماتوا على الكفر وقيل : لن تقبل توبتهم التي تابوها قبل أن كفروا ، لأن الكفر قد
أحبطها . وقيل : لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفر إلى كفر ، وإنما تقبل إذا تابوا
إلى الاسلام . وفاصل هذا التخصيص أنه تخصيص بالزمان ، أو يوصف في التوبة .
والوجه الثاني : أن يكون المعنى : لا توبة لهم فتقبل ، فنفى القبول ، والمراد نفي
التوبة فيكون من باب قوله .
على لا حبٍ لا يهتدي لمناره
أي : لا منار له فيهتدي به ، ويكون ذلك في قوم بأعيانهم ، حتم الله عليهم بالكفر
أي : ليست لهم توبة فهم لا محالة يموتون على الكفر . وقد أشار إلى هذا المعنى
الزمخشري ، وابن عطية .
ولم تدخل : الفاء ، في : لن تقبل ، هنا ، ودخلت في : فلن تقبل ، لأن الفاء مؤذنة
بالإستحقاق بالوصف السابق ، وهناك قال : وماتوا وهم كفار وهنا لم يصرح بهذا القيد
.
وقال الزمخشري : فإن قلت فحين كان معنى : ) لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ( بمعنى
الموت على الكفر فهلا جعل الموت على الكفر مسبباً عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما
في ذلك من قساوة القلوب ، وركوب الرين ، وجره إلى الموت على الكفر ؟ .
قلت لأنه : كم من مرتدٍ ازداد الكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر ؟ .
فإن قلت : فأي فائدة في هذه الكناية : أعني : إن كنى عن الموت على الكفر بامتناع
قبول التوبة ؟ .
قلت الفائدة فيها جليلة ، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار ، وإبراز
حالهم
" صفحة رقم 543 "
في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال ، وأشدّها . ألا ترى أن الموت
على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة ؟ انتهى كلامه .
وقرأ عكرمة : لن تقبل ، بالنون ، توبتهم ، بالنصب ، والضالون المخطئون طريق الحق
والنجاة في الآخرة ، أو : الها لكون ، من : ضل اللبن في الماء إذا صار هالكاً .
والواو في : وأولئك ، للعطف إما على خبر إن ، فتكون الجملة في موضع رفع ، وإما على
الجملة من : إن ومطلوبيها ، فلا يكون لها موضع من الأعراب .
وذكر الراغب قولاً : إن الواو في : وأولئك ، واو الحال ، والمعنى : لن تقبل توبتهم
من الذنوب في حال أنهم ضالون ، فالتوبة والضلال متنافيان لا يجتمعان . انتهى هذا
القول . وينبوعن هذا المعنى هذا التركيب ، إذ لو أريد هذا المعنى لم يؤت باسم
الإشارة ، ويجوز في : هم ، الفصل ، والابتداء ، والبدل .
آل عمران : ( 91 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ
أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا ( قرأ عكرمة : فلن نقبل ، بالنون و : ملء ،
بالنصب . وقرىء : فلن يقبل بالياء مبنياً للفاعل ، أي فلن يقبل الله . و : ملء ،
بالنصب . وقرأ أبو جعفر ، وأبو السمال : مل الأرض ، يدون همز . ورويت عن نافع ،
ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبل ، وهو اللام ، وحذفت الهمزة ، وهو قياس
في كل ما كان نحو هذا ، وأتى بلفظ : أحدهم ، ولم يأت بلفظ : منهم ، لأن ذلك أبلغ
وأنص في المقصود ، إذ كان : منهم ، يحتمل أن يكون يفيد الجميع .
وانتصاب : ذهباً ، على التمييز ، وفي ناصب التمييز خلاف ، وسماه الفراء : تفسيراً
، لأن المقدار معلوم ، والمقدّر به مجمل . وقال الكسائي : نصب على إضمار : من ، أي
: من ذهب ، كقوله : ) أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً ( أي : من صيام . وقرأ الأعمش :
ذهب ، بالرفع . قال الزمخشري : ردّ على : ملء ، كما يقال عندي عشرون نفساً رجال .
انتهى . ويعني بالردّ : البدل ، ويكون من بدل النكرة من المعرفة ، لأن : ملء الأرض
، معرفة ولذلك ضبط الحذاق قوله : لك الحمد ملء السموات والأرض بالرفع على بالصفة
للحمد ، واستعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة .
( وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ( قرأ ابن أبي عبلة : لو افتدى به ، دون واو ، و : لو ،
هنا هي بمعنى : إن ، الشرطية لا : لو ، التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره ، لأن :
لو ، هنا معلقة بالمستقبل ، وهو : فلن يقبل ، وتلك معلقة بالماضي . فأما قراءة ابن
أبي عبلة فإنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول فلم يتعمم نفي وجود القبول ، وأما
قراءة الجمهور بالواو ، فقيل : الواو زائدة ، وهو ضعيف ، ويكون المعنى إذ ذاك معنى
قراءة ابن أبي عبلة . وقيل : ليست بزائدة .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف موقع قوله ) لَوْ افْتَدَى بِهِ ( ؟ قلت : هو كلام
محمول على المعنى ، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً
. انتهى . وهذا المعنى ينبو عنه هذا التركيب ولا يحتمله ، والذي يقتضيه هذا
التركيب ، وينبغي أن يحمل عليه ، أن الله تعالى أخبر أن من مات كافراً لا يقبل منه
ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ، ولو في حالة افتداء به من العذاب ، لأن
حالة الافتداء هي حال لا يمتن فيها المفتدي على المفتدي منه ، إذ هي حالة قهر من
المفتدى منه للمفتدي ، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن : لو ، تأتي منبهة على أن
ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن
أنها لا تندرج فيما قبلها ، كقوله : ( أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردوا السائل
ولو بظلف محرق ) كأن هذه الأشياء مما كان لا ينبغي أن يؤتى بها ، لأن كون السائل
على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهباً ، لكنه لا يقبل .
ونظيره قوله تعالى : ) وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (
لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال ، حتى في حالة صدقهم ، وهي الحالة التي ينبغي أن
يصدقوا فيها . فلفظ : ولو ، هنا لتعميم النفي والتأكيد له . وقد ذكرنا فائدة
مجيئها .
وذهب الزجاج إلى أن المعنى : لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا ، ولو
أنفق ملء الأرض ذهباً ، ولو افتدى أيضاً به في الآخرة لم يقبل منه . قال : فأعلم
الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير ، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب .
قال ابن عطية : وهذا قول
" صفحة رقم 544 "
حسن . انتهى .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : فلن يقبل من أحدهم ملء الأض ذهباً كان قد تصدّق
به ، ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه . انتهى . وهذا معنى قول الزجاج ، إلاَّ أنه
لم يقيد الافتداء بالآخرة .
وحكى صاحب ( ري الظمآن ) وغيره عن الزجاج أنه قال : معنى الآية : لو افتدى به في
الدنيا مع إقامته على بالكفر لن يقبل منه ، والذي يظهر أن انتفاء القبول ، ولو على
سبيل الفدية ، إنما يكون ذلك في الآخرة . وبينه ما ثبت في صحيح البخاري من حديث
أنس : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( يحاسب الكافر يوم القيامة ،
فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم ، فيقال
له : قد كنت سئلت أيسر من ذلك ) . وهذا الحديث يبين أن قوله : ) فَلَن يُقْبَلَ
مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ( هو على سبيل الفرض
والتقدير أي : لو أن الكافر قدر على أعز الأشياء ، ثم قدر على بذله ، لعجز أن
يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذا الله . والمعنى : أنهم آيسون من تخليص أنفسهم من
العذاب . فهو نظير ) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً
( الآيتين ، وعلى هذا يبعد ما قاله الزجاج من أن يكون المعنى : أنهم لو أنفقوا في
الدنيا ملء الأرض ذهباً لم يقبل ذلك ، لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة .
وافتدى : افتعل من الفدية . قيل : وهو بمعنى فعل ، كشوى واشتوى ، ومفعوله محذوف ،
ويحتاج في تعدية افتدى إلى سماع من العرب ، والضمير في : به ، عائد على : ملء
الأرض ، وهو : مقدار ما يملؤها ، ويوجد في بعض التفاسير أنه عائد على : الملء ، أو
: على الذهب . فقيل : على الذهب غلط .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : ولو افتدى بمثله ، لقوله : ) فِى مَا كَانُواْ
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً
وَمِثْلَهُ مَعَهُ ( والمثل يحذف كثيراً في كلامهم ، كقولك : ضربت ضرب زيد ، تريد
: مثل ضربه ، وأبو يوسف أبو حنيفة ، تريد : مثله .
ولا هيثم الليلة للمطي
و : قضية ولا أبا حسن لها تريد : ولا هيثم ، و : لا مثل أبي حسن ، كما أنه يراد في
نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، تريد : أنت : وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد
الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد . انتهى كلامه .
ولا حاجة إلى تقدير : مثل ، في قوله ) وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ( وكان الزمخشري تخيل
أن ما نفي أن يقبل لا يمكن أن يفتدى به ، فاحتاج إلى إضمار : مثل ، حتى يغاير بين
ما نفي قبوله وبين ما يفتدى به ، وليس كذلك ، لأن ذلك كما ذكرناه هو على سبيل
الفرض ، والتقدير : إذ لا يمكن عادة أن أحداً يملك ملء الأرض ذهباً بحيث لو بذله
على أي جهة بذله لم يقبل منه ، بل لو كان ذلك ممكناً لم يحتج إلى تقدير مثل ، لأنه
نفي قبوله حتى في حالة الافتداء ، وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به ، لأن هذا
التقدير لا يحتاج إليه ، ولا معنى له ، ولا في الفظ ولا المعنى ما يدل عليه ، فلا
يقدر . وأما فيما مثل به من : ضربت ضرب زيد ، وأبو يوسف أبو حنيفة ، فبضرورة العقل
نعلم أنه لا بد من تقدير : مثل ، إذ ضربك يستحيل أن يكون ضرب زيد ، وذات أبي يوسف
يستحيل أن تكون ذات أبي حنيفة . وأما :
لا هيثم الليلة للمطي .
يدل على حذف : مثل ما تقرر في اللغة العربية أن : لا ، التي لنفي الجنس لا تدخل
على الأعلام فتؤثر فيها ، فاحتاج إلى إضمار : مثل ، لتبقى على ما تقرر فيها ، إذ
تقرر أنها لا تعمل إلاَّ فى الجنس ، لأن العلمية تنافي عموم الجنس . وأما قوله :
كما أن يزاد في : مثلك لا يفعل كذا ، تريد ، أنت ، فهذا قول قد قيل ، ولكن المختار
عند حذاق النحويين أن الأسماء لا تزاد ، ولتقرير أن مثلك لا يفعل كذا ، ليست فيه
مثل زائدة مكان غير هذا .
( أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( هذا إخبار ثان عمن مات وهو كافر ، لما
بيَّن تعالى في الإخبار الأول أنه لا يقبل منه شيء حتى يخلص به نفسه ، بيَّن في
هذا الإخبار ما له من العذاب
" صفحة رقم 545 "
الموصوف بالمبالغة في الآلام له ، إذ الافتداء ، وبذل الأموال إنما يكون لما يلحق
المفتدى من الآلام حتى يبذل في الخلاص من ذلك أعز الأشياء . كما قال : ) يَوَدُّ
الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( الآية ، وارتفاع
: عذاب ، على أنه فاعل بالجار والمجرور قبله ، لأنه قد اعتمد على أولئك ، لكونه
خبراً عنه ويجوز ارتفاعه على الإبتداء .
( وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ ( تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وهذا إخبار ثالث لما
بيَّن أنه لا خلاص له من العذاب ببذل المال ، بيَّن أيضاً أنه لا خلاص له منه بسبب
النصرة ، واندرج فيها النصرة بالمغالبة ، والنصرة بالشفاعة .
وتضمنت هذه الآية من أصناف البديع : الطباق : في قوله : طوعا وكرها . وفي : كفروا
بعد إيمانهم في موضعين . والتكرار : في : يهدي ولا يهدي . وفي : كفروا بعد إيمانهم
. والتجنيس المغاير : في كفروا وكفروا . والتأكيد : بلفظ : هم ، في قوله : وأولئك
هم الضالون . قيل : والتشبيه في : ثم ازدادوا كفراً ، شبه تماديهم على كفرهم
وإجرامهم بالأجرام التي يزاد بعضها على بعض ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس .
والعدول من مفعل إلى فعيل ، في : عذاب أليم ، لما في : فعيل ، من المبالغة .
والحذف في مواضع .
2 ( ) لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا
تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ) ) 2
آل عمران : ( 92 ) لن تنالوا البر . . . . .
النيل : حوق الشيء وإدراكه ، الفعل منه : نال ينال . قيل : والنَّيل : العطية .
الوضع : الإلقاء . وضع الشيء ألقاه ، ووضعت ما في بطنها ألقته ، والفعل : وضع يضع
وضعاً وضِعَة ، والموضع : محل إلقاء الشيء . وفلان يضع الحديث أي : يلقيه من قبل
نفسه من غير نقل ، يختلفه . .
بكة : مرادف لمكة ، قاله مجاهد ، والزجاج . والعرب تعاقب بين الباء والميم ، قالوا
: لازم ، وراتم . والنميط ، وبالباء فيها . وقيل : اسم لبطن مكة ، قاله أبو عبيدة
. وقيل : اسم لمكان البيت ، قاله النخعي
" صفحة رقم 546 "
وقيل : اسم للمسجد خاصة ، قاله ابن شهاب . قيل : ويدل عليه أن البك هو دفع الناس
بعضهم بعضاً وازدحامهم ، وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف لا في سائر المواضع
، وسيأتي الكلام على لفظ مكة إن شاء الله .
البركة : الزيادة ، والفعل منه : بارك ، وهو متعد ، ومنه ) أَن بُورِكَ مَن فِى
النَّارِ ( ويضمن معنى ما تعدى بعلى ، لقوله : وبارك على محمد ، و : تبارك ، لازم
.
العوج : الميل ، قال أبو عبيدة : في الدين والكلام والعمل . وبالفتح في : الحائط
والجذع . وقال الزجاج بمعناه . قال : فيما لا نرى له شخصاً ، وبالفتح فيما له شخص
. قال ابن فارس : بالفتح في كل منتصب كالحائط . والعوج : ما كان في بساط أو دين
وأرض أو معاش .
العصم : المنع ، واعتصم واستعصم : امتنع ، واعتصمت فلاناً هيأت له ما يعتصم به ،
وكل متمسك بشيئ معتصم ، وكل مانع شيء عاصم ، ويرجع لهذا المعنى : الأعصم ، والمعصم
، والعصام . ويسمى الخبز عاصماً لأنه يمنع من الجوع .
( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( مناسبة هذه
الآية لما قبلها هو أنه لما أخبر عمن مات كافراً أنه لا يقبل ما أنفق في الدنيا ،
أو ما أحضره لتخليص نفسه في الآخرة على الاختلاف الذي سبق ، حض المؤمن على الصدقة
وبين أنه لن يدرك البر حتى ينفق مما يحب .
والبر هنا . قال ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدّي ، وعمرو بن ميمون :
البر الجنة . وقال الحسن ، والضحاك : الصدقة المفروضة . وقال أبو روف : الخير كله
. وقيل : الصدق . وقيل : أشرف الدين ، قاله عطاء . وقال ابن عطية : الطاعة . وقال
مقاتل بن حيان : التقوى . وقال الزجاج : كل ما تقرّب به إلى الله من عمل خير .
وقال معناه ابن عطية . قال أبو مسلم : وله مواضع ، فيقال : الصدق البر ، ومنه :
صدقت وبررت ، وكرام بررة ، والإحسان : ومنه بررت والدي ، واللطف والتعاهد : ومنه
يبر أصحابه إذا كان يزورهم ويتعاهدهم ، والهبة والصدقة : برّة بكذا إذا وهبه له .
وقال : ويحتمل لن تنالوا برّ الله بكم أي ، رحمته ولطفه . انتهى . وهو قول أبي بكر
الوراق ، قال : معنى الآية لن تنالوا برّي بكم إلاَّ ببرّكم بإخوانكم ، والإنفاق
عليهم من أموالكم وجاهكم . وروي نحوه على ابن جرير . ويحتمل أن يريد : لن تنالوا
درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبراراً إلاَّ بالإنفاق المضاف إلى سائر
أعمالكم ، قاله ابن عطية . وقد تقدّم شرح البرّ في قوله : ) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبِرّ ( ولكن فعلنا ما قال الناس في خصوصية هذا الموضع .
و : من ، في : مما تحبون ، للتبعيض ، ويدل على ذلك قراءة عبد الله : حتى تنفقوا
بعض ما تحبون . و : ما ، موصولة ، والعائد محذوف .
والظاهر : أن المحبة هنا هو ميل النفس وتعلقها التعلق التام بالمنفق ، فيكون
إخراجه على النفس أشق وأصعب من إخراج ما لا تتعلق به النفس ذلك التعلق ، ولذلك
فسره الحسن ، والضحاك : : بأنه محبوب المال ، كقوله : ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ
عَلَى حُبّهِ ( لذلك ما روي عن جماعة أنهم لهذه الآية تصدّقوا بأحب شيء إليهم ،
فتصدّق أبو طلحة ببير حاء ، وتصدق زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها ، وابن عمر
بالسكر واللوز لأنه كان يحبه ، وأبو ذر يفحل خير إبله وببرنس على مقرور ، وتلا
الآية ، والربيع بن خيثم بالسكر لحبه له ، وأعتق عمر جارية أعجبته ، وابنه عبد
الله جارية كانت أعجب شيء إليه .
وقيل : معنى مما تحبون ، نفائس المال وطيبه لا رديئه وخبيثه . وقيل : ما يكون
محتاجاً إليه . وقيل : كل شيء ينفقه المسلم من ماله يطلب به وجه الله .
ولفظة : تحبون ، تنبو عن هذه الأقوال ، والذي يظهر أن الإنفاق هو في الندب ، لأن
المزكي لا يجب عليه أن يخرج أشرف أمواله ولا أحبها إليه ، وأبعد من ذهب إلى أن هذه
الآية منسوخة ، لأن الترغيب في الندب لوجه الله لا ينافي الزكاة . قال بعضهم :
وتدل هذه الآية على أن الكلام يصير شعراً بأشياء ، منها : قصد المتكلم إلى أن يكون
شعراً ، لأن هذه الآية على وزن بيت الرمل ، يسمى المجزؤ والمسبع ، وهو :
" صفحة رقم 547 "
يا خليليّ أربعا واستخبر ال
منزل الدارس عن حيّ حلال
رسماً بعسفان
ولا يجوز أن يقال : إن في القرآن شعراً .
( وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ ( تقدّم تفسير مثل هذا .
" صفحة رقم 3 "
2 ( آل عمران : ( 93 ) كل الطعام كان . . . . .
( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِىإِسْرَاءِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ
إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ
فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ
صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ
مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ
إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ
عَنِ الْعَالَمِينَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأيَاتِ اللَّهِ
وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ
شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ
ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ
يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ
تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم
بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ ( ) ) 2
) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ
إِسْراءيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ( قال أبو روق
وابن السائب : نزلت حين قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أنا على ملة
إبراهيم ) فقالت اليهود : فكيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها ؟ فقال ( صلى الله
عليه وسلم ) ) : ( ذلك حلالٌ لأبي إبراهيم ونحن نحلُّه ) فقالت اليهود : كلُّ شيء
أصبحنا اليوم نحرِّمه فإنه كان محرماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ، فأنزل
الله ذلك تكذيباً لهم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها والجامع بينهما أنه تعالى
أخبر أنه لا ينالُ المرء البرّ إلا بالإنفاق مما يحب . ونبي الله إسرائيل روي في
الحديث : ( أنه مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر لله نذراً إنْ عافاه اللَّهُ من
سقمه أنْ يحرِّمَ ، أو ليحرمَنّ أحبَّ الطعام والشراب إليه ، وكان أحبُّ الطعام
إليه لحوم الإبل ، وأحبُّ الشراب ألبانها ، ففعل ذلك تقرباً إلى الله . فقد اجتمعت
هذه الآية وما قبلها في أنّ كلاًّ منهما فيما ترك ما يحبه الإنسان وما يؤثره على
سبيل التقرب به لله تعالى . وكلٌّ : من صيغ العموم . والطعام : أصلُه مصدرٌ أُقيم
مقام المفعول ، وهو اسم لكل ما يطعم ويؤكل . وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة أنه اسم
للبر خاصة . قال الرازي : والآية تبطله لأنه استثنى منه ما حرم إسرائيل على نفسه .
واتّفقوا على أنه شيء سوى الحنطة ، وسوى ما يتخذ منها . ومما يؤكد ذلك قوله في
الماء ومن لم يطعمه . وقال : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم ) وأراد الذبائح
انتهى .
ويُجاب عن الاستثناء أنه منقطع ، فلا يندرجُ تحت الطعام . وقال القفال : لم يبلغنا
أنّ الميتة والخنزير كانا مباحين لهم مع انّهما طعام ، فيحتملُ أنْ يكونَ ذلك على
الأطعمة التي كانت اليهود في وقت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) تدَّعي أنها
كانت محرمة على إبراهيم ، فيزول الإشكال يعني إشكال العموم . والحل : الحلال ، وهو
مصدرُ حلَّ نحو عزّ عزاً ومنه ( وأنت حل بهذا البلد ) أي حلالُ به . وفي الحديث عن
عائشة : ( كنت أطيِّبُ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لحلِّه ولحرمه ) ولذلك
استوى فيه الواحدُ والجمعُ والمذكر والمؤنث . قال : ( لا هنّ حلٌّ لهم ) وهي
كالحرم ، أي الحرام . واللُّبس ، أي اللباس . وإسرائيل : هو يعقوب ، وتقدم الكلام
عليه ، وتقدّم أنّ
" صفحة رقم 4 "
الذي حرمه إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها ؛ ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول
: الحسن ، وعطاء ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعبد الله بن كثير في آخرين . وقيل :
العروق . رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وهو قول : مجاهد أيضاً ، وقتادة ،
والضحاك ، والسِدي ، وأبي مجلز في آخرين .
قال ابن عباس : عرضت له الآنساء فأضنته ، فجعل لله إنْ شفاه من ذلك أنْ لا يطعم
عرقاً . قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم ، وليس في تحريم العروق قربة
فيما يظهر . وروي عن ابن عباس أنَّه حرم العروق ولحوم الإبل . وقيل : زيادتا الكبد
والكليتان والشحم إلا ما على الظهر قاله : عكرمة . وتقدَّم سببُ تحريمه لما حرمه .
قال ابن عطية : ولم يختلف فيما علمت أنّ سبب التحريم هو بمرض أصابه ، فجعل تحريم
ذلك شكراً لله تعالى إنْ شفي . وقيل : هو وجع عرق النسا . وهذا الاستثناء يحتملُ
الاتصال والانقطاع ، فإنْ كان متصلاً كان التقدير : إلاّ ما حرَّم إسرائيل على
نفسه فحرم عليهم في التوراة ، فليست فيها الزوائد التي افتروها وادعوا تحريمها .
وإنْ كان منقطعاً كان التقدير : لكنَّ إسرائيل حرم ذلك على نفسه خاصة ، ولم يحرمه
الله على بني إسرائيل . والاتصال أظهر . وظاهر قوله : على نفسه ، أن ذلك باجتهاد
منه لا بتحريم من الله تعالى . واستدل بذلك على أن للأنبياء أن يحرموا بالاجتهاد .
وقيل : كان تحريمه بإذن الله تعالى . وقيل : يحتمل أنْ يكون التحريم في شرعه
كالنذر في شرعنا . وقال الأصم : لعل نفسه كانت مائلة إلى تلك الأنواع فامتنع من
أكلها قهراً للنفس وطلباً لمرضاة الله كما يفعله كثيرٌ من الزهاد ، فعبر عن ذلك
الامتناع بالتحريم .
واختلفوا في سبب التحريم للطعام الذي حرمه إسرائيل على بنيه ومن بعدهم من اليهود ،
وهذا إذا قلنا : بأنّ الاستثناء متصل . أمّا إذا كان منقطعاً فلم يحرّم عليهم .
وقال ابن عطية : حرمها عليهم بتحريم إسرائيل ، ولم يكن محرماً في التوراة ، وروي
عن ابن عباس أن يعقوب قال : ( إنْ عافاني اللَّهُ لا يأكله لي ولد . وقال الضحاك :
وافقوا أباهم في تحريمه ، لا أنه حرم عليهم بالشرع ، ثم أضافوا تحريمه إلى الشرع
فأكذبهم الله تعالى . وقال ابن السائب : حرمه الله عليهم بعد التوراة لا فيها ،
وكانوا إذا أصابوا ذنباً عظيماً حُرِّم به عليهم طعام طيب ، أو صبَّ عليهم عذاب ،
ويؤكده ( فبظلم ) الآية .
وقيل : لم يحرم عليهم قبل نزول التوراة ولا بعدها ، ولا بتحريم إسرائيل عليهم ،
ولا لموافقته بل قالوا ذلك تحرضاً وافتراء . وقال السدي : لما أنزل الله التوراة
حرّم عليهم ما كانوا يحرّمون على أنفسهم قيل نزولها .
قال الزمخشري : والمعنى أنّ المطاعم كلها لم تزلْ حلالاً لبني إسرائيل من قبل
إنزال التوراة ، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، لم يحرم منها شيء قبل
ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فتبعوه على تحريمه وهو
ردٌّ على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم بما نعى عليهم في قوله : )
فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ ( الآية .
وجحودُ ما غاظهم واشمأزوا منه وامتغضوا . فما نطق به القرآن من تحريم الطيبات
عليهم لبغيهم وظلمهم فقالوا : لسنا بأول مَن حرمت عليه ، وما هو إلا تحريم قديم
كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرًّا ، إلى أن انتهى
التحريم إلينا فحرمت علينا كما
" صفحة رقم 5 "
حرمت على من قبلنا . وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل
الله ، وأكل الربا ، وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساويهم التي كلما
ارتكبوا منها كبيرة حُرِّم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم انتهى كلامه .
( من قبل أن تنزل التوراة ) قال أبو البقاء : مِن متعلقة ب ( حرم ) ، يعني في قوله
: إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه . ويبعد ذلك ، إذْ هو من الاخبار بالواضح ، لأنه
معلوم أنّ ما حرم إسرائيل على نفسه هو من قبل إنزال التوراة ضرورة لتباعد ما بين
وجود إسرائيل وإنزال التوراة . ويظهر أنه متعلق بقوله : كان حلاً لبني إسرائيل ،
أي من قبل أن تنزل التوراة ، وفَصَلَ بالاستثناء إذ هو فصل جائز وذلك على مذهب
الكسائي وأبي الحسن : في جواز أن ، يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو
مجروراً أو حالاً نحو : ما حبس إلا زيد عندك ، وما أوى إلا عمرو وإليك ، وما جاء
إلا زيد ضاحكاً . وأجاز الكسائي ذلك في منصوب مطلقاً نحو : ما ضرب إلا زيد عمراً وأجاز
هو وابنُ الأنباري ذلك في مرفوع نحو : ما ضرب إلا زيداً عمرو ، وأما تخريجه على
مذهب غير الكسائي وأبي الحسن فيقدر له عامل من جنس ما قبله تقديره هنا : حل من قبل
أن تنزل التوراة .
( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ). قل : خطاب
للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : فأتوا محذوف تقديره : هذا الحق ، لا
زعمُكُم معشر اليهود . فأتوا : وهذه أعظم محاجة أَن يُؤمروا بإحضار كتابهم الذي
فيه شريعتهم ، فإنه ليس فيه ما ادّعوه بل هو مصدّق لما أخبر به ( صلى الله عليه
وسلم ) ) : من أنّ تلك المطاعم كانت حلالاً لهم من قديم ، وأن التحريم هو حادث .
وروي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة لظهور افتضاحهم بإتيانها ، بل بهتوا
وذلك كعادتهم في كثير من أحوالهم . وفي استدعاء التوراة منهم وتلاوتها الحجةُ
الواضحة على صدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ كان عليه السلام النبيّ
الأميَّ الذي لم يقرأ الكتب ولا عرف أخبار الأمم السالفة ، ثم أخذ يحاجهم ويستشهد
عليهم بما في كتبهم ولا يجدون من إنكاره محيصاً . وفي الآية دليل على جواز النسخ
في الشرائع ، وهم ينكرون ذلك . وخرج قوله : إن كنتم صادقين مخرجَ الممكن ، وهم
معلوم كذبهم . وذلك على سبيل الهزء بهم كقولك : إنْ كنت شجاعاً فالقني ، ومعلوم ،
عندك أنَّه ليس بشجاع ، ولكن هزأت به إذ جعلت هذا الوصف مما يمكن أن يتصف به .
آل عمران : ( 94 ) فمن افترى على . . . . .
( فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ ( يحتمل أن يكون مندرجاً تحت القول ، ويحتمل أنْ يكون ابتداءَ
إخبارٍ من الله بذلك ، وافتراؤه الكذب هو زعمه أن ذلك كان محرماً على بني إسرائيل
قبل إنزال التوراة ، والإشارة بذلك قيل يحتمل ثلاثة أوجه . أحدها : أن يكون إلى
التلاوة ، إذ مضمنها بيان مذهبهم وقيام الحجة البالغة القاطعة ، ويكونُ افتراء
الكذب أنْ يُنسب إلى كتب الله ما ليس فيها . والثاني : أنْ يكون إلى استقرار
التحريم في التوراة ، إذ المعنى : إلاّ ما حرّم إسرائيل على نفسه ، ثم حرمته
التوراة عليهم عقوبة لهم . وافتراء الكذب أنْ يزيد في المحرمات ما ليس فيها .
والثالث : أنْ يكون إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه وقبل نزول التوراة من
سنن يعقوب . وشرع ذلك دون إذن من الله . ويؤيد هذا الاحتمال قوله : ) فَبِظُلْمٍ
مّنَ الَّذِينَ ( الآية . فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم ،
وكانوا يشدّدون فيشدد عليهم الله كما فعلوا في أمر البقرة . وجاءت شريعتنا بخلاف
هذا ، دين الله ( يسر يسروا ولا تعسروا ، وابعثت بالحنيفية السمحة ) )
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( والأظهر في من
أنها شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة . وجمع في فأولئك حملاً على المعنى . وهم :
يحتمل أن تكون فصلاً ، ومبتدأً ، وبدلاً . والظلم : وضع الشيء في غير موضعه . وقيل
: هو هنا الكفر .
آل عمران : ( 95 ) قل صدق الله . . . . .
( قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ( أمر تعالى نبيه أنْ يصدع بخلافهم ، أي الأمر الصدق هو ما
أخبر الله به لا ما افتروه ومن الكذب . ونبّه بذلك على أنّ ما أخبر به من قوله : )
كُلُّ الطَّعَامِ ( وسائر ما تقدم صدق ، وأنه ملة إبراهيم . والأحسنُ أن يكون قوله
: ( قل صدق الله ) أي في جميع ما أخبر به في كتبه المنزلة . وقيل : في أنّ محمداً
( صلى الله عليه وسلم ) ) هو على ملة إبراهيم ، وإبراهيم كان مسلماً . وقيل في
قوله : ( كل الطعام ) الآية قاله ابن السائب . وقيل : في أنه ما كان يهودياً ولا
نصرانياً قاله : مقاتل وأبو سليمان
" صفحة رقم 6 "
الدمشقي ، ثم أمرهم باتباع ملة إبراهيم فقال :
) فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (
وهي ملة الإسلام التي عليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمؤمنون معه ،
فيخلصون من ملة اليهودية . وعرض بقوله : وما كان من المشركين : إلى أنهم مشركون في
اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله . وتقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في
سورة البقرة تفسيراً وإعراباً فأغنى عن إعادته . وقرأ أبان بن ثعلب قل صدق :
بإدغام اللام في الصاد ، و ( قل سيروا ) بإدغام اللام في السين . وأدغم حمزة
والكسائي وهشام أبل سولت ) . قال ابنُ جني : علة ذلك فشوُّ هذين الحرفين في الفم
وانتشار الصوت المثبت عنهما ، فقاربتا بذلك مخرج اللام ، فجاز إدغامها فيهما انتهى
. وهو راجع لمعنى كلام سيبويه ، قال سيبويه : والإدغامُ يعني إدغام اللام مع الطاء
والصاد وأخواتهما جائز ، وليس ككثرته مع الراء ، لأن هذه الحروف تراخين عنها وهي
من الثنايا . قال : وجواز الإدغام لأنّ آخر مخرج اللام قريب من مخرجها انتهى كلامه
.
( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ ( روي عن مجاهد : أنه
تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود : بيتُ المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لأنّها
مهاجرُ الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة . وقال المسلمون : بل الكعبة أفضلُ ، فنزلت .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وهو : أنه لما أمر تعالى باتباع ملة إبراهيم
وكان حج البيت من أعظم شعائر ملة إبراهيم ومن خصوصيات دينه ، أخذ في ذكر البيت
وفضائله ليبني على ذلك ذكر الحج ووجوبه . وأيضاً فإنّ اليهود حين حولت القبلة إلى
الكعبة طعنوا في نبوّة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقالوا : بيت المقدس
أفضل وأحق بالاستقبال لأنه وضع قبل الكعبة ، وهو أرض المحشر ، وقبله جميع الأنبياء
، فأكذبهم الله في ذلك بقوله :
آل عمران : ( 96 ) إن أول بيت . . . . .
( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ) كما أكذبهم في دعواهم قبل : إنما حرم عليهم ما
كان محرماً على يعقوب من قبل أن تنزل التوراة ، وأيضاً فإنّ كل فرقة من اليهود
والنصارى زعمت أنها على ملة إبراهيم ، ومن شعائر ملته حجَّ الكعبة وهم لا يحجونها
، فأكذبهم الله في دعواهم تلك ، والأول هو الفرد السابق غيره . وتقدم الكلام على
لفظ أول في قوله : ( ولا تكونوا أول كافر به ) ووضع جملة في موضع الصفة . واختلف
في معنى كونه أول بيت وضع للناس . فقيل : هو أولُ بيت ظهر على وجه الماء حين خلقت
السموات والأرض ، خلقه قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت
الأرض تحته . وقيل : هو أول بيت بناه آدم في الأرض . وقيل : لما أهبط آدم قالت له
الملائكة : طُفْ حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم
ببيت يقال له : الضراح ، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة يطوف به ملائكة
السموات . وذكر الشريف أبو البركات أسعد بن علي بن أبي الغنائم الحسيني الجواني
النسابة : أن شيث بن آدم هو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة على موضع الخيمة التي
كان الله وضعها لآدم من الجنة ، فعلى هذه الأقاويل يكون أول بيت وضع للناس على
ظاهره ، وروي عن ابن عباس أنه أول بيت حج بعد الطوفان ، فتكون الأولية باعتبار هذا
الوصف من الحج إذْ كان قبله بيوت ، وروي عن عليّ أنه سأله رجل : أهو أول بيت ؟
فقال عليّ : لا قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى
والرحمة والبركة ، فأخذ الأولية بقيد هذه الحال . وقيل : أول من بناه إبراهيم ثم
قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم فبنته العمالقة ، ثم هدم فبنته قريش . وقال أبو ذر
: قلت يا رسول الله أيّ مسجد وضع أول ؟ قال : ( المسجد الحرام ) قلت ؛ ثم أي ؟ قال
: ( المسجد الأقصى ) قلت : كم كان بينهما ؟ قال : ( أربعون سنة ) وظاهر هذا الحديث
" صفحة رقم 7 "
أنه من وضع إبراهيم ، وهو معارض لما ذكر في الأقوال السابقة : إلا إنّ حمل الوضع
على التجديد فيمكن الجمع بينهما . وظاهر حديث أبي ذر يضعف قول الزجاج : إنّ بيت
المقدس هو من بناء سليمان بن داود عليهما السلام ، بل يظهر منه أنه من وضع إبراهيم
، فكما وضع الكعبة وضع بيت المقدس . وقد بيَّن ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أن
بين الوضعين أربعين سنة ) وأين زمانُ إبراهيم من زمان سليمان ومعنى وضع للناس : أي
متعبداً يستوي في التعبد فيه الناس ، إذ غيره من البيوت يختص بأصحابها ، والمشترك
فيه الناس هو محل طاعتهم وعبادتهم وقبلتهم . وقرأ الجمهور ( وُضع ) مبنياً للمفعول
. وقرأ عكرمة وابن السميقع وضع مبنياً للفاعل ، فاحتمل أنْ يعود على الله ، واحتمل
أن يعودَ على إبراهيم ، وهو أقرب في الذكر وأليق وأوفقق لحديث أبي ذر . وللناس متعلق
بوضع ، واللام فيه للتعليل ، وللذي ببكة خبر إنّ . والنعنى : للبيت الذي ببكة .
وأكدت النسبة بتأكيدين : إنّ واللام . وأخبر هنا عن النكرة وهو أول بيت لتخصصها
بالإضافة ، وبالصفة التي هي وضع إمالها ، وإمّا لما أضيفت إليه . إذْ تخصيصه
تخصيصٌ لها بالمعرفة وهو للذي ببكة ، لأن المقصود الإخبار عن أول بيت وضع للناس ،
ويحسن الإخبار عن النكرة بالمعرفة دخول إنّ . ومن أمثلة سيبويه : أنّ قريباً منك
زيد . تخصص قريب بلفظ منك ، فحسن الإخبار عنه . وقد جاء بغير تخصيص وهو جائز في
الاختيار قال : وإنّ حراماً أن أسب مجاشعا
بآبائي الشم الكرام الخضارم
والباء في ببكة ظرفية كقولك : زيد بالبصرة . ويضعفُ أن يكون بكة هي المسجد ، لأنه
يلزم أن يكونَ الشيء ظرفاً لنفسه ، وهو لا يصحّ .
( مُبَارَكاً وَهِىَ لّلْعَالَمِينَ ( أمّا بركته فلما يحصلُ فيه من الثواب وتكفير
السيئات لمن
" صفحة رقم 8 "
حجه واعتمره وطاف به وعكف عنده . وقال القفال : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله
: ( يحيي إليه ثمرات كل شيء ) . وقيل : بركتُهُ دوام العبادة فيه ولزومها ، لأنّ
البركة لها معنيان : أحدهما : النمو ، والآخر : الثبوت ، ومنه البركة لثبوت الماء
فيها . والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه ، والبراكاء الثبوت في القتال ، وتبارك الله
ثبت ولم يزل . وقيل : بركته تضعيف الثواب فيه . روى ابن عمر عن النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) ) أنه قال : ( من طاف بالبيت لم يرفع قدماً ولم يضع أخرى إلا كتب الله
بها له حسنة ورفع له بها درجة ) . وقال الفراء : سمي مباركاً لأنه مغفرة للذنوب .
وقال ابن جرير : بركته تطهيره من الذنوب . وقيل : بركته أنَّ مَن دخله أمن حتى
الوحش ، فيجتمع فيه الظبي والكلب . وأما كونه هدى فلأنه لما كان مقوماً مصلحاً كان
فيه إرشاد . وبولغ بكونه هدىً ، أو هو على حذف مضاف أي : وذا هدى . قيل : ومعنى
هدى أي قبلة . وقيل : رحمة . وقيل : صلاح . وقيل : بيان ودلالة على الله بما فيه
من الآيات التي لا يقدر عليها غيره تعالى . وقال ابن عطية : يحتمل هنا هدى أن يكون
بمعنى الدعاء ، أي من حيث دعى العالمون إليه ، وانتصاب مباركاً على الحال . وجوزوا
أنْ يكون حالاً من الضمير الذي استكن في وضع ، والعامل فيها وضع أي أنَّ أول بيت
مباركاً ، أي في هذه الحال للذي ببكة . وهذا التقدير ليس بجائز ، لأنك فصلت بين
العامل في الحال وبين الحال بأجنبي وهو : الخبر ، لأنه معمول لأنَّ خبر لها ، فإنْ
أضمرت وضع بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال ، وكان تقديره : للذي ببكة وضع مباركاً
. وعلى هذا التقدير ينبغي أن يحمل تفسير علي بن أبي طالب السابق ذكره عند ذكر كون
هذا البيت أولاً ، إذ كان قد لاحظ في هذا البيت كونه وضع أولاً بقيد هذه الحال .
وجوزوا أيضاً أن يكون العامل في الحال العامل في ببكة ، أي استقر ببكة في حال
بركته . وهو وجه ظاهر الجواز ، ولم يذكر الزمخشري غيره . وأما هدى فظاهره أنه
معطوف على مباركاً ، والمعطوف على الحال حال . وجوَّز بعضهم أنْ يكون مرفوعاً على
أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي وهو هدى ، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار .
آل عمران : ( 97 ) فيه آيات بينات . . . . .
( فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ ( أي علامات واضحات منها : مقام إبراهيم ، والحجر الذي
قام عليه ، والحجر الأسود وهو : من حجارة الكعبة ، وهو يمين الله في الأرض يشهد
لمن مسه . والحطيم ، وزمزم ، وأمن الخائف وهيبته وتعظيمه في قلوب الناس ، وأمر
الفيل ، ورمى طير الله عنه بحجارة السجيل ، وكف الجبابرة عنه على وجه الدهر ،
وإذعان نفوس العرب لتوفير هذه البقعة دون ناهٍ ولا زاجر ، وجباية الأرزاق إليه ،
وهو ( بواد غير ذي زرع ) وحمايته من السيول . ودلالةُ عموم المطر إياه من جميع
جوانبه على خصب آفاق الأرض ، فإنْ كان المطر من جانب أخصب الأفق الذي يليه . وذكر
مكي وغيره : أنّ من آياته كون الطير لا يعلوم عليه . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ،
والطير يعاين يعلوه ، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره ، وتلك
كانت من آياته انتهى . وأي عبد علا عليه عتق . وتعجيلُ العقوبة لمن عتا فيه ،
وإجابة دعاء من دعا تحت الميزاب ، ومضاعفة أجر المصلي ، وغير ذلك من الآيات .
وقوله : فيه آيات بينات ، الضمير في فيه عائد على البيت ، فينبغي أن لا يذكر من
الآيات إلا ما كان في البيت . لكنهم توسعوا في الظرفية ، إذ لا يمكن حملها على
الحقيقة لأنه كان يلزم أن الآيات تكون داخل الجدران . ووجهُ التوسع أنّ البيت وضع
بحرمه وجميع فضائله ، فهي فيه على سبيل المجاز . ولذلك عدَّ المفسرون آياتٍ في
الحرم وأشياء مما التزمت في شريعتنا من : تحريم قطع شجره
" صفحة رقم 9 "
ومنع الاصطياد فيه . والذي تعرضت له الآية هو مقام إبراهيم ، لأنه آية باقية على
مر الأعصار . وذلك أنّه لمّا قام إبراهيم على حجر المقام وقت رفعه القواعد من
البيت طال له البناء ، فكلما علا الجدار ارتفع الحجر به في الهواء ، فما زال يبني
وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى كمل الجدار . ثم أراد الله
إبقاء ذلك آية للعالمين ليّن الحجر فغرقت فيه قدما إبراهيم كأنها في طين ، فذلك
الاثر باق إلى اليوم . وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الاعصار .
وقال في ذلك أبو طالب : وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة
على قدميه حافياً غير ناعل
فما حفظ أن أحداً من الناس نازع في هذا القول . وقيل : سبب أثر قدميه في هذا الحجر
أنه وافى مكة زائراً من الشام فقالت له زوجة إسماعيل : انزل . حتى اغسلَ رأسك ،
فأبى أن ينزل ، فجاءت بهذا الحجر من جهة شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق
رأسه ، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر ، فبقي أثر قدميه فيه .
وارتفاعُ آيات على الفاعلية بالمجرور قبله ، فيكون المجرور في موضع الحال ،
والعامل فيها محذوف ، وذلك المحذوف هو الحال حقيقة . ونسبة الحالية إلى الظرف
والمجرور مجاز ، كنسبة الخبر إليها . إذا قلت : زيد في الدار ، أو عندك . ولذلك
قال بعض أصحابنا : وما يعزى للظرف من خبرية وعمل ، فالأصح كونه لعامله . وكون فيه
في موضع حال مقدّرة ، سواء كان العامل فيها هو العامل في ببكة ، أم كان العامل
فيها هو وضع على ما أعربوه ، أو على ما أعربناه . ويجوز أو يكون جملة مستأنفة .
أخبر الله تعالى أن فيه آيات بينات .
( مَّقَامِ إِبْراهِيمَ ( مقام : مفعل من القيام . وقرأ الجمهور : آيات بينات على
الجمع . وقرأ أبيّ وعمرو بن عباس ومجاهد وأبو جعفر في رواية قتيبة ( آية بينة )
على التوحيد . فعلى قراءة الجمهور أعربوا مقام إبراهيم بدلاً ، وهو بدل كل من كل ،
من قوله : آيات ، وأعربوه خبر مبتدأ محذوف . أي هنّ مقام إبراهيم . وعلى ما أعربوه
فكيف يبدل المفرد من الجمع ، أو يخبر به عن الجمع ؟ وأجيب بوجهين : أحدهما : أن
يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوّة إبراهيم
عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد كقوله تعالى : ) إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ
أُمَّةً قَانِتًا ). والثاني : اشتماله على آيات ، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء
آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه دون
سائر آيات الأنبياء آية لابراهيم خاصة ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل
الكتاب والملاحدة ألوف سنين آية . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد فيه ( آيات بينات
مقام إبراهيم ) وأمن من دخله ، لأن الآيتين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة . وقال
ابن عطية : والمترجح عندي أنّ المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم الله من
الآيات ، وخصّا بالذكر لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ؛ إذ هم
مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم . فظاهرُ كلامه وكلام الزمخشري قبله : أن مقام
إبراهيم وأمن الداخل تفسير للآيات وهي جمع ، ولكن لم يذكر أمن الداخل في الآية
تفسيراً صناعياً ، إنما جاء ( ومن دخله كان آمناً ) جملة من شرط وجزاء ، أو مبتدأ
أو خبر ، لا على سبيل أن يكون اسماً مفرداً يعطف على قوله : مقام إبراهيم ، فيكون
ذلك تفسيراً صناعياً . بل لم يأت بعد قوله : ) بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ ( سوى مفرد وهو
: مقام إبراهيم فقال . فإن قلت : كيف أجزت أنْ يكون مقام إبراهيم والا من عطف بيان
وقوله : ومن دخله كان آمناً جملة مستأنفة : إما ابتدائية ، وإما اشترطية ؟ قلت :
أجزت ذلك من حيث المعنى . ولأن قوله : ( ومن دخله كان آمناً ) دل على
" صفحة رقم 10 "
أمن داخله ، فكأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن داخله . ألا ترى أنك
لو قلت فية آية بينة من دخله كان آمناً صحّ ، لأنه في معنى فيه آية بينة أمن مَن
دخله انتهى سؤاله وجوابه وليس بواضح . لأن تقديره وأمن الداخل ، هو مرفوع عطفاً
على مقام إبراهيم ، وفسر بهما الآيات . والجملة من قوله : ومن دخله كان آمناً لا
موضع لها من الإعراب ، فتدافعا إلا أنْ اعتقد أنّ ذلك معطوف محذوف يدل عليه ما
بعده ، فيمكن التوجيه . فلا يجعل قوله : ومن دخله كان آمناً في معنى : وأمن داخله
، إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب . قال الزمخشري : ويجوز أن يذكر هاتين
الآيتين ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قيل : فيه آيات بينات
مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما . ونحوه في طي الذكر قول جرير : كانت
حنيفة أثلاثاً فثلثهم
من العبيد وثلث من مواليها
ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( حبب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ،
والنساء ، وقرة عيني في الصلاة ) انتهى كلامه . وفيه حذف معطوفين ، ولم يذكر
الزمخشري في إعراب مقام إبراهيم إلا أنه عطف بيان لقوله : آيات بينات . ورد عليه
ذلك ، لأن آيات نكرة ، ومقام إبراهيم معرفة ، ولا يجوز التخالف في عطف البيان .
وقوله مخالف لإجماع الكوفيين والبصريين ، فلا يلتفت إليه . وحكم عطف البيان عند
الكوفيين حكم النعت ، فتتبع النكرة النكرة والمعرفة المعرفة ، وقد تبعهم في ذلك
أبو علي الفارسي . وأما عند البصريين فلا يجوز إلا أنْ يكونا معرفتين ، ولا يجوز
أنْ يكونا نكرتين . وما أعربه الكوفيون ومن وافقهم : عطف بيان وهو نكرة على النكرة
قبله ، أعربه البصريون بدلاً ، ولم يقم لهم دليل على تعيين عطف البيان في النكرة ،
فينبغي أن لا يجوز . والأولى والأصوب في إعراب مقام إبراهيم أنْ يكون خبر مبتدأ
محذوف تقديره : أحدها : أي أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم . أو مبتدأ محذوف
الخبر تقديره منها : أي من الآيات البينات مقام إبراهيم . ويكون ذكر المقام لعظمه
ولشهرته عندهم ، ولكونه مشاهداً لهم لم يتغير ، ولاذ كاره إياهم دين أبيهم إبراهيم
. وأما على قراءة من قرأ : آية بينة بالتوحيد ، فإعرابه بدل ، وهو بدل معرفة من
نكرة موصوفة ، كقوله تعالى : ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ
صِراطِ اللَّهِ ( ويكون الله تعالى قد أخبر عن هذه الآية العظيمة وحدها وهي مقام
إبراهيم لما ذكرنا ، وإنْ كان في البيت آيات كثيرة . واختلفوا في تفسير مقام إبراهيم
. فقال
" صفحة رقم 11 "
الجمهور : هو الحجر المعروف . وقال قوم : البيت كله مقام إبراهيم ، لأنه بناه ،
وقام في جميع أقطاره . وقال قوم : مكة كلها مقام إبراهيم . وقال قوم : الحرم كله .
والحرم مما يلي المدينة نحواً من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم ، ومما يلي العراق
نحواً من ثمانية أميال يقال له المقطع ، ومما يلي عرفة تسعة أميال إلى منتهى
الحديبية .
( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً ( : الضمير في ( ومن دخله ) عائد على البيت : إذْ
هو المحدث عنه ، والمقيد بتلك القيود من البركة والهدى والآيات البينات من مقام
إبراهيم وغيره . ولا يمكن أنْ يعود على مقام إبراهيم إذا فسّرناه بالحجر . وظاهر
الآية وسياق الكلام أنّ هذه الجملة هي مفسرة لبعض آيات البيت ، ومذكرة للعرب بما
كانوا عليه في الجاهلية من احترام هذا البيت ، وأمن من دخله من ذوي الحرائم .
وكانت العرب يغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل ، وأخذ الأموال ، وأنواع
الظلم ، إلا في الحرم كقوله تعالى : ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا
حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( وذلك بدعوة إبراهيم
عليه السلام ) رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا ( فأما في الإسلام فمن أصاب
حدًّا فإن الحرم لا يعيذُه وإلى هذا ذهب : عطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغيره
. فمن زنى ، أو سرق ، أو قتل ، أقيم عليه الحدّ واستحسن كثير ممن قال هذا القول :
أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل فيه . وقال ابن عباس : من أحدث حدثاً واستجار
بالبيت فهو آمن . والأمر في الإسلام على ما كان في الجاهلية ، فلا يعرض أحد لقاتل
وليه . إلا أنه يجب على المسلمين أن لا يبايعوه ، ولا يكلموه ، ولا يؤووه حتى
يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد . وقال بمثل هذا عطاء أيضاً ، والشعبي ،
وعبيد بن عمير ، والسدي ، وابن جبير ، وغيرهم إلا أن أكثرهم قالوا : هذا فيمن يقتل
خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم ، أمّا من قتل فيه فيقام عليه الحد فيه . واختلف فقهاء
الأمصار : إذا جنى في غير الحرم ثم التجأ إليه فقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد
، وزفر ، والحسن بن زياد ، وأحمد في رواية حنبل عنه : إن كانت الجناية في النفس لم
يقتص منه ولا يخالط ، أو فيما دون النفس اقتص منه في الحرم . وقال مالك في رواية :
لا يقتص منه فيه ، لا بقتل ولا فيما دون النفس ، ولا يخالط . قالوا : وانعقد
الإجماع على أنّ من جنى فيه لا يؤمن ، لأنه هتك حرمة الحرم وردّ الأمان . فبقي حكم
الآية فيمن جنى صار خارجاً منه ثم التجأ إليه . وقالوا : هذا خبر معناه الأمر . أي
ومَن دخله فأمّنوه . وهو عام فيمن جنى فيه أو في غيره ثم دخله ، لكنْ صدَّ الإجماع
عن العمل به فيمن جنى فيه وبقي حكم الآية مختصاً بمن جنى خارجاً منه ثم دخله . وقال
يحيى بن جعدة في آخرين : آمناً من النار ، ولا بد من قيد في . ومن دخله كان آمناً
: أي ومن دخله حاجًّا ، أو من دخله مخلصاً في دخوله . وقيل المعنى : ومن دخله عام
عمرة القضاء مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لقوله : ) لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ). وقال جعفر الصادق : منْ
دخله ورقى على الصفا أمن أمن الأنبياء . وظاهرُ الآية ما بدأنا به أولاً ، وكلّ
هذه الأقوال سواه متكلفات ، وينبو اللفظ عنها ، ويخالف بعضها ظواهر الآيات وقواعد
الشريعة ) وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً ( روى عكرمة : أنه لما نزلت : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً قالت اليهود
: نحن على الإسلام فنزلت : ولله على الناس حج البيت الآية ، قيل له : حجهم يا محمد
. إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام ، فليحجوا إن كانوا مسلمين فقالت
اليهود : لا نحجه أبداً . ودلت هذه الآية على تأكيد فرض الحج ، إذ جاء
" صفحة رقم 12 "
ذلك بقوله : ولله ، فيشعر بأن ذلك له تعالى ، وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء ،
وجاء متعلقاً بالناس بلفظ العموم وإن كان المراد منه الخصوص ليكون من وجب عليه ذكر
مرتين . قال الزمخشري : وفي هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد . فمنها قوله :
) وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس
لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه ، . من
استطاع إليه سبيلاً وفيه ضربان من التأكيد : أحدهما : أن الإبدال تنبيه للمراد
وتكرير له . والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في
صورتين مختلفتين انتهى كلامه ، وهو حسن . وقرأ حمزة والكسائي وحفص حج بكسر الحاء ،
والباقون بفتحها . وهما لغتان : الكسر لغة نجد ، والفتح لغة أهل العالية . وجعل
سيبويه الحج بالكسر مصدراً نحو : ذكر ذكراً . وجعله الزجاج اسم العمل . ولم يختلفو
في الفتح أنه مصدر ، وحج مبتدأ وخبره في المجرور الذي هو ولله وعلى الناس متعلق
بالعامل في الجار والمجرور الذي هو خبر . وجوز أنْ يكونَ على الناس حالاً ، وأنْ
يكون خبر الحج . ولا يجوز أن يكون ( ولله ) حالاً ، لما يلزم في ذلك من تقدّمها
على العامل المعنوي . وحج مصدر أضيف إلى المفعول الذي هو البيت ، والألف واللام
فيه للعهد . إذ قد تقدّم ( أنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة ) هذا الأصل ثم صار
علماً بالغلبة . فمتى ذكر البيت لا يتبادر إلى الذهن إلا أنه الكعبة ، وكأنه صار
كالنجم للثريا وقال الشاعر : لعمري لأنت البيت أكرم أهله
وأقعد في أفنائه بالأصائل
ولم يشترط في هذه الآية في وجوبه إلا الاستطاعة . وذكروا أن شروطه : العقل ،
والبلوغ ، والحرية ، والإسلام ، والاستطاعة . وظاهر قوله : ) وَللَّهِ عَلَى
النَّاسِ ( وجوبه على العبد ، وهو مخاطب به ، وقال بذلك داود . وقال الجمهور : ليس
مخاطباً به ، لأنه غير مستطيع ، إذ السيد يمنعه عن هذه العبادة لحقوقه . قالوا :
وكذلك الصغير . فلو حج العبد في حال رقِّه ، والصبي قبل بلوغه ، ثم عتق وبلغ
فعليهما حجة الإسلام . وظاهره الاكتفاء بحجة واحدة ، وعليه انعقد إجماع الجمهور
خلافاً لبعض أهل الظاهر إذ قال : يجب في كل خمسة أعوام مرة ، والحديث الصحيح يرد
عليه . والظاهر أنَّ شرطه القدرة على الوصول إليه بأي طريق قدر عليه من : مشي ،
وتكفف ، وركوب بحر ، وإيجاز نفسه للخدمة . الرجال والنساء في ذلك سواء ، والمشروط
مطلق الاستطاعة . وليست في الآية من المجملات فتحتاج إلى تفسير . ولم تتعرض الآية
لوجوب الحج على الفور ، ولا على التراخي ، بل الظاهر أنه يجب في وقت حصول
الاستطاعة . والقولان عن الحنفية والمالكية . وقال أبو عمر بن عبد البر : ويدل على
التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام الواجب عليه
في وقته ، بخلاف من فوّت صلاة حتى خرج وقتها فقضاها . وأجمعوا على أنه لا يقال لمن
حج بعد أعوام من وقت استطاعته أنت قاض . وكل من قال بالتراخي لا يجد في ذلك حدًّا
إلا ما روي عن سحنون : أنه إذا زاد على الستين وهو قادر وترك فسق ، وروي قريب من
هذا عن ابن القاسم .
وفي إعراب مَنْ خلاف ، ذهب الأكثرون إلى أنه بدل بعض من كل ، فتكون مَن موصولة في
موضع جر ، وبدل بعض من كل لا بد فيه من الضمير ، فهو محذوف تقديره ، من استطاع
إليه سبيلاً منهم . وقال الكسائي وغيره : من شرطية ، فتكون في موضع رفع بالابتداء
. ويلزم حذف الضمير الرابط لهذه الجملة بما قبلها ، وحذف جواب الشرط ، إذ التقدير
من استطاع إليه سبيلاً منهم فعليه الحج ، أو فعلية ذلك . والوجه الأوّل أولى لقلة
الحذف فيه وكثرته في هذا . ويناسب الشرط مجيءُ الشرط بعده في قوله : ) وَمَن
كَفَرَ ( وقيل : مَنْ موصولة في
" صفحة رقم 13 "
موضع رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم من استطاع إليه سبيلاً . وقال بعض البصريين
: مَنْ موصولة في موضع رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو حج ، فيكون المصدر قد
أضيف إلى المفعول ورفع به الفاعل نحو : عجبت من شرب العسل زيد ، وهذا القول ضعيف
من حيث اللفظ والمعنى . أمّا من حيث اللفظ فإنّ إضافة المصدر للمفعول ورفع الفاعل
به قليل في الكلام ، ولا يكاد يحفظ في كلام العرب إلا في الشعر ، حتى زعم بعضهم
أنه لا يجوز إلا في الشعر . وأمّا من حيث المعنى فإنه لا يصح ، لأنّه يكون المعنى
: إنّ الله أوجب على الناس مستطيعهم وغير مستطيعهم أنْ يحج البيت المستطيع .
ومتعلق الوجوب إنما هو المستطيع لا الناس على العموم ، والضمير في إليه يعود على
البيت ، وقيل : على الحج . وإليه متعلق باستطاع ، وسبيلاً مفعول بقوله استطاع لأنه
فعل متعد . قال تعالى : ) لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ( وكل موصل إلى شيء ، فهو
سبيل إليه .
وظاهر الآية يدل على وجوب الحج على من استطاع إلى البيت سبيلاً ، وليست الاستطاعة
من باب المجملات كما قدّمنا . وقال عمر ، وابنه ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن جبير :
هي حال الذي يجد زاداً وراجلة ، وعلى هذا أكثر العلماء . وقال ابن الزبير والضحاك
: إذا كان مستطيعاً غير شاق على نفسه وجب عليه . قال الضحاك : إذا قدر أن يؤجر
نفسه فهو مستطيع ، وقيل له في ذلك ؛ فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة ، أكان يتركه
، بل كان ينطلق إليه ؟ ولو حبوا فكذلك يجب عليه الحج . وقال الحسن : مَنْ وجد
شيئاً يبلغه فقد وجب عليه . وقال عكرمة : استطاعةَ السبيل الصحة . ومذهب مالك :
أنَّ الرجل إذا وثق بقوته لزمه ، وعنه ذلك على قدر الطاقة .
" صفحة رقم 14 "
وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر ، وقد يقدر عليه من لا راحلة ولا زاد
. وقال ابن عباس : من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه . وقال الشافعي :
الاستطاعة على وجهين بنفسه : أولاً : فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل
من يحج عنه وهو مستطيع لذلك . واختلف قول مالك فيمن سأل ذاهباً وآيباً ممن ليست
عادته ذلك في إقامته . فروى عنه ابن وهب : لا بأس بذلك . وروي عنه ابن القاسم : لا
أرى ذلك ، ولا يخرج إلى الحج والغزو سائلاً . وكره مالك أن تحج النساء في البحر .
واختلف عنه في حج النساء ماشيات إذا قدرن على ذلك . ولا حج على المرأة إلا إذا كان
معها ذو محرم ، واختلف إذا عدمته . فقال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ،
وأحمد ، وإسحاق : المحرم من السبيل ولا حج عليها إلا مع ذي محرم . قال أبو حنيفة :
إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً ، وإذا وجدت محرماً فهل لزوجها
أن يمنعها في الفرض ؟ قال الشافعي : له أن يمنعها وعن مالك روايتان : المنع ،
وعدمه . والمحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد بقرابة ، أو رضاع ، أو صهر ،
والحرّ والعبد والمسلم والذمي في ذلك سواء ، إلا أنّ يكونَ مجوسياً يعتقد إباحة
نكاحها أو مسلماً غير مأمون ، فلا تخرج ولا تسافر معه . وقال مالك : تخرج مع جماعة
نساء . وقال الشافعي : مع حرة ثقة مسلمة . وقال ابن سيرين : مع رجل ثقة من
المسلمين . وقال الأوزاعي : مع قوم عدول ، وتتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل ، ولا
يقربها رجل .
واختلفوا في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة . فقال سفيان الثوري : إذا كان
المكس ، ولو درهماً سقط فرض الحج عن الناس . وقال عبد الوهاب : إذا كانت الغرامة
كثيرة مجحفة سقط الفرض . فظاهر كلامه هذا أنّها إذا كانت كثيرة غير مجحفة به لسعة
ماله فلا يسقط ، وعلى هذا جماعة أهل العلم ، وعليه مضت الأعصار . وأجمعوا على أن
المريض والمعضوب لا يلزمهما المسير إلى الحج . فقال مالك : يسقط عن المعضوب فرض
الحج ، ولا يحج عنه في حال حياته . فإن وصى أن يحج عنه بعد موته حج من الثلث ،
وكان تطوّعاً . وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وابن المبارك ، وأحمد ، وإسحاق
: إذا كان قادراً على مال يستأجر به لزمه ذلك ، وإذا بذل أحد له الطاعة والنيابة
لزمه ذلك ببذل الطاعة عند الشافعي وأحمد وإسحاق . وقال أبو حنيفة : لا يلزمه الحج
ببذل الطاعة ، ولو بذل له مالاً فالصحيح أنه لا يلزمه قبوله . ومسائلُ فروع
الاستطاعة كثيرة مذكورة في كتب الفقه .
( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( قال ابن عباس : بوجوب
الحج ، فمن زعم أنه ليس بفرض عليه فقد كفر . وقال مثله : الضحاك ، وعطاء ، والحسن
، ومجاهد ، وعمران القطان . وقال ابن عمر وغيره : ومن كفر بالله واليوم الآخر .
وقال ابن زيد : ومن كفر بهذه الآيات التي في البيت . وقال السدي وجماعة : ومَنْ
كفر بأنْ وجد ما يحج به فلم يحج ، فهذا كفر معصية ، بخلاف القول الأول فإنه كفر
جحود . ويصير على قول السدي لقوله : ( من ترك الصلاة فقد كفر ) ( لا ترجعوا بعدي
" صفحة رقم 15 "
كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) . على أحد التأويلين . وقال الزمخشري : ومنها يعني
من أنواع التأكيد والتشديد قوله : ومن كفر ، مكان ومَن لم يحج تغليظاً على تارك
الحج ، ولذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من مات ولم يحج فليمت إن
شاء يهودياً أو نصرانياً ) ونحوه من التغليظ من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ،
انتهى كلامه ، وهو من معنى كلام السدي . وقال سعيد بن المسيب : ومَن كفر بكون
البيت قبله الحق ، فعلى هذا يكون راجعاً إلى اليهود الذين قالوا حين حوّلت القبلة
: ) مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( وكفروا بها
وقالوا : لا نحج إليها أبداً .
ومن شرطية وجواب الشرط الجملة المصدرة بالفاء ، والرابط لها بجملة الشرط هو العموم
الذي في قوله : ) عَنِ الْعَالَمِينَ ( إذْ مَن كفر فهو مندرج تحت هذا العموم .
وفي هذا اللفظ وعيد شديد لمن كفر قال ابن عطية : والقصد بالكلام : فإن الله غني
عنهم ، ولكنْ عمَّ اللفظ ليبرع المعنى ويتنبه الفكر على قدرة الله وسلطانه
واستغنائه عن جميع الوجوه ، حتى ليس به افتقار إلى شيء ، لا ربَّ سواه انتهى .
وقال الزمخشري : ومنها يعني من أنواع التأكيد ذكر الاستغناء عنه ، وذلك مما يدل
على المقت والسخط والخذلان . ومنها قوله : عن العالمين ، ولم يقل عنه . وما فيه من
الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنّه إذا استغنى عن العالمين تناوله
الاستغناء عنه لا محالة . ولأنّه يدلُّ على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم
السخط الذي وقع عبارة عنه . وقيل : في الكلام محذوف تقديره : فإن الله غني عن حج
العالمين .
آل عمران : ( 98 ) قل يا أهل . . . . .
( قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ
شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ( : قال الطبري : سبب نزولها ونزول ما بعدها إلى
قوله : ) وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( أن رجلاً من اليهود حاول الإغراء
بين الأوس والخزرج واسمه : شاس بن قيس ، وكان أعمى شديد الضغن والحسد للمسلمين ،
فرأى ائتلاف الأوس والخزرج ، فقال : ما لنا من قرار بهذه البلاد مع اجتماع ملا بني
قيلة ، فأمر شاباً من اليهود أنْ يذكرهم يوم بعاث وما جرى فيه من الحرب وما قالوه
من الشعر ، ففعل ، فتكلموا حتى ثاروا إلى السلاح بالحرة . فقال رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ) : ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ) ؟ ووعظهم فرجعوا وعانق
بعضهم بعضاً ، هذا ملخصه وذكروه مطولاً . وقال الحسن : وقتادة ، والسدي : نزلت في
أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام بأن يقولوا لهم : إنّ محمداً
ليس بالموصوف في كتابنا ، والظاهر نداء أهل الكتاب عموماً والعامة ، وإن لم يعلموا
فالحجة قائمة عليهم كقيامها على الخاصة . وكأنهم بترك الاستذلال والعدول إلى
التقليد بمنزلة مَنْ علم ثم أنكره . وقيل : المراد علماء أهل الكتاب الذين علموا
صحة نبوّته ، واستدل بقوله : ( وأنتم شهداء ) انتهى هذا القول . وخصّ أهل الكتاب
بالذكر دون سائر الكفار لأنهم هم المخاطبون في صدر هذه الآية المورد الدلائل عليهم
من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمجابون عن
شبههم في ذلك . ولأن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل
النبوّة ، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة للرسول والبشارة به . ولما ذكر تعالى
أنّ في البيت ) بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ ( وأوجب حجه ، ثم قال : ) وَمَن كَفَرَ
فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( ناسب أنْ يُنكِرَ على الكفار كفرهم
بآيات الله ، فناداهم بيا أهل الكتاب لينبههم على أنهم أهل الكتاب ، فلا يناسب
مَنْ يعتزي إلى كتاب الله أنْ يكفر بآياته ، بل ينبغي طواعيته وإيمانه بها ، إذْ
له مرجع من العلم يصير إليه إذا اعترته شبهة .
والآيات : هي العلامات التي نصبها الله دلالة على الحق . وقيل : آيات الله هي آيات
من التوراة فيها صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ويحتمل القرآن ،
" صفحة رقم 16 "
ومعجزة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا
تَعْمَلُونَ ( جملة حالية فيها تهديد ووعيد . أيْ إنّ مَن كان الله مطَّلعاً على
أعماله مشاهداً له في جميع أحواله لا يناسبه أن يكفر بآياته ، فلا يجامع العلم بأن
الله مطلع على جميع أعمال الكفر بآيات الله ، لأن من تيقن أن الله مجازيه لا يكاد
يقع منه الكفر الذي هو أعظم الكبائر . وأتت صيغة ( شهيد ) لتدل على المبالغة بحسب
المتعلق . لأن الشهادة يراد بها العلم في حق الله ، وصفاته تعالى من حيث هي هي لا
تقبل التفاوت بالزيادة والنقصان . فإذا جاءت الصفة من أوصافة للمبالغة فذلك بحسب متعلقاتها
. وتقدّم الكلام على ( لم ) وحذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها الجار .
وقوله : ( على ما تعملون ) متعلق بقوله : شهيد . وما موصولة . وجوزوا أنْ تكون
مصدرية ، أي على عملكم .
آل عمران : ( 99 ) قل يا أهل . . . . .
( قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ
ءامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ ( لمّا أنكر عليهم كفرهم في أنفسهم وضلالهم ، ولم يكتفوا حتى سعوا في
إضلال مَنْ آمن ، أنكر عليهم تعالى ذلك ، فجمعوا بين الضلال والإضلال ) مِن
سُندُسٍ سَنَةٍ سَيّئَةٌ فَعَلَيْهِ ). وصدّ : لازم ومتعد . يقال : صد عن كذا ،
وصد غيره عن كذا . وقراءة الجمهور : يصدون ثلاثياً ، وهو متعد ومفعوله مَنْ آمن .
وقرأ الحسن : تصدُّون من أصدّ ، عدى صدّ اللازم بالهمز ، وهما لغتان .
وقال ذو الرّمة :
أناس أصدُّوا الناس بالسيف عنهم
ومعنى صد هنا : صرف . وسبيل الله : هو دين الله ، وطريق شرعه ، وقد تقدّم أنها
تذكر وتؤنث . ومن التأنيث قوله : فلا تبعد فكل فتى أناس
سيصبح سالكاً تلك السبيلا
قال الراغب : وقد جاء ) مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( دون قل ، وجاء هنا قل . فبدون قل
هو استدعاء منه تعالى لهم إلى الحق ، فجعل خطابهم منه استلانة للقوم ليكونوا أقرب
إلى الانقياد . ولما قصد الغض منهم ذكر قل تنبيهاً على أنهم غير مستأهلين أنْ
يخاطبهم بنفسه ، وإنْ كان كلا الخطابين وصل على لسان النبي ( صلى الله عليه وسلم )
) . وأطلق أهل الكتاب على المدح تارة ، وعلى الذّم أخرى . وأهل القرآن والسنة لا
ينطلق إلا على المدح ، لأن الكتاب قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل الله نحواً :
) يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ( وقد يراد به ما أنزل الله . وأيضاً فقد
يصحُّ أنْ يُقال على سبيل الذمّ والتهكم ، كما لو قيل : يا أهل الكتاب لمن لا يعمل
بمقتضاه ، انتهى ما لخص من كلامه .
والهاء في يبغونها عائدة على السبيل . قال الزجاج والطبري : يطلبون لها اعوجاجاً .
تقول العرب : ابغني كذا بوصل الألف ، أي اطلبه . أي وأبغني بقطع الألف أعني على
طلبه . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) كيف يبغونها عوجاً وهو محال ؟ ( قلت ) فيه
معنيان : أحدهما : أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أنَّ فيها عوجاً بقولكم : إن
شريعة موسى لا تنسخ ، وبتغييركم صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن وجهها
، ونحو ذلك . والثاني : أنكم تتعبون أنفسكم في إخفاء الحق ، وابتغاء ما لا يتأتى
لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم انتهى . وقيل : يبغون هنا من البغي
وهو التعدي . أي يتعدّون عليها ، أو فيها . ويكون عوجاً على هذا التأويل نصبه على
الحال من الضمير في تبغون
" صفحة رقم 17 "
أي عوجاً منكم وعدم استقامة انتهى . وعلى التأويل الأول يكون عوجاً مفعولاً به ،
والجملة من قوله : ( تبغونها عوجاً تحتمل الاستئناف ، وتحتمل أن تكون حالاً من
الضمير في تصدُّون أو من سبيل الله ، لأن فيها ضميرين يرجعان إليهما .
وأنتم شهداء أي بالعقل نحو : ( وألقى السمع وهو شهيد ) أي عارف بعقله ، وتارة
بالفعل . نحو قال : ( فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) وتارة بإقامة ذلك ، أي
شهدتم بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبل بعثه على ما في التوراة من صفته
وصدقه . وقال الزمخشري : وأنتم شهداء أنها سبيل الله التي لا يصدّ عنها إلا ضال
مضلٌّ . أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ، ويستشهدون في عظام
أمورهم ، وهم الأحبار انتهى . قيل : وفي قوله : وأنتم شهداء دلالة على أن شهادة
بعضهم على بعض جائزة ، لأنه تعالى سماهم شهداء ، ولا يصدق هذا الإسم إلا على من
يكون له شهادة . وشهادتهم على المسلمين لا تجوز بإجماع ، فتعين وصفهم بأن تجوز
شهادة بعضهم على بعض ، وهو قول أبي حنيفة وجماعة . والأكثرون على أنَّ شهادتهم لا
تقبل بحال ، وأنّهم ليسوا من أهل الشهادة . وما الله بغافل عما تعملون وعيد شديد
لهم ، وتقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته .
آل عمران : ( 100 ) يا أيها الذين . . . . .
( تَعْمَلُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ
الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ( لمّا
أنكر تعالى عليهم صدهم عن الإسلام المؤمنين حذر المؤمنين من إغواء الكفار
وإإضلالهم وناداهم بوصف الإيمان تنبيهاً على تباين ما بينهم وبين الكفار ، ولم يأت
بلفظ ( قل ) ليكون ذلك خطاباً منه تعالى لهم وتأنيساً لهم . وأبرز نهيه عن
موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية ، لأنه لم تقع طاعتهم لهم . والإشارة ب يا أيها
الذين آمنوا إلى الأوس والخزرج بسب ثائرة شاس بن قيس . وأطلق الطواعية لتدل على
عموم البدل ، أي أنْ يصدرَ منك طواعية ما في أي شيء كان مما يحاولونه من إضلالكم ،
ولم يقيد الطاعة بقصة الأوس والخزرج على ما ذكر في سبب النزول . والردّ هنا
التَّصييرُ أي يصيرونكم . والكفر المشار إليه هنا ليس بكفر حقيقة ، لأن سبب النزول
هو في إلقاء العداوة بين الأوس والخزرج . ولو وقعت لكانت معصية لا كفراً إلا أن
يفعلوا ذلك مستحبين له . وقد يكون ذلك بتحسين أهل الكتاب لهم منهياً بعد منهي ،
واستدراجهم شيئاً فشيئاً إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقية .
وانتصاب كافرين على أنه مفعول ثان ليردّ ، لأنها هنا بمعنى صير كقوله : فرد
شعورهنّ السود بيضا
وردّ وجوههنّ البيض سودا
وقيل : انتصب على الحال ، والقول الأول أظهر .
آل عمران : ( 101 ) وكيف تكفرون وأنتم . . . . .
( وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ
رَسُولُهُ ( هذا سؤال استبعاد وقوع الكفر منهم مع هاتين الحالتين : وهما تلاوة
كتاب الله عليهم وهو القرآن الظاهر الإعجاز ، وكينونةَ الرسول فيهم الظاهر على
يديه الخوارق . ووجود هاتين الحالتين تنافي الكفر ولا تجامعه ، فلا يتطرّق إليهم
كفر مع ذلك . وليس المعنى أنه وقع منهم الكفر فوبخوا على وقوعه لأنهم مؤمنون ،
ولذلك نودوا بقوله : يا أيها الذين آمنوا . فليس نظيرُ قوله : ) كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا ( والرسول هنا : محمد ( صلى الله عليه
وسلم ) ) بلا خلاف . والخطاب قال الزجاج : لأصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) )
خاصة ، لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان فيهم وهم يشاهدونه . وقيل : لجميع
الأمة ، لأن آثاره وسنته فيهم ، وإنْ لم يشاهدوه . قال قتادة : في هذه الآية علمان
بينان : كتاب الله ، ونبي الله . فأما نبي الله فقد مضى ، وأما كتاب الله فأبقاه
الله بين أظهرهم رحمة منه ونعمة فيه ، حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته . وقيل :
الخطاب
" صفحة رقم 18 "
للأوس والخزرج الذين نزلت هذه الآية فيما شجر بينهم على ما ذكره الجمهور . وقرأ
الجمهور تتلى بالتاء . وقرأ الحسن والأعمش : يتلى بالياء ، لأجل الفصل ، ولأن
التأنيث غير حقيقي ، ولأن الآيات هي القرآن . قال ابن عطية : وفيكم رسوله هي ظرفية
الحضور والمشاهدة لشخصه ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو في أمّته إلى يوم القيامة
بأقواله وآثاره . وقال الزمخشري : وكيف تكفرون معنى الاستفهام فيه الإنكار
والتعجيب ، والمعنى : من أين يتطرّف إليكم الكفر ، والحال أن آيات الله وهي القرآن
المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية وبين أظهركم رسول الله ينبهكم ويعظكم
ويزيح شبهكم ؟ .
( وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِراطٍ مّسْتَقِيمٍ ( قال ابن
جريج : ومن يؤمن بالله . ويناسب هذا القول قوله : ) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ ). وقيل
: يستمسك بالقرآن . وقيل : يلتجىء إليه ، فيكون على هذا القول حقاً على الالتجاء
إلى الله في دفع شرور الكفار . وجواب من فقد هدى وهو ماضي اللفظ مستقبل المعنى ،
ودخلت قد للتوقع ، لأن المعتصم بالله متوقع للهدى .
وذكروا في هذه الآيات من فنون البلاغة والفصاحة : الاستفهام الذي يراد به الإنكار
في ) لِمَ تَكْفُرُونَ ( ) لِمَ تَصُدُّونَ ( ) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ ( والتكرار :
في يا أهل الكتاب ، وفي اسم الله في مواضع ، وفيما يعملون ، والطباق : في الإيمان
والكفر ، وفي الكفر إذ هو ضلال والهداية ، وفي العوج والاستقامة ، والتجوز :
بإطلاق اسم الجمع في فريقاً من الذين أوتوا الكتاب فقيل : هو يهودي غير معين .
وقيل : هو شاس بن قيس اليهودي . وإطلاق العموم والمراد الخصوص : في يا أيها الذين
آمنوا على قول الجمهور أنه خطاب للأوس والخزرج . والحذف في مواضع .
( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ
تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنتُم أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا
كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن
مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ
تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ
وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا
الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّ مُورُ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً
لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَن يَضُرُّوكُمْ
إِلاَّ أَذًى
" صفحة رقم 19 "
وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاٌّ دُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ
وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الْمَسْكَنَةُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِأايَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ الاٌّ نْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ
يَعْتَدُونَ ( )
آل عمران : ( 102 ) يا أيها الذين . . . . .
أصبح : من الأفعال الناقصة لاتصاف الموصوف بالصفة وقت الصباح . وقد تأتي بمعنى صار
وهي ناقصة أيضاً ، وتأتي أيضاً لازمة تقول : أصبحت أي دخلت في الصباح . وتقول :
أصبح زيد ، أي أقام في الصباح ومنه . إذا سمعت بسري القين فاعلم أنه مصبح ، أي
مقيم في الصباح .
شفا الشيء طرفه وحرفه ، وهو من ذوات الواو ، وتثنيته : شفوان ، وهو حرف كل جرم له
مهوى كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار . ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى نحو :
شفا جرف . وإلى الأسفل نحو : شفا حفرة . ويقال : أشفى على كذا أي أشرف . ومنه أشفى
المريض على الموت . قال يعقوب : يقال للرجل عند موته وللقمر عند محاقه وللشمس عند
غروبها ما بقي منه أو منها إلا شفا أي قليل . .
الحفرة : معروفة وهي واحدة الحفر ، فعلة بمعنى مفعوله ، كغرفة من الماء . أنقذ خلص
.
الابيضاض والأسوداد معروفان ، ويقال : بيض فهو أبيض . وسود : فهو أسود ، ويقال :
هما أصل الألوان . ذاق الشيء استطعمه ، وأصله بالفم ثم استعير لكل ما يحس ويدرك
على وجه التشبيه بالذي يعرف عند الطعم . تقول العرب : قد ذقتَ من إكرام فلان ما
يرغبني في قصده . ويقولون : ذقِ الفرقَ واعرف ما عنده . وقال تميم بن مقبل : أو
كاهتزاز رديني تذاوقه
أيدي التجار فزادوا متنه لينا
وقال آخر : وإن الله ذاق حلوم قيس
فلما راء حفتها قلاها
يعنون بالذوق العلم ، إما بالحاسة ، وإما بغيرها . ثقفت الرجل غلبته وظفرت به .
( مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
). لما حذرهم تعالى من إضلال مَنْ يريدُ إضلالهم ، أمرهم بمجامع الطاعات ، فرهبهم
أولاً بقوله : اتقوا الله ، إذ التقوى إشارة إلى التخويف من عذاب الله ، ثم جعلها
سبباً للأمر بالاعتصام بدين الله ، ثم أردف الرهبة بالرغبة ، وهي قوله : )
وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ( وأعقب الأمر بالتقوى والأمر بالاعتصام
بنهي آخر هو من تمام الاعتصام . قال ابن مسعود ، والربيع ، وقتادة ، والحسن : حق
تقاته هو أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر . وروي مرفوعاً .
وقيل : حق تقاته اتقاء جميع معاصيه . وقال قتادة ، والسدي ، وابن زيد ، والربيع :
هي منسوخة بقوله : ) فَاتَّقُواْ
" صفحة رقم 20 "
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( أمروا أولاً بغاية التقوى حتى لا يقع إخلال بشيء ثم
نسخ . وقال ابن عباس ، وطاوس : هي محكمة . ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ مَّا
اسْتَطَعْتُم ( بيان لقوله : اتقوا الله حق تقاته . وقيل : هو أن لا تأخذه في الله
لومة لائم ، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه . وقيل : لا يتقي الله عبد
حق تقاته حتى يخزن لسانه . وقال ابن عباس : المعنى جاهدوا في الله حق جهاده . وقال
الماتريدي : وفي حرف حفصة اعبدوا الله حق عبادته . وتقاة هنا مصدر ، وتقدم الكلام
عليه في ) إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ).
قال ابن عطية : ويصح أن يكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإنْ كان لم يتصرف منه
، فيكون : كرماة ورام ، أو يكون جمع تقي ، إذ فعيل وفاعل بمنزلة . والمعنى على هذا
: اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به ، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله
تعالى انتهى كلامه . وهذا المعنى ينبو عنه هذا اللفظ ، إذ الظاهر أنّ قوله : حقّ
تقاته من باب إضافة إلى موصوفها ، كما تقول : ضربت زيداً شديد الضرب ، أي الضرب
الشديد . فكذلك هذا أي اتقوا الله الاتقاء الحق ، أي الواجب الثابت . أما إذا جعلت
التقاة جمعاً فإنَّ التركيب يصير مثل : اضرب زيداً حق ضرابه ، فلا يدل هذا التركيب
على معنى : اضرب زيداً كما يحق أن يكون ضرابه . بل لو صرح بهذا التركيب لاحتيج في
فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها المعنى ، والتقدير : اضرب زيداً ضرباً حقاً كما
يحق أن يكون ضرب ضرابه . ولا حاجة تدعو إلى تحميل اللفظ غير ظاهره وتكلف تقادير
يصح بها معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ .
( وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ظاهره النهي عن أن يموتوا إلا
وهم متلبسون بالإسلام . والمعنى : دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه
. ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم : لا أرينك ههنا ، وإنما المراد لا تكن هنا فتكون
رؤيتي لك . وقد تقدم لنا الكلام على هذا المعنى مستوفى في سورة البقرة في قوله : )
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ ( الآية والجملة من قوله : وأنتم مسلمون
حالية ، والاستثناء مفرع من الأحوال . التقدير : ولا تموتن على حال من الأحوال إلا
على حالة الإسلام . ومجيئُها إسمية أبلغُ لتكرر الضمير ، وللمواجهة فيها بالخطاب .
وزعم بعضهم أنَّ الأظهر في الجملة أن يكون الحال حاصلة قبل ، ومستصحبة . وأمّا لو
قيل : مسلمين ، لدلَّ على الاقتران بالموت لا متقدماً ولا متأخراً .
آل عمران : ( 103 ) واعتصموا بحبل الله . . . . .
( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ( أي استمسكوا وتحصّنوا . وحبل الله :
العهْد ، أو القرآن ، أو الدين ، أو الطاعة ، أو إخلاص التوبة ، أو الجماعة ، أو
إخلاص التوحيد ، أو الإسلام . أقوال للسلف يقرب بعضها من بعض . وروى أبو سعيد
الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( كتاب الله هو حبل الله
الممدود من السماء إلى الأرض ) . وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : (
القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا تخلق على كثرة الردّ من قال به صدق ،
ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم )
" صفحة رقم 21 "
وقولهم : اعتصمت بحبل فلان يحتمل أن يكون من باب التمثيل ، مثل استظهاره به ووثوقه
بإمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه . ويحتمل أن يكون من باب
الاستعارة ، استعار الحبل للعهد والاعتصام للوثوق بالعهد ، وانتصاب جميعاً على
الحال من الضمير في ) وَاعْتَصِمُواْ ( ) وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( نهوا عن التفرق في
الدين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنصارى . وقيل : عن المخاصمة والمعاداة
التي كانوا عليها في الجاهلية . وقيل : عن إحداث ما يوجب التفرق ويزول معه
الاجتماع . وقد تعلق بهذه الآية فريقان : نفاةُ القياس والاجتهاد كالنظام وأمثاله
من الشيعة ، ومثبتو القياس والاجتهاد . قال الأولون ، غير جائز أن يكون التفرق
والاختلاف ديناً لله تعالى مع نهي الله تعالى عنه . وقال الآخرون : التفرق المنهى
عنه هو في أصول الدين والإسلام . ) وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ ( الخطاب لمشركي العرب
قاله : الحسن وقتادة يعني مَن آمن منهم ، إذ كان القويُّ يستبيحَ الضعيف . وقيل :
للأوس والخزرج . ورجح هذا بأن العرب وقت تزول هذه الآية لم تكن مجتمعة على الإسلام
، ولا مؤتلفة القلوب عليه ، وكانت الأوس والخزرج قد اجتمعت على الإسلام وتألفت
عليه بعد العداوة المفرطة والحروب التي كانت بينهم ، ولما تقدم أنه أمرهم
بالاعتصام بحبل الله وهو الدين ونهاهم عن التفرق وهو أمر ونهي ، بديمومة ما هم
عليه إذ كانوا معتصمين ومؤتلفين ذكرهم بأنَّ ما هم عليه من الاعتصام بدين الإسلام
وائتلاف القلوب إنما كان سببه إنعام الله عليهم بذلك . إذ حصل منه تعالى خلق تلك
الداعية في قلوبهم المستلزمة بحصول الفعل ، فذكر بالنعمة الدنيوية والأخروية . أما
الدنيوية فتألف قلوبهم وصيرورتهم إخوة في الله متراحمين بعدما أقاموا متحاربين
متقاتلين نحواً من مائة وعشرين سنة إلى أن ألف الله بينهم بالإسلام . وكان أعني
الأوس والخزرج جداهم أخوان لأب وأم . وأما الأخروية فإنقاذهم من النار بعد أن
كانوا أشفوا على دخولها . وبدأ أولاً بذكر النعمة الدنيوية لأنّها أسبق بالفعل ،
ولاتصالها بقوله : ) وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( وصار نظير ) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ
وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ ( ومعنى فأصبحتم ، أي صرتم .
وأصبح كما ذكرنا في المفردات تستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح ، وتستعمل
بمعنى صار ، فلا يلحظ فيها وقت الصباح بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال
. وعليه قوله : أصبحت لا أحمل السلاح ولا
أملك رأس البعير أن نفرا
قال ابن عطية : فأصبحتم عبارة عن الاستمرار ، وإنْ كانت اللفظة مخصوصة بوقت مّا ،
وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبتدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال .
فالحال التي يحسبها المرء من نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب
، ومنه قول الربيع بن ضبع : أصبحت لا أحمل السلاح ولا
أملك رأس البعير إن نفرا
وهذا الذي ذكره : من أن أصبح للاستمرار ، وعلله بما ذكره لا أعلم أحداً من
النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تستعمل على الوجهين اللذين ذكرتهما . وجوز
الحوفي في ( إذ ) أن ينتصب باذكروا ، وجوز غيره أن ينتصب بنعمة . أي إنعام الله ،
" صفحة رقم 22 "
وبالعامل في عليكم . إذ جوزوا أن يكون حالاً من نعمة ، وجوزا أيضاً تعلق عليكم
بنعمة ، وجوزوا في أصبحتم أن تكون ناقصة والخبر بنعمته والباء ظرفية وإخواناً حال
يعمل فيها أصبح ، أو ما تعلق به الجار والمجرور . وأن يكون إخواناً خبر أصبح
والجار حال يعمل فيه أصبح ، أو حال من إخواناً لأنه صفة له تقدمت عليه ، أو العامل
فيه ما فيه من معنى تآخيتم بنعمته . وأن يكون أصبحتم تامة ، وبنعمته متعلق به ، أو
في موضع الحال من فاعل أصبحتم أو من إخواناً ، وإخواناً حال . والذي يظهر أن أصبح
ناقصة وإخواناً خبر ، وبنعمته متعلق بأصبحتم ، والباء للسبب لا ظرفية .
وقال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخواناً ، ومن النسب إخوة ، هكذا كثر
استعمالهم . وفي كتاب الله تعالى : ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ( والصحيح
أنهما يقالان من النسب . وفي الدين : وجمع أخ على أخوة لا يراه سيبويه ، بل أخوة عنده
اسم جمع ، لأن فعلاً لا يجمع على فعله . وابن السراج يرى فعلة إذا فهم منه الجمع
اسم جمع ، لأن فعلة لم يطرد جمعاً لشيء . والضمير في منها عائد على النار ، وهو
أقرب مذكور ، أو على الحفرة . وحكى الطبري أن بعض الناس قال : يعود على الشفا ،
وأنت من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث . كما قال جرير : أرى مر السنين أخذن مني
كما أخذ السرار من الهلال
قال ابن عطية : وليس الأمر كما ذكروا ، لأنه لا يحتاج في الآية إلى هذه الصناعة
إلا لو لم يجد معاداً للضمير إلا الشفا . وهنا معنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ،
ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة انتهى . وأقول : لا يحسن
عوده إلا على الشفا ، لأنّ كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد ، فالضمير لا
يعود إلا عليه . وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك
إذا قلت : كان زيد غلام جعفر ، لم يكن جعفر محدثاً عنه ، وليس أحد جزأي الإسناد .
وكذلك لو قلت : ضرب زيد غلام هند ، لم تحدث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفراً
وهنداً مخصصاً للمحدث عنه . أمّا ذكر النار . فإنما جيء بها لتخصيص الحفرة ، وليست
أيضاً أحد جزأي الإسناد ، لا محدثاً عنها . وأيضاً فالإنقاذ من الشفا أبلغ من
الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، لأن الإنقاذ منه يستلزم الإنقاذ من الحفرة ومن
النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا . فعودُهُ على الشفا هو الظاهر
من حيث اللفظ ومن حيث المعنى . ومثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار
بالقعود على جرفها مشفين على الوقوع فيها . وقيل : شبه تعالى كفرهم الذي كانوا
عليه وحربهم المدينة من الموت بالشفا ، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً ،
فأنقذهم الله بالإسلام . وقال السدي : بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال
أعرابي لابن عباس وهو يفسر هذه الآية : والله ما أنقذهم منها ، وهو يريد أن يوقعهم
فيها . فقال ابن عباس : خذوها من غير فقيه . وذكر المفسرون هنا قصة ابتداء إسلام
الأنصار وما شجر بينهم بعد الإسلام ، وزوال ذلك ببركات رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) .
( كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( : تقدم
الكلام على مثل هذه الجملة ، إلا أنَّ آخر هذه مختتم بالهداية لمناسبة ما قبلها .
وقال الزمخشري : ( لعلكم تهتدون ) إرادة أن تزدادوا هدىً . وقال ابن عطية : وقوله
لعلكم تهتدون في حق البشر ، أي مَنْ تأمل منكم الحال رجاء الأهتداء . فالزمخشري
جعل الترجي
" صفحة رقم 23 "
مجازاً عن إرادة الله زيادة الهدى ، وابن عطية أبقى الترجي على حقيقته ، لكنه جعل
ذلك بالنسبة إلى البشر لا إلى الله تعالى ، إذ يستحيل الترجي من الله تعالى ، وفي
كلا القولين المجاز . أما في قول الزمخشري فحيثُ جعل الترجي بمعنى إرادة الله ،
وأمّا في قول ابن عطية فحيثُ أسند ما ظاهره الإسناد إليه تعالى إلى البشر .
آل عمران : ( 104 ) ولتكن منكم أمة . . . . .
( وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (
الأمر متوجه لمت بتوجه الخطاب عليهم . قيل : وهو الأوس والخزرج على ما ذكره
الجمهور . وأمرُه لهم بذلك أمرٌ لجميع المؤمنين ، ومن تابعهم إلى يوم القيامة ،
فهو من الخطاب الخاص الذي يراد به العموم . ويحتمل أن يكونَ الخطاب عاماً فيدخل
فيه الأوس والخزرج . والظاهرُ أنَّ قوله ) مّنكُمْ ( يدل على التبعيض ، وقاله :
الضحاك والطبري . لأن الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصلح
إلا لمن علم المعروف والمنكر ، وكيف يرتب الأمر في إقامته ، وكيف يباشر ؟ فإن
الجاهل ربما أمر بمنكر ، ونهى عن معروف ، وربما عرف حكماً في مذهبه مخالفاً لمذهب
غيره ، فينهى عن غير منكر ويأمر بغير معروف ، وقد يغلظ في مواضع اللين وبالعكس .
فعلى هذا تكون مِنْ للتبعيض ، ويكون متعلق الأمر ببعض الأمة ، وهم الذين يصلحون
لذلك . وذهب الزجاج إلى أن مِنْ لبيان الجنس ، وأتى على زعمه بنظائر من القرآن
وكلام العرب ، ويكون متعلق الأمر جميع الأمة يكونون يدعون جميع العالم إلى الخير ،
الكفار إلى الإسلام ، والعصاة إلى الطاعة . وظاهر هذا الأمر الفرضية ، فالجمهور
على أنه فرض كفاية ، فإذا قام به بعض سقط عن الباقين . وذهب جماعة ، من العلماء
إلى أنه فرض عين ، فيتعين على كل مسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متى قدر
على ذلك وتمكّن منه . واختلفوا في الذي يسقط الوجوب . فقال قوم : الخشية على النفس
، وما عدا ذلك لا يسقطه . وقال قوم : إذا تحقق ضرباً أو حبساً أو إهانة سقط عنه
الفرض ، وانتقل إلى الندب والأمر والنهي وإن كانا مطلقين في القرآن فقد تقيّد ذلك
بالسنَّة بقولِه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده
، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) ولم يدفع أحد
من علماء الأمة سَلَفها وخلَفها وجوب ذلك الأقوم من الحشوية وجهَّال أهل الحديث ،
فإنّهم أنكروا فعال الفئة الباغية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح ،
مع ما سمعوا من قوله تعالى : ) فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى
أَمْرِ اللَّهِ ( وزعموا أنّ السلطان لا يُنكرُ عليه الظلم والجور وقتل النفس التي
حرم الله ، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح . وقد ذكر أبو
بكر الرازي في أحكامه فصلاً مشبعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ذكر فيه
أنّ دماء أصحابِ الضرائب والمكوس مباحة ، وأنه يجب على المسلمين قتلهم ، ولكل واحد
من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار له ولا تقدم بالقول .
يدعون إلى الخير هو الإسلام قاله مقاتل ، أو العمل بطاعة الله قاله أبو سليمان
الدمشقي ، أو الجهاد والإسلام . وقرأ الجمهور : ولْتكن بسكون اللام . وقرأ أبو عبد
الرحمن ، والحسن ، والزهري ، وعيسى بن عمر ، وأبو حيوة : بكسرها ، وعلَّةُ بنائها
على الكسر مذكورة في النحو . وجوزوا في ( ولتكن ) أن تكون تامة ، فيكون منكم
متعلقاً بها ، أو بمحذوف على أنه حال ، إذ لو تأخر لكان صفة لأمّة . وأن تكون
ناقصة ، ويدعون الخبر ، وتعلق من على الوجهين السابقين . وجوزوا أيضاً أنْ يكونَ
منكم الخبر ، ويدعون صفة . ومحط الفائدة إنما هو في يدعون فهو الخبر .
و ) يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( ذكر أولاً الدعاء
إلى الخير وهو عام في التكاليف من الأفعال والتروك ، ثم جيء بالخاص إعلاماً بفضله
وشرفه لقوله : ) وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ
" صفحة رقم 24 "
و ) الصَّلَواةِ الْوُسْطَى ( وفسر بعضهم المعروف بالتوحيد ، والمنكر بالكفر . ولا
شك أن التوحيد رأس المعروف ، والكفر رأس المنكر . ولكنَّ الظاهر العموم في كل
معروف مأمور به في الشرع ، وفي كل منهي نهي عنه في الشرع . وذكر المفسرون أحاديث
مروية في فضل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وفي إثم من ترك ذلك ، وآثاراً عن
الصحابة وغيرهم في ذلك ، وما طريق الوجوب هل السمع وحده كما ذهب إليه أبو هاشم ؟
أم السمع والعقل كما ذهب إليه أبوه أبو علي ؟ وهذا على آراء المعتزلة . وأما شرائط
النهي والوجوب ، ومن يباشر ، وكيفية المباشرة ، وهل ينهى عما يرتكبه ، لم تتعرض
الآية لشيء من ذلك ، وموضوع هذا كله علم الفقه .
وقرأ عثمان ، وعبد الله ، وابن الزبير : وينهون عن المنكر ، ويستعينون الله على ما
أصابهم . ولم تثبت هذه الزيادة في سواد المصحف ، فلا يكون قرآناً . وفيها إشارة
إلى ما يصيب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الأذى كما قال تعالى : )
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ
( وأولئك هم المفلحون : تقدم الكلام على هذه الجملة في أول البقرة . وهو تبشير
عظيم ، ووعد كريم لمن اتصف بما قبل هذه الجملة .
آل عمران : ( 105 ) ولا تكونوا كالذين . . . . .
( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا
جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ ( هذه والآية قبلها كالشرح لقوله تعالى : ) وَاعْتَصِمُواْ
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( فشرح الإعتصام بحبل الله بقوله :
) وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ ( ولا سيما على قول الزجاج . وشرح ) وَلاَ
تَفَرَّقُواْ ( بقوله : ) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ ( قال ابن
عباس : هم الأمم السالفة التي افترقت في الدين . وقال الحسن : هم اليهود والنصارى
اختلفوا وصاروا فرقاً . وقال : قتادة هم أصحاب البدع من هذه الأمة . زاد الزمخشري
: وهم المشبهة ، والمجبرة ، والحشوية ، وأشباههم . وقال أبو أمامة : هم الحرورية ،
وروي في ذلك حديث : قال بعض معاصرينا : في قول قتادة وأبي أمامة نظر ، فإنّ مبتدعة
هذه الأمة والحرورية لم يكونوا إلا بعد موت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بزمان
، وكيف نهى الله المؤمنين أن يكونوا كمثل قوم ما ظهر تفرقهم ولا بدعهم إلا بعد
انقطاع الوحي وموت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؟ فإنّك لا تنهى زيداً أنْ يكونَ
مثلَ عمرو إلا بعد تقدّم أمر مكروه جرى من عمرو ، وليس لقوليهما وجه إلا أن يكون
تفرقوا واختلفوا من الماضي الذي أراد به المستقبل ، فيكون المعنى : ولا تكونوا
كالذين يتفرقون ويختلفون ، فيكون ذلك من إعجاز القرآن وإخباره بما لم يقع ثم وقع .
انتهى كلامه . والبيِّناتُ على قول ابن عباس : آياتُ الله التي أنزلت على أهل كل
ملة . وعلى قول الحسن : التوراة . وعلى قول قتادة وأبي أمامة : القرآن )
وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( يتّصفُ عذابُ الله بالعظيم ، إذ هو أمر
نسبي يتفاوت فيه رتب المعذَّبين ، كعذاب أبي طالب وعذاب العصاة من أمة محمد ( صلى
الله عليه وسلم ) ) .
آل عمران : ( 106 ) يوم تبيض وجوه . . . . .
( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ( الجمهور على أن ابيضاض الوجوه
واسودادها على حقيقة اللون . والبياض من النور ، والسواد من الظلمة . قال الزمخشري
: فمن كان من أهل نور الدين وُسمَ ببياض اللون وإسفاره وإشراقه ، وابيضت صحيفته
وأشرقت ، وسعى النور بين يديه وبيمينه . ومن كان من أهل ظلمة الباطل وُسمَ بسواد
اللون وكسوفه وكمده واسودت صحيفته وأظلمت ، وأحاطت به الظلمة من كل جانب . انتهى
كلامه . وقال ابن عطية : وبياض الوجوه عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة
الله قاله الزجاج وغيره . ويحتمل عندي أن تكون من آثار الوضوء كما قال ( صلى الله
عليه وسلم ) ) : أأنتم الغر المحجلون ) من آثار الوضوء . وأما سوادُ الوجوه فقال
المفسرون : هو عبارة عن
" صفحة رقم 25 "
ارتدادها وأظلامها بغمم العذاب . ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك تسويداً ينزله الله بهم
على جهة التشويه والتمثيل بهم ، على نحو حشرهم زرقاً ، وهذه أقبح طلعة . ومن ذلك
قول بشار : وللبخيل على أمواله علل
زرق العيون عليها أوجه سود
انتهى كلامه . وقال قوم : البياض والسواد مثلان عبر بهما عن السرور والحزن لقوله
تعالى : ) ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا ( وكقول العرب لمن نال أمنيته : ابيض وجهه .
ولمن جاء خائباً : جاء مسودّ الوجه . وقال أبو طالب :
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
وقال امرؤ القيس :
وأوجههم عند المشاهد غران
وقال زهير :
وأبيض فياض يداه غمامة
وبدأ بالبياض لشرفه ، وأنه الحالة المثلى . وأسند الابيضاضَ والإسوداد إلى الوجوه
وإنْ كان جميع الجسد أبيض أو أسود ، لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه ، وهو
أشرف أعضائه . والمراد : وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين قاله أبيُّ بن كعب . وقيل :
وجوه المهاجرين والأنصار ، ووجوه بني قريظة والنضير . وقيل : وجوه أهل السنة ،
ووجوه أهل البدعة . وقال عطاء : وجوه المخلصين ، ووجوه المنافقين . وقيل : وجوه
المؤمنين ، ووجوه أهل الكتاب والمنافقين . وقيل : وجوه المجاهدين ، ووجوه الفرار
من الزحف . وقيل : تبيض بالقناعة ، وتسودّ بالطمع . وقال الكلبي : تسفر وجوه من
قدر على السجود إذا دعوا إليه ، وتسودّ وجوه مَنْ لم يقدر .
واختلفوا في وقت ابيضاض الوجوه واسودادها ، فقيل : وقت البعث من القبور . وقيل :
وقت قراءة الصحف . وقيل : وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان . وقيل : عند قوله
: ) وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ).
وقيل : وقت أنْ يُؤمَرَ كل فريق بأن يتبع معبوده والعامل في ) يَوْمَ تَبْيَضُّ (
ما يتعلق به . ولهم عذاب عظيم أيْ وعذابٌ عظيم كائن لهم يوم تبيض وجوه . وقال
الحوفي : العامل ، فيه محذوف تدل عليه الجملة السابقة ، أي : يعذبون يوم تبيض وجوه
. وقال الزمخشري : بإضمار اذكروا ، أو بالظرف وهو لهم . وقال قوم : العامل عظيم ،
وضعف من جهة المعنى لأنه يقتضي أنّ عظمَ العذاب في ذلك اليوم ، ولا يجوز أنْ يعمل
فيه عذاب ، لأنه مصدر قد وصف . وقرأ يحيى بن وثاب ، وأبو رزين العقيلي ، وأبو نهيك
: تبيض وتسودّ بكسر التاء فيهما ، وهي لغة تميم : وقرأ الحسن ، والزهري ، وابن
محيصن ، وأبو الجوزاء : تبياض وتسواد بألف فيهما . ويجوز كسر التاء في تبياض
وتسواد ، ولم ينقل أنه قرىء بذلك .
( فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
" صفحة رقم 26 "
فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( هذا تفصيل لأحكام من تبيض
وجوههم وتسودّ . وابتدىء بالذين اسودّت للاهتمام بالتحذير من حالهم ، ولمجاورة
قوله : وتسودّ وجوه ، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم . فيكون مطلع الكلام
ومقطعه شيئاً يسر الطبع ، ويشرح الصدر . وقد تقدّم الكلام على أما في أول البقرة
وأنها حرف شرط يقتضي جواباً ، ولذلك دخلت الفاء في خبر المبتدأ بعدها ، والخبر هنا
محذوف للعلم به . والتقدير : فيقال لهم : أكفرتم ؟ كما حذف القول في مواضع كثيرة
كقوله : ) وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ
عَلَيْكُمُ ( أي يقولون : سلام عليكم . ولمّا حذف الخبر حذفت الفاء ، وإنْ كان
حذفُها في غير هذا لا يكون إلا في الشعر نحو قوله : فأمّا القتال لا قتال لديكم
ولكنّ سيرا في عرض المواكب
يريد فلا قتال ، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في
كتابه الموسوم بنهاية التأميل في أسرار التنزيل : قد اعترض على النحاة في قولهم :
لما حذف . يقال : حذفت الفاء بقوله تعالى : ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ
أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ ( تقديره فيقال لهم : أفلم تكن آياتي
تتلى عليكم ، فحذف فيقال ، ولم تحذف الفاء . فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب :
فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، فوقع ذلك جواباً له . ولقوله : أكفرتم ، ومن نظم
العرب : إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر
يقتضي جواباً ثم يجعلون لهما جواباً واحداً ، كما في قوله تعالى : ) فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ
هُمْ يَحْزَنُونَ ( فقوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب للشرطين ، وليس أفلم
جواب أمّا ، بل الفاء عاطفة على مقدّر والتقدير : أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي
. انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي . أمّا قوله : قد اعترض
على النحاة فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ، لأنه ما من
نحوي إلا خرّج الآية على إضمار فيقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فحوى الخطاب
، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدّر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف
للإجماع ، فلا التفات إليه . وأمّا ما اعترض به من قوله : ) وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى ( وأنهم قدروه فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ،
فحذف فيقال : ولم تحذف الفاء ، فدل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح ، بل هذه
الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء ، فيقال التي هي جواب أمّا حتى يقال حذف ،
فيقال : وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب أمّا ، ويقال بعدها محذوف . وفاء
أفلم تحتمل وجهين ، أحدهما أن تكون زائدة . وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء
قولَ الشاعر : يموت أناس أو يشيب فتاهم
ويحدث ناس والصغير فيكبر
يريد : يكبر وقول الآخر : لما اتقى بيد عظيم جرمها
فتركت ضاحي جلدها بتذبذب
" صفحة رقم 27 "
يريد : تركت . وقال زهير : أراني إذا ما بت بتّ على هوى
فثم إذا أصبحت أصبحت غادياً
يريد ثم . وقول الأخفش : وزعموا أنهم يقولون أخوك ، فوجد يريدون أخوك وجد . والوجه
الثاني : أن تكون الفاء تفسيرية ، وتقدم الكلام فيقال لهم : ما يسوؤهم ، فالم تكن
آياتي ، ثم اعتنى بهمزة الاستفهام فتقدمت على الفاء التفسيرية ، كما تقدم على
الفاء التي للتعقيب في نحو قوله : ) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ ( وهذا على
مذهب من يثبت أن الفاء تكون تفسيرية نحو : توضأ زيد فغسل وجهه ويديه إلى آخر أفعال
الوضوء . فالفاء هنا ليست مرتبة ، وإنما هي مفسرة للوضوء . كذلك تكون في )
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ( مفسرة للقول الذي يسوؤهم وقول هذا
الرجل . فلما بطل هذا يعني أن يكون الجواب فذوقوا أي تعين بطلان حذف ما قدره
النحويون من قوله ، فيقال لهم لوجود هذا الفاء في أفلم تكن ، وقد بينا أن ذلك
التقدير لم يبطل ، وأنه سواء في الآيتين . وإذا كان كذلك فجواب أمّا هو ، فيقال في
الموضعين ، ومعنى الكلام عليه . وأمّا تقديره : أأهملتكم ، فلم تكن آياتي ، فهذه
نزعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشري يقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يصح
عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن
التقديم على الهمزة ، لكنْ اعتنى بالاستفهام ، فقدم على حروف العطف كما ذهب إليه
سيبويه وغيره من النحويين . وقد رجع الزمخشري أخيراً إلى مذهب الجماعة في ذلك ،
وبطلان قوله الأول مذكور في النحو . وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك .
وعلى تقدير قول هذا الرجل : أأهملتكم ، فلا بدّ من إضمار القول وتقديره ، فيقال :
أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ ، والفاء جواب أما . وهو الذي يدل عليه
الكلام ، ويقتضيه ضرورة . وقول هذا الرّجل : فوقع ذلك جواباً له ، ولقوله : أكفرتم
، يعني أنْ فذوقوا العذاب جواب لأمّا ، ولقوله : أكفرتم ؟ والاستفهام هنا لا جواب
له ، إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم . وأمّا قول هذا الرّجل : ومن
نظم العرب إلى آخره ، فليس كلام العرب على ما زعم ، بل يجعل لكل جواب أنَّ لا يكن
ظاهراً فمقدر ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً ، وأما دعواه ذلك في قوله تعالى : )
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم ( الآية . وزعمه أن قوله تعالى : ) فَلاَ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ ( جواب للشرطين . فقولٌ روي عن الكسائي . وذهب بعض الناس إلى أن جواب
الشرط الأول محذوف تقديره : فاتبعوه . والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب
الشرط الأول . وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله : ) فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُم ( الآية . والهمزة في ) أَكْفَرْتُمْ ( للتقرير والتوبيخ والتعجيب
من حالهم . والخطاب في أكفرتم إلى آخره يتفرع على الاختلاف في الذين اسودت وجوههم
، فإنْ كانوا الكفار فالتقدير : بعد أن آمنتم حين أخذ عليكم الميثاق وأنتم في صلب
آدم الكذّر ، وإن كانوا أهل البدع فتكون البدعة المخرجة عن الإيمان . وإن كانوا
قريظة والنضير فيكون إيمانهم به قبل بعثه ، وكفرهم به بعده ، أو إيمانهم بالتوراة
وما جاء فيها من نبوته ووصفه والأمر باتباعه ، وإن كانوا المنافقين فالمراد بالكفر
كفرهم بقلوبهم ، وبالإيمان الإيمان بألسنتهم . وإن كانوا الحرورية أو المرتدين فقد
كان حصل منهم الإيمان حقيقة وفي قوله : ) أَكْفَرْتُمْ ). قالوا : تلوين الخطاب
وهو أحد أنواع الالتفات ، لأن قوله : فأما الذين اسودت غيبة ، وأكفرتم مواجهة بما
كنتم ، الباء سببية وما مصدرية .
آل عمران : ( 107 ) وأما الذين ابيضت . . . . .
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ ( انظر تفاوت ما بين التقسيمين هناك جمع لمن اسودّت وجوههم بين التعنيف
بالقول
" صفحة رقم 28 "
والعذاب ، وهنا جعلهم مستقرّين في الرحمة ، فالرّحمة ظرف لهم وهي شاملتهم . ولما
أخبر تعالى أنَّهم مستقرّون في رحمة الله بيَّن أنّ ذلك الاستقرار هو على سبيل
الخلود لا زوال منه ولا انتقال ، وأشار بلفظ الرّحمة إلى سابق عنايته بهم ، وأن
العبد وإنْ كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى . وقال ابن عباس :
المراد بالرحمة هنا الجنة ، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعاراً بأنَّ
جانب الرحمة أغلب . وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه ، بل قال : )
فَذُوقُواْ الْعَذَابَ ( ولما ذكر العذاب علّله بفعلهم ، ولم ينص هنا على سبب
كونهم في الرحمة . وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر : فأما الذين اسوادت ، وأما الذين
ابياضت بألف . وأصل افعلّ هذا افعلل يدل ، على ذلك اسوددت واحمررت ، وأن يكون للون
أو عيب حسي ، كأسود ، وأعوج ، واعوز . وأن لا يكون من مضعف كاحم ، ولا معتل لام
كألمى ، وأنْ لا يكون للمطاوعة . وندر نحو : انقضّ الحائط ، وابهار الليل ، وإشعار
الرجل بفرق شعره ، وشذا رعوى ، لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب مطاوعاً لرعوته
بمعنى كففته . وأما دخول الألف فالأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها ، ولزومه
إذا لم يجأ بهما . وقد يكون العكس . فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى : )
مَدَّ ( ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى : ) تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ (
واحمرّ خجلاً . وجواب أما ففي الجنة ، والمجرور خبر المبتدأ ، أي فمستقرون في
الجنة . وهم فيها خالدون جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، لم تدخل في حيز أما ، ولا في
إعراب ما بعده . دلّت على أنَّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود . وقال الزمخشري
: ( فإن قلت ) كيف موقع قوله : هم فيها خالدون بعد قوله : ففي رحمة الله ؟ ( قلت )
: موقع الاستئناف . كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا
يظعنون عنها ولا يموتون انتهى . وهو حسن . وقيل : جواب أما ففي الجنة هم فيها
خالدون ، وهم فيها خالدون ابتداء . وخبر وخالدون العامل في الظرفين ، وكرر على
طريق التوكيد لما يدل عليه من الاستدعاء والتشويق إلى النعيم المقيم .
آل عمران : ( 108 ) تلك آيات الله . . . . .
( تِلْكَ ءايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ ( الإشارة بتلك قيل : إلى القرآن كله . وقيل : إلى ما أنزل
من الآيات في أمر الأوس والخزرج واليهود الذين مكروا بهم ، والتقدم إليهم بتجنب
الافتراق . وكشف تعالى للمؤمنين عن حالهم وحال أعدائهم بقوله : ) يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ( وقيل : تلك بمعنى هذه لما انقصت صارت كأنها بعدت .
وقال الزمخشري : تلك آيات الله الواردة في الوعد والوعيد ، وكذا قال ابن عطية .
قال الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفارة وتنعيم المؤمنين
.
وقرأ الجمهور نتلوها بالنون على سبيل الالتفات ، لما في إسناد التلاوة للمعظم ذاته
من الفخامة والشرف . وقرأ أبو نهيك بالياء . والأحسن أنْ يكون الضمير المرفوع في
نتلوها في هذه القراءة عائد على الله ، ليتحد الضمير . وليس فيه التفات ، لأنه
ضمير غائب عاد على اسم غائب . ومعنى التلاوة : القراءة شيئاً بعد شيء ، وإسناد ذلك
إلى الله على سبيل المجاز ، إذ التالي هو جبريلٌ لما أمره بالتلاوة كان كأنه هو
التالي تعالى . وقيل : يجوز أن يكون معنى يتلوها ينزلها متوالية شيئاً بعد شيء .
وجوزوا في قراءة أبي نهيك أن يكون ضمير الفاعل عائداً على جبريل وإنْ لم يجر له
ذكر للعلم به .
ومعنى بالحق أي بإخبار الصدق . وقيل : المعنى متضمنة الأفاعيل التي هي أنفسها حق من
كرامة قوم وتعذيب آخرين . وتلك مبتدأ أو آيات الله خبره ، ونتلوها جملة حالية .
قالوا : والعامل فيها اسم الإشارة . وجوزوا أن يكون آيات الله بدلاً ، والخبر
نتلوها . وقال الزجاج : في الكلام حذف تقديره تلك آيات القرآن المذكورة حجج الله
ودلائله انتهى . فعلى هذا الذي قدره يكون خبر المبتدأ محذوف ، لأنّه عنده بهذا
التقدير يتم معنى الآية . ولا حاجة إلى تقدير هذا
" صفحة رقم 29 "
المحذوف ، إذ الكلام مستغن عنه تام بنفسه . والباء في بالحق باء المصاحبة ، فهي في
موضع الحال من ضمير المفعول أي : ملتبسة بالحق . وقال الزمخشري : ملتبسة بالحق
والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه انتهى . فدسّ في قوله بما يستوجبانه
دسيسة اعتزالية . ثم أخبر تعالى أنه لا يريد الظلم ، وهذا لم يرده لم يقع منه لأحد
. فما وقع منه تعالى من تنعيم قوم وتعذيب آخرين ليس من باب الظلم ، والظلم وضع الشيء
في غير موضعه . روى أبو ذر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال فيما يروى عن
ربه عز وجل أنه قال : ) يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً
فلا تظالموا ( وفي الحديث الصحيح أيضاً أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال
: ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ الْمُؤْمِنُ حَسَنَةٌ يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ
إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا
وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ
قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا ( وقيل : المعنى لا يزيد في
إساءة المسيء ولا ينقص من إحسان المحسن ، وفيه تنبيه على أن تسويد الوجوه عدل
انتهى .
وللعالمين في موضع المفعول للمصدر الذي هو ظلم ، والفاعل محذوف مع المصدر التقدير
: ظلمه ، والعائد هو ضمير الله تعالى أي : ليس الله مريداً أن يظلم أحداً من
العالمين . ونكر ظلماً لأنّه في سياق النفي ، فهو يعم . وقيل : المعنى أنه تعالى
لا يريد ظلم العالمين بعضهم لبعض . واللفظ ينبو عن هذا المعنى ، إذ لو كان هذا
المعنى مراداً لكان من أحق به من الكلام ، فكان يكون التركيب : وما الله يريد
ظلماً من العالمين . وقال الزمخشري : وما الله يريد ظلماً فيأخذ أحذاً بغير جرم ،
أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ينقص من ثواب محسن ، ثم قال : فسبحان من يحلم عن من
يصفه بإرادة القبائح والرّضا بها ، انتهى كلامه جارياً على مذهبه الاعتزالي .
ونقول له : فسبحان من يحلم عمن يصفه بأن يكون في ملكه ما لا يريد ، وإن إرادة
العبد تغلب إرادة الرب تعالى الله عن ذلك .
آل عمران : ( 109 ) ولله ما في . . . . .
( وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الامُورُ ( لما ذكر أحوال الكافرين والمؤمنين ، وأنه يختص بعمل من آمن فيرحمهم به
، ويختص بعمل من كفر فيعذبهم ، نبه على أنَّ هذا التصرف هو فيما يملكه ، فلا
اعتراض عليه تعالى . ودلت الآية على اتساع ملكه ومرجع الأمور كلها إليه ، فهو غني
عن الظلم ، لأن الظلم إنما يكون فيما كان مختصاً به عن الظالم . وتقدم شرح هاتين
الجملتين فأغنى ذلك عن إعادته .
قالوا وتضمنت هذه الآيات الطباق : في تبيضّ وتسودّ ، وفي اسودّت وابيضّت ، وفي
أكفرتم بعد إيمانكم ، وفي بالحق وظلماً . والتفصيل : في فأمّا وأمّا . والتجنيس :
المماثل في أكفرتم وتكفرون . وتأكيد المظهر بالمضمر في : ففي رحمة الله هم فيها خالدون
. والتكرار : في لفظ الله . ومحسنه : أنه في جمل متغايرة المعنى ، والمعروف في
لسان العرب إذا اختلفت الجمل أعادت المظهر لا المضمر ، لأن في ذكره دلالة على
تفخيم الأمر وتعظيمه ، وليس ذلك نظير .
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
" صفحة رقم 30 "
لاتحاد الجملة . لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصداً للتفخيم . والإشارة
في قوله : تلك ، وتلوين الخطاب في فأمّا الذين اسودّت وجوههم أكفرتم ، والتشبيه
والتمثيل في تبيض وتسودّ ، إذا كان ذلك عبارة عن الطلاقة والكآبة والحذف في مواضع
.
آل عمران : ( 110 ) كنتم خير أمة . . . . .
( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( قال عكرمة ومقاتل : نزلت
في ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وقد قال لهم
بعض اليهود : ديننا خير مما تدعوننا إليه ، ونحن خير وأفضل . وقيل : نزلت في
المهاجرين . والذي يظهر أنها من تمام الخطاب الأول في قوله : ) مّسْتَقِيمٍ
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ ( وتوالت بعد هذا مخاطبات
المؤمنين من أوامر ونواهٍ ، وكان قد استطرد من ذلك لذكر مَنْ يبيض وجهه ويسودّ ،
وشيء من أحوالهم في الآخرة ، ثم عاد إلى الخطاب الأول فقال تعالى : كنتم خير أمّة
تحريضاً بهذا الإخبار على الانقياد والطواعية . والظاهر أنّ الخطاب هو لمن وقع
الخطاب له أولاً وهم : أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فتكون الإشارة
بقوله : أمة إلى أمةٍ معينة وهي أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فالصحابة هم
خيرها .
وقال الحسن ومجاهد وجماعة : الخطاب لجميع الأمة بأنهم خير الأمم ، ويؤيد هذا
التأويل كونهم ) شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( وقوله : ) نَحْنُ وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ ( الحديث وقوله : ) نَحْنُ ).
وطاهر كان هنا أنها الناقصة ، وخير أمة هو الخبر . ولا يراد بها هنا الدلالة على
مضي الزمان وانقطاع النسبة نحو قولك : كان زيد قائماً ، بل المراد دوام النسبة
كقوله : ) عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً
وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( ) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى
إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ( وكون كان تدل على الدوام ومرادفه لم
يزل قولاً مرجوحاً ، بل الأصح أنها كسائر الأفعال تدل على الانقطاع ، ثم قد تستعمل
حيث لا يراد الانقطاع . وقيل : كان هنا بمعنى صار ، أيْ صرتم خير أمة . وقيل : كان
هنا تامة ، وخير أمة حال . وأبعد من ذهب إلى أنّها زائدة ، لأن الزائدة لا تكون
أول كلام ، ولا عمل لها . وقال الزمخشري : كان عبارة عن وجود الشيء في من ماض على
سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارىء . ومنه قوله
تعالى : ) وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً ).
ومنه قوله : كنتم خير أمة ، كأنه قيل : وجدتم خير أمة انتهى كلامه . فقوله : أنها
لا تدل على عدم سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار ، فإذا كانت بمعنى صار دلت على عدم
سابق . فإذا قلت : كان زيد عالماً بمعنى صار ، دلت على أنه انتقل من حالة الجهل
إلى حالة العلم . وقوله : ولا على انقطاع طارىء قد ذكرنا قبل أن الصحيح أنها كسائر
الأفعال يدل لفظ المضي منها على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع .
وفرقٌ بين الدلالة والاستعمال ، ألا ترى أنك تقول : هذا اللفظ يدل على العموم ؟ ثم
تستعمل حيث لا يراد العموم ، بل المراد الخصوص . وقوله : كأنه قال وجدتم خير أمة ،
هذا يعارض أنها مثل قوله : ) وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( لأن تقديره
وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة ، وأن خير أمة حال . وقوله : وكان الله غفوراً لا
شك أنها هنا الناقصة فتعارضا . وقيل : المعنى : كنتم في علم الله . وقيل : في
اللوح المحفوظ . وقيل : فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم . وقيل : هو على الحكاية ،
وهو متصل بقوله : ) فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( أي فيقال لهم
في القيامة : كنتم في الدنيا خير أمة ، وهذا قول بعيد من سياق الكلام . وخير مضاف
للنكرة ، وهي أفعل تفضيل فيجب إفرادها وتذكيرها ، وإن كانت جارية على جمع .
والمعنى : أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها . وحكم عليهم بأنهم
خيرُ أمة ، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي : سبقهم إلى الإيما برسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ) ، وبدارهم إلى نصرته ، ونقلهم عنه علم الشريعة ، وافتتاحهم
البلاد . وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل . وكل من عمل بعدهم حسنة
فلهم مثل
" صفحة رقم 31 "
أجرها ، لأنّهم سببٌ في إيجادها ، إذْ هم الذين سنوها ، وأوضحوا طريقها ( من سنّ
سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً
.
ومعنى أخرجت : أظهرت وأبرزت ، ومخرجها هو الله تعالى ، وحذف للعلم به . وقال ابن
عباس : أخرجت من مكة إلى المدينة ، وهي جملة في موضع الصفة لأمة ، أي خير أمة
مخرجة ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة ، فتكون في موضع نصب أي مخرجة .
وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ الغيبة ، ولم يراع لفظ الخطاب . وهما طريقان
للعرب ، إذا تقدم ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب ، ثم جاء بعده خبره إسماً ، ثم جاء
بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفاً ، فتارة يراعى حال ذلك الضمير فيكون ذلك الصالح
للوصف على حسب الضمير فتقول : أنا رجل آمر بالمعروف ، وأنت رجل تأمر بالمعروف .
ومنه ) بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ( وأنك امرؤ فيك جاهلية : وأنت امرؤ قد
كثأت لك لحية
كأنك منها قاعد في جوالق
وتارةً يراعى حال ذلك الاسم ، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسبه من الغيبة . فتقول
: أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف . ومنه : كنتم خير أمة أخرجت
ولو جاء أخرجتم فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربياً فصيحاً . والأولى جعله
أخرجت للناس صفة لأمة ، لا لخير لتناسب الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في
تأمرون وما بعده . وظاهر قوله : للناس أنه متعلق بأخرجت . وقيل : متعلق بخير . ولا
يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس هذا اللفظ ، بل من موضع آخر . وقيل :
بتأمرون ، والتقدير تأمرون الناس بالمعروف . فلما قدم المفعول جر باللام كقوله : )
إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ( أي تعبرون الرؤيا ، وهذا فيه بعد . تأمرون
بالمعروف كلام خرج مخرج الثناء من الله قاله : الربيع . أو مخرج الشرط في الخيرية
، روى هذا المعنى عن : عمرو ، ومجاهد ، والزجاج . فقيل : هو مستأنف بين به كونهم
خير أمة كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم . وقال ابن عطية :
تأمرون وما بعده أحوال في موضع نصب انتهى . وقاله الراغب : والاستئناف أمكن وأمدح
. وأجاز الحوفي في أن يكون تأمرون خبراً بعد خبر ، وأن كون نعتاً لخير أمة . قيل :
وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان ، لأنّ الإيمان مشترك بين جميع
الأمم ، فليس المؤثر لحصول هذه الزيادة ، بل المؤثر كونهم أقوى حالاً في الأمر
والنهي . وإنا الإيمان شرط للتأثير ، لأنه ما لم يوجد لم يضر شيء من الطاعات
مؤثراً في صفة الخيرية ، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير . وإنما اكتفى بذكر
الإيمان بالله عن الإيمان بالنبوّة لأنه مستلزم له انتهى . وهو من كلام محمد بن
عمر الرازي . وقال الزمخشري : جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيماناً بالله ،
لأن مَن آمن ببعض ، ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو
ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه ، فكأنه غير مؤمن بالله . ويقولون : نؤمن ببعض
الآية انتهى . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي وتؤمنون برسول الله . والظاهر في
المعروف ، والمنكر العموم . وقال ابن عباس : المعروف الرسول ، والمنكر عبادة
الأصنام . وقال أبو العالية : المعروف التوحيد ، والمنكر الشرك .
( وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ( أي ولو آمن عامّتهم
" صفحة رقم 32 "
وسائرهم . ويعني الإيمان التام النافع . واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من
آمن كما يقول من صدق كان خيراً له ، أي لكان هو ، أي الإيمان . وعلّق كينونة
الإيمان خيراً لهم على تقدير حصوله توبيخاً لهم مقروناً بنصحه تعالى لهم أنْ لو
آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب الله . وخبر هنا أفعل التفضيل ، والمعنى : لكان خيراً
لهم مما هم عليه ، لأنهم إما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً في الرئاسة
واستتباع العوام ، فلهم في هذا خط دنيوي . وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم
يصيرون رؤساء في الإسلام ، والحظ الأخروي الجزيل بما وعدوه على الإيمان من إيتائهم
أجرهم مرتين . وقال ابن عطية : ولفظة خير صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كفرهم
وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظة خير من الشياع وتشعب الوجوه ،
وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها انتهى كلامه . وإبقاؤها على موضوعها
الأصلي أولى إذا أمكن ذلك ، وقد أمكن إذ الخيرية مطلقة فتحصل بأدنى مشاركة .
( مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( ظاهر اسم الفاعل التلبس
بالفعل ، فأخبر تعالى أنَّ من أهل الكتاب من هو ملتبس بالإيمان كعبد الله بن سلام
، وأخيه ، وثعلبة بن سعيد ، ومن أسلم من اليهود . وكالنجاشي ، وبحيرا ، ومن أسلم
من النصارى إذ كانوا مصدقين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبل أن يبعث وبعده
. وهذا يدل على أنّ المراد بقوله : ) وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ ( الخصوص ،
أي باقي أهل الكتاب إذ كانت طائفة منهم قد حصل لها الإيمان . وقيل : المراد باسم
الفاعل هنا الاستقبال . أي منهم من يؤمن ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب
العموم ، ويكون قوله : منهم المؤمنون إخباراً بمغيب وأنه سيقع من بعضهم الإيمان ،
ولا يستمرون كلهم على الكفر . وأخبر تعالى أن أكثرهم الفاسقون ، فدل على أن
المؤمنين منهم قليل . والألف واللام في المؤمنون وفي الفاسقون يدل على المبالغة والكمال
في الوصفين ، وذلك طاهر لأن من آمن بكتابه وبالقرآن فهو كامل في إيمانه ، ومن كذب
بكتابه إذ لم يتبع ما تضمنه من الإيمان برسول الله ، وكذب بالقرآن فهو أيضاً كامل
في فسقه متمرد في كفره .
آل عمران : ( 111 ) لن يضروكم إلا . . . . .
( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ
ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( هاتان الجملتان تضمنتا الأخبار بمعنيين مستقبلين وهو : إنّ
ضررهم إياكم لا يكون إلا أذى ، أي شيئاً تتأذون به ، لا ضرراً يكون فيه غلبة
واستئصال . ولذلك إن قاتلوكم خذلوا ونصرتم ، وكلا هذين الأمرين وقع لأصحاب رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ما ضرهم أحد من أهل الكتاب ضرراً يبالون به ، ولا
قصدوا جهة كافر إلا كان لهم النصر عليهم والغلبة لهم .
والظاهر أن قوله : إلا أذى استثناء متصل ، وهو استثناء مفرغ من المصدر المحذوف
التقدير : لن يضرُّوكم ضرراً إلا ضرراً يسيراً لا نكاية فيه ، ولا إجحاف لكم .
وقال الفراء والزجاج والطبري وغيرهم : هو استثناء منقطع ، والتقدير : لن يضروكم
لكنْ أذى باللسان ، فقيل : هو سماع كلمة الكفر . وقيل : هو بهتهم وتحريفهم . وقيل
: موعد وطعن . وقيل : كذب يتقوّلونه على الله قاله : الحسن ، وقتادة .
ودلّت هذه الجملة على ترغيب المؤمنين في تصلبهم في دينهم وتثبيتهم عليه ، وعلى
تحقير شأن الكفار ، إذ صاروا ليس لهم من ضرر المسلمين شيء إلاّ ما يصلون إليه من
إسماع كلمة بسوء .
( وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ( ، هذه مبالغة في عدم مكافحة
الكفار للمؤمنين إذا أرادوا قتالهم ، بل بنفس ما تقع المقابلة ولوا الأدبار ،
فليسوا ممن يغلب ويقتل وهو مقبل على قرنه غير مدبر عنه . وهذه الجملة جاءت
كالمؤكدة للجملة قبلها ، إذ تضمنت الإخبار أنهم لا تكون لهم غلبة ولا قهر ولا دولة
على المؤمنين ، لأنّ حصول ذلك إنما يكون سببه صدق القتال والثبات فيه ، أو النصر
المستمد من الله ، وكلاهما ليس لهم . وأتى بلفظ الإدبار لا بلفظ الظهور ، لما في
ذكر الإدبار من الإهانة دون ما في الظهور ، ولأن ذلك أبلغ في الانهزام والهرب .
ولذلك ورد في القرآن مستعملاً دون لفظ الظهور لقوله تعالى : ) سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( ) وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ( ثم
لا ينصرون : هذا استئنافُ أخبار أنّهم لا ينصرون أبداً . ولم يشرك في الجزاء فيجزم
، لأنه ليس مرتباً على الشرط ، بل التولية مترتبة على
" صفحة رقم 33 "
المقاتلة . والنصر منفى عنهم أبداً سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا ، إذ منع النصر سببه
الكفر . فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء ، كما أن جملة الشرط والجزاء
معطوفة على لن يضروكم إلا أذى . وليس امتناع الجزم لأجلهم كما زعم بعضهم زعم أن
جواب الشرط يقع عقيب المشروط . قال :
وثم للتراخي ، فلذلك لم تصلح في جواب الشرط . والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب
إليه هذا الذاهب خطأ ، لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح كلام . قال تعالى :
) وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم
( فجزم المعطوف بثم على جواب الشرط . وثمَّ هنا ليست للمهلة في الزمان ، وإنما هي
للتراخي في الإخبار . فالإخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسرّ
للنفس . ثم أخبر بعد ذلك بانتفاء النصر عنهم مطلقاً . وقال الزمخشري : التراخي في
المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الإدبار . (
فإن قلت ) : ما موقع الجملتين ، أعني منهم : المؤمنون ولن يضروكم ؟ ( قلت ) : هما
كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب ، كما يقول القائل :
وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ، ولذلك جاء من غير عاطف .
آل عمران : ( 112 ) ضربت عليهم الذلة . . . . .
( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ ( تقدم شرح هذه الجملة ، وهي وصف حال تقررت على
اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام . قال الحسن : جاء الإسلام والمجوس تجبي
اليهود الجزية ، وما كانت لهم غيرة ومنعه إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض ، فأزالها
بالإسلام ولم تبق لهم راية في الأرض .
( أَيْنَمَا ثُقِفُواْ ( عام في الأمكنة . وهي شرط ، وما مزيدة بعدها ، وثقفوا في
موضع جزم ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ، ومن أجاز تقديم جواب الشرط قال :
ضربت هو الجواب ، ويلزم على هذا أن يكون ضرب الذلة مستقبلاً . وعلى الوجه الأول هو
ماض يدل على المستقبل ، أي ضربت عليهم الذلة ، وحيثما ظفر بهم ووجدوا تضرب عليهم ،
ودل ذكر الماضي على المستقبل ، كما دل في قول الشاعر : وندمان يزيد الكأس طيبا
سقيت إذا تغوّرت النجوم
التقدير : سقيت ، وأسقية إذا تغوّرت النجوم .
( إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النَّاسِ ( هذا استثناء ظاهره
الانقطاع ، وهو قول : الفراء ، والزجاج . واختيار ابن عطية ، لأن الذلة لا تفارقهم
. وقدره الفراء : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، فحذف ما يتعلق به الجار كما قال :
حميد بن نور الهلالي :
رأتني بحبليها فصدت مخافة
ونظره ابن عطية بقوله تعالى : ) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً
إِلاَّ ( قال : لأن بادىء الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ . وأن الحبل من الله ومن
الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك . وإنما في الكلام محذوف يدركه فهم السامع
الناظر في الأمر وتقديره : في أمتنا ، فلا نجاة من الموت إلا بحبل . نتهى كلامه .
وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعاً ، لأنه مستثنى من جملة مقدّرة وهي قوله :
فلا نجاة من الموت ، وهو متصل على هذا التقدير فلا يكون استثناء منقطعاً من الأول
ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعاً متصلاً . والاستثناء المنقطع كما قرر
في علم النحو على قسمين منه : ما يمكن أن يتسلط عليه العامل ، ومنه ما لا يمكن فيه
ذلك ، ومنه هذه الآية . على تقدير الانقطاع ، إذ التقدير : لكن اعتصامهم بحبل من
الله وحبل من الناس ينجيهم من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال أموالهم . ويدل
على أنه منقطع الأخبار بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة : ) وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ ( فلم يستثن
" صفحة رقم 34 "
هناك . وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل قال : وهو استثناء من أعم عام
الأحوال ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل
من الله وحبل من الناس ، يعني : ذمة الله وذمة المسلمين . أي لا عزلهم قط إلا هذه
الواحدة ، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية انتهى كلامه . وهو متجه
وشبَّه العهد بالحبل لأنه يصل قوماً بقوم ، كما يفعل الحبل في الإجرام . والظاهر
في تكرار الحبل أنه أريد حبلان ، وفسر حبل الله بالإسلام ، وحبل الناس بالعهد
والذمة . وقيل : حبل الله هو الذي نص الله عليه من أخذ الجزية . والثاني : هو الذي
فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه وينقص بحسب الاجتهاد . وقيل : المراد حبل واحد ، إذ
حبل المؤمنين هو حبل الله وهو العهد .
( وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذالِكَ
بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الاْنْبِيَاء
بِغَيْرِ حَقّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ ( تقدم تفسير نظائر هذه الجمل فأغنى ذلك عن
إعادته هنا .
2 ( ) لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ
ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَائِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ
وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ
أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هِاذِهِ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا
كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ
فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ
يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ
أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاٌّ
يَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَآأَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ
يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ
ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاٌّ نَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ
قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن
تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا
وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ
بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( ) ) 2
آل عمران : ( 113 ) ليسوا سواء من . . . . .
الآناء : الساعات . وفي مفردها لغات أني كمعي ، وأني كفتى ، وأني كنحي ، وأتى كظبي
، وانو كجرو
" صفحة رقم 35 "
الصر : البرد الشديد المحرق . وقيل : البارد بمعنى الصرصر كما قال : لا تعدلن إناء
بين تضر بهم
نكباء ضرّ بأصحاب المحلات
وقالت ليلى الأخيلية : ولم يغلب الخصم الألد ويملأ
الجفان سديفاً يوم منكباء صرصر
وقال ابن كيسان : هو صوت لهب النار ، وهو اختيار الزجاج من الصرير . وهو الصوت من
قولهم : صرَّ الشيء ، ومنه الريح الصرصر . وقال الزجاج : والصرُّ صوت النار التي
في الريح .
البطانة في الثوب بإزاء الظهارة ، ويستعار لمن يختصه الإنسان كالشعار والدثار .
يقال : بطن فلان من فلان بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به ، داخلاً في أمره . وقال
الشاعر : أولئك خلصاني نعم وبطانتي
وهم عيبتي من دون كل قريب
ألوت في الأمر : قصرت فيه . قال زهير : سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم
فلم يفعلوا ولم يليموا لم يألووا
أي لم يقصروا . الخبال والخبل : الفساد الذي يلحق الحيوان . يقال : في قوائم الفرس
خبل وخبال أي فساد من جهة الاضطراب . والخبل والجنون . ويقال : خبله الحب أي أفسده
.
البغضاء : مصدر كالسراء والبأساء يقال : بغض الرجل فهو بغيض ، وأبغضته أنا اشتدت
كراهتي له .
الأفواه معروفة ، والواحد منها في الأصل فوه . ولم تنطق به العرب بل قالت : فم .
وفي الفم لغات تسع ذكرت في بعض كتب النحو .
العض : وضع الأسنان على الشيء بقوة ، والفعل منه على فِعل بكسر العين ، وهو بالضاد
. فأماعظ الزمان وعظ الحرب فهو بالظاء أخت الطاء قال : وعض زمان يا ابن مروان لم
يدع
من المال إلا مسحتا أو مجلف
والعُض بضم العين علف أهل الأمصار مثل : الكسب والنوى المرضوض : يقال منه : أعض
القوم إذا أكل
" صفحة رقم 36 "
إبلهم العض . وبعير عضاضيّ أي سمين ، كأنه منسوب إليه . والعِض بالكسر الداهية من
الرجال .
الأنامل جمع أنملة ، ويقال : بفتح الميم وضمها ، وهي أطراف الأصابع . قال ابن عيسى
: أصلها النمل المعروف ، وهي مشبهة به في الدقة والتصرف بالحركة . ومنه رجل نمل :
أي نمام .
الغيض : مصدر غاضة ، وغيض اسم علم .
الفرح : معروف يقال منه : فرح بكسر العين .
الكيد : المكر كاده يكيده مكر به . وهو الاحتيال بالباطل . قال ابن قتيبة : وأصله
المشقة من قولهم : فلان يكيد بنفسه ، أي يعالج مشقات النزع وسكرات الموت .
( لَيْسُواْ سَوَاء مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ ( سببت النزول إسلام
عبد الله بن سلام وغيره من اليهود ، وقول الكفار من أحبارهم : ما آمن بمحمد إلا
شرارنا ، ولو كانوا خياراً ما تركوا دين آبائهم قاله : ابن عباس ، وقتادة ، وابن
جريج . والواو في ليسوا هي لأهل الكتاب السابق ذكرهم في قوله : ) وَلَوْ ءامَنَ
أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ
وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( والأصح : أن الواو ضمير عائد على أهل الكتاب ،
وسواء خبر ليس . والمعنى : ليس أهل الكتاب مستوين ، بل منهم من آمن بكتابه
وبالقرآن ممن أدرك شريعة الإسلام ، أو كان على استقامة فمات قبل أن يدركها .
ومن أهل الكتاب أمة قائمة : مبتدأ وخبر . وقال الفراء : أمة مرتفعة بسواء ، أي ليس
أهل الكتاب مستوياً من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة ، فحذفت
هذه الجملة المعادلة ، ودل عليها القسم الأول كقوله : عصيت إليها القلب إني لأمره
سميع فما أدري أرشد طلابها
التقدير : أم غي فحذف لدلالة أرشد وقال : أراك فما أدري أهم ضممته
وذو الهم قدماً خاشع متضائل
التقدير : أم غيره . قال الفراء : لأن المساواة تقتضي شيئين : سواء العاكف فيه
والبادي سواء محياهم ومماتهم . ويضعف قول الفراء من حيث الحذف . ومن حذف وضع
الظاهر موضع المضمر ، إذ التقدير : ليس أهل الكتاب مستوياً منهم أمة قائمة كذا ،
وأمة كافرة . وذهب أبو عبيدة : إلى أن الواو في ليسوا علامة جمع لا ضمير مثلها ،
في قول الشاعر : يلومونني في شراء النخي
ل قومي وكلهم ألوم
واسم ليس : أمّة قائمة ، أي ليس سواء من أهل الكتاب أمّةً قائمة موصوفة بما ذكروا
أمة كافرة .
قال ابن عطية : وما قاله أبو عبيدة خطأ مردود انتهى . ولم يبين جهة الخطأ ، وكأنه
توهم أن اسم ليس هو أمة قائمة فقط ، وأنه لا محذوف . ثمّ إذ ليس الغرضُ تفاوت
الأمة القائمة التالية ، فإذا قدر ثم محذوف لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردوداً .
قيل : وما قاله أبو عبيدة هو على لغة أكلوني البراغيث ، وهي لغة رديئة والعرب على
خلافها ، فلا يحمل عليها مع ما فيه من مخالفة الظاهر
" صفحة رقم 37 "
انتهى . وقد نازع السهيلي النحويين في قولهم : إنها لغة ضعيفة ، وكثيراً ما جاءت
في الحديث . والإعراب الأول هو الظاهر . وهو : أن يكون من أهل الكتاب أمةٌ قائمة
مستأنف بيان لانتفاء التسوية كما جاء ) يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ( بياناً لقوله
: ) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ( والمراد بأهل الكتاب واليهود والنصارى .
وأمة قائمة أي مستقيمة من أقمت العود فقام ، أي استقام . قال مجاهد والحسن وابن
جريج : عادلة . وقال ابن عباس وقتادة والربيع : قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية
. وقال السدي : قانتة مطيعة ، وكلها راجع للقول الأوّل .
وقال ابن مسعود والسدي : الضمير في ليسوا عائد على اليهود . وأمة محمد ( صلى الله
عليه وسلم ) ) إذ تقدم ذكر اليهود وذكرُ هذه الأمة في قوله : ( كنتم خير أمة ) .
والكتاب على هذا القول جنسُ كتب الله ، وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط .
والمراد بقوله : من أهل الكتاب أمة قائمة أهل القرآن . والظاهر عود الضمير على أهل
الكتاب المذكورين في قوله : ) وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ ( لتوالي الضمائر
عائدة عليهم فكذلك ضمير ليسوا . وقال عطاء : من أهل الكتاب أمة قائمة الآية يريد
أربعين رجلاً من أهل نجران من العرب ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من
الروم ، كانوا على دين عيسى وصدقوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وكان ناس من
الأنصار موحدين ويغتسلون من الجنابة ، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية قبل
قدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حتى جاءهم منه أسعد بن زرارة والبراء بن
معرور ومحمد بن مسلمة وقيس بن صرمة بن أنس . ) يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء
الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ( وصف الأمة القائمة بأنها تالية آيات الله ، وعبَّر
بالتلاوة في ساعات الليل عن التهجد بالقرآن . وقوله : وهم يسجدون جملة في موضع
الصفة أيضاً معطوفة على يتلون ، وصفهم بالتلاوة للقرآن وبالسجود . فتلاوة القرآن
في القيام ، وأما السجود فلم تشرع فيه التلاوة . وجاءت الصفة الثانية اسمية لتدل
على التوكيد بتكرر الضمير وهو هم ، والواو في يسجدون إذ أقرب ما يكون العبد من ربه
وهو ساجد . وأخبر عن المبتدأ بالمضارع ، وجاءت الصفة الأولى بالمضارع أيضاً لتدل
على التجدد ، وعطفت الثانية على الأولى بالواو لتشعر بأن تلك التلاوة كانت في صلاة
، فلم تكن التلاوة وحدها ولا السجود وحده .
وظاهر قوله : آناء الليل أنها جميع ساعات الليل . فيبعد صدور ذلك أعني التلاوة
والسجود من كل شخص شخص ، وإنما يكون ذلك من جماعة إذْ بعضُ الناس يقوم أول الليل ،
وبعضهم آخره ، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه ، فيأتي من مجموع ذلك في المدن
والجماعات استيعاب ساعات الليل بالقيام في تلاوة القرآن والسجود ، وعلى هذا كان
صدر هذه الأمة . وعرف الناس القيام في أول الثلث الأخير من الليل ، أو قبله بقليل
، والقائم طول الليل قليل ، وقد كان في الصالحين مَنْ يلتزمه ، وقد ذكر الله القصد
في ذلك في أول المزمل . وآناء الليل : ساعاته قاله الربيع وقتادة وغيرهما . وقال
السدي : جوفه وهو من إطلاق الكل على الجزء ، إذ الجوف فرد من الجمع . وعن منصور :
أنها نزلت في المصلين بين العشاءين ، وهو مخالف لظاهر قوله : ) يَتْلُونَ ءايَاتِ
اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ ). وعن ابن مسعود : أنها صلاة العتمة . وذكر أنّ سبب
نزولها هو احتباكُ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في صلاة العتمة وكان عند
" صفحة رقم 38 "
بعض نسائه فلم يأت حتى مضى الليل ، فجاء ومنّا المصلي ومنا المضطجع فقال : (
أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة ) ولهذا السبب ذكر ابن مسعود
أن قوله : ليسوا سواء عائد على اليهود وهذه الأمة ، وهو خلاف الظاهر . والظاهر من
قوله : وهم يسجدون أنه أريد به السجود في الصلاة . وقيل : عبر بالسجود عن الصلاة
تسمية للشيء بجزء شريف منه ، كما يعبر عنها بالركوع قاله : مقاتل ، والفراء ،
والزجاج . لأن القراءة لا تكون في الركوع ولا في السجود ، فعلى هذا تكون الجملة في
موضع الحال ، أي يتلون آيات الله متلبسين بالصلاة . وقيل : سجود التلاوة . وقيل :
أريد بالسجود الخشوع والخضوع . وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة معطوفة من الكلام
الأوّل ، أخبر عنهم أيضاً أنهم أهل سجود ، ويحسِّنُهُ أنْ كانت التلاوة في غير
صلاة . ويكون أيضاً على هذا التأويل في غير صلاة نعتاً عدد بواو العطف ، كما تقول
: جاءني زيد الكريم والعاقل . وأجاز بعضهم في قوله : وهم يسجدون أن يكون حالاً من
الضمير في قائمة ، وحالاً من أمة ، لأنها قد وصفت بقائمة . فتلخص في هذه الجملة
قولان : أحدهما : أنها لا موضع لها من الإعراب ، بأن تكون مستأنفة . والقول الآخر :
أن يكون لها موضع من الإعراب ويكون رفعاً بأن يكون في موضع الصفة ، أو بأن يكون
نصباً بأن يكون في موضع الحال ، إما من الضمير في يتلون ، أو من الضمير في قائمة ،
أو من أمة . ودلت هذه الآية على الترغيب في قيام الليل ، وقد جاء في كتاب الله : )
وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ( ) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ
ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً ( ) عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ قُمِ
الَّيْلَ ). وفي الحديث : ( يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فتركه
وقبله ، نعم الرجل عبد الله إلا أنه لا يقوم من الليل ) وغير ذلك كثير . وعن رجل
من بني شيبة كان يدرس الكتب قال : إنا نجد كلاماً من كلام الرب عزّ وجل : أيحسب
راعي إبل وغنم إذا جنه الليل انجدل كمن هو قائم وساجد الليل .
آل عمران : ( 114 ) يؤمنون بالله واليوم . . . . .
( يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ وَالاْخِرُ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( تقدم تفسير مثل هذه الجمل .
( وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ ( المسارعةُ في الخير ناشئة عن فرط الرغبة فيه ،
لأنّ مَنْ رغب في أمر بادر إليه وإلى القيام به ، وآثر الفور على التراخي . وجاء
في الحديث : ( اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك
قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ، وغناك قبل فقرك ) .
وصفهم تعالى بأنهم إذا دعوا إلى خير من نصر مظلوم ، وإغاثة مكروب ، وعبادة الله ،
بادروا إلى فعله . والظاهر في يؤمنون أن يكون صفة أي تالية مؤمنة . وجوزوا أنْ
تكون الجملة مستأنفة ، أو في موضع الحال من الضمير في يسجدون ، وأن تكون بدلاً من
السجود . قيل : لأن السجود بمعنى الإيمان . قال الزمخشري : وصفهم بخصائص ما كانت
في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ، ومن الإيمان بالله ، لأن إيمانهم به
كلا إيمان ، لإشراكهم به عزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض ، ومن الإيمان
باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لأنهم كانوا مداهنين ، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير
راغبين فيها انتهى لامه . وهو حسن . ولمّا ذكر تعالى هذه الأمة وصفها بصفات ست :
إحداها : أنها قائمة ، أي مستقيمة على النهج القويم . ولمّا كانت الاستقامة وصفاً
ثابتاً لها لا يتغير جاء باسم الفاعل . الثانية : الصلاة بالليل المعبر عنها
بالتلاوة والسجود ، وهي العبادة التي يظهر بها الخلو لمناجاة الله بالليل .
الثالثة : الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو الحامل على عبادة الله وذكر اليوم
الآخر لأنّ فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل . وتضمن الإيمان باليوم
الآخر الإيمان بالأنبياء ،
" صفحة رقم 39 "
إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه ، فصار الإيمان به واجباً
.
الرابعة : الأمر بالمعروف .
الخامسة : النهي عن المنكر ، لما كملوا في أنفسهم سعوا في تكميل غيرهم بهذين
الوصفين .
السادسة : المسارعة في الخيرات . وهي صفة تشمل أفعالهم المختصة بهم ، والأفعال
المتعدية منهم إلى غيرهم . وهذه الصفات الثلاثة ناشئة أيضاً عن الإيمان ، فانظر
إلى حسن سياق هذه الصفات حيث توسط الإيمان ، وتقدمت عليه الصفة المختصة بالإنسان
في ذاته وهي الصلاة بالليل ، وتأخرت عنه الصفتان المتعدّيتان والصفة المشتركة ،
وكلها نتائج عن الإيمان .
( وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ( هذه إشارة إلى من جمع هذه الصفات الست ، أي
وأولئك الموصوفون بتلك الأوصاف من الذين صلحت أحوالهم عند الله . قال الزمخشري :
ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين انتهى . ويشبه قوله قول ابن عباس من أصحاب محمد
( صلى الله عليه وسلم ) ) . وفيما قاله الزمخشري بعد بل : الظاهر أنَّ في الوصف
بالصلاح زيادة على الوصف بالإسلام ، ولذلك سأل هذه الرتبة بعض الأنبياء فقال تعالى
حكاية عن سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم : ) وَأَدْخِلْنِى
بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام
: ) وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ ( وقال تعالى : ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً
وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ( وقال تعالى بعد ذكر إسماعيل : ) وَإِدْرِيسَ
وَذِى الْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا
إِنَّهُمْ مّنَ الصَّالِحِينَ ). وقال : ) وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ( ومن
للتبعيض . وقال ابن عطية : ويحسن أن تكون لبيان الجنس انتهى . ولم يتقدم شيء فيه
إبهام فيبين جنسه .
آل عمران : ( 115 ) وما يفعلوا من . . . . .
( وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ ( قرأ نافع وابن عامر وابن
كثير وأبو بكر بالتاء فيهما على الخطاب ، واختلفوا في المخاطب . فقال أبو حاتم :
هو مردود إلى قوله : ) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ( فيكون من تلوين الخطاب ومعدوله .
وقال مكي : التاء فيها عموم لجميع الأمة . والذي يظهر أنها التفات إلى قوله : أمة
قائمة ، لما وصفهم بأوصاف جليلة اقبل عليهم تأنيساً لهم واستعطافاً عليهم ،
فخاطبهم بأنّ ما تفعلون من الخير فلا تمنعون ثوابه . ولذلك اقتصر على قوله : من
خير ، لأنه موضع عطف عليهم وترحم ، ولم يتعرض لذكر الشرّ . ومعلوم أن كل ما يفعل
من خير وشر يترتب عليه موعوده . ويؤيد هذا الالتفات وأنه راجع إلى أمة قائمة قراءة
الياء ، وهي قراءة : ابن عباس ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، وعبد الوارث عن أبي
عمرو ، واختيار أبي عبيد ، وباقي رواة أبي عمرو ، خير بين التاء والياء ، ومعلوم
في هذه القراءة ، ومعلوم في هذه القراءة أن الضمير عائد على أمة قائمة ، كما عاد
في قوله تعالى : يتلون وما بعده . وكفر : يتعدّى إلى واحد ، يقال : كفر النعمة ،
وهنا ضمن معنى حرم ، أي : فلن تحرموا ثوابه ، ولما جاء وصفه تعالى بأنه شكور في
معنى توفية الثواب ، نفى عنه تعالى نقيض الشكر وهو كفر الثواب ، أي حرمانه .
( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( لما كانت الآية واردة فيمن اتصف بالأوصاف
الجميلة ، وأخبر تعالى أنه يثيب على فعل الخير ناسب ختم الآية بذكر علمه بالمتقين
، وإن كان عالماً بالمتقين وبضدهم . ومعنى عليم بهم : أنه مجازيهم على تقواهم ،
وفي ذلك وعد للمتقين ، ووعيد للمفرطين .
آل عمران : ( 116 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ
أَوْلادُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا ( تقدم تفسير هذه الجملة في أوائل هذه السورة .
( وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( تقدم تفسير نظير هذه
الجملة في أوائل البقرة ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة . وأنه لما ذكر شيئاً
من أحوال المؤمنين ذكر شيئاً من أحوال الكافرين ليتضح الفرق بين القبيلين .
آل عمران : ( 117 ) مثل ما ينفقون . . . . .
( مَثَلُ مَا
" صفحة رقم 40 "
يُنْفِقُونَ فِى هِاذِهِ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ
أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ( لمّا ذكر تعالى
أنَّ ما فعله المؤمنون من الخير فإنهم لا يحرمون ثوابه ، بل يجنون في الآخرة ثمرة
ما غرسوه في الدنيا ، أخذ في بيان نفقة الكافرين ، فضرب لها مثلاً اقتضى بطلانها
وذهابها مجاناً بغير عوض . قال مجاهد : نزلت في نفقات الكفار وصدقاتهم . وقال
مقاتل : في نفقات سفلة اليهود على علمائهم . وقيل : في نفقة المشركين يوم بدر .
وقيل : في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين . قال الزمخشري :
شبّه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين
الناس لا يبتغون به وجه الله بالزرع الذي حسَّه البرد فصار حطاماً . وقيل : هو ما
يتقربون به إلى الله مع كفرهم . وقيل : ما أنفقوا في عداوة رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله انتهى .
وقال ابن عطية : معناه المثال القائم في النفس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة
وتحنثاً ، ومن حبطة يوم القيامة وكونه هباء منثوراً ، وذهابه كالمثال القائم في
النفس . مَنْ زرع قوم نبت واخصرَّ وقوي الأمل فيه فهبت عليه ريح صرّ محرق فأهلكته
انتهى . والظاهر أن ما في قوله : مثل ما ينفقون موصولة ، والعائد محذوف ، أيْ
ينفقونه . والظاهر تشبيه ما ينفقونه بالريح ، والمعنى : تشبيهه بالحرث . فقيل : هو
من التشبيه المركب لم يقابل فيه الإفراد بالإفراد ، وقد مر نظيره في قوله تعالى :
) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً ( ولذلك قال ثعلب : بدأ بالريح
، والمعنى على الحرث ، وهو اختيار الزمخشري . وقيل : وقع التشبيه بين شيئين وشيئين
، وذكر أحد المشبهين وترك ذكر الآخر ، ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي
يوازن المذكور الأول وترك ذكر الآخر ، ودل المذكوران على المتروكين . وهذا اختيار
ابن عطية . قال : وهذه غاية البلاغة والإعجاز ، ومثل ذلك قوله تعالى : ) وَمَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ ( انتهى . ويجوز أن يكون على حذف
مضاف من الأول تقديره : مثل مهلك ما ينفقون . أو من الثاني تقديره : كمثل مهلك ريح
. وقيل : يجوز أن تكون ما مصدرية ، أي مثل إنفاقهم ، فيكون قد شبه المعقول
بالمحسوس ، إذ شبه الإنفاق بالريح . وظاهر قوله : ينفقون أنه من نفقة المال . وقال
السدي : معناه ينفقون من أقوالهم التي يبطنون ضدها . ويضعف هذا أنّها في الكفار
الذين يعلنون لا في المنافقين الذين يبطنون . وقيل : متعلق الإنفاق هو أعمالهم من
الكفر ونحوه ، هي كالريح التي فيها صر أبطلت أعمالهم كل ما لهم من صلة رحم وتحنثٍ
بعتق ، كما يبطل الريح الزرع . قال ابن عطية : وهذا قول حسن ، لولا بعد الاستعارة
في الإنفاق انتهى . وقال الراغب : ومنهم من قال : ما ينفقون عبارة عن أعمالهم كلها
، لكنه خص الإنفاق لكونه أظهروا أكثر انتهى .
وقرأ ابن هرمز والأعرج : تنفقون بالتاء على معنى قل لهم ، وأفرد ريحاً لأنّها
مختصة بالعذاب ، كما أفردت في قوله : ) بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ (
ولئن أرسلنا ريحاً إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً الريح العقيم . كما أن الجمع
مختص بالرحمة أن يرسل الرياح مبشرات ( ) ( ) وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ (
) يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ ( ولذلك روي : ) اللَّهُمَّ بِئَايَاتِنَا
يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً ( وارتفاعُ صرّ على أنه فاعل
بالمجرور قبله ، إذْ قد اعتمد بكونه وقع صفة للريح . فإنْ كان الصر البرد وهو قول
: ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، أو
" صفحة رقم 41 "
صوت لهيب النار أو صوت الريح الشديدة . فظاهر كون ذلك في الريح . وإنْ كان الصرُّ
صفةً للريح كالصرصر ، فالمعنى فيها قرةُ صرَ كما تقول : برد بارد ، وحذف الموصوف ،
وقامت الصفة مقامه . أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة . كما قال :
وفي الرحمن كاف للضعفاء . وقولهم : إن ضيعني فلان ففي الله كاف . المعنى الرحمن
كاف ، والله كاف . وهذا فيه بعد .
وقوله : أصابت حرث قوم في موضع الصفة لريح . بدأ أولاً بالوصف بالمجرور ، ثم
بالوصف بالجملة . وقوله : ظلموا أنفسهم جملة في موضع الصفة لقوم . وظاهره أنهم
ظلموا أنفسهم بمعاصيهم ، فكان الإهلاك أشد إذ كان عقوبة لهم .
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنّ مصائب الدنيا إنما هي بمعاصي العبد . ويستنبط
ذلك من غير ما آية في القرآن ، فيستقيم على ذلك أن كل حرث تحرقه الريح فإنما هو
لمن قد ظلم نفسه . وقيل : ظلموا أنفسهم معناه زرعوا في غير أوان الزراعة ، أي
وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل . وخص هؤلاء بالذكر لأن الحرث
فيما جرى هذا المجرى أوعب وأشد تمكناً ، ونحا إلى هذا القول المهدوي .
( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ( جوز الزمخشري وغيره أنْ يعودَ الضمير على المنفقين ،
أي : ما ظلمهم بأنْ لم تُقبل نفقاتهم . وأنْ يعودَ على أصحاب الحرث أي : ما ظلمهم
بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي . وقال ابن عطية : الضمير في
ظلمهم للكفار الذين تقدّم ضميرهم في ينفقون ، وليس هو للقوم ذوي الحرث ، لأنهم لم
يذكروا ليردَّ عليهم ، ولا لتبين ظلمهم . وأيضاً قوله : ) وَلَاكِن كَانُواْ
أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ).
يدل على فعل الحال في حاضرين انتهى . وهو ترجيح حسن . وقرىء شاذاً : ولكنَّ
بالتشديد ، واسمها أنفسهم ، والخبر يظلمون . والمعنى : يظلمونها هم . وحسنٌ حذفُ
هذا الضمير ، وإنْ كان الحذف في مثله قليلاً كون ذلك فاصلة رأس آية ، فلو صرَّح به
لزال هذا المعنى . ولا يجوز أنْ يعتقدَ أنَّ اسم لكن ضمير الشأن . وحذف وأنفسهم
مفعول بيظلمون ، لأن حذف هذا الضمير يختص بالشعر .
آل عمران : ( 118 ) يا أيها الذين . . . . .
( ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ
يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ( نزلت في رجال من المؤمنين يواصلون رجالاً من يهود للجوار
والحلف والرضاع قاله : ابن عباس . وقال أيضاً هو وقتادة والسدي والربيع : نزلت في
المنافقين . نهى اللَّهُ المؤمنين عنهم شبه الصديق الصدق بما يباشرُ بطن الإنسان
من ثوبه . يقال : له بطانة ووليجة . وقوله : من دونكم في موضع الصفة لبطانة ،
وقدّره الزمخشري : من دون أبناء جنسكم ، وهم المسلمون . وقيل : يتعلق من بقوله :
لا تتخذوا . وقيل : مِنْ زائدة ، أي بطانة دونكم . والمعنى : أنهم نهوا أن يتخذوا
أصفياء من غير المؤمنين . ودل هذا النهي على المنع من استكتاب أهل الذمة وتصريفهم
في البيع والشراء والاستبانه إليهم . وقد عتب عمر أبا موسى على استكتابه ذمياً ،
وتلا عليه هذه الآية . وقد قيل لعمر في كاتب مجيد من نصارى الحيرة : ألا يكتب عنك
؟ فقال : إذن أتخذ بطانة .
والجملة من قوله : ) لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ( لا موضع لها من الإعراب ، إذ
جاءت بياناً لحال البطانة الكافرة ، هي والجمل التي بعدها لتنفير المؤمنين عن
اتخاذهم بطانة . ومن ذهب إلى أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به من ، فبعيد عن
فهم الكلام الفصيح . لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة ، ثم نبه على أشياء مما هم
عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين ، وودادة مشقتهم ، وظهور بغضهم . والتقييد بالوصف
أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند
" صفحة رقم 42 "
انتفائهما . وألا متعد إلى واحد بحرف الجر ، يقال : ما ألوت في الأمر أي ما قصرت
فيه . وقيل : انتصب خبالاً على التمييز المنقول من المفعول ، كقوله تعالى : )
وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً ( التقدير : لا يألونكم خبالكم ، أي في خبالكم .
فكان أصل هذا المفعول حرف الجر . وقيل : انتصابه على إسقاط حرف ، التقدير : لا
يألونكم في تخبيلكم . وقيل : انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال . قال ابن عطية :
معناه لا يقصرون لكم لكم فيما فيه الفساد عليكم . فعلى هذا يكون قد تعدى للضمير
على إسقاط اللام ، وللخبال على إسقاط في . وقال الزمخشري : يقال : أَلا في الأمر
يألو إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدّي إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحاً ، ولا
آلوك جهداً ، على التضمين . والمعنى : لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه انتهى .
( وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ ( قال ابن جرير : ودّوا إضلالكم . وقال الزجاج : مشقتكم
. وقال الراغب : المعاندة والمعانتة يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ،
والمعانتة أن تتحرّى مع الممانعة المشقة انتهى . ويقال : عِنت بكسر النون ، وأصله
انهياض العظم بعد جبره . وما في قوله : ما عنتم مصدرية ، وهذه الجملة مستأنفة كما
قلنا في التي قبلها . وجوّزوا أن يكون نعتاً لبطانة ، وحالاً من الضمير في يألونكم
، وقد معه مرادة .
( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ ( وقرأ عبد الله : قد بدا ، لأنّ
الفاعل مؤنث مجازاً أو على معنى البغض ، أي لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم حتى يصرحوا
بذلك بأفواههم . وذكر الأفواه دون الألسنة إشعاراً بأن ما تلفظوا به يملأ أفواههم
، كما يقال : كلمة تملأ الفم إذا تشدّق بها . وقيل : المعنى لا يتمالكون مع ضبطهم
أنفسهم وتحاملهم عليها أنْ ينفلتَ من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين انتهى .
ولمّا ذكر تعالى ما انطووا عليه من ودادهم عنت المؤمنين ، وهو إخبار عن فعل قلبي ،
ذكر ما أنتجه ذلك الفعل القلبي من الفعل البدني ، وهو : ظهور البغض منهم للمؤمنين
في أقوالهم ، فجمعوا بين كراهة القلوب وبذاذة الألسن . ثم ذكر أنَّ ما أبطنوه من
الشر والإيذاء للمؤمنين والبغض لهم أعظم مما ظهر منهم فقال :
) وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ( أي أكثر مما ظهر منها . والظاهر أنَّ
بدوَّ البغضاء منهم هو للمؤمنين ، أي اظهروا للمؤمنين البغض . وقال قتادة : قد بدت
البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك . وقيل : بدت
بإقرارهم بعد الجحود ، وهذه صفة المجاهر . وأسند الإخفاء إلى الصدور مجازاً ، إذ
هي محال القلوب التي تخفي كما قال : ) فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ
وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ).
) قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ ( أي الدالة على وجوب الإخلاص في الدين ،
وموالاة المؤمنين ، ومعاداة الكفار .
( إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( أي ما بين لكم فعملتم به ، أو إنْ كنتم عقلاء وقد
علم تعالى أنهم عقلاء ، لكن علقه على هذا الشرط على سبيل الهزّ للنفوس كقولك : إن
كنت رجلاً فافعل كذا . وقال ابن جرير : معناه إن كنتم تعقلون عن الله أمره ونهيه .
وقيل : إنْ كنتم تعقلون فلا تصافوهم ، بل عاملوهم معاملة الأعداء . وقيل : معنى إن
معنى إذ أي إذ كنتم عقلاء .
آل عمران : ( 119 ) ها أنتم أولاء . . . . .
( هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلّهِ ( تقدّم لنا الكلام على نظيرها ، أنتم أولاء في قوله : )
هأَنتُمْ هَاؤُلاء حَاجَجْتُمْ ( قراءة وإعراباً . وتلخيصه هنا أن يكونَ أولاء
خبراً عن أنتم ، وتحبونهم مستأنف أو حال أو صلة ، على أن يكون أولاء موصولاً أو
خبراً لأنتم ، وأولاء مناداً ، أو يكون أولاء مبتدأ ثانياً ، وتحبونهم خبر عنه ،
والجملة خبر عن الأوّل . أو يكون أولاء في موضع نصب نحو : أنا زيداً ضربته ، فيكون
من الاشتغال . واسم الإشارة في هذين الوجهين واقع على غير ما وقع عليه أنتم ، لأن
أنتم خطاب للمؤمنين ، وأولاء إشارة إلى الكافرين . وفي الأوجه السابقة مدلوله
ومدلول أنتم واحد . وهو : المؤمنون . وعلى تقدير الاستئناف في تحبونهم ، لا ينعقد
مما قبله مبتدأ وخبر إلا بإضمار وصفٍ تقديره : أنتم أولاء الخاطئون في موالاة غير
المؤمنين إذ تحبونهم ولا يحبونكم . بيان لخطئهم في موالاتهم حيثُ يبذلون المحبة
لمن يبغضهم ،
" صفحة رقم 43 "
وضمير المفعول في تحبونهم قالوا لمنافقي اليهود . وفي الزمخشري : لمنافقي أهل
الكتاب . والذي يظهر أنّه عائد على بطانة من دون المؤمنين ، فهو كل منافق حتى
منافق المشركين .
والمحبة هنا : الميل بالطبع لموضع القرابة والرضاع والحلف قاله ابن عباس . أو لأجل
إظهار الإيمان والإحسان إلى المؤمنين قاله : أبو العالية : أو الرحمة لهم لما يقع
منهم من المعاصي قاله : قتادة . أو إرادة الإسلام لهم قاله : المفضل والزجاج .
وهذا ليس بجيد ، لأنه لا يقع توبيخ على معنى إرادة إسلام الكافر ، أو المصافاة ،
لأنها من ثمرة المحبة .
وتؤمنون بالكتاب كله ، الكتاب : اسم جنس ، أي بالكتب المنزلة قاله : ابن عباس .
والتوراة والإنجيل أو التوراة أقوال ثلاثة ، وثم جملة محذوفة تقديرها : ولا تؤمنون
به كله بل يقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض . يدلُّ عليها إثبات المقابل في تحبونهم
ولا يحبونكم . والواو في وتؤمنون للعطف على تحبونهم ، فلها من الإعراب ما لها .
وقال الزمخشري : والواو في وتؤمنون للحال ، وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم
. والحال : إنكم تؤمنون بكتابهم كله ، وهم مع ذلك يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم
وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في
حقكم ونحوه . فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون انتهى كلامه
وهو حسن . إلا أنه فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو : أنه جعل الواو في
وتؤمنون للحال ، وأنها منتصبة من لا يحبونكم . والمضارعُ المثبت إذا وقع حالاً لا
تدخل عليه واوٍ الحال تقول : جاء زيد يضحك ، ولا يجوز ويضحك . فأما قولهم : قمت
وأصك عينه ففي غاية الشذوذ . وقد أوَّل على إضمار مبتدأ أي قمت وأنا أصك عينه ،
فتصير الجملة اسمية . ويحتمل هذا التأويل هنا ، أي : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون
بالكتاب كلِّه ، لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف . قال ابن عطية : وتؤمنون
بالكتاب كله يقتضي أن الآية في منافقي اليهود ، لا منافقي العرب . ويعترضها : أن
منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون
في الباطن ، كما كان المنافقون من العرب ، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيف
القينقاعي . فلم يبق إلا أنَّ قولهم : آمنا ، معناه صدّقنا أنه نبي مبعوث إليكم .
أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وأخوانكم لا نضمر لكم إلا المودّة ، ولهذا كان
بعض المؤمنين يتخذهم بطانة . وهذا منزع قد حفظ أن كثيراً من اليهود كان يذهب إليه
. ويدل على هذا التأويل أنَّ المعادل لقولهم : آمنا غض الأنامل من الغيظ ، وليس
فيه ما يقتضي الارتداد كما في قوله : ) وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ
قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ ( بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودّة . وكان أبو الجوزاء
إذا تلا هذه الآية قال : هم الأباضية . وهذه الصفة قد تترتب في أهل البدع من الناس
إلى يوم القيامة انتهى كلامه . وما ذكر من أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم
كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن إلاَّ ما روي من أمر زيد
فيه نظر ، فإنه قد روى أن جماعة منهم كانوا يعتمدون ذلك ، ذكره البيهقي وغيره .
ولو لم يرو ذلك إلا عن زيد القينقاعي لكان في ذلك مذمة لهم بذلك ، إذ وجد ذلك في
جنسهم . وكثيراً ما تمدح العرب أو تذم بفعل الواحد من القبيلة ، ويؤيد صدور ذلك من
اليهود قوله تعالى : ) وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ
بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ
ءاخِرَهُ ).
" صفحة رقم 44 "
) وإذ لقوكم قالوا آمنا ( هذا الإخبار جرى على منازعتهم في التوراة والستر والخبث
، إذ لم يذكروا متعلق الإيمان ، ولكنَّهم يوهمون المؤمنين بهذا اللفظ أنهم مؤمنون
.
( وَإِذَا خَلَوْاْ ( أي خلا بعضهم ببعض وانفردوا دونكم . والمعنى : خلت مجالسهم ،
منكم ، فأسند الخلو إليهم على سبيل المجاز .
( عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ( وظاهره فعل ذلك ، وأنه يقع
منهم عض الأنامل لشدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذ ما يريدون . ومنه قول أبي
طالب : وقد صالحوا قوماً علينا أشحة
يعضون عضاً خلفنا بالأباهم
وقال الآخر : إذا رأوني أطال الله غيظهم
عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم
وقال الآخر : وقد شهدت قيس فما كان نصرها
قتيببة إلا عضها بالأباهم
وقال الحرث بن ظالم المرّي : وأقتل أقواماً لئاماً أذلة
يعضون من غيظ رؤوس الأباهم
ويوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام . وهذا العض هو بالأسنان ،
وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغاضبة . كما أن ضرب اليد على اليد يتبع
هيئة النفس المتلهفة على فائت قريب الفوت . وكما أن قرع السن هيئة تتبع هيئة النفس
النادمة ، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه . ويحتمل أن لا
يكون ثَمَّ عض أنامل ، ويكون ذلك من مجاز التمثيل عبر بذلك عن شدة الغيظ ، والتأسف
على ما يفوتهم من إذايتكم . ونبه تعالى بهذه الآية على أن من كان بهذه الأوصاف من
: بغض المؤمنين ، والكفر بالقرآن ، والرياء بإظهار ما لا ينطوي عليه باطنه ، جدير
بأن لا يتخذ صديقاً .
( قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ( ظاهره : أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أمر بأن
يقول لهم ذلك . وهي صيغة أمر ، ومعناها الدّعاء أن : أذن الله لنبيه أن يدعو عليهم
لمّا يئس من إيمانهم ، هذا قول الطبري . وكثير من المفسرين قالوا : فله أن يدعو
مواجهة . وقيل : أمر هو وأمته أن يواجهوهم بهذا . فعلى هذا زال معنى الدعاء ، وبقي
معنى التقريع ، قاله : ابن عطية . وقيل : صورته أمر ، ومعناه الخبر ، والباء للحال
أي تموتون ومعكم الغيظ وهو على جهة الذم على قبيح ما عملوه . وقال الزمخشري : دعا
عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به . والمراد بزيادة الغيظ ما يغيظهم من قوة
الإسلام وعزة أهله ، وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار انتهى كلامه . وليس ما
فسر به ظاهر قوله : قل موتوا بغيظكم ، ويكون ما قاله الزمخشري يشبه قولهم : مت
بدائك ، أي أبقى الله داءك حتى تموت به . لكنْ في لفظ الزمخشري زيادة الغيظ ، ولا
يدل عليه لفظ القرآن . قال بعض شيوخنا : هذا ليس بأمر جازم ، لأنه لو كان أمراً
لماتوا من فورهم كما جاء فقال لهم الله
" صفحة رقم 45 "
موتوا . وليس بدعاء ، لأنه لو أمره بالدعاء لماتوا جميعهم على هذه الصفة ، فإن
دعوته لا ترد . وقد آمن منهم بعد هذه الآية كثير ، وليس بخبر لأنه لو كان خبر
الوقع على حكم ما أخبر به يعني ولم يؤمن أحد بعد ، وإنما هو أمر معناه التوبيخ
والتقريع كقوله : اعملوا ما شئتم ، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت . قيل : ويجوز أن لا
يكون ثم قول ، وإنْ يكون أمراً بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله أن
يهلكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ، كأنه قيل : حدث نفسك بذلك .
( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( قيل : يجوز أن يكون من جملة المقول
، والمعنى : أخبرْهُم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم : إن
الله عليم بما هو أخفى مما تسرّونه بينكم وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أن شيئاً
من أسراركم يخفى عليه . ويجوز أنْ لا تدخل تحت القول ، ومعناه : قل لهم ذلك ، ولا
تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون ، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو مضمرات
صدورهم لم يظهروه بألسنتهم . والظاهر الأول أورد ذلك على أنّه وعيد مواجهون به .
والذات لفظ مشترك ومعناه هنا أنه تأنيث ذي بمعنى صاحب . فاصله هنا عليم بالمضمرات
ذوات الصدور ، ثم حذف الموصوف ، وغلبت إقامة الصفة مقامه . ومعنى صاحبة الصدور :
الملازمة له التي لا تنفك عنه كما تقول : فلان صاحب فلان ، ومنه أصحاب الجنة أصحاب
النار . واختلفوا في الوقف على ذات . فقال الأخفش والفراء وابن كيسان : بالتاء
مراعاة لرسم المصحف . وقال الكسائي والجرمي : بالهاء لأنها تاء تأنيث .
آل عمران : ( 120 ) إن تمسسكم حسنة . . . . .
( إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ
بِهَا ( الحسنة هنا ما يسر من رخاء وخصب ونصرة وغنيمة ، ونحو ذلك من المنافع .
والسيئة ضد ذلك . بين تعالى بذلك فرط عداوتهم حيث يسوءهم ما نال المؤمنين من الخير
، ويفرحون بما يصيبهم من الشدة . قال الزمخشري : المس مستعار لمعنى الإصابة ، فكان
المعنى واحداً . ألا ترى إلى قوله : ) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن
تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ ( الآية ) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا
أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ( ) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( وقال ابن عطية : ذكر الله تعالى المس في
الحسنة ليبين أن بادني طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ، ثم عادل
ذلك في السيئة بلفظ الإصابة ، وهي عبارة عن التمكن . لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكن
منه ، أو فيه . فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة ، إذ هو حقد لا يذهب عند
نزول الشدائد ، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين انتهى كلامه . والنكرة هنا في
سياق الشرط بأن تعم عموم البدل ، ولم يأت معرفاً لإيهام التعيين بالعهد ، ولإيهام
العموم الشمولي . وقابل الحسنة بالسيئة ، والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة .
قال قتادة والربيع وابن جريج : الحسنة بظهوركم على العدو ، والغنيمة منهم ،
والتتابع بالدخول في دينكم ، وخصب معاشكم . والسيئة بإخفاق سرية منكم ، أو إصابة
عدو منكم ، أو اختلاف بينكم . وقال الحسن : الحسنة الألفة ، واجتماع الكلمة .
والسيئة إصابة العدو ، واختلاف الكلمة . وقال ابن قتيبة : الحسنة النعمة . والسيئة
المصيبة . وهذه الأقوال هي على سبيل التمثيل ، وليست على سبيل التعيين .
( وَأَن تَصْبِرُواْ تَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ( قال ابن
عباس : وإن تصبروا على أذاهم ، وتتقوا الله ، ولا تقنطوا ، ولا تسأموا أذاهم وإن
تكرر . وقال مقاتل : وإنْ تصبروا على أمر الله ، وتتقوا مباطنتهم . وقال ابن عباس
أيضاً : وإنْ تصبروا على الإيمان وتتقوا الشرك . وقيل : وإنْ تصبروا على الطاعة
وتتقوا المعاصي . وقيل : وإن تصبروا على حربهم . والذي يظهر أنه لم يذكر هنا متعلق
الصبر ، ولا متعلق التقوى . لكنَّ الصبر هو حبس النفس على المكروه ، والتقوى اتخاذ
الوقاية من عذاب الله . فيحسنُ أنْ يقدَّرَ المحذوف من جنس ما دل عليه لفظ الصبر
ولفظ التقوى . وفي هذا تبشير للمؤمنين ، وتثبيت لنفوسهم ، وإرشاد إلى الاستعانة
على كيد العدو بالصبر والتقوى .
وقرأ الجمهور : أن تمسسكم
" صفحة رقم 46 "
بالتاء . وقرأ السلمي بالياء معجمة من أسفل ، لأن تأنيث الحسنة مجازى . وقرأ
الحرميان وأبو عمرو وحمزة في رواية عنه : لا يضركم من ضار يضير . ويقال : ضار يضور
، وكلاهما بمعنى ضرَّ . وقرأ الكوفيون وابن عامر : لا يضرُّكم بضم الضاد والراء
المشدّدة ، من ضرّ يَضُرُّ . واختلف ، أحركةُ الراء إعرابٌ فهو مرفوعٌ أم حركة
اتباع لضمة الضاد وهو مجزوم كقولك : مدّ ؟ ونسب هذا إلى سيبويه ، فخرج الإعراب على
التقديم . والتقدير : لا يضركم أن تصبروا ، ونسب هذا القول إلى سيبويه . وخرج
أيضاً على أنّ لا بمعنى ليس ، مع إضمار الفاء . والتقدير : فليس يضركم ، وقاله :
الفراء والكسائي . وقرأ عاصم فيما روى أبو زيد عن المفضل عنه : بضم الضاد ، وفتح
الراء المشددة . وهي أحسن من قراءة ضم الراء نحو لم يرد زيد ، والفتح هو الكثير
المستعمل . وقرأ الضحاك : بضم الضاد ، وكسر الراء المشدّدة على أصل التقاء
الساكنين . وقال ابن عطية : فأما الكسر فلا أعرفه قراءة ، وعبارة الزجاج في ذلك
متجوز فيها ، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة انتهى . وهي قراءة كما ذكرنا عن
الضحاك . وقرأ أبيُّ لا يضرركم بفك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز ، وعليها في الآية
إن تمسَسْكم . ولغة سائر العرب الإدغام في هذا كله .
( إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( من قرأ بالياء فهو وعيد ، والمعنى :
محيط جزاؤه . وعبر بالإحاطة عن الاطلاع التام والقدرة والسلطان . ومن قرأ بالتاء
وهو : الحسن بن أبي الحسن فعلى الالتفات للكفار ، أو على إضمار قل : لهم يا محمد .
أو على أنه خطاب للمؤمنين تضمن توعدهم في اتخاذ بطانة من الكفار .
قالوا : وتضمنت هذه الآيات ضروباً من البلاغة والفصاحة . منها : الوصل والقطع في
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة . والتكرار : في أصحاب النار هم . والعدول عن
اسم الفاعل إلى غيره : في يتلون وما بعده ، وفي يظلمون . والاكتفاء بذكر بعض الشيء
عن كله إذا كان فيه دلالة على الباقي في : يؤمنون بالله واليوم الآخر . والمقابلة
: في تأمرون وتنهون ، وفي المعروف والمنكر . ويجوز أن يكون طباقاً معنوياً ، وفي
حسنة وسيئة ، وفي تسؤهم ويفرحوا . والاختصاص : وفي عليم بذات الصدور . والتشبيه :
في مثل ما ينقون ، وفي بطانة ، وفي عضوا عليكم الأنامل من الغيظ على أحد التأويلين
، وفي تمسسكم حسنة وتصبكم سيئة . شبه حصولهما بالمس والإصابة ، وهو من باب تشبيه
المعقول بالمحسوس ، والصحيح أن هذه استعارة . وفي محيط شبه القدرة على الأشياء
والعلم بها بالشيء المحدق بالشيء من جميع جهاته ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس .
والتجنيس المماثل : في ظلمهم ويظلمون ، وفي تحبونهم ولا يحبونكم ، وفي تؤمنون
وآمنا ، وفي من الغيظ
" صفحة رقم 47 "
وبغيظكم . والالتفات : في وما تفعلوا من خير فلن تكفرواه على قراءة من قرأ بالتاء
، وفي ما تعملون محيط على أحد الوجهين . وتسمية الشيء باسم محلة : في من أفواههم
عبر بها عن الألسنة لأنها محلها . والحذف في مواضع .
2 ( ) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ
لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن
تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن
يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالاَفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ
بَلَىإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَاذَا
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ
وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ
طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ (
) ) 2
آل عمران : ( 121 ) وإذ غدوت من . . . . .
غدا الرجل : خرج غدوة . والغدو يكون في أول النهار . وفي استعمال غدا بمعنى صار ،
فيكون فعلاً ناقصاً خلاف .
الهم : دون العزم ، والفعل منه هم يهمُّ . وتقول العرب : هممْتُ وهمَّتْ يحذفون
أحد المضعفين كما قالوا : أمست ، وظلت ، وأحست ، في مسست وظللت وأحسست . وأوّلُ ما
يمر الأمر بالقلب يسمى خاطراً ، فإذا تردد صار حديث نفس ، فإذ ترجَّح فعله صار
هماً ، فإذا قوي واشتد صار عزماً ، فإذا قوي العزم واشتدّ حصل الفعل أو القول .
الفشل في البدن : الإعياء . وفي الحرب : الجبن والخور ، وفي الرأي : العجز والفساد
. وفعله : فشِل بكسر الشين .
التوكل : تفعل من وكل أمره إلى فلان ، إذا فوَّضه له . قال ابن فارس : هو إظهار
العجز والاعتماد على غيرك ، يقال : فلان وكلة تكلة ، أي عاجز بكل أمره إلى غيره .
وقيل : هو من الوكالة ، وهو تفويض الأمر إلى غيره ثقة بحسن تدبيره .
بدر في الآية : اسم علم لما بين مكة والمدينة . سمي بذلك لصفائه ، أو لرؤية البدر
فيه لصفائه ، أو لاستدارته . قيل : وسمي باسم صاحبه بدر بن كلدة . قيل : بل بدر بن
بجيل بن النضر بن كنانة . وقيل : هو بئر لغفار . وقيل : هو اسم وادي الصفراء .
وقيل : اسم قرية بين المدينة والجار .
الفور : العجلة والإسراع . تقول : اصنع هذا على الفور . وأصلُه من فارت القدر اشتد
غليانها ، وبادر ما فيها إلى الخروج . ويقال : فار غضبه إذا جاش وتحرك . وتقول :
خرج من فوره ، أي من ساعته ، لم يلبث استعير الفور للسرعة ، ثم سميت به الحالة
التي لا ريب فيها ولا تعريج على شيء من صاحبها .
الخمسة : رتبة من العدد معروفة ، ويصرف منها فعل يقال : خمست الأربعة أي صيرتهم في
خمسة .
الطرف : جانب الشيء الأخير ، ثم يستعمل للقطعة من الشيء
" صفحة رقم 48 "
وإنْ لم يكن جانباً أخيراً . الكبت : الهزيمة . وقيل : الصرع على الوجه أو إلى
اليدين . وقال النقاش وغيره : التاء بدل من الدال . أصله : كبده ، أي فعل فعلاً
يؤذي كبده . الخيبة : عدم الظفر بالمطلوب .
( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىء الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ (
قال المسور بن مخرمة : قلت لعبد الرحمن بن عوف : أيْ خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد
، فقال : اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجد : ) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ
إِلَىَّ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم ( ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما نهاهم عن
اتخاذ بطانةٍ مِن الكفار ووعدهم أنّهم إنْ صبروا واتقوا فلا يضرُّكم كيدهم . ذكرهم
بحالة اتفق فيها بعض طواعية ، واتباع لبعض المنافقين ، وهو ما جرى يوم أحد لعبد
الله بن أبي بن سلول حين انخذل عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، واتبعه في
الانخذال ثلاثمائة رجل من المنافقين وغيرهم من المؤمنين . والجمهور على أن ذلك كان
في غزوة أحذ ، وفيها نزلت هذه الآيات كلها ، وهو قول : عبد الرحمن بن عوف ، وابن
مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والزهري ، والسدي ، وابن إسحاق . وقال الحسن : كان هذا
الغدو في غزوة الأحزاب . وهو قول : مجاهد ، ومقاتل ، وهو ضعيف . لأن يوم الأحزاب
كان فيه ظفر المؤمنين ، ولم يجر فيه شيء مما ذكر في هذه الآيات بل قصتاهما
متباينتان . وقال الحسن أيضاً : كان هذا الغدو يوم بدر . وذكر المفسرون قصة غزوة
أحد وهي مستوعبة في كتب السير ، ونحن نذكر منها ما يتعلق بألفاظ الآية بعض تعلقٍ
عند تفسيرها . وظاهر قوله : وإذ غدوت ، خروجه غدوة من عند أهله . وفسر ذلك بخروجه
من حجرة عائشة يوم الجمعة غدوة حين استشار الناس ، فمِنْ مشير بالإقامة وعدم
الخروج إلى القتال . وأن المشركين إنْ جاؤا قاتلوهم بالمدينة ، وكان ذلك رأيه (
صلى الله عليه وسلم ) ) . ومن مشير بالخروج وهم : جماعة من صالحي المؤمنين فأتتهم
وقعة بدر وتبوئة المؤمنين مقاعد للقتال ، على هذا القول هو أن يقسمَ أفطار المدينة
على قبائل الأنصار . وقيل : غدوه هو نهوضه يوم الجمعة بعد الصلاة وتبوئته في وقت
حضور القتال . وسماه غدواً إذ كان قد عزم عليه غدوة . وقيل : غدوه كان يوم السبت
للقتال . ولما لم تكن تلك الليلة موافقة للغدو وكأنه كان في أهله ، والعامل في إذا
ذكر . وقيل : هو معطوف على قوله : ) قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتَا ( أي وآية إذ غدوت ، وهذا في غاية البعد . ولولا أنه مسطور في الكتب ما
ذكرته . وكذلك قولُ مَنْ جعل من في معنى مع ، أي : وإذ غدوت مع أهلك . وهذه
تخريجات يقولها وينقلها على سبيل التجويز من لا بصر له بلسان العرب . ومعنى تبويّء
تنزل ، من المباءة وهي المرجع ومنه ) لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً
( فليتبوأ مقعده من النار ، وقال الشاعر : كم صاحب لي صالح
بوّأته بيديّ لحدا
" صفحة رقم 49 "
وقال الأعشى : وما بوّأ الرحمن بيتك منزلا
بشرقيّ أجياد الصفا والمحرم
ومقاعد : جمع مقعد ، وهو هناك مكان القعود . والمعنى : مواطن ومواقف . وقد استعمل
المقعد والمقام في معنى المكان . ومنه : ) فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ( ) وَقَبْلَ أَن
تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ).
وقال الزمخشري : وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار انتهى . أمّا إجراء قعد
مجرى صار فقال أصحابنا : إنما جاء في لفظة واحدة وهي شاذة لا تتعدى ، وهي في قولهم
: شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة ، أي صارت . وقد نقد على الزمخشري تخريج قوله
تعالى : ) فَتَقْعُدَ مَلُومًا عَلَى ( أن معناه : فتصير ، لأن ذلك عند النحويين
لا يطرد . وفي اليواقيت لأبي عمر الزاهد قال ابن الأعرابي : القعد الصيرورة ،
والعرب تقول : قعد فلان أميراً بعدما كان مأموراً أي صار . وأمّا إجراء قام مجرى
صار فلا أعلم أحداً عدّها في أخوات كان ، ولا ذكر أنها تأتي بمعنى صار ، ولا ذكر
لها خبراً إلا أبا عبد الله بن هشام الحضراوي فإنه قال في قول الشاعر : على ما قام
يشتمني لئيم
إنها من أفعال المقاربة
وقال ابن عطية : لفظة القعود أدل على الثبوت ، ولا سيما أنّ الرماة إنما كانوا
قعوداً ، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولاً ، والمبارزة والسرعان يجولون . وجمع
المقاعد لأنه عيّن لهم مواقف يكونون فيها : كالميمنة والميسرة ، والقلب ، والشاقة
. وبيّن لكل فريق منهم موضعهم الذي يقفون فيه .
خرج ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعد صلاة الجمعة ، وأصبح بالشعب يوم السبت للنصف من
شوال ، فمشى على رجليه ، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح . إنْ رأى
صدراً خارجاً قال : ( تأخر ) ، وكان نزوله في غدوة الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى
أحد . وأمر عبد الله بنَ جبير على الرماة وقال لهم : ( انصحوا عنا بالنبل ) لا
يأتونا من ورائنا ) .
وتبوىء جملة حالية من ضمير المخاطب . فقيل : هي حال مقدرة ، أي خرجت قاصد التبوئة
، لأن وقت الغدو لم يكن وقت التبوئة . وقرأ الجمهور تبوىء من بوّأ . وقرأ عبد الله
: تبوِّىء من أبوأ ، عداه الجمهور بالتضعيف ، وعبد الله بالهمزة . وقرأ يحيى بن
وثاب : تبوى بوزن تحيا ، عداه بالهمزة ، وسهل لام الفعل بإبدال الهمزة ياء نحو :
يقرى في يقرىء . وقرأ عبد الله : للمؤمنين بلام الجر على معنى : ترتب وتهيىء . ويظهر
أنَّ الأصل تعديته لواحد بنفسه ، وللآخر باللام لأن ثلاثيه لا يتعدى بنفسه ، إنما
يتعدى بحرف جر .
وقرأ الأشهب : مقاعد القتال على الإضافة ، وانتصاب مقاعد على أنه مفعول ثان لتبوى
. ومَنْ قرأ للمؤمنين كان مفعولاً لتبوىء ، وعداه باللام كما في قوله : ) وَإِذْ
بَوَّأْنَا أَنَاْ لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ( وقيل : اللام في لابراهيم
زائدة ، واللام في للقتال لام العلة تتعلق بتبوىء . وقيل : في موضع الصفة لمقاعد .
وفي الآية دليل على أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر ويختارون لهم المواضع
للحرب ، وعلى
" صفحة رقم 50 "
الأجناد طاعتهم قاله : الماتريدي . وهو ظاهر .
( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( أي سميع وقوالكم ، عليم بنياتكم . وجاءت هاتان
الصفتان هنا لأنّ في ابتداء هذه الغزوة مشاورة ومجاوبة بأقوال مختلفة ، وانطواء
على نيات مضطربة حبسما تضمنته قصة غزوة أُحد .
آل عمران : ( 122 ) إذ همت طائفتان . . . . .
( إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ ( الطائفتان : بنو سلمة من
الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وهما الجناحان قاله : ابن عباس ، وجابر ، والحسن ،
وقتادة ، ومجاهد ، والربيع ، والسدي ، وجمهور المفسرين . وقيل : الطائفتان هما من
الأنصار والمهاجرين .
روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خرج في ألف . وقيل : في تسعمائة وخمسين
، والمشركون في ثلاثة آلاف . ووعدهم الفتح إن صبروا ، فانخذل عبد الله بن أبي بثلث
الناس . وسببُ انخذاله أنه أشار على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالمدينة
حين شاوره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولم يشاوره قبلها ، فأشار عليه
بالمقام في المدينة فلم يفعل وخرج ، فغضب عبد الله وقال : أطاعهم ، وعصاني . وقال
: يا قوم علامَ نقتل أنفسنا وأولادنا ، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري . وفي رواية
أبو جابر السلمي فقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم . فقال عبد الله : لو نعلمُ
قتالاً لاتبعناكم ، فهم الجبان باتباع عبد الله ، فعصمهم الله ومضوا مع رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال ابن عباس : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم الله لهم على
الرشد فثبتوا ، وهذا لهمّ غير مؤاخذ به ، إذ ليس بعزيمة ، إنما هو ترجيح من غير
عزم . ولا شك أن النفس عندما تلاقى الحروب ومن يجالدها يزيد عليها مثلين وأكثر ،
يلحقها بعض الضعف عن الملاقاة ، ثم يوطئها صاحبها على القتال فتثبت وتستقر . ألا
ترى إلى قول الشاعر : وقولي : كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
وإذ همت : بدل من إذ غدوت . قال الزمخشري : أو عمل فيه معنى سميع عليم انتهى .
وهذا غير محرر ، لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين ، فتحريره أن يقول : أو عمل
فيه معنى سميع أو عليم ، وتكون المسألة من باب التنازع . وجوز أن يكون معمولاً
لتبوى ، ولغدوت . وهمّ يتعدى بالباء ، فالتقدير : بأن تفشلا والمعنى : أن تفشلا عن
القتال . وأما أحسن قول الشاعر في التحريض على القتال والنهي عن الفشل : قاتلوا
القوم بالخداع ولا
يأخذكم عن قتالهم فشل
القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا
وأدغم السبعة تاء التأنيث في الطاء ، وعن قالون خلاف ذكرناه في عقد اللآلىء في
القراءات السبع العوالي من إنشائنا . والظاهر أن هذا لهم كان عند تبوئة الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) ) مقاعد للقتال وانخذال عبد الله بمن انخذل . وقيل : حين
أشاروا عليه بالخروج وخالفوا عبد الله بن أبي . وفي قوله : طائفتان إشارة لطيفة
إلى الكناية عن من يقع منه ما لا يناسب والستر عليه ، إذ لم يعين الطائفتين
بأنفسهما ، ولا صح بمن هما منه من القبائل ستراً عليهما .
( وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ( معنى الولاية هنا التثبيت والنصر ، فلا ينبغي لهما أن
يفشلا . وقيل : جعلها من أوليائه المثابرين على طاعته . وفي البخاري عن جابر بن
عبد الله الأنصاري قال : فينا نزلت ) إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن
تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ( قال : نحن الطائفتان بنو
" صفحة رقم 51 "
حارثة ، وبنو سلمة . وما تحب أنها لم تنزل لقول الله : ) وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا (
، قال ذلك جابر لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله ، وإنزاله فيهم
آية ناطقة بصحة الولاية ، وأنّ تلك الهمة المصفوح عنها لكونها ليست عزماً ، كانت
سبباً لنزولها . وقرأ عبد الله : والله وليهم أعاد الضمير على المعنى لا على لفظ
التثنية ، كقوله : ) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( )
هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ ( وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، بل جاءت
مستأنفة لثناء الله على هاتين الطائفتين .
( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( لما ذكر تعالى ما همت به
الطائفتان من الفشل ، وأخبر تعالى أنه وليهما ، ومَنْ كان الله وليه فلا يفوض أمره
لا إليه . أمرهم بالتوكل عليه ، وقدم المجرور للاعتناء بمن يتوكل عليه ، أو
للاختصاص على مذهب من يرى ذلك . ونبّه على الوصف الذي يقتضي ذلك وهو الإيمان ،
لأنَّ مَنْ آمن بالله خير أن لا يكون اتكاله إلا عليه ، ولذلك قال : ) وَعَلَى
اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( وأتى به عاماً لتندرج الطائفتان
الهامّتان وغيرهم في هذا الأمر ، وأن متعلقة من قام به الإيمان . وفي هذا الأمر
تحريض على التغبيط بما فعلته الطائفتان من اتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
) والمسير معه .
آل عمران : ( 123 ) ولقد نصركم الله . . . . .
( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ( لمّا أمرهم بالتوكل
عليه ذكّرهم بما يوجب التوكل عليه ، وهو ما سنى لهم ويسر من الفتح والنصر يوم بدر
، وهم في حال قلة وذلة ، إذ كان ذلك النصر ثمرة التوكل عليه والثقة به . والنصر
المشار إليه ببدر بالملائكة ، أو بإلقاء الرعب ، أو بكف الحصى التي رمى بها رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو بإرادة الله لقوله : ) وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ
مِنْ عِندِ اللَّهِ ( أقوال .
والجملة من قوله : وأنتم أذلة حال من المفعول في نصركم ، والمعنى : وأنتم أذلة في
أعين غيركم ، إذ كانوا أعزة في أنفسهم ، وكانوا بالنسبة إلى عدوهم ، وجميع الكفار
في أقطار الأرض عند المتأمل مغلوبين . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) :
( اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ) .
والأذلة : جمع ذليل . وجمع الكثرة ذلان ، فجاء على جمع القلة ليدل أنهم كانوا
قليلين . والذلة التي ظهرت لغيرهم عليهم هي ما كانوا عليه من الضعف وقلة السلاح
والمال والمركوب . خرجوا على النواضح يعتقب النفر على البعير الواحد ، وما كان
معهم من الخيل إلا فرس واحد ، ومع عدوهم مائة فرس . وكان عدد المسلمين ثلاثمائة
رجل وثلاثة عشر رجلاً : سبعة وسبعون من المهاجرين وصاحب رايتهم علي بن أبي طالب ،
ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وصاحب رايتهم سعد بن عبادة . وقيل : ثلاثمائة
وستة عشر رجلاً . وقيل : ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً . وفي رواية : ثلاثمائة وبضعة
عشر رجلاً . وكان عدوهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل . وما أحسن قول الشاعر :
وقائلة ما بال أسوة عاديا
تفانت وفيها قلة وخمول
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش ، وعلى يوم بدر انبنى الإسلام .
وكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان لثمانية عشر شهراً من الهجرة .
( فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( أمر بالتقوى مطلقاً . وقيل : في
الثبات مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وترجيه الشكر إمّا على الأنعام
السابق بالنصر يوم بدر ، أو على الأنعام المرجو أنْ يقع . فكأنه قيل : لعلكم ينعم
عليكم نعمة أخرى فتشكرونها . وضع الشكر موضع الأنعام لأنه سبب له .
آل عمران : ( 124 ) إذ تقول للمؤمنين . . . . .
( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ
" صفحة رقم 52 "
أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ
بَلَى ( ظاهر هذه الآية اتصالها بما قبلها ، وأنّها من قصة بدر ، وهو قول الجمهور
، فيكون إذ معمولاً لنصركم . وقيل : هذا من تمام قصة أحد ، فيكون قوله : )
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ( معترضاً بين الكلامين لما فيه من التحريض
على التوكل والثبات للقتال . وحجة هذا القول أن يوم بدر كان المدد فيه من الملائكة
بألف ، وهنا بثلاثة آلاف وخمسة آلاف . والكفار يوم بدر كانوا ألفاً ، والمسلمون
على الثلث . فكان عدد الكفار ثلاثة آلاف ، فوعدوا بثلاثة آلاف من الملائكة . وقال
: ويأتوكم من فورهم ، أي الإمداد . ويوم بدر ذهب المسلمون إليهم . قال الزمخشري :
( فإن قلت ) : كيف يصح أن يقوله لهم يوم أُحد ، ولم ينزل فيه الملائكة ؟ ( قلت ) :
قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم . فلم يصبروا عن الغنائم ، ولم يتقوا حيث
خالفوا أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فلذلك لم تنزل الملائكة ، ولو
تموا على ما شرط عليهم لنزلت . وإنما قدّم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا
على الثبات ، ويثقوا بنصر الله انتهى كلامه .
وقوله : لم تنزل فيه الملائكة ليس مجمعاً عليه ، بل قال مجاهد : حضرت فيه الملائكة
ولم تقاتل ، فعلى قول مجاهد يسقط السؤال . وقوله : قاله لهم مع اشتراط الصبر
والتقوى عليهم ، فلم يصبروا عن الغنائم ، ولم يتقوا إلى آخره المشروط بالصبر
والتقوى هو الإمداد بخمسة آلاف . أمّا الإمداد الأوّل وهو بثلاثة آلاف فليس بمشروط
، ولا يلزم من عدم إنزال خمسة آلاف لفوات شرطه أن لا ينزل ثلاثة آلاف ، ولا شيء
منها ، وأجيب عن عدم إنزال ثلاثة آلاف : أنه وعدٌ من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) ) للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال ، وأمرهم بالسكون والثبات فيها ، فكان هذا
الوعد مشروطاً بالثبوت في تلك المقاعد . فلما أهملوا الشرط لم يحصل المشروط انتهى
. ولا خفاء بضعف هذا الجواب . قال الضحاك : كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم
أحد ، ففرّ الناس وولوا مدبرين فلم يهدهم الله ، وإنما مدوا يوم بدر بألف من
الملائكة . وقال ابن زيد : لم يصبروا . وقال عكرمة : لم يصبروا ، ولم يتقوا يوم
أحد ، فلم يمدوا . ولو مدوا لم ينهزموا . وكان الوعد بالإمداد يوم بدر ، ورجح أنه
قال ذلك يوم بدر ، فظاهر اتصال الكلام . ولأن قلة العدد ، والعدد كان يوم بدر ،
فكانوا إلى تقوية قلوبهم بالوعد أحوج . ولأنّ الوعد بثلاثة آلاف كان ، غير مشروط ،
فوجب حصوله . وإنما حصل يوم بدر والجمع بين ألف وثلاثة آلاف كان غير مشروط ، فوجب
حصوله ، وإنما حصل يوم بدر أنهم مدوا أولاً بألف ، ثم زيد فيهم ألفان ، وصارت
ثلاثة آلاف . أو مدوا بألف أولاً ، ثم بلغهم إمداد المشركين بعدد كثير ، فوعد
بالخمسة على تقدير إمداد الكفار . فلم يمد الكفار ، فاستغنى عن إمداد المسلمين .
والظاهر في هذه الأعداد إدخال الناقص في الرائد ، فيكون وعدوا بألف ، ثم ضم إليه
ألفان ، ثم ألفان ، فصار خمسة . ومن ضم الناقص إلى الزائد وجعل ذلك في قصة أحد ،
فيكونون قد وعدوا بثمانية آلاف . أو في قصة بدر فيكونون قد وعدوا بتسعة آلاف . ولم
تتعرض الآية الكريمة لنزول الملائكة ، ولا لقتالهم المشركين وقتلهم ، بل هو أمر
مسكوت عنه في الآية . وقد تظاهرت الروايات وتظافرت على أن الملائكة حضرت بدراً
وقاتلت . ذكر ذلك ابن عطية عن جماعة من الصحابة بما يوقف عليه في كتابه . ولما لم
تتعرض له الآية لم نكثر كتابنا بنقله . وذكر ابن عطية أن الشعبي قال : لم تمد
المؤمنون بالملائكة يوم بدر ، وكانت الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) ) مدداً ، وهي تحضر حروب المسلمين إلى يوم القيامة . قال : وخالف
الناس الشعبي في هذه المقالة ، وذكر أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ما نصه وأجمع
أهل التفسير والسير : على أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا
" صفحة رقم 53 "
الكفار . ثم قال : وأما أبو بكر الأصم فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار ، وذكر عنه حججاً
ثم قال : وكل هذه الشبه تليق بمن ينكر القرآن والنبوّة ، لأن القرآن والسنة ناطقان
بذلك ، يعني بإنزال الملائكة . ثم قال : واختلفوا في نصرة الملائكة . فقيل :
بالقتال . وقيل : بتقوية نفوس المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكفار . والظاهر في
المدد أنهم يشركون الجيش في القتال ، وأن يكون مجرد حضورهم كافياً انتهى كلامه .
ودخلت أداة الاستفهام على حرف النفي على سبيل الإنكار ، لانتفاء الكفاية بهذا
العدد من الملائكة . وكان حرف النفي ( لن ) الذي هو أبلغ في الاستقبال من لا ،
إشعاراً بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكتهم كالآيسين من النصرة .
وبلى : إيجاب لما بعد لن ، يعني : بلى يكفيكم الإمداد بهم ، فأوجب الكفاية . وفي
مصحف أبيّ : ألا يكفيكم انتهى . ومعظمه من كلام الزمخشري .
وقال ابن عطية : ألن يكفيَكُم تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد من
الملائكة ؟ ومن حيث كان الأمر بيتاً في نفسه أن الملائكة كافية ، بادر المتكلم إلى
جواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه فقال : بلى ، وهي جواب المقررين . وهذا يحسن في
الأمور البينة التي لا محيد في جوابها ، ونحوه قوله تعالى : ) قُلْ أَىُّ شَىْء
أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ ( انتهى . وقال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل
المرسي : ألن يكفيكم جواب الصحابة حين قالوا : هلا أعلمتنا بالقتال لنتأهب . فقال
لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ألن يكفيكم ) . قال ابن عيسى : والكفاية
مقدار سد الخلة ، والإمداد إعطاء الشيء حالاً بعد حال انتهى .
وقرأ الحسن : بثلاثة آلاف يقف على الهاء ، وكذلك بخمسة آلاف . قال ابن عطية : ووجه
هذه القراءة ضعيف ، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال ، إذ هما كالاسم
الواحد ، وإنما الثاني كمال الأول . والهاء إنما هي أمارة وقف ، فتعلق الوقف في
موضع إنما هو للاتصال ، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع . فمن ذلك ما حكاه
الفراء أنهم يقولون : أكلت لحما شاة ، يريدون لحم شاة ، فمطلوا الفتحة حتى نشأت
عنها ألف ، كما قالوا في الوقف قالا : يريدون . قال : ثم مطلوا الفتحة في القوافي
ونحوها في مواضع الروية والتثبت . ومن ذلك في الشعر قول الشاعر : ينباع من زفرى
غضوب جسرة
زيانة مثل الغنيق المكرم
يريد ينبع فمطل . ومنه قول الآخر : أقول إذ خرَّت على الكلكال
يا ناقتا ما جلت من مجال
يريد الكلكال فمطل . ومنه قول الآخر : فأنت من الغوائل حين ترمى
ومن ذم الرجال بمنتزاح
يريد بمنتزح . قال أبو الفتح : فإذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة
الواحدة ، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه ، إذ هما في الحقيقة إثنان
انتهى كلامه . وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب ، والذي يناسب توجيه هذه القراءة
الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى الوقف ، أبدلها هاء في الوصل ، كما أبدلوا لها
هاء في الوقف ، وموجود في كلامهم إجراء الوصل مجرى الوقف ، وإجراء الوقف مجرى
الوصل . وأما قوله : لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع ، وجميع ما ذكر إنما هو من
باب إشباع الحركة . وأشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاءً في الوصل ، وإنما هو
نظير قولهم : ثلاثة
" صفحة رقم 54 "
أربعة ، أبدل التاء هاء ، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها ، وحذف الهمزة ، فأجرى
الوصل مجرى الوقف في الإبدال . ولأجل الوصل نقل إذ لا يكون هذا النقل إلا في الوصل
.
وقرىء شاذاً بثلاثة آلاف بتكسين التاء في الوصل ، أجراه مجرى الوقف . واختلفوا في
هذه التاء الساكنة أهي بدل من الهاء التي يوقف عليها أم تاء التأنيث هي ؟ وهي التي
يوقف عليها بالتاء كما هي ؟ وهي لغة .
وقرأ الجمهور منزلين بالتخفيف مبنياً للمفعول ، وابن عامر بالتشديد مبنياً للمفعول
أيضاً ، والهمزة والتضعيف للتعدية فهما سيان . وقرأ ابن أبي عبلة : منزلين بتشديد
الزاي وكسرها مبنياً للفاعل . وبعض القراء بتخفيفها وكسرها مبنياً للفاعل أيضاً ،
والمعنى : ينزلون النصر .
آل عمران : ( 125 ) بلى إن تصبروا . . . . .
( إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُسَوّمِينَ ( رتب تعالى على
مجموع الصبر والتقوى وإتيان العدد من فورهم إمداده تعالى المؤمنين بأكثر من العدد
السابق وعلّقه على وجودها ، بحيث لا يتأخر نزول الملائكة عن تحليهم بثلاثة الأوصاف
. ومعنى من فورهم : من سفرهم . هذا قاله ابن عباس . أو من وجههم هذا قاله : الحسن
، وقتادة ، والسدي . قيل : وهي لغة هذيل ، وقيس ، وغيلان ، وكنانة : أو من غصبهم
هذا قاله : مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو صالح مولى أم هانىء أو معناه في
نهضتهم هذه قاله : ابن عطية . أو المعنى من ساعتهم هذه قاله الزمخشري .
ولفظة الفور تدل على السرعة والعجلة . تقول : افعل هذا على الفور ، لا على التراخي
. ومنه الفور في الحج والوضوء . وفي إسناد الإمداد إلى لفظة ربكم دون غيره من
أسماء الله إشعارٌ بحسن النظر لهم ، واللطف بهم .
وقرأ الصاحبان والأخوان مسوّمين بفتح الواو ، وأبو عمرو وابن كثير وعاصم : بكسرها
. وقيل : من السوم ، وهي العلامة يكون على الشاة وغيرها ، يجعل عليها لون يخالف
لونها لتعرف . وقيل : من السوم وهو ترك البهيمة ترعى . فعلى الأول روي أن الملائكة
كانت بعمائم بيض ، إلا جبريل فبعمامة صفراء كالزبير قاله : ابن إسحاق ، والزجاج .
وقيل : بعمائم صفر كالزبير قاله : عروة وعبد الله ابنا الزبير ، وعباد بن حمزة بن
عبد الله بن الزبير ، والكلبي وزاد : مرخاة على أكتافهم . قيل : وكانوا على خيل
بلق ، وكانت سيماهم قاله : قتادة ، والربيع . أو خيلهم مجزوزة النواصي والأذناب ،
معلمتها بالصوف والعهن . قاله : مجاهد . فبفتح الواو ومعلمين ، وبكسرها معلمين
أنفسهم أو خيلهم . ورجح الطبري قراءة الكسر ، بأنه عليه الصلاة والسلام قاله يوم
بدر : ) سوّموا فإن الملائكة قد سوّمته ( وعلى القول الثاني : وهو السوم . فمعنى
مسوِّمين بكسر الواو : وسوّموا خيلهم أي أعطوها من الجري والجولان للقتال ، ومنه
سائمة الماشية . وأما بفتح الواو فيصح فيه هذا المعنى أيضاً ، قاله : المهدوي وابن
فورك . أي سوّمهم الله تعالى ، بمعنى أنه جعلهم يجولون ويجرون للقتال . وقال أبو
زيد : سوّم الرجل خيله أي أرسلها في الغارة . وحكى بعض البصريين : سوّم الرجل
غلامه أرسله وخلى سبيله . ولهذا قال الأخفش : معنى مسوّمين مرسلين . وفي الآية
دليل على جواز اتخاذ العلامة للقبائل والكتائب لتتميز كل قبيلة وكتيبة عند الحرب .
آل عمران : ( 126 ) وما جعله الله . . . . .
( وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ
( الظاهر أن الهاء في جعله عائدة على المصدر والمفهوم من يمددكم وهو الإمداد .
وجوّز أن يعود على التسويم ، أو على النصر ، أو على التنزيل ، أو على العدد ، أو
على الوعد . وإلاّ بشرى مستثنى من المفعول له ، أي : ما جعله الله لشيء إلا بشرى
لكم . فهو استثناء فرغ له العامل ، وبشرى مفعول من أجله . وشروط نصبه موجودة وهو :
" صفحة رقم 55 "
أنه مصدر متحد الفاعل والزمان . ولتطمئن معطوف على موضع بشرى ، إذ أصله لبشرى .
ولما اختلف الفاعل في ولتطمئن ، أتى باللام إذ فات شرط اتحاد الفاعل ، لأن فاعل
بشرى هو الله ، وفاعل تطمئن هو قلوبكم . وتطمئن منصوب بإضمار أن بعد لام كي ، فهو
من عطف الإسم على توهم . موضع اسم آخر ، وجعل على هذا التقدير متعدية إلى واحد .
وقال الحوفي : إلا بشرى في موضع نصب على البدل من الهاء ، وهي عائدة على الوعد
بالمدد . وقيل : بشرى مفعول ثان لجعله الله . فعلي هذين القولين تتعلق اللام في
لتطمئن بمحذوف ، إذ ليس قبله عطف يعطف عليها . قالوا : تقديره ولتطمئن قلوبكم به
بشركم . وبشرى : فعلى مصدر كرجعى ، وهو مصدر من بشر الثلاثي المجرد ، والهاء في به
تعود على ما عادت عليه في جعله على الخلاف المتقدم .
وقال ابن عطية : اللام في ولتطمئن متعلقة بفعل مضمر يدل عليه جعله . ومعنى الآية :
وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به ، وتطمئن به قلوبكم انتهى . وكأنه رأى أنه
لا يمكن عنده أن يعطف ولتطمئن على بشرى على الموضع ، لأن من شرط العطف على الموضع
عند أصحابنا أن يكون ثم محزر للموضع ، ولا محرز هنا ، لأن عامل الجر مفقود . ومن
لم يشترط المحرز فيجوز ذلك على مذهبه ، وإن لا فيكون من باب العطف على التوهم كما
ذكرناه أولاً .
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي : قال بعضهم : الواو زائدة في ولتطمئن .
وقال أيضاً في ذكر الإمداد : مطلوبان ، أحدهما : إدخال السرور في قلوبهم ، وهو
المراد بقوله : ألا بشرى . والثاني : حصول الطمأنينة بالنصر ، فلا تجبنوا ، وهذا
هو المقصود الأصلي . ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين
الأمرين ، فعطف الفعل على الإسم . ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة أدخل حرف
التعليل انتهى . وفيه بعض ترتيب وتناقش في قوله : فعطف الفعل على الاسم ، إذ ليس
من عطف الفعل على الاسم . وفي قوله : أدخل حرف التعليل ، وليس ذلك لما ذكر .
( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( حصر كينونة
النصر في جهته ، لا أنَّ ذلك يكون من تكثير المقاتلة ، ولا من إمداد الملائكة .
وذكر الإمداد بالملائكة تقوية لرجاء النصر لهم ، وتثبيتاً لقلوبهم . وذكر وصف
العزة وهو الوصف الدال على الغلبة ، ووصف الحكمة وهو الوصف الدال على وضع الأشياء
مواضعها من : نصرٍ وخذلان وغير ذلك .
آل عمران : ( 127 ) ليقطع طرفا من . . . . .
( لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ
خَائِبِينَ ( الطرف : من قتل ببدر هم سبعون من رؤساء قريش ، أو من قتل بأحد وهم
إثنان وعشرون رجلاً على الصحيح . وقال السدي : ثمانية عشر ، أو مجموع المقتولين في
الوقعتين ثلاثة أقوال . وكنى عن الجماعة بقوله : طرفاً ، لأن من قتله المسلمون في
حرب هم طرف من الكفار ، إذ هم الذين يلون القاتلين ، فهم حاشية منهم . فكان جميع
الكفار رفقة ، وهؤلاء المقتولون طرفاً منها . قيل : ويحتمل أن يراد بقوله : طرفاً
دابراً أي آخراً ، وهو راجع لمعنى الطرف ، لأن آخر الشيء طرف منه ) أَوْ
يَكْبِتَهُمْ ( : أي ليخزيهم ويغيظهم ، فيرجعوا غير ظافرين بشيء مما أملوه . ومتى
وقع النصر على الكفار ، فإما بقتل ، وإما بخيبة ، وإما بهما . وهو كقوله : )
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً ).
وقرأ الجمهور أو تكبتهم بالتاء . وقرأ لاحق بن حميد : أو يكبدهم بالدال مكان التاء
، والمعنى : يصيب الحزن كبدهم . وللمفسرين في يكبتهم أقوال : يهزمهم قاله : ابن
عباس والزجاج ، أو يخزيهم قاله : قتادة ومقاتل ، أو يصرعهم قاله . أبو عبيدة
واليزيدي ، أو يهلكهم قاله : أبو عبيدة . أو يلعنهم قاله : السدي . أو يظفر عليهم
قاله : المبرد . أو يغيظهم قاله : النضر بن شميل ، واختاره ابن قتيبة . وأما قراءة
لاحق فهي من إبدال الدال بالتاء كما قالوا . هوت الثوب وهرده إذا حرفه ، وسبت رأسه
وسبده إذا حلقه ، فكذلك كبت العدو وكبده أي أصاب كبده .
واللام في ليقطع يتعلق قيل : بمحذوف تقيديره أمدكم أو نصركم . وقال الحوفي : يتعلق
" صفحة رقم 56 "
بقوله : ) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ ( أي نصركم ليقطع . قال : ويجوز أن يتعلق
بقوله : ) وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ ). ويجوز أن تكون متعلقة
بيمددكم . وقال ابن عطية : وقد يحتمل أن تكون اللام متعلقة بجعله ، وقيل : هو
معطوف على قوله . ولتطمئن ، وحذف حرف العطف منه ، التقدير : ) وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُمْ بِهِ ( ، وتكون الجملة من قوله : وما النصر إلا من عند الله اعتراضية
بين المعطوف عليه والمعطوف . والذي يظهر أنْ تتعلق بأقرب مذكور وهو : العامل في من
عند الله وهو خبر المبتدأ . كأنّ التقدير : وما النصر إلا كائن من عند الله ، لا
من عند غيره . لأحد أمرين : إما قطع طرف من الكفار بقتل وأسر ، وإما بخزي وانقلاب
بخيبة . وتكون الألف واللام في النصر ليست للعهد في نصر مخصوص ، بل هي للعموم ، أي
: لا يكون نصر أي نصر من الله للمسلمين على الكفار إلا لأحد أمرين .
2 (
آل عمران : ( 128 ) ليس لك من . . . . .
( لَيْسَ لَكَ مِنَ الاٌّ مْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ
فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ
يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً
مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُواْ النَّارَ
الَّتِىأُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ ( ) ) 2
) خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء ( اختلف في سبب النزول وملخصه : أنه
لعن ناساً أو شخصاً عين أنه عتبة بن أبي وقاص ، أو أشخاصاً دعا عليهم وعينوا : أبا
سفيان ، والحارث بن هشام ، وصفوان بن أمية . أو قبائل عين منها : لحيان ، ورعل ،
وذكوان ، وعصية . أو هم بسبب الذين انهزموا يوم أحد ، أو استأذن ربه أن يدعو .
ودعا يوم أحد حين شجَّ في وجهه ، وكسرت رباعيته ، ورمي بالحجارة ، حتى صرع لجنبه ،
فلحقه ناس من فلاحهم ، ومال إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم ، فنزلت . فعلى هذه
الأسباب يكون معنى الآية : التوقيف على أن جميع الأمور إنما هي لله ، فيدخل فيها
هداية هؤلاء وإقرارهم على حالة . وفي خطابه : دليل على صدور أمر منه أو هم به ، أو
استئذان في الدعاء كما تقدّم ذكره ، وأن عواقب الأمور بيد الله . قال الكوفيون :
نسخت هذه الآية القنوت على رعل وذكوان وعصية وغيرهم من المشركين . وقال السخاوي :
ليس هذا شرط الناسخ ، لأنه لم ينسخ قرآناً .
( أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ( قيل : هو
عطف على ما قبله من الأفعال المنصوبة . ويكون قوله : ليس لك من الأمر شيء جملة
اعتراضية ، والمعنى : أن الله مالك أمرهم ، فإما أنْ يهلكهم ، أو يهزمهم ، أو يتوب
عليهم إن أسلموا ، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر . وقيل : أن مضمرة بعد أو ، بمعنى
: إلا أن ، وهي التي في قولهم : لألزمنك أو تقضيني حقي ، والمعنى : أنه ليس له من
أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم بالإسلام فيسر بهداهم ، أو يعذبهم بقتل وأسر في
الدنيا ، أو بنار في الآخرة ، فيستشفى بذلك ويستريح . وعلى هذا التأويل تكون
الجملة المنفية للتأسيس ، لا للتأكيد . وقيل : أو يتوب معطوف على الأمر . وقيل :
على شيء . أي : ليس لك من الأمر ، أو من توبتهم ، أو تعذيبهم شيء . أو ليس لك من
الأمر شيء ، أو تعذيبهم . والظاهر من هذه التخاريج الأربعة هو الأول . وأبعد من
ذهب إلى أن قوله : ليس لك من الأمر ، أي أمر الطائفتين اللتين همتا أن تفشلا .
وقال ابن بحر : من الأمر أي ، من هذا النصر ، وإنما هو من الله كما قال : ) وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ( وقيل : المراد بالأمر أمر القتال . والظاهر الحمل على
العموم ، والأمور كلها لله تعالى .
وقرأ أبي : أو يتوب عليهم أو يعذبهم برفعهما على معنى : أو هو يتوب عليهم ، ثم نبه
على العلة المقتضية للتعذيب بقوله : فإنهم ظالمون ، وأتى بأنْ الدالة على التأكيد
في نسبة الظلم إليهم .
( وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ
" صفحة رقم 57 "
آل عمران : ( 129 ) ولله ما في . . . . .
لمّا قدم ليس لك من الأمر شيء ، بيَّن أن الأمور إنما هي لمن له الملك ، والملك
فجاء بهذه الجملة مؤكدة للجملة السابقة . وتقدم شرح هذه الجملة . وما : إشارة إلى
جملة العالم وما هيأته ، فلذلك حسنت ما هنا .
( يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء ( لما تقدّم قوله : أو يتوب عليهم
أو يعذبهم ، أتى بهذه الجملة موضحةً أن تصرفاته تعالى على وفق مشيئته ، وناسب
البداءة بالغفران ، والإرداف بالعذاب ما تقدم من قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم ،
ولم يشرط في الغفران هنا التوبة . إذ يغفر تعالى لمن يشاء من تائب وغير تائب ، ما
عدا ما استثناه تعالى من الشرك . وقال الزمخشري ما نصه عن الحسن رحمه الله : يغفر
لمن يشاء بالتوبة ، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين . ويعذب من يشاء ، ولا يشاء أن
يعذب إلا المستوجبين للعذاب . وعن عطاء : يغفر لمن يتوب إليه ، ويعذب من لقيه
ظالماً وأتباعه قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، تفسير بين لمن يشاء
، فإنهم المتوب عليهم أو الظالمون . ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون ويتعامون عن
آيات الله تعالى ، فيخبطون خبط عشواء ، ويطيبون أنفسهم بما يفترون . عن ابن عباس
من قولهم : يهب الذنب الكبير لمن يشاء ، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير . انتهى
كلامه . وهو مذهب المعتزلة . وذلك أن من مات مصراً على كبيرة لا يغفر الله له .
وما ذكره عن الحسن لا يصح ألبتّة . ومذهب أهل السنة ؛ أنّ الله تعالى يغفر لمن
يشاء وإنّ مات مصرًّا على كبيرة غير تائب منها .
( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( في هذه الجملة ترجيح لجهة الإحسان والإنعام )
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً
(
آل عمران : ( 130 ) يا أيها الذين . . . . .
قال ابن عطية : هذا النهي عن أكل الربا اعترض أثناء قصة أحد ، ولا أحفظ شيئاً في
ذلك مروياً انتهى .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ومجيئها بين أثناء القصة : أنّه لما نهى المؤمنين عن
اتخاذ بطانة من غيرهم ، واستطرد لذكر قصة أحد . وكان الكفار أكثر معاملاتهم بالربا
مع أمثالهم ومع المؤمنين ، وهذه المعاملة مؤدية إلى مخالطة الكفار ، نهوا عن هذه
المعاملة التي هي الربا قطعاً لمخالطة الكفار ومودّتهم ، واتخاذ إخلاء منهم ، لا
سيما والمؤمنون في أول حال الإسلام ذوو إعسار ، والكفار من اليهود وغيرهم ذوو يسار
. وكان أيضاً أكل الحرام له مدخل عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية ، كما
جاء في الحديث : ( إن الله تعالى لا يستجيب لمن مطعمه حرام ومشربه حرام إذا دعا )
( وأن آكل الحرام يقول إذا حج : لبيك وسعديك . فيقول الله له : لا لبيك ولا سعديك
، وحجك مردود عليك ) فناسب ذكر هذه الآية هنا .
وقيل : ناسب اعتراض هذه الجملة هنا أنه تعالى وعد المؤمنين بالنصر والإمداد
مقروناً بالصبر والتقوى ، فبدأ بالأهم منها وهو : ما كانوا يتعاطونه من أكل
الأموال بالباطل ، وأمر بالتقوى ، ثم بالطاعة . وقيل : لما قال تعالى : ) وَللَّهِ
مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( وبيّن أنّ ما فيهما من الموجودات ملك
له ، ولا يجوز أنْ يتصرّف في شيء منها إلا بإذنه على الوجه الذي شرعه . وآكلُ
الربا متصرّف في ماله بغير الوجه الذي أمر ، نبَّه تعالى على ذلك ، ونهى عما كانوا
في الإسلام مستمرّين عليه من حكم الجاهلية ، وقد تقدم الربا في سورة البقرة .
وانتصب أضعافاً ، فانهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها ، كان الطالب
يقول : أتقضي أم تربي ، وربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين ، لأنه إذا لم يجد
وفاء زاد في الدين ، وزاد في الأصل . وأشار بقوله : مضاعفة ، إلى أنهم كانوا
يكررون التضعيف عاماً بعد عام . والربا محرم جميع أنواعه ، فهذه الحال لا مفهوم
لها ، وليست قيداً في النهي ، إذ ما لا يقع أضعافاً مضاعفة مساوٍ في التحريم لما
كان أضعافاً مضاعفة . وقد تقدم الكلام في نسبة الآكل إلى الربا في البقرة .
وقيل : المضاعفة منصرفة إلى الأموال . فإن كان الربا في السن يرفعونها ابنة
" صفحة رقم 58 "
مخاض بابنة لبون ، ثم حقة ، ثم جذعة ، ثم رباع ، هكذا إلى فوق . وإن كان في النقود
فمائة إلى قابل بمائتين ، فإن لم يوفهما فأربعمائة . والأضعاف : جمع ضعف ، وهو من
جموع القلة . فلذلك أردفه بالمضاعفة . ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ ( لما نهاهم عن أمر صعب عليهم فراقه وهو الربا ، أمر بتقوى الله إذ هي
الحاملة على مخالفة ما تعوده المرء مما نهي الشرع عنه . ثم ذكر أنّ التقوى سبب
لرجاء الفلاح وهو الفوز ، وأمر بها مطلقاً لا مقيداً بفعل الربا ، لأنه لما نهى عن
الربا كان المؤمنون أسرع شيء لطواعية الله تعالى ، فلم يأت واتقوا الله في أكل
الربا بل أمروا بالتقوى ، لا بالنسبة إلى شيء خاص منعوه من جهة الشريعة . )
وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (
آل عمران : ( 131 ) واتقوا النار التي . . . . .
لما تقدم ( واتقوا الله ) والذوات لا تتقى ، فإنما المتقي محذوف أوضحه في هذه
الآية . فقال : واتقوا النار . والألف واللام في النار للجنس ، فيجوز أن تكون النار
التي وعد بها آكل الربا أخف من نار الكافر ، أي أعدّ جنسها للكافرين . ويجوز أنّ
تكون للعهد ، فيكون آكل الربا قد توعد بالنار التي يعذب بها الكافر . وقيل : توعد
أكلة الربا بنارالكفرة ، إذ النار سبع طبقات : العليا منها وهي جهنم للعصاة ،
والخمس للكفار ، والدرك الأسفل للمنافقين . فأكلة الربا يعذبون بنار الكفار ، لا
بنار العصاة . وقال ابن عباس : هذا تهديد للمؤمنين لئلا يستحلوا الربا .
وقال الزجاج : والمعنى واتقوا أن تحلوا ما حرم الله فتكفروا . وقيل : اتقوا العمل
الذي ينزع منكم الإيمان وتستوجبون به النار . وكان أبو حنيفة يقول : هي أخوف آية
في القرآن ، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه باجتناب
محارمه . قال الزمخشري : وقد أمد ذلك أتبعه بما من تعليق رجاء المؤمن لرحمته
بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله ، ومن تأمل هذه الآيات وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع
الفارغة ، والتمني على الله تعالى . وفي ذكره تعالى لعل وعسى في نحو هذه المواضع ،
وإن قال الناس ما قالوا ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى ، وصعوبة
إصابة رضا الله عز وجل ، وعزّة التوصل إلى رحمته وثوابه انتهى . كلامه وهو جار على
مذهبه من تقنيط العاصي غير التائب من رحمة ربه ، وولوعه بمذهبه يجعله يحمل ألفاظ
القرآن ما لا يحتمله ، أو ما هو بعيد عنها . وتقدم شرح أعدت للكافرين في أوائل
البقرة .
آل عمران : ( 132 ) وأطيعوا الله والرسول . . . . .
( وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( قيل : أطيعوا الله
في الفرائض ، والرسول في السنن . وقيل : في تحريم الربا ، والرسول فيما بلغكم من
التحريم . وقيل : وأطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به وينهاكم عنه . فإن طاعة
الرسول طاعة الله قال تعالى : ) مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ (
وقال المهدوي : ذكر الرسول زيادة في التبيين والتأكيد والتعريف بأن طاعته طاعة
الله . وقال ابن إسحاق : هذه الآية هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد ، وانهزام من
فرَّ ، وزوال الرماة من مركزهم . وقيل : صيغتها الأمر ومعناها العتب على المؤمنين
فيما جرى منهم من أكل الربا ، والمخالفة يوم أحد . والرحمة من الله إرادة الخير
لعبيده ، أو ثوابهم على أعمالهم .
وقد تضمنت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبديع . من ذلك العام المراد به الخاص :
في من أهلك ، قال الجمهور : أراد به بيت عائشة . فالاختصاص في : والله سميع عليم ،
وفي : فليتوكل المؤمنون ، وفي : ما في السموات وما في الأرض ، وفي : يغفر لمن يشاء
ويعذب من
" صفحة رقم 59 "
يشاء خص نفسه بذلك كقوله : ) وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ( نبىء
عبادي أني أنا الغفور الرحيم ( وفي ) ( وفي ) العَزِيزُ الحَكِيمُ ( لأن العز من
ثمرات النصر ، والتدبير الحسن من ثمرات الحكمة .
والتشبيه : في ليقطع طرفاً ، شبه من قتل منهم وتفرّق بالشيء المقتطع الذي تفرقت
أجزاؤه وانخرم نظامه ، وفي : ولتطمئن قلوبكم شبه زوال الخوف عن القلب وسكونه عن
غليانه باطمئنان الرّجل الساكن الحركة . وفي : فينقلبوا خائبين شبه رجوعهم بلا ظفر
ولا غنيمة بمن أمل خيراً من رجل فأمّه ، فأخفق أمله وقصده . والطباق : في نصركم
وأنتم أذلة ، النصر إعزاز وهو ضد الذل . وفي : يغفر ويعذب ، الغفران ترك المؤاخذة
والتعذيب المؤاخذة بالذنب . والتجوز بإطلاق التثنية على الجمع في : أن يفشلا .
وبإقامة اللام مقام إلى في : ليس لك أي إليك ، أو مقام على : أي ليس عليك . والحذف
والاعتراض في مواضع اقتضت ذلك والتجنيس المماثل في : أضعافاً مضاعفة . وتسمية
الشيء بما يؤول إليه في : لا تأكلوا سمَّى الأخذ أكلاً ، لأنه يؤول إليه .
2 ( ) وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالاٌّ رْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى
السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ
ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ أُوْلَائِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى
مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ
لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاٌّ عْلَوْنَ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ
مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاٌّ يَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ
اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ
الْكَافِرِينَ ( ) ) 2
آل عمران : ( 133 ) وسارعوا إلى مغفرة . . . . .
الكظم : الإمساك على غيظ وغم . والكظيم : الممتلىء أسفار ، وهو المكظوم . وقال عبد
المطلب : فخضضت قومي واحتسبت قتالهم
والقوم من خوف المنايا كظم
وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كان يخرج من كثرته ، فضبطه ومنعه كظم له . ويقال :
كظم القربة إذا شدّها وهي ملأى . والكظام : السير الذي يشد به فمها . وكظم البعير
: جرته ردها في جوفه ، أو حبسها قبل أن يرسلها إلى فيه
" صفحة رقم 60 "
ويقال : كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ، ومنه قول الراعي : فأفضن بعد كظومهن
بجرة
من ذي الأباطح أذرعين حقيلا
الحقيل : موضع ، والحقيل أيضاً نبت . ويقال : لا تمنع الإبل جرتها إلا عند الجهد
والفزع ، فلا تجتر . ومنه قول أعشى باهلة يصف نحار الإبل : قد تكظم البزل منه حين
تبصره
حتى تقطع في أجوافها الجرر
الإصرار : اعتزام الدوام على الأمر . وترك الإقلاع عنه ، من صرّ الدنانير ربط
عليها . وقال أبو السمال :
علم الله أنها مني صرى
أي عزيمة . وقال الحطيئة يصف الخيل : عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا
علاليها بالمحضرات أصرت
أي ثبتت على عدوها . وقال آخر : يصر بالليل ما تخفى شواكله
يا ويح كل مصر القلب ختار
السنة : الطريقة . وقال المفضل : الأمة وأنشد : ما عاين الناس من فضل كفضلكم
ولا رؤى مثله في سالف السنن
وسنة الإنسان الشيء الذي يعمله ويواليه ، كقول خالد الهذلي لأبي ذؤيب : فلا تجزعن
من سنة أنت سرتها
فأول راض سنة من يسيرها
وقال سليمان بن قتيبة : وإن الألى بألطف من آل هاشم
تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وقال لبيد : من أمة سنت لهم آباؤهم
ولكل قوم سنة وإمامها
وقال الخليل : سن الشيء صورة . والمسنون المصور ، وسن عليهم شراً صبه ، والماء
والدرع صبهما . واشتقاق السنة يجوز أن يكون من أحد هذين المعنيين ، أو من سن
السنان والنصل حدهما على المسن ، أو من سن الإبل إذا أحسن
" صفحة رقم 61 "
رعيها . السير في الأرض : الذهاب .
وهن الشيء ضعف ، ووهنه الشيء أضعفه . يكون متعدياً ولازماً . وفي الحديث : (
وهنتهم حمى يثرب ) والوهن الضعف . وقال زهير :
فأصبح الحبل منها واهناً خلقاً
القرح والقرح لغتان ، كالضعف والضعف ، والكره والكره : الفتحُ لغة الحجاز : وهو
الجرح . قال حندج : وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة
لعل منايانا تحولن أبؤسا
وقال الأخفش : هما مصدران . ومن قال : القَرح بالفتح الجرح ، وبالضم المد ، فيحتاج
في ذلك إلى صحة نقل عن العرب . وأصل الكلمة الخلوص ، ومنه : ماء قراح لا كدورة فيه
، وأرض قراح خالصة الطين ، وقريحة الرجل خالصة طبعه .
المداولة : المعاودة ، وهي المعاهدة مرة بعد مرة . يقال : داولت بينهم الشيء
فتداولوه . قال : يرد المياه فلا يزال مداويا
في الناس بين تميل وسماع
وأدلته جعلت له دولة وتصريفاً ، والدولة بالضم المصدر ، وبالفتح الفعلة الواحدة ،
فلذلك يقال : في دولة فلان ، لأنها مرة في الدهر . والدور والدول متقاربان ، لكن
الدور أعم . فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيوي .
المحص كالفحص ، لكن الفحص يقال في إبراز الشيء عن خلال أشياء منفصلة عنه . والمحص
عن إبرازه عن أشياء متصلة به . قال الخليل : التمحيص التخليص عن العيوب ، ويقال :
محص الحبل إذا زال عنه بكثرة مره على اليد زبيره وأملس ، هكذا ساق الزجاج اللفظة
الحبل . ورواها النقاش : محص الجمل إذا زال عنه وبره وأملس . وقال حنيف الحناتم :
وقد ورد ماء اسمه طويلع ، إنك لمحص الرشاء ، بعيد المستقى ، مطل على الأعداء .
المعنى : أنه لبعده يملس حبله بمر الأيدي . ) وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( قرأ ابن
عامر ونافع : سارعوا بغير واو على الاستئناف ، والباقون بالواو على العطف . لما
أمروا بتقوى النار أمروا بالمبادرة إلى أسباب المغفرة والجنة . وأمال الدوري في
قراءة الكسائي : وسارعوا لكسرة الراء . وقرأ أبي وعبد الله : وسابقوا والمسارعة :
مفاعلة . إذ الناس كل واحد منهم ليصل قبل غيره فبينهم في ذلك مفاعلة . ألا ترى إلى
قوله : ) فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ( والمسارعة إلى سبب المغفرة وهو الإخلاص ،
قاله عثمان . أو أداء الفرائض قاله علي . أو الإسلام قاله : ابن عباس . أو
" صفحة رقم 62 "
التكبيرة الأولى من الصلاة مع الإمام قاله : أنس ومكحول . أو الطاعة قاله : سعيد
بن جبير . أو التوبة قاله : عكرمة . أو الهجرة قاله : أبو العالية . أو الجهاد
قاله : الضحاك . أو الصلوات الخمس قاله : يمان . أو الأعمال الصالحة قاله : مقاتل
. وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التعيين والحصر .
قال الزمخشري : ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الإقبال على ما يستحقان به
انتهى . وفي ذكر الاستحقاق دسيسة الاعتزال ، وتقدم ذكر المغفرة على الجنة لأنها
السبب الموصل إلى الجنة ، وحذف المضاف من السموات أي : عرض السموات بعد حذف أداة
التشبيه أي : كعرض . وبعد هذا التقدير اختلفوا ، هل هو تشبيه حقيقي ؟ أو ذهب به
مذهب السعة العظيمة ؟ لما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في الغاية القصوى ، إذ
السموات والأرض أوسع ما علمه الناس من مخلوقاته وأبسطه ، وخص العرض لأنه في العادة
أدنى من الطول للمبالغة ، فعلى هذا لا يراد عرض ولا طول حقيقة قاله : الزجاج .
وتقول العرب : بلاد عريضة ، أي واسعة . وقال الشاعر : كأن بلاد الله وهي عريضة
على الخائف المطلوب كفة حابل
والقول الأول عن ابن عباس وغيره . قال ابن عباس وسعيد بن جبير : والجمهور تقرن
السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ، فذلك عرض الجنة ، ولا يعلم طولها
إلا الله انتهى ولا ينكر هذا . فقد ورد في الحديث في وصف الجنة وسعتها ما يشهد
لذلك . وأورد ابن عطية من ذلك أشياء في كتابه . والجنة على هذا القول أكبر من
السموات ، وهي ممتدّة في الطول حيث شاء الله . وخص العرض بالذكر لدلالته على الطول
، والطول إذا ذكر لا يدل على سعة العرض ، إذ قد يكون العرض يسيراً كعرض الخيط .
وقال قوم : معناه كعرض السموات والأرض طباقاً ، لا بأنْ تقرن كبسط الثياب . فالجنة
في السماء وعرضها كعرضها ، وعرض ما وازاها من الأرضين إلى السابعة ، وهذه دلالة
على العظيم . وأغنى ذكر العرض عن ذكر الطول . وقال ابن فورك : الجنة في السماء ،
ويزاد فيها يوم القيامة ، وتقدم الكلام في الجنة أخلقت ؟ وهو ظاهر القرآن . ونص
الآثار الصحيحة النبوية أم لم تخلق ؟ بعدُ وهو قول : المعتزلة ، ووافقهم من أهل
بلادنا القاضي منذر بن سعيد . وأما قول ابن فورك أنه يزاد فيها فيحتاج إلى صحة نقل
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الكلبي : الجنان أربع : جنة عدن ، وجنة
المأوى ، وجنة الفردوس ، وجنة النعيم . كل جنة منها كعرض السماء والأرض ، لو وصل
بعضها ببعض ما علم طولها إلا الله . وقال ابن بحر : هو من عرض المتاع على البيع ،
لا العرض المقابل للطول . أي لو عورضت بها لساوها نصيب كل واحد منكم ، وجاء
إعدادها للمتقين فخصوا بالذكر تشريفاً لهم ، وإعلاماً بأنهم الأصل في ذلك ، وغيرهم
تبع لهم في إعدادها . وإن أريد بالمتقين متقو الشرك كان عاماً في كل مسلم طائع أو
عاص .
آل عمران : ( 134 ) الذين ينفقون في . . . . .
( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ( قال ابن عباس والكلبي
ومقاتل : السراء اليسر ، والضراء العسر . وقال عبيد بن عمير والضحاك : الرخاء
والشدّة . وقيل : في الحياة ، وبعد الموت بأن يوصى . وقيل : في الفرح وفي
" صفحة رقم 63 "
الترح . وقيل : فيما يسرّ كالنفقة على الولد والقرابة ، وفيما يضر كالنفقة على
الأعداء . وقيل : في ضيافة الغني والإهداء إليه ، وفيما ينفقه على أهل الضر
ويتصدّق به عليهم . وقيل : في المنشط والمكره . ويحتمل التقييد بهاتين الحالتين ،
ويحتمل أن يعني بهما جميع الأحوال ، لأن هاتين الحالتين لا يخلو المنفق أن يكون
على إحداهما . والمعنى : لا يمنعهم حال سرور ولا حال ابتلاء عن بذل المعروف . وروي
عن عائشة أنها تصدّقت بحبة عنب . وعن بعض السلف ببصلة . وابتدىء بصفة التقوى
الشاملة لجميع الأوصاف الشريفة ، ثم جيء بعدها بصفة البذل ، إذ كانت أشق على النفس
وأدل على الإخلاص . وأعظم الأعمال للحاجة إلى ذلك في الجهاد ، ومواساة الفقراء .
ويجوز في الدين الاتباعُ والقطعُ للرفع والنصب .
( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ( أي الممسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر ، ولا
يظهر له أثر ، والغيظ : أصل الغضب ، وكثيراً ما يتلازمان ، ولذلك فسره بعضهم هنا
بالغضب .
والغيظ فعل نفساني لا يظهر على الجوارح ، والغضب فعل لها معه ظهور في الجوارح ،
وفعل مّا ولا بد ، ولذلك أسند إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب
عليهم ، ولا يسند الغيظ إليه تعالى . ووردت أحاديث في كظم الغيظ وهو من أعظم
العبادة . وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من كظم غيظاً وهو يقدر على
إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً ) وعنه عليه السلام : ( ما من جرعة يتجرعها العبد
خير له وأعظم أجراً من جرعة غيظ في الله ) وعن عائشة أن خادماً لها غاظها فقالت :
لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء وقال مقاتل : بلغنا أن رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) قال في هذه الآية : ) إن هذه في أمّتي لقليل وقد كانوا أكثر في
الأمم الماضية ) . وأنشد أبو القاسم بن حبيب : وإذا غضبت فكن وقوراً كاظما
للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفاً تصبر ساعة
يرضى بها عنك الإله ويدفع
) وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ( أي الجناة والمسيئين . وقال ابن عباس وأبو العالية
والربيع : المماليك . وهذا مثال ، إذ الأرقاء تكثر ذنوبهم لجهلهم وملازمتهم ،
وإنفاذ العقوبة عليهم سهل للقدرة عليهم . وقال الحسن : والكاظمين الغيظ عن الأرقاء
، والعافين عن الناس إذا جهلوا عليهم . ووردت أخبار نبوية في العفو منها : ( ينادي
مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فليدخلوا الجنة ، فيقال : من ذا
الذي أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا ) . ورواه أبو سفيان للرشيد وقد غضب على
رجل فخلاه . ويجوز في الكاظمين والعافين القطع إلى النصب والاتباع ، بشرط اتباع
الذين ينفقون ) وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( الألف واللام للجنس ، فيتناول
كل محسن . أو للعهد فيكون ذلك إشارة إلى من تقدّم ذكره من المتصفين بتلك الأوصاف .
والأظهر الأول ، فيعم هؤلاء وغيرهم . وهذه الآية في المندوب إليه . ألا ترى إلى
حديث جبريل عليه السلام : ( ما الإيمان ) فبين له العقائد ( ما الإسلام ) ؟ فبين
له الفرائض . ( ما الإحسان ؟ ) قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ) والمعنى : أن
الله يحب المحسنين ، وهم الذين يوقعون الأعمال الصالحة ، مراقبين الله كأنهم
مشاهدوه . وقال الحسن : الإحسان أن تعم ولا تخص ، كالريح والمطر والشمس والقمر .
وقال الثوري : الإحسان أن تحسن إلى المسيء ، فإنَّ الإحسان إليه مناجزة كنقد السوق
، خذ مني وهات .
آل عمران : ( 135 ) والذين إذا فعلوا . . . . .
( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
" صفحة رقم 64 "
ْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ( نزلت في قول
الجمهور بسبب منهال التمار ، ويكنى : أبا مقبل ، أتته امرأة تشتري منه تمراً فضمها
وقبلها ثم ندم . وقيل : ضرب على عجزها .
والعطف بالواو مشعر بالمغايرة . لمّا ذكر الصنف الأعلى وهم المتقون الموصوفون بتلك
الأوصاف الجميلة ، ذكر مَنْ دونهم ممن قارف المعاصي وتاب وأقلع ، وليس من باب عطف
الصفات واتحاد الموصوف . وقيل : أنه من عطف الصفات ، وأنه من نعت المتقين روى ذلك
عن الحسن .
قال ابن عباس : الفاحشة الزنا ، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة . وقال مقاتل
: الفاحشة الزنا ، وظلم النفس سائر المعاصي . وقال النخعي : الفاحشة القبائح ،
وظلم النفس من الفاحشة وهو لزيادة البيان . وقيل : جميع المعاصي وظلم النفس العمل
بغير علم ولا حجة . وقال الباقر : الفاحشة النظر إلى الأفعال ، وظلم النفس رؤية
النجاة بالأعمال . وقيل : الفاحشة الكبيرة ، وظلم النفس الصغيرة . وقيل : الفاحشة
ما تظوهر به من المعاصي ، وقيل : ما أخفى منها . وقال مقاتل والكلبي : الفاحشة ما
دون الزنا من قبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل ، وظلم النفس بالمعصية ، وقيل :
الفاحشة الذنب الذي فيه تبعة للمخلوقين ، وظلم النفس ما بين العبد وبين ربه . وهذه
تخصيصات تحتاج إلى دليل . وكثر استعمال الفاحشة في الزنا ، ولذلك قال جابر حين سمع
الآية : زنوا ورب الكعبة .
ومعنى ذكروا الله ذكروا وعيده قاله : ابن جرير وغيره . وقيل : العرض على الله قاله
الضحاك . أو السؤال عنه يوم القيامة قاله : الكلبي ومقاتل والواقدي . وقيل : نهى
الله . وقيل : غفرانه . وقيل : تعرضوا لذكره بالقلوب ليبعثهم على التوبة . وقيل :
عظيم عفوه فطمعوا في مغفرته . وقيل : إحسانه فاستحيوا من إساءتهم . وهذه الأقوال
كلها على أن الذكر هو بالقلب . وقيل : هو باللسان ، وهو الاستغفار . ذكروا الله
بقلوبهم : اللهم اغفر لنا ذنوبنا ، قاله : ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وعطاء في
آخرين . وروي عن أبي هريرة ( ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) ) ولا بدّ مع ذكر اللسان من مواطأة القلب ، وإلاّ فلا اعتبار بهذا
الاستغفار . ومن استغفر وهو مصرّفاً فاستغفاره يحتاج إلى استغفار . والاستغفار
سؤال الله بعد التوبة الغفران .
وقيل : ندموا وإن لم يسألوا . والظاهر الأول . ومفعول استغفروا الله محذوف لفهم
المعنى ، أي فاستغفروه لذنوبهم . وتقدم الكلام على هذا الفعل وتعديته .
( وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ( جملة اعتراض المتعاطفين ، أو بين ذي
الحال والحال . وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة إعراباً في قوله : ) وَمَن
يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( وهذه الجملة
الاعتراضية فيها ترفيق للنفس ، وداعية إلى رجاء الله وسعة عفوه ، واختصاصه بغفران
الذنب . قال الزمخشري : وصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة ، وأنَّ التائب من
الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنّه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأنّ عدله
يوجب المغفرة للتائب ، لأنّ العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه
وجب العفو والتجاوز . وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة وبعث عليها ، وردع
عن اليأس والقنوط . وأنّ الذنوب وإنْ جلت فإنَّ عفوه أجل ، وكرمه أعظم . والمعنى :
أنه وحده معه مصححات المغفرة انتهى . وهو كلام حسن ، غير أنه لم يخرج عن ألفاظ
المعتزلة في قوله : وإنّ عدله يوجب المغفرة للتائب . وفي قوله : وجب العفو
والتجاوز ، ولو لم
" صفحة رقم 65 "
نعلم أن مذهبه الاعتزال لتأولنا كلامه بأن هذا الوجوب هو بالوعد الصادق ، فهو من
جهة السمع لا من جهة العقل فقط .
( وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( أي ولم يقيموا على
قبيح فعلهم . وهذه الجملة معطوفة على فاستغفروا ، فهي من بعض أجزاء الجزاء المترتب
على الشرط . ويجوز أن تكون الواو للحال ويكون حالاً من الفاعل في فاستغفروا فهي من
بعض أجزاء الجزاء ، أي : فاستغفروا لذنوبهم غير مصرّين . وما موصولة اسمية ، ويجوز
أن تكون مصدرية .
قال قتادة : الإصرار المضي في الذنب قدماً . وقال الحسن : هو إتيان الذنب حتى يتوب
. وقال مجاهد : لم يصرّوا لم يمضوا . وقال السدي : هو ترك الاستغفار والسكوت عنه
مع الذنب . والجملة من قوله : وهم يعلمون قال الزمخشري : حال من فعل الإصرار ،
وحرف النفي منصب عليهما معاً ، والمعنى : وليسوا ممن يصرّ على الذنوب وهم عالمون
بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها ، لأنه قد يعذر من لم يعلم قبح القبيح .
وفي هذه الآيات بيان قاطع أن الذين آمنوا على ثلاث طبقات : متقون ، وتائبون ،
ومصرّون . وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ، ومن خالف في ذلك فقد
كابر عقله وعاند ربه انتهى كلامه . وآخره على طريقته الاعتزالية من : أن من مات
مصرًّا دخل النار ولا يخرج منها أبداً . وأجاز أبو البقاء أن يكون : وهم يعلمون
حالاً من الضمير في فاستغفروا ، فإنْ أعربنا ولم يصرّوا جملة حالية من الضمير في
فاستغفروا ، جاز أن يكون : وهم يعلمون حالاً منه أيضاً . وإن كان ولم يصروا
معطوفاً على فاستغفروا كان ما قاله أبو البقاء بعيداً للفصل بين ذي الحال والحال
بالجملة . وأما متعلق العلم فتقدم في كلام الزمخشري .
وقال أبو البقاء : وهم يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو الله عنها . وقال ابن عباس
والحسن : وهم يعلمون أن تركه أولى من التمادي . وقال مجاهد وأبو عمارة : يعلمون أن
الله يتوب على من تاب . وقال السدي ومقاتل : يعلمون أنهم قد أذنبوا . وقيل :
يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها ، أطلق اسم العلم على الذكر لأنه من ثمرته . وقال ابن
إسحاق : يعلمون ما حرمت عليهم . وقال الحسين بن الفضل : يعلمون أنّ لهم رباً يغفر
الذنب . وقال ابن بحر : يعلمون بالذنب . وقيل : يعلمون العفو عن الذنوب وإن كثرت .
آل عمران : ( 136 ) أولئك جزاؤهم مغفرة . . . . .
( أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن
تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ( أولئك إشارة إلى الصنفين . وجوّز أن
يكون مختصاً بالصنف الثاني ، ويكون : والذين إذا فعلوا مبتدأ ، وأولئك وما بعده
خبره ، وجزاؤهم مغفرة مبتدأ وخبر في موضع خبر أولئك . وثم محذوف أي : جزاء أعمالهم
مغفرة من ربهم لذنوبهم .
وقال ابن عطية : أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب ، وليس يجب
عليه تعالى من جهة العقل شيء ، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره . وقال الزمخشري :
قال أجر العاملين بعد قوله جزاؤهم ، لأنهما في معنى واحد ، وإنما خالف بين اللفظين
لزيادة
" صفحة رقم 66 "
التنبيه على أن ذلك جزاء واجب على عمل ، وأجر مستحق عليه ، لا كما يقول المبطلون .
وروى أن الله عزّ وجل أوحى إلى موسى عليه السلام : ما أقلَّ حياء من يطمعُ في جنتي
بغير عمل ، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي ؟ وعن شهر بن حوشب : طلب الجنة بلا
عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور ، وارتجاء الرحمة ممن
لا يطاع حمق وجهالة . وعن الحسن يقول الله يوم القيامة : جوزوا الصراط بعفوي ،
وادخلوا الجنة برحمتي ، واقتسموها بأعمالكم . وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
انتهى ما ذكره ، والبيت الذي كانت رابعة تنشده هو لعبد الله بن المبارك . وكلام
الزمخشري جار على مذهبه الاعتزال من أن الإيمان دون عمل لا ينفع في الآخرة .
( وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( المخصوص بالمدح محذوف تقديره : ونعم أجر
العاملين ذلك ، أي المغفرة والجنة
آل عمران : ( 137 ) قد خلت من . . . . .
( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ ( الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : أنه إنْ ظهر عليكم
الكفار يوم أحد فإن حسن العاقبة للمتقين ، وإنْ أديل الكفار فالعاقبة للمؤمنين .
وكذلكم كفاركم هؤلاء عاقبتهم إلى الهلاك . وقال النقاش : الخطاب للكفار لقوله بعد
) وَلاَ تَهِنُواْ ( ولما ذكر تعالى الجمل المعترضة في قصة أحد عاد إلى كمالها ،
فخاطبهم بأنه إنْ وقعت إدالة الكفار فالعاقبة للمؤمنين . والمعنى : قد تقدّمت ومضت
.
وقال الزجاج : أهل سنن أي طرائق أو أمم ، على شرح المفضل أنّ السنة الأمة . وقال
الحسن : سنة أقضية في إهلاك الأمم السالفة عاد وثمود وغيرهم . وقال ابن زيد :
أمثال . وقال ابن عباس : وقائع وطلب السير في الأرض ، وإن كانت أحوال من تقدّم
تدرك بالأخبار دون السير . لأن الأخبار إنما تكون ممن سار وعاين ، وعنه ينقل :
فطلب منه الوجه الأكمل إذ للمشاهدة أثر أقوى من أثر السماع . وقيل : السير هنا
مجاز عن التفكر ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس . وقال الجمهور : النظر هنا من
نظر العين . وقال قوم : هو بالفكر . والجملة الاستفهامية في موضع المفعول لانظروا
لأنها معلقة وكيف في موضع نصب خبر كان . والمعنى : ما سنة الله في الأمم المكذبين
من وقائعه كما قال تعالى : ) فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ( ) وَقُتّلُواْ
تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ ).
وفي هذه الآية دلالة على جواز السفر في فجاج الأرض للاعتبار ، ونظر ما حوت من
عجائب مخلوقات الله تعالى ، وزيارة الصالحين وزيارة الأماكن المعظمة كما يفعله
سياح هذه الملة ، وجواز النظر في كتب المؤرخين لأنها سبيل إلى معرفة سير العالم
وما جرى عليهم من المثلاث .
آل عمران : ( 138 ) هذا بيان للناس . . . . .
( هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ ( قال الحسن
وقتادة وابن جريج والربيع : الإشارة إلى القرآن . وقيل : الإشارة إلى قوله : قد
خلت من قبلكم سنن قاله : ابن إسحاق ، والطبري ، وجماعة . أيْ هذا تفسير للناس إنْ
قبلوه . وقال الشعبي : هذا بيان للناس من العمى . وقال الزمخشري : هذا بيان للناس
، إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب . يعني : حثهم على النظر في سوء عواقب
" صفحة رقم 67 "
المكذبين قبلهم ، والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم . وهدى وموعظة للمتقين
يعني : أنه مع كونه بياناً وتنبيهاً للمكذبين فهو زيادة وتثبيت وموعظة للذين اتقوا
من المؤمنين . ويجوز أنْ يكون قد خلت جملة معترضة للبعث على الإيمان ، وما يستحق
به ما ذكر من أجر العاملين . ويكون قوله : هذا بيان إشارة إلى ما لخص وبين من أمر
المتقين والتائبين والمصرين انتهى كلامه . وهو حسن . ولما كان ظاهراً واضحاً قال :
بيان للناس . ولما كانت الموعظة والهدى لا يكونان إلاّ لمَنْ اتقى خص بذلك المتقين
، لأن من عمى فكره وقسا فؤاده لا يهتدي ولا يتعظ ، فلا يناسب أن يضاف إليه العدى
والموعظة .
آل عمران : ( 139 ) ولا تهنوا ولا . . . . .
( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ ). لمّا انهزَم مَن انهزم من المؤمنين أقبل خالدٌ يريد أنْ يعلوَ
الجبل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا يعلن علينا اللهم لا قوة
لنا إلا بك ) فنزلت قاله : ابن عباس . وزاد الواقدي : أنّ رماة المسلمين صعدوا
الجبل ورموا بحبل المشركين حتى هزموهم ، فذلك قوله : وأنتم الأعلون . وقال القرطبي
: وأنتم الغالبون بعد أحد ، فلم يخرجوا بعد ذلك إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهده
عليه السلام ، وفي كل عسكر كان بعدُ ولو لم يكن فيه إلاّ واحدٌ من الصحابة . وقال
الكلبي : نزلت بعد أحد حين أمروا بطلب القوم مع ما أصابهم من الجراح . وقال : لا
يخرج إلاّ من شهد معنا أمس ، فاشتدّ ذلك على المسلمين فنزلت . نهاهم عن أن يضعفوا
عن جهاد أعدائهم ، وعن الحزن على من استشهد من إخوانهم ، فإنّهم صاروا إلى كرامة
الله قاله : ابن عباس . أو لأجل هزيمتهم وقتلهم يوم أحد قاله : مقاتل . أو لما
أصاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من شجّه وكسر رباعيته ذكره : الماوردي . أو
لما فات من الغنيمة ذكره : أحمد النيسابوري . أو لمجموع ذلك . وآنسهم بقوله :
وأنتم الأعلون ، أي الغالبون وأصحاب العاقبة . وهو إخبار بعلو كلمة الإسلام قاله :
الجمهور ، وهو الظاهر .
وقيل : ) أَنتُمْ الاْعْلَوْنَ ( ، أي قد أصبتم ببدر ضعف ما أصابوا منكم بأحد
أسراً وقتلاً فيكونُ وأنتم الأعلون نصباً على الحال ، أي لاتحزنوا عالين أي
منصورين على عدوكم انتهى . وأما كونُه من علوهم الجبل كما أشير إليه في سبب النزول
فروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير . قال ابن عطية : ومن كرم الخلق أن لا يهن الإنسان
في حربه وخصامه ، ولا يلين إذا كان محقاً ، وأن يتقضى جميع قدرته ، ولا يضرع ولو
مات . وإنما يحسن اللين في السلم والرضا ، ومنه قوله عليه السلام : ( المؤمن هين
لين والمؤمنون هينون لينون ) وقال منذر بن سعيد : يجب بهذه الآية ألا يوادع العدو
ما كانت للمسلمين قوة وشوكة ، فإن كانوا في قطر مّا على غير ذلك فينظر الإمام لهم
في لا صلح انتهى .
وفي قوله : وأنتم الأعلون دلالة على فضيلة هذه الأمة ، إذ خاطبهم مثل ما خاطب موسى
كليمه ( صلى الله عليه وسلم ) ) على نبينا وعليه ، إذ قال له : لا تخف إنك أنت
الأعلى . وتعلق قوله : إن كنتم مؤمنين بالنهي ، فيكون ذلك هزاً للنفوس يوجب قوة القلب
والثقة بصنع الله ، وقلة المبالاة بالأعداء . أو بالجملة الخبرية : أي إنْ صدقتم
بما وعدكم وبشركم به من الغلبة . ويكون شرطاً على بابه يحصل به الطعن على من ظهر
نفاقه في ذلك اليوم ، أي : لا تكون الغلبة والعلو إلا للمؤمنين ، فاستمسكوا
بالإيمان .
آل عمران : ( 140 ) إن يمسسكم قرح . . . . .
( ءانٍ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ ( المعنى : إن
نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر ، ثم لم يضعفوا إنْ قاتلوكم بعد ذلك ،
فلا تضعفوا أنتم . أو فقد مس القوم في غزوة أحد قبل مخالفة أمر رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ) ونحوه ، فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون
. وهذه تسلية منه تعالى للمؤمنين والتأسي فيه أعظم مسلاة . وقالت الخنساء : ولولا
كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
" صفحة رقم 68 "
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي
والمثلية تصدق بأدنى مشابهة . وقال ابن عباس والحسن : أصاب المؤمنين يوم أحد ما
أصاب المشركين يوم بدر ، استشهد من المؤمنين يوم أحد سبعون . وقال الزمخشري : قتل
يومئذ أي يوم أحد خلق من الكفار ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ) إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ ( فعلى قوله يكون مس القوم قرح مثله يوم بدر . وأبعد من ذهب إلى أن
القوم هنا الأمم التي قد خلت ، أي نال مؤمنهم من أذى كافرهم مثل الذي نالكم من
أعدائكم . ثم كانت العاقبة للمؤمنين ، فلكم بهم أسوة . فإنّ تأسيكم بهم مما يخفف
ألمكم ، ويثبت عند اللقاء أقدامكم .
وقرأ الأخوان وأبو بكر والأعمش من طريقة قُرح بضم القاف فيهما ، وباقي السبعة
بالفتح ، والسبعة على تسكين الراء . قال أبو علي : والفتح أولى انتهى . ولا أولوية
إذ كلاهما متواتر . وقرأ أبو السمال وابن السميقع قَرَح بفتح القاف والراء ، وهي
لغة : كالطرد والطرد ، والشل والشلل . وقرأ الأعمش : إنْ تمسسكم بالتاء من فوق
قروح بالجمع ، وجواب الشرط محذوف تقديره : فتأسوا فقد مس القوم قرح ، لأن الماضي
معنى يمتنع أن يكون جواباً للشرط . ومن زعم أن جواب الشرط هو فقد مس ، فهو ذاهل .
( وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ( أخبر تعالى على سبيل
التسلية أن الأيام على قديم الدهر لا تبقى لناس على حالة واحدة . والمراد بالأيام
أوقات الغلبة والظفر ، يصرفها الله على ما أراد تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ، كما
جاء الحرب سجال . وقال : فيوم علينا ويوم لنا
ويوم نساء ويوم نسر
وسمع بعض العرب الأقحاح قارئاً يقرأ هذه الآية فقال : إنما هو نداولها بين العرب ،
فقيل له : إنما هو بين الناس ، فقال : أنا الله ، ذهب ملك العرب ورب الكعبة .
وقرىء شاذاً . يداولها بالياء . وهو جار على الغيبة قبله وبعده . وقراءة النون
فيها التفات ، وإخبار بنون العظمة المناسبة لمداولة الأيام ، والأيام : صفة لتلك ،
أو بدل ، أو عطف بيان . والخبر نداولها ، أو خبر لتلك ، ونداولها جملة حالية .
( وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( هذه لام كي قبلها حرف العطف ،
فتتعلق بمحذوف متأخر أي : فعلنا ذلك وهو المداولة ، أو نيل الكفار منكم . أو هو
معطوف على سبب محذوف هو وعامله أي : فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم . هكذا قدّره
الزمخشري وغيره ، ولم يعين فاعل العلة المحذوفة إنما كنى عنه بكيت وكيت ، ولا يكنى
عن الشيء حتى يعرف . ففي هذا الوجه حذف العلة ، وحذف عاملها ، وإبهام فاعلها .
فالوجه الأول أظهر إذ ليس فيه غير حذف العامل . ويعلم هنا ظاهره التعدي إلى واحد ،
فيكون كعرف . وقيل : يتعدّى إلى ثنين ، الثاني محذوف تقديره : مميزين بالإيمان من
غيرهم . أي الحكمة في هذه المداولة : أنْ يصير الذين آمنوا متميزين عن من يدعي
الإيمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإسلام .
وعلم الله تعالى لا يتجدد ، بل لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها ، وهو من باب
التمثيل بمعنى فعلنا ذلك فعْلَ مَنْ يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من
غير الثابت . وقيل : معناه ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم أزلاً أنهم يؤمنون
، ويساوق علمه إيمانهم ووجودهم ، وإلا فقد علمهم في الأزل . إذْ علمه لا
" صفحة رقم 69 "
يطرأ عليه التغير . ومثلُه أن يضرب حاكم رجلاً ثم يبين سبب الضرب ويقول : فعلت هذا
التبيين لا ضرب مستحقاً معناه : ليظهر أن فعلي وافق استحقاقه . وقيل : معناه
وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء ، وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات . وقيل :
العلم باق على مدلوله ، وهو على حذف مضاف التقدير : وليعلم أولياء الله ، فأسند
ذلك إلى نفسه تفخيماً . ) وَيَتَّخِذُ مِنْهُمْ شُهَدَاء ( أي بالقتل في سبيله ،
فيكرمهم بالشهادة . يعني يوم أحد . وقد ورد في فضل الشهيد غير ما آية وحديث . أو
شهداء على الناس يوم القيامة أي وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم
القيامة بما يبتلي به صبركم على الشدائد من قوله تعالى : ) لّتَكُونُواْ شُهَدَاء
عَلَى النَّاسِ ). والقول الأول أظهر وأليق بقصة أحد .
( وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( أي لا يحب من لا يكون ثابتاً على الإيمان
صابراً على الجهاد . وفيه إشارة إلى أن من انخذل يوم أحد كعبد الله بن أبي وأتباعه
من المنافقين ، فإنهم بانخذالهم ، لم يطهر إيمانهم بل نجم نفاقهم ، ولم يصلحوا
لاتخاذهم شهداء بأن يقتلوا في سبيل الله . وذلك إشارة أيضاً إلى أن ما فعل من
ادالة الكفار ، ليس سببه المحبة منه تعالى ، بل ما ذكر من الفوائد من ظهور إيمان
المؤمن وثبوته ، واصطفائه من شاء من المؤمنين للشهادة . وهذه الجملة اعترضت بين
بعض العلل وبعض ، لما فيها من التشديد والتأكيد . وأ مناط انتفاء المحبة هو الظلم
، وهو دليل على فحاشته وقبحه من سائر الأوصاف القبيحة .
آل عمران : ( 141 ) وليمحص الله الذين . . . . .
( وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( أي يطهرهم من الذنوب ، ويخلصهم من
العيوب ، ويصفيهم . قال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي ومقاتل وابن قتيبة في آخرين
: التمحيص الابتلاء والاختبار . قال الشاعر : رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففا
فكشفه التمحيص حتى بداليا
وقال الزجاج : التنقية والتخليص ، وذكره عن : المبرد ، وعن الخليل . وقيل :
التطهير . وقال الفراء : هو على حذف مضاف ، أي وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا .
( وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ( أي يهلكهم شيئاً فشيئاً . والمعنى : أن الدولة إن
كانت للكافرين على المؤمنين كانت سبباً لتمييز المؤمن من غيره ، وسبباً لاستشهاد
من قتل منهم ، وسبباً لتطهير المؤمن من الذنب . فقد جمعت فوائد كثيرة للمؤمنين ،
وإن كان النصر للمؤمنين على الكافرين كان سبباً لمحقهم بالكلية واستئصالهم قاله :
ابن عباس . وقال ابن عباس أيضاً : ينقصهم ويقللهم ، وقاله : الفراء . وقال مقاتل :
يذهب دعوتهم . وقيل : يحبط أعمالهم ، ذكره الزجاج ، فيكون على حذف مضاف .
والظاهر أن المراد بالكافرين هنا طائفة مخصوصة ، وهم الذين حاربوا رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ) . لأنه تعالى لم يمحق كل كافر ، بل كثير منهم باق على كفره .
فلفظة الكافرين عام أريد به الخصوص . قيل : وقابل تمحيص المؤمن بمحق الكافر ، لأن
التمحيص إهلاك الذنوب ، والمحق إهلاك النفوس ، وهي مقابلة لطيفة في المعنى انتهى .
وفي ذكر ما يلحق المؤمن عند إدالة الكفار تسلية لهم وتبشير بهذه الفوائد الجليلة ،
وأن تلك الإدالة لم تكن لهوانٍ بهم ، ولا تحط من أقدارهم ، بل لما ذكر تعالى .
وقد تضمنت هذه الآيات فنوناً من الفصاحة والبديع والبيان : من ذلك الاعتراض في :
والله يحب المحسنين ، وفي : ومن يغفر الذنوب إلا الله ، وفي : والله لا يحب
الظالمين . وتسمية الشيء باسم سببه في : إلى مغفرة من ربكم . والتشبيه في : عرضها
السموات والأرض . وقيل : هذه استعارة وإضافة الحكم إلى الأكثر في أعدّت للمتقين ،
وهي معدة لهم ولغيرهم من العصاة . والطباق في : السرّاء والضرّاء ، وفي : ولا
تهنوا والأعلون ، لأن الوهن والعلو ضدان . وفي آمنوا
" صفحة رقم 70 "
والظالمين ، لأن الظالمين هنا هم الكافرون ، وفي : آمنوا ويمحق الكافرين . والعام
يراد به الخاص في : والعافين عن الناس يعني من ظلمهم أو المماليك . والتكرار في :
واتقوا الله ، واتقوا النار ، وفي لفظ الجلالة ، وفي والله يحب ، وذكروا الله ،
وفي وليعلم الله ، والله لا يحب ، وليمحص الله ، وفي الذين ينفقون ، والذين إذا
فعلوا . والاختصاص في : يحب المحسنين ، وفي : وهم يعلمون ، وفي : عاقبة المكذبين ،
وفي : موعظة للمتقين ، وفي : إن كنتم مؤمنين ، وفي : لا يحب الظالمين ، وفي :
وليمحص الله الذين آمنوا ، وفي : ويمحق الكافرين . والاستعارة في : فسيروا ، على
أنه من سير الفكر لا القدم ، وفي : وأنتم الأعلون ، إذا لم تكن من علو المكان ،
وفي : تلك الأيام نداولها ، وفي : وليمحص ويمحق ، والإشارة في هذا بيان . وفي :
وتلك الأيام . وإدخال حرف الشرط في الأمر المحقق في : إن كنتم مؤمنين ، إذا علق
عليه النهي والحذف في عدة مواضع .
2 ( ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ
الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ
تَنظُرُونَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ
أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ
عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً
مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ
الاٌّ خِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن
نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ
فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ
الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِىأَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَأاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ
الاٌّ خِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ
إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ
سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ
مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى
الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاٌّ مْرِ وَعَصَيْتُمْ
مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا
وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاٌّ خِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّه
" صفحة رقم 71 "
ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( )
آل عمران : ( 142 ) أم حسبتم أن . . . . .
كائن : كلمة يكثر بها بمعنى كم الخبرية . وقلَّ الاستفهام بها . والكاف للتشبيه ،
دخلت على أي وزال معنى التشبيه ، هذا مذهب سيبويه والخليل ، والوقف على قولهما
بغير تنوين . وزعم أبو الفتح : أنّ أيا وزنه فعل ، وهو مصدر أوى يأوى إذا انضم
واجتمع ، أصله : أوى عمل فيه ما عمل في طي مصدر طوي . وهذا كله دعوى لا يقوم دليل
على شيء منها . والذي يظهر أنه اسم مبني بسيط لا تركيب فيه ، يأتي للتكثير مثل كم
، وفيه لغات : الأولى وهي التي تقدمت . وكائن ومن ادعى أن هذه اسم فاعل من كان
فقوله بعيد . وكئن على وزن كعن ، وكأين وكيين ، ويوقف عليها بالنون . وأكثر ما
يجيء تمييزها مصحوباً بمن . ووهم ابن عصفور في قوله : إنه يلزمه مِنْ ، وإذا حذفت
انتصب التمييز سواء أوليها أم لم يليها ، نحو قول الشاعر : أطرد اليأس بالرجاء
فكاين
آلماً عم يسره بعد عسر
وقول الآخر : وكائن لنا فضلاً عليكم ونعمة
قديماً ولا تدرون ما من منعم
الرعب : الخوف ، رعبته فهو مرعوب . وأصله من الملي . يقال : سيل راعب يملأ الوادي
، ورعبت الحوض ملأته .
السلطان : الحجة والبرهان ، ومنه قيل للوالي : سلطان . وقيل : اشتقاق السلطان من
السليط ، وهو ما يضيء به السراج من دهن السمسم . وقيل : السليط الحديد ، والسلاطة
الحدة ، والسلاطة من التسليط وهو القهر . والسلطان من ذلك فالنون زائدة . والسليطة
: المرأة الصخابة . والسليط : الرجل الفصيح اللسان .
المثوى : مفعل من ثوى يثوى أقام . يكون للمصدر والزمان والمكان ، والثواء :
الإقامة بالمكان .
الحس : القتل الذريع ، يقال : حسه يحسه . قال الشاعر : حسسناهم بالسيف حساً فأصبحت
بقيتهم قد شردوا وتبدّدوا
وجراد محسوس قتله البرد ، وسنة حسوس أتت على كل شيء .
التنازع : الاختلاف ، وهو من النزع وهو الجذب . ونزع ينزع جذب ، وهو متعد إلى واحد
. ونازع متعد إلى اثنين ، وتنازع متعد إلى واحد . قال : فلما تنازعنا الحديث
وأسمحت
هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ
الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( هذه الآية وما بعدها عتب
شديد لمن وقعت منهم الهفوات يوم أحد . واستفهم على سبيل الإنكار أنْ يظنَّ أحد أنْ
يدخل الجنة وهو مخلّ بما افترض عليه من الجهاد والصبر عليه . والمراد بنفي العلم
انتفاء متعلقه ، لأنه منتف بانتفائه كما قال تعالى : ) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ
فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ ( المعنى : لم يكن فيهم خير ، لأنّ ما لم يتعلق به
علم الله تعالى موجوداً لا يكون موجوداً أبداً .
وأمْ هنا منقطعة في قول الأكثرين تتقدر ببل ، والهمزة على ما قرر في النحو . وقيل
:
" صفحة رقم 72 "
هي بمعنى الهمزة . وقيل : أم متصلة . قال ابن بحر : هي عديلة همزة تتقدر من معنى
ما تتقدم ، وذلك أنَّ قوله : ) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ وَتِلْكَ الاْيَّامُ
نُدَاوِلُهَا ( إلى آخر القصة يقتضي أن يتبع ذلك : أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك ،
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمل مشقة وأن تجاهدوا فيعلم الله ذلك
منكم واقعاً . انتهى كلامه . وتقدّم لنا إبطال مثل هذا القول . وهذا الاستفهام
الذي تضمنته معناه الإنكار والإضراب الذي تضمنته أيضاً هو ترك لما قبله من غير
إبطال وأخذ فيما بعده .
وقال أبو مسلم الأصبهاني : أم حسبتم نهيٌ وقع بلفظ الاستفهام الذي يأتي للتبكيت .
وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولما يقع منكم الجهاد . لما قال : ) وَلاَ
تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ( كان في معنى : أتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به ، أم
تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر . وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى
أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب الصبر على تحمل مشاقها ، وبين وجوه مصالحها
في الدين والدنيا . فلما كان كذلك كان من البعد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة
مع إهمال هذه القاعدة انتهى كلامه . وظاهره : أن أم متصلة ، وخسبتم هنا بمعنى
ظننتم الترجيحية ، وسدّ مسد مفعوليها أن وما بعدها على مذهب سيبويه ، وسد مسد
مفعول واحد والثاني محذوف على مذهب أبي الحسن .
ولما يعلم : جملة حالية ، وهي نفي مؤكد لمعادلته للمثبت المؤكد بقد . فإذا قلت :
قد قام زيد ففيه من التثبيت والتأكيد ما ليس في قولك : قام زيد . فإذا نفيته قلت :
لما يقم زيد . وإذا قلت : قام زيد كان نفيه لم يقم زيد ، قاله سيبويه وغيره . وقال
الزمخشري : ولما بمعنى لم ، إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدلَّ على نفي الجهاد فيما
مضى ، وعلى توقعه فيما يستقبل . وتقول : وعدني أن يفعل كذا ، ولما تريد ، ولم يفعل
، وأنا أتوقع فعله انتهى كلامه . وهذا الذي قاله في لما أنَّها تدل على توقع الفعل
المنهى بها فيما يستقبل ، لا أعلم أحداً من النحويين ذكره . بل ذكروا أنك إذا قلت
: لما يخرج زيد دلَّ ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار
. أمّا أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا ، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً
يقارب ما قاله الزمخشري . قال : لما لتعريض الوجود بخلاف لم .
وقرأ الجمهور بكسر الميم لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن وثاب والنخعي بفتحها ، وخرج
على أنه اتباع لفتحة اللام وعلى إرادة النون الخفيفة وحذفها كما قال الشاعر : لا
تهين الفقير علك أن
تركع يوماً والدهر قد رفعه
وقرأ الجمهور : ( ويعلم ) برفع الميم فقيل : هو مجزوم ، وأتبع الميم اللام في
الفتح كقراءة من قرأ : ولما يعلم بفتح الميم على أحد التخريجين . وقيل : هو منصوب
. فعلى مذهب البصريين بإضمار أن بعد واو مع نحو ، لا تأكل السمك وتشرب اللبن .
وعلى مذهب الكوفيين بواو الصرف ، وتقرير المذهبين في علم النحو . وقرأ الحسن وابن
يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد بكسر الميم عطفاً على ولما يعلم . وقرأ عبد الوارث
عن أبي عمرو ويعلم برفع الميم . قال الزمخشري : على أن الواو للحال كأنه قيل :
ولما تجاهدوا وأنتم صابرون انتهى . ولا يصلح ما قال ، لأن واو الحال لا تدخل على
المضارع ، لايجوز : جاء زيدو يضحك ، وأنت تريد جاء زيد يضحك ، لأن المضارع واقع
موقع
" صفحة رقم 73 "
اسم الفاعل . فكما لا يجوز جاء زيد وضاحكاً ، كذلك لا يجوز جاء زيد ويضحك . فإنْ
أوّلَ على أن المضارع خبرُ مبتدأ محذوف أمكن ذلك ، التقدير : وهو يعلم الصابرين
كما أولوا قوله : نجوت وأرهنهم مالكاً ، أي وأنا أرهنهم . وخرج غير الزمخشري قراءة
الرفع على استئناف الاخبار ، أي : وهو يعلم الصابرين .
وفي إنكار الله تعالى على من ظنّ أنّ دخول الجنة يكون مع انتفاء الجهاد ، والصبر
عند لقاء العدوّ دليل على فرضية الجهاد إذ ذاك ، والثبات للعدوّ وقد ذكر في الحديث
: ( أن التولي عند الزحف من السبع الموبقات ) .
آل عمران : ( 143 ) ولقد كنتم تمنون . . . . .
( وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ
رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ( الخطاب للمؤمنين ، وظاهره العموم والمراد
الخصوص . وذلك أن جماعة من المؤمنين لم يحضروا غزوة بدر ، إذ كان رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ) إنما خرج مبادراً يريد عير القريش ، فلم يظنوا حرباً ، وفاز
أهل بدر بما فازوا به من الكرامة في الدنيا والآخرة ، فتمنوا لقاء العدوّ ليكون
لهم يوم كيوم بدر ، وهم الذين حرضوا على الخروج لأحد . فلما كان في يوم أحد ما كان
من قتل عبد الله بن قميئة مصعب بن عمير الذّاب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) ) ظاناً أنه رسول الله وقال : قتلت محمداً وصرخ بذلك صارخ ، وفشاد ذلك في الناس
انكفوا فارّين ، فدعاهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( إلي عباد الله ) حتى
انحازت إليه طائفة واستعذروا عن انكفافهم قائلين : أتانا خبر قتلك ، فرعبت قلوبنا
، فولينا مدبرين ، فنزلت هذه الآية تلومهم على ما صدر منهم مع ما كانوا قرروا على
أنفسهم من تمني الموت . وعبر عن ملاقاة الرجال ومجالدتهم بالحديد بالموت ، إذ هي
حالة تتضمن في الأغلب الموت ، فلا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت . ومتمني الموت
في الجهاد ليس متمنياً لغلبة الكافر المسلم ، إنما يجيء إلا من طابت نفسه بالموت .
ومتمني الموت في الجهاد ليس متمنياً لغلبة الكافر المسلم ، إنما يجيء ذلك في الضمن
لا أنه مقصود ، إنما مقصده نيل رتبة الشهادة لما فيه من الكرامة عند الله . وأنشد
عبد الله بن رواحة وقد نهض إلى موته وقال لهم : ردّكم الله تعالى فقال : لكنني
أسأل الرحمن مغفرة
وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
رشد الله من غاز وقد رشدا
) مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ ( : أي من قبل أن تشاهدوا شدائده ومضائقه . وضمير
المفعول في تلقوه عائد على الموت ، وقيل : على العدوّ ، وأضمر لدلالة الكلام عليه
. والأوّل أظهر ، لأنه يعود على مذكور . وقرأ النخعي والزهري : تلا قوه ومعناها
ومعنى تلقوه سواء ، من حيثُ أنّ معنى لقي يتضمن أنه من اثنين ، وإنْ لم يكنْ على
وزن فاعل . وقرأ مجاهد من قبلُ بضم اللام مقطوعاً عن الإضافة ، فيكون موضع أنْ
تلقوه نصباً على أنه بدل اشتمال من الموت . فقد رأيتموه أي عاينتم أسبابه وهي
الحرب المستعرة كما قال :
لقد رأيت الموت قبل ذوقه
وقال : ووجدت ريح الموت من تلقائهم
في مأزق والخيل لم تتبدّد
" صفحة رقم 74 "
وقيل : معنى الرؤية هنا العلم ، ويحتاج إلى حذف المفعول الثاني أي : فقد علمتم
الموت حاضراً ، وحذف لدلالة المعنى عليه . وحذف أحد مفعولي ظن وأخواتها عزيز جداً ،
ولذلك وقع فيه الخلاف بين النحويين . وقرأ طلحة بن مصرف . فلقد رأيتموه باللام ،
وأنتم تنظرون جملة حالية للتأكيد ، ورفع ما يحتمله رأيتموه من المجاز أو من
الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين ، أي معاينين مشاهدين له حين قتل بين
أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا ، فعلى هذا يكون متعلق النظر
متعلق الرؤية ، وهذا قول الأخفش ، وهو الظاهر . وقيل : وأنتم بصراء أي ليس بأعينكم
علة . ويرجع معناه إلى القول الأول ، وقاله الزجاج والأخفش أيضاً . وقيل : تنظرون
إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وما فعل به . وقيل : تنظرون نظر تأمل بعد
الرؤية . وقيل : تنظرون في أسباب النجاة والفرار ، وفي أمر رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) هل قتل أم لا ؟ وقيل : تنظرون ما تمنيتم وهو عائد على الموت . وقيل
: تنظرون في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب ، هل وفيتم أو خالفتم ؟ فعلى هذا المعنى
لا تكون جملة حالية ، بل هي جملة مستأنفة الاخبار أتى بها على سبيل التوبيخ .
فكأنه قيل : وأنتم حسباء أنفسكم فتأملوا قبح فعلكم . وهذه الآية وإن كانت صيغتها
صيغة الخبر فمعناها العتب والإنكار على من انهزم يوم أحد ، وفيها محذوف أخيراً بعد
قوله : فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ، أي تفرقهم بعد رؤية أسبابه وكشف الغيب ، أنَّ
متعلق تمنيكم نكصتم عنه وقال ابن الأنباري : يقال : إنَّ معنى رأيتموه قابلتموه
وأنتم تنظرون بعيونكم ، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حين اختلف معناهما ، لأن
الأول بمعنى المقابلة والمواجهة والثاني بمعنى رؤية العين انتهى . ويكون إذ ذاك ،
وأنتم تنظرون جملة في موضع الحال المبينة لا المؤكدة إلا أن المشهور في اللغة أن
الرؤية هي الأبصار ، لا المقابلة والمواجهة .
آل عمران : ( 144 ) وما محمد إلا . . . . .
( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ( هذا
استمرار في عتبهم آخر أن محمداً رسول كمن مضى من الرسل ، بلّغ عن الله كما بلغوا .
وليس بقاء الرسل شرطاً في بقاء شرائعهم ، بل هم يموتون وتبقى شرائعهم يلتزمها
أتباعهم . فكما مضت الرسل وانقضوا ، فكذلك حكمهم هو في ذلك واحد .
وقرأ الجمهور الرسل بالتعريف على سبيل التفخيم للرسل ، والتنويه بهم على مقتضى
حالهم من الله . وفي مصحف عبد الله رسل بالتنكير ، وبها قرأ : ابن عباس ، وقحطان
بن عبد الله . ووجهها أنه موضع تبشير لأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في معنى
الحياة ، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك . وهكذا يتصل في أماكن الاقتضاء به
بالشيء ومنه : ) وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ ( ) وَمَا ءامَنَ مَعَهُ
إِلاَّ قَلِيلٌ ( إلى غير ذلك . ذكر هذا الفرق بين التعريف والتنكير في نحو هذا
المساق أبو الفتح ، وقراءة التعريف أوجه ، إذ تدل على تساوي كل في الخلق والموت ،
فهذا الرسول هو مثلهم في ذلك .
( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن ( لما صرخ بأن محمداً قد قتل ،
تزلزلت أقدام المؤمنين ورعبت قلوبهم وأمعنوا في الفرار ، وكانوا ثلاث فرق : فرقة
قالت : ما نصنع بالحياة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؟ قاتلوا على ما
قاتل عليه ، فقاتلوا حتى قتلوا ، منهم : أنس بن النضر . وفرقة قالوا : نلقى إليهم
بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا . وفرقة أظهرت النفاق وقالوا : ارجعوا إلى دينكم
الأوّل ، فلو كان محمد نبياً ما قتل .
وظاهر الانقلاب على العقبين هو الارتداد . وقيل : هو بالفرار لا الارتداد . وقد
جاء هذا اللفظ في الارتداد والكفر في قوله : ( لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على
عقبيه ) وهذه الهمزة هي همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار . والفاء للعطف ،
وأصلها التقديم . إذ التقدير : فأإن مات . لكنهم يعتنون بالاستفهام فيقدّممونه على
حرف العطف ، وقد تقدّم لنا مثل هذا وخلاف الزمخشري فيه . وقال الخطيب كمال الدين
الزملكاني : الأوجه أن يقدّر محذوف بعد الهمزة وقيل الفاء ، تكون الفاء عاطفة عليه
. ولو صرّح به لقيل :
" صفحة رقم 75 "
أتؤمنون به مدة حياته ، فإن مات ارتددتم ، فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في
ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد وفاتهم انتهى . وهذه نزعة زمخشرية . وقد تقدم الكلام
معه في نحو ذلك . وأن هذه الفاء إنما عطفت الجملة المستفهم عنها على الجملة
الخبرية قبلها ، وهمزة الاستفهام داخلة على جملة الشرط وجزائه . وجزاؤه ، هو
انقلبتم ، فلا تغير همزة الاستفهام شيئاً من أحكام الشرط وجزائه . فإذا كانا
مضارعين كانا مجزومين نحو : أإن تأتني آتك . وذهب يونس إلى أن الفعل الثاني يبني
على أداة الاستفهام ، فينوي به التقديم ، ولا بد إذ ذاك من جعل الفعل الأول ماضياً
لأن جواب الشرط محذوف ، ولا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط لا يظهر فيه عمل
لأداة الشرط ، فيلزم عنده أن تقول : أإن أكرمتني أكرمك . التقدير فيه : أكرمك أن
أكرمتني ، ولا يجوز عنده إنْ تكرمني أكرمك بجزمهما أصلاً ، ولا إن تكرمني أكرمك
بجزم الأول ورفع الثاني إلا في ضرورة الشعر . والكلام على هذه المسألة مستوفى في
علم النحو . فعلى مذهب يونس : تكون همزة الاستفهام دخلت في التقدير على انقلبتم ،
وهو ماض معناه الاستقبال ، لأنه مقيد بالموت أو بالقتل . وجواب الشرط عند يونس
محذوف ، وبقول يونس : قال كثير من المفسرين في الآية قالوا : ألف الاستفهام دخلت
في غير موضعها ، لأن الغرض إنما هو أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد . ودخلت إنْ
هنا على المحقق وليس من مظانها ، لأنه أورد مورد المشكوك فيه للتردد بين الموت
والقتل ، وتجويزُ قتله عند أكثر المخاطبين . ألا ترى إليهم حين سمعوا أنه قتل
اضطربوا وفروا ، وانقسموا إلى ثلاث فرق ، ومن ثبت منهم فقاتل حتى قتل ؟ قال بعضهم
: يا قوم إنْ كان محمد قد قتل فإنَّ رب محمد لم يقتل ، موتوا على ما مات عليه .
وقال بعضهم : إنْ كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم . فهذا يدل على
تجويز أكثر المخاطبين لأن يقتل . فأمَّا العلم بأنه لا يقتل من جهة قوله تعالى : )
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( فهو مختص بالعلماء من المؤمنين وذوي البصيرة
منهم ، ومن سمع هذه الآية وعرف سبب نزولها .
( وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً ( أي مَنْ رجع
إلى الكفر أو ارتدّ فاراً عن القتال وعن ما كان عليه الرسول ( صلى الله عليه وسلم
) ) من أمر الجهاد على التفسيرين السابقين . وهذه الجملة الشرطية هي عامة في أنَّ
كل من انقلب على عقبيه فلا يضر إلا نفسه ، ولا يلحق من ذلك شيء لله تعالى ، لأنه
تعالى لا يجوز عليه مضار العبد . ولم تقع ردّة من أحد من المسلمين في ذلك اليوم
إلا ما كان من قول المنافقين .
وقرأ الجمهور على عقبيه بالتثنية . وقرأ ابن أبي إسحاق على عقبه بالإفراد ،
وانتصاب شيئاً على المصدر . أي : شيئاً من الضرر لا قليلاً ولا كثيراً . والانقلاب
على الأعقاب أو على العقبين أو العقب من باب التمثيل مثّل من يرجع إلى دينه الأول
بمن ينقلب على عقبيه . وتضمنت هذه الجملة الوعيد الشديد .
( وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ( وعد عظيم بالجزاء . وجاء بالسين التي هي في
قول بعضهم : قرينة التفسير في الاستقبال ، أي : لا يتأخر جزاء الله إياهم عنهم .
والشاكرين هم الذين صبروا على دينه ، وصدقوا الله فيما وعدوه ، وثبتوا . شكروا
نعمة الله عليهم بالإسلام ، ولم يكفروها ، كأنس بن النضر ، وسعد بن الربيع ،
والأنصاري الذي كان يتشخط في دمه ، وغيرهم ممن ثبت ذلك اليوم .
والشاكرون لفظ عام يندرج فيه كل شاكر فعلاً وقولاً . وقد تقدم الكلام على الشكر .
وظاهر هذا الجزاء أنه في الآخرة . وقيل : في الدنيا بالرزق ، والتمكين في الأرض .
وفسروا الشاكرين هنا بالثابتين على دينهم قاله : علي . وقال هو والحسن بن أبي
الحسن أبو بكر ، أمير الشاكرين يشيران إلى ثباته يوم مات رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) ، واضطراب الناس إذ ذاك ، وثباته في أمر الردة وما قام به من أعباء
الإسلام . وفسر أيضاً بالطائعين .
آل عمران : ( 145 ) وما كان لنفس . . . . .
( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ( قال الزمخشري : المعنى
أن موت الأنفس محال أنْ تكون إلا
" صفحة رقم 76 "
بمشيئة الله ، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله له
فيه تمثيلاً . ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك ، فليس له أن يقبض نفساً إلا بإذن من
الله . وهو على معنيين : أحدهما : تحريضهم على الجهاد ، وتشجيعهم على لقاء العدو ،
بإعلامهم أن الحذر لا ينفع ، وأن أحد إلا بموت قبل بلوغ أجله وإنْ خاض المهالك
واقتحم المعارك . والثاني : ذكر ما صنع الله تعالى برسوله عند غلبة العدوّ ،
والتفافهم عليه ، وإسلام قومه له نهزة للمختلسين من الحفظ والكلاء وتأخر الأجل
انتهى كلام الزمخشري . وهو حسن وهو بسط كلام غيره من المفسرين أنه لا تموت نفس إلا
بأجل محتوم . فالجبن لا يزيد في الحياة والشجاعة لا تنقص منها . وفي هذه الجملة
تقوية للنفوس على الجهاد ، وفيها تسلية في موت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقول العرب : ما كان لزيد أن يفعل معناه انتفاء الفعل عن زيد وامتناعه . فتارة
يكون الامتناع في مثل هذا التركيب لكونه ممتنعاً عقلاً كقوله تعالى : ) مَا كَانَ
للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( وقوله : ) مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ
شَجَرَهَا ( وتارة لكونه ممتنعاً عادة نحو : ما كان لزيد أن يطير . وتارة لكونه
ممتنعاً شرعاً كقوله تعالى : ) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً (
وتارة ( وتارة لكونه ممتنعاً أدباً ، كقول أبي بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن
يصلي بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويفهم هذا من سياق الكلام .
ولا تتضمن هذه الصيغة نهياً كما يقوله بعضهم .
وقوله : لنفس ، المراد الجنس لا نفس واحدة . ومعنى : إلا بإذن الله ، أي بتمكينه
وتسويغه ذلك . وقد تقدم شرح الإذن ، والأحسن فيه أنه تمكين من الشيء مع العلم به ،
فإنْ انضاف إلى ذلك قول فيكون أمراً . والمعنى : إلا بإذن الله للملك الموكل
بالقبض . وأن تموت في موضع اسم كان ، ولنفس هو في موضع الخبر ، فيتعلق بمحذوف .
وجعل بعضهم كان رائدة . فيكون أن تموت في موضع مبتدأ ، ولنفس في موضع خبره . وقدره
الزجاج على المعنى فقال : وما كانت نفس لتموت ، فجعل ما كان اسماً خبراً ، وما كان
خبراً اسماً ، ولا يريد بذلك الإعراب ، إنّما فسر من جهة المعنى . وقال أبو البقاء
: اللام في : لنفس ، للتبيين متعلقة بكان انتهى . وهذا لا يتم إلا أن كانت كان
تامة . وقول من قال : هي متعلقة بمحذوف تقديره : وما كان الموت لنفس وإن تموت ،
تبيين للمحذوف مرغوب عنه ، لأن اسم كان إن كانت ناقصة أو الفاعل إن كانت تامة لا
يجوز حذفه ، ولما في حذفه أنْ لو جاز من حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز
على مذهب البصريين .
( ( وتارة لكونه ممتنعاً أدباً ، كقول أبي بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي
بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويفهم هذا من سياق الكلام . ولا
تتضمن هذه الصيغة نهياً كما يقوله بعضهم .
وقوله : لنفس ، المراد الجنس لا نفس واحدة . ومعنى : إلا بإذن الله ، أي بتمكينه
وتسويغه ذلك . وقد تقدم شرح الإذن ، والأحسن فيه أنه تمكين من الشيء مع العلم به ،
فإنْ انضاف إلى ذلك قول فيكون أمراً . والمعنى : إلا بإذن الله للملك الموكل
بالقبض . وأن تموت في موضع اسم كان ، ولنفس هو في موضع الخبر ، فيتعلق بمحذوف .
وجعل بعضهم كان رائدة . فيكون أن تموت في موضع مبتدأ ، ولنفس في موضع خبره . وقدره
الزجاج على المعنى فقال : وما كانت نفس لتموت ، فجعل ما كان اسماً خبراً ، وما كان
خبراً اسماً ، ولا يريد بذلك الإعراب ، إنّما فسر من جهة المعنى . وقال أبو البقاء
: اللام في : لنفس ، للتبيين متعلقة بكان انتهى . وهذا لا يتم إلا أن كانت كان
تامة . وقول من قال : هي متعلقة بمحذوف تقديره : وما كان الموت لنفس وإن تموت ،
تبيين للمحذوف مرغوب عنه ، لأن اسم كان إن كانت ناقصة أو الفاعل إن كانت تامة لا
يجوز حذفه ، ولما في حذفه أنْ لو جاز من حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز
على مذهب البصريين .
( كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ( أي له أجل لا يتقدم ولا يتأخر وفي هذا رد على المعتزلة
في قولهم بالأجلينْ والكتابة هنا عبارة عن القضاء ، وقيل : مكتوباً في اللوح
المحفوظ مبيناً فيه . ويحتمل هذا الكلام أن يكون جواباً لقولهم : لو كانوا عندنا
ما ماتوا وما قتلوا . وانتصاب كتاباً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة
والتقدير : كتب الله كتاباً مؤجلاً ونظيره : ) كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ صُنْعَ
اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ ). وقيل : هو منصوب على الإغراء ، أي الزموا وآمنوا بالقدر
وهذا بعيد . وقال ابن عطية : كتاباً نصب على التمييز ، وهذا لا يظهر فإن التمييز
كما قسمه النحاة ينقسم إلى منقول وغير منقول ، وأقسامه في النوعين محصورة ، وليس
هذا واحداً منها .
( وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ
الاْخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ( هذا تعريض بالذين رغبوا في الغنائم يوم أحد
واشتغلوا بها ، والذين ثبتوا على القتال فيه ولم يشغلهم شيء عن نصرة الدين ، وهذا
الجزاء من إيتاء الله من أراد ثواب الدنيا مشروط بمشيئة الله تعالى ، كما جاء في
الآية الأخرى : ) عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ).
وقوله : ( نؤته بالنون فيهما ) وفي : سنجزي قراءة الجمهور وهو التفات ، إذ هو خروج
من غيبة إلى تكلم بنون العظمة . وقرأ الأعمش : يؤته بالياء فيهما وفي سيجزي ، وهو
جار على ما سبق من الغيبة . قال ابن عطية : وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام
عليه انتهى . وهو وهم ، وصوابه : على إضمار الفاعل ، والضمير عائد على الله . وظاهر
التقسيم يقتضي اختصاص كل واحد بما أراد ، لأن من كانت نيته مقصورة على طلب دنياه
لا نصيب له في
" صفحة رقم 77 "
الآخرة ، لكن من كانت نيته مقصورة على طلب الآخرة قد يؤتى نصيباً من الدنيا .
وللمفسرين فيها أقوال : نؤته نصيباً من الغنيمة لجهاده الكفار ، أو لم نحرمه ما
قسمناه له إذ من طلب الدّنيا بعمل الآخرة نؤته منها ، وما له في الآخرة من نصيب .
أو هي خاصة في أصحاب أحد أو من أراد ثواب الدنيا بالتعرض لها بعمل النوافل مع
مواقعة الكبائر جوزي عليها في الدنيا والآخرة .
( وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ ( وعدٌ لمن شكر نعم الله فقصر همه ونيته على طلب ثواب
الآخرة . قال ابن فورك : وفيه إشارة إلى أنهم ينعمهم الله بنعيم الدنيا ، ولا
يقصرهم على نعيم الآخرة . وأظهر الحرميان ، وعاصم ، وابن عامر في بعض طرق من رواية
هشام ، وابن ذكوان دال يرد عند ثواب ، وأدغم في الوصل . وقرأ قالون والحلواني عن
هشام من طريق : باختلاس الحركة ، وقرأ الباقون بالإشباع . وأما في الوقف فبالسكون
للجميع . ووجه الإسكان أن الهاء لما وقعت موقع المحذوف الذي كان حقه لو لم يكن حرف
علة أن يسكن ، فأعطيت الهاء ما تستحقه من السكون . ووجه الاختلاس بأنه استصحب ما
كان للهاء قبل أن تحذف الياء ، لأنه قبل الحذف كان أصله يؤتيه والحذف عارض فلا
يعتدّ به . ووجه الإشباع بأنّه جاز نظر إلى اللفظ وإنْ كانت الهاء متصلة بحركة
والأولى ترك هذه التوجيهات . فإنّ اختلاس الضمة والكسرة بعد متحرك لغة حكاها
الكسائي عن بني عقيل وبني كلاب . قال الكسائي : سمعت أعراب كلاب وعقيل يقولون : )
إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ ( ولربه لكنود بغير تمام وله مال ، وله مال .
وغير بني كلاب وبني عقيل لا يوجد في كلامهم اختلاس ، ولا سكون في له وشبهه إلا في
ضرورة نحو قول الشاعر :
له رجل كأنه صوت حاد
إذا طلب الوسيقة أو زَمير
وقول الآخر : واشرب الماء ما بي نحوه عطش
إلا لأن عيونه سيل واديها
آل عمران : ( 146 ) وكأين من نبي . . . . .
( وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَتْلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا
أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ ( لما كان
من المؤمنين ما كان يوم أحد وعتب عليهم الله ما حذر منهم في الآيات التي تقدمت ،
أخبرهم بأنّ الأمم السالفة قتلت أنبياء لهم كثيرون أو قتل ربيون كثير معهم ، فلم
يلحقهم ما لحقكم من الوهن والضعف ، ولا ثناهم عن القتال فجعهم بقتل أنبيائهم ، أو قتل
ربيبهم ، بل مضوا قدماً في نصرة دينهم صابرين على ما حل بهم . وقتل نبي أو أتباعه
من أعظم المصاب ، فكذلك كان ينبغي لكم التأسي بمن مضى من صالحي الأمم السابقة ،
هذا وأنتم خير الأمم ، ونبيكم خير الأنبياء . وفي هذه الجملة من العتب لمن فرّ عن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقرأ الجمهور وكأين قالوا : وهي أصل الكلمة ، إذ هي أي دخل عليها كاف التشبيه ،
وكتبت بنون في المصحف ، ووقف عليها أبو عمرو . وسورة بن المبارك عن الكسائي بياء
دون نون ، ووقف الجمهور على النون اتباعاً للرسم . واعتل لذلك أبو علي الفارسي بما
يوقف عليه في كلامه وذلك على عادة المعللين ، ومما جاء على هذه اللغة قول الشاعر :
وكائن في المعاسر من أناس
أخوهم فوقهم وهم كرام
وقرأ ابن كثير : وكائن وهي أكثر استعمالاً في لسان العرب وأشعارها . قال : .
وكائن رددنا عنكم من مدجج
" صفحة رقم 78 "
وقرأ ابن محيصين والأشهب العقيلي : وكأين على مثال كعين . وقرأ بعض القراء من
الشواذ كيئن ، وهو مقلوب قراءة ابن محيصين . وقرأ ابن محيصين أيضاً فيما حكاه
الداني كان على مثال كع وقال الشاعر : كان صديق خلته صادق الأخا
أبان اختباري أنه لي مداهن
وقرأ الحسن كي بكاف بعدها ياء مكسورة منونة . وقد طول المفسرون ابن عطية وغيره
بتعليل هذه التصرفات في كأين ، وبما عمل في كأين ، فلذلك أضربنا عن ذكره صفحاً .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو قتل مبنياً للمفعول ، وقتادة كذلك ، إلا أنه شدّد التاء ،
وباقي السبعة قاتل بألف فعلاً ماضياً . وعلى كل من هذه القرآت يصلح أن يسند الفعل
إلى الضمير ، فيكون صاحب الضمير هو الذي قتل أو قتل على معنى التكثير بالنسة لكثرة
الأشخاص ، لا بالنسبة لفرد فرد . إذ القتل لا يتكثر في كل فرد فرد . أو هو قاتل
ويكون قوله : معه ربيون محتملاً أن تكون جملة في موضع الحال ، فيرتفع ربيون بالابتداء
، والظرف قبله خبره ، ولم يحتج إلى الواو لأجل الضمير في معه العائد على ذي الحال
، ومحتملاً أن يرتفع ربيون على الفاعلية بالظرف ، ويكون الظرف هو الواقع حالاً
التقدير : كائناً معه ربيون ، وهذا هو الأحسن . لأن وقوع الحال مفرداً أحسن من
وقوعه جملة . وقد اعتمد الظرف لكونه وقع حالاً فيعمل وهي حال محكية ، فلذلك ارتفع
ربيون بالظرف . وإنْ كان العامل ماضياً لأنه حكى الحال كقوله تعالى : )
وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ( وذلك على مذهب البصريين . وأما الكسائي وهشام
فإنه يجوز عندهما إعمال اسم الفاعل الماضي غير المعرف بالألف واللام من غير تأويل
، بكونه حكاية حال ، ويصلح أن يسند الفعل إلى ربيون فلا يكون فيه ضمير ، ويكون
الربيون هم الذين قتلوا أو قتلوا أو قاتلوا ، وموضع كأين رفع على الابتداء .
والظاهر أن خبره بالجملة من قوله : قتل أو قتل أو قاتل ، سواء أرفع الفعل الضمير ،
أم الربيين . وجوزوا أن يكون قتل إذا رفع الضمير في موضع الصفة ومعه ربيون في موضع
الخبر كما تقول : كم من رجل صالح معه مال . أو في موضع الصفة فيكون قد وصف بكونه
مقتولاً ، أو مقتلاً ، أو مقاتلاً ، وبكونه معه ربيون كثير . ويكون خبر كأين قد
حذف تقديره : في الدنيا أو مضى . وهذا ضعيف ، لأن الكلام مستقل بنفسه لا يحتاج إلى
تكلف إضمار . وأما إذا رفع الظاهر فجوزوا أن تكون الجملة الفعلية من قتل
ومتعلقاتها في موضع الصفة لنبي ، والخبر محذوف . وهذا كما قلنا ضعيف . ولما ذكروا
أن أصل كأين هو أي دخلت عليها كاف التشبيه فجرتها ، فهي عاملة فيها ، كما دخلت على
ذا في قولهم : له عندي كذا . وكما دخلت على أنّ في قولهم : كأن ادعى أكثرهم إن كأن
، بقيت فيها الكاف على معنى التشبيه . وإن كذا ، وكأن ، زال عنهما معنى التشبيه .
فعلى هذا لا تتعلق الكاف بشيء ، وصار معنى كأين معنى كم ، فلا تدل على التشبيه
ألبتة . وقال الحوفي : أما العامل في الكاف فإن حملناها على حكم الأصل فمحمول على
المعنى ، والمعنى : إصابتكم كإصابة من تقدّم من الأنبياء وأصحابهم . وإن حملنا
الحكم على الانتقال إلى معنى كم ، كان العامل بتقدير الابتداء ، وكانت في موضع رفع
وقتل الخبر . ومن متعلقة بمعنى الاستقرار ، والتقدير الأول أوضح لحمل الكلام على
اللفظ دون المعنى بما يجب من الخفض في أي . وإذا كانت أي على بابها من معاملة
اللفظ ، فمن متعلقة بما تعلقت به الكاف من المعنى المدلول عليه انتهى كلامه . وهو
كلام فيه غرابة . وجرهم إلى التخليط في هذه الكلمة ادّعاؤهم بأنها مركبة من : كاف
التشبيه ، وإن أصلها أي : فجرت بكاف التشبيه . وهي دعوى لا يقوم على صحتها دليل .
وقد ذكرنا رأينا فيها أنها بسيطة مبنية على السكون ، والنون من أصل الكلمة وليس
بتنوين ، وحملت في البناء على نظيرتها كم . وإلى أن الفعل مسند إلى الضمير .
ذهب الطبري وجماعة ورجح ذلك بأن القصة هي سبب غزوة أحد ، وتخاذل المؤمنين حين قتل
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فضرب المثل بنبي قتل . ويؤيد هذا
" صفحة رقم 79 "
الترجيح قوله : أفإن مات أو قتل . وقد قال ابن عباس في قوله : ) وَمَا كَانَ لِنَبِىّ
أَنْ يَغُلَّ ( النبي ، يتقل ، فكيف لا يخان ؟ وإذا أسند لغير النبي كان المعنى
تثبيت المؤمنين لفقد مَن فقد منهم فقط . وإلى أن الفعل مسند إلى الربيين ذهب الحسن
وجماعة . قال هو وابن جبير : لم يقتل نبي في حرب قط . وقال ابن : عطية قراءة من
قرأ قاتل أعم في المدح ، لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي . ويحسن عندي على هذه
القراءة إسناد الفعل إلى الربيين ، وعلى قراءة قتل إسناده إلى نبي انتهى كلامه .
ونقول : قتل : يظهر أنها مدح ، وهي أبلغ في مقصود الخطاب ، لأنها نص في وقوع القتل
، ويستلزم المقاتلة . وقاتل : لا تدل على القتل ، إذ لا يلزم من المقاتلة وجود
القتل . قد تكون مقاتلة ولا يقع قتل . وما ذكر من أنه يحسن عنده ما ذكر لا يظهر
حسنه ، بل القراءتان تحتملان الوجهين . وقال أبو الفتح بن جني : في قراءة قتادة لا
يحسن أن يستند الفعل إلى الربيين لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل
في قتل شخص واحد . فإن قيل : يستند إلى نبي مراعاة لمعنى كأين ، فالجواب : أن
اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله : من نبي ، ودل الضمير المفرد في معه على أن
المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد ، فخرج الكلام على معنى كأين . قال أبو الفتح :
وهذه القراءة تقوى قول من قال لمن قتل وقاتل : إنما يستند إلى الربيين . انتهى
كلامه وليس بظاهر . لأن كأين مثل كم ، وأنت خبير إذا قلت : كم من عانٍ فككته ،
فأفردت . راعيت لفظ كم ومعناها الجمع : وإذا قلت : كم من عان فككتهم ، راعيت معنى
كم لا لفظها . وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير ، والمراد به الجمع .
فلا فرق من حيثُ المعنى بين فككته وفككتهم ، كذلك لا فرق بين قتلوا معهم ربيون
وقتل معه ربيون ، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارة ، ومراعاة المعنى تارة ، لأن مدلول
كم وكأين كثير ، والمعنى جمع كثير . وإذا أخبرت عن جمع كثير فتارةً تفرد مراعاة
للفظ ، وتارةً تجمع مراعاة للمعنى كما قال تعالى : ) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ
جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( فقال : منتصر ،
وقال : ويولون . فأفرد منتصر ، وجمع في يولون . وقول أبي الفتح في جواب السؤال
الذي فرضه : أن اللفظ قد جرى على جهة الإفراد في قوله : من نبي ، أي روعي لفظ كأين
لكون تمييزها جاء مفرداً ، فناسب لما ميزت بمفرد أن يراعي لفظها ، والمعنى على
الجمع . وقوله : ودل الضمير المفرد في معه على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد
واحد ، هذا المراد مشترك بين أن يفرد الضمير ، أو يجمع . لأن الضمير المفرد ليس
معناه هنا إفراد مدلوله ، بل لا فرق بينه مفرداً ومجموعاً من حيث المعنى . وإذ لا
فرق فدلالته عامة ، وهي دلالته على كل فرد فرد . وقوله : فخرج الكلام عن معنى كأين
، لم يخرج الكلام عن معنى كأين ، إنما خرج عن جمع الضمير على معني كأين دون لفظها
، لأنه إذا أفرد لفظاً لم يكن مدلوله مفرداً ، إنما يكون جمعاً كما قالوا : هو
أحسن الفتيان وأجمله ، معناه : وأجملهم . ومن أسند قتل أو قتل إلى ربيون ، فالمعنى
عنده : قتل بعضهم . كما تقول : قتل بنو فلان في وقعة كذا ، أي جماعة منهم .
والربي عابد الرب . وكسر الراء من تغيير النسب ، كما قالوا : أمسي في النسبة إلى
أمس ، قاله : الأخفش . أو الجماعة قاله : أبو عبيدة . أو منسوب إلى الرّبة وهي
الجماعة ، ثم جمع بالواو والنون قاله : الزجاج . أو الجماعة الكثيرة قاله : يونس
بن حبيب . وربيون منسوب إليها . قال قطرب : جماعة العلماء على قول يونس ، وأمّا
المفسرون فقال ابن مسعود ، وابن عباس : هم الألوف ، واختاره الفراء وغيره . عدد
ذلك بعض المفسرين فقال : هم عشرة آلاف . وقال ابن عباس في رواية ، ومجاهد ، وعكرمة
، والضحاك ، وقتادة ،
" صفحة رقم 80 "
والسدي ، والربيع : هم الجماعات الكثيرة ، واختاره ابن قتيبة . وقال ابن عباس في
رواية الحسن : هم العلماء الأتقياء الصبر على ما يصيبهم . واختاره اليزيدي والزجاج
. وقال ابن زيد : الاتباع ، والربانيون الولاة . وقال ابن فارس : الصالحون
العارفون بالله . وقيل : وزراء الأنبياء . وقال الضحاك : الربية الواحدة ألف ،
والربيون جمعها . وقال الكلبي : الربية الواحدة عشرة آلاف . وقال النقاش : هم
المكثرون العلم من قولهم : ربا الشيء بربو إذا كثر . وهذا لا يصح لاختلاف المادتين
، لأن ربا أصوله راء وباء وواو ، وأصول هذا راء وباء وباء . وقرأ الجمهور بكسر
الراء . وقرأ علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، وأبو رجاء ، وعمرو
بن عبيد ، وعطاء بن السائب بضم الراء ، وهو من تغيير النسب . كما قالوا : دهري بضم
الدال ، وهو منسوب إلى الدهر الطويل . وقرأ ابن عباس فيما روى قتادة عنه : بفتح
الراء . قال ابن جني : هي لغة تميم ، وكلها لغات والضمير في وهنوا عائد على
الربيين ، إن كان الضمير في قتل عائداً على النبي . وإن كان ربيون مسنداً إليه
الفعل مبنياً للفاعل ، فكذلك أو للمفعول ، فالضمير يعود على من بقي منهم ، إذ
المعنى يدل عليه . إذ لا يصح عوده على ربيون لأجل العطف بالفاء ، لما أصابهم في
سبيل الله بقتل أنبيائهم أو ربيبهم .
وقرأ الجمهور : وهنوا بفتح الهاء . وقرأ الأعمش ، والحسن ، وأبو السمال بكسرها .
وهما لغتان ، وهن يهن كوعد يعد ، ووهن يوهن كوجل يوجل . وقرأ عكرمة وأبو السمال
أيضاً : وهنوا بإسكان الهاء كما قالوا نعم في نعم ، وشهد في شهد . وتميم تسكن عين
فعل .
وما ضعفوا عن الجهاد بعد ما أصابهم ، وقيل : ما ضعف يقينهم ، ولا انحلت عزيمتهم .
وأصل الضعف نقصان القوة ، ثم يستعمل في الرأي والعقل . وقرىء ضعَفوا بفتح العين
وحكاها الكسائي لغة .
وما استكانوا قال ابن إسحاق : ما قعدوا عن الجهاد في دينهم . وقال السدي : ما ذلوا
. وقال عطاء : ما تضرعوا . وقال مقاتل : ما استسلموا . وقال أبو العالية : ما
جبنوا . وقال المفضل : ما خشعوا . وقال قتادة والربيع : ما ارتدوا عن نصرتهم دينهم
، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بربهم . وكل هذه أقوال متقاربة
. وهذا تعريض لما أصابهم يوم أحد من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ) ، وبضعفهم عند ذلك من مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم ،
حين أراد بعضهم أن يعتضد بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان .
واستكان ظاهره أنه استفعل من الكون ، فتكون أصل ألفه واواً أو من قول العرب : مات
فلان بكينة سوء ، أي بحالة سوء . وكأنه يكينه إذا خضعه قال هذا : الأزهري وأبو علي
. فعلى قولهما أصل الألف ياء . وقال الفراء وطائفة من النحاة : أنه افتعل من
السكون ، وأشبعت الفتحة فتولد منها ألف . كما قال : أعوذ بالله من العقراب ، يريد
من العقرب . وهذا الإشباع لا يكون إلا في الشعر . وهذه الكلمة في جميع تصاريفها
بنيت على هذا الحرف تقول : استكان بستكين فهو مستكين ومستكان له ، والإشباع لا
يكون على هذا الحدّ .
( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ( أي على قتال
" صفحة رقم 81 "
عدوهم قاله : الجمهور . أو على دينهم وقتال الكفار . والظاهر العموم لكل صابر على
ما أصابه من قتل في سبيل الله ، أو جرح ، أو بلاء ، أو أذى يناله بقولٍ أو فعلٍ أو
مصيبة في نفسه ، أو أهله أو ماله ، أو ما يجري مجرى ذلك . وكثيراً ما تمدحت العرب
بالصبر وحرصت عليه كما قال طرفة بن العبد : وتشكي النفس ما أصاب بها
فاصبري إنك من قوم صبر
إن تلاقي منفسياً لاتلفنا
فرح الخير ولا نكبو لضر
آل عمران : ( 147 ) وما كان قولهم . . . . .
( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ ( لما ذكر ما كانوا عليه من الجلد والصبر وعدم الوهن والاستكانة
للعدو ، وذلك كله من الأفعال النفسانية التي يظهر أثرها على الجوارح ، ذكر ما
كانوا عليه من الإنابة والاستغفار والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء ، وحصر قولهم
في ذلك القول ، فلم يكن لهم ملجأ ولا مفزع إلا إلى الله تعالى ، ولا قول إلا هذا
القول . لا ما كنتم عليه يوم أحد من الاضطراب ، واختلاف الأقوال . فمن قائل : نأخذ
أماناً من أبي سفيان ، ومن قائل : نرجع إلى ديننا ، ومن قائل ما قال حين فرّ .
وهؤلاء قد فجعوا بموت نبيهم أو ربيبهم لم يهنوا ، بل صبروا وقالوا هذا القول ، وهم
ربيون أحبار هضماً لأنفسهم ، وإشعاراً أنَّ ما نزل من بلاد الدنيا إنما هو بذنوب
من البشر ، كما كان في قصة أحد بعصيان من عصى .
وقرأ الجمهور قولهم بالنصب على أنه خبر كان . وإن قالوا في موضع الاسم ، جعلوا ما
كان أعرف الاسم ، لأن إنَّ وصلتها تتنزل منزلة الضمير . وقولهم : مضاف للضمير ،
يتنزل منزلة العلم . وقرأت طائفة منهم حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وأبو بكر عن
عاصم فيما ذكره المهدوي برفع قولهم ، جعلوه اسم كان ، والخبران قالوا . والوجهان
فصيحان ، وإن كان الأول أكثر . وقد قرىء : ثم لم تكن فتنتهم بالوجهين في السبعة ،
وقدم طلب الاستغفار على طلب تثبيت الأقدام والنصرة ، ليكون طلبهم ذلك إلى الله عن
زكاة وطهارة . فيكون طلبهم التثبيت بتقديم الاستغفار حرياً بالإجابة ، وذنوبنا
وإسرافنا متقاربان من حيث المعنى ، فجاء ذلك على سبيل التأكيد .
وقيل : الذنوب ما دون الكبائر ، والإسراف الكبائر . وقال أبو عبيدة : الذنوب هي
الخطايا ، وإسرافنا أي تفريطنا . وقال الضحاك : الذنوب عام ، والإسراف في الأمر
الكبائر خاصة .
والإقدام هنا قيل : حقيقة ، دعوا بتثبيت الأقدام في مواطىء الحرب ولقاء العدوّ كي
لا تزل . وقيل : المعنى شجّعْ قلوبنا على لقاء العدوّ . وقيل : ثبت قلوبنا على
دينك . والأحسن حمله على الحقيقة لأنه من مظانها . وثبوت القدم في الحرب لا يكون
إلا من ثبوت صاحبها في الدين . وكثيراً ما جاءت هذه اللفظة دائرة في الحرب ومع
النصرة كقوله : ( أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا ) ) إِن تَنصُرُواْ
اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ ( وقيل : اغفر لنا ذنوبنا في
المخالفة ، وإسرافنا في الهزيمة ، وثبت أقدامنا بالمصابرة ، وانصرنا على القوم
الكافرين بالمجاهدة .
قال ابن فورك : في هذا الدعاء ردّ على القدرية لقولهم : إن الله لا يخلق أفعال
العبد ، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعي فيما لم يفعله ، وفي هذا دليل على مشروعية
الدعاء عند لقاء العدو ، وأن يدعو بهذا الدعاء المعين . وقد جاء في القرآن أدعية
أعقب الله بالإجابة فيها
آل عمران : ( 148 ) فآتاهم الله ثواب . . . . .
( فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَةِ ( قرأ
الجحدري : فأثابهم من الإثابة . ولمّا تقدم في دعائهم ما يتضمن الإجابة فيه
الثوابين وهو قولهم : اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا ، فهذا يتضمن ثواب الآخرة . وثبت
أقدامنا وانصرنا يتضمن ثواب الدنيا ، أخبر تعالى أنه منحهم الثوابين . وهناك بدؤا
في الطلب بالأهم عندهم ، وهو ما ينشأ عنه ثواب الآخرة ، وهنا أخبر بما أعطاهم
مقدماً . ذكر ثواب الدنيا ليكون ذلك إشعاراً لهم بقبول دعائهم وإجابتهم إلى طلبهم
،
" صفحة رقم 82 "
ولأن ذلك في الزمان متقدم على ثواب الآخرة . قال قتادة وابن إسحاق وغيرهما : ثواب
الدنيا هو الظهور على عدوهم . وقال ابن جريج : هو الظفر والغنيمة . وقال الزمخشري
: ثواب الدّنيا من النصرة والغنيمة والعز وطيب الذكر . وقال النقاش : ليس إلا
الظفر والغلبة ، لأن الغنيمة لم تحل إلا لهذه الأمّة . وهذا صحيح ثبت في الحديث
الصحيح : ( وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ) وهي إحدى الخمس الذي أوتيها رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولم يؤتها أحد قبله . وحسن ثواب الآخرة الجنة بلا
خلاف قاله : ابن عطية . وقيل : الأجر والمغفرة . وخص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على
فضله وتقدمه ، وأنه هو المعتد به عنده ) تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ
يُرِيدُ الاْخِرَةَ ( وترغيباً في طلب ما يحصله من العمل الصالح ومناسبة لآخر
الآية . قال علي : من عمل لدنياه أضرّ بآخرته ، ومن عمل لآخرته أضرّ بدنياه ، وقد
يجمعهما الله تعالى لأقوام .
( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( قد فسر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) )
الإحسان حين سئل عن حقيقته في حديث سؤال جبريل : ) ءانٍ تَعْبُدِ اللَّهِ
كَأَنَّكَ ( وفسره المفسرون هنا بأحد قولين ، وهو من أحسن ما بينه وبين ربه في
لزوم طاعته ، أو من ثبت في القتال مع نبيه حتى يقتل أو يغلب .
آل عمران : ( 149 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ ( الخطاب عامّ يتناول
أهل أحد وغيرهم . وما زال الكفار مثابرين على رجوع المؤمنين عن دينهم ، ودّوا لو
تكفرون كما كفروا فتكونون سواء . وودُّوا لو تكفرون ، لن تنفعكم ) وَدَّ كَثِيرٌ
مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ).
) وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ( وقيل : الخطاب
خاص بمن كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من المؤمنين يوم أحد . فعلى
الأول علق على مطلق طاعتهم الرد على العقب والانقلاب بالخسران وهذا غاية في التحرز
منهم والمجانبة لهم ، فلا يطاعون في شيء ولا يشاورون ، لأن ذلك يستجر إلى موافقتهم
، ويكون الذين كفروا عاماً . وعلى القول الثاني : يكون الذين كفروا خاصاً . فقال
عليّ وابن عباس : هم المنافقون قالوا للمؤمنين لما رجعوا من أحد : لو كان نبياً ما
أصابه الذي أصابه فارجعوا إلى إخوانكم . وقال ابن جريج : هم اليهود والنصارى وقاله
: الحسن . وعنه : إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم لأنهم كانوا يستغوونهم
، ويوقعون لهم الشبه ، ويقولون : لو كان لكم نبياً حقاً لما غلب ولما أصابه
وأصحابه ما أصابهم ، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس ، يوماً له ويوماً عليه
.
وقال السدي : هم أبو سفيان وأصحابه من عباد الأوثان . وقال الحسن أيضاً : هو كعب
وأصحابه . وقال أبو بكر الرّازي : فيها دلالة على النهي عن طاعة الكفار مطلقاً ،
لكن أجمع المسلمون على أنه لا يندرج تحته من وثقنا بنصحه منهم ، كالجاسوس والخرّيت
الذي يهدي إلى الطريق ، وصاحب الرأي ذي المصلحة الظاهرة ، والزوجة تشير بصواب .
والردة هنا على العقب كناية عن الرجوع إلى الكفر . وخاسرين : أي مغبونين ببيعكم
الآخرة .
آل عمران : ( 150 ) بل الله مولاكم . . . . .
( بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ( بل : لترك الكلام الأول من غير إبطال وأخذ في كلام
غيره . والمعنى : ليس الكفار أولياء فيطاعوا في شيء ، بل الله مولاكم . وقرأ الحسن
: بنصب الجلالة على معنى : بل أطيعوا الله ، لأن الشرط السابق يتضمن معنى النهي ،
أي لا تطيعوا الكفار فتكفروا ، بل أطيعوا الله مولاكم .
( وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ( لما ذكر أنه مولاهم ، أي ناصرهم ذكر أنّه خير
ناصر لا يحتاج معه إلى نصرة أحد ، ولا ولايته . وفي هذا
" صفحة رقم 83 "
دلالة على أن من قاتل لنصر دين الله لا يخذل ولا يغلب لأن الله مولاه . وقال تعالى
: ) إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ( ) إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ
غَالِبَ لَكُمْ ).
آل عمران : ( 151 ) سنلقي في قلوب . . . . .
( سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ ( أي هؤلاء الكفار ، وإنْ
كانوا ظاهرين عليكم يوم أحد فإنا نخذلهم بإلقاء الرعب في قلوبهم . وأتى بالسين
القريبة الاستقبال ، وكذا وقع . لألقى الله في قلوبهم الرّعب يوم أحد فانهزموا إلى
مكة من غير سبب من المسلمين ، ولهم إذ ذاك القوة والغلبة . وقيل : ذهبوا إلى مكة ،
فلما كانوا ببعض الطريق قالوا : ما صنعنا شيئاً قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون
، ارجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرّعب في قلوبهم فأمسكوا .
والإلقاء حقيقة في الإجرام ، واستعير هنا للجعل ، ونظيره : ) وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( ومثله قول الشاعر : هما نفثا في فيّ من فمويهما
على النابح العاوي أشد رجام
وقرأ الجمهور : سنلقي بالنون ، وهو مشعر بعظم ما يلقي ، إذ أسنده إلى المتكلم بنون
العظمة . وقرأ أيوب السختياني : سيلقي بالياء جرياً على الغيبة السابقة في قوله :
) وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ( وقدم في قلوبهم : وهو مجرور على المفعول للاهتمام
بالمحل الملقى فيه قبل ذكر الملقى . وقرأ ابن عامر والكسائي : الرعب بضم العين ،
والباقون بسكونها . فقيل : لغتان . وقيل : الأصل السكون ، وضم اتباعاً كالصبح
والصبح . وقيل : الأصل الضم ، وسكن تخفيفاً ، كالرّسل والرسل . وذكروا في إلقاء
الرعب في قلوب الكفار يوم أحد قصة طويلة أردنا أن لا نخلي الكتاب من شيء منها ،
فلخصنا منها أن علياً أخبر الرسول بأن أبا سفيان وأصحابه حين ارتحلوا ركبوا الإبل
وجنبوا الخيل ، فسرَّ بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثم رجع الرسول إلى
المدينة فتجهزوا تبع المشركين إلى حمراء الأسد . وأن معبد الخزاعي جاء إلى الرسول
( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو كافر ممتعض مما حل بالمسلمين ، وكانت خزاعة تميل إلى
الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأن المشركين هموا بالرجوع إلى القتال فخذلهم
صفوان بن أمية ومعبد . وقال معبد : خرجوا يتحرقون عليكم في جمع لم أر مثله ، ولم
أر إلا نواصي خيلهم قد جاءتكم . وحملني ما رأيت أني قلت في ذلك شعراً وأنشد : كادت
تهد من الأصوات راحلتي
إذ سالت الأرض بالحرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابله
عند اللقاء ولا ميل مهازيل
فظلت أعدو أظن الأرض مائلة
لما سموا برئيس غير مخذول
إلى آخر الشعر ، فوقع الرعب في قلوب الكفار . وقوله : سنلقي ، وعد للمؤمنين بالنصر
بعد أحد ، والظفر . وقال : ) خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ( وفيها دلالة على صدق
نبوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذ أخبر عن الله بأنه يلقي الرعب في
قلوبهم فكان كما أخبر به .
( بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً ( الباء للسبب ،
وما مصدرية : أي بسبب إشراكهم بالله آلهة لم ينزل بإشراكها حجة ولا برهاناً ،
وتسليط النفي على الإنزال ، والمقصود : نفي السلطان ، أي آلهة لا سلطان في إشراكها
، فينزل نحو قوله :
على لاحب لا يهتدى بمناره
" صفحة رقم 84 "
أي لا منار له فيهتدى به وقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر
أي لا ينجحر الضب فيرى بها . والمرادُ نفي السلطان والنزول معاً . وكان الإشراك
بالله سبباً لإلقاء الرعب ، لأنهم يكرهون الموت ويؤثرون الحياة ، إذ لم تتعلق
آمالهم بالآخرة ولا بثواب فيها ولا عقاب ، فصار اعتقادهم ذلك مؤثراً في الرغبة في
الحياة الدنيا كما قالوا : ) وَأَنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ
وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( وفي قوله : ما لم ينزل به سلطاناً ، دليل
على إبطال التقليد ، إذ لا برهان مع المقلد .
( وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ( أخبر تعالى بأن مصيرهم ومرجعهم إلى النار فهم في
الدنيا مرعوبون وفي الآخرة معذبون ، بسبب إشراكهم . فهو جالب لهم الشر في الدنيا
والآخرة .
( وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ( بالغ في ذم مثواهم والمخصوص بالذم محذوف ، أي
: وبئس مثوى الظالمين النار . وجعل النار مأواهم ومثواهم . وبدأ بالمأوى وهو
المكان الذي يأوي إليه الإنسان ولا يلزم منه الثواء ، لأن الثواء دال على الإقامة
، فجعلها مأوى ومثوى كما قال تعالى : ) وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ( ونبه على
الوصف الذي استحقوا به النار وهو الظلم ، ومجاوزة الحد إذ أشركوا بالله غيره . كما
قال : ) إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ).
آل عمران : ( 152 ) ولقد صدقكم الله . . . . .
( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى
إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا
أَرَاكُمْ مَّا ( هذا جواب لمن رجع إلى المدينة من المؤمنين قالوا : وعدنا الله
النصر والإمداد بالملائكة ، فمن أي وجه أتينا فنزلت إعلاماً أنه تعالى صدقهم الوعد
ونصرهم على أعدائهم أولاً ، وكان الإمداد مشروطاً بالصبر والتقوى . واتفق من بعضهم
من المخالفة ما نص الله في كتابه ، وجاءت المخاطبة بجمع ضمير المؤمنين في هذه
الآيات ، وإنْ كان لم يصدر ما يعاتب عليه من جميعهم ، وذلك على طريقة العرب في
نسبة ما يقع من بعضهم للجميع على سبيل التجوز ، وفي ذلك إبقاء على مع فعل وستر ،
إذ لم يعين وزجر لمن لم يفعل أن يفعل .
وصدق الوعد : هو أنهم هزموا المشركين أولاً ، وكان لعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد
المطلب والزبير وأبي دجانة وعاصم بن أبي الأفلح بلاء عظلم في ذلك اليوم ، وهو
مذكور في السير . وكان المشركون في ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس . والمسلمون في
سبعمائة رجل . وتعدت صدق هنا لى اثنين ، ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر ، تقول
: صدقت زيداً الحديث ، وصدقت زيداً في الحديث ، ذكرها بعض النحويين في باب ما
يتعدى إلى اثنين . ويجوز أن يتعدى إلى الثاني بحرف الجر ، فيكون من باب استغفر . واختار
والعامل في إذ صدقكم .
ومعنى تحسونهم : تقتلونهم . وكانوا قتلوا من المشركين اثنين وعشرين رجلاً . وقرأ
عبيد بن عمير تحسونهم رباعياً من الإحساس ، أي تذهبون حسهم بالقتل . وتمني القتل
بوقت الفشل وهو : الجبن ، والضعف .
والتنازع وهو التجاذب في الأمر . وهذا التنازع صدر من الرماة . كان رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ) قد رتب الرماة على فم الوادي وقال : ( اثبتوا مكانكم ، وإن
رأيتمونا هزمناهم ، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم ) ووعدهم بالنصر إن انتهوا
إلى أمره . فلما انهزم المشركون قال بعض الرماة : قد انهزموا فما موقفنا هنا ؟
الغنيمة الغنيمة ، الحقوا بالمسلمين . وقال بعضهم : بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : التنازع هو ما صدر من المسلمين من
الاختلاف حين صيح أن محمداً قد قتل .
والعصيان هو ذهاب من ذهب من الرماة من مكانه طلباً للنهب والغنيمة ، وكان خالد حين
رأى قلة الرماة صاح في خيله وحمل على مَنْ بقي من الرماة فقتلهم ، وحمل على عسكر
المسلمين فتراجع المشركون ، فأصيب من المسلمين يومئذ سبعون رجلاً .
من بعد ما أراكم ما تحبون ، وهو ظفر المؤمنين وغلبتهم . قال الزبير بن العوام :
لقد رأيتني أنظر إلى
" صفحة رقم 85 "
خدم هند وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى
العسكر يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا وصرخ صارخ : ألا إن
محمداً قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا .
وإذاً في قوله : إذا فشلتم ، قيل : بمعنى إذ ، وحتى حرف جر ولا جواب لها إذ ذاك ،
ويتعلق بتحسونهم أي : تقتلونهم إلى هذا الوقت . وقيل : حتى حرف ابتداء دخلت على
الجملة الشرطية ، كما تدخل على جمل الابتداء والجواب ملفوظ به وهو قوله : وتنازعتم
على زيادة الواو ، قاله : الفراء وغيره . وثم صرفكم على زيادة ثم ، وهذان القولان
واللذان قبلهما ضعاف . والصحيح : أنه محذوف لدلالة المعنى عليه ، فقدره ابن عطية :
انهزمتم . والزمخشري : منعكم نصرة ، وغيرهما : امتحنتم . والتقادير متقاربة .
وحذفُ جواب الشرط لفهم المعنى جائز لقوله تعالى : ) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ
إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الاْرْضِ أَوْ (
تقديره فافعل ويظهر أن الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو : انقسمتم إلى قسمين .
ويدل عليه ما بعده ، وهو نظير : ) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُمْ
مُّقْتَصِدٌ ( التقدير : انقسموا قسمين : فمنهم مقتصد لا يقال : كيف ، يقال :
انقسموا فيمن فشل وتنازع ، وعصى . لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلهم ، بل من بعضهم
كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية .
وقال أبو بكر الرازي : دلت هذه الآية على تقدم وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر على
عدوهم ما لم يعصوا بتنازعهم وفشلهم ، وكان كما أخبر به هزموهم وقتلوا ، ودل ذلك
على صدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) النبي بأن الأخبار بالغيوب من خصائص
الربوبية وصفات الألوهية لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله عليها ، ولا ينتهي علمها
إلينا إلا على لسان رسول يخبر بها عن الله تعالى . ) مِنكُم مَّن يُرِيدُ
الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَةَ ( قال ابن عباس وجمهور المفسرين :
الدنيا الغنيمة . وقال ابن مسعود ، ما شعرنا أن أحداً من أصحاب رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ) يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ، والذين أرادوا الآخرة هم الذين
ثبتوا في مركزهم مع أميرهم عبد الله بن جبير في نفر دون العشرة قتلوا جميعاً ،
وكان الرماة خمسين ذهب منهم نيف على أربعين للنهب وعصوا الأمر . وممن أراد الآخرة
من ثبت بعد تخلخل المسلمين فقاتل حتى قتل ، كأنس بن النضر وغيره ممن لم يضطرب في
قتاله ولا في دينه . وهاتان الجملتان اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف . ) ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ( أي جعلكم تنصرفون . ) لِيَبْتَلِيَكُمْ ( أي ليمتحن صبركم
على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها . وقيل : صرفكم عنهم أي لم تتماد الكسرة
عليكم فيستأصلوكم . وقيل : المعنى لم يكلفكم طلبهم عقيب انصرافهم . وتأولته
المعتزلة على معنى : ثم انصرفتم عنهم ، فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من
قلوب الكافرين ابتلاء للمؤمنين . وقيل : معنى ليبتليكم أي لينزل بكم ذلك البلاء من
القتل والتمحيص . ) وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ( قيل : عن عقوبتكم على فراركم ، ولم
يؤاخذكم به . وقيل : برد العدو عنكم . وقيل : بترك الأمر بالعود إلى قتالهم من
فوركم . وقيل : بترك الاستئصال بعد المعصية والمخالفة . فمعنى عفا عنكم أبقى عليكم
.
قال الحسن : قتل منهم جماعة سبعون ، وقتل عم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وشج
وجهه وكسرت رباعيته . وإنما العفو إن لم يستأصلهم هؤلاء مع رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) . وفي سبيل الله غضاب لله يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فضيعوه
، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم . يا فسق الفاسقين اليوم يحل كل كبيرة ،
ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم انتهى كلام
الحسن . والظاهر أن العفو إنما هو عن الذنب ، أي لم يؤاخذكم بالعصيان . ويدل عليه
قرينة قوله :
" صفحة رقم 86 "
وعصيتم . والمعنى : أن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بكم ، فعفا عنكم ، فهو إخبار
بالعفو عما كان يستحق بالذنب من العقاب . وقال بهذا : ابن جريج ، وابن إسحاق ،
وجماعة . وفيه مع ذلك تحذير . ) وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( أي
في الأحوال ، أو بالعفو .
وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع ضروباً : من ذلك الاستفهام الذي معناه
الإنكار في : أم حسبتم . والتجنيس المماثل في : انقلبتم ومن ينقلب ، وفي ثواب
الدنيا وحسن ثواب . والمغاير في قولهم : إلا أن قالوا . وتسمية الشيء باسم سببه في
: تمنون الموت أي الجهاد في سبيل الله ، وفي قوله : وثبت أقدامنا فيمن فسر ذلك
بالقلوب ، لأن ثبات الأقدام متسبب عن ثبات القلوب . والالتفات في : وسنجزي
الشاكرين . والتكرار في : ولما يعلم ويعلم لاختلاف المتعلق . أو للتنبيه على فضل
الصابر . وفي : أفإن مات أو قتل لأن العرف في الموت خلاف العرف في القتل ، والمعنى
: مفارقة الروح الجسد فهو واحد . ومن في ومن يرد ثواب الجملتين ، وفي : ذنوبنا
وإسرافنا في قول من سوى بينهما ، وفي : ثواب وحسن ثواب . وفي : لفظ الجلالة ، وفي
: منكم من يريد الجملتين . والتقسيم في : ومن يرد وفي منكم من يريد . والاختصاص في
: الشاكرين ، والصابرين ، والمؤمنين . والطباق : في آمنوا أن تطيعوا الذين كفروا .
والتشبيه في : يردّوكم على أعقابكم ، شبه الرجوع عن الدين بالراجع القهقري ، والذي
حبط عمله بالكفر بالخاسر الذي ضاع ربحه ورأس ماله وبالمنقلب الذي يروح في طريق
ويغدو في أخرى ، وفي قوله : سنلقى . وقيل : هذا كله استعارة . والحذف في عدة مواضع
.
2 ( ) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ
فِىأُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا
فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ
أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً
مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ
غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاٌّ مْرِ مِن
شَىْءٍ قُلْ إِنَّ الاٌّ مْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِىأَنْفُسِهِم مَّا لاَ
يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاٌّ مْرِ شَىْءٌ مَّا
قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ
الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ
عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ
تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى
الاٌّ رْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا
قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيىِ
وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ
اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا
يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله
" صفحة رقم 87 "
تُحْشَرُونَ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً
غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاٌّ مْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ
لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن
يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ
مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن
بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ
دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( )
آل عمران : ( 153 ) إذ تصعدون ولا . . . . .
الإصعاد : ابتداء السفر ، والمخرج . والصعود : مصدر صعد رقى من سفل إلى علو ، قاله
: الفراء ، وأبو حاتم والزجاج . وقال القتبي : أصعد أبعد في الذهاب ، فكأنه إبعاد
كإبعاد الارتفاع . قال : ألا أيهذا السائلي أين صعدت
فإن لها في أرض يثرب موعدا
وأنشد أبو عبيدة : قد كنت تبكيني على الاصعاد
فاليوم سرحت وصاح الحادي
وقال المفضل : صعد ، وأصعد ، وصعد بمعنى واحد . والصعيد : وجه الأرض . وصعدة : إسم
من أسماء الأرض . وأصعد : معناه دخل في الصعيد .
فات الشيء أعجز إدراكه ، وهو متعد ، ومصدره : فوت ، وهو قياس فعل المتعدي .
النعاس : النوم الخفيف . يقال : نعس ينعس نعاساً فهو ناعس ، ولا يقال : نعسان .
وقال الفراء : قد سمعتها ولكني لا أشتهيها .
المضجع : المكان الذي يتكأ فيه للنوم ، ومنه : ) وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ
( والمضاجع : المصارع ، وهي أماكن القتل ، سميت بذلك لضجعة المقتول فيها .
الغزو القصد وكذلك المغزى ، ثم أطلق على قصد مخصوص وهو : الإيقاع بالعدو . وتقول :
غزا بني فلان ، أوقع بهم القتل والنهب وما أشبه ذلك . وغزى : جمع غازٍ ، كعاف وعفى
. وقالوا : غزاء بالمدر . وكلاهما لا ينقاس . أجرى جمع فاعل الصفة من المعتل اللام
مجرى صحيحها ، كركع وصوام . والقياس : فعله كقاض وقضاة . ويقال : أغزت الناقة عسر
لقاحها . وأتان مغزية تأخر نتاجها ثم تنتج .
يقال : لأن الشيء يلين ، فهو ليّن . والمصدر : لين ولَيان بفتح اللام ، وأصله في
الجرم وهو نعومته ، وانتفاء خشونته ، ولا يدرك إلا باللمس . ثم
" صفحة رقم 88 "
توسعوا ونقلوه إلى المعاني .
الفظاظة الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً . قال الشاعر في ابنة له : أخشى فظاظة عم
أو جفاء أخ
وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
الغلظ : أصله في الجرم ، وهو تكثر أجزائه . ثم يستعمل في قلة الانفعال والإشفاق
والرحمة . كما قال : يبكي علينا ولا نبكي على أحد
لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
الانفضاض : التفرق . وفضضت الشيء كسرتُه ، وهو تفرقة أجزائه .
الخذل والخذلان : هو الترك في موضع يحتاج فيه إلى التارك . وأصله : من خذل الظبي ،
ولهذا قيل لها : خاذل إذا تركتها أمها . وهذا على النسب أي ذات خذل ، لأن المتروكة
هي الخاذل بمعنى مخذولة ، ويقال : خاذلة . قال الشاعر : بجيد مغزلة إدماء خاذلة
من الظباء تراعي شادناً خرقا
ويقال أيضاً لها : خذول فعول ، بمعنى مفعول . قال : خذول تراعي ربرباً بخميلة
تناول أطراف البريد وترتدي
الغلول : أخذ المال من الغنيمة في خفاء . والفعل منه غلَّ يَغُلُّ بضم الغين .
والغل الضغن ، والفعل منه غلَّ يغِلُ بكسر الغين . وقال أبو علي : تقول العرب :
أغل الرجل إغلالاً ، خان في الأمانة . قال النمر : جزى الله عني جمرة بن نوفل
جزاء مغل بالأمانة كاذب
وقال بعض النحويين : الغلول مأخوذ من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والروح
. ويقال أيضاً في الغلول : أغل إغلالاً وأغلّ الحارز سرق شيئاً من اللحم مع الجلد
. ويقال : أغله وجده غالاً كقولك : أبخلته وجدته بخيلاً . السخط مصدر سخط ، جاء
على القياس . ويقال فيه : السُخْطُ بضم السين وسكون الخاء . ويقال : مات فلان في
سخطة الملك أي في سخطة . والسخط الكراهة المفرطة ، ويقابله الرضا . ) إِذْ
تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ
" صفحة رقم 89 "
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ } هذه الجمل التي تضمنت التوبيخ والعتب
الشديد . إذ هو تذكار بفرار من فرّ وبالغ في الهرب ، ورسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) يدعوه إليه . فمن شدّة الفرار واشتغاله بنفسه وهو يروم نجاتها لم يصغ إلى
دعاء الرسول ، وهذا من أعظم العتب حيث فرّ ، والحالة أن رسول الله يدعوه إليه .
وقرأ الجمهور : تصعدون مضارع أصعد ، والهمزة في أصعد للدخول . أي : دخلتم في
الصعيد ، ذهبتم فيه . كما تقول : أصب ح زيد ، أي دخل في الصباح . فالمعنى : إذ
تذهبون في الأرض . وتبين ذلك قراءة أبي : إذ تصعدون في الوادي . وقرأ أبو عبد
الرحمن والحسن ومجاهد وقتادة واليزيدي : تصعدون من صعد في الجبل إذا ارتقى إليه .
وقرأ أبو حيرة : تصعدون من تصعد في السلم ، وأصله : تتصعدون ، فحذفت إحدى التاءين
على الخلاف في ذلك ، أي تاء المضارعة ؟ أم تاء تفعل ؟ والجمع بينهما أنهم أولاً
أصعدوا في الوادي لما أرهقهم العدو ، وصعدوا في الجبل . وقرأ ابن محيصن وابن كثير
في رواية شبل : يصعدون ولا يلوون بالياء على الخروج من الخطاب إلى الغائب .
والعامل في إذا ذكر محذوفة . أو عصيتم ، أو تنازعتم ، أو فشلتم ، أو عفا عنكم ، أو
ليبتليكم ، أو صرفكم ، وهذان عن الزمخشري ، وما قبله عن ابن عطية . والثلاثة قبله
بعيدة لطول الفصل . والأول جيد ، لأنَّ ما قبل إذ جمل مستقلة يحسن السكوت عليها ،
فليس لها تعلق إعرابي بما بعدها ، إنما تتعلق به من حيث أنَّ السياق كله في قصة
واحدة . وتعلقه بصرفكم جيد من حيث المعنى ، وبعفا عنكم جيد من حيث القرب .
ومعنى ولا تلوون على أحد : أي لا ترجعون لأحد من شدة الفرار . لوى بكذا ذهب به .
ولوى عليه : كر عليه وعطف . وهذا أشد في المبالغة من قوله :
أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا
لأنه في الآية نفي عام ، وفي هذا نفي خاص ، وهو على من تعذرا ، وقال دريد بن الصمة
: وهل يرد المنهزم شيء وقرىء تلؤن بإبدال واو وهمزة وذلك لكراهة إجتماع الواوين
وقياس هذه الواو المضمومة ، أن لاتبدل همزة لأن الضمة فيها عارضة ، ومتى وقعت
الواو غير ، وهي مضمومة فلا يجوز الإبدال منها همزة إلا بشرطين أحدهما : أن تكون
الضمة لازمة . الثاني : أن لا تكون يمكن تخفيفها بالإسكان . مثال ذلك : فووج وفوول
. وغوور . فهنا يجوز فؤوج وقؤول وغؤور بالهمز . ومثل كونها عارضة : هذا دلوك .
ومثل إمكان تخفيفها بالإسكان : هذا سور ، ونور ، جمع سوار ونوار . فإنك تقول فيهما
: سور ونور . ونبه بعض أصحابنا على شرط آخر وهو لا بد منه ، وهو : أن لا يكون
مدغماً فيها نحو : تعود ، فلا يجوز فيه تعوذ بإبدال الواو المضمومة همزة . وزاد
بعض النحويين شرطاً آخر وهو : أن لا تكون الواو زائدة نحو : الترهوك وهذا الشرط
ليس مجمعاً عليه . وقرأ الحسن : تلون ، وخرجوها على قراءة من همز الواو ، ونقل
الحركة إلى اللام ، وحذف الهمزة . قال ابن عطية : وحذفت إحدى الواوين الساكنين ،
وكان قد قال في هذه القراءة : هي قراءة متركبة على قراءة من همز الواو المضمومة ،
ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام انتهى . وهذا كلام عجيب تخيل هذا الرجل أنه قد نقلت
الحركة إلى اللام فاجتمع واوان ساكنان ، إحداهما : الواو التي هي عين الكلمة ،
والأخرى : واو الضمير . فحذفت إحدى الواوين لأنهما ساكنان ، وهذا قول من لم يمعن
في صناعة النحو . لأنها إذا كانت متركبة على لغة من همز الواو ثم نقل حركتها إلى
اللام ، فإن الهمزة إذ ذاك تحذف ، ولا يلتقي واوان ساكنان . ولو قال : استثقلت
الضمة على الواو ، لأن الضمة كأنها واو ، فصار ذلك كأنه جمع ثلاث واواوت ، فتنقلب
الضمة إلى اللام ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الأولى منهما ، ولم يبهم في قوله إحدى
الواوين لأمكن ذلك في توجيه هذه القراءة الشاذة ، أما أنْ يبنى ذلك على أنه على
لغة من همز على زعمه ، فلا يتصور . ويحتمل أن يكون مضارع ولي وعدي بعلي ، على
تضمين معنى العطف . أي : لا تعطفون على أحد . وقرأ
" صفحة رقم 90 "
الأعمش وأبو بكر في رواية عن عاصم : تلوون من ألوى ، وهي لغة في لوى . وظاهر قوله
على أحد العموم .
وقيل : المراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعبر بأحد عنه تعظيماً له وصوناً
لاسمه أن يذكر عند ذهابهم عنه ، قاله : ابن عباس والكلبي .
وقرأ حميد بن قيس على أُحُد بضم الهمزة والحاء ، وهو الجبل . قال ابن عطية :
والقراءة الشهيرة أقوى ، لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يكن على الجبل إلا
بعد ما فرّ الناس عنه ، وهذه الحال من أصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم انتهى . وقال
غيره : الخطاب فيه لمن أمعن في الهرب ولم يصعد الجبل على من صعد . ويجوز أن يكون
أراد بقوله : ولا تلوون على أحد ، أي من كان على جبل أحد ، وهو النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) ) ومن معه الذين صعدوا . وتلوون هو من ليّ العنق ، لأن مَن عرج على
الشيء يلوي عنقه ، أو عنان دابته . والألف واللام في الرسول للعهد . ودعاء رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، روي أنه كان يقول : ( إليّ عباد الله ) والناس
يفرون عنه . وروي : ( أي عباد الله ارجعوا ) قاله : ابن عباس : وفي رواية : (
ارجعوا إليّ فإني رسول الله من يكر له الجنة ) وهو قول : السدي ، والربيع . قال
القرطبي : وكان دعاؤه تغيير للمنكر ، ومحال أن يرى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) ) المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه .
ومعنى في أخراكم : أي في ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، وهي المتأخرة . يقال : جئت في
آخر الناس وأخراهم ، كما تقول : في أولهم وأولاهم بتأويل مقدّمتهم وجماعتهم الأولى
. وفي قوله : في أخراكم دلالة عظيمة على شجاعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) )
، فإن الوقوف على أعقاب الشجعان وهم فرار والثبات فيه إنما هو للأبطال الأنجاد ،
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أشجع الناس . قال سلمة : كنا إذا احمرّ
البأس اتقيناه برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ) فَأَثَابَكُمْ غَمّاً
بِغَمّ ( الفاعل بأثابكم هو الله تعالى . وقال الفراء : الإثابة هنا بمعنى
المغالبة انتهى . وسمى الغم ثواباً على معنى أنه قائم في هذه النازلة مقام الثواب
الذي كان يحصل لولا الفرار . فهو نظير قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
وقوله : أخاف زياد أن يكون عطاؤه
أداهم سوداً أو محدرجة سمرا
جعل القيود والسياط عطاء ، ومحدرجة بمعنى مدحرجة . والباء في بغم : إمّا أن تكون
للمصاحبة ، أو للسبب . فإن كانت للمصاحبة وهي التي عبر بعضهم عنها بمعنى : مع .
والمعنى : غماً مصاحباً لغم ، فيكون الغمان إذ ذاك لهم . فالأول : هو ما أصابهم من
الهزيمة والقتل . والثاني : إشراف خالد بخيل المشركين عليهم ، قاله : ابن عباس ،
ومقاتل . وقيل : الغم الأوّل سببه فرارهم الأوّل ، والثاني سببه فرارهم حين سمعوا
أن محمداً قد قتل قاله : مجاهد . وقيل : الأوّل ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من
الجراح والقتل . والثاني حين سمعوا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قتل ، قاله
: قتادة والربيع . وقيل : عكس هذا الترتيب ، وعزاه ابن عطية إلى قتادة ومجاهد .
وقيل : الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح . والثاني : إشراف أبي سفيان عليهم ،
ذكره الثعلبي . وقيل : الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق . والثاني
: إشراف أبي
" صفحة رقم 91 "
سفيان على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومن كان معه ، قاله : السدي ومجاهد
أيضاً وغيرهما . وعبر الزمخشري عن هذا المعنى وهو اجتماع الغمين لهم بقوله : غماً
بعد غم ، وغماً متصلاً بغم من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) ، والجرح ، والقتل ، وظفر المشركين ، وفوت الغنيمة ، والنصر انتهى
كلامه . وقوله : غماً بعد غم تفسير للمعنى ، لا تفسير إعراب . لأن الباء لا تكون
بمعنى بعد . وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك . ولذلك قال بعضهم : إن المعنى غماً على
غم ، فينبغي أن يحمل على تفسير المعنى ، وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك . ولذلك قالبعضهم
: إن المعنى غماً على غم ، فينبغي أن يحمل على تفسير المعنى ، وإن كان بعضهم قد
ذهب إلى ذلك . وإن كانت الباء للسبب وهي التي عبر بعضهم عنها أنها بمعنى الجزا ،
فيكون الغم الأوّل للصحابة . والثاني قال الحسن وغيره : متعلقه المشركون يوم بدر .
والمعنى : أثابكم غماً بالغم الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر . قال ابن عطية
: فالباء على هذا باء معادلة ، كما قال أبو سفيان يوم بدر : والحرب سجال . وقال
قوم منهم الزجاج ، وتبعه الزمخشري : متعلقه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ،
والمعنى : جازاكم غماً بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) وسائر المؤمنين بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون
الضمير في : فأثابكم للرسول ، أي فآساكم في الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر
الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم ، فأثابكم عما اغتمه لأجلكم بسبب غم
اغتممتموه لأجله ، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم ، وإنما فعل ذلك ليسليكم
وينفس عنكم ، كيلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ، ولا على ما أصابكم من غلبة
العدوّ انتهى كلامه . وهو خلاف الظاهر . لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو الله
تعالى ، وذلك في قوله : ) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ ( وقوله : ) ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ( ) وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ( والله فيكون
قوله : ) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ ( وقوله : ) ثُمَّ صَرَفَكُمْ
عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ( ) وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ( والله فيكون قوله :
فأثابكم مسنداً إلى الله تعالى . وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعى عليهم
فرارهم مع كون من اهتدوا على يده يدعوهم ، فلم يجيء مقصوداً لأن يحدث عنه ، إنما
الجملة التي ذكر فيها في تقدير المفرد إذ هي حال . وقال الزمخشري : فأثابكم عطف
على صرفكم انتهى . وفيه بعدٌ لطول الفصل بين المتعاطفين . والذي يظهر أنه معطوف
على تصعدون ولا تلوون ، لأنه مضارع في معنى الماضي ، لأن إذ تصرف المضارع إلى
الماضي ، إذ هي ظرف لما مضى . والمعنى : إذ صعدتم وما لويتم على أحد فأثابكم .
( لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ ( اللام لام
كي ، وتتعلق بقوله : فأثابكم . فقيل : لا زائدة لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء
الحزن . فالمعنى : على أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم موافقتهم قاله : أبو
البقاء وغيره . وتكون كهي في قوله : ) لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ( إذ
تقديره : لأن يعلم . ويكون أعلمهم بذلك تبكيتاً لهم ، وزجراً أنْ يعودوا لمثله .
والجمهور على أن لا ثابتة على معناها من النفي . واختلفوا في تعليل الإثابة
بانتفاء الحزن على ما ذكر .
فقال الزمخشري : لكيلا تحزنوا لتتمرّنوا على تجرع الغموم ، وتضروا باحتمال الشدائد
، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار انتهى . فجعل
العلة في الحقيقة ثبوتية ، وهي التمرن على تجرع الغموم والاعتياد لاحتمال الشدائد
، ورتب على ذلك انتفاء الحزن ، وجعل ظرف الحزن هو مستقبل لا تعلق به بقصة أحد ، بل
لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة . وقال ابن عطية : المعنى لتعلموا أن ما وقع بكم
إنما هو بجنايتكم ، فأنتم أذيتم أنفسكم . وعادة البشر أنَّ جاني الذنب يصبر
للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما وقع هو مع ظنه البراءة بنفسه انتهى . وهذا
تفسير مخالف لتفسير الزمخشري . ومن المفسرين من ذهب إلى أن قوله :
" صفحة رقم 92 "
لكيلا تحزنوا متعلق بقوله : ولقد عفا عنكم ، ويكون الله أعلمهم بذلك تسلية لمصابهم
وعوضاً لهم عن ما أصابهم من الغم ، لأن عفوه يذهب كل غم . وفيه بعد لطول الفصل ،
ولأن ظاهره تعلقه بمجاورة وهو فأثابكم .
قال ابن عباس : والذي فاتهم من الغنيمة ، والذي أصابهم من الفشل والهزيمة ، ومما
تحتمله الآية : أنه لما ذكر اصعادهم وفرارهم مجدّين في الهرب في حال ادعاء الرسول
( صلى الله عليه وسلم ) ) إليه بالرجوع عن الهرب والانحياز إلى فئته ، كان الجد في
الهرب سبباً لاتصال الغموم بهم ، وشغلهم بأنفسهم طلباً للنجاة من الموت ، فصار ذلك
أي : شغلهم بأنفسهم واغتمامهم المتصل بهم من جهة خوف القتل سبباً لانتفاء الحزن
على فائت من الغنيمة ، ومصاب من الجراح والقتل لإخوانهم ، كأنه قيل : صاروا في حالة
من اغتمامهم واهتمامم بنجاة أنفسهم بحيث لا يخطر لهم ببال حزن على شيء فايت ولا
مصاب وإن جل ، فقد شغلهم بأنفسهم لينتفي الحزن منهم . ) وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ ( هذه الجملة تقتضي تهديداً ، وخص العمل هنا وإن كان تعالى خبيراً
بجميع الأحوال من الأعمال والأقوال والنيات ، تنبيهاً على أعمالهم من تولية
الأدبار والمبالغة في الفرار ، وهي أعمال تخشى عاقبتها وعقابها .
آل عمران : ( 154 ) ثم أنزل عليكم . . . . .
( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً ( الأمنة :
الأمن ، قاله : ابن قتيبة وغيره . وفرق آخرون فقالوا : الأمنة تكون مع بقاء أسباب
الخوف ، والأمن يكون مع زوال أسبابه . وقرأ الجمهور : أمنة بفتح الميم ، على أنه
بمعنى الأمن . أو جمع آمن كبار وبرره ، ويأتي إعرابه . وقرأ النخعي وابن محيصن :
أمْنة بسكون الميم ، بمعنى الأمن . ومعنى الآية : امتنان الله عليهم بأمنهم بعد
الخوف والغم ، بحيث صاروا من الأمن ينامون . وذلك أن الشديد الخوف والغم لا يكاد
ينام . ونقل المفسرون ما أخبرت به الصحابة من غلبة النوم الذي غشيهم كأبي طلحة :
والزبير ، وابن مسعود . واختلفوا في الوقت الذي غشيهم فيه النعاس .
فقال الجمهور : حين ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، فقال رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) لعلي وكان من المتحيزين إليه : ( إذهب فانظر إلى القوم فإنْ كانوا
جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عائدون إلى المدينة
فاتقوا الله واصبروا ) ووطنهم على القتال ، فمضى علي ثم رجع فأخبر : أنهم جنبوا
الخيل ، وقعدوا على أثقالهم عجالاً ، فأمن المؤمنون المصدقون رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) ، وألقى الله تعالى عليهم النعاس . وبقي المنافقون الذين في قلوبهم
مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أنّ أبا سفيان يؤم المدينة ، فلم يقع على أحد منهم
نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية . وثبت في البخاري من حديث أبي طلحة قال
: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ،
وفي طريق رفعت رأسي فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته . وهذا
يدل على أنهم غشيهم النعاس وهم في المصاف وسياق الآية والحديث الأول يدلان على
خلاف ذلك . قال تعالى ) فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ ). والغم كان بعد أن كسروا
وتفرقوا عن مصافهم ورحل المشركون عنهم . والجمع بين هذين القولين : أن المصاف الذي
أخبر عنه أبو طلحة كان في الجبل بعد الكسرة ، أشرف عليهم أبو سفيان من علو في
الخيل الكثيرة ، فرماهم من كان انحاز إلى الجبل من الصحابة بالحجارة ، وأغنى هناك
عمر حتى أنزلوهم ، وما زالوا صافين حتى جاءهم خبر قريش أنهم عزموا على الرّحيل إلى
مكة ، فأنزل الله عليهم النعاس في ذلك الموطن ، فأمنوا ولم يأمن المنافقون .
والفاعل بانزل ضمير يعود على الله تعالى ، وهو معطوف على فأثابكم . وعليكم يدل على
تجلل النعاس واستعلائه وغلبته ، ونسبة الإنزال مجاز لأن حقيقته في الإجرام .
وأعربوا أمنة مفعولاً بأنزل ، ونعاساً بدل منه ، وهو بدل اشتمال . لأن كلاًّ منهما
قد يتصور اشتماله على الآخر ، أو يتصور اشتمال العامل عليهما على الخلاف في ذلك .
أو عطف بيان ، ولا
" صفحة رقم 93 "
يجوز على رأي الجمهور من البصريين لأن من شرط عطف البيان عندهم أن يكون في المعارف
. أو مفعول من أجله وهو ضعيف ، لاختلال أحد الشروط وهو : اتحاد الفاعل ، ففاعل
الإنزال هو الله تعالى ، وفاعل النعاس هو المنزل عليهم ، وهذا الشرط هو على مذهب
الجمهور من النحويين . وقيل : نعاساً هو مفعول أنزل ، وأمنة حال منه ، لأنه في
الأصل نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال . التقدير : نعاساً ذا أمنة ، لأن
النعاس ليس هو الأمن . أو حال من المجرور على تقدير : ذوي أمنة . أو على أنه جمع
آمن ، أي آمنين ، أو مفعول من أجله أي لأمنة قاله : الزمخشري ، وهو ضعيف بما ضعفنا
به قول من أعرب نعاساً مفعولاً من أجله .
( يَغْشَى طَائِفَةً مّنْكُمْ ( هم المؤمنون . ويدل هذا على أن قوله : ثم أنزل
عليكم ، عام مخصوص ، لأنه في الحقيقة ما أنزل إلا على من آمن .
وقرأ حمزة والكسائي : تغشى بالتاء حملاً على لفظ أمنة هكذا قالوا . وقالوا :
الجملة في موضع الصفة ، وهذا ليس بواضح ، لأن النحويين نصوا على أن الصفة مقدمة
على البدل وعلى عطف البيان إذا اجتمعت . فمن أعرب نعاساً بدلاً أو عطف بيان لا يتم
له ذلك ، لأنه مخالف لهذه القاعدة ، ومن أعربه مفعولاً من أجله ففيه أيضاً الفصل
بين النعت والمنعوت بهذه الفضلة . وفي جواز ذلك نظر مع ما نبهنا عليه من فوات
الشرط وهو : اتحاد الفاعل . فإن جعلت تغشى جملة مستأنفة وكأنها جواب لسؤال من سأل
: ما حكم هذه الأمنة ؟ فأخبر تعالى تغشى طائفة منكم ، جاز ذلك . وقال ابن عطية :
أسند الفعل إلى ضمير المبدل منه انتهى . لما أعرب نعاساً بدلاً من أمنة ، كان
القياس أن يحدث عن البدل لا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن
المبدل منه . فإذا قلت : إن هنداً حسنها فاتن ، كان الخبر عن حسنها ، هذا هو
المشهور في كلام العرب . وأجاز بعض أصحابنا أن يخبر عن المبدل منه كما أجاز ذلك
ابن عطية في الآية ، واستدل على ذلك بقوله : إن السيوف غدوها ورواحها
تركت هوازن مثل قرن الأعضب
ويقول الآخر : وكأنه لهق السراة كأنه
ما حاجبيه معين بسواد
فقال : تركت ، ولم يقل تركاً . وقال معين : ولم يقل معينان ، فأعاد الضمير على
المبدل منه وهو السيوف ، والضمير في كأنه ولم يعد على البدل وهي : غدوها ورواحها
وحاجبيه . وما زائدة بين المبدل منه والبدل . ولا حجة فيما استدل به لاحتمال أن
يكون انتصاب غدوها ورواحها على الظرف لا على البدل ، ولاحتمال أن يكون معين خبراً
عن حاجبيه ، لأنه يجوز أن يخبر عن الاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ،
كاليدين والرجلين والعينين والحاجبين إخبار الواحد . كما قال : لمن زحلوقه زل
بها العينان تنهل
وقال : وكأنّ في العينين حبّ قرنفل
أو سنبلاً كحلت به فانهلت
فقال تنهل وكحلت به ، ولم يقل تنهلان ولا كحلتا به وهذا كما أجازوا أن يخبر عن
الواحد من هذين إخبار المثنى ، قال :
" صفحة رقم 94 "
إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى
بصحراء فلج ظلتا تكفان
فقال : ظلتا ولم يقل : ظلت تكف . وقرأ الباقون : يغشى بالياء ، حمله على لفظ
النعاس .
( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ
الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَىْء
قُلْ إِنَّ ( قال مكي : أجمع المفسرون على أن هذه الطائفة هم المنافقون ، وقالوا :
غشي النعاس أهل الإيمان والإخلاص ، فكان سبباً لأمنهم وثباتهم . وعرى منه أهل
النفاق والشك ، فكان سبباً لجزعهم وانكشافهم عن مراتبهم في مصافهم انتهى .
ويقال : أهمني الشيء ، أي : كان من همي وقصدي . أي : مما أهم به أو قصد . وأهمني
الأمر أقلقني وأدخلني في الهم ، أي الغم . فعلى هذا اختلف المفسرون في قد أهمتهم
أنفسهم . فقال قتادة والرّبيع وابن إسحاق وأكثرهم : هو بمعنى الغم ، والمعنى : أن
نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة قد جلبت إليهم خوف القتل ، وهذا معنى قول الزمخشري
: أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الغموم والأشجان ، فهم في التشاكي . وقال
بعض المفسرين : هو مِن هَمَّ بالشيء أراد فعله . والمعنى : أهمتهم أنفسهم المكاشفة
ونبذ الدين . وهذا القول من قال : قد قتل محمد فنلرجع إلى ديننا الأول ، ونحو هذا
من الأقوال . وقال الزمخشري في قوله : قد أهمتهم أنفسهم ، ما بهم إلا همّ أنفسهم ،
لا هم الدّين ، ولا هم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمسلمين انتهى .
فيكون من قولهم : أهمني الشيء أي : كان من همي وإرادتي . والمعنى : أهمهم خلاص
أنفسهم خاصة ، أي : كان من همهم وإرادتهم خلاص أنفسهم فقط ، ومن غير الحق يظنون أن
الإسلام ليس بحق ، وأن أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يذهب ويزول .
ومعنى ظن الجاهلية عند الجمهور : المدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام ، كما قال :
) حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ( ) وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ (
وكما تقول : شعر الجاهلية . وقال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا
كأساً دهاقاً . وقال بعض المفسرين : المعنى ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي
سفيان ومن معه ، ونحا إلى هذا القول : قتادة والطبري . قال مقاتل : ظنوا أن أمره
مضمحل . وقال الزجاج : إن مدّته قد انقضت . وقال الضحاك عن ابن عباس : ظنوا أن
محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد قتل . وقيل : ظن الجاهلية إبطال النبوّات
والشرائع . وقيل : يأسهم من نصر الله وشكهم في سابق وعده بالنصرة . وقيل : يظنون
أن الحق ما عليه الكفار ، فلذلك نصروا . وقيل : كذبوا بالقدر . قال الزمخشري : وظن
الجاهلية كقولك : خاتم الجود ورجل صدق ، تريد الظن المختص بالملة الجاهلية . ويجوز
أنْ يراد ظن أهل الجاهلية ، أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله
. انتهى وظاهر قوله : هل لنا من الأمر من شيء الاستفهام ؟ فقيل : سألوا الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) ) ، هل لهم معاشر المسلمين من النصر والظهور على العدوّ شي
أي نصيب ؟ وأجيبوا بقوله : ) قُلْ إِنَّ الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ ( وهو النصر
والغلبة . كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ، وأن جندنا لهم الغالبون . وقيل : المعنى
ليس النصر لنا ، بل هو للمشركين . وقال قتادة وابن جريج : قيل لعبد الله بن أبيّ
بن سلول : قتل بنو الخزرج ، فقال : وهل لنا من الأمر من شيء ؟ يريد : أن الرأي ليس
لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا ولم نخرج ولم يقتل أحد منا . وهذا منهم
قول بأجلين . وذكر المهدوي وابن فورك : أن المعنى لسنا على حق في اتباع محمد .
ويضعف هذا التأويل الرد عليهم بقوله : قل . فأفهم أن كلامهم إنما هو في معنى سوء
الرأي في الخروج ، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد .
وعلى هذا المعنى وما قبله من قول قتادة وابن جريج يكون الاستفهام معناه النفي .
ولما أكد في كلامهم بزيادة من في قوله : من شيء ، جاء الكلام مؤكداً بأنَّ ، وبولغ
في توكيد العموم بقوله : كله لله . فكان الجواب أبلغ .
والخطاب بقوله : قل ، متوجه إلى الرسول بلا خلاف .
" صفحة رقم 95 "
والذي يظهر أنه استفهام باق على حقيقته ، لأنهم أجيبوا بقوله : قل إن الأمر كله
لله . ولو كان معناه النفي لم يجابوا بذلك ، لأنّ من نفي عن نفسه أن يكون له شيء
من الأمر لا يجاوب بذلك ، إلا إنْ قدر مع جملة النفي جملة ثبوتية لغيرهم ، فكان
المعنى : ليس لنا من الأمر من شيء بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه ،
فيمكن أن يكون ذلك جواباً لهذا المقدّر . وهذه الجملة الجوابية معترضة بين الجمل
التي أخبر الله بها عنهم .
والواو في قوله : وطائفة ، واو الحال . وطائفة مبتدأ ، والجملة المتصلة به خبره .
وجاز الابتداء بالنكرة هنا إذ فيه مسوغان : أحدهما : واو الحال وقد ذكرها بعضهم في
المسوغات ، ولم يذكر ذلك أكثر أصحابنا وقال الشاعر : سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا
محياك أخفى ضوؤه كل شارق
والمسوغ الثاني : أن الموضع موضع تفصيل . إذ المعنى : يغشى طائفة منكم ، وطائفة لم
يناموا ، فصار نظير قوله : إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
بشق وشق عندنا لم يحوّل
ونصب طائفة على أن تكون المسألة من باب الاشتغال على هذا التقدير من الإعراب جائز
. ويجوز أن يكون قد أهمتهم في موضع الصفة ، ويظنون الخبر . ويجوز أن يكون الخبر
محذوفاً ، والجملتان صفتان ، التقدير : ومنكم طائفة . ويجوز أن يكون يظنون حالاً
من الضمير في أهمتهم ، وانتصاب غير الحق . قال أبو البقاء : على أنه مفعول أول
لتظنون ، أي أمراً غير الحق ، وبالله الثاني . وقال الزمخشري : غير الحق في حكم
المصدر ، ومعناه : يظنون بالله ظن الجاهلية ، وغير الحق تأكيد ليظنون كقولك : هذا
القول غير ما تقول ، وهذا القول لا قولك ، انتهى . فعلى هذا لم يذكر ليظنون
مفعولين ، وتكون الباء ظرفية كما تقول : ظننت بزيد . وإذا كان كذلك لم تتعد ظننت
إلى مفعولين ، وإنما المعنى : جعلت مكان ظني زيداً . وقد نص النحويون على هذا .
وعليه : فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج
سراتهم في السائريّ المسرد
أي : اجعلوا مكان ظنكم ألفي مدحج . وانتصاب ظن على أنه مصدر تشبيهي ، أي : ظناً
مثل ظن الجاهلية . ويجوز في : يقولون أن يكون صفة ، أو حالاً من الضمير في يظنون ،
أو خبراً بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار في غير ما اتفقوا على جواز
تعداده . ومن شيء في موضع مبتدأ ، إذ من زائدة ، وخبره في لنا ، ومن الأمر في موضع
الحال ، لأنه لو تأخر عن شيء لكان نعتاً له ، فيتعلق بمحذوف . وأجاز أبو البقاء أن
يكون من الأمر هو الخبر ، ولنا تبيين وبه تتم الفائدة كقوله تعالى : ) وَلَمْ
يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( وهذا لا يجوز : لأن ما جاء للتبيين العامل فيه مقدر
، وتقديره : أعني لنا هو جملة أخرى ، فيبقى المبتدأ والخبر جملة لا تستقل بالفائدة
، وذلك لا يجوز . وأما تمثيله بقوله : ولم يكن له كفواً أحد فهما لا سواء ، لأن له
معمول لكفواً ، وليس تبييناً . فيكون عامله مقدراً ، والمعنى : ولم يكن أحد كفواً
له ، أي مكافياً له ، فصار نظير لم يكن له ضار بالعمرو ، فقوله : لعمرو ليس
تبينناً ، بل معمولاً لضارب . وقرأ الجمهور كله بالنصب تأكيداً للأمر . وقرأ أبو
عمر : وكله على أنه مبتدأ ، ويجوز أن يعرب توكيداً للأمر على الموضع على مذهب من يجيز
ذلك وهو : الجرمي ، والزجاج ، والفراء . قال ابن عطية : ورجح الناس قراءة
" صفحة رقم 96 "
الجمهور ، لأن التأكيد أملك بلفظة كلّ انتهى . ولا ترجيح ، إذ كل من القراءتين
متواتر ، والابتداء بكل كثير في لسان العرب .
( يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ ( قيل : معناه يتسترون بهذه
الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة . ويحتمل أن يكون إخباراً عما يخفونه من
الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزغات . وقيل : الذي أخفوه
قولهم : لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا . وقيل : الندم على حضورهم مع المسلمين
بأحد .
( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاْمْرِ شَىْء مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ( قال
الزبير بن العوام فيما أسند عنه الطبري : والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي
بني عمرو بن عوف والنعاسُ يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من
الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . ومعتب هذا شهد بدراً ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وكان
مغموصاً عليه بالنفاق . والمعنى : ما قتل إشرافنا وخيارنا ، وهذا إطلاق اسم الكل
على البعض مجازاً .
وقوله : يقولون ، يجوز أن يكون هو الذي أخفوه ، فيكون ذلك تفسيراً بعد إبهام قوله
: ما لا يبدون لك . ومعناه : يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض .
وقوله : من الأمر ، فسَّر الأمر هنا بما فسر في قول عبد الله بن أبي بن سلول : هل
لنا من الأمر من شيء . فقيل : المعنى لو كان الأمر كما قال محمد إن الأمر كله لله
ولأوليائه وإنهم الغالبون ، لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه
المعركة ، وقيل : من الرأي والتدبير . وقيل : من دين محمد . أي لسنا على حق في
اتباعه .
وجواب لو هو الجملة المنفية بما . وإذا نفيت بما فالفصيح أن لا تدخل عليه اللام .
قيل : وفي قصة أحد اضطراب . ففي أولها أن عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين
رجعوا ولم يشهدوا أحداً ، فعلى هذا يكون قالوا هذا بالمدينة ، ولم يقتل أحد منهم
ولا من أصحابهم بالمدينة ، وإنما قتلوا بأحد ، فكيف جاء قوله هاهنا ، وحديث الزبير
في سماعه معتباً يقول ذلك دليل على أن معتباً حضر أحداً ؟ فإن صح حديث الزبير فيكون
قد تخلف عن عبد الله بعض المنافقين وحضر أحداً ، فيتجه قوله هاهنا ، وإنْ لم يصح
فيوجه قوله : هاهنا إلى أنه إشارة إلى أحد إشارة القريب الحاضر لقرب أحد من
المدينة . ) قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ( هذا النوع عند علماء البيان يسمى
الاحتجاج النظري : وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدلّ عليه بضروب من المعقول نحو : )
لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( ) قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ( ) أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ ( وبعضهم يسميه : المذهب الكلامي . ومنه قول الشاعر : جرى
القضاء بما فيه فإن تلم
فلا ملام على ما خط بالقلم
وكتب : بمعنى فرض ، أو قضى وحتم ، أو خط في اللوح ، أو كتب ذلك الملك عليهم وهم
أجنة ، أقوال . ومعنى الآية : أنه لو تخلفتم في البيوت لخرج من حتم عليه القتل إلى
مكان مصرعه فقتل فيه ، وهذا رد على قول معتب ، ودليل على أن كل امرىء له أجل واحد
لا يتعداه . فإنْ قيل : فهو الأجل الذي سبق له في الأزل وإلاّ مات لذلك الأجل ،
ولا فرق بين موته وخروج روحه بالقتل ، أو بأي أسباب المرض ، أو فجأه من غير مرض هو
أجل واحد لكل امرىء وإن تعددت الأسباب . وقد تكلم الزمخشري هنا بألفاظ مسهبة على
عادته . فقال : لو كنتم في بيوتكم يعني من علم الله أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع
وكتب ذلك في اللوح المحفوظ ، لم يكن بد من وجوده . فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من
بينكم الذين علم الله أنهم يقتلون إلى مضاجعهم وهي مصارعهم ، ليكون ما علم أنه
يكون . والمعنى : أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين ، وكتب مع ذلك
أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين
كله . وإنما
" صفحة رقم 97 "
ينكبون به في بعض الأوقات . تمحيص لهم ، وترغيب في الشهادة ، وحرصهم على الشهادة
مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة . انتهى كلامه . وهو نوع من الخطابة والمعنى
في الآية واضح جداً لا يحتاج إلى هذا التطويل .
وقرأ الجمهور : لبرز ، ثلاثياً مبنياً للفاعل . أي لصاروا في البراز من الأرض .
وقرأ أبو حيوة : لبرّز مبنياً للمفعول مشدّد الراء ، عدي برز بالتضعيف . وقرأ
الجمهور : كتب مبنياً للمفعول ، ورفع القتل . وقرىء : كتب مبنياً للفاعل ، ونصب
القتل . وقرأ الحسن والزهري : القتالُ مرفوعاً . وتحتمل هذه القراءة الاستغناء عن
المنافقين ، أي : لو تخلفتم أنتم لبرز المطيعون المؤمنون الذين فرض عليهم القتال ،
وخرجوا طائعين إلى مواضع استشهادهم ، فاستغنى بهم عنكم .
( وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ (
تقدم معنى الابتلاء والتحيص . فقيل : المعنى إنّ الله فرض عليكم القتال ولم ينصركم
يوم أحد ليختبر صبركم ، وليمحص عنكم سيئاتكم إنْ تبتم وأخلصتم . وقيل : ليعاملكم
معاملة المختبر . وقيل : ليقع منكم مشاهدة علمه غيباً كقوله : ) فَيَنظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ ). وقيل : هو على حذف مضاف . أي : وليبتلي أولياء الله ما في صدوركم ،
فإضافة إليه تعالى تفخيماً لشأنه . والواو قيل : زائدة . وقيل : للعطف على علة
محذوفة ، أي : ليقضي الله أمره وليبتلي . وقال ابن بحر : عطف على ليبتليكم ، لما
طال الكلام أعاده ثم عطف عليه ليمحص . وقيل : تتعلق اللام بفعل متأخر ، التقدير :
وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة . وكان متعلق الابتلاء ما انطوت عليه
الصدور وهي القلوب كما قال : ) وَلَاكِنِ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى
الصُّدُورِ ( ومتعلق التمحيص وهو التصفية والتطهير ما انطوت عليه القلوب من النيات
والعقائد .
( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وجاء بها
عقيب قوله : وليمحص ما في قلوبكم على معنى : أنه عليم بما انطوت عليه الصدور ، وما
أضمرته من العقائد ، فهو يمحص منها ما أراد تمحيصه .
آل عمران : ( 155 ) إن الذين تولوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ( خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل
عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى هذه الآية قال : لما كان
يوم أحد فهزمنا مررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني انزو كأنني أروى ، والناس
يقولون : قتل محمد ، فقلت : لا أجد أحداً يقول : قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا
على الجبل ، فنزلت هذه الآية كلها . وقال عكرمة : نزلت فيمن فرّ من المؤمنين
فراراً كثيراً منهم : رافع بن المعلى ، وأبو حذيفة بن عتبة ، ورجل آخر .
والذين تولوا : كل من ولى الدبر عن المشركين يوم أحد قاله : عمر ، وقتادة ،
والربيع . أو كل من قرب من المدينة وقت الهزيمة قاله السدي . أو رجال بأعيانهم
قاله : ابن إسحاق منهم : عتبة بن عثمان الزرقي ، وأخوه سعد وغيرهما ، بلغوا الجلعب
جبلاً بناحية المدينة مما يلي الأعوص فأقاموا به ثلاثاً ، ثم رجعوا إلى سول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ) فقال لهم : ) لَقَدِ ( ولم يبق مع رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلاً أبو بكر ، وعلي ، وطلحة ، وسعد بن أبي
وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وباقيهم من الأنصار منهم : أبو طلحة ، وظاهر تولوا
يدل على مطلق التولي يوم اللقاء ، سواء فرّ إلى المدينة ، أم صعد الجبل .
والجمع : اسم جمع . ونص النحويون على أن اسم الجمع لا يثني ، لكنه هنا أطلق يراد
به معقولية اسم الجمع ، بل بعض الخصوصيات . أي : جمع المؤمنين ، وجمع المشركين ،
فلذلك صحت تثنيته . ونظير ذلك قوله :
" صفحة رقم 98 "
وكل رفيقي كلّ رحل وإن هما
تعاطي القنا قوماً هما أخوان
فثنى قوماً لأنه أراد معنى القبيلة . واستزل هنا استفعل لطلب ، أي طلب منهم الزلل
ودعاهم إليه ، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه ، هكذا قالوه . ولا يلزم من طلب
الشيء واستدعائه حصوله ، فالأولى أن يكون استفعل هنا بمعنى أفعل ، فيكون المعنى :
أزلهم الشيطان ، فيدل على حصول الزلل ، ويكون استزل وأزل بمعنى واحد ، كاستبان
وأبان ، واستبل وأبل كقوله تعالى : ) فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ( على أحد تأويلاته . واستزلال الشيطان إياهم
سابق على وقت التولي ، أي كانوا أطاعوا الشيطان واجترحوا ذنوباً قبل منعتهم النصر
ففروا . وقيل : الاستزلال هو توليهم ذلك اليوم . أي : إنما استزلهم الشيطان في
التولي ببعض ما سبقت لهم من الذنوب ، لأن الذنب يجرّ إلى الذنب ، فيكون نظير ذلك
بما عصوا . وفي هذين القولين يكون بعض ما كسبوا هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالثبات فيه ، فجرهم ذلك إلى الهزيمة . ولا يظهر
هذا لأنَّ الذين تركوا المركز من الرماة كانوا دون الأربعين ، فيكون من باب إطلاق
اسم الكل على البعض . وقال المهدوي : ببعض ما كسبوا هو حبهم الغنيمة ، والحرص على
الحياة . وذهب الزجاج وغيره إلى أن المعنى : إنْ الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة ،
فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها ، فأخروا الجهاد حتى يصلحوا أمرهم
ويجاهدوا على حالة مرضية . ولا يظهر هذا القول لأنهم كانوا قادرين على التوبة قبل
القتال وفي حال القتال ، ( والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ) وظاهر التولي : هو
تولي الإدبار والفرار عن القتال ، فلا يدخل فيه من صعد إلى الجبل ، لأنه من متحيز
إلى جهة اجتمع في التحيز إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومن ثبت معه
فيها . وظاهر هذا التولي أنه معصية لذكر استزلال الشيطان وعفو الله عنهم . ومن ذهب
إلى أن هذا التولي ليس معصية ، لأنهم قصدوا التحصن بالمدينة ، وقطع طمع العدو منهم
، لما سمعوا أن محمداً قد قتل . أو لكونهم لم يسمعوا دعاء النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) ) ) إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ ( للهول الذي كانوا فيه . أو لكونهم كانوا
سبعمائة والعدوّ ثلاثة آلاف ، وعند هذا يجوز الانهزام . أو لكونهم ظنوا أن الرسول
ما انحاز إلى الجبل ، وأنه يجعل ظهره المدينة . فمذهبه خلاف الظاهر ، وهذه الأشياء
يجوز الفرار معها . وقد ذكر تعالى استزلال الشيطان إياهم وعفوه تعالى عنهم ، ولا
يكون ذلك فيما يجوز فعله . وجاء قوله : ببعض ما كسبوا ، ولم يجيء بما كسبوا ، لأنه
تعالى يعفو عن كثير كما قال تعالى : ) وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ( فالاستزلال كان
بسبب بعض الذنوب التي لم يعف عنها ، فجعلت سبباً للاستزلال . ولو كان معفواً عنه
لما كان سبباً للاستزلال .
( وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ( الجمهور على أن معنى العفو هنا هو حط التبعات
في الدنيا والآخرة . وكذلك تأوله عثمان في محاورة جرت بينه وبين عبد الرحمن بن عوف
، قال له عبد الرحمن : قد كنت تولَّيْتَ مع من تولى يوم الجمع ، يعني يوم أحد .
فقال له عثمان : قال الله : ولقد عفا الله عنهم ، فكنت فيمن عفا الله عنه . وكذلك
ابن عمر مع الرجل العراقي حين نشده بحرمة هذا البيت : أتعلم أنَّ عثمان فرّ يوم
أحد ؟ أجابه : بأنه يشهد أن الله قد عفا عنه .
وقال ابن جريج : معنى عفا الله عنهم أنه لم يعاقبهم . قال ابن عطية : والفرار من
الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت ، وعدها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) ) ( في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرهما ) انتهى ولما كان مذهب الزمخشري أن
العفو والغفران عن الذنب لا يكون إلا لمن تاب ، وأنَّ الذنب إذا لم يتب منه لا
يكون معه العفو ، دسّ مذهبه في هذه الجملة ،
" صفحة رقم 99 "
فقال : ولقد عفا الله عهم لتوبتهم واعتذارهم انتهى .
( أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( أي غفور الذنوب حليم لا يعاجل بالعقوبة . وجاءت
هذه الجملة كالتعليل لعفوه تعالى عن هؤلاء الذين تولوا يوم أحد ، لأنَّ الله تعالى
واسع المغفرة ، واسع الحلم .
آل عمران : ( 156 ) يا أيها الذين . . . . .
( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ
لإِخْوانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الاْرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ
عِنْدَنَا مَا ( لما تقدم من قول المنافقين : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا
ههنا ، وأخبر الله عنهم أنهم قالوا لإخوانهم : وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ، وكان
قولاً باطلاً واعتقاداً فاسداً نهى تعالى المؤمنين أنْ يكونوا مثلهم في هذه
المقالة الفاسدة والاعتقاد السيىء . وهو أن من سافر في تجارة ونحوها فمات ، أو
قاتل فقتل ، لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض نفسه للسفر فيه أو
للقتال ، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين ، والكفار القائلون . قيل : هو
عام ، أي اعتقاد الجميع هذا قاله : ابن إسحاق وغيره ، أو عبد الله بن أبي وأصحابه
سمع منهم هذا القول قاله : مجاهد والسدي وغيرهما ، أو هو ومعتب وجدّ بن قيس
وأصحابهم .
واللام في : لإخوانهم لام السبب ، أي لأجل إخوانهم . وليست لام التبليغ ، نحو :
قلت لك . والإخوة هنا إخوة النسب ، إذ كان قتلى أحد من الأنصار وأكثرهم من الخزرج
، ولم يقتل من المهاجرين إلا أربعة . وقيل : خمسة . ويكون القائلون منافقي الأنصار
جمعهم أب قريب ، أو بعيد ، أو إخوة المعتقد والتآلف ، كقوله : ) فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ( وقال : صفحنا عن بني ذهل
وقلنا القوم إخوان
والضرب في الأرض : الإبعاد فيها ، والذهاب لحاجة الإنسان . وقال السدي : الضرب هنا
السير في التجارة . وقال ابن إسحاق : السير في الطاعات .
وإذا ظرف لما يستقبل . وقالوا : ماض ، فلا يمكن أن يعمل فيه . فمنهم من جرده عن
الاستقبال وجعله لمطلق الوقت بمعنى حين ، فاعمل فيه قال : وقال ابن عطية : دخلت
إذا وهي حرف استقبال من حيث الذين اسم في إبهام يعم من قال في الماضي ، ومن يقول
في المستقبل ، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان . قال الزمخشري : ( فإن
قلت ) : كيف قيل إذا ضربوا في الأرض مع قالوا ؟ ( قلت ) : هو حكاية الحال الماضية
، كقولك : حين تضربون في الأرض انتهى كلامه . ويمكن إقرار إذا على ما استقر لها من
الاستقبال ، والعامل فيها مضاف مستقبل محذوف ، وهو لا بدّ من تقدير مضاف غاية ما
فيه أنّا نقدره مستقبلاً حتى يعمل في الظرف المستقبل ، لكنْ يكون الضمير في قوله :
لو كانوا عائداً على إخوانهم لفظاً ، وعلى غيرهم معنى ، مثل قوله تعالى : ) وَمَا
يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ( وقول العرب : عندي درهم
ونصفه . وقول الشاعر : قالت : ألا ليتما هذا الحمام لنا
إلى حمامتنا ونصفه فقد
المعنى : من معمر آخر ونصف درهم آخر ، ونصف حمام آخر ، ونصف حمام آخر ، فعاد
الضمير على درهم والحمام لفظاً لا معنى . كذلك الضمير في قوله : لو كانو ، يعود
على إخوانهم لفظاً . والمعنى : لو كان إخواننا الآخرون . ويكون معنى الآية :
وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كان إخواننا
الآخرون الذين تقدّم موتهم وقتلهم عندنا أي مقيمين لم يسافروا ما ماتوا وما قتلوا
، فتكون هذه المقالة تثبيطاً لإخوانهم الباقين عن الضرب في الأرض وعن الغزو ،
وإيهاماً لهم أنْ يصيبهم مثل ما أصاب إخوانهم الآخرين الذين سبق موتهم وقتلهم
بالضرب في الأرض والغزو ،
" صفحة رقم 100 "
ويكون العامل في إذا هلاك وهو مصدر ينحل بأنْ والمضارع ، أي مخافة أن يهلك إخوانهم
الباقون إذا ضربوا في الأرض ، أو كانوا غزاً . وهذا أبلغ في المعنى إذ عرضوا
للأحياء بالإقامة لئلا يصيبهم ما أصاب من مات أو قتل . قالوا : ويجوز أنْ يكون
وقالوا في معنى . ويقولون : وتعمل في إذا ، ويجوز أن يكون إذا بمعنى إذ فيبقى ،
وقالوا على مضيه . وفي الكلام إذ ذاك حذف تقديره : إذا ضربوا في الأرض فماتوا ، أو
كانوا غزاً فقتلوا . وما أجهل مَنْ يدعي أنّه لولا الضربُ في الأرض والغزو وترك
القعود في الوطن لما مات المسافر ولا الغازي ، وأين عقل هؤلاء من عقل أبي ذؤيب على
جاهليته حيث يقول : يقولون لي : لو كان بالرمل لم يمت
نسيبة والطرّاق يكذب قيلها
ولو أنني استودعته الشمس لارتقت
إليه المنايا عينها ، ورسولها
قال الرازي : وذكر الغزو بعد الضرب ، لأن من الغزو ما لا يكون ضرباً ، لأن الضرب
الإبعاد ، والجهاد قد يكون قريب المسافة ، فلذلك أفرد الغزو عن الضرب انتهى . يعني
: أَنّ بينهما عموماً وخصوصاً فتغايراً ، فصح إفراده ، إذ لم يندرج من جهة تحته .
وقيل : لا يفهم الغزو من الضرب ، وإنما قدم لكثرته كما قال تعالى : ) إِنَّ
رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ
وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مّنَ ).
وقرأ الجمهور غزاً بتشديد الزاي ، وقرأ الحسن والزهري بتخفيف الزاي . ووجه على حذف
أحد المضعفين تخفيفاً ، وعلى حذف التاء ، والمراد : غزاة . وقال بعض من وجهٍ على
أنّه حُذف التاء وهو : ابن عطية ، قال : وهذا الحذف كثير في كلامهم ، ومنه قول
الشاعر يمدح الكسائي : أبى الذمّ أخلاق الكسائي وانتحى
به المجد أخلاق الأبوّ السوابق
يريد الأبوة . جمع أب ، كما أن العمومة جمع عم ، والبنوّة جمع ابن . وقد قالوا :
ابن وبنوّ انتهى . وقوله : وهذا الحذف كثير في كلامهم ليس كما ذكر ، بل لا يوجد
مثل رام ورمى ، ولا حام وحمى ، يريد : رماة وحماة . وإنْ أراد حذف التاء من حيث
الجملة كثير في كلامهم فالمدعي إنما هو الحذف من فعله ، ولا نقول أنَّ الحذف أعني
حذف التاء كثيرٌ في كلامهم ، لأنه يشعر أن بناء الجمع جاء عليها ، ثم حذفت كثيراً
وليس كذلك ، بل الجمع جاء على فعول نحو : عم وعموم ، وفحل وفحول ، ثم جيء بالتاء
لتأكيد معنى الجمع ، فلا نقول في عموم : أنه حذفت منه التاء كثيراً لأن الجمع لم
يبن عليها ، بخلاف قضاة ورماة فإن الجمع بني عليها . وإنما تكلف النحويون لدخولها
فيما كان لا ينبغي أن تدخل فيه ، إنَّ ذلك على سبيل تأكيد الجمع ، لمَّا رأوا
زائداً لا معنى له ذكروا أنّه جاء بمعنى التوكيد ، كالزوائد التي لا يفهم لها معنى
غير التأكيد . وأمّا البيت فالذي يقوله النحويون فيه : أنه مما شذ جمعه ولم يعل ،
فيقال فيه : أبى كما قالوا : عصى في عصا ، وهو عندهم جمع على فعول ، وليس أصله
أبوه . ولا يجمع ابن على بنوّة ، وإنما هما مصدران . والجملة من لو وجوابها هي
معمول القول فهي في موضع نصب على المفعول ، وجاءت على نظم ما بعد إذا من تقديم نفي
الموت على نفي القتل ، كما قدم الضرب على الغزو . والضمير في : لو كانوا ، هو
لقتلى أحد ، قاله : الجمهور . أو للسرية الذين قتلوا ببئر معونة قاله : بكر بن سهل
الدمياطي . وقرأ الجمهور : وما قتلوا بتخفيف التاء . وقرأ الحسن : بتشديدها للتكثير
في المحال ، لا بالنسبة إلى محل واحد ، لأنه لا يمكن التكثير فيه .
( لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ ( اختلفوا في هذه اللام
فقيل : هي لام كي . وقيل : لام الصيرورة . فإذا كانت لام كي فبماذا تتعلق ، ولماذا
يشار بذلك ؟ فذهب بعضهم : إلى أنّها تتعلق بمحذوف يدل
" صفحة رقم 101 "
عليه معنى الكلام وسياقه ، التقدير : أوقع ذلك ، أي القول والمعتقد في قلوبهم
ليجعله حسرة عليهم . وإنما احتيج إلى تقدير هذا المحذوف لأنه لا يصح أن تتعلق
اللام على أنها لام كي يقال : لأنهم لم يقولوا تلك المقالة ليجعل الله لأنه لا يصح
أن تتعلق اللام على أنها لام كي يقال ؛ لأنهم لم يقولوا تلك المقالة ليجعل الله
ذلك حسرة في قلوبهم ، فلا يصح ذلك أن يكون تعليلاً لقولهم ، وإنما قالوا ذلك
تثبيطاً للمؤمنين عن الجهاد . ولا يصح أن يتعلق بالنهي وهو : لا يكونوا كالذين
كفروا . لأن جعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم ، لا يكون سبباً لنهي الله المؤمنين عن
مماثلة الكفار .
قال الزمخشري : وقد أورد سؤالاً على ما تتعلق به ليجعل ، قال : أو لا يكونوا بمعنى
: لا يكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ، ليجعله الله حسرة في قلوبهم
خاصة ، ويصون منها قلوبكم انتهى كلمه . وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه ، لأن جعل
الحسرة لا يكون سبباً للنهي كما قلنا ، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي وهو :
انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل امتصال
النهي وهو : انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون
يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم ، إذ لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه . فلا تضربوا في
الأرض ولا تغزوا ، فالتبس على الزمخشري استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء ،
وفهم هذا فيه خفاء ودقة . وقال ابن عيسى وغيره : اللام متعلقة بالكون ، أي : لا
تكونوا كهؤلاء ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم دونكم انتهى . ومنه أخذ الزمخشري
قوله : لكن ابن عيسى نص على ما تتعلق به اللام ، وذاك لم ينص . وقد بينا فساد هذا
القول .
وإذا كانت لام الصيرورة والعاقبة تعلقت بقالوا ، والمعنى : أنهم لم يقولوا لجعل
الحسرة ، إنما قالوا ذلك لعلة ، فصار مآل ذلك إلى الحسرة والندامة ، ونظروه بقوله
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ، ولم يلتقطوه لذلك ، إنما آل أمره إلى
ذلك . وأكثر أصحابنا لا يثبتون للام هذا المعنى أعني أن تكون اللام للعاقبة والمآل
وينسبون هذا المذهب للأخفش . وأما الإِشارة بذلك فقال الزجاج : هو إشارة إلى الظن
، وهو أنهم إذا ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يقتلوا ، كان حسرتهم على من قتل منهم
أشدّ . وقال الزمخشري : ما معناه الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول . وقال ابن
عطية : الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم ، جعل الله ذلك حسرة ، لأن الذي
يتيقن أن كل موت وقتل بأجل سابق يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه ،
والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت يتحسر ويتلهف انتهى . وهذه أقوال
متوافقة فيما أشير بذلك إليه . وقيل : الإِشارة بذلك إلى نهي الله تعالى عن الكون
مثل الكافرين في هذا المعتقد ، لأنهم إذا رأوا أن الله قد وسمهم بمعتقد وأمر
بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم . وقال ابن عطية : ويحتمل عندي أن تكون الإشارة
إلى النهي والانتهاء معاً ، فتأمله انتهى .
وهذه كلها أقوال تخالف الظاهر . والذي يقتضيه ظاهر الآية أن الإشارة إلى المصدر
المفهوم من قالوا ، وأن اللام للصيرورة ، والمعنى : أنهم قالوا هذه المقالة قاصدين
التثبيط عن الجهاد والإبعاد في الأرض ، سواء كانوا معتقدين صحتها أو لم يكونوا
معتقديها ، إذْ كثير من الكفار قائل بأجل واحد ، فخاب هذا القصد ، وجعل الله ذلك
القول حسرة في قلوبهم أي غماً على ما فاتهم ، إذ لم يبلغوا مقصدهم من التثبيط عن
الجهاد . وظاهر جعل الحسرة وحصولها أنه يكون ذلك في الدنيا وهو الغم الذي يلحقهم
على ما فات من بلوغ مقصدهم . وقيل : الجعل يوم القيامة لما هم فيه من الخزي
والندامة ، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة . وأسند الجعل إلى الله ، لأنه
هو الذي يضع الغم والحسرة في قلوبهم عقوبة لهم على هذا القول الفاسد .
( وَاللَّهُ يُحْيىِ وَيُمِيتُ ( رد عليهم في تلك المقالة الفاسدة ، بل ذلك بقضائه
الحتم والأمر بيده . قد يحيي المسافر والغازي ، ويميت المقيم والقاعد . وقال خالد
بن الوليد عنه موته : ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أنا ذا أموت
كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء . وقيل : هذه الجملة متعلقة بقوله : )
حَلِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ
( أي : لا تقولوا مثل قولهم ، فإن الله هو المحيي ، من قدر حياته لم يقتل في
الجهاد ، والمميت من قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد ، قاله : الرازي . وقال
أيضاً : المراد منه إبطال شبهتهم ، أي لا تأثير لشيء آخر في
" صفحة رقم 102 "
الحياة والموت ، لأن قضاءه لا يتبدل . ولا يلزم ذلك في الأعمال ، لأنَّ له أن يفعل
ما يشاء انتهى . ورد عليه هذا الفرق بين الموت والحياة وسائر الأعمال ، لأن سائر
الأعمال مفروغ منها كالموت والحياة ، فما قدر وقوعه منها فلا بدّ من وقوعه ، وما
لم يقدر فيستحيل وقوعه ، فإذاً لا فرق .
( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( قال الراغب : علق ذلك بالبصر لا بالسمع ،
وإنْ كان الصادر منهم قولاً مسموعاً لا فعلاً مرئياً . لما كان ذلك القول من
الكافر قصداً منهم إلى عمل يحاولونه ، فخص البصر بذلك كقولك لمن يقول شيئاً وهو
يقصد فعلاً يحاوله : أنا أرى ما تفعله . وقرأ ابن كثير والأخوان بما يعملون بالياء
على الغيبة ، وهو وعيد للمنافقين . وقرأ الباقون بالتاء على خطاب المؤمنين ، كما
قال : لا تكونوا ، فهو توكيد للنهي ووعيد لمن خالف ، ووعد لمن امتثل .
آل عمران : ( 157 ) ولئن قتلتم في . . . . .
( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ
اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ ( تقدم قبل هذا تكذيب الكفار في
دعواهم : أنّ من مات أو قتل في سفر وغزو لو كان أقام ما مات وما قتل ، ونهى
المؤمنين عن أن يقولوا مثل هذه المقالة ، لأنها سبب للتخاذل عن الغزو وأخبر في هذه
الجملة أنه أنْ ثم ما يحذرونه من القتل في سبيل الله أو الموت فيه ، فما يحصل لهم
من مغفرة الله ورحمته بسبب ذلك خير مما يجمعون من حطام الدنيا ومنافعها ، لو لم
يهلكوا بالقتل أو الموت ، وأكد دلك بالقسم . لأن اللام في لئن هي الموطئة للقسم ،
وجواب القسم هو : لمغفرة . وكان نكرة إشارة إلى أن أيسر جزء من المغفرة والرحمة
خير من الدنيا ، وأنه كاف في فوز المؤمن . وجاز الابتداء به لأنه وصف بقوله من
الله . وعطف عليه نكرة ومسوغ الابتداء بها ، كونها عطفت على ما يسوغ به الابتداء .
أو كونها موصوفة في المعنى إذ التقدير : ورحمة منه . وثمَّ صفة أخرى محذوفة لا بدّ
منها وتقديرها : ورحمة لكم . وخير هنا على بابها من كونها افعل تفضيل ، كما روي عن
ابن عباس : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء . وارتفاع خير على أنه خبر عن قوله :
لمغفرة .
قال ابن عطية وتحتمل الآية أن يكون قوله : لمغفرة إشارة إلى القتل أو الموت في
سبيل الله ، فسمى ذلك مغفرة ورحمة ، إذ هما مقترنان به . ويجيء التقدير لذلك :
مغفرة ورحمة . وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر . وقوله : خير صفة لا خبر
ابتداء انتهى قوله . وهو خلاف الظاهر . وجواب الشرط الذي هو إنْ قتلتم محذوف ،
لدلالة جواب القسم عليه . وقول الزمخشري : سدَّ مسدَّ جواب الشرط إنْ عنى أنه حذف
لدلالته عليه فصحيح ، وإنْ عنى أنه لا يحتاج إلى تقدير فليس بصحيح . وظاهر الآية
يدل على أنه جعلت المغفرة والرحمة لمن اتفق له أحد هذين : القتل في سبيل الله ، أو
الموت فيه .
وقال الرازي : لمغفرة من الله إشارة إلى تعبده خوفاً من عقابه ، ورحمة إشارة إلى
تعبده لطلب ثوابه انتهى . وليس بالظاهر . وقدم القتل هنا لأنه ابتداء إخبار ،
فقدّم الأشرف الأهم في تحصيل المغفرة والرحمة ، إذ القتل في سبيل الله أعظم ثواباً
من الموت في سبيله .
قال الراغب : تضمنت هاتان الآيتان إلزاماً هو جار مجرى قياسين شرطيين اقتضيا الحرص
على القتل في سبيل الله تمثيله : إنْ قتلتم في سبيل الله ، أو متّم ، حصلت لكم
المغفرة والرحمة ، وهما خير مما تجمعون . فإذاً الموت والقتل في سبيل الله خير مما
تجمعون . ولئن متم أو قتلتم فالحشر لكم حاصل . وإذا كان الموت والقتل لا بدّ منه
والحشر فنتيجة ذلك أن القتل والموت اللذين يوجبان المغرفة والرحمة خير من القتل
والموت اللذين لا يوجبانهما انتهى .
وقرأ الإبنان والأبوان بضم الميم في جميع القرآن ، وحفص في هذين أو متمم ، ولئن
متم ، وكسر الباقون . والضم أقيس وأشهر . والكسر مستعمل كثيراً وهو شاذ في القياس
، جعله المازني من فعل يفعل ، نظير دمت تدوم ، وفضلت تفضل ، وكذا أبو علي ، فحكما
عليه بالشذوذ . وقد نقل غيرهما فيه لغتين إحداهما : فعل يفعل ، فتقول مات يموت .
والأخرى : فعل يفعل نحو مات يمات ، أصله موت . فعلى هذا ليس بشاذ ، إذ هو مثل خاف
يخاف ، فأصله موت يموت . فمن قرأ بالكسر فعلى هذه اللغة ولا شذوذ فيه ، وهي لغة
الحجاز يقولون : متم من مات يمات قال الشاعر : عيشي ولا تومي بأن تماتي )
" صفحة رقم 103 "
وسفلى مضر يقولون : مُتّم بضم الميم من مات يموت ، نقله الكوفيون : وقرأ الجمهور :
تجمعون بالتاء على سياق الخطاب في قوله : ولئن قتلتم . وقرأ قوم منهم حفص عن عاصم
بالياء ، أي مما يجمعه الكفار المنافقون وغيرهم . آل عمران : ( 158 ) ولئن متم أو
. . . . .
( وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ( هذا خطاب عام
للمؤمن والكافر . أعلم فيه أن مصير الجميع إليه ، فيجازي كلاً بعمله . هكذا قال
بعضهم . وكأنه لما رأى الموت والقتل أطلقا ولم يقيدا بذكر سبيل الله كما قيدا في
الآية ، فهم أنَّ ذلك عام . والظاهر أنّه خطاب للمؤمنين كالخطاب السابق ، ولذلك
قدره الزمخشري : لإلى الرّحيم الواسع الرحمة المميت العظيم الثواب تحشرون . قال :
ولوقوع اسم الله هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به سيان ليس
بالخفي انتهى . يشير بذلك إلى مذهبه : من أن التقديم يؤذن بالاختصاص ، فكان المعنى
عنده : فإلى الله لا غيره تحشرون . وهو عندنا لا يدل بالوضع على ذلك ، وإنما يدل
التقديم على الاعتناء بالشيء والاهتمام بذكره ، كما قال سيبويه : وزاده حسناً هنا
أنّ تأخر الفعل هنا فاضلة ، فلو تأخر المجرور لفات هذا الغرض وتضمنت الآية تحقير
أمر الدنيا والحرص على الشهادة ، وأنَّ مصير العالم كلهم إلى الله ، فالموافاة على
الشهادة أمثل بالمرء ليحرز ثوابها ويجده وقت الحشر . وقدّم الموت هنا على القتل
لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر ، وتزهيد في الدنيا والحياة ، والموت فيها مطلق لم
يقيد بشيء . فإما أنْ يكون الخطاب مختصاً بمن خوطب قبلُ أو عاماً واندرج أولئك فيه
، فقدِّم لعمومه ، ولأنه أغلب في الناس منا لقتل ، فهذه ثلاثة مواضع . ما ماتوا
وما قتلوا : فقدم الموت على القتل لمناسبة ما قبله من قوله : ) إِذَا ضَرَبُواْ
فِى الاْرْضِ أَوْ كَانُواْ ( وتقدّم القتل على الموت بعد ، لأنه محل تحريض على
الجهاد ، فقدم الأهم والأشرف . وقدم الموت هنا لأنه الأغلب ، ولم يؤكد الفعل
الواقع جواباً للقسم المحذوف لأنه فصل بين اللام المتلقى بها القسم وبينه بالجار
والمجرور . ولو تأخر لكان : لتحشرن إليه كقوله : ليقولن ما يحبسه . وسواء كان
الفصل بمعمول الفعل كهذا ، أو بسوف . كقوله : ) السّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (
أو بقد كقول الشاعر :
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه
وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
قال أبو علي : الأصل دخول النون فرقاً بين لام اليمين ولام الابتداء ، ولام
الابتداء لا تدخل على الفضلات ، فبدخول لام اليمين على الفضلة وقع الفصل ، فلم
يحتج إلى النون . وبدخولها على سوف وقع الفرق ، فلم يحتج إلى النون ، لأن لام
الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً ، أمّا إذا كان مستقبلاً فلا .
آل عمران : ( 159 ) فبما رحمة من . . . . .
( فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ( متعلق الرحمة المؤمنون . فالمعنى
: فبرحمة من الله عليهم لِنْت لهم ، فتكون الرحمة امتن بها عليهم . أي : دمثت
أخلاقك ولان جانبك لهم بعدما خالفوا أمرك وعصوك في هذه القراءة ، وذلك برحمة الله
إياهم . وقيل : متعلق الرحمة المخاطب ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي برحمة الله
إياك جعلك لين الجانب موطأ الأكناف ، فرحمتهم ولنت لهم ، ولم تؤاخذهم بالعصيان
والفرار وإفرادك للأعداء ، ويكون ذلك امتناناً على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) ) . ويحتمل أن يكون متعلق الرحمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بأن جعله على
خلق عظيم ، وبعثه بتتميم محاسن الأخلاق والمؤمنين ، بأن لينه لهم .
وما هنا زائدة للتأكيد ، وزيادتها بين الباء وعن ومن والكاف ، وبين مجروراتها شيء
معروف في اللسان ، مقرر في علم العربية . وذهب بعض الناس إلى أنها منكرة تامة ،
ورحمة بدل منها . كأنه قيل : فبشيء أبهم ، ثم أبدل على سبيل التوضيح ، فقال : رحمة
. وكان قائل هذا يفر من الإطلاق عليها أنهار زائدة . وقيل : ما هنا استفهامية .
قال الرازي : قال المحققون : دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير
جائز ، وهنا يجوز أن تكون ما استفهامية للتعجب تقديره : فبأي رحمة من الله لنت لهم
، وذلك بأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم
" صفحة رقم 104 "
أنه ما أظهر البتة تغليظاً في القول ، ولا خشونة في الكلام ، علموا أنَّ هذا لا
يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك انتهى كلامه . وما قاله المحققون : صحيح ، لكنَّ
زيادة ما للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية ، فضلاً عن مَنْ
يتعاطى تفسير كلام الله ، وليس ما في هذا المكان مما يتوهمه أحد مهملاً فلا يحتاج
ذلك إلى تأويلها بأن يكون استفهاماً للتعجب . ثمّ إنَّ تقديره ذلك : فبأي رحمة ،
دليل على أنّه جعل ما مضافة للرحمة ، وما ذهب إليه خطى من وجهين : أحدهما : أنه لا
تضاف ما الاستفهامية ، ولا أسماء الاستفهام غير أي بلا خلاف ، وكم على مذهب أبي
إسحاق . والثاني : إذا لم تصح الإضافة فيكون إعرابه بدلاً ، وإذا كان بدلاً من اسم
الاستفهام فلا بدّ من إعادة همزة الاستفهام في البدل ، وهذا الرجل لحظ المعنى ولم
يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك
والتسلق إلى ما لا يحسنه والتسور عليه . قول الزجاج في ما هذه ؟ إنها صلة فيها
معنى التوكيد بإجماع النحويين .
( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( بين
تعالى أن ثمرة اللين هي المحبة ، والاجتماع عليه . وأن خلافها من الجفوة والخشونة
مؤد إلى التفرق ، والمعنى : لو شافهتهم بالملامة على ما صدر منهم من المخالفة
والفرار لتفرّقوا من حولك هيبة منك وحياءً ، فكان ذلك سبباً لتفرّق كلمة الإسلام
وضعف مادته ، وإطماعاً للعدو واللين والرفق ، فيكون فيما لم يفض إلى إهمال حق من
حقوق الله تعالى . وقال تعالى في حق الكفار : ) وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( وفي وصفه (
صلى الله عليه وسلم ) ) في الكتب المنزلة أنه ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في
الأسواق . والوصفان قيل بمعنى واحد ، فجمعاً للتأكيد . وقيل : الفظاظة الجفوة
قولاً وفعلاً . وغلظ القلب : عبارة عن كونه خلق صلباً لا يلين ولا يتأثر ، وعن
الغلظ تنشأ الفظاظة تقدم ما هو ظاهر للحس على ما هو خاف ، وإنما يعلم بظهور أثره .
( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ ( أمره تعالى
بالعفو عنهم ، وذلك فيما كان خاصاً به من تبعة له عليهم ، وبالاستغفار لهم فيما هو
مختص بحق الله تعالى وبمشاورتهم . وفيها فوائد تطييب نفوسهم ، والرفع من مقدارهم
بصفاء قلبه لهم ، حيث أهلهم للمشاورة ، وجعلهم خواص بعد ما صدر منهم ، وتشريع
المشاورة لمن بعده ، والاستظهار برأيهم فيما لم ينزل فيه وحي . فقد يكون عندهم من
أمور الدنيا ما ينتفع به ، واختبار عقولهم ، فينزلهم منازلهم ، واجتهادهم فيما فيه
وجه الصلاح . وجرى على مناهج العرب وعادتها في الاستشارة في الأمور ، وإذا لم
يشاور أحداً منهم حصل في نفسه شيء ، ولذلك عز على عليّ وأهل البيت كونهم استبد
عليهم في المشورة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، وفيما ذا أمر أن
يشاورهم . قيل : في أمر الحرب والدنيا وقيل : في الدين والدنيا ما لم يرد نص ،
ولذلك استشار في أسرى بدر .
وظاهر هذه الأوامر يقتضي أنه أمر بهذه الأشياء ، ولا تدل على تريب زماني . وقال
ابن عطية : أمر بتدريج بليغ ، أمر بالعفو عنهم فيما يخصه ، فإذا صاروا في هذه
الدرجة أمر باستغفار فيما لله ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلاً للاستشارة
في الأمور انتهى . وفيه بعض تلخيص ، ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ ، ولكنْ هذه
حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض . أمر أولاً بالعفو عنهم ، إذ عفوه عنهم
مسقط لحقه ، ودليل على رضاه ( صلى الله عليه وسلم ) ) عليهم ، وعدم مؤاخذته . ولما
سقط حقه بعفوه استغفر لهم الله ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم ، ويحصل لهم رضاه (
صلى الله عليه وسلم ) ) ورضا الله تعالى . ولما زالت عنهم التبعات من الجانبين
شاورهم إيذاناً بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة ، إذ لا يستشير الإنسان
إلا من كان معتقداً فيه المودة والعقل والتجربة . والظاهر أن قوله : فاعف عنهم أمرٌ
له بالعفو . وقيل : معناه سلني العفو عنهم لأعفو عنهم ، والمعفو عنه والمسؤول
الاستغفار لأجله . قيل : قرارهم يوم أحد ، وترك إجابته ، وزوال الرّماة عن مراكزهم
. وقيل : ما يبدون من هفواتهم وألسنتهم من السقطات التي لا يعتقدونها ، كمناداتهم
من وراء الحجرات . وقول بعضهم : إنْ كان ابن عمتك وجر رداءه حتى أثر في عنقه ،
وغير ذلك مما وقع منهم على سبيل الهفوة . ومن غريب النقول والمقول وضعيفه الذي
ينزه عنه القرآن قول بعضهم : أن قوله تعالى : وشاورهم في الأمر ، أنه من المقلوب ،
والمعنى : وليشاوروك في الأمر . وذكر المفسرون هنا جملة مما ورد في المشاورة من
الآيات والأحاديث
" صفحة رقم 105 "
والآثار . وذكر ابن عطية : إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا
يستشير أهل العلم والدّين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف له . والمستشار في الدّين
عالم دين ، وقلَّ ما يكون ذلك إلا في عاقل . قال الحسن : ما كمل دين امرىء لم يكمل
عقله ، وفي الأمور الدنيوية عاقل مجرب وادفى المستشير انتهى كلام ابن عطية ، وفيه
بعض تلخيص . وقراءة الجمهور : في الأمر ، وليس على العموم . إذ لا يشاور في
التحليل والتحريم . والأمر : اسم جنس يقع للكل وللبعض . وقرأ ابن عباس : في بعض
الأمر ) فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ( أي : فإذا عقدت قلبك على
أمر بعد الاستشارة فاجعلْ تفويضك فيه إلى الله تعالى ، فإنه العالم بالأصلح لك ،
والأرشد لأمرك ، لا يعلمه من أشار عليك . وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير
الرأي وتنقيحه ، والفكر فيه . وإن ذلك مطلوب شرعاً خلافاً لما كان عليه بعض العرب
من : ترك المشورة ، ومن : الاستبداد برأيه من غير فكر في عاقبة ، كما قال : إذا
همّ ألقى بين عينيه عزمه
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه
ولم يرض إلا قائم الس