مجلد 5.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي
" صفحة رقم 158 "
من الكفار بمكة أهله لأن بقاءهم عارض يزول ، كما قال تعالى : ) وَمَا كَانُواْ
أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ( و : منه ، متعلق بإخراج ،
والضمير في : منه ، عائد على المسجد الحرام ، وقيل : عائد على : سبيل الله ، وهو
الإسلام ، والأول أظهر . و : أكبر ، خبر عن المبتدأ الذي هو : وصد ، وما عطف عليه
، ويحتمل أن يكون خبراً عن المجموع ، ويحتمل أن يكون خبراً عنها باعتبار كل واحد
واحد ، كما تقول : زيد وعمرو وبكر أفضل من خالد ، نزيد : كل واحد منهم أفضل من
خالد ، وهذا الظاهر لا المجموع ، وإفراد الخبر لأنه أفعل تفضيل مستعمل : بمن ،
الداخلة على المفضول في التقدير ، وتقديره : أكبر من القتال في الشهر الحرام ،
فحذف للعلم به .
وقيل : وصد مبتدأ . و : كفر ، معطوف عليه ، وخبرهما محذوف لدلالة خبر : وإخراج ،
عليه . والتقدير : وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام أكبر ، ولا يجتاج إلى
هذا التقدير لأنا قد بينا كون : أكبر ، خبراً عن الثلاثة .
وعند الله ، منصوب بأكبر ، ولا يراد : بعند ، المكان بل ذلك مجاز .
وذكر ابن عطية ، والسجاوندي عن الفراء أنه قال : وصد عطف على كبير ، قال ابن عطية
: وذلك خطأ ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله : وكفر به ، عطف أيضاً على كبير ، ويجيء
من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بيِّن فساده .
انتهى كلام ابن عطية ، وليس كما ذكر ، ولا يتعين ما قاله من أن : وكفر به ، عطف
على ، كبير ، إذ يحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله : وصد عن سبيل الله ، ويكون
قد أخبر عن القتال في الشهر الحرام بخبرين . أحدهما : أنه كبير ، والثاني : أنه صد
عن سبيل الله ، ثم ابتدأ فقال : والكفر بالله ، وبالمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه
أكبر عند الله من القتال الذي هو كبير ، وهو صد عن سبيل الله . وهذا معنى سائغ حسن
، ولا شك أن الكفر بالله وما عطف عليه أكبر من القتال المذكور . وقوله : ويجيء من
ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بين فساده ، ليس بكلام
مخلص ، لأنه لا يجيء منه ما ذكر إلاَّ بتكلف بعيد ، بل يجيء منه أن إخراج أهل
المسجد منه أكبر عند الله من القتال المخبر عنه بأنه كبير ، وبأنه صد عن سبيل الله
، فالمحكوم عليه بالأكبرية هو الإخراج ، والمفضول فيها هو القتال لا الكفر والفتنة
، أي : الكفر والشرك ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة
وغيرهم .
أو التعذيب الحاصل للمؤمنين ليرجعوا عن الإسلام ، فهي أكبر حرماً من القتل ،
والمعنى عند جمهور المفسرين أن الفتنة التي كانت تفتن المسلمين عن دينهم حتى
يهلكوا ، أشد اجتراماً من قتلهم إياكم في المسجد الحرام ، وقيل : المعنى : والفتنة
أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون ، أي فعلكم بكل إنسان ، أشد من فعلنا ، لأن الفتنة
ألم متجدد ، والقتل ألم منقض .
ومن فسر الفتنة بالكفر كان المعنى عنده : وكفركم أشد من قتلنا أولئك ، وصرح هنا
بالمفضول ، وهو قوله : من القتل ، ولم يحذف . لأنه لا دليل على حذفه ، بخلاف قوله
: أكبر عند الله ، فإنه تقدم ذكر المفضول عليه ، وهو : القتال ، وقال عبد الله بن
جحش في هذه القصة شعراً : تعدون قتلا في الحرام عظيمة
وأعظم منها لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد
وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله رحله
لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا ، وإن عيرتمونا بقتلة
وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دماً ، وابن عبد الله عثمان بيننا
ينازعه غل من القد عاند
) وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ
اسْتَطَاعُواْ ( الضمير في : يزالون ، للكفار ، وهذا يدل على أن الضمير المرفوع في
قوله : يسألونك ، هو الكفار ، والضمير المنصوب في : يقاتلونكم ، خوطب به المؤمنون
، وانتقل عن خطاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى خطاب المؤمنين ، وهذا
إخبار من الله للمؤمنين بفرط عداوة الكفار ، ومباينتهم لهم ، ودوام تلك
" صفحة رقم 159 "
العداوة ، وأن قتالهم إياكم معلق بإمكان ذلك منهم لكم ، وقدرتهم على ذلك .
و : حتى يردوكم ، يحتمل الغاية ، ويحتمل القليل ، وعليهما حملها أبو البقاء وهي
متعلقة في الوجهين : بيقاتلونكم ، وقال ابن عطية : ويردوكم ، نصب بحتى لأنها غاية
مجردة ، وقال الزمخشري : وحتى ، معناها التعليل ، كقولك : فلان يعبد الله حتى يدخل
الجنة ، أي : يقاتلونكم كي يردوكم . انتهى . وتخريج الزمخشري أمكن من حيث المعنى ،
إذ يكون الفعل الصادر منهم المنافي للمؤمنين ، وهو : المقاتلة ، ذكر لها علة
توجيهاً ، فالزمان مستغرق للفعل ما دامت علة الفعل ، وذلك بخلاف الغاية ، فإنها
تقييد في الفعل دون ذكر الحامل عليه ، فزمان وجوده مقيد بغايته ، وزمان وجود الفعل
المعلل مقيد بوجود علة ، وفرق في القوة بين المقيد بالغاية والمقيد بالعلة لما في
التقييد بالعلة من ذكر الحامل وعدم ذلك في التقييد بالغاية .
و : عن دينكم ، متعلق : بيردوكم ، والدين هنا الإسلام ، و : إن استطاعوا ، شرط
جوابه محذوف يدل عليه ما قبله ، التقدير : إن استطاعوا فلا يزالون يقاتلونكم ، ومن
جوّز تقديم جواب الشرط ، قال : ولا يزالون ، هو الجواب .
وقال الزمخشري : إن استطاعوا ، استبعاد لاستطاعتهم ، كقول الرجل لعدوه : إن ظفرت
بي قلا تبقِ عليّ ، وهو واثق بأنه لا يظفر به . انتهى قوله : ولا بأس به .
( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ ( ارتد : افتعل من الرد ، وهو
الرجوع ، كما قال تعالى : ) فَارْتَدَّا عَلَىءاثَارِهِمَا قَصَصًا ( وقد عدّها
بعضهم فيما يتعدّى إلى اثنين ، إذا كانت عنده ، بمعنى : صير وجعل ، من ذلك قوله :
) فَارْتَدَّ بَصِيرًا ( أي : صار بصيراً ، ولم يختلف هنا في فك المثلين ، والفك
هو لغة الحجاز ، وجاء افتعل هنا بمعنى التعمل والتكسب . لأنه متكلف ، إذ من باشر
دين الحق يبعد أن يرجع عنه ، فلذلك جاء افتعل هنا ، وهذا المعنى ، وهو التعمل
والتكسب ، هو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل .
و : منكم ، في موضع الحال من الضمير المستكن في : يرتدد ، العائد على : من ، و :
من ، للتبعيض ، و : عن دينه ، متعلق بيرتدد ، والدين : هنا هو الإسلام ، لأن
الخطاب مع المسلمين ، والمرتد إليه هو دين الكفر ، بدليل أن ضد الحق الباطل ،
وبقوله : ) فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ( وهذان شرطان أحدهما معطوف على الآخر بالفاء
المشعرة بتعقيب الموت على الكفر بعد الردة واتصاله بها ، ورتب عليه حبوط العمل في
الدنيا والآخرة . وهو حبطه في الدنيا باستحقاق قبله ، وإلحاقه في الأحكام بالكفار
وفي الآخرة بما يؤول إليه من العقاب السرمدي ، وقيل : حبوط أعمالهم في الدنيا هو
عدم بلوغهم ما يريدون بالمسلمين من الإضرار بهم ومكايدتهم ، فلا يحصلون من ذلك على
شيء ، لأن الله قد أعزّ دينه بأنصاره .
وظاهر هذا الشرط والجزاء ترتب حبوط العمل على الموافاة على الكفر ، لا على مجرد
الاتداد ، وهذا مذهب جماعة من العلماء ، منهم : الشافعي ، وقد جاء ترتب حبوط العمل
على مجرد الكفر في قوله : ) وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ (
) وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( )
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَلِقَاء الاْخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
(
" صفحة رقم 160 "
) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( والخطاب في المعنى لأمته ، وإلى هذا
ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، وغيرهما ، يعني : أنه يحبط علمه بنفس الردة . دون
الموافاة عليها ، وإن راجع الإسلام ، وثمرة الخلاف تظهر في المسلم إذا حج ، ثم
ارتد ، ثم أسلم ، فقال مالك : يلزمه الحج ، وقال الشافعي : لا يلزمه الحج .
ويقول الشافعي : اجتمع مطلق ومقيد ، فتقيد المطلق ، ويقول غيره : هما شرطان ترتب
عليهما شيئان ، أحد الشرطين : الإرتداد ، ترتب عليه حبوط العمل ، الشرط الثاني :
الموافاة على الكفر ، ترتب عليها الخلود في النار .
والجملة من قوله : وهو كافر ، في موضع الحال من الضمير المستكن في : فيمت ، وكأنها
حال مؤكدة ، لأنه لو استغنى عنها فهم معناها ، لأن ما قبلها يشعر بالتعقيب
للارتداد . وكون الحال جاء جملة فيها مبالغة في التأكيد ، إذ تكرر الضمير فيها
مرتين ، بخلاف المفرد ، فإنه فيه ضمير واحد .
وتعرض المفسرون هنا لحكم المرتد ، ولم تتعرض الآية إلاَّ لحبوط العمل ، وقد ذكرنا
الخلاف فيه هل يشترط فيه الموافاة على الكفر أم يحبط بمجرد الردة ؟ وأما حكمه
بالنسبة إلى القتل ، فذهب النخعي والثوري : إلى أنه يستتاب محبوساً أبداً ، وذهب
طاووس ، وعبيد بن عمير ، والحسن ، على خلاف عنه ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ،
والشافعي : في أحد قوليه ، إلى أنه يقتل من غير استتابة . وروي نحو هذا عن أبي
موسى ، ومعاذ ، وقال جماعة من أهل العلم : يستتاب ، وهل يستتاب في الوقت ؟ أو في
ساعة واحدة ؟ أو شهر ؟ روي هذا عن علي ، أو ثلاثة أيام ؟ وروي عن عمر ، وعثمان ،
وهو قول مالك فيما رواه ابن القاسم ، وقول أحمد ، وإسحاق ، والشافعي ، في أحد
قوليه ، وأصحاب الرأي : أو مائة مرة ؟ وهو قول الحسن .
وقال عطاء : إن كان ابن مسلمين قتل دون استتابة ، وإن كان أسلم ثم ارتد أستتيب .
وقال الزهري : يدعي إلى الإسلام ، فإن تاب وإلاَّ قتل . وقال أبو حنيفة : يعرض
عليه الإسلام ، فإن أسلم وإلاَّ قتل مكانه إلاَّ أن يطلب أن يؤجل ، فيؤجل ثلاثة
أيام . والمشهور عنه ، وعن أصحابه ، أنه لا يقتل حتى يستتاب .
والزنديق عندهم والمرتد سواء .
وقال مالك : تقتل الزنادقة من غير استتابة ، ولو ارتد ثم راجع ثم ارتد ، فحكمه في
الردة الثانية أو الثالثة أو الرابعة كالأولى ، وإذا راجع في الرابعة ضرب وخلي
سبيله ، وقيل : يحبس حتى يرى أثر التوبة والإِخلاص عليه ، ولو انتقل الكافر من كفر
إلى كفر ، فالجمهور على أنه لا يقتل .
وذكر المزني ، والربيع ، عن الشافعي : أن المبدل لدينه من أهل الذّمة يلحقه
الإِمام بأرض الحرب ، ويخرجه من بلده ، ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على
الدار ، هذا حكم الرجل .
وأما المرأة إذا ارتدّت فقال مالك ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي : تقتل كالرجل
سواء ، وقال عطاء ، والحسن ، والثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وابن شبرمة ، وابن
عطية لا تقتل . وروي ذلك عن علي وابن عباس .
وأمّا ميراثه ، فأجمعوا على أن أقرباءه من الكفار لا يرثونه إلاَّ ما نقل عن قتادة
، وعمر بن عبد العزيز ، أنهم يرثونه ، وقد روي عن عمر خلاف هذا ، وقال علي ،
والحسن ، والشعبي ، والحكم ، والليث ، وأبو حنيفة في أحد قوليه ، وابن راهويه :
يرثه أقرباؤه المسلمون . وقال مالك ، وربيعة وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وأبو ثور
: ميراثه في بيت المال ، وقال ابن شبرمة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والأوزاعي في إحدى
الروايتين : ما اكتسبه بعد الردة لورثته المسلمين . وقال أبو حنيفة ، ما اكتسبه في
حالة الإِسلام قبل الردة لورثته المسلمين .
وقرأ الحسن : حبطت بفتح الباء ، وهما لغتان ، وكذا قرأها أبو السماك في جميع
القرآن ، وقوله : ) فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ( أتى باسم الإشارة وهو
يدل على من اتصف بالأوصاف السابقة ، وأتى به مجموعاً حملاً على معنى : من ، لأنه
أولاً حمل على اللفظ في قوله : ) يَرْتَدَّ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ( وإذا جمعت
بين الحملين ، فالأصح أن تبدأ بالحمل على اللفظ ، ثم بالحمل على المعنى . وعلى هذا
الأفصح جاءت هذه الآية ) وَفِى الدُّنْيَا ( متعلق بقوله : ) حَبِطَتْ ).
) وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( تقدّم تفسير هذه
الجملة ، فأغنى عن إعادته ، وهذه الجملة يحتمل أن تكون ابتدأ إخبار من الله تعالى
بخلود هؤلاء في النار ، فلا تكون داخلة في الجزاء وتكون معطوفة على الجملة الشرطية
،
" صفحة رقم 161 "
ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله : ) فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ( فتكون
داخلة في الجزاء ، لأن المعطوف على الجزاء جزاء ، وهذا الوجه أولى ، لأن القرب
مرجح ، وترجح الأول بأنه يقتضي الاستقلال .
البقرة : ( 218 ) إن الذين آمنوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ ( سبب نزولها أن عبد الله بن جحش
قال : يا رسول الله هب أنه عقاب علينا فيما فعلناه فهل نطمع منه أجراً وثواباً
فنزلت لأن عبد الله كان مؤمناً وكان مهاجراً ، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهداً ،
ثم هي عامة في من اتصف بهذه الأوصاف . وقال الزمخشري إن عبد الله بن جحش وأصحابه ،
حين قتلوا الحضرمي ، ظنّ قوم أنهم إن سلموا من الإِثم فليس لهم أجر ، فنزلت .
انتهى كلامه . وهو كالأول ، ألاَّ أنه اختلف في الظان ، ففي الأول ابن جحش ، وفي
قول الزمخشري : قوم ، وعلى هذا السبب فمناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة . وقيل :
لما أوجب الجهاد بقوله : ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ( وبيَّن أن تركه سبب
للوعيد ، اتبع ذلك بذكر من يقوم به ، ولا يكاد يوجد وعيد إلاَّ ويتبعه وعد ، وقد
احتوت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف ، وجاءت مرتبة بحسب الوقائع والواقع ، لأن
الإِيمان أولها ، ثم المهاجرة ، ثم الجهاد في سبيل الله . ولما كان الإِيمان هو
الأصل أفرد به موصول وحده ، ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين عنه أفردا بموصول واحد
، لأنهما من حيث الفرعية كالشيء الواحد . وأتى خبر : أن ، جملة مصدرة : بأولئك ،
لأن اسم الإشارة هو المتضمن الأوصاف السابقة من الإيمان والهجرة والجهاد ، وليس
تكريراً لموصول بالعطف مشعراً بالمغايرة في الذوات ، ولكنه تكرير بالنسبة إلى
الأوصاف ، والذوات هي المتصفة بالأوصاف الثلاثة ، فهي ترجع لمعنى عطف الصفة بعضها
على بعض للمغايرة ، لا : إن الذين آمنوا ، صنف وحده مغاير : للذين هاجروا وجاهدوا
، وأتى بلفظة : يرجون ، لأنه ما دام المرء في قيد الحياة لا يقطع أنه صائر إلى
الجنة ، ولو أطاع أقصى الطاعة ، إذ لا يعلم بما يختم له ، ولا يتكل على عمله ،
لأنه لا يعلم أَقُبِل أم لا ؟ وأيضاً فلأن المذكورة في الآية ثلاثة أوصاف ، ولا
بدّ مع ذلك من سائر الأعمال ، وهو يرجو أن يوفقه الله لها كما وفقه لهذه الثلاثة ،
فلذلك قال : فأولئك يرجون ، أو يكون ذكر الرجاء لما يتوهمون أنهم ما وفوا حق نصرة
الله في الجهاد ، ولا قضوا ما لزمهم من ذلك ، فهم يقدمون على ألله مع الخوف
والرجاء ، كما قال تعالى : ) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ ).
وروي عن قتادة أنه قال : هو لأخيار هذه الأمة ، ثم جعلهم الله أهل رجاء ، كما
يسمعون ، وقيل : الرجاء دخل هنا في كمية الثواب ووقته ، لا في أصل الثواب ، إذا هو
مقطوع متيقن بالوعد الصادق ، و : رحمت ، هنا كتب بالتاء على لغة من يقف عليها
بالتاء هنا ، أو على اعتبار الوصل لأنها في الوصل تاء ، وهي سبعة مواضع كتبت :
رحمت ، فيها بالتاء . أحدها هذا ، وفي الأعراف : ) إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ
( وفي هود : ) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ ( وفي مريم ) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ (
وفي الزخرف ) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتِ رَبّكَ ( ) ورحمت ربك خير مما تجمعون (
وفي الروم ) فَانظُرْ إِلَىءاثَارِ رَحْمَتَ اللَّهِ ( ) وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ ( لما ذكر أنهم طامعون في رحمة الله ، أخبر تعالى أنه متصف بالرحمة ،
وزاد وصفاً آخر وهو أنه تعالى متصف بالغفران ، فكأنه قيل : الله تعالى ، عندما
ظنوا وطمعوا في ثوابه ، فالرحمة متحققة ، لأنها من صفاته تعالى .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة إخبار الله تعالى عن القرون الماضية أنهم كانوا على
سنن واحد ، وأنه بعث إليهم النبيين مبشرين من أطاع بالثواب من الله تعالى ،
ومحذرين من عصى من عقاب الله ، وقدم البشارة لأنها هي المفروح بها ، ولأنها
نتيجتها رضي الله عن من اتبع أوامره واجتنب نواهيه ، وأنزل معهم كتاباً من عنده
مصحوباً بالحق اللائح ، ليكون أضبط لما أتوا به من الشرائع ، لأن ما جاؤا به مما
ليس في كتاب يقرأ ويدرس على مر الأعصار ، وربما يذهب بذهابهم ، فإذا كان ما شرع
لهم مخلداً في الطروس كان أبقى ، وإن ثمرة الكتب هي الفصل بين الناس فيما وقع فيه
اختلافهم من أمر عقائدهم ، وتكاليفهم ، ومصالح دنياهم ، ثم ذكر أنه ما اختلف فيما
اختلف فيه إلا الذين أوتوه ، أي : أوتوا
" صفحة رقم 162 "
الكتاب ، ووصل إليهم من عند الله ، وذلك بعد وضوح الآيات ومجيئها لهم ، فكأن ما
سبيله إلى الهداية والفصل في الاختلاف عند هؤلاء سبباً للاختلاف ، فرتبوا على مجيء
الشيء الواضح ضد مقتضاه ، وأن الحامل على ذلك إنما هو البغي والظلم الذي صار بينهم
، ثم هدى الله المؤمنين لاتباع الحق الذي اختلف فيه من اختلف ، وذلك بتيسير الله
تعالى لهم ، ذلك من غير سابقة استحقاق ، بل هدايته إياهم الحق هو بتميكنه تعالى
لذلك .
ثم ذكر تعالى أن الهداية للصراط المستقيم إنما تكون لمن شاء تعالى هدايته ، ثم ذكر
تعالى مخاطباً للمؤمنين ، إذ كان قد أخبر ببعثة الرسل بالتكاليف الشرعية ، أنه لا
يحسب أن تنال الرتبة العالية من الفوز بدخول الجنة ، ولما يقع ابتلاء لكم كما
ابتلى من كان قبلكم ، ثم فسر مثل الماضين بأنهم مستهم البأساء والضراء ، وأنهم
أزعجوا حتى سألوا ربهم عن وقت مجيء النصر لتصبر نفوسهم على ما ابتلاهم به ،
ولينتظروا الفرج من الله عن قرب ، فأجيبوا بأن نصر الله قريب وما هو قريب ،
فالحاصل : فسكنت نفوسهم من ذلك الإعاج بانتظار النصر القريب .
ثم سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عما ينفقون من أموالهم في وجوه البر
؟ فلم يبين لهم جنس ما ينفقون ولا مقداره ، وذكر مصرف ذلك ، لأنه هو الأهم في
الجواب ، وكأنه قيل : أي شيء ينفقون من قليل أو كثير فمصرفه لأقرب الناس إليكم ،
وهما : الوالدان : اللذان كانا سبباً في إيجادك وتربيتك من لدن خلقت إلى أن صار لك
شيء من الدنيا ، وفي الحنو عليك ، ثم ذكر : الأقربين بصفة التفضيل ، لأنهم هم
الذين يشاركونك في النسب ، والإنفاق عليهم صدقة وصلة ، ثم ذكر اليتامى : وهم الذين
قد توفي آباؤهم فليس لهم من يقوم بمصالحهم ، فالإنفاق عليهم إحسان جزيل ، ثم ذكر :
المساكين ، وهم الذين انتهوا ، من الفقراء ، إلى حالة المسكنة ، وهي عدم الحركة
والتصرف في أحوال الدنيا ومعاشها ، ثم أخبر تعالى : أن ما أنفقتم فالله عليم به
ومحصيه ، فيجازي عليه ويثيب .
ثم أخبر تعالى عن فرض القتال على المؤمنين ، وأنه مكروه للطباع لما فيه من إتلاف
المهج وانتقاص الأموال ، وانتهاك الأجساد بالسفر فيه وبغيره ، ثم ذكر أن الإنسان
قد يكره الشيء وهو خير له ، لأن عقابه إلى خير ، فالقتال ، وإن كان مكروهاً للطبع
، فإنه خير إن سلم ، فخيره بالظفر بأعداء الله ، وبالغنيمة ، واستيلاء عليهم قتلاً
ونهباً وتملك دار ، وإن قتل فخيره أن له عند الله مرتبة الشهداء .
ويكفيك ما ورد في هذه المرتبة العظيمة في كتاب الله ، وفيما صح عن رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ) ، ثم ذكر مقابل هذا وهو قوله ) وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا
وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ( فمن المحبوب ترك القتال ، وهو مدعاة إلى الدعاء والراحة ،
وفي ذلك الشر العظيم من تسلط أعداء الله والإيقاع بالمسلمين ، واستئصال شأفتهم
بالقتل والنهب وتملك ديارهم ، فمتى أخلد الإنسان إلى الراحة طمع فيه عدوه ، وبلغ
منه مقاصده ، ولقد أحسن زهير حيث قال : جريء متى يظلم يعاقب بظلمه
سريعاً ، وإن لا يبد بالظلُم يظلم
ثم ذكر تعالى أنه يعلم ما لا يعلمون حيث شرع القتال ، فهو تعالى عالم بما يترتب
لكم من المصالح الدينية والدنيوية على مشروعية القتال .
ثم ذكر تعالى أنهم سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن القتال في الشهر
الحرام ، لما كان وقع ذلك منهم ، لا على سبيل القصد ، بل على سبيل الظن أن الزمان
الذي وقع فيه ليس هو من الشهر الحرام ، فأخبروا أن ذلك هو إثم كبير ، إذ كانت
العادة أن الأشهر لحرم لا قتال فيها ، ثم ذكر أن أكبر من ذلك هو ما يرتكبه الكفار
من صد المسلمين عن سبيل الله ، ومن الكفر بالله ، وبالمسجد الحرام ، ومن إخراج
أهله منه .
ثم ذكر تعالى أن الفتنة أكبر من القتل وهو فتنة الرجل المسلم عن دينه ، أكبر من
قتله وهو على دينه ، لأن تلك الفتنة تؤول به إلى النار ، وقتله هذا يؤول به إلى
الجنة .
ثم أخبر تعالى عن دوام عداء عداوة الكفار ، وأن مقصدهم إنما هو فتنتكم عن دينكم
ورجوعكم إلى ما هم عليه من الضلال ، وأنه متى أمكنهم ذلك وقدروا عليه قاتلوكم ، ثم
أخبر تعالى أن من رجع عن دينه الحق إلى دينه الباطل ، ووافى على ذلك ، فجميع ما
تقدّم من أعماله الصالحات قد بطلت في الدنيا بإلحاقه بالكفار ، وإجراء أحكام
المرتدين
" صفحة رقم 163 "
عليه ، وفي الآخرة فلا يبقى لها ثمرة يرتجي بها غفراناً لما اجترح ، بل مآله إلى
النار خالداً فيها .
ثم لما ذكر حال المرتد عن دينه ، ذكر حال من آمن بالله وثبت على إيمانه ، وهاجر من
وطنه الذي هو محل الكفر إلى دار الإسلام ، ثم جاهد في سبيل الله من كفر بالله ،
وأنه طامع في رحمة الله .
ثم ذكر تعالى أنه غفور لما وقع منه قبل ا لإيمان ولما يتخلل في حالة الإيمان من
بعض المخالفة ، وأنه رحيم له ، فهو يحقق له ما طمع فيه من رحمته .
2 ( ) يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْألُونَكَ
مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذالِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ وَيَسْألُونَكَ عَنِ
الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ
لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ
حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ
مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَائِكَ يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ
وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَيَسْألُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لاًّنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم
مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ) ) 2
البقرة : ( 219 ) يسألونك عن الخمر . . . . .
الخمر : هي المعتصر من العنب إذا غلى واشتدّ وقذف بالزبد ، سمى بذلك من خمر إذا
ستر ، ومنه خِمار المرأة ، وتخمرت واختمرت ، وهي حسنة الخمرة ، والخمر ما واراك من
الشجر وغيره ، ودخل في خمار الناس وغمارهم أي : في مكان خاف . وخمر فتاتكم ،
وخامري أم عامر ، مثل الأحمق ، وخامري حضاجر أتاك ما تحاذر ، وحضاجر اسم للذكر
والأنثى من السباع ، ومعناه : ادخلي الخمر واستتري .
فلما كانت تستر العقل سميت بذلك ، وقيل : لأنها تخمر : أي تغطي حتى تدرك وتشتدّ .
وقال ابن الأنباري : سميت بذلك لأنها تخامر العقل أي : تخالطه ، يقال : خامر الداء
خالط ، وقيل : سميت بذلك لأنها تترك حين تدرك ، يقال : اختمر العجين بلغ إدراكه ،
وخمر الرأي تركه حتى يبين فيه الوجه ، فعلى هذه الاشتقاقات تكون مصدراً في الأصل
وأريد بها اسم الفاعل أو اسم المفعول .
الميسر : القمار ، وهو مفعل من : يسر ، كالموعد من وعد ، يقال يسرت الميسر أي
قامرته ، قال الشاعر : لو تيسرون بخيل قد يسرت بها
وكل ما يسر الأقوام مغروم
واشتقاقه من اليسر وهو السهولة ، أو من اليسار لأنه يسلب يساره ، أو من يسر الشيء
إذا وجب ، أو من يسر إذا جزر والياسر الجازر ، وهو الذي يجزىء الجزور أجزاء ، قال
الشاعر : أقول لهم بالشعب إذ تيسرونني
ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم ؟
وسميت الجزور التي يسهم عليها ميسراً لأنها موضع اليسر ، ثم قيل للسهام : ميسر
للمجاورة ، واليسر ، الذي
" صفحة رقم 164 "
يدخل في الضرب بالقداح وجمعه ، أيسار ، وقيل : يسر جمع ياسر كحارس وحرس وأحراس .
وصفة الميسر أنه عشرة أقداح ، وقيل : أحد عشر على ما ذكر فيه ، وهي : الأزلام ،
والأقلام ، والسهام . لسبعة منها حظوظ ، وفيها فروض على عدة الحظوظ : القد ، وله
سهم واحد ؛ والتوأم ، وله سهمان ، والرقيب ، وله ثلاثة ؛ والجلس ، وله أربعة ؛
والنافس ، وله خمسة ؛ والمسبل وله ستة ؛ والمعلى وله سبعة ؛ وثلاثة أغفال لا حظوظ
لها ، وهي : المنيح ، والسفيح ، والوغد ، وقيل : أربعة وهي : المصدر ، والمضعف ،
والمنيح ، والسفيح . تزاد هذه الثلاثة أو الأربعة على الخلاف لتكثر السهام وتختلط
على الحرضة وهو الضارب بالقداح ، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً ، ويسمى أيضاً :
المجيل ، والمغيض ، والضارب ، والضريب . ويجمع ضرباء ، وهو رجل عدل عندهم . وقيل
يجعل رقيب لئلا يحابي أحداً ، ثم يجثو الضارب على ركبتيه ، ويلتحف بثوب ، ويخرج
رأسه يجعل تلك القداح في الربابة ، وهي خريطة يوضع فيها ، ثم يجلجها ، ويدخل يده
ويخرج باسم رجل رجل قدحاً منها ، فمن خرج له قدح من ذوات الانصباء أخذ النصيب
الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح من تلك الثلاثة لم يأخذ شيئاً ، وغرم
الجزور كله .
وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق العيش وكلب البرد على الفقراء
، فيشترون الجزور وتضمن الأيسار ثمنها ، ثم تنحر ويقسم على عشرة أقسام ، في قول
أبي عمرو ، وثمانية وعشرين على قدر حظوظ السهام في قول الأصمعي .
قال ابن عطية : وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور على ثمانية وعشرين ، وأيهم خرج له
نصيب واسى به الفقراء ، ولا يأكل منه شيئاً ، ويفتخرون بذلك ، ويسمون من لم يدخل
فيه : البرم ويذمونه بذلك ، ومن الافتخار بذلك قول الأعشى : المطمعو الضيف إذا
ماشتا
والجاعلو القوت على الياسر
وقال زهير في البرم : حتى تأوى إلى لا فاحشٍ برم
ولا شحيح إذا أصحابه غنموا
وربما قاموا لأنفسهم .
التفكر : في الشيء إجالة الفكر فيه وتردده ، والفكر : هو الذهن .
الخلط : مزج الشيء بالشيء ، وخالط فاعل منه ، والخلط الشيء المخلوط : كالرغي .
الإِخوان : جمع أخ ، والأخ معروف ، وهو من ولده أبوك وأمك ، أو أحدهما ، وجمع فعل
على فعلان لا ينقاس .
العنت : المشقة ، ومنه عنت الغربة ، وعقبة عنوت شاقة المصعد ، وعنت البعير انكسر
بعد جبر .
النكاح : الوطء وهو المجامعة ، قال التبريزي : وأصله عند العرب لزوم الشيء الشيء
وإكبابه عليه ، ومنه قولهم : نكح المطر الأرض . حكاه ثعلب في ( الأمالي ) عن أبي
زيد وابن الإِعرابي ، وحكى الفراء عن العرب : نكح المرأة ، بضم النون ، بضعة هي
بين القبل والدبر ، فإذا قالوا نكحها ، فمعناه أصاب نكحها ، أي ذلك الموضع منها ،
وقلما يقال ناكحها كما يقال باضعها ، قيل : وقد جاء النكاح في أشعار العرب يراد به
العقد خاصة ، ومن ذلك قول الشاعر :
" صفحة رقم 165 "
فلا تقربن جارة إن سرها
عليك حرام ، فانكحنْ أو تأبدا
أي فاعقد وتزّوج ، وإلاَّ فاجتنب النساء وتوحش ، لأنه قال : لاتقربن جارة على
الوجه الذي يحرم . وجاء بمعنى المجامعة ، كما قال : الباركين على ظهور نسوتهم
والناكحين بشاطى دجلة البقرا
وقال أبو علي : فرّقت العرب بين العقد والوطء بفرق لطيف ، فإذا قالوا : نكح فلان
فلانة ، أرادوا به العقد لا غير ، وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته فلا يريدون غير
المجامعة .
الأمة : المملوكة من النساء ، وهي ما حذف لامه ، وهو واو يدل على ذلك ظهورها في
الجمع قال الكلابي . أما الإماء فلا يدعونني ولدا
إذا تداعى بنو الأموات بالعار
وفي المصدر : يقال أمة بينة الأمّوة ، وأقرّت بالأموّة ، أي بالعبودية . وجمعت
أيضاً على : إماء ، وأآم ، نحو أكمة وآكام وأكم ، وأصله أأمو ، وجرى فيه ما يقتضيه
التصريف ، وفي الحديث : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) . وقال الشاعر : يمشى
بها ريد النعا
م تماشى الآم الدوافر
ووزنها أموة ، فحذفت لامها على غير قياس ، إذ كان قياسها أن تنقلب ألفاً لتحركها ،
وانفتاح ما قبلها كقناة ، وزعم أبو الهيثم : أن جمع الأمة أمو ، وأن وزنها فعلة
بسكون العين ، فتكون مثل : نخلة ونخل ، وبقلة وبقل ، فأصلها : أموة فحذفوا لامها
إذ كانت حرف لين ، فلما جمعوها على مثال نخلة ونخل لزمهم أن يقولوا : أمة وأم ،
فكرهوا أن يجعلوها حرفين ، وكرهوا أن يردوا الواو المحذوفة لما كانت آخر الاسم ،
فقدموا الواو ، وجعلوه ألفاً ما بين الألف والميم ، وما زعمه أبو الهيثم ليس بشيء
، إذ لو كان على ما زعم لكان الإعراب على الميم كما كان على لام نخل ، ولكنه على
الياء المحذوفة التي هي لام ، إذ أصله ألامو ، ثم عمل فيه ما عمل في قولهم :
الأدلو ، والأجرو ، جمع : دلو ، وجرو ، وأبدلت الهمزة الثانية ألفاً كما أبدلت في
: آدم ، ولذلك تقول : جاءت الآمي ، ولو كان على ما زعم أبو الهيثم لكان : جاءت
الآم ، برفع الميم .
المحيض : مفعل من الحيض يصلح للمصدر والمكان والزمان ، تقول . حاضت المرأة تحيض
حيضاً ومحيضاً بنوه على : مفعل ، بكسر العين وفتحها ، وفيما كان على هذا النوع من
الفعل الذي هو يائي العين على : فعل يفعل ، فيه ثلاثة مذاهب .
أحدها : أنه قياسه مفعل . بفتح العين في المراد به المصدر ، وبكسرها في المراد به
المكان أو الزمان ، فيصير : كالمضرب في المصدر ، والمضرب بالكسر ، أي : بكسر الراء
في الزمان والمكان ، فيكون على هذا المحيض ، إذا أريد به المصدر ، شاذاً ، وإذا
أريد به الزمان والمكان كان على القياس .
المذهب الثاني : أنك مخير بين أن تفتح عينه أو تكسره ، كما جاء في هذا المحيض
والمحاض ، وحجة هذا القول أنه كثر في ذلك الوجهان فاقتاسا .
المذهب الثالث : القصر على السماع ، فما قالت فيه العرب : مفعل ، بالسكر أو مفعل
بالفتح لا نتعدّاه ، وهذا هو أولى المذاهب .
وأصل الحيض في اللغة السيلان ، يقال : حاض السيل وفاض ، وقال الفراء : حاضت الشجرة
إذا سال صمغها ، وقال الأزهري : ومن هذا قيل للحوض حوض ، لأن الماء يحيض إليه أي
يسيل ، والعرب تدخل الواو على الياء ، والياء على الواو ، ولأنها من حيز واحد وهو
" صفحة رقم 166 "
الهواء .
الاعتزال : ضد الاجتماع ، وهو التيأس من الشيء والتباعد منه ، وتارة يكون بالبدن ،
وتارة بالقلب ، وهو افتعال من العزل ، وهو تنجية الشيء من الشيء .
أنَّى : اسم ويستعمل شرطاً ظرف مكان ، ويأتي ظرف زمان بمعنى : متى واستفهاماً
بمعنى : كيف ، وهي مبنية لتضمن معنى حرف الشرط ، وحرف الاستفهام ، وهو في موضع نصب
لا يتصرف فيه بغير ذلك البتة .
( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ ( سبب نزولها سؤال عمر ومعاذ ، قالا : يا رسول
الله ، أفتنا في الخمر والميسر ، فإنه مذهبة للعقل ، مسلبة للمال . فنزلت .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنهم لما سألوا عن ماذا ينفقون ؟ فبين لهم مصرف ذلك
في الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ، ثم ذكر تعالى فرض القتال
والجهاد في سبيل الله ، ناسب ذكر سؤالهم عن الخمر والميسر ، إذ هما أيضاً من مصارف
المال ، ومع مداومتهما قل أن يبقى مال فتتصدق به ، أو تجاهد به ، فلذلك وقع السؤال
عنهما .
وقال بعض من ألف في الناسخ والمنسوخ : أكثر العلماء على أنها ناسخة لما كان مباحاً
من شرب الخمر ، وسورة الأنعام مكية ، فلا يعتبر بما فيها من قوله : )
الظَّالِمِينَ قُل لا أَجِدُ ( وقال ابن جبير : لما نزل ) قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ( كره الخمر قوم للإثم ، وشربتها قوم للمنافع ، حتى
نزل : ) لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ( فاجتنبوها في أوقات
الصلاة ، حتى نزل : ) فَاجْتَنِبُوهُ ( فحرمت . قال مكي : فهذا يدل على أن هذه
منسوخة بآية المائدة ، ولا شك في أن نزول المائدة بعد البقرة ، وقال قتادة : ذم
الله الخمر بهذه الآية ولم يحرمها ، وقال بعض الناس : لا يقال إن هذه الآية ناسخة
لما كان مباحاً من شرب الخمر ، لأنه يلزم منه أن الله أنزل إباحتها ، ثم نسخ ، ولم
يكن ذلك ، وإنما كان مسكوتاً عن شربها ، فكانوا جارين في شربها على عادتهم ، ثم
نزل التحريم . كما سكت عنهم في غيرها من المحرمات إلى وقت التحريم .
وجاء : ) وَيَسْئَلُونَكَ ( بواو الجمع وإن كان من سأل اثنين : وهمنا عمرو ومعاذ ،
على ما روي في سبب النزول ، لأن العرب تنسب الفعل الصادر من الواحد إلى الجماعة في
كلامها ، وقد تبين ذلك .
والسؤال هنا ليس عن الذات ، وإنما هو عن حكم هذين من حل وحرمة وانتفاع ، ولذلك جاء
الجواب مناسباً لذلك ، لا جواباً عن ذات .
وتقدم تفسير الخمر في اللغة ، وأما في الشريعة ، فقال الجمهور : كل ما خامر العقل
وأفسده مما يشرب يسمى خمراً ، وقال الرازي ، عن أبي حنيفة : الخمر اسم ما يتخذ من
العنب خاصة ، ونقل عنه السمرقندي : أن الخمر عنده هو اسم ما اتخذ من العنب والزبيب
والتمر ، وقال : إن المتخذ من الذرة والحنطة ليس من الأشربة ، وإنما هو من الأغذية
المشوّشة للعقل : كالبنج والسيكران ، وقيل : الصحيح ، عن أبي حنيفة ، أن القطرة من
هذه الأشربة من الخمر .
وتقدم تفسير الميسر وهو : قمار أهل الجاهلية ، وأما في الشريعة فاسم الميسر يطلق
على سائر ضروب القمار ، والإجماع منعقد على تحريمه ، قال علي ، وابن عباس ، وعطاء
وابن سيرين ، والحسن ، وابن المسيب ، وقتادة ، وطاووس ، ومجاهد ، ومعاوية بن صالح
: كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج وغيره فهو ميسر ، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز
إلا ما أبيح من الرهان في الخيل ، والفرعة في إبراز الحقوق . وقال مالك : الميسر
ميسران : ميسر اللهو فمنه : النرد والشطرنج والملاهي كلها ، وميسر القمار : وهو ما
يتخاطر الناس عليه ، وقال على الشطرنك : ميسر العجم ، وقال القاسم ، كل شيء ألهى
عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر .
( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ). أنزل في الخمر أربع آيات
. ) وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالاْعْنَابِ ( بمكة ثم هذه الآية ، ثم ) لاَ
تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ( ثم ) إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ ( قال القفال : ووقع التحريم على هذا الترتيب ، لأنه تعالى علم أن
القوم كانوا ألفوا شربها والانتفاع بها كثيراً ، فجاء
" صفحة رقم 167 "
التحريم بهذا التدريج ، رفقاً منه تعالى . انتهى ملخصاً .
وقال الربيع : نزلت هذه الآية بعد تحريم الخمر ، واختلف المفسرون : هل تدل هذه
الآية على تحريم الخمر والميسر أم لا تدل ؟ والظاهر أنها تدل على ذلك ، والمعنى :
قل في تعاطيهما إثم كبير ، أي : حصول إثم كبير ، فقد صار تعاطيهما من الكبائر ،
وقد قال تعالى : ) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ ( فما كان إثماً ، أو اشتمل على الإِثم ، فهو حرام ،
والإِثم هو الذنب ، وإذا كان الذنب كثيراً أو كبيراً في ارتكاب شيء لم يجز ارتكابه
، وكيف يقدم على ذلك مع التصريح بالخسران إذا كان الإِثم أكبر من النفع ؟ وقال
الحسن : ما فيه الإِثم محرم ، ولما كان في شربها الإِثم سميت إثماً في قول الشاعر
: شربت الإِثم حتى زل عقلي
كذاك الإِثم يذهب بالعقول
ومن قال : لا تدل على التحريم ، استدل بقوله : ومنافع للناس ، والمحرم لا يكون فيه
منفعة ، ولأنها لو دلت على التحريم لقن الصحابة بها ، وهم لم يقنعوا حتى نزلت آية
المائدة ، وآية التحريم في الصلاة ، وأجيب بأن المحرم قد يكون فيه منفعة عاجلة في
الدنيا ، وبأن بعض الحصابة سأل أن ينزل التحريم بالأمر الواضح الذي لا يلتبس على
أحد ، فيكون آكد في التحريم .
وظاهر الآية الإخبار بأن فيهما إثماً كبيراً . ومنافع حالة الجواب وزمانه ، وقال
ابن عباس ، والربيع : الإِثم فيهما بعد التحريم ، والمنفعة فيهما قبل التحريم ،
فعلى هذا يكون الإثم في وقت ، والمنفعة في وقت ، والظاهر أنه إخبار عن الحال ،
والإثم الذي فيهما هو الذنب الذي يترتب عليه العقاب ، وقالت طائفة : الإثم الذي في
الخمر : ذهاب العقل ، والسباب ، والافتراء ، والتعدّي الذي يكون من شاربها ،
والمنفعة التي في الخمر ، قال الأكثرون : ما يحصل منها من الأرباح والأكساب ، وهو
معنى قول مجاهد : وقيل ما ذكر الأطباء في منافعها من ذهاب الهم ، وحصول الفرح ،
وهضم الطعام ، وتقوية الضعيف ، والإعانة على الباءة ، وتسخية البخيل ، وتصفية
اللون ، وتشجيع الجبان ، وغير ذلك من منافعها . وقد صنفوا في ذلك مقالات وكتباً ،
ويسمونها : الشراب الريحاني ، وقد ذكروا أيضاً لها مضار كثيرة من جهة الطب .
والمنفعة التي في الميسر إيسار القامر بغير كدّ ولا تعب ، وقيل : التوسعة على
المحاويج ، فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور ، ويفرقه على الفقراء . وذكر المفسرون
هنا حكم ما أسكر كثيرُه من غير الخمر العنبية ، وحدّ الشارب ، وكيفية الضرب ، وما
يتوقى من المضروب فلا يضرب عليه ، ولم تتعرض الآية لشيء من ذلك ، وهو مذكور في علم
الفقه .
وقرأ حمزة ، والكسائي : إثم كثير ، بالثاء ، ووصف الإثم بالكثرة إما باعتبار
الآثمين ، فكأنه قيل : فيه للناس آثام ، أي لكل واحد من متعاطيها إثم ، أو باعتبار
ما يترتب على شربها من توالي العقاب وتضعيفه ، فناسب أن ينعت بالكثرة ، أو باعتبار
ما يترتب على شربها مما يصدر من شاربها من الأفعال والأقوال المحرمة ، أو باعتبار
من زوالها من لدن كانت إلى أن بيعت وشربت ، فقد لعن رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) الخمر ، ولعن معها عشرة : بائعها ، ومبتاعها ، والمشتراة له ، وعاصرها ،
ومعتصرها ، والمعصورة له وساقيها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة له ، وآكل ثمنها
. فناسب وصف الإثم بالكثرة بهذا الاعتبار .
وقرأ الباقون : كبير ، بالباء ، وذلك ظاهر ، لأن شرب الخمر والقمار ذنبهما من
الكبائر ، وقد ذكر بعض الناس ترجيحاً لكل قراءة من هاتين القراءتين على الأخرى ،
وهذا خطأ ، لأن كلاً من القراءتين كلام الله تعالى ، فلا يجوز تفضيل شيء منه على
شيء من قبل أنفنسا ، إذ كله كلام الله تعالى .
( وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ( في مصحف عبد الله وقراءته : أكثر ،
بالثاء كما في مصحفه : كثير ، بالثاء المثلثة فيهما .
قال الزمخشري : وعقاب الإثم في تعاطيهما أكبر من
" صفحة رقم 168 "
نفعهما ، وهو الالتذاذ بشرب الخمر ، والقمار ، والطرب فيهما ، والتوصل بهما إلى
مصادقات الفتيان ومعاشراتهم ، والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم ، وسلب
الأموال بالقمار ، والافتخار على الأبرام ؛ وفي قراءة أبي : وإثمهما أقرب ، ومعنى
الكثرة أن : أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة . انتهى كلام
الزمخشري .
وقال ابن عباس ، وسعد بن جبير ، والضحاك ، ومقاتل : إثمهما بعد التحريم أكبر من
نفعهما قبل التحريم ، وقيل : أكبر ، لأن عقابه باق مستمر والمنافع زائلة ، والباقي
أكبر من الفاني .
( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ( تقدّم هذا السؤال وأجيبوا
هنا بذكر الكمية والمقدار ، والسائل في هذه الآية ، قيل : هو عمرو بن الجموح ،
وقيل : المؤمنون وهو الظاهر من واو الجمع .
والنفقة هنا قيل : في الجهاد ، وقيل : في الصدقات ، والقائلون في الصدقات ، قيل :
في التطوع وهو قول الجمهور ، وقيل : في الواجب ، والقائلون في الواجب ، قيل : هي
الزكاة المفروضة ، وجاء ذكرها هنا مجملاً ، وفصلتها السنة . وقيل كان واجباً عليهم
قبل فرض الزكاة أن ينفقوا ما فضل من مكاسبهم عن ما يكفيهم في عامهم ، ثم نسخ ذلك
بآية الزكاة .
والعفو : ما فضل الذي لا سرف فيه ولا تقصير ، قاله الحسن ، أو : الطيب الأفضل ،
قاله الربيع ، أو : الكثير ، من قوله ) حَتَّى عَفَواْ ( أي : كثروا ، قال الشاعر
: ولكنا يعض السيف منها
بأسوق عافيات اللحم كوم
أو : الصفو ، يقال ؛ أتاك عفواً ، أي : صفواً بلا كدر ، قال الشاعر : خذي العفو
مني تستديمي مودتي
ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
أو : ما فضل عن ألف درهم ، أو : قيمة ذلك من الذهب ، وكان ذلك فرض عليهم قبل فرض
الزكاة ، قاله ، قتادة . أو : ما فضل عن الثلث ، أو : عن ما يقوتهم حولاً لذوي
الزراعة ، وشهراً لذوي الفلاحة ، أو : عن ما يقوته يومه للعامل بهذه ، وكانوا
مأمورين بذلك ، فشق عليهم ، ففرضت الزكاة ، أو : الصدقة المفروضة ، قاله مجاهد ، و
: ما لا يستنفد المال ويبقى صاحبه يسأل الناس ، قاله الحسن أيضاً .
وقد روي في حديث الذي جاء يتصدّق ببيضة من ذهب ، حدف رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) إياه بها ، وقوله : ( يجيء أحدكم بماله كله يتصدّق به ويقعد يتكفف الناس
، إنما الصدقة على ظهر غنى ) . وفي حديث سعد : ( لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن
تذرهم عالة يتكففون الناس ) .
وقال الزمخشري : العفو نقيض الجهد ، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد ،
واستفراغ الوسع ؛ وقال ابن عطية : المعنى : أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا
فيه أنفسكم فتكونوا عالة ؛ وقال الراغب : العفو متناول لما هو واجب ولما هو تبرع ،
وهو الفضل عن الغنى ، وقال الماتريدي : الفضل عن القوت .
وقرأ الجمهور : العفو ، بالنصب وهو منصوب بفعل مضمر تقديره : قل ينفقون العفو ، وعلى
هذا الأولى في قوله : ماذا ينفقون ؟ أن يكون ماذا في موضع نصب ينفقون ، ويكون كلها
استفهامية ، التقدير : أي شيء ينفقون ؟ فاجيبوا بالنصب ليطابق الجواب السؤال .
ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، وذا موصولة بمعنى الذي ، وهي
خبره ، ولا يكون ولا يكون إذ ذاك الجواب مطابقاً للسؤال من حيث اللفظ ، بل من حيث
المعنى ، ويكون العائد على الموصول محذوفاً لوجود شرط الحذف فيه ، تقديره : ما
الذي ينفقونه ؟ .
وقرأ أبو عمر ، و : قل العفو ، بالرفع ، والأولى إذ ذاك أن تكون خبر مبتدأ محذوف
تقديره : قل المنفق العفو ، وأن يكون : ما ، في موضع رفع بالإبتداء ، و : ذا ،
موصول ، كما
" صفحة رقم 169 "
قررناه ليطابق الجواب السؤال ، ويجوز أن يكون ماذا كله استفهاماً منصوباً بينفقون
، وتكون المطابقة من حيث المعنى لا من جهة اللفظ ، واختلف عن ابن كثير في العفو ،
فروي عنه النصب كالجمهور ، والرفع كأبي عمرو .
وقال ابن عطية ، وقد ذكر القراءتين في العفو ما نصبه : وهذا متركب على : ما ، فمن
جعل ما ابتداء ، وذا خبره بمعنى الذي ، وقدّر الضمير في ينفقونه عائداً قرأ العفو
بالرفع لتصح مناسبة الحمل ، ورفعه على الابتداء تقديره : العفو إنفاقكم ، أو الذي
ينفقون العفو ، ومن جعل ماذا إسماً واحداً مفعولاً : ينفقون ، قرأ العفو بالنصب
بإضمار فعل ، وصح له التناسب ، ورفع العفو مع نصب : ما ، جائز ضعيف ، وكذلك نصبه
مع رفعها . انتهى كلامه . وتقديره : العفو إنفاقكم ، ليس بجيد ، لأنه أتى بالمصدر
، وليس السؤال عن المصدر ، وقوله : جائز ، ضعيف ، وكذلك نصبه مع رفعها ليس كما ذكر
، بل هو جائز ، وليس بضعيف .
( كَذالِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى
الدُّنُيَا وَالاْخِرَةِ ( الكاف للتشبيه وهي في موضع نعت لمصدر محذوف ، أو في
موضع الحال على مذهب سيبويه ، أي : تبيينا مثل ذلك يبين ، أو في حال كونه منها ذلك
التبيين يبينه ، أي : يبين التبيين مماثلاً لذلك التبيين ، واسم الاشارة الأقرب أن
يعود إلى الأقرب من تبينه حال المنفق ، قاله ابن الأنبارى ، وقال الزمخشري : ما
يؤول إليه وهو تبيين أن العفو أصلح من الجهد في النفقة . أو حكم الخمر والميسر ،
والإنفاق القريب أي : مثل ما يبين في هذا يبين في المستقبل ، والمعنى : أنه يوضح
الآيات مثل ما أوضح هذا ، ويجوز أن يشار به إلى بيان ما سألوا عنه ، فبين لهم
كتبيين مصرف ما ينفقون ، وتبيين ما ترتب عليه من الجزاء الدال عليه علم الله في
قوله : ) فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( وتبيين حكم القتال ، وتبيين حاله في
الشهر الشهر الحرام ، وما تضمنته الآية التي ذكر في القتال في الشهر الحرام ،
وتبيين حال الخمر والميسر ، وتبيين مقدار ما ينفقون .
وأبعَدَ من خص اسم الإشارة ببيان حكم الخمر والميسر فقط ، وأبعد من ذلك من جعله
إشارة إلى بيان ما سبق في السورة من الأحكام .
وكاف الخطاب إما أن تكون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو للسامع أو للقبيل ،
فلذلك أفرد أو للجماعة المؤمنين فيكون بمعنى : كذلكم ، وهي لغة العرب يخاطبون
الجمع بخطاب الواحد ، وذلك في إسم الإشارة ، ويؤيد هذا هنا قوله : ) يُبَيّنُ
لَكُمْ ( فأتى بضمير الجمع فدل على أن الخطاب للجمع .
( لَكُمْ ( متعلق : بيبين ، واللام فيها للتبليغ ، كقولك : قلت لك ، ويبعد فيها
التعليل ، والآيات ، العلامات ، والدلائل لعلكم تتفكرون ، ترجئة للتفكر تحصل عند
تبيين الآيات . لأنه متى كانت الآية مبينة وواضحة لا لبس فيها ، ترتب عليها التفكر
والتدبر فيما جاءت له تلك الآية الواضحة من أمر الدنيا وأمر الآخرة .
البقرة : ( 220 ) في الدنيا والآخرة . . . . .
و ) فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَةِ ( الأحسن أن يكون ظرفاً للتفكر ومتعلقاً به ،
ويكون توضيح الآيات لرجاء التفكر في أمر الدنيا والآخرة مطلقاً ، لا بالنسبة إلى
شيء مخصوص من أحوالها ، بل ليحصل التفكر فيما يعنّ من أمرهما ، وهذا ذكر معناه
أولاً الزمخشري فقال : تتفكرون فيما يتعلق بالدارين ، فتأخذون بما هو أصلح لكم ،
وقيل : تتفكرون في أوامر الله ونواهيه ، وتستدركون طاعته في الدنيا ، وثوابه في
الآخرة ، وقال المفضل بن سلمة : تتفكرون في أمر النفقة في الدنيا والآخرة ،
فتمسكون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا ، وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في
العقبى ، وقيل : تتفكرون في زوال الدنيا وبقاء الآخرة ، فتعملون للباقي منهما .
قال معناه ابن عباس والزمخشري ، وقيل : تتفكرون في منافع الخمر في الدنيا ،
ومضارها في الآخرة ، فلا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب المستمر ،
وقال قريباً منه الزمخشري ، وقيل : تتفكرون في الدنيا فتمسكون ، وفي الآخرة
فتتصدّقون .
وجوّزوا أن يكون ، في الدنيا ، متعلقاً بقوله
" صفحة رقم 170 "
يبين لكم . الآيات ، لا : ب يتفكرون ، ويتعلق بلفظ : يبين ، أي : يبين الله في
الدنيا والآخرة . وروي هذا عن الحسن .
ولا بد من تأويل على هذا إن كان التبيين للآيات يقع في الدنيا ، فيكون التقدير في
أمر الدنيا والآخرة ، وإن كان يقع فيهما ، فلا يحتاج إلى تأويل ، لأن الآيات ، وهي
: العلامات يظهرها الله تعالى في الدنيا والآخرة .
وجعل بعضهم هذا القول من باب التقديم والتأخير ، إذ تقديره عنده كذلك : ويمكن
الحمل على ظاهر الكلام لتعلق : في الدنيا والآخرة ، بتتفكرون ، ففرض التقديم
والتأخير ، على ما قاله الحسن ، يكون عدولاً عن الظاهر لا الدليل ، وإنه لا يجوز ،
وليس هذا من باب التقديم والتأخير ، لأن : لعل ، هنا جارية مجرى التعليل ، فهي
كالمتعلقة : بيبين ، وإذا كانت كذلك فهي والظرف من مطلوب : يبين ، وتقدّم أحد
المطلوبين ، وتأخر الآخر ، لا يكون ذلك من باب التقديم والتأخير .
ويحتمل أن تكون : لعلكم تتفكرون ، جملة اعتراضية ، فلا يكون ذلك من باب التقديم
والتأخير ، لأن شرط جملة الإعتراض أن تكون فاصلة بين متقاضيين .
قال ابن عطية ، وقال مكي : معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة ،
يدل عليهما وعلى منزلتهما ، لعلكم تتفكرون في تلك الآيات . قال ابن عطية : فقوله :
في الدنيا ، متعلق على هذا التأويل : بالآيات ، انتهى كلامه . وشرح مكي الآية بأن
جعل الآيات منكرة ، حتى يجعل الظرفين صفة للآيات ، والمعنى عنده : آيات كائنة في
الدنيا والآخرة ، وهو شرح معنى لا شرح إعراب ، وما ذكره ابن عطية من أنه متعلق على
هذا التأويل بالآيات ؛ إن عنى ظاهر ما يريده النحاة بالتعلق فهو فاسد ، لأن الآيات
لا يتعلق بها جار ومجرور ، ولا تعمل في شيء البتة ، وإن عنى أنه يكون الظرف من
تمام الآيات ، وذلك لا يتأتى إلاَّ باعتقاد أن تكون في موضع الحال ، أي : كائنة في
الدنيا والآخرة ، ولذلك فسره مكي بما يقتضي أن تكون صفة ، إذ قدّر الآيات منكرة ،
والحال والصفة سواء في أن العامل فيهما محذوف إذا كانا ظرفين أو مجرورين ، فعلى
هذا تكون : في الدنيا ، متعلقاً بمحذوف لا بالآيات ، وعلى رأي الكوفيين ، تكون
الآيات موصولاً وصل بالظرف ؛ ولتقرير مذهبهم ورده موضع غير هذا .
( فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ ( : سبب نزولها أنهم كانوا في الجاهلية يتحرجون من
مخالطة اليتامى في مأكل ومشرب وغيرهما ، ويتجنبون أموالهم ، قاله الضحاك ، والسدي
. وقيل : لما نزلت ) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ( ) إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ( تجنبوا اليتامى وأموالهم ، وعزلوهم عن أنفسهم
فنزلت ، قاله ابن عباس ، وابن المسيب .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر ، وكان تركهما
مدعاة إلى تنمية المال ، وذكر السؤال عن النفقة ، وأجيبوا بأنهم ينفقون ما سهل
عليهم ، ناسب ذلك النظر في حال اليتيم ، وحفظ ماله ، وتنميته ، وإصلاح اليتيم
بالنظر في تربيته ، فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم
أنفسهم ، وفي النظر في حال اليتامى إصلاحاً لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه ،
فيكون قد جمعوا بين النفع لأنفسهم ولغيرهم .
والظاهر أن السائل جمع الإثنين بواو الجمع وهي للجمع به وقيل به .
وقال مقاتل : السائل ثابت بن رفاعة الأنصاري ، وقيل : عبد الله بن رواحة ، وقيل :
السائل من كان بحضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من المؤمنين ، فإن العرب كانت
تتشاءم بخلط أموال اليتامى بأموالهم ، فأعلم تعالى المؤمنين أنما كانت مخالطتهم
مشؤومة لتصرفهم في أموالهم تصرفاً غير سديد ، كانوا يضعون الهزيلة مكان السمينة ،
ويعوضون التافه عن النفيس ، فقال تعالى : ) قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ (
الإصلاح لليتيم يتناول إصلاحه بالتعليم والتأديب ، وإصلاح ما له بالتنمية والحفظ .
وإصلاح : مبتدأ وهو نكرة ، ومسوغ
" صفحة رقم 171 "
جواز الإبتداء بالنكرة هنا هو التقييد بالمجرور الذي هو : لهم ، فإما أن يكون على
سبيل الوصف ، أو على سبيل المعمول للمصدر ، و : خير ، خبر عن إصلاح ، وإصلاح كما
ذكرنا مصدر حذف فاعله ، فيكون : خير ، شاملاً للإصلاح المتعلق بالفاعل والمفعول ،
فتكون الخيرية للجانبين معاً ، أي إن إصلاحهم لليتامى خير للمصلح ، والمصلح
فيتناول حال اليتيم ، والكفيل ، وقيل : خير للولي ، والمعنى : إصلاحه من غير عوض
ولا أجرة خير له وأعظم أجراً ، وقيل : خير ، عائد لليتيم ، أي : إصلاح الولي
لليتيم ، ومخالطته له ، خير لليتيم من إعراض الولي عنه ، وتفرده عنه ، ولفظ : خير
، مطلق فتخصيصه بأحد الجانبين يحتاج إلى مرجح ، والحمل على الإطلاق أحسن .
وقرأ طاووس : قل إصلاح إليهم ، أي : في رعاية المال وغيره خير من تحرجكم ، أو خير
في الثواب من إصلاح أموالكم .
( وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ( هذا التفات من غيبة إلى خطاب لأن قبله و
: يسألونك ، قالوا وضمير للغائب ، وحكمة هذا الالتفات ما في الإقبال بالخطاب على
المخاطب ليتهيأ لسماع ما يلقى إليه وقبوله والتحرز فيه ، فالواو ضمير الكفلاء ،
وهم ضمير اليتامى ، والمعنى : أنهم إخوانكم في الدين ، فينبغي أن تنظروا لهم كما
تنظرون لإخوانكم من النسب من الشفقة والتلطف والإصلاح لذواتهم وأموالهم .
والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو الامتزاج ، والمعنى : في المأكل ، فتجعل نفقة
اليتيم مع نفقة عياله بالتحري ، إذ يشق عليه إفراده وحده بطعامه ، فلا يجد بداً من
خلطه بماله لعياله ، فجاءت الآية بالرخصة في ذلك ، قاله أبو عبيد . أو : المشاركة
في الأموال والمتاجرة لهم فيها ، فتتناولون من الربح ما يختص بكم ، وتتركون لهم ما
يختص بهم . أو : المصاهرة فإن كان اليتيم غلاماً زوجه ابنته ، أو جارية زوجها ابنه
ورجح هذا القول بأن هذا خلطة لليتيم نفسه ، والشركة خلطة لماله ، ولأن الشركة
داخلة في قوله : ) قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ( ولم يدخل فيه الخلط من جهة
النكاح ، فحمله على هذا الخلط أقرب . وبقوله : فإخوانكم في الدين ، فإن اليتيم إذا
كان من أولاد الكفار وجب أن يتحرى صلاح ماله كما يتحرى في المسلم ، فوجب أن تكون
الإشارة بقوله : فإخوانكم ، إلى نوع آخر من المخالطة ، وبقوله بعد : ولا تنكحوا
المشركات ، فكأن المعنى : إن المخالطة المندوب إليها في اليتامى الذين هم لكم
إخوان بالإسلام . أو الشرب من لبنه وشربه من لبنك ، وأكلك في قصعته وأكله في قصعتك
، قاله ابن عباس . أو : خلط المال بالمال في النفقة والمطعم والمسكن والخدم
والدواب ، فيتناولون من أموالهم عوضاً عن قيامكم بأمورهم ، بقدر ما يكون أجرة مثل
ذلك في العمل ، والقائلون بهذا منهم من جوّز له ذلك ، سواء كان القيم غنياً
وفقيراً ، ومنهم من قال : إذا كان غنياً لم يأكل من ماله . أو : المضاربة التي
يحصل بها تنمية أموالهم . والذي يظهر أن المخالطة لم تقيد بشيء لم يقل في كذا
فتحمل على أي : مخالطة كانت مما فيه إصلاح لليتيم ، ولذلك قال : فإخوانكم ، أي :
تنظرون لهم نظركم إلى إخوانكم مما فيه إصلاحهم .
وقد اكتنف هذه المخالطة الإصلاح قبل وبعد ، فقبل بقوله : ) قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ
خَيْرٌ ( وبعد بقوله : ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ (
فالأولى أن يراد بالمخالطة ما فيه إصلاح لليتيم بأي : طريق كان ، من مخالطة في
مطعم أو مسكن أو متاجرة أو مشاركة أو مصاهرة أو غير ذلك .
وجواب الشرط فإخوانكم ، وهو خبر مبتدأ محذوف أي : فهم إخوانكم ، وقرأ أبو مجلز :
فإخوانكم على إضمار فعل التقدير : فتخالطون إخوانكم ، وجاء جواب السؤال بجملتين :
إحداهما : منعقدة من مبتدأ وخبر ؛ والثانية : من شرط وجزاء .
فالأولى : تتضمن إصلاح اليتامى وأنه خير ، وأبرزت ثبوتية منكراً مبتدأها ليدل على
تناوله كل إصلاح على طريق البدلية ، ولو أضيف عم ، أو لكان معهوداً في إصلاح خاص ،
فالعموم لا يمكن وقوعه ، والمعهود لا يتناول غيره ، فلذلك جاء التنكير الدال على
عموم البدل ، وأخبر عنه : بخير ، الدال على تحصيل الثواب ، لتبادر المسلم إلى فعل
ما فيه الخير طلباً لثواب الله تعالى .
وأبرزت الثانية : شرطية لأنها أتت لجواز الوقوع لا لطلبه وندبته .
ودل الجواب الأول على ضروب من الأحكام مما فيه مصلحة اليتيم ، لجواز تعليمه أمر
دين وأدب ، والاستئجار له على ذلك ، وكالإنفاق عليه من ماله ، وقبول ما يوهب له ،
وتزويجهم مؤاجرته ، وبيعه ماله لليتيم ، وتصرفه في ماله بالبيع والشراء ، وفي عمله
فيه بنفسه مضاربة ، ودفعه إلى غيره مضاربة ، وغير ذلك من التصرفات المنوطة
بالإصلاح .
" صفحة رقم 172 "
ودل الجواب الثاني على جواز مخالطة اليتامى بما فيه إصلاح لهم ، فيخلطه بنفسه في
مناكحه وماله بماله في مؤونة وتجارة وغيرهما .
قيل : وقد انتظمت الآية على جواز المخالطة ، فدلت على جواز المباهدة التي يفعلها
المسافرون في الأسفار ، وهي أن يخرج هذا شيئاً من ماله ، وهذا شيئاً من ماله فيخلط
وينفق يأكل الناس ، وإن اختلف مقدار ما يأكلون ، وإذا أبيح لك في مال اليتيم فهو
في مال البالغ بطيب نفسه أجوز .
ونظير جواز المناهدة قصة أهل الكهف : ) فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ (
الآية ، وقد اختلف في بعض الأحكام التي قدمناها ، فمن ذلك : شراء الوصي من مال
اليتيم ، والمضاربة فيه ، وإنكاح الوصي بيتيمته من نفسه ، وإنكاح اليتيم لابنته ،
وهذا مذكور في كتب الفقه .
وجعلهم إخواناً لوجهين : أحدهما : أخوة الدين ، والثاني : لانتفاعهم بهم ، إما في
الثواب من الله تعالى وإما بما يأخذونه من أجرة عملهم في أموالهم ، وكل من نفعك
فهو أخوك .
وقال الباقر لشخص : رأيتك في قوم لم أعرفهم ، فقال : هم إخواني ، فقال : أفيهم من
إذا احتجت أدخلت يدك في كمه فأخذت منه من غير استئذان ؟ قال : لا ، قال : إذن لستم
بإخوان .
وفي قوله : ) فَإِخوَانُكُمْ ( دليل على أن أطفال المؤمنين مؤمنون في الأحكام
لتسمية الله تعالى إياهم إخواناً لنا .
( وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ( جملة معناها التحذير ، أخبر
تعالى فيها أنه عالم بالذي يفسد من الذي يصلح ، ومعنى ذلك : أنه يجازي كلاً منهما
على الوصف الذي قام به ، وكثيراً ما ينسب العلم إلى الله تعالى على سبيل التحذير ،
لأن من علم بالشيء جازى عليه ، فهو تعبير بالسبب عن المسبب ، و : يعلم ، هنا متعدٍ
إلى واحد ، وجاء الخبر هنا بالفعل المقتضى للتجدد ، وإن كان علم الله لا يتحدد ،
لأنه قصد به العقاب والثواب للمفسد والمصلح ، وهما وصفان يتجدّدان من الموصوف بهما
، فتكرر ترتيب الجزاء عليهما لتكررهما ، وتعلق العمل بالمفسد أولاً ليقع الامساك
عن الإفساد .
ومن ، متعلقة بيعلم على تضمين ما يتعدّى بمن ، كأن المعنى : والله يميز بعلمه
المفسد من المصلح .
وظاهر الألف واللام أنها للاستغراق في جميع أنواع المفسد والمصلح ، والمصلح في مال
اليتيم من جملة مدلولات ذلك ، ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد ، أي : المفسد في
مال اليتيم من المصالح فيه ، والمفسد بالإهمال في تربيته من المصلح له بالتأديب ،
وجاءت هذه الجملة بهذذا التقسيم لإن المخالطة على قسمين : مخالطة بإفساد ، ومخالطة
بإصلاح . ولأنه لما قيل : ) قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ( فهم مقابله ، وهو أن
الإفساد شر ، فجاء هذا التقسيم باعتبار الإصلاح . ومقابله ) وَلَوْ شَاء اللَّهُ
لاعْنَتَكُمْ ( أي : لأخرجكم وشدد عليكم قاله ابن عباس ، والسدّي وغيرهما ، أو :
لأهلككم ، قاله أبو عبيدة ، أو : لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً قاله ،
ابن عباس ، وهو معنى ما قبله ، أو : لكلفكم ما يشق عليكم ، قاله الزجاج ، أو :
لآثمككم بمخالطتهم أو : لضيق عليكم الأمر في مخالطتهم ، قاله عطاء ، أو : لحرم
عليكم مخالطتهم ، قاله ابن جرير . وهذه أقوال كلها متقاربة .
ومفعول : شاء ، محذوف لدلالة الجواب عليه ، التقدير : ولو شاء الله إعناتكم ،
واللام في الفعل الموجب الأكثر في لسان العرب المجيء بها فيه ، وقرأ الجمهور
لأعنتكم بتخفيف الهمزة ، وهو الأصل ، وقرأ البزي من طريق أبي ربيعة ( بتليين
الهمزة ) وقرىء بطرح الهمزة والقاء حركتها على اللام كقراءة من قرأ : فلا اثم عليه
، بطرح الهمزة .
قال أبو عبد الله نصر بن على المعروف بابن مريم : لم يذكر ابن مجاهد هذا الحرف ،
وابن كثير لم يحذف الهمزة ، وإنما لينها وحققها ، فتوهموا أنها محذوفة ، فإن
الهمزة همزة قطع فلا تسقط حالة الوصل كما تسقط همزات الوصل عند الوصل . إنتهى
كلامه . فجعل إسقاط الهمزة وهماً ، وقد نقلها غيره قراءة كماذ كرناه .
وفي هذه الجملة الشرطية إعلام وتذكير بإحسان الله وإنعامه على أوصياء اليتامى ، إذ
أزال إعناتهم
" صفحة رقم 173 "
ومشقتهم في مخالطتهم ، والنظر في أحوالهم وأموالهم .
( أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( قال الزمخشري : عزيز غالب يقدر على أن يعنت
عباده ويحرجهم ، لكنه حكيم لا يكلف إلاَّ ما تتسع فيه طاقتهم . وقال ابن عطية :
عزيز لا يرد أمره ، وحكيم أي محكم ما ينفذه . إنتهى .
في وصفه تعالى بالعزة ، وهو الغلبة والإستيلاء ، إشارة إلى أنه مختص بذلك لا يشارك
فيه ، فكأنه لما جعل لهم ولاية على اليتامى نبهم على أنهم لا يقهرونهم ، ولا
يغالبونهم ، ولا يستولون عليهم استيلاء القاهر ، فإن هذا الوصف لا يكون إلاَّ لله
.
وفي وصفه تعالى بالحكمة إشارة إلى أنه لا يتعدّى ما أذن هو تعالى فيهم وفي أموالهم
، فليس لكم نظر إلاَّ بما أذنت فيه لكم الشريعة ، واقتضته الحكمة الإلهية . إذ هو
الحكيم المتقن لما صنع وشرع ، فالإصلاح لهم ليس راجعاً إلى نظركم ، إنما هو راجع
لاتباع ما شرع في حقهم .
البقرة : ( 221 ) ولا تنكحوا المشركات . . . . .
( وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( قال ابن عباس : نزلت في
عبد الله بن رواحة ، أعتق أمة وتزوّجها ، وكانت مسلمة ، فطعن عليه ناس من المسلمين
، فقالوا : نكح أمة ، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين رغبة في أحسابهم ،
فنزلت . وقال مقاتل : نزلت في أبي مرثد الغنوي ، واسمه كناز بن الحصين ، وفي قول :
إنه مرثد بن أبي مرثد ، وهو حليف لبني هاشم استأذن أن يتزوّج : عناق ، وهي امرأة
من قريش ذات حظ من جمال ، مشركة ، وقال : يا رسول الله إنها تعجبني ، وروي هذا
السبب أيضاً عن ابن عباس بأطول من هذا .
وقيل : نزلت في حسناء وليدة سوداء لحذيفة بن اليمان ، أعتقها وتزوّجها ، ويحتمل أن
يكون السبب جميع هذه الحكايات .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى حكم اليتامى في المخالطة ، وكانت
تقتضي المناكحة وغيرها مما يسمى مخالطة . حتى إن بعضهم فسرها بالمصاهرة فقط ، ورجح
ذلك كما تقدم ذكره ، وكان من اليتامى من يكون من أولاد الكفار ، نهى الله تعالى عن
مناكحة المشركات والمشركين ، وأشار إلى العلة المسوّغة للنكاح ، وهي : الأخوة
الدينية ، فنهى عن نكاح من لم تكن فيه هذه الأخوة ، واندرج يتامى الكفار في عموم
من أشرك .
ومناسبة أخرى : أنه لما تقدم حكم الشرب في الخمر ، والأكل في الميسر ، وذكر حكم
المنكح ، فكما حرم الخمر من المشروبات ، وما يجر إليه الميسر من المأكولات ، حرّم
المشركات من المنكوحات .
وقرأ الجمهور : ولا تنكحوا ، بفتح التاء من نكح ، وهو يطلق بمعنى العقد ، وبمعنى
الوطء بملك وغيره ؛ وقرأ الأعمش : ولا تنكحوا بضم التاء من انكح ، أي : ولا تنكحوا
أنفسكم المشركات . والمشركات هنا : الكفار فتدخل الكتابيات ، ومن جعل مع الله
إلهاً آخر وقيل : لا تدخل الكتابيات ، والصحيح دخولهنّ لعبادة اليهود عزيراً ،
والنصارى عيسى ، ولقوله : ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( وهذا
القول الثاني هو قول جل المفسرين .
وقيل : المراد مشركات العرب ، قاله قتادة .
فعلى قول من قال : إنه تدخل فيهنّ الكتابيات ، يحتاج إلى مجوّز نكاحهنّ فروي عن
ابن عباس أنه عموم نسخ ، وعن مجاهد عموم خص منه الكتابيات ، وروي عن ابن عباس : أن
الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات ، وكل من على غير دين الإسلام ،
ونكاحهنّ حرام .
والآية محكمة على هذا ، ناسخة لآية المائدة . وآية المائدة متقدمة في النزول على
هذه الآية ، وإن كانت متأخرة في التلاوة ، ويؤكد هذا قول ابن عمر في ( الموطأ ) :
ولا أعلم إشراكاً أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى . وروي أن طلحة بن عبيد الله
نكح يهودية ، وأن حذيفة نكح نصرانية ، وان عمر غضب عليهما غضباً شديداً حتى هَمَّ
أن يسطو عليهما ، وتزوّج عثمان نائله بنت الفرافصة ، وكانت نصرانية .
ويجوز نكاح الكتابيات ، قال جمهور الصحابة والتابعين ، عمر ، وعثمان ، وجابر ، وطلحة
، وحذيفة ، وعطاء ، وابن المسيب ، والحسن ، وطاووس ، وابن جبير ، والزهري ، وبه
قال الشافعي : وعامة أهل المدينة والكوفة ، قيل : أجمع علماء الأمصار على جواز
تزويج الكتابيات ، غير أن مالكاً وإبن حنبل كرها ذلك مع وجود المسلمات والقدرة على
نكاحهن .
واختلف في تزويج المجوسيات ، وقد تزوّج حذيفة بمجوسية ، وفي كونهم أهل كتاب خلاف ،
وروي عن
" صفحة رقم 174 "
جماعة أن لهم نبياً يسمى زرادشت ، وكتاباً قديماً رفع ، روي حديث الكتاب عن علي ،
وابن عباس ، وذكر لرفعه وتغيير شريعتهم سبب طويل ، والله أعلم بصحته .
ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب الفقه ، وظاهر النهي في قوله : ولا تنكحوا
التحريم ، وقيل : هو نهي كراهة حتى يؤمن ، غاية للمنع من نكاحهنّ ، ومعنى إيمانهنّ
اقرارهنّ بكلمتي الشهادة التزام شرائع الإسلام .
( وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ ( الظاهر أنه أريد بالأمة الرقيقة
، ومعنى : خير من مشركة ، أي : من حرة مشركة ، فحذف الموصوف لدلالة مقابله عليه ،
وهو أمة ، وقيل : الأمة هنا بمعنى بالمرأة ، فيشمل الحرّة والرقيقة ، ومنه : ( لا
تمنعوا إماء الله مساجد الله ) . وهذا قول الضحاك : ولم يذكر الزمخشري غيره ، وفي
هذا دليل على جواز نكاح الأمُّة المؤمنة ، ومفهوم الصفة يقتضي أنه لا يجوز نكاح
الأمة الكافرة ، كتابية كانت أو غيرها ، وهذا مذهب مالك وغيره ؛ وأجاز أبو حنيفة
وأصحابه نكاح الأمة المجوسية خلاف : مذهب مالك وجماعة أنه لا يجوز أن توطأ بنكاح
ولا ملك ، وروي عن عطاء ، وعمرو بن دينار أنه لا بأس بنكاحها بملك اليمين ،
وتأولاً : ) وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ ( على العقد لا على الأمة المشتراة
، واحتجَّا بسبي أوطاس ، وأن الصحابة نكحوا الإماء منهم بملك اليمين .
قيل : وفي هذه الآية دليل لجواز نكاح القادر على طول الحرّة المسلمة للأمة المسلمة
، ووجه الاستدلال أن قوله : ) خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ ( معناه من : حرة مشركة ،
وواجد طول الحرة المشركة واجد لطول الحرّة المسلمة ، لأنه لا يتفاوت الطولان
بالنسبة إلى الإيمان والكفر ، فقدر المال المحتاج إليه في أهبة نكاحها سواء ،
فيلزم من هذا أن واجد طول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة المسلمة وهذا استدلال
لطيف .
وأمة : مبتدأ ، أو مسوّغ جواز الابتداء الوصف ، و : خير ، خبر . وقد استدل بقوله :
خير ، على جواز نكاح المشركة لأن أفعل التفضيل يقتضي التشريك ، ويكون النهي أوّلاً
على سبيل الكراهة ، قالوا : والخيرية إنما تكون بين شيئين جائزين ، ولا حجة في ذلك
، لأن التفضيل قد يقع على سبيل الإعتقاد . لا على سبيل الوجود ، ومنه : )
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( و : العسل أحلى من الخل ؛
وقال عمر ، في رسالته لأبي موسى : الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ،
ويحتمل إبقاء الخيرية على الاشتراك الوجودي ، ولا يدل ذلك على جواز النكاح بأن
نكاح المشركة يشتمل على منافع دنيوية ، ونكاح الأمة المؤمنة على منافع أخروية فقد
اشترك النفعان في مطلق النفع أصلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى ، فالحكم بهذا النفع
الدنيوي لا يقتضي التسويغ ، كما أن الخمر والميسر فيهما منافع ، ولا يقتضي ذلك
الإباحة ، وما من شيء محرم إلاَّ يكاد يكون فيه نفع مّا .
وهذه التأويلات في أفعل التفضيل هو على مذهب سيبويه والبصريين في أن لفظة : أفعل ،
التي للتفضيل ، لا تصح حيث لا اشتراك ، كقولك : الثلج أبرد من النار ، والنور أضوأ
من المظلمة ؛ وقال الفراء وجماعة من الكوفيين : يصح حيث الاشتراك ، وحيث لا يكون
اشتراك ؛ وقال إبراهيم بن عرفة : لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجاباً للأوّل
، ونفياً عن الثاني ، فعلى قول هو لا يصح أن لا يكون خير في المشركة وإنما هو في
الأمة المؤمنة .
( وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ( لو : هذه بمعنى إن الشرطية ، نحو : ( ردّوا السائل ولو
بظلف شاة محرق ) . والواو في : ولو ، للعطف على حال محذوفة ، التقدير : خير من
مشركة على كل حال ، ولو في هذه الحال ، وقد ذكرنا أن هذا يكون لاستقصاء الأحوال ،
وأن ما بعد لو هذه إنما يأتي وهو مناف لما قبله بوجه مّا ، فالإعجاب منافٍ لحكم
الخيرية ، ومقتضٍ جواز النكاح لرغبة الناكح فيها ، وأسند الإعجاب إلى ذات المشركة
، ولم يبين المعجب منها ، فالمراد مطلق الإعجاب ، إما
" صفحة رقم 175 "
لجمال ، أو شرف ، أو مال أو غير ذلك مما يقع به الإعجاب .
والمعنى : أن المشركة ، وإن كانت فائقة في الجمال والمال والنسب ، فالأمة المؤمنة
خير منها ، لأن ما فاقت به المشركة يتعلق بالدنيا ، والإيمان يتعلق بالآخرة ،
والآخرة خير من الدنيا ، فبالتوافق في الدين تكمل المحبة ومنافع الدنيا من الصحبة
والطاعة وحفظ الأموال والأولاد ، وبالتباين في الدين لا تحصل المحبة ولا شيء من
منافع الدنيا .
( وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ ( القراءة بضم التاء إجماع
من القراء ، والخطاب للأولياء ، والمفعول الثاني محذوف ، التقدير : ولا تنكحوا
المشركين المؤمنات . وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه مّا ، والنهي
هنا للتحريم ، وقد استدل بهذا الخطاب على الولاية . في النكاح وأن ذلك نص فيها .
( وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ( : الكلام في
هذه الجملة كالكلام في الجملة التي قبلها ، والخلاف في المراد بالعبد : أهو بمعنى
الرقيق أم بمعنى الرجل ؟ كهو في الأمة هناك ، وهل المعنى : خير من حر مشرك ، حتى
يقابل العبد ؟ أو من مشرك على الإطلاق فيشمل العبد والحر ، كما هو في قوله : خير
من مشركة ؟
) أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ( هذه إشارة إلى الصنفين ، المشركات
والمشركين ، و : يدعون ، يحتمل أن يكون الدعاء بالقول ، كقول : ) وَقَالُواْ
كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ( ويحتمل أن لا يكون القول ، بل بسبب
المحبة والمخالطة تسرق إليه من طباع الكفار ما يحمله على الموافقة لهم في دينهم ،
والعياذ بالله ، فتكون من أهل النار .
وقيل : معناه يدعون إلى ترك المحاربة والقتال ، وفي تركهما وجوب استحقاق النار ،
وتفرق صاحب هذا التأويل بين الذمّية وغيرها ، فإن الذمّية لا يحمل زوجها على
المقاتلة .
وقيل : المعنى أن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيوافق ، فيكون من
أهل النار ، والذي يدل عليه ظاهر الآية : أن الكفار يدعون إلى النار قطعاً ، إما
بالقول . وأما أن تؤدي إليه الخلطة ، والتآلف والتناكح ، والمعنى : أن من كان
داعياً إلى النار يجب اجتنابه لئلا يستميل بدعائه دائماً معاشره فيجيبه إلى ما
دعاه ، فيهلك .
وفي هذه الآية تنبيه على العلة المانعة من المناكحة في الكفار ، لما هم عليه من
الالتباس بالمحرّمات من : الخمر والخنزير ، والانغماس في القاذورات ، وتربية النسل
وسرقة الطباع من طباعهم ، وغير ذلك مما لا تعادل فيه شهوة النكاح في بعض ما هم
عليه ، وإذا نظر إلى هذه العلة فهي موجودة في كل كافر وكافرة فتقتضي المنع من
المناكحة مطلقاً . وسيأتي الكلام في سورة المائدة إن شاء الله تعالى ، ونبدي هناك
ان شاء الله كونها لا تعارض هذه .
و : إلى ، متعلق بيدعون كقوله : ) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ (
ويتعدى أيضاً باللام ، كقوله .
دعوت لما نابني مسوراً
ومفعول يدعون محذوف : إما اقتصاراً إذا المقصود إثبات أن من شأنهم الدعاء إلى
النار من غير ملاحظة مفعول خاص ، وإما اختصاراً ، فالمعنى : أولئك يدعونكم إلى
النار .
( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ ( هذا مما يؤكد منع مناكحة
الكفار ، إذ ذكر قسمان : أحدهما يجب اتباعه ، وآخر يجب اجتنابه ، فتباين القسمان ،
ولا يمكن إجابة دعاء الله واتباع ما أمر به إلاَّ باجتناب دعاء الكفار وتركهم
رأساً ، ودعاء الله إلى اتباع دينه الذي هو سبب في دخول الجنة ، فعبر بالمسبب عن
السبب لترتبه عليه .
وظاهر الآية الإخبار عن الله تعالى بأنه هو تعالى يدعو إلى الجنة ، وقال الزمخشري
: يعنى : وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة ، وما يوصل إليهما ،
فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم ، وأن يؤثروا على غيرهم . انتهى . وحامله على أن
ذلك هو على حذف مضاف طلب المعادلة بين المشركين والمؤمنين في الدعاء ، فلما أخبر
عن من أشرك أنه يدعو إلى النار ، جعل من آمن يدعو إلى الجنة ، ولا يلزم ما ذكر ،
بل إجراء اللفظ على ظاهره من نسبة الدعاء إلى الله تعالى هو آكد في التباعد من
المشركين ، حيث جعل موجد العالم منافياً لهم في الدعاء ، فهذا أبلغ من المعادلة
بين
" صفحة رقم 176 "
المشركين والمؤمنين .
وقرأ الجمهور : والمغفرة ، بالخفض عطفاً على الجنة ، والمعنى أنه تعالى يدعو إلى
المغفرة ، أي : إلى سبب المغفرة ، وهي التوبة والتزام الطاعات ، وتقدم هنا الجنة
على المغفرة ، وتأخر عنها في قوله : ) وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن
رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ ( وفي قوله : ) سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ
وَجَنَّةٍ ( والاصل فيه تقدم المغفرة على الجنة ، لأن دخول الجنة متسبب عن حصول المغفرة
، ففي تلك الآيتين جاء على هذا الأصل ، وأما هنا ، فتقدم ذكر الجنة على المغفرة
لتحسن المقابلة ، فإن قبله ) أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ( فجاء )
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ ( وليبدأ بما تتشوف إليه النفس حين ذكر دعاء
الله ، فأتى بالأشرف للأشرف ، ثم أتبع بالمغفرة على سبيل التتمة في الإحسان ،
وتهيئة سبب دخول الجنة .
وقرأ الحسن : و : المغفرة ، بالرفع على الابتداء ، والخبر : قوله : ) بِإِذْنِهِ (
متعلقاً بقوله : يدعو .
( وَيُبَيِنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( أي : يظهرها ويكشفها
بحيث لا يحصل فيها التباس ، أي أن هذا التبيين ليس مختصاً بناس دون ناس ، بل يظهر
آياته لكل أحد رجاء أن يحصل بظهور الآيات تذكر واتعاظ ، لأن الآية متى كانت جلية
واضحة ، كانت بصدد أن يحصل بها التذكر ، فيحصل الامتثال لما دلت عليه تلك الآيات
من موافقة الأمر ، ومخالفة النهي . و : للناس ، متعلق : بيبين ، و : اللام ،
معناها الوصول والتبليغ ، وهو أحد معانيها المذكورة في أول الفاتحة .
البقرة : ( 222 ) ويسألونك عن المحيض . . . . .
( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ( في صحيح مسلم عن أنس أن اليهود كانت إذا حاضت
امرأة منهم أخرجوها من البيت ، ولم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في
البيت ، فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فانزل الله تعالى هذه الآية
.
وقيل : كانت العرب على ما جاء في هذا الحديث ، فسأل أبو الدحداح عن ذلك ، فقال :
كيف نصنع بالنساء إذا حضن ؟ فنزلت .
وقال مجاهد : كانوا يأتون الحيض استنوا سنة بني اسرائيل في تجنب مؤاكلة الحيض
ومساكنتها ، فنزلت .
وقيل : كانت النصارى يجامعون الحيض ولا يبالون بالحيض واليهود يعتزلونهنّ في كل
شيء ، فأمر الله بالاقتصادبين الأمرين .
وقيل : سأل أسيد بن حضير ، وعباد بن بشير ، عن المحيض فنزلت وقيل كانت اليهود تقول
: من أتى امرأة من دبرها ، جاء ولده أحول ، فامتنع نساء الأنصار من ذلك ، وسئل عن
إتيان الرجل امرأته وهي حائض ، وما قالت اليهود ، فنزلت .
والضمير في : ويسألونك ، ضمير جمع ، فالظاهر أن السائل عن ذلك هو ما يصدق عليه
الجمع ، لا اثنان ولا واحد ، وجاء : ويسألونك ، هنا وقبله في ) فِى الدُّنْيَا
وَالاْخِرَةِ ( وقبله ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ( بالواو
والعاطفة على ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ( قيل : لأن السؤال عن
الثلاثة في وقت واحد ، فجىء بحرف الجمع لذلك ، كأنه قيل : جمعوا لك بين السؤال عن
الخمر والميسر ، والسؤال عن كذا وكذا .
وقيل هذه سؤالات ثلاثة بغير واو ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ ( )
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم ( ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ ( وثلاثة : ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ ( قيل إنها جاءت
بغير واو العطف لأن سؤالهم عن تلك الحوادث وقع في أوقات متباينة متفرّقة ، فلم يؤت
فيها بحرف العطف ، لأن كلاًّ منها سؤال مبتدأ . انتهى .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما نهى عن مناكحة الكفار ، وتضمن مناكحة أهل
الإيمان
" صفحة رقم 177 "
وإيثار ذلك ، بين حكماً عظيماً من أحكام النكاح ، وهو حكم النكاح في زمان الحيض .
والمحيض ، كما قررناه ، هو مفعل ، هو مفعل من الحيض يصلح من حيث اللغة للمصدر
والزمان والمكان ، فأكثر المفسرين من الأدباء زعموا أن المراد به المصدر ، وكأنه
قيل : عن الحيض ، وبه فسره الزمخشري ؛ وبه بدأ ابن عطية قال : المحيض مصدر كالمحيض
، ومثله المقيل من قال يقيل . قال الراعي : بنيت مرافقهنّ فوق مزلة
لا يستطيع بها القراد مقيلا
وقال الطبري : المحيض اسم الحيض ، ومثله قول رؤبة في العيش : إليك أشكو شدّة
المعيش
ومرّ أعوام نتفن ريشي
انتهى كلامه . ويظهر منه أنه فرق بين قول : المحيض مصدر كالحيض ، وبين قول الطبري
: المحيض اسم الحيض ، ولا فرق بينهما ؛ يقال فيه مصدر ، ويقال فيه اسم مصدر ،
والمعنى واحد . والقول بأن المحيض مصدر مروي عن ابن المسيب ؛ وقال ابن عباس : هو
موضع الدم ، وبه قال محمد بن الحسن ، فعلى هذا يكون المراد منه المكان . ورجح كونه
مكان الدم بقوله : ) فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ( فلو أريد به المصدر
لكان الظاهر منع الاستمتاع بها فيما فوق السرة ودون الركبة غير ثابت ، لزم القول بتطرق
النسخ ، أو التخصيص ، وذلك خلاف الأصل ، فإذا حمل على موضع الحيض كان المعنى :
فاعتزلوا النساء في موضع الحيض . قالوا واستعماله في الموضع أكثر وأشهر منه في
المصدر انتهى .
ويمكن أن يرجح المصدر بقوله : ) قُلْ هُوَ أَذًى ). ومكان الدم نفسه ليس بأذىً لأن
الأذى كيفية مخصوصة وهو عرض ، والمكان جسم ، والجسم لا يكون عرضاً . وأجيب عن هذا
بأنه يكون على حذف إذا أريد المكان ، أي : ذو أذى .
والخطاب في : ويسألونك ، وفي : قل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والضمير في :
هو ، عائد على المحيض ، والمعنى : أنه يحصل نفرة للإنسان واستقذار بسببه .
( فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ( تقدّم الخلاف في المحيض أهو موضع الدم
أم الحيض ؟ ويحتمل أن يحمل الأول على المصدر ، والثاني على المكان ، وإن حملنا
الثاني على المصدر فلا بد من حذف مضاف ، أي : فاعتزلوا وطء النساء في زمان الحيض .
واختلف في هذا الاعتزال ، فذهب ابن عباس ، وشريح ، وابن جبير ، ومالك ، وأبو حنيفة
، وأبو يوسف ، وجماعة من أهل العلم إلى أنه يجب اعتزال ما اشتمل عليه الإزار ،
ويعضده ما صح أنها : تشد عليها إزارها ثم شأنه بأعلاها .
وذهبت عائشة ، والشعبي ، وعكرمة ، ومجاهد ، والثوري ، ومحمد بن الحسن ، وداود إلى
أنه لا يجب إلاَّ اعتزال الفرج فقط ، وهو الصحيح من قول الشافعي .
وروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب اعتزال الرجل فراش زوجته إذا حاضت ، أخذ
بظاهر الآية ، وهو قول شاذ .
ولما كان الحيض معروفاً في اللغة لم يحتج إلى تفسير ولم تتعرض الآية لأقلة ولا
لأكثرة ، بل دلت على وجوب اعتزال النساء في المحيض ، وأقله عند مالك لا حدّ له ،
بل الدفعة من الدم عنده حيض ، والصفرة والكدرة حيض
" صفحة رقم 178 "
والمشهور عن أبي حنيفة أن أقله ثلاثة أيام ، وبه قال الثوري . وقال عطاء والشافعي
: يوم وليلة .
وأما أكثره فقال عطاء ، والشافعي : خمسة عشر يوماً وقال الثوري : عشرة أيام ، وهو
المشهور عن أصحاب أبي حنيفة . ومذهب مالك في ذلك كقول عطاء ، وخرج من قول نافع
سبعة عشر يوماً ، وقيل : ثمانية عشر يوماً . وقال القرطبي : روي عن مالك أنه لا
وقت لقليل الحيض ولا كثيره إلاَّ ما يوجد في النساء عادة . وروي عن الشافعي أن ذلك
مردود إلى عرف النساء كقول مالك ، وروي عن ابن جبير : الحيض إلى ثلاثة عشر ، فإذا
زاد فهو استحاضة .
وجميع دلائل هذا ، وبقية أحكام الحيض مذكور في كتب الفقه .
ولم تتعرض الآية لما يجب على من وطىء في الحيض ، واختلف في ذلك العلماء ، فقال أبو
حنيفة ، ومالك ، ويحيى بن سعيد ، والشافعي ، وداود : يستغفر الله ولا شيء عليه ،
وقال محمد : يتصدّق بنصف دينار ، وقال أحمد : يتصدّق بدينار أو نصف دينار ،
واستحسنه الطبري ، وهو قول الشافعي ببغداد .
وقالت فرقة من أهل الحديث : إن وطىء في الدم فدينار ، أو في انقطاعه فنصفه ، ونقل
هذا القول ابن عطية عن الأوزاعي ، ونقل غيره عن الأوزاعي أنه إن وطىء وهي حائض
يتصدّق بخمسين دينار . وفي الترمذي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( إذا كان
دماً أحمر فدينار ، وإن كان دماً أصفر فنصف دينار ) .
( وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ( قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية
أبي بكر ، والمفضل عنه : يطهرن بتشديد الطاء والهاء والفتح ، وأصله : يتطهرن ،
وكذا هي في مصحف أبي ، وعبد الله . وقرأ الباقون من السبعة : يطهرن ، مضارع . طهر
.
وفي مصحف أنس : ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهنّ حتى يتطهرن . وينبغي أن
يحمل هذا على التفسير لا على أنه قرآن لكثرة مخالفته السواد ، ورجح الفارسي :
يطهرن ، بالتخفيف إذ هو ثلاثي مضاد لطمثت ، وهو ثلاثي . ورجح الطبري التشديد ،
وقال : هي بمعنى تغتسلن لإجماع الجميع على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد
انقطاع الدم حتى تطهر ، قال : وإنما الخلاف في الطهر ما هو . انتهى كلامه .
قيل : وقراءة التشديد معناها حتى يغتسلن ، وقراءة التخفيف معناها ينقطع دمهن قاله
الزمخشري وغيره :
وفي كتاب ابن عطية : كل واحد من القراءتين يحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء ،
وأن يراد بها انقطاع الدم وزوال أذاه ، قال : وما ذهب إليه الطبري من أن قراءة
تشديد الطاء مضمنها الاغتسال ، وقراءة التخفيف مضمنها إنقطاع الدم أمر غير لازم ،
وكذلك ادعاؤه الإجماع أنه لا خلاف في كراهة الوطء قبل الاغتسال . انتهى ما في كتاب
ابن عطية .
وقوله : ) وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ( هو كناية عن الجماع ، ومؤكد
لقوله : ) فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ).
وظاهر الاعتزال والقربان أنهما لا يتماسان ، ولكن بينت السنة أنه اعتزال وقربان
خاص ، ومن اختلافهم في أقل الحيض وأكثره يعرف اختلافهم في أقل الطهر و أكثره .
( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ( أي : اغتسلن بالماء ، قال ابن عطية : والخلاف في معناه
كما تقدّم من التطهير بالماء أو انقطاع الدم ، وقال مجاهد وجماعة هنا : إنه أريد
الغسل بالماء ، ولا بد لقرينة الأمر بالإتيان ، وإن كان قربهنّ قبل الغسل مباحاً ،
لكن لا تقع صيغة الأمر من الله تعالى إلاَّ على الوجه الأكمل ، وإذا كان التطهر
الغسل بالماء ، فمذهب مالك والشافعي وجماعة ، أنه كغسل الجنابة ، وهو قول ابن عباس
، وعكرمة ، والحسن ؛ وقال طاووس ، ومجاهد : الوضوء كاف في إباحة الوطء ، وذهب
الأوزاعي إلى أن المبيح للوطء : هو غسل محل الوطء بالماء ، وبه قال ابن حزم .
وسبب الخلاف أن يحمل التطهر بالماء على التطهر الشرعي أو اللغوي ، فمن حمله على
اللغوي قال : تغسل مكان الاذى بالماء ، ومن حمله على الشرعي حمله على أخف النوعين
، وهو الوضوء ، لمراعاة الخفة ، أو على أكمل النوعين وهو أن تغتسل كما تغتسل
للجنابة إذ به يتحقق البراءة من العهدة . والاغتسال بالماء مستلزم
" صفحة رقم 179 "
لحصول انقطاع الدم ، لأنه لا يشرع إلاَّ بعده .
وإذا قلنا : لا بد من الغسل كغسل الجنابة ، فاختلف في الذمية : هل تجبر على الغسل
من الحيض ؟ فمن رأى أن الغسل عبادة قال لا يلزمها لأن نية العبادة لا تصح من
الكافر ، ومن لم ير ذلك عبادة ، بل الاغتسال من حق الزوج لإحلالها للوطء ، قال :
تجبر على الغسل .
ومن أوجب الغسل فصفته ما روي في الصحيح عن أسماء بنت عميس أنها سألت رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ) عن غسل الحيضة فقال : ( تأخذ إحداكنّ ماءها وسدرها ،
وتتطهر فتحسن الطهور ، ثم تصب الماء على رأسها وتضغطه حتى يبلغ أصول شعرها ، ثم
تفيض الماء على سائر بدنها ) .
( فَئَاتُوهُنَّ ( هذا أمر يراد به الإباحة ، كقوله : ) وَإِذَا حَلَلْتُمْ
فَاصْطَادُواْ ( ) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُواْ ( وكثيراً ما يعقب
أمر الإباحة التحريم ، وهو كناية عن الجماع .
( مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ( حيث : ظرف مكان ، فالمعنى من الجهة التي أمر
الله تعالى ، وهو القبل لأنه هو المنهي عنه في حال الحيض ، قاله ابن عباس ،
والربيع . أو من قبل طهرهنّ لا من قبل حيضهنّ ، قاله عكرمة ، وقتادة ، والضحاك ،
وأبو رزين والسدّي .
وروي عن ابن عباس : ويصير المعنى فأتوهنّ في الطهر لا في الحيض أو من قبل النكاح
لا من قبل الفجور ، قاله محمد بن الحنيفة ، أو : من حيث أحل لكم غشيانهنّ بأن لا
يكنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات ، قاله الأصم . والأول أظهر ، لأن حمل : حيث ،
على المكان والموضع هو الحقيقة ، وما سواه مجاز .
وإذا حمل على الأظهر كان في ذلك رد على من أباح إتيان النساء في أدبارهن . قيل :
وقد انعقد الإجماع على تحريم ذلك ، وما روي من إباحة ذلك عن أحد من العلماء فهو
مختلف غير صحيح ، والمعنى ، في أمركم الله باعتزالهنّ وهو الفرج ، أو من السرة إلى
الركبتين .
( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ ( أي : الراجعين إلى الخير . وجاء عقب الأمر
والنهي إيذاناً بقبول توبة من يقع منه خلاف ما شرع له ، وهو عام في التوابين من
الذنوب .
( وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ ( أي : المبرئين من الفواحش ، وخصه بعضهم بأنه
التائب من الشرك والمتطهر من الذنوب ، قاله ابن جبير ؛ أو بالعكس ، قاله عطاء ،
ومقاتل ؛ وبعضهم خصه بالتائب من المجامعة في الحيض ، وقال مجاهد : من إتيان النساء
في أدبارهنّ في أيام حيضهنّ ؛ وقال أبو العالية : التوابين من الكفر المتطهرين
بالإيمان . وقال القتَّاد : التوابين من الكبائر والمتطهرين من الصغائر ، وقيل :
التوابين من الذنوب والمتطهرين من العيوب . وقال عطاء أيضاً : المتطهرين بالماء ،
وقيل : من أدبار النساء فلا يتلوثون بالذنب بعد التوبة ، كأن هذا القول نظير لقوله
تعالى ، حكاية عن قوم لوط : ) أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ
يَتَطَهَّرُونَ ).
والذي يظهر أنه تعالى ذكر في صدر الآية ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ( ودل
السبب على أنهم كانت لهم حالة يرتكبونها حالة الحيض ، من مجامعتهنّ في الحيض في
الفرج ، أو في الدبر ، ثم أخبر الله تعالى بالمنع من ذلك ، وذلك في حالة الحيض في
الفرج أو في الدبر ، ثم أباح الإتيان في بالفرج بعد انقطاع الدم والتطهر الذي هو
واجب على المرأة لأجل الزوج ، وإن كان ليس مأموراً به في لفظ الآية ، فأثنى الله
تعالى على من امتثل أمر الله تعالى ، ورجع عن فعل الجاهلية إلى ما شرعه تعالى ،
وأثنى على من امتثلت أمره تعالى في مشروعية التطهر بالماء ، وأبرز ذلك في صورتين
عامتين ، استدرج الأزواج والزوجات في ذلك ، فقال تعالى : ) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
التَّوبِينَ ( أي : الراجعين إلى ما شرع ) وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ ( بالماء
فيما شرع فيه ذلك فكان ختم الآية بمحبة الله من اندرج فيه الأزواج والزوجات . وذكر
الفعل ليدل على اختلاف الجهتين من التوبة والتطهر ، وأن لكل من الوصفين محبة من الله
يخص ذلك الوصف ، أو كرر ذلك على سبيل التوكيد .
وقد أثنى الله تعالى على أهل قباء بقوله : ) فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن
يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهّرِينَ ( وسألهم رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) عن السبب الذي أثنى الله به عليهم ،
" صفحة رقم 180 "
فقالوا : كنا نجمع بين الاستجمار واستنجاء بالماء ، أو كلاماً هذا معناه .
وقرأ طلحة بن مصرف : المطهرين ، بإدغاء التاء في الطاء ، إذا أصله المتطهرين .
البقرة : ( 223 ) نساؤكم حرث لكم . . . . .
( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ( في البخاري ومسلم : أن اليهود كانت تقول في الذي
يأتي امرأته من دبرها في قبلها إن الولد يكون أحول ، فنزلت . وقيل : سبب النزول
كراهة نساء الانصار ذلك لما تزوجهم المهاجرون ، وكانوا يفعلون ذلك بمكة ، يتلذذون
بالنساء مقبلات ومدبرات ، روى معناه الحاكم في صحيحه ، وقيل : سبب ذلك أن بعض الصحابة
قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : هلكت فقال : ( وما الذي أهلك ؟ ) قال :
حولت رجلي الليله ، فنزلت .
ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، لأنه لما تقدّم ) فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللَّهُ ( وكان الإطلالاق يقتضي تسويغ إتيانهنّ على سائر احوال الإتيان
، أكد ذلك بأن نص بما يدل على سائر الكيفيات ، وبين أيضاً المحل بجعله حرثاً وهو :
القبل ، والحرث كما تقدّم في قصة البقرة : شق الأرض للزرع ، ثم سمى بالزرع حرثاً )
أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ( وسمى الكسب حرثاً ، قال الشاعر : إذا أكل الجراد حروث
قوم
فحرثى همه أكل الجراد
قالوا : يريد فامرأتي ، وأنشد أحمد بن يحي : إنما الأرحام أرضو
ن لنا محترثات
فعلينا الزرع فيها ، وعلى الله النبات .
وهذه الجملة جاءت بياناً وتوضيحاً لقوله : ) فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللَّهُ ( وهو المكان الممنوع من استعماله وقت الحيض ، ودل ذلك على أن الغرض
الأصيل هو طلب النسل : ( تناكحوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) ، لا قضاء
الشهوة فقط ، فأتوا النساء من المسلك الذي يتعلق به الغرض الأصلي ، وهو القبل .
ونساؤكم : مبتدأ ، وحرث لكم : خبر ، إما على حذف أداة التشبية ، أي : كحرث لكم ويكون
نساؤكم على حذف مضاف ، أي : وطء نسائكم كالحرث ، إذ النطفة كالبذر ، والرحم كالأرض
، والولد كالنبات ، وقيل : هو على حذف مضاف أي : موضع حرث لكم ، وهذه الكناية في
النكاح من بديع كنايات القرآن ، قالوا : وهو مثل قوله تعالى : ) يَأْكُلُ
الطَّعَامَ ( ومثل قوله : ) وَأَرْضاً لَّمْ ( على قول من فسره بالنساء ، ويحتمل
أن يكون : حرث لكم ، بمعنى : محروثه لكم ، فيكون من باب إطلاق المصدر ، ويراد به
اسم المفعول . وفي لفظة : حرث لكم ، دليل على أنه القبل لا الدبر ؟ قال الماتريدي
: أي مزدرع لكم ، وفيها دليل على النهي عن امتناع وطىء النساء ، لأن المزدرع إذا
ترك ضاع . ودليل على إباحة الوطىء لطلب النسل والولد ، لا لقضاء الشهوة . إنتهى
كلامه .
وفرق الراغب بين الحرث والزرع ، فقال : الحرث إلقاء البذر وتهيئة الأرض ، والزرع
مراعاته وإنباته ، ولذلك قال تعالى ) أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ تَزْرَعُونَهُ
أَمْ نَحْنُ الزرِعُونَ لَوْ ( أثبت لهم الحرث ونفى عنهم الزرع .
( فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ( الإيتان كناية
" صفحة رقم 181 "
عن الوطىء ، وجاء : حرث لكم ، نكرة لأنه الأصل في الخبر ، ولأنه كان المجهول ،
فأفادت نسبته إلى المبتدأ جواز الاستمتاع به شرعاً ، وجاء : فأتوا حرثكم ، معرفة
لأن في الإضافة حوالة على شيء سبق ، واختصاصاً بما أضيف إليه ، ونظير ذلك أن تقول
: زيد مملوك لك فأحسن إلى مملوكك .
وإذا تقدّمت نكرة ، وأعدت اللفظ ، فلا بد أن يكون معرفة : إما بالألف واللام ،
كقوله : ) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ( وإما بالإضافة كهذا .
وأنَّى : بمعنى : كيف بالنسبة إلى العزل ، وترك العزل ، قاله ابن المسيب ، فتكون
الكيفية مقصورة على هذين الحالين ، أو بمعنى كيف على الإطلاق في أحوال المرأة ،
قاله عكرمة ، والربيع ، فتكون دلت على جواز الوطء للمرأة . في أي حال شاءها ،
الواطىء مقبلة ومدبرة ، على أي شق ، وقائمة ومضطجعة وغير ذلك من الأحوال ، وذلك في
مكان الحرث ، أو : بمعنى متى ؟ قاله الضحاك ، فيكون إذ ذاك ظرف زمان . ويكون
المعنى : قأتوا حرثكم في أي زمان أردتم .
وقال جماعة من المفسرين : أنَّى ، بمعنى أي ، والمعنى على أي صفة شئتم ، فيكون على
هذا تخييراً في الخلال والهيئة ، أي : أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة ، وقد وقع
هذا مفسراً في بعض الأحاديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( ذلك لا
يبالي به بعد أن يكون في صمام واحد ) . والصمام رأس القارورة ، ثم استعير . وقالت
فرقة : أنَّى ، بمعنى : أين ؟ فجعلها مكاناً ، واستدل بهذا على جواز نكاح المرأة
في دبرها ، وممن روي عنه إباحة ذلك : محمد بن المنكدر ، وابن أبي ملكية ، وعبد
الله بن عمر ، من الصحابة ، ومالك ، ووقع ذلك في العبية . وقد روي عن ابن عمر تكفير
من فعل بذلك وإنكاره ، وروي عن مالك إنكار ذلك ، وسئل فقيل : يزعمون أنك تبيح
إتيان النساء في ادبارهنّ ؟ فقال : معاذ الله ، ألم تسمعوا قول الله عزّ وجل : )
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ( وأنَّى يكون الحرث إلاَّ في موضع البذر ؟ ونقل مثل
هذا عن الشافعي ، وأبي حنيفة ، ونقل جواز ذلك عن : نافع ، وجعفر الصادق ، وهو
اختيار المرتضي من أئمة الشيعة ، وذكر في ( المنتخب ) ما استدل به لهذا المذهب وما
ورد به ، فيطالع هناك ، إذ كتابنا هذا ليس موضوعاً لذكر دلائل الفقه إلاَّ بمقدار
ما يتعلق بالآية .
وقد روى تحريم ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) اثنا عشر صحابياً بألفاظ
مختلفة كلها تدل على التحريم ، ذكرها أحمد في ( مسنده ) وأو داود ، والترمذي ،
والنسائي ، وغيرهم وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه ( تحريم
المحل المكروه ) .
قال ابن عطية : ولا ينبعغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة
على زلة عالم ، وقال أيضاً : أنى شئتم ، معناه عند جمهور العلماء من : صحابة ،
وتابعين ، وأئمة : من أي وجه شئتم ، معناه : مقبلة ومدبرة على جنب ، وأنَّى : إنما
يجيء سؤالاً وإخبارطاً على أمر له جهات ، فهي أعخم في اللغة من : كيف ، ومن : أين
، ومن : متى . هذا هو الاستعمال العربي .
وقد فسر الناس أنَّى في هذه الآية بهذه الألفاظ ، وفسرها سيبوية بكيف ، ومن أين
بإجتماعهما ؟ وقال النحويون : أنَّى ، لتعميم الأحوال ، وقد تأتي : أنى ، بمعنى :
متى ، وبمعنى : أين ، وتكون استفاماً وشرطاً ، وجعلوها في الشرطية ظرف مكان فقط .
وإذا كان غالب مدلولها في اللغة أنها للاحوال ، فلا حجة لمن تعلق بأنها تدل على
تعميم مواضع الإتيان ، فتكون بمعنى : أين قال الزمخشري وقوله : ) فَأْتُواْ
حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ( تمثيل ، أي فأتوهنّ كما تأتون أراضيكم التي تريدون
أن تحرثوها ، من أي جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة ، والمعنى : جامعوههّن
من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحداً ، وهو موضع الحرث .
( هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء ( ) مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ( )
فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ( من الكنايات اللطيفة ، والتعرضات
المستحسنة ، فهذه واشباهها في كلام الله تعالى آداب حسنة ، على المؤمنين أن
يتعلموها ويتادبوا بها ، ويتكلفوا مثلها في محاوراتهم ومكاتباتهم انتهى كلامه .
وهو حسن .
" صفحة رقم 182 "
قالوا والعامل في أنَّى فأتوا ، وهذا الذي قالوه لا يصح ، لأناقد ذكرنا أنها تكون
استفهاماً أو شرطاً ، لا جائز أن تكون هنا شرطاً ، لأنها إذ ذاك تكون ظرف مكان ،
فيكون ذلك مبيحاً لإتيان النساء في غير القبل ، وقد ثبت تحريم ذلك عن رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعلى تقدير الشرطية يمتنع أن يعمل في الظرف الشرطي ما
قبله ، لأنه معمول لفعل الشرط ، كما أن فعل الشرط معمول له ، ولا جائز أن يكون
استفاماً ، لأنها إذا كانت استفهاماً اكتفت بما بعدها من فعل كقوله ) أَنَّى
يَكُونُ لِى وَلَدٌ ( ومن اسم كقوله : ) أَنَّى لَكِ هَاذَا ( ولا ييفتقر إلى غير
ذلك ، وهنا يظهر افتقارها وتعلقها بما قبلها .
وعلى تقدير أن يكون استفهاماً لا يعمل فيها ما قبلها ، وأنها تكون معمولة للفعل
بعدها ، فتبين على وجهي : أنَّى ، أنها لا تكون معمولة لما قبلها ، وهذا من
المواضع المشكلة التي تحتاج إلى فكر ونظر .
والذي يظهر ، والله أعلم ، أنها تكون شرطاً لافتقارها إلى جملة غير الجملة التي
بعدها ، وتكون قد جعلت فيها الأحوال . كجعل الظروف المكانية ، وأجريت مجراها
تشبيهاً للحال بالظرف المكاني ، وقد جاء نظير ذلك في لفظ : كيف ، خرج به عن
الاستفهام إلى معنى الشرط في قولهم : كيف تكون أكون ، وقال تعالى : ) بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ( فلا يجوز أن تكون هنا استفهاماً ، وإنما
لحظ فيها معنى بالشرط وارتباط الجملة بالأخرى وجواب الجملة محذوف ، ويدل عليه ما
قبله ، تقديره : أنى شئتم فأتوه ، وكيف يشاء ينفق ، كما حذف جواب الشرط في قولك :
أضرب زيداً أنى لقيته ، التقدير أنى لقيته فاضربه .
فان قلت : قد أخرجت : أنَّى ، عن الظرفية الحقيقية وأبقيتها لتعميم الأحوال مثل :
كيف ، وجعلتها مقتضية لجملة أخرى كجملة الشرط ، فهل الفعل الماضي الذي هو : شئتم ،
في موضع جزم كحالها إذا كانت ظرفاً ؟ أم هو في موضع رفع كهو بعد : كيف ، في قولهم
: كيف تصنع أصنع ؟ .
فالجواب أنه يحتمل الأمرين ، لكن يرجح أن تكون في موضع جزم لأنه قد استقر الجزم
بها إذا كانت ظرفاً صريحاً ، غاية ما في ذلك تشبيه الأحوال بالظروف ، وبينهما
علاقة واضحة ، إذ كل منهما على معنى : في ، بخلاف : كيف ، فإنه لم يستقر فيها
الجزم ومن أجاز الجزم بها ، فإنما قاله بالقياس ، والمحفوظ عن العرب الرفع في
الفعل بعدها ، حيث يقتضي جملة أخرى .
( وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ ( مفعول قدّموا محذوف ، فقيل : التقدير ذكر الله عند
القربان ، أو : طلب الولد والإفراط شفعاء ، قاله ابن عباس ، أو : الخير ، قاله
السدي ، أو : قدم صدق ، قاله ابن كيسان ، أو : الأجر في تجنب ما نهيتم وإمتثال ما
أمرتم به ، قاله ابن عطية ، أو : ذكر الله على الجماع ، كما قال النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) ) : ( لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال : اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب
الشيطان ما رزقتنا ، فقضى بينهما ولد لم يضره ) . أو التسمية على الوطىء ، حكاه
الزمخشري . أو : ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة ، وهو خلاف ما نهيتكم عنه ،
قاله الزمخشري ، وهو قول مركب من قول : من قبله .
والذي يظهر أن المعنى : وقدّموا لأنفسكم طاعة الله ، وامتثاله ما أمر ، واجتناب ما
نهى عنه لأنه تقدّم أمر ونهي ، وهو الخير الذي ذكره في قوله : ) وَمَا تُقَدّمُواْ
لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ( ولذلك جاء بعده ) وَاتَّقُواْ
اللَّهَ ( أي : اتقو الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وهو تحذير لهم من المخالفة ،
ولأن العظيم الذي تقدّم يحتاج إلى أن يقدّم معك ما تقدّم به عليه مما لا تفتضح به
عنده ، وهو العمل الصالح .
( وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ( الظاهر أن الضمير المجرور في : ملاقوه ،
عائد على الله تعالى ، وتكون على حذف مضاف ، أي : ملاقو جزائه على أفعالكم ، ويجوز
أن يعود على المفعول المحذوف الذي لقوله : وقدّموا ، أي : واعلموا أنكم ملاقو ما
قدّمتم من الخير والطاعة ، وهو على حذف مضاف أيضاً ، أي : ملاقو جزائه ، ويجوز أن
يعود على الجزاء الدال عليه معمول قدموا المحذوف ، وفي ذلك رد على من ينكر البعث
والحساب والمعاد ، سواء عاد على الله تعالى أو على معمول قدّموا ، أو على الجزاء .
( وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( أي :
" صفحة رقم 183 "
بحسن العاقبة في الآخرة ، وفيه تنبيه على وصف الذي به يتقى الله ويقدّم الخير ،
ويستحق التبشير ، وهو الإيمان . وفي أمره لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) )
بالتبشير تأنيس عظيم ووعد كريم بالثواب الجزيل ، ولم يأت بضمير الغيبة ، بل أتى
بالظاهر الدال على الوصف ، ولكونه مع ذلك فصل آية .
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة إخبار الله تعالى عن المؤمنين أنهم يسألون رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ) عن الخمر والميسر ، فوقع ما أخبر به تعالى ، وأمر نبيه
أن يخبر من سأله عنهما بأنهما قد اشتملا على إثم كبير ، فكان هذا الإخبار مدعاة
لتركهما ، ودل ذلك على تحريمهما ، والمعنى أنه يحصل بشرب الخمر واللعب بالميسر إثم
، وما اكتفى بمطلق الإثم حتى وصفه بالكبر في قراءة ، وبالكثرة في قراءة ، وقد قال
تعالى في المحرمات : ) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ ( ) إِن
تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا إِلَى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (
فحيث وصف الإثم بالكبير ، وكان من أعظم الآثام وأوغلها في التحريم ، وأخبر أيضاً
أن فيهما منافع للناس ، من : أخذ الأموال بالتجارة في الخمر ، وبالقمر في الميسر ،
وغير ذلك ، لأنه ما من شيء حرم إلاَّ فيه منفعة بوجه ما ، خصوصاً ما كان الطبع
مائلاً إليه ، أو كان الشخص ناشئاً عليه بالطبع . ثم أخبر تعالى أن ضرر الإثم الذي
هو جالب إلى النار ، أعظم من النفع المنقضي بانقضاء وقته ، ليرشد العاقل إلى تجنب
ما عذابه دائم ونفعه زائل .
ثم أخبر تعالى أنهم يسألونه عن الشيء الذي ينفقونه ؟ فأجيبوا بأن ينفقوا ما سهل
عليهم إنفاقه ، ويشير ) مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( ثم ذكر
تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات بياناً مثل ما بين في أمر الخمر ، والميسر ، وما
ينفقون . ثم ذكر أنه بهذا البيان يحصل الرجاء في تفكر حال الدنيا والآخرة ، فإذا
فكر فيهما يرجح بالفكر إيثار الآخرة على الدنيا .
ثم استطرد من هذين السؤالين إلى السؤال عن أمر اليتامى ، وما كلفوا في شأنهم ، إذ
كان اليتامى لا ينهضون بالنظر في أحوال أنفسهم ، ولصغرهم ونقص عقولهم ، فأجيبوا
بأن إصلاحهم خير من إهمالهم للمصلح بتحصيل الثواب وللمصلح بتأديبه وتعليمه وتنمية
ماله : ( أمتي كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً ) .
ثم أخبر أن مخالطتهم مطلوبة لأنهم إخوانكم في الإسلام ، فالإخوة موجبة للنظر في
حال الأخ . وأبرز الطلب في صورة شرطية ، وأتى الجواب بما يقتضى الخلطة ، وهو كونهم
إخوانكم .
ولما أمر بالإصلاح لليتامى ، ذكر أنه تعالى يعلم المفسد من المصلح ، ليحذر من
الفساد ويدعو إلى الصلاح ، ومعنى علمه هنا أنه مجاز من أفسد ، و : من أصلح ، بما
يناسب فعله ، ثم أخبر تعالى أنه لو شاء لكلفكم ما يشق عليكم ، فدل على أن التكاليف
السابقة من تحريم الخمر والميسر ، وتكليف الصدقة ، بأن تكون عفواً ، وتكليف إصلاح
اليتيم ليس فيه مشقة ولا إعنات .
ثم ختم هذا بأنه هو العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها .
ولما ذكر تعالى تحريم شيء مما كانوا يتلذذون به ، وهو شرب الخمر والأكل به ،
والقمر بالميسر والأكل به ، ولما كان النكاح أيضاً من أعظم الشهوات والملاذ ،
استطرد إلى ذكر تحريم نوع منه ، وهو نكاح من قام به الوصف المنافي للإيمان ، وهو
الإشراك الموجب للتنافر والتباعد . والنكاح موجب للخلطة والمودّة قال تعالى : )
وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ( ) لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( لا
يتراءى داراهما فنهى فيهن عن نكاح من قام به الوصف المنافي للإيمان ، وغيَّا ذلك
بحصول الإيمان ، ثم ذكر من كان رقيقاً وهو مؤمن ، خير من مشرك ولو كان يعجب في حسن
أو مال أو رئاسة ؛ ونبه على العلة الموجبة للترك ، وهو أن من أشرك داع إلى النار ،
وجرّ ممن كان معاشر شخص ومخالطه وملابسه ، حتى في النكاح الذي هو داع إلى التآلف
من كل معاشرة أن يجيبه إذا دعاه لما هو من هواه ، وهم كانوا قريبين عهد بالإيمان
وحديثه ، فمنعوا من ذلك سداً للتطرق إلى النار .
ثم أخبر تعالى أنه هو يدعو إلى الجنة والمغفرة ، فهو الناظر بالمصلحة لكم في تحريم
ما حرّم وإباحة ما أباح ، وهو يبين آياته ويوضحها بحيث لا يظهر معها لبس ، وذلك
لرجاء تذكركم واتعاظكم بالآيات .
ولما ذكر تعالى تحريم نكاح من قام به وصف الإشراك ، ذكر تحريم وطء من قام به في
الحيض من المؤمنات ، وغيَّا ذلك بالطهر ما قبله بالإيمان ، ثم أباح إذا تطهرن لنا
الوطء لهنّ من حيث أمر الله وهو المكان الذي كان مشغولاً بالحيض ، وأمرنا باجتناب
وطئه في وقت الحيض ، ثم نبه على مزية التائب والمتطهر بكونه تعالى يحبه ، ولم يكتف
بذلك في جملة واحدة حتى كرر ذلك في جملتين وأفرد كل وصف بمحبة فقال : إن الله يحب
التوّابين ويحب المتطهرين .
" صفحة رقم 184 "
ثم ذكر تعالى إباحة الوطء للمرأة التي ارتفع عنها الحيض على الحالة التي يشاؤها
الزوج ويختارها ، من كونها مقبلة أو مدبرة ، أو مجنبة أو مضطجعة ، ومن أي شق شاء ،
لما في التنقل من مزيد الالتذاذ ، والاستمتاع بالنظر إلى سائر بدنها ، والهيآت
المحركة للباه .
ونبه بالحرث على أنه محل النسل ، فدل ذلك على تحريم الوطء في الدبر لأنه ليس محل
النسل ، وإذا كانوا قد منعوا من وطء الحائض لما اشتمل عليه محل الوطء من الأذى بدم
الحيض ، فلأن يمنعوا من المحل الذي هو أكثر أذى أولى . وأحرى ، ولما كان قدم نهي
وأمر في الآيات السابقة وفي هذا ، ختم ذلك بالأمر بتقديم العمل الصالح ، وأن ما
قدّمه الإنسان إنما هو عائد على نفع نفسه ، ثم أمر بتقوى الله تعالى ، وأمر بأن
يعلم ويوقن اليقين الذي لا شك فيه أنا ملاقو الله ، فيجازينا على أعمالنا ، وأمر
نبيه أن يبشر المؤمنين ، وهم الذين امتثلوا ما أمر به واجتنبوا ما نهى عنه ، فكان
ابتداء هذه الآيات بالتحذير عن معاطاة العصيان ، واختتامها بالتبشير لأهل الإيمان
آيات تعجز عن وصف ما تضمنته البدائع الألسن ، ويذعن لفصاحتها الجهبذ اللسن ، جمعت
بين براعة اللفظ ونصاعة المعنى ، وتعلق الجمل وتأنق المبنى ، من سؤال وجواب ،
وتحذير من عقاب ، وترغيب في ثواب ، هدت إلى الصراط المستقيم ، وتلقيت من لدن حكيم
عليم .
2 ( ) وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لاًّيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ
وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لاَّ
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِىأَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن
نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَآءُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ
لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِىأَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي
ذَالِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ
يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن
يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ ( ) ) 2
البقرة : ( 224 ) ولا تجعلوا الله . . . . .
العرضة : فعلة من العرض وهو بمعنى المفعول ، كالفرقة والقبضة ، يقال : فلان عرضة
لكذا والمرأة عرضة للنكاح ، أي : معرضة له ، قال كعب :
عرضتها طامس الاعلام مجهول
" صفحة رقم 185 "
وقال حسان : وقال الله قد يسرت جندا
هم الانصار ) عرضتها اللقاء
وقال حبيب : متى كان سمعي عرضة للوائمي
وكيف صفت للعاذلين عزائمي
ويقال جعله عرضة للبلاء أي : معرضاً ، وقال أوس بن حجر : وأدماء مثل الفحل يوماً
عرضتها
لرحلي وفيها جرأة وتقاذف
وقيل : هو اسم ما تعرضه دون الشيء ، من عرض العود على الإناء ، فيعترض دونه ،
ويصير حاجزاً ومانعاً . وقيل : أصل العرضة القوة ، ومنه يقال للجمل : القوي : هذا
عرضة للسفر ، أي : قوي عليه ، وللفرس الشديد الجري عرضة لارتحالنا .
اليمين : أصلها العضو ، واستعمل للحلف لما جرت العادة في تصافح المتعاقدين ، وتجمع
على ، أيمان ، وعلى : أيمن ، وفي العضو والحلف ، وتستعمل : اليمين ، للجهة التي
تكون للعضو المسمى باليمين ، فتنصب على الظرف ، تقول : زيد يمين عمرو ، وهي في
العضو مشتقة من اليمين ، ويقال : فلان ميمون الطلعة ، وميمون النقيبة ، وميمون
الطائر .
اللغو : ما يسبق به اللسان من غير قصد ، قاله الفراء ، وهو مأخوذ من قولهم لما لا
يعتدّ به في الدية من أولاد الإبل : ويقال : لغا يلغو لغواً ولغى يلغي لغاً ، وقال
ابن المظفر : تقول العرب : اللغو واللاغية واللواغي واللغوي ، وقال ابن الأنباري :
اللغو عند العرب ما يطرح من الكلام استغناءً عنه ، ويقال : هو ما لا يفهم لفظه .
يقال : لغا الطائر يلغو : صوّت ، ويقال : لغا بالأمر لهج به يلغا ، ويقال : اشتق
من هذا اللغة ، وقال ابن عيسى ، وقد ذكر أن اللغو ما لا يفيد قال : ومنه اللغة
لأنها عند غير أهلها لغو وغلط في هذا الاشتقاق ، فإن اللغة إنما اشتقت من قولهم :
لغى بكذا إذا أولع به .
الحليم : الصفوح عن الذنب مع القدرة على المؤاخذة به ، يقال : حلم الرجل يحلم
حلماً ، وهو حليم ، وقال النابغة الجعدي : ولا خير في حلم إذا لم يكن له
موارد تحمي صفوه أن يكدّرا
ويقال : حلم الأديم يحلم حلماً ، إذا تثقب وفسد ، قال : فإنك والكتاب إلى علي
كدابغه وقد حلم الأديم
و : حلم في النوم يحلم حلماً وحلماً ، وهو : حالم ، ( وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ
الاْحْلَامِ بِعَالِمِينَ ).
الإيلاء :
" صفحة رقم 186 "
مصدر آلى ، أي : حلف ، ويقال : تألى وأيتلى ، أي : حلف ، ويقال للحلف : ألية
وألوّة وإلوة ، وجمع ألية ألايا ، كعشية وعشايا . وقيل : تجمع ألوة على ألايا
كركوبة وركائب .
التربص : الترقب والانتظار ، مصدر : تربص وهو مقلوب التبصر ، قال : تربص بها ريب
المنون لعلها
تطلق يوماً أو يموت حليلُها
فاء : يفيء فيأ وفيأةً ، رجع ، عن جانب المشرق إلى المغرب ، وهو سريع الفيأة أي :
الرجوع ، وقال علقمة : فقلت لها فيئي فما تستنفزين
ذوات العيون والبنان المخضب
العزم : ما يعقد عليه القلبَ ويصمم ، ويقال : عزم عليه يعزم عزماً وعزماً وعزيمة
وعزاماً ، ويقال : أعزم إعزاماً ، وعزمت عليك لتفعلنّ : أقسمت .
الطلاق : انحلال عقد النكاح ، يقال منه : طلقت تطلق فهي طالق وطالقة ، قال الأعشى
.
أيا جارتا بيني فإنك طالقه
ويقال : طلقت بضم اللام حكاه أحمد بن يحيى ، وأنكره الأخفش .
القرء : أصله في اللغة الوقت المعتاد تردده ، وقرء النجم وقت طلوعه ووقت غروبه ،
ويقال منه : أقرأ النجم أي طلع أو غرب ، وقرء المرأة حيضها وطهرها ، فهو من
الأضداد ، قاله أبو عمرو ، ويونس ، وأبو عبيد ؛ ويقال منهما : أقرأت المرأة ، وقال
أبو عمرو : من العرب من يسمي الحيض مع الطهرر قرءاً ، وقال بعضهم : القرء ما بين
الحيضتين ، وقال الأخفش : أقرأت صارت صاحبة حيض ، فإذا حاضت قلت قرت بغير ألف .
وقيل : القرء أصله الجمع من قولهم ، قرأت الماء في الحوض ، جمعته ، ومنه : ما
أقرأت هذه الناقة سلاً قطُّ ، أي : ما جمعت في بطنها جنيناً ، فإذا أريد به الحيض
: فهو اجتماع الدم في الرحم ، أو الطهر ، فهو اجتماع الدم في البدن .
الرحم : الفرج من المؤنث ، وقد يستعار للقرابة ، يقال : بينهما رحم ، أي قرابة ،
ويصل الرحم .
البعل : الزوج يقال منه ، بعل يبعل بعولة ، أي : صار بعلاً ، وباعل الرجل امرأته
إذا جامعها ، وهي تباعله إذا فعلت ذلك معه ، وامرأة حسنة التبعيل إذا كانت تحسن
عشرة زوجها ، والبعل أيضاً الملك ، وبه سمي الصنم لأنه المكتفي بنفسه ، ومنه بعل
النخل . وجمع البعل : بعول وبعولة ، كفحل وفحولة ، التاء فيه لتأنيث الجمع ولا
ينقاس ، فلا يقال : في كعوب جمع كعب كعوبة .
الرجل : معروف يجمع على : رجال ، وهو مشتق من الرجلة ، وهي القوة ، يقال : رجل
بيِّن الرجولة والرجلة ، وهو أرجل الرجلين أي : أقواهما ، وفرس رجيل قوي على المشي
، ومنه : سميت الرجل لقوّتها على المشي ، وارتجل الكلام قوي عليه ، وترجل النهار
قوي ضياؤه ، ويقال : رجل ورجلة ، كما قالوا :
" صفحة رقم 187 "
امرؤ وامرأة ، وكتبتَ من خط أستاذنا أبي جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى : كل جار
ظل مغتبطا
غير جيراني بني جبله
هتكوا جيب فتاتهم
لم يبالوا حرمة الرجله
الدرجة : المنزلة ، وأصله من درجت الشيء وأدرجته : طويته ، ودرج القوم فنوا ،
وأدرجهم الله فهو كطي الشيء منزلة منزلة والدرجة المنزلة من منازل الطي ، ومنه
الدرجة التي يرتقى إليها .
الإمساك : للشيء حبسه ، ومنه اسمان : مسك ومساك ، يقال : إنه لذو مسك وميساك إذا
كان بخيلاً ، وفيه مسكة من خير أي : قوة ، وتماسك ومسيك بيَّن المساكة .
التسريح : الإرسال ، وسرح الشعر خلص بعضه من بعض ، والماشية أرسلها لترعى ، والسرح
الماشية ، وناقة مسرح سهلة المسير لانطلاقها فيه .
( وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لاِيْمَانِكُمْ ( قال ابن عباس : نزلت في
عبد الله بن رواحة وختنه بشير بن النعمان ، كان بينهما شيء ، فحلف عبد الله أن لا
يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين زوجته ، وجعل يقول : حلفت بالله ، فلا يحل
لي إلاَّ برّ يميني .
وقال الربيع : نزلت في الرجل يحلف أن لا يصل رحمه ولايصلح بين الناس ؛ وقال ابن
جريج : في أبي بكر حين حلف لا ينفق على مسطح حين تكلم في الإفك ، وقال المقاتلان
ابن حيان وابن سليمان : حلف لا ينفق على ابنه عبد الرحمن حتى يسلم ؛ وقيل : حلف أن
لا يأكل مع الأضياف حين أخر ولده عنهم العشاء ، وغضب هو على ولده .
وقالت عائشة : نزلت في تكرير الأيمان بالله ، فنهى أن يحلف به براً ، فكيف فاجراً
.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تعالى لما أمر بتقوى بالله تعالى ، وحذرهم يوم
الميعاد ، نهاهم عن ابتذال اسمه ، وجعله معرضاً لما يحلفون عليه دائماً ، لأن من
يتقي ويحذر تجب صيانة اسمه وتنزيهه عمالا يليق به من كونه يذكر في كل ما يحلف عليه
، من قليل أو كثير ، عظيم أو حقير ، لأن كثرة ذلك توجب عدم الاكتراث بالمحلوف به .
وقد تكون المناسبة بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتحرز في أفعالهم السابقة من :
الخمر ، والميسر ، وإنفاق العفو ، وأمر اليتامى ، ونكاح من أشرك ، وحيال وطء
الحائض ، أمرهم تعالى بالتحرز في أقوالهم ، فانتظم بذاك أمرهم بالتحرز في الأفعال
والأقوال .
واختلفوا في فهم هذه الجملة من قوله ) وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً
لاِيْمَانِكُمْ ( وهو خلاف مبنى على الاختلاف في اشتقاق العرضة ، فقيل : نهوا عن
أن يجعلوا الله معداً لايمانهم فيحلفوا به في البر والفجور ، فإن الحنث مع الإكثار
فيه قلة رعي بحق الله تعالى ، كما روي عن عائشة أنها نزلت في تكثير اليمين بالله ،
نهى أن يحلف الرجل به براً فكيف فاجراً ؟ وقد ذم الله من أكثر الحلف بقوله : )
وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ( وقال : ) وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ ).
والعرب تمدح بالإقلال من الحلف قال كثير : قليل ألا لا يا حافظ ليمينه
إذا صدرت منه الألية برت
والحكمة في النهي عن تكثير الأيمان بالله أن ذلك لا يبقي لليمين في قلبه وقعاً ،
ولا يؤمن من إقدامه على اليمين الكاذبة ، وذكر الله أجل من أن يستشهد به في
الأعراض الدنيويه .
وقيل : المعنى : ولا تجعلوا الله قوة لأيمانكم ، وتوكيداً لها ، وروي عن قريب من
هذا المعنى عن : ابن عباس ، وابراهيم ، ومجاهد ، والربيع ، وغيرهم قال : المعنى :
فيما تريدون الشدة فيه من ترك صلة الرحم ، والبر والإصلاح ، وقيل : المعنى : ولا
تجعلوا الله حاجزاً ومانعاً من البر والإصلاح ، ويؤكذه
" صفحة رقم 188 "
قول من قال : نزلت في عبد الله بن رواحة ، أو في أبي بكر على ما تقدم في سبب
النزول ، فيكون المعنى : أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم ، وإصلاح
ذات بين ، أو إحسان إلى أحد ، أو عبادة ، ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني ،
فيترك البر في يمينه ، فنهوا أن يجعلوا الله حاجزاً لما حلفوا عليه .
( لاِيْمَانِكُمْ ( تحتمل اللام أن تكون متعلقة ، بعرضة ، فتكون كالمقوية للتعدي ،
أو معداً ومرصداً لأيمانكم ، ويحتمل أن تكون متعلقة بقوله : ) وَلاَ تَجْعَلُواْ (
فتكون للتعليل ، أي : لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم .
والظاهر أن المراد بالأيمان هنا الاقتسام ، لا المقسم عليه ، وقال الزمخشري : أي :
حاجزاً لما حلفتم عليه ، وسمي المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين ، كما قال النبي
( صلى الله عليه وسلم ) ) لعبد الرحمن بن سمرة : ( إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها
خيراً منها فائت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك ) أي : على شيء مما يحلف عليه إنتهى
كلامه ولا حاجة هنا للخروج عن الظاهر وإنما احتيج في الحديث إلى أنه أطلق اليمين ،
ويراد بها متعلقها ، لأنه قال : إذا حلفت على يمين ، فععّدى حلفت بعلى ، فاحتيج
إلى هذا التأويل ، وليس في الآية ما يحوج إلى هذا التجويل ، لكن الزمخشري لما حمل
: عرضة ، على أن معناه حاجزاً ومانعاً ، اضطر إلى هذا التأويل .
( أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ ( قال الزجاج ،
وتبعه التبريزي : أن تبروا ، في موضع رفع بالابتداء ، قال الزجاج والمعنى : بركم
وتقواكم وإصلاحكم أمثل وأولى ، وجعل الكلام منتهياً عند قوله : لأيمانكم ، ومعنى
الجملة التي فيها النهي عنده أنها في الرجل إذا طلب منه فعل خير ونحوه اعتل بالله
، فقال : علي يمين ، وهو لم يحلف ، وقدر التيريزي خبر المبتدأ المحذوف بأن المعنى
: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس خير لكم من أن تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ،
وهذا الذي ذهب إليه الزجاج والتبريزي ضعيف ، لأن فيه اقتطاع : أن تبروا ، مما قبله
، والظلم هو اتصاله به ، ولأن فيه حذفاً لا دليل عليه وقال الزمخشري : أن تبروا
وتتقوا وتصلحوا ، عطف بيان لأيمانكم ، أي للأمور المحلوف عليها التي هي : البر
والتقوى والإصلاح بين الناس إنتهى كلامه وهو ضعيف ، لأن فيه مخالفة للظاهر ، لأن
الظاهر من الأيمان هي الأقسام ، والبر والتقوى والإصلاح هي المقسم عليها ، فهما متباينان
، فلا يجوز أن يكون عطف بيان على الإيمان ، لكنه لما تأول الأيمان على أنها
المحلوف عليها ، ساغ له ذلك ، وقد بينا أنه لا حاجة تدعونا إلى تأويل الأيمان
بالأشياء المحلوف عليها ، وعلى مذهبه تكون : أن تبروا ، في موضع جر ، ولو أدعى أن
يكون : أن تبروا ، وما بعده بدلاً من : أيمانكم ، لكان أولى ، لأن عطف البيان أكثر
ما يكون في الأعلام .
وذهب الجمهور إلى أن قوله : أن تبروا ، مفعول من أجله ، ثم اختلفوا في التقدير ،
فقيل : كراهة أن تبروا ، قاله المهدوى ، أو لترك أن تبروا ، قاله المبرد ، وقيل :
لأن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا ، قال أبو عبيدة ، والطبري كقوله :
فخالف فلا والله تهبط تلعة
أي : لا تهبط ، وقيل : ارادة تبروا ، والتقادير الأول متلاقية حيث المعنى ، وروي
هذا المعنى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وابن جريج ، وابراهيم ، وقتادة ،
والضحاك ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج ، في آخر من روي عنهم
أن المعنى : لا تحلفوا بالله أن لا تبروا ، فيتعلق بقوله : ولا تجعلوا ، ولا يظهر
هذا المعنى لما فيه من تعليل امتناع الحلف بانتفاء البر ، بل وقوع الحلف معلل
بانتفاء البر ، ولا ينعقد منه شرط ، وجزاء لو قلت في معنى هذا النهي
" صفحة رقم 189 "
وعلته : إن حلفت بالله بررت ، لم يصح وذلك كما تقول : لا تضرب زيداً لئلا يؤذك ،
فانتفت الاذاية للامتناع من الضرب ، والمعنى : إن لم تضربه لم يؤذيك ، وإن ضربته
أذاك ، فلا يترتب على الامتناع من الحلف انتفاء البر ، ولا على وجوده ، بل يترتب
على الامتناع من الحلف وجود البر ، وعلى وقوع الحلف انتفاء البر ، وهذا الذي
ذكرناه يؤيد القول بان التقدير : إرادة أن تبروا ، لأنه لا يعلل الامتناع من الحلف
بإرادة وجود البر ، ويتعلق منه الشرط والجزاء ، تقول : إن حلفت لم تبر ، وإن لم
تحلف بررت .
وقد شرح بعض العلماء هذا المعنى فقال : إن تبروا وتتقوا وتصلحوا علة لهذا النهي ،
أي : إرادة أن تبروا ، والمعنى إنما نهيكم عن هذا لما في توقي ذلك من البر والتقوى
والإصلاح ، فتكونون معاشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين ، فإن
قلت : كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى واللإصلاح بين الناس ؟ قلنا : لأن
من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تبارك وتعالى ، أعظم وأجل أن يستشهد باسمه المعظم
في طلب الدنيا ، إن هذا من أعظم أبواب البر .
وأما معنى التقوى فظاهر ، لأنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله تعالى وأما
الإصلاح بين الناس ، فلأن الناس متى اعتقدوا فيه كونه معظماً لله تعالى إلى هذا
الحد ، محترزاً عن الإخلال بواجب حقه ، اعتقدوا فيه كونه معظماً لله ، وكونه
صادقاً بعيداً من الأغراض الفاسدة ، فيتقبلون قوله ، فيحصل الصلح يتوسطه إنتهى هذا
الكلام .
وفي ( المنتخب ) وهو بسط ما قاله الزمخشري قال : ومعناها على الأخرى يزيد على أن
يكون عرضة ، بمعنى معرضاً للأمر ، قال : ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم فتتبذلوه
بكثرة الحلف به ، ولذلك ذم من أنزل فيه : ) وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ
( باشنع المذام ، وجعل الحلاف مقدمتها ، وأن تبروا ، علة للنهي أي : إرادة أن
تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن الحلاف مجترىء ، على الله ، غير معظم له ، فلا يكون براً
متقياً ، ولا يثق به الناس ، فلا يدخلونه في وساطتهم وإصلاح بذات بينهم .
وقيل : المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين ، لتبروا المحلوف لهم ، وتتقوهم وتصلحوا
بينهم بالكذب . روي هذا المعنى عن ابن عباس ، فقيد المعلوم بالكذب ، وقيد العلة
بالناس ، والإصلاح بالكذب ، وهو خلاف الظاهر .
وقال الزمخشري : ويتعلق : أن تبروا ، بالفعل و : بالعرضة ، أي : ولا تجعلوا الله
لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا . إنتهى . ولا يصح هذا التقدير ، لأن فيه فصلاً
بين العامل والمعمول بأجنبي ، لأنه علق : لأيمانكم ، بتجعلوا ، وعلق : لأن تبروا
بعرضة ، فقد فصل بين : عرضة ، وبين : لأن تبروا بقوله : لأيمانكم ، وهو أجنبي
منهما ، لأنه معمول عنده لتجعلوا ، وذلك لا يجوز ، ونظير ما أجازه أن تقول : أمرر
وأضرب بزيد هنداً ، فهذا لا يجوز ونصوا على انه لا يجوز : جاءني رجل ذو فرس راكب
أبلق ، لما فيه من الفصل بالأجنبي .
والذي يظهر لي أن تبروا ، وفي موضع نصب على إسقاط الخافض ، والعمل فيه قوله :
لأيمانكم ، التقدير : لأقسامكم على أن تبروا ، فنهوا عن ابتذال اسم الله تعالى ،
وجعله معرضاً لأقسامهم على البر و . التقوى والإصلاح اللاتي هن أوصاف جميلة ، لما
نخاف في ذلك من الحنث ، فكيف إذا كانت أقساماً على ما تنافي البر والتقوى والإصلاح
؟ وعلى هذا يكون الكلام منتظماً واقعاً كل لفظ منه مكانه الذي يليق به ، فصار في
موضع : أن تبروا ، ثلاثة أقوال : الرفع على الابتداء ، والخلاف في تقدير الجر ،
والجر على وجهين : عطف البيان ، والبدل والنصب على وجهين : إما على المفعول من
أجله على الاختلاف في تقديره ، وإما على أن يكون معمولاً : لأيمانكم ، على إسقاط
الخافض .
( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ختم هذه الآية بهاتين الصفتين لأنه تقدم ما يتعلق
بهما ، فالذي يتعلق بالسمع الحلف لأنه من المسموعات ، والذي يتعلق بالعلم هو إرادة
البر والتقوى والإصلاح إذ هو شيء محله القلب ، فهو من المعلومات ، فجاءت هاتان
الصفتان منتظمتين للعلة
" صفحة رقم 190 "
والمعلول ، وجاءتا على ترتيب ما سبق من تقديم السمع على العلم ، كما قدم الحلف على
الإرادة .
البقرة : ( 225 ) لا يؤاخذكم الله . . . . .
( لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ ( مناسبة هذه الآية
لما قبلها ظاهرة ، لأنه تعالى لما نهى عن جعل الله معرضاً للأيمان ، كان ذلك حتماً
لترك الأيمان وهم يشق عليهم ذلك ، لأن العادة جرت لهم بالأيمان ، فذكر أن ما كان
منها لغواً فهو لا يؤاخذ به ، لأنه مما لا يقصد به حقيقة اليمين ، وإنما هو شيء
يجري على اللسان عند المحاورة من غير قصد ، وهذا أحسن ما يفسر به اللغو ، لأنه
تعالى جعل مقابلة ما كسبه القلب وهو ماله فيه اعتماد وقصد .
واختلفت أقوال المفسرين في تفسير لغو اليمين ، فقال أبو هريرة ، وابن عباس ،
والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والسدي عن
أشياخه ، ومالك في أشهر قوليه ، وأبو حنيفة : هو الحلف على غلبة الظن ، فيكشف
الغيب خلاف ذلك ؛ وقالت عائشة ، وابن عباس أيضاً ، وطاووس ، والشعبي ، ومجاهد ،
وأبو صالح ، والشافعي : هو ما يجرى على اللسان في درج الكلام والاستعجال : لا
والله ، وبلى والله ، من غير قصد لليمين ؛ وهو أحد قولي مالك . وقال سعيد بن جبير
، وابن المسيب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، وابنا الزبير عبد الله وعروة : هو الحلف
على فعل المعصية ، إلاَّ أن ابن جبير قال : لا يفعل ويكفر ، وباقيهم قالوا : لا
يفعل ولا كفارة عليه ، وقال ابن عباس أيضاً . وعلي ، وطاووس : هو الحلف في حال
الغضب . وقال النخعي : هو الحلف على شيء ينساه ، وقال ابن عباس أيضاً ، والضحاك :
هو ما تجب فيه الكفارة إذا كفرت سقطت ، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها ، والرجوع إلى
الذي هو خير ؛ وقال مكحول ، وابن جبير أيضاً ، وجماعة : هو أن يحرم على نفسه ما
أحل الله ، كقوله : مالي عليّ حرام إن فعلت كذا ، والحلال عليّ حرام ، وقال بهذا
القول مالك إلاَّ في الزوجة ، فألزم فيها التحريم ألاَّ أن يخرجها الحالف بقلبه ،
وقال زيد ابن أسلم وابنه : هو دعاء الرجل على نفسه أعمى الله بصره ، أذهب الله
ماله ، هو يهودي ، هو مشرك ، هو لغية ، إن فعل كذا ، وقال مجاهد : هو حلف
المتبايعين ، يقول أحدهما : والله لا أبيعك بكذا ، ويقول الآخر : والله ما أشتريه
إلاَّ بكذا ، وقال مسروق : هو ما لا يلزمه الوقاية ، وروي عنه ، وعن الشعبي : أنه
الحلف على المعصية ؛ وقيل : هو يمين المكره ، حكاه ابن عبد البر .
وهذه الأقوال يحتملها لفظ اللغو ، إلاَّ أن الأظهر هو ما فسرناه أولاً ، لأنه
قابله كسب القلب ، وهو تعمده للشيء ، فجميع الأقوال غيره ينطبق عليها أنها كسب
القلب ، لأن للقلب قصداً إليها : ونفي الوحدة يدل على أنه لا إثم ولا كفارة ،
فيضعف قول من قال : إنها تختص بالإثم ، ويفسر اللغو باليمين المكفرة ، وسئل الحسن
عن اللغو ، والمسبية ذات الزوج ، فوثب الفرزدق وقال : أما سمعت ما قلت : ولست
بمأخوذ بشيء تقوله
إذا لم تعمد عاقدات العزائم
وما قلت : وذات حليل أنكحتنا رماحنا
حلالاً ، ولولا سبيها لم تطلق
فقال الحسن : ما اذكاك لولا حنثك .
باللغو : متعلق : بيؤاخذكم ، والباء سببية ، مثلها في ) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ
النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ( ) فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ( : وفي إيمانكم ، متعلق
بالفعل ، أو بالمصدر ، أو بمحذوف ، أي : كائناً في أيمانكم ، فيكون حالاً ، ويقر
به أنك لو جعلته في صلة : الذي ، ووصفت به اللغو لاستقام .
( وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( أي باليمين التي للقلب فيها
كسب ، فكل يمين عقدها القلب فهي
" صفحة رقم 191 "
كسب له ؛ وكذلك فسر مجاهد الكسب بالعقد ، كآية المائدة ) بِمَا عَقَّدتُّمُ
الاْيْمَانَ ( ، وقال ابن عباس ، والنخعي : هو أن يحلف كاذباً أو على باطل ، وهي
الغموس ؛ وقال زيد بن أسلم : هو أن يعقد الإشراك بقلبه إذا قال : هو مشرك ، إن فعل
كذا ، وقال قتادة : بما تعمد القلب من المآثم . وهذا الذي ذكره تعالى : من
المؤاخذة ، هو العقوبة في الآخرة إن كانت اليمين غموساً ، أو غير غموس وترك
تكفيرها ، والعقوبة في الدنيا بإلزام الكفارة إن كانت مما تكفر .
واختلفوا في اليمين الغموس ، فقال مالك ، وجماعة : لا تكفر ، وهي أعظم ذنباً من
ذلك . وقال عطاء ، وقتادة ، والربيع ، . والشافعي : تكفر ، والكفارة مؤاخذة .
والغموس ما قصد الرجل في الحلف به الكذب ، وهي المصبورة ، سميت غموساً لأنها تغمس
صاحبها في الإثم ، ومصبورة لأن صبرها مغالبة وقوة عليها ، كما يصبر الحيوان للقتل
والرمي .
وقسمت الأيمان إلى : لغو ومنعقدة ، وغموس ، والمنعقدة : هي على المستقبل التي يصح
فيها الحنث والبر ، وبينا اللغو والغموس ، وقسمت أيضاً إلى : حلف على ما من محرم
وهي : الكاذبة ، ومباح : وهي الصادقة ، وعلى مستقبل عقدها طاعة والمقام عليها طاعة
، وحلها معصية أو مكروه ، ومقابلها أو ما هو مباح عقدها والمقام عليها وحلها ،
ولكن دخلت هنا بين نقيضين باعتبار وجود اليمين لأنها لا تخلو من أن لا يقصدها
القلب ، ولكن جرت على اللسان وهي : اللغو ، أو تقصدها وهي : المنعقدة ، وهما ضدان
باعتبار أن لا توجد اليمين ، إذ الإنسان قد يخلو من اليمين ، وهذان النوعان من
النقيضين والضد أحسن ما يقع فيه : لكن ، وأما الخلافان ففي جواز وقوعها بينهما
خلاف ، وقد تقدّم طرف من هذا ، وإبدال الهمزة واواً في مثل : يؤاخذ ، مقيس ، ونحوه
: يؤذن ، ويؤلف ، وفي قوله : ) وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ ( محذوف تقديره : ولكن يؤاخذكم في أيمانكم بما كسبت قلوبكم ، وحذف
لدلالة ما قبله عليه ، و : ما ، في قوله : بما ، موصولة ، والعائد محذوف ، ويحتمل
أن تكون مصدرية ، ويحسنه مقابلته بالمصدر ، وهو قوله : باللغو ، وجوّز أن تكون
نكرة موصوفة .
( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( جاءت هاتان الصفتان تدلان على توسعة الله على عباده
حيث لم يؤاخذهم باللغو في الإيمان ، وفي تعقيب الآية بهما إشعار بالغفران ، والحلم
عن من أوعده تعالى بالمؤاخذة ، وإطماع في سعة رحمته ، لأن من وصف نفسه بكثرة
الغفران والصفح مطموع في ما وصف به نفسه ، فهذا الوعيد الذي ذكره تعالى مقيد
بالمشيئة ، كسائر وعيده تعالى .
البقرة : ( 226 ) للذين يؤلون من . . . . .
( لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ( قال ابن
المسيب : كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية ، كان الرجل لا يترك المرأة ، ولا يحب أن
يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها ، فيتركها لا أيماً ، ولا ذات زوج ، فأنزل الله
هذه الآية .
وقال ابن عباس : كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر ، فوقت الله ذلك .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنه تقدّم شيء من أحكام النساء ، وشيء من
أحكام الإيمان ، وهذه الآية جمعت بين الشيئين .
وقرأ عبد الله : للذين آلوا ، بلفظ الماضي وقرأ أبي ، وابن عباس : للذين يقسمون .
والإيلاء ، كما تقدّم ، هو الحلف ، وقد ذكرنا الإيلاء من النساء كيف كان في
الجاهلية ، وأما الإيلاء الشرعي بسبب وطء النساء ، فقال ابن عباس : هو الحلف أن لا
يطأها أبداً ، وقال ابن مسعود ، والنخعي ، وقتادة ، والحكم ، وابن أبي ليلى ،
وحماد بن سليمان ، وإسحاق : هو الحلف أن لا يقربها يوماً أو أقل أو أكثر ، ثم لا
يطأها أربعة أشهر ، فتبين منه بالإيلاء .
وقال الثوري ، وأبو حنيفة : هو الحلف أن لا يطأها أربعة أشهر ، وبعد مضيها يسقط
الإيلاء ، ويكون الطلاق ، ولا تسقط قبل المضي إلا بالفيء ، وهو الجماع في داخل
المدّة .
وقال الجمهور : هو الحلف أن لا يطأ أكثر من أربعة أشهر ، فإن حلف على أربعة أشهر ،
أو ما دونها ، فليس بمولٍ ، وكانت يميناً محضاً ، لو وطء في هذه المدّة لم يكن
عليه شيء كسائر الأيمان ، وهذا قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي ثور .
والظاهر من الآية أن الإيلاء هو الحلف على الامتناع من وطء امرأته مطلقاً ، غير
مقيد بزمان ، وظاهر قوله : للذين يؤلون ، شمول الحر والعبد ، والسكران والسفيه ،
" صفحة رقم 192 "
والمولى عليه غير المجنون ، والخصى غير المجبوب ، ومن يرجى منه الوطء ، وكذا
الأخرس بما يفهم عنه من كناية أو إشارة .
واختلف في المجبوب فقيل : لا يصح إيلاؤه ، وقيل : يصح ، وأجل إيلاء العبد كأجل
إيلاء الحرّ لأندراجه في عموم قوله : للذين يؤلون ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ،
وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر ؛ وقال عطاء ، والزهري ، ومالك ، وإسحاق : أجله
شهران ؛ وقال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة : إيلاؤه من زوجته الأمة شهران ، ومن
الحرّة أربعة وقال الشعبي : أجل إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرّة .
وظاهر قوله : يؤلون ، مطلق الإيلاء ، فيحصل ، سواء كان ذلك قصد به إصلاح ولد رضيع
، أو لم يقصد ، وسواء كان في مغاضبة ومسارّة ، أو لم يكن ، وقال عطاء ، ومالك :
إذا كان لإصلاح ولد رضيع فليس يلزمه حكم الإيلاء ، وروي ذلك عن علي ، وبه قال
الشافعي في أحد قوليه ، والقول الآخر : إنه لا اعتبار برضاع ، وبه قال أبو حنيفة .
وقال علي ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، والليث : شرطه أن لا يكون في
غضب . وقال ابن مسعود ، وابن سيرين ، والثوري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ،
وأحمد ، الإيلاء في غضب وغير غضب . قال ابن المنذر : وهو الأصح لعموم الآية ،
ولإجماعهم على أن الظهار والطلاق وسائر الأيمان سواء في الغضب والرضى ، وكذلك
الإيلاء ، والجمهور حملوا قوله ) لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ ( على
الحلف على إمتناع الوطء فقط ؛ وقال الشعبي ، والقاسم ، وسالم ، وابن المسيب : هو
الحلف على الامتناع من أن يطأها ، أو لا يكلمها ، أو أن يضارها ، أو يغاضبها .
فهذا كله عند هؤلاء إيلاء ، إلاَّ أن ابن المسيب قال : إذا حلف لا يكلمها وكان
يطأها فليس بإيلاء ، وإنما تكون تلك إيلاء إذا اقترن بها الامتناع من الوطء .
وأقوال من ذكر مع ابن المسيب قالوا ما محتمله ما قاله ابن المسيب ، وما يحتمله أن
فساد العشرة إيلاء ، وإلى هذا الاحتمال ذهب الطبري .
وظاهر الآية يدل على مذهب هؤلاء ، لأنه قال : ) لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن
نّسَائِهِمْ ( فلم ينص على وطء ولا غيره .
و : من ، يتعلق بقوله : يؤلون ، وآلى لا يتعدّى بمن ، فقيل : من ، بمعنى : على ،
وقيل : بمعنى في ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، أي : على ترك وطء نسائهم ، أو في ترك
وطء نسائهم . وقيل : من ، زائدة والتقدير : يؤلون أن يعتزلوا نساءهم . وقيل :
يتعلق بمحذوف ، والتقدير : للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ، فتتعلق بما
تتعلق به لهم المحذوف ، قاله الزمخشري ، وهذا كله ضعيف ينزه القرآن عنه ، وإنما
يتعلق بيؤلون على أحد وجهين : إما أن يكون : من ، للسبب أي : يحلفون بسبب نسائهم ،
وإما أن يضمن الإيلاء معنى الامتناع ، فيعدى بمن ، فكأنه قيل : للذين يمتنعون
بالإيلاء من نسائهم ، و : من نسائهم ، عام في الزوجات من حرة وأمّة وكتابية ومدخول
بها وغيرها .
وقال عطاء ، والزهري ، والثوري : لا إيلاء إلاَّ بعد الدخول . وقال مالك ، لا
إيلاء من صغيرة لم تبلغ ، فان آلى منها فبلغت لزم الإيلاء من يوم بلوغها .
وظاهر قوله : للذين يؤلون ، عموم الإيلاء بأي يمين كانت ، قال الشافعي في ( الجديد
) : لا يقع الإيلاء إلاَّ بالحلف بالله وحده . وقال ابن عباس : كل يمين منعت
جماعاً فهي إيلاء ، وبه قال النخعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأهل العراق ، ومالك
، وأهل الحجاز ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وابن المنذر ، والقاضي أبو بكر ابن العربي
، والشافعي في القول الأخير .
وقال أبو حنيفة : إذا قال : أقسم بالله ، فهي يمين مطلقاً ولا يكون بها مولياً ،
وإن قال : وإن وطئتك فعلي صيام شهر أو سنة فهو مول ؛ وقال أبو حنيفة : إن كان ذلك
الشهر يمضي قبل الأربعة
" صفحة رقم 193 "
الأشهر فليس بمول ، وكذلك كل ما يلزمه من حج أو طلاق أو عتق أو صلاة أو صدقة ،
وخالف أبو حنيفة فيما إذا قال : إن وطئتك فعلىّ أن أصلي ركعتين أنه لا يكون مولياً
. وقال محمد : يكون مولياً .
وذكر بعض المفسرين هنا فروعاً كثيرة في الإيلاء ، وإنما نذكر نحن ماله بعض تعلق
بالقرآن على عادتنا ، وليس التفسير موضوعاً لاستقراء جزئيات الفروع ، وظاهر قوله :
للذين يؤلون ، حصول اليمين منهم ، سواء حلف أن لا يطأ في موضع معين ، أو مطلقاً ،
وبه قال ابن أبي ليلى ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأصحابهم ،
والأوزاعي ، وأحمد : لا يكون مولياً من حلف أن لا يطأ زوجته في هذا البيت أو في
هذه الدار فإن حلف أن لا يطأها في مصره أو بلده فهو مول عند مالك .
ولا يدخل الذمي في قوله : ) لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ ( لقوله ) فَانٍ انتَهَوْاْ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( وبه قال مالك ، كما لا يصح ظهار . وقال أبو
حنيفة إن حلف باسم من أسماء الله تعالى ، أو بصفة من صفاته ، أو حلف بما يصح منه
كالطلاق ، فهو مول ؛ ولو استثنى المولي في يمينه فالجمهور على أنه لا يكون مولياً
كسائر الأيمان المقرونة بالاستثناء ؛ وقال ابن القاسم ، عن مالك : يكون مولياً ،
لكنه لو وطىء فلا كفارة عليه ، وقاله ابن الماجشون في ( المبسوط ) عن مالك : لا
يكون مولياً .
( تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ( هذا من باب إضافة المصدر إلى ما هو ظرف زمان في
الأصل ، لكنه اتسع فيه فصير مفعولاً به ، ولذلك صحت الإضافة إليه ، وكان الأصل :
تربصهم أربعة أشهر ، وليست الإضافة إلى الظرف من غير اتساع ، فتكون الإضافة على
تقدير : في ، خلافاً لمن ذهب إلى ذلك .
وظاهر هذا ، أن ابتداء أجل الإيلاء من وقت حلف لا من وقت المخاصمة والرفع إلى
الحاكم ، قيل : وحكمه ضرب أربعة أشهر ، لأنه غالب ما تصبر المرأة فيها عن الزوج ،
وقصة عمر مشهور في سماع المرأة تنشد بالليل : ألا طال هذا الليل واسود جانبه
وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
وسؤاله : كم تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقيل له : لا تصبر أكثر من أربعة أشهر . فجعل
ذلك أمداً لكل سرية يبعثها .
( فَانٍ ( أي : رجعوا بالوطء ، قاله ابن عباس ، والجمهور ، ويكفي من ذلك عند
الجمهور مغيب الحشفة للقادر ، فإن كان له عذر أو مرض أو سجن أو شبه ذلك ، فارتجاعه
صحيح ، وهي امرأته ، وإن زال عذره فأبى الوطء فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت ،
قاله مالك في ( المدونة ) و ( المبسوط ) . وقال الحسن ، والنخعي ، وعكرمة ،
والأوزاعي : يجزي المعذور أن يشهد على فيئتيه بقلبه ، وقال النخعي أيضاً : يصح
الفيء بالقول ، والإشهاد فقط ، ويسقط حكم الإيلاء إذا رأيت أن لم ينتشر ، وقيل :
الفيء هو الرضى ، وقيل : الرجوع باللسان بكل حال ، قاله أبو قلابة ، وإبراهيم ،
ومن قال : إن المولي هو الحالف على مساءة زوجته ؛ وقال أحمد : إذا كان له عذر يفيء
بقلبه ، وقال ابن جبير ، وابن المسيب ، وطائفة : الفيء لا يكون إلا بالجماع في حال
القدرة وغيرها ، من سجن أو سفر أو مرض وغيره .
وأمال : فاؤوا ، جرية بن عائذ لقوله : فئت ، وقرأ عبد الله فإن فاؤوا فيهنّ ، وقرأ
أبي : فان فاؤوا فيها ، وروي عنه : فيهنّ ، كقراءة عبد الله . والضمير عائد على
الأشهر ، ويؤيد هذه القراءة مذهب أبي حنيفة : بأن الفيئة لا تكون إلاَّ في الأشهر
، وإن لم يفيء فيها دخل عليه الطلاق من غير أن يوقف بعد مضي الأربعة الأشهر ، وإلى
هذا ذهب : ابن مسعود ، وابن عباس ، وعثمان بن عفان ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وجابر
بن زيد ، والحسن ، ومسروق ؛ وقال عمر ، وعثمان ، وعلي أيضاً ، وأبو الدرداء ، وابن
عمر ، وابن عامر وابن المسيب ،
" صفحة رقم 194 "
ومجاهد ، وطاووس ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد : إذا انقضت
الأربعة الأشهر وقف ، فإما فاء وإلاَّ طلق عليه ؛ والقراءة المتواترة : فإن فاؤوا
بغيرهنّ ، ولا فيها ، فاحتمل أن يكون التقدير : فإن فاؤوا في الأشهر ، واحتمل أن
يكون : فإن فاؤوا بعد انقضائها .
( انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( استدل بهذا من قال : إنه إذا فاء
المولى ووطىء فلا كفارة عليه في يمينه ، وإلى هذا ذهب الحسن ، وإبراهيم ؛ وذهب
الجمهور مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم إلى إيجاب كفارة اليمين على
المولي بجماع امرأته ، فيكون الغفران هنا إشعاراً باسقاط الإثم بفعل الكفارة ، وهو
قول علي ، وابن عباس ، وابن المسيب : إنه غفران الإثم ، وعليه كفارة ، وعلى المذهب
الذي قبله يكون بإسقاط الكفارة ، وقال أبو حنيفة : ولا كفارة على العاجز عن الوطء
إذا فاء ، وقال إسحاق : قال بعض أهل التأويل فيمن حلف على بر وتقوى ، أو باب من
أبواب الخير أن لا يفعله أنه يفعله ، ولا كفارة عليه ، والحجة له ، ( فَانٍ
انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ولم يذكر كفارة ، وقيل : معنى ذلك
غفور لمآثم اليمين ، رحيم في ترخيص المخرج منها بالتكفير ، قاله ابن زياد ، وهو
راجع للقول الثاني ، وقيل : معنى رحيم حيث نظر للمرأة أن لا يضربها زوجها ، فيكون
وصف الغفران بالنسبة إلى الزوج ، وصفة الرحمة بالنسبة إلى الزوجة .
البقرة : ( 227 ) وإن عزموا الطلاق . . . . .
( وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ ( قرأ ابن عباس : وإن عزموا السراح ، وانتصاب
الطلاق : إما على إسقاط حرف الجر ، وهو على ، لأن عزم يتعدى بعلى كما قال :
عزمت على إقامة ذي صباح
وأما إن تضمن : عزم ، معنى : نوى ، فيتعدى إلى مفعول به .
ومعنى العزم هنا التصميم على الطلاق ، ويظهر أن جواب الشرط محذوف ، تقديره :
فليوقعوه ، أي : الطلاق ، وفي قوله في هذا التقسيم : ) فَانٍ ( و ) ءانٍ عَزَمُواْ
الطَّلَاقَ ( دليل على أن الفرقة التي تقع في الإيلاء لا تقع بمضي الأربعة الأشهر
من غير قول ، بل لا بد من القول لقوله : عزموا الطلاق ، لأن العزم على فعل الشيء
ليس فعلاً للشيء ، ويؤكده : ) فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( إذ لا يسمع إلاَّ
الأقوال ، وجاءت هاتان الصفتان باعتبار الشرط وجوابه ، إذ قدرناه : فليوقعوه ، أي
الطلاق ، فجاء : سميع ، باعتبار إيقاع الطلاق ، لأنه من باب المسموعات ، وهو جواب
الشرط ، وجاء : عليم ، باعتبار العزم على الطلاق ، لأنه من باب النيات ، وهو الشرط
، ولا تدرك النيات إلاَّ بالعلم .
وتأخر هذا الوصف لمؤاخاة رؤوس الآي ، ولأن العلم أعم من السمع ، فمتعلقة أعم ،
ومتعلق السمع أخص ، وأبعد من قال : فإن الله سميع لإيلائه ، لبعد انتظامه مع الشرط
قبله . وقال الزمخشري : فإن قلت ما تقول في قوله : فإن الله سميع عليم ؟ وعزمهم
الطلاق مما لا يعلم ولا يسمع ؟ قلت : الغالب أن العازم للطلاق ، وترك الفيئة
والفرار لا يخلو من مقارنة ودمدمة ، ولا بد من أن يحدث نفسه ويناجيها بذلك ، وذلك
حديث لا يسمعه إلاَّ الله ، كما يسمع وسوسة الشيطان . انتهى كلامه .
وقد قدّمنا أن صفة السمع جاءت هنا لأن المعنى : وإن عزموا الطلاق أوقعوه ، أي :
الطلاق ، والإيقاع لا يكون إلاَّ باللفظ ، فهو من باب المسموعات ، والصفة تتعلق
بالجواب لا بالشرط ، فلا تحتاج إلى تأويل الزمخشري .
وفي قوله : ) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ ( دلالة مطلق الطلاق ، فلا يدل على
خصوصية طلاق بكونه رجعياً أو بائناً ، وقد اختلف في الطلاق الداخل على المولي في
ذلك ، فقال عثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، والنخعي ، والأوزاعي
، وأبو حنيفة : هي طلقة بائنة لا رجعة له فيها وقال ابن المسيب ، وأبو بكر بن عبد
الرحمن ، ومكحول ، والزهري ، ومالك ، وابن شبرمة : هي رجعية .
وفي الحكم للمولي بأحد الأمرين ، إما الفيئة ، وإما الطلاق دليل
" صفحة رقم 195 "
على أنه لا يجوز تقديم الكفارة في الإيلاء قبل الفيء على قول من يوجب الكفارة ،
لأنه لو جاز ذلك لبطل الإيلاء بغير فيء ولا عزيمة طلاق ، لأنه إن حنث لم يلزم
بالحنث شيء ، ومتى لم يلزم الحالف بالحنث شيء لم يكن مولياً ، ففي جواز تقديم
الكفارة إسقاط حكم الإيلاء ، قاله محمد بن الحسن ، ومذهب أبي حنيفة ومشهور مذهب
مالك : أنه يجوز تقديم الكفارة . وقال الزمخشري : وإن عزموا الطلاق فتربصوا إلى
مضي المدة . فإن الله سميع عليم ، وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة ، وعلى قول
الشافعي معناه : فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم ، وإن عزموا بعد مضي المدة . انتهى
.
وكان قد تقدّم في تفسير قوله : فإن فاؤوا ، ما نصه فإن فاؤوا في الأشهر ، بدليل
قراءة عبد الله ، فإن فاؤوا فيهنّ فإن الله غفور رحيم ، يغفر للمؤمنين ما عسى
يقدّمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء ، وهو الغالب ، وإن كان يجوز أن يكون
على رضى منهن ، خوفاً من طلب ضرار النساء بالإيلاء ، وهو الغالب . وإن كان يجوز أن
يكون على رضى منهن خوفاً على الولد من الغيل ، أو لبعض الأسباب لأجل الفيئة التي
هي مثل التوبة ، فنزل الزمخشري الآية على مذهب أبي حنيفة ، وغاير بين متعلق
الفعلين من الطرفين ، إذ جعل بعد : فاؤوا ، في مدة الأشهر ، وبعد : عزموا ، بعد
مضي المدة ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أن الفيئة والعزم على الطلاق لا يكونان إلا
بعد مضي الأشهر ، ولما أحسّ الزمخشري بهذا اعترض على نفسه فقال : فإن قلت : كيف
موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدة التربص ؟ قلت : موقع صحيح ، لأن قوله :
فإن فاؤوا ، وإن عزموا ، تفصيل لقوله : للذين يؤلون من نسائهم ، والتفصيل يعقب
المفصل ، كما تقول : أنا نزيلكم هذا الشهر فان أحمدتكم أقمت عندكم ، إلى آخره .
وإلاَّ لم أقم إلاَّ ريثما أتحول . انتهى كلامه . وليس بصحيح لأن ما مثل به ليس
مطابقاً لما في الآية ، ألا ترى أن المثال فيه إخبار عن المفصل حاله ، وهو قوله :
أنا نزيلكم هذا الشهر ، وما بعد الشرطين مصرح فيه بالجواب الدال على اختلاف متعلق
فعل الجزاء ، والآية ليس كذلك التركيب فيها ، لأن الذين يؤلون ليس مخبراً عنهم ،
ولا مسنداً إليهم حكم ، وإنما المخبر عنه هو : تربصهم ، فالمعنى تربص المولي أربعة
أشر مشروع لهم بعد إيلائهم ، ثم قال : فإن فاؤوا ، وإن عزموا ، فالظاهر أنه يعقب
تربص المدة المشروعة بأسرها ، لأن الفيئة تكون فيها ، والعزم بعدها ، لأن هذا
التقييد المغاير لا يدل عليه اللفظ ، وإنما تطابق الآية أن نقول : للضيف اكرام
ثلاثة أيام ، فإن أقام فنحن كرماء مؤثرون ، وإن عزم على الرحيل فله أن يرحل .
فالذي يتبادر إليه الذهن أن الشرطين مقدران بعد إكرامه الثلاثة الأيام ، وأما أن
يكون المعنى : فإن أقام في مدة الثلاثة الأيام ، وإن عزم على الرحيل بعد ذلك ، فهذا
الاختلاف في الطرفين لا يتبادر إليه الذهن ، وإن كان مما يحتمله اللفظ ، وفرق بين
الظاهر والمحتمل ، ولا يفرق بين الآية وتمثيل الزمخشري إلاَّ من ارتاض ذهنه في
التراكيب العربية ، وعرى من حمل كتاب الله على الفروع المذهبية ، باتباعه الحق
واجتنابه العصبية .
البقرة : ( 228 ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن . . . . .
( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ( ذكر بعضهم في سبب نزول هذه
الآية ما لا يعد سبباً ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة جداً ، لأنه حكم غالب
من أحكام النساء ، لأن الطلاق يحصل به المنع من الوطء والاستمتاع دائماً ،
وبالإيلاء منع نفسه من الوطء مدة محصورة ، فناسب ذكر غير المحصور بعد ذكر المحصور
، ومشروع تربص المولي أربعة أشهر ، ومشروع تربص هؤلاء ثلاثة قروء ، فناسب ذكرها
بعقبها ، وظاهر : والمطلقات ، العموم ، ولكنه مخصوص بالمدخول بهن ذوات الأقراء ، لأن
حكم غير المدخول بها ، والحامل ، والآيسة منصوص عليه مخالف لحكم هؤلاء .
وروي عن ابن عباس وقتادة أن الحكم كان عاماً في المطلقات ، ثم نسخ الحكم من
" صفحة رقم 196 "
المطلقات سوى المدخول بها ذات الإقراء ، وهذا ضعيف ، وإطلاق العام ويراد به الخاص
لا يحتاج إلى دليل لكثرته ، ولا أن يجعل سؤالاً وجواباً . كما قال الزمخشري ، قال
: فإن قلت كيف جازت إرادتهن خاصة واللفظ يقتضي العموم . قلت : بل اللفظ مطلق في
تناول الجنس ، صالح لكله وبعضه ، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك . انتهى .
وما ذكره ليس بصحيح ، لأن دلالة العام ليست دلالة المطلق ، ولا لفظ العام مطلق في
تناول الجنس صالح لكله وبعضه ، بل هي دلالة على كل فرد فرد ، موضوعة لهذا المعنى ،
فلا يصلح لكل الجنس وبعضه ، لأن ما وضع عاماً يتناول كل فرد فرد ، ويستغرق الأفراد
لا يقال فيه : إنه صالح لكله وبعضه ، فلا يجيء في أحد ما يصلح له ، ولا هو كالاسم
المشترك ، لأن الأسم المشترك له وضعان وأوضاع بإزاء مدلوليه أو مدلولاته ، فلكل
مدلول وضع ، والعام ليس له إلاَّ وضع واحد على ما أوضحناه ، فليس كالمشترك .
( وَالْمُطَلَّقَاتُ ( مبتدأ و ) يَتَرَبَّصْنَ ( خبر عن المبتدأ ، وصورته صورة الخبر
، وهو أمر من حيث المعنى ، وقيل : هو أمر لفظاً ومعنىً على إضمار اللام أي :
ليتربصن ، وهذا على رأي الكوفيين ، وقيل : والمطلقات على حذف مضاف ، أي : وحكم
المطلقات ويتربصن على حذف : أن ، حتى يصح خبراً عن ذلك المضاف المحذوف ، التقدير :
وحكم المطلقات أن يتربصن ، وهذا بعيد جداً .
وقال الزمخشري ، بعد أن قال : هو خبر في معنى الأمر ، قال : فإخراج الأمر في صورة
الخبر تأكيد الأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن
امتثلن الأمر بالتربص ، فهو يخبر عنه ، موجوداً ، ونحوه قولهم في الدعاء : رحمه الله
، أخرج في صورة الخبر عن الله ثقة بالاستجابة ، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها ،
وبناؤه على المبتدأ مما زاد فضل تأكيد ، ولو قيل : ويتربصن المطلقات ، لم يكن بتلك
الوكادة . انتهى . وهو كلام حسن ، وإنما كانت الجملة الابتدائية فيها زيادة توكيد
على جملة الفعل والفاعل لتكرار الاسم فيها مرتين : إحداهما بظهوره ، والأخرى
بإضماره ، وجملة الفعل والفاعل يذكر فيها الإسم مرة واحدة .
وقال في ( ري الظمآن ) زيد فعل يستعمل في أمرين : أحدهما : تخصيص ذلك الفعل بذكر
الأمر ، كقولهم : أنا كتبت في المهمّ الفلاني إلى السلطان ، والمراد دعوى الانفراد
. الثاني : أن لا يكون المقصود ذلك ، بل المقصود أن تقديم المحدث عنه بحديث آكد
لإثبات ذلك الفعل له ، كقولهم : هو يعطى الجزيل ، لا يريد الحصر ، بل المراد أن
يحقق عند السامع أن إعطاء الجزيل دأبه .
ومعنى يتربصن : ينتظرن ولا يقدمن على تزوج . وقال القرطبي : هو خبر على بابه ، وهو
خبر عن حكم الشرع ، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع ، قيل : وحمله على
الخبر هو الأولى ، لأن المخبر به لا بد من كونه ، وأما الأمر فقد يمتثل ، وقد لا
يمتثل ، ولأنها لا تحتاج إلى نية وعزم وتربص متعدٍ ، إذ معناه : انتظر . وجاء في
القرآن محذوفاً مفعوله ، ومثبتاً ، فمن المحذوف هذا ، وقدروه : بتربص التزويج ، أو
الأزواج ، ومن المثبت قوله : ) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى
الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ
مّنْ عِندِهِ ( ) نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ).
و : بأنفسهن ، متعلق : بتربص ، وظاهر الباء مع تربص أنها للسبب ، أي : من أجل
أنفسهن ، ولا بد أن ذلك من ذكر الأنفس ، لأنه لو قيل في الكلام : يتربص بهن لم يجز
، لأنه فيه تعدية الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل إلى الضمير المجرور ، نحو : هند
تمر بها ، وهو غير جائز ، ويجوز هنا أن يكون زائدة للتوكيد ، والمعنى : يتربصن
أنفسهن ، كما تقول : جاء زيد بنفسه ، وجاء زيد بعينه ، أي : نفسه وعينه ، لا يقال
: إن التوكيد هنا لا يجوز ، لأنه من باب توكيد الضمير المرفوع المتصل ، وهو النون
التي هي ضمير الإناث في : تربصن ، وهو يشترط فيه أن يؤكد بضمير منفصل ، وكان يكون
التركيب : يتربصن هن بأنفسهن ، لأن هذا التوكيد ، لما جرّ بالباء ، خرج عن التبعية
، وفقدت فيه
" صفحة رقم 197 "
العلة التي لأجلها امتنع أن يؤكد الضمير المرفوع المتصل ، حتى يؤكد بمنفصل ، إذا
أريد التوكيد للنفس والعين ، ونظير جواز هذا : أحسن بزيد وأجمل ، التقدير : وأجمل
به ، فحذف وإن كان فاعلاً ، هذا مذهب البصريين ، ولأنه لما جرّ بالباء خرج في
الصورة عن الفاعل ، وصار كالفضلة ، فجاز حذفه : هذا على أن الأخفش ذكر في المسائل
جواز : قاموا أنفسهم ، من غير توكيد ، وفائدة التأكيد هنا : أنهنّ يباشرن التربص ،
وزوال احتمال أن غيرهنّ تباشر ذلك بهنّ ، بل أنفسهنّ هنّ المأمورات بالتربص ، إذ
ذاك أدعى لوقوع الفعل منهنّ ، فاحتيج إلى ذلك التأكيد لما في طباعهنّ من الطموح
إلى الرجال والتزويج ، فمتى أكد الكلام دل على شدة المطلوبة .
وانتصاب : ثلاثة ، على أنه ظرف ، إذ قدرنا : تربص ، قد أخذ مفعوله ، والمعنى : مدة
ثلاثة قروء ، وقيل : انتصابه على أنه مفعول ، أي : ينتظرن معنى ثلاثة قروء ، وكلا
الإعرابيين منقول .
وتقدم الكلام في مدلول القروء في لسان العرب ، واختلف في المراد هنا .
فقال أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبو موسى ، وابن عباس ،
ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعكرمة ، والضحاك ، ومقاتل ، والسدي ، والربيع
، وأبو حنيفة وأصحابه ، وغيرهم من فقهاء الكوفة : هو الحيض .
وقال زيد بن ثابت ، وعبادة بن الصامت ، وأبو الدرداء ، وعائشة ، وابن عمر ، وابن
عباس ، والزهري ، وأبان بن عثمان ، وسليمان بن يسار ، والأوزاعي ، والثوري ،
والحسن بن صالح ، ومالك ، والشافعي ، وغيرهم من فقهاء الحجاز : هو الطهر .
وقال أحمد : كنت أقول القرء الطهر ، وأنا الآن أذهب إلى أنه الحيض .
وروي عن الشافعي : أن القرء : الانتقال من الطهر إلى الحيض ، ولا يرى الانتقال من
الحيض إلى الطهر قرءاً .
وقد تقدّم قول آخر : إنه الخروج من طهر إلى حيض ، أو من حيض إلى طهر . ولذكر ترجيح
كل قائل ما ذهب إليه مكان غير هذا .
وظاهر قوله : ثلاثة قروء ، أن العدّة تنقضي بثلاثة القروء ، ومن قال : إن القرء
الحيض يقول ، إذا طلقت في طهر لم توطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة ثم تغتسل
، فبالغسل تنقضي العدة .
روي عن علي ، وابن مسعود ، وأبي موسى ، وغيرهم من الصحابة : ( أن زوجها أحق بردّها
ما لم تغتسل ) حتى قال شريك : لو فرطت في الغسل ، فلم تغتسل عشرين سنة ، كان زوجها
أحق بالرجعة والذي يظهر من الآية أن الغسل لا دخول له في انقضاء العدة .
وروي عن زيد ، وابن عمر ، وعائشة : إذا دخلت في الحيضة الثالثه فلا سبيل له عليها
، ولا تحل للأزواج حتى تغتسل من الحيضة الثالثة ، وذلك أن هؤلاء يقولون بأن القرء
هو الطهر ، فإذا اطلقت في طهر لم تمس فيه ، اعتدت بما بقي منه ، ولو ساعة ، ثم
استقبلت طهراً ثانياً بعد حيضة ، ثم ثالثاً بعد حيضة ثانية ، فإذا رأت الدم من
الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة بأوّل نقطة تراها ، وبه قال مالك ، والشافعي
، وأحمد ، وداود .
وقال أشهب : لا تنقطع العصمة والميراث إلاَّ بتحقق أنه دم حيض ، لاحتمال أن يكون
دفعة دم من غير الحيض ، وكل من قال : إن القرء الاطهار ، يعتد بالطهر الذي طلقت
فيه ، وشذا بن شهاب فقال : تعتد بثلاثة أقراء سوى بقية ذلك الطهر ، ولا تنقضي
العدة حتى تدخل في الحيضة الرابعة ، لأن الله تعالى قال : ) ثَلَاثَةَ قُرُوء ( ،
ولو ، طلقت في الحيض انقضت عدتها بالشروع في الحيضة الرابعة .
وقال أبو حنيفة : لا تنقضي عدتها ما لم تطهر من الحيضة الرابعة ، وقال : إذا طهرت
لأكثر الحيض انقضت عدتها قبل الغسل أو لأوّله ، فلا تنقضي حتى تغتسل ، أو تتيمم
عند عدم الماء ، أو يمضي عليها وقت الصلاة .
وظاهر عموم المطلقات دخول الزوجة الأمة في الاعتداد بثلاثة قروء ، وبه قال داود ،
وجماعة أهل الظاهر ، وعبد الرحمن بن كيسان الأصم ؛ وروي عن ابن سيرين أنه قال : ما
أرى عدة الأمة إلاَّ كعدة الحرة ، إلاَّ أن مضت سنة في ذلك ، فالسنة أحق أن تتبع
وقال الجمهور : عدتها قُرءان .
وقرأ الجمهور : وقروء ، على وزن فعول ؛ وقرأ الزهري : قروّ ، بالتشديد من غير همز
، وروي ذلك عن نافع ؛ وقرأ الحسن : قرو بفتح القاف وسكون الراء وواو خفيفة ،
وتوجيه الجمع للكثرة في هذا المكان ، ولم يأت : ثلاثة أقراء ، انه من باب التوسع
في وضع أحد الجمعين
" صفحة رقم 198 "
مكان الآخر ، أعني : جمع القلة مكان جمع الكثرة ، والعكس وكما جاء : بأننفسهن وأن
النكاح يجمع النفس على نفوس في الكثرة ، وقد يكثر استعمال أحد الجمعين ، فيكون ذلك
سبباً للإتيان به في موضع الآخر ويبقى الآخر قريباً من المهمل ، وذلك نحو : شسوع
أوثر على أشساع لقلة استعمال أشساع ، وإن لم يكن شاذاً ، لأن شسعا ينقاس فيه أفعال
؛ وقيل : وضع بمعنى الكثرة ، لأن كل مطلقة تتربص ثلاثة قروء ؛ وقيل : أوثر قروء
على أقراء لأن واحده قرءٌ ، بفتح القاف ، وجمع فعل على أفعال شاذ ، وأجاز المرّد :
ثلاثة حمير ، وثلاثة كلاب ، على إرادة : من كلاب ، ومن حمير . فقد يتخرّج على ما
أجازه : ثلاثة قروء ، أي : من قروء .
وتوجيه تشديد الواو ، وهو أنه أبدل من الهمزة واواً وأدغمت واو فعول فيها ، وهو
تسهيل جائز منقاس ، وتوجيه قراءة الحسن أنه أضاف العدد إلى اسم الجنس ، إذ إسم
الجنس يطلق على الواحد وعلى الجمع على حسب ما تريد من المعنى ، ودل العدد على أنه
لا يراد به الواحد .
( وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ (
المنهي عن كتمانه الحيض ، تقول لست حائضاً وهي حائض ، أو حضت وما حاضت ، لتطويل
العدة واستعجال الفرقة ، قال عكرمة ، والنخعي ، والزهري . أو : الحبل ، قاله عمر ،
وابن عباس . أو الحيض والحبل معاً ، قاله ابن عمر ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن زيد ،
والربيع ، ولهنّ في كتم ذلك مقاصد ، فأخبر الله تعالى أن كتم ذلك حرام ؛ ودل قوله
: ) وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ ( أنهن مؤمنات على ذلك ، ولو أبيح
الاستقصاء لم يمكن الكتم ؛ وقال سليمان بن يسار : لم نؤمر أن نفتح النساء فننظر
إلى فروجهنّ ، ولكن وكل ذلك اليهنّ ، إذ كنّ مؤتمنات . إنتهى . وأجمع أهل العلم
على أنه لا يجوز أن تكتم المرأة ما خلق الله في رحمها من حمل ولا حيض ، وفيه تغليط
، وإنكار .
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد : اللاتي تبغين إسقاط ما في بطونهنّ من الآجنة ، فلا
يعترفن به ، ويجحدنه لذلك فجعل كتمان ما في أرحامهنّ كناية عن اسقاطه . إنتهى
كلامه ، والآية تحتمله .
قال ابن المنذر : كل من حفظت عنه من أهل العلم قال : إذا قالت المرأة في عشرة أيام
حضت إنها لا تصدق ، ولا يقبل ذلك منها إلا أن تقول : قد أسقطت سقطاً قد استبان
خلقه ، واختلفوا في المدة التي تصدق فيها المرأة فقال مالك : إن ادّعت الانقضاء في
أمد تنقضي العدة في مثله ، قبل قولها : أو في مدة تقع نادراً ، فقولان ، قال في (
المدوّنة ) إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر ، صدقت إذا صدقها النساء ، وبه قال علي
وشريح ، وقال في كتاب ( محمد ) لا تصدق إلا في شهر ونصف ، ونحو منه قول أبي ثور ،
أقل ما يكون ذلك في سبعة وأربعين يوماً ، وقيل : لا تصدق في أقل من ستين يوماً .
وروي عن علي أنه استحلف امرأة لم تستكمل الحيض ، وقضى بذلك عثمان .
و : لهنّ ، متعلق : بيحل ، واللام للتبليغ ، و : ما ، في : ما خلق ، الأظهر أنها
موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة ، والعائد محذوف
أيضاً التقدير : خلقه . و : في أرحامهنّ ، متعلق ، بخلق ، وجوّر أن تكون في
أرحامهنّ حالاً من المحذوف ، قيل : وهي حال مقدرة ، لأنه وقت خلقه ليس بشيء حتى
يتم خلقه .
وقرأ مبشر بن عبيد : في أرحامهنّ وبردّهنّ ، بضم الهاء فيهما والضم هو الأصل ،
وإنما كسرت لكسرة ما قبلها .
( إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ). هذا شرط جوابه محذوف على
الأصح من المذاهب ، حذف لدلالة ما قبله عليه ، ويقدر هنا من لفظه ، أي : إن كنّ
يؤمنّ بالله واليوم الآخر ، فلا يحل لهنّ ذلك والمعنى : أن من اتصف بالإيمان لا
يقدم على ارتكاب ما لا يحل له ، وعلق ذلك على بهذا الشرط ، وإن كان الإيمان حاصلاً
لهنّ إيعاداً وتعظيماً للكتم ، وهذا كقولهم : إن كنت مؤمناً فلا تظلم ، وإن كنت
حراً فانتصر . يجعل ما كان موجوداً كالمعدوم ، ويعلق عليه ، وإن كان موجوداً في
نفس الأمر .
والمعنى : إن كنّ مؤمنات فلا يحل لهنّ الكتم ، وأنت مؤمن فلا تظلم ، وأنت حر
فانتصر ، وقيل : في الكلام محذوف : أي ، إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر حق
الإيمان .
وقيل : إن ، بمعنى : إذ ، وهو ضعيف ، وتضمن هذا الكلام الوعيد ، فقال
" صفحة رقم 199 "
ابن عباس : لما استحقه الرجل من الرجعه ؛ وقال قتادة : لإلحاق الولد بغيره ، كفعل
أهل الجاهلية .
( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ ( قرأ مسلمة بن محارب :
وبعولتهنّ ، بسكون التاء ، فراراً من ثقل توالي الحركات ، وهو مثل ما حكى أبو زيد
: ورسلنا ، بسكون اللام . وذكر أبو عمر ، و : أن لغة تميم تسكين المرفوع من :
يعلمهم ، ونحوه . وسماهم بعولة باعتبار ما كانوا عليه ، أو لأن الرجعية زوجة على
ما ذهب إليه بعضهم .
والمعنى أن الأزواج أحق لمراجعتهنّ .
وقرأ أبي : بردتهِنَّ بالتاء بعد الدال ، وتتعلق : الباء ، وفي ، بقوله : أحق ،
وقيل : تتعلق : في ، بردهنّ ؛ وأشار بقوله : في ذلك ، إلى الأجل الذي أمرت أت
تتربص فيه ، وهو زمان العدة وقيل : في الحمل المكتوم ، والضمير في : بعولتهن ،
عائد على المطلقات ، وهو مخصوص بالرجعيات ، وفيه دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا
يمنع عموم أوله ولا يوجب تخصيصه ، لأن قوله : والمطلقات ، عام في المبتوتات
والرجعيات ، و : بعولتهن أحق بردهن ، خاص في الرجعيات ، ونظيره عندهم ) وَصَّيْنَا
الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ( فهذا عموم ، ثم قال : ) وَإِن جَاهَدَاكَ (
وهذا خاص في المشركين .
والأولى عندي أن يكون على حذف مضاف دل عليه الحكم ، تقديره : وبعولة رجعياتهن ،
وأحق ، هنا ليست على بابها ، لأن غير الزوج لا حق له ولا تسليط على الزوجة في مدة
العدة ، إنما ذلك للزوج ولا حق لها أيضاً في ذلك ، بل لو أبت كان له ردها ، فكأنه
قيل : وبعولتهن حقيقون بردهن . ودل قوله : بردهنّ ، على انفصال سابق ، فمن قال :
إن المطلقة الرجعية محرمة الوطء فالرد حقيقي على بابه ، ومن قال : هي مباحة الوطء
وأحكامها أحكام الزوجة ، فلما كان هناك سبب تعلق به زوال النكاح عند انقضاء العدّة
، جاز إطلاق الرد عليه ، إذ كان رافعاً لذلك السبب .
واختلفوا فيما به الرد ؛ فقال سعيد ، والحسن ، وابن سيرين ، وعطاء وطاووس ،
والزهري ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة : إذا جامعها فقد راجعها ويُشهد ؛
وقال الليث ، وطائفة من أصحاب مالك : إن وطأه مراجعة على كل حال نواها أو لم ينوها
؛ وقال مالك : إن وطِئها في العدة يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعة وينبغي
للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد ، وبه قال اسحاق : فإن وطىء ولم ينو الرجعة ، فقال
مالك : يراجع في العدة ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد .
وقال ابن القاسم : فإن انقضت عدتها لم ينكحها هو ولا غيره في مدة بقية الاستبراء ،
فان فعل فسخ نكاحه ولا يتأبد تحريمها عليه ، لأن الماء ماؤه ؛ وقال الشافعي : إذا
جامعها فليس برجعة نوى بذلك الرجعة أم لا ، ولها مهر مثلها . وقال مالك : لا شيء
عليه ، قال أبو عمر : ولا أعلم أحداً أوجب عليه مهر المثل غير الشافعي .
قال الشافعي : ؛ ولا تصح الرجعة إلاَّ بالقول ، وبه قال جابر بن زيد ، وأبو قلابة
، وأبو ثور ؛ قال الباجي في ( المنتقى ) : ولاخلاف في صحة الارتجاع بالقول ، ولو
قبل أو باشر أثم عند مالك ، وليس برجعة . والسنة أن يشهد قبل ذلك ؛ وقال أبو حنيفة
، والثوري : إن لمسها بشهوة ، أو نظر إلى فرجها بشهوة فهو رجعة ، ينبغي أن يُشهد
في قول مالك ، والشافعي ، وإسحاق وأبي عبيد ، وأبي ثور .
وهل يجوز له أن يسافر بها قبل ارتجاعها ؟ منعه مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة
وأصحابه ؟ وعن الحسن بن زياد : إن له أن يسافر بها قبل الرجعة .
وهل له أن يدخل عليها ويرى شيئاً من محاسنها وتتزين له أو تتشوّف ؟ أجاز ذلك أبو
حنيفة ؛ وقال مالك : لا يدخل عليها إلاَّ بإذن ، ولا ينظر إليها إلاَّ وعليها
ثيابها ، ولا ينظر إلى شعرها ، ولا بأس أن يؤا كلها إذا كان معها غيرها ، ولا يبيت
معها في بيت ؛ قال ابن القاسم : ثم رجع مالك عن ذلك ، فقال : لا يدخل عليها ، ولا
يرى شعرها ، وقال سعيد يستأذن عليها إذا دخل ويسلم ، أو يشعرها بالتنحم والتنحنح ،
وتلبس ما شاءت من الثياب والحلي ، فإن لم يكن لها إلاَّ بيت واحد فليجعلا بينهما
ستراً ؛ وقال : الشافعي هي محرمة تحريم المبتوته حتى تراجع بالكلام ، كما تقدم .
وأجمعوا على أن المطلق إذا قال بعد انقضاء العدة لامرأته : كنت راجعتك في العدة ،
وأنكرت إن القول قولها مع يمينها وفيه خلاف لأبي حنيفة ، فلو كانت الزوجة أمة ،
والزوج ادعى الرجعة في العدة بعد انقضائها ، فالقول قول الزوجة الأمة ، وإن كذبها
مولاها هذا قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي ثور .
وقا أبو يوسف ، ومحمد : القول قول المولى وهو أحق بها .
( إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً ( هذا شرط آخر حذف جوابة لدلالة ما قبله عليه ،
وظاهره أن إباحة الرجعة معقودة بشريطة إرادة الإصلاح ، ولا خلاف بين أهل
" صفحة رقم 200 "
العلم أنه إذا راجعها مضاراً في الرجعة ، مريداً لتطويل العدة عليها أن رجعته
صحيحة ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : ) وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا
لّتَعْتَدُواْ ( قالوا : فدل ذلك على صحة الرجعة ، وإن قصد الضرر ، لأن المراجعة
لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار لما كان ظالماً بفعلها .
قال الماوردي : في الإصلاح المشار إليه وجهان : أحدهما : إصلاح ما بينهما من
الفساد بالطلاق ؛ الثاني : القيام لما لكل واحد منهما على صاحبه من الحق إنتهى
كلامه .
قالوا : ويستغني الزوج في المراجعة عن الولي ، وعن رضاها ، وعن تسمية مهر ، وعن
الإشهاد على الرجعة على الصحيح ، ويسقط بالرجعة بقية العدة ، ويحل جماعها في الحال
، ويحتاج في اثبات هذا كله إلى دليل واضح من الشرع ، والذي يظهر لي أن المرأة
بالطلاق تنفصل من الرجل ، فلا يجوز له أن تعود إليه ، إلا بنكاح ثان ، ثم إذا
طلقها وأراد أن ينكحها ، فإما أن يبقى شيء من عدتها ، أو لا يبقى إن بقي شيء من
عدتها فله أن يتزوجها دون انقضاء عدتها منه إن أراد الإصلاح ، ومفهوم الشرط أنه
إذا أراد غير الإصلاح لا يكون له ذلك ، وإن انقضت عدتها استوى هو وغيره في جواز
تزويجها ، وإما أن تكون قد طلقت وهي باقية في العدة فيردها من غير اعتبار شروط
النكاح ، فيحتاج إثبات هذا الحكم إلى دليل واضح كما قلناه ، فإن كان ثم دليل واضح
من نص أو إجماع ، قلنا به ، ولا يعترض علينا بأن له الرجعة على ما وصفوا ، وإن ذلك
من أوليات الفقه التي لا يسوغ يالنزاع فيها ، وأن كل حكم يحتاج إلى دليل .
( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( هذا من بديع الكلام ، إذ
حذف شيئاً من الأول أثبت نظيره في الآخر ، وأثبت شيئاً في الأول حذف نظيره في
الآخر ، وأصل التركيب ولهنّ على أزواجهنّ مثل الذي لأزواجهنّ عليهنّ ، فحذفت على
أزواجهنّ لإثبات : عليهنّ ، وحذف لأزواجهنّ لإثبات لهنّ .
واختلف في هذه المثلية ، فقيل : المماثلة في الموافقة والطواعية ، وقال معناه
الضحاك ؛ وقيل : المماثلة في التزين والتصنع ، وقاله ابن عباس ، وقال : أحب أن
أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي لهذه الآية ؛ وقيل : المماثلة في تقوى الله
فيهنّ ، كما عليهنّ أن يتقين الله فيهم ، ولهذا أشار ( صلى الله عليه وسلم ) )
بقوله : ( إتقوا الله في النساء فإنهنّ عندكم عوان أي : أسيرات ، قاله ابن زيد ؛
وقيل : المماثلة معناها أن لهنّ من النفقة والمهر وحسن العشرة وترك الضرار مثل
الذي عليهنّ من الأمر والنهي فعلى هذا يكون المماثلة في وجوب ما يفعله الرجل من
ذلك ، ووجوب امتثال المرأة أمره ونهيه ، لا في جنس المؤدي والممتثل ، إذ ما ما
يفعله الرجل محسوس ومعقول ، وما تفعله هي معقول ، ولكن اشتركا في الوجوب ، فتحققت
المثلية وقيل : الآية في جميع حقوق الزوج على الزوجة ، وحقوق الزوجة على الزوج .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه سئل عن حق المرأة على الزوج فقال : (
أن يطعمها إذا طعم ، ويكسوها إذا اكتسى ، ولا يضرب الوجه ، ولا يهجر إلاَّ في
البيت ) وفي حديث الحج عن جابر ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال في
خطبة يوم عرفة : ( اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله تبارك وتعالى
، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله ، ولكم عليهنّ أن لا يواطئن فرشكم أحداً تكرهونه ،
فإن فعلنّ ذلك فاضربوهنّ ضرباً غير مبرح ، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف )
. .
ومثل ، مبتدأ ، و : لهنّ ، هو في موضع الخبر ، و : بالمعروف ، يتعلق به : لهنّ ،
أي : ومثل الذي لأزواجهنّ عليهنّ كائن لهنّ على أزواجهنّ ، وقيل : بالمعروف ، هو
في موضع الصفة : لمثل ، فهو في موضع رفع ، وتتعلق إذ ذاك بمحذوف .
ومعنى : بالمعروف أي : بالوجه ، الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس ولا يكلف
أحدهما الآخر من الأشغال ما ليس معروفاً له ، بل يقابل كل منهما صاحبه بما يليق به
.
( وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ( أي : مزية وفضيلة في الحق ، أتى بالمظهر
عوض المضمر إذ كان لو أتى على المضمر لقال : ولهم عليهنّ درجة ، للتنويه بذكر
الرجولية التي بها ظهرت المزية للرجال على النساء ، ولما كان يظهر في الكلام
بالإضمار من تشابه الألفاظ ، وأنت تعلم ما في ذاك ، إذ كان يكون : ولهنّ مثل الذي
عليهنّ بالمعروف ولهم عليهنّ درجة ، ولقلق الإضمار حذف مضمران ومضافان من الجملة
الأولى .
والدرجة هنا : فضله
" صفحة رقم 201 "
عليها في الميراث ، وبالجهاد ، قاله مجاهد ، وقتادة : أو : بوجوب طاعتها إياه وليس
عليه طاعتها ، قاله زيد بن أسلم ، وابنه : أو : بالصداق ، وجواز ملاعنة إن قذف ،
وحدّها إن قذفت ، قال الشعبي ، رضي الله تعالى عنه : أو بالقيام عليها بالإنفاق
وغيره ، وإن اشتركاً في الاستمتاع ، قاله ابن إسحاق أو : بملك العصمة وإن الطلاق
بيده ، قاله قتادة ، وابن زيد . أو : بما يمتاز منها كاللحية ، قاله مجاهد أو :
بملك الرجعة أو بالإجابة إلى فراشه إذا دعاها ، وهذا داخل في القول الثاني : أو :
بالعقل ، أو بالديانة ، أو بالشهادة ، أو بقوة العبادة ، أو بالذكورية ، أو لكون
المرأة خلقت من الرجل ، أشار إليه ابن العربي : أو : بالسلامة من أذى الحيض
والولادة والنفاس ، أو بالتزوج عليها والتسري ، وليس لها ذلك ، أو بكونه يعقل في
الدية بخلافها ، أو بكونه إماماً بخلافها .
وقال ابن عباس : تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في
المال والخلق ، أي : إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه . انتهى .
والذي يظهر أن الدرجة هي ما تريده النساء من البر والإكرام والطواعية والتبجيل في حق
الرجال ، وذلك أنه لما قدّم أن على كل واحد من الزوجين للآخر عليه مثل ما للآخر
عليه ، اقتضى ذلك المماثلة ، فبين أنهما ، وإن تماثلا في ما على كل واحد منهما
للآخر ، فعليهن مزيد إكرام وتعظيم لرجالهنّ ، وأشار إلى العلة في ذلك : وهو كونه
رجلاً يغالب الشدائد والأهوال ، ويسعى دائماً في مصالح زوجته ، ويكفيها تعب
الاكتساب ، فبازاء ذلك صار عليهنّ درجة للرجل في مبالغة الطواعية ، وفيما يفضي إلى
الاستراحة عندها .
وملخص ما قاله المفسرون ، يقتضى أن للرجل درجة تقتضي التفضيل .
و : درجة ، مبتدأ ، و : للرجال ، خبره ، وهو خبر مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة ، و
: عليهن ، متعلق بما تعلق به الخبر من الكينونة والاستقرار ، وجوّزوا أن يكون :
عليهنّ ، في موضع نصب على الحال ، لجواز أنه لو تأخر لكان وصفاً للنكرة ، فلما
تقدّم انتصب على الحال ، فتعلق إذ ذاك بمحذوف وهو غير العامل في الخبر ، ونظيره :
في الدار قائماً رجل ، كان أصله : رجل قائم ، ولا يجوز أن يكون : عليهن ، الخبر ،
و : للرجال ، في موضع الحال ، لأن العامل في الحال إذ ذاك معنوي ، وقد تقدّمت على
جزأى الجملة ، ولا يجوز ذلك ، ونظيره : قائماً في الدار زيد . وهو ممنوع لا ضعيف
كما زعم بعضهم ، فلو توسطت الحال وتأخر الخبر ، نحو : زيد قائماً في الدار ، فهذه
مسألة الخلاف بيننا وبين أبي الحسن ، أبو الحسن يجيزها ، وغيره يمنعها .
( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ ( تقدّم تفسير هذين الوصفين ، وختم الآية بهما لأنه
تضمنت الآية ما معناه الأمر في قوله :
" صفحة رقم 202 "
يتربصنّ ، والنهي في قول : ولا يحل لهنّ ، والجواز في قوله : وبعولتهنّ أحق ،
والوجوب في قوله : ولهنّ مثل الذي عليهنّ ، ناسب وصفه تعالى بالعزة وهو القهر
والغلبة ، وهي تناسب التكليف ، وناسب وصفه بالحكمة وهي إتقان الأشياء ووضعها على
ما ينبغي ، وهي تناسب التكليف أيضاً .
البقرة : ( 229 ) الطلاق مرتان فإمساك . . . . .
( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ (
سبب نزول هذه الآية ما روى هشام بن عروة ، عن أبيه : أن الرجل كان إذا طلق امرأته
ثم راجعها قبل انقضاء عدتها ، كان له ذلك ، ولو طلق ألف ألف مرة ، فطلق رجل امرأته
، ثم راجعها قبل انقضاء عدتها رجل استبرأ ، فحين طلق شارفت انقضاء العدة راجعها ،
ثم طلقها ، ثم قال : والله لا أقربك إلىّ ولا تخلين مني ، فشكت ذلك إلى النبي (
صلى الله عليه وسلم ) ) ، فنزلت .
ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، وهو أنه لما تضمنت الآية قبلها الطلاق الرجعي ،
وكانوا يطلقون ويراجعون من غير حد ولا عدّ ، بيَّن في هذه الآية ، أنه : مرتان ،
فحصر الطلاق الرجعي في أنه مرتان ، أي يملك المراجعة إذا طلقها ، ثم يملكها إذا
طلق ، ثم إذا طلق ثالثة لا يملكها . وهو على حذف مضاف أي : عدد الطلاق الذي يملك
فيه الرجعة مرتان ، والثالثة لا يملك فيها الرجعة .
فعلى هذا الألف واللام في الطلاق للعهد في الطلاق السابق ، وهو الذي تثبت معه
الرجعة ، وبه قال عروة ، وقتادة ، وقيل : طلاق السنة المندوب بينه بقوله : الطلاق
مرتان ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقيل : المعنى بذلك تفريق الطلاق إذا أراد أن
يطلق ثلاثاً ، وهو يقتضيه اللفظ ، لأنه لو طلق مرتين معاً في لفظ واحد لما جاز أن
يقال : طلقها مرتين ، وكذلك لو دفع إلى رجل درهمين لم يجز أن يقال : أعطاه مرتين ،
حتى يفرق الدفع ، فحينئذ يصدق عليه . هكذا بحثوه في هذا الموضع ، وهو بحث صحيح .
وما زال يختلج في خاطري انه لو قال : أنتِ طالق مرتين أو ثلاثاً ، أنه لا يقع
إلاَّ واحدة ، لأنه مصدر للطلاق ، ويقتضي العدد ، فلا بد أن يكون الفعل الذي هو
عامل فيه يتكرر وجوداً ، كما تقول : ضربت ضربتين ، أو ثلاث ضربات ، لأن المصدر هو
مبين لعدد الفعل ، فمتى لم يتكرر وجوداً استحال أن يكرر مصدره وان يبين رتب العدد
، فإذا قال : أنت طالق ثلاثاً ، فهذه لفظ واحد ، ومدلوله واحد ، والواحد يستحيل أن
يكون ثلاثاً أو اثنين ، ونظير هذا أن ينشىء الإنسان بيعاً بينه وبين رجل في شيء ثم
يقول عند التخاطب : بعتك هذا ثلاثاً ، فقوله ثلاثاً لغو وغير مطابق لما قبله ،
والإنشاءات أيضاً يستحيل التكرار فيها حتى يصير المجمل قابلاً لذلك الإنشاء ، وهذا
يعسر إدراكه على من اعتاد أنه يفهم من قول من قال : طلقتك مرتين أو ثلاثاً ، أنه
يقع الطلاق مرتين أو ثلاثاً على ما نذكره .
قالوا : وتشتمل هذه الآية على أحكام .
منها أن مسنون الطلاق التفريق بين أعداد الثلاث إذا أراد أن يطلق ثلاثاً ، وأن من
طلق ثلاثاً أو اثنتين في دفعة واحدة كان مطلقاً لغير السنة
" صفحة رقم 203 "
ومنها أن ما دون الثلاث ثبت مع الرجعة ، وأنه إذا طلق اثنتين في الحيض وقعتا ، وإن
نسخ الزيادة على الثلاث .
ولم تتعرض الآية للوقت المسنون فيه إيقاع الطلاق ، وسنتكلم على ذلك في مكان ذكره
إن شاء الله تعالى ، وقسموا هذا الطلاق إلى : واجب ، ومحظور ، ومسنون ، ومكروه ،
ومباح ، وهذا من علم الفقه ، فنتكلم عليه في كتبه .
وظاهر الآية العموم فيدخل في الطلاق : الحر والعبد ، فيكون حكمهما سواء ، ونقل أبو
بكر الرازي اتفاق السلف وفقهاء الأمصار على أن الزوجين المملوكين ينفصلان بالثنتين
، ولا يحل له بعدهما إلاَّ بعد زوج ، وروي عن ابن عباس ما يخالف شيئاً من هذا ،
وهو أن أمر العبد في الطلاق إلى المولى .
واختلفوا إذا كان أحدهما حراً والآخر رقيقاً ، فقيل : الطلاق بالنساء ، فلو كانت
حرة تحت عبد أو حر فطلاقها ثلاث ، أو أمة تحت حر أو عبد فطلاقهما تنتان ، وبه قال
أبو علي ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، والثوري ، والحسن بن صالح .
وقيل : الطلاق بالرجال ، فلو كانت أمة تحت حر فطلاقها ثلاث ، أو حرة تحت عبد
فطلاقها ثنتان ، وبه قال عمر ، وعثمان البتي .
والطلاق مصدر طلقت المرأة طلاقاً ، ويكون بمعنى التطليق . كالسلام بمعنى التسليم ،
وهو مبتدأ ، ومرتان خبره ، وهو على حذف مضاف ، أي : عدد الطلاق المشروع فيه الرجعة
، أو الطلاق الشرعي المسنون مرتان ، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف حتى يكون الخبر
هو المبتدأ ، و : مرتان ، تثنية حقيقة ، لأن الطلاق الرجعي أو المسنون ، على
اختلاف القولين ، عدده هو مرتان على التفريق ، وقد بينا كونه يكون على التفريق .
وقال الزمخشري : ولم يرد بالمرتين التثنية والتكرار كقوله تعالى : ) ثُمَّ اْرجِعِ
البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ( أي : كرة بعد كرة ، لا كرتين اثنتين ، ونحو ذلك من التتالي
التي يراد بها التكريرة ، قولهم : لبيك ، وسعديك ، وحنانيك ، وهذا ذيك ، ودواليك .
انتهى كلامه . وهو في الظاهر مناقض لما قال قبل ذلك ، ومخالف لما في نفس الأمر .
أما مناقضته فإنه قال في تفسير : الطلاق مرتان ، أي : التطليق الشرعي تطليقة بعد
تطليقة على التفريق . دون الجمع ، والإرسال دفعة واحدة ، فقوله : تطليقة بعد
تطليقة مناقض في الظاهر لقول : ولم يرد بالمرتين التثنية ، لأنك إذا قلت ضربتك
ضربة بعد ضربة ، إنما يفهم من ذلك الاقتصار على ضربتين ، وهو مساوٍ في الدلالة
لقولك : ضربتك ضربتين ، ولأن قولك : ضربتين ، لا يمكن وقوعهما إلاَّ ضربة بعد ضربة
.
وأما مخالفته لما في نفس الأمر ، فليس هذا من التثنية التي تكون للتكرير ، لأن
التثنية التي يراد بها التكرير لا يقتضي بتكريرها ثنتين ولا ثلاث ، بل يدل على
التكرير مراراً ، فقولهم : لبيك ، معناه إجابة بعد إجابة فما زاد ، وكذلك أخواتها
، وكذلك قوله : كرتين ، معناه ثم أرجع البصر مراراً كثيرة والتثنية في قوله : )
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ( إنما يراد بها شفع الواحد ، وهو الأصل في التثنية ، ألا
ترى أنه لا يراد هنا بقوله : مرتان ، ما يزيد على الثنتين لقوله بعد : )
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( هي الطلقة الثالثة ؟ ولذلك
جاء بعد : ) فَإِن طَلَّقَهَا ( أي : فإن سرحها الثالثة ، وإذا تقرر هذا ، فليس
قوله : مرتان دالاً على التكرار الذي لا يشفع ، بل هو مراد به شفع الواحد ، وإنما
غر الزمخشري في ذلك صلاحية التقدير بقوله : الطلاق الشرعي تطليقة بعد تطليقة ،
فجعل ذلك من باب التثنية التي لا يشفع الواحد ، ومراد بها التكثير . إلاَّ أنه
يعكر عليه أن الأصل شفع الواحد ، وأن التثنية التي لا تشفع الواحد ويراد بها
التكرار لا يقتصر بها على الثلاث في التكرار ، ولما حمل الزمخشري قوله تعالى :
مرتين ، على أنه من باب التثنية التي يراد بها التكرير ، احتاج أن يتأول قوله
تعالى : ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( على أنه تخيير
لهم ، بعد أن علمهم كيف يطلقون ، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام
بواجبهنّ ، وبين أن يسرحوهنّ السراح الجميل الذي علمهم .
وتحصل من هذا الكلام أن قوله تعالى : ) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ (
" صفحة رقم 204 "
فيه قولان للسلف .
أحدهما : أنه بيان لعدد الطلاق الذي للزوج أن يرتجع منه دون تجديد مهر وولي ،
وإليه ذهب عروة ، وقتادة ، وابن زيد .
والثاني : أنه تعريف سنة الطلاق ، أي : من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة ،
فإما تركها غير مظلومة شيئاً من حقها ، وإما امساكها محسناً عشرتها ، وبه قال ابن
مسعود ، وابن عباس وغيرهما .
قال ابن عطية : والآية تتضمن هذين المعنيين ، والإمساك بالمعروف هو الارتجاع بعد
الثانية إلى حسن العشرة ، والتزام حقوق الزوجية . انتهى كلامه .
وحكى الزمخشري القول الأول ، فقال : وقيل معناه : الطلاق الرجعي مرتان ، لأنه لا
رجعة بعد الثلاث ، فإمساك بمعروف ، أي برجعة ، أو تسريح بإحسان أي بأن لا يراجعها
حتى تبين بالعدة ، أو بأن لا يراجعها مراجعة ، يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها
، وقيل : بأن يطلقها الثالثة . وروي أن سائلاً سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) ) أين الثالثة ؟ فقال عليه السلام ( أو تسريح بإحسان ) . انتهى كلامه .
وتفسير : التسريح بإحسان ، أن لا يراجعها حتى تبين بالعدة ، هو قول الضحاك ،
والسدي . وقوله : أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها ،
كلام لا يتضح تركيبه على تفسير قوله : أو تسريح بإحسان ، لأنه يقتضي أن يراجعها
مراجعة حسنة مقصوداً بها الإحسان والتآلف والزوجية ، فيصير هذا قسيم قوله : )
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ( فيكون المعنى : فامساك بمعروف أو مراجعة مراجعة حسنة .
وهذا كلام لا يلتئم أن يفسر به ) أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( ولو فسر به فإمساك
بمعروف لكان صواباً . وأما قوله : وقيل بأن يطلقها الثالثة ، فهو قول مجاهد وعطاء
وجمهور السلف ، وعلماء الأمصار .
قال ابن عطية : ويقوى هذا القول عندي من ثلاثة وجوه .
أولها : أنه روي أن رجلاً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يا رسول الله هذا
ذكر الطلقتين ، فأين الثالثة ؟ فقال عليه السلام : ( هي قوله : ) أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ ( ) .
والوجه الثاني : أن التسريح من ألفاظ الطلاق ، ألا ترى أنه قد قرىء : وان عزموا
السراح ؟ .
والوجه الثالث : أن فعل تفعيلاً ، هذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلاً مكرراً على
الطلقة الثانية ، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل . انتهى كلامه . وهو
كلام حسن .
والذي يدل عليه ظاهر اللفظ : أن : الطلاق ، الألف واللام فيه للعهد ، وهو الطلاق
الذي تقدم قبل قوله : ) وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ ( وهو ما
كان الطلاق رجعياً ، وأن قوله : ) مَرَّتَانِ ( بيان لعدد هذا الطلاق ، وأن قوله :
) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ( بالفاء التي هي للتعقيب بعد صدور الطلقتين ، ووقوعها
كناية عن الرد بعد الطلقة الثانية ، وفاء التعقيب تقتضي التعدية ، وأن قوله : ) أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( صريح في الطلقة الثالثة ، لأنه معطوف على ) فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ ( وما عطف على المتعقب بعد شيء لزم فيه أن يكون متعقباً لذلك الشيء ،
فجعل له حالتان بعد الطلقتين ، إما أن يمسك بمعروف ، وإما أن يطلق بإحسان . إلاَّ
أن العطف بأو ينبو عنه الدلالة على هذا المعنى ، لأنه يدل على أحد الشيئين ، ويقوي
إذ ذاك أن يكون التسريح كناية عن التخلية والترك ، لأن المعنى يكون : الطلاق مرتين
فبعدهما أحد أمرين : إما الامساك ، وهو كناية عن الردّ ، وإما التسريح ، فيكون
كناية عن التخلية . واستمرار التسريح لا إنشاء التسريح ، وإما أن تدل على إيقاع
التسريح بعد الإمساك المعبر به عن الردّ ، فإن قدر شرط محذوف ، وجعل : فإمساك ،
جواباً لذلك الشرط ، وجعل الإمساك كناية عن استمرار الزوجية ، أمكن أن يراد
بالتسريح إنشاء الطلاق ، فيكون التقدير : فإن أوقع التطليقتين وردّ الزوجة )
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( ، لأن الرد يعتقبه أحد هذين
، إما الاستمرار على الزوجية ، فيكون بمعروف ، وإما الطلقة الثالثة ويكون بإحسان .
وقال في ( المنختب ) ما ملخص منه : الطلاق مرتان ، قال قوم هو مبتدأ لا تعلق له
بما قبله ، ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق
دون الجمع دفعة واحدة ، وهذا تفسير من قال : الجمع بين الثلاث حرام ، وهو مذهب
أبيّ ، وجماعة من الصحابة . والألف واللام للاستغراق ، والتقدير : كل الطلاق مرتان
، ومرة
" صفحة رقم 205 "
ثالثة ، وهذا يفيد التفرق لأن المرّات لا تكون إلاَّ بعد تفرق الاجتماع ، ولفظه
خبر ، ومعناه الأمر ، والقائلون بهذا قالوا : لو طلقها ثلاثاً أو اثنتين ، اختلفوا
فقال كثير من علماء البيت : لا يقع إلاَّ الواحدة ، لأن النهي يدل على اشتمال
المنهي عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع إدخال لتلك المفسدة في الوجود ، وإنه
غير جائز .
وقال أبو حنيفة : يقع ما لفظ به بناء على أن النهي لا يدل على الفساد .
وقال قوم : هو متعلق بما قبله ، والمعنى : أن الطلاق الرجعي مرتان ، ولا رجعة بعد
الثلاث ، وهذا تفسير من جوّز الجمع بين الثلاث ، وهو مذهب الشافعي رحمة الله تعالى
، وذلك أن الآية قبلها ذكر فيها أن حق المراجعة ثابت للزوج ، ولم يذكر أنه ثابت
دائماً أو إلى غاية معينة ، فكان ذلك كالمجمل المفتقر المبين أو كالعام المفتقر
إلى المخصص ، فبين ما ثبت فيه الرجعة وهو : أن يوجد طلقتان ، وأما الثالثة فلا
تثبت الرجعة فالألف واللام في : الطلاق ، للمعهود السابق ، وهو الطلاق الذي تثبت
في الرجعة ، ورجح هذا القول بأن قوله : .
( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ ( إن كان عاماً في كل الاحوال
احتاج إلى مخصص ، أو مجملاً لعدم بيان شرط تثبت الرجعة عنده افتقر إلى البيان ،
فجعلها متعلقة بما قبلها محصل للمخصص أو للمبين فهو أولى من أن يكون كذلك ، لأن
البيان عن وقت الخطاب ، وإن كان جائزاً تأخيره فالأرجح أن لا يتأخر ، وبأن حمله
على ذلك يدخل سبب النزول فيه ، وحمله على تنزيل حكم آخر أجنبي يخرجه عنه ، ولا يجوز
أن يكون السبب خارجاً عن العموم .
وقال في ( المنتخب ) أيضاً ما ملخص منه : معنى التسريح قبل وقوع الطلقة الثالثة ،
وقبل ترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة ، وهذا هو الأقرب ، لأن الفاء في قوله :
) فَإِن طَلَّقَهَا ( تقتضي وقوع هذه الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح ، فلو أريد به
الثالثة لكان : فان طلقها طلقة رابعة ، وإنه لا يجوز ، ولأن بعده ولا يحل لكم أن
تأخذوا ، والمراد به الخلع ، ومعلوم أنه لا يصح بعد الثلاث ، فإن صح تفسير رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) للتسريح هنا أنها الثالثة ، فلا مزيد عليه . إنتهى
ما قصد تلخيصه من المنتخب .
ولا يلزم بما ذكر أن يكون قوله : فإن طلقها رابعة ، كما قال ، لأنه فرض التسريح
واقعاً ، وليس كذلك ، لأنه ذكر أحد أمرين بعد أن يطلق مرتين : أحدهما أن يردّ
ويمسك بمعروف ، والآخران يسرح بعد الردّ بإحسان فالمعنى أن الحكم أحد أمرين ، ثم
قال : فإن وقع أحد الأمرين : وهو الطلاق ، فحكمه كذا ، فلا يلزم أن يكون هذا
الواقع مغايراً لأحد الأمرين السابقين ، كما تقول : الرأي عندي أن تقيم أو ترحل ،
فإن رحلت كان كذا ، فلا يدل قوله : فإن رحلت على أنه رحيل غير المتردّد في حصوله ،
ولا يدل التردّد في الحكم بين الإقامة والرحيل على بوقوع الرحيل ، لأن المحكوم
عليه أحد الأمرين ، ولا يلزم أيضاً ما ذكر من ترتب الخلع بعد الثلاث ، وهو لا يصح
لما ذكرناه من أن الحكم هو أحد أمرين ، فلا يدل على وقوع الطلاق الثالث ، بل ذكر
الخلع قبل ذكر وقوع الطلاق الثالث ، لأنه بعده ، وهو قوله : ) فَإِن طَلَّقَهَا (
وأيضاً لو سلمنا وقوع الطلاق الثالث قبل وقوعه ) وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن
تَأْخُذُواْ ( ولم يلزم أن يكون الخلع بعد الطلاق الثالث ، لأن الآية جاءت لتبيين
حكم الخلع ، وإنشاء الكلام فيه ، وكونها سيقت لهذا المعنى بعد ذكر الطلاق الثالث
في التلاوة لا يدل على الترتيب في الوجود ، فلا يلزم ما ذكر إلاَّ بلو صرح بقيد
يقتضى تأخر الخلع فى الوجود عن وجود الطلاق الثالث ، وليس كذلك ، فلا يلزم ما ذكره
.
وارتفاع قوله : ) فَإِمْسَاكٌ ( على الابتداء والخبر محذوف قدره ابن عطية متأخراً
تقديره : أمثل وأحسن ، وقدره غيره متقدماً أي : فعليكم إمساك بمعروف ، وجوّز فيه
ابن عطية أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : فالواجب إمساك ، و : بمعروف ،
وبإحسان ، يتعلق كل منهما بما يليه من المصدر ، و : الباء ، للالصاق ، وجوز أن
يكون المجرور صفة لما قبله ، فيتعلق بمحذوف ، وقالوا : يجوز في العربية ولم يقرأ
به نصب إمساك ، أو تسريح ، على المصدر أي : فامسكوهنّ إمساكاً بمعروف ، أو
سرّحوهنّ تسريحاً بإحسان .
( وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ( الآية
. سبب النزول أن جميلة بنت عبد الله بن أبيّ . كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ،
وكانت تبغضه وهو يحبها ، فشكته إلى أبيها فلم يشكها ، ثم شكته إليه ثانية وثالثة
وبها أثر ضرب فلم يشكها ، فأتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وشكته إليه وأرته
أثر الضرب ، وقالت : لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شيء ، والله لا أعتب عليه
في دين ولا خلق ، لكني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضاً ، إنى رفعت جانب
الخيام فرأيته أقبل في عدة وهو أشدهم سواداً ، وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجهاً ،
فقال ثابت : ما لي أحب إلى منها بعدك يا رسول الله ، وقد اعطيتها حديقة تردها عليّ
،
" صفحة رقم 206 "
وأنا أخلي سبيلها ، ففعلت ذلك فخلى سبيلها ، وكان أول خلع في الإسلام ، ونزلت
الآية .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان
، اقتضى ذلك أن من الإحسان أن يأخذ الزوج من امرأته شيئاً مما أعطى واستثنى من هذه
الحالة قصة الخلع ، فأباح للرجل أن يأخذ منها على ما سنبينه في الآية ، وكما قاله
اللهتعالى : ) وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً
( الآية ، والخطاب في : لكم ، وما بعده ظاهره أنه للأزواج ، لأن الأخذ والإيتاء من
الإزواج حقيقة ، فنهوا ان يأخذوا شيئاً ، لأن العادة جرت بشح النفس وطلبها ما أعطت
عند الشقاق والفراق ، وجوزوا أن يكون الخطاب للأمة والحكام ليلتئم مع قوله : )
فَإِنْ خِفْتُمْ ( لانه خطاب لهم لا للأزواج ، ونسب الأخذ والايتاء إليهم عند
الترافع ، لأنهم الذين يمضون ذلك . ومن قال : أنه للأزواج أجاب بأن الخطاب قد
يختلف في الجملتين ، فيفرد كل خطاب إلى من يليق به ذلك الحكم ، ولا يستنكر مثل هذا
، ويكون حمل الشيء على الحقيقة إذ ذاك أولى من حمله على المجاز ، ( وَمِمَّا (
ظاهر في عموم وما أتوا على سبيل الصداق أو غيره من هبة ، وقد فسره بعضهم بالصدقات
، واللفظ عام ، ( وشيئاً ( إشارة إلى خطر الأخذ منهن ، قليلاً كان أو كثيراً ، (
وشيئاً ( نكرة في سياق النهي فتعم ، و : مما ، متعلق بقوله : تأخذوا ، أو بمحذوف
فيكون في موضع نصب على الحال من قوله : شيئاً ، لأنه لو تأخر لكان نعتاً له .
( إِلاَّ أَن يَخَافَا أَن لا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ( الألف في يخافا ويقيما
عائد على صنفي الزوجين ، وهو من باب الالتفات ، لأنه إذا اجتمع مخاطب وغائب ،
وأسند إليهما حكم كان التغليب للمخاطب ، فتقول : أنت وزيد تخرجان ، ولا يجوز
يخرجان ، وكذلك مع التكلم نحو : أنا وزيد نخرج ، ولما كان الاستثناء بعد مضى
الجملة للخطاب جاز الالتفات ، ولو جرى على النسق الأول لكان : إلاَّ أن تخافوا أن
لا تقيموا ، ويكون الضمير إذ ذاك عائداً على المخاطبين وعلى أزواجهم ، والمعنى :
إلاَّ أن يخافا أي : صنفا الزوجين ، ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من حقوق
الزوجية ، بما يحدث من بغض المرأة لزوجها حتى تكون شدة البغض سبباً لمواقعة الكفر
، كما في قصة جميلة مع زوجها ثابت ، ( وَأَنْ يَخَافَا ( قيل : في موضع نصب على
الحال ، التقدير : إلاَّ خائفين ، فيكون استثناء من الأحوال ، فكأنه قيل : فلا يحل
لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً في كل حال إلاَّ في حال الخوف أن لا يقيما حدود
الله ، وذلك أنّ : أن ، مع الفعل بتأويل المصدر ، والمصدر في موضع اسم الفاعل فهو
منصوب على الحال ، وهذا في إجازته نظر ، لأن وقوع المصدر حالاً لا ينقاس ، فأحرى
ما وقع موقعه ، وهو : أن الفعل ، ويكثر المجاز فإن الحال إذ ذاك يكون : أن والفعل
، الواقعان موقع المصدر الواقع موقع اسم الفاعل .
وقد منع سيبويه وقوع : أن والفعل ، حالاً ، نص على ذلك في آخر : هذا باب ما يختار
فيه الرفع ويكون فيه الوجه في جميع اللغات ، والذي يظهر أنه استثناء من المفعول له
، كأنه قيل : ولا يحل لكم أن تأخذوا بسبب من الأسباب إلاَّ بسبب خوف عدم إقامة
حدود الله ، فذلك هو المبيح لكم الأخذ ، ويكون حرف العلة قد حذف مع : أن ، وهو
جائز فصيحاً كثيراً ، ولا يجيء هنا ، خلاف الخليل وسيبويه أنه إذا حذف حرف الجر من
: أن ، هل ذلك في موضع نصب أو في موضع جر ؟ بل هذا في موضع نصب ، لأنه مقدر
بالمصدر لو صرح به كان منصوباً ، واصلاً إليه العامل بنفسه ، فكذلك هذا المقدر به
، وهذا الذي ذكرناه من أنَّ : أن والفعل ، إذا كانا في موضع المفعول من أجله ،
فالموضع نصب لا غير ، منصوص عليه من النحويين ، ووجهه ظاهر .
ومعنى الخوف هنا الإيقان ، قاله أبو عبيدة ، أو : العلم أي إلاَّ أن يعلما ، قاله
ابن سلمه ، وإياه أراد أبو محجن ، بقوله :
" صفحة رقم 207 "
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
ولذلك رفع الفعل بعد : أن ، أو : الظن ، قاله الفراء ، وكذلك قرأ أبي : إلاَّ أن
يظنا ، وأنشد : أتاني كلام من نصيب بقوله
وما خفت يا سلام أنك عايبي
والأولى بقاء الخوف على بابه ، وهو أن يراد به الحذر من الشيء ، فيكون المعنى :
إلاَّ أن يعلم . أو يظن أو يوقن أو يحذر ، كل واحد منهما بنفسه ، أن لا يقيم حقوق
الزوجية لصاحبه حسبما يجب ، فيجوز الأخذ .
وقرأ عبد الله : إلاَّ أن يخافوا أن لا يقيموا حقوق ، أي إلاَّ أن يخاف الأزواج
والزوجات ، وهو من باب الالتفات إذ لو جرى عليه النسق الأول لكان بالتاء ، وروي عن
عبد الله أنه قرأ أيضاً : إلاَّ أن تخافوا بالتاء .
وقرأ حمزة ، ويعقوب ، ويزيد بن القوقاع ؛ إلاَّ أن يُخافوا ، بضم الياء ، مبنياً
للمفعول ، والفاعل المحذوف : الولاة .
وأن لا يقيما ، في موضع رفع بدل من الضمير أي : إلاَّ أن يخاف عدم إقامتهما حدود
الله ، وهو بد اشتمال ، كما تقول : الزيد ان أعجباني حسنهما ، والأصل : إلاَّ أن
يخافوا ، أنها : الولاة ، عدم إقامتهما حدود الله .
وقال ابن عطية : في قراءة يخافا بالضم ، أنها تعدت خاف إلى مفعولين : أحدهما أسند
الفعل إليه ، والآخر بتقدير حرف جر بمحذوف ، فموضع أن خفض الجار المقدر عند سيبويه
، والكسائي ، ونصب عند غيرهما ، لأنه لما حذف الجار المقدر وصل الفعل إلى المفعول
الثاني ، مثل : استغفر لله ذنباً ، وأمرتك الخير . إنتهى كلامه . وهو نص كلام أبي
علي الفارسي نقله من كتابه ، إلا التنظير باستغفر ، وليس بصحيح تنظير ابن عطية خاف
باستغفر ، لأن خاف لا يتعدى إلى اثنين ، كاستغفر الله ، ولم يذكر ذلك النحويون حين
عدوا ما يتعدى إلى اثنين ، وأصل أحدهما بحرف الجر ، بل إذا جاء : خفت زيداً ضربه
عمراً ، كان ذلك بدلاً ، إذ : من ضربه عمراً كان مفعولاً من أجله ، ولا يفهم ذلك
على أنه مفعول ثان ، وقد وهم ابن عطية في نسبة أن الموضع خفض في مذهب سيبويه ،
والذي نقله أبو علي وغيره أن مذهب سيبويه أن الموضع بعد الحذف نصب ، وبه قال
الفراء ، وأن مذهب الخليل أنه جر ، وبه قال الكسائي . وقدَّر غير ابن عطية ذلك
الحرف المحذوف : على ، فقال : والتقدير إلاَّ أن يخافا على أن يقيما ، فعلى هذا
يمكن أن يصح قول علي وفيه بعد وقد طعن في هذه القراءات من لا يحسن توجيه كلام العرب
، وهي قراءة صحيحة مستقيمة في اللفظ وفي المعنى ، ويؤيدها قوله بعد : فإن خفتم ،
فدل على أن الخوف المتوقع هو من غير الأزواج ، وقد اختار هذه القراءة أبو عبيد .
قال أبو جعفر الصفار : ما علمت في اختيار حمزة أبعد من هذا الحرف لأنه لا يوجبه
الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى ، أما الإعراب فإن يحتج له بقراءة عبد الله بن مسعود
: إلاَّ أن يخافوا أن لا يقيموا ، فهو في العربية إذ ذاك لما لم يسم فاعله ، فكان
ينبغي أن لو قيل إلاَّ أن يخافا أن لا يقيما ؟ وقد احتج الفراء لحمزة ، وقال : إنه
اعتبر قراءة عبد الله : إلاَّ أن يخافوا ، وخطأه أبو علي ، وقال : لم يصب ، لأن
الخوف في قراءة عبد الله واقع على : أن ؛ وفي قراءة حمزة واقع على الرجل والمرأة ،
وأما اللفظ فإن كان صحيحاً فالواجب أن يقال : فإن خيفا ، وإن كان على لفظ : فإن ،
وجب أن يقال إلاَّ أن يخافوا . وأما المعنى فإنه يبعد أن يقال : لا يحل لكم أن
تأخذوا مما أتيمتوهنّ شيئاً إلاَّ أن يخاف غيركم ، ولم يقل جل وعزّ : فلا جناح
عليكم أن تأخذوا له منها فدية ، فيكون الخلع إلى السلطان ، وقد صح عن عمر وعثمان
أنهما أجازا الخلع بغير سلطان . إنتهى كلام الصفار ، وما ذكره لا يلزم ، وتوجيه
قراءة الضم ظاهر ، لأنه لما قال : ولا يحل لكم وجب على الحكام منه من أراد أن يأخذ
شيئاً من ذلك ، ثم قال : إلاَّ أن يخافا ، الضمير للزوجين ، والخائف محذوف وهم :
الولاة والحكام والتقدير : إلاَّ حين يخاف الأولياء الزوجين أن لا يقيما حدود الله
، فيجوز الافتداء ، وتقدم تفسير الخوف هنا .
وأما قوله : فوجب أن يقال : فإن خيفاً فلا يلزم ، لأن هذا من باب الالتفات ، وهو
في القرآن كثير ، وهو من محاسن العربية ، ويلزم من فتح الياء أيضاً على
" صفحة رقم 208 "
قول الصفار أن يقرأ : فإن خافاً ، وإنما هو في القراءتين على الالتفات ، وأما
تخطئة الفراء فليست صحيحة ، لأن قراءة عبد الله : إلاَّ أن يخافوا ، دلالة على ذلك
، لأن التقدير : إلاَّ أن يخافوهما أن لا يقيما ، والخوف واقع في قراءة حمزة على
أن ، لأنها في موضع رفع على البدل من ضميرهما ، وهو بدل الاشتمال كما قررناه قبل ،
فليس على ما تخيله أبو علي ، وذلك كما تقول : خيف زيد شره ، وأما قوله : يبعد من
جهة المعنى ، فقد تقدّم الجواب عنه ، وهو أن لهما المنع من ذلك ، فمتى ظنوا أو
أيقنوا ترك إقامة حدود الله ، فليس لهم المنع من ذلك ، وقد اختار أبو عبيدة قراءة
الضم ، لقوله تعالى : فإن خفتم ، فجعل الخوف لغير الزوجين ، ولو أراد الزوجين لقال
: فإن خافا .
وقد قيل : إن قوله : ) وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ ( ( إلى آخره ، جملة معترضة بين قوله
: ) ( إلى آخره ، جملة معترضة بين قوله : ) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( وبين قوله : ) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ
تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ).
) فَإِنْ خِفْتُمْ ( : الضمير للأولياء أو السلطان ، فإن لم يكونوا فلصلحاء
المسلمين ، وقيل : عائد على المجموع من قام به أجزأ .
( أَن لا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ( وترك إقامة الحدود هو ظهور النشوز وسوء الخلق
منها ، قاله ابن عباس ، ومالك ، وجمهور الفقهاء ؛ أو عدم طواعية أمره وإبرار قسمه
، قاله الحسن ، والشعبي : وإظهار حال الكراهة له بلسانها ، قاله عطاء . وعلى هذه
الأقوال الثلاثة قيل : تكون التثنية أريد بها الواحد ، أو كراهة كل منهما صاحبه ،
فلا يقيم ما أوجب الله عليه من حق صاحبه ، قاله طاووس ، وابن المسيب . وعلى هذا
القول التثنية على بابها .
وروي أن امرأة نشزت على عهد عمر ، فبيتها في اصطبل في بيت الزبل ثلاث ليال ، ثم
دعاها ، فقال : كيف رأيت مكانك ؛ فقالت ما رأيت ليالي أقرّ لعيني منها ، وما وجدت
الراحة مذ كنت عنده إلاَّ هذه الليالي . فقال عمر : هذا وأبيكم النشوز ، وقال
لزوجها إجلعها ولو من قرطها ، اختلعها بما دون عقاص رأسها ، فلا خير لك فيها .
( فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ( هذا جواب الشرط ، قالوا :
وهو يقتضي مفهومه أن الخلع لا يجوز إلاَّ بحضور من له الحكم من سلطان أو ولي ،
وخوفه ترك إقامة حدود الله ، وما قالوه من اقتضاء المفهوم وجود الخوف صحيح ، أما
الحضور فلا .
وظاهر قوله : ) وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ ( إذا كان خطاباً للأزواج أنه لا يشترط ذلك ،
وخصّ الحسن الخلع بحضور السلطان ، والضمير في : عليهما ، عائد على الزوجين معاً ،
أي : لا جناح على الزوج فيما أخذ ، ولا على الزوجة فيما افتدت به .
وقال الفراء : عليهما ، أي : عليه ، كقوله : ) يَخْرُجُ مِنْهُمَا ( أي : المالح )
نَسِيَا حُوتَهُمَا ( والناسي يوشع قال الشاعر : فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر
وان تدعاني أحم عرضاً ممنَّعاً
وظاهر قوله : ) فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ( العموم بصداقها ، وبأكثر منه ، وبكل مالها
قاله عمر ، وعثمان ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والنخعي ، والحسن ، وقبيصة بن
ذؤيب ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو ثور ، وقضى بذلك عمر ؛ وقيل : فيما
أفتدت به من الصداق وحده من غير زيادة منه ، قاله علي ، وطاووس ، وعمرو بن شعيب ،
وعطاء ، والزهري ، وابن المسيب ، والشعبي ، والحسن ، والحكم ، وحماد ، وأحمد ،
وإسحاق ، وابن الربيع ، وكان يقرأ ، هو والحسن : فيما افتدت به منه ، بزيادة : منه
، يعني مما أتيتموهنّ ، وهو المهر ؛ وحكى مكي هذا القول عن أبي حنيفة ، وقيل :
ببعض صداقها ، ولا يجوز بجميعه إذا دخل بها حتى يبقى منه بقية ليكون بدلاً عن
استمتاعه بها .
وظاهر قوله : ) فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ( تشريكهما في
ترك إقامة الحدود ، وأن جواز الأخذ منوط بوجود ذلك منهما معاً . وقد حرّم الله على
الزوج أن يأخذ إلاَّ بعد الخوف أن لا يقيما حدود الله ، وأكد التحريم بقوله : )
فَلاَ تَعْتَدُوهَا ( ثم توعد على الإعتداء ، وأجمع عامة أهل
" صفحة رقم 209 "
العلم على تحريم أخذ مالها إلاَّ أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها ، قال ابن
المنذر : روينا معنى ذلك عن ابن عباس ، والشعبي ، ومجاهد ، وعطاء ، والنخعي ، وابن
سيرين ، والقاسم ، وعروة ، وحميد بن عبد الرحمن ، وقتادة ، والثوري ، ومالك ،
وإسحاق ، وأبي ثور .
وقال مالك ، والشعبي ، وغيرهما : إن كان مع فساد الزوجة ونشوزها فساد من الزوج ،
وتفاقم ما بنيهما ، فالفدية جائزة للزوج . قال أبو محمد بن عطية : ومعنى ذلك أن
يكون الزوج ، لو ترك فساده لم يزل نشوزها هي ، وأما إن انفرد الزوج بالفساد فلا
أعلم أحداً يجيز له الفدية إلاَّ ما روي عن أبي حنيفة أنه قال : إذا جاء الظلم
والنشوز من قبله ، فخالعته ، فهو جائز ماض ، وهو آثم لا يحل ما صنع ، ولا يرد ما
أخذ ، وبه قال أصحابه : أبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ؛ وقال مالك : يمضى الطلاق إذ ذاك
، ويرد عليها مالها .
وقال الأوزاعي ، في من خالع امرأته وهي مريضة : إن كانت ناشزة كان في ثلثها ، أو
غير ناشزة رد عليها وله عليها الرجعة ، قال : ولو اجتمعا على فسخ النكاح قبل
البناء منها ، ولم يبن منها نشوز ، لم أر بذلك بأساً .
وقال الحسن بن صالح ، وعثمان البتي : إن كانت الإساءة من قبله فليس له أن يخلعها ،
أو من قبلها فله ذلك على ما تراضيا عليه .
وظاهر الآية أنه إذا لم يقع الخوف فلا يجوز لها أن تعطي على الفراق ، وشذ بكر بن
عبد الله المزني ، فقال : لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجته شيئاً خلعاً ، لا قليلاً
ولا كثيراً ، قال : وهذه الآية منسوخة بقوله : ) وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ
زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ ( الآية ، وضعف قوله باجماع الأمة على إجازة الفدية ، وبأن
المعنى المقترن بآية الفدية غير المعنى الذي في آية إرادة الاستبدال .
واختلفوا : هل يندرج تحت عموم قوله : ) فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ( الضرر ، والمجهول
، كالتمر الذي لم يبد صلاحه ، والجمل الشارد ، والعبد الآبق ، والجنين في البطن ،
وما يثمره نخلها ، وما تلده غنمها وإرضاع ولدها منه ؟ وكل هذا وما فرعوا عليه
مذكور في كتب الفقه . قالوا : وظاهر قوله : ) فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ( أن الخلع
فسخ إذا لم ينوبه الطلاق ، لقوله بعدُ ) فَإِن طَلَّقَهَا ( وأجمعوا على أن هذه هي
الثالثة ، فلو كان الخلع قبلها طلاقاً لكانت رابعة ، وهو خلاف الإجماع قاله ابن
عباس ، وطاووس ، وعكرمة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور .
وروي عن علي ، وعثمان ، وابن مسعود ، وجماعة من التابعين : أنه طلاق ، وبه قال
الجمهور : مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي .
ولا يدل ظاهرها على أن الخلع فسخ كما ذكروا ، لأن الآية إنما جيء بها لبيان أحكام
الخلع من غير تعرض له ، أهو فسخ أم طلاق ؟ فلو نوى تطليقتين أو ثلاثاً فقال مالك :
هو ما نوى ، وقال أبو حنيفة : إن نوى ثلاثاً فثلاثاً أو اثنتين فواحدة بائنة .
( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ( إشارة إلى الآيات التي تقدمت من
قوله : ) وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ ( إلى هنا ، وإبراز الحدود بالاسم
الظاهر ، لا بالضمير ، دليل على التعظيم لحدود الله تعالى : وفي تكرار الإضافة
تخصيص لها وتشريف ، ويحسن التكرار بالظاهر كون ذلك في جمل مختلفة .
و : تلك ، مبتدأ ، أو : حدود الله ، الخبر . ومعنى : فلا تعتدوها ، أي : لا
تجاوزوها إلى ما لم يأمركم به .
( وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( لما نهى عن
اعتداء الحدود ، وهو تجاوزها ، وكان ذلك خطاباً لمن سبق له الخطاب قبل ذلك ، أتى
بهذه الجملة الشرطية العامّة الشاملة لكل فرد فرد ممن يتعدّى الحدو ، وحكم عليهم
أنهم الظالمون ، والظلم ، وهو وضع الشيء في غير موضعه ، فشمل بذلك المخاطبين .
قيل : وغيرهم ، و : من ، شرطية ، والفاء في : فأولئك ، جواب الشرط ، و : حمل ،
يتعدّ على اللفظ ، فأفرد ، و : أولئك ، على المعنى . فجمع وأكد بقوله : هم ، وأتى
في قوله : الظالمون ، بالالف واللام التي تفيد الحصر ، أو المبالغة في الوصف ،
ويحتمل : هم ، أن تكون فصلاً مبتدأ وبدلاً .
" صفحة رقم 210 "
2 ( ) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ
أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ ( ) ) 2
)
البقرة : ( 230 ) فإن طلقها فلا . . . . .
فَإِن طَلَّقَهَا ( يعني الزوج الذي طلق مرة بعد مرة ، وهو راجع إلى قوله : ) أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( كأنه قال : فإن سرحها التسريحة الثالثة الباقية من عدد
الطلاق . قاله ابن عباس : وقتادة ، والضحاك ، ومجاهد ، والسدي . ومن قول ابن عباس
أن الخلع فسخ عصمة وليس بطلاق ، ويحتج بهذه الآية بذكر الله للطلاقين ، ثم ذكر
الخلع ، ثم ذكر الثالثة بعد الطلاقين ، ولم يك للخلع حكم يعتدّ به .
وأما من يراه طلاقاً فقال : هذا اعتراض بين الطلقتين والثالثة ذكر فيه أنه لا يحل
أخذ شيء من مال الزوجة إلاَّ بالشريطة التي ذكرت ، وهو حكم صالح أن يوجد في كل
طلقة طلقة وقوع آية الخلع بين هاتين الآيتين حكمية ، أن الرجعة والخلع لا يصلحان
إلاَّ قبل الثالثة ، فأما بعدها فلا يبق شيء من ذلك ، وهي كالخاتمة لجميع الأحكام
المعتبرة في هذا الباب .
( فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ( أي : من بعد هذا الطلاق الثالث ) حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( والنكاح يطلق على العقد وعلى الوطء ، فحمله ابن
المسيب ، وابن جبير ، وذكره النحاس في معاني القرآن له على العقد ، وقال : إذا عقد
عليها الثاني حلت للأول ، وإن لم يدخل بها ولم يصبها ، وخالفه الجمهور لحديث امرأة
رفاعة المشهور ، فقال الحسن : لا يحل إلاَّ الوطء والإنزال ، وهو ذوق العسيلة .
وقال باقي العلماء : تغييب الحشفة يحل ، وقال بعض الفقهاء : التقاء الختانين يحل ،
وهو راجع للقول قبله ، إذ لا يلتقيان إلاّ مع المغيب الذي عليه الجمهور ، وفي قوله
: ) حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( دلالة على أن نكاح المحلل جائز ، إذ لم
يعني الحل إلاّ بنكاح زوج ، وهذا يصدق عليه أنه نكاح زوج فهو جائز . وإلى هذا ذهب
ابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وداود ، وهو قول الأوزاعي في
رواية ، والثوري في رواية . وقول الشافعي في كتابه الجديد المصري إذا لم يشترط
التحليل في حين العقد ، وقال القاسم ، وسالم ، وربيعة ، ويحيى بن سعد : لا بأس أن
يتزوجها ليحللها إذا لم يعلم الزوجان ، وهو مأجور ، وقال مالك : والثوري ،
والأوزاعي ، والشافعي في القديم ، وأبو حنيفة في رواية : لا يجوز ، ولا تحل للأول
، ولا يقر عليه وسواء علماً أم لم يعلما . وعن الثوري أنه لو شرط بطل الشرط ، وجاز
النكاح ، وهو قول ابن أبي ليلى في ذلك وفي نكاح المتعة . وقال الحسن ، وابراهيم :
إذا علم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح .
وفي قوله : زوجاً غيره ، دلالة على أن الناكح يكون زوجاً ، فلو كانت أمة وطلقت
ثلاثاً ، أو اثنتين على مذهب من يرى ذلك ، ثم وطئها سيدها لم تحل للأول ، قاله علي
، وعبيدة ، ومسروق ، والشعبي ، وجابر ، وابراهيم ، وسليمان بن يسار ، وحماد ، وأبو
زياد ، وجماعة فقهاء الأمصار . وروي عن عثمان ، وزيد بن ثابت ، والزبير أنه يحلها
إذا غشيها غشياناً لا يريد بذلك مخادعة ولا إحلالاً ، وترجع إلى زوجها بخطبة وصداق
.
وفي قوله : زوجاً ، دلالة أيضاً على أنه لو كان الزوج عبداً وهي أمة ووهبها السيد
له بعد بت طلاقها ، أو اشتراها الزوج بعدما بت طلاقها لم تحل له في الصورتين بملك
اليمين حتى تنكح زوجاً غيره .
قال أبو عمر : على هذا جماعة العلماء وأئمة الفتوى : مالك ، والثوري ، والأوزاعي ،
وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وقال ابن عباس ، وعطاء ،
وطاووس ، والحسن : تحل بملك اليمين .
وفي قوله : زوجاً غيره ، دلالة على أنه إذا تزوج الذمية المبتوتة من المسلم
بالثلاث ذمي ، ودخل بها ، وطلقت حلت للأول . وبه قال الحسن ، والزهري ، والثوري
" صفحة رقم 211 "
والشافعي ، وأبو عبيد ، وأصحاب أبي حنيفة ؛ وقال مالك ، وربيعة : لا يحلها .
وظاهر قوله : حتى تنكح زوجاً ، أنه بنكاح صحيح ، فلو نكحت نكاحاً فاسداً لم يحل ،
وهو قول أكثر العلماء : مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ،
وأبي عبيد ، وأصحاب أبي حنيفة . وقال الحكم : هو زوج ، وأجمعوا على أن المرأة إذا
قالت للزوج الأول : قد تزوجت ، ودخل على زوجي وصدّقها . أنها تحل للأول . قال
الشافعي : والورع أن لا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته .
وفي الآية دليل على أن سمي زوج كافٍ ، سواء كان قوي النكاح أم ضعيفه أو صبياً أو
مراهقاً أو مجبوباً بقي له ما يغيبه كما يغيب ، غير الخصي ، وسواء أدخله بيده أو
بيدها ، وكانت محرمة أو صائمة ، وهذا كله على ما وصف الشافعي قول أبي حنيفة
وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي ، والحسن بن صالح ، وقول بعض أصحاب مالك . وقال
مالك في أحد قوليه : لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها ، ومذهب جمهور
الفقهاء أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لذلك الزوج إلاّ بخمسة شرائط : تعتدّ منه ،
ويعقد للثاني ، ويطأها ، ثم يطلقها ، وتعتدّ منه .
وكون الوطء شرطاً قيل : ثبت بالسنة ، وقيل : بالكتاب ، وهو قول أبي مسلم ، وقيل :
هو المختار . لأن أبا عليّ نقل أن العرب تقول : نكح فلان فلانة بمعنى عقد عليها .
ونكح امرأته أو زوجته أي : جامعها . وقد مر لنا طرق من هذا .
قال في ( المنتخب ) : بعد كلام كثير محصوله أن قوله : حتى تنكح زوجاً غيره ، يدل
على ما تقدّم الزوجية . وهي العقد الحاصل بينهما ، ثم النكاح على من سبقت زوجته ،
فيتعين أن يراد به الوطء ، فيكون قوله : تنكح ، دالاً على الوطء ، و : زوجاً : يدل
على العقد . ولا يتعين ما قاله ، إذ يجوز أن لا يدل على أن تتقدم الزوجية بجعل
تسميته زوجاً بما تؤول إليه حاله ، فيكون التقدير : حتى يعقد على من يكون زوجاً .
وقال في ( المنتخب ) أيضاً : أما قول من يقول : الآية لا تدل على الوطء ، وإنما
ثبت بالسنة فضعيف ، لأن الآية تقتضي نفي الحل ممدوداً إلى غاية ، وما كان غاية
للشيء يجب انتهاء الحكم عند ثبوته ، فيلزم انتفاء الحرمة عند حصول النكاح ، فلو
كان النكاح عبارة عن العقد لكانت الآية دالة على وجوب انتهاء هذه الحرمة عند حصول
العقد ، فكان رفعها بالخبر نسخاً للقرآن بخبر الواحد ، وأنه غير جائز ، أما إذا
حملنا النكاح على الوطء ، وحملنا قوله زوجاً على العقد ، لم يلزم هذا الإشكال .
انتهى .
ولا يلزم ما ذكره من هذا الإشكال وهو أنه يلزم من ذلك نسخ القرآن بخبر الواحد ،
لأن القائل يقول : لم يجعل نفي الحل منتهياً ، إلى هذه الغاية التي هي نكاحها
زوجاً غيره فقط . وإن كان الظاهر في الآية ذلك ، بل ثم معطوفات ، قبل الغاية
المذكورة في الآية وما بعدها ، يدل على إرادتها ، وهي غايات أيضاً ، والتقدير :
فلا تحل له من بعد ، أي : من بعد الطلاق الثلاث حتى تنقضي عدّتها منه ، وتعقد على
زوج غيره ، ويدخل بها ، ويطلقها ، وتنقضي عدتها منه ، فحينئذ تحل للزوج المطلق
ثلاثاً أن يتراجعا ، فقد صارت الآية من باب ما يحتاج بيان الحل فيه إلى تقدير هذه
المحذوفات وتبيينها ، ودل على إرادتها الكتاب والسنة الثابتة ، وإذا كانت كذلك ،
وبين هذه المحذوفات الكتاب والسنة ، فليس ذلك من باب نسخ القرآن بخبر الواحد ، ألا
ترى أنه يلزم أيضاً من حمل النكاح هنا على الوطء أن يضمر قبله : حتى تعقد على زوج
ويطأها ؟ فلا فرق في الإضمار بين أن يكون مقدماً على الغاية المذكورة المراد به
الوطء ، أو يكون مؤخراً عنها إذا أريد به العقد ، فهذا إضمار يدل عليه الكتاب
والسنة ، فليس من باب النسخ في شيء .
( فَإِن طَلَّقَهَا ( قيل : الضمير عائد على : زوج ، النكرة ، وهو الثاني ، وأتى
بلفظ : إن ، دون إذا تنبيهاً على أن طلاقه يجب أن يكون على ما يخطر له دون الشرط .
انتهى . ومعناه أن : إذا ، إنما تأتي للمتحقق ، وإن تأتي للمبهم والمجوز وقوعه
وعدم وقوعه ، أو للمحقق المبهم زمان وقوعه ، كقوله تعالى : ) وَمَا جَعَلْنَا
لِبَشَرٍ مّن ( والمعنى : فإن طلقها وانقضت عدتها منه ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
( أي : على الزوج المطلق الثلاث وهذه الزوجة . قاله ابن عباس ، ولا خلاف فيه بين
أهل العلم على أن اللفظ يحتمل أن يعود على الزوج الثاني والمرأة ، وتكون الآية قد
أفادت حكمين : أحدهما : أن المبتوتة ثلاثاً تحل للأول بعد نكاح زوج غيره
" صفحة رقم 212 "
بالشروط التي تقدمت ، وهذا مفهوم من صدر الآية ، والحكم الثاني : أنه يجوز للزوج
الثاني الذي طلقها أن يراجعها ، لأنه ينزل منزلة الأول ، فيجوز لهما أن يتراجعا ،
ويكون ذلك دفعاً لما يتبادر إليه الذهن من أنه إذا طلقها الثاني حلت للأول ،
فبكونها حلت له اختصت به ، ولا يجوز للثاني أن يردها ، فيكون قوله : ) فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ( مبيناً أن حكم الثاني حكم الأول ، وأنه لا
يتحتم أن الأول يراجعها ، بل بدليل إن انقضت عدّتها من الثاني فهي مخيرة فيمن يرتد
منهما أن تتزوجه ، فإن لم تنقضِ عدّتها ، وكان الطلاق رجعياً ، فلزوجها الثاني أن
يراجعها ، وعلى هذا لا يحتاج إلى حذف بين قوله : ) فَإِن طَلَّقَهَا ( وبين قوله :
) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ( ويحتاج إلى الحذف إذا كان الضمير
في : عليهما ، عائداً على المطلق ثلاثاً وعلى الزوجة ، وذلك المحذوف هو ، وانقضت
عدّتها منه ، أي : فإن طلقها الثاني وانقضت عدتها منه فلا جناح على المطلق ثلاثاً
والزوجة أن يتراجعا ، وقوله : ) إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ( أي :
إن ظن الزوج الثاني والزوجة أن يقيما حدود الله ، لأن الطلاق لا يكاد يكون في
الغالب إلاَّ عند التشاجر والتخاصم والتباغض ، وتكون الضمائر كلها منساقة انسياقاً
واحداً لا تلوين فيه ، ولا اختلاف مع استفادة هذين الحكمين من حمل الضمائر على
ظاهرها ، وهذا الذي ذكرناه غير منقول ، بل الذي فهموه هو تكوين الضمائر واختلافها
.
( أَن يَتَرَاجَعَا ( أي : في أن يتراجعا ، والضمير في : عليهما ، وفي : أن
يتراجعا ، على ما فسروه ، عائد على الزوج الأوّل والزوجة التي طلقها الزوج الثاني
.
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنه الحر ، إذا طلق زوجته ثلاثاً . ثم انقضت
عدتها ، ونكحت زوجاً ودخل بها ، ثم نكحها الأول ، أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات
ثم ترجع إلى الأول ؛ فقالت طائفة : تكون على ما بقي من طلاقها ، وبه قال أكابر
الصحابة : عمر ، وعلي ، وأبي ، وعمران بن حصين ، وأبو هريرة ، وزيد بن ثابت ،
ومعاذ بن جبل ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ومن التابعين : عبيدة السلماني ،
وابن المسيب ، والحسن ، ومن الأئمة : مالك ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ،
ومحمد بن الحسن ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن نصر .
وقالت طائفة : يكون على نكاح جديد بهدم الزوج الثاني الواحدة والثنتين كما يهدم
الثلاث ، وبه قال ابن عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، والنخعي ، وشريح ، وأصحاب عبد
الله إلاَّ عبيدة وهو مذهب أبي حنيفة ، وأبي يوسف .
وقيل : قول ثالث إن دخل بها الآخر فطلاق جديد ، ونكاح الأول جديد ، وإن لم يكن
يدخل بها فعلى ما بقي .
( إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ( أي إن ظن كل واحد منهما أنه يحسن
عشرة صاحبه ، وما يكون له التوافق بينهما من الحدود التي حدها الله لكل واحد منهما
، وقد ذكرنا طرقاً مما لكل واحد منهما على الآخر في قوله : ) وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِينَ عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( وقال ابن خويز : اختلف أصحابنا ، يعني
أصحاب مالك ، هل على الزوجة خدمة أم لا ؟ فقال بعضهم : ليس على الزوجة أن تطالب بغير
الوطء . وقال بعضهم : عليها خدمة مثلها ، فإن كانت شريفة المحل ، ليسار أبوة أو
ترفة ، فعليها تدبير أمر المنزل وأمر الخادم ، وإن كانت متوسطة الحال فعليها ان
تفرش الفراش ونحوه ، وإن كانت من نساء الكرد والدين في بلدهن كلفت ما تكلفه نساؤهم
، وقد جرى أمر المسلمين في بلدانهم ، في قديم الأمر وحديثه ، بما ذكرنا . ألا ترى
أن نساء الصحابة كنّ يُكلَّفنّ الطحن والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام
وأشباه ذلك ، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك ، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصَّرن
في ذلك .
و : إن ظنا ، شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه ، فيكون جواز التراجع موقوفاً
على شرطين : أحدهما : طلاق الزوج الثاني ، والآخر : ظنهما إقامة حدود الله ،
ومفهوم الشرط الثاني أنه لا يجوز : إن لم يظنا ، ومعنى الظن هنا تغليب أحد
الجائزين ، وبهذا يتبين أن معنى الخوف في آية الخلع معنى الظن ، لأن مساق الحدود
مساق واحد .
وقال أبو عبيدة وغيره المعنى : أيقنا ، جعل الظن هنا
" صفحة رقم 213 "
بمعنى اليقين ، وضعف قولهم بأن اليقين لا يعلمه إلاَّ الله ، إذ هو مغيب عنهما .
قال الزمخشري : ومن فسر العلم هنا بالظن فقدوهم من طريق اللفظ ، والمعنى : لأنك لا
تقول : علمت أن تقوم زيد ، ولكن : علمت أنه يقوم زيد ، ولأن الإنسان لا يعلم ما في
الغد ، وإنم يظن ظناً . انتهى كلامه .
وما ذكره من : أنك لا تقول علمت أن يقوم زيد ، قد قاله غيره ، قالوا : إن أن
الناصبة للمضارع لا يعمل فيها فعل تحقيق ، نحو : العلم واليقين والتحقيق ، وإنما
يعمل في أن المشددة ، قال أبو علي الفارسي في ( الإيضاح ) : ولو قلت علمت أن يقوم
زيد ، فنصبت الفعل : بأن ، لم يجز ، لأن هذا من مواضع : أن ، لأنها مما قد ثبت
واستقر ، كما أنه لا يحسن : أرجو انك تقوم ، وظاهر كلام أبي علي الفارسي مخالف لما
ذكره سيبويه من أن يجوز أن تقول : ما علمت إلاَّ أن يقوم زيد ، فأعمل : علمت ، في
: أن .
قال بعض أصحابنا : ووجه الجمع بينهما أن : علمت ، قد تستعمل ويراد بها العلم
القطعي ، فلا يجوز وقوع : أن ، بعدها كما ذكره الفارسي ، وقد تستعمل ويراد بها
الظن القوي ، فيجوز أن يعمل في : أن ، ويدل على استعمالها ولا يراد بها العلم
القطعي قوله : ) فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ ( فالعلم هنا إنما يراد به
الظن القوي ، لأن القطع بإيمانهنّ غير متوصل إليه وقول الشاعر : وأعلم علم حق غير
ظن
وتقوى الله من خير المعاد
فقوله : علم حق ، يدل على أن العلم قد يكون غير علم حق ، وكذلك قوله : غير ظن ،
يدل عليه أنه يقال : علمت وهو ظان ، ومما يدل على صحة ما ذكره سيبويه من أن : علمت
، قد يعمل في : أن ، إذا أريد بها غير العلم القطعي قول جرير : نرضى عن الله أن
الناس قد علموا
أن لا يدانينا من خلقه بشر
فأتى بأن ، الناصبة للفعل بعد علمت . انتهى كلامه .
وثبت بقول جرير وتجويز سيبويه أن : علم ، تدخل على أن الناصبة ، فليس بوهم ، كما
ذكر الزمخشري من طريق اللفظ .
وأما قوله : لأن الإنسان لا يعلم ما في غد ، وإنما يظن ظناً ، ليس كما ذكر ، بل
الإنسان يعلم أشياء كثيرة مما يكون في الغد ، ويجزم بها ولا يظنها .
والفاء في : فلا تحل ، جواب الشرط ، وله ، ومن بعد ، وحتى ، ثلاثتها تتعلق بتحل ،
واللام معناها التبليغ ، ومن ابتداء الغاية ، وحتى للتعليل . وبُني لقطعه عن
الإضافة ، إذ تقديره من بعد الطلاق الثالث ، وزوجاً أتى به للتوطئة ، أو للتقييد
أظهرهما الثاني ؛ فإن كان للتوطئة لا للتقييد فيكون ذكره على سبيل الغلبة لأن
الإنسان أكثر مما يتزوج الحرائر ، ويصير لفظ الزوج كالملغى ، فيكون في ذلك دلالة
على أن الأمة إذا بتّ طلاقها ووطئها سيدها حلّ للأول نكاحها ، إذ لفظ الزوج ليس
بقيد ؛ وإن كان للتقييد ، وهو الظاهر ، فلا يحللها وطىء سيدها .
والفاء في : فلا جناح ، جواب الشرط قبله ، وعليهما ، في موضع الخبر ، أما المجموع
: جناح ، إذ هو مبتدأ على رأي سيبويه ، وإما على أنه خبر : لا ، على مذهب أبي
الحسن ، و : أن يتراجعا ، أي : في أن يتراجعا ، والخلاف بعد حذف : في ، أبقى : أن
، مع ما بعدها في موضع نصب ، أم في موضع جر ، تقدم لنا ذكره ، و : أن يقيما ، في
موضع المفعولين سد مسدهما لجريان المسند والمسند إليه في هذا الكلام على مذهب
سيبويه ، والمفعول الثاني محذوف على مذهب أبي الحسن ، وأبي العباس .
( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( تلك : مبتدأ ، و :
حدود خبر ، و : يبينها يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر ، ويجوز أن يكون في موضع الحال
، أي مبينة ، والعامل فيها اسم الإشارة ، وذو الحال : حدود الله ، كقوله تعالى : )
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً ( و : لقوم ، متعلق : بيبينها ، و : تلك ، إشارة
إلى ما تقدم من الأحكام ، وقرىء : نبينها ، بالنون على طريق الالتفات ، وهي قراءة
تروى عن عاصم .
ومعنى التبين هنا : الإيضاح ، وخصّ المبين لهم بالعلم تشريفاً لهم ، لأنهم الذين
ينتفعون بما بين الله تعالى من نصب دليل
" صفحة رقم 214 "
على ذلك من قول أو فعل ، وإن كان التبين بمعنى خلق البيان ، فلا بد من تخصيص
المبين لهم الذين يعلمون بالذكر ، لأن من طبع على قلبه لا يخلق في قلبه التبيين .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نهي الله عباده عن ابتذال اسمه تعالى ، وجعله كثير
الترداد ، وعلى ألسنتهم في أقسامهم على بر وتقوى وإصلاح ، فدل ذلك على أن مبالغة
النهي عن ذلك في أقسامهم على ما ينافي البر والتقوى والصلاح بجهة الأحرى ،
وأَلاولى ، لأن الإكثار من اليمين بالله تعالى فيه عدم مبالاة واكتراث المقسم به ،
إذ الأيمان معرضة لحنث الإنسان فيها كثيراً ، وقل أن يرى كثير الحلف إلاَّ كثير
الحنث . ثم ختم هذه الآية بأنه تعالى سميع لأقوالهم ، عليم بنياتهم .
ولما تقدم النهي عن ما ذكرناه ، سامحهم الله تعالى بأن ما كان يسبق على ألسنتهم
على سبيل اللغو ، وعدم القصد لليمين ، لا يؤاخذون . به ، وإنما يؤاخذ بما انطوى
عليه الضمير ، وكسبه القلب بالتعهد ، ثم ختم هذه الآية بما يدل على المسامحة في
لغو اليمين من صفة الغفران والحلم .
ولما تقدّم كثير من الأحكام مع النساء ذكر حكم الإيلاء مع النساء ، وهو : الحلف
على الامتناع من وطئهنّ ، فجعل لذلك مدّة ، وهو أربعة أشهر أقصى ما تصبر المرأة عن
زوجها غالباً ، ثم بعد انتظار هذه المدة وانقضائها إن فاء فإن الله غفور لا يؤاخذه
بل يسامحه في تلك اليمين ، وإن عزم الطلاق أوقعه .
ولما جرى ذكر الطلاق استطرد إلى ذكر جملة من أحكامه فذكر عدّة المطلقة وأنها :
ثلاثة قروء ، ودل ذكر القرء على أن المراد بالمطلقات هنّ النساء اللواتي يحضن
ويطهرن ، ولم يطلقن قبل المسيس ولا هنّ حوامل ، ودل على إرادة هذه المخصصات آيات
أخر ، وذكر تعالى أنه لا يحل لهنّ كتمان ما خلق الله في أرحامهنّ ، فعمّ الدم
والولد لأنهنّ كنّ يكتمن ذلك لأغراض لهنّ ، وعلق ذلك على الإيمان بالله وهو الخالق
ما في أرحامهنّ ، وعلى الإيمان بالله واليوم الآخر وهو الوقت الذي يقع فيه الحساب
، والثواب والعقاب على ما يرتكبه الإنسان من تحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرّم
الله ، ومخالفته فيما شرع .
ثم ذكر تعالى أن أزواجهنّ الذين طلقوهنّ أحق بردّهنّ في مدّة العدّة ، وشرط في
الأحقية إرادة إصلاح الأزواج ، فدل على أنه إذا قصد برجعتها الضرر لا يكون أحق
بالردّ ، ثم ذكر تعالى أن للزوجة حقوقاً على الرجل ، مثل ما أن للرجل حقوقاً على
الزوجة ، فكل منهما مطلوب بإيفاء ما يجب عليه ، ثم ذكر أن للرّجل مزيد مزية ودرجة
على المرأة ، فيكون حق الرجل أكثر ، وطواعية المرأة له ألزم ، ولم يبين الدرجة ما
هي ، ويظهر أنها ما يؤلف من كثرة الطواعية ، والاهتبال بقدره ، والتعظيم له ، لأن
قبله بالمعروف وهو الشيء الذي عرفه الناس في عوائدهم من كثرة تودّد المرأة لزوجها
وامتثال ما يأمر به وختم هذه الآية يوصف العزة وهي : الغلبة ، والقهر ؛ و : الحكمة
، وهي وضع الشيء موضع ما يليق به ، وهما الوصفان اللذان يحتاج إليهما التكليف .
ثم ذكر تعالى أن الطلاق الذي يستحق فيه الزوج الرجعة في تلك العدّة ، هو مرتان
طلقة بعد طلقة وبعد وقوع الطلقتين ، إمّا أن يردّها ويمسكها بمعروف ، أو يسرحها
بإحسان ، ثم ذكر عقب هذا حكم الخلع ، لأن مشروعيته لا تكون إلاَّ قبل وجود الطلقة
الثالثة ، وأمّا بعدها فلا ينبغي خلع ، فلذلك جاء بين الطلاق الذي له فيه رجعة ،
وبين الطلاق الذي يبت العصمة ، وذكر من أحكامه أنه : لا يحل أخذ شيء من مال الزوجة
، إلاَّ بشرط أن يخافا أن لا يقيما حدود الله ، ثم أكد ذلك بذكر الخوف أن لا يقيما
حدود الله ، فجعل ذلك منهما معاً ، فلو خاف أحدهما لم يجز الخلع ، هذا ظاهر الآية
.
ثم نهى تعالى عن تعدّي حدود الله وتجاوزها ، وأخبر أن من تعدّاها ظالم ، قال تعالى
) فَإِن طَلَّقَهَا ( يعني : ثلاثة ، والمعنى ، ان أوقع التسريح المردد فيه في
قوله : ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( فهي لا تحل له
إلاَّ بعد نكاح زوج غيره ، فإن طلقها الزوج الثاني ، وأراد الأوّل أن يراجعها فله
ذلك لكنه شرط في هذا التراجع ظنهما إقامة حدود الله ، فمتى لم يظنا ذلك لم يجز
لهما أن يتراجعا ، هذا من الآيات ، ولا يتضح له : ) أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا
مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا
يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالْبَابِ ).
2 ( ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُن
" صفحة رقم 215 "
َّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ
تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ
وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ وَإِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن
يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذالِكَ
يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ
ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ
أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ
بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ
فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } )
البقرة : ( 231 ) وإذا طلقتم النساء . . . . .
بلغ : يبلغ بلوغاً ، وصل إلى الشيء ، قال الشاعر : ومجر كغلان الأنيعم بالغ
دياراً لعدو ذي زهاء وأركان
والبلغة منه ، والبلاغ الأصل ، يقع على المدة كلها وعلى آخرها .
يقال لعمر الانسان : أجل : وللموت الذي ينتهي : أجل ، وكذلك الغاية والأمد .
العضل : المنع ، عضل أيّمه منعها من الزوج يعضلها بكسر الضاد وضمها ، قال ابن هرمة
: وإن قضاء ئدي لك فاصطنعني
كرائم قد عضلن عن النكاح
ويقال : دجاج معضل إذا احتبس بيضها ، قاله الخليل ، وقال : ونحن عضلنا بالرماح
نساءنا
وما فيكم عن حرمة الله عاضل
ويقال : أصله الضيق ، عضلت المرأة نشب الولد في بطنها ، وعضلت الشاة وعضلت الأرض
بالجيش ضاقت بهم ؛ قال أوس :
ترى الأرض منا بالفضاء مريضة
معضلة منا بجيش عرمرم
وأعضل الداء الأطباء أعياهم ، وداء عضال ضاق علاجه ولا يطاق ، قالت ليلى الأخيلية
:
" صفحة رقم 216 "
شفاها من الداء العضال الذي بها
غلام إذا هزَّ القناة سقاها
وأعضل الأمر اشتدّ وضاق ، وكل مشكل عند العرب معضل ، وقال الشافعي رحمة الله عليه
:
إذا المعضلات تصدينني
كشفت حقائقها بالنظر
الرضع : مص الثدي لشرب اللبن ، يقال منه : رضع يرضع رضعاً ورضاعاً ورضاعةً ،
وأرضعته أمّه ويقال ، للئيم : راضع وذلك لشدّة بخله لا يحلب الشاة مخافة أن يسمع
منه الحلب ، فيطلب منه اللبن ، فيرضع ثدي الشاة حتى لا يفطن به .
الحَول : السنة وأحول الشيء صار له حول ؛ قال الشاعر :
من القاصرات الطرف لو دب محول
من الذرّ بفوق الأتب منها لأثَّرا
ويجمع على أحوال ، والحول الحيلة ، وحال الشيء انقلب وتحوّل انتقل ، ورجل حوّل
كثير التقليب والتصرّف ، وقد تقدّم أن حول يكون ظرف مكان ، تقول : زيد حولك
وحواليك وحوالك وأحوالك ، أي : فيما قرب منك من المكان .
الكسوة : اللباس يقال منه كسا يكسو ، وفعله يتعدى إلى اثنين تقول : كسوت زيداً
ثوباً ، وقد جاء متعدياً إلى واحد ، قال الشاعر :
واركب في الروع خيفانة
كسا وجهها سعف منتشر
ضمنه معنى غطاء ، فتعدى إلى واحد ، ويقال : كسى الرجل فهو كاسٍ ، قال الشاعر :
وأن يعرين إن كسي الجواري
وقال :
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
التكليف : الإلزام وأصله من الكلف ، وهو الأثر على الوجه من السواد ، فلان كلف
بكذا أي مغرى به ، وقال الشاعر :
" صفحة رقم 217 "
يهدى بها أكلف الخدين مختبر
من الجمال كثير اللحم عيثوم
الوارث : معروف يقال منه : ورث يرث بكسر الراء ، وقياسها في المضارع الفتح ، ويقال
: أرث وورث ، ويقال : الإرث كما يقال ألده في ولده ، والأصل الواو .
الفصال : مصدر فصل فصلاً وفصالاً ، وجمع فصيل ، وهو المفطوم عن ثدي أمه ، وفصل بين
الخصمين فرق فانفصلا ، وفصلت العير خرجت ، والمعنى فارقت مكانها ، وفصيلة الرجل
أقرب الناس إليه ، والفصيلة قطعة من لحم الفخذ ، والتفصيل بمعنى التبيين ، (
مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ ( وتفصيل كل شيء تبيينه ، وهو راجع لمعنى تفريق حكم
من حكم ، فيحصل به البيين ، ومدار هذه اللفظة على التفرقة والتبعيد .
التشاور : في اللغة هو استخراج الرأي ، من قولهم : شرت العسل أشوره إذا اجتنيته ،
والشورة والمشورة ، وبضم العين وتنقل الحركة ، كالمعونة قال حاتم : وليس على ناري
حجاب أكفها
لمقتبس ليلاً ولكن أشيرها
وقال أبو زيد : شرت الدابة وشورتها أجريتها لاستخراج جريها ، وكان مدار الكلمة على
الإظهار ، فكأن كل واحد من المشاورين أظهر ما في قلبه للآخر ، ومنه الشوار ، وهو
متاع البيت لظهوره للمناظر ، وشارة الرجل هيئته لأنها تظهر من زيه ، وتبتدىء من
زينته ، وأو رد بعضهم عند ذكر المادة هذه الإشارة فقال : والإشارة هي إخراج ما في
نفسك وإظهار للمخاطب بالنطق وغيره . إنتهى . فإن كان هذا أراد أنهما يتقاربان من
حيث المعنى فصحيح ، وإن أراد أنهما مشتركان في المادة فليس بصحيح ، وقد جرت هذه
المسألة بين الأمير بن أغلب متولي أفريقية وبعض العلماء من أهل بلده ، كيف يقال
إذا أشاروا إلى الهلال عند طلوعه ؟ وبنوا من الإشارة تفاعلنا ، فقال ابن الاغلب :
تشاورنا ، وقال ذلك العالم تشايرنا ، وسألوا قتيبة صاحب الكسائي ، وكان قد أقدم
ابن الاغلب من العراق إلى افريقية لتعليم أولاده ، فقال له : كيف تبني من الإشارة
: تفاعلنا ؟ فقال : تشايرنا . وأنشد للعرب بيتاً شاهداً على ذلك عجزه .
فيا حبذا يا عز ذاك التشاير
فدل ذلك على اختلاف المادتين من ذوات الياء ، والمادة الأخرى من ذوات الواو .
( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ( نزلت في ثابت بن بشار ،
ويقال اسنان الأنصاري ، طلق امرأته حتى إذا بقي من عدّتها يومان أو ثلاثة ، وكادت
أن تبين راجعها ، ثم طلقها ثم راجعها ، ثم طلقها حتى مضت سبعة أشهر مضارّة لها ،
ولم يكن الطلاق يومئذ محصوراً .
والخطاب في : طلقتم ظاهره أنه للأزواج ، وقيل : لثابت بن يسار ، خوطب الواحد بلفظ
الجمع للاشتراك في الحكم وأبعد من قال : إن الخطاب للأولياء لقوله : )
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( ونسبة الطلاق
والإمساك والتسريح للأولياء بعيد جداً .
فبلغن أي : قاربن انقضاء العدة والأجل ، هو الذي ضربه الله للمعتدّات من الأقراء ،
والأشهر ، ووضع الحمل . وأضاف الأجل إليهم لأنه أمس بهنّ ، ولهذا قيل : الطلاق
للرجال والعدة للنساء ، ولا يحمل : بلغن أجلهنّ على الحقيقة ، لأن الإمساك إذ ذاك
ليس له ، لأنها ليست بزوجة ، إذ قد تقضت عدتها فلا سبيل له عليها .
( فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( أي راجعوهنّ قبل انقضاء العدّة ، وفسر المعروف
بالإشهاد على الرجعة ، وقيل : بما يجب لها من حق عليه ، قاله بعض العلماء ، وهو
قول عمر ، وعلي ، وأبي هريرة ، وابن المسيب ،
" صفحة رقم 218 "
ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، واسحاق ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، ويحيى القطان ، وعبد
الرحمن بن مهدي ، قالوا : الإمساك بمعروف هو أن ينفق عليها ، فإن لم يجد طلقها ،
فإذا لم يفعل خرج عن حدّ المعروف ، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر الذي يلحقها
بإقامتها عند من لا يقدر على نفقتها ، حتى قال ابن المسيب : إن ذلك سنة .
وفي ( صحيح ) البخاري : تقول المرأة إما أن تطعمني ، و إما أن تطلقني وقال عطاء ،
والزهري ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : لا يفرق بينهما ، ويلزمها الصبر عليه
، وتتعلق النفقة بذمته لحكم الحاكم .
والقائلون بالفرقة اختلفوا ، فقال مالك : هي طلقة رجعية لأنها فرقة بعد البناء لم
يستكمل بها العدد ، ولا كانت بعوض ، ولا لضرر بالزوج ، فكانت رجعية كضرر المولي .
وقال الشافعي : هي طلقة بائنة ، وقيل : بالمعروف من غير طلب ضراءَ بالمراجعة .
( أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( أي : خلوهنّ حتى تنقضي عدتها ، وتبين من غير
ضرار ، وعبر بالتسريح عن التخلية لأن مآلها إليه ، إذ بانقضاء العدّة حصلت
البينونة .
( وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ ( هذا كالتوكيد لقوله تعالى : )
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( نهاهم أن لا يكون الإمساك ضراراً ، وحكمة هذا
النهي أن الأمر في قوله : ) فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( يحصل بإمساكها مرة
بمعروف ، هذا مدلول الأمر ، ولا يتناول سائر الأوقات وجاء النهي ليتناول سائر
الأوقات ليعمها ، ولينبه على ما كانوا يفعلونه من الرجعة ، ثم الطلاق ، ثم الرجعة
، ثم الطلاق على سبيل الضرار ، فنهى عن هذه الفعلة القبيحة يخصوصها ، تعظيماً لهذا
المرتكب الشيء الذي هو أعظم إيذاء النساء ، حتى تبقى عدتها في ذوات الأشهر تسعة
أشهر .
ومعنى : ضراراً ، مضارة وهو مصدر ضار ضراراً ومضارّة ، وفسر بتطويل العدّة ، وسوء
العشرة ، وبتضييق النفقة ، وهو أعم من هذا كله ، فكل إمساك لأجل الضرر والعدوان
فهو منهي عنه .
وانتصب : ضراراً ، على أنه مفعول من أجله ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال ، أي :
مضارين لتعتدوا ، أي : لتظلموهن ، وقيل : لتلجئوهن إلى الافتداء .
واللام : لام كي ، فإن كان ضراراً حالاً تعلقت اللام به ، أو : بلا تمسكوهن ، إن
كان مفعولاً من أجله تعلقت اللام به ، وكان علة للعلة ، تقول : ضربت ابني تأديباً
لينتفع ، ولا يجوز أن يتعلق : بلا تمسكوهن ، لأن الفعل لا يقضي من المفعول من أجله
اثنين إلاَّ بالعطف ، أو على البدل ، ولا يمكن هنا البدل لاجل اختلاف الإعراب ،
ومن جعل اللام للعاقبة جوّز أن يتعلق : بلا تمسكوهن ، فيكون الفعل قد تعدى إلى علة
وإلى عاقبة ، وهما مختلفان .
قوله تعالى ) وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ( ذلك إشارة إلى
الإمساك على سبيل الضرار
" صفحة رقم 219 "
والعدوان ، وظلم النفس بتعويضها العذاب ، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من
الثواب الحاصل على حسن العشرة ، ومنافع الدنيا من عدم رغبة التزويج به لاشتهاره
بهذا الفعل القبيح .
( وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ( قال أبو الدرداء : كان الرجل يطلق
في الجاهلية ويقول : طلقت وأنا لاعب ، ويعتق وينكح ويقول مثل ذلك ، فأنزل الله هذه
الآية ، فقرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقال : ( من طلق أو حرّر أو
نكح فزعم أنه لاعب فهو جدّ ) . وقال الزمخشري : أي جدّوا في الأخذ بها ، والعمل
بما فيها ، وارعوها حق رعايتها وألاَّ فقد اتخذتموها هزواً ولعباً ، ويقال لمن لم
يجدّ في الأمر إنما أنت لاعب وهازي . إنتهى كلامه .
وقاله معناه جماعة من المفسرين ، وقال ابن عطية ، المراد آياته النازلة في الأوامر
والنواهي ، وخصها الكلبي بقوله : ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ ( ) وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ).
وقال الحسن : نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعباً وهازلاً ، أو راجع كذلك ، والذي يظهر
أنه تعالى لما أنزل آيات تضمنت الأمر والنهي في النكاح ، وأمر الحيض والإيلاء ،
والطلاق والعدة ، والرجعة والخلع ، وترك المعاهدة ، وكانت هذه أحكامها جارية بين
الرجل وزوجته ، وفيها إيجاب حقوق للزوجة على الزوج ، وله عليها ، وكان من عادة
العرب عدم الاكتراث بأمر النساء والاغتفال بأمر شأنهن ، وكنّ عندهم أقل من أن يكون
لهنّ أمر أو حق على الزوج ، فأنزل الله فيهنّ ما أنزل من الاحكام ، وحدّ حدوداً لا
تتعدى ، وأخبرهم أن من خالف فهو ظالم متعدَ ، أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله ،
التي منها هذه الآيات النازله في شأن النساء ، هزؤاً ، بل تؤخذ وتتقبل بجد واجتهاد
، لأنها من أحكام الله ، فلا فرق بينها وبين الآيات التي نزلت في سائر التكاليف
التي بين العبد وربه ، وبين العبد والناس .
وانتصب : هزؤاً ، على أنه مفعول ثانٍ : لتتخذوا ، وتقول : هزأ به هزءاً استخف .
وقرأ حمزة : هزأ ، بإسكان الزاي ، وإذا وقف سهل الهمزة على مذهبه في تسهيل الهمز ،
وذكروا في كيفية تسهيله عنده فيه وجوهاً تذكر في علم القراءات ، وهو من تخفيف فعل
: كعنق ، وقد تقدم الكلام في ذلك . قال عيسى بن عمر : كل اسم على ثلاثة أحرف أوله
مضموم وثانيه ففيه لغتان : التخفيف والتثقيل .
وقرأ هزواً بضم الزاي وابدال من الهمزة واواً ، وذلك لأجل الضم .
وقرأ الجمهور : هزؤاً بضمتين والهمز ، قيل : وهو الأصل ، وقد تقدم الكلام على ذلك
في قوله تعالى : ( أتتخذنا هزواً ) .
( وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ
الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ( هذا أمر معطوف على أمر في المعنى ، وهو : ولا تتخذوا
آيات لله هزواً ، والنعمة هنا ليست التاء فيها للوحدة ، ولكنها بني عليها المصدر ،
ويريد : النعم الظاهرة والباطنة ، وأجلها ما أنعم به من الإسلام ونبوّة محمد علية
الصلاة والسلام .
و : ما أنزل عليكم ، معطوف على نعمة ، وهو تخصيص بعد تعميم ، إذ ما أنزل هو من
النعمة ، وهذا قد ذكرنا أنه يسمى التجريد ، كقوله : ) وَجِبْرِيلُ ( بعد ذكر
الملائكة ، وتقدم القول فيه ، وأتى : بعليكم ، تنبيهاً للمأمورين وتشريفاً لهم ،
إذ في الحقيقة ما أنزل إلاَّ على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولكنه لما
كنا مخاطبين بأحكامه ، ومكلفين باتباعه ، صار كأنه نزل علينا .
و : الكتاب ، القرآن ، و : الحكمة ، هي السنة التي بها كمال الأحكام التي لم
يتضمنها القرآن ، والمبينة ما فيه من الإجمال . ودل هذا على أن السنة أنزلها الله
على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كما قال تعالى : ) وَمَا يَنطِقُ عَنِ
الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى ).
وقيل : وفي ظاهره رد على من زعم أن له الحكم بالاجتهاد ، لأن ما يحكم به من السنة
ينزل من الله عليه ، فلا اجتهاد ، وذكر : النعم ، لا يراد به سردها على اللسان ،
وإنما المراد بلذكر الشكر عليها ، لأن ذكر المسلم النعمة سبب لشكرها ، فعبر بالسبب
عن المسبب ، فإن أريد بالنعمة المنعم به فيكون : عليكم ، في موضع الحال ، فيتعلق
بمحذوف ، أي : كائنة عليكم ، ويكون في ذلك تنبيه على أن نعمته تعالى منسحبة علينا
، قد استعلت وتجللت وصارت كالظلة لنا ، وإن أريد بالنعمة الإنعام فيكون : عليكم ،
متعلقاً بلفظ النعمة ، ويكون إذ ذاك مصدراً من : أنعم ، على غير قياس ، كنبات من
أنبت .
وعليكم ، الثانية متعلقة بأنزل ، و : من ، في موضع الحال ، أي : كائناً من الكتاب
، ويكون حالاً من ما أنزل أو من الضمير العائد على الموصول
" صفحة رقم 220 "
المحذوف ، إذ تقديره : وما أنزل عليكم . ومن أثبت لمن معنى البيان للجنس جوز ذلك
هنا ، كأنه قيل : وما أنزله عليكم الذي هو الكتاب والسنة .
( يَعِظُكُمْ بِهِ ( يذكركم به ، والضمير عائد على : ما ، من قوله : وما أنزل ،
وهي جملة حالية من الفاعل المستكن في : أنزل ، والعامل فيها : أنزل ، وجوزوا في :
ما ، من قوله : وما أنزل ، أن يكون مبتدأ . و : يعظكم ، جمله في موضع الخبر ، كأنه
قيل : والمنزله الله من الكتاب والحكمة يعظكم به ، وعطفه على النعمة أظهر .
( وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( لما كان تعالى قد ذكر أوامر ونواهي ، وذلك بسبب النساء
اللاتي هنّ مظنة الإهمال وعدم الرعاية ، أمر الله تعالى بالتقوى ، وهي التي
بحصولها يحصل الفلاح في الدنيا والآخرة ، ثم عطف عليها ما يؤكد طلبها وهي قوله : )
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ ( والمعنى : بطلب العلم الديمومة
عليه ، إذ هم عالمون بذلك ، وفي ذلك تنبيه على أنه يعلم نياتكم في المضارة
والاعتداء ، فلا تلبسوا على أنفسكم . وكرر اسم الله في قوله تعالى : ) وَاتَّقُواْ
اللَّهَ ( ) وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ ( لكونه من جملتين ، فتكريره أفخم ،
وترديده في النفوس أعظم .
البقرة : ( 232 ) وإذا طلقتم النساء . . . . .
( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ (
قال ابن عباس ، والزهري ، والضحاك ؛ نزلت في كل من منع امرأة من نسائه عن النكاح
بغيره إذا طلقها ، وقيل : نزلت في ابنة عم جابر بن عبد الله ، طلقها زوجها ،
وانقضت عدتها فاراد رجعتها ، فأتى جابر وقال : طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها ؟
وكانت المرأة تريد زوجها ، فنزلت . وقيل : في معقل بن يسار ، وأخته جمل ، وزوجها
أبي الوليد عاصم بن عدي بن العجلان ، جرى لهم ما جرى لجابر في قصته ، ذكر معناه
البخاري .
فعلى السبب الأوّل يكون المخاطبون هم الأزواج ، وعلى هذا السبب الأولياء ، وفيه
بُعد ، لأن نسبة الطلاق إليهم هو مجاز بعيد ، وهو أن يكون الأولياء قد تسببوا في
الطلاق حتى وقع ، فنسب إليهم الطلاق بهذا الاعتبار ، ويبعد جداً أن يكون الخطاب في
: ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ( للأزواج وفي ) فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ( للأولياء ،
لتنافي التخاطب ، ولتنافر الشرط والجزاء ، فالأولى ، والذي يناسبه سياق الكلام ،
أن الخطاب في الشرط والجزاء للأزواج ، لأن الخطاب من أوّل الآيات هو مع الأزواج
ولم يجر للأولياء ذكر ، ولأن الآية قبل هذه خطاب مع الأزواج في كيفية معاملة
النساء قبل انقضاء العدة ، وهذه الآية خطاب لهم في كيفية معاملتهم معهنّ بعد
انقضاء العدّة ، ويكون الأزواج المطلقون قد انتهوا عن العضل ، إذ كانوا يفعلون ذلك
ظلماً وقهراً وحمية الجاهلية ، لا يتركونهنّ يتزوّجن من شئن من الأزواج ، وعلى هذا
يكون معنى : ) أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ ( أي : من يردن أن يتزوّجنه ، فسموا
أزواجاً باعتبار ما كانوا عليه ، وإن لم يكونوا بعد انقضاء العدّة أزواجاً حقيقة .
وجهات العضل من الزوج متعددة : بأن يجحد الطلاق ، أو يدعي رجعة في العدة ، أو
يتوعد من يتزوّجها ، أو يسيء القول فيها لينفر الناس عنها ، فنهوا عن العضل مطلقاً
بأي سبب كان مما ذكرناه ومن غيره .
وقال الزمخشري : والوجه أن يكون خطاباً للناس ، أي : لا يوجد فيما بينكم عضل ،
لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين ؛ وصدر بما يقارب هذا المعنى
كلامه ابن عطية ، فقال : ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ( الآية خطاب للمؤمنين الذين هم الإزواج ، ومنهم الأولياء ،
لأنهم المراد في تعضلوهنّ . انتهى كلامه . وهذا التوجيه يؤول إلى أن الخطاب في :
طلقتم ، للأزواج ، وفي : فلا تعضلوهنّ ، للأولياء وقد بينا ما فيه من التنافر .
( أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ ( هو في موضع نصب على البدل من الضمير بدل اشتمال ،
أو على أن أصله من أن ينكحن ، وينكحن مضارع نكح الثلاثي ، وفيه دلالة على أن
للمرأة أن تنكح بغير ولي ، لأنه لو كان له
" صفحة رقم 221 "
حق لما نهى عنه ، فلا يستدل بالنهي على إثبات الحق ، وظاهره العقد .
وظاهر الآية إذا كان الخطاب في : فلا تعضلوهنّ ، للأولياء النهي عن مطلق العضل ،
فيتحقق بعضلها عن خاطب واحد ، وقال مالك : إذا منعها من خاطب أو خاطبين لا يكون
بذلك عاضلاً .
وقال أبو حنيفة : الثيب تزوّج نفسها وتستوفي في المهر ولا اعتراض للوليّ عليها .
وهو قول زفر ؛ وإن كان غير كفء جاز ، وللأولياء أن يفرّقوا بينهما . وعلى جواز
النكاح بغير وليّ : ابن سيرين ، والشعبي ، والزهري ، وقتادة وقال أبو يوسف : إن
سلم الولي نكاحها جاز وإلاَّ فلا ، إلاَّ إن كان كفؤاً فيجيزه القاضي إن أبى الولي
أن يسلم ، وهو قول محمد . وروي عن أبي يوسف غير هذا .
وقال الأوزاعي : إذا ولت أمرها رجلاً ، وكان الزوج كفؤا ، فالنكاح جائز ، وليس
للولي أن يفرّق بينهما . وقال ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والثوري ، والحسن بن
صالح : لا يجوز النكاح إلاَّ بولي ، وهو مذهب الشافعي وقال الليث : تزوّج نفسها
بغير ولي . وقال ابن القاسم ، عن مالك : إذا كانت معتقة ، أو مسكينة ، أو دنيئة ،
فلا بأس أن تستخلف رجلاً يزوّجها ، وللأولياء فسخ ذلك قبل الدخول ، وعنه خلاف بعد
الدخول ، وإن كانت ذات غنى فلا يجوز أن يزوّجها إلا الولي أو السلطان ، وحجج هذه
المذاهب في كتب الفقه .
( إِذَا تَراضَوْاْ ( : الضمير عائد على الخطاب والنساء ، وغلب المذكر ، فجاء
الضمير بالواو ، ومن جعل للأولياء ذكراً في الآية قالوا : احتمل أن يعود على
الأولياء والأزواج .
والعامل في : إذا ، ينكحن .
( بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ( الضمير في : بينهم ، ظرف مجازي ناصبه : تراضوا ،
بالمعروف : ظاهره أنه متعلق بتراضوا ، وفسر بأنه ما يحسن من الدين والمروءة في
الشرائط ، وقيل : مهر المثل ، وقيل : المهر والإشهاد . ويجوز أن يتعلق : بالمعروف
، بينكحن ، لا : بتراضوا ، ولا يعتقد أن ذلك من الفصل بين العامل والمعمول الذي لا
ينتفي ، بل هو من الفصل الفصيح ، لأنه فصل بمعمول الفعل ، وهو قوله : ) إِذَا
تَراضَوْاْ ( فإذا منصوب بقوله : ) أَن يَنكِحْنَ ( و : بالمعروف ، متعلق به ،
فكلاهما معمول للفعل .
( ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ
( ذلك خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقيل : لكل سامع ، ثم رجع إلى خطاب
الجماعة فقال : منكم ، وقيل : ذلك بمعنى : ذلكم ، وأشار بذلك إلى ما ذكر في الآية
من النهي عن العضل ، و : ذلك ، للبعد ناب عن اسم الإشارة الذي للقرب ، وهو : هذا ،
وان كان الحكم قريباً ذكره في الآية ، وذلك يكون لعظمة المشير إلى الشيء ، ومعنى :
يوعظ به أي يذكر به ، ويخوّف . و : منكم ، متعلق بكان ، أو : بمحذوف في موضع الحال
من الضمير المستكن في : يؤمن ، وذكر الإيمان بالله لأنه تعالى هو المكلف لعباده ،
الناهي لهم ، والآمر . و : اليوم الآخر ، لأنه هو الذي يحصل به التخويف ، وتجنى
فيه ثمرة مخالفة النهي . وخص المؤمنين لأنه لا ينتفع بالوعظ إلاَّ المؤمن ، إذ نور
الإيمان يرشده إلى القبول ) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ( وسلامة
عقله تذهب عنه مداخلة الهوى ، ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالْبَابِ ).
) ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ( أي : التمكن من النكاح أزكى لمن هو بصدد
العضل لما له في امتثال أمر الله من الثواب ، وأطهر للزوجين لما يخشى عليهما من
الريبة إذا منعا من النكاح ، وذلك بسبب العلاقات التي بين النساء والرجال .
( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( أي : يعلم ما تنطوي عليه قلوب
الزوجين من ميل كل منهما للآخر ، لذلك نهى تعالى عن العضل ، قال معناه ابن عباس ؛
أو : يعلم ما فيه من اكتساب الثواب وإسقاط العقاب . أو : يعلم بواطن الأمور ومآلها
. وأنتم لا تعلمون ذلك ، إنما تعلمون ما ظهر . أو : يعلم من يعمل على وفق هذه
التكاليف ومن لا يعمل بها . ويكون المقصود بذلك : تقرير الوعد والوعيد .
قيل : وتضمنت هذه الآية ستة أنواع من ضروب الفصاحة ، والبلاغة ، من علم البيان .
الأول : الطباق ، وهو الطلاق والإمساك ، فإنهما ضدان ، والتسريح طباق ثان لأنه ضد
الإمساك ، والعلم وعدم العلم ، لأن عدم العلم هو الجهل .
الثاني : المقابلة في ) فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( و ) لا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِرَارًا ( قابل المعروف بالضرار ، والضرار منكر فهذه مقابلة معنوية .
الثالث : التكرار في : ) فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ( كرر اللفظ لتغيير المعنيين ،
وهو غاية الفصاحة ، إذ
" صفحة رقم 222 "
اختلاف معنى الاثنين دليل على اختلاف البلوغين .
الرابع : الالتفات في ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ( ثم
التفت إلى الأولياء فقال : ) فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ( وفي الآية ، في قوله : ذلك ،
إذ كان خطاباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ثم التفت إلى الجمع في قوله :
منكم .
الخامس : التقديم والتأخير ، التقدير ، أن ينكحن أزواجهنّ بالمعروف إذا تراضوا .
السادس : مخاطبة الواحد بلفظ الجمع ، لأنه ذكر في أسباب النزول أنها نزلت في معقل
بن يسار ، أو في أخت جابر ، وقيل ابنته .
البقرة : ( 233 ) والوالدات يرضعن أولادهن . . . . .
( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( مناسبة هذه
الآية لما قبلها أنه تعالى ، لما ذكر جملة في : النكاح ، والطلاق ، والعدّة ،
والرجعة ، والعضل ، أخذ يذكر حكم ما كان من نتيجة النكاح ، وهو ما شرع من حكم :
الإرضاع ومدّته ، وحكم الكسوة ، والنفقة ، على ما يقع الكلام فيه في هذه الآية إن
شاء الله ) وَالْوالِداتُ ( جمع والدة بالتاء ، وكان القياس أن يقال : والد ، لكن
قد أطلق على الأب والد ، ولذلك قيل فيه وفي الأم الوالدات فجاءت التاء في الوالدة
للفرق بين المذكر والمؤنث من حيث الإطلاق اللغوي ، وكأنه روعي في الإطلاق أنهما أصلان
للولد ، فأطلق عليهما : والدات .
وظاهر لفظ : الوالدات ، العموم ، فيدخل فيه الزوجات والمطلقات .
وقال الضحاك ، والسدي ، وغيرهما : في المطلقات ، جعلها الله حدّاً عند اختلاف
الزوجين في مدة الرضاع ، فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين فذلك له ، ورجح هذا
القول لأن قوله : والوالدات ، عقيب آية الطلاق ، فكانت من تتمتها ، فشرع ذلك لهنّ
، لأن الطلاق يحصل فيه التباغض ، فربما حمل على أذى الولد ، لأن إيذائه إيذاء
والده ، ولأن في رغبتها في التزويج بآخر إهمال الولد .
وقيل : هي في الزوجات فقط ، لأن المطلقة لا تستحق الكسوة ، وإنما تستحق الأجرة )
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ( صورته خبر محتمل أن يكون معناه خبراً ، أي : في حكم
الله تعالى الذي شرعه ، فالوالدات أحق برضاع أولادهنّ ، سواء كانت في حيالة الزوج
أو لم تكن ، فإن الإرضاع من خصائص الولادة لا من خصائص الزوجية .
ويحتمل أن يكون معناه الأمر كقوله : ) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ( لكنه أمر
ندب لا إيجاب ، إذ لو كان واجباً لما استحق الأجرة . وقال تعالى : ) وَإِن
تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( فوجوب الإرضاع إنما هو على الأب لا على
الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلاَّ إذا تطوعت الأم بإرضاعه ، وهي مندوبة إلى ذلك
، ولا تجبر عليه ، فإذا لم يقبل ثديها ، أو لم يوجد له ظئراً ، وعجز الأب عن
الاستئجار وجب عليها إرضاعه ، فعلى هذا يكون الأمر للوجوب في بعض الوالدات .
ومذهب الشافعي أن الإرضاع لا يلزم إلاَّ الوالد أو الجد ، وإن علا . ومذهب مالك :
أنه حق على الزوجة لأنه كالشرط ، إلاَّ أن تكون شريفة ذات نسب ، فعُرفها أن لا
ترضع .
وعنه خلاف في بعض مسائل الإرضاع ) حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( وصف الحولين بالكمال
دفعاً للمجاز الذي يحتمله حولين ، إذ يقال : أقمت عند فلان حولين ، وإن لم
يستكملهما ، وهي صفة توكيد كقوله ) عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ( وجعل تعالى هذه المدة
حداً عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع ، فمن دعا منهما إلى كمال الحولين فذلك له
.
وظاهر قوله : أولادهن ، العموم ، فالحولان لكل ولد ، وهو قول الجمهور .
وروي عن ابن عباس أنه قال : هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهر ، فإن مكث سبعة
فرضاعه ثلاثة وعشرون ، أو : ثمانية ، فإثنان وعشرون ، أو : تسعة ، فأحد وعشرون ،
وكان هذا القول انبنى على قوله تعالى : ) وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ
شَهْراً ( لأن ذلك حكم على الإنسان عموماً .
وفي قوله : يرضعن ، دلالة على أن الأم أحق برضاع الولد ، وقد تكلم بعض المفسرين
هنا في مسائل لا تعلق لها بلفظ القرآن ، منها : مدة الرضاع المحرمة ، وقدر الرضاع
الذي يتعلق به التحريم ، والحضانة ومن أحق بها بعد الأم ؟ وما الحكم في الولد إذا
تزوجت الأم ؟ وهل للذمية حق في الرضاعة ؟ وأطالوا بنقل الخلاف والدلائل ، وموضوع
هذا علم الفقه .
( لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ( هذا يدل على أن الإرضاع في الحولين
ليس بحد لا يتعدى ، وإنما ذلك لمن أراد الإتمام ، أما من لا يريده فله فطم الولد
دون بلوغ ذلك إذا لم يكن فيه ضرر للولد ، وروي عن قتادة أنه قال : تضمنت فرض
الإرضاع على الوالدات ، ثم يسر ذلك وخفف ، فنزل : لمن أراد أن يتم الرضاعة ( قال
ابن عطية : وهذا قول متداع .
قال الراغب : وفي قوله : ) ( قال ابن عطية : وهذا قول متداع .
قال الراغب : وفي قوله : ) حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ ( تنبيه على أنه لا يجوز
" صفحة رقم 223 "
تجاوز ذلك ، وأن لا حكم للرضاع بعد الحولين ، وتقوية لإرضاع بعد الحولين ،
والرضاعة من المجاعة ، ويؤكده أن كل حكم في الشرع علق بعدد مخصوص يجوز الإخلال به
في أحد الطرفين لم يجز الإخلال به في الطرف الآخر ، كخيار الثلاث ، وعدد حجارة
الاستنجاء ، والمسح على الخفين يوماً وليلة وثلاثة أيام ، ولما كان الرضاع يجوز
الإخلال في أحد الطرفين ، وهو النقصان ، لم تجز مجاوزته . انتهى كلامه .
وقال غيره : ذكر الحولين ليس على التوقيت الواجب ، وإنما هو لقطع المشاجرة بين
الوالدين ، وجمهور الفقهاء على أنه يجوز الزيادة والنقصان إذا رأيا ذلك .
واللام في : لمن ، قيل : متعلقة بيرضعن ، كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ،
وتكون اللام على هذا للتعليل أي : لاجله ، فتكون : مَنْ واقعة على الأب ، كأنه قيل
: لاجل من أراد أن يتم الرضاعة على الآباء ، وقيل : اللام للتبيين ، فيتعلق بمحذوف
كهي في قولهم : سقياً لك : وفي قوله تعالى : ) هَيْتَ لَكَ ( فاللام لتبيين المدعو
له بالسقي ، وللمهيت به ، وذلك أنه لما قدم قوله : ) يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( بين أن هذا الحكم إنما هو : لمن يريد أن يتم الرضاعة من
الوالدات ، فتكون : من ، واقعة على الأم ، كأنه قيل : ) لِمَنْ أَرَادَ أَن
يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ( من الوالدات . أو تكون ، مَنْ ، واقعة على الوالدات
والمولود له ، كل ذلك يحتمله اللفظ .
وقرأ الجمهور : أن يتم الرضاعة بالياء من : أتم ، ونصب الرضاعة وقرأ مجاهد ،
والحسن ، وحميد ، وابن محيض ، وأبو رجاء : تتم ، بالتاء من تم ، ورفع الرضاعة وقرأ
أبو حنيفة ، وابن أبي عبلة ، والجارود بن أبي سبرة كذلك ، إلاَّ أنهم كسروا الراء
من الرضاعة ، وهي لغة : كالحضارة والحضارة ، والبصريون يقولون بفتح الراء مع الهاء
وبكسرها دون الهاء ، والكوفيون يعكسون ذلك ، وروى عن مجاهد أنه قرأ : الرضعة ، على
وزن القصعة ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ : أن يكمل الرضاعة ، بضم الياء ، وقرىء :
أن يتم ، برفع الميم ، ونسبها النحويون إلى مجاهد ، وقد جاز رفع الفعل بعد أن في كلام
العرب في الشعر أنشد الفراء رحمة الله تعالى : أن تهبطين بلاد قو
م يرتعون من الطلاح
وقال الآخر : أن تقرآن على أسماء ، ويحكما
مني السلام ، وأن لا تُبْلِغَا أحدا
وهذا عند البصريين هي الناصبة للفعل المضارع ، وترك أعمالها حملاً على : ما ،
أختها في كون كل منهما مصدرية ، وأما الكوفيون فهي عندهم المخففة من الثقيلة ، وشذ
وقوعها موقع الناصبة ، كما شذ وقوع الناصبة موقع المخففة في قول جرير : ترضى عن
الله أن الناس قد علموا
أن لا يدانينا من خلقه بشر
والذي يظهران أن إثبات النون في المضارع المذكور مع : أن ، مخصوص بضرورة الشعر ،
ولا يحفظ أن غير ناصبة إلاَّ في هذا الشعر ، والقراءة المنسوبة إلى مجاهد ، وما
سبيله هذا ، لا تُبني عليه قاعدة .
( وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( المولود
جنس ، واللام فيه موصولة وصلت باسم المفعول و : أل ، كمن ، و : ما ، يعود الضمير
على اللفظ مفرداً مذكراً ، ويجوز أن يعود على المعنى بحسب ما تريده من المعنى من
تثنية أو جمع أو تأنيث ، وهنا عاد الضمير على اللفظ ، فجاء له . ويجوز في العربية
أن يعود على المعنى ، فكان يكون : لهم ، إلاَّ أنه لم يقرأ به ، والمفعول الذي لم يسم
فاعله هو الجار والمجرور ، وحذف الفاعل ، وهو : الوالدات ، و : المفعول به وهو :
الأولاد ، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل ، وهذا على مذهب البصريين ، أعني : أن
يقام الجار
" صفحة رقم 224 "
مقام الفاعل إذا حذف نحو : مرّ بزيد .
وذهب الكوفيون إلى أن ذلك لا يجوز إلاَّ فيما حرف الجر فيه زائد ، نحو : ما ضرب من
أحدٍ ، فإن كان حرف الجر غير زائد لم يجز ذلك عندهم ، ولا يجوز أن يكون الاسم
المجرور في موضع رفع باتفاق منهم .
واختلفوا بعد هذا الاتفاق في الذي أقيم مقام الفاعل ، فذهب الفراء إلى أن حرف الجر
وحده في موضع رفع ، كما أن : يقوم من ؟ زيد يقوم . في موضع رفع ، وذهب الكسائي
وهشام إلى أن مفعول الفعل ضمير مبهم مستتر في الفعل ، وإبهامه من حيث ، إنه يحتمل
أن يراد به ما يدل عليه الفعل من مصدر ، أو ظرف زمان ، أو ظرف مكان ، ولم يقم
الدليل على أن المراد به بعض ذلك دون بعض ، ومنهم من ذهب إلى أن مرفوع الفعل ضمير
عائد على المصدر ، والتقدير : سير هو ، يريد : أي سير السير ، والضمير يعود على
المصدر المفهوم من الفعل ، وهذا سائغ عند بعض البصريين ، وممنوع عند محققي
البصريين ، والنظر في دلائل هذه المذاهب تصحيحاً وإبطالاً يذكر في عالم النحو .
وقد وهم بعض كبرائنا ، فذكر في كتابه المسمى ب ( الشرح لجمل الزجاجي ) أن النحويين
أجمعوا على جواز إقامة المجرور مقام الفاعل إلاَّ السهيلي ، فإنه منع ذلك ، وليس
كما ذكر ، إذ قد ذكرنا الخلاف عن الفراء ، والكسائي ، وهشام . والتفصيل في المجرور
. وممن تبع السهيلي على قوله : تلميذه أبو علي الزيدي شارح ( الجمل ) .
و : المولود له ، هو الوالد ، وهو الأب ، ولم يأت بلفظ الوالد ، ولا بلفظ الأب ،
بل جاء بلفظ : المولود له ، لما في ذلك من إعلام الأب ما منح الله له وأعطاه ، إذ
اللام في : له ، معناها شبه التمليك كقوله تعالى : ) وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ
أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً ( وهو أحد المعاني التي ذكرناها في اللام في أول
الفاتحة ، ولذلك يتصرف الوالد في ولده بما يختار ، وتجد الولد في الغالب مطيعاً
لأبيه ، ممتثلاً ما أمر به ، منفذاً ما أوصى به ، فالأولاد في الحقيقة هم للآباء ،
وينتسبون إليهم لا إلى أمهاتهم ، كما أنشد المأمون بن الرشيد ، وكانت أمه جارية
طباخة تدعى مراجل ، قال : فإنما أمهات الناس أوعية
مستودعات وللابناء آباء
فلما كان لفظ : المولود ، مشعراً بالمنحة وسبه التمليك ، أتى به دون لفظ : الوالد
، ولفظ : الأب ، وحيث لم يرد هذا المعنى أتى بلفظ الوالد ولفظ الاب ، كما قال
تعالى : ) لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ( وقال : ) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ
فِىءابَائِهِنَّ ).
ولطيفة أخرى في قوله : ) وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ( وهو أنه لما كلف بمؤن المرضعة
لولده من الرزق والكسوة ، ناسب أن يسلى بأن ذلك الولد هو وُلِد لك لا لأمه ، وأنك
الذي تنتفع به في التناصر وتكثير العشيرة ، وأن لك عليه الطواعية كما كان عليك
لأجله كلفة الرزق ، والكسوة لمرضعته .
وفسر ابن عطية هنا ، الرزق ، بأنه الطعام الكافي ، فجعله إسما للمرزوق . كالطحن
والرعي . وقال الزمخشري : فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن ، فشرح الرزق : بأن
والفعل اللذين ينسَبكُ منهما المصدر ، ويحتمل الرزق الوجهين من إرادة المرزوق ،
وإرادة المصدر .
وقد ذكرنا أن : رزقاً بكسر الراء ، حكي مصدراً ، كرزق بفتحها فيما تقدم ، وقد جعله
مصدراً أبو علي الفارسي في قوله : ) مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ
السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ شَيْئاً ( وقد رد ذلك عليه ابن الطراوة ، وسيأتي ذلك في
مكانه إن شاء الله تعالى .
ومعنى : بالمعروف ، ما جرى به العرف من نفقة وكسوة لمثلها ، بحيث لا يكون إكثار
ولا إقلال ، قاله الضحاك وقال ابن عطية : بالمعروف ، يجمع جنس القدر في الطعام ،
وجودة الاقتضاء له ، وحسن الاقتضاء من المرأة . انتهى كلامه .
ولا يدل على حسن الاقتضاء من المرأة ، لأن الآية إنما هي فيما يجب على
" صفحة رقم 225 "
المولود له من الرزق والكسوة ، فبالمعروف ، يتعلق برزقهن أو بكسوتهن على الإعمال ،
إما للأول وإما للثاني إن كانا مصدرين ، وإن عنى بهما المرزوق ، والشأن ، فلا بد
من حذف مضاف التقدير : إيصال أو دفع ، أو ما أشبه ذلك مما يصح به المعنى ، ويكون :
بالمعروف ، في موضع الحال منهما ، فيتعلق بمحذوف . وقيل : العامل فيه معنى
الاستقرار في : على .
وقرأ طلحة : وكسوتهن ، بضم الكاف ، وهما لغتان يقال : كُسوة وكِسوة ، بضم الكاف
وكسرها .
( لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ( التكليف إلزام ما يؤثر في الكلفة ، من
: كلف الوجه ، وكلف العشق ، لتأثيرهما وسعها طاقتها وهو ما يحتمله وقد بين تعالى
ذلك في قوله لينفق ذو سعة من سعته الآية وظاهر قوله : ) لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ
إِلاَّ وُسْعَهَا ( العموم في سائر التكاليف ، قيل : والمراد من الآية : أن والد
الصبي لا يكلف من الإنفاق عليه وعلى أمه ، إلاَّ بما تتسع به قدرته ، وقيل :
المعنى لا تكلف المرأة الصبر على التقصير في الأجرة ، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف
، بل يراعى القصد .
وقراءة الجمهور : ) لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ ( مبنى للمفعول ، والفاعل هو الله تعالى
، وحذف للعلم به . وقرأ أبو رجاء : لا تكلف ، بفتح التاء ، أي : لا تتكلف ، وارتفع
نفس على الفاعلية ، وحذفت إحدى التاءين على الخلاف الذي بيننا وبين بعض الكوفيين ،
و : تكلف تفعل ، مطاوع فعل نحو : كسرته فتكسر ، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء
لها تفعل .
وروي أبو الأشهب عن أبي رجاء أنه قرأ : لا نكلف نفساً بالنون ، مسنداً الفعل إلى
ضمير الله تعالى ، و : نفساً ، بالنصب مفعول .
( لاَ تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ( قرأ ابن
كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وأبان ، عن عاصم : لا تضارّ ، بالرفع أي : برفع الراء
المشددة ، وهذه القراءة مناسبة لما قبلها من قوله : ) لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ
وُسْعَهَا ( لاشتراك الجملتين في الرفع ، وإن اختلف معناهما ، لأن الأولى خبرية
لفظاً ومعنى ، وهذه خبرية لفظاً نهيية في المعنى . وقرأ باقي السبعة : لا تضار ،
بفتح الراء ، جعلوه نهياً ، فسكنت الراء الأخيرة للجزم ، وسكنت الراء الأولى
للإدغام ، فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح لموافقة الألف التي قبل الراء ،
لتجانس الألف والفتحة ، ألا تراهم حين رخموا : أسحارّاً ، وهو اسم نبات ، إذا سمي
به حذفوتا الراء الأخيرة ، وفتحوا الراء الساكنة التي كانت مدغمة في الراء
المحذوفة ، لأجل الألف قبلها ، ولم يكسروها على أصل التقاء الساكنين ، فراعوا
الألف وفتحوا ، وعدلوا عن الكسر وإن كان الأصل ؟ وقرأ : لا يضار بكسر الراء
المشددة على النهي وقرأ أبو جعفر الصفار : لا تضار ، بالسكون مع التشديد ، أجرى
الوصل مجرى الوقف ، وروي عنه : لا تضار ، بإسكان الراء وتخفيفها ، وهي قراءة الأعرج
من ضار يضير ، وهو مرفوع أجري الوصل فيه مجرى الوقف . وقال الزمخشري : اختلس الضمة
فظنه الراوي سكوناً . انتهى . وهذا على عادته في تغليط القراء وتوهيمهم ، ولا نذهب
إلى ذلك .
ووجَّه هذه القراءة بعضهم بأن قال : حذف الراء الثانية فراراً من التشديد في الحرف
المكرر ، وهو الراء ، وجاز أن يجمع بين الساكنين : إما لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف
، ولأنَ مدة الألف تجري مجرى الحركة . انتهى .
وروي عن ابن عباس : لا تضارر ، بفك الإدغام وكسر الراء الأول وسكون الثانية . وقرأ
ابن مسعود : لا تضارر ، بفك الإدغام أيضاً وفتح الراء الأولى وسكون الثانية ، قيل
: ورواها أبان عن عاصم .
والإظهار في نحو هذين المثلين لغة الحجاز ، فأما من قرأ بتشديد الراء ، مرفوعة أو
مفتوحة أو مكسورة ، فيحتمل أن يكون الفعل مبنياً للفاعل ، ويحتمل أن يكون مبنياً
للمفعول كما جاء في قراءة ابن عباس ، وفي قراءة ابن مسعود ؛ ويكون ارتفاع : والدة
ومولود ، على الفاعلية إن قدر الفعل مبنياً للفاعل ، وعلى المفعولية إن قدر الفعل
مبنياً للمفعول ، فإذا قدرناه مبنياً للفاعل ، فالمفعول محذوف تقديره : لا تضارر
والدةُ زوجَها بأن تطالبه بما لا يقدر عليه من رزق وكسوة وغير ذلك من وجوه الضرر ،
ولا يضارر مولودٌ له زوجته بمنعها ما وجب لها من رزق وكسوة ، وأخذ ولدها مع
إيثارها إرضاعه ، وغير ذلك من وجوه الضرر .
والباء في : بولدها ، وفي : بولده ، باء السبب .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون يضار بمعنى : تضر ، وأن تكون الباء
" صفحة رقم 226 "
من صلته لا تضر والدة بولدها ، فلا تسىء غذاءه وتعهده ، ولا تفرط فيما ينبغي له ،
ولا تدفعه إلى الأب بعدما آلفها ، ولا يضر الوالد به بأن ينزعه من يدها ، أو يقصر
في حقها ، فتقصر هي في حق الولد . انتهى كلامه .
ويعني بقوله : أن تكون الباء من صلته ، يعنى متعلقة بتضار ، ويكون ضار بمعنى أضر ،
فاعل بمعنى أفعل ، نحو : باعدته وأبعدته ، وضاعفته وأضعفته ، وكون فاعل بمعنى أفعل
هو من المعاني التي وضع لها فاعل ، تقول : أضرّ بفلان الجوع ، فالجار والمجرور هو
المفعول به من حيث المعنى ، فلا يكون المفعول محذوفاً ، بخلاف التوجيه الأول ، وهو
أن تكون الباء للسبب ، فيكون المفعول محذوفاً كما قدرناه .
قيل : ويجوز أن يكون الضرار راجعاً إلى الصبي ، أي : لا يضار كل واحد منهما الصبي
، فلا يترك رضاعه حتى يموت ، ولا ينفق عليه الأب أو ينزعه من أمه حتى يضر بالصبي ،
وتكون الباء زائدة معناه : لا تضار والدة ولدها ولا مولود له ولده انتهى . فيكون :
ضار ، بمعنى : ضر ، فيكون مما وافق فيه فاعل الفعل المجرد الذي هو : ضر ، نحو
قولهم : جاوزت الشيء وجزته ، وواعدته ووعدته ، وهو أحد المعاني التي جاء لها فاعل
.
والظاهر أن الباء للسبب ، ويبين ذلك قراءة من قرأ لا تضارَرْ ، براءين ، الأولى
مفتوحة ، وهي قراءة عمر بن الخطاب .
وتأويل من تأول في الإدغام أن الفعل مبني للمفعول ، فإذا كان الفعل مبنياً للمفعول
تعين كون الباء للسبب ، وامتنع توجيه الزمخشري أن : ضارٌ به في معنى : أضرَّ به ،
والتوجيه الآخر أن : ضارٌ به بمعنى : ضره ، وتكون الباء زائدة ، ولا تنقاس زيادتها
في المفعول ، مع أن في التوجيهين إخراج فاعل عن المعنى الكثير فيه ، وهو كون
الاسمين شريكين في الفاعلية والمفعولية من حيث المعنى ، وإن كان كل واحد منهما
مرفوعاً والآخر منصوباً .
وفي هذه الجمل الأربع من بلاغة المعنى ونصاعة للفظ ما لا يخفي على من تعاطى علم
البيان .
فالجملة الأولى : أبرزت في صورة المبتدأ والخبر وجعل الخبر فعلاً لأن الإرضاع مما
يتجدد دائماً ، ثم أضيف الأولاد إلى الوالدات تنبيهاً على شفقتهن على الأولاد ،
وهزا لهن وحثاً على الإرضاع ، وقيد الإرضاع بمدة ، وجعل ذلك لمن أراد الإتمام .
وجاء الوالدات بلفظ العموم ، وأضيف الأولاد لضمير العام ليعم ، وجمع القلة إذا
دخلته الألف واللام ، أو أضيف إلى عام ، عم . وقد تكلمنا على شيء من هذا في كتابنا
المسمى ( بالتكميل في شرح التسهيل ) .
والجملة الثانية : أبرزت أيضاً في صورة المبتدأ والخبر ، وجعل الخبر جاراً
ومجروراً بلفظ : على ، الدالة على الاستعلاء المجازي والوجوب . فأكد بذلك مضمون
الجملة ، لأن من عادة المرء منع ما في يده من المال ، وإهمال ما يجب عليه من
الحقوق ، فأكد ذلك . وقدم الخبر على سبيل الإعتناء به ، وجاء الرزق مقدماً على
الكسوة ، لأنه الأهم في بقاء الحياة ، والمتكرر في كل يوم .
والجملة الثالثة : أبرزت في صورة الفعل ومرفوعة ، وأتى بمرفوعه نكرة لأنه في سياق
النفي ، فيعم ، ويتناول أولاً ما سيق لأجله : وهو حكم الوالدات في الإرضاع ، وحكم
المولود له في الرزق والكسوة اللذين للوالدات .
والجملة الرابعة : كالثالثة ، لأنها في سياق النفي ، فتعم أيضاً ، وهي كالشرح
للجملة قبلها ، لأن النفس إذا لم تكلف إلاَّ طاقتها لا يقع ضرر لا للوالدة ولا
للمولود له ، ولذلك جاءت غير معطوفة على الجملة قبلها ، فلا يناسب العطف بخلاف
الجملتين الأوليين ، فإن كل جملة منهما مغايرة للأخرى ، ومخصصة بحكم ليس في الأخرى
، ولما كان تكليف النفس فوق الطاقة ، ومضارة أحد الزوجين الآخر مما يتجدد كل وقت ،
أتى بالجملتين فعليتين ، أدخل عليهما حرف النفي الذي هو : لا ، الموضوع للاستقبال
غالباً ، وفي قراءة من جزم : لا تضار ، أدخل حرف النهي المخلص المضارع للاستقبال ،
ونبه على محل الشفقة بقوله : بولدها ، فأضاف الولد إليها ، وبقوله : بولده ، فأضاف
الولد إليه ، وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق . وقدم ذكر عدم مضارة الوالدة على عدم
مضارة الوالد مراعاة للجملتين الأوليين ، إذ بدىء فيهما بحكم الوالدات ، وثنى بحكم
الوالد في قوله : لا تضار ، دلالة على أنه إذا اجتمع مؤنث ومذكر معطوفان ، فالحكم
في الفعل السابق عليهما للسابق منهما ، تقول : قام زيد وهند وقامت هند وزيد ،
ويقوم زيد وهند ، وتقوم هند وزيد ، إلاَّ إن كان المؤنث مجازياً بغير علامة تأنيث
فيه فيحسن عدم إلحاق العلامة ، كقوله تعالى : ) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ).
) وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ ( هذا معطوف على قوله : ) وَعلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ ( والجملتان قبل هذا كالتفسير لقوله : بالمعروف ، اعتراض بهما بين المتعاطفين
.
وقرأ يحيى بن يعمر : وعلى الورثة مثل ذلك ، بالجمع .
والظاهر في الوارث أنه وارث المولود له لعطفه
" صفحة رقم 227 "
عليه ، ولأن المولود له . وهو الأب هو المحدث عنه في جملة المعطوف عليه ، والمعنى
: أنه إذا مات المولود له وجب على وارثه ما وجب عليه من رزق الوالدات ، وكسوتهن
بالمعروف ، وتجنب الضرار . وروي هذا عن عمر ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : وخصه
بعضهم بمن يرث من الرجال يلزمه الإرضاع كما كان يلزم أبا الصبي . لو كان حياً ،
وقاله مجاهد ، وعطاء . وقال سفيان : الوارث هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة
الآخر منهما ، ويرى مع ذلك إن كانت الوالدة هي الباقية أن يشاركها العاصب إرضاع
المولود على قدر حظه من الميراث ، كما قال : ( واجعله الوارث منا ) .
وقال قبيصة بن ذؤيب ، والضحاك ، وبشير بن نصر ، قاضي عمر بن عبد العزيز الوارث هو
الصبي نفسه ، أي : عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه ، وقال بعضهم : الوارث
الولد تجب عليه نفقة الوالدين الفقيرين ، ذكره السجاوندي عن قبيصة بن ذؤى ب .
فعلى هذه الأقوال تكون : الألف واللام في قوله : ) وَعَلَى الْوَارِثِ ( كأنها
نابت عن الضمير العائد على : المولود له ، كأنه قيل : وعلى وارث المولود له . وقال
عطاء أيضاً ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل ، وابن أبي ليلى ،
والحسن بن صالح في آخرين : الوارث وارث المولود .
واختلفوا ، فقيل : وارث المولود من الرجال والنساء ، قاله زيد بن ثابت ، وقتادة ،
وغيرهما ، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه .
وقيل : وارثه من عصبته كائناً من كان ، مثل : الجد ، والأخ ، وابن الأخ ، والعم ،
وابن العم . وهذا يروى عن عمر ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وإسحاق ، وأحمد ، وابن
أبي ليلى .
وقيل : من كان ذا رحم محرم ، فإن كان ليس بذي رحم محرم لم يلزمه شيء ، وبه قال أبو
حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي ، قال : الأجداد ثم الأمهات مثل ذلك أي :
الأجرة والنفقة وترك المضارة .
وعلى هذه الأقوال تكون الألف واللام كأنها نابت عن ضمير يعود على المولود ، وكأنه
قيل : وعلى وارثه أي وارث المولود .
وقيل : الوارث هنا من يرث الولاية على الرضيع ، ينفق من مال الرضيع عليه ، مثل ما
كان ينفق أبوه .
فتلخص في الوارث ستة أقوال ، وفي بعضها تفصيل كما ذكرناه ، فيجيء بالتفصيل عشرة
أقوال ، والإشارة بقوله : ذلك ، من قوله : مثل ذلك ، إلى ما وجب على الأب من رزقهن
وكسوتهن بالمعروف ، على ما شرح في الأقوال في قوله ) وَعَلَى الْوَارِثِ ( وقاله
أيضاً ابن عباس ، وابراهيم ، وعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، والشعبي
، والحسن .
وعبر بعضهم عن هذا القول بأن : مثل ذلك ، هو : أجرة المثل والنفقة ، قال : ويروى
ذلك عن عمر ، وزيد ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وابراهيم ، وقتادة ، وقبيصة والسدي
.
واختاره ابن قتيبة .
وقال الشعبي أيضاً ، والزهري ، والضحاك ، ومالك وأصحابه ، وغيرهم : المراد بقوله :
مثل ذلك ، أن لا يضار ، وأما الرزق والكسوة فلا شيء منهما . وروى ابن القاسم عن
مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث ، ثم نسخ ذلك بالإجماع من الأمة
أن لا يضار الوارث . إنتهى .
وأنّى يكون بالإجماع وقد رأيت أقوال العلماء في وجوب ذلك ؟
وقيل : مثل ذلك ، أجرة المثل والنفقة وترك المضارة ، روي ذلك عن ابن جبير ، ومجاهد
، ومقاتل ، وأبي سليمان الدمشقي ، واختاره القاضي أبو يعلى ، قالوا : ويشهد لهذا
القول أنه معطوف على ما قبله ، وقد ثبت أن على : المولود له النفقة والكسوة ، وأن
لا يضار ، فيكون مثل ذلك ، مشيراً إلى جميع ما على المولود له .
( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا ( الضمير في : أرادا ، عائد على الوالدة والمولود له ، والفصال :
الفطام قبل تمام الحولين . إذا ظهر استغناؤه عن اللبن ، فلا بد من تراضيهما ، فلو
رضي أحدهما وأبى الآخر لم يجبر ، قاله مجاهد ، وقتادة والزهري ، والسدي وابن زيد ،
وسفيان وغيرهم .
وقيل : الفطام سواء كان في الحولين أو بعد الحولين قاله ابن عباس .
وتحرير هذا القول أنه قبل الحولين لا يكون إلاَّ بتراضيهما ، وأن لا يتضرر
" صفحة رقم 228 "
المولود ، وأما بعد تمامهما فمن دعا إلى الفصل فله ذلك إلا أن يلحق المولود بذلك
ضرر ، وعلى هذين القولين يكون ذلك توسعة بعد التحديد .
وقال ابن بحر : الفصال أن يفصل كل واحد منهما القول مع صاحبه بتسليم الولد إلى
أحدهما ، وذلك بعد التراضي والتشاور لئلا يقدم أحد الوالدين على ما يضر بالولد ،
فنبه تعالى على أن ما كان متهم العاقبة لا يقدم عليه إلاَّ بعد اجتماع الآراء .
وقرىء : فإن أرادا ، ويتعلق عن تراض ، بمحذوف لأنه في موضع الصفة لقوله : فصالاً ،
أي : فصالاً كائنا ، وقدّره الزمخشري صادراً . و : عن ، للمجاوزة مجازاً ، لأن ذلك
معنى من المعاني لا جرم ، وتراضٍ وزنه تفاعل ، وعرض فيه ما عرض في أظبٍ جمع : ظبي
، إذ أصله أظبي على : أفعل ، فتنقلب الياء واواً الضمة ما قبلها ، ثم إنه لا يوجد
في لسان العرب اسم آخروه واو قبلها ضمة لغير الجمع ، وأنه متى أدّى إلى ذلك
التصريف قلبت الواو ياءً ، وحوّلت الضمة كسرةً ، وكذلك فعل في تراضٍ . وتفاعل هنا
في تراض ، وتشاور على الأكثر من معانيه من كونه واقعاً من اثنين ، وأخر التشاور
لأنه به يظهر صلاح الأمور والآراء وفسادها ، و : منهما ، في موضع الصفة لتراضٍ ،
فيتعلق بمحذوف ، وهو مراد بعد قوله : وتشاور ، أي : منهما ، ويحتمل في تشاور أن
يكون أحدهما شاور الآخر ، أو يكون أحدهما شاور غير الآخر لتجتمع الآراء على
المصلحة في ذلك . ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ( هذا جواب الشرط ، وقبل هذا الجواب
جملة محذوفة بها يصح المعنى ، التقدير : ففصلاه ، أو ففعلا ذلك ، والمعنى : فلا
جناح عليهما في الفصال .
( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ
أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ( الخطاب للآباء والأمهات وفيه
التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، وتلوين في الضمير ، لأن قبله ) فَإِنْ
أَرَادَا فِصَالاً ( بضمير التثنية ، وكأنه رجوع إلى قوله : والوالدات ، وعلى
المولود له .
و : استرضع ، فيه خلاف ، هل يتعدى إلى مفعولين بنفسه ، أو إلى مفعولين الثاني بحرف
جر ، قولان .
فالأول : قول الزمخشري ، قال : استرضع منقول من أرضع ، يقال : أرضعت المرأة الصبي
، واسترضعها الصبي ، فتعديه إلى مفعولين ، كما تقول : أنجح الحاجة ، واستنجحته
الحاجة . والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم ، فحذف أحد المفعولين للاستغناء
عنه ، كما تقول : استنجحت الحاجة ، ولا تذكر من استنجحته ، وكذلك حكم كل مفعولين
لم يكن أحدهما عبارة عن الأول . إنتهى كلامه . وهو نقلٌ من نقلٍ ، الأصل رضع الولد
، ثم تقول : أرضعت المرأة الولد ، ثم تقول استرضعت المرأة الولد ، واستفعل هنا
للطلب أي : طلبت من المرأة إرضاع الولد ، كما تقول استسقيت زيداً الماء ، واستطعمت
عمراً الخبز ، أي : طلبت منه أن يسقيني وأن يطعمني ، فكما أن الخبز والماء منصوبان
وليسا على إسقاط الخافض ، كذلك : أولادكم ، منصوب لا على إسقاط الخافض .
والثاني : قول الجمهور ، وهو أن يتعدى إلى اثنين ، الثاني بحرف جر ، وحذف من قوله
: أولادكم ، والتقدير : لأولادكم ، وقد جاء استفعل أيضاً للطلب معدى بحرف الجر في
الثاني ، وإن كان في : أفعل ، معدى إلى اثنين . تقول : أفهمني زيد المسألة ،
واستفهمت زيداً عن المسألة ، فلم يجيء : استطعمت ، ويصير نظير : استغفرت الله من
الذنب ، ويجوز حذف : من ، فتقول : الذنب ، وليس في قولهم : كان فلان مسترضعاً في
بني فلان دليل على أنه مفعول بنفسه ، أو بحرف جر .
( فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ( هذا جواب الشرط ، وقبله جملة حذفت لفهم المعنى ،
التقدير : فاسترضعتم أو فعلتم ذلك فلا جناح عليكم في الاسترضاع ) إِذَا سَلَّمْتُم
( ما آتيتم ، هذا خطاب للرجال خاصة ، وهو من تلوين الخطاب . وقيل : هو خطاب للرجال
والنساء ، ويتضح ذلك في تفسير قوله : ) مَّا ءاتَيْتُم ).
) وَإِذَا سَلَّمْتُم ( شرط ، قالوا : وجوابه ما يدل عليه الشرط الأول وجوابه ،
وذلك المعنى هو العامل في : إذا ، وهو متعلق بما تعلق به : عليكم . إنتهى .
وظاهر هذا الكلام خطأ لأنه جعل العامل في إذا أولاً المعنى الذي يدل عليه الشرط
وجوابه ، ثم قال ثانياً إن إذا تتعلق بما تعلق به : عليكم ، وهذا يناقض ما قبله ،
ولعلّ قوله : وهو متعلق ، سقطت منه ألف ، وكان : أو هو متعلق ، فيصح إذ ذاك المعنى
، ولا تكون إذ ذاك شرطاً ، بل تتمحض للظرفية .
وقرأ ابن كثير : ما أتيتم ، بالقصر ، وقرأ باقي السبعة بالمد ؛ وتوجيه قراءة ابن
كثير : أن : أتيتم ، بمعنى جئتموه وفعلتموه ، يقال : أتى جميلاً أي : فعله ، وأتى
إليه ، إحساناً فعله ، وقال إن وعده كان مأتياً ، أي : مفعولا ، وقال زهير :
" صفحة رقم 229 "
فما يك من خير أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبل
وتوجيه المدِّ أن المعنى : ما أعطيتم ، و : ما ، في الوجهين موصولة بمعنى الذي ،
والعائد عليها محذوف ، وإذا كانت بمعنى أعطى احتيج إلى تقدير حذف ثان ، لأنها
تتعدى لاثنين أحدهما ضمير : ما ، والآخر ، الذي هو فاعل من حيث المعنى ، والمعنى
في : ما آتيتم ، أي : ما أردتم إتيانه أو إيتاءه .
ومعنى الآية ، والله أعلم جواز الاسترضاع للولد غير أمه إذا أرادوا ذلك واتفقوا
عليه ، وسلموا إلى المراضع أجورهن بالمعروف ، فيكون ما سلمتم هو الأجرة على
الاسترضاع ، قاله السدي ، وسفيان . وليس التسليم شرطاً في جواز الاسترضاع والصحة ،
بل ذلك على سبيل الندب ، لأن في ايتائها الأجرة معجلاً هنياً توطين لنفسها
واستعطاف منها على الولد ، فتثابر على إصلاح شأنه .
وقيل : سلمتم الأولاد إلى من رضيها الوالدان ، قاله قتادة ، والزهري ، وفيه بعد
لإطلاق : ما ، الموضوعة لما لا يعقل على العاقل ، وقيل : سلمتم إلى الامهات أجرهنّ
بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع قاله مجاهد .
وقيل : سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع ، أي : سلم كل واحد من الأبوين ورضي ،
وكان عن اتفاق منهما ، وقصد خير وإرادة معروف ، قاله قتادة .
وأجاز أبو علي : في : ما آتيتم ، أن تكون : ما ، مصدرية أي : إذا سلمتم الإتيان ،
والمعنى مع القصر ، وكون : ما ، بمعنى الذي أن يكون الذي ما آتيتم نقده وإعطاءه ،
فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه ، فكان التقدير : ما آتيتموه ، ثم حذف الضمير من
الصلة ، وإذا كانت مصدرية استغنى الكلام عن هذا التقدير ، وروى شيبان عن عاصم :
مبيناً للمفعول أي : ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الاجرة ، ونحوها ، قال تعالى :
) وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ( ويتعلق : بالمعروف ، ب
: سلمتم ، أي : بالقول الجميل الذي تطيب النفس به ، ويعين على تحسين نشأة الصبي .
وقيل : تتعلق : بآتيتم .
قالوا : وفي هذه الآية دليل على أن للآباء أن يستأجروا لأولادهم مراضع إذا اتفقوا
مع الأمهات على ذلك ، وهذه كانت سنة جاهلية ، كانوا يتخذون المراضع لأولادهم
ويفرغون الأمهات للاستمتاع بهن ، والاستصلاح لأبداعنهن ، ولاستعجال الولد بحصول
الحمل ، فأقرهم الشرع على ذلك لما في ذلك من المصلحة ورفع المشقة عنهم بقطع ما
ألفوه ، وجعل الأجرة على الأب بقوله : ) إِذَا سَلَّمْتُم ).
) وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْلَمُونَ بَصِيرٌ (
لما تقدّم أمر ونهي ، خرج على تقدير أمر بتقوى الله تعالى ، ولما كان كثير من
أحكام هذه الآية متعلقاً بأمر الأطفال الذين لا قدرة لهم ولا منعة مما يفعله بهم ،
حذر وهدّد بقوله : ) وَاعْلَمُواْ ( وأتى بالصفة التي هي : بصير ، مبالغة في
الإحاطة بما يفعلونه معهم والاطلاع عليه ، كما قال تعالى : ) وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِى ( في حق موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، إذ كان طفلاً .
قالوا : وفي الآية ضروب من البيان والبديع ، منها : تلوين الخطاب ، ومعدوله في : )
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ ( فإنه خبر معناه الآمر على قول الأكثر ، والتأكيد :
بكاملين ، والعدل عن رزق الأولاد إلى رزق أمهاتهنّ ، لأنهنّ سبب توصل ذلك .
والإيجاز في : ) وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ ( وتلوين الخطاب : في ) وَإِنْ
أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ ( فإنه خطاب للآباء والأمهات ثم قال
: ) إِذَا سَلَّمْتُم ( وهو خطاب للآباء خاصة ، والحذف في : ) أَن تَسْتَرْضِعُواْ
( التقدير : مراضع للأولاد ، وفي قوله : ) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( إنتهى .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أمر الله تعالى الأزواج إذا طلقوا نساءهم فيقاربوا
إنقضاء العدّة بإمساكهنّ ، وهو مراجعتهنّ
" صفحة رقم 230 "
بمعروف ، أو بتخلية سبيلهنّ بإنقضاء العبّدة ، ثم أكد الأمر بالإمساك بمعروف ، بأن
نص على النهي عن إمساكهن ضراراً بهنّ ، وجاء النهي على حسب ما كان يقع منهم في
الجاهلية من الرجعة ، ثم الطلاق ، ثم الرجعة ، ثم الطلاق على سبيل المضارة للنساء
، فنهوا عن هذه الفعلة القبيحة تعظيماً لهذا الفعل السيء الذي هو أعظم إيذاءِ
النساء ، ثم ذكر تعالى أن من ارتكب ما نهى الله عنه من ذلك فقد ظلم نفسه ، أي : إن
إمساك النساء على سبيل المضارة ، وتطويل عدّتهنّ ، إنما وبال ذلك في الحقيقة على
نفسه ، حيث ارتكب ما نهى الله عنه ، ثم نهى تعالى عن اتخاذ آيات الله هزواً ، لأنه
تعالى قد أنزل آيات في النكاح ، والحيض ، والإيلاء ، والطلاق ، والعدّة ، والرجعة
، والخلع ، وترك المضارة ، وتضمنت أحكاماً بين الرجال والنساء ، وإيجاب حقوق لهم
وعليهم ، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء حتى كانوا لا يورثون البنات
احتقاراً لهنّ ، وذكر قبل هذا أن من تعدّى حدود الله فهو ظالم ، أكدّ ذلك بالنهي
عن اتخاذ آيات الله هزواً ، بل تؤخذ بجدّ وقبول ، وإن كان فيها ما يخالف عاداتهم ،
ثم أمرهم بذكر نعمته ، تنبهاً على أن من أنعم عليك فيجب أن يأخذ ما يلقي الله من
الآيات بالقبول ، ليكون ذلك شكراً لنعمته السابقة ، ثم نبه تعالى على أن ما أنزل
من الكتاب والحكمة فهو واعظ لكم ، فينبغي قبوله والانتهاء عنده ، ثم أمر بتقوى
الله تعالى ، وبأن يعلموا أن الله بكل شيء عليم ، فهو لا يخفي عنه شيء من أفعالكم
، وهو يجازيكم عليها .
ثم ذكر تعالى أن الأزواج إذا طلقوا نساءهم وانقضت عدّتهنّ لا تعضلوهنّ عن تزوج من
أردن إذا وقع تراض بين المطلقة وخاطبها ، وكان من عادة العرب أن من طلق منهم امرأة
وبتها يعضلها عن التزوج بغيره ، ثم أشار بقوله : ذلك إلى العضل ، وذكر أنه يوعظ به
المؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر ، لأن من لم يكن مؤمناً لم يزد جر عن ما نهى
الله عنه ، ونبه على الإيمان باليوم الآخر ، لأن ثمرة مخالفة النهي إنما تظهر في
الدار الآخرة ، ثم أشار بقوله : ) ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ ( إلى التمكين من
التزويج وعدم العضل لما في ذلك من الثواب بامتثال أمر الله تعالى ، وأطهر لما يخشى
من اجتماع الخاطب والمرأة على ريبة إذا منعا من التزويج ، ثم نسب العلم إليه تعالى
ونفاه عن المخاطبين ، إذ هو العالم بخفايا الأمور وبواطنها .
ثم شرع تعالى في ذكر أشياء من نتائج التزويج من إرضاع الوالدات أولادهنّ ، وذكر حد
ذلك لمن أراد الإتمام ، وما يجب للمرأة على الزوج وعلى وارثه إذا مات الزوج من
النفقة والكسوة ، وأن ذلك بالمعروف من غير إجحاف لا بالزوج ولا بالزوجة ، وذكر
جواز فصله وفطامه إذا كان ذلك برضا أبيه وأمه قبل الحولين ، وجواز الاسترضاع
للأولاد إذا اتفق الرجل والزوجة على ذلك ، وأشار إلى تسليم أجر الأظآر تطييباً
لأنفسهنّ وإعانة لهنّ على محبة الصغير ، واشتمالهنّ عليه حتى ينشأ كأنه قد أرضعته
أمّه ، فإن الإحسان جالب للمحبة ، ثم ختم هذه الآية بالأمر بتقوى الله تعالى ،
وبأن يعلموا أن الله بكل شيء بصير ، كما ختم تعالى الآية الأولى بالأمر بالتقوى
بالعلم بأن الله بكل شيء عليم ، وذلك إشارة إلى المجازاة ، وتهديد ووعيد لمن خالف
أمره تعالى .
2 ( ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِىأَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ
خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِىأَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً
مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ
أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِىأَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن
طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَإِن
" صفحة رقم 231 "
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَّلاأَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ
تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَواةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ
قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَآ أَمِنتُمْ
فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } )
7 )
البقرة : ( 234 ) والذين يتوفون منكم . . . . .
يذر : معناه يترك ، ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل منه اسم الفاعل ولا المفعول ،
وجاء الماضي منه على طريق الشذوذ .
خبير : للمبالغة ، من خبرت الشيء علمته ، ومنه : قتل ارضاً خابرها ، وخبرت زيداً
اختبرته ، ولهذه المادة يرجع الخبر لأنه الشيء المعلم به ، والخبار الأرض اللينة .
التعريض : الإشارة إلى الشيء دون تصريح .
الخطبة : بكسر الخاء التماس النكاح ، يقال خطب فلان فلانة ، أي : سألها خطبة أي :
حاجته ، فهو من قولهم : ما خِطبك ؟ أي : ما حاجتك ، وأمرك ؟ قال الفراء : الخطبة
مصدر بمعنى الخطب ، وهو من قولك : إنه يحسن القِعدة والجِلسة ، يريد : القعود
والجلوس .
والخُطبة بضم الخاء الكلام المشتمل على : الزجر ، والوعظ ، والإذكار ، وكلاهما
راجع للخطاب الذي هو الكلام ، وكانت سجاح يقول لها الرجل : خطب فتقول نكح .
أكنّ الشيء : أخفاه في نفسه ، وكنه : ستره ، شيء ، والهمزة في أكنّ للتفرقة بين
المعنيين ، كأشرقت .
العقدة : في الحبل ، وفي الغصن معروفة ، يقال : عقدت الحبل والعهد ، ويقال : أعقدت
العسل ، وهو راجع لمعنى الاشتداد ، وتعقد الأمر عليّ اشتدّ ، ومنه القعود .
المقتر : المقل أقتر الرجل وقتر يقتر ويقتر ، والقلة معنى شامل لجميع مواقع اشتقاقه
، ومنه القتير ، وهو مسمار الدرع ، والقترة أدنى الغبار ، والناموس الصغار ،
والقتار : ريح القدر قال طرفة : حين قال الناس في مجلسهم
أقتار ذاك ؟ أم ريحٌ قطر ؟
والقتر : بيوت الصيادين على الماء قال الشاعر : ربّ رام من بني ثعل
مثلج كفيه في قتره
" صفحة رقم 232 "
النصف : هو الجزء من اثنين على السواء ، ويقال : بكسر النون وضمها ، ونضيف : ومنه
: ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ، أي : نصفه ، كما يقال : ثمن وثمين ، وعشر وعشير ،
وسدس وسديس ، ومنه قيل : النصف المقنعة التي توضع على رأس المرأة نصيف ، وكل شيء
بلغ نصف غيره فهو نصف ، يقال : نصف النهار ينصف ، ونصف الماء القدح ، والإزار
الساق ، والغلام القرآن ، وحكى الفراء في جميع هذا : أنصف .
المحافظة على الشيء : المواظبة عليه ، وهو من الحفظ ، حفظ المكان حرسه ، وحفظ
القرآن تذكره غائباً ، وهو راجع لمعنى الحراسة ، وحفظ فلان : غضب ، وأحفظه : أغضبه
، ومصدر : حفظ ، بمعنى غضب : الحفيظة والحفظ .
الركوب : معروف ، وركبان : جمع راكب ، وهو صفة استعملت استعمال الأسماء ، فحسن أن
يجمع جمع الأسماء ، ومع ذلك فهو في الأسماء محفوظ قليل ، قالوا : حاجر وحجران ،
ومثل ، ركبان : صحبان ، ورعيان ، جمع صاحب وراع ، فإن لم تستعمل الصفة استعمال
الأسماء لم يجيء فيها فعلان ، لم يرد مثل : ضربان وقتلان في جمع : ضارب وقاتل .
( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه
لما تقدّم ذكر عدة طلاق الحيض ، واتصلت الأحكام إلى ذكر الرضاع ، وكان في ضمنها
قوله ) وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ ( أي : وارث المولود له ، ذكر عدة الوفاة
إذ كانت مخالفة لعدة طلاق الحيض .
وقرأ الجمهور : يتوفون ، بضم الياء مبنياً للمفعول وقرأ علي ، والمفضل ، عن عاصم :
بفتح الياء مبنياً للفاعل ، ومعنى هذه القراءة أنهم : يستوفون آجالهم .
وإعراب : الذين ، مبتدأ واختلف أنه خبر أم لا ؟ فذهب الكسائي والفراء إلى أنه لا
خبر له ، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهن : بالذين ، لأن الحديث معهن في الاعتداد
بالأشهر ، فجاء الخبر عما هو المقصود ، والمعنى : من مات عنها زوجها تربصت ، وأنشد
الفراء رحمه الله : لعلِّي إن مالت بي الريح ميلة
على ابن أبي ذيان أن يتندّما
فقال : لعلِّي ، ثم قال : أن يتندّما ، لأن المعنى : لعل ابن أبي ذيان إن مالت بي
الريح ميلة أن يتندما وقال الشاعر :
بني أسدٍ إن ابن قيس ، وقتله
بغير دم ، دارَ المذلة حلت
ألغى ابن قيس ، وقد ابتدأ بذكره وأخبر عن قتله أنه ذْلّ ؛ وتحرير مذهب الفراء أن
العرب إذا ذكرت أسماء مضافة إليها ، فيها معنى الخبر ، أنها تترك الإخبار عن الإسم
الأول ويكون الخبر عن المضاف ، مثاله : إن زيداً وأخته منطلقة ، لأن المعنى : إن
أخت زيد منطلقة ؛ والبيت الأول ليس من هذا الضرب ، وإنما أوردوا مما يشبه هذا
الضرب قول الشاعر :
فمن يك سائلاً عني فإني
وجروة لا ترود ولا تعار
والرد على الفراء ، وتأويل الأبيات والآية ، مذكور في النحو .
وذهب الجمهور إلى أن له خبراً ، واختلفوا ، فقيل : هو ملفوظ به ، وهو : يتربصن ،
ولا حذف يصحح معنى الخبر ، لأنه ربط من جهة المعنى ، لأن النون في : يتربصن ، عائد
، فقيل : على الأزواج الذين يتوفون ، فلو صرح بذلك فقيل : يتربصن أزواجهم ، لم
يحتج إلى حذف ، وكان إخباراً صحيحاً ، فكذلك ما هو بمعناه ، وهو قول الزجاج .
وقيل : ثَمَّ حذف يصحح معنى الخبرية ، واختلفوا في محل الحذف ، فقيل : من المبتدأ
، والتقدير : وأزواج الذين ، ودل على المحذوف قوله : ) وَيَذَرُونَ أَزْواجًا (
وقيل : من الخبر ، وتقديره : يتربصن بعدهم ، أو : بعد موتهم ، قاله الأخفش .
وقيل : من الخبر وهو أن يكون الخبر جملة من مبتدأ محذوف وخبره يتربصن ، تقديره :
أزواجهم يتربصن ، ودل عليه المظهر ، قاله المبرد .
وقيل : الخبر بجملته محذوف مقدّر قبل المبتدأ تقديره : فيما يتلى عليكم حكم الذين
يتوفون منكم ويذرون أزواجاً .
وقوله : ) يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ( بيان للحكم المتلو ، وهي جملة لا
" صفحة رقم 233 "
موضع لها من الإعراب ، قالوا : وهذا قول سيبويه .
قال ابن عطية : إنما يتجه ذلك إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد ، مثل قوله : )
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( وهذه الآية فيها معنى
الأمر لا لفظه ، فيحتاج في هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ
الأمر ، وحسَّن مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله : ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ (
إذ القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها للرجال الذين منهم الحكام والنظار عبارة
الأخفش والمبرد ما ذكرناه . انتهى كلامه .
وظاهرة قوله : يتربصن ، العموم في كل امرأة توفي عنها زوجها ، فيدخل فيه الأمة
والكتابية والصغيرة .
وروي عن أبي حنيفة أن عدة الكتابية ثلاث حيض إذا توفي عنها زوجها ، وروي عنه أن
عليها عدّة ، فإن لم يدخل فلا عدة قولاً واحداً ، ويتخرج على هذين القولين الإحداد
، وتخصيص الحامل قيل : بقوله ) وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ ( الآية ، ولم
يخصص الشافعي هنا العموم في حق الحامل إلاَّ بالسنة لا بهذه الآية ، لأنها وردت
عقيب ذكر المطلقات ، فيحتمل أن يقال : هي في المطلقة . لا في المتوفي عنها زوجها ،
ولأن كل واحدة من الآيتين أعم من الأخرى من وجه ، وأخص منها من وجه ، لأن الحامل
قد يتوفى عنها زوجها وقد لا يتوفى ، والتي توفي عنها زوجها قد تكون حاملاً وقد لا
تكون ، فامتنع التخصيص .
وقيل : الآية تتناول أولاً الحوامل ، ثم نسخ بقوله : ) وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ (
وعدة الحامل وضع حملها عند الجمهور .
وروي عن علي ، وابن عباس ، وغيرهما : أن تمام عدتها آخر الأجلين ، واختاره سحنون ،
وروي عن ابن عباس أنه رجع عن ذلك .
ومعنى : ) يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ( أي : ينتظرن . قيل : والتربص هنا الصبر عن
النكاح ، قاله الحسن ، قال : وليس الإحداد بشيء ولها أن تتزين وتتطيب . وضعف قوله
، وقيل : ترك التزوج ولزوم البيت والإحداد ، وهو أن تمتنع من الزينة ، ومن لبس
المصبوغ الجميل مثل الحمرة والصفرة والخضرة ، والطيب ، وما يجرى مجرى ذلك . وهذا
قول الجمهور ، وليس في الآية نص على الإحداد ، بل التربص مجمل بينته السنة ، ثبت
في حديث الفريعة قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب
أجله ) . وكانت متوفى عنها زوجها ، قالت : فاعتدد أربعة أشهر وعشراً . وصح أنه قال
: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلاَّ على زوج
، فإنها تحد أربعة أشهر وعشراً ، وتلزم المبيت في بيتها ) . وهذا قول الجمهور ،
وقال ابن عباس ، وأبو حنيفة ، وغيرههما : تبيت حيث شاءت ، وروي ذلك عن علي ، وجابر
، وعائشة ، وبه قال عطاء ، وجابر بن زيد ، والحسن ، وداود .
قال ابن عباس : قال تعالى : ) يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ( ولم يقل : يعتددن في
بيوتهن ، ولتعتد حيث شاءت أربعة أشهر وعشراً ، قالوا : معناه وعشر ليال ، ولذلك
حذف التاء وهي قراءة ابن عباس . والمراد عشر ليال بأيامها ، فيدخل اليوم العاشر ،
قيل : .
وغلب حكم الليالي إذ الليالي أسبق من الأيام ، والأيام في ضمنها ، وعشر أخف في
اللفظ ، ولا تنقضي عدّتها إلاَّ بانقضاء اليوم العاشر ، هذا قول الجمهور .
وقال الأوزاعي ، وأبو بكر الأحم : ليس اليوم العاشر من العدة ، بل تنقضي بتمام عشر
ليالٍ . وقال المبرد : معناه وعشر مدد كل مدة منها يوم وليلة ، تقول العرب : سرنا
خمساً ، أي : بين يوم وليلة قال الشاعر : فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة
وكان النكيرات تضيف وتجأرا
وقال الزمخشري : وقيل عشر إذهاباً إلى الليالي والأيام داخلة معها ، ولا تراهم قط
يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام ، تقول : صمت عشراً ، ولو ذكرت خرجت من
كلامهم ، ومن البين فيه ) إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ( ) إِن لَّبِثْتُمْ
إِلاَّ يَوْماً ( انتهى كلامه
" صفحة رقم 234 "
ولا يحتاج إلى تأويل عشر بأنها ليالٍ لأجل حذف التاء ، ولا إلى تأويلها بمدد ، كما
ذهب إليه المبرد ، بل الذي نقل أصحابنا أنه : إذا كان المعدود مذكراً وحذفته ، فلك
فيه وجهان .
أحدهما ، وهو الأصل : أن يبقى العدد على ما كان عليه لو لم يحذف المعدود ، فتقول :
صمت خمسة . تريد : خمسة أيام ، قالوا : وهو الفصيح ، قالوا : ويجوز أن تحذف منه
كله تاء التأنيث ، وحكى الكسائي عن أبي الجراح : صمنا من الشهر خمساً . ومعلوم أن
الذي يصام من الشهر إنما هي الأيام ، واليوم مذكر وكذلك قوله : وإلاَّ فسيري مثل
ما سار راكب
يتمم خمساً ليس في سيره أمم
يريد خمسة أيام ، وعلى ذلك ما جاء في الحديث ، ثم أتبعه بست من شوال ، وإذا تقرر
هذا فجاء قوله : عشراً على أحد الجائزين ، وحسنه هنا أنه مقطع كلام ، فهو شبيه
بالفواصل ، كما حسن قوله : ) إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ( كونه فاصلة ، فلذلك
اختير مجيء هذا على أحد الجائزين ، فقوله : ولو ذكرت لخرجت عن كلامهم ، ليس كما
ذكر ، بل لو ذكر لكان أتى على الكثير الذي نصوا عليه أنه الفصيح ، إذ حاله عندهم
محذوفاً كحاله مثبتاً في الفصيح ، وجوزوا الذي ذكره الزمخشري على أن غيره أكثر منه
، وقوله : ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ، كما ذكر ، بل استعمال التذكير هو
الكثير الفصيح فيه . كما ذكرنا . وقوله : ومن البين فيه ) إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ
عَشْراً ( قد بينا مجيء هذا على الجائز فيه ، وأن محسن ذلك إنما هو كونه فاصلة ،
وقوله : ) إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ( فائدة ذكر الزمخشري هذا أنه على زعمه
أراد الليالي ، والأيام داخلة معها ، فأتى بقوله : إلاَّ يوماً ، للدلالة على ذلك
، وهذا عندنا يدل على أن قوله : عشراً ، إنما يريد بها الأيام ، لأنهم اختلفوا في
مدة اللبث ، فقال قوم : عشر ، وقال ، أمثلهم : طريقة يوم ، فقوله : إلاَّ يوماً ،
مقابل لقولهم إلاَّ عشراً ، ويبين أنه أريد بالعشر الأيام ، إذ ليس من التقابل أن
يقول بعضهم : عشر ليال ، ويقول : بعض : يوماً .
وظاهر قوله أربعة أشهر ما يقع عليه اسم الشهر ، فلو وجبت العدّة مع رؤية الهلال
لاعتدّت بالأهلة ، كان الشهر تاماً أو ناقصاً . وإن وجبت في بعض شهر ، فقيل :
تستوفي مائة وثلاثين يوماً ، وقيل : تعتدّ بما يمر عليها من الأهلة شهوراً ، ثم
تكمل الأيام الأول ، وكلا القولين عن أبي حنيفة .
ولما كان الغالب على من مات عنها زوجها أن تعلم ذلك ، فتعتد إثر الوفاة ، جاء
الفعل مسنداً : إليهن ، وأكد بقوله : بأنفسهن ، فلو مضت عليها مدة العدة من حين
الوفاة ، وقامت على ذلك البينة ، ولم تكن علمت بوفاته إلى أن انقضت العدة ، فالذي
عليه الجمهور أن عدتها من يوم الوفاة ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر
، وجابر ، وعطاء والأسود بن يزيد ، وفقهاء الأمصار .
وقال علي ، والحسن البصري ، وخلاس بن عمرو ، وربيعة : من يوم يأتيها الخبر .
وكأنهم جعلوا في إسناد التربص إليهن تأثيراً في العدة . وروي عن سعيد بن المسيب ،
والشافعي : أنهما قالا : إذا قامت البينة فالعدة من يوم يموت ، وإن لم تقم بينة
فمن يوم يأتيها الخبر .
وروي عن الشافعي مثل قول الجمهور ، وأجمعوا على أن المعتدة ، لو كانت حاملاً لا
تعلم بوفاة الزوج حتى وضعت الحمل ، أن عدتها منقضية ، ولم تتعرض الآية في المتوفي
عنها زوجها إلاَّ لأن تتربص تلك المدة ، فلا نفقة لها في مدة العدة من رأس المال ،
ولو كانت حاملاً ، قاله جابر ، وابن عباس ، وابن المسيب ، وعطاء ، والحسن ، وعكرمة
، وعبد الملك بن يعلى ، ويحيى الأنصاري ،
" صفحة رقم 235 "
وربيعة ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر ، وروي عن أبي حنيفة .
وقيل : لها النفقة من جميع المال ، وروي ذلك عن علي ، وعبد الله بن عرم ، وشريح ،
وابن سيرين ، والشعبي ، وأبي العالية ، والنخعي ، وخلاس بن عمرو ، وحماد بن أبي
سليمان ، وأيوب السختياني ، والثوري ، وأبي عبيد .
وظاهر قوله ) يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( أنه
إذا تربصت هذه المدة ليس عليها أكثر من ذلك ، وإن كانت ممن تحيض فلم تحض فيها ،
وقيل : لا تبرأ إلاَّ بحيضة تأتي بها في المدة ، وإلاَّ فهي مستريبة ، فتمكث حتى
تزول ريبتها .
وأجمع الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الإعتداد بالحول ، وهذا من
غرائب النسخ ، فإن الحكم الثاني ينسخ الأول ، وقيل : إن الحول لم ينسخ ، وإنما هو
ليس على وجه الوجوب ، بل هو على الندب ، فأربعة أشهر وعشراً ، أقل ما تعتدّ به
المتوفى عنها زوجها ، والحول هو الأكمل والأفضل .
وقال قوم : ليس في هذا نسخ ، وإنما هو نقصان من الحول : كصلاة المسافر لما نقصت من
الأربع إلى الاثنين لم يكن ذلك نسخاً ، بل كان تخفيفاً .
قالوا : واختص هذا العدد في عدّة المتوفى عنها زوجها استبراء للحمل فقد روى ابن
مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( يكون خلق أحدكم نطفة أربعين
يوماً ، ثم علقة أربعين يوماً ، ثم مضغة أربعين يوماً ، ثم ينفخ فيه الروح ، أربعة
أشهر وزاد الله العشر لأنها مظنة لظهور حركة الجنين ، أو مراعاة لنقص الشهور
وكمالها ، أو استظهاراً لسرعة ظهور الحركة أو بطئها في الجنين ) . قال أبو العالية
وغيره : إنما زيدت العشر لأن نفخ الروح يكون فيها ، وظهور الحمل في الغالب . وقال
الأصمعي : ولد كل عامل يركض في نصف حمله ، وقال الراغب : ذكر الأطباء أن الولد في
الأكثر ، إذا كان ذكراً يتحرك بعد ثلاثة أشهر ، وإذا كان أنثى بعد أربعة أشهر ،
وزيد على ذلك عشراً استظهاراً .
قال وخصت العشرة لزيادة لكونها أكمل الأعداد وأشرفها لما تقدم في : ) تِلْكَ
عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ).
قال القشيري : لما كان حق الميت أعظم ، لأن فراقه لم يكن بالاختيار ، كانت مدة
وفاته أطول ، وفي ابتداء الإسلام كانت عدة الوفاة سنة ، ثم ردت إلى أربعة أشهر
وعشرة أيام لتخفيف براءة الرحم عن ماء الزوج ، ثم إذا انقضت العدة أبيح لها التزوج
بزوج آخر ، إذ الموت لا يستديم موافاة إلى آخر عمر أحد . كما قيل : وكما تبلى وجوه
في الثرى
فكذا يبلى عليهنّ الحزن
) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى
وَالاْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ). بلوغ أجلهنّ هو انقضاء المدة المضروبة في
التربص ، والمخاطبون : بعليكم ، الأولياء ، أو الآئمة والحكام والعلماء ، إذ هم
الذين يرجع إليهم في الوقائع ، أو عامة المؤمنين . أقوال ، ورفع الجناح عن الرجال
في بلوغ النساء أجلهنّ لأنهم هم الذين ينكرون عليهنّ ، ويأخذونهنّ بأحكام العدد ،
أو لأنهم إذ ذاك يسوغ لهم نكاحهن ، إذ كان ذلك في العدّة حراماً ، فزال الجناح بعد
انقضاء العدة .
والذي فعلن بأنفسهن : النكاح الحلال ، قاله مجاهد ، وابن شهاب ، أو : الطيب ،
والتزين ، والنقلة من مسكن إلى مسكن ، قاله أبو جعفر الطبري ، ومعنى : بالمعروف أي
: بالإشهاد ، وقيل : ما أذن فيه الشرع مما يتوقف النكاح عليه ، وقال الزمخشري : )
فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ ( من التعرض للخطاب ، بالمعروف : بالوجه الذي لا
ينكره الشرع ، والمعنى : أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمه أن يكفوهن ، وإن
فرطوا كان عليهم الجناح . إنتهى كلامه . وهو حسن .
( وَاللَّهُ بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيرٌ ( وعيد يتضمن التحذير ، وخبير للمبالغة ،
وهو العلم بما لطف والتقصي له .
البقرة : ( 235 ) ولا جناح عليكم . . . . .
( وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِسَاء أَوْ
أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ ( نفى الله الحرج في التعريض بالخطبة ، وهو : إنك
لجميلة ، وإنك لصالحة ، وإن من عزمي أن أتزوج ؛ وإنى فيك لراغب ، وما أشبه ذلك ،
أو : أريد النكاح
" صفحة رقم 236 "
وأحب امرأة كذا وكذا يعد أوصافها ، قاله ابن عباس . أو : إنك لنافقة ، وإن قضي شيء
سيكون ، قاله الشعبي . أو : يصف لها نفسه ، وفخره ، وحسبه ، ونسبه ، كما فعل
الباقر مع سكينة بنت حنظلة ، أو يقول لوليها : لا تسبقني بها ، كما قال ( صلى الله
عليه وسلم ) ) لفاطمة بنت قيس : ( كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك ) . وقد
أوّل هذا على أنه منه ( صلى الله عليه وسلم ) ) لفاطمة على سبيل الرأي فيمن
يتزوجها ، لا أنه أرادها لنفسه ، ولذلك كره مجاهد أن يقول : لا تسبقيني بنفسك ،
ورآه من المواعدة سراً ، أو يقول : ما عليك تأيم ، ولعل الله يسوق إليك خيراً ، أو
رب رجل يرغب فيك ، أو : يهدي لها ويقوم بشغلها إذا كانت له رغبة في تزويجها .
قال إبراهيم : أو يقول كل ما سوى التصريح ، قاله ابن زيد ، والإجماع على أنه لا
يجوز التصريح بالتزويج ، ولا التنبيه عليه ، ولا الرفث ، وذكر الجماع ، والتحريض
عليه . وقد استدلت الشافعية بنفي الحرج في التعريض بالخطبة على أن التعريض بالندب
لا يوجب الحد ، فكما خالف نهيُ حكمَيْ التعريض والتصريح في الخطبة ، فكذلك في
القذف .
( أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ ( أي : أخفيتم في أنفسكم من أمر النكاح فلم
تعرضوا به ولم يصرّحوا بذكر ، وكان المعنى رفع الجناح عمن أظهر بالتعريض أو ستر
ذلك في نفسه ، وإذا ارتفع الحرج عمن تعرض باللفظ فأحرى أن يرتفع عمن كتم ، ولكنهما
حالة ظهور وإخفاء عفي عنهما ، وقيل : المعنى أنه يعقد قلبه على أنه سيصرّح بذلك في
المستقبل بعد انقضاء العدة ، فأباح الله التعريض ، وحرم التصريح في الحال ، وأباح
عقد القلب على التصريح في المستقبل .
ولا يجوز أن يكون الإكنان في النفس هو الميل إلى المرأة ، لأنه كان يكون من قبيل
إيضاح الواضحات ، لأن التعريض بالخطبة أعظم حالاً من ميل القلب .
( عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ( هذا عذر في التعريض ، لأن الميل
متى حصل في القلب عسر دفعه ، فأسقط الله الحرج في ذلك ، وفيه طرف من التوبيخ ،
كقوله : ) عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ ( وجاء الفعل بالسين التي
تبدل على تقارب الزمان المستقبل لا تراخيه ، لأنهن يذكرن عندما انفصلت حبالهن من
أزواجهن بالموت ، وتتوق إليهن الأنفس ، ويتمنى نكاحهن .
وقال الحسن ، معنى : ستذكرونهن ، كأنه قال : إن لم تنهوا . إنتهى .
وقوله : ستذكرونهن ، شامل لذكر اللسان وذكر القلب ، فنفى الحرج عن التعريض ، وهو
كسر اللسان ، وعن الإخفاء في النفس وهو ذكر القلب .
( وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا ( هذا الاستدراك من الجملة التي قبله ، وهو
قوله : ستذكرونهن ، والذكر يقع على أنحاء وأوجه ، فاستدرك منه وجه نهي فيه عن ذكر
مخصوص ، ولو لم يستدرك لكان مأذوناً فيه لا لدراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر الله
بوقوعه ، وهو نظير قولك : زيد سيلقى خالداً ولكن لا يواجهه بشر ، فاستدرك هذه
الحالة مما يحتمله اللقاء ، وإن من أحواله المواجهة بالشر ، ولا يحتاج لكن إلى
جملة محذوفة قبلها ، لكن يحتاج ما بعد : لكن ، إلى وقوع ما قبله من حيث المعنى لا
من حيث اللفظ ، لأن نفي المواجهة بالشر يستدعي وقوع اللقاء .
قال الزمخشري ، فإن قلت ، أين المستدرك بقوله : ) وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ
). قلت ، هو محذوف لدلالة : ) سَتَذْكُرُونَهُنَّ ( عليه ) عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ( فاذكروهن ) وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا (
إنتهى كلامه .
وقد ذكرنا أنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف قبل لكن ، بل الاستدراك جاء من قبل قوله :
ستذكرونهن ، ولم يأمر الله تعالى بذكر النساء ، لا على طريق الوجوب ، ولا الندب ،
فيحتاج إلى تقدير : فاذكروهن ، على ما قررناه قبل قولك : سألقاك ولكن لا تخف مني ،
لما كان اللقاء من بعض أحواله أن يخاف من الملقى استدرك فقال : ولكن لا تخف مني .
والسر ضد الجهر ، ويكنى به عن الجماع حلاله وحرامه ، لكنه في سر ، وقد يعبر به عن
العقد ، لأنه سبب فيه ، وقد فسر : السر ، هنا : بالزنا الحسن ،
" صفحة رقم 237 "
وجابر بن زيد ، وأبو مجلز ، والضحاك ، والنخعي . ومما جاء : السر ، في الوطء
الحرام ، قوله الحطيئة : ويحرم سر جارتهم عليهم
ويأكل جارهم أنف القصاع
وقال الأعشى : ولا تقربن جارة إنَّ سرها
عليك حرام فانكحن أو تأبدا
وقال ابن جبير : السر ، هنا النكاح . وقال ابن زيد معنى ، ذلك : لا تنكحوهن
وتكتمون ذلك ، فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن ، فسمى العقد عليهم مواعدة ، وهذا
ينبو عنه لفظ المواعدة .
قال بعضهم : جماعاً وهو أن يقول لها : إن نكحتك كان كيت وكيت ، يريد ما يجري
بينهما تحت اللحاف . وقال ابن عباس ، وابن جبير أيضاً ، والشعبي ، ومجاهد ، وعكرمة
، والسدي ، ومالك ، وأصحابه ، والجمهور : المعنى : لا توافقوهن المواعدة والتوثق
وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية .
فعلى هذا القول ، والقول الذي قبله ، ينتصب ، سراً ، على الحال ، أي : مستسرين .
وعلى القولين الأولين ينتصب على المفعول ، وإذا انتصب على الحال كان مفعول :
فواعدوهن محذوفاً ، تقديره : النكاح ، وقيل : انتصب على أنه نعت مصدر محذوف ،
تقديره : مواعدة سراً . وقيل التقدير في : وانتصب انتصاب الظرف ، على أن المواعدة
في السر عبارة عن المواعدة بما يستهجن لأن مسارتهن في الغالب بما يستحي من
المجاهرة به ، والذي تدل عليه الآية أنهم : نهوا أن يواعد الرجل المرأة في العدة ،
أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج ، وأما تفسير السر هنا بالزنا فبعيد ، لأنه حرام
على المسلم مع معتدة وغيرها ، وأما إطلاق المواعدة سراً على النقد فبعيد أيضاً ،
وأيد قول الجمهور فبعيد أيضاً ، لأنهم نهوا عن المواعدة بالنكاح سراً وجهراً ، فلا
فائدة في تقييد المواعدة بالسر .
( إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ). هذا الاستثناء منقطع لأنه لا
يندرج تحت : سراً ، من قوله : ) وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا ( على أي
تفسير فسرته ، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض ، وقال الضحاك : من القول
المعروف أن تقول للمعتدة : احبسى عليّ نفسك فإن لي بك رغبة فتقول هي : وأنا مثل
ذلك .
قال ابن عطية : وهذا عندي مواعدة .
وإنما لتعريض قول الرجل إنكن لإماء كرام ، وما قدر كان ، وإنك المعجبة ونحو هذا .
وقال الزمخشري : ) إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ( وهو أن تعرضوا ولا
تصرحوا .
فان قلت : بم يتعلق حرف الاستثناء ؟ قلت : بلا تواعدوهنّ ، أي : لا تواعدوهنّ
مواعدة قط
" صفحة رقم 238 "
إلاَّ مواعدة معروفة غير منكرة ، أو : لا تواعدوهنّ إلاَّ بأن تقولوا ، أي : لا
تواعدوهنّ إلاَّ بالتعريض ، ولا يجوز أن يكون استثناءً من سراً ، لادائه إلى قولك
: لا تواعدوهن إلاَّ التعريض إنتهى كلام الزمخشري . ويحتاج إلى توضيح ، وذلك أنه
جعله استثناءً متصلاً باعتبار أنه استثناء مفرغ ، وجعل ذلك على وجهين .
أحدهما : أن يكون استثناء من المصدر المحذوف ، وهو الوجه الأول الذي ذكره ، وقدّره
: لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلاَّ مواعدة معروفة غير منكرة ، فكأن المعنى : لا
تقولوا لهن قولاً تعدونهن به إلاَّ قولاً معروفاً ، فصار هذا نظير : لا تضرب زيداً
ضرباً شديداً .
والثاني : أن يكون استثناء مفرغاً من مجرور محذوف ، وهو الوجه الثاني الذي ذكره ،
وقدره : إلاَّ بأن تقولوا ، ثم أوضحه بقوله : إلاَّ بالتعريض ، فكان المعنى : لا
تواعدوهنّ سراً ، أي نكاحاً بقول من الأقوال ، إلاَّ بقول معروف ، وهو التعريض .
فحذف : من أن ، حرف الجر ، فيبقى منصوباً أو مجروراً على الخلاف الذي تقدم في
نظائره .
والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الذي قبله انتصب نصب المصدر ، وهذا انتصب على
إسقاط حرف الجر ، وهو : الباء ، التي للسبب .
قوله ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعاً من سراً لأدائه إلى قوله : لا تواعدوهنّ
إلاَّ التعريض ، والتعريض ليس مواعد ، فلا يصح عنده أن ينصب عليها العامل ، وهذا
عنده على أن يكون منقطعاً نظير : ما رأيت أحداً إلاَّ حماراً . لكن هذا يصح فيه :
ما رأيت إلاَّ حماراً ، وذلك لا يصح فيه ، لا تواعدوهنّ إلاَّ التعريض ، لأن
التعريض لا يكون مواعداً بل مواعداً به النكاح ، فانتصاب : سراً ، على أنه مفعول ،
فكذلك ينبغي أن يكون : أن تقولوا ، مفعولاً ، ولا يصح ذلك فيه ، فلا يصح أن يكون
استثناء منقطعاً . هذا توجيه منع الزمخشري أن يكون استثناء منقطعاً .
وما ذهب إليه ليس بصحيح لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما ذكر ، وهو أن يمكن
تلك العامل السابق عليه ، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين .
أحدهما : ما ذكره الزمخشري ، وهو : أن يتسلط العامل على ما بعد ؛ إلاَّ ، كما
مثلنا به في قولك : ما رأيت أحداً إلاَّ حماراً . و : ما في الدار أحد إلاَّ
حماراً .
وهذا النوع فيه خلاف عن العرب ، فمذهب الحجازيين نصب هذا النوع من المستثنى ،
ومذهب بني تميم اتباعه لما قبله في الإعراب ، ويصلح في هذا النوع أن تحذف الأول
وتسلط ما قبله على ما بعد إلاَّ ، فتقول : ما رأيت إلاَّ حماراً ، وما في الدار
إلاَّ حمار . ويصح في الكلام : ما لهم به إلاَّ اتباع الظن .
والقسم الثاني : من قسمي الاستثناء المنقطع هو أن لا يمكن تسلط العامل على ما بعد
إلاَّ ، وهذا حكمه النصب عند العرب قاطبة ، ومن ذلك : ما زاد إلاَّ ما نقص ، وما
نفع إلاَّ ما ضر . فما بعد إلاَّ لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نقص ، بل يقدّر
المعنى : ما زاد ، لكن النقص حصل له ، وما نفع لكن الضرر حصل ، فاشترك هذا القسم
مع الأوّل في تقدير إلاَّ بلكن ، لكن الأوّل يمكن تسليط ما قبله عليه ، وهذا لا
يمكن .
وإذا تقرر هذا فيكون قوله : ) إِلاَّ أَن تَقُولُواْ ( استثناء منقطعاً من هذا
القسم الثاني ، وهو ما لا يمكن أن يتوجه عليه العامل ، والتقدير : لكنّ التعريض
سائغ لكم ، وكأن الزمخشري ما علم أن الاستثناء المنقطع يأتي على هذا النوع من عدم
توجيه العامل على ما بعد إلاَّ ، فلذلك منعه ، والله أعلم .
وظاهر النهي في قوله ) لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا ( التحريم حتى قال مالك في
رواية ابن وهب عنه ، فيمن واعد في العدّة ثم تزّوجها بعد العدّة ، قال : فراقها
أحب إليّ دخل بها أو لم يدخل ، وتكون تطليقة واحدة ، فإذا حلت خطبها مع الخطاب
وروي أشهب عن مالك وجوب التفرقة بينهما . وقال ابن القاسم : وحكى مثل هذا ابن حارث
عن ابن الماجشون ، وزاد ما تقتضي تأبيد التحريم . وقال الشافعي : لو صرح بالخطبة
وصرحت بالإجابة ولم يعقد عليها إلاَّ بعد انقضاء العدّة صح النكاح ، والتصريح بهما
مكروه . وقال ابن عطية : أجمعت الأمّة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة .
( وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ (
نهوا عن العزم على عقدة النكاح ، وإذا كان العزم منهياً عنه فأحرى أن ينهي عن
العقدة .
وانتصاب : عقدة ، على المفعول به لتضمين : تعزموا ، معنى ما يتعدّى بنفسه ، فضمن
معنى : تنووا ، أو معنى : تصمموا ، أو معنى : توجبوا ، أو معنى : تباشروا ، أو
معنى : تقطعوا ، أي : تبتوا .
" صفحة رقم 239 "
وقيل : انتصب عقدة على المصدر ، ومعنى تعزموا تعقدوا . وقيل : انتصب على إسقاط حرف
الجر ، وهو على هذا التقدير : ولا تعزموا على عقدة النكاح . وحكى سيبويه أن العرب
تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ، أي على الظهر والبطن وقال الشاعر : ولقد أبيت على
الطوى وأظله
حتى أنال به كريمَ المأكلِ
الأصل وأظل عليه ، فحذف : على ، ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه ، إذ أصل هذا الفعل
أن يتعدّى بعلى ، قال الشاعر : عزمت على إقامة ذي صباح
لأمر ما يسوّد من يسود
وقد تقدّم الكلام على نظير هذا في قوله : ) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ ( وعقدة
النكاح ما تتوقف عليه صحة النكاح على اختلاف العلماء في ذلك ، ولذلك قال ابن عطية
: عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي ، وبلوغ الكتاب أجله هو انقضاء العدّة ، قاله
ابن عباس ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، والسدّي . ولم ينقل عن أحد خلافه ، بل هو
من المحكم المجمع على تأويله بانقضاء العدّة .
والكتاب هنا هو المكتوب أي : حتى يبلغ ما كتب ، وأوجب من العدّة أجله أي : وقت
انقضائه وقال الزجاج الكتاب هو القرآن ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : حتى يبلغ
فرض الكتاب أجله ، وهو ما فرض بالكتاب من العدّة ، فإذا انقضت العدّة جاز الإقدام
على التزّوج ، وهذا النهي معناه التحريم ، فلو عقد عليها في العدّة فسخ الحاكم
النكاح ، فإن كان ذلك قبل الدخول بها ، فقال عمر ، والجمهور : لا يتأبد التحريم .
وقال مالك ، وابن القاسم ، في المدّونة : ويكون خاطباً من الخطاب وحكى ابن الجلاب
عن مالك : أنه يتأبد ، وإن عقد عليها في العدّة ودخل بعد انقضائها فقولان عن
العلماء ، قال قوم : يتأبد ، وقال قوم : لا يتأبد ، والقولان عن مالك ، ولو عقد
عليها في العدّة ، ودخل بها في العدّة ، فقال عمر ، ومالك ، وأصحابه ، والأوزاعي ،
والليث ، وأحمد وغيرهم : يتأبد التحريم .
وقال مالك ، والليث : ولا تحل له بملك اليمين ، وقال علي ، وابن مسعود ، وإبراهيم
، وأبو حنيفة ، والشافعي : وعبد العزيز بن أبي سلمة ، وجماعة : لا يتأبد ، بل يفسخ
بينهما ، ثم تعتدّ منه ويكون خاطباً من الخطاب .
قال الحسن ، وأبو حنيفة ، والليث ، وأحمد ، وإسحاق ، والمدنيون غير مالك : تعتدّ
من الأوّل ، فإذا انقضت العدّة فلا بأس أن يتزوّجها الآخر .
وقال مالك ، وأصحاب الرأي ، والأوزاعي والثوري : عدّة واحدة تكفيهما جميعاً ، سواء
كانت بالحمل ، أم بالإقراء ، أم بالأشهر .
( وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ( قيل :
المعنى ما في أنفسكم من هواهنّ ، وقيل : من الوفاء والإخلاف ، قاله ابن عباس :
فاحذروه ، الهاء تعود على الله تعالى ، أي : فاحذروا عقابه .
وقال الزمخشري : يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز فاحذروه ولا تعزموا
عليه . انتهى . فيحتمل أن تعود في كلام الزمخشري على ما لا يجوز من العزم ، أي
فاحذروا ما لا يجوز ولا تعزموا عليه ، فتكون الهاء في : فاحذروه ولا تعزموا عليه ،
عائدة على شيء واحد ، ويحتمل في كلامه أن تعود على الله ، والهاء في : عليه ، على
ما لا يجوز ، فيختلف ما تعود عليه الهاءان ، ولما هدّدهم بأنه مطلع على ما في
أنفسهم ، وحذرهم منه ، أردف ذلك بالصفتين الجليلتين ليزيل
" صفحة رقم 240 "
عنهم بعض روع التهديد والوعيد ، والتحذير من عقابه ، ليعتدل قلب المؤمن في الرجاء
والخوف ، وختم بهاتين الصفتين المقتضيتين المبالغة في الغفران والحلم ، ليقوي رجاء
المؤمن في إحسان الله تعالى ، وطمعه في غفرانه وحلمه إن زل وهفاً ، وأبرز كل معنى
من التحذير والإطماع في جملة مستقلة ، وكرر اسم الله تعالى للتفخيم ، والتعظيم بمن
يسند إليه الحكم ، وجاء خبر أن الأولى بالمضارع ، لأن ما يهجس في النفوس يتكرر
فيتعلق العلم به ، فكأن العلم يتكرر بتكرر متعلقه ، وجاء خبر أن الثانية بالاسم
ليدل على ثبوت الوصف ، وأنه قد صار كأنه من صفات الذات ، وإن كان من صفات الفعل .
قيل : وتضمنت هذه الآيات ضروباً من البديع .
منها : معدول الخطاب ، وهو أن الخطاب بقوله : ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ( الآية
عام والمعنى على الخصوص . ومنها : النسخ ، إذ هي ناسخة للحول على قول الأكثرين .
ومنها : الاختصاص ، وهو أن يخص عدداً فلا يكون ذلك إلاَّ لمعنى ، وذلك في قوله : )
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( ومنها : الكناية ، في قوله : ) وَلَاكِن لاَّ
تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا ( كنى بالسر عن النكاح ، وهي من أبلغ الكنايات . ومنها :
التعريض ، في قوله : ) يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ ( ومنها : التهديد ، بقوله )
فَاحْذَرُوهُ ( ومنها : الزيادة في الوصف ، بقوله : ) غَفُورٌ حَلِيمٌ ).
البقرة : ( 236 ) لا جناح عليكم . . . . .
( لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ
تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ( نزلت في أنصارى تزوّج حنيفية ولم يسم مهراً ، ثم
طلقها قبل أن يمسها ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( متعها ولو بقلنسوتك ) :
فذلك قوله : ) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ( الآية .
ومناسبتها لما قبلها أنه : لما بين تعالى حكم المطلقات المدخول بهنّ ، والمتوفى
عنهنّ أزواجهنّ ، بين حكم المطلقة غير المدخول بها ، وغير المسمى لها مدخولاً بها
، أو غير ذلك .
والمطلقات أربع : مدخول بها مفروض لها ، ونقيضتها ، ومفروض لها غير مدخول بها ،
ونقيضتها .
والخطاب في قوله : ) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ( للأزواج ، ومعنى نفي الجناح هنا هو
أنه : لما نهى عن التزوّج بمعنى الذوق وقضاء الشهوة ، وأمر بالتزوّج طلباً للعصمة
والثواب ، ودوام الصحبة ، وقع في بعض نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء يكون قد
أوقع جزءا من هذا المكروه ، فرفع الله الجناح في ذلك ، إذا كان أصل النكاح على
المقصد الحسن .
( مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ( قرأ حمزة والكسائي : تماسوهنّ ، مضارع ما من ، فاعل .
وقرأ باقي السبعة مضارع مسست ، وفاعل . يقتضى اشتراك الزوجين في المسيس ، ورجح أبو
علي قراءة : تمسوهنّ ، بأن أفعال هذا الباب جاءت ثلاثية ، نحو : نكح ، وسفد ، وفزع
، ودقط ، وضرب الفحل ، والقرابان حسنتان ، والمس هنا والمماسة : الجماع ، كقوله :
) وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ ( و : ما ، في قوله : ) مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ (
الظاهر أنها ظرفية مصدرية ، التقدير : زمان عدم المسيس كقوله الشاعر : إني بحبلك
واصل حبلي
وبريش نبلك رائش نبلي
ما لم أجدك على هدى أثر
يقرو مقصك قائف قبلي
وهذه ما ، الظرفية المصدرية ، شبيهة بالشرط ، وتقتضي التعميم نحو : أصحبك ما دمت
لي محسناً ، فالمعنى : كل وقت دوام إحسان . وقال بعضهم : ما ، شرطية ، ثم قدرها
بأن ، وأراد بذلك ، والله أعلم ، تفسير المعنى ، و : ما إذا كانت شرطاً تكون إسما
" صفحة رقم 241 "
غير ظرف زمان ولا مكان ، ولا يتأتى هنا أن تكون شرطاً بهذا المعنى .
وزعم ابن مالك أن : ما ، تكون شرطاً ظرف زمان ؛ وقد رد ذلك عليه ابنه بدر الدين
محمد في بعض تعاليقه ، وتأول ما استدل به والده ، وتأولنا نحن بعض ذلك ، بخلاف
تأويل ابنه ، وذلك كله ذكرناه في كتاب ( التكميل ) من تأليفنا . على أن ابن مالك
ذكر أن ما ذهب إليه لا يقوله النحويون ، وإنما استنبط هو ذلك من كلام الفصحاء على
زعمه .
وزعم بعضهم أن : ما ، في قوله ) مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ( إسما موصولاً والتقدير :
إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهنّ ، فلا يكون لفظ . ما ، شرطاً ، وهذا ضعيف ، لأن
: ما ، إذ ذاك تكون وصفاً للنساء ، إذ قدرها بمعنى اللاتي ، و : ما ، من الموصولات
التي لا يوصف بها بخلاف الذي والتي .
وكنى بالمسيس عن المجامعة تأديباً لعباده في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون .
( أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ( الفريضة هنا هو الصداق ، وفرضه تسميته .
و : أو ، على بابها من كونها تأتي لأحد الشيئين ، أو لأشياء ، والفعل بعدها معطوف
على : تمسوهنّ ، فهو مجزوم ، أو معطوف على مصدر متوهم ، فهو منصوب على إضمار أن
بعد أو ، بمعنى إلاَّ . التقدير : ما لم تمسوهنّ إلاَّ أن تفرضوا لهنّ فريضة ، أو
معطوف على جملة محذوفة التقدير : فرضتم أو لم تفرضوا ، أو بمعنى الواو والفعل
مجزوم معطوف على : تسموهنّ ، أقوال أربعة .
الأول : لابن عطية وغيره والثاني : للزمخشري والثالث : لبعض أهل العلم ولم يسم
والرابع : للسجاوندي وغيره .
فعلى القول الأول : ينتفي الجناح عن المطلق عند انتفاء أحد أمرين : إما الجماع ،
وإما تسمية المهر ، أما عند انتفاء الجماع فصحيح ، وأما عند انتفاء تسمية المهر
فالحكم ليس كذلك ، لأن المدخول بها التي لم يسم لها مهر ، وهي المفوضة ، إذا طلقها
زوجها لا ينتفي الجناح عنه .
وعلى القول الثاني : ينتفي الجناح عند انتفاء الجماع إلاَّ إن فرض لها مهرٌ ، فلا
تنتفي الجناح ، وإن انتفى الجماع ، لأنه استثنى من الحالات التي ينتفي فيها الجناح
حالة فرض الفريضة ، فيثبت فيها الجناح .
وعلى القول الثالث : ينتفي الجناح بانتفاء الجماع فقط ، سواء فرض أم لم يفرض ،
وقالوا : المراد هنا بالجناح لزوم المهر ، فينتفي ذلك بالطلاق قبل الجماع ، فرض
مهراً أو لم يفرض ، لأنه إن فرض انتقل إلى النصف ، وإن لم يفرض ، فاختلف في ذلك ،
فقال حماد بن أبي سليمان : إذا طلقها ولم يدخل بها ، ولم يكن فرض لها ، أجبر على
نصف صداق مثلها ، وقال غيره : ليس لها نصف مهر المثل ، ولكن المتعة .
وفي هذا القول الثالث حذف جملة ، وهي قوله : فرضتم ، وإضمار : لم ، بعد : أو ،
وهذا لا يجوز إلاَّ إذا عطف على مجزوم ، نحو : لم أقم وأركب ، على مذهب من يجعل
العامل في المعطوف مقدراً بعد حرف العطف .
وعلى القول الرابع : ينتفي الجناح بانتفاء الجماع ، وتسمية المهر معاً ، فإن وجد
الجماع وانتفت التسمية فلها مهر مثلها ، وإن انتفى الجماع ووجدت التسمية فنصف
المسمى ، فيثبت الجناح إذ ذاك في هذين الوجهين ، وينتفى بانتفائهما ، ويكون الجناح
إذ ذاك يطلق على ما يلزم المطلق باعتبار هاتين الحالتين .
وهذه الآية تدل على جواز الطلاق قبل البناء ، وأجمعوا على جواز ذلك ، والظاهر جواز
طلاق الحائض غير المدخول بها ، لأن الآية دلت على انتفاء الحرج في طلاقهنّ عموماً
، سواء كنّ حيضاً أم لا ، وهو قول أكثر العلماء ومشهور مذهب مالك ، ولمالك قول
يمنع من طلاق الحائض مدخولاً بها أو غير مدخول بها ، وموت الزوج قبل البناء ، وقبل
الفرض ينزل منزلة طلاقه قبل البناء وقبل الفرض ، فليس لها مهر ولا ميراث ، قاله مسروق
، وهو مخالف للأصول .
وقال عليّ ، وزيد ، وابن عباس ، وابن عمر ، والزهري ، والأوزاعي ، ومالك .
والشافعي : لها الميراث ، ولا صداق لها . وعليها العدة .
وقال عبد الله بن مسعود ، وجماعة من الصحابة ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد ،
وإسحاق : لها صداق مثل نسائها ، وعليها العدة ، ولها الميراث .
وظاهر الآية يدل على صحة نكاح التفويض ، وهو جائز عند فقهاء الأمصار ، لأنه تعالى
قسم حال المطلقة إلى قسمين : مطلقة لم يسم لها ، ومطلقة سمي لها ، فإن لم يفرض لها
، ووقع الطلاق قبل الدخول ، لم يجب لها صداق إجماعاً . قاله القاضي أبو بكر بن
العربي ، وقد تقدّم خلاف حماد بن أبي
" صفحة رقم 242 "
سليمان في ذلك ، وأن لها نصف صداق مثلها ، وإن فرض لها بعد العقد أقل من مهر مثلها
لم يلزمها تسليم نفسها ، أو مهر مثلها لزمها التسليم ، ولها حبس نفسها حتى تقبض
صداقها .
وقال أبو بكر الأصم ، وأبو إسحاق الزجاج : هذه الآية تدل على أن عقد النكاح بغير
مهر جائز ، وقال القاضي : لا تدل على الجواز ، لكنها تدل على الصحة ، أما دلالتها
على الصحة فلأنه لو لم يكن صحيحاً لم يكن الطلاق مشروعاً ، ولم تكن النفقة لازمة ،
وأما أنها لا تدل على الجواز ، فلأنه لا يلزم من الصحة الجواز بدليل أن الطلاق في
زمان الحيض حرام ، ومع ذلك هو واقع صحيح .
( وَمَتّعُوهُنَّ ( أي : ملكوهنّ ما يتمتعن به ، وذلك الشيء يسمى متعة . وظاهر هذا
الأمر الوجوب ، وروي ذلك عن : عليّ ، وابن عمر ، والحسن ، وابن جبير ، وأبي قلابة
، وقتادة ، والزهري ، والضحاك بن مزاحم ؛ وحمله على الندب : شريح ، والحكم ، وابن
أبي ليلى ، ومالك ، والليث ، وأبو عبيد .
والضمير الفاعل في ) وَمَتّعُوهُنَّ ( للمطلقين ، والضمير المنصوب ضمير المطلقات
قبل المسيس ، وقبل الفرض ، فيجب لهنّ المتعة ، وبه قال ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر
بن زيد ، والحسن ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي . وتندب في حق غيرهنّ
من المطلقات .
وروي عن : عليّ والحسن ، وأبي العالية ، والزهري : لكل مطلقة متعة ، فإن كان فرض
لها وطلقت قبل المسيس ، فقال ابن عمر ، وشريح ، وإبراهيم ، ومحمد بن عليّ : لا
متعة لها ، بل حسبها نصف ما فرض لها ؛ وقال أبو ثور : لها المتعة ، ولكل مطلقة .
واختلف فقهاء الأمصار ، فقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وزفر ، ومحمد : المتعة واجبة
لغير المدخول بها ولم يسم لها ، وإن دخل بها متعها ، ولا يجبر عليها ، وهو قول
الثوري ، والحسن بن صالح ، والأوزاعي ، إلاَّ أن الأوزاعي يزعم أن أحد الزوجين ،
إذا كان مملوكاً لم تجب المتعة ، وإن طلقها قبل الدخول .
وقال ابن أبي ليلى ، وأبو الزناد : المتعة غير واجبة ، ولم يفرقا بين المدخول بها
وبين من سمي لها ومن لم يسم لها .
وقال مالك : المتعة لكل مطلقة مدخول بها وغير بمدخول ، إلاَّ الملاعنة والمختلعة
والمطلقة قبل الدخول ، وقد فرض لها .
وقال الشافعي : المتعة لكل مطلقة إذا كان الفراق من قبله ، إلاَّ التي سمى لها
وطلق قبل الدخول .
وقال أحمد : يجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهر ، فإن دخل بها فلا متعة ،
ولها مهر المثل .
وروي عن الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ، وقال عطاء ، والنخعي ، والترمذي أيضاً :
للمختلعة متعة ، وقال أصحاب الرأي : للملاعنة متعة ، وقال ابن القاسم : لا متعة في
نكاح منسوخ ، قال ابن الموّاز : ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد ، مثل ملك أحد
الزوجين صاحبه .
وروى ابن وهب عن مالك : أن المخيرة لها المتعة ، بخلاق الأمة ، تعتق تحت العبد ،
فتختار ، فهذه لا متعة لها .
وظاهر الآية : أن المتعة لا تكون إلاَّ لإحدى مطلقتين : مطلقة قبل الدخول ، سواء
فرض لها ، أو لم يفرض . ومطلقة قبل الفرض ، سواء دخل بها أو لم يدخل . وسيأتي
الكلام على قوله : ) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ( إن شاء الله
تعالى .
( عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ( هذا مما يؤكد الوجوب
في المتعة ، إذ أتى بعد الأمر الذي هو ظاهر في الوجوب بلفظة : على ، التي تستعمل
في الوجوب ، كقوله : ) وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ( ) فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( والموسع : الموسر ، والمقتر :
الضيق الحال ، وظاهره اعتبار حال الزوج ، فمن اعتبر ذلك بحال الزوج والزوجة ، فهو
مخالف للظاهر ، وقد جاء هذا القدر مبهماً ، فطريقة الاجتهاد وغلبة الظن إذ لم يأت
فيه بشيء مؤقت .
ومعنى : قدره ، مقدار ما يطيقه الزوج ، وقال ابن عمر أدناها ثلاثون درهماً أو
شبهها ، وقال ابن عباس : أرفعها خادم ثم كسوة ثم نفقة ، وقال عطاء : من أوسط
" صفحة رقم 243 "
ذلك درع وخمار وملحفة ، وقال الحسن : يمتع كل على قدره هذا بخادم ، وهذا بأثواب ،
وهذا بثوب ، وهذا بنفقة ، وهذا قول مالك ؛ ومتع الحسن بن عليّ بعشرين ألفاً وزقاق
من عسل ، ومتع عائشة الخثعمية بعشرة آلاف ، فقالت : متاع قليل من حبيب مفارق ،
ومتع شريح بخمسمائة درهم .
وقال ابن مجيز : على صاحب الديوان ثلاثة دنانير ، وقال ابن المسيب : أفضل المتعة
خمار ، وأوضعها ثوب . وقال حماد : يمتعها بنصف مهر مثلها .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال لرجل من الأنصار ، تزوج امرأة ولم
يسم لها مهر ، ثم طلقها قبل أن يمسها : ( أمتعتها ) قال : لم يكن عندي شيء قال : (
متعها بقلنسوتك ) . وعند أبي حنيفة لا تنقص عن خمسة دراهم ، لأن أقل المهر عنده
عشرة دراهم ، فلا ينقص من نصفها . وقد متع عبد الرحمن بن عوف زوجه أم أبي سلمة
ابنه بخادم سوداء ، وهذه المقادير كلها صدرت عن اجتهاد رأيهم ، فلم ينكر بعضهم على
بعض ما صار إليه ، فدل على أنها موضوعة عندهم على ما يؤدي إليه الاجتهاد ، وهي
بمنزلة تقويم المتلفات وأروش الجنايات التي ليس لها مقادير معلومة ، وإنما ذلك على
ما يؤدي إليه الإجتهاد ، وهي من مسألة تقويم المتلفات .
وقرأ الجمهور : على الموسع ، اسم فاعل من أوسع ؛ وقرأ أبو حيوة : الموسع ، بفتح
الواو والسين وتشديدها ، اسم مفعول من وسع ؛ وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ،
وأبو بكر : قدره ، بسكوت الدال في الموضعين ؛ وقرأ حمزة ، والكسائي ، وابن عامر ،
وحفص ، ويزيد ، وروح : بفتح الدال فيهما ، وهما لغتان فصيحتان ، بمعنى حكاهما أبو
زيد ، والأخفش وغيرهما ، ومعناه : ما يطيقه الزوج ، وعلى أنهما بمعنى واحد أكثر
أئمة العربية ، وقيل : الساكن مصدر ، والمتحرك اسم : كالعدّ والعدد ، والمدّ
والمدد .
وكان القدر بالتسكين الوسع ، يقال : هو ينفق على قدره ، أي : وسعه ، قال أبو جعفر
: وأكثر ما يستعمل بالتحريك إذا كان مساوياً للشيء يقال : هذا على قدر هذا .
وقرىء : قدره ، بفتح الراء ، وجوّزوا في نصبه وجهين : أحدهما : أنه انتصب على
المعنى ، لأن معنى : ) متعوهنّ ( ليؤد كل منكم قدر وسعه . والثاني : على إضمار فعل
، التقدير : وأوجبوا على الموسع قدره .
وفي السجاوندي : وقرى ابن أبي عبلة : قدره ، أي قدره الله . إنتهى . وهذا يظهر أنه
قرأ بفتح الدال والراء ، فتكون ، إذ ذاك فعلاً ماضياً ، وجعل فيه ضميراً مستكناً
يعود على الله ، وجعل الضمير المنصوب عائداً على الإمتاع الذي يدل عليه قوله : )
فَرِيضَةً وَمَتّعُوهُنَّ ).
والمعنى : أن الله قدّر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر .
وفي الجملة ضمير محذوف تقديره : على الموسع منكم ، وقد يقال إن الألف واللام نابت
عن الضمير ، أي : على موسعكم وعلى مقتركم ، وهذه الجملة تحتمل أن تكون مستأنفة
بينت حال المطلق في المتعة بالنسبة إلى إيساره وإقتاره ، ويحتمل أن تكون في موضع
نصب على الحال ، وذو الحال هو الضمير المرفوع وفي قوله : ) وَمَتّعُوهُنَّ (
والرابط هو ذلك الضمير المحذوف الذي قدرناه : منكم .
( مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ ( قالوا : انتصب متاعاً على المصدر ، وتحريره أن المتاع
هو ما يمتع به ، فهو اسم له ، ثم أطلق على المصدر على سبيل المجاز ، والعامل فيه )
وَمَتّعُوهُنَّ ( ولو جاء على أصل مصدر ) وَمَتّعُوهُنَّ ( لكان تمتيعاً ، وكذا
قدّره الزمخشري ، وجوّز وافيه أن يكون منصوباً على الحال ، والعامل فيها ما يتعلق
به الجار والمجرور ، وصاحب الحال الضمير المستكنّ في ذلك العامل ، والتقدير : قدر
الموسع يستقرّ عليه في حال كونه متاعاً ، وبالمعروف يتعلق بقوله : ومتعوهنّ ، أو :
بمحذوف ، فيكون صفة لقوله : متاعاً ، أي
" صفحة رقم 244 "
ملتبساً بالمعروف ، والمعروف هو المألوف شرعاً ومروءة ، وهو ما لا حمل له فيه على
المطلق ولا تكلف .
( حَقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( هذا يؤكد أيضاً وجوب المتعة ، والمراد إحسان
الإيمان والإسلام . وقيل : المراد إحسان العشرة ، فيكون الله سماهم محسنين قبل
الفعل ، باعتبار ما يؤولون إليه من الإحسان ، نحو : ( من قتل قتيلا فله سلبه ) .
وانتصاب حقاً على أنه صفة لمتاعاً أي : متاعاً بالمعروف واجباً على المحسنين ، أو
بإضمار فعل تقديره : يحق ذلك حقاً ، أو حالاً مما كان حالا منه متاعاً ، أو من
قوله : بالمعروف ، أي : بالذي عرف في حال كونه على المحسنين .
البقرة : ( 237 ) وإن طلقتموهن من . . . . .
( وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً ( لما بين حال المطلقة قبل المسيس وقبل الفرض ، بين حال المطلقة
قبل المسيس وبعد الفرض ، والمراد بالمسيس الجماع ، وبالفريضة الصداق ، والجملة من
قوله : ) وَقَدْ فَرَضْتُمْ ( في موضع الحال ، ويشمل الفرض المقارن للعقد ، والفرض
بعد العقد ، وقبل الطلاق ، فلو كان فرض لها بعد العقد ، ثم طلق بعد الفرض ، فنصف
الصداق بالطلاق لعموم الآية ، خلافاً لأبي حنيفة ، إذ لا يتنصف عنده ، لأنه لم يجب
بالعقد ، فلها مهر مثلها كقول مالك ، والشافعي ، ثم رجع إلى قول صاحبيه ، وجواب
الشرط ) فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( ، وارتفاع نصف على الابتداء وقدَّر الخبر :
فعليكم نصف ما فرضتم ، أو : فلهن نصف ما فرضتم ، ويجوز أن يقدر مؤخراً ، ويجوز أن
يكون خبراً ، أي : فالواجب نصف ما فرضتم .
وقرأت فرقة : فنصف ، بفتح الفاء أي : فادفعوا نصف ما فرضتم ، وظاهر قوله : ما
فرضتم ، أنه إذا أصدقها عرضاً ، وبقي إلى وقت الطلاق وزاد أو نقص ، فنماؤه ونقصانه
لهما ويتشطر ، أو عيناً ذهباً أو ورقاً فاشترت به عرضاً ، فنما أو نقص ، فلا يكون
له إلاَّ نصف ما أصدق من العين لا من العرض ، لأن العرض ليس هو المفوض . وقال مالك
: هذا العرض كالعين ، أصل ثمنه يتشطر ، وهذا تفريع على أنه هل يتبين بقاء ملكه على
نصفه أو يرجع إليه بعد أن ملكته ؟ .
وظاهر الآية يدل على أنه لا يتشطر إلاَّ المفروض فلو كان نحلها شيئاً في العقد ،
أو قبله لأجله ، فلا يتشطر . وقيل : هو في معنى الصداق .
وظاهر الآية أن الطلاق قبل الجماع وبعد الفرض يوجب تشطير الصداق ، سواء خلابها أم
قبَّلها ، أم عانقها ، أم طال المقام معها ، وبه قال : الشافعي ، والحسن بن صالح ،
ولا عدة عليها ؛ وروري عن علي ، وعمرو بن عمر ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، وعلي
بن الحسن ، وابراهيم : أن لها بالخلوة جميع المهر . وقال مالك : إن خلابها
وقبَّلها أو كشفها ، وكان ذلك قريباً ، فلها نصف الصداق ، وإن طال فلها المهر ،
إلاَّ أن يضع منه ، وقال الثوري : إذا خلابها ولم يدخل عليها ، وكان ذلك من جهته ،
فلها المهر كاملاً ، وإن كانت رتقاء فلها شطر المهر . وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف
، ومحمد ، وزفر : الخلوة الصحيحة تمنع سقوط شيء من المهر بعد الطلاق ، وطىء أو لم
يطأ ، وهو أن لا يكون أحدهما محرماً أو مريضاً ، أو لم تكن حائضة أو صائمة في
رمضان ، أو رتقاء ، فإنه إذا كان كذلك ثم طلقها وجب لها نصف المهر إذا لم يطأها .
والعبّدة واجبة في هذه الوجوه كلها إن طلقها فعليها العدّة .
وقال الأوزاعي : اذا دخل بها عند أهلها ، قبلَّها أو لمسها ، ثم طلقها ولم يجامعها
، وكان أرخى عليها ستراً أو أغلق باباً فقد تم الصداق . وقال الليث : إذا أرخى
عليها ستراً فقد وجب الصداق .
وقرأ الجمهور : فنصف بكسر النون وضم الفاء ، وقرأ السلمى بضم النون ، وهي قراءة
على والأصمعي عن أبي عمرو ، وفي جميع القرآن . وتقدم أن ذلك لغة ، والاقتصار على
قوله : ) فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( يدل على أن المطلقة قبل المسيس ، وقد فرض لها
، ليس لها إلاَّ النصف . وكذلك قال مالك وغيره : إن هذه الآية مخرجة للمطلقة بعد
الفرض وقبل المسيس من حكم التمتيع ، إذ كان قد تناولها قوله : ) وَمَتّعُوهُنَّ ).
وقال ابن المسيب : نسخت هذه الآية آية الاحزاب ، وقال قتادة : نسخت الآية التي
قبلها ، وزعم زيد بن أسلم أنها منسوخة ، وقال فريق من العلماء ، منهم أبو ثور :
بينت هذه الآية أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض ، ولم تتعرض الآية لإسقاط متعتها
بل لها المتعة ونصف المفروض ، وقد تقدّم الكلام على شيء من هذا .
( إَّلا أَن يَعْفُونَ ( نص ابن عطيه وغيره على أن هذا استثناء منقطع ، قاله ابن
عطية ، لأن
" صفحة رقم 245 "
عفوهنّ عن النصف ليس من جنس أخذهن ، والمعنى إلاَّ أن يتركن النصف الذي وجب لهن
عند الزوج . إنتهى .
وقيل : وليس على ما ذهبوا إليه ، بل هو استثناء متصل ، لكنه من الأحوال ، لأن قوله
: فنصف ما فرضتم ، معناه : عليكم نصف ما فرضتم في كل حال إلاَّ في حال عفوهن عنكم
، فلا يجب ، وإن كان التقدير : فلهن نصف فالواجب ما فرضتم ، فكذلك أيضاً وكونه
استثناء من الأحوال ظاهر ، ونظيره : ) لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ
بِكُمْ ( إلاَّ أن سيبويه منع أن تقع أن وصلتها حالاً ، فعلى قول سيبويه يكون : )
إَّلا أَن يَعْفُونَ ( استثناءً منقطعاً .
وقرأ الحسن : إلاَّ أن يعفونه ، والهاء ضمير النصف ، والأصل : يعفون عنه ، أي : عن
النصف ، فلا يأخذنه . وقال بعضهم : الهاء للاستراحة ، كما تأول ذلك بعضهم في قول
الشاعر : هم الفاعلون الخير والآمرونه
على مدد الأيام ما فعل البر
وحركت تشبيهاً بهاء الضمير . وهو توجيه ضعيف .
وقرأ ابن أبي إسحاق : إلاَّ أن تعفون ، بالتاء بثنتين من أعلاها ، وذلك على سبيل
الالتفات ، إذ كان ضميرهن غائباً في قوله : لهن ، وما قبله فالتفت إليهن وخاطبهن ،
وفي خطابه لهن ، وجعل ذلك عفواً ما يدل على ندب ذلك واستحبابه .
وفرق الزمخشري بين قولك : الرجال يعفون ، والنساء يعفون ، بأن الواو في الأول ضمير
، والنون علامة الرفع ، والوا في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن ، والفعل مبني لا
أثر في لفظه للعامل . إنتهى . فرقه ، وهذا من النحو الجلي الذي يدرك بأدنى قراءة
في هذا العلم ، ونقصه أن يبين أن لازم الفعل في الرجال : يعفون ، حذفت لالتقائها
ساكنة مع واو الضمير ، وأن يذكر خلافاً في نحو النساء يعفون ، فذهب ابن درستويه من
المتقدّمين ، والسهيلي من المتأخرين ، إلى أن الفعل إذا اتصلت به نون الإناث معرب
لا مبني ، وينسب ذلك إلى كلام سيبويه . والكلام على هذه المسألة موضح في علم النحو
.
وظاهر قوله : ) إَّلا أَن يَعْفُونَ ( العموم في كل مطلقة قبل المسيس ، وقد فرض
لها ، فلها أن تعفو . قالوا : وأريد هنا بالعموم الخصوص ، وكل امرأة تملك أمر
نفسها لها أن تعفو ، فأما من كانت في حجاب أو وصي فلا يجوز لها العفو ، وأما البكر
التي لاوليّ لها ، فقال ابن عباس ، وجماعة من التابعين والفقهاء : يجوز ذلك لها ،
وحكى سحنون ، عن ابن القاسم : أنه لا يجوز ذلك لها .
( أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ ( وهو : الزوج ، قاله علي
، وابن عباس وجبير بن مطعم ، وشريح رجع إليه ، وابن جبير ، ومجاهد ، وجابر بن زيد
، والضحاك ، ومحمد بن كعب القرظي ، والربيع بن أنس ، وابن بشرمة ، وأبو حنيفة ،
وذكر ذلك عن الشافعي .
وعفوه أن يعطيها المهر كله ، وروي أن جبير بن مطعم تزوج وطلق قبل الدخول ، فأكمل
الصداق ، وقال : أنا أحق بالعفو .
وسمي ذلك عفواً إما على طريق المشاكلة ، لأن قبله ) إَّلا أَن يَعْفُونَ ( أو لأن
من عادتهم أن كانوا يسوقون المهر عند التزوج ، ألا ترى إلى قوله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) لعلي كرم الله وجهه : ( فأين درعك الحطيمة ) يعني أن يصدقها فاطمة صلى
الله على رسول الله وعليها ، فسمى ترك أخذهم النصف مما ساقوه عفوا عنه .
وروي عن ابن عباس ، والحسن ، وعلقمة ، وطاووس ، والشعبي ، وابراهيم ، ومجاهد ،
وشريح ، وأبي صالح ، وعكرمة ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وغيرهم : أنه الولي
الذي المرأة في حجره ، فهو : الأب في ابنته التي لم تملك أمرها ، والسيد في أمته ؛
وجوّز شريح عفو الأخ عن نصف المهر ، وقال : أنا أعفو عن مهور بني مرة وإن كرهن ،
وقال عكرمة : يجوز أن يعفو عمّاً كان أو أخاً أو أباً ، وإن كرهت ، ويكون دخول أو
: هنا للتنويع في العفو ، ( إَّلا أَن يَعْفُونَ ( إن كنّ ممن يصح العفو منهنّ ،
أو يعفو وليهنّ ، إن كنّ لا يصح العفو منهنّ ، أو للتخيير ، أي : هنّ خيرات بين أن
يعفون ، أو يعفو وليهنّ .
ورجح كونه الولي بأن الزوج المطلق يبعد فيه أن يقال بيده عقدة النكاح ، وأن يجعل
تكميله الصداق عفواً ، وأن يبهم أمره حتى يبقى كالملبس ، وهو قد أوضح بالخطاب في
قوله : ) فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( فلو جاء على مثل هذا التوضيح لكان : إلاَّ أن
يعفون أو تعفوا أنتم ولا تنسوا الفضل بينكم ، فدل هذا على أنها درجة ثالثة ، إذ
ذكر الأزواج ، ثم الزوجات ، ثم
" صفحة رقم 246 "
الأولياء .
وأجيب عن الأول : بأن ) بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ ( من حيث كان عقدها قبل ،
فعبر بذلك عن الحالة السابقة ، وللنص الذي سبق في قوله : ) وَلاَ تَعْزِمُواْ
عُقْدَةَ النّكَاحِ ( والمراد به خطاب الأزواج .
وعن الثاني : أنه على سبيل المشاكلة ، أو لكونه قد ساق الصداق إليها ، وقد تقدّم
ذكر ذلك .
وعن الثالث : أنه لا إلباس فيه ، وهو من باب الالتفات ، إذ فيه خروج من خطاب إلى
غيبة ، وإنما قلنا : لا إلباس فيه ، وأنه يتعين أن يكون الزوج ، لإجماع أهل العلم
على أنه لا يجوز للأب أن يهب شيئاً من مال بنته لا لزوج ولا لغيره ، فكذلك المهر ،
إذ لا فرق .
ويحتمل أن يكون قوله : ) بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ ( على حذف مضاف أي : بيده حل
عقدة النكاح ، كما قالوا في قوله : ) وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النّكَاحِ ( أي :
على عقدة النكاح .
ولو فرضنا أن قوله : ) أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ ( من
المتشابه ، لوجب ردّه إلى المحكم . قال الله تعالى : ) وَءاتُواْ النّسَاء
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ
هَنِيئاً مَّرِيئاً ( وقال تعالى : ) وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ
مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ ( وقال : ) وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ
مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا ( الآية . فهذه الآية محكمة
تدل ععلى أن الولي لا دخول له في شيء من أخذ مال الزوجة ، ورجح أيضاً أنه الزوج بأن
عقدة النكاح كانت بيد الولي فصارت بيد الزوج ، وبأن العفو يطلق على ملك الانسان
وعفو الولي عفو عما لا يملك ، وبأن قوله : ) وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ ( يدل على
أن الفضل في هبة الإنسان مال نفسه لا مال غيره .
وقرأ الحسن : أو يعفو ، بتسكين الواو ، فتسقط في الوصل لالتقائها ساكنة مع الساكن
بعدها ، فإذا وقف أثبتها ، وفعل ذلك استثقالاً للفتحة في حرف العلة ، فتقدر الفتحة
فيها كما تقدّر في الألف في نحو : لن يخشى ، وأكثر العرب على استخفاف الفتحة في
الواو والياء في نحو : لن يرمي ولن يغزو ، وحتى إن أصحابنا نصوا على أن إسكان ذلك
ضرورة ، وقال : فما سودتني عامر عن وراثة
أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
قال ابن عطية والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة
مجيئها في كلام العرب ، وقد قال الخليل ، رحمه الله : لم يجيء في الكلام واو
مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلاَّ في قولهم : عفوة ، وهو جمع : عفو ، وهو ولد الحمار
، وكذلك الحركة ما كانت قبل الواو مفتوحة ، فإنها ثقيلة . إنتهى كلامه .
وقوله : لقلة مجيئها في كلام العرب ، يعني مفتوحة مفتوحاً ما قبلها ، هذا الذي ذكر
فيه تفصيل ، وذلك أن الحركة قبلها إما أن تكون ضمة أو فتحة أو كسرة ، إن كانت ضمة
فإما أن يكون ذلك في فعل أو اسم ، إن كان في فعل فليس ذلك بقليل ، بل جميع المضارع
إذا دخل عليه الناصب ، أو لحقه نون التوكيد ، على ما أحكم في بابه ، ظهرت الفتحة
فيه نحو : لن يغزو ، وهل يغزون ، والأمر نحو : اغزون ، وكذلك الماضي على فعل نحو :
سَرَوَ الرجل ، حتى ما بنى من ذوات الياء على فعل تقول فيه : لقضوَ الرجل ،
ولرَموَتِ اليد ، وهو قياس مطرد على ما أحكم في بابه ؛ وإن كان في اسم فإما أن
يكون مبنيناً على هاء التأنيث ، أو لا . إن كان مبنياً على هاء التأنيث فجاء
كثيراً نحو : عرقوة ، وترقوه ، وقمحدوه ، وعنصوة ، وتبنى عليه المسائل في علم
التصريف ، وإن كانت الحركة فتحة فهو قليل ، كما ذكره الخليل ، وإن كانت كسرة
انقلبت الواو فيه ياء ، نحو الغازي ، والغازية ، والقريقية ، وشذ من ذلك : أقروَه
جمع قرو ، وهي ميلغة الكاب ، و : سواسوة وهم : المستوون في الشر ، و : مقاتوه جمع
مقتو ، وهو السايس الخادم .
والألف واللام في النكاح للعهد أي عقدة لها ، قال المغربي : وهذا على طريقة
البصريين ، وقال غيره الألف واللام بدل الإضافة أي : نكاحه ، قال الشاعر : لهم
شيمة لم يعطها الله غيرهم
من الناس والأحلام غير عوازب
أي : وأحلامهم ، وهذا على طريقة الكوفيين .
( وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ). هذا خطاب للزوج والزوجة ، وغلب
" صفحة رقم 247 "
المذكر ، قاله ابن عباس . وقال ابن عطية : خاطب تعالى الجميع تأدباً بقوله : )
وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( أي : يا جميع الناس . إنتهى كلامه .
والذي يظهر أنه خطاب للأزواج فقط ، وقاله الشعبي ، إذ هم الخاطبون في صدر الآية ،
فيكون ذلك من الالتفات ، إذ رجع من ضمير الغائب ، وهو الذي بيده عقدة النكاح على
ما اخترناه في تفسيره ، إلى الخطاب الذي استفتح به صدر الآية ، وكون عفو الزوج أقرب
للتقوى من حيث إنه كسر قلب مطلقته ، فيجبرها بدفع جميع الصداق لها ، إذ كان قد
فاتها منه صحبته ، فلا يفوتها منه نحلته ، إذ لا شيء أصعب على النساء من الطلاق ،
فإذا بذل لها جميع المهر لم تيأس من ردّها إليه ، واستشعرت من نفسها أنه مرغوب
فيها ، فانجبرت بذلك .
وقرأ الشعبي ، وأبو نهيك : وأن يعفوا ، بالياء باثنيتين من تحتها ، جعله غائباً ،
وجمع على معنى : الذي بيده عقدة النكاح ، لأنه للجنس لا يراد به واحد ، وقيل : هذه
القراءة تؤيد أن العفو مسند للأزواج ، قيل : والعفوا أقرب لا تقاء كل واحد منهما
ظلم صاحبه . وقيل : لاتقاء معاصي الله .
و : أقرب ، يتعدّى بالَّلام كهذه ، ويتعدّى بإلى كقوله : ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ ( ولا يقال : إن اللام بمعنى إلى ، ولا إن اللام للتعليل ، بل على سبيل
التعدية لمعنى المفعول به المتوصل إليه بحرف الجر ، فمعنى اللام ومعنى إلى
متقاربان من حيث التعدية ، وقد قيل : بأن اللام بمعنى إلى ، فيكون ذلك من تضمين
الحروف ، ولا يقول به البصريون . وقيل أيضاً : إن اللام للتعليل ، فيدل على علة
ازدياد قرب العفو على تركه ، والمفضل عليه في القرب محذوف ، وحسن ذلك كون أفعل
التفضيل وقع خبراً للمبتدأ ، والتقدير : والعفو منكم أقرب للتقوى من ترك العفو .
( وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ( الخطاب فيه من الخلاف ما في قوله : )
وَأَن تَعْفُواْ ).
والنسيان هنا الترك مثل : ) نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ( والفضل : هو فعل ما
ليس بواجب من البر ، فهو من الزوج تكميل المهر ، ومن الزوجة ترك شطره الذي لها ،
قاله مجاهد ، وإن كان المراد به الزوج فهو تكميل المهر .
ودخل جبير بن مطعم على سعد بن أبي وقاص ، فعرض عليه بنتاً له ، فتزوّجها ، فلما
خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملاً ، فقيل له : لم تزوّجتها ؟ فقال : عرضها علي
فكرهت ردّه ، قيل : فلم بعثت بالصداق كاملاً ؟ قال : فأين الفضل ؟ .
وقرأ علي ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : ولا تناسوا الفضل . قال ابن عطية
وهي قراءة متمكنة المعنى ، لأنه موضع تناسٍ لا نسيان إلاّ على التشبيه . إنتهى .
وقرأ يحيى بن يعمر : ولا تنسوا الفضل ، بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين ،
تشبيهاً للواو التي هي ضمير بواو ولو في قوله تعالى : ) لَوِ اسْتَطَعْنَا ( كما
شبهوا : واو : لو ، بواو الضمير ، فضموها ، قرأ ) لَوِ اسْتَطَعْنَا ( بضم الواو .
وانتصاب : بينكم ، بالفعل المنهي عنه و : بين ، مشعر بالتخلل والتعارف ، كقوله : )
وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( فهو أبلغ من أن يأتي
النهي عن شيء لا يكون بينهم ، لأن الفعل المنهي عنه لو وقع لكان ذلك مشتهراً بينهم
، قد تواطؤوا عليه وعلموا به ، لأن ما تخلل أقواماً يكون معروفاً عندهم .
( إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ختم هذه الآية بهذه الصفة الدالة على
المبصرات ، لأن ما تقدمه من العفو من المطلقات والمطلقين ، وهو أن يدفع شطر ما
قبضن أو يكملون لهنّ الصداق ، هو مشاهد مرئي ، فناسب ذلك المجيء بالصفة المتعلقة
بالمبصرات .
ولما كان آخر قوله : ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ( الآية قوله : ) فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ ( مما يدرك بلطف وخفاء ، ختم
ذلك بقوله : ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( وفي ختم هذه الآية بقوله : )
إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( وعد جميل للمحسن وحرمان لغير المحسن .
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة والتي قبلها أنواعاً من الفصاحة ، وضروباً من علم
البيان والبلاغة .
الكناية في : أن تمسوهنّ ، والتجنيس المغاير ، في : فرضتم لهنّ فريضة ، والطباق في
: الموسع والمقتر والتأكيد بالمصدرين في : متاعاً وحقاً ، والاختصاص : في : حقاً
على المحسنين ، ويمكن أن يكون من : التيمم ، لما قال : حقاً ، أفهم الإيجاب ، فلما
قال : على المحسنين تمم المعنى ، وبيَّن أنه من باب التفضل والإحسان لا من باب
الإيجاب ، فلما قال : على المحسنين تمم التعميم ، وبين أنه من باب التفضل والإحسان
، لا من باب الإيجاب ؛
" صفحة رقم 248 "
والالتفات : في : وأن تعفوا ، ولا تنسوا ؛ والعدول عن الحقيقة إلى المجاز في :
الذي بيده عقدة النكاح ، عبر عن الإيجاب والقبول بالعقدة التي تعقد حقيقة ، لما في
ذلك القول من الارتباط لكل واحد من الزوجين بالآخر .
البقرة : ( 238 ) حافظوا على الصلوات . . . . .
( حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ ( قالوا : هذه الآية معترضة بين آيات المتوفى عنها
زوجها ، والمطلقات ، وهي متقدّمة عليهنّ في النزول ، متأخرة في التلاوة ورسم
المصحف ، وشبهوها بقوله : ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً
( وبقوله : ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( قالوا : فيجوز أن تكون مسوقة على الآيات
التي ذكر فيها القتال ، لأنه بين فيها أحوال الصلاة في حال الخوف ، قالوا : وجاء
ما هو متعلق بأبعد من هذا ، زعموا أن قوله تعالى : ) لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا
أَمَانِىّ أَهْلِ الْكِتَابِ ( رداً لقوله : ) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( قالوا : وأبعد منه : ) سَأَلَ سَائِلٌ
بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( راجع إلى قوله : ) وَإِذَا قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ
هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ( الآية قالوا : أو يجوز أن يكون حدث خوف قبل
إنزال إتمام أحكام المطلقات ، فبين تعالى أحكام صلاة الخوف عند مسيس الحاجة إلى
بيانه ، ثم أنزل إتمام أحكام المطلقات .
قالوا : ويجوز أن تكون متقدمة في التلاوة ورسم المصحف ، متأخرة في النزول قبل هذه
الآيات ، على قوله بعد هذه الآية : ) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( وهذه
كلها أقوال كما ترى .
والذي يظهر في المناسبة أنه تعالى ، لما ذكر تعالى جملة كثيرة من أحوال الأزواج
والزوجات ، وأحكامهم في النكاح والوطء ، والإيلاء والطلاق ، والرجعة ، والإرضاع
والنفقة والكسوة ، والعدد والخطبة ، والمتعة والصداق والتشطر ، وغير ذلك ، كانت
تكاليف عظيمة تشغل من كلفها أعظم شغل ، بحيث لا يكاد يسع معها شيء من الأعمال ،
وكان كل من الزوجين قد أوجب عليه للآخر ما يستفرغ فيه الوقت ، ويبلغ منه الجهد ،
وأمر كلا منهما بالإحسان إلى الآخر حتى في حالة الفراق ، وكانت مدعاة إلى التكاسل
عن الاشتغال بالعبادة إلاَّ لمن وفقه الله تعالى ، أمر تعالى بالمحافظة على
الصلوات التي هي الوسيلة بين الله وبين عبده ، وإذا كان قد أمر بالمحافظة على أداء
حقوق الآدميين ، فلأن يؤمر بأداء حقوق الله أولى وأحق ، ولذلك جاء : ( فدين الله
أحق أن يقضى ) فكأنه قيل : لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهنّ عن أداء ما فرض
الله عليكم ، فمع تلك الأشغال العظيمة لا بد من المحافظة على الصلاة ، حتى في حالة
الخوف ، فلا بد من أدائها رجالاً وركباناً ، وإن كانت حالة الخوف أشد من حالة
الاشتغال بالنساء ، فإذا كانت هذه الحالة الشاقة جداً لا بد معها من الصلاة ،
فأحرى ما هو دونها من الأشغال المتعلقة بالنساء .
وقيل : مناسبة الأمر بالمحافظة على الصلوات عقيب الأوامر السابقة أن الصلاة تنهي
عن الفحشاء والمنكر ، فيكون ذلك عوناً لهم على امتثالها ، وصوناً لهم عن مخالفتها
، وقيل : وجه ارتباطها بما قبلها وبما بعدها ، أنه لما أمر تعالى بالمحافظة على
حقوق الخلق بقوله : ) وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ( ناسب يأمر بالمحافظة
على حقوق الحق ، ثم لما كانت حقوق الآدميين منها ما يتعلق بالحياة ، وقد ذكره ،
ومنا ما يتعلق بالممات ، ذكره بعده ، في قوله : ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّةً ( الآية .
والخطاب : ) يحافظوا ( لجميع المؤمنين ، وهل يعم الكافرين ؟ فيه خلاف . و : حافظوا
، من باب : طارقت النعل ، ولما ضمن المعنى التكرار والمواظبة عدى بعلى ، وقد رام
بعضهم أن يبقى فاعل على معناها الأكثر فيها من الاشتراك بين اثنين ، فجعل المحافظة
بين العبد وبين الرب ، كأنه قيل : احفظ هذه الصلاة يحفظك الله الذي أمر بها ،
ومعنى المحافظة هنا : دوام ذكرها ، أو الدوام على تعجيلها في أول أوقاتها ، أو :
إكمال فروضها وسننها ، أو جميع ما تقدّم . أقوال أربعة .
والألف واللام فيها للعهد ، وهي : الصلوات الخمس . قالوا : وكل صلاة في القرآن
مقرونة بالمحافظة ، فالمراد بها الصلوات الخمس .
( بَصِيرٌ حَافِظُواْ عَلَى ( الوسطى فعلى مؤنثة الأوسط ، كما قال أعرابي يمدح
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يا أوسط الناس طرّاً في مفاخرهم
وأكرم الناس أمَّاً برّة وأبا
" صفحة رقم 249 "
وهو خيار الشيء وأعدله ، كما يقال : فلان من واسطة قومه ، أي : من أعيانهم ، وهل
سميت : الوسطى ، لكونها بين شيئين من : وسط فلان يسط ، إذا كان وسطاً بين شيئين ؟
أو : من وسط قومه إذا افضلهم ؟ فيه قولان ، والذي تقتضيه العربية أن تكون الوسطى
مؤنث الأوسط ، بمعنى الفضلى مؤنث الأفضل ، كالبيت الذي أنشدناه : يا أوسط الناس ،
وذكر أن أفعل التفضيل لا يبنى إلاَّ مما يقبل الزيادة والنقص ، وكذلك فعل التعجب ،
فكل ما لا يقبل الزيادة والنقص لا يبنيان منه ألا ترى أنك لا تقول زيد أموت الناس
؟ ولا : ما أموت زيداً ؟ لأن الموت شيء لا يقبل الزيادة ولا النقص ، وإذا تقرر هذا
فكون الشيء وسطاً بين شيئين لا يقبل الزيادة ولا النقص ، فلا يجوز أن يبنى منه
أفعل التفضيل ، لأنه لا تفاضل فيه ، فتعين أن تكون الوسطى بمعنى الأخير والأعدل ،
لأن ذلك معنى يقبل التفاوت ، وخصت الصلاة الوسطى بالذكر ، وان كانت قد اندرجت في
عموم الصلوات قبلها ، تنبيهاً على فضلها على غيرها من الصلوات ، كما نبه على فضل
جبريل وميكال في تجريدهما بالذكر في قوله : ) وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( وعلى فضل من ذكر وجرد من الأنبياء بعد قوله : ) وَإِذْ
أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الآية ، وعلى
فضل النخل والرمان في قوله : ) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( وقد
تكلمنا على هذا النوع من الذكر في قوله : ) وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ
وَمِيكَالَ ).
وكثر اختلاف العلماء ، من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم ، في المراد بالصلاة
الوسطى ، ولهذا قال سعيد بن المسيب : كان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
) في الصلاة الوسطى هكذا ، وشبك بين أصابعه .
والذي تلخص فيه أقوال :
أحدها : أنها العصر ، قاله عليّ ، وابن مسعود ، وأبو أيوب ، وابن عمر في رواية ،
وسمرة بن جندب ، وأبو هريرة ، وابن عباس في رواية عطية ، وأبو سعيد الخدري ،
وعائشة في رواية ، وحفصة ، والحسن بن المسيب ، وابن جبير ، وعطاء في رواية ،
وطاووس ، والضحاك ، والنخعي ، وعبيد بن حميد ، وذر بن حبيش ، وقتادة ، وأبو حنيفة
، وأحمد ، والشافعي في قول ، وعبد الملك بن حبيب ، من أصحاب مالك ، وهو اختيار
الحافظ أبي بكر بن العربي في كتابه المسمى ( بالقبس في شرح موطأ مالك بن أنس )
واختيار أبي محمد بن عطية في تفسيره ، وقد استفاض من الحديث الصحيح عن رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال يوم الأحزاب : ( شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة
العصر ، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً ) . وقال عليّ : كنا نراها الصبح حتى قال رسل
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ذلك ، فعرفنا أنها العصر .
وروى أبو مالك الاشعري ، وسمرة بن جندب : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) )
قال : الصلاة الوسطى صلاة العصر ، وفي مصحف عائشة ، وإملاء حفصة ؛ والصلاة الوسطى
وهي العصر ، ومن روى : وصلاة العصر ، أول على أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى .
وقرأ أبيّ ، وابن عباس ، وعبيد بن عمير : والصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، على البدل
.
الثاني : أنها الفجر ، روي ذلك عن عمر ، وعلي في رواية ، وأبي موسى ومعاذ ، وجابر
، وأبي أمامة ، وابن عمر . في رواية مجاهد ، وأنس ، وجابر بن زيد ، وعطاء وعكرمة ،
وطاووس في رواية ابنه ، ومجاهد ، وعبد الله بن شدّاد ، ومالك ، والشافعي في قول :
وقد قال أبو العالية : صليت مع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الغداة ،
فقلت لهم : أيما الصلاة الوسطى ؟ فقالوا : التي صليت قبل . ورووا عن أبي رجاء العطاردي
قال : صلى بنار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) صلاة الغداة ، فقنت فيها قبل
الركوع ، ورفع يديه ، فلما فرع قال : هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا بها أن نقوم
فيها قانتين .
الثالث : أنها الظهر ، روي ذلك عن ابن عمر ، وزيد ، وأسامة ، وأبي سعيد ، وعائشة .
وفي رواية قالوا : وروى زيد بن ثابت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان يصلي
الهاجرة والناس في هاجرتهم ، فلم يجتمع إليه أحد فتكلم في ذلك . فانزل الله تعالى
: ) حَافِظُواْ عَلَى ( يريد الظهر ، وقد روي أنه لا
" صفحة رقم 250 "
يكون وراءه إلاَّ الصف والصفان ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لقد
هممت أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم ) فنزلت هذه الآية : ) حَافِظُواْ
عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواةِ الْوُسْطَى ).
الرابع : أنها المغرب ، روي ذلك عن ابن عباس ، وقبيصة ابن ذؤيب .
الخامس : أنها العشاء الآخرة ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في تفسيره ، وحكاه أبو
عمر بن عبد البر عن فرقه .
السادس : أنها الصلوات الخمس ، قاله معاذ بن جبل .
السابع : أنها احدى الصلوات الخمس ، لا بعينها . وبه قال : سعيد بن المسيب ، وأبو
بكر بالوراق ، وأخفاها ليحافظ على الصلوات كلها ، كما أخفى ليلة القدر في ليالي
شهر رمضان ، واسم الله الأعظم في سائر الأسماء ، وساعة الإجابة في يوم الجمعة ،
وقد رواه نافع عن ابن عمر ، وقاله الربيع بن خيثم ، وقد روي أنه نزلت : والصلاة
الوسطى ، صلاة العصر ، ثم نسخت فنزلت : ) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ
والصَّلَواةِ الْوُسْطَى ( فيلزم من هذا نسخ تعييينها ، وأبهمت بعد أن عينت . قال
القرطبي المفسر : وهو الصحيح إن شاء الله لتعارض الأدلة وعدم الترجيح ، فلم يبق
إلاَّ المحافظة على جميعها وأدائها .
الثامن : أنها الجمعة ، وفي سائر الأيام الظهر . روي ذلك عن علي ، ذكره ابن حبيب .
التاسع : أنها العتمة والصبح ، قاله عمر وعثمان .
العاشر : أنها الصبح والعصر معاً ، قاله أبو بكر الأبهري من فقهاء المالكية .
ورجح كل قول من الأقوال التي عينت فيها : أن الوسطى هي كذا ، بأحاديث وردت في فضل
تلك الصلاة ، ورُجح بعضها بأنها وسط بين كذا وكذا ، ولا حجة في شيء من ذلك ، لأن
ذكر فضل صلاة معينة لا يدل على أنا التي أراد الله بقوله : ) حَافِظُواْ عَلَى (
ولأن كونها وسطاً بين كذا وكذا لا يصلح أن يبنى منه أفعل التفضيل ، كما بيناه قبل
.
وقد صنف شيخنا الإمام المحدّث ، أوحد زمانه وحافظ أوانه ، شرف الدين أبو محمد عبد
المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن العفيف شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي كتاباً في
هذا المعنى سماه ( كتاب كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى ) قرأناه عليه ، ورجح
فيه أنها صلاة العصر ، وأن ذلك مروي نصاً عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ،
روى ذلك عنه : عليّ بن أبي طالب ، واستفاض ذلك عنه ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة
بن اليمان ، وعبد الله بن عباس ، وسمرة بن جيدب ، وعبد الله بن عمر ، وأبو هريرة ،
وأبو هاشم بن عتبة بن ربيعة . وذكر فيه بقية الأقاويل العشرة التي سردناها ، وزاد
سبعة أقاويل :
أحدها : أنها الجمعة خاصة . الثاني : أنها الجماعة في جميع الصلوات . الثالث :
أنها صلاة الخوف . الرابع : أنها الوتر ، واختاره أبو الحسن عليّ بن محمد السخاوي
النحوي المقري . الخامس : أنها صلاة عيد الأضحى . السادس : أنها صلاة العيد يوم
الفطر . السابع : أنها صلاة الضحى ، حكاه بعضهم وتردد فيه .
فإن ثبت هذا القول فيكون تمام سبعة عشر قولاً ، والذي ينبغي أن نعوّل عليه منها هو
قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو : أنها صلاة العصر ، وبه قال شيخنا
الحافظ أبو محمد ، رحمه الله ، أخبرنا المسند أبو بكر محمد بن أبي الطاهر اسماعيل
بن عبد المحسن الدمشقي ، بقراءتي عليه بالقاهرة من ديار مصر ، حرسها الله ، عن أبي
الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي المقري ، قال : أخبرنا فقيه الحرم : أبو عبد
الله محمد بن الفضل بن أحمد الصاعدي ، قال : أخبرنا أبو الحسن عبد الغفار بن محمد
بن عبد الغفار الفارسي ( ح ) .
وأخبرنا أستادنا العلامة أبو جعفر ، أحمد بن إبراهيم بن الزبير بالثقفي ، بقراءتي
عليه بغرناطة ، من جزيرة الاندلس ، قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى
الفارقي ، قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبيد الله الحجري ، قال :
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن زغيبة المشاور ، قال : أخبرنا أبو
العباس أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث ( ح ) .
وأخبرنا القاضي أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص ، مناولة عن أبي
القاسم أحمد بن عمر بن أحمد الخزرجي ، وهو آخر من
" صفحة رقم 251 "
حدّث عنه ، ولم يحدّثنا عنه من شيوخنا غيره ، عن أبي الحسن علي بن عبد الله بن
موهب الجذامي ، وهو آخر من حدّث عنه عن أبي العباس بن دلهاث ، قال : أخبرنا أبو
العباس أحمد بن الحسن بن مندار بمكة قالا ، أعني عبد الغفار ، وابن مندار : أخبرنا
أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ، قال : أخبرنا أبو اسحاق إبراهيم بن
محمد ابن سفيان الفقيه ، أخبرنا الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ،
قال : وحدّثنا عون بن سلام الكوفي ، حدّثنا محمد بن طلحة اليامي ، عن زبيد ، عن
مرة ، عن عبد الله ، قال : حبس المشركون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن
صلاة العصر حتى احمرت الشمس ، أو اصفرّت ، فقال رسو الله ( صلى الله عليه وسلم ) )
: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً ) ،
أو : ( حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً ) . .
وقرأ عبد الله ، : ) وَعَلَى الصَّلَواةِ الْوُسْطَى ( باعادة الجار على سبيل
التوكيد ، وقرأت عائشة : والصلاة ، بالنصب ، ووجه الزمخشري على أنه نصب على المدح
والاختصاص ، ويحتمل أن يراعى موضع : على الصلاة ، لأنه نصب كما تقول : مررت بزيد
وعمرا ، وروي عن قالون أنه قرأ : الوسطى ، بالصاد أبدلت السين صاداً المجاورة
الطاء ، وقد تقدّم الكلام على هذا في قوله : الصراط .
( وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( أي : مطيعين قاله الشعبي ، وجابر بن زيد ،
وعطاء ، وابن جبير ، والضحاك ، والحسن . أو : خاشعين ، قاله مجاهد ، أو : مطيلين
القيام ، قاله ابن عمر ، والربيع . أو : داعين ، قاله ابن عباس ، أو : ساكتين ،
قاله السدّي ، أو : عابدين ، أو : مصلين ، أو : قارئين ، روي هذا عن ابن عمر ، أو
: ذاكرين الله في القيام ، قاله الزمخشري أو : راكدين كافي الأيدي والأبصار ، قاله
مجاهد ، وهو الذي بعبر عنه قبل بالخشوع .
والأظهر بحمله على السكوت ، إذ صح أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة ، حتى نزلت : )
وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( فأمروا بالسكوت . والمعنى : وقوموا في الصلاة .
وروي أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمدّ بصره ، أو يلتفت ،
أو يقلب الحصا ، أو يحدّث نفسه بشيء من أمور الدنيا ، وإذا كان القنوت في الآية هو
السكوت على ما جاء في الحديث ، فأجمعوا على أنه : لو تكلم عامداً وهو يعلم أنه في
الصلاة ، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته ، فسدت صلاته إلاَّ ما روي عن الأوزاعي : أن
الكلام لإحياء نفس ، أو مثل ذلك من الأمور الجسام ، لا يفسد الصلاة .
أو : ساهياً ، فقال مالك والشافعي : لا تفسد ، وعن مالك في بعض صور الكلام خلاف
بينه وبين أصحابه ، وقال أبو حنيفة ، والثوري : تفسد كالعمد ، لإصلاح صلاة كان أو
لغيره ، وهو قول النخعي ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان .
واختلف قول أحمد فنقل الخرقي كقول أبي حنيفة ، ونقل الأثرم عنه : إن تكلم لإصلاحها
لم تفسد ، أو لغيره فسدت ، وهذا قول مالك .
وفي قوله : ) وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( دليل على مطلوبية القيام ، وأجمعوا
على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه ، كان منفرداً أو إماماً
؟ واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي خلف إمام مريض قاعداً ولا يستطيع القيام ،
فأجاز ذلك جمهور العلماء : جابر بن زيد ، والأوزاعي ، ومالك ، وأحمد ، واسحاق ،
وأبو أيوب ، وسليمان بن داود الهاشمي ، وأبو خيثمة ، وابن أبي شيبة ، ومحمد بن
اسماعيل ، ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل : محمد بن نصر ، ومحمد بن اسحاق بن خزيمة
: فيصلي وراءه جالساً على مذهب هؤلاء ، وأفتى به من الصحابة : جابر ، وأبو هريرة ،
وأسيد بن حضير ، وقيس بن فهر وروي هذا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) :
أنس ، وعائشة ، وأبو هريرة ، وجابر ، وابن عمر ، وأبو أمامة الباهلي .
وأجازت طائفة صلاة القائم خلف صلاة المريض قاعداً ، وإلى هذا ذهب : الشافعي ،
وداوود ، وزفر ، وجماعة بالمدينة ، وهي رواية غريبة عنه . والمشهور عن مالك أنه لا
يؤم أحد جالساً ، فإن فعل بطلت صلاته وصلاتهم إلا إن كان عليلاً ، فتصح صلاته
وتفسد صلاتهم ، وإلى هذا ذهب محمد بن الحسن ، قال أبو حاتم محمد بن
" صفحة رقم 252 "
حبان البستي : وأول من أبطل صلاة المأموم قاعداً إذا صلى إمامه جالساً المغيرة بن
مقسم صاحب النخعي ، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ، ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة ، وتبعه
عليه من بعده من أصحابه .
البقرة : ( 239 ) فإن خفتم فرجالا . . . . .
( فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ( لما ذكر المحافظة على الصلوات ،
وأمر بالقيام فيها قاتنين ، كان مما يعرض للمصلين حالة يخافون فيها ، فرخص لهم في
الصلاة ماشين على الأقدام ، وراكبين .
والخوف يشمل الخوف من : عدّو ، وسبع ، وسيل وغير ذلك ، فكل أمر يخاف منه فهو مبيح
ما تضمنته الآية هذه .
وقال مالك : يستحب في غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن ، وأكثر
الفقهاء على تساوي الخوف .
و : رجالاً ، منصوب على الحال ، والعامل محذوف ، قالوا تقديره : فصلوا رجالاً ،
ويحسن أن يقدر من لفظ الأول ، أي : فحافظوا عليها رجالاً ، ورجالاً جمع راجل ،
كقائم وقيام ، قال تعالى : ) وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً (
وقال الشاعر : وبنو غدانة شاخص أبصارهم
يمشون تحت بطونهنّ رجالاً
والمعنى : ماشين على الأقدام ، يقال منه : رجل يرجل رجلاً ، إذا عدم المركوب ،
ومشى على قدميه ، فهو راجل ورجل ورجل ، على وزن رجل مقابل امرأة . وهي لغة أهل
الحجاز ، يقولون : مشى فلان إلى بيت الله حافياً رجلاً ، ويقال رجلان ورجيل ورجل ،
قال الشاعر : عليّ إذا لاقيتُ ليلى بخلوة
أن ازدار بيت الله رجلان حافياً
قالوا : ويجمع على : رجال ورجيل ورُجالى ورجالى ورجالة ورجلان ورَجلة ورجلة بفتح
الجيم وأرجلة وأراجل وأراجيل ؛ قرأ عكرمة ، وأبو مجلز : فرُجَّالاً ، بضم الراء
وتشديد الجيم ، وروي عن عكرمة التخفيف مع ضم الراء ، وقرىء : فرجلاً ، بضم الراء
وفتح الجيم مشدودة بغير ألف ؛ وقرىء : فرجلا ، بفتح الراء وسكون الجيم .
وقرأ بديل بن ميسرة : فرجالاً فركباناً بالفاء ، وهو جمع راكب . قال الفضل : لا
يقال راكب إلاَّ لصاحب الجمل ، وأما صاحب الفرس فيقال له فارس ، ولراكب الحمار
حمَّار ، ولراكب البغل بغَّال ، وقيل : الأفصح أن يقال : صاحب بغل ، وصاحب حمار .
وظاهر قوله : ) فَإِنْ خِفْتُمْ ( حصول مطلق الخوف ، وأنه بمطلق الخوف تباح الصلاة
في هاتين الحالتين .
وقالوا : هي صلاة الغداة للذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حالة المسايفة أو ما
يشبهه ، وأما صلاة الخوف بالإمام ، وانقسام الناس فليس حكمها في هذه الآية .
وقيل : فرجالاً ، مشاة بالجماعة لأنهم يمشون إلى العدّو في صلاة الخوف ، أو
ركباناً أي : وجداناً بالإيماء .
وظاهر قوله : فرجالاً ، أنهم يوقعون الصلاة وهم ماشون ، فيصلون على كل حال ،
والركب يوميء ويسقط عنه التوجه إى القبلة ، وهو قول الشافعي ؛ وقال أبو حنيفة : لا
يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف .
ولم تتعرض الآية لعدد الركعات في هذا الخوف ، والجمهور أنها لا تقصر الصلاة عن عدد
صلاة المسافر إن كانوا في سفر تقصر فيه ، وقال الحسن ، وقتادة ، وغيرهما : تصلى
ركعة إيماء . وقال الضحاك بن مزاحم : تصلي في المسايفة وغيرها ركعة ، فإن لم يقدر
فليكبر تكبيرتين . وقال إسحاق : فإن لم يقدر إلاَّ على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ،
ولو رأوا سواداً فظنوه عدوّاً ثم تبين أنه ليس بعدو ، فقال أبو حنيف : يعيدون .
وظاهر الآية : أنه متى عرض له الخوف فله أن يصلي على هاتي الحالتين ، فلو صلى
بركعة آمناً ثم طرأ له الخوف ركب وبنى ، أو عكسه : أتم وبنى ، عند مالك ، وهو أحد
قولي الشافعي ، وبه قال المزني .
وقال أبو حنيفة : إذا استفتح آمناً ثم خاف ، استقبل ولم يبن فإن صلى خائفاً ثم
أَمن بنى ؛ وقال أبو يوسف : لا يبنى في شيء من هذا كله .
وتدل هذه الآية على
" صفحة رقم 253 "
عظيم قدر الصلاة وتأكيد طلبها إذا لم تسقط بالخوف ، فلا تسقط بغيره من مرض وشغل
ونحوه ، حتى المريض إذا لم يمكنه فعلها لزمه الإشارة بالعين عند أكثر العلماء ،
وبهذا تميزت عن سائر العبادات لأنها كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها .
( فَإِذَا أَمِنتُمْ ( قال مجاهد أي : خرجتم من السفر إلى دار الإقامة ، ورده
الطبري ، قيل : ولا ينبغي رده لأنه شرح الأمن بمحل الأمن لأن الإنسان إذا رجع من
سفره وحل دار اقامته أمن ، فكان السفر مظنة الخوف ، كما أن دار الإقامة محل الأمن
. وقيل : معنى فإذا أمنتم أي : زال خوفكم الذي ألجاكم إلى هذة الصلاة . وقيل :
فإذا كنتم آمنين ، أي : متى كنتم على أمن قبل أو بعد . .
( فَاذْكُرُواْ اللَّهَ ( بالشكر والعبادة ) كَمَا عَلَّمَكُم ( أي : أحسن إليكم
بتعليمكم ما كنتم جاهليه من أمر الشرائع ، وكيف تصلون في حال الخوف وحال الأمَن .
و : ما ، مصدرية ، و : الكاف ، للتشبيه .
أمر أن يذكروا الله تعالى ذكراً يعادل ويوازي نعمة ما علمهم ، بحيث يجتهد الذاكر
في تشبيه ذكره بالنعمة في القدر والكفاءة ، وإن لم يقدر على بلوغ ذلك .
ومعنى : كما علمكم ، كما أنعم عليكم فعلمكم ، فعبر بالمسبب عن السبب ، لأن التعليم
ناشيء عن إنعام الله على العبد وإحسانه له .
وقد تكون الكاف للتعلي ، أي : فاذكروا الله لأجل تعليمه إياكم أي : يكون الحامل
لكم على ذكره وشكره وعبادته تعليمه إياكم ، لأنه لا منحة أعظم من منحة العلم .
( مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ( ما : مفعول ثان لعلمكم ، وفيه الامتنان
بالتعليم على العبد ، وفي قوله : ) مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ( إفهام أنكم
علمتم شيئاً لم تكونوا لتصلوا لإدراكه بعقولكم لولا أنه تعالى علمكموه ، أي : أنكم
لو تركتم دون تعليم لم تكونوا لتعلموه أبدا .
وحكى النقاش وغيره أن معنى : ) فَاذْكُرُواْ اللَّهَ ( أي صلوا الصلاة التي قد
علمتموها ، أي : صلاة تامة بجميع شروطها وأركانها وتكون : ما ، في : ) كَمَا
عَلَّمَكُم ( موصولة أي : فصلوا الصلاة كالصلاة التي علمكم ، وعبر بالذكر عن
الصلاة والكاف إذ ذاك للتشبيه بين هيئتي الصلاتين : الصلاة التي كانت أولاً قبل
الخوف ، والصلاة التي كانت بعد الخوف في حالة الأمن .
قال ابن عطية : وعلى هذا التأويل : ) مَّا لَمْ تَكُونُواْ ( بدل من : ما ، التي
في قوله : كما ، وإلاَّ لم يتسق لفظ الآية . انتهى . وهو تخريج يمكن ، وأحسن منه
أن يكون بدلاً من الضمير المحذوف في علمكم العائد على ما ، إذ التقدير علمكموه ،
أي : علمكم ما لم تكونوا تعلمون .
وقد أجاز النحويون : جاءني الذي ضربت أخاك ، أي ضربته أخاك ، على البدل من الضمير
المحذوف .
2 ( ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً
لازْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا فَعَلْنَ فِيأَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ ( ) ) 2
البقرة : ( 240 ) والذين يتوفون منكم . . . . .
( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّةً
لاّزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا ).
) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّةً
لاّزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ( الجمهور على أنها
منسوخة بالآية المتقدمة المنصوص فيها على عدّة الوفاة أنها أربعة أشهر وعشر ، وقال
مجاهد : هي محكمة ، والعدّة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشراً ، ثم جعل الله لهنّ
وصية منه : سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإن شاءت سكنت في وصيتها ، وان شاءت خرجت
. حكى ذلك عنه الطبري ، وهو قوله : ) غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ).
وقال ابن عطية : الألفاظ التي حكاها الطبري عن مجاهد لا تدل على أن الآية محكمة ،
ولا نص مجاهد على ذلك ، وقال السدّي : كان
" صفحة رقم 254 "
ذلك ، ثم نسخ بنزول الفرائض ، فأخذت ربعها أو ثمنها ، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة ،
وصارت الوصايا لمن لا يرث .
ونقل القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبى ، وأبو محمد بن عطية الإجماع على نسخ
الحول باللآية التي قبل هذه . وروى بالبخاري عن ابن الزبير ، قال : قلت لعثمان :
هذه الآية في البقرة ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَخَلَقْنَاكُمْ
أَزْواجاً ( إلى قوله : ) غَيْرَ إِخْرَاجٍ ( قد نسخت الأخرى فَلِمَ تكتبْها . قال
: ندعُها يا ابن أخي ، لا أغير شيئاً من مكانه . إنتهى . ويعني عثمان : من مكانه
الذي رتبه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيه ، لأن ترتيب الآية من فعله (
صلى الله عليه وسلم ) ) لا من اجتهاد الصحابة .
واختلفوا هل الوصية كانت واجبة من الله بعد وفاة الزوج ؟ فقال ابن عباس ، وعطاء ،
وقتادة ، والضحاك ، وان زيد : كان لها بعد وفاته السكنى والنفقة حولاً في ماله ما
لم تخرج برأيها ، ثم نسخت النفقة بالربع أو الثمن ، وسكنى الحول بالأربعة الأشهر
والعشر . أم كانت على سبيل الندب ؟ ندبوا بأن يوصوا للزوجات بذلك ، فيكون يتوفون
على هذا يقاربون . وقاله قتادة أيضاً ، والسدّدي ، وعليه حمل الفارسي الآية في
الحجة له .
وقرأ الحرميان ، والكسائي ، وأبو بكر : وصية بالرفع ، وباقي السبعة ، بالنصب
وارتفاع : والذين ، على الابتداء . ووصية بالرفع على الابتداء وهي نكرة موصوفة في
المعنى ، التقدير : وصية منهم أو من الله ، على اختلاف القولين في الوصية ، أهي
على الايجاب من الله ؟ أو على الندب للأزواج ؟ وخبر هذا المبتدأ هو قوله :
لأزواجهم ، والجملة : من وصية لأزواجهم ، في موضع الخبر عن : بالذين ، وأجازوا أن
يكون : وصية ، مبتدأ و : لأزواجهم ، صفة . والخبر محذوف تقديره : فعليهم وصية
لأزواجهم .
وحكي عن بعض النحاة أن : وصية ، مرفوع بفعل محذوف تقديره : كتب عليهم وصية ، قيل :
وكذلك هي في قراءة عبد الله ، وينبغي أن يحمل ذلك على أنه تفسير معنى لا تفسير
إعراب ، إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل .
وأجاز الزمخشري أن يكون التقدير : ووصية الذين يتوفون ، أو : وحكم الذين يتوفون
وصية لأزواجهم ، فيكون ذلك مبتدأ على بحذف مضاف ، وأجاز أيضاً أن يكون التقدير :
والذين يتوفون أهل وصية ، فجعل المحذوف من الخبر ، ولا ضرورة تدعو بنا إلى بادّعاء
بهذا الحذف ، وانتصاب وصية على إضمار فعل ، التقدير : والذين يتوفون ، فيكون :
والذين ، مبتدأ و : يوصون المحذوف ، هو الخبر ، وقدره ابن عطية : ليوصوا ، وأجاز
الزمخشري ارتفاع : والذين ، على أنه مفعول لم يسم فاعله على إضمار فعل ، وانتصاب
وصية على أنه مفعول ثان ، التقدير : وألزم الذين يتوفون منكم وصية ، وهذا ضعيف ،
إذ ليس من مواضع إضمار الفعل ، ومثله في الضعف من رفع : والذين ، على إضمار :
وليوص ، الذين يتوفون ، وبنصب وصية على المصدر ، ووفي حرف ابن مسعود : الوصية
لأزواجهم ، وهو مرفوع بالإبتداء و : لأزواجهم الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف أي :
عليهم الوصية .
وانتصب متاعاً إما على إضمار فعل من لفظه أي : متعوهنّ متاعاً ، أو من غير لفظه أي
: جعل الله لهنّ متاعاً ، أو بقوله : وصية أهو مصدر منوّن يعمل ، كقوله : فلولا
رجاء النصر منك ورهبة
عقابك قد كانوا لنا كالموارد
ويكون الأصل : بمتاع ، ثم حذف حرف الجر ؟ فإن نصبت : وصية فيجوز أن ينتصب متاعاً
بالفعل الناصب لقوله : وصية ، ويكون انتصابه على المصدر ، لأن معنى : يوصي به بمتع
بكذا ، وأجازوا أن يكون متاعاً صفة لوصية ، وبدلاً وحالاً من الموصين ، أي :
ممتعين ، أو ذوى متاع ، ويجوز أن ينتصب حالاً من أزواجهم ، أي : ممتعات أو ذوات
متاع ، ويكون حالاً مقدّرة إن كانت الوصية من الأزواج .
وقرأ أبيّ : متاع لأزواجهم متاعاً إلى الحول ، وروي عنه : فمتاع ، ودخول الفاء في
خبر : والذين ، لأنه موصول ضمن معنى الشرط ، فكأنه قيل : ومن يتوف ، وينتصب :
متاعاً إلى الحول ، بهذا المصدر ، إذ معناه التمتيع ، كقولك : أعجبني ضرب لك زيداً
ضرباً شديداً .
وانتصب : غير إخراج ، صفة لمتاعاً ، أو بدلاً من متاع أو حالاً من الأزواج أي :
غير مخرجات ، أو : من الموصين أي : غير مخرجين ، أو مصدراً مؤكداً ، أي : لا
إخراجاً ، قاله الأخفش .
( فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِن
مَّعْرُوفٍ ( منع من له الولاية عليهنّ من إخراجهنّ ، فإن خرجن مختارات للخروج
ارتفع الحرج عن الناظر في أمرهنّ ، إذ خروجهنّ مختارات جائز لهنّ ، وموضح انقطاع
تعلقهنّ بحال الميت ، فليس له منعهنّ
" صفحة رقم 255 "
مما يفعلن في أنفسهنّ من : تزويج ، وترك إحداد ، وتزين ، وخروج ، وتعرض للخطاب ،
إذا كان ذلك بالمعروف شرعاً .
ويتعلق : فيما فعلن ، بما يتعلق به ، عليكم أي : فلا جناح يستقر عليكم فيما فعلن .
وما ، موصولة ، والعائد محذوف ، أي : فعلنه ، و : من معروف ، في موضع الحال من
الضمير المحذوف في : فعلن ، فيتعلق بمحذوف أي فعلنه كائناً من معروف .
وجاء هنا : من معروف ، نكرة مجرورة بمن ، وفي الآية الناسخة لها على قول الجمهور ،
جاء : بالمعروف ، معرفاً مجروراً بالباء .
والألف واللام فيه نظيرتها في قولك : لقيت رجلاً ، ثم تقول : الرجل من وصفه كذا
وكذا ، وكذلك : إن الآية السابقة متقدمة في التلاوة متأخرة في التنزيل ، وهذه
بعكسها ، ونظير ذلك ) سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ ( على
ظاهر ما نقل مع قوله : ) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ).
) وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ ( ختم الآية بهاتين الصفتين ، فقوله : عزيز ، إظهار
للغلبة والقهر لمن منع من إنفاذ الوصية بالتمتيع المذكور ، أو أخرجهّن وهنّ لا
يخترن الخروج ، ومشعر بالوعيد على ذلك . وقوله : حكيم ، إظهار أن ما شرع من ذلك
فهو جارٍ على الحكمة والإتقان ، ووضع الأشياء مواضعها .
قال ابن عطية : وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلاَّ ما قاله الطبري عن
مجاهد وفي ذلك نظر على الطبري . إنتهى كلامه .
وقد تقدّم أوّل الآي ما نقل عن مجاهد من أنها محكمة ، وهو قول ابن عطية في ذلك .
البقرة : ( 241 ) وللمطلقات متاع بالمعروف . . . . .
( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ( ظاهره العموم كما ذهب إليه أبو ثور
، وقد تقدّم في قوله : ) وَمَتّعُوهُنَّ ( اختلاف العلماء فيما يخصص به العموم ،
فأغنى عن إعادته ، وتعلق : بالمعروف ، بما تعلق به للمطلقات ، وقيل بقوله : متاع ،
وقيل : المراد بالمتاع هنا نفقة العدّة .
( حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ). قال ابن زيد : نزلت هذه الآية مؤكدة لأمر المتعة ،
لأنه نزل قبل : ) حَقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( فقال رجل : فإن لم أرد أن أحسن لم
أمتع ، فنزلت ) حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ).
وإعراب : حقاً ، هنا كإعراب : حقاً على المحسنين ، وظاهر : المتقين : من يتصف
بالتقوى التي هي أخص من اتقاء الشرك ، وخصوا بالذكر تشريفاً لهم ، أو لأنهم أكثر
الناس وقوفاً ، والله أسرعهم لامتثال أمر الله ، وقيل : على المتقين أي : متقي
الشرك .
البقرة : ( 242 ) كذلك يبين الله . . . . .
( كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ( أي مثل هذا التبيين الذي سبق من
الأحكام ، يبين لكم في المستقبل ما بقي من الأحكام التي يكلفها العباد .
( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ما يراد منكم من التزام الشرائع والوقوف عندها ، لأن
التبيين للأشياء مما يتضح للعقل بأول إدراك ، بخلاف الأشياء المغيبات والمجملات ،
فإن العقل يرتبك فيها ، ولا يكاد يحصل منها على طائل .
قيل : وفي هذه الآيات من بدائع البديع ، وصنوف الفصاحة : النقل من صيغة : إفعلوا ،
إلى : فاعلوا ، للمبالغة وذلك في : حافظوا ، والاختصاص بالذكر في : والصلاة الوسطى
، والطباق المعنوي في : فإن خفتم .
لأن التقدير في : حافظوا ، وهو مراعاة أوقاتها وهيآتها إذا كنتم آمنين ، والحذف في
: فإن خفتم ، العدوّ ، أو ما جرى مجراه . وفي : فرجالاً ، أي : فصلوا رجالاً ، وفي
: وصية لأزواجهم ، سواء رفع أم نصب ، وفي : غير إخراج ، أي : لهنّ من مكانهنّ الذي
يعتدون فيه ، وفي : فإن خرجن من بيوتهنّ من غير رضا منهنّ ، وفي : فيما فعلن في
أنفسهنّ ، أي : من ميلهنّ إلى التزويج أو الزينة بعد انقضاء المدّة وفي : بالمعروف
، أي : عادة أو شرعاً وفي : عزيز ، أي : انتقامه ، وفي : حكيم ، في أحكامه . وفي
قوله : حقاً ، أي : حق ذلك حقاً ، وفي : على المتقين ، أي عذاب الله والتشبيه : في
: كما عملكم ، والتجنيس المماثل : وهو أن يكون بفعلين أو بأسمين ، وذلك في : علمكم
ما لم تكونوا تعلمون ، والتجنيس المغاير : في غير إخراج فان خرجهن ، والمجاز في :
يتوفون ، أي يقاربون الوفاة ، والتكرار : في متاعاً إلى الحول ، ثم قال :
وللمطلقات متاع ، فيكون للتأكيد إن كان إياه ولاختلاف المعنيين إن كان غيره .
" صفحة رقم 256 "
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة حكم المتوفى عنها زوجها ، وأن عدتها أربعة أشهر وعشر
وأنهنّ إذا انقضت عدتهنّ لا حرج على من كان متولياً أمرهنّ من ولي أوحاكم فيما
فعلن من : تعرض لخطبة ، وتزين ، وترك إحداد ، وتزوّج وذلك بالمعروف شرعاً ، وأعلم
تعالى أنه خبير بما يصدر منا ، وأنه لا جناح على من عرّض بالخطبة أو أكنّ بالخطبة
أو أكنّ التزويج في نفسه ، وأفهم ذلك أن التصريح فيه الجناح ، ثم ، إنه تعالى عذر
في التعريض بأن النفوس تتوق إلى التزوّج وذكر النساء ، ونهى تعالى عن مواعدة السر
وهو النكاح ، وأباح قولاً معروفاً من التنبيه به على أن المرأة مرغوب فيها ، فإن
في ذلك جبراً لها وبعض تأنيس منه لها بذلك . ثم نهى عن بت النكاح قبل انقضاء
العدّة ، وأعلم أن ما في نفس الإنسان يعلمه الله ، وأمر بأن يحذر ، ولما كان الأمر
بالحذر يستدعي مخوفاً ، أعلم أنه غفور يستر الذنب ، حليم يصفح عن المسيء ، ليتعادل
خوف المؤمن ورجاؤه ، ثم ذكر رفع الحرج عن من طلق المرأة قبل المسيس ، أو قبل أن
يفرض لها الصداق ، إذ كان يتوهم أن الطلاق قبل الدخول بها لا يباح ، ثم أمر
بالتمتيع ليكون ذلك عوضاً لغير المدخول بها مما كان فاتها من الزوج ، ومن نصف
الصداق الذي تشطر بالطلاق ، وجبراً لها بذلك ولغير المفروض لها ، وأن ذلك التمتيع
على حسب وجد الزوج وإقتاره ، ولم يعين المقدار ، بل قال : إن ذلك بالمعروف ، وهو
الذي ألف عادة وشرعاً ، وأن ذلك حق على من كان محسناً . ثم ذكر أنه إذا اطلق قبل
المسيس وبعد الفرض فإنه يتشطر المسمى ، فيجب لها نصف الصداق إلاَّ إن عفت المرأة
فلم تأخذ منه شيئاً ، أو عفا الزوج فأدى إليها الصداق كاملاً إذا كان الطلاق إنما
كان من جهته ، ثم ذكر أن العفو من أي جهة كان منهما أقرب لتحصيل التقوى للعافي ،
إذ هو : إما بين تارك حقه ، أو باذل فوق الحق . ثم نهى عن نسيان الفضل ، ففي هذا
النهي الأمر بالفضل .
ثم ختم ذلك بأنه بصير بجميع أعمالهم ، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء باساءته .
ولما ذكر تعالى أحكام النكاح ، وكادت تستغرف المكلف ، نبه تعالى على أشرف العبادات
التي يتقرب بها إلى الله تعالى المكلف ، وأمر بالمحافظة عليها وهي : الصلوات ، وخص
الوسطى منها بالذكر تنبيهاً على فضلها ، ومن تسميتها بالوسطى تبين تمييزها على
غيرها ، وهي بلا شك صلاة العصر ، ثم أمر بالقيام لله متلبسين بطاعته ، ثم للمبالغة
في توكيد إيجاب الصلوات لم يسامح بتركها حالة الخوف ، بل أمر أن تؤدّى في تلك الحال
، سواء كان الخائف ماشياً أو راكباً ، وإن كان في ذلك بعض اختلال لشروطها ؛ ثم أمر
أن تؤدّي على حالها الأول من إتمام شروطها ، وهيآتها إذا أمن الخائف ، وأن يؤديها
على الحالة التي علمه الله في أدائها قبل الخوف .
وذكر أن اللواتي يتوفى عنهنّ أزواجهنّ لهن وصية بتمتيع إلى انقضاء حول من وفاة
الأزواج ، وأنهنّ لا يخرجن من بيوتهنّ في ذلك الحول ، فإن اخترن الخروج فخرجن ،
فلا جناح على متولي أمرها فيما فعلت في نفسها ، ثم أعلم أنه عزيز لا يغلب و يقهر ،
حكيم بوضع الأشياء مواضعها .
ثم ذكر تعالى أن للمطلقات متاعاً مما عرف شرعاً وعادة ، واقتضى ذلك عموم كل مطلقة
، وأن ذلك المتاع حق على من اتقى .
ولما كان تعالى قد بين عدة أحكام فيما تقدّم من الآيات ، أحال على ذلك التبيين ،
وشبه التبيين الذي قد يأتي لسائر الآيات بالتبيين الذي سبق . وان التبيين هو
لرجائكم أن تتعقلوا عن الله أحكامه فتجنبوا ما نهى تعالى عنه ، وتمتثلوا ما به أمر
تعالى .
2 ( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ
حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
يَشْكُرُونَ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَلَمْ
تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِىإِسْرءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ
لِنَبِىٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَال
" صفحة رقم 257 "
َ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ
وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن
دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ
إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى
يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ
يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن
يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
البقرة : ( 243 ) ألم تر إلى . . . . .
ألف : عدد معروف وجمعه في القلة آلاف وفي الكثرة ألوف ، ويقال : آلفت الدراهم
وآلفت هي ، وقيل : ألوف جمع آلف كشاهد وشهود .
القرض : القطع بالسن ومنه سمى المقراض لأنه يقطع به ، ويقال : انقرض القوم أي
ماتوا ، وانقطع خبرهم ، ومنه : أقرضت فلاناً أي قطعت له ؛ قطعة من المال ، وقال
الأخفش : تقول العرب : لك عندي قرض صدق وقرض سوء ، لأمر تأتي مسرته ومساءته ؛ وقال
الزجاج : القرض : البلاء الحسن والبلاء السيء ؛ وقال الليث : القرض : اسم لكل ما
يلتمس عليه الجزاء ، يقال : أقرض فلان فلاناً ، أعطاه ما يتجازاه منه . والاسم منه
: القرض ، وهو ما أعطيته لتكافىء عليه ؛ وقال ابن كيسان : القرض : أن تعطي شيئاً
ليرجع إليك مثله ، ويقال : تقارضا الثناء أثنى كل واحد منهما على صاحبه ، ويقال
قارضه الودّ والثناء ؛ وحكى بالكسائي : القِرض بالكسر ، والأشهر بفتح القاف .
الضعف : مثل قدرين متساويين ، ويقال مثل الشيء في المقدار ، وضعف الشيء مثله ثلاث
مرات إلاَّ أنه إذا قيل ضعفان فقد يطلق على الإثنين المثلين في القدر من حيث إن كل
واحد يضعف الآخر ، كما يقال : الزوجان لكل واحد منهما زوجاً للآخر ، وفرق بعضهم
بين : يضاعف ويضعف ، فقال : التضعيف : لما جعل مثلين ، والمضاعفة لما زيد عليه
أكثر من ذلك .
القبض : ضم الشيء والجمع عليه والبسط ضده ، ومنه قول أبي تمام : تعوّد بسط الكف
حتى لو أنه
دعاها لقبض لم تجبه أنامله
الملأ : الأشراف من الناس ، وهو اسم جمع ، ويجمع على أملاء ، قال الشاعر : وقال
لها الأملاء من كل معشر
وخير أقاويل الرجال سديدها
وسموا بذلك لأنهم يملؤون العيون هيبة ، أو المكان إذا حضروه ، أو لأنهم مليئون بما
يحتاج إليه . وقال الفراء : الملأ
" صفحة رقم 258 "
الرجال في كل القرآن لا تكون فيهم امرأة ، وكذلك : القوم ، والنفر ، والرهط ؛ وقال
الزجاج : الملأ : هم الوجوه وذوو الرأي .
طالوت : اسمه بالسريانية ، سايل ، وبالعبرانية ساول بن قيس ، من أولاد بنيامين بن
يعقوب ، وسمي طالوت . قالوا : لطوله ، وكان أطول من كل أحد برأسه ومنكبيه ، فعلى بهذا
يكون وزنه : فعلوتاً ، كرحموت وملكوت ، فتكون ألفه منقلبة عن واو ، إلاَّ أنه يعكر
على هذا الاشتقاق منعه الصرف ، إلا أن يقال : إن هذا التركيب مفقود في اللسان
العربي ، ولم يوجد إلاَّ في اللسان العجمي . وقد اتفقت اللغتان في مادّة الكلمة ،
كما زعموا في : يعقوب ، أنه مشتق من العقب ، لكن هذا التركيب بهذا المعنى مفقود في
اللسان العربي .
الجسم : معروف ، وجمع في الكثرة على : جسوم إذا كان عظيم الجسم .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ( مناسبة
هذه الآية لما قبلها أنه تعالى متى ذكر شيئاً من الأحكام التكليفية ، أعقب ذلك
بشيء من القصص على سبيل الاعتبار للسامع ، فيحمله ذلك على الإنقياد وترك العناد ،
وكان تعالى قد ذكر أشياء من أحكام الموتى ومن خلفوا ، فأعقب ذلك بذكر هذه القصة
العجيبة ، وكيف أمات الله هؤلاء الخارجين من ديارهم ، ثم أحياهم في الدنيا ، فكما
كان قادراً على إحيائهم في الدنيا هو قادر على إحياء المتوفين في الآخرة ، فيجازي
كلاَّ منهم بما عمل . ففي هذه القصة تنبيه على المعاد ، وأنه كائن لا محالة ،
فيليق بكل عاقل أن يعمل لمعاده : بأن يحافظ على عبادة ربه ، وأن يوفي في حقوق
عباده .
وقيل : لما بين تعالى حكم النكاح ، بين حكم القتال ، لأن النكاح تحصين للدّين ،
والقتال تحصين للدّين والمال والروح ، وقيل : مناسبة هذه الآية لما قبلها : هو أنه
لما ذكر : ) كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (
ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته ، وبدائع قدرته .
وهذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي ، فصار الكلام تقريراً ، فيمكن أن يكون
المخاطب علم بهذه الصفة قبل نزول هذه الآية ، ويجوز أن يكون لم يعرفها إلاَّ من
هذه الآية ، ومعناه التنبيه والتعجب من حال هؤلاء ، والرؤية هنا علمية ، وضمنت
معنى ما يتعدّى بإلى ، فلذلك لم يتعد إلى مفعولين ، وكأنه قيل : ألم ينته علمك إلى
كذا .
وقال الراغب : رأيت ، يتعدّى بنفسه دون الجار ، لكن لما استعير قولهم : ألم تر
المعنى : ألم تنظر ، عدّي تعديته ، وقلما يستعمل ذلك في غير التقرير ، ما يقال :
رأيت إلى كذا . إنتهى .
و : ألم تر ، جرى مجرى التعجب في لسانهم ، كما جاء في الحديث : ( ألم تر إلى مجزز
) وذلك في رؤيته أرجل زيد وابنه أسامه ، وكان أسود ، فقال هذه الأقدام بعضها من
بعض ، فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على بعض نسائه ، فقال على سبيل
التعجب : ( ألم تر إلى مجزز الحديث .
وقد جاء هذا اللفظ في القرآن : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ ( )
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ ( )
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ ( وقال الشاعر : ألم ترياني كلما
جئت طارقا
وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
ويجوز أن يكون الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويجوز أن يكون لكل سامع .
وقرأ السلمي : تر ، بسكون الراء ، قالوا : على توهم أن الراء آخر الكلمة ، قال
الراجز : قالت سليمى اشتر لنا سويقا
واشتر فعجل خادماً لبيقا
ويجوز أن يكون من إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقد جاء في القرآن : كإثبات ألف : )
الظُّنُونَاْ ( ) والسبيلا ( ) والرسولا ( في الوصل .
وهؤلاء الذين خرجوا قوم من بني اسرائيل أمروا بالجهاد ، فخافوا القتل ، فخرجوا من
ديارهم فراراً من ذلك ، فأماتهم الله ليعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم
أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله : ) تُفْلِحُونَ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (
الآية .
وقيل : قوم من بني اسرائيل وقع فيهم الوباء فخرجوا فراراً منه ، فأماتهم الله فبنى
عليهم سائر بني اسرائيل حائطاً حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فدعا الله
فأحياهم له . حكى هذا قوم من اليهود لعمر بن الخطاب .
وقال السدّي : هم أمّة كانت قبل واسط في قرية يقال لها داوردان وقع بها الطاعون ،
فهربوا منه ، فأماتهم الله ،
" صفحة رقم 259 "
ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أن لا مفر من قضاء الله . وقيل : مر عليهم حزقيل بعد
زمان طويل وقد عريت عظامهم ، وتفرّقت أوصالهم ، فلوى شدقه وأصابعه تعجباً مما رأى
أي . فأوحى إليه : نادِ فيهم أن قوموا بإذن الله . فنادى ، فنظر إليهم قياماً
يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله لا أنت . وممن قال فرّوا من الطاعون :
الحسن ، وعمار بن دينار .
وقيل : فروا من الحمى ، حكاه النقاش .
وقد كثر الاختلاف والزيادة والنقص في هذه القصص ، والله أعلم بصحة ذلك ، ولا تعارض
بين هذه القصص ، إلاَّ أن عين أن ) الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ ( هم من
ذكر في القصة لا غير ، وإلاَّ فيجوز أن ذكرت كل قصة على سبيل المثال ، إذ لا يمتنع
أن يفر ناسٌ من الجهاد ، وناس من الطاعون ، وناس من الحمى ، فيميتهم ثم يحييهم
ليعتبروا بذلك ، ويعتبر من يأتي بعدهم ، وليعلموا جميعاً أن الإماتة والإحياء بيد
الله ، فلا ينبغي أن يخاف من شيء مقدّر ، ولا يغتر فطن بحيلة أنها تنجيه مما شاء
الله .
( وَهُمْ ( في هذا تنبيه على أن الكثرة والتعاضد ، وإن كانا نافعين في دفع الأذيات
الدنيوية ، فليسا بمغنيين في الأمور الإلهية . وهي جملة حالية ، وألوف جمع ألف جمع
كثرة ، فناسب أن يفسر بما زاد على عشرة آلاف ، فقيل : ستمائة ألف . وقال عطاء :
تسعون ، وقيل : ثمانون ، وقال عطاء أيضاً سبعون وقال ابن عباس : أربعون . وقال
أيضاً : بضع وثلاثون . وقال أبو مالك : ثلاثون ، يعنون ألفاً .
وقد فسر بما هو لأدنى العدد استعير لفظ الجمع الكثير للجمع القليل ، فقال أبو روق
: عشرة آلاف ، وقال الكلبي ومقاتل : ثمانية ، وقال أبو صالح : سبعة ، وقال ابن
عباس ، وابن جبير : أربعة وقال عطاء الخراساني : ثلاثة آلاف .
وقال البغوى : أَلاوْلى قول من قال : إنهم كانوا زيادة على عشرة آلاف ، لأن ألوفاً
جمع الكثير ، ولا يقال لما دون العشرة الآلاف ألوف . انتهى . وهذا ليس كما ذكر ،
فقد يستعار أحد الجمعين للآخر ، وإن كان الأصل استعمال كل واحد منهما في موضوعه .
وهذه التقديرات كلها لا دليل على شيء منها ، ولفظ القرآن : ) دِيَارِهِمْ وَهُمْ
أُلُوفٌ ( لم ينص على عدد معين ، ويحتمل أن لا يراد ظاهر جمع ألف ، بل يكون ذلك
المراد منه التكثير ، كأنه قيل : خرجوا من ديارهم وهم عالم كثيرون ، لا يكادون
يحصيهم عادَّ ، فعبر عن هذا المعنى بقوله : وهم ألوف ، كما يصح أن تقول : جئتك ألف
مرة ، لا تريد حقيقة العدد إنما تريد جئتك مراراً كثيرة لا تكاد تحصى من كثرتها
ونظير ذلك قول الشاعر : هو المنزل الآلاف من جوّ ناعط
بني أسد حزناً من الأرض أوعرا
ولعل من كان معه لم يكن ألوفاً ، فضلاً عن أن يكونوا آلافاً ، ولكنه أراد بذلك
التكثير ، لأن العرب تكثر بآلاف وتجمعه ، والجمهور على أن قوله : وهم ألوف ، جمع
ألف العدد المعروف الذي هو تكرير مائة عشر مرات ، وقال ابن زيد : ألوف جمع آلف .
كقاعد وقعود . أي : خرجوا وهم مؤتلفون لم يخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم ، بل
ائتلفوا ، فخالفت هذه الفرقة ، فخرجت فراراً من الموت وابتغاء الحياة ، فأماتهم
الله في منجاهم بزعمهم . وقال الزمخشري : وهذا من بدع التفاسير ، وهو كما قال .
وقال القاضي : كونه جمع ألف من العدد أولى ، لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة
تفيد مزيد اعتبار ، وأما وروده على قوم بينهم ائتلاف فكوروده وبينهم اختلاف في أن
وجه الاعتبار لا يتغير .
( حَذَرَ الْمَوْتِ ( هذا علة لخروجهم ، لما غلب على ظنهم الموت بالطاعون أو
بالجهاد ، حملهم على الخروج ذلك ، وهو مفعول من أجله ، وشروط
" صفحة رقم 260 "
المفعول له موجودة فيه من كونه مصدراً متحد الفاعل والزمان .
( فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ( ظاهره أن ثَمّ قولاً لله ، فقيل : قال لهم
ذلك على لسان الرسول الذي أذن له في أن يقول لهم ذلك عن الله ، وقيل : على لسان
الملك . وحكي : أن ملكين صاحا بهم : موتوا ، فماتوا . وقيل : سمعت الملائكة ذلك
فتوفتهم ، وقيل : لا قول هناك ، وهو كناية عن قابليتهم الموت في ساعة واحدةٍ
وموتهم كموتة رجل واحد ، والمعنى : فأماتهم ، لكن أخرج ذلك مخرج الشخص المأمور
بشيء ، المسرع الامتثال من غير توقف ، ولا امتناع ، كقوله تعالى : ) كُنْ
فَيَكُونُ ).
وفي الكلام حذف ، التقدير : فماتوا ، وظاهر هذا الموت مفارقة الأرواح الأجساد ،
فقيل : ماتوا ثمانية أيام ثم أحياهم بعد ، بدعاء حزقيل ؛ وقيل : سبعة أيام ، وقد
تقدّم في بعض القصص أنه عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، وهذا لا يكون في العادة في
ثمانية أيام ، وهذا الموت ليس بموت الآجال ، بل جعله الله في هؤلاء كمرض وحادث مما
يحدث على البشر ، كحال ) الَّذِى مَرَجَ عَلَى قَرْيَةٍ ( المذكورة بعد هذا .
( ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ( العطف بثم يدل على تراخي الأحياء عن الإماتة ، قال قتادة :
أحياهم ليستوفوا آجالهم .
وظاهره أن الله هو الذي أحياهم بغير واسطة ، وقال مقاتل : كانوا قوم حزقيل ، فخرج
فوجدهم موتى ، فأوحى الله إليه : إني جعلت حياتهم إليك ، فقال لهم : احيوا . وقال
ابن عباس : النبي شمعون ، وريح الموتى توجد في أولادهم . وقيل : النبي يوشع بن نون
، وقال وهب : اسمه شمويل وهو ذو الكفل ، وقال مجاهد : لما أحيوا رجعوا إلى قومهم
يعرقون ، لكن سحنة الموت على وجوههم ولا يلبس أحد منهم ثوباً إلاَّ عاد كفناً
دسماً ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم ، وقيل : معنى إماتتهم تذليلهم تذليلاً
يجري مجرى الموت ، فلم تغن ، عنهم كثرتهم وتظاهرهم من الله شيئاً ، ثم أعانهم
وخلصهم ليعرفوا قدرة الله في أنه يذل من يشاء ، ويعز من يشاء ، وقيل : عنى بالموت
: الجهل ، وبالحياة : العلم ، كما يحيا الجسد بالروح .
وأتت هذه القصة بين يدي الأمر بالقتال تشجيعاً للمؤمنين ، وحثاً على الجهاد
والتعريض للشهادة ، وإعلاماً أن لا مفر مما قضى الله تعالى : ) قُل لَّن
يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ( واحتجاجاً على اليهود ، والنصارى
بإنبائه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بما لا يدفعون صحته ، مع كونه أمّياً لم يقرأ كتاباً
، ولم يدارس أحداً ، وعلى مشركي العرب إذ من قرأ الكتب يصدقه في إخباره بما جاء به
مما هو في كتبهم .
( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ( أكد هذه الجملة : بإن ، واللام ،
وأتى الخبر : لذو ، الدالة على الشرف ، بخلاف صاحب ، و : الناس ، هنا عام ، لأن كل
أحد لله عليه فضل أيّ فضل ، وخصوصاً هنا ، حيث نبههم على ما به يستبصرون ويعتبرون
على النشأة الآخرة ، وأنها ممكنة عقلا ، كائنة بإخباره تعالى : إذ أعاد إلى
الأجسام البالية المشاهدة بالعين الأرواح المفارقة ، وأبقاها فيها الأزمان الطويلة
إلى أن قبضها ثانية ، وأي فضل أجل من هذا الفضل ، إذ تتضمن جميع كليات العقائد
المنجية وجزئياتها : ويجوز أن يراد : بالناس ، ههنا الخصوص ، وهم هؤلاء الذين تفضل
عليهم بالنعم ، وأمرهم بالجهاد ففروا منه خوفاً من الموت ، فأماتهم ، ثم تفضل
عليهم بالإحياء وطوّل لهم في الحياة ليستيقنوا أن لا مفر من القدر ، ويستدركوا ما
فاتهم من الطاعات ، وقص الله علينا ذلك تنبيهاً على أن لا نسلك مسلكهم بل نمتثل ما
يأمر به تعالى .
( وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ( تقدّم فضل الله على جميع الناس
بالإيجاد والرزق ، وغير ذلك ، فكان المناسب لهم أنهم يشكرون الله على ذلك ، وهذا
الاستدراك : بلكن ، مما تضمنه قوله : ) إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
( والتقدير : فيجب عليهم أن يشكروا الله على فضله ، فاستدرك بأن أكثرهم لا يشكرون
، ودل على أن الشاكر قليل ، كقوله : ) وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ ( ويخص
: الناس ، الثاني بالمكلفين .
البقرة : ( 244 ) وقاتلوا في سبيل . . . . .
( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( هذا خطاب لهذه الأمة بالجهاد في سبيل الله ،
وتقدّمت تلك القصة ، كما قلنا ، تنبيهاً لهذه الأمة أن لا تفر من الموت كفرار
أولئك ، وتشجيعاً لها ، وتثبيتاً . وروي عن ابن عباس ، والضحاك : أنه أمر لمن
أحياهم الله بعد موتهم بالجهاد ، أي : وقال لهم قاتلوا في سبيل الله . وقال الطبري
: لا وجه لهذا القول . انتهى .
والذي يظهر القول الأول ، وأن هذه الآية ملتحمة بقوله : ) حَافِظُواْ عَلَى
الصَّلَواتِ ( وبقوله
" صفحة رقم 261 "
) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ( لأن في هذا إشعاراً بلقاء العدو ،
ثم ما جاء بين هاتين الآيتين جاء كالاعتراض ، فقوله : ) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ( اعتبار بمن مضى ممن فرّ من الموت ، فمات ، أن لا
ننكص ولا نحجم عن القتال ، وبيان المقاتل فيه ، وأنه سبيل الله فيه حث عظيم على
القتال ، إذ كان الإنسان يقاتل للحمية ، ولنيل عرض من الدنيا ، والقتال في سبيل
الله مورث للعز الأبدي والفوز السرمدي .
( وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( يسمع ما يقوله المتخلفون عن
القتال والمتبادرون إليه ، ويعلم ما انطوت عليه النيات ، فيجازي على ذلك .
البقرة : ( 245 ) من ذا الذي . . . . .
( مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً ( هذا على سبيل التأسيس والتقريب للناس بما يفهمونه والله هو
الغني الحميد ، شبه تعالى عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض
، كما شبه بذل النفوس والأموال في الجنة بالبيع والشراء .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله ، وكان ذلك
مما يفضي إلى بذل النفوس والأموال في إعزاز دين الله ، أثنى على من بذل شيئاً من
ماله في طاعة الله ، وكان هذا أقل حرجاً على المؤمنين ، إذ ليس فيه إلاَّ بذل
المال دون النفس ، فأتى بهذه الجملة الإستفهامية المتضمنة معنى الطلب .
قال ابن المغربي : انقسم الخلق حين سمعوا هذه الآية إلى فرق ثلاثة .
الأولى : اليهود ، قالوا : إن رب محمد يحتاج إلينا ونحن أغنياء ، وهذه جهالة عظيمة
، ورد عليهم بقوله : ) لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ
اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ).
والثانية : آثرت الشح والبخل ، وقدّمت الرغبة في المال .
الثالثة : بادرت إلى الامتثال ، كفعل أبي الدحداح وغيره . انتهى .
و : مَنْ ، استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، وخبره : ذا ، و : الذي ، نعت :
لذا ، أو : بدل منه ، ومنع أبو البقاء أن تكون : من ، وذا ، بمنزلة اسم واحد ، كما
كانت : ما ، مع : ذا ، قال : لأن : ما ، أشد إبهاماً من : مَنْ ، إذا كانت : من ،
لمن يعقل . وأصحابنا يجيزون تركيب : من ، مع : ذا ، في الاستفهام وتصيرهما كاسم
واحد ، كما يجيزون ذلك في : ما ، و : ذا ، فيجيزون في : من ذا عندك ، أن يكون : من
وذا ، بمنزلة اسم الاستفهام .
وانتصب لفظ الجلالة : بيقرض ، وهو على حذف مضاف أي : عباد الله المحاويج ، أسند
الإستقراض إلى الله وهو المنزه عن الحاجات ، ترغيباً في الصدقة ، كما أضاف الإحسان
إلى المريض والجائع والعطشان إلى نفسه تعالى في قوله ، جل وعلا : ( يا إبن آدم
مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني ) . الحديث خرجه مسلم ،
والبخاري .
وانتصب : قرضاً ، على المصدر الجاري على غير الصدر ، فكأنه قيل : إقراضاً ، أو على
أنه مفعول به ، فيكون بمعنى : مقروض ، أي : قطعة من المال ، كالخلق بمعنى المخلوق
.
وانتصب : حسناً ، على أن يكون صفة لقوله : قرضاً ، وهو الظاهر ، أو على أن يكون
نعتاً لمصدر محذوف إذا أعربنا قرضاً مفعولاً به ، أي : إقراضاً حسناً ، ووصفه
بالحسن لكونه طيب النية خالصاً لله ، قاله ابن المبارك . أو : لكونه يحتسب عند الله
ثوابه ، أو : لكونه جيداً كثيراً ، أو : لكونه بلا منّ ولا أذىً ، قاله عمرو بن
عثمان ، أو : لكونه لا يطلب به عوضاً ، قاله سهيل بن عبد الله القشيري التستري .
وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : فيضعفه ، بالتشديد من ضعف ، والباقون : فيضاعفه ، من
ضاعف ، وقد تقدم أنهما بمعنى . وقيل : معناهما مختلف ، وقد ذكرنا ذلك عند الكلام
على المفردات .
وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، بنصب الفاء ، والباقون بالرفع على العطف على صلة الذي ،
وهو قوله : يقرض ، أو على الاستئناف ، أي : فهو يضاعفه ، والأول أحسن ، لأنه لا
حذف فيه ، والنصب على أن يكون جواباً للاستفهام على المعنى ، لأن الاستفهام ، وإن
كان عن المقرض ، فهو عن الإقراض في المعنى فكأنه قيل : أيقرض الله أحد فيضاعفه ؟
وقال أبو علي : الرفع أحسن ، وذهب بعض النحويين إلى أنه : إذا كان الاستفهام عن
المسند إليه الحكم ، لا عن الحكم ، فلا يجوز النصب بإضمار أن بعد الفاء في الجواب
، فهو محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وقد جاء في الحديث : ( من يدعوني فأستجيب له
، من يستغفرني فأغفر له ) . وكذلك سائر أدوات الإستفهام الإسمية والحرفية .
وانتصب : أضعافاً ، على الحال من الهاء في : يضاعفه ، قيل : ويجوز أن ينتصب على
أنه مفعول به ، تضمن معنى فيضاعفه : فيصيره . ويجوز أن ينتصب على المصدر باعتبار
أن يطلق الضعف ، وهو المضاعف أو المضعف ، بمعنى المضاعفة أو التضعيف ، كما أطلق
العطاء وهو اسم
" صفحة رقم 262 "
المعطى بمعنى الإعطاء ، وجمع لاختلاف جهات التضعيف باعتبار الإخلاص ، وهذه
المضاعفة غير محدودة لكنها كثيرة .
قال الحسن ، والسدّي : لا يعلم كُنْهَ التضعيف إلاَّ الله تعالى : وهو قول ابن
عباس ، وقد رويت مقادير من التضعيف ، وجاء في القرآن : ) كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ ( ثم قال : )
وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ).
قيل والآية عامّة في سائر وجوه البرّ من : صدقة ، وجهاد ، وغير ذلك ، وقيل : خاصة
بالنفقة في الجهاد ، وقيل : بالصدقة وإنفاق المال على الفقراء المحتاجين .
( وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ( أي : يسلب قوماً ويعطي قوماً ، أو : يقتر ويوسع
، قاله الحسن ، أو : يقبض الصدقات ويخلف البذل مبسوطاً ، أو : يقبض أي : يميت لأن
من أماته فقد قبضه ، ويبسط أي : يحييه ، لأن من مدّ له في عمره فقد بسطه ، أو :
يقبض بعض القلوب فلا تنبسط ، ويبسط بعضها فيقدّم خيراً لنفسه ، أو : يقبض بتعجيل
الأجل ، ويبسط بطول الأمل ، أو : يقبض بالخطر ويبسط بالإباحة ، أو : يقبض الصدر
ويوسعه ، أو يقبض يد من يشاء بالإنفاق في سبيله ، يبسط يد من يشاء بالإنفاق ؛ قاله
أبو سليمان الدمشقي وغيره ، أو : يقبض الصدقة ويبسط الثواب ، قاله الزجاج . وهشام
، وقنبل ، والنقاش ، عن الأخفش هنا ، وأبو قرّة عن نافع : يبسط بالسين ، وخير
الحلواني ، عن قالون ، عن نافع ، والباقون : بالصاد .
( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( خبر معناه الوعيد أي : فيجازيكم بأعمالكم .
قيل : وتضمنت هذه الآية الكريمة من ضروب علم البيان ، وصنوف البلاغة : الاستفهام الذي
أجرى مجرى التعجب في قوله : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ( والحذف بين : موتوا
ثم أحياهم ، أي : فماتوا ثم أحياهم ، وفي قوله تعالى : فقال لهم الله ، أي : ملك
الله بإذنه ، وفي لا يشكرون أي : لا يشكرونه ، وفي قوله : سميع لأقوالكم عليم
باعمالكم ، وفي قوله : ترجعون ، فيجازي كلاً بما عمل . والطباق في قوله : موتوا ثم
أحياهم ، وفي : يقبض ويبسط ؛ والتكرار في : على الناس ، ولكن أكثر الناس ؛
والالتفات في : وقاتلوا في سبيل الله ؛ والتشبيه بغير أداته في : قرضاً حسناً ،
شبه قبوله تعالى إنفاق العبد في سبيله ومجازاته عليه بالقرض الحقيقي ، فأطلق اسم
القرض عليه ، والاختصاص بوصفه بقوله : حسناً ؛ والتجنيس المغاير في قوله : فيضاعفه
له أضعافاً .
البقرة : ( 246 ) ألم تر إلى . . . . .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ
قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى ( مناسبة هذه
الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أنه لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله ، وكان
قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت ، إما بالقتال أو بالطاعون ،
على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين ، والإعلام بأنه : لا ينجي حذر من قدر ، أردف
ذلك بأن القتال كان مطلوباً مشروعاً في الأمم السابقة ، فليس من الأحكام التي
خصصتم بها ، لأن ما وقع فيه الاشتراك كانت النفس أميل لقبوله من التكليف الذي يكون
يقع به الانفراد ، وتقدّم الكلام على قوله : ألم تر ، فأغنى عن إعادته ، والملأ
هنا ، قال ابن عطية : جميع القوم ، قال : لأن المعنى يقتضيه ، وهذا هو أصل وضع
اللفظة . وتسمي الأشراف الملأ تشبيهاً . إنتهى . يعني : والله أعلم تشبيهاً بجميع
القوم . وقد تقدّم تفسير الملأ في الكلام على المفرات .
( مِن بَنِى إِسْراءيلَ ( في موضع الحال ، فيتعلق بمحذوف أي : كائنين من بني
إسرائيل وعلى مذهب الكوفيين هو صلة للملأ ، لأن الاسم المعرف بالألف واللام يجوز
عندهم أن يكون موصولاً ، كما زعموا ذلك في قوله :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله
فأكرم عندهم صلة للبيت لا موضع له من الإعراب ، كذلك : من بني إسرائيل ، العامل
فيه لا موضع له من الإعراب .
( مِن بَعْدِ مُوسَى ( متعلق بما تعلق به : ) مِن بَنِى إِسْراءيلَ ( هو كائنين ،
وتعدّى إلى حرفي جر من لفظ واحد لإختلاف المعنى
" صفحة رقم 263 "
فمن الأولى تبعيضية و : من ، الثانية لابتداء الغاية ، إذ العامل في هذا الظرف ،
قالوا : تر ، وقالوا : هو بدل من : بعد ، لأنهما زمانان لبني إسرائيل ، ولا كلاهما
لا يصح .
أما الأول : فإن ألم تر تقرير ، والمعنى : قد انتهى علمك إلى الملأ من بني إسرائيل
، وقد نظرت إلى بني إسرائيل إذ قالوا ، وليس انتهاء عليه إليهم ، ولا نظره إليهم
كان في وقت قولهم لنبي لهم : ) ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ( وإذا لم يكن ظرفاً
للإنتهاء ، ولا للنظر ، فكيف يكون معمولاً لهما ، أو لأحدهما ؟ هذا ما لا يصح .
وأما الثاني : فبعيد جداً ، لأنه لو كان بدلاً من : بعد ، لكان على تقدير العامل ،
وهو لا يصح دخوله عليه ، أعنى : من ، الداخلة على : بعد ، لا تدخل على : إذ ، لا
تقول : من إذ ، ولو كان من الظروف التي يدخل عليها : من ، كوقت وحين ، لم يصح
المعنى أيضاً ، لأن : من ، بعد : موسى ، حال ، كما قرّرناه . إذا العامل فيه :
كائنين ، ولو قلت : كائنين من حين قالوا لنبي لهم إبعث لنا ملكاً ، لما صح هذا
المعنى ، وإذا بطل هذان الوجهان ، فينظر ما يعمل فيه مما يصح به المعنى ، وقد
وجدناه ، وهو : أن يكون ثَمَّ محذوف به يصح المعنى ، وهو العامل ، وذلك المحذوف
تقديره : ألم تر إلى قصة الملأ ، أو : حديث الملأ ، وما في معناه . لأن الذوات لا
يتعجب منها ، وانما يتعجب مما جرى لهم ، فصار المعنى : ألم تر إلى ما جرى للملأ من
بني إسرائيل من بعد موسى ، إذ قالوا ؟ فالعامل في : إذ ، هو ذلك المحذوف ، والمعنى
على تقديره ، وتعلق قوله : لنبي ، بقالوا ، واللام فيه كما تقدّم للتبليغ ، واسم
هذا النبي : شمويل بن بالي ، قاله ابن عباس ووهب بن منبه ، أو : شمعون ، قاله
السدي ، أو يوشع بن نون ، وقال المحاسبي اسمه عيسى ، وضعف قول من قال : إنه يوشع
بأن يوشع هو فتى موسى عليه السلام ، وبينه وبين داود قرون كثيرة ، وقد طول
المفسرون في هذه ونحن نلخصها فنقول :
لما مات موسى عليه السلام ، خلف من بعده في بني إسرائيل يوشع يقيم فيهم التوارة ،
ثم قبض فخلف حزقيل ، ثم قبض ففشت فهم الأحداث ، حتى عبدوا الأوثان فبعث إليهم
إلياس ، ثم من بعده اليسع ، ثم قبض ، فعظمت فيهم الأحداث ، وظهر لهم عدوهم
العمالقة قوم جالوت ، كانوا سكان ساحل بحر الروم ، بين مصر وفلسطين ، وظهروا عليهم
وغلبوا على كثير من بلادهم ، وأسروا من أبناء ملوكهم كثيراً ، وضربوا عليهم الجزية
، وأخذوا توراتهم ، ولم يكن لهم من يدبر أمرهم ، وسألوا الله أن يبعث لهم نبياً
يقاتلون معه ، وكان سبط النبوّة هلكوا إلاَّ امرأة حبلى دعت الله أن يرزقها غلاماً
، فرزقها شمويل ، فتعلم التوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخ من علمائهم ؛ وتبناه
فلما بلغ النبوّة ، أتاه جبريل وهو نائم إلى جنب الشيخ ، وكان لا يأمن عليه ،
فدعاه بلحن الشيخ : يا شمويل ، فقام فزعاً ، وقال : يا أبتِ دعوتني ، فكره أن يقول
له : لا ، فيفزع ، فقال : يا بني نم ، فجرى بذلك له مرتين ، فقال له : إن دعوتك
الثالثة فلا تجبني ، فظهر له جبريل ، فقال له إذهب فبلغ قومك رسالة ربك ، قد بعثك
نبياً فأتاهم فكذبوه ، وقالوا إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله
آية من نبوتك وكان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك ، وكان الملك يسير
بالجموع ، والنبي يسدّده ويرشده وقال وهب : بعث شمويل نبياً فلبثوا أربعين سنة
بأحسن حال ، وكان الله أسقط عنهم الجهاد إلاَّ من قاتلهم ، فلما كتب عليهم القتال
تولوا ، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان .
ومعنى : ابعث لنا ملكاً : انهض لنا من نصدّر عنه في تدبير بالحرب ، وننتهي إبلى
أمره ، وانجزم : نقاتل ، على جواب الأمر .
وقرأ الجمهور بالنونن والجزم ، والضحاك ، وابن أبي عبلة بالياء ورفع اللام على
الصفة للملك ؛ وقرىء بالنون ورفع اللام على بالحال من المجرور وقرىء بالياء والجزم
على جواب الأمر .
( قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَن لا تُقَاتِلُواْ (
لما طلبوا من نبيهم أن ينهض لهم ملكاً ، ورتبوا على بعثه أن يقاتلوا وكانوا قد
ذلوا ، وسبي ملوكهم ، فأخذتهم الأنفة ، ورغبوا في الجهاد ، أراد أن يسثبت ما طلبوه
من الجهاد ، وأن يتعرف ما انطوت عليه
" صفحة رقم 264 "
بواطنهم ، فاستفهم عن مقاربتهم ترك القتال إن كتب عليهم ، فأنكروا أن يكون لهم داع
إلى ترك القتال ، فقالوا : ) وَمَا لَنَا أَن لا نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ( أي هذه حال من يبادر إلى
القتال ، لأنه طالب ثأر ، ومترج أن يكون له الظفر من الله تعالى ، لأنهم علموا أن
ما أصابهم إنما كان بذنوبهم ، فلم أقلعوا وتابوا ، ورجعوا لطوع الأنبياء ، قويت
آمالهم بالنصر والظفر ، قيل : وكان النبي قد ظنّ منهم الجبن والفشل في القتال ،
فلذلك استفهم ، وليبين أن ما ظنه وتوقعه من ذلك يكون منهم ، وكان كما توقع .
وقرأ نافع : عسيتم ، بكسر السين هنا وفي سورة القتال ، وقرأ الباقون بفتحها .
وقد تقدّم الكلام على : عسى ، قال أبو علي : الأكثر فتح السين ، وهو المشهور ،
ووجه الكسر قول العرب : هو عس بذلك ، مثل : حروشج ، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس
عسيتم ، أن يقال : عسي زيد ، مثل : رضي ، فإن قيل : فهو القياس وإن لم يقل فسائغ
أن تأخذ باللغتين وتستعمل إحداهما في موضع الأخرى ، كما فعل ذلك بغيره . إنتهى .
والمحفوظ عن العرب أنه لا تكسر السين إلاَّ مع تاء المتكلم والمخاطب ونون الإناث ،
نحو : عسيتُ ، وعسينَ ، وذلك على سبيل الجواز لا الوجوب ، ويفتح فيما سوى ذلك على
سبيل الوجوب ، ولا يسوغ الكسر نحو : عسى زيد والزيدان عسيا ، والزيدون عسوا ،
والهندان عسيا ، وعساك ، وعاساني ، وعساه . وقاله أبو بكر الأدفوي وغيره : إن أهل
الحجاز يكسرون السين من عسى مع المضمر خاصة ، وإذا قيل : عسى زيد فليس إلاَّ الفتح
، وينبغي أن يقيد المضمر بما ذكرناه . وقال أبو عبيد : لو كان عسيتم بكسر السين
لقرىء : عسي ربكم وهذا جهل من أبي عبيد بهذه اللغة ، ودخول : هل ، على : عسيتم ،
دليل على أن عسى فعل خبري لا إنشائي ، والمشهور أن عسى إنشاء لأنه ترج ، فهي نظيرة
لعل ، ولذلك لا يجوز أن يقع صلة للموصول ، لا يجوز أمن تقول : جاءني الذي عسى أن
يحسن إليّ وقد خالف في هذه المسألة هشام فأجاز وصل الموصول بها ، ووقوعها خبراً
لأن ، دليل على أنها فعل خبري ، وهو جائز . قال الراجز :
لا تلحني إنى عسيت صائماً
إلاَّ إن قيل : إن ذلك على إضمار القول ، كما قيل في قوله : إن الذين قتلتم أمس
سيدهم
لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما
لأن : إن وأخواتها لا يجوز أن تقع خبراً لها من الجمل ، إلاَّ الجمل الخبرية ، وهي
التي تحتمل الصدق والكذب ، هذا على الصحيح ، وفي ذلك خلاف ضعيف .
وجواب الشرط الذي هو : إن كتب عليكم القتال ، محذوف للدلالة عليه ، وتوسط الشرط
بين أجزاء الدليل على حذفه ، كما توسط في قوله : ) وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ
لَمُهْتَدُونَ ( وخبر عسيتم : أن لا تقاتلوا ، هذا على المشهور أنها تدخل على
المبتدأ والخبر ، فيكون : أن ، زيدت في الخبر ، إذ : عسى للتراخي ، ومن ذهب إلى أن
: عسى ، يتعدّى إلى مفعول ، جعل : أن لا تقاتلوا ، هو المفعول ، و : أن ، مصدرية ،
والواو في : ومالنا ، لربط هذا الكلام بما قبله ، ولو حذف لجاز أن يكون منقطعاً عنه
، وهو استفهام في اللفظ ، وانكار في المعنى ، و : أن لا نقاتل ، أي : في ترك
القتال ، حذف الجر المتعلق بما تعلق به : لنا ، الواقع خبراً لما الاستفهامية إذ
هي مبتدأ ، و : أن لا نقاتل ، في موضع نصب ، أو : في موضع جر على الخلاف الذي بين
سيبويه والخليل و : ذهب أو الحسن إلى أنَّ : أن ، زائدة ، وعملت النصب كما عمل باء
الجر الزائد الجر ، والجملة
" صفحة رقم 265 "
حال ، أي : ومالنا غير مقاتلين ، فيكون مثل قوله تعالى : ) مَالِكَ لاَ تَأْمَنَّا
عَلَى يُوسُفَ ( ) مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( ) وَمَا لَكُمْ
لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( وكقول العرب : مالك قائماً ؟ وقال تعالى : ) فما لهم
عن التذكرة معرضين وذهب قوم منهم ابن جرير إلى حذف الواو من : أن لا نقاتل ،
والتقدير : وما لنا ولأن لا نقاتل ؟ قال : كما تقول : إياك أن تتكلم ، بمعنى إياك
وأن تتكلم ، وهذا ومذهب أبي الحسن ليسا بشيء ، لأن الزيادة والحذف على خلاف الأصل
، ولا نذهب إليهما إلاَّ لضرورة ، ولا ضرورة تدعو هنا إلى ذلك مع صحة المعنى في
عدم الزيادة والحذف ، وأما : اياك أن تتكلم ، فليس على حذف حرف العطف ، بل : إياك
، مضمن معنى إحذر . فأن تتكلم في موضع نصب كأنه قيل : احذر التكلم ، وقد أخرجنا
جملة حالية : أنكروا ترك القتال ، وقد التبسوا بهذه الحال من إخراجهم من ديارهم
وأبنائهم ، والقائل هذا لم يخرج ، لكنه أخرج مثله ، فكان ذلك إخراجاً له ، ويمكن
حمله على الظاهر ، لأن كثيراً منهم استُولي على بلادهم ، وأسر أبناؤهم ، فارتحلوا
إلى غير بلادهم التي كان منشؤهم بها ، كما مر في قصتهم .
وقرأ عبيد بن عمير : وقد أخرجنا ، أي العدوّ ، والمعنى . في : وأبنائنا ، أي : من
بين أبنائنا ، وقيل : هو على القلب أي : وأخرج منا أبناؤنا ، ويحتمل أن يكون
الفاعل : بأخرجنا ، على قراءة عبيد المذكور ضميراً يعود على الله ، أي : وقد
أخرجنا الله بعصياننا وذنوبنا ، فنحن نتوب ونقاتل في سبيله ليردنا إلى أوطاننا ،
ويجمع بيننا وبين أبنائنا ، كما تقول : ما لي لا أطيع الله وقد عاقبني على مصعيته
؟ فينبغي أن أطيعه حتى لا يعاقبني ، قال القشيري : أظهروا التجلد والتصلب في
القتال ذباً عن أموالهم ومنازلهم حيث ) قالوا ما لنا ان لا نقاتل في سبيل الله وقد
أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ( فلذلك لم يتم قصدهم ، لأنه لم يخلص لحق الله عزمهم ،
ولو أنهم قالوا : وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله ، لأنه قد أمرنا ، وأوجب علينا
، لعلهم وفقوا لإتمام ما قصدوا .
( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ (
هذا شأن المترف المنعم ، متى كان متلبساً بالنعمة قوي عزمه وأنف ، فإذا ابتلي بشيء
من الخطوب .
وذل التولي : حقيقة هو عند المباشرة للحرب ، ومعناه هنا : صرف عزائمهم عن ما سألوه
من القتال ، وانتصب : قليلاً ، على الاستثناء المتصل ، ولا يجوز أن يكون المستثنى
منهما ، لو قلت : ضربت القوم إلاَّ رجالاً ، لم يصح ، وصح هذا لاختصاصه بأنه في
نفسه صفة لموصوف ، ولتقييده بقوله : منهم ، ولم يبين هنا عدة هذا القليل ، وبينته
السنة ، صح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما سئل عن عدة من كان معه يوم بدر
قال : ( ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدّة قوم طالوت ) ، وهؤلاء القليل ثبتوا على
نياتهم السابقة ، واستمرت عزائمهم على قتال أعدائهم .
وقرأ أبيّ : تولوا إلا أن يكون قليل منهم ، وهو استثناء منقطع ، لأن الكون معنى من
المعاني ، والمستثنى منهم جثث . وتقول العرب : قام القوم إلاَّ أن يكون زيد ،
وزيداً ، بالرفع والنصب ، فالرفع على أن يكون تامة ، والنصب على أنها ناقصة ،
واسمهما ضمير مستكن فيها يعود على البعض المفهوم مما قبله ، التقدير : إلاَّ أن
يكون هو ، أي : بعضهم زيداً ، والمعنى قام القوم إلاَّ كون زيد في القائمين ،
ويلزم من انتفاء كونه في القائمين أنه ليس قائماً ، فلا فرق من حيث المعنى بين قام
القوم إلاَّ زيداً ، وبين قام القوم إلاَّ أن يكون زيدٌ أو زيداً .
( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ( فيه وعيد وتهديد لمن تقاعد عن القتال بعد أن
فرض عليه بسؤاله ورغبته ، وأن الإعراض عما أوجب الله على العبد ظلم ، إذا الظلم
وضع الشيء في غير موضعه .
البقرة : ( 247 ) وقال لهم نبيهم . . . . .
( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا
( قول النبي لهم : إن الله قد بعث ، لا يكون إلاَّ بوحي ، لأنهم سألوه أن يبعث لهم
ملكاً يقاتل في سبيل الله ، فأخبر ذلك النبي أن الله قد بعثه ، فيحتمل أن يكون ذلك
بسؤال من النبيّ الله أن يبعثه ويحتمل أن يكون ذلك بغير سؤاله ، بل لما علم حاجتهم
إليه بعثه .
وقال المفسرون : إنه سأل الله أن يبعث لهم ملكاً ، فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس
وقيل : الذي يكون ملكاً طوله طول هذه العصا ، وقيل : للنبي . أنظر القرن فإذا دخل
رجل فنش الدهن الذي هو فيه فهو ملك بني اسرائيل ، فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا
مثلها ، وكان : طالوت سقاء على ماء ، قاله السدي ، أو : دباغاً على
" صفحة رقم 266 "
ما قاله وهب ، أو مكارياً ، وضاع حمار له ، أو حمرٌ لأهله ، فاجتمع بالنبي ليسأله
عن ما ضاع له ويدعو الله له ، فبينا هو عنده نش ذلك القرن ، وقاسه النبي بالعصا ،
فكان طولها ، فقال له : قرب رأسك فقرّبه ودهنه بدهن القدس ، وقال : أمرني الله أن
أملكك على بني اسرائيل . فقال طالوت : أنا ؟ قال : نعم . قال : أو ما علمت أن سبطي
أدنى أسباط بني اسرائيل ؟ قال : بلى ، قال : أفما علمت أن بيتي أدنى بيوت بني
اسرائيل ؟ قال : بلى . قال : فبآية انك ترجع وقد وجد أبوك حمره . وكان كذلك .
وانتصب : ملكاً على الحال : والظاهر أنه ملكه الله عليهم ، وقال مجاهد : معناه
أميراً على الجيش .
( قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ
مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ الْمَالِ ( هذا كلام من تعنتَ وحادَ عن أمر الله
، وهي عادة بني اسرائيل ، فكان ينبغي لهم إذ قال لهم النبي عن الله ) إِنَّ
اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ( أن يسلموا الأمر لله ، ولا تنكره
قلوبهم ، ولا يتعجبوا من ذلك ، ففي المقادير أسرار لا تدرك ، فقالوا : كيف يملك
علينا من هو دوننا . ليس من بيت الملك الذي هو سبط يهوداً . ومنه داود وسليمان ؟
وليس من بيت النبوّة الذي هو سبط لاوي ومنه موسى وهارون ؟ قال ابن السائب : وكان
سبط طالوت قد عملوا ذنباً عظيماً ، نكحوا النساء نهاراً على ظهر الطريق ، فغضب
الله عليهم ، فنزع النبوّة والملك منهم ، وكانوا يسمون سبط الإثم .
وفي قولهم : ) أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا ( إلى آخره ما يدل على أنه
مركوز في الطباع أن لا يقدم المفضول على الفاضل ، واستحقار من كان غير موسع عليه ،
فاستبعدوا أن يتملك عليهم من هم أحق بالملك منه ، وهو فقير والملك يحتاج إلى أصالة
فيه ، إذ يكون أعظم في النفوس ، وإلى غنى يستعبد به الرجال ، ويعينه على مقاصد
الملك ، لم يعتبروا السبب الأقوى ، وهو : قضاء الله وقدره : ) قُلِ اللَّهُمَّ
مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء ( واعتبروا السبب الأضعف ، وهو :
النسب والغنى ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ
وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( ( لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على
عربي إلاَّ بالتقوى ) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( ) وقال الله
تعالى ) وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ( قال
الشاعر : وأعجب شيء إلى عاقل
فتوّ عن المجد مستأخره
إذا سئلوا ما لهم من علا ؟
أشاروا إلى أعظم ناخره
و : أنىَّ ، هنا بمعنى : كيف ؟ وهو منصوب على الحال ، و : يكون ، الظاهر أنها
ناقصة ، و : له ، في موضع الخبر ، فيتعلق بمحذوف وهو العامل في : أنى ، و : علينا
، متعلق : بالملك ، على معنى الاستعلاء ، تقول : فلان ملك على بني فلان ، وقيل :
علينا ، حال من : الملك .
ويجوز أن تكون تامة و : له ، متعلق ، بيكون ، أي : كيف يقع ؟ أو : يحدث له الملك
علينا ونحن أحق ؟ جملة حالية اسمية عطف عليها جملة فعلية ، وهي ) لَمْ يُؤْتِ
سَعَةً مّنَ الْمَالِ ( والمعطوف على الحال حال ، والمعنى : أن من اجتمع فيه هذان
الوصفان ، وجود من هو أحق منه ، وفقره ، لا يصلح للملك . ويعلق : بالملك ، و : منه
، بأحق ، وتعلق : من المال ، بيؤت ، وفتحت سين السعة لفتحها في المضارع ، إذ هو
محمول عليه ، وقياسها الكسر ، لأنه كان أصله ، يوسع ، كوثق يثق ، وإنما فتح عين
طالمضارع لكون لامه حرف حلق ، فهذه فتحة أصلها الكسر ، ولذلك حذفت الواو ، لوقوعها
في يسع بين ياء وكسرة ، لكن فتح لما ذكرناه ، ولو كان أصلها الفتح لم يجز حذف
الواو ، ألا ترى ثبوتها في يوجل ؟ لأنها لم تقع بين كسرة وياء ، فالمصدر والأمر في
الحذف محمولان على المضارع ، كما حملوا : عدة وعد على يعد .
( قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ( أي : اختاره صفوة ، إذ هو أعلم
تعالى بالمصالح ، فلا تعترضوا على الله .
( وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ( قيل : في العلم بالحروب ،
والظاهر علم الديانات والشرائع ، وقيل : قد أوحي إليه ونبيء ، وأما البسطة في
الجسم فقيل : أريد بذلك معاني : الخير ، والشجاعة ، وقهر الأعداء ، والظاهر أنه :
الامتداد ، والسعة في الجسم .
قال ابن عباس : كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل ، وأجمله وأتمه ،
" صفحة رقم 267 "
وقد تقدّم قول المفسرين في طوله ، ونبه على استحقاق طالوت للملك باصطفاء الله له
على بني اسرائيل ) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ ( وبما أعطاه من السعة في العلم ، وهو الوصف الذي لا شيء أشرف منه : )
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( أنا أعلمكم بالله ومن بسطة
الجسم ، فإن لذلك عظماً في النفوس وهيبة وقوّة ، وكثيراً ما تمدّحت العرب بذلك قال
الشاعر : فجاءت به سبط العظام كأنما
عمامته بين الرجال لواء
وقال : بطل كأن ثيابه في سرحة
يحذى نعال السبت ليس بتوأم
وقال : تبين لي أن القماءة ذلة
وان أعزاء الرجال طيالُها
وقالوا في المدح : طويل النجاد رفيع العماد ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) ) ، إذا ماشى الطوال طالهم . قال ابن زيد : كانت هذه الزيادة بعد الملك ، وقال
وهب ، والسدّي ، قبل الملك ، فالمعنى : وزاده على غيره من الناس بسطة ، بالسين ،
أبو عمرو ، وابن كثير ، و : بالصاد نافع ، وابن كثير ، رواية النقاش ، وزرعان ،
والشموني . وزاد : لئن بصطت ، وبباصط ، وكباصط ، ومبصوطتان ، ولا تبصطها كل البصط
، وأوصط ، وفما اصطاعوا : ويصطون ، والقصطاس ، وروى نحوه : أبو نشيط عن قالون .
( وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ( ظاهره أنه من
معمول قول النبي لهم ، لما علم بغيتهم في مسائلهم ومجادلتهم في الحجج التي تبديها
، أتم كلامه بالأمر القطعي ، وهو أن الله هو الفاعل المختار ، يفعل ما يشاء . ولما
قالوا : ) وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ( فكان في قولهم ادّعاء الأحقية في
الملك ، حتى كأن الملك هو في ملكهم ، أضاف الملك إلى الله في قوله : ملكاً ،
فالملك ملكه يتصرف فيه كما أراد ، فلستم بأحق فيه ، لأنه ملك الله يؤتيه من يشاء ،
وقيل : هاتان الجملتان ليستا داخلتين في قول النبي ، بل هي إخبار من الله تعالى
لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فهي معترضة في هذه القصة ، جاءت للتشديد
والتقوية لمن يؤتيه الله الملك ، أي : فإذا كان الله تعالى هو المتصرف في ملكه فلا
اعتراض عليه ) لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ( وختم بهاتين الصفتين ، إذ تقدّم
دعواهم أنهم أهل الملك ، وأنهم الأغنياء ، وأن طالوت ليس من بيت الملك ، وأنه فقير
فقال تعالى : إنه واسع ، يوسع فضله على الفقير ، عليم بمن هو أحق بالملك ، فيضعه
فيه ويختاره له .
وفي قصة طالوت دلالة على أن الإمامة ليست وراثة ، لإنكار الله عليهم ما أنكروه من
التمليك عليهم من ليس من أهل النبوّة والملك ، وبين أن ذلك مستحق بالعلم والقوّة
لا بالنسب ، ودل أيضاً على أنه لا حظ للنسب مع العلم ، وفضائل النفس ، وأنها
مقدّمة عليه لاختيار الله طالوت عليهم ، لعلمه وقدرته ، وإن كانوا أشرف منه نسباً
.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة الإخبار بقصة الخارجين من ديارهم ، وهم عالم لا
يحصون ، فراراً من الموت ، إما بالقتل إذ فرض عليهم القتال ، وإما بالوباء ،
فأماتهم الله ثم أحياهم ليعلموا أنه لا مفر مما قدّره الله تعالى ، وذلك لئلا نسلك
ما سلكوه ، فنحجم عن القتال ، فأتت هذه الآية مثبتة لمن جاهد في سبيله ، وذكر
تعالى أنه ذو فضل على الناس ، وذلك بإحيائهم والإحسان إليهم ، ومع ذلك فأكثرهم لا
يؤدّي شكر الله . ثم أمر بالقتال في سبيل الله ، وبأن نعلم أنه سميع لأقوالنا ،
عليم بنياتنا ، ثم ذكر أن من أقرض الله فالله يضاعفه حيث يحتاج إليه ، ثم ذكر أن
" صفحة رقم 268 "
بيده القبض والبسط ، وأن مرجع الكل إليه ، ثم أخبر تعالى بقصة الملأ من بني
اسرائيل ، وذلك لنعتبر بها ونقتدي منها بما كان من أحوالهم حسناً ، ونجتنب ما كان
قبيحاً . وهذه الحكمة في قصص الأولين علينا لنعتبر بها ، وأنهم حين استولى عليهم
العدّو ، فملك بلادهم وأسر أبناءهم ، ولم يكن لهم ملك يسوسهم في أمر الحرب ، إذ هي
محتاجة إلى من يُصدر عن أمره ويجتمع عليه ، فسألوا نبيهم أن ينهض . لهم ملكاً برسم
الجهاد في سبيل الله ، فتوقع النبي منهم أنه لو فرض عليهم القتال نكصوا عنه ،
فأجابوه : بأنا قد وترنا ، وأخرجنا من ديارنا ، وأبنائنا ، وهذا أصعب شيء على
النفوس ، وهو أن يخرج من مسكن ألفه ، ويفرق بينه وبين أبنائه ، ولهذا دعا رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اللهم حبب لنا المدينة كحبنا مكة أو أكثر ) .
وكثيراً ما بكى الشعراء المساكن والمعاهد ، ألا ترى إلى قول بلال : ألا ليت شعري
هل أبيتنّ ليلة
بواد وحولي إذ حرٌ وجليلُ
وكان قتيبة بن سعيد المحدّث قد رزق من النصيب في الدنيا والجلالة ، وحمل الناس
العلم عنه ، وكان ببغداد ، فعبر مرة على مكان مولده ومنشئه صغيراً ببغلان ، قيل :
وهي ضيعة من أصغر الضياع ، فتمنى أن لو كان مقيماً بها ، ويترك رئاسة بغداد ، دار
الخلافة ، وذلك نزوع إلى الوطن ، وذكر تعالى أنه لما فرض القتال عليهم : أعرضوا عن
قبوله إلاَّ قليلاً فإنه أخذ أمر الله بالقبول ، ثم عرّض تعالى بالظالمين ، وهم :
الذين لم يقبلوا أمر الله بعد أن كانوا طلبوه ، فهو يجازيهم على ظلمهم ، ثم أخبر
تعالى عن نبيهم أنه قال لهم عن الله إنه قد بعث طالوت ملكاً عليهم ، ولم يكن عندهم
من أنفسهم ولا أشرفهم منصباً ، إذ ليس من سبط النبوّة ، ولا من سبط الملك ، فلم
يأخذوا ما أخبرهم عن الله بالقبول ، وشرعوا يتعنتون على عادتهم مع أنبيائهم ،
فاستبعدوا تمليكه عليهم ، لأن فيهم من هو أحق بالملك منه على زعمهم ، إذ لم يسبق
له أن يكون من آبائه ملك فيعظم عند العامّة ، ولأنه فقير ، وهاتان الخلتان هما
يضعفان الملك ، إذ سابق الرئاسة والجاه والملاءة بالأموال مما يستتبع الرجال ،
ويستعبد الأحرار ، وما علموا أن عناية المقادير تجعل المفضول فاضلاً . فأخبرهم
نبيهم ، أن الله تعالى قد اختاره عليكم ، وشرّفه بخصلتين : هما في ذاته : إحداهما
: الخلق العظيم ، والأخرى : المعرفة التي هي الفضل الجسيم ، واستغنى بهذين الوصفين
الذاتيين عن الوصفين الخارجين عن الذات ، وهما الفخر : بالعظم الرميم ، والاستكثار
بالمال الذي مرتعه وخيم . ثم أخبر أن الله تعالى يعطى ملكه من أراد ، وأنه الواسع
الفضل ، العالم بمصالح العباد ، فلا اعتراض عليه .
( ) وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ
مُوسَى وَءَالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَالِكَ لأَيَةً
لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ
إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن
لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّىإِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ
فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ
وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ
" صفحة رقم 269 "
قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ
جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ
وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ
وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } )
7 )
البقرة : ( 248 ) وقال لهم نبيهم . . . . .
التابوت : معروف وهو الصندوق ، وفي التابوت قولان .
أحدهما : أن وزنه فاعول ولا يعرف له اشتقاق ولغة فيه التابوه ، بالهاء آخراً ،
ويجوز أن تكون الهاء بدلاً من التاء كما أبدلوها منها في الوقت ، في مثل : طلحة
فقالوا : طلحه ، ولا يجوز أن يكون : فعلوتا كملكوت ، من : تاب يتوب ، لفقدان معنى
الاشتقاق فيه .
والقول الآخر : أنه فعلوت من التوب ، وهو الرجوع لأنه ظرف ، وضع فيه الأشياء
وتودعه فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه ، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من
مودعاته قاله الزمخشري . قال : ولا يكون فاعولاً لقلة نحو سلس ، وقلق ، ولانه
تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه ، وأما بالهاء ففاعول إلاّ فيمن جعل
هتاءه من التاء لاجتماعهما في الهمس ، وأنهما من حروف الزيادة ، ولذلك أبدلت من
تاء التأنيث .
السكينة : فعيله من السكون ، وهو الوقار تقول : في فلان سكينة أي : وقار وثبات .
هارون : أسم أعجمي يمنع الصرف للعلمية والعجمة .
الجنود : جمع جند ، وهو معروف ، واشتقاقه من الجند وهو : الغليظ من الأرض اذ بعضهم
يعتصم ببعض .
الغرفة : بضم الغين اسم للقدر المغترف من الماء ، كالأكلة للقدر الذي يؤكل ، وبفتح
الغين مصدر للمرة الواحدة نحو : ضربت ضربة والاغتراف والغرف معروف ، والغرفة
البناء العالي المشرف .
جاوز : وجاز المكان قطعه .
جالوت : اسم أعجمي ممنوع الصرف للعجمة والعلمية ، كان ملك العمالقة ، ويقال إن
البربر من نسله .
الفئة : القطعة من الناس ، وقيل : هو مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع ، فيكون المحذوف
عين الكلمة ، أو من فأوت رأسه : كسرته : فيكون المحذوف لام الكلمة قولاً .
غلب : غلباً وغلبةً : قهر ، والأغلب القوي الغليظ ، والأنثى غلبى .
برز : يبرز بروزاً ، ظهر ، وامرأة برزة أخذ منها السن ، فلم تستر وجهها ، ومن ذلك
البراز والمتبرّز .
أفرغ : صب وفرغ من كذا ، خلا منه .
ثبت : استقر ورسخ ، وثبته أقّره ومكنه بحيث لا يتزحزح .
القدم : يالرجل وهي مؤنثة تقول في تصغيرها : قديمة ، والاشتقاق في هذه الكلمة يرجع
لمعنى التقدم .
هزم : كسر الشيء ورد بعضه على بعض ، وتقول العرب : هزمت على زيد : عطفت عليه . قال
الشاعر : هزمتُ عليكِ اليوم يا ابنة مالك
فجودي علينا بالنوال وأنعمي
" صفحة رقم 270 "
داود : اسم أعجمي منع الصرف للعملية والعجمة ، وهو هنا : أبو سليمان ، على نبينا
وعليهما السلام ، وهو داود بن إيسا ، بكسر الهمزة ، ويقال داود بن إسحاق ابن
إبراهيم ، على نبينا وعليهم السلام .
الدفع : الصرف : دفع يدفع دفعاً ، ودافع مدافعة ودفاعاً .
( وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ
( ظاهر هذه الآية وما قبلها يدل على أنهم كانوا مقرّين بنبوّة هذا النبي الذي كان
معهم ، ألا ترى إلى قولهم : ) ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ
اللَّهِ ).
ولكن لما أخبرهم الله : ) بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَهُمْ طَالُوتَ مَلِكًا (
أراد أن يعلمهم بآية تدل على ملكه على سبيل التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي
قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له . وقال الطبري ، وحكى معناه عن ابن عباس
والسدّي ، وابن زيد : تعنت بنو إسرائيل ، وقالوا لنبيهم : وما آية ملك طالوت ؟
وذلك على وجه سؤال الدلالة على صدق نبيهم في قوله : ) إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ
لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ( وهذا القول أشبه من الأول بأخلاق بني إسرائيل ،
وتكذيبهم وتعنتهم لأنبيائهم ، وقيل : خيرهم النبي في آية ، فاختاروا التابوت ، ولا
يكون إتيان التابوت آية إلاَّ إذا كان يقع على وجه يكون خارقاً للعادة ، فيكون ذلك
آية على صدق الدعوى ، فيحتمل أن يكون مجيئه هو المعجزة ، ويحتمل أن يكون ما فيه هو
المعجز ، وهو سبب لاستقرار قلوبهم ، واطمئنان نفوسه ؛ ونسبة الاتيان إلى التابوت
مجاز لأن التابوت لا يأتي ، إنما يؤتى به ، كقوله : ) فَإِذَا عَزَمَ الاْمْرُ ( )
فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ).
وقرأ الجمهور : بالتابوت بالتاء ؛ وقرأ أبيّ وزيد : بالهاء ، وهي لغة الأنصار ،
وقد تقدم الكلام في هذه الهاء أهي بدل من التاء ؟ أم أصل ؟ قال ابن عباس ، وابن
السائب : كان التابوت من عود الشمشار ، وهو خشب تعمل منه الأمشاط ، وعليه صفائح
الذهب ، وقيل : كانت الصفائح مموّهة بالذهب ، وكان طوله ثلاثة أذرع في ذراعين ،
وقد كثر القصص في هذا التابوت والاختلاف في أمره ، والذي يظهر أنه تابوت معروف
حاله عند بني إسرائيل ، كانوا قد فقدوه وهو مشتمل على ما ذكره الله تعالى مما أبهم
حله ، ولم ينص على تعيين ما فيه ، وأن الملائكة تحمله ، ونحن نلم بشيء مما قاله
المفسرون والمؤرخون على سبيل الإيجاز ، فذكروا : أن الله تعالى أنزل تابوتاً على
آدم فيه صور الأنبياء ، وبيوت بعددهم ، وآخره بيت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ،
فتناقله بعد ، أولاده شيث فمن بعده إلى إبراهيم ، ثم كان عند إسماعيل ، ثم عند
ابنه قيدار ، فنازعه إياه بنو عمه أولد إسحاق ، وقالوا له : وقد صرفت النبوّة عنكم
إلاَّ هذا النور الواحد ، فامتنع عليهم ، وجاء يوماً يفتحه فتعسر ، فناداه منادٍ
من السماء لا يفتحه إلاَّ نبي ، فادفعه إلى ابن عمك يعقوب ، فحمله على ظهره إلى
كنعان ، فدفعه ليعقوب ، فكان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام ،
فوضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه ، ثم توارثها أنبياء بني إبسرائيل إلى أن وصل
إلى شمويل ، فكان فيه ما ذكره الله في كتابه .
وقيل : اتخذ موسى التابوت ليبجمع فيه رضاض الألواح .
والسكينة : هي الطمأنينة ولما كانت حاصلة بإتيان التابوت ، جعل التابوت ظرفاً لها
، وهذا من المجاز الحسن ، وهو تشبيه المعاني بالأجرام ، وجاء في حديث عمران بن
حصين أنه كان يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة ، فغشيته سحابة ، فجعلت تدور وتدنو
، وجعل فرسه ينفر منها ، فلما أصبح أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فذكر ذلك
له فقال : ( تلك السكينة تنزلت للقرآن ) .
وفي حديث أسيد بن حضير ، بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث ، وفيه : فقال رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( تلك الملائكة كانت تسمع لذلك ، ولو قرأت لأصبحت
تراها الناس ما تستتر منهم ) . فأخبر ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن نزول السكينة
مرة ، ومرة عن نزول الملائكة ، ودل حديث أسيد على أن نزول السكينة في حديث عمران
هو على حذف مضاف ، أي : تلك أصحاب السكينة ، وهم الملائكة المخبر
" صفحة رقم 271 "
عنهم في حديث أسيد ، وجعلوا ذوي السكينة لأن إيمانهم في غاية الطمأنينة ،
وطواعيتهم دائمة لا يعصون الله ما أمرهم ، وقد جاء في ( الصحيح ) : ( ما اجتمع قوم
في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاَّ نزلت عليهم السكينة .
وحفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده ) .
فنزول السكينة عليهم كناية عن التباسهم بطمأنينة الإيمان ، واستقرار ذلك في قلوبهم
، لأن من تلا كتاب الله وتدارسه يحصل له بالتدبر في معانيه . والتفكر في أساليبه ،
ما يطمئن إليه قلبه ، وتستقر له نفسه ، وكأنه كان قبل التلاوة له والدراسة خالياً
من ذلك ، فحين تلا نزل ذلك عليه .
وقد قال بهذا المعنى بعض المفسرين ، قال قتادة السكينة هنا الوقار . وقال عطاء :
ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها ، وقال نحوه الزجاج .
وقال الزمخشري : التابوت صندوق التوراة ، كان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه
فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون ، والسكينة : السكون والطمأنينة ، وذكر عن
عليّ أن السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، وهي ريح هفافة ، وقيل : السكينة صورة من
زبرجد أو ياقوت ، لها رأس كرأس الهر ، وذنب كذنبه ، وجناحان ، فتئن فيزف التابوت
نحو العدو ، وهم يمضون معه ، فإذا استقر ثبتت وسكنوا ، ونزل النصر . وقيل :
بالسكينة بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء ،
فإن الله ينصر طالوت وجنوده ، ويقال : جعل تعالى سكينة بني إسرائيل في التابوت
الذي فيه رضاض الألواح ، والعصا ، وآثار أصحاب نبوتهم ، وجعل تعالى سكينة هذه
الآمة في قلوبهم ، وفرق بين مقر تداولته الأيدى ، قد فر مرة ، وغلب عليه مرة ،
وبين مقربين أصبعين من أصابع الرحمن .
وقرأ أبو السماك : سكينة ، بتشديد الكاف وارتفاع سكينة ، بقوله : فيه ، وهو في
موضع الحال ، أي : كائناً فيه سكينة . و : من ، لابتداء الغاية ، أي : كائنة من
ربكم ، فهو في موضع الصفة ، أو متعلقاً بما تعلق به قوله : فيه ، ويحتمل أن يكون
للتبعيض على تقدير حذف مضاف ، أي : من سكينات ربكم .
والبقية ؛ قيل : رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى على نبينا وعليه الصلاة
والسلام ، قاله عكرمة . وقيل : عصا موسى قاله وهب وقيل : عصا موسى وهارون وثيابهما
ولوحان من التوراة المنّ ، قاله أبو صالح . وقيل : العلم والتوراة قاله مجاهد ،
وعطاء وقيل : رضاض الألواح وطست من ذهب وعصا موسى وعمامته ، قاله مقاتل وقيل :
ققيز من منّ ورضاض الألواح حكاه سفيان الثوري وقيل : العصا والنعلان ، حكاه الثوري
أيضاً ، وقيل : الجهاد في سبيل الله ، وبذلك أمروا ، قاله الضحاك . وقيل : التوراة
ورضاض الألواح قاله السدّي . وقيل : لوحان من التوراة ، وثياب موسى وهارون
وعصواهما ، وكلمة الله : لا إله إلا الله الحكيم الكريم ، وسبحان الله رب السموات
السبع ورب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، وقيل : عصا موسى وأمور من
التوراة ، قاله الربيع . ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر في التابوت ، فأخبر كل قائل
عن بعض ما فيه ، وانحصر بهذه الأقوال ما في التابوت من البقية .
( مّمَّا تَرَكَ ( في موضع الصفة لبقية ، و : من ، للتبعيض .
و : ) وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ( هم من الأنبياء ، إليهما من قرابة أو
شريعة ، والذي يظهر أن آل موسى وآل هارون هم الأنبياء الذين أتوا بعدهما ، فإنهم
كانوا يتوارثون ذلك إلى أن فقد . ونذكر كيفية فقده إن شاء الله .
وقال الزمخشضري : ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون ، والآل مقحم لتفخيم شأنهما
. إنتهى . وقال غيره : آل هنا زائدة ، والتقدير : مما ترك موسى وهارون ، ومنه
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى آل أبي أوفى ، يريد نفسه ، ولقد أوتي هذا
مزماراً من مزامير آل داود ، أي : من مزامير داود ومنه قول جميل :
" صفحة رقم 272 "
بثينة من آل النساء وإنما
يكنّ لأدنى ، لا وصال لغائب
أي : من النساء . إنتهى . ودعوى الإقحام والزيادة في الأسماء لا يذهب إليه نحوي
محقق ، وقول الزمخشري : والآل مقحم لتفخيم شأنهما ان عنى بالإقحام ما يدل عليه أول
كلامه في قوله : ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون ، فلا أدري كيف يفيد زيادة آل
تفخيم شأن موسى وهارون ؟ وإن عنى بالآل الشخص ، فانه يطلق على شخص الرجل آله ،
فكأنه قيل : مما ترك موسى وهارون أنفسهما ، فنسب تلك الأشياء العظيمة التي تضمنها
التابوت إلى أنها من بقايا موسى وهارون شخصيهما ، أي أنفسهما لا من بقايا غيرهما ،
فجرى آل هنا مجرى التوكيد الذي يراد به : أن المتروك من ذلك الخير هو منسوب لذات
موسى وهارون ، فيكون في التنصيص عليهما ذاتهما تفخيم لشأنهما ، وكان ذلك مقحماً
لأنه لو قيل : مما ترك موسى وهارون لاكتفى ، وكان ظاهر ذلك أنهما أنفسهما ، تركا
ذلك وورث عنهما .
( تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ( وقرأ مجاهد : يحمله ، بالياء من أسفل ، والضمير
يعود على التابوت ، وهذه الجملة حال من التابوت ، أي حاملاً له الملائكة ، ويحتمل
الاستئناف ، كأنه قيل : ومن يأتي به وقد فقد ؟ فقال : ) تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ
( استعظاماً لشأن هذه الآية العظيمة ، وهو أن الذي يباشر إتيانه إليكم الملائكة
الذين يكونون معدين للأمور العظام ، ولهم القوّة والتمكينه والإطلاع بأقدار الله
لهم على ذلك ، ألا ترى إلى تلقيهم الكتب الإلهية وتنزيلهم بها على من أوحي إليهم ،
وقلبهم مدائن العصاة ، وقبض الأرواح ، وإرجاء السحاب ، وحمل العرش ، وغير ذلك من
الأمور الخارقة ، والمعنى : تحمله الملائكة إليكم .
قال ابن عباس : جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض ، وهم ينظرون إليه
حتى وضعته عند طالوت .
قال وهب : قالوا لنبيهم : انعت وقتاً تأتينا به فقال : الصبح ، فلم يناموا ليلتهم
حتى سمعوا حفيف الملائكة بين السماء والأرض .
وقال قتادة : كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع ، فبقي هناك ولم يعلم به
بنو إسرائيل ، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت ، فأقروا بملكه . قال ابن
زيد : غير راضين ، وقيل : سبى التابوت أهل الأردن ، قرية من قرى بفلسطين ، وجعلوه
في بيت صنم لهم تحت الصنم ، فأصبح الصنم تحت التابوت ، فسمروا قدمي الصنم على
التابوت ، فأصبح وقد قطعت يداه ورجلاه ملقى تحت التابوت ، وأصنامهم منكسة ، فوضعوه
في ناحية من مدينتهم فأخذ أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم ، فدفنوه بالصحراء في
متبَّرزٍ لهم ، فكان من تبرزب هناك أخذه الناسور والقولنج ، فتحيروا ، وقالت امرأة
من أولا الأنبياء من بني إسرائيل : ما تزالوا ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت
فيكم فاخرجوه عنكم فحملوا التابوت على عجلة ، وعلقوا بها ثورين أو بقرتين ، وضربوا
جنوبهما ، فوكل الله أربعة من الملائكة يسوقونهما ، فما مرّ التابوت بشيء من الأرض
إلاَّ كان مقدّساً إلى أرض بني إسرائيل ، وضع التابوت في أرض فيها حصاد بني
إسرائيل ، ورجعا إلى أرضهما ، فلم يرع بني إسرائيل إلاَّ التابوت ، فكبوا وحمدوا
الله على تمليك طالوت ، فذلك قوله : ) تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ).
وقال ابن عباس : إن التابوت والعصا في بحيرة طبرية يخرجان قبل يوم القيامة ، وقيل
يوم القيامة ، وقيل : عند نزول عيسى على نبينا وعليه السلام .
( إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( قيل : الإشارة إلى
التابوت ، والأحسن أن يعود على الإتيان أي : إتيان التابوت على الوصف المذكور
ليناسب أول الآية آخرها ، لأن أولها ) وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ
مُلْكِهِ ( والمعنى لآية لكم على ملكه واختياره لكم ، وقيل : علامة لكم على نصركم
على عدوّكم ، لأنهم كانوا يستنصرون بالتابوت أينما توجهوا ، فينصرون .
و : إن ، قيل على حالها من وضعها للشرط . أي : ذلك آية لكم على تقدير إيمانكم
لأنهم قيل : صاروا كفرة بإنكارهم على نبيهم . وقيل : إن كان من شأنكم وهممكم الإيمان
بما تقوم به الحجة عليكم ، وقيل : إن كنتم مصدّقين بأن الله قد جعل لكم طالوت
ملكاً . وقيل : مصدّقين بأن وعد الله حق . وقيل : إن ، بمعنى : إذ ، ولم يسألوا
تكذيباً لنبيهم ، وإنما سألوا تعرفاً لوجه الحكمة ، والسؤال عن الكيفية لا يكون
انكارا كلياً .
البقرة : ( 249 ) فلما فصل طالوت . . . . .
( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ( بين هذه الجملة والجملة قبلها محذوف
تقديره : فجاءهم التابوت ، وأقروا له بالملك ، وتأهبوا للخروج ، فلما فصل طالوت ،
أي : انفصل من مكان اقامته ، يقال : فصل عن الموضع
" صفحة رقم 273 "
انفصل ، وجاوزه . قيل : وأصله فصل نفسه ، ثم كثر ، فحذف المفعول حتى صار في حكم
غير المتعدّي : كانفصل ، والباء في ، بالجنود ، للحال ، أي : والجنود مصاحبوه ،
وكان عددهم سبعين ألفاً ، قاله ابن عباس . أو ثمانين ألفاً قاله عكرمة . أو مائة
ألف ، قاله مقاتل . أو ثلاثين ألفاً .
قال عكرمة : لما رأى بنو اسرائيل التابوت سارعوا إلى طاعته والخروج معه ، فقال لهم
طالوت : لا يخرج معي من بنى بناءً لم يفرغ منه ، ولا من تزّوج امرأة لم يدخل بها ،
ولا صاحب زرع لم يحصده ، ولا صاحب تجارة لم يرحل بها ، ولا من له أو عليه دين ،
ولا كبير ، ولا عليل . فخرج معه من تقدّم الاختلاف في عددهم على شرطه ، فسار بهم ،
فشكوا قلة الماء وخوف العطش ، وكان الوقت قيظاً ، وسلكوا مفازة ، فسألوا الله أن
يجري لهم نهراً .
( قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ( قال وهب : هو الذي اقترحوه . وقال
ابن عباس ، وقتادة : هو نهر بين الأردن وفلسطين . وقيل : نهر فلسطين ، قاله السدّي
، وابن عباس ، أيضاً .
وقرأ الجمهور : بنهر ، بفتح الهاء . وقرأ مجاهد ، وحميد الأعرج ، وأبو السماك ،
وغيرهم : باسكان الهاء في جميع القرآن .
وظاهر قول طالوت : ان الله يوحي ، إمالة على قول من قال : إنه نبي ، أو يوحي إلى
نبيهم ، وإخبار النبي طالوت بذلك قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله
طالوت إليه ، فجرت به جنده ، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم ، ومعنى هذا
الابتلاء اختبارهم ، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع ، فيما عدا ذلك ،
ومن غلبته شهوته في الماء ، وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى . انتهى
كلامه . وبعد أن يخبر طالوت عن ما خطر بباله بأنه قول الله ، على طريق الجزم عن
الله .
( فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ( أي : ليس من أتباعي في هذه الحرب ، ولا
أشياعي ، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان نحو : ( من غشنا فليس منا ) ، ( ليس منا من
شق الجيوب ولطم الخدود ) ، أو : ليس بمتصل بي ومتحد معي ، من قولهم : فلان مني
كأني بعضه ، لاختلاطهما واتحادهما قال النابغة : إذا حاولت في أسد فجورا
فإني لست منك ولست مني
) وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( أي : من لم يذقه ، وطعم كل شيء ذوقه ،
ومنه التطعم ، يقال : تطعمت منه أي : ذقته ، وتقول العرب لمن لا تميل نفسه إلى
مأكول ، تطعم منه يسهل أكله ، قال ابن الانباري : العرب تقول : أطعمتك الماء تريد
أذقتك ، وطعمت الماء أطعمه بمعنى ذقته قال الشاعر : فإن شئتُ حرمت النساء عليكم
وإن شئتُ لم أطعم نقاخاً ولا برداً
النقاخ : العذب ، والبرد : النوم ، ويقال : ما ذقت غماضاً . وفي حديث أبي ذر . (
في ماء زمزم . طعام طعم ) وفي الحديث : ( ليس لنا طعام إلاَّ الأسودين : التمر
والماء ) . والطعم يقع على الطعام والشراب ، واختير هذا اللفظ لأنه أبلغ ، لأن نفي
الطعم يستلزم نفي الشرب ، ونفي الشرب لا يستلزم نفي الطعم ، لأن الطعم ينطلق على
الذوق ، والمنع من الطعم أشق في التكليف من المنع من الشرب ، إذ يحصل بإلقائه في
الفم ، وإن لم يشربه ، نوع راحة .
وفي قوله : ) وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ ( دلالة على ان الماء طعام ، وقد تقدّم أيضاً
ما يدل على ذلك .
واختلف في جريان الرِّبا فيه ، فقال الشافعي : لا يجوز بيع الماء بالماء متفاضلاً
، ولا يجوز فيه الأجل وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف : يجوز ذلك . وحكى ابن
العربي : أن الصحيح من
" صفحة رقم 274 "
مذهب مالك جريان الرِّبا فيه . وقال محمد بن الحسن : هو مما يكال ويوزن ، فعلى هذا
لا يجوز عنده التفاضل .
وكأن قوله : ) فَمَن شَرِبَ مِنْهُ ( يدل ظاهره على مباشرة الشرب من النهر ، حتى
لو أخذ بالكوز وشربه ، لا يكون داخلاً في من شرب منه ، إذا لم يباشر الشرب من
النهر ، وفي مذهب أبي حنيفة ، رحمه الله تعالى ، أنه إن قال إن شربت من القربة
فعبدي حرّ ، يحمل على الكروع ، وإن اغترف منه ، أو شرب بإنا لم يحنث . قالوا :
لأنه تعالى حظر الشرب من النهر ، وحظر مع ذلك أن يطعم منه ، واستثنى من الطعم منه
الاغتراف ، فحظرُ الشرب ماقٍ ، ودل على أن الاغتراف ليس بشرب ، وأتى بقوله : )
وَمَن لَّمْ ( معدّى لضمير الماء ، لا إلى النهر ، ليزيل ذلك الإبهام ، وليعلم أن
المقصود هو المنع من وصولهم إلى الماء من النهر ، بمباشرة الشرب منه ، أو بواسطة .
قال ابن عطية : وفي قوله : ) وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( سدّ
الذرائع ، لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم ، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل
إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم ، ولهذه المبالغة ، لم يأت الكلام : ومن لم يشرب
منه ، انتهى كلامه .
( إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ( هذا استثناء من الجملة الأولى ، وهي
قوله : ) فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ( والمعنى : أن من اغترف غرفة بيده
دون الكروع فهو مني ، والاستثناء إذا اعتقب جملتين ، أو جملاً ، يمكن عوده إلى كل
واحدة منها ، فإنه يتعلق بالأخيرة ، وهذا على خلاف في هذه المسألة مذكور في علم
أصول الفقه ، فإن دل دليل على تعلقها ببعض الجمل كان الاستثناء منه ، وهنا دل
الدليل على تعلقها بالجملة الأولى ، وإنما قدمت الجملة الثانية على الاستثناء من
الأولى لأن الجملة الثانية تدل عليها الأولى بالمفهوم ، لأنه حين ذكر أن الله
يبتليهم بنهر ، وأن من شرب منه فليس منه ، فهم من ذلك أن من لم يشرب منه فإنه منه
، فصارت الجملة الثانية كلاًّ فصل بين الأولى والاستثناء منها إذا دلت عليها
الأولى ، حتى إنها لو لم يكن مصرحاً بها لفهمت من الجملة الأولى ، وقد وقع في بعض
التصانيف ما نصه : إلاَّ من اغترف . استثناءً من الأولى ، وإن شئت جعلته استثناء
من الثانية . انتهى . ولا يظهر كونه استثناء من الجملة الثانية لأنه حكم على أن :
من لم يطعمه فانه منه ، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس
منه ، والأمر ليس كذلك ، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه ، وهو
ظاهر الاستثناء من الأولى ، لأنه حكم فيها أن : من شرب منه فليس منه ، فيلزم في
الاستثناء أن : من اغترف غرفة بيده منه فإنه منه ، إذ هو مفسوح له في ذلك ، وهكذا
الاستثناء يكون من النفي إثباتاً ، ومن الاثبات نفياً ، على الصحيح من المذاهب في
هذه المسألة . وفي الاستثناء محذوف تقديره : إلاَّ من اغترف غرفة بيده فشرِبَها ،
أو للشرب .
وقرأ الحرميان ، وأبو عمر ، و : غرفة ، بفتح الغين وقرأ الباقون بضمها ، فقيل :
هما بمعنى المصدر ، وقيل : هما بمعنى
" صفحة رقم 275 "
المغروف ، وقيل : الغرفة بالفتح المرة ، وبالضم ما نخمله اليد ، فإذا كان مصدراً
فهو على غير الصدر ، إذ لو جاء على الصدر لقال : اغترافة ، ويكون مفعول اغترف
محذوفاً ، أي : ماء ، وإذا كان بمعنى المغروف كان مفعولاً به ، قال ابن عطية :
وكان أبو عليّ يرجح ضم الغين ، ورجحه الطبري أيضاً : أن غرفة بالفتح إنما هو مصدر
على غير اغتراف . انتهى .
وهذا الترجيح الذي يذكره المفسرون والنحويون بين القراءتين لا ينبغي ، لأن هذه
القراءات كلها صحيحة ومروية ثابتة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولكل
منها وجه ظاهر حسن في العربية ، فلا يمكن فيها ترجيح قراءة على قراءة .
ويتعلق : بيده ، بقوله : اغتراف . قيل : ويجوز أن يكون نعتاً لغرفة ، فيتعلق
بالمحذوف . وظاهر : غرفة بيده ، الاقتصار على غرفة واحدة ، وأنها تكون باليد ، قال
ابن عباس ، ومقاتل : كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها ، قال
مقاتل : ويملأ منها قربته ، قيل : فيجعل الله فيها البركة حتى تكفي لكل هؤلاء ،
وكان هذا معجزة لنبي ذلك الزمان قال بعض المفسرين : لم يرد غرفة الكف ، وإنما أراد
المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك ، وهذا الابتلاء الذي ابتلى الله به
جنود طالوت ابتلاء عظيم ، حيث منعوا من الماء مع وجوده وكثرته في شدة الحر والقيظ
، وأن من أبيح له شيء منه فإنما هو مقدار ما يغرف بيده ، فأين يصل منه ذلك ؟ وهذا
أشد في التكليف مما ابتلى به أهل أيلة من ترك الصيد يوم السبت ، مع إمكان ذلك فيه
، وكثرة ما يرد إليهم فيه من الحيتان .
( فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ ( أي : كرعوا فيه ، ظاهره أن
الأكثر شربوا ، وإن القليل لم يشربوا ، ويحمل الشرب الذي وقع من أكثرهم ، على أنه
الشرب الذي لم يؤذن فيه ، ووقع به المخالفة ، ويكون الاستثناء على أن ذلك القليل
لم يشربوا ذلك الشرب الذي لم يؤذن فيه ، فبقي تحت القليل قسمان : أحدهما : لم
يطعمه البتة والثانية : الذين : اغترفوا بأيديهم ، وهذا التقسيم روي معناه عن ابن
عباس ، أن الأكثر شربوا على قدر يقينهم ، فشرب الكفار شرب الهيم ، وشرب العاصون
دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفاً ، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئاً ،
وأخذ بعضهم الغرفة . فأما من شرب فلم يرو ، بل برح به العطش ، وأما من ترك الماء
فحسنت حاله ، وكان أجدر ممن أخذ الغرفة . وقيل : الذين شربوا وخالفوا أمر الله
اسودت وجوههم وشفاههم ، فلم يرووا ، وبقوا على شط النهر ، وجبنوا عن لقاء العدو ،
فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح . وقيل : بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلاَّ
القليل الذين لم يشربوا . والقليل المستثنى أربعة آلاف ، قاله عكرمة ، والسدّي ،
وقيل : ثلاثمائة وثلاثة عشر .
وقرأ عبد الله ، وأبيّ والأعمش : إلا قليلٌ ، بالرفع قال الزمخشري : وهذا من ميلهم
مع المعنى ، والإعراض عن اللفظ جانباً ، وهو باب جليل من علم العربية ، فلما كان
معنى : فشربوا منه ، في معنى : فلم يطيعوه ، حمل عليه كأنه قيل : فلم يطيعوه إلاَّ
قليل منهم . ونحوه قول الفرزذق : وعض زمان يا بن مروان ) لم يدع
من المال إلاَّ مسحتا أو مجلف
كأنه قال : لم يبق من المال إلا مسحت ، أو مجلف انتهى كلامه .
والمعنى أن هذا الموجب الذي هو : فشربوا منه ، هو في معنى المنفي ، كأنه قيل : فلم
يطيعوه ، فارتفع : قليل ، على هذا المعنى ، ولو لم يلحظ فيه معنى النفي لم يكن
ليرتفع ما بعد : إلاَّ ، فيظهر أن ارتفاعه على أنه بدل من جهة المعنى ، فالموجب
فيه كالمنفي ، وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد : إلاَّ ، على التأويل
هنا ، دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب ، فلذلك تأوله .
ونقول : إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد : إلاَّ ، وجهان
" صفحة رقم 276 "
أحدهما : النصب على الاستثناء وهو الأفصح : والثاني : أن يكون ما بعد : إلاَّ ،
تابعاً لإعراب المستثنى منه ، إن رفعاً فرفع ، أو نصباً فنصب ، أو جراً فجر ،
فتقول : قام القوم إلاَّ زيد ، ورأيت القوم إلاَّ زيداً ، ومررت بالقوم إلاَّ زيد
: وسواء كان ما قبل : إلاَّ ، مظهراً أو مضمراً . واختلفوا في إعرابه ، فقيل : هو
تابع على أنه نعت لما قبله ، فمنهم من حمل هذا على ظاهر العبارة . وقال : ينعت بما
بعد : إلاَّ ، الظاهر والمضمر ، ومنهم من قال : لا ينعت به إلاَّ النكرة أو
المعرفة بلام الجنس ، فإن كان معرفة بالإضافة نحو : قام اخوتك ، أو بالألف واللام
للعهد ، أو بغير ذلك من وجوه التعاريف غير لام الجنس ، فلا يجوز الاتباع ، ويلزم
النصب على الاستثناء . ومنهم من قال : إن النحويين يعنون بالنعت هنا عطف البيان ،
ومن الاتباع بعد الموجب قوله : وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلاَّ الفرقدان
وهذه المسألة مستوفاة في علم النحو .
وإنما أردنا أن ننبه على أن تأويل الزمخشري هذا الموجب بمعنى النفي لا نضطر إليه ،
وأنه كان غير ذاكر لما قرره النحويون في الموجب .
( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ( ظاهره أنه ما جاز النهر
إلاَّ هو والمؤمنون ، وكذلك روي عن ابن عباس ، والسدي : أن الذين شربوا وخالفوا
انحرفوا ، ولم يجاوزوا ، وقيل : بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلاَّ القليل .
وجاوز : فاعل فيه بمعنى فعل ، أي جاز . والذين آمنوا معه : عدة أهل بدر وقال ابن
عباس ، والسدي : جاز معه أربعة آلاف . قال ابن عباس : منهم من شرب ، قالا : فلما
نظروا إلى جالوت وجنوده ، قالوا لا طاقة لنا اليوم ، ورجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة
وبضعة وثمانون ، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب إلاَّ غرفة .
ومن لم يشرب جملة . ثم اختلفت بصائر هؤلاء ، فبعض كع ، وقليل صم ، و : هو ، توكيد
للضمير المستكن في جاوزه ، و : الذين ، يحتمل أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن
، ويحتمل أن تكون الواو للحال ويلزم من الحال أن يكونوا جاوزوا معه ، والأظهر أن
يكون للعطف وإدغام جاوزه في هو ضعيف ، ولا يستحسن ، إلاَّ إن كانت الهاء مختلسة لا
إمالة لها .
( قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ( قائل ذلك الكفرة
الذين انخزلوا ، وهو الفاعل في شربوا ، قاله ابن عباس والسدي . وقيل : من قلت
بصيرته من المؤمنين ، وهم الذين جاوزوا النهر وهم القليل ، قاله الحسن ، وقتادة ،
والزجاج .
طاقة : من الطوق ، وهو القوة ، وهو من : أطاق ، كأطاع طاعة ، وأجاب جابة ، وأغار
غارة . ويتعلق : لنا ، بمحذوف إذ هو في موضع الخبر ، ولا يجوز أن يتعلق : بطاقة ،
لأنه كان يكون طاقة مطولاً ، فيلزم تنوين ، واليوم منصوب بما تعلق به لنا وبجالوت
: متعلق به . وأجاز بعضهم أن يكون : بجالوت ، في موضع الخبر ، وليس المعنى على ذلك
.
( قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ ( يحتمل أن يكون الظن
على بابه ، ومعنى : ملاقو الله ، أي يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال
، وتصميمهم على لقاء أعدائهم ، كما جرى لعبد الله بن حزام في أحد ، وغيره قاله
الزجاج في آخرين . وقيل : ملاقو ثواب الله بسبب الطاعة . لأن كل أحد لا يعلم عاقبة
أمره فلا بد من أن يكون ظاناً ، وقيل : ملاقو طاعة الله ، لأنه لا يقطع أن عمله
هذا إطاعة ، لأنه ربما شابه شيء من الرياء والسمعة ، وقيل : ملاقو وعد الله إياهم
بالنصر ، لأنه وإن كان مقطوعاً به فهو مظنون في المرة الأولى ، ويحتمل أن يكون
الظن بمعنى الإيقان : أي : يوقنون بالبعث والرجوع إلى الله قاله السدي في آخرين .
( كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ). هذا
القول تحريض من العازمين على القتال وحض عليه ، واستشعار للصبر واقتداء بمن صدّق
الله .
" صفحة رقم 277 "
والمعنى : أنا لا نكترث بجالوت وجنوده وإن كثروا ، فإن الكثرة ليست سبباً للإنتصار
، فكثيراً ما انتصر القليل على الكثير ؛ ولما كان قد سبق ذلك في الأزمان الماضية
وعلموا بذلك ، أخبروا بصيغة : كم ، المقتضية للتكثير . وقرأ أبيّ وكأين ، وهو
مرادفة : لكم ، في التكثير ، ولم يأت تمييزها في القرآن إلا مصحوباً بمن ، ولو
حذفت : من ، لأنجرّ تمييز : كم ، الخبرية بالإضافة ، وقيل بإضمار : من ، ويجوز
نصبه حملاً على : كم ، الإستفامية ، وانتصب تمييز : كأين ، فتقول كأين رجلاً جاءك
. قال الشاعر : أطرد اليأس بالرجا فكأين
أملاً حمّ يسره بعد عسر
و : كم ؛ في موضع رفع على الابتداء ، و : من فئة ، قيل زائدة ، وليس من مواضع
زيادتها ، وقيل : في موضع الصفة لكم ، و : فئة ، هنا مفرد في معنى الجمع ، كأنه
قيل : كثير من فئات قليلة غلبت . وقرأ الأعشى فيه بابدال الهمزة ياء ، نحو : ميرة
في : مئرة ، وهو ابدال نفيس ، وخبر : كم ، قوله : غلبت ، ومعنى : باذن الله ،
بتمكينه وتسويفه الغلبة .
وفي هذه الآية دليل على جواز قتال الجمع القليل للجمع الكثير ، وإن كانوا أضعاف
أضعافهم ، إذا علموا أن في ذلك نكاية لهم ، وأما جواز الفار من الجمع الكثير إذا
زادوا عن ضعفهم فسيأتي بيانه في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى .
( وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ، تحريض على الصبر في القتال ، فإن الله مع من
صبر لنصرة دينه ، ينصره ويعينه ويؤيده ، ويحتمل أن يكون من تمام كلامهم ، ويحتمل
أن يكون استئنافاً من الله ، قاله القفال .
البقرة : ( 250 ) ولما برزوا لجالوت . . . . .
( وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ( صاروا بالبراز من الأرض ، وهو ما
ظهر واستوى ، والمبارزة في الحرب أن يظهر كل قرن لصاحبه بحيث يراه قرنه ، وكان
جنود طالوت ثلاثمائة ألف فارس ، وقيل : مائة ألف ، وقال عكرمة : تسعين ألفاً .
( قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ( الصبر : هنا حبس النفس للقتال ،
فزعوا إلى الدعاء لله تعالى فنادوا بلفظ الرب الدال على الإصلاح وعلى الملك ، ففي
ذلك إشعار بالعبودية . وقولهم : أفرغ علينا صبراً سؤال بأن يصب عليهم الصبر حتى
يكون مستعلياً عليهم ، ويكون لهم كالظرف وهم كالمظروفين فيه .
( وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا ( فلا تزل عن مداحض القتال ، وهو كناية عن تشجيع قلوبهم
وتقويتها ، ولما سألوا ما يكون مستعلياً عليهم من الصبر سألوا تثبيت أقدامهم
وإرساخها .
( وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( أي : أعنا عليهم ، وجاؤوا بالوصف
المقتضي لخذلان أعدائهم ، وهو الكفر ، وكانوا يعبدون الأصنام ، وفي قولهم : ربنا ،
إقرار لله تعالى بالوحدانية ، وقرار له بالعبودية .
البقرة : ( 251 ) فهزموهم بإذن الله . . . . .
( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ ( أي : فغلبوهم بتمكين الله .
( وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ( طوَّل المفسورن في قصة كيفية قتل داود لجالوت ،
ولم ينص الله على شيء من الكيفية ، وقد اختصر ذلك السجاوندي اختصاراً يدل على
المقصود ، فقال : كان أصغر بنيه ، يعني بني إيشا ، والد داود ، الثلاثة عشر . وكان
مخلفاً في الغنم ، وأوحى إلى نبيهم أن قَاتِلَ جالوت من استوت عليه من ولد إيشا
درعٌ عند طالوت ، فلم تستو إلاَّ على داود ، وقيل : لما برز جالوت نادى طالوت : من
قتل جالوت أشاطره ملكي وأزوجه بنتي ، فبرز داود ورماه بحجر في قذافة فنفذ من بين
عينيه إلى قفاه وأصاب عسكره ، فقتل جماعة وانهزموا ، ثم ندم طالوت من شرطه بعد
الوفاء ، وهم بقتل داود ، ومات تائباً قاله الضحاك . وقال وهب : ندم قبل الوفاء
ومات عاصياً ، وقيل : أصاب
" صفحة رقم 278 "
داود موضع أنف جالوت ، وقيل : تفتت الحجر حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه ،
كالقبضة التي رمى بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يوم حنين .
وقال الزمخشري : كان أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه ، وكان داود سابعهم
وهو صغير يرعى الغنم ، فأوحى إلى شمويل أن داود بن إيشا يقتل جالوت ، فطلبه من
أبيه ، فجاء وقد مرّ في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله ، وقالت له
: إنك تقتل بنا جالوت ، فحملها في مخلاته ، ورمى بها جالوت فقتله ، وزوجه طالوت
بنته ، وروي أنه حسده وأراد قتله ، ثم تاب . إنتهى . وروي : أن داود كان من أرمى
الناس بالمقلاع ، وروي : أن الاحجار التأمت في المخلاة فصارت حجراً واحداً .
( وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ( روي أن
طالوت تخلى لداود عن الملك ، فصار الملك . وروي : أن بني إسرائيل غلبت طالوت على
ذلك بسبب قتل داود جالوت ، وروي أن طالوت أخاف داود فهرب منه ، فكان في جبل إلى أن
مات طالوت ، فملكته بنو إسرائيل ، قال الضحاك ، والكلبي : ملك داود بعد قتل جالوت
سبع سنين ، فلم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلاَّ على داود .
واختلف أكان داود نبياً عند قتل جالوت أم لا ؟ فقيل : كان نبياً ، لأن خوارق
العادات لا تكون إلاَّ من الأنبياء . وقال الحسن : لم يكن نبياً لأنه لا يجوز أن
يتولى من ليس بنبي على نبي ، والحكمة وضع الأمور مواضعها على الصواب ، وكمال ذلك
إنما يحصل بالنبوّة ، ولم يكن ذلك لغيره قبله ، كان الملك في سبط والنبوّة في سبط
، فلما مات شمويل وطالوت اجتمع لداود الملك والنبّوة .
وقال مقاتل : الحكمة الزبور ، وقيل : العدل في السيرة ؟ وقيل : الحكمة العلم
والعمل به .
وقال الضحاك : هي سلسلة كانت متدلية من السماء لا يمسكها ذو عاهة إلاَّ برىء ،
يتحاكم إليها ، فمن كان محقاً تمكن منها حتى إن رجلاً كانت عنده درة لرجل ، فجعلها
في عكازته ودفعها إليه أن احفظها حتى أمس السلسلة ، فتمكن منها لأنه ردها ، فرفعت
لشؤم احتياله .
وإذا كانت الحكمة كان ذكر الملك قبلها . والنبوّة بعده من باب الترقي .
( وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ( قيل : صنعة الدروع ، وقيل : منطق الطير وكلامه
للنحل والنمل ، وقيل : الزبور ، وقيل : الصوت الطيب والألحان ، قيل : ولم يعط الله
. أحداً من خلقه مثل صوته ، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها ،
وتظله الطير مصيخة له ، ويركد الماء الجاري ، وتسكن الريح ، وما صنعت المزامير
والصنوج إلاَّ على صوته .
وقيل : ) مِمَّا يَشَاء ( فعل الطاعات والأمر بها ، واجتناب المعاصي . والضمير
الفاعل في : يشاء عائد على داود أي : مما يشاء داود .
( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ ( قرأ
نافع ، ويعقوب ، وسهل : ولولا دفاع ، وهو مصدر دفع ، نحو : كتب كتاباً أو مصدر
دافع بمعنى دفع . قال أبو ذؤيب : ولقد حرصت بأن أدافع عنهم
فإذا المنية أقبلت لا تدفع
وقرأ الباقون : دفع ، مصدر دفع ، كضرب ضرباً . والمدفوع بهم جنود المسلمين ،
والمدفوعون المشركون ، ولفسدت الأرض بقتل المؤمنين وتخريب البلاد والمساجد ، قال
معناه ابن عباس ، وجماعة من المفسرين . أو الأبدال وهم أربعون ، كلما مات واحد
أقام الله واحداً بدل آخر ، وعند القيامة يموتوت كلهم : إثنان وعشرون بالشام ،
وثمانية عشر بالعراق .
وروى حديث الأبدال عن علي وأبي الدرداء ، ورفعا ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) . أو المذكورون في حديث : ( لولا عباد ركع ، وأطفال رضع وبهائم رتع لصب
عليكم العذاب صبا ) أو : من يصلي ومن يزكي ومن يصوم يدفع بهم عمن لا يفعل ذلك ، أو
: المؤمن يدفع به عن الكافر كما يبتلى المؤمن بالكافر ، قاله قتادة ، أو : الرجل
الصالح يدفع به عن ما به من أهل بيته وجيرانه البلاء ، أو : الشهود الذين يستخرج
بهم الحقوق ، قاله الثوري ، أو : السلطان ، أو : الظالم يدفع يد الظالم ، أو :
داود دفع به عن طالوت
" صفحة رقم 279 "
ولولا ذلك غلبت العمالقة على بني إسرائيل ، فيكون : الناس ، عاماً والمراد الخصوص
.
والذي يظهر : أن المدفوع بهم هم المؤمنون ، ولولا ذلك لفسدت الأرض ، لأن الكفر كان
يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها ، ولكنه تعالى لا يخلي زماناً من قائم يقوم بالحق
ويدعو إلى الله تعالى ، إلى أن جعل ذلك في أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقال الزمخشري : لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ، ويكف بهم فسادهم ، لغلب
المفسدون ، وفسدت الأرض ، وبطلت منافعها ، وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر
ما يعمر الأرض . إنتهى . وهو كلام حسن ، والذي قبله كلام ابن عطية .
والمصدر الذي هو : دفع ، أو : دفاع ، مضاف إلى الفاعل ، وبعضهم بدل من الناس ، وهو
بدل بعض من كل ، والباء في : ببعض ، متعلق بالمصدر والباء فيه للتعدية فهو مفعول
ثان للمصدر ، لأن دفع يتعدى إلى واحد ثم عدى إلى ثان بالباء ، وأصل التعدية بالباء
، أن يكون ذلك في الفعل اللازم : نحو : ) لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ( فإذا كان
متعدياً فقياسه أن يعدى بالهمزة ، تقول : طعم زيد اللحم ، ثم تقول أطعمت زيداً
اللحم ، ولا يجوز أن تقول : طعمت زيداً باللحم ، وإنما جاء ذلك قليلاً بحيث لا
ينقاس ، من ذلك : دفع ، وصك ، تقول : صك الحجر الحجر ، وتقول : صككت الحجر بالحجر
، أي جعلته يصكه . وكذلك قالوا : صككت الحجرين أحدهما بالآخر نظير : ) دَفْعُ
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ( فالباء للتعدية كالهمزة .
قال سيبوية ، وقد ذكر التعدية بالهمزة والتضعيف مانصه : وعلى ذلك دفعت الناس بعضهم
ببعض ، على حد قولك : ألزمت ، كأنك قلت في التمثيل : أدفعت ، كما أنك تقول : أذهبت
به ، وأذهبته من عندنا ، وأخرجته ، وخرجت به معك ، ثم قال سيبوية : صككت الحجرين
أحدهما بالآخر على أنه مفعول من قولك : اصطك الحجران أحدهما بالأخر ، ومثل ذلك :
ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض . إنتهى كلام سيبوية .
ولا يبعد في قولك : دفعت بعض الناس ببعض ، أن تكون الباء للآلة ، فلا يكون المجرور
بها مفعولاً به في المعنى ، بل الذي يكون مفعولاً به هو المنصوب ، وعلى قول سيبويه
يكون المنصوب مفعولاً به في اللفظ فاعلاً من جهة المعنى وعلى أن تكون الباء للآلة
يصح نسبة الفعل إليها على سبيل المجاز ، كما أنك تقول في : كتبت بالقلم ، كتبت
القلم .
وأسند الفساد إلى الأرض حقيقة : بالخراب ، وتعطيل المنافع ، أو مجازاً : والمراد
أهلها .
( وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ( وجه الاستدراك هنا هو أنه لما
قسم الناس إلى مدفوع ، وانه بدفعه بعضهم ببعض امتنع فساد ارض ، فيهجس في نفس من
غلب وقهر عن ما يريد من الفساد في الأرض أن الله تعالى ، غير متفضل عليه ، إذ لم
يبلغه مقاصده ومآربه ، فاستدرك أنه ، وإن لم يبلغ مقاصده هذا الطالب للفساد أن
الله لدو فضل عليه ، ويحسن إليه . واندرج في عموم العالمين ، وقال تعالى : ) إِنَّ
اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ( وما من أحد إلاَّ ولله عليه فضل ، ولو لم
يكن إلاَّ فضل الإختراع .
وهذا الذي أبديناه من فائدة الاستدراك هو على ما قرره أهل العلم باللسان من أن :
لكن ، تكون بين متنافيين بوجه ما ويتعلق على العالمين بفضل ، لأن فعله يتعدى :
بعلى ، فكذلك المصدر ، وربما حذفت : على ، مع الفعل ، تقول : فضلت فلاناً أي على
فلان ، وجمع بين الحذف والإثبات في قول الشاعر : وجدنا نهشلاً فضلت فقيما
كفضل ابن المخاض على الفصيل
واذا عدى إلى مفعول به بالتضعيف لزمت عليه ، كقوله : ) فَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ ).
البقرة : ( 252 ) تلك آيات الله . . . . .
( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ ( تلك إشارة للبعيد ، وآيات الله قيل : هي القرآن ، والأظهر أنها
الآيات التي تقدمت في القصص السابق من خروج أولئك الفارين من الموت ، وإمامة الله
لهم دفعة واحدة ، ثم أحياهم إحياءة واحدة ، وتمليك طالوت على بني إسرائيل وليس من
أولاد ملوكهم ، والإتيان بالتابوت بعد فقده مشتملاً على بقايا من إرث آل موسى
" صفحة رقم 280 "
وآل هارون ، وكونه تحمله الملائكة معاينة على ما نقل عن ترجمان القرآن ابن عباس ،
وذلك الابتلاء العظيم بالنهر في فصل القيظ والسفر ، وإجابة من توكل على الله في
النصرة ، وقتل داود جالوت ، وإيتاء الله إياه الملك والحكمة ، فهذه كلها آيات
عظيمة خوارق ، تلاها الله على نبيه بالحق أي مصحوبة ، بالحق لا كذب فيها ولا
انتحال ، ولا بقول كهنة ، بل مطابقاً لما في كتب بني إسرائيل . ولأمّة محمد ( صلى
الله عليه وسلم ) ) من هذا القصص الحظ الأوفر في الاستنصار بالله والإعداد للكفار
، وأن كثرة العدد قد يغلبها المقل ، وأن الوثوق بالله والرجوع إليه هو الذي يعوّل
عليه في الملمات ، ولما ذكر تعالى أنه تلا الآيات على نبيه ، أعلم أنه من المرسلين
، وأكد ذلك بأن واللام حيث أخبر بهذه الآية ، من غير قراءة كتاب ، ولا مدارسة
أحبار ، ولا سماع أخبار .
وتضمنت الآيات الكريمة أخبار بني إسرائيل حيث استفيدوا تمليك طالوت عليهم أن لذلك
آية تدل على تملكيه ، وهو أن التابوت الذي فقد تموه يأتيكم مشتملاً على ما كان فيه
من السكينة والبقية المخلفة عن آل موسى وآل هارون ، وأن الملائكة تحمله ، وإن في
ذلك آية أىّ آية لمن كان مؤمناً ، لأن هذا خارق عظيم . وفصل طالوت بالجنود وتبريزه
بهم من ديارهم للقاء العدو يدل على أنهم ملكوه وانقادوا له ، وأخبرهم عن الله
مبتليهم بنهر فاحتمل أن يكون الله نبأه ، واحتمل أن يكون ذلك بإخبار نبيهم له عن
الله ، وأن من شرب منه كرعاً فليس منه إلاَّ من اغترف غرفة بيده ، وأن من لم يطعمه
فإنه منه ، وأخبر الله أنهم قد خالف أكثرهم فشربوا منه ، ولما عبروا النهر ورأوا
ما هو فيه جالوت من العَدد والعُدد أخبروا أنهم لا طاقة لهم بذلك ، فأجابهم من
أيقن بلقاء الله : بأن الكثرة لا تدل على الغلبة ، فكثيراً ما غلب القليل الكثير
بتمكين الله وإقداره ، وأنه إذا كان الله مع الصابرين فهم المنصورون ، فحضوا على
التصابر عند لقاء العدوّ ، وحين برزوا لأعدائهم ، ووقعت العين على العين لجؤوا إلى
الله تعالى بالدعاء والاستغاثة ، وسألوا منه الصبر على القتال وتثبيت الأقدام عند
المداحض ، والنصر على من كفر به ، وكانت نتيجة هذا القول وصدق القتال أن مكنهم من
أعدائهم وهزموهم وقتل ملكهم ، واذا ذهب الرأس ذهب الجسد ، وأعطى الله داود ملك بني
إسرائيل والنبوّة وهي : الحكمة ، وعلمه مما أراد أن يعلمه من : الزبور ، وصنعة
اللبوس ، وغير ذلك مما علمه . ثم ذكر تعالى أن إصلاح الأرض هو بدفع بعض بعضاً ،
فلولا أن دفع الله عن بني إسرائيل بهزيمة قوم جالوت وقتل داود جالوت ، لغلب عليهم
أعداؤهم واستؤصلوا قتلاً ونهب وأسراً ، وكذلك من جرى مجراهم ، ولكن فضل الله هو
السابق ، حيث لم يمكن منهم أعداءهم ، ومكنهم منهم .
ثم أخبر تعالى أن هذه الآيات التي تضمنت هذه العبر وهذه الخوارق تلاها الله على
نبيه بالحق الذي لا شك فيه ، ثم أخبره أنه مرسل من جملة المرسلين الذين تقدّموه في
الزمان ، والرسالة فوق النبوّة ، ودل على رسالته إخباره بهذا القصص المتضمن للآيات
الباهرة الدالة على صدق من أخبر بها ، من غير أن يعلمه بها معلم إلاَّ الله .
( ) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ
اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا
اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَلَاكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ
شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن
يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ
هُمُ الظَّالِمُونَ اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ لاَ
تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاٌّ رْضِ
مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاّ
" صفحة رقم 281 "
َ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالاٌّ رْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ لاَ
إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى
لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ
ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ
أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ
أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } )
البقرة : ( 253 ) تلك الرسل فضلنا . . . . .
البيع : معروف ، والفعل منه باع يبيع ، ومن قال : أباع في معنى باع أخطأ .
الخلة : الصداقة كأنها تتخلل الأعضاء أي : تدخل خلالها ، والخلة الصديق ، قال
الشاعر : وكان لها في سالف الدهر خلة
يسارق بالطرف الخباء المسترا
السِّنَةُ والوسن : قيل : النعاس ، وهو الذي يتقدّم النوم من الفتور قال الشاعر :
وسنان أقصدَه النعاس فرنقت
في عينه سِنَة وليس بنائم
ويبقى مع السنة بعض الذهن ، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن ، وهذا البيت
يظهر منه التفرقة بين السنة والنوم . وقال ابن زيد : الوسنان الذي يقوم من النوم
وهو لا يعقل ، حتى ربما جرد السيف على أهله ، وهذا الذي قاله ، ابن زيد ليس بمفهوم
من كلام العرب ؛ قال المفضل : السنة ثقل في الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في
القلب .
الكرسي : آلة من الخشب أو غيره معلومة ، يقعد عليها ، والياء فيه كالياء في : قمري
، ليست للنسب ، وجمعه كراسي ، وسيأتي تفسيره بالنسبة إلى الله تعالى . آده الشيء
يؤوده : أثقله ، وتحمل منه مشقة قال الشاعر : ألاَ ما لسلمى اليوم بت جديدها
وضنَّت ، وما كان النوال يؤودها
الغي : مقابل الرشد ، يقال غوى الرجل يغوى أي : ضل في معتقد أو رأي ، ويقال : أغوى
الفصيل إذا بشم ، وإذا جاع على الضدّ .
الطاغوت : بناء مبالغة من طغى يطغى ، وحكى الطبري يطغو إذا جاوز الحدّ بزيادة عليه
، ووزنه الأصلي : فعلوت ، قلب إذ أصله : طغووت ، فجعلت اللام مكان العين ، والعين
مكان اللام ، فصار : طوغوت ، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً ، فصار :
طاغوت ، ومذهب أبي علي أنه مصدر : كرهبوت
" صفحة رقم 282 "
وجبروت ، وهو يوصف به الواحد والجمع . ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه أسم جنس يقع
للكثير والقليل ، وزعم أبو العباس أنه جمع ، وزعم بعضهم أن التاء في طاغوت بدل من
لام الكلمة ، ووزنه : فاعول .
العروة : موضع الإمساك وشدّ الأيدي والتعلق ، والعروة شجرة تبقى على الجذب لأن
الإبل تتعلق بها في الخصب مِن : عَرَوْتُهُ : ألممت به متعلقاً ، واعتراه ألم :
تعلق به .
الانفصام : الانقطاع ، وقيل الانكسار من غير بينونة ، والقصم بالقاف الكسر ببينونة
، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة .
( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( مناسبة هذه الآية لما
قبلها أنه لما ذكر اصطفاء طالوت على بني اسرائيل ، وتفضل داود عليهم بايتائه الملك
والحكمة وتعليمه ، ثم خاطب نبيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بأنه من
المرسلين ، وكان ظاهر اللفظ يقتضى التسوية بين المرسلين ، بين بأن المرسلين
متفاضلون أيضاً ، كما كان التفاضل بين غير المرسلين : كطالوت وبني اسرائيل .
و : تلك ، مبتدأ وخبره : الرسل ، و : فضلنا ، جملة حالية ، وذو الحال : الرسل ،
والعامل فيه إسم الإشارة . ويجوز أن يكون : الرسل ، صفة لاسم الإشارة ، أو عطف
بيان ، وأشار بتلك التي للبعيد لبعد ما بينهم من الأزمان وبين النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) ) ، قيل الإشارة إلى الرسل الذين ذكروا في هذه السورة ، أو للرسل التي
ثبت علمها عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والأولى أن تكون إشارة إلى
المرسلين في قوله : ) وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ولا يلزم من ذلك علمه (
صلى الله عليه وسلم ) ) بأعيانهم ، بل أخبر أنه من جملة المرسلين ، وأن المرسلين
فضل الله بعضهم على بعض ، وأتى : بتلك ، التي للواحدة المؤنثة ، وإن كان المشار
إليه جمعاً ، لأنه جمع تكسير ، وجمع التكسير حكمه حكم الواحدة المؤنثة في الوصف ،
وفي عود الضمير ، وفي غير ذلك ، وكان جمع تكسير هنا لاختصار اللفظ ، ولإزالة قلق
التكرار ، لأنه لو جاء : أولئك المرسلون فضلنا ، كان اللفظ فيه طول ، وكان فيه
التكرار والالتفات في : نتلوها ، وفي : فضلنا ، لأنه خروج إلى متكلم من غائب ، إذ
قبله ذكر لفظ : الله ، وهو لفظ غائب .
والتضعيف في : فضلنا ، للتعدية ، و : على بعض ، متعلق بفضلنا ، قيل : والتفضيل
بالفضائل بعد الفرائض أو الشرائع على غير ذي الشرائع ، أو بالخصائص كالكلام .
وقال الزمخشري : ) فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( لما أوجب ذلك من تفاضلهم
في الحسنات . انتهى . وفيه دسيسه اعتزالية .
ونص تعالى في هذه الآية على تفضيل بعض الأنبياء على بعض في الجملة دون تعيين مفضول
. وهكذا جاء في الحديث : ( أنا سيد ولد آدم ) . وقال : ( لا تفضلوني على موسى )
وقال : ( لا ينبغي لأحد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى ) .
( مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ( قرأ الجمهور بالتشديد ورفع الجلالة ، والعائد
على : من ، محذوف تقديره من كلمه وقرىء بنصب الجلالة والفاعل مستتر في : كلم ،
يعود على : من ، ورفع الجلالة أتم في التفضيل من النصب ، إذ الرفع يدل على الحضور
والخطاب منه تعالى للمتكلم ، والنصب يدل على الحضور دون الخطاب منه وقرأ أبو
المتوكل ، وأبو نهشل ، وابن السميفع : كالم الله بالألف ونصب الجلالة من المكالمة
، وهي صدور الكلام من اثنين ، ومنه قيل : كليم الله أي ، مكالمه فعيل بمعنى مفاعل
: كجليس وخليط . وذكر التفضيل بالكلام وهو من أشرف تفضيل حيث جعله محلاً لخطابه
ومناجاته من غير سفير ، وتضافرت نصوص المفسرين هنا على أن المراد بالمكلم هنا هو
موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، وقد سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
) عن آدم : أنبي مرسل ؟ فقال : ( نعم نبي مكلم ) . وقد صح في حديث الإسراء حيث
ارتقي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى مقام تأخر عنه فيه جبريل ، أنه جرت
بينه ( صلى الله عليه وسلم ) ) وبين ربه تعالى مخاطبات ومحاورات ، فلا يبعد أن
يدخل تحت قوله : ) مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ( : موسى وآدم ومحمد ( صلى الله
عليه وسلم ) ) ، لأنه قد ثبت تكليم الله لهم .
وفي قوله : ) كَلَامَ اللَّهِ ( إلفتات ، إذ هو خروج إلى ظاهر غائب من ضمير متكلم
، لما في ذكر هذا الاسم العظيم من التفخيم والتعظيم ، ولزوال قلق تكرار ضمير
المتكلم ، إذ كأن يكون : فضلنا ، وكلمنا ، ورفعنا ، وآتينا .
( وَرَفَعَ بَعْضَهُم
" صفحة رقم 283 "
ْ دَرَجَاتٍ ( هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو إبراهيم ، أو إدريس صلى الله
عليهم ، ثلاثة أقوال ، قالوا : والأول أظهر ، وهو قول مجاهد . قال ابن عطية :
ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره ممن عظمت آياته ، ويكون الكلام تأكيداً للأول
. انتهى . ويعنى أنه توكيد لقوله ) فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ). وقال
الزمخشري : ) وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ( أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء
، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة ، والظاهر أنه أراد محمداً (
صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنه هو المفضل عليهم ، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من
الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية وأكثر ، ولو لم يؤت إلاَّ القرآن وحده لكفى
به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر
دون سائر المعجزات .
وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله ، وإعلاء قدره ما لا يخفى ، لما فيه من الشهادة على
أنه العلم الذي لا يشتبه ، والمتميز الذي لا يلتبس ، ويقال للرجل : من فعل هذا ؟
فيقول : أحدكم ، أو بعضكم يريد به الذي تُعورِفَ واشْتُهِرَ بنحوه من الأفعال ،
فيكون ، أفخم من التصريح به ، وأنوه بصاحبه .
وسئل الحطيئة عن أشعر الناس ، فذكر ، زهيراً والنابغة ، ثم قال : ولو شئت لذكرت
الثالث . أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يفخم أمره .
ويجوز أن يريد : إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولى العزم من الرسل . انتهى كلام
الزمخشري . وهو كلام حسن .
وقال غيره : وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنه بعث إلى الناس كافة ، وأعطي
الخمس التي لم يعطها أحد ، وهو أعظم الناس أمة ، وختم به باب النبوات إلى غير ذلك
من الخلق العظيم الذي أعطاه ، ومن معجزاته ، وباهر آياته . وقال بعض أهل العلم :
إنه أوتى ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثلاثة آلاف معجزة وخصيصة ، وما أوتي نبي معجزة
إلاَّ أوتي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) مثلها وزاد عليهم بآيات .
وانتصاب : درجاتٍ ، قيل على المصدر ، لأن الدرجة بمعنى الرفعة ، أو على المصدر
الذي في موضع الحال ، أو على الحال على حذف مضاف ، أي : ذوي درجات ، أو على
المفعول الثاني لرفع على طريق التضمين لمعن : بلغ ، أو على إسقاط حرف الجر ، فوصل
الفعل وحرف الجر ، إما : على ، أو : في ، أو : إلى . ويحتمل أن يكون بدل اشتمال ،
أي : ورفع درجات بعضهم ، والمعنى على درجات بعض .
( وَلَقَدْ ءاتَيْنَا ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ ( تقدّم الكلام على تفسير هذه الجملة بعد قوله : ) وَلَقَدْ ءاتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ( فأغنى ذلك عن إعادته
هنا ، وخص من كلمه الله وعيسى من بين الأنبياء لما أوتيا من الآيات العظيمة ،
والمعجزات الباهرة ، ولأن آيتيهما موجودتان ، فتخصيصهما بالذكر طعن على تابعيهما
حيث لم ينقادوا لهذين الرسولين العظيمين ، ووقع منهم المنازعة والخلاف .
ونص هنا لعيسى على الآيات البينات تقبيحاً لأفعال اليهود حيث أنكروا نبوّته مع ما
ظهر على يديه من الآيات الواضحة ، ولما كان نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) )
هو الذي أوتي ما لم يؤته أحد من كثرة المعجزات وعظمها ، وكان المشهود له بإحراز
قصبات السبق ، حف ذكره بذكر هذين الرسولين العظيمين ، ليحصل لكل منهما بمجاورة
ذكره الشرف ، إذ هو بينهما واسطة عقد النبوّة ، فينزل منهما منزلة واسطة العقد
التي يزدان بها ما جاورها من اللآليء ، وتنوع هذا التقسيم ولم يرد على أسلوب واحد
، فجاءت الجملة الأولى من مبتدأ وخبر مصدرة بمن الدالة على التقسيم ، وجاءت
الثانية فعلية مسندة لضمير اسم الله ، لا لفظه ، لقربه ، إذ لو أسند إلى الظاهر
لكان منهم من كلم الله ، ورفع الله ، فكان يقرب التكرار ، فكان الإضمار أحسن .
وفي الجملتين : المفضل منهم لا معين بالأسم ، لكن يعين الأول صلة الموصول ، لأنها
معلومة عند السامع ، ويعين الثاني ما أخبر به عنه ، وهو أنه مرفوع على غيره من
الرسل بدرجات ، وهذه الرتبة ليست إلاَّ لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وجاءت
الثانية فعلية مسندة لضمير المتكلم على سبيل الإلتفات ، إذ قبله غائب ، وكل هذا
يدل على التوسع في افانين البلاغة وأساليب الفصاحة .
( وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مّن
" صفحة رقم 284 "
بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ( قيل : في الكلام حذف ، التقدير : فاختلف
أممهم واقتتلوا . ولو شاء الله ، ومفعول شاء محذوف تقديره : أن لا تقتتلوا ، وقيل
: أن لا يأمر بالقتال ، قاله الزجاج وقال مجاهد : أن لا تختلفوا الإختلاف الذي هو
سبب القتال ، وقيل : ولو شاء الله أن يضطرهم إلى الإيمان فلم يقتتلوا ، وقال أبو
عليّ بأن يسلبهم القوى والعقول التي يكون بها التكليف ، ولكن كلفهم فاختلفوا
بالكفر والإيمان . وقال عليّ بن عيسى : هذه مشيئة القدرة ، مثل : ) وَلَوْ شَاء
رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ( ولم يشأ ذلك ، وشاء تكليفهم
فاختلفوا وقال الزمخشري : ولو شاء الله مشيئة إلجاء وقسر ، وجواب : لو ما اقتتل ،
وهو فعل منفي بما ، فالفصيح أن لا يدخل عليه اللام كما في الآية ، ويجوز في القليل
أن تدخل عليه اللام ، فتقول : لو قام زيد لما قام عمرو ، و : من بعدهم صلة للذين ،
فيتعلق بمحذوف أي : الذين كانوا من بعدهم ، والضمير عائد على الرسل ، وقيل : عائد
على موسى وعيسى وأتباعهما .
وظاهر الكلام أنهم القوم الذين كانوا من بعد جميع الرسل ، وليس كذلك ، بل المراد :
ما اقتتل الناس بعد كل نبي ، فلف الكلام لفاً لم يفهمه السامع وهذا كما تقول :
اشتريت خيلاً ثم بعتها ، وإن كنت قد اشتريتها فرساً فرساً وبعته ، وكذلك هذا ،
إنما اختلف بعد كل نبي ، و : من بعد ، قيل : بدل من بعدهم ، والظاهر أنه متعلق
بقوله ما اقتتل ، إذ كان في البينات ، وهي الدلائل الواضحة ، ما يفضى إلى الاتفاق
وعدم التقاتل ، وغنية عن الاختلاف الموجب للتقاتل .
( وَلَاكِنِ اخْتَلَفُواْ ( هذا الاستدراك واضح لأن ما قبلها ضدّ لما بعدها ، لأن
المعنى : لو شاء الاتفاق لا تفقوا ، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا .
( فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ( من آمن بالتزامه دين الرسل
واتباعهم ، ومن كفر باعراضه عن اتباع الرسل حسداً وبغياً واستئثاراً بحطام الدنيا
.
( وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ ( قيل : الجملة تكررت توكيداً للأولى ،
قاله الزمخشري . وقيل : لا توكيد لاختلاف المشيئتين ، فالأولى : ولو شاء الله أن
يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول ، والثانية : ولو شاء الله أن
يأمر المؤمنين بالقتال ، ولكن أمر وشاء أن يقتتلوا ، وتعلق بهذه الآية مثبتو القدر
ونافوه ، ولم يزل ذلك مختلفاً فيه حتى كان الأعشى في الجاهلية نافياً حيث قال :
استأثر الله بالوفاء وبالعد
ل وولى الملامة الرجلا
وكان لبيد مثبتاً حيث قال : من هداه سبل الخير اهتدى
ناعم البال ومن شاء أضل
) وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( هذا يدل على أن ما أراد الله فعله
فهو كائن لا محالة ، وإن ارادة غيره غير مؤثرة ، وهو تعالى المستأثر بسر الحكمة
فيما قدّر وقضى من خير وشر ، وهو فعله تعالى . وقال الزمخشري : ولكنّ الله يفعل ما
يريد من الخذلان والعصمة ، وهذا على طريقة الاعتزالية .
قيل : وتضمنت هذه الآية الكريمة من أنواع البلاغة : التقسيم ، في قوله : )
مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ( بلا واسطة ، ومنهم من كلمه بواسطة ، وهذا التقسيم
اقتضاه المعنى ، وفي قوله ) فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ( وهذا
التقسيم ملفوظ به . و : الاختصاص ، مشاراً إليه ومنصوباً عليه ، و : التكرار ، في
لفظ البينات ، وفي ) وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ ( على أحد التأويلين .
و : الحذف ، في قوله ) مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ( أي كفاحاً وفي قوله )
يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( يعني من هداية من شاء وضلالة من شاء .
البقرة : ( 254 ) يا أيها الذين . . . . .
( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم ( مناسبة هذه
الآية لما قبلها
" صفحة رقم 285 "
هو أنه لما ذكر أن الله تعالى أراد الاختلاف إلى مؤمن وكافر ، وأراد الاقتتال ،
وأمر به المؤمنين ، وكان الجهاد يحتاج صاحبه إلى الإعانة عليه ، أمر تعالى بالنفقة
من بعض ما رزق ، فشمل النفقة في الجهاد ، وهي ، وإن لم ينص عليها ، مندرجة في قوله
: أنفقوا ، وداخلة فيها دخولاً أولياً ، إذ جاء الأمر بها عقب ذكر المؤمن والكافر
واقتتالهم ، قال ابن جريج ، والأكثرون : الآية عامّة في كل صدقة واجبة أو تطوع وقال
الحسن : هي في الزكاة ، والزكاة منها جزء للمجاهدين ، وقاله الزمخشري ، قال : أراد
الإنفاق الواجب لاتصال الوعيد به ) مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ ( لا تقدرون
فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق ، لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه ،
ولا خلة حتى تسامحكم أخلاؤكم به ، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم
تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات ، لأن الشفاعة ثَمّ في زيادة الفضل لا غير ،
( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( أراد : والتاركون الزكاة هم الظالمون ،
فقال : والكافرون ، للتغليظ ، كما قال في آخر آية الحج . ومن كفر مكان : ومن لم
يحج ، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار ، في قوله ) وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ
الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ ( انتهى كلامه .
ورُدَّ قوله بأنه ليس في الآية وعيد ، فكأنه قيل : حصلوا منافع الآخرة حين تكون في
الدنيا ، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة ، وقول
الزمخشري : لأن الشفاعة ثَمَّ في زيادة الفضل لا غير ، هو قول المعتزلة ، لأن
عندهم أن الشفاعة لا تكون للعصاة ، فلا يدخلون النار ، ولا للعصاة الذين دخلوا
النار ، فلا يخرجون منها بالشفاعة .
وقيل : المراد منه الإنفاق في الجهاد ، ويدل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد ،
فكأن المراد منه الأنفاق في الجهاد ، وهو قول الأصم .
قال ابن عطية : وظاهر هذه الآية أنها مراد بها جميع وجوه البر من سبيل خير ، وصلة
رحم ، ولكن ما تقدّم من الآيات في ذكر القتال ، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور
الكافرين ، يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله ، ويقوي ذلك قوله في آخر
الآية ) وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( أي : فكافحوهم بالقتال بالأنفس
وإنفاق الأموال . انتهى كلامه .
وندب تعالى العبد إلى أن ينفق مما رزقه ، والرزق ، وإن تناول غير الحلال ، فالمراد
منه هنا الحلال ، و : مما رزقناكم ، متعلق بقوله : أنفقوا ، و : ما ، موصولة بمعنى
الذي ، والعائد محذوف ، أي : رزقناكموه ، وقيل : ما مصدرية أي : من رزقنا إياكم ،
و : من قبل ، متعلق : بأنفقوا ، أيضاً ، واختلف في مدلول : مِنْ : فالأولى :
للتبعيض ، والثانية : لابتداء الغاية ، وزعم بعضهم أنها تتعلق : برزقناكم .
( مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ ( حذر تعالى من الإمساك قبل أن يأتي هذا اليوم ،
وهو يوم القيامة .
( لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ( أي : لا فدية فيه لأنفسكم من عذاب الله ، وذكر لفظ البيع
لما فيه من المعاوضة وأخذ البدل ، وقيل : لافداء عما منعتم من الزكاة تبتاعونه
تقدمونه عن الزكاة يومئذ . وقيل : لا بيع فيه للأعمال فتكتسب .
( وَلاَ خُلَّةٌ ( أي : لا صداقة تقتضي المساهمة ، كما كان ذلك في الدنيا ،
والمتقون بينهم في ذلك اليوم خلة ، لكن لا نحتاج إليها ، وخلة غيرهم لا تغني من
الله شيئاً .
( وَلاَ شَفَاعَةٌ ( اللفظ عام والمراد الخصوص ، أي : ولا شفاعة للكفار ، وقال
تعالى : ) لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ( أو : ولا شفاعة إلاَّ
باذن الله ، قال تعالى : ) وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ
أَذِنَ لَهُ ( وقال : ) وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( فعلى الخصوص
بالكفار لا شفاعة لهم ولا منهم ، وعلى تأويل الإذن : لا شفاعة للمؤمنين إلاَّ
بإذنه . وقيل : المراد العموم ، والمعنى أن انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع
عنده لا يكون يوم القيام ألبتة ، وأما الشفاعة التي توجد بالإذن من الله تعالى
فحقيقتها رحمة الله ، لكن شرف تعالى الذي أذن له في أن يشفع .
وقد تعلق بقوله : ولا
" صفحة رقم 286 "
شفاعة منكرو الشفاعة ، واعتقدوا أن هذا نفي لأصل الشفاعة ، وقد أثبتت الشفاعة في
الآخرة مشروطة بإذن الله ورضاه ، وصح حديث الشفاعة الذين تلقته الأمّة بالقبول ،
فلا التفات لمن أنكر ذلك .
وقرأ ابن كثير ، ويعقوب ، وأبو عمرو : بفتح الثلاثة من غير تنوين ، وكذلك : ) لاَّ
بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ ( في إبراهيم و : ) لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ
تَأْثِيمٌ ( في الطور وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين ، وقد تقدّم الكلام
على إعراب الاسم بعد : لا ، مبنياً على الفتح ، ومرفوعاً منوناً ، فأغنى ذلك بمن
إعادته .
والجملة من قوله : لا بيع ، في موضع الصفة ، ويحتاج إلى إضمار التقدير : ولا شفاعة
فيه ، فحذف لدلالة : فيه ، الأولى عليه .
والكافرون هم الظالمون ( يعني الجائزين الحدّ ، و : هم ، يحتمل أن يكون بدلاً من :
الكافرون ، وأن يكون مبتدأ ، وأن يكون فصلاً . قال عطاء بن دينار : الحمد لله الذي
قال : والكافرون ، ولم يقل : والظالمون هم الكافرون ، ولو نزل هكذا لكان قد حكم
على كل ظالم ، وهو من يضع الشيء في غير موضعه ، بالكفر ، فلم يكن ليخلص من الكفر
كل عاص إلاَّ من عصمه الله من العصيان .
( ( يعني الجائزين الحدّ ، و : هم ، يحتمل أن يكون بدلاً من : الكافرون ، وأن يكون
مبتدأ ، وأن يكون فصلاً . قال عطاء بن دينار : الحمد لله الذي قال : والكافرون ،
ولم يقل : والظالمون هم الكافرون ، ولو نزل هكذا لكان قد حكم على كل ظالم ، وهو من
يضع الشيء في غير موضعه ، بالكفر ، فلم يكن ليخلص من الكفر كل عاص إلاَّ من عصمه
الله من العصيان .
البقرة : ( 255 ) الله لا إله . . . . .
( اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ( هذه الآية تسمى آية
الكرسي لذكره فيها ، وثبت في ( صحيح مسلم ) من حديث أبيّ أنها أعظم آية ، وفي (
صحيح البخاري ) من حديث أبي هريرة : أن قارئها إذا آوى إلى فراشه لن يزال عليه من
الله حافظ ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح ، وورد أنها تعدل ثلث القرآن ، وورد أنا ما
قرئت في دار إلاَّ اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة
أربعين يوماً ، وورد أن من قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار
جاره ، والأبيات حوله ، وورد : أن سيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد
البقرة آية الكرسي ، وفضلت هذا التفضيل لما اشتملت عليه من توحيد الله وتعظيمه ،
وذكر صفاته العلا ، ولا مذكور أعظم من الله ، فذكره أفضل من كل ذكر .
قال الزمخشري : وبهذا يعلم : أن أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند الله علم العدل
والتوحيد ، ولا ينفرنك عنه كثرة أعدائه ف :
إن العرانين تلقاها محسدة
انتهى كلامه . وأهل العدل والتوحيد الذين أشار إليهم هم المعتزلة ، سموا أنفسهم
بذلك قال بعض شعرائهم من أبيات : إن أنصر التوحيد والعدل في
كل مقام باذلاً جهدي
وهذا الزمخشري لغلوه في محبة مذهبه يكاد أن يدخله في كل ما يتكلم به ، وإن لم يكن
مكانه .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه فضل بعض الأنبياء على بعض ،
وأن منهم من كلمه ، وفسر بموسى عليه السلام ، وأنه رفع بعضهم درجات ، وفسر بمحمد (
صلى الله عليه وسلم ) ) ، ونص على عيسى عليه السلام ، وتفضيل المتبوع يفهم منه
تفضيل التابع ، وكانت اليهود والنصارى قد أحدثوا بعد نبيهم بدعاً في أديانهم
وعقائدهم ، ونسبوا الله تعالى إلى ما لا يجوز عليه ، وكان رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) بعث إلى الناس كافة ، فكان منهم العرب ، وكانوا قد اتخذوا من دون
الله آلهة وأشركوا ، فصار جميع الناس المبعوث إليهم ( صلى الله عليه وسلم ) ) على
غير استقامة في شرائعهم وعقائدهم ، وذكر تعالى أن الكافرين هم الظالمون ، وهم
الواضعون الشيء غير مواضعه ، أتى بهذه الآية العظيمة الدالة على إفراد الله
بالوحدانية ، والمتضمنة صفاته العلا من : الحياة ، والاستبداد بالملك ، واستحالة
كونه محلاً للحوادث ، وملكه لما في السموات والأرض ، وامتناع الشفاعة عنده إلاَّ
باذنه ، وسعة علمه ، وعدم إحاطة أحد بشيء من علمه إلاَّ بارادته ، وباهر ما خلق من
الكرسي العظيم الاتساع ، ووصفه بالمبالغة العلو والعظيمة ، إلى سائر ما تضمنته من
أسمائه الحسنى وصفاته العلا ، نبههم بها على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد
، وعلى طرح ما سواها .
وتقدّم الكلام على لفظة : الله ، وعلى قوله : لا إله إلا هو ، فأغنى عن
" صفحة رقم 287 "
إعادته .
الحي : وصف وفعله حي ، قيل : وأصله : حيو ، فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها ،
وأدغمت في الياء ، وقيل : أصله فيعل ، فخفف كميت في ميت ، ولين في لين ، وهو وصف
لمن قامت به الحياة ، وهو بالنسبة إلى الله تعالى من صفات الذات حي بحياة لم تزل
ولا تزول ، وفسر هنا بالباقي ، قالوا : كما في قول لبيد : فاما تريني اليوم أصبحت
سالما
فلست بأحيا من كلاب وجعفر
أي : فلست بأبقى ، وحكى الطبري عن قوم أنه ، يقال : حي كما وصف نفسه ، ويسلم ذلك
دون أن ينظر فيه ، وحكي أيضاً عن قوم : أنه حي لا بحياة ، وهو قول المعتزلة ،
ولذلك قال الزمخشري . الحي الباقي الذي لا سبيل للفناء عليه ، وهو على اصطلاح
المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر . انتهى كلامه ، وعنى بالمتكلمين متكلمي مذهبه ،
والكلام على وصف الله بالحياة مذكور في كتب أصول الدين .
وقرأ الجمهور : القيوم ، على وزن فيعول ، أصله قيووم اجتمعت الياء والواو ، وسبقت
إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء وقرأ ابن مسعود ، وابن عمر ،
وعلقمة ، والنخعي والأعمش : القيام وقرأ علقمة أيضاً : القيم ، كما تقول : ديور
وديّار وقال أمية : لم تخلقِ السماءُ والنجوم
والشمس معها قمر يعوم
قدرها المهيمن القيُّوم
والحشر والجنة والنعيم
إلاَّ لأمر شأنه عظيم
ومعناه : أنه قائم على كل شيء بما يجب له ، بهذا فسره مجاهد ، والربيع ، والضحاك .
وقال ابن جبير : الدائم الوجود وقال ابن عباس : الذي لا يزول ولا يحول ، وقال
قتادة : القائم بتدبير خلقه . وقال الحسن : القائم على كل نفس بما كسبت . وقيل :
العالم بالأمور ، من قولهم : فلان يقوم بهذا الكتاب أي : يعلم ما فيه . وقيل : هو
مأخوذ من الاستقامة وقال أبو روق : الذي لا يبلى وقال الزمخشري : الدائم القيام
بتدبير الخلق وحفظه . وهذه الأقوال تقارب بعضها بعضاً .
وقالوا : فيعول ، من صيغ المبالغة ، وجوّزوا رفع الحي على أنه صفة للمبتدأ الذي هو
: الله ، أو على أنه خبر بعد خبر ، أو على أنه بدل من : هو ، أو من : الله تعالى ،
أو : على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو ، أو : على أنه مبتدأ والخبر : لا تأخذه ،
وأجودها الوصف ، ويدل عليه قراءة من قرأ : الحيَّ القيومَ بالنصب ، فقطع على إضمار
: أمدح ، فلو لم يكن وصفاً ما جاز فيه القطع ، ولا يقال : في هذا الوجه الفصل بين
الصفة والموصوف بالخبر ، لأن ذلك جائز حسن ، تقول : زيد قائم العاقل .
( لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ( يقال : وسن سنة ووسناً ، والمعنى : أنه
تعالى لا يغفل عن دقيق ولا جليل ، عبر بذلك عن الغفلة لأنه سببها ، فأطلق اسم
السبب على المسبب قال ابن جرير : معناه لا تحله الآفات والعاهات المذهلة عن حفظ
المخلوقات ، وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع ،
" صفحة رقم 288 "
وهذا هو مفهوم الخطاب ، كما قال تعالى : ) وَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ( وقيل : نزه
نفسه عن السنة والنوم لما فيها من الراحة ، وهو تعالى لا يجوز عليه التعب
والاستراحة . وقيل : المعنى لا يقهره شيء ولا يغلبه ، وفي المثل : النوم سلطان قال
الزمخشري : وهو تأكيد للقيوم ، لأن من جاز علمه ذلك استحال أن يكون قيوماً . ومنه
حديث موسى أنه سأل الملائكة ، وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية : أينام ربُّنا ؟
فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا تتركوه ينام . ثم قال : خذ بيدك قارورتين
مملوؤتين ، فأخذهما ، وألقى الله عليه ، النعاس ، فضرب إحداهما عن الأخرى فانكسرتا
، ثم أوحى إليه : قل لهؤلاء إني أمسك السموات والأرض بقدرتي ، فلو أخذني نوم أو
نعاس لزلتا . انتهى . هكذا أورد الزمخشري هذا الخبر ، وفيه أنه سأل الملائكة ،
وكان ذلك يعني السؤال من قومه ، كطلب الرؤية ، يعني أن طلب الرؤية هو عنده من باب
المستحيل ، كما استحال النوم في حقه تعالى ، وهذا من عادته في نصرة مذهبه ، يذكره
حيث لا تكون الآية تتعرض لتلك المسألة .
وأورد غيره هذا الخبر عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
) يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر ، قال وقع في نفس موسى : هل ينام الله ؟
وساق الخبر قريباً من معنى ما ذكره الزمخشري .
قال بعض معاصرينا : هذا حديث وضعه الحشوية ، ومستحيل أن سأل موسى ذلك عن نفسه أو
عن قومه ، لأن المؤمن لا يشك في أن الله ينام أو لا ينام ، فكيف الرسل ؟ انتهى
كلامه .
وفائدة تكرار : لا ، في قوله : ولا نوم ، انتفاؤهما على كل حال ، إذ لو أسقطت ، لا
: لااحتمل انتفاؤهما بقيد الاجتماع ، تقول : ما قام زيد وعمرو ، بل أحدهما ، ولا
يقال : ما قام زيد ولا عمرو ، بل أحدهما .
وتقدّم قول من جعل هذه الجملة خبراً لقوله : الحي ، على أن يكون : الحي ، مبتدأ ،
ويجوز أن يكون خبراً عن الله ، فيكون قد أخبره بعده إخباراً ، على مذهب من يجيز
ذلك ، وجوّز أبو البقاء أن تكون الجملة في موضع الحال من الضمير المستكن في القيوم
، أي : قيوم بأمر الخلق غير غافل .
( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( يصح أن يكون خبراً بعد خبر ،
ويصح أن يكون استئناف خبر ، كما يصح ذلك في الجملة التي قبلها . و : ما ، للعموم
تشمل كل موجود ، و : اللام ، للملك أخبر تعالى أن مظروف السموات والأرض ملك له
تعالى ، وكرر : ما ، للتوكيد . وكان ذكر المظروف هنا دون ذكر الظرف ، لأن المقصود
نفي الإلهية عن غير الله تعالى ، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره ، لأن ما عبد من دون
الله من الأجرام النيرة التي في السموات : كالشمس ، والقمر ، والشعرى ؛ والأشخاص
الأرضية : كالأصنام ، وبعض بني آدم ، كل منهم ملك لله تعالى ، مربوب مخلوق .
وتقدّم أنه تعالى خالق السموات والأرض ، فلم يذكرهما كونه مالكاً لهما استغناء بما
تقدّم .
( مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( كان المشركون يزعمون أن
الأصنام تشفع لهم عند الله ، وكانوا يقولون : إنما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى
. وفي هذه الآية أعظم دليل على ملكوت الله ، وعظم كبريائه ، بحيث لا يمكن أن يقدم
أحد على الشفاعة عنده إلاَّ باذن منه تعالى ، كما قال تعالى : ) لاَّ
يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ( ودلت الآية على وجود
الشفاعة بإذنه تعالى ، والإذن هنا معناه الأمر ، كما ورد : إشفع تشفع ، أو العلم
أو التمكين إن شفع أحد بلا أمر .
و : من ، رفع على الابتداء ، وهو استفهام في معنى النفي ، ولذلك دخلت : إلاَّ ، في
قوله : إلا بإذنه ، وخبر المبتدأ قالوا : ذا ، ويكون الذي نعتاً لذا ، أو بدلاً
منه ، وعلى هذا الذي قالوا يكون : ذا ، اسم إشارة ، وفي ذلك بعد ، لأن : ذا ، إذا
كان اسم إشارة وكان خبراً عن : من ، استقلت بهما الجملة ، وأنت ترى احتياجها إلى
الموصول بعدها .
والذي يظهر أن : من ، الإستفهامية ركب معها : ذا ، وهو الذي يعبر عنها بعض
النحويين أن : ذا ، لغو ، فيكون : من ذا ، كله في موضع رفع بالابتداء ، والموصول
بعدهما هو الخبر ، إذ به يتم معنى الجملة الابتدائية ، و : عنده ، معمول : ليشفع ،
وقيل : يجوز أن يكون حالاً من الضمير في يشفع ، فيكون التقدير : يشفع مستقراً عنده
، وضعف بأن المعنى
" صفحة رقم 289 "
على يشفع إليه . وقيل : الحال أقوى لأنه إذا لم يشفع من هو عنده وقريب منه ،
فشفاعة غيره أبعد ، و : بإذنه ، متعلق : بيشفع ، والباء للمصاحبة ، وهي التي يعبر
عنها بالحال ، أي : لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له .
( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ( الضمير يعود على : ما وهم
الخلق ، وغلب من يعقل ، وقيل : الضميران في : أيديهم وخلفهم ، عائدان على كل من
يعقل ممن تضمنه قوله : ) لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( قاله
ابن عطية ، وججّوز ابن عطية أن يعود على ما دل عليه : من ذا ، من الملائكة
والأنبياء . وقيل : على الملائكة ، قاله مقاتل ، و : ما بين أيديهم ، أمر الآخرة ،
و : ما خلفهم ، أمر الدنيا . قاله ابن عباس ، وقتادة ، أو العكس قاله مجاهد ، وابن
جريح ، والحكم بن عتبة ، والسدّي وأشياخه .
و : ما بين أيديهم ، هو ما قبل خلقهم ، و : ما خلفهم ، هو ما بعد خلقهم ، أو : ما
بين أيديهم ، ما أظهروه ، و : ما خلفهم ، ما كتموه . قاله الماوردي ، أو : ما بين
أيديهم ، من السماء إلى الأرض ، و : ما خلفهم ، ما في السموات . أو : ما بين
أيديهم ، الحاضر من أفعالهم وأحوالهم ، و : ما خلفهم ، ما سيكون . أو : عكسه ، ذكر
هذين القولين تاج القرّاء في تفسيره .
أو : ما بين أيدي الملائكة من أمر الشفاعة ، وما خلفهم من أمر الدنيا أو بالعكس
قاله مجاهد . أو ما فعلوه وما هم فاعلوه ، قاله مقاتل .
والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات وكنى
بهاتين الجهتين عن سائر جهات من أحاط علمه به ، كما تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ،
وأنت تعني بذلك جميع جسده ، واستعيرت الجهات لأحوال المعلومات ، فالمعنى أنه تعالى
عالم بسائر أحوال المخلوقات ، لا يعزب عنه شيء ، فلا يراد بما بين الأيدي ولا بما
خلفهم شيء معين . كما ذهبوا إليه .
( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ ( الإحاطة تقتضي الحفوف بالشيء من جميع
جهاته ، والاشتمال عليه ، والعلم هنا المعلوم لأن علم الله الذي هو صفة ذاته لا
يتبعض ، كما جاء في حديث موسى والخضر : ما نقص علمي وعلمك من علمه إلاَّ كما نقص
هذا العصفور من هذا البحر ، والاستثناء يدل على أن المراد بالعلم المعلومات ،
وقالوا : اللهم اغفر علمك فينا ، أي معلومك ، والمعنى : لا يعلمون من الغيب الذي
هو معلوم الله شيئاً إلاَّ ما شاء أن يُعلمهم ، قاله الكلبي . وقال الزجاج : إبلا
بما أنبأ به الأنبياء تثبيتاً لنبوتّهم .
و : بشيء وبما شاء ، متعلقان : بيحيطون ، وصار تعلق حرفي جر من جنس واحد بعامل
واحد لأن ذلك على طريق البدل ، نحو قولك : لا أمر بأحد إلاَّ بزيد ، والأولى أن
تقدر مفعول شاء أن يحيطوا به ، لدلالة قوله : ولا يحيطون على ذلك .
( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( قرأ الجمهور وسع بكسر السين ،
وقرىء شاذا بسكونها ، وقرىء أيضاً شاذا وسع بسكونها وضم العين ، والسموات والأرض
بالرفع مبتدأ ، وخبراً ، والكرسي : جسم عظيم يسع السموات والأرض ، فقيل : هو نفس
العرش ، قاله الحسن . وقال غيره : دون العرش وفوق السماء السابعة ، وقيل : تحت
الأرض كالعرش فوق السماء ، عن السدّي وقيل : الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم ، أو :
ملك آخر عظيم القدر . وقيل : السلطان والقدرة ، والعرب تسمى أصل كل شيء الكرسي ،
وسمي الملك بالكرسي لأن الملك في حال حكمه وأمره ونهيه يجلس عليه فسمي باسم مكانه
على سبيل المجاز . قال الشاعر : قد علم القدّوس مولى القدس
أن أبا العباس أولى نفس
" صفحة رقم 290 "
في معدن الملك القديم الكرسي
وقيل : الكرسي العلم . لأن موضع العالم هو الكرسي ، سميت صفة الشيء باسم مكانه على
سبيل المحاز ، ومنه يقال للعلماء : كراسي ، لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال :
أوتاد الأرض ، ومنه الكراسة ، وقال الشاعر : تحف بهم بيض الوجوه وعصبة
كراسي بالأحداث حين تنوب
أي : ترجع ، وقيل : الكرسي السر قال الشاعر : مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه
ولا بكرسيّ علم الله مخلوق
وقيل : الكرسي : ملك من الملائكة يملأ السموات والأرض ، وقيل : قدرة الله ، وقيل :
تدبير الله ، حكاهما الماوردي ، وقال : هو الأصل المعتمد عليه . قال المغربي : من
تكرس الشيء تراكب بعضه على بعض ، وأكرسته أنا ، قال العجاج : يا صاح هل تعرف رسماً
مكرسا
قال نعم أعرفه وأكرسا
وقال آخر : نحن الكراسي لا تعدهوازن
أمثالنا في النائبات ولا الأشد
وقال الزمخشري : وفي قوله : ) وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ( أربعة أوجه : أحدها : أن كرسيه
لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته ، وما هو إلاَّ تصوير لعظمته وتخييل فقط ،
ولا كرسي ثم ، ولا قعود ، ولا قاعد ، لقوله : ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( من غير تصور قبضه وطىّ ويمين ، وإنما هو تخييل لعظمة
شأنه ، وتمثيل حسيّ . ألا ترى إلى قوله : ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ ( ؟ انتهى ما ذكره في هذا الوجه .
واختار القفال معناه قال : المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله تعالى وكبريائه
وتعزيزه ، خاطب الخلق في تعريف ذاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم .
وقيل : كرسي لؤلؤ ، طول القائمة سبعمائة سنة ، وطول الكرسي حيث لا يعلمه العالمون
. ذكره ابن عساكر في تاريخه ، عن عليّ بن أبي طالب ، أن رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ) قاله .
قال ابن عطية : والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش ،
والعرش أعظم منه ، وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما السموات
السبع في الكرسي إلاَّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس ) . وقال أبو ذرّ : سمعت رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقول : ما الكرسيّ في العرش إلاَّ كحلقة من حديد
ألقيت في فلاة من الأرض ) . وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله . إنتهى كلامه .
( وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ( قرأ الجمهور : يؤوده بالهمز ، وقرىء شاذاً بالحذف
، كما حذفت همزة أناس ، وقرىء أيضاً : يووده ، بواو منضمومة على البدل من الهمزة
أي : لا يشقه ، ولا يثقل عليه ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم . وقال
ابان بن تغلب : لا يتعاظمه حفظهما ، وقيل : لا يشغله حفظ السموات عن حفظ الأرضين ،
ولا حفظ الأرضين عن حفظ السموات .
والهاء
" صفحة رقم 291 "
تعود على الله تعالى ، وقيل : تعود على يالكرسي ، والظاهر الأول لتكون الضمائر
متناسبة لواحد ولا تختلف ، ولبعد نسبة الحفظ إلى الكرسي .
( وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ ( عليّ في جلاله ، عظيم في سلطانه . وقال ابن عباس
: الذي كمل في عظمته ، وقيل : العظيم المعظّم ، كما يقال : العتيق في المعتق ، قال
الأعشى : وكأنّ الخمر العتيق من الاس
فنط ممزوجة بماء زلال
وأنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف قبل الخلق وبعد فنائهم ، إذ لا معظم له حينئذ ، فلا
يجوز هذا القول . وقيل : والجواب أنها صفة فعل : كالخلق والرزق ، فلا يلزم ما
قالوه . وقيل : العلى الرفيع فوق خلقه ، المتعالي عن الأشباه والأنداد ، وقيل :
العالي من : علا يعلو : ارتفع ، أي : العالي على خلقه بقدرته ، والعظيم ذو العظمة
الذي كل شيء دونه ، فلا شيء أعظم منه . قال الماوردي : وفي الفرق بين العلي
والعالي وجهان : أحدهما : ان العالي هو الموجود في محل العلو ، والعلي هو مستحق
للعلو . الثاني : أن العالي هو الذي يجوز أن يشارك ، والعلي هو الذي لا يجوز أن
يشارك ، فعلى هذا الوجه يجوز أن يوصف الله بالعليّ لا بالعالي ، وعلى الأول يجوز
أن يوصف بهما ، وقيل : العلي : القاهر الغالب للأشياء ، تقول العرب : علا فلان
فلاناً غلبه وقهره . قال الشاعر : فلما علونا واستوينا عليهم
تركناهم صرعى لنسر وكاسر
ومنه ) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ ( وقال الزمخشري : العلي الشأن العظيم
الملك والقدرة . إنتهى . وقال قوم : العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه .
قال ابن عطية : وهذا قول جهلة مجسمين ، وكان الوجه أن لا يحكى . وقال أيضاً :
العلي يراد به علو القدر والمنزلة ، لا علو المكان ، لأن الله منزه عن التحيز .
إنتهى .
قال الزمخشري : ) فَانٍ قُلْتَ ( كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف ؟
) قُلْتَ ( ما منها جملة إلاَّ وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه ،
والبيان متحد بالمبين ، فلو توسط بينهما عطف لكان كما تقول اعرب : بين العصا
ومحائها ، فالأولى : بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساه عنه ؛
والثانية : لكونه مالكاً لما يدبره . والثالثة : لكبرياء شأنه ، والرابعة :
لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى .
والخامسة : لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها ، أو : يجلاله وعظيم قدره . إنتهى
كلامه .
وتضمنت هذه الآية الكريمة صفات الذات ، منها : الوحدانية ، بقوله : لا إله إلا هو
، والحياة ، الدالة على البقاء بقوله : الحي ، و : القدرة ، بقول ه : القيوم ،
واستطرد من القيومية لانتفاء ما يؤول إلى العجز ، وهو ما يعرض للقادر غيره تعالى
من الغفلة والآفات ، فينتفي عنه وصفه بالقدرة إذ ذاك ، واستطرد من القيومية الدالة
على القدرة إلى ملكه وقهره وغلبته لما في السموات والأرض ، إذ الملك آثار القدرة ،
إذ للمالك التصرف في المملوك . و : الارادة ، بقوله : ) مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ
عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( فهذا دال على الإختيار والإرادة ، و : العلم بقوله :
) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ( ثم سلب عنهم العلم إلاَّ إن
أعلمهم هو تعالى ، فلما تكملت صفات الذات العلا ، واندرج معها شيء من صفات الفعل
وانتفى عنه تعالى أن يكون محلاً للحوادث ، ختم ذلك بكونه : العلي القدر العظيم
الشأن .
البقرة : ( 256 ) لا إكراه في . . . . .
( لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ( ذكر في سبب نزولها أقوال مضمون أكثرها : أن بعض
أولاد الأنصار تنصر ، وبعضهم تهوّد ، فأراد آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام ، فنزلت
. وقال أنس : نزلت فيمن قال له
" صفحة رقم 292 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أسلم ) . فقال : أجدني كارهاً .
واختلف أهل العلم في هذه الآية : أهي منسوخة ؟ أم ليست بمنسوخة ؟ فقيل : هي منسوخة
، وهي من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف ، وقال قتادة ، والضحاك : هي محكمة
خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ، قالا : أمر بقتال أهل الأوثان لا يقبل
منهم إلاَّ الإسلام أو السيف ، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية . ومذهب مالك :
أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش ، فتكون الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس
كلهم ، غ لا يقف ذلك على أهل الكتاب . وقال الكلبي : لا إكراه بعد إسلام العرب ،
ويقبل الجزية . وقال الزجاج : لا تنسبوا إلى الكراهة من أسلم مكرهاً ، يقال : أكفره
نسبه إلى الكفر . قال الشاعر : وطائفة قد أكفروني بحبهم
وطائفة قالوا : مسيء ومذنب
وقيل : لا يكره على الإسلام من خرج إلى غيره . وقال أبو مسلم ، والقفال : معناه
أنه ما بني تعالى أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، وإنما بناه على التمكن
والاختيار ، ويدل على هذا المعنى أنه لما بين دلائل التوحيد بياناً شافياً ، قال
بعد ذلك : لم يبق عذر في الكفر إلاَّ أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ، وهذا ما لا
يجوز في دار الدنيا التي هي دار الإبتلاء ، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان
معنى الإبتلاء . ويؤكد هذا قوله بعد : ) قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ (
يعني : ظهرت الدلائل ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلاَّ طريق القسر والإلجاء
وليس بجائز لأنه ينافي التكليف ، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول
المعتزلة ، ولذلك قال الزمخشري : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ،
ولكن على التمكين والإختيار ، ونحوه قوله : ) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى
الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ
مُؤْمِنِينَ ( أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر على
الأختيار .
والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده ، والألف واللام للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة
أي : في دين الله .
( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ( أي : استبان الإيمان من الكفر ، وهذا
يبين أن الدين هو معتقد الإسلام .
وقرأ الجمهور : الرشد ، على وزن القفل ، والحسن : الرشد ، على وزن العنق وأبو عبد
الرحمن : الرشد ، على وزن الجبل ، ورويت هذه أيضاً عن الشعبي ، والحسن ومجاهد .
وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن : الرشاد ، بالألف .
والجمهور على إدغام دال ، قد ، في : تاء ، تبين . وقرىء شاذاً بالإظهار ، وتبين
الرشد ، بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان ، وهذه الجملة كأنها
كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين ، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في
الدين طوعاً من غير إكراه ، ولا موضع لها من الإعراب .
( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَى ( الطاغوت : الشيطان . قاله عمر ، ومجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، وقتادة
، والسدّي . أو : الساحر ، قاله ابن سيرين ، وأبو العالية . أو : الكاهن ، قاله
جابر ، وابن جبير ، ورفيع ، وابن جريح . أو : ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك :
كفرعون ، ونمروذ ، قاله الطبري . أو : الأصنام ، قاله بعضهم .
وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً ، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها .
قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب
الكفر بالطاغوت . إنتهى .
وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي ، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله
، لأن الكفر بها هو رفضها ، ورفض عبادتها ، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا
تستلزم الجملة الثانية ، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله ، لكن الإيمان يستلزم
الكفر بالطاغوت ، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على
" صفحة رقم 293 "
الانسلاخ بالكلية ، مما كان مشتبهاً به ، سابقاً له قبل الإيمان ، لأن في النصية
عليه مزيد تأكيد على تركه .
وجواب الشرط : فقد استمسك ، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في
الماضي على تحقيقه ، وإن كان مستقبلاً في المعنى لإنه جواب الشرط ، إشعاراً بأنه
مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط ، وأنه كائن لا
محالة لا يمكن أن يتخلف عنه ، و : بالعروة ، متعلق باستمسك ، جعل ما تمسك به من
الإيمان عروة ، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك . قال الزمخشري
: وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر ، والاستدلال بالمشاهد المحسوس ، حتى يتصوره السامع
كأنه ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن .
والمشبه بالعروة الإيمان ، قاله : مجاهد . أو : الإسلام قاله السدّي أو : لا إله
إلا الله ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والضحاك ، أو : القرآن ، قاله السدّي
أيضاً ، أو : السنة ، أو : التوفيق . أو : العهد الوثيق . أو : السبب الموصل إلى
رضا الله وهذه أقوال متقاربه .
( لاَ انفِصَامَ لَهَا ( لا انكسار لها ولا انقطاع ، قال الفراء : الانفصام
والانقصام هما لغتان ، وبالفاء أفصح ، وفرق بعضهم بينهما ، فقال : الفصم انكسار
بغير بينونه ، والقصم انكسار ببينونة .
وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من العروة ، وقيل : من الضمير المستكن في
الوثقى ، ويجوز أن يكون خبراً مستأنفاً من الله عن العروة ، و : لها ، في موضع
الخبر ، فتتعلق بمحذوف أي : كائن لها .
( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( أتى بهذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان
بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده الجنان ، فناسب هذا ذكر هذين الوصفين لأن الكفر
بالطاغوت والإيمان بالله ، وقيل : سميع لدعائك يا محمد ، عليم بحرصك واجتهادك .
البقرة : ( 257 ) الله ولي الذين . . . . .
( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ ( الولي ، هنا الناصر والمعين أو المحب أو متولى أمورهم ، ومعنى : آمنوا
، أرادوا أن يؤمنوا ، والظلمات : هنا الكفر ، والنور الإيمان ، قاله قتادة ،
والضحاك ، والربيع . قيل : وجمعت الظلمات لاختلاف الضلالات ، ووحد النور لأن
الإيمان واحد .
والإخراج هنا إن كان حقيقة فيكون مختصاً بمن كان كافراً ثم آمن ، وإن كان مجازاً
فهو مجاز عن منع الله إياهم من دخولهم في الظلمات قال الحسن : معنى يخرجهم يمنعهم
، وإن لم يدخلوا ، والمعنى أنه لو خلا عن توفيق الله لوقع في الظلمات ، فصار
توفيقه سبباً لدفع تلك الظلمة ، قالوا : ومثل هذه الاستعارة شائع سائغ في كلامهم ،
كما قال طفيل الغنوي : فإن تكنِ الأيام أحسنَّ مرة
إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
قال الواقدي : كل شيء في القرآن من الظلمات والنور فإنه أراد به الكفر والإيمان
غير التي في الأنعام ، وهو : ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( فإنه أراد به
الليل والنهار .
وقال الواسطي : يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى آدابها : كالرضا والصدق والتوكل
والمعرفة والمحبة .
وقال أبو عثمان : يخرجهم من ظلمات الوحشة والفرقة إلى نور الوصلة والإلفة .
وقال الزمخشري : آمنوا أرادوا أن يؤمنوا ، تلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من
الكفر إلى الإيمان ، أو : الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم
، بما يهديهم ويوفقهم لها من حلها ، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين .
" صفحة رقم 294 "
انتهى . فيكون على هذا القول : آمنوا على حقيقته .
( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ
النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ( قال مجاهد ، وعبدة بن أبي لبابة ، نزلت في قوم
آمنوا بعيسى ، فلما جاء محمد عليه السلام كفروا به ، فذلك إخراجهم من النور إلى
الظلمات .
وقال الكلبي يخرجونهم من إيمانهم بموسى عليه السلام واستفتاحهم بمحمد ( صلى الله
عليه وسلم ) ) إلى كفرهم به ، وقيل : من فطرة الإسلام ، وقيل : من نور الإقرار
بالميثاق ، وقيل : من الإقرار باللسان إلى النفاق . وقيل : من نور الثواب في الجنة
إلى ظلمة العذاب في النار . وقيل : من نور الحق إلى ظلمة الهوى . وقيل : من نور
العقل إلى ظلمة الجهل .
وقال الزمخشري : من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة .
وقال ابن عطية : لفظ الآية مستغن عن التخصيص ، بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن
بعضها كالعرب ، وذلك أن كان من آمن منهم فالله وليه ، أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور
الإيمان ، ومن كفر بعد وجود الداعي ، النبي المرسل ، فشيطانه ومغويه كأنه أخرجه من
الإيمان ، إذ هو معد ، وأهل للدخول فيه ، وهذا كما تقول لمن منعك الدخول في أمر : أخرجتني
يا فلان من هذا الأمر ، وإن كنت لم تدخل فيه ألبتة . انتهى .
والمراد بالطاغوت : الصنم ، لقوله : ) رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ
النَّاسِ ( وقيل : الشياطين والطاغوت اسم جنس .
وقرأ الحسن : الطواغيت بالجمع .
وقد تباين الإخبار في هاتين الجملتين ، فاستفتحت آية المؤمنين باسم الله تعالى ،
وأخبر عنه بأنه ولي المؤمنين تشريفاً لهم إذ بدى في جملتهم باسمه تعالى ، ولقربه
من قوله : ) وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( واستفتحت آية الكافرين بذكرهم نعياً
عليهم ، وتسمية لهم بما صدر منهم من القبيح ثم أخبر عنهم بأن أولياءهم الطاغوت ،
ولم يصدّر الطاغوت استهانة به ، وأنه مما ينبغي أن لا يجعل مقابلاً لله تعالى ، ثم
عكس الإخبار فيه فابتدىء بقوله : أولياؤهم ، وجعل الطاغوت خبراً . كأن الطاغوت هو
مجهول . أعلم المخاطب بأن أولياء الكفار هو الطاغوت ، والأحسن في : يخرجهم ويخرجونهم
أن لا يكون له موضع من الإعراب ، لأنه خرج مخرج التفسير للولاية ، وكأنه من حيث إن
الله ولي المؤمنين بين وجه الولاية والنصر والتأييد ، بأنها آخراجهم من الظلمات
إلى النور ، وكذلك في الكفار .
وجوّزوا أن يكون : يخرجهم ، حالاً والعامل فيه : ولي ، وأن يكون خبراً ثانياً ،
وجوّزوا أن يكون : يخرجونهم ، حالاً والعامل فيه معنى الطاغوت . وهو نظير ما قاله
أبو عليّ : من نصب : نزّاعة ، على الحال ، والعامل فيها : لظى ، وسنذكره في موضعه
ان شاء الله و : من ، و : إلى ، متعلقان بيخرج .
( أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( تقدّم تفسير هذه الجملة
فأغنى عن إعادته .
وذكروا في هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة وعلم البيان ، منها في آية الكرسي : حسن
الافتتاح لأنها افتتحت بأجل أسماء الله تعالى ، وتكرار اسمه في ثمانية عشر موضعاً
، وتكرير الصفات ، والقطع للجمل بعضها عن بعض ، ولم يصلها بحرف العطف . والطباق :
في قوله ) الْحَىُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ( فإن النوم
موت وغفلة ، والحي القيوم يناقضه . وفي قوله : ) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ ( والتشبيه : في قراءة من قرأ ) وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( أي كوسع ، فإن كان الكرسي جرماً فتشبيه
محسوس بمحسوس ، أو معنى فتشبيه معقول بمحسوس .
ومعدول الخطاب في ) لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ( إذا كان المعنى لا تكرهوا على
الدين أحداً . والطباق : أيضاً في قوله ) قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ (
وفي قوله : ) ءامَنُواْ وَكَفَرُواْ ( وفي قوله ) مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ ( والتكرار : في
" صفحة رقم 295 "
الإخراج لتباين تعليقهما ، والتأكيد : بالمضمر في قوله : ) هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
).
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة الإشارة إلى الرسل المذكورين في قوله : ) وَإِنَّكَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( وأخبر تعالى أنه فضل بعضهم على بعض ، فذكر أن ) مّنْهُمْ
مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ( وفسر بموسى عليه السلام ، وبدىء به لتقدّمه في الزمان ،
وأخبر أنه ) رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ( وفسر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) ) ، وذكر ثالثاً عيسى بن مريم ، فجاء ذكر رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) )
وسطاً بين هذين النبيين العظيمين ، فكان كواسطة العقد ، ثم ذكر تعالى أن اقتتال
المتقدمين بعد مجيء البينات هو صادر عن مشيئته .
ثم ذكر اختلافهم وانقسامم إلى مؤمن وكافر ، وأنه تعالى يفعل ما يريد ، ثم أمر
المؤمنين بالإنفاق مما رزقهم من قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه توسيل بصداقة ولا
شفاعة .
ثم ذكر أن الكافرين هم المجاوزون الحد الذي حده الله تعالى ، ثم ذكر تعالى أنه هو
المتوحد بالإلهية ، وذلك عقيب ذكر الكافرين . وذكرا أتباع موسى عليهما السلام .
ثم سرد صفاته العلا وهي التي يجب أن تعتقد في الله تعالى من كونه واحداً حياً
قائماً بتدبير الخلق ، لا يلحقه آفة ، مالكاً للسموات والأرض ، عالماً بسرائر
المعلومات ، لا يعلم أحد شيئاً من علمه إلاَّ بما يشاء هو تعالى ، وذكر عظيم
مخلوقاته ، وأن بعضها ، وهو الكرسي ، يسع السموات والأرض ، ولا يثقل ولا يشق عليه
حفظ السموات والأرض .
ثم ذكر أنه بعد وضوح صفاته العلا ف ) لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ( إذ قد تبينت طرق
الرشاد من طرق الغواية ، ثم ذكر أن من كفر بالطاغوت وآمن بالله فهو مستمسك بالعروة
الوثقى ، عروة الإيمان ، ووصفها بالوثقى لكونها لا تنقطع ولا تنفصم ، واستعار
للإيمان عروة إجراء للمعقول مجرى المحسوس ، ثم ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين أخرجهم
من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وأن الكافرين أولياؤهم الأصنام والشياطين ، وهم
على العكس من المؤمنين ، ثم أخبر عن الكفار أنهم أصحاب النار وأنهم مخلدون فيها
والحالة هذه ، والله أعلم بالصواب .
2 ( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ
اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ
قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى
كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى
قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْىِ هَاذِهِ اللَّهُ
بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ
لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ
عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى
حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ
نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ
أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ
أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن
لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ
إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ
يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ) ) 2
البقرة : ( 258 ) ألم تر إلى . . . . .
بهت : تحير ودهش ، ويكون متعدياً على وزن فعَّل ، ومنه : فتبهتهم ، ولازماً على
وزن فَعَلَ كظرف وفعل
" صفحة رقم 296 "
كدهش ، والأكثر في اللازم الضم وحكي عن بعض العرب : بهت بفتح الهاء لازماً ، ويقال
بهته وباهته واجهه بالكذب ، وفي الحديث أن اليهود قوم بهت .
الخاوي : الخالي ، خوت الدار تخوى خوىً غير ممدود ، وخوياً ، والأولى أفصح ، ويقال
خوى البيت انهدم لأنه بتهدّمه يخلو من أهله ، والخوى : الجوع : لخلو البطن من
الغذاء ، وخوت المرأة وخويت خلا جوفها عند الولادة ، وخويت لها تخويةً علمت لها
خوية تأكلها ، وهي طعام . والخوي على وزن فعيل : البطن السهل من الأرض ، وخوي
البعير جافَى بطنه عن الأرض في مبركه ، وكذلك الرجل في سجوده قال الراجز : خوى على
مستويات خمس
كركرة وثفنات ملسِ
العرش : سقف البيت ، وكل ما يهيأ ليُظلَّ أو يِكُنَّ فهو عريش الدالية ، وقال
تعالى : ) وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( وفي الحديث لما أمر ببناء المسجد قالوا : نبنيه
لك بنياناً قال : ( لا بل عرش كعرش أخي موسى ) فوضعوا النخل على الحجارة وغشوه
بالجريد وسعفه ، وقيل : العرش البنيان قال الشاعر : إن يقتلونك فقد ثللث عروشهم
بعتيبة بن الحارث بن شهاب
مائة : اسم لرتبة من العدد معروفة ، ويجمع على مئات ومئين ، وهي مخففة محذوفة
اللام ، ولا مهاياء ، فالأصل مئية ، ويقال : أمأيتُ الدراهم إذا صيرتها ، وأمأَتْ
هي ، أي : صارت مائة .
العام : مدّة من الزمان معروفة ، وألفه منقلبة عن واو ، لقولهم : العويم والأعوام
. وقال النقاش : العام مصدر كالعوم ، سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من
الشمس في الفلك ، والعوم كالسبح ، وقال تعالى ) وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (
والعام على هذا : كالقول والقال .
اللبث : المكث والإقامة .
يتسنه : إن كانت الهاء أصلية فهو من السنة على من يجعل لامها المحذوف هاءً ، قالوا
في التصغير : سنيهة ، وفي الجمع سنهات . وقالوا : سانهت وأسنهت عند بني فلان ، وهي
لغة الحجاز وقال الشاعر : وليست بسنهاء ولا رجبية
ولكن عرايا في السنين الجوائح
وإن كانت الهاء للسكت ، وهو اختيار المبرد ، فلام الكلمة محذوفة للجازم ، وهي ألف
منقلبة عن واو على من يجعل
" صفحة رقم 297 "
لام سنة المحذوف واواً . لقولهم : سنية وسنوات ، واشتق منه الفعل ، فقيل : سانيت
وأسنى وأسنت . أبدل من الواو تاءً ، أو تكون الألف منقلبة عن ياء مبدلة من نون ،
فتكون من المسنون أي : المتغير ، وأبدلت كراهة اجتماع الأمثال ، كما قالوا : تظني
، ويتلعَ الأصل تطنن ويتلعع ، قاله أبو عرم ، وخطأه الزجاج . قال : لأن المسنون :
المصبوب على سنة الطريق وصوبه وقال النقاش : هو من قوله من ماء غير آسنٍ ورد
النجاة عليه هذا القول لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن ، لأنك لو بنيت
تفعل من الأكل لقلت تأكل ، ويحتمل ما قاله النقاش على اعتقاد القلب ، وجعل فاء
الكلمة مكان اللام ، وعينها مكان الفاء ، فصار : تسنأ ، وأصله تأسن ، ثم أبدلت
الهمزة كما قالوا في : هدأ وقرأ واستقرأ ، هذا وقرا واستقرا .
الحمار : هو الحيوان المعروف ، ويجمع في القلة على : أفعلة قالوا : أحمرة ، وفي
الكثرة على : فُعُل ، قالوا : حمر وعلى : فعيل ، قالوا : حمير .
أنشر : الله الموتى ، ونشرهم ، ونشر الميت حيي قال الشاعر : حتى يقول الناس مما
رأوا
يا عجباً للميت الناشر
وأما : أنشز ، بالزاي فمن النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض ، ومعن : أنشز الشيء جعله
ناشزاً ، أي : مرتفعاً ، ومنه : انشزوا فانشزوا ، وامرأة ناشز ، أي : مرتفعة عن
الحالة التي كانت عليها مع الزوج .
الطمأنينة : مصدر اطمأنَّ على غير القياس ، والقياس الإطمئنان ، وهو : السكون ،
وطامنته أسكنته ، وطامنته فتطامن : خفضته فانخفض ، ومذهب سيبويه في اطمأن أنه مما
قدّمت فيه الميم على الهمزة ، فهو من باب المقلوب ، ومذهب الجرمي : أن الأصل في
اطمأن كاطأمن ، وليس من المقلوب ، والترجيح بين المذهبين مذكور في علم التصريف .
الطير : اسم جمع : كركْب وسفْر ، وليس بجمع خلافاً لأبي الحسن .
صار : يصور قطع وانصار : انقطع ، وصرته أصوره : أملته ، ويقال أيضاً في القطع
والإمالة : صاره يصيره ، قاله أبو علي ، وقال الفراء : الضم في الصاد يحتمل
الإمالة والتقطيع ، والكسر فيها لا يحتمل إلاَّ القطع ، وقال أيضاً : صاره مقلوب
صراه عن كذا ، أي : قطعه ، وقال غيره : الكسر بمعنى القطع ، والضم بمعنى الإمالة .
الجبل : معروف ويجمع في القلة على : أجبال وأجبل ، وفي الكثرة على : جبال .
الجزء : من الشيء ، القطعة منه وجزَّأ الشيء جعله قطعاً .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ ( مناسبة هذه القصة التي جرت بين إبراهيم والذي حاجه ، وانه ناظر ذلك
الكافر فغلبه وقطعه ، إذ كان الله وليه ، وانقطع ذلك الكافر وبهت إذ كان وليه هو
الطاغوت : ) أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ( ) أَلاَ إِنَّ
حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( فصارت هذه القصة مثلاً للمؤمن والكافر
اللذين تقدّم ذكرهما ، وتقدّم الكلام على قوله : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ (
فأغنى عن إعادته .
وقرأ علي بن أبي طالب : ألم تر ، بسكون الراء ، وهو من إجراء الوصل مجرى الوقف ،
والذي حاج إبراهيم : هو نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ، ملك زمانه وصاحب
النار والبعوضة ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والربيع ، والسدّي ، وابن إسحاق ، وزيد بن
أسلم ، وغيرهم . وقال ابن جريج : هو أول ملك في الأرض ، ورده ابن عطية .
" صفحة رقم 298 "
وقال قتادة : هو أول من تجبر ، وهو صاحب الصرح ببابل . قيل : إنه ملك الدنيا
بأجمعها ونفذت فيها طينته ، وقال مجاهد : ملك الأرض مؤمنان : سليمان وذو القرنين ،
وكافران : نمروذ وبخت نصر . وقيل : هو نمروذ بن يجاريب بن كوش بن كنعان ابن سام بن
نوح . وقيل : نمروذ بن فايخ بن عابر بن سايخ بن ارفخشده بن سام بن نوح . وحكى
السهيلي أنه : النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح ، وكان ملكاً على السودان ،
وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق ، واسمه اندراوست بن اندرشت ، وكان ملك
الأقاليم كلها ، وهو الذي قتله أفريدون بن أهبان ، وفيه يقول أبو تمام حبيب في
قصيد مدح به الأفشين ، وذكر أخذه بابك الخرّمي : بل كان كالضحاك في فتكاته
بالعالمين ، وأنت أفريدون
وهو أول من صلب وقطع الأيدي والأرجل ، وملك نمروذ أربعمائة عام فيما ذكروا : وله
ابن يسمى نمروذاً الأصغر ملك عاماً واحداً .
ومعنى : ) حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ ( أي : عارض حجته بمثلها ، أو : أتى على
الحجة بما يبطلها ، أو : أظهر المغالبة في الحجة . ثلاثة أقوال .
واختلفوا في وقت الحاجة ، فقيل : خرجوا إلى عيدٍ لهم ، فدخل إبراهيم على أصنامهم
فكسرها ، فلما رجعوا قال : أتعبدون ما تنحتون ؟ فقال له : فمن تعبد ؟ قال : أعبد )
رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ ( وقيل : كان نمروذ يحتكر ، فإذا احتاجوا اشتروا منه الطعام
، فإذا دخلوا عليه سجدوا له ، فلما دخل إبراهيم لم يسجد له ، فقال : مالك لم تسجد
لي ؟ فقال : أنا لا أسجد إلا لربي فقال له نمروذ : من ربك ؟ قال : ) إِبْراهِيمُ
رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ ).
وفي قوله : إنه كان كلما جاء قوم قال من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول :
ميروهم وجاء إبراهيم يمتار ، فقال له : من ربك وإلهك ؟ فقال : ) رَبّيَ الَّذِى
يُحْىِ وَيُمِيتُ ).
وقيل : كانت الحاجة بعد أن خرج من النار التي ألقاه فيها النمروذ ، وذكروا أنه لما
لم يُمْرِهِ النمروذ ، مر على رمل أعفر ، فأخذ منه وأتى أهله ونام ، فوجدوه أجود
طعام ، فصنعت منه وقربته له ، فقال : من أين هذا ؟ قالت من الطعام الذي جئت به
فعرف أن الله رزقه ، فحمد الله .
وقيل : مرّ على رملة حمراء ، فأخذ منها ، فوجدوها حنطة حمراء ، فكان إذا زرع منها
جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً .
في : ربه ، يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم ، وأن يعود على النمروذ ، والظاهر
الأول .
( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ( الظاهر أن الضمير في : آتاه ، عائد على : الذي
حاج ، وهو قول الجمهور ، و : أن آتاه ، مفعول من أجله على معنيين : أحدهما : أن
الحامل له على المحاجة هو ايتاؤه الملك ، أبطره وأورثه الكبر ، والعتوّ ، فحاج
لذلك . والثاني : أنه وضع المحاجة موضع ما وجب عليه من الشكر لله تعالى على ايتائه
الملك ، كما تقول : عاداني فلان لأني أحسنت إليه ، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه
من الموالاة لأجل الإحسان . ومنه : ) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذّبُونَ ( وأجاز الزمخشري أن يكون التقدير : حاج وقت أن يكون التقدير : حاج
وقت أن آتاه الله الملك ، فإن عنى أن ذلك على حذف مضاف ، فيمكن ذلك على أن فيه
بعداً من جهة أن المحاجة لم تقع وقت أن آتاه الله الملك . إلاَّ أن يجوز في الوقت
، فلا يحمل على ما يقتضيه الظاهر من أنه وقت ابتداء ايتاء الله الملك له ، ألا ترى
أن ايتاء الله الملك إياه سابق على الحاجة وإن عنى أن : أن والفعل ، وقعت موقع
المصدر الواقع موقع ظرف الزمان ؟ كقولك : جئت خفوق النجم ، ومقدم الحاج ، وصياح
الديك ؟ فلا يجوز ذلك ، لأن النحويين مضوا على أنه لا يقوم مقام ظرف الزمان إلا
المصدر المصرح بلفظه ، فلا يجوز : أجىء أن يصيح الديك ، ولا جئت أن صاح الديك . وقال
المهدوي : يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم : أي آتاه ملك النبوّة . قال ابن عطية
: وهذا تحامل من التأويل . إنتهى . وما ذكره المهدوي
" صفحة رقم 299 "
احتمالاً هو قول المعتزلة ، قالوا : الهاء كناية عن إبراهيم لا عن الكافر الذي
حاجه ، لأن الله تعالى قال : ) لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( والملك عهد
منه ، وقال تعالى : ) مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ
إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ و