Translate

السبت، 28 مايو 2022

مجلد 5.و6.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

 

مجلد 5.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 158 "
من الكفار بمكة أهله لأن بقاءهم عارض يزول ، كما قال تعالى : ) وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ( و : منه ، متعلق بإخراج ، والضمير في : منه ، عائد على المسجد الحرام ، وقيل : عائد على : سبيل الله ، وهو الإسلام ، والأول أظهر . و : أكبر ، خبر عن المبتدأ الذي هو : وصد ، وما عطف عليه ، ويحتمل أن يكون خبراً عن المجموع ، ويحتمل أن يكون خبراً عنها باعتبار كل واحد واحد ، كما تقول : زيد وعمرو وبكر أفضل من خالد ، نزيد : كل واحد منهم أفضل من خالد ، وهذا الظاهر لا المجموع ، وإفراد الخبر لأنه أفعل تفضيل مستعمل : بمن ، الداخلة على المفضول في التقدير ، وتقديره : أكبر من القتال في الشهر الحرام ، فحذف للعلم به .
وقيل : وصد مبتدأ . و : كفر ، معطوف عليه ، وخبرهما محذوف لدلالة خبر : وإخراج ، عليه . والتقدير : وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام أكبر ، ولا يجتاج إلى هذا التقدير لأنا قد بينا كون : أكبر ، خبراً عن الثلاثة .
وعند الله ، منصوب بأكبر ، ولا يراد : بعند ، المكان بل ذلك مجاز .
وذكر ابن عطية ، والسجاوندي عن الفراء أنه قال : وصد عطف على كبير ، قال ابن عطية : وذلك خطأ ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله : وكفر به ، عطف أيضاً على كبير ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بيِّن فساده . انتهى كلام ابن عطية ، وليس كما ذكر ، ولا يتعين ما قاله من أن : وكفر به ، عطف على ، كبير ، إذ يحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله : وصد عن سبيل الله ، ويكون قد أخبر عن القتال في الشهر الحرام بخبرين . أحدهما : أنه كبير ، والثاني : أنه صد عن سبيل الله ، ثم ابتدأ فقال : والكفر بالله ، وبالمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال الذي هو كبير ، وهو صد عن سبيل الله . وهذا معنى سائغ حسن ، ولا شك أن الكفر بالله وما عطف عليه أكبر من القتال المذكور . وقوله : ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بين فساده ، ليس بكلام مخلص ، لأنه لا يجيء منه ما ذكر إلاَّ بتكلف بعيد ، بل يجيء منه أن إخراج أهل المسجد منه أكبر عند الله من القتال المخبر عنه بأنه كبير ، وبأنه صد عن سبيل الله ، فالمحكوم عليه بالأكبرية هو الإخراج ، والمفضول فيها هو القتال لا الكفر والفتنة ، أي : الكفر والشرك ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة وغيرهم .
أو التعذيب الحاصل للمؤمنين ليرجعوا عن الإسلام ، فهي أكبر حرماً من القتل ، والمعنى عند جمهور المفسرين أن الفتنة التي كانت تفتن المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا ، أشد اجتراماً من قتلهم إياكم في المسجد الحرام ، وقيل : المعنى : والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون ، أي فعلكم بكل إنسان ، أشد من فعلنا ، لأن الفتنة ألم متجدد ، والقتل ألم منقض .
ومن فسر الفتنة بالكفر كان المعنى عنده : وكفركم أشد من قتلنا أولئك ، وصرح هنا بالمفضول ، وهو قوله : من القتل ، ولم يحذف . لأنه لا دليل على حذفه ، بخلاف قوله : أكبر عند الله ، فإنه تقدم ذكر المفضول عليه ، وهو : القتال ، وقال عبد الله بن جحش في هذه القصة شعراً : تعدون قتلا في الحرام عظيمة
وأعظم منها لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد
وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله رحله
لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا ، وإن عيرتمونا بقتلة
وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دماً ، وابن عبد الله عثمان بيننا
ينازعه غل من القد عاند
) وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ( الضمير في : يزالون ، للكفار ، وهذا يدل على أن الضمير المرفوع في قوله : يسألونك ، هو الكفار ، والضمير المنصوب في : يقاتلونكم ، خوطب به المؤمنون ، وانتقل عن خطاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى خطاب المؤمنين ، وهذا إخبار من الله للمؤمنين بفرط عداوة الكفار ، ومباينتهم لهم ، ودوام تلك

" صفحة رقم 159 "
العداوة ، وأن قتالهم إياكم معلق بإمكان ذلك منهم لكم ، وقدرتهم على ذلك .
و : حتى يردوكم ، يحتمل الغاية ، ويحتمل القليل ، وعليهما حملها أبو البقاء وهي متعلقة في الوجهين : بيقاتلونكم ، وقال ابن عطية : ويردوكم ، نصب بحتى لأنها غاية مجردة ، وقال الزمخشري : وحتى ، معناها التعليل ، كقولك : فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة ، أي : يقاتلونكم كي يردوكم . انتهى . وتخريج الزمخشري أمكن من حيث المعنى ، إذ يكون الفعل الصادر منهم المنافي للمؤمنين ، وهو : المقاتلة ، ذكر لها علة توجيهاً ، فالزمان مستغرق للفعل ما دامت علة الفعل ، وذلك بخلاف الغاية ، فإنها تقييد في الفعل دون ذكر الحامل عليه ، فزمان وجوده مقيد بغايته ، وزمان وجود الفعل المعلل مقيد بوجود علة ، وفرق في القوة بين المقيد بالغاية والمقيد بالعلة لما في التقييد بالعلة من ذكر الحامل وعدم ذلك في التقييد بالغاية .
و : عن دينكم ، متعلق : بيردوكم ، والدين هنا الإسلام ، و : إن استطاعوا ، شرط جوابه محذوف يدل عليه ما قبله ، التقدير : إن استطاعوا فلا يزالون يقاتلونكم ، ومن جوّز تقديم جواب الشرط ، قال : ولا يزالون ، هو الجواب .
وقال الزمخشري : إن استطاعوا ، استبعاد لاستطاعتهم ، كقول الرجل لعدوه : إن ظفرت بي قلا تبقِ عليّ ، وهو واثق بأنه لا يظفر به . انتهى قوله : ولا بأس به .
( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ ( ارتد : افتعل من الرد ، وهو الرجوع ، كما قال تعالى : ) فَارْتَدَّا عَلَىءاثَارِهِمَا قَصَصًا ( وقد عدّها بعضهم فيما يتعدّى إلى اثنين ، إذا كانت عنده ، بمعنى : صير وجعل ، من ذلك قوله : ) فَارْتَدَّ بَصِيرًا ( أي : صار بصيراً ، ولم يختلف هنا في فك المثلين ، والفك هو لغة الحجاز ، وجاء افتعل هنا بمعنى التعمل والتكسب . لأنه متكلف ، إذ من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه ، فلذلك جاء افتعل هنا ، وهذا المعنى ، وهو التعمل والتكسب ، هو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل .
و : منكم ، في موضع الحال من الضمير المستكن في : يرتدد ، العائد على : من ، و : من ، للتبعيض ، و : عن دينه ، متعلق بيرتدد ، والدين : هنا هو الإسلام ، لأن الخطاب مع المسلمين ، والمرتد إليه هو دين الكفر ، بدليل أن ضد الحق الباطل ، وبقوله : ) فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ( وهذان شرطان أحدهما معطوف على الآخر بالفاء المشعرة بتعقيب الموت على الكفر بعد الردة واتصاله بها ، ورتب عليه حبوط العمل في الدنيا والآخرة . وهو حبطه في الدنيا باستحقاق قبله ، وإلحاقه في الأحكام بالكفار وفي الآخرة بما يؤول إليه من العقاب السرمدي ، وقيل : حبوط أعمالهم في الدنيا هو عدم بلوغهم ما يريدون بالمسلمين من الإضرار بهم ومكايدتهم ، فلا يحصلون من ذلك على شيء ، لأن الله قد أعزّ دينه بأنصاره .
وظاهر هذا الشرط والجزاء ترتب حبوط العمل على الموافاة على الكفر ، لا على مجرد الاتداد ، وهذا مذهب جماعة من العلماء ، منهم : الشافعي ، وقد جاء ترتب حبوط العمل على مجرد الكفر في قوله : ) وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ( ) وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَلِقَاء الاْخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ (

" صفحة رقم 160 "
) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( والخطاب في المعنى لأمته ، وإلى هذا ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، وغيرهما ، يعني : أنه يحبط علمه بنفس الردة . دون الموافاة عليها ، وإن راجع الإسلام ، وثمرة الخلاف تظهر في المسلم إذا حج ، ثم ارتد ، ثم أسلم ، فقال مالك : يلزمه الحج ، وقال الشافعي : لا يلزمه الحج .
ويقول الشافعي : اجتمع مطلق ومقيد ، فتقيد المطلق ، ويقول غيره : هما شرطان ترتب عليهما شيئان ، أحد الشرطين : الإرتداد ، ترتب عليه حبوط العمل ، الشرط الثاني : الموافاة على الكفر ، ترتب عليها الخلود في النار .
والجملة من قوله : وهو كافر ، في موضع الحال من الضمير المستكن في : فيمت ، وكأنها حال مؤكدة ، لأنه لو استغنى عنها فهم معناها ، لأن ما قبلها يشعر بالتعقيب للارتداد . وكون الحال جاء جملة فيها مبالغة في التأكيد ، إذ تكرر الضمير فيها مرتين ، بخلاف المفرد ، فإنه فيه ضمير واحد .
وتعرض المفسرون هنا لحكم المرتد ، ولم تتعرض الآية إلاَّ لحبوط العمل ، وقد ذكرنا الخلاف فيه هل يشترط فيه الموافاة على الكفر أم يحبط بمجرد الردة ؟ وأما حكمه بالنسبة إلى القتل ، فذهب النخعي والثوري : إلى أنه يستتاب محبوساً أبداً ، وذهب طاووس ، وعبيد بن عمير ، والحسن ، على خلاف عنه ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، والشافعي : في أحد قوليه ، إلى أنه يقتل من غير استتابة . وروي نحو هذا عن أبي موسى ، ومعاذ ، وقال جماعة من أهل العلم : يستتاب ، وهل يستتاب في الوقت ؟ أو في ساعة واحدة ؟ أو شهر ؟ روي هذا عن علي ، أو ثلاثة أيام ؟ وروي عن عمر ، وعثمان ، وهو قول مالك فيما رواه ابن القاسم ، وقول أحمد ، وإسحاق ، والشافعي ، في أحد قوليه ، وأصحاب الرأي : أو مائة مرة ؟ وهو قول الحسن .
وقال عطاء : إن كان ابن مسلمين قتل دون استتابة ، وإن كان أسلم ثم ارتد أستتيب . وقال الزهري : يدعي إلى الإسلام ، فإن تاب وإلاَّ قتل . وقال أبو حنيفة : يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم وإلاَّ قتل مكانه إلاَّ أن يطلب أن يؤجل ، فيؤجل ثلاثة أيام . والمشهور عنه ، وعن أصحابه ، أنه لا يقتل حتى يستتاب .
والزنديق عندهم والمرتد سواء .
وقال مالك : تقتل الزنادقة من غير استتابة ، ولو ارتد ثم راجع ثم ارتد ، فحكمه في الردة الثانية أو الثالثة أو الرابعة كالأولى ، وإذا راجع في الرابعة ضرب وخلي سبيله ، وقيل : يحبس حتى يرى أثر التوبة والإِخلاص عليه ، ولو انتقل الكافر من كفر إلى كفر ، فالجمهور على أنه لا يقتل .
وذكر المزني ، والربيع ، عن الشافعي : أن المبدل لدينه من أهل الذّمة يلحقه الإِمام بأرض الحرب ، ويخرجه من بلده ، ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار ، هذا حكم الرجل .
وأما المرأة إذا ارتدّت فقال مالك ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي : تقتل كالرجل سواء ، وقال عطاء ، والحسن ، والثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وابن شبرمة ، وابن عطية لا تقتل . وروي ذلك عن علي وابن عباس .
وأمّا ميراثه ، فأجمعوا على أن أقرباءه من الكفار لا يرثونه إلاَّ ما نقل عن قتادة ، وعمر بن عبد العزيز ، أنهم يرثونه ، وقد روي عن عمر خلاف هذا ، وقال علي ، والحسن ، والشعبي ، والحكم ، والليث ، وأبو حنيفة في أحد قوليه ، وابن راهويه : يرثه أقرباؤه المسلمون . وقال مالك ، وربيعة وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وأبو ثور : ميراثه في بيت المال ، وقال ابن شبرمة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والأوزاعي في إحدى الروايتين : ما اكتسبه بعد الردة لورثته المسلمين . وقال أبو حنيفة ، ما اكتسبه في حالة الإِسلام قبل الردة لورثته المسلمين .
وقرأ الحسن : حبطت بفتح الباء ، وهما لغتان ، وكذا قرأها أبو السماك في جميع القرآن ، وقوله : ) فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ( أتى باسم الإشارة وهو يدل على من اتصف بالأوصاف السابقة ، وأتى به مجموعاً حملاً على معنى : من ، لأنه أولاً حمل على اللفظ في قوله : ) يَرْتَدَّ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ( وإذا جمعت بين الحملين ، فالأصح أن تبدأ بالحمل على اللفظ ، ثم بالحمل على المعنى . وعلى هذا الأفصح جاءت هذه الآية ) وَفِى الدُّنْيَا ( متعلق بقوله : ) حَبِطَتْ ).
) وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( تقدّم تفسير هذه الجملة ، فأغنى عن إعادته ، وهذه الجملة يحتمل أن تكون ابتدأ إخبار من الله تعالى بخلود هؤلاء في النار ، فلا تكون داخلة في الجزاء وتكون معطوفة على الجملة الشرطية ،

" صفحة رقم 161 "
ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله : ) فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ( فتكون داخلة في الجزاء ، لأن المعطوف على الجزاء جزاء ، وهذا الوجه أولى ، لأن القرب مرجح ، وترجح الأول بأنه يقتضي الاستقلال .
البقرة : ( 218 ) إن الذين آمنوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ ( سبب نزولها أن عبد الله بن جحش قال : يا رسول الله هب أنه عقاب علينا فيما فعلناه فهل نطمع منه أجراً وثواباً فنزلت لأن عبد الله كان مؤمناً وكان مهاجراً ، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهداً ، ثم هي عامة في من اتصف بهذه الأوصاف . وقال الزمخشري إن عبد الله بن جحش وأصحابه ، حين قتلوا الحضرمي ، ظنّ قوم أنهم إن سلموا من الإِثم فليس لهم أجر ، فنزلت . انتهى كلامه . وهو كالأول ، ألاَّ أنه اختلف في الظان ، ففي الأول ابن جحش ، وفي قول الزمخشري : قوم ، وعلى هذا السبب فمناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة . وقيل : لما أوجب الجهاد بقوله : ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ( وبيَّن أن تركه سبب للوعيد ، اتبع ذلك بذكر من يقوم به ، ولا يكاد يوجد وعيد إلاَّ ويتبعه وعد ، وقد احتوت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف ، وجاءت مرتبة بحسب الوقائع والواقع ، لأن الإِيمان أولها ، ثم المهاجرة ، ثم الجهاد في سبيل الله . ولما كان الإِيمان هو الأصل أفرد به موصول وحده ، ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين عنه أفردا بموصول واحد ، لأنهما من حيث الفرعية كالشيء الواحد . وأتى خبر : أن ، جملة مصدرة : بأولئك ، لأن اسم الإشارة هو المتضمن الأوصاف السابقة من الإيمان والهجرة والجهاد ، وليس تكريراً لموصول بالعطف مشعراً بالمغايرة في الذوات ، ولكنه تكرير بالنسبة إلى الأوصاف ، والذوات هي المتصفة بالأوصاف الثلاثة ، فهي ترجع لمعنى عطف الصفة بعضها على بعض للمغايرة ، لا : إن الذين آمنوا ، صنف وحده مغاير : للذين هاجروا وجاهدوا ، وأتى بلفظة : يرجون ، لأنه ما دام المرء في قيد الحياة لا يقطع أنه صائر إلى الجنة ، ولو أطاع أقصى الطاعة ، إذ لا يعلم بما يختم له ، ولا يتكل على عمله ، لأنه لا يعلم أَقُبِل أم لا ؟ وأيضاً فلأن المذكورة في الآية ثلاثة أوصاف ، ولا بدّ مع ذلك من سائر الأعمال ، وهو يرجو أن يوفقه الله لها كما وفقه لهذه الثلاثة ، فلذلك قال : فأولئك يرجون ، أو يكون ذكر الرجاء لما يتوهمون أنهم ما وفوا حق نصرة الله في الجهاد ، ولا قضوا ما لزمهم من ذلك ، فهم يقدمون على ألله مع الخوف والرجاء ، كما قال تعالى : ) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ).
وروي عن قتادة أنه قال : هو لأخيار هذه الأمة ، ثم جعلهم الله أهل رجاء ، كما يسمعون ، وقيل : الرجاء دخل هنا في كمية الثواب ووقته ، لا في أصل الثواب ، إذا هو مقطوع متيقن بالوعد الصادق ، و : رحمت ، هنا كتب بالتاء على لغة من يقف عليها بالتاء هنا ، أو على اعتبار الوصل لأنها في الوصل تاء ، وهي سبعة مواضع كتبت : رحمت ، فيها بالتاء . أحدها هذا ، وفي الأعراف : ) إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( وفي هود : ) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ ( وفي مريم ) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ ( وفي الزخرف ) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتِ رَبّكَ ( ) ورحمت ربك خير مما تجمعون ( وفي الروم ) فَانظُرْ إِلَىءاثَارِ رَحْمَتَ اللَّهِ ( ) وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( لما ذكر أنهم طامعون في رحمة الله ، أخبر تعالى أنه متصف بالرحمة ، وزاد وصفاً آخر وهو أنه تعالى متصف بالغفران ، فكأنه قيل : الله تعالى ، عندما ظنوا وطمعوا في ثوابه ، فالرحمة متحققة ، لأنها من صفاته تعالى .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة إخبار الله تعالى عن القرون الماضية أنهم كانوا على سنن واحد ، وأنه بعث إليهم النبيين مبشرين من أطاع بالثواب من الله تعالى ، ومحذرين من عصى من عقاب الله ، وقدم البشارة لأنها هي المفروح بها ، ولأنها نتيجتها رضي الله عن من اتبع أوامره واجتنب نواهيه ، وأنزل معهم كتاباً من عنده مصحوباً بالحق اللائح ، ليكون أضبط لما أتوا به من الشرائع ، لأن ما جاؤا به مما ليس في كتاب يقرأ ويدرس على مر الأعصار ، وربما يذهب بذهابهم ، فإذا كان ما شرع لهم مخلداً في الطروس كان أبقى ، وإن ثمرة الكتب هي الفصل بين الناس فيما وقع فيه اختلافهم من أمر عقائدهم ، وتكاليفهم ، ومصالح دنياهم ، ثم ذكر أنه ما اختلف فيما اختلف فيه إلا الذين أوتوه ، أي : أوتوا

" صفحة رقم 162 "
الكتاب ، ووصل إليهم من عند الله ، وذلك بعد وضوح الآيات ومجيئها لهم ، فكأن ما سبيله إلى الهداية والفصل في الاختلاف عند هؤلاء سبباً للاختلاف ، فرتبوا على مجيء الشيء الواضح ضد مقتضاه ، وأن الحامل على ذلك إنما هو البغي والظلم الذي صار بينهم ، ثم هدى الله المؤمنين لاتباع الحق الذي اختلف فيه من اختلف ، وذلك بتيسير الله تعالى لهم ، ذلك من غير سابقة استحقاق ، بل هدايته إياهم الحق هو بتميكنه تعالى لذلك .
ثم ذكر تعالى أن الهداية للصراط المستقيم إنما تكون لمن شاء تعالى هدايته ، ثم ذكر تعالى مخاطباً للمؤمنين ، إذ كان قد أخبر ببعثة الرسل بالتكاليف الشرعية ، أنه لا يحسب أن تنال الرتبة العالية من الفوز بدخول الجنة ، ولما يقع ابتلاء لكم كما ابتلى من كان قبلكم ، ثم فسر مثل الماضين بأنهم مستهم البأساء والضراء ، وأنهم أزعجوا حتى سألوا ربهم عن وقت مجيء النصر لتصبر نفوسهم على ما ابتلاهم به ، ولينتظروا الفرج من الله عن قرب ، فأجيبوا بأن نصر الله قريب وما هو قريب ، فالحاصل : فسكنت نفوسهم من ذلك الإعاج بانتظار النصر القريب .
ثم سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عما ينفقون من أموالهم في وجوه البر ؟ فلم يبين لهم جنس ما ينفقون ولا مقداره ، وذكر مصرف ذلك ، لأنه هو الأهم في الجواب ، وكأنه قيل : أي شيء ينفقون من قليل أو كثير فمصرفه لأقرب الناس إليكم ، وهما : الوالدان : اللذان كانا سبباً في إيجادك وتربيتك من لدن خلقت إلى أن صار لك شيء من الدنيا ، وفي الحنو عليك ، ثم ذكر : الأقربين بصفة التفضيل ، لأنهم هم الذين يشاركونك في النسب ، والإنفاق عليهم صدقة وصلة ، ثم ذكر اليتامى : وهم الذين قد توفي آباؤهم فليس لهم من يقوم بمصالحهم ، فالإنفاق عليهم إحسان جزيل ، ثم ذكر : المساكين ، وهم الذين انتهوا ، من الفقراء ، إلى حالة المسكنة ، وهي عدم الحركة والتصرف في أحوال الدنيا ومعاشها ، ثم أخبر تعالى : أن ما أنفقتم فالله عليم به ومحصيه ، فيجازي عليه ويثيب .
ثم أخبر تعالى عن فرض القتال على المؤمنين ، وأنه مكروه للطباع لما فيه من إتلاف المهج وانتقاص الأموال ، وانتهاك الأجساد بالسفر فيه وبغيره ، ثم ذكر أن الإنسان قد يكره الشيء وهو خير له ، لأن عقابه إلى خير ، فالقتال ، وإن كان مكروهاً للطبع ، فإنه خير إن سلم ، فخيره بالظفر بأعداء الله ، وبالغنيمة ، واستيلاء عليهم قتلاً ونهباً وتملك دار ، وإن قتل فخيره أن له عند الله مرتبة الشهداء .
ويكفيك ما ورد في هذه المرتبة العظيمة في كتاب الله ، وفيما صح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ثم ذكر مقابل هذا وهو قوله ) وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ( فمن المحبوب ترك القتال ، وهو مدعاة إلى الدعاء والراحة ، وفي ذلك الشر العظيم من تسلط أعداء الله والإيقاع بالمسلمين ، واستئصال شأفتهم بالقتل والنهب وتملك ديارهم ، فمتى أخلد الإنسان إلى الراحة طمع فيه عدوه ، وبلغ منه مقاصده ، ولقد أحسن زهير حيث قال : جريء متى يظلم يعاقب بظلمه
سريعاً ، وإن لا يبد بالظلُم يظلم
ثم ذكر تعالى أنه يعلم ما لا يعلمون حيث شرع القتال ، فهو تعالى عالم بما يترتب لكم من المصالح الدينية والدنيوية على مشروعية القتال .
ثم ذكر تعالى أنهم سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن القتال في الشهر الحرام ، لما كان وقع ذلك منهم ، لا على سبيل القصد ، بل على سبيل الظن أن الزمان الذي وقع فيه ليس هو من الشهر الحرام ، فأخبروا أن ذلك هو إثم كبير ، إذ كانت العادة أن الأشهر لحرم لا قتال فيها ، ثم ذكر أن أكبر من ذلك هو ما يرتكبه الكفار من صد المسلمين عن سبيل الله ، ومن الكفر بالله ، وبالمسجد الحرام ، ومن إخراج أهله منه .
ثم ذكر تعالى أن الفتنة أكبر من القتل وهو فتنة الرجل المسلم عن دينه ، أكبر من قتله وهو على دينه ، لأن تلك الفتنة تؤول به إلى النار ، وقتله هذا يؤول به إلى الجنة .
ثم أخبر تعالى عن دوام عداء عداوة الكفار ، وأن مقصدهم إنما هو فتنتكم عن دينكم ورجوعكم إلى ما هم عليه من الضلال ، وأنه متى أمكنهم ذلك وقدروا عليه قاتلوكم ، ثم أخبر تعالى أن من رجع عن دينه الحق إلى دينه الباطل ، ووافى على ذلك ، فجميع ما تقدّم من أعماله الصالحات قد بطلت في الدنيا بإلحاقه بالكفار ، وإجراء أحكام المرتدين

" صفحة رقم 163 "
عليه ، وفي الآخرة فلا يبقى لها ثمرة يرتجي بها غفراناً لما اجترح ، بل مآله إلى النار خالداً فيها .
ثم لما ذكر حال المرتد عن دينه ، ذكر حال من آمن بالله وثبت على إيمانه ، وهاجر من وطنه الذي هو محل الكفر إلى دار الإسلام ، ثم جاهد في سبيل الله من كفر بالله ، وأنه طامع في رحمة الله .
ثم ذكر تعالى أنه غفور لما وقع منه قبل ا لإيمان ولما يتخلل في حالة الإيمان من بعض المخالفة ، وأنه رحيم له ، فهو يحقق له ما طمع فيه من رحمته .
2 ( ) يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذالِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَائِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لاًّنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ) ) 2
البقرة : ( 219 ) يسألونك عن الخمر . . . . .
الخمر : هي المعتصر من العنب إذا غلى واشتدّ وقذف بالزبد ، سمى بذلك من خمر إذا ستر ، ومنه خِمار المرأة ، وتخمرت واختمرت ، وهي حسنة الخمرة ، والخمر ما واراك من الشجر وغيره ، ودخل في خمار الناس وغمارهم أي : في مكان خاف . وخمر فتاتكم ، وخامري أم عامر ، مثل الأحمق ، وخامري حضاجر أتاك ما تحاذر ، وحضاجر اسم للذكر والأنثى من السباع ، ومعناه : ادخلي الخمر واستتري .
فلما كانت تستر العقل سميت بذلك ، وقيل : لأنها تخمر : أي تغطي حتى تدرك وتشتدّ .
وقال ابن الأنباري : سميت بذلك لأنها تخامر العقل أي : تخالطه ، يقال : خامر الداء خالط ، وقيل : سميت بذلك لأنها تترك حين تدرك ، يقال : اختمر العجين بلغ إدراكه ، وخمر الرأي تركه حتى يبين فيه الوجه ، فعلى هذه الاشتقاقات تكون مصدراً في الأصل وأريد بها اسم الفاعل أو اسم المفعول .
الميسر : القمار ، وهو مفعل من : يسر ، كالموعد من وعد ، يقال يسرت الميسر أي قامرته ، قال الشاعر : لو تيسرون بخيل قد يسرت بها
وكل ما يسر الأقوام مغروم
واشتقاقه من اليسر وهو السهولة ، أو من اليسار لأنه يسلب يساره ، أو من يسر الشيء إذا وجب ، أو من يسر إذا جزر والياسر الجازر ، وهو الذي يجزىء الجزور أجزاء ، قال الشاعر : أقول لهم بالشعب إذ تيسرونني
ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم ؟
وسميت الجزور التي يسهم عليها ميسراً لأنها موضع اليسر ، ثم قيل للسهام : ميسر للمجاورة ، واليسر ، الذي

" صفحة رقم 164 "
يدخل في الضرب بالقداح وجمعه ، أيسار ، وقيل : يسر جمع ياسر كحارس وحرس وأحراس .
وصفة الميسر أنه عشرة أقداح ، وقيل : أحد عشر على ما ذكر فيه ، وهي : الأزلام ، والأقلام ، والسهام . لسبعة منها حظوظ ، وفيها فروض على عدة الحظوظ : القد ، وله سهم واحد ؛ والتوأم ، وله سهمان ، والرقيب ، وله ثلاثة ؛ والجلس ، وله أربعة ؛ والنافس ، وله خمسة ؛ والمسبل وله ستة ؛ والمعلى وله سبعة ؛ وثلاثة أغفال لا حظوظ لها ، وهي : المنيح ، والسفيح ، والوغد ، وقيل : أربعة وهي : المصدر ، والمضعف ، والمنيح ، والسفيح . تزاد هذه الثلاثة أو الأربعة على الخلاف لتكثر السهام وتختلط على الحرضة وهو الضارب بالقداح ، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً ، ويسمى أيضاً : المجيل ، والمغيض ، والضارب ، والضريب . ويجمع ضرباء ، وهو رجل عدل عندهم . وقيل يجعل رقيب لئلا يحابي أحداً ، ثم يجثو الضارب على ركبتيه ، ويلتحف بثوب ، ويخرج رأسه يجعل تلك القداح في الربابة ، وهي خريطة يوضع فيها ، ثم يجلجها ، ويدخل يده ويخرج باسم رجل رجل قدحاً منها ، فمن خرج له قدح من ذوات الانصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح من تلك الثلاثة لم يأخذ شيئاً ، وغرم الجزور كله .
وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق العيش وكلب البرد على الفقراء ، فيشترون الجزور وتضمن الأيسار ثمنها ، ثم تنحر ويقسم على عشرة أقسام ، في قول أبي عمرو ، وثمانية وعشرين على قدر حظوظ السهام في قول الأصمعي .
قال ابن عطية : وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور على ثمانية وعشرين ، وأيهم خرج له نصيب واسى به الفقراء ، ولا يأكل منه شيئاً ، ويفتخرون بذلك ، ويسمون من لم يدخل فيه : البرم ويذمونه بذلك ، ومن الافتخار بذلك قول الأعشى : المطمعو الضيف إذا ماشتا
والجاعلو القوت على الياسر
وقال زهير في البرم : حتى تأوى إلى لا فاحشٍ برم
ولا شحيح إذا أصحابه غنموا
وربما قاموا لأنفسهم .
التفكر : في الشيء إجالة الفكر فيه وتردده ، والفكر : هو الذهن .
الخلط : مزج الشيء بالشيء ، وخالط فاعل منه ، والخلط الشيء المخلوط : كالرغي .
الإِخوان : جمع أخ ، والأخ معروف ، وهو من ولده أبوك وأمك ، أو أحدهما ، وجمع فعل على فعلان لا ينقاس .
العنت : المشقة ، ومنه عنت الغربة ، وعقبة عنوت شاقة المصعد ، وعنت البعير انكسر بعد جبر .
النكاح : الوطء وهو المجامعة ، قال التبريزي : وأصله عند العرب لزوم الشيء الشيء وإكبابه عليه ، ومنه قولهم : نكح المطر الأرض . حكاه ثعلب في ( الأمالي ) عن أبي زيد وابن الإِعرابي ، وحكى الفراء عن العرب : نكح المرأة ، بضم النون ، بضعة هي بين القبل والدبر ، فإذا قالوا نكحها ، فمعناه أصاب نكحها ، أي ذلك الموضع منها ، وقلما يقال ناكحها كما يقال باضعها ، قيل : وقد جاء النكاح في أشعار العرب يراد به العقد خاصة ، ومن ذلك قول الشاعر :

" صفحة رقم 165 "
فلا تقربن جارة إن سرها
عليك حرام ، فانكحنْ أو تأبدا
أي فاعقد وتزّوج ، وإلاَّ فاجتنب النساء وتوحش ، لأنه قال : لاتقربن جارة على الوجه الذي يحرم . وجاء بمعنى المجامعة ، كما قال : الباركين على ظهور نسوتهم
والناكحين بشاطى دجلة البقرا
وقال أبو علي : فرّقت العرب بين العقد والوطء بفرق لطيف ، فإذا قالوا : نكح فلان فلانة ، أرادوا به العقد لا غير ، وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته فلا يريدون غير المجامعة .
الأمة : المملوكة من النساء ، وهي ما حذف لامه ، وهو واو يدل على ذلك ظهورها في الجمع قال الكلابي . أما الإماء فلا يدعونني ولدا
إذا تداعى بنو الأموات بالعار
وفي المصدر : يقال أمة بينة الأمّوة ، وأقرّت بالأموّة ، أي بالعبودية . وجمعت أيضاً على : إماء ، وأآم ، نحو أكمة وآكام وأكم ، وأصله أأمو ، وجرى فيه ما يقتضيه التصريف ، وفي الحديث : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) . وقال الشاعر : يمشى بها ريد النعا
م تماشى الآم الدوافر
ووزنها أموة ، فحذفت لامها على غير قياس ، إذ كان قياسها أن تنقلب ألفاً لتحركها ، وانفتاح ما قبلها كقناة ، وزعم أبو الهيثم : أن جمع الأمة أمو ، وأن وزنها فعلة بسكون العين ، فتكون مثل : نخلة ونخل ، وبقلة وبقل ، فأصلها : أموة فحذفوا لامها إذ كانت حرف لين ، فلما جمعوها على مثال نخلة ونخل لزمهم أن يقولوا : أمة وأم ، فكرهوا أن يجعلوها حرفين ، وكرهوا أن يردوا الواو المحذوفة لما كانت آخر الاسم ، فقدموا الواو ، وجعلوه ألفاً ما بين الألف والميم ، وما زعمه أبو الهيثم ليس بشيء ، إذ لو كان على ما زعم لكان الإعراب على الميم كما كان على لام نخل ، ولكنه على الياء المحذوفة التي هي لام ، إذ أصله ألامو ، ثم عمل فيه ما عمل في قولهم : الأدلو ، والأجرو ، جمع : دلو ، وجرو ، وأبدلت الهمزة الثانية ألفاً كما أبدلت في : آدم ، ولذلك تقول : جاءت الآمي ، ولو كان على ما زعم أبو الهيثم لكان : جاءت الآم ، برفع الميم .
المحيض : مفعل من الحيض يصلح للمصدر والمكان والزمان ، تقول . حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً بنوه على : مفعل ، بكسر العين وفتحها ، وفيما كان على هذا النوع من الفعل الذي هو يائي العين على : فعل يفعل ، فيه ثلاثة مذاهب .
أحدها : أنه قياسه مفعل . بفتح العين في المراد به المصدر ، وبكسرها في المراد به المكان أو الزمان ، فيصير : كالمضرب في المصدر ، والمضرب بالكسر ، أي : بكسر الراء في الزمان والمكان ، فيكون على هذا المحيض ، إذا أريد به المصدر ، شاذاً ، وإذا أريد به الزمان والمكان كان على القياس .
المذهب الثاني : أنك مخير بين أن تفتح عينه أو تكسره ، كما جاء في هذا المحيض والمحاض ، وحجة هذا القول أنه كثر في ذلك الوجهان فاقتاسا .
المذهب الثالث : القصر على السماع ، فما قالت فيه العرب : مفعل ، بالسكر أو مفعل بالفتح لا نتعدّاه ، وهذا هو أولى المذاهب .
وأصل الحيض في اللغة السيلان ، يقال : حاض السيل وفاض ، وقال الفراء : حاضت الشجرة إذا سال صمغها ، وقال الأزهري : ومن هذا قيل للحوض حوض ، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل ، والعرب تدخل الواو على الياء ، والياء على الواو ، ولأنها من حيز واحد وهو

" صفحة رقم 166 "
الهواء .
الاعتزال : ضد الاجتماع ، وهو التيأس من الشيء والتباعد منه ، وتارة يكون بالبدن ، وتارة بالقلب ، وهو افتعال من العزل ، وهو تنجية الشيء من الشيء .
أنَّى : اسم ويستعمل شرطاً ظرف مكان ، ويأتي ظرف زمان بمعنى : متى واستفهاماً بمعنى : كيف ، وهي مبنية لتضمن معنى حرف الشرط ، وحرف الاستفهام ، وهو في موضع نصب لا يتصرف فيه بغير ذلك البتة .
( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ ( سبب نزولها سؤال عمر ومعاذ ، قالا : يا رسول الله ، أفتنا في الخمر والميسر ، فإنه مذهبة للعقل ، مسلبة للمال . فنزلت .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنهم لما سألوا عن ماذا ينفقون ؟ فبين لهم مصرف ذلك في الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ، ثم ذكر تعالى فرض القتال والجهاد في سبيل الله ، ناسب ذكر سؤالهم عن الخمر والميسر ، إذ هما أيضاً من مصارف المال ، ومع مداومتهما قل أن يبقى مال فتتصدق به ، أو تجاهد به ، فلذلك وقع السؤال عنهما .
وقال بعض من ألف في الناسخ والمنسوخ : أكثر العلماء على أنها ناسخة لما كان مباحاً من شرب الخمر ، وسورة الأنعام مكية ، فلا يعتبر بما فيها من قوله : ) الظَّالِمِينَ قُل لا أَجِدُ ( وقال ابن جبير : لما نزل ) قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ( كره الخمر قوم للإثم ، وشربتها قوم للمنافع ، حتى نزل : ) لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ( فاجتنبوها في أوقات الصلاة ، حتى نزل : ) فَاجْتَنِبُوهُ ( فحرمت . قال مكي : فهذا يدل على أن هذه منسوخة بآية المائدة ، ولا شك في أن نزول المائدة بعد البقرة ، وقال قتادة : ذم الله الخمر بهذه الآية ولم يحرمها ، وقال بعض الناس : لا يقال إن هذه الآية ناسخة لما كان مباحاً من شرب الخمر ، لأنه يلزم منه أن الله أنزل إباحتها ، ثم نسخ ، ولم يكن ذلك ، وإنما كان مسكوتاً عن شربها ، فكانوا جارين في شربها على عادتهم ، ثم نزل التحريم . كما سكت عنهم في غيرها من المحرمات إلى وقت التحريم .
وجاء : ) وَيَسْئَلُونَكَ ( بواو الجمع وإن كان من سأل اثنين : وهمنا عمرو ومعاذ ، على ما روي في سبب النزول ، لأن العرب تنسب الفعل الصادر من الواحد إلى الجماعة في كلامها ، وقد تبين ذلك .
والسؤال هنا ليس عن الذات ، وإنما هو عن حكم هذين من حل وحرمة وانتفاع ، ولذلك جاء الجواب مناسباً لذلك ، لا جواباً عن ذات .
وتقدم تفسير الخمر في اللغة ، وأما في الشريعة ، فقال الجمهور : كل ما خامر العقل وأفسده مما يشرب يسمى خمراً ، وقال الرازي ، عن أبي حنيفة : الخمر اسم ما يتخذ من العنب خاصة ، ونقل عنه السمرقندي : أن الخمر عنده هو اسم ما اتخذ من العنب والزبيب والتمر ، وقال : إن المتخذ من الذرة والحنطة ليس من الأشربة ، وإنما هو من الأغذية المشوّشة للعقل : كالبنج والسيكران ، وقيل : الصحيح ، عن أبي حنيفة ، أن القطرة من هذه الأشربة من الخمر .
وتقدم تفسير الميسر وهو : قمار أهل الجاهلية ، وأما في الشريعة فاسم الميسر يطلق على سائر ضروب القمار ، والإجماع منعقد على تحريمه ، قال علي ، وابن عباس ، وعطاء وابن سيرين ، والحسن ، وابن المسيب ، وقتادة ، وطاووس ، ومجاهد ، ومعاوية بن صالح : كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج وغيره فهو ميسر ، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز إلا ما أبيح من الرهان في الخيل ، والفرعة في إبراز الحقوق . وقال مالك : الميسر ميسران : ميسر اللهو فمنه : النرد والشطرنج والملاهي كلها ، وميسر القمار : وهو ما يتخاطر الناس عليه ، وقال على الشطرنك : ميسر العجم ، وقال القاسم ، كل شيء ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر .
( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ). أنزل في الخمر أربع آيات . ) وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالاْعْنَابِ ( بمكة ثم هذه الآية ، ثم ) لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ( ثم ) إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ( قال القفال : ووقع التحريم على هذا الترتيب ، لأنه تعالى علم أن القوم كانوا ألفوا شربها والانتفاع بها كثيراً ، فجاء

" صفحة رقم 167 "
التحريم بهذا التدريج ، رفقاً منه تعالى . انتهى ملخصاً .
وقال الربيع : نزلت هذه الآية بعد تحريم الخمر ، واختلف المفسرون : هل تدل هذه الآية على تحريم الخمر والميسر أم لا تدل ؟ والظاهر أنها تدل على ذلك ، والمعنى : قل في تعاطيهما إثم كبير ، أي : حصول إثم كبير ، فقد صار تعاطيهما من الكبائر ، وقد قال تعالى : ) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ ( فما كان إثماً ، أو اشتمل على الإِثم ، فهو حرام ، والإِثم هو الذنب ، وإذا كان الذنب كثيراً أو كبيراً في ارتكاب شيء لم يجز ارتكابه ، وكيف يقدم على ذلك مع التصريح بالخسران إذا كان الإِثم أكبر من النفع ؟ وقال الحسن : ما فيه الإِثم محرم ، ولما كان في شربها الإِثم سميت إثماً في قول الشاعر : شربت الإِثم حتى زل عقلي
كذاك الإِثم يذهب بالعقول
ومن قال : لا تدل على التحريم ، استدل بقوله : ومنافع للناس ، والمحرم لا يكون فيه منفعة ، ولأنها لو دلت على التحريم لقن الصحابة بها ، وهم لم يقنعوا حتى نزلت آية المائدة ، وآية التحريم في الصلاة ، وأجيب بأن المحرم قد يكون فيه منفعة عاجلة في الدنيا ، وبأن بعض الحصابة سأل أن ينزل التحريم بالأمر الواضح الذي لا يلتبس على أحد ، فيكون آكد في التحريم .
وظاهر الآية الإخبار بأن فيهما إثماً كبيراً . ومنافع حالة الجواب وزمانه ، وقال ابن عباس ، والربيع : الإِثم فيهما بعد التحريم ، والمنفعة فيهما قبل التحريم ، فعلى هذا يكون الإثم في وقت ، والمنفعة في وقت ، والظاهر أنه إخبار عن الحال ، والإثم الذي فيهما هو الذنب الذي يترتب عليه العقاب ، وقالت طائفة : الإثم الذي في الخمر : ذهاب العقل ، والسباب ، والافتراء ، والتعدّي الذي يكون من شاربها ، والمنفعة التي في الخمر ، قال الأكثرون : ما يحصل منها من الأرباح والأكساب ، وهو معنى قول مجاهد : وقيل ما ذكر الأطباء في منافعها من ذهاب الهم ، وحصول الفرح ، وهضم الطعام ، وتقوية الضعيف ، والإعانة على الباءة ، وتسخية البخيل ، وتصفية اللون ، وتشجيع الجبان ، وغير ذلك من منافعها . وقد صنفوا في ذلك مقالات وكتباً ، ويسمونها : الشراب الريحاني ، وقد ذكروا أيضاً لها مضار كثيرة من جهة الطب .
والمنفعة التي في الميسر إيسار القامر بغير كدّ ولا تعب ، وقيل : التوسعة على المحاويج ، فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور ، ويفرقه على الفقراء . وذكر المفسرون هنا حكم ما أسكر كثيرُه من غير الخمر العنبية ، وحدّ الشارب ، وكيفية الضرب ، وما يتوقى من المضروب فلا يضرب عليه ، ولم تتعرض الآية لشيء من ذلك ، وهو مذكور في علم الفقه .
وقرأ حمزة ، والكسائي : إثم كثير ، بالثاء ، ووصف الإثم بالكثرة إما باعتبار الآثمين ، فكأنه قيل : فيه للناس آثام ، أي لكل واحد من متعاطيها إثم ، أو باعتبار ما يترتب على شربها من توالي العقاب وتضعيفه ، فناسب أن ينعت بالكثرة ، أو باعتبار ما يترتب على شربها مما يصدر من شاربها من الأفعال والأقوال المحرمة ، أو باعتبار من زوالها من لدن كانت إلى أن بيعت وشربت ، فقد لعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الخمر ، ولعن معها عشرة : بائعها ، ومبتاعها ، والمشتراة له ، وعاصرها ، ومعتصرها ، والمعصورة له وساقيها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة له ، وآكل ثمنها . فناسب وصف الإثم بالكثرة بهذا الاعتبار .
وقرأ الباقون : كبير ، بالباء ، وذلك ظاهر ، لأن شرب الخمر والقمار ذنبهما من الكبائر ، وقد ذكر بعض الناس ترجيحاً لكل قراءة من هاتين القراءتين على الأخرى ، وهذا خطأ ، لأن كلاً من القراءتين كلام الله تعالى ، فلا يجوز تفضيل شيء منه على شيء من قبل أنفنسا ، إذ كله كلام الله تعالى .
( وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ( في مصحف عبد الله وقراءته : أكثر ، بالثاء كما في مصحفه : كثير ، بالثاء المثلثة فيهما .
قال الزمخشري : وعقاب الإثم في تعاطيهما أكبر من

" صفحة رقم 168 "
نفعهما ، وهو الالتذاذ بشرب الخمر ، والقمار ، والطرب فيهما ، والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشراتهم ، والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم ، وسلب الأموال بالقمار ، والافتخار على الأبرام ؛ وفي قراءة أبي : وإثمهما أقرب ، ومعنى الكثرة أن : أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة . انتهى كلام الزمخشري .
وقال ابن عباس ، وسعد بن جبير ، والضحاك ، ومقاتل : إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ، وقيل : أكبر ، لأن عقابه باق مستمر والمنافع زائلة ، والباقي أكبر من الفاني .
( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ( تقدّم هذا السؤال وأجيبوا هنا بذكر الكمية والمقدار ، والسائل في هذه الآية ، قيل : هو عمرو بن الجموح ، وقيل : المؤمنون وهو الظاهر من واو الجمع .
والنفقة هنا قيل : في الجهاد ، وقيل : في الصدقات ، والقائلون في الصدقات ، قيل : في التطوع وهو قول الجمهور ، وقيل : في الواجب ، والقائلون في الواجب ، قيل : هي الزكاة المفروضة ، وجاء ذكرها هنا مجملاً ، وفصلتها السنة . وقيل كان واجباً عليهم قبل فرض الزكاة أن ينفقوا ما فضل من مكاسبهم عن ما يكفيهم في عامهم ، ثم نسخ ذلك بآية الزكاة .
والعفو : ما فضل الذي لا سرف فيه ولا تقصير ، قاله الحسن ، أو : الطيب الأفضل ، قاله الربيع ، أو : الكثير ، من قوله ) حَتَّى عَفَواْ ( أي : كثروا ، قال الشاعر : ولكنا يعض السيف منها
بأسوق عافيات اللحم كوم
أو : الصفو ، يقال ؛ أتاك عفواً ، أي : صفواً بلا كدر ، قال الشاعر : خذي العفو مني تستديمي مودتي
ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
أو : ما فضل عن ألف درهم ، أو : قيمة ذلك من الذهب ، وكان ذلك فرض عليهم قبل فرض الزكاة ، قاله ، قتادة . أو : ما فضل عن الثلث ، أو : عن ما يقوتهم حولاً لذوي الزراعة ، وشهراً لذوي الفلاحة ، أو : عن ما يقوته يومه للعامل بهذه ، وكانوا مأمورين بذلك ، فشق عليهم ، ففرضت الزكاة ، أو : الصدقة المفروضة ، قاله مجاهد ، و : ما لا يستنفد المال ويبقى صاحبه يسأل الناس ، قاله الحسن أيضاً .
وقد روي في حديث الذي جاء يتصدّق ببيضة من ذهب ، حدف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إياه بها ، وقوله : ( يجيء أحدكم بماله كله يتصدّق به ويقعد يتكفف الناس ، إنما الصدقة على ظهر غنى ) . وفي حديث سعد : ( لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) .
وقال الزمخشري : العفو نقيض الجهد ، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد ، واستفراغ الوسع ؛ وقال ابن عطية : المعنى : أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة ؛ وقال الراغب : العفو متناول لما هو واجب ولما هو تبرع ، وهو الفضل عن الغنى ، وقال الماتريدي : الفضل عن القوت .
وقرأ الجمهور : العفو ، بالنصب وهو منصوب بفعل مضمر تقديره : قل ينفقون العفو ، وعلى هذا الأولى في قوله : ماذا ينفقون ؟ أن يكون ماذا في موضع نصب ينفقون ، ويكون كلها استفهامية ، التقدير : أي شيء ينفقون ؟ فاجيبوا بالنصب ليطابق الجواب السؤال .
ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، وذا موصولة بمعنى الذي ، وهي خبره ، ولا يكون ولا يكون إذ ذاك الجواب مطابقاً للسؤال من حيث اللفظ ، بل من حيث المعنى ، ويكون العائد على الموصول محذوفاً لوجود شرط الحذف فيه ، تقديره : ما الذي ينفقونه ؟ .
وقرأ أبو عمر ، و : قل العفو ، بالرفع ، والأولى إذ ذاك أن تكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : قل المنفق العفو ، وأن يكون : ما ، في موضع رفع بالإبتداء ، و : ذا ، موصول ، كما

" صفحة رقم 169 "
قررناه ليطابق الجواب السؤال ، ويجوز أن يكون ماذا كله استفهاماً منصوباً بينفقون ، وتكون المطابقة من حيث المعنى لا من جهة اللفظ ، واختلف عن ابن كثير في العفو ، فروي عنه النصب كالجمهور ، والرفع كأبي عمرو .
وقال ابن عطية ، وقد ذكر القراءتين في العفو ما نصبه : وهذا متركب على : ما ، فمن جعل ما ابتداء ، وذا خبره بمعنى الذي ، وقدّر الضمير في ينفقونه عائداً قرأ العفو بالرفع لتصح مناسبة الحمل ، ورفعه على الابتداء تقديره : العفو إنفاقكم ، أو الذي ينفقون العفو ، ومن جعل ماذا إسماً واحداً مفعولاً : ينفقون ، قرأ العفو بالنصب بإضمار فعل ، وصح له التناسب ، ورفع العفو مع نصب : ما ، جائز ضعيف ، وكذلك نصبه مع رفعها . انتهى كلامه . وتقديره : العفو إنفاقكم ، ليس بجيد ، لأنه أتى بالمصدر ، وليس السؤال عن المصدر ، وقوله : جائز ، ضعيف ، وكذلك نصبه مع رفعها ليس كما ذكر ، بل هو جائز ، وليس بضعيف .
( كَذالِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَةِ ( الكاف للتشبيه وهي في موضع نعت لمصدر محذوف ، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه ، أي : تبيينا مثل ذلك يبين ، أو في حال كونه منها ذلك التبيين يبينه ، أي : يبين التبيين مماثلاً لذلك التبيين ، واسم الاشارة الأقرب أن يعود إلى الأقرب من تبينه حال المنفق ، قاله ابن الأنبارى ، وقال الزمخشري : ما يؤول إليه وهو تبيين أن العفو أصلح من الجهد في النفقة . أو حكم الخمر والميسر ، والإنفاق القريب أي : مثل ما يبين في هذا يبين في المستقبل ، والمعنى : أنه يوضح الآيات مثل ما أوضح هذا ، ويجوز أن يشار به إلى بيان ما سألوا عنه ، فبين لهم كتبيين مصرف ما ينفقون ، وتبيين ما ترتب عليه من الجزاء الدال عليه علم الله في قوله : ) فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( وتبيين حكم القتال ، وتبيين حاله في الشهر الشهر الحرام ، وما تضمنته الآية التي ذكر في القتال في الشهر الحرام ، وتبيين حال الخمر والميسر ، وتبيين مقدار ما ينفقون .
وأبعَدَ من خص اسم الإشارة ببيان حكم الخمر والميسر فقط ، وأبعد من ذلك من جعله إشارة إلى بيان ما سبق في السورة من الأحكام .
وكاف الخطاب إما أن تكون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو للسامع أو للقبيل ، فلذلك أفرد أو للجماعة المؤمنين فيكون بمعنى : كذلكم ، وهي لغة العرب يخاطبون الجمع بخطاب الواحد ، وذلك في إسم الإشارة ، ويؤيد هذا هنا قوله : ) يُبَيّنُ لَكُمْ ( فأتى بضمير الجمع فدل على أن الخطاب للجمع .
( لَكُمْ ( متعلق : بيبين ، واللام فيها للتبليغ ، كقولك : قلت لك ، ويبعد فيها التعليل ، والآيات ، العلامات ، والدلائل لعلكم تتفكرون ، ترجئة للتفكر تحصل عند تبيين الآيات . لأنه متى كانت الآية مبينة وواضحة لا لبس فيها ، ترتب عليها التفكر والتدبر فيما جاءت له تلك الآية الواضحة من أمر الدنيا وأمر الآخرة .
البقرة : ( 220 ) في الدنيا والآخرة . . . . .
و ) فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَةِ ( الأحسن أن يكون ظرفاً للتفكر ومتعلقاً به ، ويكون توضيح الآيات لرجاء التفكر في أمر الدنيا والآخرة مطلقاً ، لا بالنسبة إلى شيء مخصوص من أحوالها ، بل ليحصل التفكر فيما يعنّ من أمرهما ، وهذا ذكر معناه أولاً الزمخشري فقال : تتفكرون فيما يتعلق بالدارين ، فتأخذون بما هو أصلح لكم ، وقيل : تتفكرون في أوامر الله ونواهيه ، وتستدركون طاعته في الدنيا ، وثوابه في الآخرة ، وقال المفضل بن سلمة : تتفكرون في أمر النفقة في الدنيا والآخرة ، فتمسكون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا ، وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى ، وقيل : تتفكرون في زوال الدنيا وبقاء الآخرة ، فتعملون للباقي منهما . قال معناه ابن عباس والزمخشري ، وقيل : تتفكرون في منافع الخمر في الدنيا ، ومضارها في الآخرة ، فلا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب المستمر ، وقال قريباً منه الزمخشري ، وقيل : تتفكرون في الدنيا فتمسكون ، وفي الآخرة فتتصدّقون .
وجوّزوا أن يكون ، في الدنيا ، متعلقاً بقوله

" صفحة رقم 170 "
يبين لكم . الآيات ، لا : ب يتفكرون ، ويتعلق بلفظ : يبين ، أي : يبين الله في الدنيا والآخرة . وروي هذا عن الحسن .
ولا بد من تأويل على هذا إن كان التبيين للآيات يقع في الدنيا ، فيكون التقدير في أمر الدنيا والآخرة ، وإن كان يقع فيهما ، فلا يحتاج إلى تأويل ، لأن الآيات ، وهي : العلامات يظهرها الله تعالى في الدنيا والآخرة .
وجعل بعضهم هذا القول من باب التقديم والتأخير ، إذ تقديره عنده كذلك : ويمكن الحمل على ظاهر الكلام لتعلق : في الدنيا والآخرة ، بتتفكرون ، ففرض التقديم والتأخير ، على ما قاله الحسن ، يكون عدولاً عن الظاهر لا الدليل ، وإنه لا يجوز ، وليس هذا من باب التقديم والتأخير ، لأن : لعل ، هنا جارية مجرى التعليل ، فهي كالمتعلقة : بيبين ، وإذا كانت كذلك فهي والظرف من مطلوب : يبين ، وتقدّم أحد المطلوبين ، وتأخر الآخر ، لا يكون ذلك من باب التقديم والتأخير .
ويحتمل أن تكون : لعلكم تتفكرون ، جملة اعتراضية ، فلا يكون ذلك من باب التقديم والتأخير ، لأن شرط جملة الإعتراض أن تكون فاصلة بين متقاضيين .
قال ابن عطية ، وقال مكي : معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة ، يدل عليهما وعلى منزلتهما ، لعلكم تتفكرون في تلك الآيات . قال ابن عطية : فقوله : في الدنيا ، متعلق على هذا التأويل : بالآيات ، انتهى كلامه . وشرح مكي الآية بأن جعل الآيات منكرة ، حتى يجعل الظرفين صفة للآيات ، والمعنى عنده : آيات كائنة في الدنيا والآخرة ، وهو شرح معنى لا شرح إعراب ، وما ذكره ابن عطية من أنه متعلق على هذا التأويل بالآيات ؛ إن عنى ظاهر ما يريده النحاة بالتعلق فهو فاسد ، لأن الآيات لا يتعلق بها جار ومجرور ، ولا تعمل في شيء البتة ، وإن عنى أنه يكون الظرف من تمام الآيات ، وذلك لا يتأتى إلاَّ باعتقاد أن تكون في موضع الحال ، أي : كائنة في الدنيا والآخرة ، ولذلك فسره مكي بما يقتضي أن تكون صفة ، إذ قدّر الآيات منكرة ، والحال والصفة سواء في أن العامل فيهما محذوف إذا كانا ظرفين أو مجرورين ، فعلى هذا تكون : في الدنيا ، متعلقاً بمحذوف لا بالآيات ، وعلى رأي الكوفيين ، تكون الآيات موصولاً وصل بالظرف ؛ ولتقرير مذهبهم ورده موضع غير هذا .
( فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ ( : سبب نزولها أنهم كانوا في الجاهلية يتحرجون من مخالطة اليتامى في مأكل ومشرب وغيرهما ، ويتجنبون أموالهم ، قاله الضحاك ، والسدي . وقيل : لما نزلت ) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ( ) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ( تجنبوا اليتامى وأموالهم ، وعزلوهم عن أنفسهم فنزلت ، قاله ابن عباس ، وابن المسيب .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر ، وكان تركهما مدعاة إلى تنمية المال ، وذكر السؤال عن النفقة ، وأجيبوا بأنهم ينفقون ما سهل عليهم ، ناسب ذلك النظر في حال اليتيم ، وحفظ ماله ، وتنميته ، وإصلاح اليتيم بالنظر في تربيته ، فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم أنفسهم ، وفي النظر في حال اليتامى إصلاحاً لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه ، فيكون قد جمعوا بين النفع لأنفسهم ولغيرهم .
والظاهر أن السائل جمع الإثنين بواو الجمع وهي للجمع به وقيل به .
وقال مقاتل : السائل ثابت بن رفاعة الأنصاري ، وقيل : عبد الله بن رواحة ، وقيل : السائل من كان بحضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من المؤمنين ، فإن العرب كانت تتشاءم بخلط أموال اليتامى بأموالهم ، فأعلم تعالى المؤمنين أنما كانت مخالطتهم مشؤومة لتصرفهم في أموالهم تصرفاً غير سديد ، كانوا يضعون الهزيلة مكان السمينة ، ويعوضون التافه عن النفيس ، فقال تعالى : ) قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ( الإصلاح لليتيم يتناول إصلاحه بالتعليم والتأديب ، وإصلاح ما له بالتنمية والحفظ .
وإصلاح : مبتدأ وهو نكرة ، ومسوغ

" صفحة رقم 171 "
جواز الإبتداء بالنكرة هنا هو التقييد بالمجرور الذي هو : لهم ، فإما أن يكون على سبيل الوصف ، أو على سبيل المعمول للمصدر ، و : خير ، خبر عن إصلاح ، وإصلاح كما ذكرنا مصدر حذف فاعله ، فيكون : خير ، شاملاً للإصلاح المتعلق بالفاعل والمفعول ، فتكون الخيرية للجانبين معاً ، أي إن إصلاحهم لليتامى خير للمصلح ، والمصلح فيتناول حال اليتيم ، والكفيل ، وقيل : خير للولي ، والمعنى : إصلاحه من غير عوض ولا أجرة خير له وأعظم أجراً ، وقيل : خير ، عائد لليتيم ، أي : إصلاح الولي لليتيم ، ومخالطته له ، خير لليتيم من إعراض الولي عنه ، وتفرده عنه ، ولفظ : خير ، مطلق فتخصيصه بأحد الجانبين يحتاج إلى مرجح ، والحمل على الإطلاق أحسن .
وقرأ طاووس : قل إصلاح إليهم ، أي : في رعاية المال وغيره خير من تحرجكم ، أو خير في الثواب من إصلاح أموالكم .
( وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ( هذا التفات من غيبة إلى خطاب لأن قبله و : يسألونك ، قالوا وضمير للغائب ، وحكمة هذا الالتفات ما في الإقبال بالخطاب على المخاطب ليتهيأ لسماع ما يلقى إليه وقبوله والتحرز فيه ، فالواو ضمير الكفلاء ، وهم ضمير اليتامى ، والمعنى : أنهم إخوانكم في الدين ، فينبغي أن تنظروا لهم كما تنظرون لإخوانكم من النسب من الشفقة والتلطف والإصلاح لذواتهم وأموالهم .
والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو الامتزاج ، والمعنى : في المأكل ، فتجعل نفقة اليتيم مع نفقة عياله بالتحري ، إذ يشق عليه إفراده وحده بطعامه ، فلا يجد بداً من خلطه بماله لعياله ، فجاءت الآية بالرخصة في ذلك ، قاله أبو عبيد . أو : المشاركة في الأموال والمتاجرة لهم فيها ، فتتناولون من الربح ما يختص بكم ، وتتركون لهم ما يختص بهم . أو : المصاهرة فإن كان اليتيم غلاماً زوجه ابنته ، أو جارية زوجها ابنه ورجح هذا القول بأن هذا خلطة لليتيم نفسه ، والشركة خلطة لماله ، ولأن الشركة داخلة في قوله : ) قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ( ولم يدخل فيه الخلط من جهة النكاح ، فحمله على هذا الخلط أقرب . وبقوله : فإخوانكم في الدين ، فإن اليتيم إذا كان من أولاد الكفار وجب أن يتحرى صلاح ماله كما يتحرى في المسلم ، فوجب أن تكون الإشارة بقوله : فإخوانكم ، إلى نوع آخر من المخالطة ، وبقوله بعد : ولا تنكحوا المشركات ، فكأن المعنى : إن المخالطة المندوب إليها في اليتامى الذين هم لكم إخوان بالإسلام . أو الشرب من لبنه وشربه من لبنك ، وأكلك في قصعته وأكله في قصعتك ، قاله ابن عباس . أو : خلط المال بالمال في النفقة والمطعم والمسكن والخدم والدواب ، فيتناولون من أموالهم عوضاً عن قيامكم بأمورهم ، بقدر ما يكون أجرة مثل ذلك في العمل ، والقائلون بهذا منهم من جوّز له ذلك ، سواء كان القيم غنياً وفقيراً ، ومنهم من قال : إذا كان غنياً لم يأكل من ماله . أو : المضاربة التي يحصل بها تنمية أموالهم . والذي يظهر أن المخالطة لم تقيد بشيء لم يقل في كذا فتحمل على أي : مخالطة كانت مما فيه إصلاح لليتيم ، ولذلك قال : فإخوانكم ، أي : تنظرون لهم نظركم إلى إخوانكم مما فيه إصلاحهم .
وقد اكتنف هذه المخالطة الإصلاح قبل وبعد ، فقبل بقوله : ) قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ( وبعد بقوله : ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ( فالأولى أن يراد بالمخالطة ما فيه إصلاح لليتيم بأي : طريق كان ، من مخالطة في مطعم أو مسكن أو متاجرة أو مشاركة أو مصاهرة أو غير ذلك .
وجواب الشرط فإخوانكم ، وهو خبر مبتدأ محذوف أي : فهم إخوانكم ، وقرأ أبو مجلز : فإخوانكم على إضمار فعل التقدير : فتخالطون إخوانكم ، وجاء جواب السؤال بجملتين : إحداهما : منعقدة من مبتدأ وخبر ؛ والثانية : من شرط وجزاء .
فالأولى : تتضمن إصلاح اليتامى وأنه خير ، وأبرزت ثبوتية منكراً مبتدأها ليدل على تناوله كل إصلاح على طريق البدلية ، ولو أضيف عم ، أو لكان معهوداً في إصلاح خاص ، فالعموم لا يمكن وقوعه ، والمعهود لا يتناول غيره ، فلذلك جاء التنكير الدال على عموم البدل ، وأخبر عنه : بخير ، الدال على تحصيل الثواب ، لتبادر المسلم إلى فعل ما فيه الخير طلباً لثواب الله تعالى .
وأبرزت الثانية : شرطية لأنها أتت لجواز الوقوع لا لطلبه وندبته .
ودل الجواب الأول على ضروب من الأحكام مما فيه مصلحة اليتيم ، لجواز تعليمه أمر دين وأدب ، والاستئجار له على ذلك ، وكالإنفاق عليه من ماله ، وقبول ما يوهب له ، وتزويجهم مؤاجرته ، وبيعه ماله لليتيم ، وتصرفه في ماله بالبيع والشراء ، وفي عمله فيه بنفسه مضاربة ، ودفعه إلى غيره مضاربة ، وغير ذلك من التصرفات المنوطة بالإصلاح .

" صفحة رقم 172 "
ودل الجواب الثاني على جواز مخالطة اليتامى بما فيه إصلاح لهم ، فيخلطه بنفسه في مناكحه وماله بماله في مؤونة وتجارة وغيرهما .
قيل : وقد انتظمت الآية على جواز المخالطة ، فدلت على جواز المباهدة التي يفعلها المسافرون في الأسفار ، وهي أن يخرج هذا شيئاً من ماله ، وهذا شيئاً من ماله فيخلط وينفق يأكل الناس ، وإن اختلف مقدار ما يأكلون ، وإذا أبيح لك في مال اليتيم فهو في مال البالغ بطيب نفسه أجوز .
ونظير جواز المناهدة قصة أهل الكهف : ) فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ ( الآية ، وقد اختلف في بعض الأحكام التي قدمناها ، فمن ذلك : شراء الوصي من مال اليتيم ، والمضاربة فيه ، وإنكاح الوصي بيتيمته من نفسه ، وإنكاح اليتيم لابنته ، وهذا مذكور في كتب الفقه .
وجعلهم إخواناً لوجهين : أحدهما : أخوة الدين ، والثاني : لانتفاعهم بهم ، إما في الثواب من الله تعالى وإما بما يأخذونه من أجرة عملهم في أموالهم ، وكل من نفعك فهو أخوك .
وقال الباقر لشخص : رأيتك في قوم لم أعرفهم ، فقال : هم إخواني ، فقال : أفيهم من إذا احتجت أدخلت يدك في كمه فأخذت منه من غير استئذان ؟ قال : لا ، قال : إذن لستم بإخوان .
وفي قوله : ) فَإِخوَانُكُمْ ( دليل على أن أطفال المؤمنين مؤمنون في الأحكام لتسمية الله تعالى إياهم إخواناً لنا .
( وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ( جملة معناها التحذير ، أخبر تعالى فيها أنه عالم بالذي يفسد من الذي يصلح ، ومعنى ذلك : أنه يجازي كلاً منهما على الوصف الذي قام به ، وكثيراً ما ينسب العلم إلى الله تعالى على سبيل التحذير ، لأن من علم بالشيء جازى عليه ، فهو تعبير بالسبب عن المسبب ، و : يعلم ، هنا متعدٍ إلى واحد ، وجاء الخبر هنا بالفعل المقتضى للتجدد ، وإن كان علم الله لا يتحدد ، لأنه قصد به العقاب والثواب للمفسد والمصلح ، وهما وصفان يتجدّدان من الموصوف بهما ، فتكرر ترتيب الجزاء عليهما لتكررهما ، وتعلق العمل بالمفسد أولاً ليقع الامساك عن الإفساد .
ومن ، متعلقة بيعلم على تضمين ما يتعدّى بمن ، كأن المعنى : والله يميز بعلمه المفسد من المصلح .
وظاهر الألف واللام أنها للاستغراق في جميع أنواع المفسد والمصلح ، والمصلح في مال اليتيم من جملة مدلولات ذلك ، ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد ، أي : المفسد في مال اليتيم من المصالح فيه ، والمفسد بالإهمال في تربيته من المصلح له بالتأديب ، وجاءت هذه الجملة بهذذا التقسيم لإن المخالطة على قسمين : مخالطة بإفساد ، ومخالطة بإصلاح . ولأنه لما قيل : ) قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ( فهم مقابله ، وهو أن الإفساد شر ، فجاء هذا التقسيم باعتبار الإصلاح . ومقابله ) وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ( أي : لأخرجكم وشدد عليكم قاله ابن عباس ، والسدّي وغيرهما ، أو : لأهلككم ، قاله أبو عبيدة ، أو : لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً قاله ، ابن عباس ، وهو معنى ما قبله ، أو : لكلفكم ما يشق عليكم ، قاله الزجاج ، أو : لآثمككم بمخالطتهم أو : لضيق عليكم الأمر في مخالطتهم ، قاله عطاء ، أو : لحرم عليكم مخالطتهم ، قاله ابن جرير . وهذه أقوال كلها متقاربة .
ومفعول : شاء ، محذوف لدلالة الجواب عليه ، التقدير : ولو شاء الله إعناتكم ، واللام في الفعل الموجب الأكثر في لسان العرب المجيء بها فيه ، وقرأ الجمهور لأعنتكم بتخفيف الهمزة ، وهو الأصل ، وقرأ البزي من طريق أبي ربيعة ( بتليين الهمزة ) وقرىء بطرح الهمزة والقاء حركتها على اللام كقراءة من قرأ : فلا اثم عليه ، بطرح الهمزة .
قال أبو عبد الله نصر بن على المعروف بابن مريم : لم يذكر ابن مجاهد هذا الحرف ، وابن كثير لم يحذف الهمزة ، وإنما لينها وحققها ، فتوهموا أنها محذوفة ، فإن الهمزة همزة قطع فلا تسقط حالة الوصل كما تسقط همزات الوصل عند الوصل . إنتهى كلامه . فجعل إسقاط الهمزة وهماً ، وقد نقلها غيره قراءة كماذ كرناه .
وفي هذه الجملة الشرطية إعلام وتذكير بإحسان الله وإنعامه على أوصياء اليتامى ، إذ أزال إعناتهم

" صفحة رقم 173 "
ومشقتهم في مخالطتهم ، والنظر في أحوالهم وأموالهم .
( أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( قال الزمخشري : عزيز غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ، لكنه حكيم لا يكلف إلاَّ ما تتسع فيه طاقتهم . وقال ابن عطية : عزيز لا يرد أمره ، وحكيم أي محكم ما ينفذه . إنتهى .
في وصفه تعالى بالعزة ، وهو الغلبة والإستيلاء ، إشارة إلى أنه مختص بذلك لا يشارك فيه ، فكأنه لما جعل لهم ولاية على اليتامى نبهم على أنهم لا يقهرونهم ، ولا يغالبونهم ، ولا يستولون عليهم استيلاء القاهر ، فإن هذا الوصف لا يكون إلاَّ لله .
وفي وصفه تعالى بالحكمة إشارة إلى أنه لا يتعدّى ما أذن هو تعالى فيهم وفي أموالهم ، فليس لكم نظر إلاَّ بما أذنت فيه لكم الشريعة ، واقتضته الحكمة الإلهية . إذ هو الحكيم المتقن لما صنع وشرع ، فالإصلاح لهم ليس راجعاً إلى نظركم ، إنما هو راجع لاتباع ما شرع في حقهم .
البقرة : ( 221 ) ولا تنكحوا المشركات . . . . .
( وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( قال ابن عباس : نزلت في عبد الله بن رواحة ، أعتق أمة وتزوّجها ، وكانت مسلمة ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، فقالوا : نكح أمة ، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين رغبة في أحسابهم ، فنزلت . وقال مقاتل : نزلت في أبي مرثد الغنوي ، واسمه كناز بن الحصين ، وفي قول : إنه مرثد بن أبي مرثد ، وهو حليف لبني هاشم استأذن أن يتزوّج : عناق ، وهي امرأة من قريش ذات حظ من جمال ، مشركة ، وقال : يا رسول الله إنها تعجبني ، وروي هذا السبب أيضاً عن ابن عباس بأطول من هذا .
وقيل : نزلت في حسناء وليدة سوداء لحذيفة بن اليمان ، أعتقها وتزوّجها ، ويحتمل أن يكون السبب جميع هذه الحكايات .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى حكم اليتامى في المخالطة ، وكانت تقتضي المناكحة وغيرها مما يسمى مخالطة . حتى إن بعضهم فسرها بالمصاهرة فقط ، ورجح ذلك كما تقدم ذكره ، وكان من اليتامى من يكون من أولاد الكفار ، نهى الله تعالى عن مناكحة المشركات والمشركين ، وأشار إلى العلة المسوّغة للنكاح ، وهي : الأخوة الدينية ، فنهى عن نكاح من لم تكن فيه هذه الأخوة ، واندرج يتامى الكفار في عموم من أشرك .
ومناسبة أخرى : أنه لما تقدم حكم الشرب في الخمر ، والأكل في الميسر ، وذكر حكم المنكح ، فكما حرم الخمر من المشروبات ، وما يجر إليه الميسر من المأكولات ، حرّم المشركات من المنكوحات .
وقرأ الجمهور : ولا تنكحوا ، بفتح التاء من نكح ، وهو يطلق بمعنى العقد ، وبمعنى الوطء بملك وغيره ؛ وقرأ الأعمش : ولا تنكحوا بضم التاء من انكح ، أي : ولا تنكحوا أنفسكم المشركات . والمشركات هنا : الكفار فتدخل الكتابيات ، ومن جعل مع الله إلهاً آخر وقيل : لا تدخل الكتابيات ، والصحيح دخولهنّ لعبادة اليهود عزيراً ، والنصارى عيسى ، ولقوله : ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( وهذا القول الثاني هو قول جل المفسرين .
وقيل : المراد مشركات العرب ، قاله قتادة .
فعلى قول من قال : إنه تدخل فيهنّ الكتابيات ، يحتاج إلى مجوّز نكاحهنّ فروي عن ابن عباس أنه عموم نسخ ، وعن مجاهد عموم خص منه الكتابيات ، وروي عن ابن عباس : أن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات ، وكل من على غير دين الإسلام ، ونكاحهنّ حرام .
والآية محكمة على هذا ، ناسخة لآية المائدة . وآية المائدة متقدمة في النزول على هذه الآية ، وإن كانت متأخرة في التلاوة ، ويؤكد هذا قول ابن عمر في ( الموطأ ) : ولا أعلم إشراكاً أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى . وروي أن طلحة بن عبيد الله نكح يهودية ، وأن حذيفة نكح نصرانية ، وان عمر غضب عليهما غضباً شديداً حتى هَمَّ أن يسطو عليهما ، وتزوّج عثمان نائله بنت الفرافصة ، وكانت نصرانية .
ويجوز نكاح الكتابيات ، قال جمهور الصحابة والتابعين ، عمر ، وعثمان ، وجابر ، وطلحة ، وحذيفة ، وعطاء ، وابن المسيب ، والحسن ، وطاووس ، وابن جبير ، والزهري ، وبه قال الشافعي : وعامة أهل المدينة والكوفة ، قيل : أجمع علماء الأمصار على جواز تزويج الكتابيات ، غير أن مالكاً وإبن حنبل كرها ذلك مع وجود المسلمات والقدرة على نكاحهن .
واختلف في تزويج المجوسيات ، وقد تزوّج حذيفة بمجوسية ، وفي كونهم أهل كتاب خلاف ، وروي عن

" صفحة رقم 174 "
جماعة أن لهم نبياً يسمى زرادشت ، وكتاباً قديماً رفع ، روي حديث الكتاب عن علي ، وابن عباس ، وذكر لرفعه وتغيير شريعتهم سبب طويل ، والله أعلم بصحته .
ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب الفقه ، وظاهر النهي في قوله : ولا تنكحوا التحريم ، وقيل : هو نهي كراهة حتى يؤمن ، غاية للمنع من نكاحهنّ ، ومعنى إيمانهنّ اقرارهنّ بكلمتي الشهادة التزام شرائع الإسلام .
( وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ ( الظاهر أنه أريد بالأمة الرقيقة ، ومعنى : خير من مشركة ، أي : من حرة مشركة ، فحذف الموصوف لدلالة مقابله عليه ، وهو أمة ، وقيل : الأمة هنا بمعنى بالمرأة ، فيشمل الحرّة والرقيقة ، ومنه : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) . وهذا قول الضحاك : ولم يذكر الزمخشري غيره ، وفي هذا دليل على جواز نكاح الأمُّة المؤمنة ، ومفهوم الصفة يقتضي أنه لا يجوز نكاح الأمة الكافرة ، كتابية كانت أو غيرها ، وهذا مذهب مالك وغيره ؛ وأجاز أبو حنيفة وأصحابه نكاح الأمة المجوسية خلاف : مذهب مالك وجماعة أنه لا يجوز أن توطأ بنكاح ولا ملك ، وروي عن عطاء ، وعمرو بن دينار أنه لا بأس بنكاحها بملك اليمين ، وتأولاً : ) وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ ( على العقد لا على الأمة المشتراة ، واحتجَّا بسبي أوطاس ، وأن الصحابة نكحوا الإماء منهم بملك اليمين .
قيل : وفي هذه الآية دليل لجواز نكاح القادر على طول الحرّة المسلمة للأمة المسلمة ، ووجه الاستدلال أن قوله : ) خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ ( معناه من : حرة مشركة ، وواجد طول الحرة المشركة واجد لطول الحرّة المسلمة ، لأنه لا يتفاوت الطولان بالنسبة إلى الإيمان والكفر ، فقدر المال المحتاج إليه في أهبة نكاحها سواء ، فيلزم من هذا أن واجد طول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة المسلمة وهذا استدلال لطيف .
وأمة : مبتدأ ، أو مسوّغ جواز الابتداء الوصف ، و : خير ، خبر . وقد استدل بقوله : خير ، على جواز نكاح المشركة لأن أفعل التفضيل يقتضي التشريك ، ويكون النهي أوّلاً على سبيل الكراهة ، قالوا : والخيرية إنما تكون بين شيئين جائزين ، ولا حجة في ذلك ، لأن التفضيل قد يقع على سبيل الإعتقاد . لا على سبيل الوجود ، ومنه : ) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( و : العسل أحلى من الخل ؛ وقال عمر ، في رسالته لأبي موسى : الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، ويحتمل إبقاء الخيرية على الاشتراك الوجودي ، ولا يدل ذلك على جواز النكاح بأن نكاح المشركة يشتمل على منافع دنيوية ، ونكاح الأمة المؤمنة على منافع أخروية فقد اشترك النفعان في مطلق النفع أصلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى ، فالحكم بهذا النفع الدنيوي لا يقتضي التسويغ ، كما أن الخمر والميسر فيهما منافع ، ولا يقتضي ذلك الإباحة ، وما من شيء محرم إلاَّ يكاد يكون فيه نفع مّا .
وهذه التأويلات في أفعل التفضيل هو على مذهب سيبويه والبصريين في أن لفظة : أفعل ، التي للتفضيل ، لا تصح حيث لا اشتراك ، كقولك : الثلج أبرد من النار ، والنور أضوأ من المظلمة ؛ وقال الفراء وجماعة من الكوفيين : يصح حيث الاشتراك ، وحيث لا يكون اشتراك ؛ وقال إبراهيم بن عرفة : لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجاباً للأوّل ، ونفياً عن الثاني ، فعلى قول هو لا يصح أن لا يكون خير في المشركة وإنما هو في الأمة المؤمنة .
( وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ( لو : هذه بمعنى إن الشرطية ، نحو : ( ردّوا السائل ولو بظلف شاة محرق ) . والواو في : ولو ، للعطف على حال محذوفة ، التقدير : خير من مشركة على كل حال ، ولو في هذه الحال ، وقد ذكرنا أن هذا يكون لاستقصاء الأحوال ، وأن ما بعد لو هذه إنما يأتي وهو مناف لما قبله بوجه مّا ، فالإعجاب منافٍ لحكم الخيرية ، ومقتضٍ جواز النكاح لرغبة الناكح فيها ، وأسند الإعجاب إلى ذات المشركة ، ولم يبين المعجب منها ، فالمراد مطلق الإعجاب ، إما

" صفحة رقم 175 "
لجمال ، أو شرف ، أو مال أو غير ذلك مما يقع به الإعجاب .
والمعنى : أن المشركة ، وإن كانت فائقة في الجمال والمال والنسب ، فالأمة المؤمنة خير منها ، لأن ما فاقت به المشركة يتعلق بالدنيا ، والإيمان يتعلق بالآخرة ، والآخرة خير من الدنيا ، فبالتوافق في الدين تكمل المحبة ومنافع الدنيا من الصحبة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد ، وبالتباين في الدين لا تحصل المحبة ولا شيء من منافع الدنيا .
( وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ ( القراءة بضم التاء إجماع من القراء ، والخطاب للأولياء ، والمفعول الثاني محذوف ، التقدير : ولا تنكحوا المشركين المؤمنات . وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه مّا ، والنهي هنا للتحريم ، وقد استدل بهذا الخطاب على الولاية . في النكاح وأن ذلك نص فيها .
( وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ( : الكلام في هذه الجملة كالكلام في الجملة التي قبلها ، والخلاف في المراد بالعبد : أهو بمعنى الرقيق أم بمعنى الرجل ؟ كهو في الأمة هناك ، وهل المعنى : خير من حر مشرك ، حتى يقابل العبد ؟ أو من مشرك على الإطلاق فيشمل العبد والحر ، كما هو في قوله : خير من مشركة ؟
) أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ( هذه إشارة إلى الصنفين ، المشركات والمشركين ، و : يدعون ، يحتمل أن يكون الدعاء بالقول ، كقول : ) وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ( ويحتمل أن لا يكون القول ، بل بسبب المحبة والمخالطة تسرق إليه من طباع الكفار ما يحمله على الموافقة لهم في دينهم ، والعياذ بالله ، فتكون من أهل النار .
وقيل : معناه يدعون إلى ترك المحاربة والقتال ، وفي تركهما وجوب استحقاق النار ، وتفرق صاحب هذا التأويل بين الذمّية وغيرها ، فإن الذمّية لا يحمل زوجها على المقاتلة .
وقيل : المعنى أن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيوافق ، فيكون من أهل النار ، والذي يدل عليه ظاهر الآية : أن الكفار يدعون إلى النار قطعاً ، إما بالقول . وأما أن تؤدي إليه الخلطة ، والتآلف والتناكح ، والمعنى : أن من كان داعياً إلى النار يجب اجتنابه لئلا يستميل بدعائه دائماً معاشره فيجيبه إلى ما دعاه ، فيهلك .
وفي هذه الآية تنبيه على العلة المانعة من المناكحة في الكفار ، لما هم عليه من الالتباس بالمحرّمات من : الخمر والخنزير ، والانغماس في القاذورات ، وتربية النسل وسرقة الطباع من طباعهم ، وغير ذلك مما لا تعادل فيه شهوة النكاح في بعض ما هم عليه ، وإذا نظر إلى هذه العلة فهي موجودة في كل كافر وكافرة فتقتضي المنع من المناكحة مطلقاً . وسيأتي الكلام في سورة المائدة إن شاء الله تعالى ، ونبدي هناك ان شاء الله كونها لا تعارض هذه .
و : إلى ، متعلق بيدعون كقوله : ) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ ( ويتعدى أيضاً باللام ، كقوله .
دعوت لما نابني مسوراً
ومفعول يدعون محذوف : إما اقتصاراً إذا المقصود إثبات أن من شأنهم الدعاء إلى النار من غير ملاحظة مفعول خاص ، وإما اختصاراً ، فالمعنى : أولئك يدعونكم إلى النار .
( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ ( هذا مما يؤكد منع مناكحة الكفار ، إذ ذكر قسمان : أحدهما يجب اتباعه ، وآخر يجب اجتنابه ، فتباين القسمان ، ولا يمكن إجابة دعاء الله واتباع ما أمر به إلاَّ باجتناب دعاء الكفار وتركهم رأساً ، ودعاء الله إلى اتباع دينه الذي هو سبب في دخول الجنة ، فعبر بالمسبب عن السبب لترتبه عليه .
وظاهر الآية الإخبار عن الله تعالى بأنه هو تعالى يدعو إلى الجنة ، وقال الزمخشري : يعنى : وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة ، وما يوصل إليهما ، فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم ، وأن يؤثروا على غيرهم . انتهى . وحامله على أن ذلك هو على حذف مضاف طلب المعادلة بين المشركين والمؤمنين في الدعاء ، فلما أخبر عن من أشرك أنه يدعو إلى النار ، جعل من آمن يدعو إلى الجنة ، ولا يلزم ما ذكر ، بل إجراء اللفظ على ظاهره من نسبة الدعاء إلى الله تعالى هو آكد في التباعد من المشركين ، حيث جعل موجد العالم منافياً لهم في الدعاء ، فهذا أبلغ من المعادلة بين

" صفحة رقم 176 "
المشركين والمؤمنين .
وقرأ الجمهور : والمغفرة ، بالخفض عطفاً على الجنة ، والمعنى أنه تعالى يدعو إلى المغفرة ، أي : إلى سبب المغفرة ، وهي التوبة والتزام الطاعات ، وتقدم هنا الجنة على المغفرة ، وتأخر عنها في قوله : ) وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ ( وفي قوله : ) سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ ( والاصل فيه تقدم المغفرة على الجنة ، لأن دخول الجنة متسبب عن حصول المغفرة ، ففي تلك الآيتين جاء على هذا الأصل ، وأما هنا ، فتقدم ذكر الجنة على المغفرة لتحسن المقابلة ، فإن قبله ) أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ( فجاء ) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ ( وليبدأ بما تتشوف إليه النفس حين ذكر دعاء الله ، فأتى بالأشرف للأشرف ، ثم أتبع بالمغفرة على سبيل التتمة في الإحسان ، وتهيئة سبب دخول الجنة .
وقرأ الحسن : و : المغفرة ، بالرفع على الابتداء ، والخبر : قوله : ) بِإِذْنِهِ ( متعلقاً بقوله : يدعو .
( وَيُبَيِنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( أي : يظهرها ويكشفها بحيث لا يحصل فيها التباس ، أي أن هذا التبيين ليس مختصاً بناس دون ناس ، بل يظهر آياته لكل أحد رجاء أن يحصل بظهور الآيات تذكر واتعاظ ، لأن الآية متى كانت جلية واضحة ، كانت بصدد أن يحصل بها التذكر ، فيحصل الامتثال لما دلت عليه تلك الآيات من موافقة الأمر ، ومخالفة النهي . و : للناس ، متعلق : بيبين ، و : اللام ، معناها الوصول والتبليغ ، وهو أحد معانيها المذكورة في أول الفاتحة .
البقرة : ( 222 ) ويسألونك عن المحيض . . . . .
( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ( في صحيح مسلم عن أنس أن اليهود كانت إذا حاضت امرأة منهم أخرجوها من البيت ، ولم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيت ، فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فانزل الله تعالى هذه الآية .
وقيل : كانت العرب على ما جاء في هذا الحديث ، فسأل أبو الدحداح عن ذلك ، فقال : كيف نصنع بالنساء إذا حضن ؟ فنزلت .
وقال مجاهد : كانوا يأتون الحيض استنوا سنة بني اسرائيل في تجنب مؤاكلة الحيض ومساكنتها ، فنزلت .
وقيل : كانت النصارى يجامعون الحيض ولا يبالون بالحيض واليهود يعتزلونهنّ في كل شيء ، فأمر الله بالاقتصادبين الأمرين .
وقيل : سأل أسيد بن حضير ، وعباد بن بشير ، عن المحيض فنزلت وقيل كانت اليهود تقول : من أتى امرأة من دبرها ، جاء ولده أحول ، فامتنع نساء الأنصار من ذلك ، وسئل عن إتيان الرجل امرأته وهي حائض ، وما قالت اليهود ، فنزلت .
والضمير في : ويسألونك ، ضمير جمع ، فالظاهر أن السائل عن ذلك هو ما يصدق عليه الجمع ، لا اثنان ولا واحد ، وجاء : ويسألونك ، هنا وقبله في ) فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ ( وقبله ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ( بالواو والعاطفة على ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ( قيل : لأن السؤال عن الثلاثة في وقت واحد ، فجىء بحرف الجمع لذلك ، كأنه قيل : جمعوا لك بين السؤال عن الخمر والميسر ، والسؤال عن كذا وكذا .
وقيل هذه سؤالات ثلاثة بغير واو ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ ( ) يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم ( ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ( وثلاثة : ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ ( قيل إنها جاءت بغير واو العطف لأن سؤالهم عن تلك الحوادث وقع في أوقات متباينة متفرّقة ، فلم يؤت فيها بحرف العطف ، لأن كلاًّ منها سؤال مبتدأ . انتهى .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما نهى عن مناكحة الكفار ، وتضمن مناكحة أهل الإيمان

" صفحة رقم 177 "
وإيثار ذلك ، بين حكماً عظيماً من أحكام النكاح ، وهو حكم النكاح في زمان الحيض . والمحيض ، كما قررناه ، هو مفعل ، هو مفعل من الحيض يصلح من حيث اللغة للمصدر والزمان والمكان ، فأكثر المفسرين من الأدباء زعموا أن المراد به المصدر ، وكأنه قيل : عن الحيض ، وبه فسره الزمخشري ؛ وبه بدأ ابن عطية قال : المحيض مصدر كالمحيض ، ومثله المقيل من قال يقيل . قال الراعي : بنيت مرافقهنّ فوق مزلة
لا يستطيع بها القراد مقيلا
وقال الطبري : المحيض اسم الحيض ، ومثله قول رؤبة في العيش : إليك أشكو شدّة المعيش
ومرّ أعوام نتفن ريشي
انتهى كلامه . ويظهر منه أنه فرق بين قول : المحيض مصدر كالحيض ، وبين قول الطبري : المحيض اسم الحيض ، ولا فرق بينهما ؛ يقال فيه مصدر ، ويقال فيه اسم مصدر ، والمعنى واحد . والقول بأن المحيض مصدر مروي عن ابن المسيب ؛ وقال ابن عباس : هو موضع الدم ، وبه قال محمد بن الحسن ، فعلى هذا يكون المراد منه المكان . ورجح كونه مكان الدم بقوله : ) فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ( فلو أريد به المصدر لكان الظاهر منع الاستمتاع بها فيما فوق السرة ودون الركبة غير ثابت ، لزم القول بتطرق النسخ ، أو التخصيص ، وذلك خلاف الأصل ، فإذا حمل على موضع الحيض كان المعنى : فاعتزلوا النساء في موضع الحيض . قالوا واستعماله في الموضع أكثر وأشهر منه في المصدر انتهى .
ويمكن أن يرجح المصدر بقوله : ) قُلْ هُوَ أَذًى ). ومكان الدم نفسه ليس بأذىً لأن الأذى كيفية مخصوصة وهو عرض ، والمكان جسم ، والجسم لا يكون عرضاً . وأجيب عن هذا بأنه يكون على حذف إذا أريد المكان ، أي : ذو أذى .
والخطاب في : ويسألونك ، وفي : قل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والضمير في : هو ، عائد على المحيض ، والمعنى : أنه يحصل نفرة للإنسان واستقذار بسببه .
( فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ( تقدّم الخلاف في المحيض أهو موضع الدم أم الحيض ؟ ويحتمل أن يحمل الأول على المصدر ، والثاني على المكان ، وإن حملنا الثاني على المصدر فلا بد من حذف مضاف ، أي : فاعتزلوا وطء النساء في زمان الحيض .
واختلف في هذا الاعتزال ، فذهب ابن عباس ، وشريح ، وابن جبير ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وجماعة من أهل العلم إلى أنه يجب اعتزال ما اشتمل عليه الإزار ، ويعضده ما صح أنها : تشد عليها إزارها ثم شأنه بأعلاها .
وذهبت عائشة ، والشعبي ، وعكرمة ، ومجاهد ، والثوري ، ومحمد بن الحسن ، وداود إلى أنه لا يجب إلاَّ اعتزال الفرج فقط ، وهو الصحيح من قول الشافعي .
وروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب اعتزال الرجل فراش زوجته إذا حاضت ، أخذ بظاهر الآية ، وهو قول شاذ .
ولما كان الحيض معروفاً في اللغة لم يحتج إلى تفسير ولم تتعرض الآية لأقلة ولا لأكثرة ، بل دلت على وجوب اعتزال النساء في المحيض ، وأقله عند مالك لا حدّ له ، بل الدفعة من الدم عنده حيض ، والصفرة والكدرة حيض

" صفحة رقم 178 "
والمشهور عن أبي حنيفة أن أقله ثلاثة أيام ، وبه قال الثوري . وقال عطاء والشافعي : يوم وليلة .
وأما أكثره فقال عطاء ، والشافعي : خمسة عشر يوماً وقال الثوري : عشرة أيام ، وهو المشهور عن أصحاب أبي حنيفة . ومذهب مالك في ذلك كقول عطاء ، وخرج من قول نافع سبعة عشر يوماً ، وقيل : ثمانية عشر يوماً . وقال القرطبي : روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا كثيره إلاَّ ما يوجد في النساء عادة . وروي عن الشافعي أن ذلك مردود إلى عرف النساء كقول مالك ، وروي عن ابن جبير : الحيض إلى ثلاثة عشر ، فإذا زاد فهو استحاضة .
وجميع دلائل هذا ، وبقية أحكام الحيض مذكور في كتب الفقه .
ولم تتعرض الآية لما يجب على من وطىء في الحيض ، واختلف في ذلك العلماء ، فقال أبو حنيفة ، ومالك ، ويحيى بن سعيد ، والشافعي ، وداود : يستغفر الله ولا شيء عليه ، وقال محمد : يتصدّق بنصف دينار ، وقال أحمد : يتصدّق بدينار أو نصف دينار ، واستحسنه الطبري ، وهو قول الشافعي ببغداد .
وقالت فرقة من أهل الحديث : إن وطىء في الدم فدينار ، أو في انقطاعه فنصفه ، ونقل هذا القول ابن عطية عن الأوزاعي ، ونقل غيره عن الأوزاعي أنه إن وطىء وهي حائض يتصدّق بخمسين دينار . وفي الترمذي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( إذا كان دماً أحمر فدينار ، وإن كان دماً أصفر فنصف دينار ) .
( وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ( قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية أبي بكر ، والمفضل عنه : يطهرن بتشديد الطاء والهاء والفتح ، وأصله : يتطهرن ، وكذا هي في مصحف أبي ، وعبد الله . وقرأ الباقون من السبعة : يطهرن ، مضارع . طهر .
وفي مصحف أنس : ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهنّ حتى يتطهرن . وينبغي أن يحمل هذا على التفسير لا على أنه قرآن لكثرة مخالفته السواد ، ورجح الفارسي : يطهرن ، بالتخفيف إذ هو ثلاثي مضاد لطمثت ، وهو ثلاثي . ورجح الطبري التشديد ، وقال : هي بمعنى تغتسلن لإجماع الجميع على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر ، قال : وإنما الخلاف في الطهر ما هو . انتهى كلامه .
قيل : وقراءة التشديد معناها حتى يغتسلن ، وقراءة التخفيف معناها ينقطع دمهن قاله الزمخشري وغيره :
وفي كتاب ابن عطية : كل واحد من القراءتين يحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء ، وأن يراد بها انقطاع الدم وزوال أذاه ، قال : وما ذهب إليه الطبري من أن قراءة تشديد الطاء مضمنها الاغتسال ، وقراءة التخفيف مضمنها إنقطاع الدم أمر غير لازم ، وكذلك ادعاؤه الإجماع أنه لا خلاف في كراهة الوطء قبل الاغتسال . انتهى ما في كتاب ابن عطية .
وقوله : ) وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ( هو كناية عن الجماع ، ومؤكد لقوله : ) فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ).
وظاهر الاعتزال والقربان أنهما لا يتماسان ، ولكن بينت السنة أنه اعتزال وقربان خاص ، ومن اختلافهم في أقل الحيض وأكثره يعرف اختلافهم في أقل الطهر و أكثره .
( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ( أي : اغتسلن بالماء ، قال ابن عطية : والخلاف في معناه كما تقدّم من التطهير بالماء أو انقطاع الدم ، وقال مجاهد وجماعة هنا : إنه أريد الغسل بالماء ، ولا بد لقرينة الأمر بالإتيان ، وإن كان قربهنّ قبل الغسل مباحاً ، لكن لا تقع صيغة الأمر من الله تعالى إلاَّ على الوجه الأكمل ، وإذا كان التطهر الغسل بالماء ، فمذهب مالك والشافعي وجماعة ، أنه كغسل الجنابة ، وهو قول ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ؛ وقال طاووس ، ومجاهد : الوضوء كاف في إباحة الوطء ، وذهب الأوزاعي إلى أن المبيح للوطء : هو غسل محل الوطء بالماء ، وبه قال ابن حزم .
وسبب الخلاف أن يحمل التطهر بالماء على التطهر الشرعي أو اللغوي ، فمن حمله على اللغوي قال : تغسل مكان الاذى بالماء ، ومن حمله على الشرعي حمله على أخف النوعين ، وهو الوضوء ، لمراعاة الخفة ، أو على أكمل النوعين وهو أن تغتسل كما تغتسل للجنابة إذ به يتحقق البراءة من العهدة . والاغتسال بالماء مستلزم

" صفحة رقم 179 "
لحصول انقطاع الدم ، لأنه لا يشرع إلاَّ بعده .
وإذا قلنا : لا بد من الغسل كغسل الجنابة ، فاختلف في الذمية : هل تجبر على الغسل من الحيض ؟ فمن رأى أن الغسل عبادة قال لا يلزمها لأن نية العبادة لا تصح من الكافر ، ومن لم ير ذلك عبادة ، بل الاغتسال من حق الزوج لإحلالها للوطء ، قال : تجبر على الغسل .
ومن أوجب الغسل فصفته ما روي في الصحيح عن أسماء بنت عميس أنها سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن غسل الحيضة فقال : ( تأخذ إحداكنّ ماءها وسدرها ، وتتطهر فتحسن الطهور ، ثم تصب الماء على رأسها وتضغطه حتى يبلغ أصول شعرها ، ثم تفيض الماء على سائر بدنها ) .
( فَئَاتُوهُنَّ ( هذا أمر يراد به الإباحة ، كقوله : ) وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ( ) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُواْ ( وكثيراً ما يعقب أمر الإباحة التحريم ، وهو كناية عن الجماع .
( مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ( حيث : ظرف مكان ، فالمعنى من الجهة التي أمر الله تعالى ، وهو القبل لأنه هو المنهي عنه في حال الحيض ، قاله ابن عباس ، والربيع . أو من قبل طهرهنّ لا من قبل حيضهنّ ، قاله عكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو رزين والسدّي .
وروي عن ابن عباس : ويصير المعنى فأتوهنّ في الطهر لا في الحيض أو من قبل النكاح لا من قبل الفجور ، قاله محمد بن الحنيفة ، أو : من حيث أحل لكم غشيانهنّ بأن لا يكنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات ، قاله الأصم . والأول أظهر ، لأن حمل : حيث ، على المكان والموضع هو الحقيقة ، وما سواه مجاز .
وإذا حمل على الأظهر كان في ذلك رد على من أباح إتيان النساء في أدبارهن . قيل : وقد انعقد الإجماع على تحريم ذلك ، وما روي من إباحة ذلك عن أحد من العلماء فهو مختلف غير صحيح ، والمعنى ، في أمركم الله باعتزالهنّ وهو الفرج ، أو من السرة إلى الركبتين .
( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ ( أي : الراجعين إلى الخير . وجاء عقب الأمر والنهي إيذاناً بقبول توبة من يقع منه خلاف ما شرع له ، وهو عام في التوابين من الذنوب .
( وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ ( أي : المبرئين من الفواحش ، وخصه بعضهم بأنه التائب من الشرك والمتطهر من الذنوب ، قاله ابن جبير ؛ أو بالعكس ، قاله عطاء ، ومقاتل ؛ وبعضهم خصه بالتائب من المجامعة في الحيض ، وقال مجاهد : من إتيان النساء في أدبارهنّ في أيام حيضهنّ ؛ وقال أبو العالية : التوابين من الكفر المتطهرين بالإيمان . وقال القتَّاد : التوابين من الكبائر والمتطهرين من الصغائر ، وقيل : التوابين من الذنوب والمتطهرين من العيوب . وقال عطاء أيضاً : المتطهرين بالماء ، وقيل : من أدبار النساء فلا يتلوثون بالذنب بعد التوبة ، كأن هذا القول نظير لقوله تعالى ، حكاية عن قوم لوط : ) أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ).
والذي يظهر أنه تعالى ذكر في صدر الآية ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ( ودل السبب على أنهم كانت لهم حالة يرتكبونها حالة الحيض ، من مجامعتهنّ في الحيض في الفرج ، أو في الدبر ، ثم أخبر الله تعالى بالمنع من ذلك ، وذلك في حالة الحيض في الفرج أو في الدبر ، ثم أباح الإتيان في بالفرج بعد انقطاع الدم والتطهر الذي هو واجب على المرأة لأجل الزوج ، وإن كان ليس مأموراً به في لفظ الآية ، فأثنى الله تعالى على من امتثل أمر الله تعالى ، ورجع عن فعل الجاهلية إلى ما شرعه تعالى ، وأثنى على من امتثلت أمره تعالى في مشروعية التطهر بالماء ، وأبرز ذلك في صورتين عامتين ، استدرج الأزواج والزوجات في ذلك ، فقال تعالى : ) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ ( أي : الراجعين إلى ما شرع ) وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ ( بالماء فيما شرع فيه ذلك فكان ختم الآية بمحبة الله من اندرج فيه الأزواج والزوجات . وذكر الفعل ليدل على اختلاف الجهتين من التوبة والتطهر ، وأن لكل من الوصفين محبة من الله يخص ذلك الوصف ، أو كرر ذلك على سبيل التوكيد .
وقد أثنى الله تعالى على أهل قباء بقوله : ) فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهّرِينَ ( وسألهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن السبب الذي أثنى الله به عليهم ،

" صفحة رقم 180 "
فقالوا : كنا نجمع بين الاستجمار واستنجاء بالماء ، أو كلاماً هذا معناه .
وقرأ طلحة بن مصرف : المطهرين ، بإدغاء التاء في الطاء ، إذا أصله المتطهرين .
البقرة : ( 223 ) نساؤكم حرث لكم . . . . .
( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ( في البخاري ومسلم : أن اليهود كانت تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها إن الولد يكون أحول ، فنزلت . وقيل : سبب النزول كراهة نساء الانصار ذلك لما تزوجهم المهاجرون ، وكانوا يفعلون ذلك بمكة ، يتلذذون بالنساء مقبلات ومدبرات ، روى معناه الحاكم في صحيحه ، وقيل : سبب ذلك أن بعض الصحابة قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : هلكت فقال : ( وما الذي أهلك ؟ ) قال : حولت رجلي الليله ، فنزلت .
ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، لأنه لما تقدّم ) فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ( وكان الإطلالاق يقتضي تسويغ إتيانهنّ على سائر احوال الإتيان ، أكد ذلك بأن نص بما يدل على سائر الكيفيات ، وبين أيضاً المحل بجعله حرثاً وهو : القبل ، والحرث كما تقدّم في قصة البقرة : شق الأرض للزرع ، ثم سمى بالزرع حرثاً ) أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ( وسمى الكسب حرثاً ، قال الشاعر : إذا أكل الجراد حروث قوم
فحرثى همه أكل الجراد
قالوا : يريد فامرأتي ، وأنشد أحمد بن يحي : إنما الأرحام أرضو
ن لنا محترثات
فعلينا الزرع فيها ، وعلى الله النبات .
وهذه الجملة جاءت بياناً وتوضيحاً لقوله : ) فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ( وهو المكان الممنوع من استعماله وقت الحيض ، ودل ذلك على أن الغرض الأصيل هو طلب النسل : ( تناكحوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) ، لا قضاء الشهوة فقط ، فأتوا النساء من المسلك الذي يتعلق به الغرض الأصلي ، وهو القبل .
ونساؤكم : مبتدأ ، وحرث لكم : خبر ، إما على حذف أداة التشبية ، أي : كحرث لكم ويكون نساؤكم على حذف مضاف ، أي : وطء نسائكم كالحرث ، إذ النطفة كالبذر ، والرحم كالأرض ، والولد كالنبات ، وقيل : هو على حذف مضاف أي : موضع حرث لكم ، وهذه الكناية في النكاح من بديع كنايات القرآن ، قالوا : وهو مثل قوله تعالى : ) يَأْكُلُ الطَّعَامَ ( ومثل قوله : ) وَأَرْضاً لَّمْ ( على قول من فسره بالنساء ، ويحتمل أن يكون : حرث لكم ، بمعنى : محروثه لكم ، فيكون من باب إطلاق المصدر ، ويراد به اسم المفعول . وفي لفظة : حرث لكم ، دليل على أنه القبل لا الدبر ؟ قال الماتريدي : أي مزدرع لكم ، وفيها دليل على النهي عن امتناع وطىء النساء ، لأن المزدرع إذا ترك ضاع . ودليل على إباحة الوطىء لطلب النسل والولد ، لا لقضاء الشهوة . إنتهى كلامه .
وفرق الراغب بين الحرث والزرع ، فقال : الحرث إلقاء البذر وتهيئة الأرض ، والزرع مراعاته وإنباته ، ولذلك قال تعالى ) أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرِعُونَ لَوْ ( أثبت لهم الحرث ونفى عنهم الزرع .
( فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ( الإيتان كناية

" صفحة رقم 181 "
عن الوطىء ، وجاء : حرث لكم ، نكرة لأنه الأصل في الخبر ، ولأنه كان المجهول ، فأفادت نسبته إلى المبتدأ جواز الاستمتاع به شرعاً ، وجاء : فأتوا حرثكم ، معرفة لأن في الإضافة حوالة على شيء سبق ، واختصاصاً بما أضيف إليه ، ونظير ذلك أن تقول : زيد مملوك لك فأحسن إلى مملوكك .
وإذا تقدّمت نكرة ، وأعدت اللفظ ، فلا بد أن يكون معرفة : إما بالألف واللام ، كقوله : ) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ( وإما بالإضافة كهذا .
وأنَّى : بمعنى : كيف بالنسبة إلى العزل ، وترك العزل ، قاله ابن المسيب ، فتكون الكيفية مقصورة على هذين الحالين ، أو بمعنى كيف على الإطلاق في أحوال المرأة ، قاله عكرمة ، والربيع ، فتكون دلت على جواز الوطء للمرأة . في أي حال شاءها ، الواطىء مقبلة ومدبرة ، على أي شق ، وقائمة ومضطجعة وغير ذلك من الأحوال ، وذلك في مكان الحرث ، أو : بمعنى متى ؟ قاله الضحاك ، فيكون إذ ذاك ظرف زمان . ويكون المعنى : قأتوا حرثكم في أي زمان أردتم .
وقال جماعة من المفسرين : أنَّى ، بمعنى أي ، والمعنى على أي صفة شئتم ، فيكون على هذا تخييراً في الخلال والهيئة ، أي : أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة ، وقد وقع هذا مفسراً في بعض الأحاديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( ذلك لا يبالي به بعد أن يكون في صمام واحد ) . والصمام رأس القارورة ، ثم استعير . وقالت فرقة : أنَّى ، بمعنى : أين ؟ فجعلها مكاناً ، واستدل بهذا على جواز نكاح المرأة في دبرها ، وممن روي عنه إباحة ذلك : محمد بن المنكدر ، وابن أبي ملكية ، وعبد الله بن عمر ، من الصحابة ، ومالك ، ووقع ذلك في العبية . وقد روي عن ابن عمر تكفير من فعل بذلك وإنكاره ، وروي عن مالك إنكار ذلك ، وسئل فقيل : يزعمون أنك تبيح إتيان النساء في ادبارهنّ ؟ فقال : معاذ الله ، ألم تسمعوا قول الله عزّ وجل : ) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ( وأنَّى يكون الحرث إلاَّ في موضع البذر ؟ ونقل مثل هذا عن الشافعي ، وأبي حنيفة ، ونقل جواز ذلك عن : نافع ، وجعفر الصادق ، وهو اختيار المرتضي من أئمة الشيعة ، وذكر في ( المنتخب ) ما استدل به لهذا المذهب وما ورد به ، فيطالع هناك ، إذ كتابنا هذا ليس موضوعاً لذكر دلائل الفقه إلاَّ بمقدار ما يتعلق بالآية .
وقد روى تحريم ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) اثنا عشر صحابياً بألفاظ مختلفة كلها تدل على التحريم ، ذكرها أحمد في ( مسنده ) وأو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه ( تحريم المحل المكروه ) .
قال ابن عطية : ولا ينبعغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم ، وقال أيضاً : أنى شئتم ، معناه عند جمهور العلماء من : صحابة ، وتابعين ، وأئمة : من أي وجه شئتم ، معناه : مقبلة ومدبرة على جنب ، وأنَّى : إنما يجيء سؤالاً وإخبارطاً على أمر له جهات ، فهي أعخم في اللغة من : كيف ، ومن : أين ، ومن : متى . هذا هو الاستعمال العربي .
وقد فسر الناس أنَّى في هذه الآية بهذه الألفاظ ، وفسرها سيبوية بكيف ، ومن أين بإجتماعهما ؟ وقال النحويون : أنَّى ، لتعميم الأحوال ، وقد تأتي : أنى ، بمعنى : متى ، وبمعنى : أين ، وتكون استفاماً وشرطاً ، وجعلوها في الشرطية ظرف مكان فقط .
وإذا كان غالب مدلولها في اللغة أنها للاحوال ، فلا حجة لمن تعلق بأنها تدل على تعميم مواضع الإتيان ، فتكون بمعنى : أين قال الزمخشري وقوله : ) فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ( تمثيل ، أي فأتوهنّ كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها ، من أي جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة ، والمعنى : جامعوههّن من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحداً ، وهو موضع الحرث .
( هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء ( ) مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ( ) فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ( من الكنايات اللطيفة ، والتعرضات المستحسنة ، فهذه واشباهها في كلام الله تعالى آداب حسنة ، على المؤمنين أن يتعلموها ويتادبوا بها ، ويتكلفوا مثلها في محاوراتهم ومكاتباتهم انتهى كلامه . وهو حسن .

" صفحة رقم 182 "
قالوا والعامل في أنَّى فأتوا ، وهذا الذي قالوه لا يصح ، لأناقد ذكرنا أنها تكون استفهاماً أو شرطاً ، لا جائز أن تكون هنا شرطاً ، لأنها إذ ذاك تكون ظرف مكان ، فيكون ذلك مبيحاً لإتيان النساء في غير القبل ، وقد ثبت تحريم ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعلى تقدير الشرطية يمتنع أن يعمل في الظرف الشرطي ما قبله ، لأنه معمول لفعل الشرط ، كما أن فعل الشرط معمول له ، ولا جائز أن يكون استفاماً ، لأنها إذا كانت استفهاماً اكتفت بما بعدها من فعل كقوله ) أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ ( ومن اسم كقوله : ) أَنَّى لَكِ هَاذَا ( ولا ييفتقر إلى غير ذلك ، وهنا يظهر افتقارها وتعلقها بما قبلها .
وعلى تقدير أن يكون استفهاماً لا يعمل فيها ما قبلها ، وأنها تكون معمولة للفعل بعدها ، فتبين على وجهي : أنَّى ، أنها لا تكون معمولة لما قبلها ، وهذا من المواضع المشكلة التي تحتاج إلى فكر ونظر .
والذي يظهر ، والله أعلم ، أنها تكون شرطاً لافتقارها إلى جملة غير الجملة التي بعدها ، وتكون قد جعلت فيها الأحوال . كجعل الظروف المكانية ، وأجريت مجراها تشبيهاً للحال بالظرف المكاني ، وقد جاء نظير ذلك في لفظ : كيف ، خرج به عن الاستفهام إلى معنى الشرط في قولهم : كيف تكون أكون ، وقال تعالى : ) بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ( فلا يجوز أن تكون هنا استفهاماً ، وإنما لحظ فيها معنى بالشرط وارتباط الجملة بالأخرى وجواب الجملة محذوف ، ويدل عليه ما قبله ، تقديره : أنى شئتم فأتوه ، وكيف يشاء ينفق ، كما حذف جواب الشرط في قولك : أضرب زيداً أنى لقيته ، التقدير أنى لقيته فاضربه .
فان قلت : قد أخرجت : أنَّى ، عن الظرفية الحقيقية وأبقيتها لتعميم الأحوال مثل : كيف ، وجعلتها مقتضية لجملة أخرى كجملة الشرط ، فهل الفعل الماضي الذي هو : شئتم ، في موضع جزم كحالها إذا كانت ظرفاً ؟ أم هو في موضع رفع كهو بعد : كيف ، في قولهم : كيف تصنع أصنع ؟ .
فالجواب أنه يحتمل الأمرين ، لكن يرجح أن تكون في موضع جزم لأنه قد استقر الجزم بها إذا كانت ظرفاً صريحاً ، غاية ما في ذلك تشبيه الأحوال بالظروف ، وبينهما علاقة واضحة ، إذ كل منهما على معنى : في ، بخلاف : كيف ، فإنه لم يستقر فيها الجزم ومن أجاز الجزم بها ، فإنما قاله بالقياس ، والمحفوظ عن العرب الرفع في الفعل بعدها ، حيث يقتضي جملة أخرى .
( وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ ( مفعول قدّموا محذوف ، فقيل : التقدير ذكر الله عند القربان ، أو : طلب الولد والإفراط شفعاء ، قاله ابن عباس ، أو : الخير ، قاله السدي ، أو : قدم صدق ، قاله ابن كيسان ، أو : الأجر في تجنب ما نهيتم وإمتثال ما أمرتم به ، قاله ابن عطية ، أو : ذكر الله على الجماع ، كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال : اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فقضى بينهما ولد لم يضره ) . أو التسمية على الوطىء ، حكاه الزمخشري . أو : ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة ، وهو خلاف ما نهيتكم عنه ، قاله الزمخشري ، وهو قول مركب من قول : من قبله .
والذي يظهر أن المعنى : وقدّموا لأنفسكم طاعة الله ، وامتثاله ما أمر ، واجتناب ما نهى عنه لأنه تقدّم أمر ونهي ، وهو الخير الذي ذكره في قوله : ) وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ( ولذلك جاء بعده ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( أي : اتقو الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وهو تحذير لهم من المخالفة ، ولأن العظيم الذي تقدّم يحتاج إلى أن يقدّم معك ما تقدّم به عليه مما لا تفتضح به عنده ، وهو العمل الصالح .
( وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ( الظاهر أن الضمير المجرور في : ملاقوه ، عائد على الله تعالى ، وتكون على حذف مضاف ، أي : ملاقو جزائه على أفعالكم ، ويجوز أن يعود على المفعول المحذوف الذي لقوله : وقدّموا ، أي : واعلموا أنكم ملاقو ما قدّمتم من الخير والطاعة ، وهو على حذف مضاف أيضاً ، أي : ملاقو جزائه ، ويجوز أن يعود على الجزاء الدال عليه معمول قدموا المحذوف ، وفي ذلك رد على من ينكر البعث والحساب والمعاد ، سواء عاد على الله تعالى أو على معمول قدّموا ، أو على الجزاء .
( وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( أي :

" صفحة رقم 183 "
بحسن العاقبة في الآخرة ، وفيه تنبيه على وصف الذي به يتقى الله ويقدّم الخير ، ويستحق التبشير ، وهو الإيمان . وفي أمره لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالتبشير تأنيس عظيم ووعد كريم بالثواب الجزيل ، ولم يأت بضمير الغيبة ، بل أتى بالظاهر الدال على الوصف ، ولكونه مع ذلك فصل آية .
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة إخبار الله تعالى عن المؤمنين أنهم يسألون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن الخمر والميسر ، فوقع ما أخبر به تعالى ، وأمر نبيه أن يخبر من سأله عنهما بأنهما قد اشتملا على إثم كبير ، فكان هذا الإخبار مدعاة لتركهما ، ودل ذلك على تحريمهما ، والمعنى أنه يحصل بشرب الخمر واللعب بالميسر إثم ، وما اكتفى بمطلق الإثم حتى وصفه بالكبر في قراءة ، وبالكثرة في قراءة ، وقد قال تعالى في المحرمات : ) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ ( ) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا إِلَى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ( فحيث وصف الإثم بالكبير ، وكان من أعظم الآثام وأوغلها في التحريم ، وأخبر أيضاً أن فيهما منافع للناس ، من : أخذ الأموال بالتجارة في الخمر ، وبالقمر في الميسر ، وغير ذلك ، لأنه ما من شيء حرم إلاَّ فيه منفعة بوجه ما ، خصوصاً ما كان الطبع مائلاً إليه ، أو كان الشخص ناشئاً عليه بالطبع . ثم أخبر تعالى أن ضرر الإثم الذي هو جالب إلى النار ، أعظم من النفع المنقضي بانقضاء وقته ، ليرشد العاقل إلى تجنب ما عذابه دائم ونفعه زائل .
ثم أخبر تعالى أنهم يسألونه عن الشيء الذي ينفقونه ؟ فأجيبوا بأن ينفقوا ما سهل عليهم إنفاقه ، ويشير ) مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( ثم ذكر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات بياناً مثل ما بين في أمر الخمر ، والميسر ، وما ينفقون . ثم ذكر أنه بهذا البيان يحصل الرجاء في تفكر حال الدنيا والآخرة ، فإذا فكر فيهما يرجح بالفكر إيثار الآخرة على الدنيا .
ثم استطرد من هذين السؤالين إلى السؤال عن أمر اليتامى ، وما كلفوا في شأنهم ، إذ كان اليتامى لا ينهضون بالنظر في أحوال أنفسهم ، ولصغرهم ونقص عقولهم ، فأجيبوا بأن إصلاحهم خير من إهمالهم للمصلح بتحصيل الثواب وللمصلح بتأديبه وتعليمه وتنمية ماله : ( أمتي كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً ) .
ثم أخبر أن مخالطتهم مطلوبة لأنهم إخوانكم في الإسلام ، فالإخوة موجبة للنظر في حال الأخ . وأبرز الطلب في صورة شرطية ، وأتى الجواب بما يقتضى الخلطة ، وهو كونهم إخوانكم .
ولما أمر بالإصلاح لليتامى ، ذكر أنه تعالى يعلم المفسد من المصلح ، ليحذر من الفساد ويدعو إلى الصلاح ، ومعنى علمه هنا أنه مجاز من أفسد ، و : من أصلح ، بما يناسب فعله ، ثم أخبر تعالى أنه لو شاء لكلفكم ما يشق عليكم ، فدل على أن التكاليف السابقة من تحريم الخمر والميسر ، وتكليف الصدقة ، بأن تكون عفواً ، وتكليف إصلاح اليتيم ليس فيه مشقة ولا إعنات .
ثم ختم هذا بأنه هو العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها .
ولما ذكر تعالى تحريم شيء مما كانوا يتلذذون به ، وهو شرب الخمر والأكل به ، والقمر بالميسر والأكل به ، ولما كان النكاح أيضاً من أعظم الشهوات والملاذ ، استطرد إلى ذكر تحريم نوع منه ، وهو نكاح من قام به الوصف المنافي للإيمان ، وهو الإشراك الموجب للتنافر والتباعد . والنكاح موجب للخلطة والمودّة قال تعالى : ) وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ( ) لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( لا يتراءى داراهما فنهى فيهن عن نكاح من قام به الوصف المنافي للإيمان ، وغيَّا ذلك بحصول الإيمان ، ثم ذكر من كان رقيقاً وهو مؤمن ، خير من مشرك ولو كان يعجب في حسن أو مال أو رئاسة ؛ ونبه على العلة الموجبة للترك ، وهو أن من أشرك داع إلى النار ، وجرّ ممن كان معاشر شخص ومخالطه وملابسه ، حتى في النكاح الذي هو داع إلى التآلف من كل معاشرة أن يجيبه إذا دعاه لما هو من هواه ، وهم كانوا قريبين عهد بالإيمان وحديثه ، فمنعوا من ذلك سداً للتطرق إلى النار .
ثم أخبر تعالى أنه هو يدعو إلى الجنة والمغفرة ، فهو الناظر بالمصلحة لكم في تحريم ما حرّم وإباحة ما أباح ، وهو يبين آياته ويوضحها بحيث لا يظهر معها لبس ، وذلك لرجاء تذكركم واتعاظكم بالآيات .
ولما ذكر تعالى تحريم نكاح من قام به وصف الإشراك ، ذكر تحريم وطء من قام به في الحيض من المؤمنات ، وغيَّا ذلك بالطهر ما قبله بالإيمان ، ثم أباح إذا تطهرن لنا الوطء لهنّ من حيث أمر الله وهو المكان الذي كان مشغولاً بالحيض ، وأمرنا باجتناب وطئه في وقت الحيض ، ثم نبه على مزية التائب والمتطهر بكونه تعالى يحبه ، ولم يكتف بذلك في جملة واحدة حتى كرر ذلك في جملتين وأفرد كل وصف بمحبة فقال : إن الله يحب التوّابين ويحب المتطهرين .

" صفحة رقم 184 "
ثم ذكر تعالى إباحة الوطء للمرأة التي ارتفع عنها الحيض على الحالة التي يشاؤها الزوج ويختارها ، من كونها مقبلة أو مدبرة ، أو مجنبة أو مضطجعة ، ومن أي شق شاء ، لما في التنقل من مزيد الالتذاذ ، والاستمتاع بالنظر إلى سائر بدنها ، والهيآت المحركة للباه .
ونبه بالحرث على أنه محل النسل ، فدل ذلك على تحريم الوطء في الدبر لأنه ليس محل النسل ، وإذا كانوا قد منعوا من وطء الحائض لما اشتمل عليه محل الوطء من الأذى بدم الحيض ، فلأن يمنعوا من المحل الذي هو أكثر أذى أولى . وأحرى ، ولما كان قدم نهي وأمر في الآيات السابقة وفي هذا ، ختم ذلك بالأمر بتقديم العمل الصالح ، وأن ما قدّمه الإنسان إنما هو عائد على نفع نفسه ، ثم أمر بتقوى الله تعالى ، وأمر بأن يعلم ويوقن اليقين الذي لا شك فيه أنا ملاقو الله ، فيجازينا على أعمالنا ، وأمر نبيه أن يبشر المؤمنين ، وهم الذين امتثلوا ما أمر به واجتنبوا ما نهى عنه ، فكان ابتداء هذه الآيات بالتحذير عن معاطاة العصيان ، واختتامها بالتبشير لأهل الإيمان آيات تعجز عن وصف ما تضمنته البدائع الألسن ، ويذعن لفصاحتها الجهبذ اللسن ، جمعت بين براعة اللفظ ونصاعة المعنى ، وتعلق الجمل وتأنق المبنى ، من سؤال وجواب ، وتحذير من عقاب ، وترغيب في ثواب ، هدت إلى الصراط المستقيم ، وتلقيت من لدن حكيم عليم .
2 ( ) وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لاًّيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِىأَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَآءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِىأَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَالِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ) ) 2
البقرة : ( 224 ) ولا تجعلوا الله . . . . .
العرضة : فعلة من العرض وهو بمعنى المفعول ، كالفرقة والقبضة ، يقال : فلان عرضة لكذا والمرأة عرضة للنكاح ، أي : معرضة له ، قال كعب :
عرضتها طامس الاعلام مجهول

" صفحة رقم 185 "
وقال حسان : وقال الله قد يسرت جندا
هم الانصار ) عرضتها اللقاء
وقال حبيب : متى كان سمعي عرضة للوائمي
وكيف صفت للعاذلين عزائمي
ويقال جعله عرضة للبلاء أي : معرضاً ، وقال أوس بن حجر : وأدماء مثل الفحل يوماً عرضتها
لرحلي وفيها جرأة وتقاذف
وقيل : هو اسم ما تعرضه دون الشيء ، من عرض العود على الإناء ، فيعترض دونه ، ويصير حاجزاً ومانعاً . وقيل : أصل العرضة القوة ، ومنه يقال للجمل : القوي : هذا عرضة للسفر ، أي : قوي عليه ، وللفرس الشديد الجري عرضة لارتحالنا .
اليمين : أصلها العضو ، واستعمل للحلف لما جرت العادة في تصافح المتعاقدين ، وتجمع على ، أيمان ، وعلى : أيمن ، وفي العضو والحلف ، وتستعمل : اليمين ، للجهة التي تكون للعضو المسمى باليمين ، فتنصب على الظرف ، تقول : زيد يمين عمرو ، وهي في العضو مشتقة من اليمين ، ويقال : فلان ميمون الطلعة ، وميمون النقيبة ، وميمون الطائر .
اللغو : ما يسبق به اللسان من غير قصد ، قاله الفراء ، وهو مأخوذ من قولهم لما لا يعتدّ به في الدية من أولاد الإبل : ويقال : لغا يلغو لغواً ولغى يلغي لغاً ، وقال ابن المظفر : تقول العرب : اللغو واللاغية واللواغي واللغوي ، وقال ابن الأنباري : اللغو عند العرب ما يطرح من الكلام استغناءً عنه ، ويقال : هو ما لا يفهم لفظه . يقال : لغا الطائر يلغو : صوّت ، ويقال : لغا بالأمر لهج به يلغا ، ويقال : اشتق من هذا اللغة ، وقال ابن عيسى ، وقد ذكر أن اللغو ما لا يفيد قال : ومنه اللغة لأنها عند غير أهلها لغو وغلط في هذا الاشتقاق ، فإن اللغة إنما اشتقت من قولهم : لغى بكذا إذا أولع به .
الحليم : الصفوح عن الذنب مع القدرة على المؤاخذة به ، يقال : حلم الرجل يحلم حلماً ، وهو حليم ، وقال النابغة الجعدي : ولا خير في حلم إذا لم يكن له
موارد تحمي صفوه أن يكدّرا
ويقال : حلم الأديم يحلم حلماً ، إذا تثقب وفسد ، قال : فإنك والكتاب إلى علي
كدابغه وقد حلم الأديم
و : حلم في النوم يحلم حلماً وحلماً ، وهو : حالم ، ( وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاْحْلَامِ بِعَالِمِينَ ).
الإيلاء :

" صفحة رقم 186 "
مصدر آلى ، أي : حلف ، ويقال : تألى وأيتلى ، أي : حلف ، ويقال للحلف : ألية وألوّة وإلوة ، وجمع ألية ألايا ، كعشية وعشايا . وقيل : تجمع ألوة على ألايا كركوبة وركائب .
التربص : الترقب والانتظار ، مصدر : تربص وهو مقلوب التبصر ، قال : تربص بها ريب المنون لعلها
تطلق يوماً أو يموت حليلُها
فاء : يفيء فيأ وفيأةً ، رجع ، عن جانب المشرق إلى المغرب ، وهو سريع الفيأة أي : الرجوع ، وقال علقمة : فقلت لها فيئي فما تستنفزين
ذوات العيون والبنان المخضب
العزم : ما يعقد عليه القلبَ ويصمم ، ويقال : عزم عليه يعزم عزماً وعزماً وعزيمة وعزاماً ، ويقال : أعزم إعزاماً ، وعزمت عليك لتفعلنّ : أقسمت .
الطلاق : انحلال عقد النكاح ، يقال منه : طلقت تطلق فهي طالق وطالقة ، قال الأعشى .
أيا جارتا بيني فإنك طالقه
ويقال : طلقت بضم اللام حكاه أحمد بن يحيى ، وأنكره الأخفش .
القرء : أصله في اللغة الوقت المعتاد تردده ، وقرء النجم وقت طلوعه ووقت غروبه ، ويقال منه : أقرأ النجم أي طلع أو غرب ، وقرء المرأة حيضها وطهرها ، فهو من الأضداد ، قاله أبو عمرو ، ويونس ، وأبو عبيد ؛ ويقال منهما : أقرأت المرأة ، وقال أبو عمرو : من العرب من يسمي الحيض مع الطهرر قرءاً ، وقال بعضهم : القرء ما بين الحيضتين ، وقال الأخفش : أقرأت صارت صاحبة حيض ، فإذا حاضت قلت قرت بغير ألف . وقيل : القرء أصله الجمع من قولهم ، قرأت الماء في الحوض ، جمعته ، ومنه : ما أقرأت هذه الناقة سلاً قطُّ ، أي : ما جمعت في بطنها جنيناً ، فإذا أريد به الحيض : فهو اجتماع الدم في الرحم ، أو الطهر ، فهو اجتماع الدم في البدن .
الرحم : الفرج من المؤنث ، وقد يستعار للقرابة ، يقال : بينهما رحم ، أي قرابة ، ويصل الرحم .
البعل : الزوج يقال منه ، بعل يبعل بعولة ، أي : صار بعلاً ، وباعل الرجل امرأته إذا جامعها ، وهي تباعله إذا فعلت ذلك معه ، وامرأة حسنة التبعيل إذا كانت تحسن عشرة زوجها ، والبعل أيضاً الملك ، وبه سمي الصنم لأنه المكتفي بنفسه ، ومنه بعل النخل . وجمع البعل : بعول وبعولة ، كفحل وفحولة ، التاء فيه لتأنيث الجمع ولا ينقاس ، فلا يقال : في كعوب جمع كعب كعوبة .
الرجل : معروف يجمع على : رجال ، وهو مشتق من الرجلة ، وهي القوة ، يقال : رجل بيِّن الرجولة والرجلة ، وهو أرجل الرجلين أي : أقواهما ، وفرس رجيل قوي على المشي ، ومنه : سميت الرجل لقوّتها على المشي ، وارتجل الكلام قوي عليه ، وترجل النهار قوي ضياؤه ، ويقال : رجل ورجلة ، كما قالوا :

" صفحة رقم 187 "
امرؤ وامرأة ، وكتبتَ من خط أستاذنا أبي جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى : كل جار ظل مغتبطا
غير جيراني بني جبله
هتكوا جيب فتاتهم
لم يبالوا حرمة الرجله
الدرجة : المنزلة ، وأصله من درجت الشيء وأدرجته : طويته ، ودرج القوم فنوا ، وأدرجهم الله فهو كطي الشيء منزلة منزلة والدرجة المنزلة من منازل الطي ، ومنه الدرجة التي يرتقى إليها .
الإمساك : للشيء حبسه ، ومنه اسمان : مسك ومساك ، يقال : إنه لذو مسك وميساك إذا كان بخيلاً ، وفيه مسكة من خير أي : قوة ، وتماسك ومسيك بيَّن المساكة .
التسريح : الإرسال ، وسرح الشعر خلص بعضه من بعض ، والماشية أرسلها لترعى ، والسرح الماشية ، وناقة مسرح سهلة المسير لانطلاقها فيه .
( وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لاِيْمَانِكُمْ ( قال ابن عباس : نزلت في عبد الله بن رواحة وختنه بشير بن النعمان ، كان بينهما شيء ، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين زوجته ، وجعل يقول : حلفت بالله ، فلا يحل لي إلاَّ برّ يميني .
وقال الربيع : نزلت في الرجل يحلف أن لا يصل رحمه ولايصلح بين الناس ؛ وقال ابن جريج : في أبي بكر حين حلف لا ينفق على مسطح حين تكلم في الإفك ، وقال المقاتلان ابن حيان وابن سليمان : حلف لا ينفق على ابنه عبد الرحمن حتى يسلم ؛ وقيل : حلف أن لا يأكل مع الأضياف حين أخر ولده عنهم العشاء ، وغضب هو على ولده .
وقالت عائشة : نزلت في تكرير الأيمان بالله ، فنهى أن يحلف به براً ، فكيف فاجراً .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تعالى لما أمر بتقوى بالله تعالى ، وحذرهم يوم الميعاد ، نهاهم عن ابتذال اسمه ، وجعله معرضاً لما يحلفون عليه دائماً ، لأن من يتقي ويحذر تجب صيانة اسمه وتنزيهه عمالا يليق به من كونه يذكر في كل ما يحلف عليه ، من قليل أو كثير ، عظيم أو حقير ، لأن كثرة ذلك توجب عدم الاكتراث بالمحلوف به .
وقد تكون المناسبة بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتحرز في أفعالهم السابقة من : الخمر ، والميسر ، وإنفاق العفو ، وأمر اليتامى ، ونكاح من أشرك ، وحيال وطء الحائض ، أمرهم تعالى بالتحرز في أقوالهم ، فانتظم بذاك أمرهم بالتحرز في الأفعال والأقوال .
واختلفوا في فهم هذه الجملة من قوله ) وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لاِيْمَانِكُمْ ( وهو خلاف مبنى على الاختلاف في اشتقاق العرضة ، فقيل : نهوا عن أن يجعلوا الله معداً لايمانهم فيحلفوا به في البر والفجور ، فإن الحنث مع الإكثار فيه قلة رعي بحق الله تعالى ، كما روي عن عائشة أنها نزلت في تكثير اليمين بالله ، نهى أن يحلف الرجل به براً فكيف فاجراً ؟ وقد ذم الله من أكثر الحلف بقوله : ) وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ( وقال : ) وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ ). والعرب تمدح بالإقلال من الحلف قال كثير : قليل ألا لا يا حافظ ليمينه
إذا صدرت منه الألية برت
والحكمة في النهي عن تكثير الأيمان بالله أن ذلك لا يبقي لليمين في قلبه وقعاً ، ولا يؤمن من إقدامه على اليمين الكاذبة ، وذكر الله أجل من أن يستشهد به في الأعراض الدنيويه .
وقيل : المعنى : ولا تجعلوا الله قوة لأيمانكم ، وتوكيداً لها ، وروي عن قريب من هذا المعنى عن : ابن عباس ، وابراهيم ، ومجاهد ، والربيع ، وغيرهم قال : المعنى : فيما تريدون الشدة فيه من ترك صلة الرحم ، والبر والإصلاح ، وقيل : المعنى : ولا تجعلوا الله حاجزاً ومانعاً من البر والإصلاح ، ويؤكذه

" صفحة رقم 188 "
قول من قال : نزلت في عبد الله بن رواحة ، أو في أبي بكر على ما تقدم في سبب النزول ، فيكون المعنى : أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم ، وإصلاح ذات بين ، أو إحسان إلى أحد ، أو عبادة ، ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني ، فيترك البر في يمينه ، فنهوا أن يجعلوا الله حاجزاً لما حلفوا عليه .
( لاِيْمَانِكُمْ ( تحتمل اللام أن تكون متعلقة ، بعرضة ، فتكون كالمقوية للتعدي ، أو معداً ومرصداً لأيمانكم ، ويحتمل أن تكون متعلقة بقوله : ) وَلاَ تَجْعَلُواْ ( فتكون للتعليل ، أي : لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم .
والظاهر أن المراد بالأيمان هنا الاقتسام ، لا المقسم عليه ، وقال الزمخشري : أي : حاجزاً لما حلفتم عليه ، وسمي المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين ، كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لعبد الرحمن بن سمرة : ( إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك ) أي : على شيء مما يحلف عليه إنتهى كلامه ولا حاجة هنا للخروج عن الظاهر وإنما احتيج في الحديث إلى أنه أطلق اليمين ، ويراد بها متعلقها ، لأنه قال : إذا حلفت على يمين ، فععّدى حلفت بعلى ، فاحتيج إلى هذا التأويل ، وليس في الآية ما يحوج إلى هذا التجويل ، لكن الزمخشري لما حمل : عرضة ، على أن معناه حاجزاً ومانعاً ، اضطر إلى هذا التأويل .
( أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ ( قال الزجاج ، وتبعه التبريزي : أن تبروا ، في موضع رفع بالابتداء ، قال الزجاج والمعنى : بركم وتقواكم وإصلاحكم أمثل وأولى ، وجعل الكلام منتهياً عند قوله : لأيمانكم ، ومعنى الجملة التي فيها النهي عنده أنها في الرجل إذا طلب منه فعل خير ونحوه اعتل بالله ، فقال : علي يمين ، وهو لم يحلف ، وقدر التيريزي خبر المبتدأ المحذوف بأن المعنى : أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس خير لكم من أن تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ، وهذا الذي ذهب إليه الزجاج والتبريزي ضعيف ، لأن فيه اقتطاع : أن تبروا ، مما قبله ، والظلم هو اتصاله به ، ولأن فيه حذفاً لا دليل عليه وقال الزمخشري : أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ، عطف بيان لأيمانكم ، أي للأمور المحلوف عليها التي هي : البر والتقوى والإصلاح بين الناس إنتهى كلامه وهو ضعيف ، لأن فيه مخالفة للظاهر ، لأن الظاهر من الأيمان هي الأقسام ، والبر والتقوى والإصلاح هي المقسم عليها ، فهما متباينان ، فلا يجوز أن يكون عطف بيان على الإيمان ، لكنه لما تأول الأيمان على أنها المحلوف عليها ، ساغ له ذلك ، وقد بينا أنه لا حاجة تدعونا إلى تأويل الأيمان بالأشياء المحلوف عليها ، وعلى مذهبه تكون : أن تبروا ، في موضع جر ، ولو أدعى أن يكون : أن تبروا ، وما بعده بدلاً من : أيمانكم ، لكان أولى ، لأن عطف البيان أكثر ما يكون في الأعلام .
وذهب الجمهور إلى أن قوله : أن تبروا ، مفعول من أجله ، ثم اختلفوا في التقدير ، فقيل : كراهة أن تبروا ، قاله المهدوى ، أو لترك أن تبروا ، قاله المبرد ، وقيل : لأن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا ، قال أبو عبيدة ، والطبري كقوله :
فخالف فلا والله تهبط تلعة
أي : لا تهبط ، وقيل : ارادة تبروا ، والتقادير الأول متلاقية حيث المعنى ، وروي هذا المعنى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وابن جريج ، وابراهيم ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج ، في آخر من روي عنهم أن المعنى : لا تحلفوا بالله أن لا تبروا ، فيتعلق بقوله : ولا تجعلوا ، ولا يظهر هذا المعنى لما فيه من تعليل امتناع الحلف بانتفاء البر ، بل وقوع الحلف معلل بانتفاء البر ، ولا ينعقد منه شرط ، وجزاء لو قلت في معنى هذا النهي

" صفحة رقم 189 "
وعلته : إن حلفت بالله بررت ، لم يصح وذلك كما تقول : لا تضرب زيداً لئلا يؤذك ، فانتفت الاذاية للامتناع من الضرب ، والمعنى : إن لم تضربه لم يؤذيك ، وإن ضربته أذاك ، فلا يترتب على الامتناع من الحلف انتفاء البر ، ولا على وجوده ، بل يترتب على الامتناع من الحلف وجود البر ، وعلى وقوع الحلف انتفاء البر ، وهذا الذي ذكرناه يؤيد القول بان التقدير : إرادة أن تبروا ، لأنه لا يعلل الامتناع من الحلف بإرادة وجود البر ، ويتعلق منه الشرط والجزاء ، تقول : إن حلفت لم تبر ، وإن لم تحلف بررت .
وقد شرح بعض العلماء هذا المعنى فقال : إن تبروا وتتقوا وتصلحوا علة لهذا النهي ، أي : إرادة أن تبروا ، والمعنى إنما نهيكم عن هذا لما في توقي ذلك من البر والتقوى والإصلاح ، فتكونون معاشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين ، فإن قلت : كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى واللإصلاح بين الناس ؟ قلنا : لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تبارك وتعالى ، أعظم وأجل أن يستشهد باسمه المعظم في طلب الدنيا ، إن هذا من أعظم أبواب البر .
وأما معنى التقوى فظاهر ، لأنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله تعالى وأما الإصلاح بين الناس ، فلأن الناس متى اعتقدوا فيه كونه معظماً لله تعالى إلى هذا الحد ، محترزاً عن الإخلال بواجب حقه ، اعتقدوا فيه كونه معظماً لله ، وكونه صادقاً بعيداً من الأغراض الفاسدة ، فيتقبلون قوله ، فيحصل الصلح يتوسطه إنتهى هذا الكلام .
وفي ( المنتخب ) وهو بسط ما قاله الزمخشري قال : ومعناها على الأخرى يزيد على أن يكون عرضة ، بمعنى معرضاً للأمر ، قال : ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم فتتبذلوه بكثرة الحلف به ، ولذلك ذم من أنزل فيه : ) وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ( باشنع المذام ، وجعل الحلاف مقدمتها ، وأن تبروا ، علة للنهي أي : إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن الحلاف مجترىء ، على الله ، غير معظم له ، فلا يكون براً متقياً ، ولا يثق به الناس ، فلا يدخلونه في وساطتهم وإصلاح بذات بينهم .
وقيل : المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين ، لتبروا المحلوف لهم ، وتتقوهم وتصلحوا بينهم بالكذب . روي هذا المعنى عن ابن عباس ، فقيد المعلوم بالكذب ، وقيد العلة بالناس ، والإصلاح بالكذب ، وهو خلاف الظاهر .
وقال الزمخشري : ويتعلق : أن تبروا ، بالفعل و : بالعرضة ، أي : ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا . إنتهى . ولا يصح هذا التقدير ، لأن فيه فصلاً بين العامل والمعمول بأجنبي ، لأنه علق : لأيمانكم ، بتجعلوا ، وعلق : لأن تبروا بعرضة ، فقد فصل بين : عرضة ، وبين : لأن تبروا بقوله : لأيمانكم ، وهو أجنبي منهما ، لأنه معمول عنده لتجعلوا ، وذلك لا يجوز ، ونظير ما أجازه أن تقول : أمرر وأضرب بزيد هنداً ، فهذا لا يجوز ونصوا على انه لا يجوز : جاءني رجل ذو فرس راكب أبلق ، لما فيه من الفصل بالأجنبي .
والذي يظهر لي أن تبروا ، وفي موضع نصب على إسقاط الخافض ، والعمل فيه قوله : لأيمانكم ، التقدير : لأقسامكم على أن تبروا ، فنهوا عن ابتذال اسم الله تعالى ، وجعله معرضاً لأقسامهم على البر و . التقوى والإصلاح اللاتي هن أوصاف جميلة ، لما نخاف في ذلك من الحنث ، فكيف إذا كانت أقساماً على ما تنافي البر والتقوى والإصلاح ؟ وعلى هذا يكون الكلام منتظماً واقعاً كل لفظ منه مكانه الذي يليق به ، فصار في موضع : أن تبروا ، ثلاثة أقوال : الرفع على الابتداء ، والخلاف في تقدير الجر ، والجر على وجهين : عطف البيان ، والبدل والنصب على وجهين : إما على المفعول من أجله على الاختلاف في تقديره ، وإما على أن يكون معمولاً : لأيمانكم ، على إسقاط الخافض .
( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ختم هذه الآية بهاتين الصفتين لأنه تقدم ما يتعلق بهما ، فالذي يتعلق بالسمع الحلف لأنه من المسموعات ، والذي يتعلق بالعلم هو إرادة البر والتقوى والإصلاح إذ هو شيء محله القلب ، فهو من المعلومات ، فجاءت هاتان الصفتان منتظمتين للعلة

" صفحة رقم 190 "
والمعلول ، وجاءتا على ترتيب ما سبق من تقديم السمع على العلم ، كما قدم الحلف على الإرادة .
البقرة : ( 225 ) لا يؤاخذكم الله . . . . .
( لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنه تعالى لما نهى عن جعل الله معرضاً للأيمان ، كان ذلك حتماً لترك الأيمان وهم يشق عليهم ذلك ، لأن العادة جرت لهم بالأيمان ، فذكر أن ما كان منها لغواً فهو لا يؤاخذ به ، لأنه مما لا يقصد به حقيقة اليمين ، وإنما هو شيء يجري على اللسان عند المحاورة من غير قصد ، وهذا أحسن ما يفسر به اللغو ، لأنه تعالى جعل مقابلة ما كسبه القلب وهو ماله فيه اعتماد وقصد .
واختلفت أقوال المفسرين في تفسير لغو اليمين ، فقال أبو هريرة ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والسدي عن أشياخه ، ومالك في أشهر قوليه ، وأبو حنيفة : هو الحلف على غلبة الظن ، فيكشف الغيب خلاف ذلك ؛ وقالت عائشة ، وابن عباس أيضاً ، وطاووس ، والشعبي ، ومجاهد ، وأبو صالح ، والشافعي : هو ما يجرى على اللسان في درج الكلام والاستعجال : لا والله ، وبلى والله ، من غير قصد لليمين ؛ وهو أحد قولي مالك . وقال سعيد بن جبير ، وابن المسيب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، وابنا الزبير عبد الله وعروة : هو الحلف على فعل المعصية ، إلاَّ أن ابن جبير قال : لا يفعل ويكفر ، وباقيهم قالوا : لا يفعل ولا كفارة عليه ، وقال ابن عباس أيضاً . وعلي ، وطاووس : هو الحلف في حال الغضب . وقال النخعي : هو الحلف على شيء ينساه ، وقال ابن عباس أيضاً ، والضحاك : هو ما تجب فيه الكفارة إذا كفرت سقطت ، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها ، والرجوع إلى الذي هو خير ؛ وقال مكحول ، وابن جبير أيضاً ، وجماعة : هو أن يحرم على نفسه ما أحل الله ، كقوله : مالي عليّ حرام إن فعلت كذا ، والحلال عليّ حرام ، وقال بهذا القول مالك إلاَّ في الزوجة ، فألزم فيها التحريم ألاَّ أن يخرجها الحالف بقلبه ، وقال زيد ابن أسلم وابنه : هو دعاء الرجل على نفسه أعمى الله بصره ، أذهب الله ماله ، هو يهودي ، هو مشرك ، هو لغية ، إن فعل كذا ، وقال مجاهد : هو حلف المتبايعين ، يقول أحدهما : والله لا أبيعك بكذا ، ويقول الآخر : والله ما أشتريه إلاَّ بكذا ، وقال مسروق : هو ما لا يلزمه الوقاية ، وروي عنه ، وعن الشعبي : أنه الحلف على المعصية ؛ وقيل : هو يمين المكره ، حكاه ابن عبد البر .
وهذه الأقوال يحتملها لفظ اللغو ، إلاَّ أن الأظهر هو ما فسرناه أولاً ، لأنه قابله كسب القلب ، وهو تعمده للشيء ، فجميع الأقوال غيره ينطبق عليها أنها كسب القلب ، لأن للقلب قصداً إليها : ونفي الوحدة يدل على أنه لا إثم ولا كفارة ، فيضعف قول من قال : إنها تختص بالإثم ، ويفسر اللغو باليمين المكفرة ، وسئل الحسن عن اللغو ، والمسبية ذات الزوج ، فوثب الفرزدق وقال : أما سمعت ما قلت : ولست بمأخوذ بشيء تقوله
إذا لم تعمد عاقدات العزائم
وما قلت : وذات حليل أنكحتنا رماحنا
حلالاً ، ولولا سبيها لم تطلق
فقال الحسن : ما اذكاك لولا حنثك .
باللغو : متعلق : بيؤاخذكم ، والباء سببية ، مثلها في ) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ( ) فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ( : وفي إيمانكم ، متعلق بالفعل ، أو بالمصدر ، أو بمحذوف ، أي : كائناً في أيمانكم ، فيكون حالاً ، ويقر به أنك لو جعلته في صلة : الذي ، ووصفت به اللغو لاستقام .
( وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( أي باليمين التي للقلب فيها كسب ، فكل يمين عقدها القلب فهي

" صفحة رقم 191 "
كسب له ؛ وكذلك فسر مجاهد الكسب بالعقد ، كآية المائدة ) بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ ( ، وقال ابن عباس ، والنخعي : هو أن يحلف كاذباً أو على باطل ، وهي الغموس ؛ وقال زيد بن أسلم : هو أن يعقد الإشراك بقلبه إذا قال : هو مشرك ، إن فعل كذا ، وقال قتادة : بما تعمد القلب من المآثم . وهذا الذي ذكره تعالى : من المؤاخذة ، هو العقوبة في الآخرة إن كانت اليمين غموساً ، أو غير غموس وترك تكفيرها ، والعقوبة في الدنيا بإلزام الكفارة إن كانت مما تكفر .
واختلفوا في اليمين الغموس ، فقال مالك ، وجماعة : لا تكفر ، وهي أعظم ذنباً من ذلك . وقال عطاء ، وقتادة ، والربيع ، . والشافعي : تكفر ، والكفارة مؤاخذة .
والغموس ما قصد الرجل في الحلف به الكذب ، وهي المصبورة ، سميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في الإثم ، ومصبورة لأن صبرها مغالبة وقوة عليها ، كما يصبر الحيوان للقتل والرمي .
وقسمت الأيمان إلى : لغو ومنعقدة ، وغموس ، والمنعقدة : هي على المستقبل التي يصح فيها الحنث والبر ، وبينا اللغو والغموس ، وقسمت أيضاً إلى : حلف على ما من محرم وهي : الكاذبة ، ومباح : وهي الصادقة ، وعلى مستقبل عقدها طاعة والمقام عليها طاعة ، وحلها معصية أو مكروه ، ومقابلها أو ما هو مباح عقدها والمقام عليها وحلها ، ولكن دخلت هنا بين نقيضين باعتبار وجود اليمين لأنها لا تخلو من أن لا يقصدها القلب ، ولكن جرت على اللسان وهي : اللغو ، أو تقصدها وهي : المنعقدة ، وهما ضدان باعتبار أن لا توجد اليمين ، إذ الإنسان قد يخلو من اليمين ، وهذان النوعان من النقيضين والضد أحسن ما يقع فيه : لكن ، وأما الخلافان ففي جواز وقوعها بينهما خلاف ، وقد تقدّم طرف من هذا ، وإبدال الهمزة واواً في مثل : يؤاخذ ، مقيس ، ونحوه : يؤذن ، ويؤلف ، وفي قوله : ) وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( محذوف تقديره : ولكن يؤاخذكم في أيمانكم بما كسبت قلوبكم ، وحذف لدلالة ما قبله عليه ، و : ما ، في قوله : بما ، موصولة ، والعائد محذوف ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، ويحسنه مقابلته بالمصدر ، وهو قوله : باللغو ، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة .
( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( جاءت هاتان الصفتان تدلان على توسعة الله على عباده حيث لم يؤاخذهم باللغو في الإيمان ، وفي تعقيب الآية بهما إشعار بالغفران ، والحلم عن من أوعده تعالى بالمؤاخذة ، وإطماع في سعة رحمته ، لأن من وصف نفسه بكثرة الغفران والصفح مطموع في ما وصف به نفسه ، فهذا الوعيد الذي ذكره تعالى مقيد بالمشيئة ، كسائر وعيده تعالى .
البقرة : ( 226 ) للذين يؤلون من . . . . .
( لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ( قال ابن المسيب : كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية ، كان الرجل لا يترك المرأة ، ولا يحب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها ، فيتركها لا أيماً ، ولا ذات زوج ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال ابن عباس : كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر ، فوقت الله ذلك .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنه تقدّم شيء من أحكام النساء ، وشيء من أحكام الإيمان ، وهذه الآية جمعت بين الشيئين .
وقرأ عبد الله : للذين آلوا ، بلفظ الماضي وقرأ أبي ، وابن عباس : للذين يقسمون .
والإيلاء ، كما تقدّم ، هو الحلف ، وقد ذكرنا الإيلاء من النساء كيف كان في الجاهلية ، وأما الإيلاء الشرعي بسبب وطء النساء ، فقال ابن عباس : هو الحلف أن لا يطأها أبداً ، وقال ابن مسعود ، والنخعي ، وقتادة ، والحكم ، وابن أبي ليلى ، وحماد بن سليمان ، وإسحاق : هو الحلف أن لا يقربها يوماً أو أقل أو أكثر ، ثم لا يطأها أربعة أشهر ، فتبين منه بالإيلاء .
وقال الثوري ، وأبو حنيفة : هو الحلف أن لا يطأها أربعة أشهر ، وبعد مضيها يسقط الإيلاء ، ويكون الطلاق ، ولا تسقط قبل المضي إلا بالفيء ، وهو الجماع في داخل المدّة .
وقال الجمهور : هو الحلف أن لا يطأ أكثر من أربعة أشهر ، فإن حلف على أربعة أشهر ، أو ما دونها ، فليس بمولٍ ، وكانت يميناً محضاً ، لو وطء في هذه المدّة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان ، وهذا قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي ثور .
والظاهر من الآية أن الإيلاء هو الحلف على الامتناع من وطء امرأته مطلقاً ، غير مقيد بزمان ، وظاهر قوله : للذين يؤلون ، شمول الحر والعبد ، والسكران والسفيه ،

" صفحة رقم 192 "
والمولى عليه غير المجنون ، والخصى غير المجبوب ، ومن يرجى منه الوطء ، وكذا الأخرس بما يفهم عنه من كناية أو إشارة .
واختلف في المجبوب فقيل : لا يصح إيلاؤه ، وقيل : يصح ، وأجل إيلاء العبد كأجل إيلاء الحرّ لأندراجه في عموم قوله : للذين يؤلون ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر ؛ وقال عطاء ، والزهري ، ومالك ، وإسحاق : أجله شهران ؛ وقال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة : إيلاؤه من زوجته الأمة شهران ، ومن الحرّة أربعة وقال الشعبي : أجل إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرّة .
وظاهر قوله : يؤلون ، مطلق الإيلاء ، فيحصل ، سواء كان ذلك قصد به إصلاح ولد رضيع ، أو لم يقصد ، وسواء كان في مغاضبة ومسارّة ، أو لم يكن ، وقال عطاء ، ومالك : إذا كان لإصلاح ولد رضيع فليس يلزمه حكم الإيلاء ، وروي ذلك عن علي ، وبه قال الشافعي في أحد قوليه ، والقول الآخر : إنه لا اعتبار برضاع ، وبه قال أبو حنيفة .
وقال علي ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، والليث : شرطه أن لا يكون في غضب . وقال ابن مسعود ، وابن سيرين ، والثوري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، الإيلاء في غضب وغير غضب . قال ابن المنذر : وهو الأصح لعموم الآية ، ولإجماعهم على أن الظهار والطلاق وسائر الأيمان سواء في الغضب والرضى ، وكذلك الإيلاء ، والجمهور حملوا قوله ) لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ ( على الحلف على إمتناع الوطء فقط ؛ وقال الشعبي ، والقاسم ، وسالم ، وابن المسيب : هو الحلف على الامتناع من أن يطأها ، أو لا يكلمها ، أو أن يضارها ، أو يغاضبها . فهذا كله عند هؤلاء إيلاء ، إلاَّ أن ابن المسيب قال : إذا حلف لا يكلمها وكان يطأها فليس بإيلاء ، وإنما تكون تلك إيلاء إذا اقترن بها الامتناع من الوطء .
وأقوال من ذكر مع ابن المسيب قالوا ما محتمله ما قاله ابن المسيب ، وما يحتمله أن فساد العشرة إيلاء ، وإلى هذا الاحتمال ذهب الطبري .
وظاهر الآية يدل على مذهب هؤلاء ، لأنه قال : ) لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ ( فلم ينص على وطء ولا غيره .
و : من ، يتعلق بقوله : يؤلون ، وآلى لا يتعدّى بمن ، فقيل : من ، بمعنى : على ، وقيل : بمعنى في ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، أي : على ترك وطء نسائهم ، أو في ترك وطء نسائهم . وقيل : من ، زائدة والتقدير : يؤلون أن يعتزلوا نساءهم . وقيل : يتعلق بمحذوف ، والتقدير : للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ، فتتعلق بما تتعلق به لهم المحذوف ، قاله الزمخشري ، وهذا كله ضعيف ينزه القرآن عنه ، وإنما يتعلق بيؤلون على أحد وجهين : إما أن يكون : من ، للسبب أي : يحلفون بسبب نسائهم ، وإما أن يضمن الإيلاء معنى الامتناع ، فيعدى بمن ، فكأنه قيل : للذين يمتنعون بالإيلاء من نسائهم ، و : من نسائهم ، عام في الزوجات من حرة وأمّة وكتابية ومدخول بها وغيرها .
وقال عطاء ، والزهري ، والثوري : لا إيلاء إلاَّ بعد الدخول . وقال مالك ، لا إيلاء من صغيرة لم تبلغ ، فان آلى منها فبلغت لزم الإيلاء من يوم بلوغها .
وظاهر قوله : للذين يؤلون ، عموم الإيلاء بأي يمين كانت ، قال الشافعي في ( الجديد ) : لا يقع الإيلاء إلاَّ بالحلف بالله وحده . وقال ابن عباس : كل يمين منعت جماعاً فهي إيلاء ، وبه قال النخعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأهل العراق ، ومالك ، وأهل الحجاز ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وابن المنذر ، والقاضي أبو بكر ابن العربي ، والشافعي في القول الأخير .
وقال أبو حنيفة : إذا قال : أقسم بالله ، فهي يمين مطلقاً ولا يكون بها مولياً ، وإن قال : وإن وطئتك فعلي صيام شهر أو سنة فهو مول ؛ وقال أبو حنيفة : إن كان ذلك الشهر يمضي قبل الأربعة

" صفحة رقم 193 "
الأشهر فليس بمول ، وكذلك كل ما يلزمه من حج أو طلاق أو عتق أو صلاة أو صدقة ، وخالف أبو حنيفة فيما إذا قال : إن وطئتك فعلىّ أن أصلي ركعتين أنه لا يكون مولياً . وقال محمد : يكون مولياً .
وذكر بعض المفسرين هنا فروعاً كثيرة في الإيلاء ، وإنما نذكر نحن ماله بعض تعلق بالقرآن على عادتنا ، وليس التفسير موضوعاً لاستقراء جزئيات الفروع ، وظاهر قوله : للذين يؤلون ، حصول اليمين منهم ، سواء حلف أن لا يطأ في موضع معين ، أو مطلقاً ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأصحابهم ، والأوزاعي ، وأحمد : لا يكون مولياً من حلف أن لا يطأ زوجته في هذا البيت أو في هذه الدار فإن حلف أن لا يطأها في مصره أو بلده فهو مول عند مالك .
ولا يدخل الذمي في قوله : ) لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ ( لقوله ) فَانٍ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( وبه قال مالك ، كما لا يصح ظهار . وقال أبو حنيفة إن حلف باسم من أسماء الله تعالى ، أو بصفة من صفاته ، أو حلف بما يصح منه كالطلاق ، فهو مول ؛ ولو استثنى المولي في يمينه فالجمهور على أنه لا يكون مولياً كسائر الأيمان المقرونة بالاستثناء ؛ وقال ابن القاسم ، عن مالك : يكون مولياً ، لكنه لو وطىء فلا كفارة عليه ، وقاله ابن الماجشون في ( المبسوط ) عن مالك : لا يكون مولياً .
( تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ( هذا من باب إضافة المصدر إلى ما هو ظرف زمان في الأصل ، لكنه اتسع فيه فصير مفعولاً به ، ولذلك صحت الإضافة إليه ، وكان الأصل : تربصهم أربعة أشهر ، وليست الإضافة إلى الظرف من غير اتساع ، فتكون الإضافة على تقدير : في ، خلافاً لمن ذهب إلى ذلك .
وظاهر هذا ، أن ابتداء أجل الإيلاء من وقت حلف لا من وقت المخاصمة والرفع إلى الحاكم ، قيل : وحكمه ضرب أربعة أشهر ، لأنه غالب ما تصبر المرأة فيها عن الزوج ، وقصة عمر مشهور في سماع المرأة تنشد بالليل : ألا طال هذا الليل واسود جانبه
وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
وسؤاله : كم تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقيل له : لا تصبر أكثر من أربعة أشهر . فجعل ذلك أمداً لكل سرية يبعثها .
( فَانٍ ( أي : رجعوا بالوطء ، قاله ابن عباس ، والجمهور ، ويكفي من ذلك عند الجمهور مغيب الحشفة للقادر ، فإن كان له عذر أو مرض أو سجن أو شبه ذلك ، فارتجاعه صحيح ، وهي امرأته ، وإن زال عذره فأبى الوطء فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت ، قاله مالك في ( المدونة ) و ( المبسوط ) . وقال الحسن ، والنخعي ، وعكرمة ، والأوزاعي : يجزي المعذور أن يشهد على فيئتيه بقلبه ، وقال النخعي أيضاً : يصح الفيء بالقول ، والإشهاد فقط ، ويسقط حكم الإيلاء إذا رأيت أن لم ينتشر ، وقيل : الفيء هو الرضى ، وقيل : الرجوع باللسان بكل حال ، قاله أبو قلابة ، وإبراهيم ، ومن قال : إن المولي هو الحالف على مساءة زوجته ؛ وقال أحمد : إذا كان له عذر يفيء بقلبه ، وقال ابن جبير ، وابن المسيب ، وطائفة : الفيء لا يكون إلا بالجماع في حال القدرة وغيرها ، من سجن أو سفر أو مرض وغيره .
وأمال : فاؤوا ، جرية بن عائذ لقوله : فئت ، وقرأ عبد الله فإن فاؤوا فيهنّ ، وقرأ أبي : فان فاؤوا فيها ، وروي عنه : فيهنّ ، كقراءة عبد الله . والضمير عائد على الأشهر ، ويؤيد هذه القراءة مذهب أبي حنيفة : بأن الفيئة لا تكون إلاَّ في الأشهر ، وإن لم يفيء فيها دخل عليه الطلاق من غير أن يوقف بعد مضي الأربعة الأشهر ، وإلى هذا ذهب : ابن مسعود ، وابن عباس ، وعثمان بن عفان ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وجابر بن زيد ، والحسن ، ومسروق ؛ وقال عمر ، وعثمان ، وعلي أيضاً ، وأبو الدرداء ، وابن عمر ، وابن عامر وابن المسيب ،

" صفحة رقم 194 "
ومجاهد ، وطاووس ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد : إذا انقضت الأربعة الأشهر وقف ، فإما فاء وإلاَّ طلق عليه ؛ والقراءة المتواترة : فإن فاؤوا بغيرهنّ ، ولا فيها ، فاحتمل أن يكون التقدير : فإن فاؤوا في الأشهر ، واحتمل أن يكون : فإن فاؤوا بعد انقضائها .
( انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( استدل بهذا من قال : إنه إذا فاء المولى ووطىء فلا كفارة عليه في يمينه ، وإلى هذا ذهب الحسن ، وإبراهيم ؛ وذهب الجمهور مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم إلى إيجاب كفارة اليمين على المولي بجماع امرأته ، فيكون الغفران هنا إشعاراً باسقاط الإثم بفعل الكفارة ، وهو قول علي ، وابن عباس ، وابن المسيب : إنه غفران الإثم ، وعليه كفارة ، وعلى المذهب الذي قبله يكون بإسقاط الكفارة ، وقال أبو حنيفة : ولا كفارة على العاجز عن الوطء إذا فاء ، وقال إسحاق : قال بعض أهل التأويل فيمن حلف على بر وتقوى ، أو باب من أبواب الخير أن لا يفعله أنه يفعله ، ولا كفارة عليه ، والحجة له ، ( فَانٍ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ولم يذكر كفارة ، وقيل : معنى ذلك غفور لمآثم اليمين ، رحيم في ترخيص المخرج منها بالتكفير ، قاله ابن زياد ، وهو راجع للقول الثاني ، وقيل : معنى رحيم حيث نظر للمرأة أن لا يضربها زوجها ، فيكون وصف الغفران بالنسبة إلى الزوج ، وصفة الرحمة بالنسبة إلى الزوجة .
البقرة : ( 227 ) وإن عزموا الطلاق . . . . .
( وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ ( قرأ ابن عباس : وإن عزموا السراح ، وانتصاب الطلاق : إما على إسقاط حرف الجر ، وهو على ، لأن عزم يتعدى بعلى كما قال :
عزمت على إقامة ذي صباح
وأما إن تضمن : عزم ، معنى : نوى ، فيتعدى إلى مفعول به .
ومعنى العزم هنا التصميم على الطلاق ، ويظهر أن جواب الشرط محذوف ، تقديره : فليوقعوه ، أي : الطلاق ، وفي قوله في هذا التقسيم : ) فَانٍ ( و ) ءانٍ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ ( دليل على أن الفرقة التي تقع في الإيلاء لا تقع بمضي الأربعة الأشهر من غير قول ، بل لا بد من القول لقوله : عزموا الطلاق ، لأن العزم على فعل الشيء ليس فعلاً للشيء ، ويؤكده : ) فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( إذ لا يسمع إلاَّ الأقوال ، وجاءت هاتان الصفتان باعتبار الشرط وجوابه ، إذ قدرناه : فليوقعوه ، أي الطلاق ، فجاء : سميع ، باعتبار إيقاع الطلاق ، لأنه من باب المسموعات ، وهو جواب الشرط ، وجاء : عليم ، باعتبار العزم على الطلاق ، لأنه من باب النيات ، وهو الشرط ، ولا تدرك النيات إلاَّ بالعلم .
وتأخر هذا الوصف لمؤاخاة رؤوس الآي ، ولأن العلم أعم من السمع ، فمتعلقة أعم ، ومتعلق السمع أخص ، وأبعد من قال : فإن الله سميع لإيلائه ، لبعد انتظامه مع الشرط قبله . وقال الزمخشري : فإن قلت ما تقول في قوله : فإن الله سميع عليم ؟ وعزمهم الطلاق مما لا يعلم ولا يسمع ؟ قلت : الغالب أن العازم للطلاق ، وترك الفيئة والفرار لا يخلو من مقارنة ودمدمة ، ولا بد من أن يحدث نفسه ويناجيها بذلك ، وذلك حديث لا يسمعه إلاَّ الله ، كما يسمع وسوسة الشيطان . انتهى كلامه .
وقد قدّمنا أن صفة السمع جاءت هنا لأن المعنى : وإن عزموا الطلاق أوقعوه ، أي : الطلاق ، والإيقاع لا يكون إلاَّ باللفظ ، فهو من باب المسموعات ، والصفة تتعلق بالجواب لا بالشرط ، فلا تحتاج إلى تأويل الزمخشري .
وفي قوله : ) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ ( دلالة مطلق الطلاق ، فلا يدل على خصوصية طلاق بكونه رجعياً أو بائناً ، وقد اختلف في الطلاق الداخل على المولي في ذلك ، فقال عثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، والنخعي ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة : هي طلقة بائنة لا رجعة له فيها وقال ابن المسيب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، ومكحول ، والزهري ، ومالك ، وابن شبرمة : هي رجعية .
وفي الحكم للمولي بأحد الأمرين ، إما الفيئة ، وإما الطلاق دليل

" صفحة رقم 195 "
على أنه لا يجوز تقديم الكفارة في الإيلاء قبل الفيء على قول من يوجب الكفارة ، لأنه لو جاز ذلك لبطل الإيلاء بغير فيء ولا عزيمة طلاق ، لأنه إن حنث لم يلزم بالحنث شيء ، ومتى لم يلزم الحالف بالحنث شيء لم يكن مولياً ، ففي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء ، قاله محمد بن الحسن ، ومذهب أبي حنيفة ومشهور مذهب مالك : أنه يجوز تقديم الكفارة . وقال الزمخشري : وإن عزموا الطلاق فتربصوا إلى مضي المدة . فإن الله سميع عليم ، وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة ، وعلى قول الشافعي معناه : فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم ، وإن عزموا بعد مضي المدة . انتهى .
وكان قد تقدّم في تفسير قوله : فإن فاؤوا ، ما نصه فإن فاؤوا في الأشهر ، بدليل قراءة عبد الله ، فإن فاؤوا فيهنّ فإن الله غفور رحيم ، يغفر للمؤمنين ما عسى يقدّمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء ، وهو الغالب ، وإن كان يجوز أن يكون على رضى منهن ، خوفاً من طلب ضرار النساء بالإيلاء ، وهو الغالب . وإن كان يجوز أن يكون على رضى منهن خوفاً على الولد من الغيل ، أو لبعض الأسباب لأجل الفيئة التي هي مثل التوبة ، فنزل الزمخشري الآية على مذهب أبي حنيفة ، وغاير بين متعلق الفعلين من الطرفين ، إذ جعل بعد : فاؤوا ، في مدة الأشهر ، وبعد : عزموا ، بعد مضي المدة ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أن الفيئة والعزم على الطلاق لا يكونان إلا بعد مضي الأشهر ، ولما أحسّ الزمخشري بهذا اعترض على نفسه فقال : فإن قلت : كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدة التربص ؟ قلت : موقع صحيح ، لأن قوله : فإن فاؤوا ، وإن عزموا ، تفصيل لقوله : للذين يؤلون من نسائهم ، والتفصيل يعقب المفصل ، كما تقول : أنا نزيلكم هذا الشهر فان أحمدتكم أقمت عندكم ، إلى آخره . وإلاَّ لم أقم إلاَّ ريثما أتحول . انتهى كلامه . وليس بصحيح لأن ما مثل به ليس مطابقاً لما في الآية ، ألا ترى أن المثال فيه إخبار عن المفصل حاله ، وهو قوله : أنا نزيلكم هذا الشهر ، وما بعد الشرطين مصرح فيه بالجواب الدال على اختلاف متعلق فعل الجزاء ، والآية ليس كذلك التركيب فيها ، لأن الذين يؤلون ليس مخبراً عنهم ، ولا مسنداً إليهم حكم ، وإنما المخبر عنه هو : تربصهم ، فالمعنى تربص المولي أربعة أشر مشروع لهم بعد إيلائهم ، ثم قال : فإن فاؤوا ، وإن عزموا ، فالظاهر أنه يعقب تربص المدة المشروعة بأسرها ، لأن الفيئة تكون فيها ، والعزم بعدها ، لأن هذا التقييد المغاير لا يدل عليه اللفظ ، وإنما تطابق الآية أن نقول : للضيف اكرام ثلاثة أيام ، فإن أقام فنحن كرماء مؤثرون ، وإن عزم على الرحيل فله أن يرحل . فالذي يتبادر إليه الذهن أن الشرطين مقدران بعد إكرامه الثلاثة الأيام ، وأما أن يكون المعنى : فإن أقام في مدة الثلاثة الأيام ، وإن عزم على الرحيل بعد ذلك ، فهذا الاختلاف في الطرفين لا يتبادر إليه الذهن ، وإن كان مما يحتمله اللفظ ، وفرق بين الظاهر والمحتمل ، ولا يفرق بين الآية وتمثيل الزمخشري إلاَّ من ارتاض ذهنه في التراكيب العربية ، وعرى من حمل كتاب الله على الفروع المذهبية ، باتباعه الحق واجتنابه العصبية .
البقرة : ( 228 ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن . . . . .
( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ( ذكر بعضهم في سبب نزول هذه الآية ما لا يعد سبباً ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة جداً ، لأنه حكم غالب من أحكام النساء ، لأن الطلاق يحصل به المنع من الوطء والاستمتاع دائماً ، وبالإيلاء منع نفسه من الوطء مدة محصورة ، فناسب ذكر غير المحصور بعد ذكر المحصور ، ومشروع تربص المولي أربعة أشهر ، ومشروع تربص هؤلاء ثلاثة قروء ، فناسب ذكرها بعقبها ، وظاهر : والمطلقات ، العموم ، ولكنه مخصوص بالمدخول بهن ذوات الأقراء ، لأن حكم غير المدخول بها ، والحامل ، والآيسة منصوص عليه مخالف لحكم هؤلاء .
وروي عن ابن عباس وقتادة أن الحكم كان عاماً في المطلقات ، ثم نسخ الحكم من

" صفحة رقم 196 "
المطلقات سوى المدخول بها ذات الإقراء ، وهذا ضعيف ، وإطلاق العام ويراد به الخاص لا يحتاج إلى دليل لكثرته ، ولا أن يجعل سؤالاً وجواباً . كما قال الزمخشري ، قال : فإن قلت كيف جازت إرادتهن خاصة واللفظ يقتضي العموم . قلت : بل اللفظ مطلق في تناول الجنس ، صالح لكله وبعضه ، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك . انتهى .
وما ذكره ليس بصحيح ، لأن دلالة العام ليست دلالة المطلق ، ولا لفظ العام مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه ، بل هي دلالة على كل فرد فرد ، موضوعة لهذا المعنى ، فلا يصلح لكل الجنس وبعضه ، لأن ما وضع عاماً يتناول كل فرد فرد ، ويستغرق الأفراد لا يقال فيه : إنه صالح لكله وبعضه ، فلا يجيء في أحد ما يصلح له ، ولا هو كالاسم المشترك ، لأن الأسم المشترك له وضعان وأوضاع بإزاء مدلوليه أو مدلولاته ، فلكل مدلول وضع ، والعام ليس له إلاَّ وضع واحد على ما أوضحناه ، فليس كالمشترك .
( وَالْمُطَلَّقَاتُ ( مبتدأ و ) يَتَرَبَّصْنَ ( خبر عن المبتدأ ، وصورته صورة الخبر ، وهو أمر من حيث المعنى ، وقيل : هو أمر لفظاً ومعنىً على إضمار اللام أي : ليتربصن ، وهذا على رأي الكوفيين ، وقيل : والمطلقات على حذف مضاف ، أي : وحكم المطلقات ويتربصن على حذف : أن ، حتى يصح خبراً عن ذلك المضاف المحذوف ، التقدير : وحكم المطلقات أن يتربصن ، وهذا بعيد جداً .
وقال الزمخشري ، بعد أن قال : هو خبر في معنى الأمر ، قال : فإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد الأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص ، فهو يخبر عنه ، موجوداً ، ونحوه قولهم في الدعاء : رحمه الله ، أخرج في صورة الخبر عن الله ثقة بالاستجابة ، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها ، وبناؤه على المبتدأ مما زاد فضل تأكيد ، ولو قيل : ويتربصن المطلقات ، لم يكن بتلك الوكادة . انتهى . وهو كلام حسن ، وإنما كانت الجملة الابتدائية فيها زيادة توكيد على جملة الفعل والفاعل لتكرار الاسم فيها مرتين : إحداهما بظهوره ، والأخرى بإضماره ، وجملة الفعل والفاعل يذكر فيها الإسم مرة واحدة .
وقال في ( ري الظمآن ) زيد فعل يستعمل في أمرين : أحدهما : تخصيص ذلك الفعل بذكر الأمر ، كقولهم : أنا كتبت في المهمّ الفلاني إلى السلطان ، والمراد دعوى الانفراد . الثاني : أن لا يكون المقصود ذلك ، بل المقصود أن تقديم المحدث عنه بحديث آكد لإثبات ذلك الفعل له ، كقولهم : هو يعطى الجزيل ، لا يريد الحصر ، بل المراد أن يحقق عند السامع أن إعطاء الجزيل دأبه .
ومعنى يتربصن : ينتظرن ولا يقدمن على تزوج . وقال القرطبي : هو خبر على بابه ، وهو خبر عن حكم الشرع ، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع ، قيل : وحمله على الخبر هو الأولى ، لأن المخبر به لا بد من كونه ، وأما الأمر فقد يمتثل ، وقد لا يمتثل ، ولأنها لا تحتاج إلى نية وعزم وتربص متعدٍ ، إذ معناه : انتظر . وجاء في القرآن محذوفاً مفعوله ، ومثبتاً ، فمن المحذوف هذا ، وقدروه : بتربص التزويج ، أو الأزواج ، ومن المثبت قوله : ) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ ( ) نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ).
و : بأنفسهن ، متعلق : بتربص ، وظاهر الباء مع تربص أنها للسبب ، أي : من أجل أنفسهن ، ولا بد أن ذلك من ذكر الأنفس ، لأنه لو قيل في الكلام : يتربص بهن لم يجز ، لأنه فيه تعدية الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل إلى الضمير المجرور ، نحو : هند تمر بها ، وهو غير جائز ، ويجوز هنا أن يكون زائدة للتوكيد ، والمعنى : يتربصن أنفسهن ، كما تقول : جاء زيد بنفسه ، وجاء زيد بعينه ، أي : نفسه وعينه ، لا يقال : إن التوكيد هنا لا يجوز ، لأنه من باب توكيد الضمير المرفوع المتصل ، وهو النون التي هي ضمير الإناث في : تربصن ، وهو يشترط فيه أن يؤكد بضمير منفصل ، وكان يكون التركيب : يتربصن هن بأنفسهن ، لأن هذا التوكيد ، لما جرّ بالباء ، خرج عن التبعية ، وفقدت فيه

" صفحة رقم 197 "
العلة التي لأجلها امتنع أن يؤكد الضمير المرفوع المتصل ، حتى يؤكد بمنفصل ، إذا أريد التوكيد للنفس والعين ، ونظير جواز هذا : أحسن بزيد وأجمل ، التقدير : وأجمل به ، فحذف وإن كان فاعلاً ، هذا مذهب البصريين ، ولأنه لما جرّ بالباء خرج في الصورة عن الفاعل ، وصار كالفضلة ، فجاز حذفه : هذا على أن الأخفش ذكر في المسائل جواز : قاموا أنفسهم ، من غير توكيد ، وفائدة التأكيد هنا : أنهنّ يباشرن التربص ، وزوال احتمال أن غيرهنّ تباشر ذلك بهنّ ، بل أنفسهنّ هنّ المأمورات بالتربص ، إذ ذاك أدعى لوقوع الفعل منهنّ ، فاحتيج إلى ذلك التأكيد لما في طباعهنّ من الطموح إلى الرجال والتزويج ، فمتى أكد الكلام دل على شدة المطلوبة .
وانتصاب : ثلاثة ، على أنه ظرف ، إذ قدرنا : تربص ، قد أخذ مفعوله ، والمعنى : مدة ثلاثة قروء ، وقيل : انتصابه على أنه مفعول ، أي : ينتظرن معنى ثلاثة قروء ، وكلا الإعرابيين منقول .
وتقدم الكلام في مدلول القروء في لسان العرب ، واختلف في المراد هنا .
فقال أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبو موسى ، وابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعكرمة ، والضحاك ، ومقاتل ، والسدي ، والربيع ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وغيرهم من فقهاء الكوفة : هو الحيض .
وقال زيد بن ثابت ، وعبادة بن الصامت ، وأبو الدرداء ، وعائشة ، وابن عمر ، وابن عباس ، والزهري ، وأبان بن عثمان ، وسليمان بن يسار ، والأوزاعي ، والثوري ، والحسن بن صالح ، ومالك ، والشافعي ، وغيرهم من فقهاء الحجاز : هو الطهر .
وقال أحمد : كنت أقول القرء الطهر ، وأنا الآن أذهب إلى أنه الحيض .
وروي عن الشافعي : أن القرء : الانتقال من الطهر إلى الحيض ، ولا يرى الانتقال من الحيض إلى الطهر قرءاً .
وقد تقدّم قول آخر : إنه الخروج من طهر إلى حيض ، أو من حيض إلى طهر . ولذكر ترجيح كل قائل ما ذهب إليه مكان غير هذا .
وظاهر قوله : ثلاثة قروء ، أن العدّة تنقضي بثلاثة القروء ، ومن قال : إن القرء الحيض يقول ، إذا طلقت في طهر لم توطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة ثم تغتسل ، فبالغسل تنقضي العدة .
روي عن علي ، وابن مسعود ، وأبي موسى ، وغيرهم من الصحابة : ( أن زوجها أحق بردّها ما لم تغتسل ) حتى قال شريك : لو فرطت في الغسل ، فلم تغتسل عشرين سنة ، كان زوجها أحق بالرجعة والذي يظهر من الآية أن الغسل لا دخول له في انقضاء العدة .
وروي عن زيد ، وابن عمر ، وعائشة : إذا دخلت في الحيضة الثالثه فلا سبيل له عليها ، ولا تحل للأزواج حتى تغتسل من الحيضة الثالثة ، وذلك أن هؤلاء يقولون بأن القرء هو الطهر ، فإذا اطلقت في طهر لم تمس فيه ، اعتدت بما بقي منه ، ولو ساعة ، ثم استقبلت طهراً ثانياً بعد حيضة ، ثم ثالثاً بعد حيضة ثانية ، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة بأوّل نقطة تراها ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وداود .
وقال أشهب : لا تنقطع العصمة والميراث إلاَّ بتحقق أنه دم حيض ، لاحتمال أن يكون دفعة دم من غير الحيض ، وكل من قال : إن القرء الاطهار ، يعتد بالطهر الذي طلقت فيه ، وشذا بن شهاب فقال : تعتد بثلاثة أقراء سوى بقية ذلك الطهر ، ولا تنقضي العدة حتى تدخل في الحيضة الرابعة ، لأن الله تعالى قال : ) ثَلَاثَةَ قُرُوء ( ، ولو ، طلقت في الحيض انقضت عدتها بالشروع في الحيضة الرابعة .
وقال أبو حنيفة : لا تنقضي عدتها ما لم تطهر من الحيضة الرابعة ، وقال : إذا طهرت لأكثر الحيض انقضت عدتها قبل الغسل أو لأوّله ، فلا تنقضي حتى تغتسل ، أو تتيمم عند عدم الماء ، أو يمضي عليها وقت الصلاة .
وظاهر عموم المطلقات دخول الزوجة الأمة في الاعتداد بثلاثة قروء ، وبه قال داود ، وجماعة أهل الظاهر ، وعبد الرحمن بن كيسان الأصم ؛ وروي عن ابن سيرين أنه قال : ما أرى عدة الأمة إلاَّ كعدة الحرة ، إلاَّ أن مضت سنة في ذلك ، فالسنة أحق أن تتبع وقال الجمهور : عدتها قُرءان .
وقرأ الجمهور : وقروء ، على وزن فعول ؛ وقرأ الزهري : قروّ ، بالتشديد من غير همز ، وروي ذلك عن نافع ؛ وقرأ الحسن : قرو بفتح القاف وسكون الراء وواو خفيفة ، وتوجيه الجمع للكثرة في هذا المكان ، ولم يأت : ثلاثة أقراء ، انه من باب التوسع في وضع أحد الجمعين

" صفحة رقم 198 "
مكان الآخر ، أعني : جمع القلة مكان جمع الكثرة ، والعكس وكما جاء : بأننفسهن وأن النكاح يجمع النفس على نفوس في الكثرة ، وقد يكثر استعمال أحد الجمعين ، فيكون ذلك سبباً للإتيان به في موضع الآخر ويبقى الآخر قريباً من المهمل ، وذلك نحو : شسوع أوثر على أشساع لقلة استعمال أشساع ، وإن لم يكن شاذاً ، لأن شسعا ينقاس فيه أفعال ؛ وقيل : وضع بمعنى الكثرة ، لأن كل مطلقة تتربص ثلاثة قروء ؛ وقيل : أوثر قروء على أقراء لأن واحده قرءٌ ، بفتح القاف ، وجمع فعل على أفعال شاذ ، وأجاز المرّد : ثلاثة حمير ، وثلاثة كلاب ، على إرادة : من كلاب ، ومن حمير . فقد يتخرّج على ما أجازه : ثلاثة قروء ، أي : من قروء .
وتوجيه تشديد الواو ، وهو أنه أبدل من الهمزة واواً وأدغمت واو فعول فيها ، وهو تسهيل جائز منقاس ، وتوجيه قراءة الحسن أنه أضاف العدد إلى اسم الجنس ، إذ إسم الجنس يطلق على الواحد وعلى الجمع على حسب ما تريد من المعنى ، ودل العدد على أنه لا يراد به الواحد .
( وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ ( المنهي عن كتمانه الحيض ، تقول لست حائضاً وهي حائض ، أو حضت وما حاضت ، لتطويل العدة واستعجال الفرقة ، قال عكرمة ، والنخعي ، والزهري . أو : الحبل ، قاله عمر ، وابن عباس . أو الحيض والحبل معاً ، قاله ابن عمر ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن زيد ، والربيع ، ولهنّ في كتم ذلك مقاصد ، فأخبر الله تعالى أن كتم ذلك حرام ؛ ودل قوله : ) وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ ( أنهن مؤمنات على ذلك ، ولو أبيح الاستقصاء لم يمكن الكتم ؛ وقال سليمان بن يسار : لم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهنّ ، ولكن وكل ذلك اليهنّ ، إذ كنّ مؤتمنات . إنتهى . وأجمع أهل العلم على أنه لا يجوز أن تكتم المرأة ما خلق الله في رحمها من حمل ولا حيض ، وفيه تغليط ، وإنكار .
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد : اللاتي تبغين إسقاط ما في بطونهنّ من الآجنة ، فلا يعترفن به ، ويجحدنه لذلك فجعل كتمان ما في أرحامهنّ كناية عن اسقاطه . إنتهى كلامه ، والآية تحتمله .
قال ابن المنذر : كل من حفظت عنه من أهل العلم قال : إذا قالت المرأة في عشرة أيام حضت إنها لا تصدق ، ولا يقبل ذلك منها إلا أن تقول : قد أسقطت سقطاً قد استبان خلقه ، واختلفوا في المدة التي تصدق فيها المرأة فقال مالك : إن ادّعت الانقضاء في أمد تنقضي العدة في مثله ، قبل قولها : أو في مدة تقع نادراً ، فقولان ، قال في ( المدوّنة ) إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر ، صدقت إذا صدقها النساء ، وبه قال علي وشريح ، وقال في كتاب ( محمد ) لا تصدق إلا في شهر ونصف ، ونحو منه قول أبي ثور ، أقل ما يكون ذلك في سبعة وأربعين يوماً ، وقيل : لا تصدق في أقل من ستين يوماً .
وروي عن علي أنه استحلف امرأة لم تستكمل الحيض ، وقضى بذلك عثمان .
و : لهنّ ، متعلق : بيحل ، واللام للتبليغ ، و : ما ، في : ما خلق ، الأظهر أنها موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة ، والعائد محذوف أيضاً التقدير : خلقه . و : في أرحامهنّ ، متعلق ، بخلق ، وجوّر أن تكون في أرحامهنّ حالاً من المحذوف ، قيل : وهي حال مقدرة ، لأنه وقت خلقه ليس بشيء حتى يتم خلقه .
وقرأ مبشر بن عبيد : في أرحامهنّ وبردّهنّ ، بضم الهاء فيهما والضم هو الأصل ، وإنما كسرت لكسرة ما قبلها .
( إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ). هذا شرط جوابه محذوف على الأصح من المذاهب ، حذف لدلالة ما قبله عليه ، ويقدر هنا من لفظه ، أي : إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر ، فلا يحل لهنّ ذلك والمعنى : أن من اتصف بالإيمان لا يقدم على ارتكاب ما لا يحل له ، وعلق ذلك على بهذا الشرط ، وإن كان الإيمان حاصلاً لهنّ إيعاداً وتعظيماً للكتم ، وهذا كقولهم : إن كنت مؤمناً فلا تظلم ، وإن كنت حراً فانتصر . يجعل ما كان موجوداً كالمعدوم ، ويعلق عليه ، وإن كان موجوداً في نفس الأمر .
والمعنى : إن كنّ مؤمنات فلا يحل لهنّ الكتم ، وأنت مؤمن فلا تظلم ، وأنت حر فانتصر ، وقيل : في الكلام محذوف : أي ، إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر حق الإيمان .
وقيل : إن ، بمعنى : إذ ، وهو ضعيف ، وتضمن هذا الكلام الوعيد ، فقال

" صفحة رقم 199 "
ابن عباس : لما استحقه الرجل من الرجعه ؛ وقال قتادة : لإلحاق الولد بغيره ، كفعل أهل الجاهلية .
( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ ( قرأ مسلمة بن محارب : وبعولتهنّ ، بسكون التاء ، فراراً من ثقل توالي الحركات ، وهو مثل ما حكى أبو زيد : ورسلنا ، بسكون اللام . وذكر أبو عمر ، و : أن لغة تميم تسكين المرفوع من : يعلمهم ، ونحوه . وسماهم بعولة باعتبار ما كانوا عليه ، أو لأن الرجعية زوجة على ما ذهب إليه بعضهم .
والمعنى أن الأزواج أحق لمراجعتهنّ .
وقرأ أبي : بردتهِنَّ بالتاء بعد الدال ، وتتعلق : الباء ، وفي ، بقوله : أحق ، وقيل : تتعلق : في ، بردهنّ ؛ وأشار بقوله : في ذلك ، إلى الأجل الذي أمرت أت تتربص فيه ، وهو زمان العدة وقيل : في الحمل المكتوم ، والضمير في : بعولتهن ، عائد على المطلقات ، وهو مخصوص بالرجعيات ، وفيه دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا يمنع عموم أوله ولا يوجب تخصيصه ، لأن قوله : والمطلقات ، عام في المبتوتات والرجعيات ، و : بعولتهن أحق بردهن ، خاص في الرجعيات ، ونظيره عندهم ) وَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ( فهذا عموم ، ثم قال : ) وَإِن جَاهَدَاكَ ( وهذا خاص في المشركين .
والأولى عندي أن يكون على حذف مضاف دل عليه الحكم ، تقديره : وبعولة رجعياتهن ، وأحق ، هنا ليست على بابها ، لأن غير الزوج لا حق له ولا تسليط على الزوجة في مدة العدة ، إنما ذلك للزوج ولا حق لها أيضاً في ذلك ، بل لو أبت كان له ردها ، فكأنه قيل : وبعولتهن حقيقون بردهن . ودل قوله : بردهنّ ، على انفصال سابق ، فمن قال : إن المطلقة الرجعية محرمة الوطء فالرد حقيقي على بابه ، ومن قال : هي مباحة الوطء وأحكامها أحكام الزوجة ، فلما كان هناك سبب تعلق به زوال النكاح عند انقضاء العدّة ، جاز إطلاق الرد عليه ، إذ كان رافعاً لذلك السبب .
واختلفوا فيما به الرد ؛ فقال سعيد ، والحسن ، وابن سيرين ، وعطاء وطاووس ، والزهري ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة : إذا جامعها فقد راجعها ويُشهد ؛ وقال الليث ، وطائفة من أصحاب مالك : إن وطأه مراجعة على كل حال نواها أو لم ينوها ؛ وقال مالك : إن وطِئها في العدة يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعة وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد ، وبه قال اسحاق : فإن وطىء ولم ينو الرجعة ، فقال مالك : يراجع في العدة ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد .
وقال ابن القاسم : فإن انقضت عدتها لم ينكحها هو ولا غيره في مدة بقية الاستبراء ، فان فعل فسخ نكاحه ولا يتأبد تحريمها عليه ، لأن الماء ماؤه ؛ وقال الشافعي : إذا جامعها فليس برجعة نوى بذلك الرجعة أم لا ، ولها مهر مثلها . وقال مالك : لا شيء عليه ، قال أبو عمر : ولا أعلم أحداً أوجب عليه مهر المثل غير الشافعي .
قال الشافعي : ؛ ولا تصح الرجعة إلاَّ بالقول ، وبه قال جابر بن زيد ، وأبو قلابة ، وأبو ثور ؛ قال الباجي في ( المنتقى ) : ولاخلاف في صحة الارتجاع بالقول ، ولو قبل أو باشر أثم عند مالك ، وليس برجعة . والسنة أن يشهد قبل ذلك ؛ وقال أبو حنيفة ، والثوري : إن لمسها بشهوة ، أو نظر إلى فرجها بشهوة فهو رجعة ، ينبغي أن يُشهد في قول مالك ، والشافعي ، وإسحاق وأبي عبيد ، وأبي ثور .
وهل يجوز له أن يسافر بها قبل ارتجاعها ؟ منعه مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابه ؟ وعن الحسن بن زياد : إن له أن يسافر بها قبل الرجعة .
وهل له أن يدخل عليها ويرى شيئاً من محاسنها وتتزين له أو تتشوّف ؟ أجاز ذلك أبو حنيفة ؛ وقال مالك : لا يدخل عليها إلاَّ بإذن ، ولا ينظر إليها إلاَّ وعليها ثيابها ، ولا ينظر إلى شعرها ، ولا بأس أن يؤا كلها إذا كان معها غيرها ، ولا يبيت معها في بيت ؛ قال ابن القاسم : ثم رجع مالك عن ذلك ، فقال : لا يدخل عليها ، ولا يرى شعرها ، وقال سعيد يستأذن عليها إذا دخل ويسلم ، أو يشعرها بالتنحم والتنحنح ، وتلبس ما شاءت من الثياب والحلي ، فإن لم يكن لها إلاَّ بيت واحد فليجعلا بينهما ستراً ؛ وقال : الشافعي هي محرمة تحريم المبتوته حتى تراجع بالكلام ، كما تقدم .
وأجمعوا على أن المطلق إذا قال بعد انقضاء العدة لامرأته : كنت راجعتك في العدة ، وأنكرت إن القول قولها مع يمينها وفيه خلاف لأبي حنيفة ، فلو كانت الزوجة أمة ، والزوج ادعى الرجعة في العدة بعد انقضائها ، فالقول قول الزوجة الأمة ، وإن كذبها مولاها هذا قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي ثور .
وقا أبو يوسف ، ومحمد : القول قول المولى وهو أحق بها .
( إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً ( هذا شرط آخر حذف جوابة لدلالة ما قبله عليه ، وظاهره أن إباحة الرجعة معقودة بشريطة إرادة الإصلاح ، ولا خلاف بين أهل

" صفحة رقم 200 "
العلم أنه إذا راجعها مضاراً في الرجعة ، مريداً لتطويل العدة عليها أن رجعته صحيحة ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : ) وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ ( قالوا : فدل ذلك على صحة الرجعة ، وإن قصد الضرر ، لأن المراجعة لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار لما كان ظالماً بفعلها .
قال الماوردي : في الإصلاح المشار إليه وجهان : أحدهما : إصلاح ما بينهما من الفساد بالطلاق ؛ الثاني : القيام لما لكل واحد منهما على صاحبه من الحق إنتهى كلامه .
قالوا : ويستغني الزوج في المراجعة عن الولي ، وعن رضاها ، وعن تسمية مهر ، وعن الإشهاد على الرجعة على الصحيح ، ويسقط بالرجعة بقية العدة ، ويحل جماعها في الحال ، ويحتاج في اثبات هذا كله إلى دليل واضح من الشرع ، والذي يظهر لي أن المرأة بالطلاق تنفصل من الرجل ، فلا يجوز له أن تعود إليه ، إلا بنكاح ثان ، ثم إذا طلقها وأراد أن ينكحها ، فإما أن يبقى شيء من عدتها ، أو لا يبقى إن بقي شيء من عدتها فله أن يتزوجها دون انقضاء عدتها منه إن أراد الإصلاح ، ومفهوم الشرط أنه إذا أراد غير الإصلاح لا يكون له ذلك ، وإن انقضت عدتها استوى هو وغيره في جواز تزويجها ، وإما أن تكون قد طلقت وهي باقية في العدة فيردها من غير اعتبار شروط النكاح ، فيحتاج إثبات هذا الحكم إلى دليل واضح كما قلناه ، فإن كان ثم دليل واضح من نص أو إجماع ، قلنا به ، ولا يعترض علينا بأن له الرجعة على ما وصفوا ، وإن ذلك من أوليات الفقه التي لا يسوغ يالنزاع فيها ، وأن كل حكم يحتاج إلى دليل .
( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( هذا من بديع الكلام ، إذ حذف شيئاً من الأول أثبت نظيره في الآخر ، وأثبت شيئاً في الأول حذف نظيره في الآخر ، وأصل التركيب ولهنّ على أزواجهنّ مثل الذي لأزواجهنّ عليهنّ ، فحذفت على أزواجهنّ لإثبات : عليهنّ ، وحذف لأزواجهنّ لإثبات لهنّ .
واختلف في هذه المثلية ، فقيل : المماثلة في الموافقة والطواعية ، وقال معناه الضحاك ؛ وقيل : المماثلة في التزين والتصنع ، وقاله ابن عباس ، وقال : أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي لهذه الآية ؛ وقيل : المماثلة في تقوى الله فيهنّ ، كما عليهنّ أن يتقين الله فيهم ، ولهذا أشار ( صلى الله عليه وسلم ) ) بقوله : ( إتقوا الله في النساء فإنهنّ عندكم عوان أي : أسيرات ، قاله ابن زيد ؛ وقيل : المماثلة معناها أن لهنّ من النفقة والمهر وحسن العشرة وترك الضرار مثل الذي عليهنّ من الأمر والنهي فعلى هذا يكون المماثلة في وجوب ما يفعله الرجل من ذلك ، ووجوب امتثال المرأة أمره ونهيه ، لا في جنس المؤدي والممتثل ، إذ ما ما يفعله الرجل محسوس ومعقول ، وما تفعله هي معقول ، ولكن اشتركا في الوجوب ، فتحققت المثلية وقيل : الآية في جميع حقوق الزوج على الزوجة ، وحقوق الزوجة على الزوج .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه سئل عن حق المرأة على الزوج فقال : ( أن يطعمها إذا طعم ، ويكسوها إذا اكتسى ، ولا يضرب الوجه ، ولا يهجر إلاَّ في البيت ) وفي حديث الحج عن جابر ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال في خطبة يوم عرفة : ( اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله تبارك وتعالى ، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله ، ولكم عليهنّ أن لا يواطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلنّ ذلك فاضربوهنّ ضرباً غير مبرح ، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف ) . .
ومثل ، مبتدأ ، و : لهنّ ، هو في موضع الخبر ، و : بالمعروف ، يتعلق به : لهنّ ، أي : ومثل الذي لأزواجهنّ عليهنّ كائن لهنّ على أزواجهنّ ، وقيل : بالمعروف ، هو في موضع الصفة : لمثل ، فهو في موضع رفع ، وتتعلق إذ ذاك بمحذوف .
ومعنى : بالمعروف أي : بالوجه ، الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس ولا يكلف أحدهما الآخر من الأشغال ما ليس معروفاً له ، بل يقابل كل منهما صاحبه بما يليق به .
( وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ( أي : مزية وفضيلة في الحق ، أتى بالمظهر عوض المضمر إذ كان لو أتى على المضمر لقال : ولهم عليهنّ درجة ، للتنويه بذكر الرجولية التي بها ظهرت المزية للرجال على النساء ، ولما كان يظهر في الكلام بالإضمار من تشابه الألفاظ ، وأنت تعلم ما في ذاك ، إذ كان يكون : ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف ولهم عليهنّ درجة ، ولقلق الإضمار حذف مضمران ومضافان من الجملة الأولى .
والدرجة هنا : فضله

" صفحة رقم 201 "
عليها في الميراث ، وبالجهاد ، قاله مجاهد ، وقتادة : أو : بوجوب طاعتها إياه وليس عليه طاعتها ، قاله زيد بن أسلم ، وابنه : أو : بالصداق ، وجواز ملاعنة إن قذف ، وحدّها إن قذفت ، قال الشعبي ، رضي الله تعالى عنه : أو بالقيام عليها بالإنفاق وغيره ، وإن اشتركاً في الاستمتاع ، قاله ابن إسحاق أو : بملك العصمة وإن الطلاق بيده ، قاله قتادة ، وابن زيد . أو : بما يمتاز منها كاللحية ، قاله مجاهد أو : بملك الرجعة أو بالإجابة إلى فراشه إذا دعاها ، وهذا داخل في القول الثاني : أو : بالعقل ، أو بالديانة ، أو بالشهادة ، أو بقوة العبادة ، أو بالذكورية ، أو لكون المرأة خلقت من الرجل ، أشار إليه ابن العربي : أو : بالسلامة من أذى الحيض والولادة والنفاس ، أو بالتزوج عليها والتسري ، وليس لها ذلك ، أو بكونه يعقل في الدية بخلافها ، أو بكونه إماماً بخلافها .
وقال ابن عباس : تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في المال والخلق ، أي : إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه . انتهى .
والذي يظهر أن الدرجة هي ما تريده النساء من البر والإكرام والطواعية والتبجيل في حق الرجال ، وذلك أنه لما قدّم أن على كل واحد من الزوجين للآخر عليه مثل ما للآخر عليه ، اقتضى ذلك المماثلة ، فبين أنهما ، وإن تماثلا في ما على كل واحد منهما للآخر ، فعليهن مزيد إكرام وتعظيم لرجالهنّ ، وأشار إلى العلة في ذلك : وهو كونه رجلاً يغالب الشدائد والأهوال ، ويسعى دائماً في مصالح زوجته ، ويكفيها تعب الاكتساب ، فبازاء ذلك صار عليهنّ درجة للرجل في مبالغة الطواعية ، وفيما يفضي إلى الاستراحة عندها .
وملخص ما قاله المفسرون ، يقتضى أن للرجل درجة تقتضي التفضيل .
و : درجة ، مبتدأ ، و : للرجال ، خبره ، وهو خبر مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة ، و : عليهن ، متعلق بما تعلق به الخبر من الكينونة والاستقرار ، وجوّزوا أن يكون : عليهنّ ، في موضع نصب على الحال ، لجواز أنه لو تأخر لكان وصفاً للنكرة ، فلما تقدّم انتصب على الحال ، فتعلق إذ ذاك بمحذوف وهو غير العامل في الخبر ، ونظيره : في الدار قائماً رجل ، كان أصله : رجل قائم ، ولا يجوز أن يكون : عليهن ، الخبر ، و : للرجال ، في موضع الحال ، لأن العامل في الحال إذ ذاك معنوي ، وقد تقدّمت على جزأى الجملة ، ولا يجوز ذلك ، ونظيره : قائماً في الدار زيد . وهو ممنوع لا ضعيف كما زعم بعضهم ، فلو توسطت الحال وتأخر الخبر ، نحو : زيد قائماً في الدار ، فهذه مسألة الخلاف بيننا وبين أبي الحسن ، أبو الحسن يجيزها ، وغيره يمنعها .
( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ ( تقدّم تفسير هذين الوصفين ، وختم الآية بهما لأنه تضمنت الآية ما معناه الأمر في قوله :

" صفحة رقم 202 "
يتربصنّ ، والنهي في قول : ولا يحل لهنّ ، والجواز في قوله : وبعولتهنّ أحق ، والوجوب في قوله : ولهنّ مثل الذي عليهنّ ، ناسب وصفه تعالى بالعزة وهو القهر والغلبة ، وهي تناسب التكليف ، وناسب وصفه بالحكمة وهي إتقان الأشياء ووضعها على ما ينبغي ، وهي تناسب التكليف أيضاً .
البقرة : ( 229 ) الطلاق مرتان فإمساك . . . . .
( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( سبب نزول هذه الآية ما روى هشام بن عروة ، عن أبيه : أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثم راجعها قبل انقضاء عدتها ، كان له ذلك ، ولو طلق ألف ألف مرة ، فطلق رجل امرأته ، ثم راجعها قبل انقضاء عدتها رجل استبرأ ، فحين طلق شارفت انقضاء العدة راجعها ، ثم طلقها ، ثم قال : والله لا أقربك إلىّ ولا تخلين مني ، فشكت ذلك إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فنزلت .
ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، وهو أنه لما تضمنت الآية قبلها الطلاق الرجعي ، وكانوا يطلقون ويراجعون من غير حد ولا عدّ ، بيَّن في هذه الآية ، أنه : مرتان ، فحصر الطلاق الرجعي في أنه مرتان ، أي يملك المراجعة إذا طلقها ، ثم يملكها إذا طلق ، ثم إذا طلق ثالثة لا يملكها . وهو على حذف مضاف أي : عدد الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان ، والثالثة لا يملك فيها الرجعة .
فعلى هذا الألف واللام في الطلاق للعهد في الطلاق السابق ، وهو الذي تثبت معه الرجعة ، وبه قال عروة ، وقتادة ، وقيل : طلاق السنة المندوب بينه بقوله : الطلاق مرتان ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقيل : المعنى بذلك تفريق الطلاق إذا أراد أن يطلق ثلاثاً ، وهو يقتضيه اللفظ ، لأنه لو طلق مرتين معاً في لفظ واحد لما جاز أن يقال : طلقها مرتين ، وكذلك لو دفع إلى رجل درهمين لم يجز أن يقال : أعطاه مرتين ، حتى يفرق الدفع ، فحينئذ يصدق عليه . هكذا بحثوه في هذا الموضع ، وهو بحث صحيح .
وما زال يختلج في خاطري انه لو قال : أنتِ طالق مرتين أو ثلاثاً ، أنه لا يقع إلاَّ واحدة ، لأنه مصدر للطلاق ، ويقتضي العدد ، فلا بد أن يكون الفعل الذي هو عامل فيه يتكرر وجوداً ، كما تقول : ضربت ضربتين ، أو ثلاث ضربات ، لأن المصدر هو مبين لعدد الفعل ، فمتى لم يتكرر وجوداً استحال أن يكرر مصدره وان يبين رتب العدد ، فإذا قال : أنت طالق ثلاثاً ، فهذه لفظ واحد ، ومدلوله واحد ، والواحد يستحيل أن يكون ثلاثاً أو اثنين ، ونظير هذا أن ينشىء الإنسان بيعاً بينه وبين رجل في شيء ثم يقول عند التخاطب : بعتك هذا ثلاثاً ، فقوله ثلاثاً لغو وغير مطابق لما قبله ، والإنشاءات أيضاً يستحيل التكرار فيها حتى يصير المجمل قابلاً لذلك الإنشاء ، وهذا يعسر إدراكه على من اعتاد أنه يفهم من قول من قال : طلقتك مرتين أو ثلاثاً ، أنه يقع الطلاق مرتين أو ثلاثاً على ما نذكره .
قالوا : وتشتمل هذه الآية على أحكام .
منها أن مسنون الطلاق التفريق بين أعداد الثلاث إذا أراد أن يطلق ثلاثاً ، وأن من طلق ثلاثاً أو اثنتين في دفعة واحدة كان مطلقاً لغير السنة

" صفحة رقم 203 "
ومنها أن ما دون الثلاث ثبت مع الرجعة ، وأنه إذا طلق اثنتين في الحيض وقعتا ، وإن نسخ الزيادة على الثلاث .
ولم تتعرض الآية للوقت المسنون فيه إيقاع الطلاق ، وسنتكلم على ذلك في مكان ذكره إن شاء الله تعالى ، وقسموا هذا الطلاق إلى : واجب ، ومحظور ، ومسنون ، ومكروه ، ومباح ، وهذا من علم الفقه ، فنتكلم عليه في كتبه .
وظاهر الآية العموم فيدخل في الطلاق : الحر والعبد ، فيكون حكمهما سواء ، ونقل أبو بكر الرازي اتفاق السلف وفقهاء الأمصار على أن الزوجين المملوكين ينفصلان بالثنتين ، ولا يحل له بعدهما إلاَّ بعد زوج ، وروي عن ابن عباس ما يخالف شيئاً من هذا ، وهو أن أمر العبد في الطلاق إلى المولى .
واختلفوا إذا كان أحدهما حراً والآخر رقيقاً ، فقيل : الطلاق بالنساء ، فلو كانت حرة تحت عبد أو حر فطلاقها ثلاث ، أو أمة تحت حر أو عبد فطلاقهما تنتان ، وبه قال أبو علي ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، والثوري ، والحسن بن صالح .
وقيل : الطلاق بالرجال ، فلو كانت أمة تحت حر فطلاقها ثلاث ، أو حرة تحت عبد فطلاقها ثنتان ، وبه قال عمر ، وعثمان البتي .
والطلاق مصدر طلقت المرأة طلاقاً ، ويكون بمعنى التطليق . كالسلام بمعنى التسليم ، وهو مبتدأ ، ومرتان خبره ، وهو على حذف مضاف ، أي : عدد الطلاق المشروع فيه الرجعة ، أو الطلاق الشرعي المسنون مرتان ، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف حتى يكون الخبر هو المبتدأ ، و : مرتان ، تثنية حقيقة ، لأن الطلاق الرجعي أو المسنون ، على اختلاف القولين ، عدده هو مرتان على التفريق ، وقد بينا كونه يكون على التفريق . وقال الزمخشري : ولم يرد بالمرتين التثنية والتكرار كقوله تعالى : ) ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ( أي : كرة بعد كرة ، لا كرتين اثنتين ، ونحو ذلك من التتالي التي يراد بها التكريرة ، قولهم : لبيك ، وسعديك ، وحنانيك ، وهذا ذيك ، ودواليك . انتهى كلامه . وهو في الظاهر مناقض لما قال قبل ذلك ، ومخالف لما في نفس الأمر .
أما مناقضته فإنه قال في تفسير : الطلاق مرتان ، أي : التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق . دون الجمع ، والإرسال دفعة واحدة ، فقوله : تطليقة بعد تطليقة مناقض في الظاهر لقول : ولم يرد بالمرتين التثنية ، لأنك إذا قلت ضربتك ضربة بعد ضربة ، إنما يفهم من ذلك الاقتصار على ضربتين ، وهو مساوٍ في الدلالة لقولك : ضربتك ضربتين ، ولأن قولك : ضربتين ، لا يمكن وقوعهما إلاَّ ضربة بعد ضربة .
وأما مخالفته لما في نفس الأمر ، فليس هذا من التثنية التي تكون للتكرير ، لأن التثنية التي يراد بها التكرير لا يقتضي بتكريرها ثنتين ولا ثلاث ، بل يدل على التكرير مراراً ، فقولهم : لبيك ، معناه إجابة بعد إجابة فما زاد ، وكذلك أخواتها ، وكذلك قوله : كرتين ، معناه ثم أرجع البصر مراراً كثيرة والتثنية في قوله : ) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ( إنما يراد بها شفع الواحد ، وهو الأصل في التثنية ، ألا ترى أنه لا يراد هنا بقوله : مرتان ، ما يزيد على الثنتين لقوله بعد : ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( هي الطلقة الثالثة ؟ ولذلك جاء بعد : ) فَإِن طَلَّقَهَا ( أي : فإن سرحها الثالثة ، وإذا تقرر هذا ، فليس قوله : مرتان دالاً على التكرار الذي لا يشفع ، بل هو مراد به شفع الواحد ، وإنما غر الزمخشري في ذلك صلاحية التقدير بقوله : الطلاق الشرعي تطليقة بعد تطليقة ، فجعل ذلك من باب التثنية التي لا يشفع الواحد ، ومراد بها التكثير . إلاَّ أنه يعكر عليه أن الأصل شفع الواحد ، وأن التثنية التي لا تشفع الواحد ويراد بها التكرار لا يقتصر بها على الثلاث في التكرار ، ولما حمل الزمخشري قوله تعالى : مرتين ، على أنه من باب التثنية التي يراد بها التكرير ، احتاج أن يتأول قوله تعالى : ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( على أنه تخيير لهم ، بعد أن علمهم كيف يطلقون ، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بواجبهنّ ، وبين أن يسرحوهنّ السراح الجميل الذي علمهم .
وتحصل من هذا الكلام أن قوله تعالى : ) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ (

" صفحة رقم 204 "
فيه قولان للسلف .
أحدهما : أنه بيان لعدد الطلاق الذي للزوج أن يرتجع منه دون تجديد مهر وولي ، وإليه ذهب عروة ، وقتادة ، وابن زيد .
والثاني : أنه تعريف سنة الطلاق ، أي : من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة ، فإما تركها غير مظلومة شيئاً من حقها ، وإما امساكها محسناً عشرتها ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عباس وغيرهما .
قال ابن عطية : والآية تتضمن هذين المعنيين ، والإمساك بالمعروف هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن العشرة ، والتزام حقوق الزوجية . انتهى كلامه .
وحكى الزمخشري القول الأول ، فقال : وقيل معناه : الطلاق الرجعي مرتان ، لأنه لا رجعة بعد الثلاث ، فإمساك بمعروف ، أي برجعة ، أو تسريح بإحسان أي بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة ، أو بأن لا يراجعها مراجعة ، يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها ، وقيل : بأن يطلقها الثالثة . وروي أن سائلاً سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أين الثالثة ؟ فقال عليه السلام ( أو تسريح بإحسان ) . انتهى كلامه .
وتفسير : التسريح بإحسان ، أن لا يراجعها حتى تبين بالعدة ، هو قول الضحاك ، والسدي . وقوله : أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها ، كلام لا يتضح تركيبه على تفسير قوله : أو تسريح بإحسان ، لأنه يقتضي أن يراجعها مراجعة حسنة مقصوداً بها الإحسان والتآلف والزوجية ، فيصير هذا قسيم قوله : ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ( فيكون المعنى : فامساك بمعروف أو مراجعة مراجعة حسنة . وهذا كلام لا يلتئم أن يفسر به ) أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( ولو فسر به فإمساك بمعروف لكان صواباً . وأما قوله : وقيل بأن يطلقها الثالثة ، فهو قول مجاهد وعطاء وجمهور السلف ، وعلماء الأمصار .
قال ابن عطية : ويقوى هذا القول عندي من ثلاثة وجوه .
أولها : أنه روي أن رجلاً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يا رسول الله هذا ذكر الطلقتين ، فأين الثالثة ؟ فقال عليه السلام : ( هي قوله : ) أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( ) .
والوجه الثاني : أن التسريح من ألفاظ الطلاق ، ألا ترى أنه قد قرىء : وان عزموا السراح ؟ .
والوجه الثالث : أن فعل تفعيلاً ، هذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلاً مكرراً على الطلقة الثانية ، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل . انتهى كلامه . وهو كلام حسن .
والذي يدل عليه ظاهر اللفظ : أن : الطلاق ، الألف واللام فيه للعهد ، وهو الطلاق الذي تقدم قبل قوله : ) وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ ( وهو ما كان الطلاق رجعياً ، وأن قوله : ) مَرَّتَانِ ( بيان لعدد هذا الطلاق ، وأن قوله : ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ( بالفاء التي هي للتعقيب بعد صدور الطلقتين ، ووقوعها كناية عن الرد بعد الطلقة الثانية ، وفاء التعقيب تقتضي التعدية ، وأن قوله : ) أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( صريح في الطلقة الثالثة ، لأنه معطوف على ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ( وما عطف على المتعقب بعد شيء لزم فيه أن يكون متعقباً لذلك الشيء ، فجعل له حالتان بعد الطلقتين ، إما أن يمسك بمعروف ، وإما أن يطلق بإحسان . إلاَّ أن العطف بأو ينبو عنه الدلالة على هذا المعنى ، لأنه يدل على أحد الشيئين ، ويقوي إذ ذاك أن يكون التسريح كناية عن التخلية والترك ، لأن المعنى يكون : الطلاق مرتين فبعدهما أحد أمرين : إما الامساك ، وهو كناية عن الردّ ، وإما التسريح ، فيكون كناية عن التخلية . واستمرار التسريح لا إنشاء التسريح ، وإما أن تدل على إيقاع التسريح بعد الإمساك المعبر به عن الردّ ، فإن قدر شرط محذوف ، وجعل : فإمساك ، جواباً لذلك الشرط ، وجعل الإمساك كناية عن استمرار الزوجية ، أمكن أن يراد بالتسريح إنشاء الطلاق ، فيكون التقدير : فإن أوقع التطليقتين وردّ الزوجة ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( ، لأن الرد يعتقبه أحد هذين ، إما الاستمرار على الزوجية ، فيكون بمعروف ، وإما الطلقة الثالثة ويكون بإحسان .
وقال في ( المنختب ) ما ملخص منه : الطلاق مرتان ، قال قوم هو مبتدأ لا تعلق له بما قبله ، ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع دفعة واحدة ، وهذا تفسير من قال : الجمع بين الثلاث حرام ، وهو مذهب أبيّ ، وجماعة من الصحابة . والألف واللام للاستغراق ، والتقدير : كل الطلاق مرتان ، ومرة

" صفحة رقم 205 "
ثالثة ، وهذا يفيد التفرق لأن المرّات لا تكون إلاَّ بعد تفرق الاجتماع ، ولفظه خبر ، ومعناه الأمر ، والقائلون بهذا قالوا : لو طلقها ثلاثاً أو اثنتين ، اختلفوا فقال كثير من علماء البيت : لا يقع إلاَّ الواحدة ، لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع إدخال لتلك المفسدة في الوجود ، وإنه غير جائز .
وقال أبو حنيفة : يقع ما لفظ به بناء على أن النهي لا يدل على الفساد .
وقال قوم : هو متعلق بما قبله ، والمعنى : أن الطلاق الرجعي مرتان ، ولا رجعة بعد الثلاث ، وهذا تفسير من جوّز الجمع بين الثلاث ، وهو مذهب الشافعي رحمة الله تعالى ، وذلك أن الآية قبلها ذكر فيها أن حق المراجعة ثابت للزوج ، ولم يذكر أنه ثابت دائماً أو إلى غاية معينة ، فكان ذلك كالمجمل المفتقر المبين أو كالعام المفتقر إلى المخصص ، فبين ما ثبت فيه الرجعة وهو : أن يوجد طلقتان ، وأما الثالثة فلا تثبت الرجعة فالألف واللام في : الطلاق ، للمعهود السابق ، وهو الطلاق الذي تثبت في الرجعة ، ورجح هذا القول بأن قوله : .
( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ ( إن كان عاماً في كل الاحوال احتاج إلى مخصص ، أو مجملاً لعدم بيان شرط تثبت الرجعة عنده افتقر إلى البيان ، فجعلها متعلقة بما قبلها محصل للمخصص أو للمبين فهو أولى من أن يكون كذلك ، لأن البيان عن وقت الخطاب ، وإن كان جائزاً تأخيره فالأرجح أن لا يتأخر ، وبأن حمله على ذلك يدخل سبب النزول فيه ، وحمله على تنزيل حكم آخر أجنبي يخرجه عنه ، ولا يجوز أن يكون السبب خارجاً عن العموم .
وقال في ( المنتخب ) أيضاً ما ملخص منه : معنى التسريح قبل وقوع الطلقة الثالثة ، وقبل ترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة ، وهذا هو الأقرب ، لأن الفاء في قوله : ) فَإِن طَلَّقَهَا ( تقتضي وقوع هذه الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح ، فلو أريد به الثالثة لكان : فان طلقها طلقة رابعة ، وإنه لا يجوز ، ولأن بعده ولا يحل لكم أن تأخذوا ، والمراد به الخلع ، ومعلوم أنه لا يصح بعد الثلاث ، فإن صح تفسير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) للتسريح هنا أنها الثالثة ، فلا مزيد عليه . إنتهى ما قصد تلخيصه من المنتخب .
ولا يلزم بما ذكر أن يكون قوله : فإن طلقها رابعة ، كما قال ، لأنه فرض التسريح واقعاً ، وليس كذلك ، لأنه ذكر أحد أمرين بعد أن يطلق مرتين : أحدهما أن يردّ ويمسك بمعروف ، والآخران يسرح بعد الردّ بإحسان فالمعنى أن الحكم أحد أمرين ، ثم قال : فإن وقع أحد الأمرين : وهو الطلاق ، فحكمه كذا ، فلا يلزم أن يكون هذا الواقع مغايراً لأحد الأمرين السابقين ، كما تقول : الرأي عندي أن تقيم أو ترحل ، فإن رحلت كان كذا ، فلا يدل قوله : فإن رحلت على أنه رحيل غير المتردّد في حصوله ، ولا يدل التردّد في الحكم بين الإقامة والرحيل على بوقوع الرحيل ، لأن المحكوم عليه أحد الأمرين ، ولا يلزم أيضاً ما ذكر من ترتب الخلع بعد الثلاث ، وهو لا يصح لما ذكرناه من أن الحكم هو أحد أمرين ، فلا يدل على وقوع الطلاق الثالث ، بل ذكر الخلع قبل ذكر وقوع الطلاق الثالث ، لأنه بعده ، وهو قوله : ) فَإِن طَلَّقَهَا ( وأيضاً لو سلمنا وقوع الطلاق الثالث قبل وقوعه ) وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ ( ولم يلزم أن يكون الخلع بعد الطلاق الثالث ، لأن الآية جاءت لتبيين حكم الخلع ، وإنشاء الكلام فيه ، وكونها سيقت لهذا المعنى بعد ذكر الطلاق الثالث في التلاوة لا يدل على الترتيب في الوجود ، فلا يلزم ما ذكر إلاَّ بلو صرح بقيد يقتضى تأخر الخلع فى الوجود عن وجود الطلاق الثالث ، وليس كذلك ، فلا يلزم ما ذكره .
وارتفاع قوله : ) فَإِمْسَاكٌ ( على الابتداء والخبر محذوف قدره ابن عطية متأخراً تقديره : أمثل وأحسن ، وقدره غيره متقدماً أي : فعليكم إمساك بمعروف ، وجوّز فيه ابن عطية أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : فالواجب إمساك ، و : بمعروف ، وبإحسان ، يتعلق كل منهما بما يليه من المصدر ، و : الباء ، للالصاق ، وجوز أن يكون المجرور صفة لما قبله ، فيتعلق بمحذوف ، وقالوا : يجوز في العربية ولم يقرأ به نصب إمساك ، أو تسريح ، على المصدر أي : فامسكوهنّ إمساكاً بمعروف ، أو سرّحوهنّ تسريحاً بإحسان .
( وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ( الآية . سبب النزول أن جميلة بنت عبد الله بن أبيّ . كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت تبغضه وهو يحبها ، فشكته إلى أبيها فلم يشكها ، ثم شكته إليه ثانية وثالثة وبها أثر ضرب فلم يشكها ، فأتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وشكته إليه وأرته أثر الضرب ، وقالت : لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شيء ، والله لا أعتب عليه في دين ولا خلق ، لكني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضاً ، إنى رفعت جانب الخيام فرأيته أقبل في عدة وهو أشدهم سواداً ، وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجهاً ، فقال ثابت : ما لي أحب إلى منها بعدك يا رسول الله ، وقد اعطيتها حديقة تردها عليّ ،

" صفحة رقم 206 "
وأنا أخلي سبيلها ، ففعلت ذلك فخلى سبيلها ، وكان أول خلع في الإسلام ، ونزلت الآية .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان ، اقتضى ذلك أن من الإحسان أن يأخذ الزوج من امرأته شيئاً مما أعطى واستثنى من هذه الحالة قصة الخلع ، فأباح للرجل أن يأخذ منها على ما سنبينه في الآية ، وكما قاله اللهتعالى : ) وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً ( الآية ، والخطاب في : لكم ، وما بعده ظاهره أنه للأزواج ، لأن الأخذ والإيتاء من الإزواج حقيقة ، فنهوا ان يأخذوا شيئاً ، لأن العادة جرت بشح النفس وطلبها ما أعطت عند الشقاق والفراق ، وجوزوا أن يكون الخطاب للأمة والحكام ليلتئم مع قوله : ) فَإِنْ خِفْتُمْ ( لانه خطاب لهم لا للأزواج ، ونسب الأخذ والايتاء إليهم عند الترافع ، لأنهم الذين يمضون ذلك . ومن قال : أنه للأزواج أجاب بأن الخطاب قد يختلف في الجملتين ، فيفرد كل خطاب إلى من يليق به ذلك الحكم ، ولا يستنكر مثل هذا ، ويكون حمل الشيء على الحقيقة إذ ذاك أولى من حمله على المجاز ، ( وَمِمَّا ( ظاهر في عموم وما أتوا على سبيل الصداق أو غيره من هبة ، وقد فسره بعضهم بالصدقات ، واللفظ عام ، ( وشيئاً ( إشارة إلى خطر الأخذ منهن ، قليلاً كان أو كثيراً ، ( وشيئاً ( نكرة في سياق النهي فتعم ، و : مما ، متعلق بقوله : تأخذوا ، أو بمحذوف فيكون في موضع نصب على الحال من قوله : شيئاً ، لأنه لو تأخر لكان نعتاً له .
( إِلاَّ أَن يَخَافَا أَن لا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ( الألف في يخافا ويقيما عائد على صنفي الزوجين ، وهو من باب الالتفات ، لأنه إذا اجتمع مخاطب وغائب ، وأسند إليهما حكم كان التغليب للمخاطب ، فتقول : أنت وزيد تخرجان ، ولا يجوز يخرجان ، وكذلك مع التكلم نحو : أنا وزيد نخرج ، ولما كان الاستثناء بعد مضى الجملة للخطاب جاز الالتفات ، ولو جرى على النسق الأول لكان : إلاَّ أن تخافوا أن لا تقيموا ، ويكون الضمير إذ ذاك عائداً على المخاطبين وعلى أزواجهم ، والمعنى : إلاَّ أن يخافا أي : صنفا الزوجين ، ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من حقوق الزوجية ، بما يحدث من بغض المرأة لزوجها حتى تكون شدة البغض سبباً لمواقعة الكفر ، كما في قصة جميلة مع زوجها ثابت ، ( وَأَنْ يَخَافَا ( قيل : في موضع نصب على الحال ، التقدير : إلاَّ خائفين ، فيكون استثناء من الأحوال ، فكأنه قيل : فلا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً في كل حال إلاَّ في حال الخوف أن لا يقيما حدود الله ، وذلك أنّ : أن ، مع الفعل بتأويل المصدر ، والمصدر في موضع اسم الفاعل فهو منصوب على الحال ، وهذا في إجازته نظر ، لأن وقوع المصدر حالاً لا ينقاس ، فأحرى ما وقع موقعه ، وهو : أن الفعل ، ويكثر المجاز فإن الحال إذ ذاك يكون : أن والفعل ، الواقعان موقع المصدر الواقع موقع اسم الفاعل .
وقد منع سيبويه وقوع : أن والفعل ، حالاً ، نص على ذلك في آخر : هذا باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه في جميع اللغات ، والذي يظهر أنه استثناء من المفعول له ، كأنه قيل : ولا يحل لكم أن تأخذوا بسبب من الأسباب إلاَّ بسبب خوف عدم إقامة حدود الله ، فذلك هو المبيح لكم الأخذ ، ويكون حرف العلة قد حذف مع : أن ، وهو جائز فصيحاً كثيراً ، ولا يجيء هنا ، خلاف الخليل وسيبويه أنه إذا حذف حرف الجر من : أن ، هل ذلك في موضع نصب أو في موضع جر ؟ بل هذا في موضع نصب ، لأنه مقدر بالمصدر لو صرح به كان منصوباً ، واصلاً إليه العامل بنفسه ، فكذلك هذا المقدر به ، وهذا الذي ذكرناه من أنَّ : أن والفعل ، إذا كانا في موضع المفعول من أجله ، فالموضع نصب لا غير ، منصوص عليه من النحويين ، ووجهه ظاهر .
ومعنى الخوف هنا الإيقان ، قاله أبو عبيدة ، أو : العلم أي إلاَّ أن يعلما ، قاله ابن سلمه ، وإياه أراد أبو محجن ، بقوله :

" صفحة رقم 207 "
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
ولذلك رفع الفعل بعد : أن ، أو : الظن ، قاله الفراء ، وكذلك قرأ أبي : إلاَّ أن يظنا ، وأنشد : أتاني كلام من نصيب بقوله
وما خفت يا سلام أنك عايبي
والأولى بقاء الخوف على بابه ، وهو أن يراد به الحذر من الشيء ، فيكون المعنى : إلاَّ أن يعلم . أو يظن أو يوقن أو يحذر ، كل واحد منهما بنفسه ، أن لا يقيم حقوق الزوجية لصاحبه حسبما يجب ، فيجوز الأخذ .
وقرأ عبد الله : إلاَّ أن يخافوا أن لا يقيموا حقوق ، أي إلاَّ أن يخاف الأزواج والزوجات ، وهو من باب الالتفات إذ لو جرى عليه النسق الأول لكان بالتاء ، وروي عن عبد الله أنه قرأ أيضاً : إلاَّ أن تخافوا بالتاء .
وقرأ حمزة ، ويعقوب ، ويزيد بن القوقاع ؛ إلاَّ أن يُخافوا ، بضم الياء ، مبنياً للمفعول ، والفاعل المحذوف : الولاة .
وأن لا يقيما ، في موضع رفع بدل من الضمير أي : إلاَّ أن يخاف عدم إقامتهما حدود الله ، وهو بد اشتمال ، كما تقول : الزيد ان أعجباني حسنهما ، والأصل : إلاَّ أن يخافوا ، أنها : الولاة ، عدم إقامتهما حدود الله .
وقال ابن عطية : في قراءة يخافا بالضم ، أنها تعدت خاف إلى مفعولين : أحدهما أسند الفعل إليه ، والآخر بتقدير حرف جر بمحذوف ، فموضع أن خفض الجار المقدر عند سيبويه ، والكسائي ، ونصب عند غيرهما ، لأنه لما حذف الجار المقدر وصل الفعل إلى المفعول الثاني ، مثل : استغفر لله ذنباً ، وأمرتك الخير . إنتهى كلامه . وهو نص كلام أبي علي الفارسي نقله من كتابه ، إلا التنظير باستغفر ، وليس بصحيح تنظير ابن عطية خاف باستغفر ، لأن خاف لا يتعدى إلى اثنين ، كاستغفر الله ، ولم يذكر ذلك النحويون حين عدوا ما يتعدى إلى اثنين ، وأصل أحدهما بحرف الجر ، بل إذا جاء : خفت زيداً ضربه عمراً ، كان ذلك بدلاً ، إذ : من ضربه عمراً كان مفعولاً من أجله ، ولا يفهم ذلك على أنه مفعول ثان ، وقد وهم ابن عطية في نسبة أن الموضع خفض في مذهب سيبويه ، والذي نقله أبو علي وغيره أن مذهب سيبويه أن الموضع بعد الحذف نصب ، وبه قال الفراء ، وأن مذهب الخليل أنه جر ، وبه قال الكسائي . وقدَّر غير ابن عطية ذلك الحرف المحذوف : على ، فقال : والتقدير إلاَّ أن يخافا على أن يقيما ، فعلى هذا يمكن أن يصح قول علي وفيه بعد وقد طعن في هذه القراءات من لا يحسن توجيه كلام العرب ، وهي قراءة صحيحة مستقيمة في اللفظ وفي المعنى ، ويؤيدها قوله بعد : فإن خفتم ، فدل على أن الخوف المتوقع هو من غير الأزواج ، وقد اختار هذه القراءة أبو عبيد .
قال أبو جعفر الصفار : ما علمت في اختيار حمزة أبعد من هذا الحرف لأنه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى ، أما الإعراب فإن يحتج له بقراءة عبد الله بن مسعود : إلاَّ أن يخافوا أن لا يقيموا ، فهو في العربية إذ ذاك لما لم يسم فاعله ، فكان ينبغي أن لو قيل إلاَّ أن يخافا أن لا يقيما ؟ وقد احتج الفراء لحمزة ، وقال : إنه اعتبر قراءة عبد الله : إلاَّ أن يخافوا ، وخطأه أبو علي ، وقال : لم يصب ، لأن الخوف في قراءة عبد الله واقع على : أن ؛ وفي قراءة حمزة واقع على الرجل والمرأة ، وأما اللفظ فإن كان صحيحاً فالواجب أن يقال : فإن خيفا ، وإن كان على لفظ : فإن ، وجب أن يقال إلاَّ أن يخافوا . وأما المعنى فإنه يبعد أن يقال : لا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيمتوهنّ شيئاً إلاَّ أن يخاف غيركم ، ولم يقل جل وعزّ : فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية ، فيكون الخلع إلى السلطان ، وقد صح عن عمر وعثمان أنهما أجازا الخلع بغير سلطان . إنتهى كلام الصفار ، وما ذكره لا يلزم ، وتوجيه قراءة الضم ظاهر ، لأنه لما قال : ولا يحل لكم وجب على الحكام منه من أراد أن يأخذ شيئاً من ذلك ، ثم قال : إلاَّ أن يخافا ، الضمير للزوجين ، والخائف محذوف وهم : الولاة والحكام والتقدير : إلاَّ حين يخاف الأولياء الزوجين أن لا يقيما حدود الله ، فيجوز الافتداء ، وتقدم تفسير الخوف هنا .
وأما قوله : فوجب أن يقال : فإن خيفاً فلا يلزم ، لأن هذا من باب الالتفات ، وهو في القرآن كثير ، وهو من محاسن العربية ، ويلزم من فتح الياء أيضاً على

" صفحة رقم 208 "
قول الصفار أن يقرأ : فإن خافاً ، وإنما هو في القراءتين على الالتفات ، وأما تخطئة الفراء فليست صحيحة ، لأن قراءة عبد الله : إلاَّ أن يخافوا ، دلالة على ذلك ، لأن التقدير : إلاَّ أن يخافوهما أن لا يقيما ، والخوف واقع في قراءة حمزة على أن ، لأنها في موضع رفع على البدل من ضميرهما ، وهو بدل الاشتمال كما قررناه قبل ، فليس على ما تخيله أبو علي ، وذلك كما تقول : خيف زيد شره ، وأما قوله : يبعد من جهة المعنى ، فقد تقدّم الجواب عنه ، وهو أن لهما المنع من ذلك ، فمتى ظنوا أو أيقنوا ترك إقامة حدود الله ، فليس لهم المنع من ذلك ، وقد اختار أبو عبيدة قراءة الضم ، لقوله تعالى : فإن خفتم ، فجعل الخوف لغير الزوجين ، ولو أراد الزوجين لقال : فإن خافا .
وقد قيل : إن قوله : ) وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ ( ( إلى آخره ، جملة معترضة بين قوله : ) ( إلى آخره ، جملة معترضة بين قوله : ) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( وبين قوله : ) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ).
) فَإِنْ خِفْتُمْ ( : الضمير للأولياء أو السلطان ، فإن لم يكونوا فلصلحاء المسلمين ، وقيل : عائد على المجموع من قام به أجزأ .
( أَن لا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ( وترك إقامة الحدود هو ظهور النشوز وسوء الخلق منها ، قاله ابن عباس ، ومالك ، وجمهور الفقهاء ؛ أو عدم طواعية أمره وإبرار قسمه ، قاله الحسن ، والشعبي : وإظهار حال الكراهة له بلسانها ، قاله عطاء . وعلى هذه الأقوال الثلاثة قيل : تكون التثنية أريد بها الواحد ، أو كراهة كل منهما صاحبه ، فلا يقيم ما أوجب الله عليه من حق صاحبه ، قاله طاووس ، وابن المسيب . وعلى هذا القول التثنية على بابها .
وروي أن امرأة نشزت على عهد عمر ، فبيتها في اصطبل في بيت الزبل ثلاث ليال ، ثم دعاها ، فقال : كيف رأيت مكانك ؛ فقالت ما رأيت ليالي أقرّ لعيني منها ، وما وجدت الراحة مذ كنت عنده إلاَّ هذه الليالي . فقال عمر : هذا وأبيكم النشوز ، وقال لزوجها إجلعها ولو من قرطها ، اختلعها بما دون عقاص رأسها ، فلا خير لك فيها .
( فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ( هذا جواب الشرط ، قالوا : وهو يقتضي مفهومه أن الخلع لا يجوز إلاَّ بحضور من له الحكم من سلطان أو ولي ، وخوفه ترك إقامة حدود الله ، وما قالوه من اقتضاء المفهوم وجود الخوف صحيح ، أما الحضور فلا .
وظاهر قوله : ) وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ ( إذا كان خطاباً للأزواج أنه لا يشترط ذلك ، وخصّ الحسن الخلع بحضور السلطان ، والضمير في : عليهما ، عائد على الزوجين معاً ، أي : لا جناح على الزوج فيما أخذ ، ولا على الزوجة فيما افتدت به .
وقال الفراء : عليهما ، أي : عليه ، كقوله : ) يَخْرُجُ مِنْهُمَا ( أي : المالح ) نَسِيَا حُوتَهُمَا ( والناسي يوشع قال الشاعر : فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر
وان تدعاني أحم عرضاً ممنَّعاً
وظاهر قوله : ) فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ( العموم بصداقها ، وبأكثر منه ، وبكل مالها قاله عمر ، وعثمان ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والنخعي ، والحسن ، وقبيصة بن ذؤيب ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو ثور ، وقضى بذلك عمر ؛ وقيل : فيما أفتدت به من الصداق وحده من غير زيادة منه ، قاله علي ، وطاووس ، وعمرو بن شعيب ، وعطاء ، والزهري ، وابن المسيب ، والشعبي ، والحسن ، والحكم ، وحماد ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن الربيع ، وكان يقرأ ، هو والحسن : فيما افتدت به منه ، بزيادة : منه ، يعني مما أتيتموهنّ ، وهو المهر ؛ وحكى مكي هذا القول عن أبي حنيفة ، وقيل : ببعض صداقها ، ولا يجوز بجميعه إذا دخل بها حتى يبقى منه بقية ليكون بدلاً عن استمتاعه بها .
وظاهر قوله : ) فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ( تشريكهما في ترك إقامة الحدود ، وأن جواز الأخذ منوط بوجود ذلك منهما معاً . وقد حرّم الله على الزوج أن يأخذ إلاَّ بعد الخوف أن لا يقيما حدود الله ، وأكد التحريم بقوله : ) فَلاَ تَعْتَدُوهَا ( ثم توعد على الإعتداء ، وأجمع عامة أهل

" صفحة رقم 209 "
العلم على تحريم أخذ مالها إلاَّ أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها ، قال ابن المنذر : روينا معنى ذلك عن ابن عباس ، والشعبي ، ومجاهد ، وعطاء ، والنخعي ، وابن سيرين ، والقاسم ، وعروة ، وحميد بن عبد الرحمن ، وقتادة ، والثوري ، ومالك ، وإسحاق ، وأبي ثور .
وقال مالك ، والشعبي ، وغيرهما : إن كان مع فساد الزوجة ونشوزها فساد من الزوج ، وتفاقم ما بنيهما ، فالفدية جائزة للزوج . قال أبو محمد بن عطية : ومعنى ذلك أن يكون الزوج ، لو ترك فساده لم يزل نشوزها هي ، وأما إن انفرد الزوج بالفساد فلا أعلم أحداً يجيز له الفدية إلاَّ ما روي عن أبي حنيفة أنه قال : إذا جاء الظلم والنشوز من قبله ، فخالعته ، فهو جائز ماض ، وهو آثم لا يحل ما صنع ، ولا يرد ما أخذ ، وبه قال أصحابه : أبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ؛ وقال مالك : يمضى الطلاق إذ ذاك ، ويرد عليها مالها .
وقال الأوزاعي ، في من خالع امرأته وهي مريضة : إن كانت ناشزة كان في ثلثها ، أو غير ناشزة رد عليها وله عليها الرجعة ، قال : ولو اجتمعا على فسخ النكاح قبل البناء منها ، ولم يبن منها نشوز ، لم أر بذلك بأساً .
وقال الحسن بن صالح ، وعثمان البتي : إن كانت الإساءة من قبله فليس له أن يخلعها ، أو من قبلها فله ذلك على ما تراضيا عليه .
وظاهر الآية أنه إذا لم يقع الخوف فلا يجوز لها أن تعطي على الفراق ، وشذ بكر بن عبد الله المزني ، فقال : لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجته شيئاً خلعاً ، لا قليلاً ولا كثيراً ، قال : وهذه الآية منسوخة بقوله : ) وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ ( الآية ، وضعف قوله باجماع الأمة على إجازة الفدية ، وبأن المعنى المقترن بآية الفدية غير المعنى الذي في آية إرادة الاستبدال .
واختلفوا : هل يندرج تحت عموم قوله : ) فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ( الضرر ، والمجهول ، كالتمر الذي لم يبد صلاحه ، والجمل الشارد ، والعبد الآبق ، والجنين في البطن ، وما يثمره نخلها ، وما تلده غنمها وإرضاع ولدها منه ؟ وكل هذا وما فرعوا عليه مذكور في كتب الفقه . قالوا : وظاهر قوله : ) فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ( أن الخلع فسخ إذا لم ينوبه الطلاق ، لقوله بعدُ ) فَإِن طَلَّقَهَا ( وأجمعوا على أن هذه هي الثالثة ، فلو كان الخلع قبلها طلاقاً لكانت رابعة ، وهو خلاف الإجماع قاله ابن عباس ، وطاووس ، وعكرمة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور .
وروي عن علي ، وعثمان ، وابن مسعود ، وجماعة من التابعين : أنه طلاق ، وبه قال الجمهور : مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي .
ولا يدل ظاهرها على أن الخلع فسخ كما ذكروا ، لأن الآية إنما جيء بها لبيان أحكام الخلع من غير تعرض له ، أهو فسخ أم طلاق ؟ فلو نوى تطليقتين أو ثلاثاً فقال مالك : هو ما نوى ، وقال أبو حنيفة : إن نوى ثلاثاً فثلاثاً أو اثنتين فواحدة بائنة .
( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ( إشارة إلى الآيات التي تقدمت من قوله : ) وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ ( إلى هنا ، وإبراز الحدود بالاسم الظاهر ، لا بالضمير ، دليل على التعظيم لحدود الله تعالى : وفي تكرار الإضافة تخصيص لها وتشريف ، ويحسن التكرار بالظاهر كون ذلك في جمل مختلفة .
و : تلك ، مبتدأ ، أو : حدود الله ، الخبر . ومعنى : فلا تعتدوها ، أي : لا تجاوزوها إلى ما لم يأمركم به .
( وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( لما نهى عن اعتداء الحدود ، وهو تجاوزها ، وكان ذلك خطاباً لمن سبق له الخطاب قبل ذلك ، أتى بهذه الجملة الشرطية العامّة الشاملة لكل فرد فرد ممن يتعدّى الحدو ، وحكم عليهم أنهم الظالمون ، والظلم ، وهو وضع الشيء في غير موضعه ، فشمل بذلك المخاطبين .
قيل : وغيرهم ، و : من ، شرطية ، والفاء في : فأولئك ، جواب الشرط ، و : حمل ، يتعدّ على اللفظ ، فأفرد ، و : أولئك ، على المعنى . فجمع وأكد بقوله : هم ، وأتى في قوله : الظالمون ، بالالف واللام التي تفيد الحصر ، أو المبالغة في الوصف ، ويحتمل : هم ، أن تكون فصلاً مبتدأ وبدلاً .

" صفحة رقم 210 "
2 ( ) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ) ) 2
)
البقرة : ( 230 ) فإن طلقها فلا . . . . .
فَإِن طَلَّقَهَا ( يعني الزوج الذي طلق مرة بعد مرة ، وهو راجع إلى قوله : ) أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( كأنه قال : فإن سرحها التسريحة الثالثة الباقية من عدد الطلاق . قاله ابن عباس : وقتادة ، والضحاك ، ومجاهد ، والسدي . ومن قول ابن عباس أن الخلع فسخ عصمة وليس بطلاق ، ويحتج بهذه الآية بذكر الله للطلاقين ، ثم ذكر الخلع ، ثم ذكر الثالثة بعد الطلاقين ، ولم يك للخلع حكم يعتدّ به .
وأما من يراه طلاقاً فقال : هذا اعتراض بين الطلقتين والثالثة ذكر فيه أنه لا يحل أخذ شيء من مال الزوجة إلاَّ بالشريطة التي ذكرت ، وهو حكم صالح أن يوجد في كل طلقة طلقة وقوع آية الخلع بين هاتين الآيتين حكمية ، أن الرجعة والخلع لا يصلحان إلاَّ قبل الثالثة ، فأما بعدها فلا يبق شيء من ذلك ، وهي كالخاتمة لجميع الأحكام المعتبرة في هذا الباب .
( فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ( أي : من بعد هذا الطلاق الثالث ) حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( والنكاح يطلق على العقد وعلى الوطء ، فحمله ابن المسيب ، وابن جبير ، وذكره النحاس في معاني القرآن له على العقد ، وقال : إذا عقد عليها الثاني حلت للأول ، وإن لم يدخل بها ولم يصبها ، وخالفه الجمهور لحديث امرأة رفاعة المشهور ، فقال الحسن : لا يحل إلاَّ الوطء والإنزال ، وهو ذوق العسيلة . وقال باقي العلماء : تغييب الحشفة يحل ، وقال بعض الفقهاء : التقاء الختانين يحل ، وهو راجع للقول قبله ، إذ لا يلتقيان إلاّ مع المغيب الذي عليه الجمهور ، وفي قوله : ) حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( دلالة على أن نكاح المحلل جائز ، إذ لم يعني الحل إلاّ بنكاح زوج ، وهذا يصدق عليه أنه نكاح زوج فهو جائز . وإلى هذا ذهب ابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وداود ، وهو قول الأوزاعي في رواية ، والثوري في رواية . وقول الشافعي في كتابه الجديد المصري إذا لم يشترط التحليل في حين العقد ، وقال القاسم ، وسالم ، وربيعة ، ويحيى بن سعد : لا بأس أن يتزوجها ليحللها إذا لم يعلم الزوجان ، وهو مأجور ، وقال مالك : والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي في القديم ، وأبو حنيفة في رواية : لا يجوز ، ولا تحل للأول ، ولا يقر عليه وسواء علماً أم لم يعلما . وعن الثوري أنه لو شرط بطل الشرط ، وجاز النكاح ، وهو قول ابن أبي ليلى في ذلك وفي نكاح المتعة . وقال الحسن ، وابراهيم : إذا علم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح .
وفي قوله : زوجاً غيره ، دلالة على أن الناكح يكون زوجاً ، فلو كانت أمة وطلقت ثلاثاً ، أو اثنتين على مذهب من يرى ذلك ، ثم وطئها سيدها لم تحل للأول ، قاله علي ، وعبيدة ، ومسروق ، والشعبي ، وجابر ، وابراهيم ، وسليمان بن يسار ، وحماد ، وأبو زياد ، وجماعة فقهاء الأمصار . وروي عن عثمان ، وزيد بن ثابت ، والزبير أنه يحلها إذا غشيها غشياناً لا يريد بذلك مخادعة ولا إحلالاً ، وترجع إلى زوجها بخطبة وصداق .
وفي قوله : زوجاً ، دلالة أيضاً على أنه لو كان الزوج عبداً وهي أمة ووهبها السيد له بعد بت طلاقها ، أو اشتراها الزوج بعدما بت طلاقها لم تحل له في الصورتين بملك اليمين حتى تنكح زوجاً غيره .
قال أبو عمر : على هذا جماعة العلماء وأئمة الفتوى : مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وقال ابن عباس ، وعطاء ، وطاووس ، والحسن : تحل بملك اليمين .
وفي قوله : زوجاً غيره ، دلالة على أنه إذا تزوج الذمية المبتوتة من المسلم بالثلاث ذمي ، ودخل بها ، وطلقت حلت للأول . وبه قال الحسن ، والزهري ، والثوري

" صفحة رقم 211 "
والشافعي ، وأبو عبيد ، وأصحاب أبي حنيفة ؛ وقال مالك ، وربيعة : لا يحلها .
وظاهر قوله : حتى تنكح زوجاً ، أنه بنكاح صحيح ، فلو نكحت نكاحاً فاسداً لم يحل ، وهو قول أكثر العلماء : مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وأصحاب أبي حنيفة . وقال الحكم : هو زوج ، وأجمعوا على أن المرأة إذا قالت للزوج الأول : قد تزوجت ، ودخل على زوجي وصدّقها . أنها تحل للأول . قال الشافعي : والورع أن لا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته .
وفي الآية دليل على أن سمي زوج كافٍ ، سواء كان قوي النكاح أم ضعيفه أو صبياً أو مراهقاً أو مجبوباً بقي له ما يغيبه كما يغيب ، غير الخصي ، وسواء أدخله بيده أو بيدها ، وكانت محرمة أو صائمة ، وهذا كله على ما وصف الشافعي قول أبي حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي ، والحسن بن صالح ، وقول بعض أصحاب مالك . وقال مالك في أحد قوليه : لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها ، ومذهب جمهور الفقهاء أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لذلك الزوج إلاّ بخمسة شرائط : تعتدّ منه ، ويعقد للثاني ، ويطأها ، ثم يطلقها ، وتعتدّ منه .
وكون الوطء شرطاً قيل : ثبت بالسنة ، وقيل : بالكتاب ، وهو قول أبي مسلم ، وقيل : هو المختار . لأن أبا عليّ نقل أن العرب تقول : نكح فلان فلانة بمعنى عقد عليها . ونكح امرأته أو زوجته أي : جامعها . وقد مر لنا طرق من هذا .
قال في ( المنتخب ) : بعد كلام كثير محصوله أن قوله : حتى تنكح زوجاً غيره ، يدل على ما تقدّم الزوجية . وهي العقد الحاصل بينهما ، ثم النكاح على من سبقت زوجته ، فيتعين أن يراد به الوطء ، فيكون قوله : تنكح ، دالاً على الوطء ، و : زوجاً : يدل على العقد . ولا يتعين ما قاله ، إذ يجوز أن لا يدل على أن تتقدم الزوجية بجعل تسميته زوجاً بما تؤول إليه حاله ، فيكون التقدير : حتى يعقد على من يكون زوجاً . وقال في ( المنتخب ) أيضاً : أما قول من يقول : الآية لا تدل على الوطء ، وإنما ثبت بالسنة فضعيف ، لأن الآية تقتضي نفي الحل ممدوداً إلى غاية ، وما كان غاية للشيء يجب انتهاء الحكم عند ثبوته ، فيلزم انتفاء الحرمة عند حصول النكاح ، فلو كان النكاح عبارة عن العقد لكانت الآية دالة على وجوب انتهاء هذه الحرمة عند حصول العقد ، فكان رفعها بالخبر نسخاً للقرآن بخبر الواحد ، وأنه غير جائز ، أما إذا حملنا النكاح على الوطء ، وحملنا قوله زوجاً على العقد ، لم يلزم هذا الإشكال . انتهى .
ولا يلزم ما ذكره من هذا الإشكال وهو أنه يلزم من ذلك نسخ القرآن بخبر الواحد ، لأن القائل يقول : لم يجعل نفي الحل منتهياً ، إلى هذه الغاية التي هي نكاحها زوجاً غيره فقط . وإن كان الظاهر في الآية ذلك ، بل ثم معطوفات ، قبل الغاية المذكورة في الآية وما بعدها ، يدل على إرادتها ، وهي غايات أيضاً ، والتقدير : فلا تحل له من بعد ، أي : من بعد الطلاق الثلاث حتى تنقضي عدّتها منه ، وتعقد على زوج غيره ، ويدخل بها ، ويطلقها ، وتنقضي عدتها منه ، فحينئذ تحل للزوج المطلق ثلاثاً أن يتراجعا ، فقد صارت الآية من باب ما يحتاج بيان الحل فيه إلى تقدير هذه المحذوفات وتبيينها ، ودل على إرادتها الكتاب والسنة الثابتة ، وإذا كانت كذلك ، وبين هذه المحذوفات الكتاب والسنة ، فليس ذلك من باب نسخ القرآن بخبر الواحد ، ألا ترى أنه يلزم أيضاً من حمل النكاح هنا على الوطء أن يضمر قبله : حتى تعقد على زوج ويطأها ؟ فلا فرق في الإضمار بين أن يكون مقدماً على الغاية المذكورة المراد به الوطء ، أو يكون مؤخراً عنها إذا أريد به العقد ، فهذا إضمار يدل عليه الكتاب والسنة ، فليس من باب النسخ في شيء .
( فَإِن طَلَّقَهَا ( قيل : الضمير عائد على : زوج ، النكرة ، وهو الثاني ، وأتى بلفظ : إن ، دون إذا تنبيهاً على أن طلاقه يجب أن يكون على ما يخطر له دون الشرط . انتهى . ومعناه أن : إذا ، إنما تأتي للمتحقق ، وإن تأتي للمبهم والمجوز وقوعه وعدم وقوعه ، أو للمحقق المبهم زمان وقوعه ، كقوله تعالى : ) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن ( والمعنى : فإن طلقها وانقضت عدتها منه ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ( أي : على الزوج المطلق الثلاث وهذه الزوجة . قاله ابن عباس ، ولا خلاف فيه بين أهل العلم على أن اللفظ يحتمل أن يعود على الزوج الثاني والمرأة ، وتكون الآية قد أفادت حكمين : أحدهما : أن المبتوتة ثلاثاً تحل للأول بعد نكاح زوج غيره

" صفحة رقم 212 "
بالشروط التي تقدمت ، وهذا مفهوم من صدر الآية ، والحكم الثاني : أنه يجوز للزوج الثاني الذي طلقها أن يراجعها ، لأنه ينزل منزلة الأول ، فيجوز لهما أن يتراجعا ، ويكون ذلك دفعاً لما يتبادر إليه الذهن من أنه إذا طلقها الثاني حلت للأول ، فبكونها حلت له اختصت به ، ولا يجوز للثاني أن يردها ، فيكون قوله : ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ( مبيناً أن حكم الثاني حكم الأول ، وأنه لا يتحتم أن الأول يراجعها ، بل بدليل إن انقضت عدّتها من الثاني فهي مخيرة فيمن يرتد منهما أن تتزوجه ، فإن لم تنقضِ عدّتها ، وكان الطلاق رجعياً ، فلزوجها الثاني أن يراجعها ، وعلى هذا لا يحتاج إلى حذف بين قوله : ) فَإِن طَلَّقَهَا ( وبين قوله : ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ( ويحتاج إلى الحذف إذا كان الضمير في : عليهما ، عائداً على المطلق ثلاثاً وعلى الزوجة ، وذلك المحذوف هو ، وانقضت عدّتها منه ، أي : فإن طلقها الثاني وانقضت عدتها منه فلا جناح على المطلق ثلاثاً والزوجة أن يتراجعا ، وقوله : ) إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ( أي : إن ظن الزوج الثاني والزوجة أن يقيما حدود الله ، لأن الطلاق لا يكاد يكون في الغالب إلاَّ عند التشاجر والتخاصم والتباغض ، وتكون الضمائر كلها منساقة انسياقاً واحداً لا تلوين فيه ، ولا اختلاف مع استفادة هذين الحكمين من حمل الضمائر على ظاهرها ، وهذا الذي ذكرناه غير منقول ، بل الذي فهموه هو تكوين الضمائر واختلافها .
( أَن يَتَرَاجَعَا ( أي : في أن يتراجعا ، والضمير في : عليهما ، وفي : أن يتراجعا ، على ما فسروه ، عائد على الزوج الأوّل والزوجة التي طلقها الزوج الثاني .
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنه الحر ، إذا طلق زوجته ثلاثاً . ثم انقضت عدتها ، ونكحت زوجاً ودخل بها ، ثم نكحها الأول ، أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات ثم ترجع إلى الأول ؛ فقالت طائفة : تكون على ما بقي من طلاقها ، وبه قال أكابر الصحابة : عمر ، وعلي ، وأبي ، وعمران بن حصين ، وأبو هريرة ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ومن التابعين : عبيدة السلماني ، وابن المسيب ، والحسن ، ومن الأئمة : مالك ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، ومحمد بن الحسن ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن نصر .
وقالت طائفة : يكون على نكاح جديد بهدم الزوج الثاني الواحدة والثنتين كما يهدم الثلاث ، وبه قال ابن عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، والنخعي ، وشريح ، وأصحاب عبد الله إلاَّ عبيدة وهو مذهب أبي حنيفة ، وأبي يوسف .
وقيل : قول ثالث إن دخل بها الآخر فطلاق جديد ، ونكاح الأول جديد ، وإن لم يكن يدخل بها فعلى ما بقي .
( إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ( أي إن ظن كل واحد منهما أنه يحسن عشرة صاحبه ، وما يكون له التوافق بينهما من الحدود التي حدها الله لكل واحد منهما ، وقد ذكرنا طرقاً مما لكل واحد منهما على الآخر في قوله : ) وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِينَ عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( وقال ابن خويز : اختلف أصحابنا ، يعني أصحاب مالك ، هل على الزوجة خدمة أم لا ؟ فقال بعضهم : ليس على الزوجة أن تطالب بغير الوطء . وقال بعضهم : عليها خدمة مثلها ، فإن كانت شريفة المحل ، ليسار أبوة أو ترفة ، فعليها تدبير أمر المنزل وأمر الخادم ، وإن كانت متوسطة الحال فعليها ان تفرش الفراش ونحوه ، وإن كانت من نساء الكرد والدين في بلدهن كلفت ما تكلفه نساؤهم ، وقد جرى أمر المسلمين في بلدانهم ، في قديم الأمر وحديثه ، بما ذكرنا . ألا ترى أن نساء الصحابة كنّ يُكلَّفنّ الطحن والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك ، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك ، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصَّرن في ذلك .
و : إن ظنا ، شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه ، فيكون جواز التراجع موقوفاً على شرطين : أحدهما : طلاق الزوج الثاني ، والآخر : ظنهما إقامة حدود الله ، ومفهوم الشرط الثاني أنه لا يجوز : إن لم يظنا ، ومعنى الظن هنا تغليب أحد الجائزين ، وبهذا يتبين أن معنى الخوف في آية الخلع معنى الظن ، لأن مساق الحدود مساق واحد .
وقال أبو عبيدة وغيره المعنى : أيقنا ، جعل الظن هنا

" صفحة رقم 213 "
بمعنى اليقين ، وضعف قولهم بأن اليقين لا يعلمه إلاَّ الله ، إذ هو مغيب عنهما .
قال الزمخشري : ومن فسر العلم هنا بالظن فقدوهم من طريق اللفظ ، والمعنى : لأنك لا تقول : علمت أن تقوم زيد ، ولكن : علمت أنه يقوم زيد ، ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد ، وإنم يظن ظناً . انتهى كلامه .
وما ذكره من : أنك لا تقول علمت أن يقوم زيد ، قد قاله غيره ، قالوا : إن أن الناصبة للمضارع لا يعمل فيها فعل تحقيق ، نحو : العلم واليقين والتحقيق ، وإنما يعمل في أن المشددة ، قال أبو علي الفارسي في ( الإيضاح ) : ولو قلت علمت أن يقوم زيد ، فنصبت الفعل : بأن ، لم يجز ، لأن هذا من مواضع : أن ، لأنها مما قد ثبت واستقر ، كما أنه لا يحسن : أرجو انك تقوم ، وظاهر كلام أبي علي الفارسي مخالف لما ذكره سيبويه من أن يجوز أن تقول : ما علمت إلاَّ أن يقوم زيد ، فأعمل : علمت ، في : أن .
قال بعض أصحابنا : ووجه الجمع بينهما أن : علمت ، قد تستعمل ويراد بها العلم القطعي ، فلا يجوز وقوع : أن ، بعدها كما ذكره الفارسي ، وقد تستعمل ويراد بها الظن القوي ، فيجوز أن يعمل في : أن ، ويدل على استعمالها ولا يراد بها العلم القطعي قوله : ) فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ ( فالعلم هنا إنما يراد به الظن القوي ، لأن القطع بإيمانهنّ غير متوصل إليه وقول الشاعر : وأعلم علم حق غير ظن
وتقوى الله من خير المعاد
فقوله : علم حق ، يدل على أن العلم قد يكون غير علم حق ، وكذلك قوله : غير ظن ، يدل عليه أنه يقال : علمت وهو ظان ، ومما يدل على صحة ما ذكره سيبويه من أن : علمت ، قد يعمل في : أن ، إذا أريد بها غير العلم القطعي قول جرير : نرضى عن الله أن الناس قد علموا
أن لا يدانينا من خلقه بشر
فأتى بأن ، الناصبة للفعل بعد علمت . انتهى كلامه .
وثبت بقول جرير وتجويز سيبويه أن : علم ، تدخل على أن الناصبة ، فليس بوهم ، كما ذكر الزمخشري من طريق اللفظ .
وأما قوله : لأن الإنسان لا يعلم ما في غد ، وإنما يظن ظناً ، ليس كما ذكر ، بل الإنسان يعلم أشياء كثيرة مما يكون في الغد ، ويجزم بها ولا يظنها .
والفاء في : فلا تحل ، جواب الشرط ، وله ، ومن بعد ، وحتى ، ثلاثتها تتعلق بتحل ، واللام معناها التبليغ ، ومن ابتداء الغاية ، وحتى للتعليل . وبُني لقطعه عن الإضافة ، إذ تقديره من بعد الطلاق الثالث ، وزوجاً أتى به للتوطئة ، أو للتقييد أظهرهما الثاني ؛ فإن كان للتوطئة لا للتقييد فيكون ذكره على سبيل الغلبة لأن الإنسان أكثر مما يتزوج الحرائر ، ويصير لفظ الزوج كالملغى ، فيكون في ذلك دلالة على أن الأمة إذا بتّ طلاقها ووطئها سيدها حلّ للأول نكاحها ، إذ لفظ الزوج ليس بقيد ؛ وإن كان للتقييد ، وهو الظاهر ، فلا يحللها وطىء سيدها .
والفاء في : فلا جناح ، جواب الشرط قبله ، وعليهما ، في موضع الخبر ، أما المجموع : جناح ، إذ هو مبتدأ على رأي سيبويه ، وإما على أنه خبر : لا ، على مذهب أبي الحسن ، و : أن يتراجعا ، أي : في أن يتراجعا ، والخلاف بعد حذف : في ، أبقى : أن ، مع ما بعدها في موضع نصب ، أم في موضع جر ، تقدم لنا ذكره ، و : أن يقيما ، في موضع المفعولين سد مسدهما لجريان المسند والمسند إليه في هذا الكلام على مذهب سيبويه ، والمفعول الثاني محذوف على مذهب أبي الحسن ، وأبي العباس .
( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( تلك : مبتدأ ، و : حدود خبر ، و : يبينها يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، أي مبينة ، والعامل فيها اسم الإشارة ، وذو الحال : حدود الله ، كقوله تعالى : ) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً ( و : لقوم ، متعلق : بيبينها ، و : تلك ، إشارة إلى ما تقدم من الأحكام ، وقرىء : نبينها ، بالنون على طريق الالتفات ، وهي قراءة تروى عن عاصم .
ومعنى التبين هنا : الإيضاح ، وخصّ المبين لهم بالعلم تشريفاً لهم ، لأنهم الذين ينتفعون بما بين الله تعالى من نصب دليل

" صفحة رقم 214 "
على ذلك من قول أو فعل ، وإن كان التبين بمعنى خلق البيان ، فلا بد من تخصيص المبين لهم الذين يعلمون بالذكر ، لأن من طبع على قلبه لا يخلق في قلبه التبيين .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نهي الله عباده عن ابتذال اسمه تعالى ، وجعله كثير الترداد ، وعلى ألسنتهم في أقسامهم على بر وتقوى وإصلاح ، فدل ذلك على أن مبالغة النهي عن ذلك في أقسامهم على ما ينافي البر والتقوى والصلاح بجهة الأحرى ، وأَلاولى ، لأن الإكثار من اليمين بالله تعالى فيه عدم مبالاة واكتراث المقسم به ، إذ الأيمان معرضة لحنث الإنسان فيها كثيراً ، وقل أن يرى كثير الحلف إلاَّ كثير الحنث . ثم ختم هذه الآية بأنه تعالى سميع لأقوالهم ، عليم بنياتهم .
ولما تقدم النهي عن ما ذكرناه ، سامحهم الله تعالى بأن ما كان يسبق على ألسنتهم على سبيل اللغو ، وعدم القصد لليمين ، لا يؤاخذون . به ، وإنما يؤاخذ بما انطوى عليه الضمير ، وكسبه القلب بالتعهد ، ثم ختم هذه الآية بما يدل على المسامحة في لغو اليمين من صفة الغفران والحلم .
ولما تقدّم كثير من الأحكام مع النساء ذكر حكم الإيلاء مع النساء ، وهو : الحلف على الامتناع من وطئهنّ ، فجعل لذلك مدّة ، وهو أربعة أشهر أقصى ما تصبر المرأة عن زوجها غالباً ، ثم بعد انتظار هذه المدة وانقضائها إن فاء فإن الله غفور لا يؤاخذه بل يسامحه في تلك اليمين ، وإن عزم الطلاق أوقعه .
ولما جرى ذكر الطلاق استطرد إلى ذكر جملة من أحكامه فذكر عدّة المطلقة وأنها : ثلاثة قروء ، ودل ذكر القرء على أن المراد بالمطلقات هنّ النساء اللواتي يحضن ويطهرن ، ولم يطلقن قبل المسيس ولا هنّ حوامل ، ودل على إرادة هذه المخصصات آيات أخر ، وذكر تعالى أنه لا يحل لهنّ كتمان ما خلق الله في أرحامهنّ ، فعمّ الدم والولد لأنهنّ كنّ يكتمن ذلك لأغراض لهنّ ، وعلق ذلك على الإيمان بالله وهو الخالق ما في أرحامهنّ ، وعلى الإيمان بالله واليوم الآخر وهو الوقت الذي يقع فيه الحساب ، والثواب والعقاب على ما يرتكبه الإنسان من تحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرّم الله ، ومخالفته فيما شرع .
ثم ذكر تعالى أن أزواجهنّ الذين طلقوهنّ أحق بردّهنّ في مدّة العدّة ، وشرط في الأحقية إرادة إصلاح الأزواج ، فدل على أنه إذا قصد برجعتها الضرر لا يكون أحق بالردّ ، ثم ذكر تعالى أن للزوجة حقوقاً على الرجل ، مثل ما أن للرجل حقوقاً على الزوجة ، فكل منهما مطلوب بإيفاء ما يجب عليه ، ثم ذكر أن للرّجل مزيد مزية ودرجة على المرأة ، فيكون حق الرجل أكثر ، وطواعية المرأة له ألزم ، ولم يبين الدرجة ما هي ، ويظهر أنها ما يؤلف من كثرة الطواعية ، والاهتبال بقدره ، والتعظيم له ، لأن قبله بالمعروف وهو الشيء الذي عرفه الناس في عوائدهم من كثرة تودّد المرأة لزوجها وامتثال ما يأمر به وختم هذه الآية يوصف العزة وهي : الغلبة ، والقهر ؛ و : الحكمة ، وهي وضع الشيء موضع ما يليق به ، وهما الوصفان اللذان يحتاج إليهما التكليف .
ثم ذكر تعالى أن الطلاق الذي يستحق فيه الزوج الرجعة في تلك العدّة ، هو مرتان طلقة بعد طلقة وبعد وقوع الطلقتين ، إمّا أن يردّها ويمسكها بمعروف ، أو يسرحها بإحسان ، ثم ذكر عقب هذا حكم الخلع ، لأن مشروعيته لا تكون إلاَّ قبل وجود الطلقة الثالثة ، وأمّا بعدها فلا ينبغي خلع ، فلذلك جاء بين الطلاق الذي له فيه رجعة ، وبين الطلاق الذي يبت العصمة ، وذكر من أحكامه أنه : لا يحل أخذ شيء من مال الزوجة ، إلاَّ بشرط أن يخافا أن لا يقيما حدود الله ، ثم أكد ذلك بذكر الخوف أن لا يقيما حدود الله ، فجعل ذلك منهما معاً ، فلو خاف أحدهما لم يجز الخلع ، هذا ظاهر الآية .
ثم نهى تعالى عن تعدّي حدود الله وتجاوزها ، وأخبر أن من تعدّاها ظالم ، قال تعالى ) فَإِن طَلَّقَهَا ( يعني : ثلاثة ، والمعنى ، ان أوقع التسريح المردد فيه في قوله : ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( فهي لا تحل له إلاَّ بعد نكاح زوج غيره ، فإن طلقها الزوج الثاني ، وأراد الأوّل أن يراجعها فله ذلك لكنه شرط في هذا التراجع ظنهما إقامة حدود الله ، فمتى لم يظنا ذلك لم يجز لهما أن يتراجعا ، هذا من الآيات ، ولا يتضح له : ) أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالْبَابِ ).
2 ( ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُن

" صفحة رقم 215 "
َّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } )
البقرة : ( 231 ) وإذا طلقتم النساء . . . . .
بلغ : يبلغ بلوغاً ، وصل إلى الشيء ، قال الشاعر : ومجر كغلان الأنيعم بالغ
دياراً لعدو ذي زهاء وأركان
والبلغة منه ، والبلاغ الأصل ، يقع على المدة كلها وعلى آخرها .
يقال لعمر الانسان : أجل : وللموت الذي ينتهي : أجل ، وكذلك الغاية والأمد .
العضل : المنع ، عضل أيّمه منعها من الزوج يعضلها بكسر الضاد وضمها ، قال ابن هرمة : وإن قضاء ئدي لك فاصطنعني
كرائم قد عضلن عن النكاح
ويقال : دجاج معضل إذا احتبس بيضها ، قاله الخليل ، وقال : ونحن عضلنا بالرماح نساءنا
وما فيكم عن حرمة الله عاضل
ويقال : أصله الضيق ، عضلت المرأة نشب الولد في بطنها ، وعضلت الشاة وعضلت الأرض بالجيش ضاقت بهم ؛ قال أوس :
ترى الأرض منا بالفضاء مريضة
معضلة منا بجيش عرمرم
وأعضل الداء الأطباء أعياهم ، وداء عضال ضاق علاجه ولا يطاق ، قالت ليلى الأخيلية :

" صفحة رقم 216 "
شفاها من الداء العضال الذي بها
غلام إذا هزَّ القناة سقاها
وأعضل الأمر اشتدّ وضاق ، وكل مشكل عند العرب معضل ، وقال الشافعي رحمة الله عليه :
إذا المعضلات تصدينني
كشفت حقائقها بالنظر
الرضع : مص الثدي لشرب اللبن ، يقال منه : رضع يرضع رضعاً ورضاعاً ورضاعةً ، وأرضعته أمّه ويقال ، للئيم : راضع وذلك لشدّة بخله لا يحلب الشاة مخافة أن يسمع منه الحلب ، فيطلب منه اللبن ، فيرضع ثدي الشاة حتى لا يفطن به .
الحَول : السنة وأحول الشيء صار له حول ؛ قال الشاعر :
من القاصرات الطرف لو دب محول
من الذرّ بفوق الأتب منها لأثَّرا
ويجمع على أحوال ، والحول الحيلة ، وحال الشيء انقلب وتحوّل انتقل ، ورجل حوّل كثير التقليب والتصرّف ، وقد تقدّم أن حول يكون ظرف مكان ، تقول : زيد حولك وحواليك وحوالك وأحوالك ، أي : فيما قرب منك من المكان .
الكسوة : اللباس يقال منه كسا يكسو ، وفعله يتعدى إلى اثنين تقول : كسوت زيداً ثوباً ، وقد جاء متعدياً إلى واحد ، قال الشاعر :
واركب في الروع خيفانة
كسا وجهها سعف منتشر
ضمنه معنى غطاء ، فتعدى إلى واحد ، ويقال : كسى الرجل فهو كاسٍ ، قال الشاعر :
وأن يعرين إن كسي الجواري
وقال :
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
التكليف : الإلزام وأصله من الكلف ، وهو الأثر على الوجه من السواد ، فلان كلف بكذا أي مغرى به ، وقال الشاعر :

" صفحة رقم 217 "
يهدى بها أكلف الخدين مختبر
من الجمال كثير اللحم عيثوم
الوارث : معروف يقال منه : ورث يرث بكسر الراء ، وقياسها في المضارع الفتح ، ويقال : أرث وورث ، ويقال : الإرث كما يقال ألده في ولده ، والأصل الواو .
الفصال : مصدر فصل فصلاً وفصالاً ، وجمع فصيل ، وهو المفطوم عن ثدي أمه ، وفصل بين الخصمين فرق فانفصلا ، وفصلت العير خرجت ، والمعنى فارقت مكانها ، وفصيلة الرجل أقرب الناس إليه ، والفصيلة قطعة من لحم الفخذ ، والتفصيل بمعنى التبيين ، ( مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ ( وتفصيل كل شيء تبيينه ، وهو راجع لمعنى تفريق حكم من حكم ، فيحصل به البيين ، ومدار هذه اللفظة على التفرقة والتبعيد .
التشاور : في اللغة هو استخراج الرأي ، من قولهم : شرت العسل أشوره إذا اجتنيته ، والشورة والمشورة ، وبضم العين وتنقل الحركة ، كالمعونة قال حاتم : وليس على ناري حجاب أكفها
لمقتبس ليلاً ولكن أشيرها
وقال أبو زيد : شرت الدابة وشورتها أجريتها لاستخراج جريها ، وكان مدار الكلمة على الإظهار ، فكأن كل واحد من المشاورين أظهر ما في قلبه للآخر ، ومنه الشوار ، وهو متاع البيت لظهوره للمناظر ، وشارة الرجل هيئته لأنها تظهر من زيه ، وتبتدىء من زينته ، وأو رد بعضهم عند ذكر المادة هذه الإشارة فقال : والإشارة هي إخراج ما في نفسك وإظهار للمخاطب بالنطق وغيره . إنتهى . فإن كان هذا أراد أنهما يتقاربان من حيث المعنى فصحيح ، وإن أراد أنهما مشتركان في المادة فليس بصحيح ، وقد جرت هذه المسألة بين الأمير بن أغلب متولي أفريقية وبعض العلماء من أهل بلده ، كيف يقال إذا أشاروا إلى الهلال عند طلوعه ؟ وبنوا من الإشارة تفاعلنا ، فقال ابن الاغلب : تشاورنا ، وقال ذلك العالم تشايرنا ، وسألوا قتيبة صاحب الكسائي ، وكان قد أقدم ابن الاغلب من العراق إلى افريقية لتعليم أولاده ، فقال له : كيف تبني من الإشارة : تفاعلنا ؟ فقال : تشايرنا . وأنشد للعرب بيتاً شاهداً على ذلك عجزه .
فيا حبذا يا عز ذاك التشاير
فدل ذلك على اختلاف المادتين من ذوات الياء ، والمادة الأخرى من ذوات الواو .
( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ( نزلت في ثابت بن بشار ، ويقال اسنان الأنصاري ، طلق امرأته حتى إذا بقي من عدّتها يومان أو ثلاثة ، وكادت أن تبين راجعها ، ثم طلقها ثم راجعها ، ثم طلقها حتى مضت سبعة أشهر مضارّة لها ، ولم يكن الطلاق يومئذ محصوراً .
والخطاب في : طلقتم ظاهره أنه للأزواج ، وقيل : لثابت بن يسار ، خوطب الواحد بلفظ الجمع للاشتراك في الحكم وأبعد من قال : إن الخطاب للأولياء لقوله : ) فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( ونسبة الطلاق والإمساك والتسريح للأولياء بعيد جداً .
فبلغن أي : قاربن انقضاء العدة والأجل ، هو الذي ضربه الله للمعتدّات من الأقراء ، والأشهر ، ووضع الحمل . وأضاف الأجل إليهم لأنه أمس بهنّ ، ولهذا قيل : الطلاق للرجال والعدة للنساء ، ولا يحمل : بلغن أجلهنّ على الحقيقة ، لأن الإمساك إذ ذاك ليس له ، لأنها ليست بزوجة ، إذ قد تقضت عدتها فلا سبيل له عليها .
( فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( أي راجعوهنّ قبل انقضاء العدّة ، وفسر المعروف بالإشهاد على الرجعة ، وقيل : بما يجب لها من حق عليه ، قاله بعض العلماء ، وهو قول عمر ، وعلي ، وأبي هريرة ، وابن المسيب ،

" صفحة رقم 218 "
ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، واسحاق ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، ويحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، قالوا : الإمساك بمعروف هو أن ينفق عليها ، فإن لم يجد طلقها ، فإذا لم يفعل خرج عن حدّ المعروف ، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر الذي يلحقها بإقامتها عند من لا يقدر على نفقتها ، حتى قال ابن المسيب : إن ذلك سنة .
وفي ( صحيح ) البخاري : تقول المرأة إما أن تطعمني ، و إما أن تطلقني وقال عطاء ، والزهري ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : لا يفرق بينهما ، ويلزمها الصبر عليه ، وتتعلق النفقة بذمته لحكم الحاكم .
والقائلون بالفرقة اختلفوا ، فقال مالك : هي طلقة رجعية لأنها فرقة بعد البناء لم يستكمل بها العدد ، ولا كانت بعوض ، ولا لضرر بالزوج ، فكانت رجعية كضرر المولي . وقال الشافعي : هي طلقة بائنة ، وقيل : بالمعروف من غير طلب ضراءَ بالمراجعة .
( أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( أي : خلوهنّ حتى تنقضي عدتها ، وتبين من غير ضرار ، وعبر بالتسريح عن التخلية لأن مآلها إليه ، إذ بانقضاء العدّة حصلت البينونة .
( وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ ( هذا كالتوكيد لقوله تعالى : ) فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( نهاهم أن لا يكون الإمساك ضراراً ، وحكمة هذا النهي أن الأمر في قوله : ) فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( يحصل بإمساكها مرة بمعروف ، هذا مدلول الأمر ، ولا يتناول سائر الأوقات وجاء النهي ليتناول سائر الأوقات ليعمها ، ولينبه على ما كانوا يفعلونه من الرجعة ، ثم الطلاق ، ثم الرجعة ، ثم الطلاق على سبيل الضرار ، فنهى عن هذه الفعلة القبيحة يخصوصها ، تعظيماً لهذا المرتكب الشيء الذي هو أعظم إيذاء النساء ، حتى تبقى عدتها في ذوات الأشهر تسعة أشهر .
ومعنى : ضراراً ، مضارة وهو مصدر ضار ضراراً ومضارّة ، وفسر بتطويل العدّة ، وسوء العشرة ، وبتضييق النفقة ، وهو أعم من هذا كله ، فكل إمساك لأجل الضرر والعدوان فهو منهي عنه .
وانتصب : ضراراً ، على أنه مفعول من أجله ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال ، أي : مضارين لتعتدوا ، أي : لتظلموهن ، وقيل : لتلجئوهن إلى الافتداء .
واللام : لام كي ، فإن كان ضراراً حالاً تعلقت اللام به ، أو : بلا تمسكوهن ، إن كان مفعولاً من أجله تعلقت اللام به ، وكان علة للعلة ، تقول : ضربت ابني تأديباً لينتفع ، ولا يجوز أن يتعلق : بلا تمسكوهن ، لأن الفعل لا يقضي من المفعول من أجله اثنين إلاَّ بالعطف ، أو على البدل ، ولا يمكن هنا البدل لاجل اختلاف الإعراب ، ومن جعل اللام للعاقبة جوّز أن يتعلق : بلا تمسكوهن ، فيكون الفعل قد تعدى إلى علة وإلى عاقبة ، وهما مختلفان .
قوله تعالى ) وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ( ذلك إشارة إلى الإمساك على سبيل الضرار

" صفحة رقم 219 "
والعدوان ، وظلم النفس بتعويضها العذاب ، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن العشرة ، ومنافع الدنيا من عدم رغبة التزويج به لاشتهاره بهذا الفعل القبيح .
( وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ( قال أبو الدرداء : كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول : طلقت وأنا لاعب ، ويعتق وينكح ويقول مثل ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، فقرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقال : ( من طلق أو حرّر أو نكح فزعم أنه لاعب فهو جدّ ) . وقال الزمخشري : أي جدّوا في الأخذ بها ، والعمل بما فيها ، وارعوها حق رعايتها وألاَّ فقد اتخذتموها هزواً ولعباً ، ويقال لمن لم يجدّ في الأمر إنما أنت لاعب وهازي . إنتهى كلامه .
وقاله معناه جماعة من المفسرين ، وقال ابن عطية ، المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي ، وخصها الكلبي بقوله : ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( ) وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ).
وقال الحسن : نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعباً وهازلاً ، أو راجع كذلك ، والذي يظهر أنه تعالى لما أنزل آيات تضمنت الأمر والنهي في النكاح ، وأمر الحيض والإيلاء ، والطلاق والعدة ، والرجعة والخلع ، وترك المعاهدة ، وكانت هذه أحكامها جارية بين الرجل وزوجته ، وفيها إيجاب حقوق للزوجة على الزوج ، وله عليها ، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء والاغتفال بأمر شأنهن ، وكنّ عندهم أقل من أن يكون لهنّ أمر أو حق على الزوج ، فأنزل الله فيهنّ ما أنزل من الاحكام ، وحدّ حدوداً لا تتعدى ، وأخبرهم أن من خالف فهو ظالم متعدَ ، أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله ، التي منها هذه الآيات النازله في شأن النساء ، هزؤاً ، بل تؤخذ وتتقبل بجد واجتهاد ، لأنها من أحكام الله ، فلا فرق بينها وبين الآيات التي نزلت في سائر التكاليف التي بين العبد وربه ، وبين العبد والناس .
وانتصب : هزؤاً ، على أنه مفعول ثانٍ : لتتخذوا ، وتقول : هزأ به هزءاً استخف .
وقرأ حمزة : هزأ ، بإسكان الزاي ، وإذا وقف سهل الهمزة على مذهبه في تسهيل الهمز ، وذكروا في كيفية تسهيله عنده فيه وجوهاً تذكر في علم القراءات ، وهو من تخفيف فعل : كعنق ، وقد تقدم الكلام في ذلك . قال عيسى بن عمر : كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وثانيه ففيه لغتان : التخفيف والتثقيل .
وقرأ هزواً بضم الزاي وابدال من الهمزة واواً ، وذلك لأجل الضم .
وقرأ الجمهور : هزؤاً بضمتين والهمز ، قيل : وهو الأصل ، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى : ( أتتخذنا هزواً ) .
( وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ( هذا أمر معطوف على أمر في المعنى ، وهو : ولا تتخذوا آيات لله هزواً ، والنعمة هنا ليست التاء فيها للوحدة ، ولكنها بني عليها المصدر ، ويريد : النعم الظاهرة والباطنة ، وأجلها ما أنعم به من الإسلام ونبوّة محمد علية الصلاة والسلام .
و : ما أنزل عليكم ، معطوف على نعمة ، وهو تخصيص بعد تعميم ، إذ ما أنزل هو من النعمة ، وهذا قد ذكرنا أنه يسمى التجريد ، كقوله : ) وَجِبْرِيلُ ( بعد ذكر الملائكة ، وتقدم القول فيه ، وأتى : بعليكم ، تنبيهاً للمأمورين وتشريفاً لهم ، إذ في الحقيقة ما أنزل إلاَّ على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولكنه لما كنا مخاطبين بأحكامه ، ومكلفين باتباعه ، صار كأنه نزل علينا .
و : الكتاب ، القرآن ، و : الحكمة ، هي السنة التي بها كمال الأحكام التي لم يتضمنها القرآن ، والمبينة ما فيه من الإجمال . ودل هذا على أن السنة أنزلها الله على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كما قال تعالى : ) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى ).
وقيل : وفي ظاهره رد على من زعم أن له الحكم بالاجتهاد ، لأن ما يحكم به من السنة ينزل من الله عليه ، فلا اجتهاد ، وذكر : النعم ، لا يراد به سردها على اللسان ، وإنما المراد بلذكر الشكر عليها ، لأن ذكر المسلم النعمة سبب لشكرها ، فعبر بالسبب عن المسبب ، فإن أريد بالنعمة المنعم به فيكون : عليكم ، في موضع الحال ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة عليكم ، ويكون في ذلك تنبيه على أن نعمته تعالى منسحبة علينا ، قد استعلت وتجللت وصارت كالظلة لنا ، وإن أريد بالنعمة الإنعام فيكون : عليكم ، متعلقاً بلفظ النعمة ، ويكون إذ ذاك مصدراً من : أنعم ، على غير قياس ، كنبات من أنبت .
وعليكم ، الثانية متعلقة بأنزل ، و : من ، في موضع الحال ، أي : كائناً من الكتاب ، ويكون حالاً من ما أنزل أو من الضمير العائد على الموصول

" صفحة رقم 220 "
المحذوف ، إذ تقديره : وما أنزل عليكم . ومن أثبت لمن معنى البيان للجنس جوز ذلك هنا ، كأنه قيل : وما أنزله عليكم الذي هو الكتاب والسنة .
( يَعِظُكُمْ بِهِ ( يذكركم به ، والضمير عائد على : ما ، من قوله : وما أنزل ، وهي جملة حالية من الفاعل المستكن في : أنزل ، والعامل فيها : أنزل ، وجوزوا في : ما ، من قوله : وما أنزل ، أن يكون مبتدأ . و : يعظكم ، جمله في موضع الخبر ، كأنه قيل : والمنزله الله من الكتاب والحكمة يعظكم به ، وعطفه على النعمة أظهر .
( وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( لما كان تعالى قد ذكر أوامر ونواهي ، وذلك بسبب النساء اللاتي هنّ مظنة الإهمال وعدم الرعاية ، أمر الله تعالى بالتقوى ، وهي التي بحصولها يحصل الفلاح في الدنيا والآخرة ، ثم عطف عليها ما يؤكد طلبها وهي قوله : ) وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ ( والمعنى : بطلب العلم الديمومة عليه ، إذ هم عالمون بذلك ، وفي ذلك تنبيه على أنه يعلم نياتكم في المضارة والاعتداء ، فلا تلبسوا على أنفسكم . وكرر اسم الله في قوله تعالى : ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( ) وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ ( لكونه من جملتين ، فتكريره أفخم ، وترديده في النفوس أعظم .
البقرة : ( 232 ) وإذا طلقتم النساء . . . . .
( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ( قال ابن عباس ، والزهري ، والضحاك ؛ نزلت في كل من منع امرأة من نسائه عن النكاح بغيره إذا طلقها ، وقيل : نزلت في ابنة عم جابر بن عبد الله ، طلقها زوجها ، وانقضت عدتها فاراد رجعتها ، فأتى جابر وقال : طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها ؟ وكانت المرأة تريد زوجها ، فنزلت . وقيل : في معقل بن يسار ، وأخته جمل ، وزوجها أبي الوليد عاصم بن عدي بن العجلان ، جرى لهم ما جرى لجابر في قصته ، ذكر معناه البخاري .
فعلى السبب الأوّل يكون المخاطبون هم الأزواج ، وعلى هذا السبب الأولياء ، وفيه بُعد ، لأن نسبة الطلاق إليهم هو مجاز بعيد ، وهو أن يكون الأولياء قد تسببوا في الطلاق حتى وقع ، فنسب إليهم الطلاق بهذا الاعتبار ، ويبعد جداً أن يكون الخطاب في : ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ( للأزواج وفي ) فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ( للأولياء ، لتنافي التخاطب ، ولتنافر الشرط والجزاء ، فالأولى ، والذي يناسبه سياق الكلام ، أن الخطاب في الشرط والجزاء للأزواج ، لأن الخطاب من أوّل الآيات هو مع الأزواج ولم يجر للأولياء ذكر ، ولأن الآية قبل هذه خطاب مع الأزواج في كيفية معاملة النساء قبل انقضاء العدة ، وهذه الآية خطاب لهم في كيفية معاملتهم معهنّ بعد انقضاء العدّة ، ويكون الأزواج المطلقون قد انتهوا عن العضل ، إذ كانوا يفعلون ذلك ظلماً وقهراً وحمية الجاهلية ، لا يتركونهنّ يتزوّجن من شئن من الأزواج ، وعلى هذا يكون معنى : ) أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ ( أي : من يردن أن يتزوّجنه ، فسموا أزواجاً باعتبار ما كانوا عليه ، وإن لم يكونوا بعد انقضاء العدّة أزواجاً حقيقة .
وجهات العضل من الزوج متعددة : بأن يجحد الطلاق ، أو يدعي رجعة في العدة ، أو يتوعد من يتزوّجها ، أو يسيء القول فيها لينفر الناس عنها ، فنهوا عن العضل مطلقاً بأي سبب كان مما ذكرناه ومن غيره .
وقال الزمخشري : والوجه أن يكون خطاباً للناس ، أي : لا يوجد فيما بينكم عضل ، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين ؛ وصدر بما يقارب هذا المعنى كلامه ابن عطية ، فقال : ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ( الآية خطاب للمؤمنين الذين هم الإزواج ، ومنهم الأولياء ، لأنهم المراد في تعضلوهنّ . انتهى كلامه . وهذا التوجيه يؤول إلى أن الخطاب في : طلقتم ، للأزواج ، وفي : فلا تعضلوهنّ ، للأولياء وقد بينا ما فيه من التنافر .
( أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ ( هو في موضع نصب على البدل من الضمير بدل اشتمال ، أو على أن أصله من أن ينكحن ، وينكحن مضارع نكح الثلاثي ، وفيه دلالة على أن للمرأة أن تنكح بغير ولي ، لأنه لو كان له

" صفحة رقم 221 "
حق لما نهى عنه ، فلا يستدل بالنهي على إثبات الحق ، وظاهره العقد .
وظاهر الآية إذا كان الخطاب في : فلا تعضلوهنّ ، للأولياء النهي عن مطلق العضل ، فيتحقق بعضلها عن خاطب واحد ، وقال مالك : إذا منعها من خاطب أو خاطبين لا يكون بذلك عاضلاً .
وقال أبو حنيفة : الثيب تزوّج نفسها وتستوفي في المهر ولا اعتراض للوليّ عليها . وهو قول زفر ؛ وإن كان غير كفء جاز ، وللأولياء أن يفرّقوا بينهما . وعلى جواز النكاح بغير وليّ : ابن سيرين ، والشعبي ، والزهري ، وقتادة وقال أبو يوسف : إن سلم الولي نكاحها جاز وإلاَّ فلا ، إلاَّ إن كان كفؤاً فيجيزه القاضي إن أبى الولي أن يسلم ، وهو قول محمد . وروي عن أبي يوسف غير هذا .
وقال الأوزاعي : إذا ولت أمرها رجلاً ، وكان الزوج كفؤا ، فالنكاح جائز ، وليس للولي أن يفرّق بينهما . وقال ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والثوري ، والحسن بن صالح : لا يجوز النكاح إلاَّ بولي ، وهو مذهب الشافعي وقال الليث : تزوّج نفسها بغير ولي . وقال ابن القاسم ، عن مالك : إذا كانت معتقة ، أو مسكينة ، أو دنيئة ، فلا بأس أن تستخلف رجلاً يزوّجها ، وللأولياء فسخ ذلك قبل الدخول ، وعنه خلاف بعد الدخول ، وإن كانت ذات غنى فلا يجوز أن يزوّجها إلا الولي أو السلطان ، وحجج هذه المذاهب في كتب الفقه .
( إِذَا تَراضَوْاْ ( : الضمير عائد على الخطاب والنساء ، وغلب المذكر ، فجاء الضمير بالواو ، ومن جعل للأولياء ذكراً في الآية قالوا : احتمل أن يعود على الأولياء والأزواج .
والعامل في : إذا ، ينكحن .
( بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ( الضمير في : بينهم ، ظرف مجازي ناصبه : تراضوا ، بالمعروف : ظاهره أنه متعلق بتراضوا ، وفسر بأنه ما يحسن من الدين والمروءة في الشرائط ، وقيل : مهر المثل ، وقيل : المهر والإشهاد . ويجوز أن يتعلق : بالمعروف ، بينكحن ، لا : بتراضوا ، ولا يعتقد أن ذلك من الفصل بين العامل والمعمول الذي لا ينتفي ، بل هو من الفصل الفصيح ، لأنه فصل بمعمول الفعل ، وهو قوله : ) إِذَا تَراضَوْاْ ( فإذا منصوب بقوله : ) أَن يَنكِحْنَ ( و : بالمعروف ، متعلق به ، فكلاهما معمول للفعل .
( ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( ذلك خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقيل : لكل سامع ، ثم رجع إلى خطاب الجماعة فقال : منكم ، وقيل : ذلك بمعنى : ذلكم ، وأشار بذلك إلى ما ذكر في الآية من النهي عن العضل ، و : ذلك ، للبعد ناب عن اسم الإشارة الذي للقرب ، وهو : هذا ، وان كان الحكم قريباً ذكره في الآية ، وذلك يكون لعظمة المشير إلى الشيء ، ومعنى : يوعظ به أي يذكر به ، ويخوّف . و : منكم ، متعلق بكان ، أو : بمحذوف في موضع الحال من الضمير المستكن في : يؤمن ، وذكر الإيمان بالله لأنه تعالى هو المكلف لعباده ، الناهي لهم ، والآمر . و : اليوم الآخر ، لأنه هو الذي يحصل به التخويف ، وتجنى فيه ثمرة مخالفة النهي . وخص المؤمنين لأنه لا ينتفع بالوعظ إلاَّ المؤمن ، إذ نور الإيمان يرشده إلى القبول ) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ( وسلامة عقله تذهب عنه مداخلة الهوى ، ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالْبَابِ ).
) ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ( أي : التمكن من النكاح أزكى لمن هو بصدد العضل لما له في امتثال أمر الله من الثواب ، وأطهر للزوجين لما يخشى عليهما من الريبة إذا منعا من النكاح ، وذلك بسبب العلاقات التي بين النساء والرجال .
( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( أي : يعلم ما تنطوي عليه قلوب الزوجين من ميل كل منهما للآخر ، لذلك نهى تعالى عن العضل ، قال معناه ابن عباس ؛ أو : يعلم ما فيه من اكتساب الثواب وإسقاط العقاب . أو : يعلم بواطن الأمور ومآلها . وأنتم لا تعلمون ذلك ، إنما تعلمون ما ظهر . أو : يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها . ويكون المقصود بذلك : تقرير الوعد والوعيد .
قيل : وتضمنت هذه الآية ستة أنواع من ضروب الفصاحة ، والبلاغة ، من علم البيان .
الأول : الطباق ، وهو الطلاق والإمساك ، فإنهما ضدان ، والتسريح طباق ثان لأنه ضد الإمساك ، والعلم وعدم العلم ، لأن عدم العلم هو الجهل .
الثاني : المقابلة في ) فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ( و ) لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا ( قابل المعروف بالضرار ، والضرار منكر فهذه مقابلة معنوية .
الثالث : التكرار في : ) فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ( كرر اللفظ لتغيير المعنيين ، وهو غاية الفصاحة ، إذ

" صفحة رقم 222 "
اختلاف معنى الاثنين دليل على اختلاف البلوغين .
الرابع : الالتفات في ) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ( ثم التفت إلى الأولياء فقال : ) فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ( وفي الآية ، في قوله : ذلك ، إذ كان خطاباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ثم التفت إلى الجمع في قوله : منكم .
الخامس : التقديم والتأخير ، التقدير ، أن ينكحن أزواجهنّ بالمعروف إذا تراضوا .
السادس : مخاطبة الواحد بلفظ الجمع ، لأنه ذكر في أسباب النزول أنها نزلت في معقل بن يسار ، أو في أخت جابر ، وقيل ابنته .
البقرة : ( 233 ) والوالدات يرضعن أولادهن . . . . .
( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى ، لما ذكر جملة في : النكاح ، والطلاق ، والعدّة ، والرجعة ، والعضل ، أخذ يذكر حكم ما كان من نتيجة النكاح ، وهو ما شرع من حكم : الإرضاع ومدّته ، وحكم الكسوة ، والنفقة ، على ما يقع الكلام فيه في هذه الآية إن شاء الله ) وَالْوالِداتُ ( جمع والدة بالتاء ، وكان القياس أن يقال : والد ، لكن قد أطلق على الأب والد ، ولذلك قيل فيه وفي الأم الوالدات فجاءت التاء في الوالدة للفرق بين المذكر والمؤنث من حيث الإطلاق اللغوي ، وكأنه روعي في الإطلاق أنهما أصلان للولد ، فأطلق عليهما : والدات .
وظاهر لفظ : الوالدات ، العموم ، فيدخل فيه الزوجات والمطلقات .
وقال الضحاك ، والسدي ، وغيرهما : في المطلقات ، جعلها الله حدّاً عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع ، فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين فذلك له ، ورجح هذا القول لأن قوله : والوالدات ، عقيب آية الطلاق ، فكانت من تتمتها ، فشرع ذلك لهنّ ، لأن الطلاق يحصل فيه التباغض ، فربما حمل على أذى الولد ، لأن إيذائه إيذاء والده ، ولأن في رغبتها في التزويج بآخر إهمال الولد .
وقيل : هي في الزوجات فقط ، لأن المطلقة لا تستحق الكسوة ، وإنما تستحق الأجرة ) يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ( صورته خبر محتمل أن يكون معناه خبراً ، أي : في حكم الله تعالى الذي شرعه ، فالوالدات أحق برضاع أولادهنّ ، سواء كانت في حيالة الزوج أو لم تكن ، فإن الإرضاع من خصائص الولادة لا من خصائص الزوجية .
ويحتمل أن يكون معناه الأمر كقوله : ) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ( لكنه أمر ندب لا إيجاب ، إذ لو كان واجباً لما استحق الأجرة . وقال تعالى : ) وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( فوجوب الإرضاع إنما هو على الأب لا على الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلاَّ إذا تطوعت الأم بإرضاعه ، وهي مندوبة إلى ذلك ، ولا تجبر عليه ، فإذا لم يقبل ثديها ، أو لم يوجد له ظئراً ، وعجز الأب عن الاستئجار وجب عليها إرضاعه ، فعلى هذا يكون الأمر للوجوب في بعض الوالدات .
ومذهب الشافعي أن الإرضاع لا يلزم إلاَّ الوالد أو الجد ، وإن علا . ومذهب مالك : أنه حق على الزوجة لأنه كالشرط ، إلاَّ أن تكون شريفة ذات نسب ، فعُرفها أن لا ترضع .
وعنه خلاف في بعض مسائل الإرضاع ) حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( وصف الحولين بالكمال دفعاً للمجاز الذي يحتمله حولين ، إذ يقال : أقمت عند فلان حولين ، وإن لم يستكملهما ، وهي صفة توكيد كقوله ) عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ( وجعل تعالى هذه المدة حداً عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع ، فمن دعا منهما إلى كمال الحولين فذلك له .
وظاهر قوله : أولادهن ، العموم ، فالحولان لكل ولد ، وهو قول الجمهور .
وروي عن ابن عباس أنه قال : هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهر ، فإن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة وعشرون ، أو : ثمانية ، فإثنان وعشرون ، أو : تسعة ، فأحد وعشرون ، وكان هذا القول انبنى على قوله تعالى : ) وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ( لأن ذلك حكم على الإنسان عموماً .
وفي قوله : يرضعن ، دلالة على أن الأم أحق برضاع الولد ، وقد تكلم بعض المفسرين هنا في مسائل لا تعلق لها بلفظ القرآن ، منها : مدة الرضاع المحرمة ، وقدر الرضاع الذي يتعلق به التحريم ، والحضانة ومن أحق بها بعد الأم ؟ وما الحكم في الولد إذا تزوجت الأم ؟ وهل للذمية حق في الرضاعة ؟ وأطالوا بنقل الخلاف والدلائل ، وموضوع هذا علم الفقه .
( لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ( هذا يدل على أن الإرضاع في الحولين ليس بحد لا يتعدى ، وإنما ذلك لمن أراد الإتمام ، أما من لا يريده فله فطم الولد دون بلوغ ذلك إذا لم يكن فيه ضرر للولد ، وروي عن قتادة أنه قال : تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات ، ثم يسر ذلك وخفف ، فنزل : لمن أراد أن يتم الرضاعة ( قال ابن عطية : وهذا قول متداع .
قال الراغب : وفي قوله : ) ( قال ابن عطية : وهذا قول متداع .
قال الراغب : وفي قوله : ) حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ( تنبيه على أنه لا يجوز

" صفحة رقم 223 "
تجاوز ذلك ، وأن لا حكم للرضاع بعد الحولين ، وتقوية لإرضاع بعد الحولين ، والرضاعة من المجاعة ، ويؤكده أن كل حكم في الشرع علق بعدد مخصوص يجوز الإخلال به في أحد الطرفين لم يجز الإخلال به في الطرف الآخر ، كخيار الثلاث ، وعدد حجارة الاستنجاء ، والمسح على الخفين يوماً وليلة وثلاثة أيام ، ولما كان الرضاع يجوز الإخلال في أحد الطرفين ، وهو النقصان ، لم تجز مجاوزته . انتهى كلامه .
وقال غيره : ذكر الحولين ليس على التوقيت الواجب ، وإنما هو لقطع المشاجرة بين الوالدين ، وجمهور الفقهاء على أنه يجوز الزيادة والنقصان إذا رأيا ذلك .
واللام في : لمن ، قيل : متعلقة بيرضعن ، كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، وتكون اللام على هذا للتعليل أي : لاجله ، فتكون : مَنْ واقعة على الأب ، كأنه قيل : لاجل من أراد أن يتم الرضاعة على الآباء ، وقيل : اللام للتبيين ، فيتعلق بمحذوف كهي في قولهم : سقياً لك : وفي قوله تعالى : ) هَيْتَ لَكَ ( فاللام لتبيين المدعو له بالسقي ، وللمهيت به ، وذلك أنه لما قدم قوله : ) يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( بين أن هذا الحكم إنما هو : لمن يريد أن يتم الرضاعة من الوالدات ، فتكون : من ، واقعة على الأم ، كأنه قيل : ) لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ( من الوالدات . أو تكون ، مَنْ ، واقعة على الوالدات والمولود له ، كل ذلك يحتمله اللفظ .
وقرأ الجمهور : أن يتم الرضاعة بالياء من : أتم ، ونصب الرضاعة وقرأ مجاهد ، والحسن ، وحميد ، وابن محيض ، وأبو رجاء : تتم ، بالتاء من تم ، ورفع الرضاعة وقرأ أبو حنيفة ، وابن أبي عبلة ، والجارود بن أبي سبرة كذلك ، إلاَّ أنهم كسروا الراء من الرضاعة ، وهي لغة : كالحضارة والحضارة ، والبصريون يقولون بفتح الراء مع الهاء وبكسرها دون الهاء ، والكوفيون يعكسون ذلك ، وروى عن مجاهد أنه قرأ : الرضعة ، على وزن القصعة ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ : أن يكمل الرضاعة ، بضم الياء ، وقرىء : أن يتم ، برفع الميم ، ونسبها النحويون إلى مجاهد ، وقد جاز رفع الفعل بعد أن في كلام العرب في الشعر أنشد الفراء رحمة الله تعالى : أن تهبطين بلاد قو
م يرتعون من الطلاح
وقال الآخر : أن تقرآن على أسماء ، ويحكما
مني السلام ، وأن لا تُبْلِغَا أحدا
وهذا عند البصريين هي الناصبة للفعل المضارع ، وترك أعمالها حملاً على : ما ، أختها في كون كل منهما مصدرية ، وأما الكوفيون فهي عندهم المخففة من الثقيلة ، وشذ وقوعها موقع الناصبة ، كما شذ وقوع الناصبة موقع المخففة في قول جرير : ترضى عن الله أن الناس قد علموا
أن لا يدانينا من خلقه بشر
والذي يظهران أن إثبات النون في المضارع المذكور مع : أن ، مخصوص بضرورة الشعر ، ولا يحفظ أن غير ناصبة إلاَّ في هذا الشعر ، والقراءة المنسوبة إلى مجاهد ، وما سبيله هذا ، لا تُبني عليه قاعدة .
( وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( المولود جنس ، واللام فيه موصولة وصلت باسم المفعول و : أل ، كمن ، و : ما ، يعود الضمير على اللفظ مفرداً مذكراً ، ويجوز أن يعود على المعنى بحسب ما تريده من المعنى من تثنية أو جمع أو تأنيث ، وهنا عاد الضمير على اللفظ ، فجاء له . ويجوز في العربية أن يعود على المعنى ، فكان يكون : لهم ، إلاَّ أنه لم يقرأ به ، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور ، وحذف الفاعل ، وهو : الوالدات ، و : المفعول به وهو : الأولاد ، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل ، وهذا على مذهب البصريين ، أعني : أن يقام الجار

" صفحة رقم 224 "
مقام الفاعل إذا حذف نحو : مرّ بزيد .
وذهب الكوفيون إلى أن ذلك لا يجوز إلاَّ فيما حرف الجر فيه زائد ، نحو : ما ضرب من أحدٍ ، فإن كان حرف الجر غير زائد لم يجز ذلك عندهم ، ولا يجوز أن يكون الاسم المجرور في موضع رفع باتفاق منهم .
واختلفوا بعد هذا الاتفاق في الذي أقيم مقام الفاعل ، فذهب الفراء إلى أن حرف الجر وحده في موضع رفع ، كما أن : يقوم من ؟ زيد يقوم . في موضع رفع ، وذهب الكسائي وهشام إلى أن مفعول الفعل ضمير مبهم مستتر في الفعل ، وإبهامه من حيث ، إنه يحتمل أن يراد به ما يدل عليه الفعل من مصدر ، أو ظرف زمان ، أو ظرف مكان ، ولم يقم الدليل على أن المراد به بعض ذلك دون بعض ، ومنهم من ذهب إلى أن مرفوع الفعل ضمير عائد على المصدر ، والتقدير : سير هو ، يريد : أي سير السير ، والضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل ، وهذا سائغ عند بعض البصريين ، وممنوع عند محققي البصريين ، والنظر في دلائل هذه المذاهب تصحيحاً وإبطالاً يذكر في عالم النحو .
وقد وهم بعض كبرائنا ، فذكر في كتابه المسمى ب ( الشرح لجمل الزجاجي ) أن النحويين أجمعوا على جواز إقامة المجرور مقام الفاعل إلاَّ السهيلي ، فإنه منع ذلك ، وليس كما ذكر ، إذ قد ذكرنا الخلاف عن الفراء ، والكسائي ، وهشام . والتفصيل في المجرور . وممن تبع السهيلي على قوله : تلميذه أبو علي الزيدي شارح ( الجمل ) .
و : المولود له ، هو الوالد ، وهو الأب ، ولم يأت بلفظ الوالد ، ولا بلفظ الأب ، بل جاء بلفظ : المولود له ، لما في ذلك من إعلام الأب ما منح الله له وأعطاه ، إذ اللام في : له ، معناها شبه التمليك كقوله تعالى : ) وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً ( وهو أحد المعاني التي ذكرناها في اللام في أول الفاتحة ، ولذلك يتصرف الوالد في ولده بما يختار ، وتجد الولد في الغالب مطيعاً لأبيه ، ممتثلاً ما أمر به ، منفذاً ما أوصى به ، فالأولاد في الحقيقة هم للآباء ، وينتسبون إليهم لا إلى أمهاتهم ، كما أنشد المأمون بن الرشيد ، وكانت أمه جارية طباخة تدعى مراجل ، قال : فإنما أمهات الناس أوعية
مستودعات وللابناء آباء
فلما كان لفظ : المولود ، مشعراً بالمنحة وسبه التمليك ، أتى به دون لفظ : الوالد ، ولفظ : الأب ، وحيث لم يرد هذا المعنى أتى بلفظ الوالد ولفظ الاب ، كما قال تعالى : ) لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ( وقال : ) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِىءابَائِهِنَّ ).
ولطيفة أخرى في قوله : ) وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ( وهو أنه لما كلف بمؤن المرضعة لولده من الرزق والكسوة ، ناسب أن يسلى بأن ذلك الولد هو وُلِد لك لا لأمه ، وأنك الذي تنتفع به في التناصر وتكثير العشيرة ، وأن لك عليه الطواعية كما كان عليك لأجله كلفة الرزق ، والكسوة لمرضعته .
وفسر ابن عطية هنا ، الرزق ، بأنه الطعام الكافي ، فجعله إسما للمرزوق . كالطحن والرعي . وقال الزمخشري : فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن ، فشرح الرزق : بأن والفعل اللذين ينسَبكُ منهما المصدر ، ويحتمل الرزق الوجهين من إرادة المرزوق ، وإرادة المصدر .
وقد ذكرنا أن : رزقاً بكسر الراء ، حكي مصدراً ، كرزق بفتحها فيما تقدم ، وقد جعله مصدراً أبو علي الفارسي في قوله : ) مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ شَيْئاً ( وقد رد ذلك عليه ابن الطراوة ، وسيأتي ذلك في مكانه إن شاء الله تعالى .
ومعنى : بالمعروف ، ما جرى به العرف من نفقة وكسوة لمثلها ، بحيث لا يكون إكثار ولا إقلال ، قاله الضحاك وقال ابن عطية : بالمعروف ، يجمع جنس القدر في الطعام ، وجودة الاقتضاء له ، وحسن الاقتضاء من المرأة . انتهى كلامه .
ولا يدل على حسن الاقتضاء من المرأة ، لأن الآية إنما هي فيما يجب على

" صفحة رقم 225 "
المولود له من الرزق والكسوة ، فبالمعروف ، يتعلق برزقهن أو بكسوتهن على الإعمال ، إما للأول وإما للثاني إن كانا مصدرين ، وإن عنى بهما المرزوق ، والشأن ، فلا بد من حذف مضاف التقدير : إيصال أو دفع ، أو ما أشبه ذلك مما يصح به المعنى ، ويكون : بالمعروف ، في موضع الحال منهما ، فيتعلق بمحذوف . وقيل : العامل فيه معنى الاستقرار في : على .
وقرأ طلحة : وكسوتهن ، بضم الكاف ، وهما لغتان يقال : كُسوة وكِسوة ، بضم الكاف وكسرها .
( لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ( التكليف إلزام ما يؤثر في الكلفة ، من : كلف الوجه ، وكلف العشق ، لتأثيرهما وسعها طاقتها وهو ما يحتمله وقد بين تعالى ذلك في قوله لينفق ذو سعة من سعته الآية وظاهر قوله : ) لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ( العموم في سائر التكاليف ، قيل : والمراد من الآية : أن والد الصبي لا يكلف من الإنفاق عليه وعلى أمه ، إلاَّ بما تتسع به قدرته ، وقيل : المعنى لا تكلف المرأة الصبر على التقصير في الأجرة ، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف ، بل يراعى القصد .
وقراءة الجمهور : ) لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ ( مبنى للمفعول ، والفاعل هو الله تعالى ، وحذف للعلم به . وقرأ أبو رجاء : لا تكلف ، بفتح التاء ، أي : لا تتكلف ، وارتفع نفس على الفاعلية ، وحذفت إحدى التاءين على الخلاف الذي بيننا وبين بعض الكوفيين ، و : تكلف تفعل ، مطاوع فعل نحو : كسرته فتكسر ، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها تفعل .
وروي أبو الأشهب عن أبي رجاء أنه قرأ : لا نكلف نفساً بالنون ، مسنداً الفعل إلى ضمير الله تعالى ، و : نفساً ، بالنصب مفعول .
( لاَ تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ( قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وأبان ، عن عاصم : لا تضارّ ، بالرفع أي : برفع الراء المشددة ، وهذه القراءة مناسبة لما قبلها من قوله : ) لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ( لاشتراك الجملتين في الرفع ، وإن اختلف معناهما ، لأن الأولى خبرية لفظاً ومعنى ، وهذه خبرية لفظاً نهيية في المعنى . وقرأ باقي السبعة : لا تضار ، بفتح الراء ، جعلوه نهياً ، فسكنت الراء الأخيرة للجزم ، وسكنت الراء الأولى للإدغام ، فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح لموافقة الألف التي قبل الراء ، لتجانس الألف والفتحة ، ألا تراهم حين رخموا : أسحارّاً ، وهو اسم نبات ، إذا سمي به حذفوتا الراء الأخيرة ، وفتحوا الراء الساكنة التي كانت مدغمة في الراء المحذوفة ، لأجل الألف قبلها ، ولم يكسروها على أصل التقاء الساكنين ، فراعوا الألف وفتحوا ، وعدلوا عن الكسر وإن كان الأصل ؟ وقرأ : لا يضار بكسر الراء المشددة على النهي وقرأ أبو جعفر الصفار : لا تضار ، بالسكون مع التشديد ، أجرى الوصل مجرى الوقف ، وروي عنه : لا تضار ، بإسكان الراء وتخفيفها ، وهي قراءة الأعرج من ضار يضير ، وهو مرفوع أجري الوصل فيه مجرى الوقف . وقال الزمخشري : اختلس الضمة فظنه الراوي سكوناً . انتهى . وهذا على عادته في تغليط القراء وتوهيمهم ، ولا نذهب إلى ذلك .
ووجَّه هذه القراءة بعضهم بأن قال : حذف الراء الثانية فراراً من التشديد في الحرف المكرر ، وهو الراء ، وجاز أن يجمع بين الساكنين : إما لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، ولأنَ مدة الألف تجري مجرى الحركة . انتهى .
وروي عن ابن عباس : لا تضارر ، بفك الإدغام وكسر الراء الأول وسكون الثانية . وقرأ ابن مسعود : لا تضارر ، بفك الإدغام أيضاً وفتح الراء الأولى وسكون الثانية ، قيل : ورواها أبان عن عاصم .
والإظهار في نحو هذين المثلين لغة الحجاز ، فأما من قرأ بتشديد الراء ، مرفوعة أو مفتوحة أو مكسورة ، فيحتمل أن يكون الفعل مبنياً للفاعل ، ويحتمل أن يكون مبنياً للمفعول كما جاء في قراءة ابن عباس ، وفي قراءة ابن مسعود ؛ ويكون ارتفاع : والدة ومولود ، على الفاعلية إن قدر الفعل مبنياً للفاعل ، وعلى المفعولية إن قدر الفعل مبنياً للمفعول ، فإذا قدرناه مبنياً للفاعل ، فالمفعول محذوف تقديره : لا تضارر والدةُ زوجَها بأن تطالبه بما لا يقدر عليه من رزق وكسوة وغير ذلك من وجوه الضرر ، ولا يضارر مولودٌ له زوجته بمنعها ما وجب لها من رزق وكسوة ، وأخذ ولدها مع إيثارها إرضاعه ، وغير ذلك من وجوه الضرر .
والباء في : بولدها ، وفي : بولده ، باء السبب .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون يضار بمعنى : تضر ، وأن تكون الباء

" صفحة رقم 226 "
من صلته لا تضر والدة بولدها ، فلا تسىء غذاءه وتعهده ، ولا تفرط فيما ينبغي له ، ولا تدفعه إلى الأب بعدما آلفها ، ولا يضر الوالد به بأن ينزعه من يدها ، أو يقصر في حقها ، فتقصر هي في حق الولد . انتهى كلامه .
ويعني بقوله : أن تكون الباء من صلته ، يعنى متعلقة بتضار ، ويكون ضار بمعنى أضر ، فاعل بمعنى أفعل ، نحو : باعدته وأبعدته ، وضاعفته وأضعفته ، وكون فاعل بمعنى أفعل هو من المعاني التي وضع لها فاعل ، تقول : أضرّ بفلان الجوع ، فالجار والمجرور هو المفعول به من حيث المعنى ، فلا يكون المفعول محذوفاً ، بخلاف التوجيه الأول ، وهو أن تكون الباء للسبب ، فيكون المفعول محذوفاً كما قدرناه .
قيل : ويجوز أن يكون الضرار راجعاً إلى الصبي ، أي : لا يضار كل واحد منهما الصبي ، فلا يترك رضاعه حتى يموت ، ولا ينفق عليه الأب أو ينزعه من أمه حتى يضر بالصبي ، وتكون الباء زائدة معناه : لا تضار والدة ولدها ولا مولود له ولده انتهى . فيكون : ضار ، بمعنى : ضر ، فيكون مما وافق فيه فاعل الفعل المجرد الذي هو : ضر ، نحو قولهم : جاوزت الشيء وجزته ، وواعدته ووعدته ، وهو أحد المعاني التي جاء لها فاعل .
والظاهر أن الباء للسبب ، ويبين ذلك قراءة من قرأ لا تضارَرْ ، براءين ، الأولى مفتوحة ، وهي قراءة عمر بن الخطاب .
وتأويل من تأول في الإدغام أن الفعل مبني للمفعول ، فإذا كان الفعل مبنياً للمفعول تعين كون الباء للسبب ، وامتنع توجيه الزمخشري أن : ضارٌ به في معنى : أضرَّ به ، والتوجيه الآخر أن : ضارٌ به بمعنى : ضره ، وتكون الباء زائدة ، ولا تنقاس زيادتها في المفعول ، مع أن في التوجيهين إخراج فاعل عن المعنى الكثير فيه ، وهو كون الاسمين شريكين في الفاعلية والمفعولية من حيث المعنى ، وإن كان كل واحد منهما مرفوعاً والآخر منصوباً .
وفي هذه الجمل الأربع من بلاغة المعنى ونصاعة للفظ ما لا يخفي على من تعاطى علم البيان .
فالجملة الأولى : أبرزت في صورة المبتدأ والخبر وجعل الخبر فعلاً لأن الإرضاع مما يتجدد دائماً ، ثم أضيف الأولاد إلى الوالدات تنبيهاً على شفقتهن على الأولاد ، وهزا لهن وحثاً على الإرضاع ، وقيد الإرضاع بمدة ، وجعل ذلك لمن أراد الإتمام . وجاء الوالدات بلفظ العموم ، وأضيف الأولاد لضمير العام ليعم ، وجمع القلة إذا دخلته الألف واللام ، أو أضيف إلى عام ، عم . وقد تكلمنا على شيء من هذا في كتابنا المسمى ( بالتكميل في شرح التسهيل ) .
والجملة الثانية : أبرزت أيضاً في صورة المبتدأ والخبر ، وجعل الخبر جاراً ومجروراً بلفظ : على ، الدالة على الاستعلاء المجازي والوجوب . فأكد بذلك مضمون الجملة ، لأن من عادة المرء منع ما في يده من المال ، وإهمال ما يجب عليه من الحقوق ، فأكد ذلك . وقدم الخبر على سبيل الإعتناء به ، وجاء الرزق مقدماً على الكسوة ، لأنه الأهم في بقاء الحياة ، والمتكرر في كل يوم .
والجملة الثالثة : أبرزت في صورة الفعل ومرفوعة ، وأتى بمرفوعه نكرة لأنه في سياق النفي ، فيعم ، ويتناول أولاً ما سيق لأجله : وهو حكم الوالدات في الإرضاع ، وحكم المولود له في الرزق والكسوة اللذين للوالدات .
والجملة الرابعة : كالثالثة ، لأنها في سياق النفي ، فتعم أيضاً ، وهي كالشرح للجملة قبلها ، لأن النفس إذا لم تكلف إلاَّ طاقتها لا يقع ضرر لا للوالدة ولا للمولود له ، ولذلك جاءت غير معطوفة على الجملة قبلها ، فلا يناسب العطف بخلاف الجملتين الأوليين ، فإن كل جملة منهما مغايرة للأخرى ، ومخصصة بحكم ليس في الأخرى ، ولما كان تكليف النفس فوق الطاقة ، ومضارة أحد الزوجين الآخر مما يتجدد كل وقت ، أتى بالجملتين فعليتين ، أدخل عليهما حرف النفي الذي هو : لا ، الموضوع للاستقبال غالباً ، وفي قراءة من جزم : لا تضار ، أدخل حرف النهي المخلص المضارع للاستقبال ، ونبه على محل الشفقة بقوله : بولدها ، فأضاف الولد إليها ، وبقوله : بولده ، فأضاف الولد إليه ، وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق . وقدم ذكر عدم مضارة الوالدة على عدم مضارة الوالد مراعاة للجملتين الأوليين ، إذ بدىء فيهما بحكم الوالدات ، وثنى بحكم الوالد في قوله : لا تضار ، دلالة على أنه إذا اجتمع مؤنث ومذكر معطوفان ، فالحكم في الفعل السابق عليهما للسابق منهما ، تقول : قام زيد وهند وقامت هند وزيد ، ويقوم زيد وهند ، وتقوم هند وزيد ، إلاَّ إن كان المؤنث مجازياً بغير علامة تأنيث فيه فيحسن عدم إلحاق العلامة ، كقوله تعالى : ) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ).
) وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ ( هذا معطوف على قوله : ) وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ( والجملتان قبل هذا كالتفسير لقوله : بالمعروف ، اعتراض بهما بين المتعاطفين .
وقرأ يحيى بن يعمر : وعلى الورثة مثل ذلك ، بالجمع .
والظاهر في الوارث أنه وارث المولود له لعطفه

" صفحة رقم 227 "
عليه ، ولأن المولود له . وهو الأب هو المحدث عنه في جملة المعطوف عليه ، والمعنى : أنه إذا مات المولود له وجب على وارثه ما وجب عليه من رزق الوالدات ، وكسوتهن بالمعروف ، وتجنب الضرار . وروي هذا عن عمر ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : وخصه بعضهم بمن يرث من الرجال يلزمه الإرضاع كما كان يلزم أبا الصبي . لو كان حياً ، وقاله مجاهد ، وعطاء . وقال سفيان : الوارث هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما ، ويرى مع ذلك إن كانت الوالدة هي الباقية أن يشاركها العاصب إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث ، كما قال : ( واجعله الوارث منا ) .
وقال قبيصة بن ذؤيب ، والضحاك ، وبشير بن نصر ، قاضي عمر بن عبد العزيز الوارث هو الصبي نفسه ، أي : عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه ، وقال بعضهم : الوارث الولد تجب عليه نفقة الوالدين الفقيرين ، ذكره السجاوندي عن قبيصة بن ذؤى ب .
فعلى هذه الأقوال تكون : الألف واللام في قوله : ) وَعَلَى الْوَارِثِ ( كأنها نابت عن الضمير العائد على : المولود له ، كأنه قيل : وعلى وارث المولود له . وقال عطاء أيضاً ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن صالح في آخرين : الوارث وارث المولود .
واختلفوا ، فقيل : وارث المولود من الرجال والنساء ، قاله زيد بن ثابت ، وقتادة ، وغيرهما ، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه .
وقيل : وارثه من عصبته كائناً من كان ، مثل : الجد ، والأخ ، وابن الأخ ، والعم ، وابن العم . وهذا يروى عن عمر ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وإسحاق ، وأحمد ، وابن أبي ليلى .
وقيل : من كان ذا رحم محرم ، فإن كان ليس بذي رحم محرم لم يلزمه شيء ، وبه قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي ، قال : الأجداد ثم الأمهات مثل ذلك أي : الأجرة والنفقة وترك المضارة .
وعلى هذه الأقوال تكون الألف واللام كأنها نابت عن ضمير يعود على المولود ، وكأنه قيل : وعلى وارثه أي وارث المولود .
وقيل : الوارث هنا من يرث الولاية على الرضيع ، ينفق من مال الرضيع عليه ، مثل ما كان ينفق أبوه .
فتلخص في الوارث ستة أقوال ، وفي بعضها تفصيل كما ذكرناه ، فيجيء بالتفصيل عشرة أقوال ، والإشارة بقوله : ذلك ، من قوله : مثل ذلك ، إلى ما وجب على الأب من رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، على ما شرح في الأقوال في قوله ) وَعَلَى الْوَارِثِ ( وقاله أيضاً ابن عباس ، وابراهيم ، وعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، والشعبي ، والحسن .
وعبر بعضهم عن هذا القول بأن : مثل ذلك ، هو : أجرة المثل والنفقة ، قال : ويروى ذلك عن عمر ، وزيد ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وابراهيم ، وقتادة ، وقبيصة والسدي .
واختاره ابن قتيبة .
وقال الشعبي أيضاً ، والزهري ، والضحاك ، ومالك وأصحابه ، وغيرهم : المراد بقوله : مثل ذلك ، أن لا يضار ، وأما الرزق والكسوة فلا شيء منهما . وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث ، ثم نسخ ذلك بالإجماع من الأمة أن لا يضار الوارث . إنتهى .
وأنّى يكون بالإجماع وقد رأيت أقوال العلماء في وجوب ذلك ؟
وقيل : مثل ذلك ، أجرة المثل والنفقة وترك المضارة ، روي ذلك عن ابن جبير ، ومجاهد ، ومقاتل ، وأبي سليمان الدمشقي ، واختاره القاضي أبو يعلى ، قالوا : ويشهد لهذا القول أنه معطوف على ما قبله ، وقد ثبت أن على : المولود له النفقة والكسوة ، وأن لا يضار ، فيكون مثل ذلك ، مشيراً إلى جميع ما على المولود له .
( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ( الضمير في : أرادا ، عائد على الوالدة والمولود له ، والفصال : الفطام قبل تمام الحولين . إذا ظهر استغناؤه عن اللبن ، فلا بد من تراضيهما ، فلو رضي أحدهما وأبى الآخر لم يجبر ، قاله مجاهد ، وقتادة والزهري ، والسدي وابن زيد ، وسفيان وغيرهم .
وقيل : الفطام سواء كان في الحولين أو بعد الحولين قاله ابن عباس .
وتحرير هذا القول أنه قبل الحولين لا يكون إلاَّ بتراضيهما ، وأن لا يتضرر

" صفحة رقم 228 "
المولود ، وأما بعد تمامهما فمن دعا إلى الفصل فله ذلك إلا أن يلحق المولود بذلك ضرر ، وعلى هذين القولين يكون ذلك توسعة بعد التحديد .
وقال ابن بحر : الفصال أن يفصل كل واحد منهما القول مع صاحبه بتسليم الولد إلى أحدهما ، وذلك بعد التراضي والتشاور لئلا يقدم أحد الوالدين على ما يضر بالولد ، فنبه تعالى على أن ما كان متهم العاقبة لا يقدم عليه إلاَّ بعد اجتماع الآراء .
وقرىء : فإن أرادا ، ويتعلق عن تراض ، بمحذوف لأنه في موضع الصفة لقوله : فصالاً ، أي : فصالاً كائنا ، وقدّره الزمخشري صادراً . و : عن ، للمجاوزة مجازاً ، لأن ذلك معنى من المعاني لا جرم ، وتراضٍ وزنه تفاعل ، وعرض فيه ما عرض في أظبٍ جمع : ظبي ، إذ أصله أظبي على : أفعل ، فتنقلب الياء واواً الضمة ما قبلها ، ثم إنه لا يوجد في لسان العرب اسم آخروه واو قبلها ضمة لغير الجمع ، وأنه متى أدّى إلى ذلك التصريف قلبت الواو ياءً ، وحوّلت الضمة كسرةً ، وكذلك فعل في تراضٍ . وتفاعل هنا في تراض ، وتشاور على الأكثر من معانيه من كونه واقعاً من اثنين ، وأخر التشاور لأنه به يظهر صلاح الأمور والآراء وفسادها ، و : منهما ، في موضع الصفة لتراضٍ ، فيتعلق بمحذوف ، وهو مراد بعد قوله : وتشاور ، أي : منهما ، ويحتمل في تشاور أن يكون أحدهما شاور الآخر ، أو يكون أحدهما شاور غير الآخر لتجتمع الآراء على المصلحة في ذلك . ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ( هذا جواب الشرط ، وقبل هذا الجواب جملة محذوفة بها يصح المعنى ، التقدير : ففصلاه ، أو ففعلا ذلك ، والمعنى : فلا جناح عليهما في الفصال .
( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ( الخطاب للآباء والأمهات وفيه التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، وتلوين في الضمير ، لأن قبله ) فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً ( بضمير التثنية ، وكأنه رجوع إلى قوله : والوالدات ، وعلى المولود له .
و : استرضع ، فيه خلاف ، هل يتعدى إلى مفعولين بنفسه ، أو إلى مفعولين الثاني بحرف جر ، قولان .
فالأول : قول الزمخشري ، قال : استرضع منقول من أرضع ، يقال : أرضعت المرأة الصبي ، واسترضعها الصبي ، فتعديه إلى مفعولين ، كما تقول : أنجح الحاجة ، واستنجحته الحاجة . والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم ، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه ، كما تقول : استنجحت الحاجة ، ولا تذكر من استنجحته ، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول . إنتهى كلامه . وهو نقلٌ من نقلٍ ، الأصل رضع الولد ، ثم تقول : أرضعت المرأة الولد ، ثم تقول استرضعت المرأة الولد ، واستفعل هنا للطلب أي : طلبت من المرأة إرضاع الولد ، كما تقول استسقيت زيداً الماء ، واستطعمت عمراً الخبز ، أي : طلبت منه أن يسقيني وأن يطعمني ، فكما أن الخبز والماء منصوبان وليسا على إسقاط الخافض ، كذلك : أولادكم ، منصوب لا على إسقاط الخافض .
والثاني : قول الجمهور ، وهو أن يتعدى إلى اثنين ، الثاني بحرف جر ، وحذف من قوله : أولادكم ، والتقدير : لأولادكم ، وقد جاء استفعل أيضاً للطلب معدى بحرف الجر في الثاني ، وإن كان في : أفعل ، معدى إلى اثنين . تقول : أفهمني زيد المسألة ، واستفهمت زيداً عن المسألة ، فلم يجيء : استطعمت ، ويصير نظير : استغفرت الله من الذنب ، ويجوز حذف : من ، فتقول : الذنب ، وليس في قولهم : كان فلان مسترضعاً في بني فلان دليل على أنه مفعول بنفسه ، أو بحرف جر .
( فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ( هذا جواب الشرط ، وقبله جملة حذفت لفهم المعنى ، التقدير : فاسترضعتم أو فعلتم ذلك فلا جناح عليكم في الاسترضاع ) إِذَا سَلَّمْتُم ( ما آتيتم ، هذا خطاب للرجال خاصة ، وهو من تلوين الخطاب . وقيل : هو خطاب للرجال والنساء ، ويتضح ذلك في تفسير قوله : ) مَّا ءاتَيْتُم ).
) وَإِذَا سَلَّمْتُم ( شرط ، قالوا : وجوابه ما يدل عليه الشرط الأول وجوابه ، وذلك المعنى هو العامل في : إذا ، وهو متعلق بما تعلق به : عليكم . إنتهى .
وظاهر هذا الكلام خطأ لأنه جعل العامل في إذا أولاً المعنى الذي يدل عليه الشرط وجوابه ، ثم قال ثانياً إن إذا تتعلق بما تعلق به : عليكم ، وهذا يناقض ما قبله ، ولعلّ قوله : وهو متعلق ، سقطت منه ألف ، وكان : أو هو متعلق ، فيصح إذ ذاك المعنى ، ولا تكون إذ ذاك شرطاً ، بل تتمحض للظرفية .
وقرأ ابن كثير : ما أتيتم ، بالقصر ، وقرأ باقي السبعة بالمد ؛ وتوجيه قراءة ابن كثير : أن : أتيتم ، بمعنى جئتموه وفعلتموه ، يقال : أتى جميلاً أي : فعله ، وأتى إليه ، إحساناً فعله ، وقال إن وعده كان مأتياً ، أي : مفعولا ، وقال زهير :

" صفحة رقم 229 "
فما يك من خير أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبل
وتوجيه المدِّ أن المعنى : ما أعطيتم ، و : ما ، في الوجهين موصولة بمعنى الذي ، والعائد عليها محذوف ، وإذا كانت بمعنى أعطى احتيج إلى تقدير حذف ثان ، لأنها تتعدى لاثنين أحدهما ضمير : ما ، والآخر ، الذي هو فاعل من حيث المعنى ، والمعنى في : ما آتيتم ، أي : ما أردتم إتيانه أو إيتاءه .
ومعنى الآية ، والله أعلم جواز الاسترضاع للولد غير أمه إذا أرادوا ذلك واتفقوا عليه ، وسلموا إلى المراضع أجورهن بالمعروف ، فيكون ما سلمتم هو الأجرة على الاسترضاع ، قاله السدي ، وسفيان . وليس التسليم شرطاً في جواز الاسترضاع والصحة ، بل ذلك على سبيل الندب ، لأن في ايتائها الأجرة معجلاً هنياً توطين لنفسها واستعطاف منها على الولد ، فتثابر على إصلاح شأنه .
وقيل : سلمتم الأولاد إلى من رضيها الوالدان ، قاله قتادة ، والزهري ، وفيه بعد لإطلاق : ما ، الموضوعة لما لا يعقل على العاقل ، وقيل : سلمتم إلى الامهات أجرهنّ بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع قاله مجاهد .
وقيل : سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع ، أي : سلم كل واحد من الأبوين ورضي ، وكان عن اتفاق منهما ، وقصد خير وإرادة معروف ، قاله قتادة .
وأجاز أبو علي : في : ما آتيتم ، أن تكون : ما ، مصدرية أي : إذا سلمتم الإتيان ، والمعنى مع القصر ، وكون : ما ، بمعنى الذي أن يكون الذي ما آتيتم نقده وإعطاءه ، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه ، فكان التقدير : ما آتيتموه ، ثم حذف الضمير من الصلة ، وإذا كانت مصدرية استغنى الكلام عن هذا التقدير ، وروى شيبان عن عاصم : مبيناً للمفعول أي : ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الاجرة ، ونحوها ، قال تعالى : ) وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ( ويتعلق : بالمعروف ، ب : سلمتم ، أي : بالقول الجميل الذي تطيب النفس به ، ويعين على تحسين نشأة الصبي . وقيل : تتعلق : بآتيتم .
قالوا : وفي هذه الآية دليل على أن للآباء أن يستأجروا لأولادهم مراضع إذا اتفقوا مع الأمهات على ذلك ، وهذه كانت سنة جاهلية ، كانوا يتخذون المراضع لأولادهم ويفرغون الأمهات للاستمتاع بهن ، والاستصلاح لأبداعنهن ، ولاستعجال الولد بحصول الحمل ، فأقرهم الشرع على ذلك لما في ذلك من المصلحة ورفع المشقة عنهم بقطع ما ألفوه ، وجعل الأجرة على الأب بقوله : ) إِذَا سَلَّمْتُم ).
) وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْلَمُونَ بَصِيرٌ ( لما تقدّم أمر ونهي ، خرج على تقدير أمر بتقوى الله تعالى ، ولما كان كثير من أحكام هذه الآية متعلقاً بأمر الأطفال الذين لا قدرة لهم ولا منعة مما يفعله بهم ، حذر وهدّد بقوله : ) وَاعْلَمُواْ ( وأتى بالصفة التي هي : بصير ، مبالغة في الإحاطة بما يفعلونه معهم والاطلاع عليه ، كما قال تعالى : ) وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ( في حق موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، إذ كان طفلاً .
قالوا : وفي الآية ضروب من البيان والبديع ، منها : تلوين الخطاب ، ومعدوله في : ) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ ( فإنه خبر معناه الآمر على قول الأكثر ، والتأكيد : بكاملين ، والعدل عن رزق الأولاد إلى رزق أمهاتهنّ ، لأنهنّ سبب توصل ذلك . والإيجاز في : ) وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ ( وتلوين الخطاب : في ) وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ ( فإنه خطاب للآباء والأمهات ثم قال : ) إِذَا سَلَّمْتُم ( وهو خطاب للآباء خاصة ، والحذف في : ) أَن تَسْتَرْضِعُواْ ( التقدير : مراضع للأولاد ، وفي قوله : ) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( إنتهى .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أمر الله تعالى الأزواج إذا طلقوا نساءهم فيقاربوا إنقضاء العدّة بإمساكهنّ ، وهو مراجعتهنّ

" صفحة رقم 230 "
بمعروف ، أو بتخلية سبيلهنّ بإنقضاء العبّدة ، ثم أكد الأمر بالإمساك بمعروف ، بأن نص على النهي عن إمساكهن ضراراً بهنّ ، وجاء النهي على حسب ما كان يقع منهم في الجاهلية من الرجعة ، ثم الطلاق ، ثم الرجعة ، ثم الطلاق على سبيل المضارة للنساء ، فنهوا عن هذه الفعلة القبيحة تعظيماً لهذا الفعل السيء الذي هو أعظم إيذاءِ النساء ، ثم ذكر تعالى أن من ارتكب ما نهى الله عنه من ذلك فقد ظلم نفسه ، أي : إن إمساك النساء على سبيل المضارة ، وتطويل عدّتهنّ ، إنما وبال ذلك في الحقيقة على نفسه ، حيث ارتكب ما نهى الله عنه ، ثم نهى تعالى عن اتخاذ آيات الله هزواً ، لأنه تعالى قد أنزل آيات في النكاح ، والحيض ، والإيلاء ، والطلاق ، والعدّة ، والرجعة ، والخلع ، وترك المضارة ، وتضمنت أحكاماً بين الرجال والنساء ، وإيجاب حقوق لهم وعليهم ، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء حتى كانوا لا يورثون البنات احتقاراً لهنّ ، وذكر قبل هذا أن من تعدّى حدود الله فهو ظالم ، أكدّ ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله هزواً ، بل تؤخذ بجدّ وقبول ، وإن كان فيها ما يخالف عاداتهم ، ثم أمرهم بذكر نعمته ، تنبهاً على أن من أنعم عليك فيجب أن يأخذ ما يلقي الله من الآيات بالقبول ، ليكون ذلك شكراً لنعمته السابقة ، ثم نبه تعالى على أن ما أنزل من الكتاب والحكمة فهو واعظ لكم ، فينبغي قبوله والانتهاء عنده ، ثم أمر بتقوى الله تعالى ، وبأن يعلموا أن الله بكل شيء عليم ، فهو لا يخفي عنه شيء من أفعالكم ، وهو يجازيكم عليها .
ثم ذكر تعالى أن الأزواج إذا طلقوا نساءهم وانقضت عدّتهنّ لا تعضلوهنّ عن تزوج من أردن إذا وقع تراض بين المطلقة وخاطبها ، وكان من عادة العرب أن من طلق منهم امرأة وبتها يعضلها عن التزوج بغيره ، ثم أشار بقوله : ذلك إلى العضل ، وذكر أنه يوعظ به المؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر ، لأن من لم يكن مؤمناً لم يزد جر عن ما نهى الله عنه ، ونبه على الإيمان باليوم الآخر ، لأن ثمرة مخالفة النهي إنما تظهر في الدار الآخرة ، ثم أشار بقوله : ) ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ ( إلى التمكين من التزويج وعدم العضل لما في ذلك من الثواب بامتثال أمر الله تعالى ، وأطهر لما يخشى من اجتماع الخاطب والمرأة على ريبة إذا منعا من التزويج ، ثم نسب العلم إليه تعالى ونفاه عن المخاطبين ، إذ هو العالم بخفايا الأمور وبواطنها .
ثم شرع تعالى في ذكر أشياء من نتائج التزويج من إرضاع الوالدات أولادهنّ ، وذكر حد ذلك لمن أراد الإتمام ، وما يجب للمرأة على الزوج وعلى وارثه إذا مات الزوج من النفقة والكسوة ، وأن ذلك بالمعروف من غير إجحاف لا بالزوج ولا بالزوجة ، وذكر جواز فصله وفطامه إذا كان ذلك برضا أبيه وأمه قبل الحولين ، وجواز الاسترضاع للأولاد إذا اتفق الرجل والزوجة على ذلك ، وأشار إلى تسليم أجر الأظآر تطييباً لأنفسهنّ وإعانة لهنّ على محبة الصغير ، واشتمالهنّ عليه حتى ينشأ كأنه قد أرضعته أمّه ، فإن الإحسان جالب للمحبة ، ثم ختم هذه الآية بالأمر بتقوى الله تعالى ، وبأن يعلموا أن الله بكل شيء بصير ، كما ختم تعالى الآية الأولى بالأمر بالتقوى بالعلم بأن الله بكل شيء عليم ، وذلك إشارة إلى المجازاة ، وتهديد ووعيد لمن خالف أمره تعالى .
2 ( ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِىأَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِىأَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِىأَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَإِن

" صفحة رقم 231 "
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَّلاأَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَواةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } )
7 )
البقرة : ( 234 ) والذين يتوفون منكم . . . . .
يذر : معناه يترك ، ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل منه اسم الفاعل ولا المفعول ، وجاء الماضي منه على طريق الشذوذ .
خبير : للمبالغة ، من خبرت الشيء علمته ، ومنه : قتل ارضاً خابرها ، وخبرت زيداً اختبرته ، ولهذه المادة يرجع الخبر لأنه الشيء المعلم به ، والخبار الأرض اللينة .
التعريض : الإشارة إلى الشيء دون تصريح .
الخطبة : بكسر الخاء التماس النكاح ، يقال خطب فلان فلانة ، أي : سألها خطبة أي : حاجته ، فهو من قولهم : ما خِطبك ؟ أي : ما حاجتك ، وأمرك ؟ قال الفراء : الخطبة مصدر بمعنى الخطب ، وهو من قولك : إنه يحسن القِعدة والجِلسة ، يريد : القعود والجلوس .
والخُطبة بضم الخاء الكلام المشتمل على : الزجر ، والوعظ ، والإذكار ، وكلاهما راجع للخطاب الذي هو الكلام ، وكانت سجاح يقول لها الرجل : خطب فتقول نكح .
أكنّ الشيء : أخفاه في نفسه ، وكنه : ستره ، شيء ، والهمزة في أكنّ للتفرقة بين المعنيين ، كأشرقت .
العقدة : في الحبل ، وفي الغصن معروفة ، يقال : عقدت الحبل والعهد ، ويقال : أعقدت العسل ، وهو راجع لمعنى الاشتداد ، وتعقد الأمر عليّ اشتدّ ، ومنه القعود .
المقتر : المقل أقتر الرجل وقتر يقتر ويقتر ، والقلة معنى شامل لجميع مواقع اشتقاقه ، ومنه القتير ، وهو مسمار الدرع ، والقترة أدنى الغبار ، والناموس الصغار ، والقتار : ريح القدر قال طرفة : حين قال الناس في مجلسهم
أقتار ذاك ؟ أم ريحٌ قطر ؟
والقتر : بيوت الصيادين على الماء قال الشاعر : ربّ رام من بني ثعل
مثلج كفيه في قتره

" صفحة رقم 232 "
النصف : هو الجزء من اثنين على السواء ، ويقال : بكسر النون وضمها ، ونضيف : ومنه : ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ، أي : نصفه ، كما يقال : ثمن وثمين ، وعشر وعشير ، وسدس وسديس ، ومنه قيل : النصف المقنعة التي توضع على رأس المرأة نصيف ، وكل شيء بلغ نصف غيره فهو نصف ، يقال : نصف النهار ينصف ، ونصف الماء القدح ، والإزار الساق ، والغلام القرآن ، وحكى الفراء في جميع هذا : أنصف .
المحافظة على الشيء : المواظبة عليه ، وهو من الحفظ ، حفظ المكان حرسه ، وحفظ القرآن تذكره غائباً ، وهو راجع لمعنى الحراسة ، وحفظ فلان : غضب ، وأحفظه : أغضبه ، ومصدر : حفظ ، بمعنى غضب : الحفيظة والحفظ .
الركوب : معروف ، وركبان : جمع راكب ، وهو صفة استعملت استعمال الأسماء ، فحسن أن يجمع جمع الأسماء ، ومع ذلك فهو في الأسماء محفوظ قليل ، قالوا : حاجر وحجران ، ومثل ، ركبان : صحبان ، ورعيان ، جمع صاحب وراع ، فإن لم تستعمل الصفة استعمال الأسماء لم يجيء فيها فعلان ، لم يرد مثل : ضربان وقتلان في جمع : ضارب وقاتل .
( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما تقدّم ذكر عدة طلاق الحيض ، واتصلت الأحكام إلى ذكر الرضاع ، وكان في ضمنها قوله ) وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ ( أي : وارث المولود له ، ذكر عدة الوفاة إذ كانت مخالفة لعدة طلاق الحيض .
وقرأ الجمهور : يتوفون ، بضم الياء مبنياً للمفعول وقرأ علي ، والمفضل ، عن عاصم : بفتح الياء مبنياً للفاعل ، ومعنى هذه القراءة أنهم : يستوفون آجالهم .
وإعراب : الذين ، مبتدأ واختلف أنه خبر أم لا ؟ فذهب الكسائي والفراء إلى أنه لا خبر له ، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهن : بالذين ، لأن الحديث معهن في الاعتداد بالأشهر ، فجاء الخبر عما هو المقصود ، والمعنى : من مات عنها زوجها تربصت ، وأنشد الفراء رحمه الله : لعلِّي إن مالت بي الريح ميلة
على ابن أبي ذيان أن يتندّما
فقال : لعلِّي ، ثم قال : أن يتندّما ، لأن المعنى : لعل ابن أبي ذيان إن مالت بي الريح ميلة أن يتندما وقال الشاعر :
بني أسدٍ إن ابن قيس ، وقتله
بغير دم ، دارَ المذلة حلت
ألغى ابن قيس ، وقد ابتدأ بذكره وأخبر عن قتله أنه ذْلّ ؛ وتحرير مذهب الفراء أن العرب إذا ذكرت أسماء مضافة إليها ، فيها معنى الخبر ، أنها تترك الإخبار عن الإسم الأول ويكون الخبر عن المضاف ، مثاله : إن زيداً وأخته منطلقة ، لأن المعنى : إن أخت زيد منطلقة ؛ والبيت الأول ليس من هذا الضرب ، وإنما أوردوا مما يشبه هذا الضرب قول الشاعر :
فمن يك سائلاً عني فإني
وجروة لا ترود ولا تعار
والرد على الفراء ، وتأويل الأبيات والآية ، مذكور في النحو .
وذهب الجمهور إلى أن له خبراً ، واختلفوا ، فقيل : هو ملفوظ به ، وهو : يتربصن ، ولا حذف يصحح معنى الخبر ، لأنه ربط من جهة المعنى ، لأن النون في : يتربصن ، عائد ، فقيل : على الأزواج الذين يتوفون ، فلو صرح بذلك فقيل : يتربصن أزواجهم ، لم يحتج إلى حذف ، وكان إخباراً صحيحاً ، فكذلك ما هو بمعناه ، وهو قول الزجاج .
وقيل : ثَمَّ حذف يصحح معنى الخبرية ، واختلفوا في محل الحذف ، فقيل : من المبتدأ ، والتقدير : وأزواج الذين ، ودل على المحذوف قوله : ) وَيَذَرُونَ أَزْواجًا ( وقيل : من الخبر ، وتقديره : يتربصن بعدهم ، أو : بعد موتهم ، قاله الأخفش .
وقيل : من الخبر وهو أن يكون الخبر جملة من مبتدأ محذوف وخبره يتربصن ، تقديره : أزواجهم يتربصن ، ودل عليه المظهر ، قاله المبرد .
وقيل : الخبر بجملته محذوف مقدّر قبل المبتدأ تقديره : فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً .
وقوله : ) يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ( بيان للحكم المتلو ، وهي جملة لا

" صفحة رقم 233 "
موضع لها من الإعراب ، قالوا : وهذا قول سيبويه .
قال ابن عطية : إنما يتجه ذلك إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد ، مثل قوله : ) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( وهذه الآية فيها معنى الأمر لا لفظه ، فيحتاج في هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر ، وحسَّن مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله : ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ( إذ القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها للرجال الذين منهم الحكام والنظار عبارة الأخفش والمبرد ما ذكرناه . انتهى كلامه .
وظاهرة قوله : يتربصن ، العموم في كل امرأة توفي عنها زوجها ، فيدخل فيه الأمة والكتابية والصغيرة .
وروي عن أبي حنيفة أن عدة الكتابية ثلاث حيض إذا توفي عنها زوجها ، وروي عنه أن عليها عدّة ، فإن لم يدخل فلا عدة قولاً واحداً ، ويتخرج على هذين القولين الإحداد ، وتخصيص الحامل قيل : بقوله ) وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ ( الآية ، ولم يخصص الشافعي هنا العموم في حق الحامل إلاَّ بالسنة لا بهذه الآية ، لأنها وردت عقيب ذكر المطلقات ، فيحتمل أن يقال : هي في المطلقة . لا في المتوفي عنها زوجها ، ولأن كل واحدة من الآيتين أعم من الأخرى من وجه ، وأخص منها من وجه ، لأن الحامل قد يتوفى عنها زوجها وقد لا يتوفى ، والتي توفي عنها زوجها قد تكون حاملاً وقد لا تكون ، فامتنع التخصيص .
وقيل : الآية تتناول أولاً الحوامل ، ثم نسخ بقوله : ) وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ ( وعدة الحامل وضع حملها عند الجمهور .
وروي عن علي ، وابن عباس ، وغيرهما : أن تمام عدتها آخر الأجلين ، واختاره سحنون ، وروي عن ابن عباس أنه رجع عن ذلك .
ومعنى : ) يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ( أي : ينتظرن . قيل : والتربص هنا الصبر عن النكاح ، قاله الحسن ، قال : وليس الإحداد بشيء ولها أن تتزين وتتطيب . وضعف قوله ، وقيل : ترك التزوج ولزوم البيت والإحداد ، وهو أن تمتنع من الزينة ، ومن لبس المصبوغ الجميل مثل الحمرة والصفرة والخضرة ، والطيب ، وما يجرى مجرى ذلك . وهذا قول الجمهور ، وليس في الآية نص على الإحداد ، بل التربص مجمل بينته السنة ، ثبت في حديث الفريعة قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) . وكانت متوفى عنها زوجها ، قالت : فاعتدد أربعة أشهر وعشراً . وصح أنه قال : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلاَّ على زوج ، فإنها تحد أربعة أشهر وعشراً ، وتلزم المبيت في بيتها ) . وهذا قول الجمهور ، وقال ابن عباس ، وأبو حنيفة ، وغيرههما : تبيت حيث شاءت ، وروي ذلك عن علي ، وجابر ، وعائشة ، وبه قال عطاء ، وجابر بن زيد ، والحسن ، وداود .
قال ابن عباس : قال تعالى : ) يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ( ولم يقل : يعتددن في بيوتهن ، ولتعتد حيث شاءت أربعة أشهر وعشراً ، قالوا : معناه وعشر ليال ، ولذلك حذف التاء وهي قراءة ابن عباس . والمراد عشر ليال بأيامها ، فيدخل اليوم العاشر ، قيل : .
وغلب حكم الليالي إذ الليالي أسبق من الأيام ، والأيام في ضمنها ، وعشر أخف في اللفظ ، ولا تنقضي عدّتها إلاَّ بانقضاء اليوم العاشر ، هذا قول الجمهور .
وقال الأوزاعي ، وأبو بكر الأحم : ليس اليوم العاشر من العدة ، بل تنقضي بتمام عشر ليالٍ . وقال المبرد : معناه وعشر مدد كل مدة منها يوم وليلة ، تقول العرب : سرنا خمساً ، أي : بين يوم وليلة قال الشاعر : فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة
وكان النكيرات تضيف وتجأرا
وقال الزمخشري : وقيل عشر إذهاباً إلى الليالي والأيام داخلة معها ، ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام ، تقول : صمت عشراً ، ولو ذكرت خرجت من كلامهم ، ومن البين فيه ) إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ( ) إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ( انتهى كلامه

" صفحة رقم 234 "
ولا يحتاج إلى تأويل عشر بأنها ليالٍ لأجل حذف التاء ، ولا إلى تأويلها بمدد ، كما ذهب إليه المبرد ، بل الذي نقل أصحابنا أنه : إذا كان المعدود مذكراً وحذفته ، فلك فيه وجهان .
أحدهما ، وهو الأصل : أن يبقى العدد على ما كان عليه لو لم يحذف المعدود ، فتقول : صمت خمسة . تريد : خمسة أيام ، قالوا : وهو الفصيح ، قالوا : ويجوز أن تحذف منه كله تاء التأنيث ، وحكى الكسائي عن أبي الجراح : صمنا من الشهر خمساً . ومعلوم أن الذي يصام من الشهر إنما هي الأيام ، واليوم مذكر وكذلك قوله : وإلاَّ فسيري مثل ما سار راكب
يتمم خمساً ليس في سيره أمم
يريد خمسة أيام ، وعلى ذلك ما جاء في الحديث ، ثم أتبعه بست من شوال ، وإذا تقرر هذا فجاء قوله : عشراً على أحد الجائزين ، وحسنه هنا أنه مقطع كلام ، فهو شبيه بالفواصل ، كما حسن قوله : ) إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ( كونه فاصلة ، فلذلك اختير مجيء هذا على أحد الجائزين ، فقوله : ولو ذكرت لخرجت عن كلامهم ، ليس كما ذكر ، بل لو ذكر لكان أتى على الكثير الذي نصوا عليه أنه الفصيح ، إذ حاله عندهم محذوفاً كحاله مثبتاً في الفصيح ، وجوزوا الذي ذكره الزمخشري على أن غيره أكثر منه ، وقوله : ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ، كما ذكر ، بل استعمال التذكير هو الكثير الفصيح فيه . كما ذكرنا . وقوله : ومن البين فيه ) إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ( قد بينا مجيء هذا على الجائز فيه ، وأن محسن ذلك إنما هو كونه فاصلة ، وقوله : ) إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ( فائدة ذكر الزمخشري هذا أنه على زعمه أراد الليالي ، والأيام داخلة معها ، فأتى بقوله : إلاَّ يوماً ، للدلالة على ذلك ، وهذا عندنا يدل على أن قوله : عشراً ، إنما يريد بها الأيام ، لأنهم اختلفوا في مدة اللبث ، فقال قوم : عشر ، وقال ، أمثلهم : طريقة يوم ، فقوله : إلاَّ يوماً ، مقابل لقولهم إلاَّ عشراً ، ويبين أنه أريد بالعشر الأيام ، إذ ليس من التقابل أن يقول بعضهم : عشر ليال ، ويقول : بعض : يوماً .
وظاهر قوله أربعة أشهر ما يقع عليه اسم الشهر ، فلو وجبت العدّة مع رؤية الهلال لاعتدّت بالأهلة ، كان الشهر تاماً أو ناقصاً . وإن وجبت في بعض شهر ، فقيل : تستوفي مائة وثلاثين يوماً ، وقيل : تعتدّ بما يمر عليها من الأهلة شهوراً ، ثم تكمل الأيام الأول ، وكلا القولين عن أبي حنيفة .
ولما كان الغالب على من مات عنها زوجها أن تعلم ذلك ، فتعتد إثر الوفاة ، جاء الفعل مسنداً : إليهن ، وأكد بقوله : بأنفسهن ، فلو مضت عليها مدة العدة من حين الوفاة ، وقامت على ذلك البينة ، ولم تكن علمت بوفاته إلى أن انقضت العدة ، فالذي عليه الجمهور أن عدتها من يوم الوفاة ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، وجابر ، وعطاء والأسود بن يزيد ، وفقهاء الأمصار .
وقال علي ، والحسن البصري ، وخلاس بن عمرو ، وربيعة : من يوم يأتيها الخبر .
وكأنهم جعلوا في إسناد التربص إليهن تأثيراً في العدة . وروي عن سعيد بن المسيب ، والشافعي : أنهما قالا : إذا قامت البينة فالعدة من يوم يموت ، وإن لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر .
وروي عن الشافعي مثل قول الجمهور ، وأجمعوا على أن المعتدة ، لو كانت حاملاً لا تعلم بوفاة الزوج حتى وضعت الحمل ، أن عدتها منقضية ، ولم تتعرض الآية في المتوفي عنها زوجها إلاَّ لأن تتربص تلك المدة ، فلا نفقة لها في مدة العدة من رأس المال ، ولو كانت حاملاً ، قاله جابر ، وابن عباس ، وابن المسيب ، وعطاء ، والحسن ، وعكرمة ، وعبد الملك بن يعلى ، ويحيى الأنصاري ،

" صفحة رقم 235 "
وربيعة ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر ، وروي عن أبي حنيفة .
وقيل : لها النفقة من جميع المال ، وروي ذلك عن علي ، وعبد الله بن عرم ، وشريح ، وابن سيرين ، والشعبي ، وأبي العالية ، والنخعي ، وخلاس بن عمرو ، وحماد بن أبي سليمان ، وأيوب السختياني ، والثوري ، وأبي عبيد .
وظاهر قوله ) يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( أنه إذا تربصت هذه المدة ليس عليها أكثر من ذلك ، وإن كانت ممن تحيض فلم تحض فيها ، وقيل : لا تبرأ إلاَّ بحيضة تأتي بها في المدة ، وإلاَّ فهي مستريبة ، فتمكث حتى تزول ريبتها .
وأجمع الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الإعتداد بالحول ، وهذا من غرائب النسخ ، فإن الحكم الثاني ينسخ الأول ، وقيل : إن الحول لم ينسخ ، وإنما هو ليس على وجه الوجوب ، بل هو على الندب ، فأربعة أشهر وعشراً ، أقل ما تعتدّ به المتوفى عنها زوجها ، والحول هو الأكمل والأفضل .
وقال قوم : ليس في هذا نسخ ، وإنما هو نقصان من الحول : كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنين لم يكن ذلك نسخاً ، بل كان تخفيفاً .
قالوا : واختص هذا العدد في عدّة المتوفى عنها زوجها استبراء للحمل فقد روى ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( يكون خلق أحدكم نطفة أربعين يوماً ، ثم علقة أربعين يوماً ، ثم مضغة أربعين يوماً ، ثم ينفخ فيه الروح ، أربعة أشهر وزاد الله العشر لأنها مظنة لظهور حركة الجنين ، أو مراعاة لنقص الشهور وكمالها ، أو استظهاراً لسرعة ظهور الحركة أو بطئها في الجنين ) . قال أبو العالية وغيره : إنما زيدت العشر لأن نفخ الروح يكون فيها ، وظهور الحمل في الغالب . وقال الأصمعي : ولد كل عامل يركض في نصف حمله ، وقال الراغب : ذكر الأطباء أن الولد في الأكثر ، إذا كان ذكراً يتحرك بعد ثلاثة أشهر ، وإذا كان أنثى بعد أربعة أشهر ، وزيد على ذلك عشراً استظهاراً .
قال وخصت العشرة لزيادة لكونها أكمل الأعداد وأشرفها لما تقدم في : ) تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ).
قال القشيري : لما كان حق الميت أعظم ، لأن فراقه لم يكن بالاختيار ، كانت مدة وفاته أطول ، وفي ابتداء الإسلام كانت عدة الوفاة سنة ، ثم ردت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام لتخفيف براءة الرحم عن ماء الزوج ، ثم إذا انقضت العدة أبيح لها التزوج بزوج آخر ، إذ الموت لا يستديم موافاة إلى آخر عمر أحد . كما قيل : وكما تبلى وجوه في الثرى
فكذا يبلى عليهنّ الحزن
) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى وَالاْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ). بلوغ أجلهنّ هو انقضاء المدة المضروبة في التربص ، والمخاطبون : بعليكم ، الأولياء ، أو الآئمة والحكام والعلماء ، إذ هم الذين يرجع إليهم في الوقائع ، أو عامة المؤمنين . أقوال ، ورفع الجناح عن الرجال في بلوغ النساء أجلهنّ لأنهم هم الذين ينكرون عليهنّ ، ويأخذونهنّ بأحكام العدد ، أو لأنهم إذ ذاك يسوغ لهم نكاحهن ، إذ كان ذلك في العدّة حراماً ، فزال الجناح بعد انقضاء العدة .
والذي فعلن بأنفسهن : النكاح الحلال ، قاله مجاهد ، وابن شهاب ، أو : الطيب ، والتزين ، والنقلة من مسكن إلى مسكن ، قاله أبو جعفر الطبري ، ومعنى : بالمعروف أي : بالإشهاد ، وقيل : ما أذن فيه الشرع مما يتوقف النكاح عليه ، وقال الزمخشري : ) فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ ( من التعرض للخطاب ، بالمعروف : بالوجه الذي لا ينكره الشرع ، والمعنى : أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمه أن يكفوهن ، وإن فرطوا كان عليهم الجناح . إنتهى كلامه . وهو حسن .
( وَاللَّهُ بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيرٌ ( وعيد يتضمن التحذير ، وخبير للمبالغة ، وهو العلم بما لطف والتقصي له .
البقرة : ( 235 ) ولا جناح عليكم . . . . .
( وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ ( نفى الله الحرج في التعريض بالخطبة ، وهو : إنك لجميلة ، وإنك لصالحة ، وإن من عزمي أن أتزوج ؛ وإنى فيك لراغب ، وما أشبه ذلك ، أو : أريد النكاح

" صفحة رقم 236 "
وأحب امرأة كذا وكذا يعد أوصافها ، قاله ابن عباس . أو : إنك لنافقة ، وإن قضي شيء سيكون ، قاله الشعبي . أو : يصف لها نفسه ، وفخره ، وحسبه ، ونسبه ، كما فعل الباقر مع سكينة بنت حنظلة ، أو يقول لوليها : لا تسبقني بها ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) لفاطمة بنت قيس : ( كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك ) . وقد أوّل هذا على أنه منه ( صلى الله عليه وسلم ) ) لفاطمة على سبيل الرأي فيمن يتزوجها ، لا أنه أرادها لنفسه ، ولذلك كره مجاهد أن يقول : لا تسبقيني بنفسك ، ورآه من المواعدة سراً ، أو يقول : ما عليك تأيم ، ولعل الله يسوق إليك خيراً ، أو رب رجل يرغب فيك ، أو : يهدي لها ويقوم بشغلها إذا كانت له رغبة في تزويجها .
قال إبراهيم : أو يقول كل ما سوى التصريح ، قاله ابن زيد ، والإجماع على أنه لا يجوز التصريح بالتزويج ، ولا التنبيه عليه ، ولا الرفث ، وذكر الجماع ، والتحريض عليه . وقد استدلت الشافعية بنفي الحرج في التعريض بالخطبة على أن التعريض بالندب لا يوجب الحد ، فكما خالف نهيُ حكمَيْ التعريض والتصريح في الخطبة ، فكذلك في القذف .
( أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ ( أي : أخفيتم في أنفسكم من أمر النكاح فلم تعرضوا به ولم يصرّحوا بذكر ، وكان المعنى رفع الجناح عمن أظهر بالتعريض أو ستر ذلك في نفسه ، وإذا ارتفع الحرج عمن تعرض باللفظ فأحرى أن يرتفع عمن كتم ، ولكنهما حالة ظهور وإخفاء عفي عنهما ، وقيل : المعنى أنه يعقد قلبه على أنه سيصرّح بذلك في المستقبل بعد انقضاء العدة ، فأباح الله التعريض ، وحرم التصريح في الحال ، وأباح عقد القلب على التصريح في المستقبل .
ولا يجوز أن يكون الإكنان في النفس هو الميل إلى المرأة ، لأنه كان يكون من قبيل إيضاح الواضحات ، لأن التعريض بالخطبة أعظم حالاً من ميل القلب .
( عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ( هذا عذر في التعريض ، لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه ، فأسقط الله الحرج في ذلك ، وفيه طرف من التوبيخ ، كقوله : ) عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ ( وجاء الفعل بالسين التي تبدل على تقارب الزمان المستقبل لا تراخيه ، لأنهن يذكرن عندما انفصلت حبالهن من أزواجهن بالموت ، وتتوق إليهن الأنفس ، ويتمنى نكاحهن .
وقال الحسن ، معنى : ستذكرونهن ، كأنه قال : إن لم تنهوا . إنتهى .
وقوله : ستذكرونهن ، شامل لذكر اللسان وذكر القلب ، فنفى الحرج عن التعريض ، وهو كسر اللسان ، وعن الإخفاء في النفس وهو ذكر القلب .
( وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا ( هذا الاستدراك من الجملة التي قبله ، وهو قوله : ستذكرونهن ، والذكر يقع على أنحاء وأوجه ، فاستدرك منه وجه نهي فيه عن ذكر مخصوص ، ولو لم يستدرك لكان مأذوناً فيه لا لدراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر الله بوقوعه ، وهو نظير قولك : زيد سيلقى خالداً ولكن لا يواجهه بشر ، فاستدرك هذه الحالة مما يحتمله اللقاء ، وإن من أحواله المواجهة بالشر ، ولا يحتاج لكن إلى جملة محذوفة قبلها ، لكن يحتاج ما بعد : لكن ، إلى وقوع ما قبله من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، لأن نفي المواجهة بالشر يستدعي وقوع اللقاء .
قال الزمخشري ، فإن قلت ، أين المستدرك بقوله : ) وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ ). قلت ، هو محذوف لدلالة : ) سَتَذْكُرُونَهُنَّ ( عليه ) عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ( فاذكروهن ) وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا ( إنتهى كلامه .
وقد ذكرنا أنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف قبل لكن ، بل الاستدراك جاء من قبل قوله : ستذكرونهن ، ولم يأمر الله تعالى بذكر النساء ، لا على طريق الوجوب ، ولا الندب ، فيحتاج إلى تقدير : فاذكروهن ، على ما قررناه قبل قولك : سألقاك ولكن لا تخف مني ، لما كان اللقاء من بعض أحواله أن يخاف من الملقى استدرك فقال : ولكن لا تخف مني .
والسر ضد الجهر ، ويكنى به عن الجماع حلاله وحرامه ، لكنه في سر ، وقد يعبر به عن العقد ، لأنه سبب فيه ، وقد فسر : السر ، هنا : بالزنا الحسن ،

" صفحة رقم 237 "
وجابر بن زيد ، وأبو مجلز ، والضحاك ، والنخعي . ومما جاء : السر ، في الوطء الحرام ، قوله الحطيئة : ويحرم سر جارتهم عليهم
ويأكل جارهم أنف القصاع
وقال الأعشى : ولا تقربن جارة إنَّ سرها
عليك حرام فانكحن أو تأبدا
وقال ابن جبير : السر ، هنا النكاح . وقال ابن زيد معنى ، ذلك : لا تنكحوهن وتكتمون ذلك ، فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن ، فسمى العقد عليهم مواعدة ، وهذا ينبو عنه لفظ المواعدة .
قال بعضهم : جماعاً وهو أن يقول لها : إن نكحتك كان كيت وكيت ، يريد ما يجري بينهما تحت اللحاف . وقال ابن عباس ، وابن جبير أيضاً ، والشعبي ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، ومالك ، وأصحابه ، والجمهور : المعنى : لا توافقوهن المواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية .
فعلى هذا القول ، والقول الذي قبله ، ينتصب ، سراً ، على الحال ، أي : مستسرين . وعلى القولين الأولين ينتصب على المفعول ، وإذا انتصب على الحال كان مفعول : فواعدوهن محذوفاً ، تقديره : النكاح ، وقيل : انتصب على أنه نعت مصدر محذوف ، تقديره : مواعدة سراً . وقيل التقدير في : وانتصب انتصاب الظرف ، على أن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستهجن لأن مسارتهن في الغالب بما يستحي من المجاهرة به ، والذي تدل عليه الآية أنهم : نهوا أن يواعد الرجل المرأة في العدة ، أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج ، وأما تفسير السر هنا بالزنا فبعيد ، لأنه حرام على المسلم مع معتدة وغيرها ، وأما إطلاق المواعدة سراً على النقد فبعيد أيضاً ، وأيد قول الجمهور فبعيد أيضاً ، لأنهم نهوا عن المواعدة بالنكاح سراً وجهراً ، فلا فائدة في تقييد المواعدة بالسر .
( إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ). هذا الاستثناء منقطع لأنه لا يندرج تحت : سراً ، من قوله : ) وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا ( على أي تفسير فسرته ، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض ، وقال الضحاك : من القول المعروف أن تقول للمعتدة : احبسى عليّ نفسك فإن لي بك رغبة فتقول هي : وأنا مثل ذلك .
قال ابن عطية : وهذا عندي مواعدة .
وإنما لتعريض قول الرجل إنكن لإماء كرام ، وما قدر كان ، وإنك المعجبة ونحو هذا .
وقال الزمخشري : ) إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ( وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا .
فان قلت : بم يتعلق حرف الاستثناء ؟ قلت : بلا تواعدوهنّ ، أي : لا تواعدوهنّ مواعدة قط

" صفحة رقم 238 "
إلاَّ مواعدة معروفة غير منكرة ، أو : لا تواعدوهنّ إلاَّ بأن تقولوا ، أي : لا تواعدوهنّ إلاَّ بالتعريض ، ولا يجوز أن يكون استثناءً من سراً ، لادائه إلى قولك : لا تواعدوهن إلاَّ التعريض إنتهى كلام الزمخشري . ويحتاج إلى توضيح ، وذلك أنه جعله استثناءً متصلاً باعتبار أنه استثناء مفرغ ، وجعل ذلك على وجهين .
أحدهما : أن يكون استثناء من المصدر المحذوف ، وهو الوجه الأول الذي ذكره ، وقدّره : لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلاَّ مواعدة معروفة غير منكرة ، فكأن المعنى : لا تقولوا لهن قولاً تعدونهن به إلاَّ قولاً معروفاً ، فصار هذا نظير : لا تضرب زيداً ضرباً شديداً .
والثاني : أن يكون استثناء مفرغاً من مجرور محذوف ، وهو الوجه الثاني الذي ذكره ، وقدره : إلاَّ بأن تقولوا ، ثم أوضحه بقوله : إلاَّ بالتعريض ، فكان المعنى : لا تواعدوهنّ سراً ، أي نكاحاً بقول من الأقوال ، إلاَّ بقول معروف ، وهو التعريض . فحذف : من أن ، حرف الجر ، فيبقى منصوباً أو مجروراً على الخلاف الذي تقدم في نظائره .
والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الذي قبله انتصب نصب المصدر ، وهذا انتصب على إسقاط حرف الجر ، وهو : الباء ، التي للسبب .
قوله ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعاً من سراً لأدائه إلى قوله : لا تواعدوهنّ إلاَّ التعريض ، والتعريض ليس مواعد ، فلا يصح عنده أن ينصب عليها العامل ، وهذا عنده على أن يكون منقطعاً نظير : ما رأيت أحداً إلاَّ حماراً . لكن هذا يصح فيه : ما رأيت إلاَّ حماراً ، وذلك لا يصح فيه ، لا تواعدوهنّ إلاَّ التعريض ، لأن التعريض لا يكون مواعداً بل مواعداً به النكاح ، فانتصاب : سراً ، على أنه مفعول ، فكذلك ينبغي أن يكون : أن تقولوا ، مفعولاً ، ولا يصح ذلك فيه ، فلا يصح أن يكون استثناء منقطعاً . هذا توجيه منع الزمخشري أن يكون استثناء منقطعاً .
وما ذهب إليه ليس بصحيح لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما ذكر ، وهو أن يمكن تلك العامل السابق عليه ، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين .
أحدهما : ما ذكره الزمخشري ، وهو : أن يتسلط العامل على ما بعد ؛ إلاَّ ، كما مثلنا به في قولك : ما رأيت أحداً إلاَّ حماراً . و : ما في الدار أحد إلاَّ حماراً .
وهذا النوع فيه خلاف عن العرب ، فمذهب الحجازيين نصب هذا النوع من المستثنى ، ومذهب بني تميم اتباعه لما قبله في الإعراب ، ويصلح في هذا النوع أن تحذف الأول وتسلط ما قبله على ما بعد إلاَّ ، فتقول : ما رأيت إلاَّ حماراً ، وما في الدار إلاَّ حمار . ويصح في الكلام : ما لهم به إلاَّ اتباع الظن .
والقسم الثاني : من قسمي الاستثناء المنقطع هو أن لا يمكن تسلط العامل على ما بعد إلاَّ ، وهذا حكمه النصب عند العرب قاطبة ، ومن ذلك : ما زاد إلاَّ ما نقص ، وما نفع إلاَّ ما ضر . فما بعد إلاَّ لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نقص ، بل يقدّر المعنى : ما زاد ، لكن النقص حصل له ، وما نفع لكن الضرر حصل ، فاشترك هذا القسم مع الأوّل في تقدير إلاَّ بلكن ، لكن الأوّل يمكن تسليط ما قبله عليه ، وهذا لا يمكن .
وإذا تقرر هذا فيكون قوله : ) إِلاَّ أَن تَقُولُواْ ( استثناء منقطعاً من هذا القسم الثاني ، وهو ما لا يمكن أن يتوجه عليه العامل ، والتقدير : لكنّ التعريض سائغ لكم ، وكأن الزمخشري ما علم أن الاستثناء المنقطع يأتي على هذا النوع من عدم توجيه العامل على ما بعد إلاَّ ، فلذلك منعه ، والله أعلم .
وظاهر النهي في قوله ) لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا ( التحريم حتى قال مالك في رواية ابن وهب عنه ، فيمن واعد في العدّة ثم تزّوجها بعد العدّة ، قال : فراقها أحب إليّ دخل بها أو لم يدخل ، وتكون تطليقة واحدة ، فإذا حلت خطبها مع الخطاب وروي أشهب عن مالك وجوب التفرقة بينهما . وقال ابن القاسم : وحكى مثل هذا ابن حارث عن ابن الماجشون ، وزاد ما تقتضي تأبيد التحريم . وقال الشافعي : لو صرح بالخطبة وصرحت بالإجابة ولم يعقد عليها إلاَّ بعد انقضاء العدّة صح النكاح ، والتصريح بهما مكروه . وقال ابن عطية : أجمعت الأمّة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة .
( وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ( نهوا عن العزم على عقدة النكاح ، وإذا كان العزم منهياً عنه فأحرى أن ينهي عن العقدة .
وانتصاب : عقدة ، على المفعول به لتضمين : تعزموا ، معنى ما يتعدّى بنفسه ، فضمن معنى : تنووا ، أو معنى : تصمموا ، أو معنى : توجبوا ، أو معنى : تباشروا ، أو معنى : تقطعوا ، أي : تبتوا .

" صفحة رقم 239 "
وقيل : انتصب عقدة على المصدر ، ومعنى تعزموا تعقدوا . وقيل : انتصب على إسقاط حرف الجر ، وهو على هذا التقدير : ولا تعزموا على عقدة النكاح . وحكى سيبويه أن العرب تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ، أي على الظهر والبطن وقال الشاعر : ولقد أبيت على الطوى وأظله
حتى أنال به كريمَ المأكلِ
الأصل وأظل عليه ، فحذف : على ، ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه ، إذ أصل هذا الفعل أن يتعدّى بعلى ، قال الشاعر : عزمت على إقامة ذي صباح
لأمر ما يسوّد من يسود
وقد تقدّم الكلام على نظير هذا في قوله : ) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ ( وعقدة النكاح ما تتوقف عليه صحة النكاح على اختلاف العلماء في ذلك ، ولذلك قال ابن عطية : عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي ، وبلوغ الكتاب أجله هو انقضاء العدّة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، والسدّي . ولم ينقل عن أحد خلافه ، بل هو من المحكم المجمع على تأويله بانقضاء العدّة .
والكتاب هنا هو المكتوب أي : حتى يبلغ ما كتب ، وأوجب من العدّة أجله أي : وقت انقضائه وقال الزجاج الكتاب هو القرآن ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ، وهو ما فرض بالكتاب من العدّة ، فإذا انقضت العدّة جاز الإقدام على التزّوج ، وهذا النهي معناه التحريم ، فلو عقد عليها في العدّة فسخ الحاكم النكاح ، فإن كان ذلك قبل الدخول بها ، فقال عمر ، والجمهور : لا يتأبد التحريم . وقال مالك ، وابن القاسم ، في المدّونة : ويكون خاطباً من الخطاب وحكى ابن الجلاب عن مالك : أنه يتأبد ، وإن عقد عليها في العدّة ودخل بعد انقضائها فقولان عن العلماء ، قال قوم : يتأبد ، وقال قوم : لا يتأبد ، والقولان عن مالك ، ولو عقد عليها في العدّة ، ودخل بها في العدّة ، فقال عمر ، ومالك ، وأصحابه ، والأوزاعي ، والليث ، وأحمد وغيرهم : يتأبد التحريم .
وقال مالك ، والليث : ولا تحل له بملك اليمين ، وقال علي ، وابن مسعود ، وإبراهيم ، وأبو حنيفة ، والشافعي : وعبد العزيز بن أبي سلمة ، وجماعة : لا يتأبد ، بل يفسخ بينهما ، ثم تعتدّ منه ويكون خاطباً من الخطاب .
قال الحسن ، وأبو حنيفة ، والليث ، وأحمد ، وإسحاق ، والمدنيون غير مالك : تعتدّ من الأوّل ، فإذا انقضت العدّة فلا بأس أن يتزوّجها الآخر .
وقال مالك ، وأصحاب الرأي ، والأوزاعي والثوري : عدّة واحدة تكفيهما جميعاً ، سواء كانت بالحمل ، أم بالإقراء ، أم بالأشهر .
( وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ( قيل : المعنى ما في أنفسكم من هواهنّ ، وقيل : من الوفاء والإخلاف ، قاله ابن عباس : فاحذروه ، الهاء تعود على الله تعالى ، أي : فاحذروا عقابه .
وقال الزمخشري : يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز فاحذروه ولا تعزموا عليه . انتهى . فيحتمل أن تعود في كلام الزمخشري على ما لا يجوز من العزم ، أي فاحذروا ما لا يجوز ولا تعزموا عليه ، فتكون الهاء في : فاحذروه ولا تعزموا عليه ، عائدة على شيء واحد ، ويحتمل في كلامه أن تعود على الله ، والهاء في : عليه ، على ما لا يجوز ، فيختلف ما تعود عليه الهاءان ، ولما هدّدهم بأنه مطلع على ما في أنفسهم ، وحذرهم منه ، أردف ذلك بالصفتين الجليلتين ليزيل

" صفحة رقم 240 "
عنهم بعض روع التهديد والوعيد ، والتحذير من عقابه ، ليعتدل قلب المؤمن في الرجاء والخوف ، وختم بهاتين الصفتين المقتضيتين المبالغة في الغفران والحلم ، ليقوي رجاء المؤمن في إحسان الله تعالى ، وطمعه في غفرانه وحلمه إن زل وهفاً ، وأبرز كل معنى من التحذير والإطماع في جملة مستقلة ، وكرر اسم الله تعالى للتفخيم ، والتعظيم بمن يسند إليه الحكم ، وجاء خبر أن الأولى بالمضارع ، لأن ما يهجس في النفوس يتكرر فيتعلق العلم به ، فكأن العلم يتكرر بتكرر متعلقه ، وجاء خبر أن الثانية بالاسم ليدل على ثبوت الوصف ، وأنه قد صار كأنه من صفات الذات ، وإن كان من صفات الفعل .
قيل : وتضمنت هذه الآيات ضروباً من البديع .
منها : معدول الخطاب ، وهو أن الخطاب بقوله : ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ( الآية عام والمعنى على الخصوص . ومنها : النسخ ، إذ هي ناسخة للحول على قول الأكثرين . ومنها : الاختصاص ، وهو أن يخص عدداً فلا يكون ذلك إلاَّ لمعنى ، وذلك في قوله : ) أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( ومنها : الكناية ، في قوله : ) وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا ( كنى بالسر عن النكاح ، وهي من أبلغ الكنايات . ومنها : التعريض ، في قوله : ) يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ ( ومنها : التهديد ، بقوله ) فَاحْذَرُوهُ ( ومنها : الزيادة في الوصف ، بقوله : ) غَفُورٌ حَلِيمٌ ).
البقرة : ( 236 ) لا جناح عليكم . . . . .
( لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ( نزلت في أنصارى تزوّج حنيفية ولم يسم مهراً ، ثم طلقها قبل أن يمسها ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( متعها ولو بقلنسوتك ) : فذلك قوله : ) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ( الآية .
ومناسبتها لما قبلها أنه : لما بين تعالى حكم المطلقات المدخول بهنّ ، والمتوفى عنهنّ أزواجهنّ ، بين حكم المطلقة غير المدخول بها ، وغير المسمى لها مدخولاً بها ، أو غير ذلك .
والمطلقات أربع : مدخول بها مفروض لها ، ونقيضتها ، ومفروض لها غير مدخول بها ، ونقيضتها .
والخطاب في قوله : ) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ( للأزواج ، ومعنى نفي الجناح هنا هو أنه : لما نهى عن التزوّج بمعنى الذوق وقضاء الشهوة ، وأمر بالتزوّج طلباً للعصمة والثواب ، ودوام الصحبة ، وقع في بعض نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء يكون قد أوقع جزءا من هذا المكروه ، فرفع الله الجناح في ذلك ، إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن .
( مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ( قرأ حمزة والكسائي : تماسوهنّ ، مضارع ما من ، فاعل . وقرأ باقي السبعة مضارع مسست ، وفاعل . يقتضى اشتراك الزوجين في المسيس ، ورجح أبو علي قراءة : تمسوهنّ ، بأن أفعال هذا الباب جاءت ثلاثية ، نحو : نكح ، وسفد ، وفزع ، ودقط ، وضرب الفحل ، والقرابان حسنتان ، والمس هنا والمماسة : الجماع ، كقوله : ) وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ ( و : ما ، في قوله : ) مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ( الظاهر أنها ظرفية مصدرية ، التقدير : زمان عدم المسيس كقوله الشاعر : إني بحبلك واصل حبلي
وبريش نبلك رائش نبلي
ما لم أجدك على هدى أثر
يقرو مقصك قائف قبلي
وهذه ما ، الظرفية المصدرية ، شبيهة بالشرط ، وتقتضي التعميم نحو : أصحبك ما دمت لي محسناً ، فالمعنى : كل وقت دوام إحسان . وقال بعضهم : ما ، شرطية ، ثم قدرها بأن ، وأراد بذلك ، والله أعلم ، تفسير المعنى ، و : ما إذا كانت شرطاً تكون إسما

" صفحة رقم 241 "
غير ظرف زمان ولا مكان ، ولا يتأتى هنا أن تكون شرطاً بهذا المعنى .
وزعم ابن مالك أن : ما ، تكون شرطاً ظرف زمان ؛ وقد رد ذلك عليه ابنه بدر الدين محمد في بعض تعاليقه ، وتأول ما استدل به والده ، وتأولنا نحن بعض ذلك ، بخلاف تأويل ابنه ، وذلك كله ذكرناه في كتاب ( التكميل ) من تأليفنا . على أن ابن مالك ذكر أن ما ذهب إليه لا يقوله النحويون ، وإنما استنبط هو ذلك من كلام الفصحاء على زعمه .
وزعم بعضهم أن : ما ، في قوله ) مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ( إسما موصولاً والتقدير : إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهنّ ، فلا يكون لفظ . ما ، شرطاً ، وهذا ضعيف ، لأن : ما ، إذ ذاك تكون وصفاً للنساء ، إذ قدرها بمعنى اللاتي ، و : ما ، من الموصولات التي لا يوصف بها بخلاف الذي والتي .
وكنى بالمسيس عن المجامعة تأديباً لعباده في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون .
( أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ( الفريضة هنا هو الصداق ، وفرضه تسميته .
و : أو ، على بابها من كونها تأتي لأحد الشيئين ، أو لأشياء ، والفعل بعدها معطوف على : تمسوهنّ ، فهو مجزوم ، أو معطوف على مصدر متوهم ، فهو منصوب على إضمار أن بعد أو ، بمعنى إلاَّ . التقدير : ما لم تمسوهنّ إلاَّ أن تفرضوا لهنّ فريضة ، أو معطوف على جملة محذوفة التقدير : فرضتم أو لم تفرضوا ، أو بمعنى الواو والفعل مجزوم معطوف على : تسموهنّ ، أقوال أربعة .
الأول : لابن عطية وغيره والثاني : للزمخشري والثالث : لبعض أهل العلم ولم يسم والرابع : للسجاوندي وغيره .
فعلى القول الأول : ينتفي الجناح عن المطلق عند انتفاء أحد أمرين : إما الجماع ، وإما تسمية المهر ، أما عند انتفاء الجماع فصحيح ، وأما عند انتفاء تسمية المهر فالحكم ليس كذلك ، لأن المدخول بها التي لم يسم لها مهر ، وهي المفوضة ، إذا طلقها زوجها لا ينتفي الجناح عنه .
وعلى القول الثاني : ينتفي الجناح عند انتفاء الجماع إلاَّ إن فرض لها مهرٌ ، فلا تنتفي الجناح ، وإن انتفى الجماع ، لأنه استثنى من الحالات التي ينتفي فيها الجناح حالة فرض الفريضة ، فيثبت فيها الجناح .
وعلى القول الثالث : ينتفي الجناح بانتفاء الجماع فقط ، سواء فرض أم لم يفرض ، وقالوا : المراد هنا بالجناح لزوم المهر ، فينتفي ذلك بالطلاق قبل الجماع ، فرض مهراً أو لم يفرض ، لأنه إن فرض انتقل إلى النصف ، وإن لم يفرض ، فاختلف في ذلك ، فقال حماد بن أبي سليمان : إذا طلقها ولم يدخل بها ، ولم يكن فرض لها ، أجبر على نصف صداق مثلها ، وقال غيره : ليس لها نصف مهر المثل ، ولكن المتعة .
وفي هذا القول الثالث حذف جملة ، وهي قوله : فرضتم ، وإضمار : لم ، بعد : أو ، وهذا لا يجوز إلاَّ إذا عطف على مجزوم ، نحو : لم أقم وأركب ، على مذهب من يجعل العامل في المعطوف مقدراً بعد حرف العطف .
وعلى القول الرابع : ينتفي الجناح بانتفاء الجماع ، وتسمية المهر معاً ، فإن وجد الجماع وانتفت التسمية فلها مهر مثلها ، وإن انتفى الجماع ووجدت التسمية فنصف المسمى ، فيثبت الجناح إذ ذاك في هذين الوجهين ، وينتفى بانتفائهما ، ويكون الجناح إذ ذاك يطلق على ما يلزم المطلق باعتبار هاتين الحالتين .
وهذه الآية تدل على جواز الطلاق قبل البناء ، وأجمعوا على جواز ذلك ، والظاهر جواز طلاق الحائض غير المدخول بها ، لأن الآية دلت على انتفاء الحرج في طلاقهنّ عموماً ، سواء كنّ حيضاً أم لا ، وهو قول أكثر العلماء ومشهور مذهب مالك ، ولمالك قول يمنع من طلاق الحائض مدخولاً بها أو غير مدخول بها ، وموت الزوج قبل البناء ، وقبل الفرض ينزل منزلة طلاقه قبل البناء وقبل الفرض ، فليس لها مهر ولا ميراث ، قاله مسروق ، وهو مخالف للأصول .
وقال عليّ ، وزيد ، وابن عباس ، وابن عمر ، والزهري ، والأوزاعي ، ومالك . والشافعي : لها الميراث ، ولا صداق لها . وعليها العدة .
وقال عبد الله بن مسعود ، وجماعة من الصحابة ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق : لها صداق مثل نسائها ، وعليها العدة ، ولها الميراث .
وظاهر الآية يدل على صحة نكاح التفويض ، وهو جائز عند فقهاء الأمصار ، لأنه تعالى قسم حال المطلقة إلى قسمين : مطلقة لم يسم لها ، ومطلقة سمي لها ، فإن لم يفرض لها ، ووقع الطلاق قبل الدخول ، لم يجب لها صداق إجماعاً . قاله القاضي أبو بكر بن العربي ، وقد تقدّم خلاف حماد بن أبي

" صفحة رقم 242 "
سليمان في ذلك ، وأن لها نصف صداق مثلها ، وإن فرض لها بعد العقد أقل من مهر مثلها لم يلزمها تسليم نفسها ، أو مهر مثلها لزمها التسليم ، ولها حبس نفسها حتى تقبض صداقها .
وقال أبو بكر الأصم ، وأبو إسحاق الزجاج : هذه الآية تدل على أن عقد النكاح بغير مهر جائز ، وقال القاضي : لا تدل على الجواز ، لكنها تدل على الصحة ، أما دلالتها على الصحة فلأنه لو لم يكن صحيحاً لم يكن الطلاق مشروعاً ، ولم تكن النفقة لازمة ، وأما أنها لا تدل على الجواز ، فلأنه لا يلزم من الصحة الجواز بدليل أن الطلاق في زمان الحيض حرام ، ومع ذلك هو واقع صحيح .
( وَمَتّعُوهُنَّ ( أي : ملكوهنّ ما يتمتعن به ، وذلك الشيء يسمى متعة . وظاهر هذا الأمر الوجوب ، وروي ذلك عن : عليّ ، وابن عمر ، والحسن ، وابن جبير ، وأبي قلابة ، وقتادة ، والزهري ، والضحاك بن مزاحم ؛ وحمله على الندب : شريح ، والحكم ، وابن أبي ليلى ، ومالك ، والليث ، وأبو عبيد .
والضمير الفاعل في ) وَمَتّعُوهُنَّ ( للمطلقين ، والضمير المنصوب ضمير المطلقات قبل المسيس ، وقبل الفرض ، فيجب لهنّ المتعة ، وبه قال ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر بن زيد ، والحسن ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي . وتندب في حق غيرهنّ من المطلقات .
وروي عن : عليّ والحسن ، وأبي العالية ، والزهري : لكل مطلقة متعة ، فإن كان فرض لها وطلقت قبل المسيس ، فقال ابن عمر ، وشريح ، وإبراهيم ، ومحمد بن عليّ : لا متعة لها ، بل حسبها نصف ما فرض لها ؛ وقال أبو ثور : لها المتعة ، ولكل مطلقة .
واختلف فقهاء الأمصار ، فقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وزفر ، ومحمد : المتعة واجبة لغير المدخول بها ولم يسم لها ، وإن دخل بها متعها ، ولا يجبر عليها ، وهو قول الثوري ، والحسن بن صالح ، والأوزاعي ، إلاَّ أن الأوزاعي يزعم أن أحد الزوجين ، إذا كان مملوكاً لم تجب المتعة ، وإن طلقها قبل الدخول .
وقال ابن أبي ليلى ، وأبو الزناد : المتعة غير واجبة ، ولم يفرقا بين المدخول بها وبين من سمي لها ومن لم يسم لها .
وقال مالك : المتعة لكل مطلقة مدخول بها وغير بمدخول ، إلاَّ الملاعنة والمختلعة والمطلقة قبل الدخول ، وقد فرض لها .
وقال الشافعي : المتعة لكل مطلقة إذا كان الفراق من قبله ، إلاَّ التي سمى لها وطلق قبل الدخول .
وقال أحمد : يجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهر ، فإن دخل بها فلا متعة ، ولها مهر المثل .
وروي عن الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ، وقال عطاء ، والنخعي ، والترمذي أيضاً : للمختلعة متعة ، وقال أصحاب الرأي : للملاعنة متعة ، وقال ابن القاسم : لا متعة في نكاح منسوخ ، قال ابن الموّاز : ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد ، مثل ملك أحد الزوجين صاحبه .
وروى ابن وهب عن مالك : أن المخيرة لها المتعة ، بخلاق الأمة ، تعتق تحت العبد ، فتختار ، فهذه لا متعة لها .
وظاهر الآية : أن المتعة لا تكون إلاَّ لإحدى مطلقتين : مطلقة قبل الدخول ، سواء فرض لها ، أو لم يفرض . ومطلقة قبل الفرض ، سواء دخل بها أو لم يدخل . وسيأتي الكلام على قوله : ) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ( إن شاء الله تعالى .
( عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ( هذا مما يؤكد الوجوب في المتعة ، إذ أتى بعد الأمر الذي هو ظاهر في الوجوب بلفظة : على ، التي تستعمل في الوجوب ، كقوله : ) وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ( ) فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( والموسع : الموسر ، والمقتر : الضيق الحال ، وظاهره اعتبار حال الزوج ، فمن اعتبر ذلك بحال الزوج والزوجة ، فهو مخالف للظاهر ، وقد جاء هذا القدر مبهماً ، فطريقة الاجتهاد وغلبة الظن إذ لم يأت فيه بشيء مؤقت .
ومعنى : قدره ، مقدار ما يطيقه الزوج ، وقال ابن عمر أدناها ثلاثون درهماً أو شبهها ، وقال ابن عباس : أرفعها خادم ثم كسوة ثم نفقة ، وقال عطاء : من أوسط

" صفحة رقم 243 "
ذلك درع وخمار وملحفة ، وقال الحسن : يمتع كل على قدره هذا بخادم ، وهذا بأثواب ، وهذا بثوب ، وهذا بنفقة ، وهذا قول مالك ؛ ومتع الحسن بن عليّ بعشرين ألفاً وزقاق من عسل ، ومتع عائشة الخثعمية بعشرة آلاف ، فقالت : متاع قليل من حبيب مفارق ، ومتع شريح بخمسمائة درهم .
وقال ابن مجيز : على صاحب الديوان ثلاثة دنانير ، وقال ابن المسيب : أفضل المتعة خمار ، وأوضعها ثوب . وقال حماد : يمتعها بنصف مهر مثلها .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال لرجل من الأنصار ، تزوج امرأة ولم يسم لها مهر ، ثم طلقها قبل أن يمسها : ( أمتعتها ) قال : لم يكن عندي شيء قال : ( متعها بقلنسوتك ) . وعند أبي حنيفة لا تنقص عن خمسة دراهم ، لأن أقل المهر عنده عشرة دراهم ، فلا ينقص من نصفها . وقد متع عبد الرحمن بن عوف زوجه أم أبي سلمة ابنه بخادم سوداء ، وهذه المقادير كلها صدرت عن اجتهاد رأيهم ، فلم ينكر بعضهم على بعض ما صار إليه ، فدل على أنها موضوعة عندهم على ما يؤدي إليه الاجتهاد ، وهي بمنزلة تقويم المتلفات وأروش الجنايات التي ليس لها مقادير معلومة ، وإنما ذلك على ما يؤدي إليه الإجتهاد ، وهي من مسألة تقويم المتلفات .
وقرأ الجمهور : على الموسع ، اسم فاعل من أوسع ؛ وقرأ أبو حيوة : الموسع ، بفتح الواو والسين وتشديدها ، اسم مفعول من وسع ؛ وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر : قدره ، بسكوت الدال في الموضعين ؛ وقرأ حمزة ، والكسائي ، وابن عامر ، وحفص ، ويزيد ، وروح : بفتح الدال فيهما ، وهما لغتان فصيحتان ، بمعنى حكاهما أبو زيد ، والأخفش وغيرهما ، ومعناه : ما يطيقه الزوج ، وعلى أنهما بمعنى واحد أكثر أئمة العربية ، وقيل : الساكن مصدر ، والمتحرك اسم : كالعدّ والعدد ، والمدّ والمدد .
وكان القدر بالتسكين الوسع ، يقال : هو ينفق على قدره ، أي : وسعه ، قال أبو جعفر : وأكثر ما يستعمل بالتحريك إذا كان مساوياً للشيء يقال : هذا على قدر هذا .
وقرىء : قدره ، بفتح الراء ، وجوّزوا في نصبه وجهين : أحدهما : أنه انتصب على المعنى ، لأن معنى : ) متعوهنّ ( ليؤد كل منكم قدر وسعه . والثاني : على إضمار فعل ، التقدير : وأوجبوا على الموسع قدره .
وفي السجاوندي : وقرى ابن أبي عبلة : قدره ، أي قدره الله . إنتهى . وهذا يظهر أنه قرأ بفتح الدال والراء ، فتكون ، إذ ذاك فعلاً ماضياً ، وجعل فيه ضميراً مستكناً يعود على الله ، وجعل الضمير المنصوب عائداً على الإمتاع الذي يدل عليه قوله : ) فَرِيضَةً وَمَتّعُوهُنَّ ).
والمعنى : أن الله قدّر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر .
وفي الجملة ضمير محذوف تقديره : على الموسع منكم ، وقد يقال إن الألف واللام نابت عن الضمير ، أي : على موسعكم وعلى مقتركم ، وهذه الجملة تحتمل أن تكون مستأنفة بينت حال المطلق في المتعة بالنسبة إلى إيساره وإقتاره ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب على الحال ، وذو الحال هو الضمير المرفوع وفي قوله : ) وَمَتّعُوهُنَّ ( والرابط هو ذلك الضمير المحذوف الذي قدرناه : منكم .
( مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ ( قالوا : انتصب متاعاً على المصدر ، وتحريره أن المتاع هو ما يمتع به ، فهو اسم له ، ثم أطلق على المصدر على سبيل المجاز ، والعامل فيه ) وَمَتّعُوهُنَّ ( ولو جاء على أصل مصدر ) وَمَتّعُوهُنَّ ( لكان تمتيعاً ، وكذا قدّره الزمخشري ، وجوّز وافيه أن يكون منصوباً على الحال ، والعامل فيها ما يتعلق به الجار والمجرور ، وصاحب الحال الضمير المستكنّ في ذلك العامل ، والتقدير : قدر الموسع يستقرّ عليه في حال كونه متاعاً ، وبالمعروف يتعلق بقوله : ومتعوهنّ ، أو : بمحذوف ، فيكون صفة لقوله : متاعاً ، أي

" صفحة رقم 244 "
ملتبساً بالمعروف ، والمعروف هو المألوف شرعاً ومروءة ، وهو ما لا حمل له فيه على المطلق ولا تكلف .
( حَقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( هذا يؤكد أيضاً وجوب المتعة ، والمراد إحسان الإيمان والإسلام . وقيل : المراد إحسان العشرة ، فيكون الله سماهم محسنين قبل الفعل ، باعتبار ما يؤولون إليه من الإحسان ، نحو : ( من قتل قتيلا فله سلبه ) .
وانتصاب حقاً على أنه صفة لمتاعاً أي : متاعاً بالمعروف واجباً على المحسنين ، أو بإضمار فعل تقديره : يحق ذلك حقاً ، أو حالاً مما كان حالا منه متاعاً ، أو من قوله : بالمعروف ، أي : بالذي عرف في حال كونه على المحسنين .
البقرة : ( 237 ) وإن طلقتموهن من . . . . .
( وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ( لما بين حال المطلقة قبل المسيس وقبل الفرض ، بين حال المطلقة قبل المسيس وبعد الفرض ، والمراد بالمسيس الجماع ، وبالفريضة الصداق ، والجملة من قوله : ) وَقَدْ فَرَضْتُمْ ( في موضع الحال ، ويشمل الفرض المقارن للعقد ، والفرض بعد العقد ، وقبل الطلاق ، فلو كان فرض لها بعد العقد ، ثم طلق بعد الفرض ، فنصف الصداق بالطلاق لعموم الآية ، خلافاً لأبي حنيفة ، إذ لا يتنصف عنده ، لأنه لم يجب بالعقد ، فلها مهر مثلها كقول مالك ، والشافعي ، ثم رجع إلى قول صاحبيه ، وجواب الشرط ) فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( ، وارتفاع نصف على الابتداء وقدَّر الخبر : فعليكم نصف ما فرضتم ، أو : فلهن نصف ما فرضتم ، ويجوز أن يقدر مؤخراً ، ويجوز أن يكون خبراً ، أي : فالواجب نصف ما فرضتم .
وقرأت فرقة : فنصف ، بفتح الفاء أي : فادفعوا نصف ما فرضتم ، وظاهر قوله : ما فرضتم ، أنه إذا أصدقها عرضاً ، وبقي إلى وقت الطلاق وزاد أو نقص ، فنماؤه ونقصانه لهما ويتشطر ، أو عيناً ذهباً أو ورقاً فاشترت به عرضاً ، فنما أو نقص ، فلا يكون له إلاَّ نصف ما أصدق من العين لا من العرض ، لأن العرض ليس هو المفوض . وقال مالك : هذا العرض كالعين ، أصل ثمنه يتشطر ، وهذا تفريع على أنه هل يتبين بقاء ملكه على نصفه أو يرجع إليه بعد أن ملكته ؟ .
وظاهر الآية يدل على أنه لا يتشطر إلاَّ المفروض فلو كان نحلها شيئاً في العقد ، أو قبله لأجله ، فلا يتشطر . وقيل : هو في معنى الصداق .
وظاهر الآية أن الطلاق قبل الجماع وبعد الفرض يوجب تشطير الصداق ، سواء خلابها أم قبَّلها ، أم عانقها ، أم طال المقام معها ، وبه قال : الشافعي ، والحسن بن صالح ، ولا عدة عليها ؛ وروري عن علي ، وعمرو بن عمر ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، وعلي بن الحسن ، وابراهيم : أن لها بالخلوة جميع المهر . وقال مالك : إن خلابها وقبَّلها أو كشفها ، وكان ذلك قريباً ، فلها نصف الصداق ، وإن طال فلها المهر ، إلاَّ أن يضع منه ، وقال الثوري : إذا خلابها ولم يدخل عليها ، وكان ذلك من جهته ، فلها المهر كاملاً ، وإن كانت رتقاء فلها شطر المهر . وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر : الخلوة الصحيحة تمنع سقوط شيء من المهر بعد الطلاق ، وطىء أو لم يطأ ، وهو أن لا يكون أحدهما محرماً أو مريضاً ، أو لم تكن حائضة أو صائمة في رمضان ، أو رتقاء ، فإنه إذا كان كذلك ثم طلقها وجب لها نصف المهر إذا لم يطأها .
والعبّدة واجبة في هذه الوجوه كلها إن طلقها فعليها العدّة .
وقال الأوزاعي : اذا دخل بها عند أهلها ، قبلَّها أو لمسها ، ثم طلقها ولم يجامعها ، وكان أرخى عليها ستراً أو أغلق باباً فقد تم الصداق . وقال الليث : إذا أرخى عليها ستراً فقد وجب الصداق .
وقرأ الجمهور : فنصف بكسر النون وضم الفاء ، وقرأ السلمى بضم النون ، وهي قراءة على والأصمعي عن أبي عمرو ، وفي جميع القرآن . وتقدم أن ذلك لغة ، والاقتصار على قوله : ) فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( يدل على أن المطلقة قبل المسيس ، وقد فرض لها ، ليس لها إلاَّ النصف . وكذلك قال مالك وغيره : إن هذه الآية مخرجة للمطلقة بعد الفرض وقبل المسيس من حكم التمتيع ، إذ كان قد تناولها قوله : ) وَمَتّعُوهُنَّ ).
وقال ابن المسيب : نسخت هذه الآية آية الاحزاب ، وقال قتادة : نسخت الآية التي قبلها ، وزعم زيد بن أسلم أنها منسوخة ، وقال فريق من العلماء ، منهم أبو ثور : بينت هذه الآية أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض ، ولم تتعرض الآية لإسقاط متعتها بل لها المتعة ونصف المفروض ، وقد تقدّم الكلام على شيء من هذا .
( إَّلا أَن يَعْفُونَ ( نص ابن عطيه وغيره على أن هذا استثناء منقطع ، قاله ابن عطية ، لأن

" صفحة رقم 245 "
عفوهنّ عن النصف ليس من جنس أخذهن ، والمعنى إلاَّ أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج . إنتهى .
وقيل : وليس على ما ذهبوا إليه ، بل هو استثناء متصل ، لكنه من الأحوال ، لأن قوله : فنصف ما فرضتم ، معناه : عليكم نصف ما فرضتم في كل حال إلاَّ في حال عفوهن عنكم ، فلا يجب ، وإن كان التقدير : فلهن نصف فالواجب ما فرضتم ، فكذلك أيضاً وكونه استثناء من الأحوال ظاهر ، ونظيره : ) لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ( إلاَّ أن سيبويه منع أن تقع أن وصلتها حالاً ، فعلى قول سيبويه يكون : ) إَّلا أَن يَعْفُونَ ( استثناءً منقطعاً .
وقرأ الحسن : إلاَّ أن يعفونه ، والهاء ضمير النصف ، والأصل : يعفون عنه ، أي : عن النصف ، فلا يأخذنه . وقال بعضهم : الهاء للاستراحة ، كما تأول ذلك بعضهم في قول الشاعر : هم الفاعلون الخير والآمرونه
على مدد الأيام ما فعل البر
وحركت تشبيهاً بهاء الضمير . وهو توجيه ضعيف .
وقرأ ابن أبي إسحاق : إلاَّ أن تعفون ، بالتاء بثنتين من أعلاها ، وذلك على سبيل الالتفات ، إذ كان ضميرهن غائباً في قوله : لهن ، وما قبله فالتفت إليهن وخاطبهن ، وفي خطابه لهن ، وجعل ذلك عفواً ما يدل على ندب ذلك واستحبابه .
وفرق الزمخشري بين قولك : الرجال يعفون ، والنساء يعفون ، بأن الواو في الأول ضمير ، والنون علامة الرفع ، والوا في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن ، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل . إنتهى . فرقه ، وهذا من النحو الجلي الذي يدرك بأدنى قراءة في هذا العلم ، ونقصه أن يبين أن لازم الفعل في الرجال : يعفون ، حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الضمير ، وأن يذكر خلافاً في نحو النساء يعفون ، فذهب ابن درستويه من المتقدّمين ، والسهيلي من المتأخرين ، إلى أن الفعل إذا اتصلت به نون الإناث معرب لا مبني ، وينسب ذلك إلى كلام سيبويه . والكلام على هذه المسألة موضح في علم النحو .
وظاهر قوله : ) إَّلا أَن يَعْفُونَ ( العموم في كل مطلقة قبل المسيس ، وقد فرض لها ، فلها أن تعفو . قالوا : وأريد هنا بالعموم الخصوص ، وكل امرأة تملك أمر نفسها لها أن تعفو ، فأما من كانت في حجاب أو وصي فلا يجوز لها العفو ، وأما البكر التي لاوليّ لها ، فقال ابن عباس ، وجماعة من التابعين والفقهاء : يجوز ذلك لها ، وحكى سحنون ، عن ابن القاسم : أنه لا يجوز ذلك لها .
( أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ ( وهو : الزوج ، قاله علي ، وابن عباس وجبير بن مطعم ، وشريح رجع إليه ، وابن جبير ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ، والضحاك ، ومحمد بن كعب القرظي ، والربيع بن أنس ، وابن بشرمة ، وأبو حنيفة ، وذكر ذلك عن الشافعي .
وعفوه أن يعطيها المهر كله ، وروي أن جبير بن مطعم تزوج وطلق قبل الدخول ، فأكمل الصداق ، وقال : أنا أحق بالعفو .
وسمي ذلك عفواً إما على طريق المشاكلة ، لأن قبله ) إَّلا أَن يَعْفُونَ ( أو لأن من عادتهم أن كانوا يسوقون المهر عند التزوج ، ألا ترى إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لعلي كرم الله وجهه : ( فأين درعك الحطيمة ) يعني أن يصدقها فاطمة صلى الله على رسول الله وعليها ، فسمى ترك أخذهم النصف مما ساقوه عفوا عنه .
وروي عن ابن عباس ، والحسن ، وعلقمة ، وطاووس ، والشعبي ، وابراهيم ، ومجاهد ، وشريح ، وأبي صالح ، وعكرمة ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وغيرهم : أنه الولي الذي المرأة في حجره ، فهو : الأب في ابنته التي لم تملك أمرها ، والسيد في أمته ؛ وجوّز شريح عفو الأخ عن نصف المهر ، وقال : أنا أعفو عن مهور بني مرة وإن كرهن ، وقال عكرمة : يجوز أن يعفو عمّاً كان أو أخاً أو أباً ، وإن كرهت ، ويكون دخول أو : هنا للتنويع في العفو ، ( إَّلا أَن يَعْفُونَ ( إن كنّ ممن يصح العفو منهنّ ، أو يعفو وليهنّ ، إن كنّ لا يصح العفو منهنّ ، أو للتخيير ، أي : هنّ خيرات بين أن يعفون ، أو يعفو وليهنّ .
ورجح كونه الولي بأن الزوج المطلق يبعد فيه أن يقال بيده عقدة النكاح ، وأن يجعل تكميله الصداق عفواً ، وأن يبهم أمره حتى يبقى كالملبس ، وهو قد أوضح بالخطاب في قوله : ) فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( فلو جاء على مثل هذا التوضيح لكان : إلاَّ أن يعفون أو تعفوا أنتم ولا تنسوا الفضل بينكم ، فدل هذا على أنها درجة ثالثة ، إذ ذكر الأزواج ، ثم الزوجات ، ثم

" صفحة رقم 246 "
الأولياء .
وأجيب عن الأول : بأن ) بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ ( من حيث كان عقدها قبل ، فعبر بذلك عن الحالة السابقة ، وللنص الذي سبق في قوله : ) وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النّكَاحِ ( والمراد به خطاب الأزواج .
وعن الثاني : أنه على سبيل المشاكلة ، أو لكونه قد ساق الصداق إليها ، وقد تقدّم ذكر ذلك .
وعن الثالث : أنه لا إلباس فيه ، وهو من باب الالتفات ، إذ فيه خروج من خطاب إلى غيبة ، وإنما قلنا : لا إلباس فيه ، وأنه يتعين أن يكون الزوج ، لإجماع أهل العلم على أنه لا يجوز للأب أن يهب شيئاً من مال بنته لا لزوج ولا لغيره ، فكذلك المهر ، إذ لا فرق .
ويحتمل أن يكون قوله : ) بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ ( على حذف مضاف أي : بيده حل عقدة النكاح ، كما قالوا في قوله : ) وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النّكَاحِ ( أي : على عقدة النكاح .
ولو فرضنا أن قوله : ) أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ ( من المتشابه ، لوجب ردّه إلى المحكم . قال الله تعالى : ) وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( وقال تعالى : ) وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ ( وقال : ) وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا ( الآية . فهذه الآية محكمة تدل ععلى أن الولي لا دخول له في شيء من أخذ مال الزوجة ، ورجح أيضاً أنه الزوج بأن عقدة النكاح كانت بيد الولي فصارت بيد الزوج ، وبأن العفو يطلق على ملك الانسان وعفو الولي عفو عما لا يملك ، وبأن قوله : ) وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ ( يدل على أن الفضل في هبة الإنسان مال نفسه لا مال غيره .
وقرأ الحسن : أو يعفو ، بتسكين الواو ، فتسقط في الوصل لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها ، فإذا وقف أثبتها ، وفعل ذلك استثقالاً للفتحة في حرف العلة ، فتقدر الفتحة فيها كما تقدّر في الألف في نحو : لن يخشى ، وأكثر العرب على استخفاف الفتحة في الواو والياء في نحو : لن يرمي ولن يغزو ، وحتى إن أصحابنا نصوا على أن إسكان ذلك ضرورة ، وقال : فما سودتني عامر عن وراثة
أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
قال ابن عطية والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة مجيئها في كلام العرب ، وقد قال الخليل ، رحمه الله : لم يجيء في الكلام واو مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلاَّ في قولهم : عفوة ، وهو جمع : عفو ، وهو ولد الحمار ، وكذلك الحركة ما كانت قبل الواو مفتوحة ، فإنها ثقيلة . إنتهى كلامه .
وقوله : لقلة مجيئها في كلام العرب ، يعني مفتوحة مفتوحاً ما قبلها ، هذا الذي ذكر فيه تفصيل ، وذلك أن الحركة قبلها إما أن تكون ضمة أو فتحة أو كسرة ، إن كانت ضمة فإما أن يكون ذلك في فعل أو اسم ، إن كان في فعل فليس ذلك بقليل ، بل جميع المضارع إذا دخل عليه الناصب ، أو لحقه نون التوكيد ، على ما أحكم في بابه ، ظهرت الفتحة فيه نحو : لن يغزو ، وهل يغزون ، والأمر نحو : اغزون ، وكذلك الماضي على فعل نحو : سَرَوَ الرجل ، حتى ما بنى من ذوات الياء على فعل تقول فيه : لقضوَ الرجل ، ولرَموَتِ اليد ، وهو قياس مطرد على ما أحكم في بابه ؛ وإن كان في اسم فإما أن يكون مبنيناً على هاء التأنيث ، أو لا . إن كان مبنياً على هاء التأنيث فجاء كثيراً نحو : عرقوة ، وترقوه ، وقمحدوه ، وعنصوة ، وتبنى عليه المسائل في علم التصريف ، وإن كانت الحركة فتحة فهو قليل ، كما ذكره الخليل ، وإن كانت كسرة انقلبت الواو فيه ياء ، نحو الغازي ، والغازية ، والقريقية ، وشذ من ذلك : أقروَه جمع قرو ، وهي ميلغة الكاب ، و : سواسوة وهم : المستوون في الشر ، و : مقاتوه جمع مقتو ، وهو السايس الخادم .
والألف واللام في النكاح للعهد أي عقدة لها ، قال المغربي : وهذا على طريقة البصريين ، وقال غيره الألف واللام بدل الإضافة أي : نكاحه ، قال الشاعر : لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم
من الناس والأحلام غير عوازب
أي : وأحلامهم ، وهذا على طريقة الكوفيين .
( وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ). هذا خطاب للزوج والزوجة ، وغلب

" صفحة رقم 247 "
المذكر ، قاله ابن عباس . وقال ابن عطية : خاطب تعالى الجميع تأدباً بقوله : ) وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( أي : يا جميع الناس . إنتهى كلامه .
والذي يظهر أنه خطاب للأزواج فقط ، وقاله الشعبي ، إذ هم الخاطبون في صدر الآية ، فيكون ذلك من الالتفات ، إذ رجع من ضمير الغائب ، وهو الذي بيده عقدة النكاح على ما اخترناه في تفسيره ، إلى الخطاب الذي استفتح به صدر الآية ، وكون عفو الزوج أقرب للتقوى من حيث إنه كسر قلب مطلقته ، فيجبرها بدفع جميع الصداق لها ، إذ كان قد فاتها منه صحبته ، فلا يفوتها منه نحلته ، إذ لا شيء أصعب على النساء من الطلاق ، فإذا بذل لها جميع المهر لم تيأس من ردّها إليه ، واستشعرت من نفسها أنه مرغوب فيها ، فانجبرت بذلك .
وقرأ الشعبي ، وأبو نهيك : وأن يعفوا ، بالياء باثنيتين من تحتها ، جعله غائباً ، وجمع على معنى : الذي بيده عقدة النكاح ، لأنه للجنس لا يراد به واحد ، وقيل : هذه القراءة تؤيد أن العفو مسند للأزواج ، قيل : والعفوا أقرب لا تقاء كل واحد منهما ظلم صاحبه . وقيل : لاتقاء معاصي الله .
و : أقرب ، يتعدّى بالَّلام كهذه ، ويتعدّى بإلى كقوله : ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ( ولا يقال : إن اللام بمعنى إلى ، ولا إن اللام للتعليل ، بل على سبيل التعدية لمعنى المفعول به المتوصل إليه بحرف الجر ، فمعنى اللام ومعنى إلى متقاربان من حيث التعدية ، وقد قيل : بأن اللام بمعنى إلى ، فيكون ذلك من تضمين الحروف ، ولا يقول به البصريون . وقيل أيضاً : إن اللام للتعليل ، فيدل على علة ازدياد قرب العفو على تركه ، والمفضل عليه في القرب محذوف ، وحسن ذلك كون أفعل التفضيل وقع خبراً للمبتدأ ، والتقدير : والعفو منكم أقرب للتقوى من ترك العفو .
( وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ( الخطاب فيه من الخلاف ما في قوله : ) وَأَن تَعْفُواْ ).
والنسيان هنا الترك مثل : ) نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ( والفضل : هو فعل ما ليس بواجب من البر ، فهو من الزوج تكميل المهر ، ومن الزوجة ترك شطره الذي لها ، قاله مجاهد ، وإن كان المراد به الزوج فهو تكميل المهر .
ودخل جبير بن مطعم على سعد بن أبي وقاص ، فعرض عليه بنتاً له ، فتزوّجها ، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملاً ، فقيل له : لم تزوّجتها ؟ فقال : عرضها علي فكرهت ردّه ، قيل : فلم بعثت بالصداق كاملاً ؟ قال : فأين الفضل ؟ .
وقرأ علي ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : ولا تناسوا الفضل . قال ابن عطية وهي قراءة متمكنة المعنى ، لأنه موضع تناسٍ لا نسيان إلاّ على التشبيه . إنتهى .
وقرأ يحيى بن يعمر : ولا تنسوا الفضل ، بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين ، تشبيهاً للواو التي هي ضمير بواو ولو في قوله تعالى : ) لَوِ اسْتَطَعْنَا ( كما شبهوا : واو : لو ، بواو الضمير ، فضموها ، قرأ ) لَوِ اسْتَطَعْنَا ( بضم الواو .
وانتصاب : بينكم ، بالفعل المنهي عنه و : بين ، مشعر بالتخلل والتعارف ، كقوله : ) وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( فهو أبلغ من أن يأتي النهي عن شيء لا يكون بينهم ، لأن الفعل المنهي عنه لو وقع لكان ذلك مشتهراً بينهم ، قد تواطؤوا عليه وعلموا به ، لأن ما تخلل أقواماً يكون معروفاً عندهم .
( إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ختم هذه الآية بهذه الصفة الدالة على المبصرات ، لأن ما تقدمه من العفو من المطلقات والمطلقين ، وهو أن يدفع شطر ما قبضن أو يكملون لهنّ الصداق ، هو مشاهد مرئي ، فناسب ذلك المجيء بالصفة المتعلقة بالمبصرات .
ولما كان آخر قوله : ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ( الآية قوله : ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ ( مما يدرك بلطف وخفاء ، ختم ذلك بقوله : ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( وفي ختم هذه الآية بقوله : ) إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( وعد جميل للمحسن وحرمان لغير المحسن .
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة والتي قبلها أنواعاً من الفصاحة ، وضروباً من علم البيان والبلاغة .
الكناية في : أن تمسوهنّ ، والتجنيس المغاير ، في : فرضتم لهنّ فريضة ، والطباق في : الموسع والمقتر والتأكيد بالمصدرين في : متاعاً وحقاً ، والاختصاص : في : حقاً على المحسنين ، ويمكن أن يكون من : التيمم ، لما قال : حقاً ، أفهم الإيجاب ، فلما قال : على المحسنين تمم المعنى ، وبيَّن أنه من باب التفضل والإحسان لا من باب الإيجاب ، فلما قال : على المحسنين تمم التعميم ، وبين أنه من باب التفضل والإحسان ، لا من باب الإيجاب ؛

" صفحة رقم 248 "
والالتفات : في : وأن تعفوا ، ولا تنسوا ؛ والعدول عن الحقيقة إلى المجاز في : الذي بيده عقدة النكاح ، عبر عن الإيجاب والقبول بالعقدة التي تعقد حقيقة ، لما في ذلك القول من الارتباط لكل واحد من الزوجين بالآخر .
البقرة : ( 238 ) حافظوا على الصلوات . . . . .
( حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ ( قالوا : هذه الآية معترضة بين آيات المتوفى عنها زوجها ، والمطلقات ، وهي متقدّمة عليهنّ في النزول ، متأخرة في التلاوة ورسم المصحف ، وشبهوها بقوله : ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ( وبقوله : ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( قالوا : فيجوز أن تكون مسوقة على الآيات التي ذكر فيها القتال ، لأنه بين فيها أحوال الصلاة في حال الخوف ، قالوا : وجاء ما هو متعلق بأبعد من هذا ، زعموا أن قوله تعالى : ) لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الْكِتَابِ ( رداً لقوله : ) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( قالوا : وأبعد منه : ) سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( راجع إلى قوله : ) وَإِذَا قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ( الآية قالوا : أو يجوز أن يكون حدث خوف قبل إنزال إتمام أحكام المطلقات ، فبين تعالى أحكام صلاة الخوف عند مسيس الحاجة إلى بيانه ، ثم أنزل إتمام أحكام المطلقات .
قالوا : ويجوز أن تكون متقدمة في التلاوة ورسم المصحف ، متأخرة في النزول قبل هذه الآيات ، على قوله بعد هذه الآية : ) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( وهذه كلها أقوال كما ترى .
والذي يظهر في المناسبة أنه تعالى ، لما ذكر تعالى جملة كثيرة من أحوال الأزواج والزوجات ، وأحكامهم في النكاح والوطء ، والإيلاء والطلاق ، والرجعة ، والإرضاع والنفقة والكسوة ، والعدد والخطبة ، والمتعة والصداق والتشطر ، وغير ذلك ، كانت تكاليف عظيمة تشغل من كلفها أعظم شغل ، بحيث لا يكاد يسع معها شيء من الأعمال ، وكان كل من الزوجين قد أوجب عليه للآخر ما يستفرغ فيه الوقت ، ويبلغ منه الجهد ، وأمر كلا منهما بالإحسان إلى الآخر حتى في حالة الفراق ، وكانت مدعاة إلى التكاسل عن الاشتغال بالعبادة إلاَّ لمن وفقه الله تعالى ، أمر تعالى بالمحافظة على الصلوات التي هي الوسيلة بين الله وبين عبده ، وإذا كان قد أمر بالمحافظة على أداء حقوق الآدميين ، فلأن يؤمر بأداء حقوق الله أولى وأحق ، ولذلك جاء : ( فدين الله أحق أن يقضى ) فكأنه قيل : لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهنّ عن أداء ما فرض الله عليكم ، فمع تلك الأشغال العظيمة لا بد من المحافظة على الصلاة ، حتى في حالة الخوف ، فلا بد من أدائها رجالاً وركباناً ، وإن كانت حالة الخوف أشد من حالة الاشتغال بالنساء ، فإذا كانت هذه الحالة الشاقة جداً لا بد معها من الصلاة ، فأحرى ما هو دونها من الأشغال المتعلقة بالنساء .
وقيل : مناسبة الأمر بالمحافظة على الصلوات عقيب الأوامر السابقة أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ، فيكون ذلك عوناً لهم على امتثالها ، وصوناً لهم عن مخالفتها ، وقيل : وجه ارتباطها بما قبلها وبما بعدها ، أنه لما أمر تعالى بالمحافظة على حقوق الخلق بقوله : ) وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ( ناسب يأمر بالمحافظة على حقوق الحق ، ثم لما كانت حقوق الآدميين منها ما يتعلق بالحياة ، وقد ذكره ، ومنا ما يتعلق بالممات ، ذكره بعده ، في قوله : ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّةً ( الآية .
والخطاب : ) يحافظوا ( لجميع المؤمنين ، وهل يعم الكافرين ؟ فيه خلاف . و : حافظوا ، من باب : طارقت النعل ، ولما ضمن المعنى التكرار والمواظبة عدى بعلى ، وقد رام بعضهم أن يبقى فاعل على معناها الأكثر فيها من الاشتراك بين اثنين ، فجعل المحافظة بين العبد وبين الرب ، كأنه قيل : احفظ هذه الصلاة يحفظك الله الذي أمر بها ، ومعنى المحافظة هنا : دوام ذكرها ، أو الدوام على تعجيلها في أول أوقاتها ، أو : إكمال فروضها وسننها ، أو جميع ما تقدّم . أقوال أربعة .
والألف واللام فيها للعهد ، وهي : الصلوات الخمس . قالوا : وكل صلاة في القرآن مقرونة بالمحافظة ، فالمراد بها الصلوات الخمس .
( بَصِيرٌ حَافِظُواْ عَلَى ( الوسطى فعلى مؤنثة الأوسط ، كما قال أعرابي يمدح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يا أوسط الناس طرّاً في مفاخرهم
وأكرم الناس أمَّاً برّة وأبا

" صفحة رقم 249 "
وهو خيار الشيء وأعدله ، كما يقال : فلان من واسطة قومه ، أي : من أعيانهم ، وهل سميت : الوسطى ، لكونها بين شيئين من : وسط فلان يسط ، إذا كان وسطاً بين شيئين ؟ أو : من وسط قومه إذا افضلهم ؟ فيه قولان ، والذي تقتضيه العربية أن تكون الوسطى مؤنث الأوسط ، بمعنى الفضلى مؤنث الأفضل ، كالبيت الذي أنشدناه : يا أوسط الناس ، وذكر أن أفعل التفضيل لا يبنى إلاَّ مما يقبل الزيادة والنقص ، وكذلك فعل التعجب ، فكل ما لا يقبل الزيادة والنقص لا يبنيان منه ألا ترى أنك لا تقول زيد أموت الناس ؟ ولا : ما أموت زيداً ؟ لأن الموت شيء لا يقبل الزيادة ولا النقص ، وإذا تقرر هذا فكون الشيء وسطاً بين شيئين لا يقبل الزيادة ولا النقص ، فلا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل ، لأنه لا تفاضل فيه ، فتعين أن تكون الوسطى بمعنى الأخير والأعدل ، لأن ذلك معنى يقبل التفاوت ، وخصت الصلاة الوسطى بالذكر ، وان كانت قد اندرجت في عموم الصلوات قبلها ، تنبيهاً على فضلها على غيرها من الصلوات ، كما نبه على فضل جبريل وميكال في تجريدهما بالذكر في قوله : ) وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( وعلى فضل من ذكر وجرد من الأنبياء بعد قوله : ) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الآية ، وعلى فضل النخل والرمان في قوله : ) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( وقد تكلمنا على هذا النوع من الذكر في قوله : ) وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ).
وكثر اختلاف العلماء ، من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم ، في المراد بالصلاة الوسطى ، ولهذا قال سعيد بن المسيب : كان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الصلاة الوسطى هكذا ، وشبك بين أصابعه .
والذي تلخص فيه أقوال :
أحدها : أنها العصر ، قاله عليّ ، وابن مسعود ، وأبو أيوب ، وابن عمر في رواية ، وسمرة بن جندب ، وأبو هريرة ، وابن عباس في رواية عطية ، وأبو سعيد الخدري ، وعائشة في رواية ، وحفصة ، والحسن بن المسيب ، وابن جبير ، وعطاء في رواية ، وطاووس ، والضحاك ، والنخعي ، وعبيد بن حميد ، وذر بن حبيش ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، والشافعي في قول ، وعبد الملك بن حبيب ، من أصحاب مالك ، وهو اختيار الحافظ أبي بكر بن العربي في كتابه المسمى ( بالقبس في شرح موطأ مالك بن أنس ) واختيار أبي محمد بن عطية في تفسيره ، وقد استفاض من الحديث الصحيح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال يوم الأحزاب : ( شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً ) . وقال عليّ : كنا نراها الصبح حتى قال رسل الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ذلك ، فعرفنا أنها العصر .
وروى أبو مالك الاشعري ، وسمرة بن جندب : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : الصلاة الوسطى صلاة العصر ، وفي مصحف عائشة ، وإملاء حفصة ؛ والصلاة الوسطى وهي العصر ، ومن روى : وصلاة العصر ، أول على أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى .
وقرأ أبيّ ، وابن عباس ، وعبيد بن عمير : والصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، على البدل .
الثاني : أنها الفجر ، روي ذلك عن عمر ، وعلي في رواية ، وأبي موسى ومعاذ ، وجابر ، وأبي أمامة ، وابن عمر . في رواية مجاهد ، وأنس ، وجابر بن زيد ، وعطاء وعكرمة ، وطاووس في رواية ابنه ، ومجاهد ، وعبد الله بن شدّاد ، ومالك ، والشافعي في قول : وقد قال أبو العالية : صليت مع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الغداة ، فقلت لهم : أيما الصلاة الوسطى ؟ فقالوا : التي صليت قبل . ورووا عن أبي رجاء العطاردي قال : صلى بنار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) صلاة الغداة ، فقنت فيها قبل الركوع ، ورفع يديه ، فلما فرع قال : هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا بها أن نقوم فيها قانتين .
الثالث : أنها الظهر ، روي ذلك عن ابن عمر ، وزيد ، وأسامة ، وأبي سعيد ، وعائشة . وفي رواية قالوا : وروى زيد بن ثابت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان يصلي الهاجرة والناس في هاجرتهم ، فلم يجتمع إليه أحد فتكلم في ذلك . فانزل الله تعالى : ) حَافِظُواْ عَلَى ( يريد الظهر ، وقد روي أنه لا

" صفحة رقم 250 "
يكون وراءه إلاَّ الصف والصفان ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لقد هممت أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم ) فنزلت هذه الآية : ) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواةِ الْوُسْطَى ).
الرابع : أنها المغرب ، روي ذلك عن ابن عباس ، وقبيصة ابن ذؤيب .
الخامس : أنها العشاء الآخرة ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في تفسيره ، وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن فرقه .
السادس : أنها الصلوات الخمس ، قاله معاذ بن جبل .
السابع : أنها احدى الصلوات الخمس ، لا بعينها . وبه قال : سعيد بن المسيب ، وأبو بكر بالوراق ، وأخفاها ليحافظ على الصلوات كلها ، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان ، واسم الله الأعظم في سائر الأسماء ، وساعة الإجابة في يوم الجمعة ، وقد رواه نافع عن ابن عمر ، وقاله الربيع بن خيثم ، وقد روي أنه نزلت : والصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ثم نسخت فنزلت : ) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواةِ الْوُسْطَى ( فيلزم من هذا نسخ تعييينها ، وأبهمت بعد أن عينت . قال القرطبي المفسر : وهو الصحيح إن شاء الله لتعارض الأدلة وعدم الترجيح ، فلم يبق إلاَّ المحافظة على جميعها وأدائها .
الثامن : أنها الجمعة ، وفي سائر الأيام الظهر . روي ذلك عن علي ، ذكره ابن حبيب .
التاسع : أنها العتمة والصبح ، قاله عمر وعثمان .
العاشر : أنها الصبح والعصر معاً ، قاله أبو بكر الأبهري من فقهاء المالكية .
ورجح كل قول من الأقوال التي عينت فيها : أن الوسطى هي كذا ، بأحاديث وردت في فضل تلك الصلاة ، ورُجح بعضها بأنها وسط بين كذا وكذا ، ولا حجة في شيء من ذلك ، لأن ذكر فضل صلاة معينة لا يدل على أنا التي أراد الله بقوله : ) حَافِظُواْ عَلَى ( ولأن كونها وسطاً بين كذا وكذا لا يصلح أن يبنى منه أفعل التفضيل ، كما بيناه قبل .
وقد صنف شيخنا الإمام المحدّث ، أوحد زمانه وحافظ أوانه ، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن العفيف شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي كتاباً في هذا المعنى سماه ( كتاب كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى ) قرأناه عليه ، ورجح فيه أنها صلاة العصر ، وأن ذلك مروي نصاً عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، روى ذلك عنه : عليّ بن أبي طالب ، واستفاض ذلك عنه ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عباس ، وسمرة بن جيدب ، وعبد الله بن عمر ، وأبو هريرة ، وأبو هاشم بن عتبة بن ربيعة . وذكر فيه بقية الأقاويل العشرة التي سردناها ، وزاد سبعة أقاويل :
أحدها : أنها الجمعة خاصة . الثاني : أنها الجماعة في جميع الصلوات . الثالث : أنها صلاة الخوف . الرابع : أنها الوتر ، واختاره أبو الحسن عليّ بن محمد السخاوي النحوي المقري . الخامس : أنها صلاة عيد الأضحى . السادس : أنها صلاة العيد يوم الفطر . السابع : أنها صلاة الضحى ، حكاه بعضهم وتردد فيه .
فإن ثبت هذا القول فيكون تمام سبعة عشر قولاً ، والذي ينبغي أن نعوّل عليه منها هو قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو : أنها صلاة العصر ، وبه قال شيخنا الحافظ أبو محمد ، رحمه الله ، أخبرنا المسند أبو بكر محمد بن أبي الطاهر اسماعيل بن عبد المحسن الدمشقي ، بقراءتي عليه بالقاهرة من ديار مصر ، حرسها الله ، عن أبي الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي المقري ، قال : أخبرنا فقيه الحرم : أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الصاعدي ، قال : أخبرنا أبو الحسن عبد الغفار بن محمد بن عبد الغفار الفارسي ( ح ) .
وأخبرنا أستادنا العلامة أبو جعفر ، أحمد بن إبراهيم بن الزبير بالثقفي ، بقراءتي عليه بغرناطة ، من جزيرة الاندلس ، قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى الفارقي ، قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبيد الله الحجري ، قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن زغيبة المشاور ، قال : أخبرنا أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث ( ح ) .
وأخبرنا القاضي أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص ، مناولة عن أبي القاسم أحمد بن عمر بن أحمد الخزرجي ، وهو آخر من

" صفحة رقم 251 "
حدّث عنه ، ولم يحدّثنا عنه من شيوخنا غيره ، عن أبي الحسن علي بن عبد الله بن موهب الجذامي ، وهو آخر من حدّث عنه عن أبي العباس بن دلهاث ، قال : أخبرنا أبو العباس أحمد بن الحسن بن مندار بمكة قالا ، أعني عبد الغفار ، وابن مندار : أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ، قال : أخبرنا أبو اسحاق إبراهيم بن محمد ابن سفيان الفقيه ، أخبرنا الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ، قال : وحدّثنا عون بن سلام الكوفي ، حدّثنا محمد بن طلحة اليامي ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : حبس المشركون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس ، أو اصفرّت ، فقال رسو الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً ) ، أو : ( حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً ) . .
وقرأ عبد الله ، : ) وَعَلَى الصَّلَواةِ الْوُسْطَى ( باعادة الجار على سبيل التوكيد ، وقرأت عائشة : والصلاة ، بالنصب ، ووجه الزمخشري على أنه نصب على المدح والاختصاص ، ويحتمل أن يراعى موضع : على الصلاة ، لأنه نصب كما تقول : مررت بزيد وعمرا ، وروي عن قالون أنه قرأ : الوسطى ، بالصاد أبدلت السين صاداً المجاورة الطاء ، وقد تقدّم الكلام على هذا في قوله : الصراط .
( وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( أي : مطيعين قاله الشعبي ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، وابن جبير ، والضحاك ، والحسن . أو : خاشعين ، قاله مجاهد ، أو : مطيلين القيام ، قاله ابن عمر ، والربيع . أو : داعين ، قاله ابن عباس ، أو : ساكتين ، قاله السدّي ، أو : عابدين ، أو : مصلين ، أو : قارئين ، روي هذا عن ابن عمر ، أو : ذاكرين الله في القيام ، قاله الزمخشري أو : راكدين كافي الأيدي والأبصار ، قاله مجاهد ، وهو الذي بعبر عنه قبل بالخشوع .
والأظهر بحمله على السكوت ، إذ صح أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة ، حتى نزلت : ) وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( فأمروا بالسكوت . والمعنى : وقوموا في الصلاة .
وروي أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمدّ بصره ، أو يلتفت ، أو يقلب الحصا ، أو يحدّث نفسه بشيء من أمور الدنيا ، وإذا كان القنوت في الآية هو السكوت على ما جاء في الحديث ، فأجمعوا على أنه : لو تكلم عامداً وهو يعلم أنه في الصلاة ، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته ، فسدت صلاته إلاَّ ما روي عن الأوزاعي : أن الكلام لإحياء نفس ، أو مثل ذلك من الأمور الجسام ، لا يفسد الصلاة .
أو : ساهياً ، فقال مالك والشافعي : لا تفسد ، وعن مالك في بعض صور الكلام خلاف بينه وبين أصحابه ، وقال أبو حنيفة ، والثوري : تفسد كالعمد ، لإصلاح صلاة كان أو لغيره ، وهو قول النخعي ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان .
واختلف قول أحمد فنقل الخرقي كقول أبي حنيفة ، ونقل الأثرم عنه : إن تكلم لإصلاحها لم تفسد ، أو لغيره فسدت ، وهذا قول مالك .
وفي قوله : ) وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( دليل على مطلوبية القيام ، وأجمعوا على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه ، كان منفرداً أو إماماً ؟ واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي خلف إمام مريض قاعداً ولا يستطيع القيام ، فأجاز ذلك جمهور العلماء : جابر بن زيد ، والأوزاعي ، ومالك ، وأحمد ، واسحاق ، وأبو أيوب ، وسليمان بن داود الهاشمي ، وأبو خيثمة ، وابن أبي شيبة ، ومحمد بن اسماعيل ، ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل : محمد بن نصر ، ومحمد بن اسحاق بن خزيمة : فيصلي وراءه جالساً على مذهب هؤلاء ، وأفتى به من الصحابة : جابر ، وأبو هريرة ، وأسيد بن حضير ، وقيس بن فهر وروي هذا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : أنس ، وعائشة ، وأبو هريرة ، وجابر ، وابن عمر ، وأبو أمامة الباهلي .
وأجازت طائفة صلاة القائم خلف صلاة المريض قاعداً ، وإلى هذا ذهب : الشافعي ، وداوود ، وزفر ، وجماعة بالمدينة ، وهي رواية غريبة عنه . والمشهور عن مالك أنه لا يؤم أحد جالساً ، فإن فعل بطلت صلاته وصلاتهم إلا إن كان عليلاً ، فتصح صلاته وتفسد صلاتهم ، وإلى هذا ذهب محمد بن الحسن ، قال أبو حاتم محمد بن

" صفحة رقم 252 "
حبان البستي : وأول من أبطل صلاة المأموم قاعداً إذا صلى إمامه جالساً المغيرة بن مقسم صاحب النخعي ، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ، ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة ، وتبعه عليه من بعده من أصحابه .
البقرة : ( 239 ) فإن خفتم فرجالا . . . . .
( فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ( لما ذكر المحافظة على الصلوات ، وأمر بالقيام فيها قاتنين ، كان مما يعرض للمصلين حالة يخافون فيها ، فرخص لهم في الصلاة ماشين على الأقدام ، وراكبين .
والخوف يشمل الخوف من : عدّو ، وسبع ، وسيل وغير ذلك ، فكل أمر يخاف منه فهو مبيح ما تضمنته الآية هذه .
وقال مالك : يستحب في غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن ، وأكثر الفقهاء على تساوي الخوف .
و : رجالاً ، منصوب على الحال ، والعامل محذوف ، قالوا تقديره : فصلوا رجالاً ، ويحسن أن يقدر من لفظ الأول ، أي : فحافظوا عليها رجالاً ، ورجالاً جمع راجل ، كقائم وقيام ، قال تعالى : ) وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً ( وقال الشاعر : وبنو غدانة شاخص أبصارهم
يمشون تحت بطونهنّ رجالاً
والمعنى : ماشين على الأقدام ، يقال منه : رجل يرجل رجلاً ، إذا عدم المركوب ، ومشى على قدميه ، فهو راجل ورجل ورجل ، على وزن رجل مقابل امرأة . وهي لغة أهل الحجاز ، يقولون : مشى فلان إلى بيت الله حافياً رجلاً ، ويقال رجلان ورجيل ورجل ، قال الشاعر : عليّ إذا لاقيتُ ليلى بخلوة
أن ازدار بيت الله رجلان حافياً
قالوا : ويجمع على : رجال ورجيل ورُجالى ورجالى ورجالة ورجلان ورَجلة ورجلة بفتح الجيم وأرجلة وأراجل وأراجيل ؛ قرأ عكرمة ، وأبو مجلز : فرُجَّالاً ، بضم الراء وتشديد الجيم ، وروي عن عكرمة التخفيف مع ضم الراء ، وقرىء : فرجلاً ، بضم الراء وفتح الجيم مشدودة بغير ألف ؛ وقرىء : فرجلا ، بفتح الراء وسكون الجيم .
وقرأ بديل بن ميسرة : فرجالاً فركباناً بالفاء ، وهو جمع راكب . قال الفضل : لا يقال راكب إلاَّ لصاحب الجمل ، وأما صاحب الفرس فيقال له فارس ، ولراكب الحمار حمَّار ، ولراكب البغل بغَّال ، وقيل : الأفصح أن يقال : صاحب بغل ، وصاحب حمار .
وظاهر قوله : ) فَإِنْ خِفْتُمْ ( حصول مطلق الخوف ، وأنه بمطلق الخوف تباح الصلاة في هاتين الحالتين .
وقالوا : هي صلاة الغداة للذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حالة المسايفة أو ما يشبهه ، وأما صلاة الخوف بالإمام ، وانقسام الناس فليس حكمها في هذه الآية .
وقيل : فرجالاً ، مشاة بالجماعة لأنهم يمشون إلى العدّو في صلاة الخوف ، أو ركباناً أي : وجداناً بالإيماء .
وظاهر قوله : فرجالاً ، أنهم يوقعون الصلاة وهم ماشون ، فيصلون على كل حال ، والركب يوميء ويسقط عنه التوجه إى القبلة ، وهو قول الشافعي ؛ وقال أبو حنيفة : لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف .
ولم تتعرض الآية لعدد الركعات في هذا الخوف ، والجمهور أنها لا تقصر الصلاة عن عدد صلاة المسافر إن كانوا في سفر تقصر فيه ، وقال الحسن ، وقتادة ، وغيرهما : تصلى ركعة إيماء . وقال الضحاك بن مزاحم : تصلي في المسايفة وغيرها ركعة ، فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين . وقال إسحاق : فإن لم يقدر إلاَّ على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ، ولو رأوا سواداً فظنوه عدوّاً ثم تبين أنه ليس بعدو ، فقال أبو حنيف : يعيدون .
وظاهر الآية : أنه متى عرض له الخوف فله أن يصلي على هاتي الحالتين ، فلو صلى بركعة آمناً ثم طرأ له الخوف ركب وبنى ، أو عكسه : أتم وبنى ، عند مالك ، وهو أحد قولي الشافعي ، وبه قال المزني .
وقال أبو حنيفة : إذا استفتح آمناً ثم خاف ، استقبل ولم يبن فإن صلى خائفاً ثم أَمن بنى ؛ وقال أبو يوسف : لا يبنى في شيء من هذا كله .
وتدل هذه الآية على

" صفحة رقم 253 "
عظيم قدر الصلاة وتأكيد طلبها إذا لم تسقط بالخوف ، فلا تسقط بغيره من مرض وشغل ونحوه ، حتى المريض إذا لم يمكنه فعلها لزمه الإشارة بالعين عند أكثر العلماء ، وبهذا تميزت عن سائر العبادات لأنها كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها .
( فَإِذَا أَمِنتُمْ ( قال مجاهد أي : خرجتم من السفر إلى دار الإقامة ، ورده الطبري ، قيل : ولا ينبغي رده لأنه شرح الأمن بمحل الأمن لأن الإنسان إذا رجع من سفره وحل دار اقامته أمن ، فكان السفر مظنة الخوف ، كما أن دار الإقامة محل الأمن . وقيل : معنى فإذا أمنتم أي : زال خوفكم الذي ألجاكم إلى هذة الصلاة . وقيل : فإذا كنتم آمنين ، أي : متى كنتم على أمن قبل أو بعد . .
( فَاذْكُرُواْ اللَّهَ ( بالشكر والعبادة ) كَمَا عَلَّمَكُم ( أي : أحسن إليكم بتعليمكم ما كنتم جاهليه من أمر الشرائع ، وكيف تصلون في حال الخوف وحال الأمَن .
و : ما ، مصدرية ، و : الكاف ، للتشبيه .
أمر أن يذكروا الله تعالى ذكراً يعادل ويوازي نعمة ما علمهم ، بحيث يجتهد الذاكر في تشبيه ذكره بالنعمة في القدر والكفاءة ، وإن لم يقدر على بلوغ ذلك .
ومعنى : كما علمكم ، كما أنعم عليكم فعلمكم ، فعبر بالمسبب عن السبب ، لأن التعليم ناشيء عن إنعام الله على العبد وإحسانه له .
وقد تكون الكاف للتعلي ، أي : فاذكروا الله لأجل تعليمه إياكم أي : يكون الحامل لكم على ذكره وشكره وعبادته تعليمه إياكم ، لأنه لا منحة أعظم من منحة العلم .
( مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ( ما : مفعول ثان لعلمكم ، وفيه الامتنان بالتعليم على العبد ، وفي قوله : ) مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ( إفهام أنكم علمتم شيئاً لم تكونوا لتصلوا لإدراكه بعقولكم لولا أنه تعالى علمكموه ، أي : أنكم لو تركتم دون تعليم لم تكونوا لتعلموه أبدا .
وحكى النقاش وغيره أن معنى : ) فَاذْكُرُواْ اللَّهَ ( أي صلوا الصلاة التي قد علمتموها ، أي : صلاة تامة بجميع شروطها وأركانها وتكون : ما ، في : ) كَمَا عَلَّمَكُم ( موصولة أي : فصلوا الصلاة كالصلاة التي علمكم ، وعبر بالذكر عن الصلاة والكاف إذ ذاك للتشبيه بين هيئتي الصلاتين : الصلاة التي كانت أولاً قبل الخوف ، والصلاة التي كانت بعد الخوف في حالة الأمن .
قال ابن عطية : وعلى هذا التأويل : ) مَّا لَمْ تَكُونُواْ ( بدل من : ما ، التي في قوله : كما ، وإلاَّ لم يتسق لفظ الآية . انتهى . وهو تخريج يمكن ، وأحسن منه أن يكون بدلاً من الضمير المحذوف في علمكم العائد على ما ، إذ التقدير علمكموه ، أي : علمكم ما لم تكونوا تعلمون .
وقد أجاز النحويون : جاءني الذي ضربت أخاك ، أي ضربته أخاك ، على البدل من الضمير المحذوف .
2 ( ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لازْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا فَعَلْنَ فِيأَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ) ) 2
البقرة : ( 240 ) والذين يتوفون منكم . . . . .
( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّةً لاّزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا ).
) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّةً لاّزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ( الجمهور على أنها منسوخة بالآية المتقدمة المنصوص فيها على عدّة الوفاة أنها أربعة أشهر وعشر ، وقال مجاهد : هي محكمة ، والعدّة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشراً ، ثم جعل الله لهنّ وصية منه : سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإن شاءت سكنت في وصيتها ، وان شاءت خرجت . حكى ذلك عنه الطبري ، وهو قوله : ) غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ).
وقال ابن عطية : الألفاظ التي حكاها الطبري عن مجاهد لا تدل على أن الآية محكمة ، ولا نص مجاهد على ذلك ، وقال السدّي : كان

" صفحة رقم 254 "
ذلك ، ثم نسخ بنزول الفرائض ، فأخذت ربعها أو ثمنها ، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة ، وصارت الوصايا لمن لا يرث .
ونقل القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبى ، وأبو محمد بن عطية الإجماع على نسخ الحول باللآية التي قبل هذه . وروى بالبخاري عن ابن الزبير ، قال : قلت لعثمان : هذه الآية في البقرة ) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْواجاً ( إلى قوله : ) غَيْرَ إِخْرَاجٍ ( قد نسخت الأخرى فَلِمَ تكتبْها . قال : ندعُها يا ابن أخي ، لا أغير شيئاً من مكانه . إنتهى . ويعني عثمان : من مكانه الذي رتبه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيه ، لأن ترتيب الآية من فعله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا من اجتهاد الصحابة .
واختلفوا هل الوصية كانت واجبة من الله بعد وفاة الزوج ؟ فقال ابن عباس ، وعطاء ، وقتادة ، والضحاك ، وان زيد : كان لها بعد وفاته السكنى والنفقة حولاً في ماله ما لم تخرج برأيها ، ثم نسخت النفقة بالربع أو الثمن ، وسكنى الحول بالأربعة الأشهر والعشر . أم كانت على سبيل الندب ؟ ندبوا بأن يوصوا للزوجات بذلك ، فيكون يتوفون على هذا يقاربون . وقاله قتادة أيضاً ، والسدّدي ، وعليه حمل الفارسي الآية في الحجة له .
وقرأ الحرميان ، والكسائي ، وأبو بكر : وصية بالرفع ، وباقي السبعة ، بالنصب وارتفاع : والذين ، على الابتداء . ووصية بالرفع على الابتداء وهي نكرة موصوفة في المعنى ، التقدير : وصية منهم أو من الله ، على اختلاف القولين في الوصية ، أهي على الايجاب من الله ؟ أو على الندب للأزواج ؟ وخبر هذا المبتدأ هو قوله : لأزواجهم ، والجملة : من وصية لأزواجهم ، في موضع الخبر عن : بالذين ، وأجازوا أن يكون : وصية ، مبتدأ و : لأزواجهم ، صفة . والخبر محذوف تقديره : فعليهم وصية لأزواجهم .
وحكي عن بعض النحاة أن : وصية ، مرفوع بفعل محذوف تقديره : كتب عليهم وصية ، قيل : وكذلك هي في قراءة عبد الله ، وينبغي أن يحمل ذلك على أنه تفسير معنى لا تفسير إعراب ، إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل .
وأجاز الزمخشري أن يكون التقدير : ووصية الذين يتوفون ، أو : وحكم الذين يتوفون وصية لأزواجهم ، فيكون ذلك مبتدأ على بحذف مضاف ، وأجاز أيضاً أن يكون التقدير : والذين يتوفون أهل وصية ، فجعل المحذوف من الخبر ، ولا ضرورة تدعو بنا إلى بادّعاء بهذا الحذف ، وانتصاب وصية على إضمار فعل ، التقدير : والذين يتوفون ، فيكون : والذين ، مبتدأ و : يوصون المحذوف ، هو الخبر ، وقدره ابن عطية : ليوصوا ، وأجاز الزمخشري ارتفاع : والذين ، على أنه مفعول لم يسم فاعله على إضمار فعل ، وانتصاب وصية على أنه مفعول ثان ، التقدير : وألزم الذين يتوفون منكم وصية ، وهذا ضعيف ، إذ ليس من مواضع إضمار الفعل ، ومثله في الضعف من رفع : والذين ، على إضمار : وليوص ، الذين يتوفون ، وبنصب وصية على المصدر ، ووفي حرف ابن مسعود : الوصية لأزواجهم ، وهو مرفوع بالإبتداء و : لأزواجهم الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف أي : عليهم الوصية .
وانتصب متاعاً إما على إضمار فعل من لفظه أي : متعوهنّ متاعاً ، أو من غير لفظه أي : جعل الله لهنّ متاعاً ، أو بقوله : وصية أهو مصدر منوّن يعمل ، كقوله : فلولا رجاء النصر منك ورهبة
عقابك قد كانوا لنا كالموارد
ويكون الأصل : بمتاع ، ثم حذف حرف الجر ؟ فإن نصبت : وصية فيجوز أن ينتصب متاعاً بالفعل الناصب لقوله : وصية ، ويكون انتصابه على المصدر ، لأن معنى : يوصي به بمتع بكذا ، وأجازوا أن يكون متاعاً صفة لوصية ، وبدلاً وحالاً من الموصين ، أي : ممتعين ، أو ذوى متاع ، ويجوز أن ينتصب حالاً من أزواجهم ، أي : ممتعات أو ذوات متاع ، ويكون حالاً مقدّرة إن كانت الوصية من الأزواج .
وقرأ أبيّ : متاع لأزواجهم متاعاً إلى الحول ، وروي عنه : فمتاع ، ودخول الفاء في خبر : والذين ، لأنه موصول ضمن معنى الشرط ، فكأنه قيل : ومن يتوف ، وينتصب : متاعاً إلى الحول ، بهذا المصدر ، إذ معناه التمتيع ، كقولك : أعجبني ضرب لك زيداً ضرباً شديداً .
وانتصب : غير إخراج ، صفة لمتاعاً ، أو بدلاً من متاع أو حالاً من الأزواج أي : غير مخرجات ، أو : من الموصين أي : غير مخرجين ، أو مصدراً مؤكداً ، أي : لا إخراجاً ، قاله الأخفش .
( فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ( منع من له الولاية عليهنّ من إخراجهنّ ، فإن خرجن مختارات للخروج ارتفع الحرج عن الناظر في أمرهنّ ، إذ خروجهنّ مختارات جائز لهنّ ، وموضح انقطاع تعلقهنّ بحال الميت ، فليس له منعهنّ

" صفحة رقم 255 "
مما يفعلن في أنفسهنّ من : تزويج ، وترك إحداد ، وتزين ، وخروج ، وتعرض للخطاب ، إذا كان ذلك بالمعروف شرعاً .
ويتعلق : فيما فعلن ، بما يتعلق به ، عليكم أي : فلا جناح يستقر عليكم فيما فعلن .
وما ، موصولة ، والعائد محذوف ، أي : فعلنه ، و : من معروف ، في موضع الحال من الضمير المحذوف في : فعلن ، فيتعلق بمحذوف أي فعلنه كائناً من معروف .
وجاء هنا : من معروف ، نكرة مجرورة بمن ، وفي الآية الناسخة لها على قول الجمهور ، جاء : بالمعروف ، معرفاً مجروراً بالباء .
والألف واللام فيه نظيرتها في قولك : لقيت رجلاً ، ثم تقول : الرجل من وصفه كذا وكذا ، وكذلك : إن الآية السابقة متقدمة في التلاوة متأخرة في التنزيل ، وهذه بعكسها ، ونظير ذلك ) سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ ( على ظاهر ما نقل مع قوله : ) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ).
) وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ ( ختم الآية بهاتين الصفتين ، فقوله : عزيز ، إظهار للغلبة والقهر لمن منع من إنفاذ الوصية بالتمتيع المذكور ، أو أخرجهّن وهنّ لا يخترن الخروج ، ومشعر بالوعيد على ذلك . وقوله : حكيم ، إظهار أن ما شرع من ذلك فهو جارٍ على الحكمة والإتقان ، ووضع الأشياء مواضعها .
قال ابن عطية : وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلاَّ ما قاله الطبري عن مجاهد وفي ذلك نظر على الطبري . إنتهى كلامه .
وقد تقدّم أوّل الآي ما نقل عن مجاهد من أنها محكمة ، وهو قول ابن عطية في ذلك .
البقرة : ( 241 ) وللمطلقات متاع بالمعروف . . . . .
( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ( ظاهره العموم كما ذهب إليه أبو ثور ، وقد تقدّم في قوله : ) وَمَتّعُوهُنَّ ( اختلاف العلماء فيما يخصص به العموم ، فأغنى عن إعادته ، وتعلق : بالمعروف ، بما تعلق به للمطلقات ، وقيل بقوله : متاع ، وقيل : المراد بالمتاع هنا نفقة العدّة .
( حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ). قال ابن زيد : نزلت هذه الآية مؤكدة لأمر المتعة ، لأنه نزل قبل : ) حَقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( فقال رجل : فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع ، فنزلت ) حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ).
وإعراب : حقاً ، هنا كإعراب : حقاً على المحسنين ، وظاهر : المتقين : من يتصف بالتقوى التي هي أخص من اتقاء الشرك ، وخصوا بالذكر تشريفاً لهم ، أو لأنهم أكثر الناس وقوفاً ، والله أسرعهم لامتثال أمر الله ، وقيل : على المتقين أي : متقي الشرك .
البقرة : ( 242 ) كذلك يبين الله . . . . .
( كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ( أي مثل هذا التبيين الذي سبق من الأحكام ، يبين لكم في المستقبل ما بقي من الأحكام التي يكلفها العباد .
( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ما يراد منكم من التزام الشرائع والوقوف عندها ، لأن التبيين للأشياء مما يتضح للعقل بأول إدراك ، بخلاف الأشياء المغيبات والمجملات ، فإن العقل يرتبك فيها ، ولا يكاد يحصل منها على طائل .
قيل : وفي هذه الآيات من بدائع البديع ، وصنوف الفصاحة : النقل من صيغة : إفعلوا ، إلى : فاعلوا ، للمبالغة وذلك في : حافظوا ، والاختصاص بالذكر في : والصلاة الوسطى ، والطباق المعنوي في : فإن خفتم .
لأن التقدير في : حافظوا ، وهو مراعاة أوقاتها وهيآتها إذا كنتم آمنين ، والحذف في : فإن خفتم ، العدوّ ، أو ما جرى مجراه . وفي : فرجالاً ، أي : فصلوا رجالاً ، وفي : وصية لأزواجهم ، سواء رفع أم نصب ، وفي : غير إخراج ، أي : لهنّ من مكانهنّ الذي يعتدون فيه ، وفي : فإن خرجن من بيوتهنّ من غير رضا منهنّ ، وفي : فيما فعلن في أنفسهنّ ، أي : من ميلهنّ إلى التزويج أو الزينة بعد انقضاء المدّة وفي : بالمعروف ، أي : عادة أو شرعاً وفي : عزيز ، أي : انتقامه ، وفي : حكيم ، في أحكامه . وفي قوله : حقاً ، أي : حق ذلك حقاً ، وفي : على المتقين ، أي عذاب الله والتشبيه : في : كما عملكم ، والتجنيس المماثل : وهو أن يكون بفعلين أو بأسمين ، وذلك في : علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، والتجنيس المغاير : في غير إخراج فان خرجهن ، والمجاز في : يتوفون ، أي يقاربون الوفاة ، والتكرار : في متاعاً إلى الحول ، ثم قال : وللمطلقات متاع ، فيكون للتأكيد إن كان إياه ولاختلاف المعنيين إن كان غيره .

" صفحة رقم 256 "
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة حكم المتوفى عنها زوجها ، وأن عدتها أربعة أشهر وعشر وأنهنّ إذا انقضت عدتهنّ لا حرج على من كان متولياً أمرهنّ من ولي أوحاكم فيما فعلن من : تعرض لخطبة ، وتزين ، وترك إحداد ، وتزوّج وذلك بالمعروف شرعاً ، وأعلم تعالى أنه خبير بما يصدر منا ، وأنه لا جناح على من عرّض بالخطبة أو أكنّ بالخطبة أو أكنّ التزويج في نفسه ، وأفهم ذلك أن التصريح فيه الجناح ، ثم ، إنه تعالى عذر في التعريض بأن النفوس تتوق إلى التزوّج وذكر النساء ، ونهى تعالى عن مواعدة السر وهو النكاح ، وأباح قولاً معروفاً من التنبيه به على أن المرأة مرغوب فيها ، فإن في ذلك جبراً لها وبعض تأنيس منه لها بذلك . ثم نهى عن بت النكاح قبل انقضاء العدّة ، وأعلم أن ما في نفس الإنسان يعلمه الله ، وأمر بأن يحذر ، ولما كان الأمر بالحذر يستدعي مخوفاً ، أعلم أنه غفور يستر الذنب ، حليم يصفح عن المسيء ، ليتعادل خوف المؤمن ورجاؤه ، ثم ذكر رفع الحرج عن من طلق المرأة قبل المسيس ، أو قبل أن يفرض لها الصداق ، إذ كان يتوهم أن الطلاق قبل الدخول بها لا يباح ، ثم أمر بالتمتيع ليكون ذلك عوضاً لغير المدخول بها مما كان فاتها من الزوج ، ومن نصف الصداق الذي تشطر بالطلاق ، وجبراً لها بذلك ولغير المفروض لها ، وأن ذلك التمتيع على حسب وجد الزوج وإقتاره ، ولم يعين المقدار ، بل قال : إن ذلك بالمعروف ، وهو الذي ألف عادة وشرعاً ، وأن ذلك حق على من كان محسناً . ثم ذكر أنه إذا اطلق قبل المسيس وبعد الفرض فإنه يتشطر المسمى ، فيجب لها نصف الصداق إلاَّ إن عفت المرأة فلم تأخذ منه شيئاً ، أو عفا الزوج فأدى إليها الصداق كاملاً إذا كان الطلاق إنما كان من جهته ، ثم ذكر أن العفو من أي جهة كان منهما أقرب لتحصيل التقوى للعافي ، إذ هو : إما بين تارك حقه ، أو باذل فوق الحق . ثم نهى عن نسيان الفضل ، ففي هذا النهي الأمر بالفضل .
ثم ختم ذلك بأنه بصير بجميع أعمالهم ، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء باساءته .
ولما ذكر تعالى أحكام النكاح ، وكادت تستغرف المكلف ، نبه تعالى على أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى المكلف ، وأمر بالمحافظة عليها وهي : الصلوات ، وخص الوسطى منها بالذكر تنبيهاً على فضلها ، ومن تسميتها بالوسطى تبين تمييزها على غيرها ، وهي بلا شك صلاة العصر ، ثم أمر بالقيام لله متلبسين بطاعته ، ثم للمبالغة في توكيد إيجاب الصلوات لم يسامح بتركها حالة الخوف ، بل أمر أن تؤدّى في تلك الحال ، سواء كان الخائف ماشياً أو راكباً ، وإن كان في ذلك بعض اختلال لشروطها ؛ ثم أمر أن تؤدّي على حالها الأول من إتمام شروطها ، وهيآتها إذا أمن الخائف ، وأن يؤديها على الحالة التي علمه الله في أدائها قبل الخوف .
وذكر أن اللواتي يتوفى عنهنّ أزواجهنّ لهن وصية بتمتيع إلى انقضاء حول من وفاة الأزواج ، وأنهنّ لا يخرجن من بيوتهنّ في ذلك الحول ، فإن اخترن الخروج فخرجن ، فلا جناح على متولي أمرها فيما فعلت في نفسها ، ثم أعلم أنه عزيز لا يغلب و يقهر ، حكيم بوضع الأشياء مواضعها .
ثم ذكر تعالى أن للمطلقات متاعاً مما عرف شرعاً وعادة ، واقتضى ذلك عموم كل مطلقة ، وأن ذلك المتاع حق على من اتقى .
ولما كان تعالى قد بين عدة أحكام فيما تقدّم من الآيات ، أحال على ذلك التبيين ، وشبه التبيين الذي قد يأتي لسائر الآيات بالتبيين الذي سبق . وان التبيين هو لرجائكم أن تتعقلوا عن الله أحكامه فتجنبوا ما نهى تعالى عنه ، وتمتثلوا ما به أمر تعالى .
2 ( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِىإِسْرءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِىٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَال

" صفحة رقم 257 "
َ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
البقرة : ( 243 ) ألم تر إلى . . . . .
ألف : عدد معروف وجمعه في القلة آلاف وفي الكثرة ألوف ، ويقال : آلفت الدراهم وآلفت هي ، وقيل : ألوف جمع آلف كشاهد وشهود .
القرض : القطع بالسن ومنه سمى المقراض لأنه يقطع به ، ويقال : انقرض القوم أي ماتوا ، وانقطع خبرهم ، ومنه : أقرضت فلاناً أي قطعت له ؛ قطعة من المال ، وقال الأخفش : تقول العرب : لك عندي قرض صدق وقرض سوء ، لأمر تأتي مسرته ومساءته ؛ وقال الزجاج : القرض : البلاء الحسن والبلاء السيء ؛ وقال الليث : القرض : اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء ، يقال : أقرض فلان فلاناً ، أعطاه ما يتجازاه منه . والاسم منه : القرض ، وهو ما أعطيته لتكافىء عليه ؛ وقال ابن كيسان : القرض : أن تعطي شيئاً ليرجع إليك مثله ، ويقال : تقارضا الثناء أثنى كل واحد منهما على صاحبه ، ويقال قارضه الودّ والثناء ؛ وحكى بالكسائي : القِرض بالكسر ، والأشهر بفتح القاف .
الضعف : مثل قدرين متساويين ، ويقال مثل الشيء في المقدار ، وضعف الشيء مثله ثلاث مرات إلاَّ أنه إذا قيل ضعفان فقد يطلق على الإثنين المثلين في القدر من حيث إن كل واحد يضعف الآخر ، كما يقال : الزوجان لكل واحد منهما زوجاً للآخر ، وفرق بعضهم بين : يضاعف ويضعف ، فقال : التضعيف : لما جعل مثلين ، والمضاعفة لما زيد عليه أكثر من ذلك .
القبض : ضم الشيء والجمع عليه والبسط ضده ، ومنه قول أبي تمام : تعوّد بسط الكف حتى لو أنه
دعاها لقبض لم تجبه أنامله
الملأ : الأشراف من الناس ، وهو اسم جمع ، ويجمع على أملاء ، قال الشاعر : وقال لها الأملاء من كل معشر
وخير أقاويل الرجال سديدها
وسموا بذلك لأنهم يملؤون العيون هيبة ، أو المكان إذا حضروه ، أو لأنهم مليئون بما يحتاج إليه . وقال الفراء : الملأ

" صفحة رقم 258 "
الرجال في كل القرآن لا تكون فيهم امرأة ، وكذلك : القوم ، والنفر ، والرهط ؛ وقال الزجاج : الملأ : هم الوجوه وذوو الرأي .
طالوت : اسمه بالسريانية ، سايل ، وبالعبرانية ساول بن قيس ، من أولاد بنيامين بن يعقوب ، وسمي طالوت . قالوا : لطوله ، وكان أطول من كل أحد برأسه ومنكبيه ، فعلى بهذا يكون وزنه : فعلوتاً ، كرحموت وملكوت ، فتكون ألفه منقلبة عن واو ، إلاَّ أنه يعكر على هذا الاشتقاق منعه الصرف ، إلا أن يقال : إن هذا التركيب مفقود في اللسان العربي ، ولم يوجد إلاَّ في اللسان العجمي . وقد اتفقت اللغتان في مادّة الكلمة ، كما زعموا في : يعقوب ، أنه مشتق من العقب ، لكن هذا التركيب بهذا المعنى مفقود في اللسان العربي .
الجسم : معروف ، وجمع في الكثرة على : جسوم إذا كان عظيم الجسم .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى متى ذكر شيئاً من الأحكام التكليفية ، أعقب ذلك بشيء من القصص على سبيل الاعتبار للسامع ، فيحمله ذلك على الإنقياد وترك العناد ، وكان تعالى قد ذكر أشياء من أحكام الموتى ومن خلفوا ، فأعقب ذلك بذكر هذه القصة العجيبة ، وكيف أمات الله هؤلاء الخارجين من ديارهم ، ثم أحياهم في الدنيا ، فكما كان قادراً على إحيائهم في الدنيا هو قادر على إحياء المتوفين في الآخرة ، فيجازي كلاَّ منهم بما عمل . ففي هذه القصة تنبيه على المعاد ، وأنه كائن لا محالة ، فيليق بكل عاقل أن يعمل لمعاده : بأن يحافظ على عبادة ربه ، وأن يوفي في حقوق عباده .
وقيل : لما بين تعالى حكم النكاح ، بين حكم القتال ، لأن النكاح تحصين للدّين ، والقتال تحصين للدّين والمال والروح ، وقيل : مناسبة هذه الآية لما قبلها : هو أنه لما ذكر : ) كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته ، وبدائع قدرته .
وهذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي ، فصار الكلام تقريراً ، فيمكن أن يكون المخاطب علم بهذه الصفة قبل نزول هذه الآية ، ويجوز أن يكون لم يعرفها إلاَّ من هذه الآية ، ومعناه التنبيه والتعجب من حال هؤلاء ، والرؤية هنا علمية ، وضمنت معنى ما يتعدّى بإلى ، فلذلك لم يتعد إلى مفعولين ، وكأنه قيل : ألم ينته علمك إلى كذا .
وقال الراغب : رأيت ، يتعدّى بنفسه دون الجار ، لكن لما استعير قولهم : ألم تر المعنى : ألم تنظر ، عدّي تعديته ، وقلما يستعمل ذلك في غير التقرير ، ما يقال : رأيت إلى كذا . إنتهى .
و : ألم تر ، جرى مجرى التعجب في لسانهم ، كما جاء في الحديث : ( ألم تر إلى مجزز ) وذلك في رؤيته أرجل زيد وابنه أسامه ، وكان أسود ، فقال هذه الأقدام بعضها من بعض ، فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على بعض نسائه ، فقال على سبيل التعجب : ( ألم تر إلى مجزز الحديث .
وقد جاء هذا اللفظ في القرآن : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ ( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ ( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ ( وقال الشاعر : ألم ترياني كلما جئت طارقا
وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
ويجوز أن يكون الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويجوز أن يكون لكل سامع .
وقرأ السلمي : تر ، بسكون الراء ، قالوا : على توهم أن الراء آخر الكلمة ، قال الراجز : قالت سليمى اشتر لنا سويقا
واشتر فعجل خادماً لبيقا
ويجوز أن يكون من إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقد جاء في القرآن : كإثبات ألف : ) الظُّنُونَاْ ( ) والسبيلا ( ) والرسولا ( في الوصل .
وهؤلاء الذين خرجوا قوم من بني اسرائيل أمروا بالجهاد ، فخافوا القتل ، فخرجوا من ديارهم فراراً من ذلك ، فأماتهم الله ليعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله : ) تُفْلِحُونَ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( الآية .
وقيل : قوم من بني اسرائيل وقع فيهم الوباء فخرجوا فراراً منه ، فأماتهم الله فبنى عليهم سائر بني اسرائيل حائطاً حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فدعا الله فأحياهم له . حكى هذا قوم من اليهود لعمر بن الخطاب .
وقال السدّي : هم أمّة كانت قبل واسط في قرية يقال لها داوردان وقع بها الطاعون ، فهربوا منه ، فأماتهم الله ،

" صفحة رقم 259 "
ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أن لا مفر من قضاء الله . وقيل : مر عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم ، وتفرّقت أوصالهم ، فلوى شدقه وأصابعه تعجباً مما رأى أي . فأوحى إليه : نادِ فيهم أن قوموا بإذن الله . فنادى ، فنظر إليهم قياماً يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله لا أنت . وممن قال فرّوا من الطاعون : الحسن ، وعمار بن دينار .
وقيل : فروا من الحمى ، حكاه النقاش .
وقد كثر الاختلاف والزيادة والنقص في هذه القصص ، والله أعلم بصحة ذلك ، ولا تعارض بين هذه القصص ، إلاَّ أن عين أن ) الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ ( هم من ذكر في القصة لا غير ، وإلاَّ فيجوز أن ذكرت كل قصة على سبيل المثال ، إذ لا يمتنع أن يفر ناسٌ من الجهاد ، وناس من الطاعون ، وناس من الحمى ، فيميتهم ثم يحييهم ليعتبروا بذلك ، ويعتبر من يأتي بعدهم ، وليعلموا جميعاً أن الإماتة والإحياء بيد الله ، فلا ينبغي أن يخاف من شيء مقدّر ، ولا يغتر فطن بحيلة أنها تنجيه مما شاء الله .
( وَهُمْ ( في هذا تنبيه على أن الكثرة والتعاضد ، وإن كانا نافعين في دفع الأذيات الدنيوية ، فليسا بمغنيين في الأمور الإلهية . وهي جملة حالية ، وألوف جمع ألف جمع كثرة ، فناسب أن يفسر بما زاد على عشرة آلاف ، فقيل : ستمائة ألف . وقال عطاء : تسعون ، وقيل : ثمانون ، وقال عطاء أيضاً سبعون وقال ابن عباس : أربعون . وقال أيضاً : بضع وثلاثون . وقال أبو مالك : ثلاثون ، يعنون ألفاً .
وقد فسر بما هو لأدنى العدد استعير لفظ الجمع الكثير للجمع القليل ، فقال أبو روق : عشرة آلاف ، وقال الكلبي ومقاتل : ثمانية ، وقال أبو صالح : سبعة ، وقال ابن عباس ، وابن جبير : أربعة وقال عطاء الخراساني : ثلاثة آلاف .
وقال البغوى : أَلاوْلى قول من قال : إنهم كانوا زيادة على عشرة آلاف ، لأن ألوفاً جمع الكثير ، ولا يقال لما دون العشرة الآلاف ألوف . انتهى . وهذا ليس كما ذكر ، فقد يستعار أحد الجمعين للآخر ، وإن كان الأصل استعمال كل واحد منهما في موضوعه .
وهذه التقديرات كلها لا دليل على شيء منها ، ولفظ القرآن : ) دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ( لم ينص على عدد معين ، ويحتمل أن لا يراد ظاهر جمع ألف ، بل يكون ذلك المراد منه التكثير ، كأنه قيل : خرجوا من ديارهم وهم عالم كثيرون ، لا يكادون يحصيهم عادَّ ، فعبر عن هذا المعنى بقوله : وهم ألوف ، كما يصح أن تقول : جئتك ألف مرة ، لا تريد حقيقة العدد إنما تريد جئتك مراراً كثيرة لا تكاد تحصى من كثرتها ونظير ذلك قول الشاعر : هو المنزل الآلاف من جوّ ناعط
بني أسد حزناً من الأرض أوعرا
ولعل من كان معه لم يكن ألوفاً ، فضلاً عن أن يكونوا آلافاً ، ولكنه أراد بذلك التكثير ، لأن العرب تكثر بآلاف وتجمعه ، والجمهور على أن قوله : وهم ألوف ، جمع ألف العدد المعروف الذي هو تكرير مائة عشر مرات ، وقال ابن زيد : ألوف جمع آلف . كقاعد وقعود . أي : خرجوا وهم مؤتلفون لم يخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم ، بل ائتلفوا ، فخالفت هذه الفرقة ، فخرجت فراراً من الموت وابتغاء الحياة ، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم . وقال الزمخشري : وهذا من بدع التفاسير ، وهو كما قال .
وقال القاضي : كونه جمع ألف من العدد أولى ، لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة تفيد مزيد اعتبار ، وأما وروده على قوم بينهم ائتلاف فكوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير .
( حَذَرَ الْمَوْتِ ( هذا علة لخروجهم ، لما غلب على ظنهم الموت بالطاعون أو بالجهاد ، حملهم على الخروج ذلك ، وهو مفعول من أجله ، وشروط

" صفحة رقم 260 "
المفعول له موجودة فيه من كونه مصدراً متحد الفاعل والزمان .
( فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ( ظاهره أن ثَمّ قولاً لله ، فقيل : قال لهم ذلك على لسان الرسول الذي أذن له في أن يقول لهم ذلك عن الله ، وقيل : على لسان الملك . وحكي : أن ملكين صاحا بهم : موتوا ، فماتوا . وقيل : سمعت الملائكة ذلك فتوفتهم ، وقيل : لا قول هناك ، وهو كناية عن قابليتهم الموت في ساعة واحدةٍ وموتهم كموتة رجل واحد ، والمعنى : فأماتهم ، لكن أخرج ذلك مخرج الشخص المأمور بشيء ، المسرع الامتثال من غير توقف ، ولا امتناع ، كقوله تعالى : ) كُنْ فَيَكُونُ ).
وفي الكلام حذف ، التقدير : فماتوا ، وظاهر هذا الموت مفارقة الأرواح الأجساد ، فقيل : ماتوا ثمانية أيام ثم أحياهم بعد ، بدعاء حزقيل ؛ وقيل : سبعة أيام ، وقد تقدّم في بعض القصص أنه عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، وهذا لا يكون في العادة في ثمانية أيام ، وهذا الموت ليس بموت الآجال ، بل جعله الله في هؤلاء كمرض وحادث مما يحدث على البشر ، كحال ) الَّذِى مَرَجَ عَلَى قَرْيَةٍ ( المذكورة بعد هذا .
( ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ( العطف بثم يدل على تراخي الأحياء عن الإماتة ، قال قتادة : أحياهم ليستوفوا آجالهم .
وظاهره أن الله هو الذي أحياهم بغير واسطة ، وقال مقاتل : كانوا قوم حزقيل ، فخرج فوجدهم موتى ، فأوحى الله إليه : إني جعلت حياتهم إليك ، فقال لهم : احيوا . وقال ابن عباس : النبي شمعون ، وريح الموتى توجد في أولادهم . وقيل : النبي يوشع بن نون ، وقال وهب : اسمه شمويل وهو ذو الكفل ، وقال مجاهد : لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرقون ، لكن سحنة الموت على وجوههم ولا يلبس أحد منهم ثوباً إلاَّ عاد كفناً دسماً ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم ، وقيل : معنى إماتتهم تذليلهم تذليلاً يجري مجرى الموت ، فلم تغن ، عنهم كثرتهم وتظاهرهم من الله شيئاً ، ثم أعانهم وخلصهم ليعرفوا قدرة الله في أنه يذل من يشاء ، ويعز من يشاء ، وقيل : عنى بالموت : الجهل ، وبالحياة : العلم ، كما يحيا الجسد بالروح .
وأتت هذه القصة بين يدي الأمر بالقتال تشجيعاً للمؤمنين ، وحثاً على الجهاد والتعريض للشهادة ، وإعلاماً أن لا مفر مما قضى الله تعالى : ) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ( واحتجاجاً على اليهود ، والنصارى بإنبائه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بما لا يدفعون صحته ، مع كونه أمّياً لم يقرأ كتاباً ، ولم يدارس أحداً ، وعلى مشركي العرب إذ من قرأ الكتب يصدقه في إخباره بما جاء به مما هو في كتبهم .
( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ( أكد هذه الجملة : بإن ، واللام ، وأتى الخبر : لذو ، الدالة على الشرف ، بخلاف صاحب ، و : الناس ، هنا عام ، لأن كل أحد لله عليه فضل أيّ فضل ، وخصوصاً هنا ، حيث نبههم على ما به يستبصرون ويعتبرون على النشأة الآخرة ، وأنها ممكنة عقلا ، كائنة بإخباره تعالى : إذ أعاد إلى الأجسام البالية المشاهدة بالعين الأرواح المفارقة ، وأبقاها فيها الأزمان الطويلة إلى أن قبضها ثانية ، وأي فضل أجل من هذا الفضل ، إذ تتضمن جميع كليات العقائد المنجية وجزئياتها : ويجوز أن يراد : بالناس ، ههنا الخصوص ، وهم هؤلاء الذين تفضل عليهم بالنعم ، وأمرهم بالجهاد ففروا منه خوفاً من الموت ، فأماتهم ، ثم تفضل عليهم بالإحياء وطوّل لهم في الحياة ليستيقنوا أن لا مفر من القدر ، ويستدركوا ما فاتهم من الطاعات ، وقص الله علينا ذلك تنبيهاً على أن لا نسلك مسلكهم بل نمتثل ما يأمر به تعالى .
( وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ( تقدّم فضل الله على جميع الناس بالإيجاد والرزق ، وغير ذلك ، فكان المناسب لهم أنهم يشكرون الله على ذلك ، وهذا الاستدراك : بلكن ، مما تضمنه قوله : ) إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ( والتقدير : فيجب عليهم أن يشكروا الله على فضله ، فاستدرك بأن أكثرهم لا يشكرون ، ودل على أن الشاكر قليل ، كقوله : ) وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ ( ويخص : الناس ، الثاني بالمكلفين .
البقرة : ( 244 ) وقاتلوا في سبيل . . . . .
( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( هذا خطاب لهذه الأمة بالجهاد في سبيل الله ، وتقدّمت تلك القصة ، كما قلنا ، تنبيهاً لهذه الأمة أن لا تفر من الموت كفرار أولئك ، وتشجيعاً لها ، وتثبيتاً . وروي عن ابن عباس ، والضحاك : أنه أمر لمن أحياهم الله بعد موتهم بالجهاد ، أي : وقال لهم قاتلوا في سبيل الله . وقال الطبري : لا وجه لهذا القول . انتهى .
والذي يظهر القول الأول ، وأن هذه الآية ملتحمة بقوله : ) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ ( وبقوله

" صفحة رقم 261 "
) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ( لأن في هذا إشعاراً بلقاء العدو ، ثم ما جاء بين هاتين الآيتين جاء كالاعتراض ، فقوله : ) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ( اعتبار بمن مضى ممن فرّ من الموت ، فمات ، أن لا ننكص ولا نحجم عن القتال ، وبيان المقاتل فيه ، وأنه سبيل الله فيه حث عظيم على القتال ، إذ كان الإنسان يقاتل للحمية ، ولنيل عرض من الدنيا ، والقتال في سبيل الله مورث للعز الأبدي والفوز السرمدي .
( وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( يسمع ما يقوله المتخلفون عن القتال والمتبادرون إليه ، ويعلم ما انطوت عليه النيات ، فيجازي على ذلك .
البقرة : ( 245 ) من ذا الذي . . . . .
( مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ( هذا على سبيل التأسيس والتقريب للناس بما يفهمونه والله هو الغني الحميد ، شبه تعالى عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض ، كما شبه بذل النفوس والأموال في الجنة بالبيع والشراء .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله ، وكان ذلك مما يفضي إلى بذل النفوس والأموال في إعزاز دين الله ، أثنى على من بذل شيئاً من ماله في طاعة الله ، وكان هذا أقل حرجاً على المؤمنين ، إذ ليس فيه إلاَّ بذل المال دون النفس ، فأتى بهذه الجملة الإستفهامية المتضمنة معنى الطلب .
قال ابن المغربي : انقسم الخلق حين سمعوا هذه الآية إلى فرق ثلاثة .
الأولى : اليهود ، قالوا : إن رب محمد يحتاج إلينا ونحن أغنياء ، وهذه جهالة عظيمة ، ورد عليهم بقوله : ) لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ).
والثانية : آثرت الشح والبخل ، وقدّمت الرغبة في المال .
الثالثة : بادرت إلى الامتثال ، كفعل أبي الدحداح وغيره . انتهى .
و : مَنْ ، استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، وخبره : ذا ، و : الذي ، نعت : لذا ، أو : بدل منه ، ومنع أبو البقاء أن تكون : من ، وذا ، بمنزلة اسم واحد ، كما كانت : ما ، مع : ذا ، قال : لأن : ما ، أشد إبهاماً من : مَنْ ، إذا كانت : من ، لمن يعقل . وأصحابنا يجيزون تركيب : من ، مع : ذا ، في الاستفهام وتصيرهما كاسم واحد ، كما يجيزون ذلك في : ما ، و : ذا ، فيجيزون في : من ذا عندك ، أن يكون : من وذا ، بمنزلة اسم الاستفهام .
وانتصب لفظ الجلالة : بيقرض ، وهو على حذف مضاف أي : عباد الله المحاويج ، أسند الإستقراض إلى الله وهو المنزه عن الحاجات ، ترغيباً في الصدقة ، كما أضاف الإحسان إلى المريض والجائع والعطشان إلى نفسه تعالى في قوله ، جل وعلا : ( يا إبن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني ) . الحديث خرجه مسلم ، والبخاري .
وانتصب : قرضاً ، على المصدر الجاري على غير الصدر ، فكأنه قيل : إقراضاً ، أو على أنه مفعول به ، فيكون بمعنى : مقروض ، أي : قطعة من المال ، كالخلق بمعنى المخلوق .
وانتصب : حسناً ، على أن يكون صفة لقوله : قرضاً ، وهو الظاهر ، أو على أن يكون نعتاً لمصدر محذوف إذا أعربنا قرضاً مفعولاً به ، أي : إقراضاً حسناً ، ووصفه بالحسن لكونه طيب النية خالصاً لله ، قاله ابن المبارك . أو : لكونه يحتسب عند الله ثوابه ، أو : لكونه جيداً كثيراً ، أو : لكونه بلا منّ ولا أذىً ، قاله عمرو بن عثمان ، أو : لكونه لا يطلب به عوضاً ، قاله سهيل بن عبد الله القشيري التستري .
وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : فيضعفه ، بالتشديد من ضعف ، والباقون : فيضاعفه ، من ضاعف ، وقد تقدم أنهما بمعنى . وقيل : معناهما مختلف ، وقد ذكرنا ذلك عند الكلام على المفردات .
وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، بنصب الفاء ، والباقون بالرفع على العطف على صلة الذي ، وهو قوله : يقرض ، أو على الاستئناف ، أي : فهو يضاعفه ، والأول أحسن ، لأنه لا حذف فيه ، والنصب على أن يكون جواباً للاستفهام على المعنى ، لأن الاستفهام ، وإن كان عن المقرض ، فهو عن الإقراض في المعنى فكأنه قيل : أيقرض الله أحد فيضاعفه ؟ وقال أبو علي : الرفع أحسن ، وذهب بعض النحويين إلى أنه : إذا كان الاستفهام عن المسند إليه الحكم ، لا عن الحكم ، فلا يجوز النصب بإضمار أن بعد الفاء في الجواب ، فهو محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وقد جاء في الحديث : ( من يدعوني فأستجيب له ، من يستغفرني فأغفر له ) . وكذلك سائر أدوات الإستفهام الإسمية والحرفية .
وانتصب : أضعافاً ، على الحال من الهاء في : يضاعفه ، قيل : ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول به ، تضمن معنى فيضاعفه : فيصيره . ويجوز أن ينتصب على المصدر باعتبار أن يطلق الضعف ، وهو المضاعف أو المضعف ، بمعنى المضاعفة أو التضعيف ، كما أطلق العطاء وهو اسم

" صفحة رقم 262 "
المعطى بمعنى الإعطاء ، وجمع لاختلاف جهات التضعيف باعتبار الإخلاص ، وهذه المضاعفة غير محدودة لكنها كثيرة .
قال الحسن ، والسدّي : لا يعلم كُنْهَ التضعيف إلاَّ الله تعالى : وهو قول ابن عباس ، وقد رويت مقادير من التضعيف ، وجاء في القرآن : ) كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ ( ثم قال : ) وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ).
قيل والآية عامّة في سائر وجوه البرّ من : صدقة ، وجهاد ، وغير ذلك ، وقيل : خاصة بالنفقة في الجهاد ، وقيل : بالصدقة وإنفاق المال على الفقراء المحتاجين .
( وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ( أي : يسلب قوماً ويعطي قوماً ، أو : يقتر ويوسع ، قاله الحسن ، أو : يقبض الصدقات ويخلف البذل مبسوطاً ، أو : يقبض أي : يميت لأن من أماته فقد قبضه ، ويبسط أي : يحييه ، لأن من مدّ له في عمره فقد بسطه ، أو : يقبض بعض القلوب فلا تنبسط ، ويبسط بعضها فيقدّم خيراً لنفسه ، أو : يقبض بتعجيل الأجل ، ويبسط بطول الأمل ، أو : يقبض بالخطر ويبسط بالإباحة ، أو : يقبض الصدر ويوسعه ، أو يقبض يد من يشاء بالإنفاق في سبيله ، يبسط يد من يشاء بالإنفاق ؛ قاله أبو سليمان الدمشقي وغيره ، أو : يقبض الصدقة ويبسط الثواب ، قاله الزجاج . وهشام ، وقنبل ، والنقاش ، عن الأخفش هنا ، وأبو قرّة عن نافع : يبسط بالسين ، وخير الحلواني ، عن قالون ، عن نافع ، والباقون : بالصاد .
( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( خبر معناه الوعيد أي : فيجازيكم بأعمالكم .
قيل : وتضمنت هذه الآية الكريمة من ضروب علم البيان ، وصنوف البلاغة : الاستفهام الذي أجرى مجرى التعجب في قوله : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ( والحذف بين : موتوا ثم أحياهم ، أي : فماتوا ثم أحياهم ، وفي قوله تعالى : فقال لهم الله ، أي : ملك الله بإذنه ، وفي لا يشكرون أي : لا يشكرونه ، وفي قوله : سميع لأقوالكم عليم باعمالكم ، وفي قوله : ترجعون ، فيجازي كلاً بما عمل . والطباق في قوله : موتوا ثم أحياهم ، وفي : يقبض ويبسط ؛ والتكرار في : على الناس ، ولكن أكثر الناس ؛ والالتفات في : وقاتلوا في سبيل الله ؛ والتشبيه بغير أداته في : قرضاً حسناً ، شبه قبوله تعالى إنفاق العبد في سبيله ومجازاته عليه بالقرض الحقيقي ، فأطلق اسم القرض عليه ، والاختصاص بوصفه بقوله : حسناً ؛ والتجنيس المغاير في قوله : فيضاعفه له أضعافاً .
البقرة : ( 246 ) ألم تر إلى . . . . .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى ( مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أنه لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله ، وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت ، إما بالقتال أو بالطاعون ، على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين ، والإعلام بأنه : لا ينجي حذر من قدر ، أردف ذلك بأن القتال كان مطلوباً مشروعاً في الأمم السابقة ، فليس من الأحكام التي خصصتم بها ، لأن ما وقع فيه الاشتراك كانت النفس أميل لقبوله من التكليف الذي يكون يقع به الانفراد ، وتقدّم الكلام على قوله : ألم تر ، فأغنى عن إعادته ، والملأ هنا ، قال ابن عطية : جميع القوم ، قال : لأن المعنى يقتضيه ، وهذا هو أصل وضع اللفظة . وتسمي الأشراف الملأ تشبيهاً . إنتهى . يعني : والله أعلم تشبيهاً بجميع القوم . وقد تقدّم تفسير الملأ في الكلام على المفرات .
( مِن بَنِى إِسْراءيلَ ( في موضع الحال ، فيتعلق بمحذوف أي : كائنين من بني إسرائيل وعلى مذهب الكوفيين هو صلة للملأ ، لأن الاسم المعرف بالألف واللام يجوز عندهم أن يكون موصولاً ، كما زعموا ذلك في قوله :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله
فأكرم عندهم صلة للبيت لا موضع له من الإعراب ، كذلك : من بني إسرائيل ، العامل فيه لا موضع له من الإعراب .
( مِن بَعْدِ مُوسَى ( متعلق بما تعلق به : ) مِن بَنِى إِسْراءيلَ ( هو كائنين ، وتعدّى إلى حرفي جر من لفظ واحد لإختلاف المعنى

" صفحة رقم 263 "
فمن الأولى تبعيضية و : من ، الثانية لابتداء الغاية ، إذ العامل في هذا الظرف ، قالوا : تر ، وقالوا : هو بدل من : بعد ، لأنهما زمانان لبني إسرائيل ، ولا كلاهما لا يصح .
أما الأول : فإن ألم تر تقرير ، والمعنى : قد انتهى علمك إلى الملأ من بني إسرائيل ، وقد نظرت إلى بني إسرائيل إذ قالوا ، وليس انتهاء عليه إليهم ، ولا نظره إليهم كان في وقت قولهم لنبي لهم : ) ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ( وإذا لم يكن ظرفاً للإنتهاء ، ولا للنظر ، فكيف يكون معمولاً لهما ، أو لأحدهما ؟ هذا ما لا يصح .
وأما الثاني : فبعيد جداً ، لأنه لو كان بدلاً من : بعد ، لكان على تقدير العامل ، وهو لا يصح دخوله عليه ، أعنى : من ، الداخلة على : بعد ، لا تدخل على : إذ ، لا تقول : من إذ ، ولو كان من الظروف التي يدخل عليها : من ، كوقت وحين ، لم يصح المعنى أيضاً ، لأن : من ، بعد : موسى ، حال ، كما قرّرناه . إذا العامل فيه : كائنين ، ولو قلت : كائنين من حين قالوا لنبي لهم إبعث لنا ملكاً ، لما صح هذا المعنى ، وإذا بطل هذان الوجهان ، فينظر ما يعمل فيه مما يصح به المعنى ، وقد وجدناه ، وهو : أن يكون ثَمَّ محذوف به يصح المعنى ، وهو العامل ، وذلك المحذوف تقديره : ألم تر إلى قصة الملأ ، أو : حديث الملأ ، وما في معناه . لأن الذوات لا يتعجب منها ، وانما يتعجب مما جرى لهم ، فصار المعنى : ألم تر إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل من بعد موسى ، إذ قالوا ؟ فالعامل في : إذ ، هو ذلك المحذوف ، والمعنى على تقديره ، وتعلق قوله : لنبي ، بقالوا ، واللام فيه كما تقدّم للتبليغ ، واسم هذا النبي : شمويل بن بالي ، قاله ابن عباس ووهب بن منبه ، أو : شمعون ، قاله السدي ، أو يوشع بن نون ، وقال المحاسبي اسمه عيسى ، وضعف قول من قال : إنه يوشع بأن يوشع هو فتى موسى عليه السلام ، وبينه وبين داود قرون كثيرة ، وقد طول المفسرون في هذه ونحن نلخصها فنقول :
لما مات موسى عليه السلام ، خلف من بعده في بني إسرائيل يوشع يقيم فيهم التوارة ، ثم قبض فخلف حزقيل ، ثم قبض ففشت فهم الأحداث ، حتى عبدوا الأوثان فبعث إليهم إلياس ، ثم من بعده اليسع ، ثم قبض ، فعظمت فيهم الأحداث ، وظهر لهم عدوهم العمالقة قوم جالوت ، كانوا سكان ساحل بحر الروم ، بين مصر وفلسطين ، وظهروا عليهم وغلبوا على كثير من بلادهم ، وأسروا من أبناء ملوكهم كثيراً ، وضربوا عليهم الجزية ، وأخذوا توراتهم ، ولم يكن لهم من يدبر أمرهم ، وسألوا الله أن يبعث لهم نبياً يقاتلون معه ، وكان سبط النبوّة هلكوا إلاَّ امرأة حبلى دعت الله أن يرزقها غلاماً ، فرزقها شمويل ، فتعلم التوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخ من علمائهم ؛ وتبناه فلما بلغ النبوّة ، أتاه جبريل وهو نائم إلى جنب الشيخ ، وكان لا يأمن عليه ، فدعاه بلحن الشيخ : يا شمويل ، فقام فزعاً ، وقال : يا أبتِ دعوتني ، فكره أن يقول له : لا ، فيفزع ، فقال : يا بني نم ، فجرى بذلك له مرتين ، فقال له : إن دعوتك الثالثة فلا تجبني ، فظهر له جبريل ، فقال له إذهب فبلغ قومك رسالة ربك ، قد بعثك نبياً فأتاهم فكذبوه ، وقالوا إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك وكان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك ، وكان الملك يسير بالجموع ، والنبي يسدّده ويرشده وقال وهب : بعث شمويل نبياً فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ، وكان الله أسقط عنهم الجهاد إلاَّ من قاتلهم ، فلما كتب عليهم القتال تولوا ، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان .
ومعنى : ابعث لنا ملكاً : انهض لنا من نصدّر عنه في تدبير بالحرب ، وننتهي إبلى أمره ، وانجزم : نقاتل ، على جواب الأمر .
وقرأ الجمهور بالنونن والجزم ، والضحاك ، وابن أبي عبلة بالياء ورفع اللام على الصفة للملك ؛ وقرىء بالنون ورفع اللام على بالحال من المجرور وقرىء بالياء والجزم على جواب الأمر .
( قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَن لا تُقَاتِلُواْ ( لما طلبوا من نبيهم أن ينهض لهم ملكاً ، ورتبوا على بعثه أن يقاتلوا وكانوا قد ذلوا ، وسبي ملوكهم ، فأخذتهم الأنفة ، ورغبوا في الجهاد ، أراد أن يسثبت ما طلبوه من الجهاد ، وأن يتعرف ما انطوت عليه

" صفحة رقم 264 "
بواطنهم ، فاستفهم عن مقاربتهم ترك القتال إن كتب عليهم ، فأنكروا أن يكون لهم داع إلى ترك القتال ، فقالوا : ) وَمَا لَنَا أَن لا نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ( أي هذه حال من يبادر إلى القتال ، لأنه طالب ثأر ، ومترج أن يكون له الظفر من الله تعالى ، لأنهم علموا أن ما أصابهم إنما كان بذنوبهم ، فلم أقلعوا وتابوا ، ورجعوا لطوع الأنبياء ، قويت آمالهم بالنصر والظفر ، قيل : وكان النبي قد ظنّ منهم الجبن والفشل في القتال ، فلذلك استفهم ، وليبين أن ما ظنه وتوقعه من ذلك يكون منهم ، وكان كما توقع .
وقرأ نافع : عسيتم ، بكسر السين هنا وفي سورة القتال ، وقرأ الباقون بفتحها .
وقد تقدّم الكلام على : عسى ، قال أبو علي : الأكثر فتح السين ، وهو المشهور ، ووجه الكسر قول العرب : هو عس بذلك ، مثل : حروشج ، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم ، أن يقال : عسي زيد ، مثل : رضي ، فإن قيل : فهو القياس وإن لم يقل فسائغ أن تأخذ باللغتين وتستعمل إحداهما في موضع الأخرى ، كما فعل ذلك بغيره . إنتهى . والمحفوظ عن العرب أنه لا تكسر السين إلاَّ مع تاء المتكلم والمخاطب ونون الإناث ، نحو : عسيتُ ، وعسينَ ، وذلك على سبيل الجواز لا الوجوب ، ويفتح فيما سوى ذلك على سبيل الوجوب ، ولا يسوغ الكسر نحو : عسى زيد والزيدان عسيا ، والزيدون عسوا ، والهندان عسيا ، وعساك ، وعاساني ، وعساه . وقاله أبو بكر الأدفوي وغيره : إن أهل الحجاز يكسرون السين من عسى مع المضمر خاصة ، وإذا قيل : عسى زيد فليس إلاَّ الفتح ، وينبغي أن يقيد المضمر بما ذكرناه . وقال أبو عبيد : لو كان عسيتم بكسر السين لقرىء : عسي ربكم وهذا جهل من أبي عبيد بهذه اللغة ، ودخول : هل ، على : عسيتم ، دليل على أن عسى فعل خبري لا إنشائي ، والمشهور أن عسى إنشاء لأنه ترج ، فهي نظيرة لعل ، ولذلك لا يجوز أن يقع صلة للموصول ، لا يجوز أمن تقول : جاءني الذي عسى أن يحسن إليّ وقد خالف في هذه المسألة هشام فأجاز وصل الموصول بها ، ووقوعها خبراً لأن ، دليل على أنها فعل خبري ، وهو جائز . قال الراجز :
لا تلحني إنى عسيت صائماً
إلاَّ إن قيل : إن ذلك على إضمار القول ، كما قيل في قوله : إن الذين قتلتم أمس سيدهم
لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما
لأن : إن وأخواتها لا يجوز أن تقع خبراً لها من الجمل ، إلاَّ الجمل الخبرية ، وهي التي تحتمل الصدق والكذب ، هذا على الصحيح ، وفي ذلك خلاف ضعيف .
وجواب الشرط الذي هو : إن كتب عليكم القتال ، محذوف للدلالة عليه ، وتوسط الشرط بين أجزاء الدليل على حذفه ، كما توسط في قوله : ) وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ( وخبر عسيتم : أن لا تقاتلوا ، هذا على المشهور أنها تدخل على المبتدأ والخبر ، فيكون : أن ، زيدت في الخبر ، إذ : عسى للتراخي ، ومن ذهب إلى أن : عسى ، يتعدّى إلى مفعول ، جعل : أن لا تقاتلوا ، هو المفعول ، و : أن ، مصدرية ، والواو في : ومالنا ، لربط هذا الكلام بما قبله ، ولو حذف لجاز أن يكون منقطعاً عنه ، وهو استفهام في اللفظ ، وانكار في المعنى ، و : أن لا نقاتل ، أي : في ترك القتال ، حذف الجر المتعلق بما تعلق به : لنا ، الواقع خبراً لما الاستفهامية إذ هي مبتدأ ، و : أن لا نقاتل ، في موضع نصب ، أو : في موضع جر على الخلاف الذي بين سيبويه والخليل و : ذهب أو الحسن إلى أنَّ : أن ، زائدة ، وعملت النصب كما عمل باء الجر الزائد الجر ، والجملة

" صفحة رقم 265 "
حال ، أي : ومالنا غير مقاتلين ، فيكون مثل قوله تعالى : ) مَالِكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ ( ) مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( ) وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( وكقول العرب : مالك قائماً ؟ وقال تعالى : ) فما لهم عن التذكرة معرضين وذهب قوم منهم ابن جرير إلى حذف الواو من : أن لا نقاتل ، والتقدير : وما لنا ولأن لا نقاتل ؟ قال : كما تقول : إياك أن تتكلم ، بمعنى إياك وأن تتكلم ، وهذا ومذهب أبي الحسن ليسا بشيء ، لأن الزيادة والحذف على خلاف الأصل ، ولا نذهب إليهما إلاَّ لضرورة ، ولا ضرورة تدعو هنا إلى ذلك مع صحة المعنى في عدم الزيادة والحذف ، وأما : اياك أن تتكلم ، فليس على حذف حرف العطف ، بل : إياك ، مضمن معنى إحذر . فأن تتكلم في موضع نصب كأنه قيل : احذر التكلم ، وقد أخرجنا جملة حالية : أنكروا ترك القتال ، وقد التبسوا بهذه الحال من إخراجهم من ديارهم وأبنائهم ، والقائل هذا لم يخرج ، لكنه أخرج مثله ، فكان ذلك إخراجاً له ، ويمكن حمله على الظاهر ، لأن كثيراً منهم استُولي على بلادهم ، وأسر أبناؤهم ، فارتحلوا إلى غير بلادهم التي كان منشؤهم بها ، كما مر في قصتهم .
وقرأ عبيد بن عمير : وقد أخرجنا ، أي العدوّ ، والمعنى . في : وأبنائنا ، أي : من بين أبنائنا ، وقيل : هو على القلب أي : وأخرج منا أبناؤنا ، ويحتمل أن يكون الفاعل : بأخرجنا ، على قراءة عبيد المذكور ضميراً يعود على الله ، أي : وقد أخرجنا الله بعصياننا وذنوبنا ، فنحن نتوب ونقاتل في سبيله ليردنا إلى أوطاننا ، ويجمع بيننا وبين أبنائنا ، كما تقول : ما لي لا أطيع الله وقد عاقبني على مصعيته ؟ فينبغي أن أطيعه حتى لا يعاقبني ، قال القشيري : أظهروا التجلد والتصلب في القتال ذباً عن أموالهم ومنازلهم حيث ) قالوا ما لنا ان لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ( فلذلك لم يتم قصدهم ، لأنه لم يخلص لحق الله عزمهم ، ولو أنهم قالوا : وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله ، لأنه قد أمرنا ، وأوجب علينا ، لعلهم وفقوا لإتمام ما قصدوا .
( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ ( هذا شأن المترف المنعم ، متى كان متلبساً بالنعمة قوي عزمه وأنف ، فإذا ابتلي بشيء من الخطوب .
وذل التولي : حقيقة هو عند المباشرة للحرب ، ومعناه هنا : صرف عزائمهم عن ما سألوه من القتال ، وانتصب : قليلاً ، على الاستثناء المتصل ، ولا يجوز أن يكون المستثنى منهما ، لو قلت : ضربت القوم إلاَّ رجالاً ، لم يصح ، وصح هذا لاختصاصه بأنه في نفسه صفة لموصوف ، ولتقييده بقوله : منهم ، ولم يبين هنا عدة هذا القليل ، وبينته السنة ، صح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما سئل عن عدة من كان معه يوم بدر قال : ( ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدّة قوم طالوت ) ، وهؤلاء القليل ثبتوا على نياتهم السابقة ، واستمرت عزائمهم على قتال أعدائهم .
وقرأ أبيّ : تولوا إلا أن يكون قليل منهم ، وهو استثناء منقطع ، لأن الكون معنى من المعاني ، والمستثنى منهم جثث . وتقول العرب : قام القوم إلاَّ أن يكون زيد ، وزيداً ، بالرفع والنصب ، فالرفع على أن يكون تامة ، والنصب على أنها ناقصة ، واسمهما ضمير مستكن فيها يعود على البعض المفهوم مما قبله ، التقدير : إلاَّ أن يكون هو ، أي : بعضهم زيداً ، والمعنى قام القوم إلاَّ كون زيد في القائمين ، ويلزم من انتفاء كونه في القائمين أنه ليس قائماً ، فلا فرق من حيث المعنى بين قام القوم إلاَّ زيداً ، وبين قام القوم إلاَّ أن يكون زيدٌ أو زيداً .
( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ( فيه وعيد وتهديد لمن تقاعد عن القتال بعد أن فرض عليه بسؤاله ورغبته ، وأن الإعراض عما أوجب الله على العبد ظلم ، إذا الظلم وضع الشيء في غير موضعه .
البقرة : ( 247 ) وقال لهم نبيهم . . . . .
( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ( قول النبي لهم : إن الله قد بعث ، لا يكون إلاَّ بوحي ، لأنهم سألوه أن يبعث لهم ملكاً يقاتل في سبيل الله ، فأخبر ذلك النبي أن الله قد بعثه ، فيحتمل أن يكون ذلك بسؤال من النبيّ الله أن يبعثه ويحتمل أن يكون ذلك بغير سؤاله ، بل لما علم حاجتهم إليه بعثه .
وقال المفسرون : إنه سأل الله أن يبعث لهم ملكاً ، فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس وقيل : الذي يكون ملكاً طوله طول هذه العصا ، وقيل : للنبي . أنظر القرن فإذا دخل رجل فنش الدهن الذي هو فيه فهو ملك بني اسرائيل ، فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها ، وكان : طالوت سقاء على ماء ، قاله السدي ، أو : دباغاً على

" صفحة رقم 266 "
ما قاله وهب ، أو مكارياً ، وضاع حمار له ، أو حمرٌ لأهله ، فاجتمع بالنبي ليسأله عن ما ضاع له ويدعو الله له ، فبينا هو عنده نش ذلك القرن ، وقاسه النبي بالعصا ، فكان طولها ، فقال له : قرب رأسك فقرّبه ودهنه بدهن القدس ، وقال : أمرني الله أن أملكك على بني اسرائيل . فقال طالوت : أنا ؟ قال : نعم . قال : أو ما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني اسرائيل ؟ قال : بلى ، قال : أفما علمت أن بيتي أدنى بيوت بني اسرائيل ؟ قال : بلى . قال : فبآية انك ترجع وقد وجد أبوك حمره . وكان كذلك .
وانتصب : ملكاً على الحال : والظاهر أنه ملكه الله عليهم ، وقال مجاهد : معناه أميراً على الجيش .
( قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ الْمَالِ ( هذا كلام من تعنتَ وحادَ عن أمر الله ، وهي عادة بني اسرائيل ، فكان ينبغي لهم إذ قال لهم النبي عن الله ) إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ( أن يسلموا الأمر لله ، ولا تنكره قلوبهم ، ولا يتعجبوا من ذلك ، ففي المقادير أسرار لا تدرك ، فقالوا : كيف يملك علينا من هو دوننا . ليس من بيت الملك الذي هو سبط يهوداً . ومنه داود وسليمان ؟ وليس من بيت النبوّة الذي هو سبط لاوي ومنه موسى وهارون ؟ قال ابن السائب : وكان سبط طالوت قد عملوا ذنباً عظيماً ، نكحوا النساء نهاراً على ظهر الطريق ، فغضب الله عليهم ، فنزع النبوّة والملك منهم ، وكانوا يسمون سبط الإثم .
وفي قولهم : ) أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا ( إلى آخره ما يدل على أنه مركوز في الطباع أن لا يقدم المفضول على الفاضل ، واستحقار من كان غير موسع عليه ، فاستبعدوا أن يتملك عليهم من هم أحق بالملك منه ، وهو فقير والملك يحتاج إلى أصالة فيه ، إذ يكون أعظم في النفوس ، وإلى غنى يستعبد به الرجال ، ويعينه على مقاصد الملك ، لم يعتبروا السبب الأقوى ، وهو : قضاء الله وقدره : ) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء ( واعتبروا السبب الأضعف ، وهو : النسب والغنى ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( ( لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلاَّ بالتقوى ) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( ) وقال الله تعالى ) وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ( قال الشاعر : وأعجب شيء إلى عاقل
فتوّ عن المجد مستأخره
إذا سئلوا ما لهم من علا ؟
أشاروا إلى أعظم ناخره
و : أنىَّ ، هنا بمعنى : كيف ؟ وهو منصوب على الحال ، و : يكون ، الظاهر أنها ناقصة ، و : له ، في موضع الخبر ، فيتعلق بمحذوف وهو العامل في : أنى ، و : علينا ، متعلق : بالملك ، على معنى الاستعلاء ، تقول : فلان ملك على بني فلان ، وقيل : علينا ، حال من : الملك .
ويجوز أن تكون تامة و : له ، متعلق ، بيكون ، أي : كيف يقع ؟ أو : يحدث له الملك علينا ونحن أحق ؟ جملة حالية اسمية عطف عليها جملة فعلية ، وهي ) لَمْ يُؤْتِ سَعَةً مّنَ الْمَالِ ( والمعطوف على الحال حال ، والمعنى : أن من اجتمع فيه هذان الوصفان ، وجود من هو أحق منه ، وفقره ، لا يصلح للملك . ويعلق : بالملك ، و : منه ، بأحق ، وتعلق : من المال ، بيؤت ، وفتحت سين السعة لفتحها في المضارع ، إذ هو محمول عليه ، وقياسها الكسر ، لأنه كان أصله ، يوسع ، كوثق يثق ، وإنما فتح عين طالمضارع لكون لامه حرف حلق ، فهذه فتحة أصلها الكسر ، ولذلك حذفت الواو ، لوقوعها في يسع بين ياء وكسرة ، لكن فتح لما ذكرناه ، ولو كان أصلها الفتح لم يجز حذف الواو ، ألا ترى ثبوتها في يوجل ؟ لأنها لم تقع بين كسرة وياء ، فالمصدر والأمر في الحذف محمولان على المضارع ، كما حملوا : عدة وعد على يعد .
( قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ( أي : اختاره صفوة ، إذ هو أعلم تعالى بالمصالح ، فلا تعترضوا على الله .
( وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ( قيل : في العلم بالحروب ، والظاهر علم الديانات والشرائع ، وقيل : قد أوحي إليه ونبيء ، وأما البسطة في الجسم فقيل : أريد بذلك معاني : الخير ، والشجاعة ، وقهر الأعداء ، والظاهر أنه : الامتداد ، والسعة في الجسم .
قال ابن عباس : كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل ، وأجمله وأتمه ،

" صفحة رقم 267 "
وقد تقدّم قول المفسرين في طوله ، ونبه على استحقاق طالوت للملك باصطفاء الله له على بني اسرائيل ) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ( وبما أعطاه من السعة في العلم ، وهو الوصف الذي لا شيء أشرف منه : ) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( أنا أعلمكم بالله ومن بسطة الجسم ، فإن لذلك عظماً في النفوس وهيبة وقوّة ، وكثيراً ما تمدّحت العرب بذلك قال الشاعر : فجاءت به سبط العظام كأنما
عمامته بين الرجال لواء
وقال : بطل كأن ثيابه في سرحة
يحذى نعال السبت ليس بتوأم
وقال : تبين لي أن القماءة ذلة
وان أعزاء الرجال طيالُها
وقالوا في المدح : طويل النجاد رفيع العماد ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذا ماشى الطوال طالهم . قال ابن زيد : كانت هذه الزيادة بعد الملك ، وقال وهب ، والسدّي ، قبل الملك ، فالمعنى : وزاده على غيره من الناس بسطة ، بالسين ، أبو عمرو ، وابن كثير ، و : بالصاد نافع ، وابن كثير ، رواية النقاش ، وزرعان ، والشموني . وزاد : لئن بصطت ، وبباصط ، وكباصط ، ومبصوطتان ، ولا تبصطها كل البصط ، وأوصط ، وفما اصطاعوا : ويصطون ، والقصطاس ، وروى نحوه : أبو نشيط عن قالون .
( وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ( ظاهره أنه من معمول قول النبي لهم ، لما علم بغيتهم في مسائلهم ومجادلتهم في الحجج التي تبديها ، أتم كلامه بالأمر القطعي ، وهو أن الله هو الفاعل المختار ، يفعل ما يشاء . ولما قالوا : ) وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ( فكان في قولهم ادّعاء الأحقية في الملك ، حتى كأن الملك هو في ملكهم ، أضاف الملك إلى الله في قوله : ملكاً ، فالملك ملكه يتصرف فيه كما أراد ، فلستم بأحق فيه ، لأنه ملك الله يؤتيه من يشاء ، وقيل : هاتان الجملتان ليستا داخلتين في قول النبي ، بل هي إخبار من الله تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فهي معترضة في هذه القصة ، جاءت للتشديد والتقوية لمن يؤتيه الله الملك ، أي : فإذا كان الله تعالى هو المتصرف في ملكه فلا اعتراض عليه ) لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ( وختم بهاتين الصفتين ، إذ تقدّم دعواهم أنهم أهل الملك ، وأنهم الأغنياء ، وأن طالوت ليس من بيت الملك ، وأنه فقير فقال تعالى : إنه واسع ، يوسع فضله على الفقير ، عليم بمن هو أحق بالملك ، فيضعه فيه ويختاره له .
وفي قصة طالوت دلالة على أن الإمامة ليست وراثة ، لإنكار الله عليهم ما أنكروه من التمليك عليهم من ليس من أهل النبوّة والملك ، وبين أن ذلك مستحق بالعلم والقوّة لا بالنسب ، ودل أيضاً على أنه لا حظ للنسب مع العلم ، وفضائل النفس ، وأنها مقدّمة عليه لاختيار الله طالوت عليهم ، لعلمه وقدرته ، وإن كانوا أشرف منه نسباً .
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة الإخبار بقصة الخارجين من ديارهم ، وهم عالم لا يحصون ، فراراً من الموت ، إما بالقتل إذ فرض عليهم القتال ، وإما بالوباء ، فأماتهم الله ثم أحياهم ليعلموا أنه لا مفر مما قدّره الله تعالى ، وذلك لئلا نسلك ما سلكوه ، فنحجم عن القتال ، فأتت هذه الآية مثبتة لمن جاهد في سبيله ، وذكر تعالى أنه ذو فضل على الناس ، وذلك بإحيائهم والإحسان إليهم ، ومع ذلك فأكثرهم لا يؤدّي شكر الله . ثم أمر بالقتال في سبيل الله ، وبأن نعلم أنه سميع لأقوالنا ، عليم بنياتنا ، ثم ذكر أن من أقرض الله فالله يضاعفه حيث يحتاج إليه ، ثم ذكر أن

" صفحة رقم 268 "
بيده القبض والبسط ، وأن مرجع الكل إليه ، ثم أخبر تعالى بقصة الملأ من بني اسرائيل ، وذلك لنعتبر بها ونقتدي منها بما كان من أحوالهم حسناً ، ونجتنب ما كان قبيحاً . وهذه الحكمة في قصص الأولين علينا لنعتبر بها ، وأنهم حين استولى عليهم العدّو ، فملك بلادهم وأسر أبناءهم ، ولم يكن لهم ملك يسوسهم في أمر الحرب ، إذ هي محتاجة إلى من يُصدر عن أمره ويجتمع عليه ، فسألوا نبيهم أن ينهض . لهم ملكاً برسم الجهاد في سبيل الله ، فتوقع النبي منهم أنه لو فرض عليهم القتال نكصوا عنه ، فأجابوه : بأنا قد وترنا ، وأخرجنا من ديارنا ، وأبنائنا ، وهذا أصعب شيء على النفوس ، وهو أن يخرج من مسكن ألفه ، ويفرق بينه وبين أبنائه ، ولهذا دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اللهم حبب لنا المدينة كحبنا مكة أو أكثر ) . وكثيراً ما بكى الشعراء المساكن والمعاهد ، ألا ترى إلى قول بلال : ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة
بواد وحولي إذ حرٌ وجليلُ
وكان قتيبة بن سعيد المحدّث قد رزق من النصيب في الدنيا والجلالة ، وحمل الناس العلم عنه ، وكان ببغداد ، فعبر مرة على مكان مولده ومنشئه صغيراً ببغلان ، قيل : وهي ضيعة من أصغر الضياع ، فتمنى أن لو كان مقيماً بها ، ويترك رئاسة بغداد ، دار الخلافة ، وذلك نزوع إلى الوطن ، وذكر تعالى أنه لما فرض القتال عليهم : أعرضوا عن قبوله إلاَّ قليلاً فإنه أخذ أمر الله بالقبول ، ثم عرّض تعالى بالظالمين ، وهم : الذين لم يقبلوا أمر الله بعد أن كانوا طلبوه ، فهو يجازيهم على ظلمهم ، ثم أخبر تعالى عن نبيهم أنه قال لهم عن الله إنه قد بعث طالوت ملكاً عليهم ، ولم يكن عندهم من أنفسهم ولا أشرفهم منصباً ، إذ ليس من سبط النبوّة ، ولا من سبط الملك ، فلم يأخذوا ما أخبرهم عن الله بالقبول ، وشرعوا يتعنتون على عادتهم مع أنبيائهم ، فاستبعدوا تمليكه عليهم ، لأن فيهم من هو أحق بالملك منه على زعمهم ، إذ لم يسبق له أن يكون من آبائه ملك فيعظم عند العامّة ، ولأنه فقير ، وهاتان الخلتان هما يضعفان الملك ، إذ سابق الرئاسة والجاه والملاءة بالأموال مما يستتبع الرجال ، ويستعبد الأحرار ، وما علموا أن عناية المقادير تجعل المفضول فاضلاً . فأخبرهم نبيهم ، أن الله تعالى قد اختاره عليكم ، وشرّفه بخصلتين : هما في ذاته : إحداهما : الخلق العظيم ، والأخرى : المعرفة التي هي الفضل الجسيم ، واستغنى بهذين الوصفين الذاتيين عن الوصفين الخارجين عن الذات ، وهما الفخر : بالعظم الرميم ، والاستكثار بالمال الذي مرتعه وخيم . ثم أخبر أن الله تعالى يعطى ملكه من أراد ، وأنه الواسع الفضل ، العالم بمصالح العباد ، فلا اعتراض عليه .
( ) وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَالِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّىإِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ

" صفحة رقم 269 "
قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } )
7 )
البقرة : ( 248 ) وقال لهم نبيهم . . . . .
التابوت : معروف وهو الصندوق ، وفي التابوت قولان .
أحدهما : أن وزنه فاعول ولا يعرف له اشتقاق ولغة فيه التابوه ، بالهاء آخراً ، ويجوز أن تكون الهاء بدلاً من التاء كما أبدلوها منها في الوقت ، في مثل : طلحة فقالوا : طلحه ، ولا يجوز أن يكون : فعلوتا كملكوت ، من : تاب يتوب ، لفقدان معنى الاشتقاق فيه .
والقول الآخر : أنه فعلوت من التوب ، وهو الرجوع لأنه ظرف ، وضع فيه الأشياء وتودعه فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه ، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته قاله الزمخشري . قال : ولا يكون فاعولاً لقلة نحو سلس ، وقلق ، ولانه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه ، وأما بالهاء ففاعول إلاّ فيمن جعل هتاءه من التاء لاجتماعهما في الهمس ، وأنهما من حروف الزيادة ، ولذلك أبدلت من تاء التأنيث .
السكينة : فعيله من السكون ، وهو الوقار تقول : في فلان سكينة أي : وقار وثبات .
هارون : أسم أعجمي يمنع الصرف للعلمية والعجمة .
الجنود : جمع جند ، وهو معروف ، واشتقاقه من الجند وهو : الغليظ من الأرض اذ بعضهم يعتصم ببعض .
الغرفة : بضم الغين اسم للقدر المغترف من الماء ، كالأكلة للقدر الذي يؤكل ، وبفتح الغين مصدر للمرة الواحدة نحو : ضربت ضربة والاغتراف والغرف معروف ، والغرفة البناء العالي المشرف .
جاوز : وجاز المكان قطعه .
جالوت : اسم أعجمي ممنوع الصرف للعجمة والعلمية ، كان ملك العمالقة ، ويقال إن البربر من نسله .
الفئة : القطعة من الناس ، وقيل : هو مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع ، فيكون المحذوف عين الكلمة ، أو من فأوت رأسه : كسرته : فيكون المحذوف لام الكلمة قولاً .
غلب : غلباً وغلبةً : قهر ، والأغلب القوي الغليظ ، والأنثى غلبى .
برز : يبرز بروزاً ، ظهر ، وامرأة برزة أخذ منها السن ، فلم تستر وجهها ، ومن ذلك البراز والمتبرّز .
أفرغ : صب وفرغ من كذا ، خلا منه .
ثبت : استقر ورسخ ، وثبته أقّره ومكنه بحيث لا يتزحزح .
القدم : يالرجل وهي مؤنثة تقول في تصغيرها : قديمة ، والاشتقاق في هذه الكلمة يرجع لمعنى التقدم .
هزم : كسر الشيء ورد بعضه على بعض ، وتقول العرب : هزمت على زيد : عطفت عليه . قال الشاعر : هزمتُ عليكِ اليوم يا ابنة مالك
فجودي علينا بالنوال وأنعمي

" صفحة رقم 270 "
داود : اسم أعجمي منع الصرف للعملية والعجمة ، وهو هنا : أبو سليمان ، على نبينا وعليهما السلام ، وهو داود بن إيسا ، بكسر الهمزة ، ويقال داود بن إسحاق ابن إبراهيم ، على نبينا وعليهم السلام .
الدفع : الصرف : دفع يدفع دفعاً ، ودافع مدافعة ودفاعاً .
( وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ( ظاهر هذه الآية وما قبلها يدل على أنهم كانوا مقرّين بنبوّة هذا النبي الذي كان معهم ، ألا ترى إلى قولهم : ) ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ).
ولكن لما أخبرهم الله : ) بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَهُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ( أراد أن يعلمهم بآية تدل على ملكه على سبيل التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له . وقال الطبري ، وحكى معناه عن ابن عباس والسدّي ، وابن زيد : تعنت بنو إسرائيل ، وقالوا لنبيهم : وما آية ملك طالوت ؟ وذلك على وجه سؤال الدلالة على صدق نبيهم في قوله : ) إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ( وهذا القول أشبه من الأول بأخلاق بني إسرائيل ، وتكذيبهم وتعنتهم لأنبيائهم ، وقيل : خيرهم النبي في آية ، فاختاروا التابوت ، ولا يكون إتيان التابوت آية إلاَّ إذا كان يقع على وجه يكون خارقاً للعادة ، فيكون ذلك آية على صدق الدعوى ، فيحتمل أن يكون مجيئه هو المعجزة ، ويحتمل أن يكون ما فيه هو المعجز ، وهو سبب لاستقرار قلوبهم ، واطمئنان نفوسه ؛ ونسبة الاتيان إلى التابوت مجاز لأن التابوت لا يأتي ، إنما يؤتى به ، كقوله : ) فَإِذَا عَزَمَ الاْمْرُ ( ) فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ).
وقرأ الجمهور : بالتابوت بالتاء ؛ وقرأ أبيّ وزيد : بالهاء ، وهي لغة الأنصار ، وقد تقدم الكلام في هذه الهاء أهي بدل من التاء ؟ أم أصل ؟ قال ابن عباس ، وابن السائب : كان التابوت من عود الشمشار ، وهو خشب تعمل منه الأمشاط ، وعليه صفائح الذهب ، وقيل : كانت الصفائح مموّهة بالذهب ، وكان طوله ثلاثة أذرع في ذراعين ، وقد كثر القصص في هذا التابوت والاختلاف في أمره ، والذي يظهر أنه تابوت معروف حاله عند بني إسرائيل ، كانوا قد فقدوه وهو مشتمل على ما ذكره الله تعالى مما أبهم حله ، ولم ينص على تعيين ما فيه ، وأن الملائكة تحمله ، ونحن نلم بشيء مما قاله المفسرون والمؤرخون على سبيل الإيجاز ، فذكروا : أن الله تعالى أنزل تابوتاً على آدم فيه صور الأنبياء ، وبيوت بعددهم ، وآخره بيت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فتناقله بعد ، أولاده شيث فمن بعده إلى إبراهيم ، ثم كان عند إسماعيل ، ثم عند ابنه قيدار ، فنازعه إياه بنو عمه أولد إسحاق ، وقالوا له : وقد صرفت النبوّة عنكم إلاَّ هذا النور الواحد ، فامتنع عليهم ، وجاء يوماً يفتحه فتعسر ، فناداه منادٍ من السماء لا يفتحه إلاَّ نبي ، فادفعه إلى ابن عمك يعقوب ، فحمله على ظهره إلى كنعان ، فدفعه ليعقوب ، فكان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام ، فوضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه ، ثم توارثها أنبياء بني إبسرائيل إلى أن وصل إلى شمويل ، فكان فيه ما ذكره الله في كتابه .
وقيل : اتخذ موسى التابوت ليبجمع فيه رضاض الألواح .
والسكينة : هي الطمأنينة ولما كانت حاصلة بإتيان التابوت ، جعل التابوت ظرفاً لها ، وهذا من المجاز الحسن ، وهو تشبيه المعاني بالأجرام ، وجاء في حديث عمران بن حصين أنه كان يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة ، فغشيته سحابة ، فجعلت تدور وتدنو ، وجعل فرسه ينفر منها ، فلما أصبح أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فذكر ذلك له فقال : ( تلك السكينة تنزلت للقرآن ) .
وفي حديث أسيد بن حضير ، بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث ، وفيه : فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( تلك الملائكة كانت تسمع لذلك ، ولو قرأت لأصبحت تراها الناس ما تستتر منهم ) . فأخبر ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن نزول السكينة مرة ، ومرة عن نزول الملائكة ، ودل حديث أسيد على أن نزول السكينة في حديث عمران هو على حذف مضاف ، أي : تلك أصحاب السكينة ، وهم الملائكة المخبر

" صفحة رقم 271 "
عنهم في حديث أسيد ، وجعلوا ذوي السكينة لأن إيمانهم في غاية الطمأنينة ، وطواعيتهم دائمة لا يعصون الله ما أمرهم ، وقد جاء في ( الصحيح ) : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاَّ نزلت عليهم السكينة . وحفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده ) .
فنزول السكينة عليهم كناية عن التباسهم بطمأنينة الإيمان ، واستقرار ذلك في قلوبهم ، لأن من تلا كتاب الله وتدارسه يحصل له بالتدبر في معانيه . والتفكر في أساليبه ، ما يطمئن إليه قلبه ، وتستقر له نفسه ، وكأنه كان قبل التلاوة له والدراسة خالياً من ذلك ، فحين تلا نزل ذلك عليه .
وقد قال بهذا المعنى بعض المفسرين ، قال قتادة السكينة هنا الوقار . وقال عطاء : ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها ، وقال نحوه الزجاج .
وقال الزمخشري : التابوت صندوق التوراة ، كان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون ، والسكينة : السكون والطمأنينة ، وذكر عن عليّ أن السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، وهي ريح هفافة ، وقيل : السكينة صورة من زبرجد أو ياقوت ، لها رأس كرأس الهر ، وذنب كذنبه ، وجناحان ، فتئن فيزف التابوت نحو العدو ، وهم يمضون معه ، فإذا استقر ثبتت وسكنوا ، ونزل النصر . وقيل : بالسكينة بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء ، فإن الله ينصر طالوت وجنوده ، ويقال : جعل تعالى سكينة بني إسرائيل في التابوت الذي فيه رضاض الألواح ، والعصا ، وآثار أصحاب نبوتهم ، وجعل تعالى سكينة هذه الآمة في قلوبهم ، وفرق بين مقر تداولته الأيدى ، قد فر مرة ، وغلب عليه مرة ، وبين مقربين أصبعين من أصابع الرحمن .
وقرأ أبو السماك : سكينة ، بتشديد الكاف وارتفاع سكينة ، بقوله : فيه ، وهو في موضع الحال ، أي : كائناً فيه سكينة . و : من ، لابتداء الغاية ، أي : كائنة من ربكم ، فهو في موضع الصفة ، أو متعلقاً بما تعلق به قوله : فيه ، ويحتمل أن يكون للتبعيض على تقدير حذف مضاف ، أي : من سكينات ربكم .
والبقية ؛ قيل : رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، قاله عكرمة . وقيل : عصا موسى قاله وهب وقيل : عصا موسى وهارون وثيابهما ولوحان من التوراة المنّ ، قاله أبو صالح . وقيل : العلم والتوراة قاله مجاهد ، وعطاء وقيل : رضاض الألواح وطست من ذهب وعصا موسى وعمامته ، قاله مقاتل وقيل : ققيز من منّ ورضاض الألواح حكاه سفيان الثوري وقيل : العصا والنعلان ، حكاه الثوري أيضاً ، وقيل : الجهاد في سبيل الله ، وبذلك أمروا ، قاله الضحاك . وقيل : التوراة ورضاض الألواح قاله السدّي . وقيل : لوحان من التوراة ، وثياب موسى وهارون وعصواهما ، وكلمة الله : لا إله إلا الله الحكيم الكريم ، وسبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، وقيل : عصا موسى وأمور من التوراة ، قاله الربيع . ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر في التابوت ، فأخبر كل قائل عن بعض ما فيه ، وانحصر بهذه الأقوال ما في التابوت من البقية .
( مّمَّا تَرَكَ ( في موضع الصفة لبقية ، و : من ، للتبعيض .
و : ) وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ( هم من الأنبياء ، إليهما من قرابة أو شريعة ، والذي يظهر أن آل موسى وآل هارون هم الأنبياء الذين أتوا بعدهما ، فإنهم كانوا يتوارثون ذلك إلى أن فقد . ونذكر كيفية فقده إن شاء الله .
وقال الزمخشضري : ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون ، والآل مقحم لتفخيم شأنهما . إنتهى . وقال غيره : آل هنا زائدة ، والتقدير : مما ترك موسى وهارون ، ومنه اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى آل أبي أوفى ، يريد نفسه ، ولقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود ، أي : من مزامير داود ومنه قول جميل :

" صفحة رقم 272 "
بثينة من آل النساء وإنما
يكنّ لأدنى ، لا وصال لغائب
أي : من النساء . إنتهى . ودعوى الإقحام والزيادة في الأسماء لا يذهب إليه نحوي محقق ، وقول الزمخشري : والآل مقحم لتفخيم شأنهما ان عنى بالإقحام ما يدل عليه أول كلامه في قوله : ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون ، فلا أدري كيف يفيد زيادة آل تفخيم شأن موسى وهارون ؟ وإن عنى بالآل الشخص ، فانه يطلق على شخص الرجل آله ، فكأنه قيل : مما ترك موسى وهارون أنفسهما ، فنسب تلك الأشياء العظيمة التي تضمنها التابوت إلى أنها من بقايا موسى وهارون شخصيهما ، أي أنفسهما لا من بقايا غيرهما ، فجرى آل هنا مجرى التوكيد الذي يراد به : أن المتروك من ذلك الخير هو منسوب لذات موسى وهارون ، فيكون في التنصيص عليهما ذاتهما تفخيم لشأنهما ، وكان ذلك مقحماً لأنه لو قيل : مما ترك موسى وهارون لاكتفى ، وكان ظاهر ذلك أنهما أنفسهما ، تركا ذلك وورث عنهما .
( تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ( وقرأ مجاهد : يحمله ، بالياء من أسفل ، والضمير يعود على التابوت ، وهذه الجملة حال من التابوت ، أي حاملاً له الملائكة ، ويحتمل الاستئناف ، كأنه قيل : ومن يأتي به وقد فقد ؟ فقال : ) تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ( استعظاماً لشأن هذه الآية العظيمة ، وهو أن الذي يباشر إتيانه إليكم الملائكة الذين يكونون معدين للأمور العظام ، ولهم القوّة والتمكينه والإطلاع بأقدار الله لهم على ذلك ، ألا ترى إلى تلقيهم الكتب الإلهية وتنزيلهم بها على من أوحي إليهم ، وقلبهم مدائن العصاة ، وقبض الأرواح ، وإرجاء السحاب ، وحمل العرش ، وغير ذلك من الأمور الخارقة ، والمعنى : تحمله الملائكة إليكم .
قال ابن عباس : جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض ، وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت .
قال وهب : قالوا لنبيهم : انعت وقتاً تأتينا به فقال : الصبح ، فلم يناموا ليلتهم حتى سمعوا حفيف الملائكة بين السماء والأرض .
وقال قتادة : كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع ، فبقي هناك ولم يعلم به بنو إسرائيل ، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت ، فأقروا بملكه . قال ابن زيد : غير راضين ، وقيل : سبى التابوت أهل الأردن ، قرية من قرى بفلسطين ، وجعلوه في بيت صنم لهم تحت الصنم ، فأصبح الصنم تحت التابوت ، فسمروا قدمي الصنم على التابوت ، فأصبح وقد قطعت يداه ورجلاه ملقى تحت التابوت ، وأصنامهم منكسة ، فوضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم ، فدفنوه بالصحراء في متبَّرزٍ لهم ، فكان من تبرزب هناك أخذه الناسور والقولنج ، فتحيروا ، وقالت امرأة من أولا الأنبياء من بني إسرائيل : ما تزالوا ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم فاخرجوه عنكم فحملوا التابوت على عجلة ، وعلقوا بها ثورين أو بقرتين ، وضربوا جنوبهما ، فوكل الله أربعة من الملائكة يسوقونهما ، فما مرّ التابوت بشيء من الأرض إلاَّ كان مقدّساً إلى أرض بني إسرائيل ، وضع التابوت في أرض فيها حصاد بني إسرائيل ، ورجعا إلى أرضهما ، فلم يرع بني إسرائيل إلاَّ التابوت ، فكبوا وحمدوا الله على تمليك طالوت ، فذلك قوله : ) تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ).
وقال ابن عباس : إن التابوت والعصا في بحيرة طبرية يخرجان قبل يوم القيامة ، وقيل يوم القيامة ، وقيل : عند نزول عيسى على نبينا وعليه السلام .
( إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( قيل : الإشارة إلى التابوت ، والأحسن أن يعود على الإتيان أي : إتيان التابوت على الوصف المذكور ليناسب أول الآية آخرها ، لأن أولها ) وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ ( والمعنى لآية لكم على ملكه واختياره لكم ، وقيل : علامة لكم على نصركم على عدوّكم ، لأنهم كانوا يستنصرون بالتابوت أينما توجهوا ، فينصرون .
و : إن ، قيل على حالها من وضعها للشرط . أي : ذلك آية لكم على تقدير إيمانكم لأنهم قيل : صاروا كفرة بإنكارهم على نبيهم . وقيل : إن كان من شأنكم وهممكم الإيمان بما تقوم به الحجة عليكم ، وقيل : إن كنتم مصدّقين بأن الله قد جعل لكم طالوت ملكاً . وقيل : مصدّقين بأن وعد الله حق . وقيل : إن ، بمعنى : إذ ، ولم يسألوا تكذيباً لنبيهم ، وإنما سألوا تعرفاً لوجه الحكمة ، والسؤال عن الكيفية لا يكون انكارا كلياً .
البقرة : ( 249 ) فلما فصل طالوت . . . . .
( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ( بين هذه الجملة والجملة قبلها محذوف تقديره : فجاءهم التابوت ، وأقروا له بالملك ، وتأهبوا للخروج ، فلما فصل طالوت ، أي : انفصل من مكان اقامته ، يقال : فصل عن الموضع

" صفحة رقم 273 "
انفصل ، وجاوزه . قيل : وأصله فصل نفسه ، ثم كثر ، فحذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدّي : كانفصل ، والباء في ، بالجنود ، للحال ، أي : والجنود مصاحبوه ، وكان عددهم سبعين ألفاً ، قاله ابن عباس . أو ثمانين ألفاً قاله عكرمة . أو مائة ألف ، قاله مقاتل . أو ثلاثين ألفاً .
قال عكرمة : لما رأى بنو اسرائيل التابوت سارعوا إلى طاعته والخروج معه ، فقال لهم طالوت : لا يخرج معي من بنى بناءً لم يفرغ منه ، ولا من تزّوج امرأة لم يدخل بها ، ولا صاحب زرع لم يحصده ، ولا صاحب تجارة لم يرحل بها ، ولا من له أو عليه دين ، ولا كبير ، ولا عليل . فخرج معه من تقدّم الاختلاف في عددهم على شرطه ، فسار بهم ، فشكوا قلة الماء وخوف العطش ، وكان الوقت قيظاً ، وسلكوا مفازة ، فسألوا الله أن يجري لهم نهراً .
( قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ( قال وهب : هو الذي اقترحوه . وقال ابن عباس ، وقتادة : هو نهر بين الأردن وفلسطين . وقيل : نهر فلسطين ، قاله السدّي ، وابن عباس ، أيضاً .
وقرأ الجمهور : بنهر ، بفتح الهاء . وقرأ مجاهد ، وحميد الأعرج ، وأبو السماك ، وغيرهم : باسكان الهاء في جميع القرآن .
وظاهر قول طالوت : ان الله يوحي ، إمالة على قول من قال : إنه نبي ، أو يوحي إلى نبيهم ، وإخبار النبي طالوت بذلك قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله طالوت إليه ، فجرت به جنده ، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم ، ومعنى هذا الابتلاء اختبارهم ، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع ، فيما عدا ذلك ، ومن غلبته شهوته في الماء ، وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى . انتهى كلامه . وبعد أن يخبر طالوت عن ما خطر بباله بأنه قول الله ، على طريق الجزم عن الله .
( فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ( أي : ليس من أتباعي في هذه الحرب ، ولا أشياعي ، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان نحو : ( من غشنا فليس منا ) ، ( ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود ) ، أو : ليس بمتصل بي ومتحد معي ، من قولهم : فلان مني كأني بعضه ، لاختلاطهما واتحادهما قال النابغة : إذا حاولت في أسد فجورا
فإني لست منك ولست مني
) وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( أي : من لم يذقه ، وطعم كل شيء ذوقه ، ومنه التطعم ، يقال : تطعمت منه أي : ذقته ، وتقول العرب لمن لا تميل نفسه إلى مأكول ، تطعم منه يسهل أكله ، قال ابن الانباري : العرب تقول : أطعمتك الماء تريد أذقتك ، وطعمت الماء أطعمه بمعنى ذقته قال الشاعر : فإن شئتُ حرمت النساء عليكم
وإن شئتُ لم أطعم نقاخاً ولا برداً
النقاخ : العذب ، والبرد : النوم ، ويقال : ما ذقت غماضاً . وفي حديث أبي ذر . ( في ماء زمزم . طعام طعم ) وفي الحديث : ( ليس لنا طعام إلاَّ الأسودين : التمر والماء ) . والطعم يقع على الطعام والشراب ، واختير هذا اللفظ لأنه أبلغ ، لأن نفي الطعم يستلزم نفي الشرب ، ونفي الشرب لا يستلزم نفي الطعم ، لأن الطعم ينطلق على الذوق ، والمنع من الطعم أشق في التكليف من المنع من الشرب ، إذ يحصل بإلقائه في الفم ، وإن لم يشربه ، نوع راحة .
وفي قوله : ) وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ ( دلالة على ان الماء طعام ، وقد تقدّم أيضاً ما يدل على ذلك .
واختلف في جريان الرِّبا فيه ، فقال الشافعي : لا يجوز بيع الماء بالماء متفاضلاً ، ولا يجوز فيه الأجل وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف : يجوز ذلك . وحكى ابن العربي : أن الصحيح من

" صفحة رقم 274 "
مذهب مالك جريان الرِّبا فيه . وقال محمد بن الحسن : هو مما يكال ويوزن ، فعلى هذا لا يجوز عنده التفاضل .
وكأن قوله : ) فَمَن شَرِبَ مِنْهُ ( يدل ظاهره على مباشرة الشرب من النهر ، حتى لو أخذ بالكوز وشربه ، لا يكون داخلاً في من شرب منه ، إذا لم يباشر الشرب من النهر ، وفي مذهب أبي حنيفة ، رحمه الله تعالى ، أنه إن قال إن شربت من القربة فعبدي حرّ ، يحمل على الكروع ، وإن اغترف منه ، أو شرب بإنا لم يحنث . قالوا : لأنه تعالى حظر الشرب من النهر ، وحظر مع ذلك أن يطعم منه ، واستثنى من الطعم منه الاغتراف ، فحظرُ الشرب ماقٍ ، ودل على أن الاغتراف ليس بشرب ، وأتى بقوله : ) وَمَن لَّمْ ( معدّى لضمير الماء ، لا إلى النهر ، ليزيل ذلك الإبهام ، وليعلم أن المقصود هو المنع من وصولهم إلى الماء من النهر ، بمباشرة الشرب منه ، أو بواسطة .
قال ابن عطية : وفي قوله : ) وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( سدّ الذرائع ، لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم ، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم ، ولهذه المبالغة ، لم يأت الكلام : ومن لم يشرب منه ، انتهى كلامه .
( إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ( هذا استثناء من الجملة الأولى ، وهي قوله : ) فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ( والمعنى : أن من اغترف غرفة بيده دون الكروع فهو مني ، والاستثناء إذا اعتقب جملتين ، أو جملاً ، يمكن عوده إلى كل واحدة منها ، فإنه يتعلق بالأخيرة ، وهذا على خلاف في هذه المسألة مذكور في علم أصول الفقه ، فإن دل دليل على تعلقها ببعض الجمل كان الاستثناء منه ، وهنا دل الدليل على تعلقها بالجملة الأولى ، وإنما قدمت الجملة الثانية على الاستثناء من الأولى لأن الجملة الثانية تدل عليها الأولى بالمفهوم ، لأنه حين ذكر أن الله يبتليهم بنهر ، وأن من شرب منه فليس منه ، فهم من ذلك أن من لم يشرب منه فإنه منه ، فصارت الجملة الثانية كلاًّ فصل بين الأولى والاستثناء منها إذا دلت عليها الأولى ، حتى إنها لو لم يكن مصرحاً بها لفهمت من الجملة الأولى ، وقد وقع في بعض التصانيف ما نصه : إلاَّ من اغترف . استثناءً من الأولى ، وإن شئت جعلته استثناء من الثانية . انتهى . ولا يظهر كونه استثناء من الجملة الثانية لأنه حكم على أن : من لم يطعمه فانه منه ، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه ، والأمر ليس كذلك ، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه ، وهو ظاهر الاستثناء من الأولى ، لأنه حكم فيها أن : من شرب منه فليس منه ، فيلزم في الاستثناء أن : من اغترف غرفة بيده منه فإنه منه ، إذ هو مفسوح له في ذلك ، وهكذا الاستثناء يكون من النفي إثباتاً ، ومن الاثبات نفياً ، على الصحيح من المذاهب في هذه المسألة . وفي الاستثناء محذوف تقديره : إلاَّ من اغترف غرفة بيده فشرِبَها ، أو للشرب .
وقرأ الحرميان ، وأبو عمر ، و : غرفة ، بفتح الغين وقرأ الباقون بضمها ، فقيل : هما بمعنى المصدر ، وقيل : هما بمعنى

" صفحة رقم 275 "
المغروف ، وقيل : الغرفة بالفتح المرة ، وبالضم ما نخمله اليد ، فإذا كان مصدراً فهو على غير الصدر ، إذ لو جاء على الصدر لقال : اغترافة ، ويكون مفعول اغترف محذوفاً ، أي : ماء ، وإذا كان بمعنى المغروف كان مفعولاً به ، قال ابن عطية : وكان أبو عليّ يرجح ضم الغين ، ورجحه الطبري أيضاً : أن غرفة بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف . انتهى .
وهذا الترجيح الذي يذكره المفسرون والنحويون بين القراءتين لا ينبغي ، لأن هذه القراءات كلها صحيحة ومروية ثابتة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية ، فلا يمكن فيها ترجيح قراءة على قراءة .
ويتعلق : بيده ، بقوله : اغتراف . قيل : ويجوز أن يكون نعتاً لغرفة ، فيتعلق بالمحذوف . وظاهر : غرفة بيده ، الاقتصار على غرفة واحدة ، وأنها تكون باليد ، قال ابن عباس ، ومقاتل : كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها ، قال مقاتل : ويملأ منها قربته ، قيل : فيجعل الله فيها البركة حتى تكفي لكل هؤلاء ، وكان هذا معجزة لنبي ذلك الزمان قال بعض المفسرين : لم يرد غرفة الكف ، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك ، وهذا الابتلاء الذي ابتلى الله به جنود طالوت ابتلاء عظيم ، حيث منعوا من الماء مع وجوده وكثرته في شدة الحر والقيظ ، وأن من أبيح له شيء منه فإنما هو مقدار ما يغرف بيده ، فأين يصل منه ذلك ؟ وهذا أشد في التكليف مما ابتلى به أهل أيلة من ترك الصيد يوم السبت ، مع إمكان ذلك فيه ، وكثرة ما يرد إليهم فيه من الحيتان .
( فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ ( أي : كرعوا فيه ، ظاهره أن الأكثر شربوا ، وإن القليل لم يشربوا ، ويحمل الشرب الذي وقع من أكثرهم ، على أنه الشرب الذي لم يؤذن فيه ، ووقع به المخالفة ، ويكون الاستثناء على أن ذلك القليل لم يشربوا ذلك الشرب الذي لم يؤذن فيه ، فبقي تحت القليل قسمان : أحدهما : لم يطعمه البتة والثانية : الذين : اغترفوا بأيديهم ، وهذا التقسيم روي معناه عن ابن عباس ، أن الأكثر شربوا على قدر يقينهم ، فشرب الكفار شرب الهيم ، وشرب العاصون دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفاً ، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئاً ، وأخذ بعضهم الغرفة . فأما من شرب فلم يرو ، بل برح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسنت حاله ، وكان أجدر ممن أخذ الغرفة . وقيل : الذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت وجوههم وشفاههم ، فلم يرووا ، وبقوا على شط النهر ، وجبنوا عن لقاء العدو ، فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح . وقيل : بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلاَّ القليل الذين لم يشربوا . والقليل المستثنى أربعة آلاف ، قاله عكرمة ، والسدّي ، وقيل : ثلاثمائة وثلاثة عشر .
وقرأ عبد الله ، وأبيّ والأعمش : إلا قليلٌ ، بالرفع قال الزمخشري : وهذا من ميلهم مع المعنى ، والإعراض عن اللفظ جانباً ، وهو باب جليل من علم العربية ، فلما كان معنى : فشربوا منه ، في معنى : فلم يطيعوه ، حمل عليه كأنه قيل : فلم يطيعوه إلاَّ قليل منهم . ونحوه قول الفرزذق : وعض زمان يا بن مروان ) لم يدع
من المال إلاَّ مسحتا أو مجلف
كأنه قال : لم يبق من المال إلا مسحت ، أو مجلف انتهى كلامه .
والمعنى أن هذا الموجب الذي هو : فشربوا منه ، هو في معنى المنفي ، كأنه قيل : فلم يطيعوه ، فارتفع : قليل ، على هذا المعنى ، ولو لم يلحظ فيه معنى النفي لم يكن ليرتفع ما بعد : إلاَّ ، فيظهر أن ارتفاعه على أنه بدل من جهة المعنى ، فالموجب فيه كالمنفي ، وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد : إلاَّ ، على التأويل هنا ، دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب ، فلذلك تأوله .
ونقول : إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد : إلاَّ ، وجهان

" صفحة رقم 276 "
أحدهما : النصب على الاستثناء وهو الأفصح : والثاني : أن يكون ما بعد : إلاَّ ، تابعاً لإعراب المستثنى منه ، إن رفعاً فرفع ، أو نصباً فنصب ، أو جراً فجر ، فتقول : قام القوم إلاَّ زيد ، ورأيت القوم إلاَّ زيداً ، ومررت بالقوم إلاَّ زيد : وسواء كان ما قبل : إلاَّ ، مظهراً أو مضمراً . واختلفوا في إعرابه ، فقيل : هو تابع على أنه نعت لما قبله ، فمنهم من حمل هذا على ظاهر العبارة . وقال : ينعت بما بعد : إلاَّ ، الظاهر والمضمر ، ومنهم من قال : لا ينعت به إلاَّ النكرة أو المعرفة بلام الجنس ، فإن كان معرفة بالإضافة نحو : قام اخوتك ، أو بالألف واللام للعهد ، أو بغير ذلك من وجوه التعاريف غير لام الجنس ، فلا يجوز الاتباع ، ويلزم النصب على الاستثناء . ومنهم من قال : إن النحويين يعنون بالنعت هنا عطف البيان ، ومن الاتباع بعد الموجب قوله : وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلاَّ الفرقدان
وهذه المسألة مستوفاة في علم النحو .
وإنما أردنا أن ننبه على أن تأويل الزمخشري هذا الموجب بمعنى النفي لا نضطر إليه ، وأنه كان غير ذاكر لما قرره النحويون في الموجب .
( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ( ظاهره أنه ما جاز النهر إلاَّ هو والمؤمنون ، وكذلك روي عن ابن عباس ، والسدي : أن الذين شربوا وخالفوا انحرفوا ، ولم يجاوزوا ، وقيل : بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلاَّ القليل .
وجاوز : فاعل فيه بمعنى فعل ، أي جاز . والذين آمنوا معه : عدة أهل بدر وقال ابن عباس ، والسدي : جاز معه أربعة آلاف . قال ابن عباس : منهم من شرب ، قالا : فلما نظروا إلى جالوت وجنوده ، قالوا لا طاقة لنا اليوم ، ورجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب إلاَّ غرفة . ومن لم يشرب جملة . ثم اختلفت بصائر هؤلاء ، فبعض كع ، وقليل صم ، و : هو ، توكيد للضمير المستكن في جاوزه ، و : الذين ، يحتمل أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن ، ويحتمل أن تكون الواو للحال ويلزم من الحال أن يكونوا جاوزوا معه ، والأظهر أن يكون للعطف وإدغام جاوزه في هو ضعيف ، ولا يستحسن ، إلاَّ إن كانت الهاء مختلسة لا إمالة لها .
( قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ( قائل ذلك الكفرة الذين انخزلوا ، وهو الفاعل في شربوا ، قاله ابن عباس والسدي . وقيل : من قلت بصيرته من المؤمنين ، وهم الذين جاوزوا النهر وهم القليل ، قاله الحسن ، وقتادة ، والزجاج .
طاقة : من الطوق ، وهو القوة ، وهو من : أطاق ، كأطاع طاعة ، وأجاب جابة ، وأغار غارة . ويتعلق : لنا ، بمحذوف إذ هو في موضع الخبر ، ولا يجوز أن يتعلق : بطاقة ، لأنه كان يكون طاقة مطولاً ، فيلزم تنوين ، واليوم منصوب بما تعلق به لنا وبجالوت : متعلق به . وأجاز بعضهم أن يكون : بجالوت ، في موضع الخبر ، وليس المعنى على ذلك .
( قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ ( يحتمل أن يكون الظن على بابه ، ومعنى : ملاقو الله ، أي يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال ، وتصميمهم على لقاء أعدائهم ، كما جرى لعبد الله بن حزام في أحد ، وغيره قاله الزجاج في آخرين . وقيل : ملاقو ثواب الله بسبب الطاعة . لأن كل أحد لا يعلم عاقبة أمره فلا بد من أن يكون ظاناً ، وقيل : ملاقو طاعة الله ، لأنه لا يقطع أن عمله هذا إطاعة ، لأنه ربما شابه شيء من الرياء والسمعة ، وقيل : ملاقو وعد الله إياهم بالنصر ، لأنه وإن كان مقطوعاً به فهو مظنون في المرة الأولى ، ويحتمل أن يكون الظن بمعنى الإيقان : أي : يوقنون بالبعث والرجوع إلى الله قاله السدي في آخرين .
( كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ). هذا القول تحريض من العازمين على القتال وحض عليه ، واستشعار للصبر واقتداء بمن صدّق الله .

" صفحة رقم 277 "
والمعنى : أنا لا نكترث بجالوت وجنوده وإن كثروا ، فإن الكثرة ليست سبباً للإنتصار ، فكثيراً ما انتصر القليل على الكثير ؛ ولما كان قد سبق ذلك في الأزمان الماضية وعلموا بذلك ، أخبروا بصيغة : كم ، المقتضية للتكثير . وقرأ أبيّ وكأين ، وهو مرادفة : لكم ، في التكثير ، ولم يأت تمييزها في القرآن إلا مصحوباً بمن ، ولو حذفت : من ، لأنجرّ تمييز : كم ، الخبرية بالإضافة ، وقيل بإضمار : من ، ويجوز نصبه حملاً على : كم ، الإستفامية ، وانتصب تمييز : كأين ، فتقول كأين رجلاً جاءك . قال الشاعر : أطرد اليأس بالرجا فكأين
أملاً حمّ يسره بعد عسر
و : كم ؛ في موضع رفع على الابتداء ، و : من فئة ، قيل زائدة ، وليس من مواضع زيادتها ، وقيل : في موضع الصفة لكم ، و : فئة ، هنا مفرد في معنى الجمع ، كأنه قيل : كثير من فئات قليلة غلبت . وقرأ الأعشى فيه بابدال الهمزة ياء ، نحو : ميرة في : مئرة ، وهو ابدال نفيس ، وخبر : كم ، قوله : غلبت ، ومعنى : باذن الله ، بتمكينه وتسويفه الغلبة .
وفي هذه الآية دليل على جواز قتال الجمع القليل للجمع الكثير ، وإن كانوا أضعاف أضعافهم ، إذا علموا أن في ذلك نكاية لهم ، وأما جواز الفار من الجمع الكثير إذا زادوا عن ضعفهم فسيأتي بيانه في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى .
( وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ، تحريض على الصبر في القتال ، فإن الله مع من صبر لنصرة دينه ، ينصره ويعينه ويؤيده ، ويحتمل أن يكون من تمام كلامهم ، ويحتمل أن يكون استئنافاً من الله ، قاله القفال .
البقرة : ( 250 ) ولما برزوا لجالوت . . . . .
( وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ( صاروا بالبراز من الأرض ، وهو ما ظهر واستوى ، والمبارزة في الحرب أن يظهر كل قرن لصاحبه بحيث يراه قرنه ، وكان جنود طالوت ثلاثمائة ألف فارس ، وقيل : مائة ألف ، وقال عكرمة : تسعين ألفاً .
( قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ( الصبر : هنا حبس النفس للقتال ، فزعوا إلى الدعاء لله تعالى فنادوا بلفظ الرب الدال على الإصلاح وعلى الملك ، ففي ذلك إشعار بالعبودية . وقولهم : أفرغ علينا صبراً سؤال بأن يصب عليهم الصبر حتى يكون مستعلياً عليهم ، ويكون لهم كالظرف وهم كالمظروفين فيه .
( وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا ( فلا تزل عن مداحض القتال ، وهو كناية عن تشجيع قلوبهم وتقويتها ، ولما سألوا ما يكون مستعلياً عليهم من الصبر سألوا تثبيت أقدامهم وإرساخها .
( وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( أي : أعنا عليهم ، وجاؤوا بالوصف المقتضي لخذلان أعدائهم ، وهو الكفر ، وكانوا يعبدون الأصنام ، وفي قولهم : ربنا ، إقرار لله تعالى بالوحدانية ، وقرار له بالعبودية .
البقرة : ( 251 ) فهزموهم بإذن الله . . . . .
( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ ( أي : فغلبوهم بتمكين الله .
( وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ( طوَّل المفسورن في قصة كيفية قتل داود لجالوت ، ولم ينص الله على شيء من الكيفية ، وقد اختصر ذلك السجاوندي اختصاراً يدل على المقصود ، فقال : كان أصغر بنيه ، يعني بني إيشا ، والد داود ، الثلاثة عشر . وكان مخلفاً في الغنم ، وأوحى إلى نبيهم أن قَاتِلَ جالوت من استوت عليه من ولد إيشا درعٌ عند طالوت ، فلم تستو إلاَّ على داود ، وقيل : لما برز جالوت نادى طالوت : من قتل جالوت أشاطره ملكي وأزوجه بنتي ، فبرز داود ورماه بحجر في قذافة فنفذ من بين عينيه إلى قفاه وأصاب عسكره ، فقتل جماعة وانهزموا ، ثم ندم طالوت من شرطه بعد الوفاء ، وهم بقتل داود ، ومات تائباً قاله الضحاك . وقال وهب : ندم قبل الوفاء ومات عاصياً ، وقيل : أصاب

" صفحة رقم 278 "
داود موضع أنف جالوت ، وقيل : تفتت الحجر حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه ، كالقبضة التي رمى بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يوم حنين .
وقال الزمخشري : كان أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه ، وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم ، فأوحى إلى شمويل أن داود بن إيشا يقتل جالوت ، فطلبه من أبيه ، فجاء وقد مرّ في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله ، وقالت له : إنك تقتل بنا جالوت ، فحملها في مخلاته ، ورمى بها جالوت فقتله ، وزوجه طالوت بنته ، وروي أنه حسده وأراد قتله ، ثم تاب . إنتهى . وروي : أن داود كان من أرمى الناس بالمقلاع ، وروي : أن الاحجار التأمت في المخلاة فصارت حجراً واحداً .
( وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ( روي أن طالوت تخلى لداود عن الملك ، فصار الملك . وروي : أن بني إسرائيل غلبت طالوت على ذلك بسبب قتل داود جالوت ، وروي أن طالوت أخاف داود فهرب منه ، فكان في جبل إلى أن مات طالوت ، فملكته بنو إسرائيل ، قال الضحاك ، والكلبي : ملك داود بعد قتل جالوت سبع سنين ، فلم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلاَّ على داود .
واختلف أكان داود نبياً عند قتل جالوت أم لا ؟ فقيل : كان نبياً ، لأن خوارق العادات لا تكون إلاَّ من الأنبياء . وقال الحسن : لم يكن نبياً لأنه لا يجوز أن يتولى من ليس بنبي على نبي ، والحكمة وضع الأمور مواضعها على الصواب ، وكمال ذلك إنما يحصل بالنبوّة ، ولم يكن ذلك لغيره قبله ، كان الملك في سبط والنبوّة في سبط ، فلما مات شمويل وطالوت اجتمع لداود الملك والنبّوة .
وقال مقاتل : الحكمة الزبور ، وقيل : العدل في السيرة ؟ وقيل : الحكمة العلم والعمل به .
وقال الضحاك : هي سلسلة كانت متدلية من السماء لا يمسكها ذو عاهة إلاَّ برىء ، يتحاكم إليها ، فمن كان محقاً تمكن منها حتى إن رجلاً كانت عنده درة لرجل ، فجعلها في عكازته ودفعها إليه أن احفظها حتى أمس السلسلة ، فتمكن منها لأنه ردها ، فرفعت لشؤم احتياله .
وإذا كانت الحكمة كان ذكر الملك قبلها . والنبوّة بعده من باب الترقي .
( وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ( قيل : صنعة الدروع ، وقيل : منطق الطير وكلامه للنحل والنمل ، وقيل : الزبور ، وقيل : الصوت الطيب والألحان ، قيل : ولم يعط الله . أحداً من خلقه مثل صوته ، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها ، وتظله الطير مصيخة له ، ويركد الماء الجاري ، وتسكن الريح ، وما صنعت المزامير والصنوج إلاَّ على صوته .
وقيل : ) مِمَّا يَشَاء ( فعل الطاعات والأمر بها ، واجتناب المعاصي . والضمير الفاعل في : يشاء عائد على داود أي : مما يشاء داود .
( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ ( قرأ نافع ، ويعقوب ، وسهل : ولولا دفاع ، وهو مصدر دفع ، نحو : كتب كتاباً أو مصدر دافع بمعنى دفع . قال أبو ذؤيب : ولقد حرصت بأن أدافع عنهم
فإذا المنية أقبلت لا تدفع
وقرأ الباقون : دفع ، مصدر دفع ، كضرب ضرباً . والمدفوع بهم جنود المسلمين ، والمدفوعون المشركون ، ولفسدت الأرض بقتل المؤمنين وتخريب البلاد والمساجد ، قال معناه ابن عباس ، وجماعة من المفسرين . أو الأبدال وهم أربعون ، كلما مات واحد أقام الله واحداً بدل آخر ، وعند القيامة يموتوت كلهم : إثنان وعشرون بالشام ، وثمانية عشر بالعراق .
وروى حديث الأبدال عن علي وأبي الدرداء ، ورفعا ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . أو المذكورون في حديث : ( لولا عباد ركع ، وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا ) أو : من يصلي ومن يزكي ومن يصوم يدفع بهم عمن لا يفعل ذلك ، أو : المؤمن يدفع به عن الكافر كما يبتلى المؤمن بالكافر ، قاله قتادة ، أو : الرجل الصالح يدفع به عن ما به من أهل بيته وجيرانه البلاء ، أو : الشهود الذين يستخرج بهم الحقوق ، قاله الثوري ، أو : السلطان ، أو : الظالم يدفع يد الظالم ، أو : داود دفع به عن طالوت

" صفحة رقم 279 "
ولولا ذلك غلبت العمالقة على بني إسرائيل ، فيكون : الناس ، عاماً والمراد الخصوص .
والذي يظهر : أن المدفوع بهم هم المؤمنون ، ولولا ذلك لفسدت الأرض ، لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها ، ولكنه تعالى لا يخلي زماناً من قائم يقوم بالحق ويدعو إلى الله تعالى ، إلى أن جعل ذلك في أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقال الزمخشري : لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ، ويكف بهم فسادهم ، لغلب المفسدون ، وفسدت الأرض ، وبطلت منافعها ، وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض . إنتهى . وهو كلام حسن ، والذي قبله كلام ابن عطية .
والمصدر الذي هو : دفع ، أو : دفاع ، مضاف إلى الفاعل ، وبعضهم بدل من الناس ، وهو بدل بعض من كل ، والباء في : ببعض ، متعلق بالمصدر والباء فيه للتعدية فهو مفعول ثان للمصدر ، لأن دفع يتعدى إلى واحد ثم عدى إلى ثان بالباء ، وأصل التعدية بالباء ، أن يكون ذلك في الفعل اللازم : نحو : ) لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ( فإذا كان متعدياً فقياسه أن يعدى بالهمزة ، تقول : طعم زيد اللحم ، ثم تقول أطعمت زيداً اللحم ، ولا يجوز أن تقول : طعمت زيداً باللحم ، وإنما جاء ذلك قليلاً بحيث لا ينقاس ، من ذلك : دفع ، وصك ، تقول : صك الحجر الحجر ، وتقول : صككت الحجر بالحجر ، أي جعلته يصكه . وكذلك قالوا : صككت الحجرين أحدهما بالآخر نظير : ) دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ( فالباء للتعدية كالهمزة .
قال سيبوية ، وقد ذكر التعدية بالهمزة والتضعيف مانصه : وعلى ذلك دفعت الناس بعضهم ببعض ، على حد قولك : ألزمت ، كأنك قلت في التمثيل : أدفعت ، كما أنك تقول : أذهبت به ، وأذهبته من عندنا ، وأخرجته ، وخرجت به معك ، ثم قال سيبوية : صككت الحجرين أحدهما بالآخر على أنه مفعول من قولك : اصطك الحجران أحدهما بالأخر ، ومثل ذلك : ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض . إنتهى كلام سيبوية .
ولا يبعد في قولك : دفعت بعض الناس ببعض ، أن تكون الباء للآلة ، فلا يكون المجرور بها مفعولاً به في المعنى ، بل الذي يكون مفعولاً به هو المنصوب ، وعلى قول سيبويه يكون المنصوب مفعولاً به في اللفظ فاعلاً من جهة المعنى وعلى أن تكون الباء للآلة يصح نسبة الفعل إليها على سبيل المجاز ، كما أنك تقول في : كتبت بالقلم ، كتبت القلم .
وأسند الفساد إلى الأرض حقيقة : بالخراب ، وتعطيل المنافع ، أو مجازاً : والمراد أهلها .
( وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ( وجه الاستدراك هنا هو أنه لما قسم الناس إلى مدفوع ، وانه بدفعه بعضهم ببعض امتنع فساد ارض ، فيهجس في نفس من غلب وقهر عن ما يريد من الفساد في الأرض أن الله تعالى ، غير متفضل عليه ، إذ لم يبلغه مقاصده ومآربه ، فاستدرك أنه ، وإن لم يبلغ مقاصده هذا الطالب للفساد أن الله لدو فضل عليه ، ويحسن إليه . واندرج في عموم العالمين ، وقال تعالى : ) إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ( وما من أحد إلاَّ ولله عليه فضل ، ولو لم يكن إلاَّ فضل الإختراع .
وهذا الذي أبديناه من فائدة الاستدراك هو على ما قرره أهل العلم باللسان من أن : لكن ، تكون بين متنافيين بوجه ما ويتعلق على العالمين بفضل ، لأن فعله يتعدى : بعلى ، فكذلك المصدر ، وربما حذفت : على ، مع الفعل ، تقول : فضلت فلاناً أي على فلان ، وجمع بين الحذف والإثبات في قول الشاعر : وجدنا نهشلاً فضلت فقيما
كفضل ابن المخاض على الفصيل
واذا عدى إلى مفعول به بالتضعيف لزمت عليه ، كقوله : ) فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ ).
البقرة : ( 252 ) تلك آيات الله . . . . .
( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( تلك إشارة للبعيد ، وآيات الله قيل : هي القرآن ، والأظهر أنها الآيات التي تقدمت في القصص السابق من خروج أولئك الفارين من الموت ، وإمامة الله لهم دفعة واحدة ، ثم أحياهم إحياءة واحدة ، وتمليك طالوت على بني إسرائيل وليس من أولاد ملوكهم ، والإتيان بالتابوت بعد فقده مشتملاً على بقايا من إرث آل موسى

" صفحة رقم 280 "
وآل هارون ، وكونه تحمله الملائكة معاينة على ما نقل عن ترجمان القرآن ابن عباس ، وذلك الابتلاء العظيم بالنهر في فصل القيظ والسفر ، وإجابة من توكل على الله في النصرة ، وقتل داود جالوت ، وإيتاء الله إياه الملك والحكمة ، فهذه كلها آيات عظيمة خوارق ، تلاها الله على نبيه بالحق أي مصحوبة ، بالحق لا كذب فيها ولا انتحال ، ولا بقول كهنة ، بل مطابقاً لما في كتب بني إسرائيل . ولأمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) من هذا القصص الحظ الأوفر في الاستنصار بالله والإعداد للكفار ، وأن كثرة العدد قد يغلبها المقل ، وأن الوثوق بالله والرجوع إليه هو الذي يعوّل عليه في الملمات ، ولما ذكر تعالى أنه تلا الآيات على نبيه ، أعلم أنه من المرسلين ، وأكد ذلك بأن واللام حيث أخبر بهذه الآية ، من غير قراءة كتاب ، ولا مدارسة أحبار ، ولا سماع أخبار .
وتضمنت الآيات الكريمة أخبار بني إسرائيل حيث استفيدوا تمليك طالوت عليهم أن لذلك آية تدل على تملكيه ، وهو أن التابوت الذي فقد تموه يأتيكم مشتملاً على ما كان فيه من السكينة والبقية المخلفة عن آل موسى وآل هارون ، وأن الملائكة تحمله ، وإن في ذلك آية أىّ آية لمن كان مؤمناً ، لأن هذا خارق عظيم . وفصل طالوت بالجنود وتبريزه بهم من ديارهم للقاء العدو يدل على أنهم ملكوه وانقادوا له ، وأخبرهم عن الله مبتليهم بنهر فاحتمل أن يكون الله نبأه ، واحتمل أن يكون ذلك بإخبار نبيهم له عن الله ، وأن من شرب منه كرعاً فليس منه إلاَّ من اغترف غرفة بيده ، وأن من لم يطعمه فإنه منه ، وأخبر الله أنهم قد خالف أكثرهم فشربوا منه ، ولما عبروا النهر ورأوا ما هو فيه جالوت من العَدد والعُدد أخبروا أنهم لا طاقة لهم بذلك ، فأجابهم من أيقن بلقاء الله : بأن الكثرة لا تدل على الغلبة ، فكثيراً ما غلب القليل الكثير بتمكين الله وإقداره ، وأنه إذا كان الله مع الصابرين فهم المنصورون ، فحضوا على التصابر عند لقاء العدوّ ، وحين برزوا لأعدائهم ، ووقعت العين على العين لجؤوا إلى الله تعالى بالدعاء والاستغاثة ، وسألوا منه الصبر على القتال وتثبيت الأقدام عند المداحض ، والنصر على من كفر به ، وكانت نتيجة هذا القول وصدق القتال أن مكنهم من أعدائهم وهزموهم وقتل ملكهم ، واذا ذهب الرأس ذهب الجسد ، وأعطى الله داود ملك بني إسرائيل والنبوّة وهي : الحكمة ، وعلمه مما أراد أن يعلمه من : الزبور ، وصنعة اللبوس ، وغير ذلك مما علمه . ثم ذكر تعالى أن إصلاح الأرض هو بدفع بعض بعضاً ، فلولا أن دفع الله عن بني إسرائيل بهزيمة قوم جالوت وقتل داود جالوت ، لغلب عليهم أعداؤهم واستؤصلوا قتلاً ونهب وأسراً ، وكذلك من جرى مجراهم ، ولكن فضل الله هو السابق ، حيث لم يمكن منهم أعداءهم ، ومكنهم منهم .
ثم أخبر تعالى أن هذه الآيات التي تضمنت هذه العبر وهذه الخوارق تلاها الله على نبيه بالحق الذي لا شك فيه ، ثم أخبره أنه مرسل من جملة المرسلين الذين تقدّموه في الزمان ، والرسالة فوق النبوّة ، ودل على رسالته إخباره بهذا القصص المتضمن للآيات الباهرة الدالة على صدق من أخبر بها ، من غير أن يعلمه بها معلم إلاَّ الله .
( ) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَاكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاٌّ رْضِ مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاّ

" صفحة رقم 281 "
َ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } )
البقرة : ( 253 ) تلك الرسل فضلنا . . . . .
البيع : معروف ، والفعل منه باع يبيع ، ومن قال : أباع في معنى باع أخطأ .
الخلة : الصداقة كأنها تتخلل الأعضاء أي : تدخل خلالها ، والخلة الصديق ، قال الشاعر : وكان لها في سالف الدهر خلة
يسارق بالطرف الخباء المسترا
السِّنَةُ والوسن : قيل : النعاس ، وهو الذي يتقدّم النوم من الفتور قال الشاعر : وسنان أقصدَه النعاس فرنقت
في عينه سِنَة وليس بنائم
ويبقى مع السنة بعض الذهن ، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن ، وهذا البيت يظهر منه التفرقة بين السنة والنوم . وقال ابن زيد : الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل ، حتى ربما جرد السيف على أهله ، وهذا الذي قاله ، ابن زيد ليس بمفهوم من كلام العرب ؛ قال المفضل : السنة ثقل في الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب .
الكرسي : آلة من الخشب أو غيره معلومة ، يقعد عليها ، والياء فيه كالياء في : قمري ، ليست للنسب ، وجمعه كراسي ، وسيأتي تفسيره بالنسبة إلى الله تعالى . آده الشيء يؤوده : أثقله ، وتحمل منه مشقة قال الشاعر : ألاَ ما لسلمى اليوم بت جديدها
وضنَّت ، وما كان النوال يؤودها
الغي : مقابل الرشد ، يقال غوى الرجل يغوى أي : ضل في معتقد أو رأي ، ويقال : أغوى الفصيل إذا بشم ، وإذا جاع على الضدّ .
الطاغوت : بناء مبالغة من طغى يطغى ، وحكى الطبري يطغو إذا جاوز الحدّ بزيادة عليه ، ووزنه الأصلي : فعلوت ، قلب إذ أصله : طغووت ، فجعلت اللام مكان العين ، والعين مكان اللام ، فصار : طوغوت ، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً ، فصار : طاغوت ، ومذهب أبي علي أنه مصدر : كرهبوت

" صفحة رقم 282 "
وجبروت ، وهو يوصف به الواحد والجمع . ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه أسم جنس يقع للكثير والقليل ، وزعم أبو العباس أنه جمع ، وزعم بعضهم أن التاء في طاغوت بدل من لام الكلمة ، ووزنه : فاعول .
العروة : موضع الإمساك وشدّ الأيدي والتعلق ، والعروة شجرة تبقى على الجذب لأن الإبل تتعلق بها في الخصب مِن : عَرَوْتُهُ : ألممت به متعلقاً ، واعتراه ألم : تعلق به .
الانفصام : الانقطاع ، وقيل الانكسار من غير بينونة ، والقصم بالقاف الكسر ببينونة ، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة .
( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر اصطفاء طالوت على بني اسرائيل ، وتفضل داود عليهم بايتائه الملك والحكمة وتعليمه ، ثم خاطب نبيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بأنه من المرسلين ، وكان ظاهر اللفظ يقتضى التسوية بين المرسلين ، بين بأن المرسلين متفاضلون أيضاً ، كما كان التفاضل بين غير المرسلين : كطالوت وبني اسرائيل .
و : تلك ، مبتدأ وخبره : الرسل ، و : فضلنا ، جملة حالية ، وذو الحال : الرسل ، والعامل فيه إسم الإشارة . ويجوز أن يكون : الرسل ، صفة لاسم الإشارة ، أو عطف بيان ، وأشار بتلك التي للبعيد لبعد ما بينهم من الأزمان وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قيل الإشارة إلى الرسل الذين ذكروا في هذه السورة ، أو للرسل التي ثبت علمها عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والأولى أن تكون إشارة إلى المرسلين في قوله : ) وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ولا يلزم من ذلك علمه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بأعيانهم ، بل أخبر أنه من جملة المرسلين ، وأن المرسلين فضل الله بعضهم على بعض ، وأتى : بتلك ، التي للواحدة المؤنثة ، وإن كان المشار إليه جمعاً ، لأنه جمع تكسير ، وجمع التكسير حكمه حكم الواحدة المؤنثة في الوصف ، وفي عود الضمير ، وفي غير ذلك ، وكان جمع تكسير هنا لاختصار اللفظ ، ولإزالة قلق التكرار ، لأنه لو جاء : أولئك المرسلون فضلنا ، كان اللفظ فيه طول ، وكان فيه التكرار والالتفات في : نتلوها ، وفي : فضلنا ، لأنه خروج إلى متكلم من غائب ، إذ قبله ذكر لفظ : الله ، وهو لفظ غائب .
والتضعيف في : فضلنا ، للتعدية ، و : على بعض ، متعلق بفضلنا ، قيل : والتفضيل بالفضائل بعد الفرائض أو الشرائع على غير ذي الشرائع ، أو بالخصائص كالكلام .
وقال الزمخشري : ) فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( لما أوجب ذلك من تفاضلهم في الحسنات . انتهى . وفيه دسيسه اعتزالية .
ونص تعالى في هذه الآية على تفضيل بعض الأنبياء على بعض في الجملة دون تعيين مفضول . وهكذا جاء في الحديث : ( أنا سيد ولد آدم ) . وقال : ( لا تفضلوني على موسى ) وقال : ( لا ينبغي لأحد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى ) .
( مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ( قرأ الجمهور بالتشديد ورفع الجلالة ، والعائد على : من ، محذوف تقديره من كلمه وقرىء بنصب الجلالة والفاعل مستتر في : كلم ، يعود على : من ، ورفع الجلالة أتم في التفضيل من النصب ، إذ الرفع يدل على الحضور والخطاب منه تعالى للمتكلم ، والنصب يدل على الحضور دون الخطاب منه وقرأ أبو المتوكل ، وأبو نهشل ، وابن السميفع : كالم الله بالألف ونصب الجلالة من المكالمة ، وهي صدور الكلام من اثنين ، ومنه قيل : كليم الله أي ، مكالمه فعيل بمعنى مفاعل : كجليس وخليط . وذكر التفضيل بالكلام وهو من أشرف تفضيل حيث جعله محلاً لخطابه ومناجاته من غير سفير ، وتضافرت نصوص المفسرين هنا على أن المراد بالمكلم هنا هو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، وقد سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن آدم : أنبي مرسل ؟ فقال : ( نعم نبي مكلم ) . وقد صح في حديث الإسراء حيث ارتقي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى مقام تأخر عنه فيه جبريل ، أنه جرت بينه ( صلى الله عليه وسلم ) ) وبين ربه تعالى مخاطبات ومحاورات ، فلا يبعد أن يدخل تحت قوله : ) مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ( : موسى وآدم ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنه قد ثبت تكليم الله لهم .
وفي قوله : ) كَلَامَ اللَّهِ ( إلفتات ، إذ هو خروج إلى ظاهر غائب من ضمير متكلم ، لما في ذكر هذا الاسم العظيم من التفخيم والتعظيم ، ولزوال قلق تكرار ضمير المتكلم ، إذ كأن يكون : فضلنا ، وكلمنا ، ورفعنا ، وآتينا .
( وَرَفَعَ بَعْضَهُم

" صفحة رقم 283 "
ْ دَرَجَاتٍ ( هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو إبراهيم ، أو إدريس صلى الله عليهم ، ثلاثة أقوال ، قالوا : والأول أظهر ، وهو قول مجاهد . قال ابن عطية : ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره ممن عظمت آياته ، ويكون الكلام تأكيداً للأول . انتهى . ويعنى أنه توكيد لقوله ) فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ). وقال الزمخشري : ) وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ( أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء ، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة ، والظاهر أنه أراد محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنه هو المفضل عليهم ، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية وأكثر ، ولو لم يؤت إلاَّ القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات .
وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله ، وإعلاء قدره ما لا يخفى ، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه ، والمتميز الذي لا يلتبس ، ويقال للرجل : من فعل هذا ؟ فيقول : أحدكم ، أو بعضكم يريد به الذي تُعورِفَ واشْتُهِرَ بنحوه من الأفعال ، فيكون ، أفخم من التصريح به ، وأنوه بصاحبه .
وسئل الحطيئة عن أشعر الناس ، فذكر ، زهيراً والنابغة ، ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث . أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يفخم أمره .
ويجوز أن يريد : إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولى العزم من الرسل . انتهى كلام الزمخشري . وهو كلام حسن .
وقال غيره : وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنه بعث إلى الناس كافة ، وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد ، وهو أعظم الناس أمة ، وختم به باب النبوات إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه ، ومن معجزاته ، وباهر آياته . وقال بعض أهل العلم : إنه أوتى ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثلاثة آلاف معجزة وخصيصة ، وما أوتي نبي معجزة إلاَّ أوتي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) مثلها وزاد عليهم بآيات .
وانتصاب : درجاتٍ ، قيل على المصدر ، لأن الدرجة بمعنى الرفعة ، أو على المصدر الذي في موضع الحال ، أو على الحال على حذف مضاف ، أي : ذوي درجات ، أو على المفعول الثاني لرفع على طريق التضمين لمعن : بلغ ، أو على إسقاط حرف الجر ، فوصل الفعل وحرف الجر ، إما : على ، أو : في ، أو : إلى . ويحتمل أن يكون بدل اشتمال ، أي : ورفع درجات بعضهم ، والمعنى على درجات بعض .
( وَلَقَدْ ءاتَيْنَا ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( تقدّم الكلام على تفسير هذه الجملة بعد قوله : ) وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ( فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وخص من كلمه الله وعيسى من بين الأنبياء لما أوتيا من الآيات العظيمة ، والمعجزات الباهرة ، ولأن آيتيهما موجودتان ، فتخصيصهما بالذكر طعن على تابعيهما حيث لم ينقادوا لهذين الرسولين العظيمين ، ووقع منهم المنازعة والخلاف .
ونص هنا لعيسى على الآيات البينات تقبيحاً لأفعال اليهود حيث أنكروا نبوّته مع ما ظهر على يديه من الآيات الواضحة ، ولما كان نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو الذي أوتي ما لم يؤته أحد من كثرة المعجزات وعظمها ، وكان المشهود له بإحراز قصبات السبق ، حف ذكره بذكر هذين الرسولين العظيمين ، ليحصل لكل منهما بمجاورة ذكره الشرف ، إذ هو بينهما واسطة عقد النبوّة ، فينزل منهما منزلة واسطة العقد التي يزدان بها ما جاورها من اللآليء ، وتنوع هذا التقسيم ولم يرد على أسلوب واحد ، فجاءت الجملة الأولى من مبتدأ وخبر مصدرة بمن الدالة على التقسيم ، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير اسم الله ، لا لفظه ، لقربه ، إذ لو أسند إلى الظاهر لكان منهم من كلم الله ، ورفع الله ، فكان يقرب التكرار ، فكان الإضمار أحسن .
وفي الجملتين : المفضل منهم لا معين بالأسم ، لكن يعين الأول صلة الموصول ، لأنها معلومة عند السامع ، ويعين الثاني ما أخبر به عنه ، وهو أنه مرفوع على غيره من الرسل بدرجات ، وهذه الرتبة ليست إلاَّ لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير المتكلم على سبيل الإلتفات ، إذ قبله غائب ، وكل هذا يدل على التوسع في افانين البلاغة وأساليب الفصاحة .
( وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مّن

" صفحة رقم 284 "
بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ( قيل : في الكلام حذف ، التقدير : فاختلف أممهم واقتتلوا . ولو شاء الله ، ومفعول شاء محذوف تقديره : أن لا تقتتلوا ، وقيل : أن لا يأمر بالقتال ، قاله الزجاج وقال مجاهد : أن لا تختلفوا الإختلاف الذي هو سبب القتال ، وقيل : ولو شاء الله أن يضطرهم إلى الإيمان فلم يقتتلوا ، وقال أبو عليّ بأن يسلبهم القوى والعقول التي يكون بها التكليف ، ولكن كلفهم فاختلفوا بالكفر والإيمان . وقال عليّ بن عيسى : هذه مشيئة القدرة ، مثل : ) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ( ولم يشأ ذلك ، وشاء تكليفهم فاختلفوا وقال الزمخشري : ولو شاء الله مشيئة إلجاء وقسر ، وجواب : لو ما اقتتل ، وهو فعل منفي بما ، فالفصيح أن لا يدخل عليه اللام كما في الآية ، ويجوز في القليل أن تدخل عليه اللام ، فتقول : لو قام زيد لما قام عمرو ، و : من بعدهم صلة للذين ، فيتعلق بمحذوف أي : الذين كانوا من بعدهم ، والضمير عائد على الرسل ، وقيل : عائد على موسى وعيسى وأتباعهما .
وظاهر الكلام أنهم القوم الذين كانوا من بعد جميع الرسل ، وليس كذلك ، بل المراد : ما اقتتل الناس بعد كل نبي ، فلف الكلام لفاً لم يفهمه السامع وهذا كما تقول : اشتريت خيلاً ثم بعتها ، وإن كنت قد اشتريتها فرساً فرساً وبعته ، وكذلك هذا ، إنما اختلف بعد كل نبي ، و : من بعد ، قيل : بدل من بعدهم ، والظاهر أنه متعلق بقوله ما اقتتل ، إذ كان في البينات ، وهي الدلائل الواضحة ، ما يفضى إلى الاتفاق وعدم التقاتل ، وغنية عن الاختلاف الموجب للتقاتل .
( وَلَاكِنِ اخْتَلَفُواْ ( هذا الاستدراك واضح لأن ما قبلها ضدّ لما بعدها ، لأن المعنى : لو شاء الاتفاق لا تفقوا ، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا .
( فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ( من آمن بالتزامه دين الرسل واتباعهم ، ومن كفر باعراضه عن اتباع الرسل حسداً وبغياً واستئثاراً بحطام الدنيا .
( وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ ( قيل : الجملة تكررت توكيداً للأولى ، قاله الزمخشري . وقيل : لا توكيد لاختلاف المشيئتين ، فالأولى : ولو شاء الله أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول ، والثانية : ولو شاء الله أن يأمر المؤمنين بالقتال ، ولكن أمر وشاء أن يقتتلوا ، وتعلق بهذه الآية مثبتو القدر ونافوه ، ولم يزل ذلك مختلفاً فيه حتى كان الأعشى في الجاهلية نافياً حيث قال : استأثر الله بالوفاء وبالعد
ل وولى الملامة الرجلا
وكان لبيد مثبتاً حيث قال : من هداه سبل الخير اهتدى
ناعم البال ومن شاء أضل
) وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( هذا يدل على أن ما أراد الله فعله فهو كائن لا محالة ، وإن ارادة غيره غير مؤثرة ، وهو تعالى المستأثر بسر الحكمة فيما قدّر وقضى من خير وشر ، وهو فعله تعالى . وقال الزمخشري : ولكنّ الله يفعل ما يريد من الخذلان والعصمة ، وهذا على طريقة الاعتزالية .
قيل : وتضمنت هذه الآية الكريمة من أنواع البلاغة : التقسيم ، في قوله : ) مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ( بلا واسطة ، ومنهم من كلمه بواسطة ، وهذا التقسيم اقتضاه المعنى ، وفي قوله ) فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ( وهذا التقسيم ملفوظ به . و : الاختصاص ، مشاراً إليه ومنصوباً عليه ، و : التكرار ، في لفظ البينات ، وفي ) وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ ( على أحد التأويلين . و : الحذف ، في قوله ) مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ( أي كفاحاً وفي قوله ) يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( يعني من هداية من شاء وضلالة من شاء .
البقرة : ( 254 ) يا أيها الذين . . . . .
( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم ( مناسبة هذه الآية لما قبلها

" صفحة رقم 285 "
هو أنه لما ذكر أن الله تعالى أراد الاختلاف إلى مؤمن وكافر ، وأراد الاقتتال ، وأمر به المؤمنين ، وكان الجهاد يحتاج صاحبه إلى الإعانة عليه ، أمر تعالى بالنفقة من بعض ما رزق ، فشمل النفقة في الجهاد ، وهي ، وإن لم ينص عليها ، مندرجة في قوله : أنفقوا ، وداخلة فيها دخولاً أولياً ، إذ جاء الأمر بها عقب ذكر المؤمن والكافر واقتتالهم ، قال ابن جريج ، والأكثرون : الآية عامّة في كل صدقة واجبة أو تطوع وقال الحسن : هي في الزكاة ، والزكاة منها جزء للمجاهدين ، وقاله الزمخشري ، قال : أراد الإنفاق الواجب لاتصال الوعيد به ) مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ ( لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق ، لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه ، ولا خلة حتى تسامحكم أخلاؤكم به ، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات ، لأن الشفاعة ثَمّ في زيادة الفضل لا غير ، ( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( أراد : والتاركون الزكاة هم الظالمون ، فقال : والكافرون ، للتغليظ ، كما قال في آخر آية الحج . ومن كفر مكان : ومن لم يحج ، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار ، في قوله ) وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ ( انتهى كلامه .
ورُدَّ قوله بأنه ليس في الآية وعيد ، فكأنه قيل : حصلوا منافع الآخرة حين تكون في الدنيا ، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة ، وقول الزمخشري : لأن الشفاعة ثَمَّ في زيادة الفضل لا غير ، هو قول المعتزلة ، لأن عندهم أن الشفاعة لا تكون للعصاة ، فلا يدخلون النار ، ولا للعصاة الذين دخلوا النار ، فلا يخرجون منها بالشفاعة .
وقيل : المراد منه الإنفاق في الجهاد ، ويدل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد ، فكأن المراد منه الأنفاق في الجهاد ، وهو قول الأصم .
قال ابن عطية : وظاهر هذه الآية أنها مراد بها جميع وجوه البر من سبيل خير ، وصلة رحم ، ولكن ما تقدّم من الآيات في ذكر القتال ، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين ، يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله ، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية ) وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( أي : فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال . انتهى كلامه .
وندب تعالى العبد إلى أن ينفق مما رزقه ، والرزق ، وإن تناول غير الحلال ، فالمراد منه هنا الحلال ، و : مما رزقناكم ، متعلق بقوله : أنفقوا ، و : ما ، موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : رزقناكموه ، وقيل : ما مصدرية أي : من رزقنا إياكم ، و : من قبل ، متعلق : بأنفقوا ، أيضاً ، واختلف في مدلول : مِنْ : فالأولى : للتبعيض ، والثانية : لابتداء الغاية ، وزعم بعضهم أنها تتعلق : برزقناكم .
( مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ ( حذر تعالى من الإمساك قبل أن يأتي هذا اليوم ، وهو يوم القيامة .
( لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ( أي : لا فدية فيه لأنفسكم من عذاب الله ، وذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة وأخذ البدل ، وقيل : لافداء عما منعتم من الزكاة تبتاعونه تقدمونه عن الزكاة يومئذ . وقيل : لا بيع فيه للأعمال فتكتسب .
( وَلاَ خُلَّةٌ ( أي : لا صداقة تقتضي المساهمة ، كما كان ذلك في الدنيا ، والمتقون بينهم في ذلك اليوم خلة ، لكن لا نحتاج إليها ، وخلة غيرهم لا تغني من الله شيئاً .
( وَلاَ شَفَاعَةٌ ( اللفظ عام والمراد الخصوص ، أي : ولا شفاعة للكفار ، وقال تعالى : ) لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ( أو : ولا شفاعة إلاَّ باذن الله ، قال تعالى : ) وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ( وقال : ) وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( فعلى الخصوص بالكفار لا شفاعة لهم ولا منهم ، وعلى تأويل الإذن : لا شفاعة للمؤمنين إلاَّ بإذنه . وقيل : المراد العموم ، والمعنى أن انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع عنده لا يكون يوم القيام ألبتة ، وأما الشفاعة التي توجد بالإذن من الله تعالى فحقيقتها رحمة الله ، لكن شرف تعالى الذي أذن له في أن يشفع .
وقد تعلق بقوله : ولا

" صفحة رقم 286 "
شفاعة منكرو الشفاعة ، واعتقدوا أن هذا نفي لأصل الشفاعة ، وقد أثبتت الشفاعة في الآخرة مشروطة بإذن الله ورضاه ، وصح حديث الشفاعة الذين تلقته الأمّة بالقبول ، فلا التفات لمن أنكر ذلك .
وقرأ ابن كثير ، ويعقوب ، وأبو عمرو : بفتح الثلاثة من غير تنوين ، وكذلك : ) لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ ( في إبراهيم و : ) لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ( في الطور وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين ، وقد تقدّم الكلام على إعراب الاسم بعد : لا ، مبنياً على الفتح ، ومرفوعاً منوناً ، فأغنى ذلك بمن إعادته .
والجملة من قوله : لا بيع ، في موضع الصفة ، ويحتاج إلى إضمار التقدير : ولا شفاعة فيه ، فحذف لدلالة : فيه ، الأولى عليه .
والكافرون هم الظالمون ( يعني الجائزين الحدّ ، و : هم ، يحتمل أن يكون بدلاً من : الكافرون ، وأن يكون مبتدأ ، وأن يكون فصلاً . قال عطاء بن دينار : الحمد لله الذي قال : والكافرون ، ولم يقل : والظالمون هم الكافرون ، ولو نزل هكذا لكان قد حكم على كل ظالم ، وهو من يضع الشيء في غير موضعه ، بالكفر ، فلم يكن ليخلص من الكفر كل عاص إلاَّ من عصمه الله من العصيان .
( ( يعني الجائزين الحدّ ، و : هم ، يحتمل أن يكون بدلاً من : الكافرون ، وأن يكون مبتدأ ، وأن يكون فصلاً . قال عطاء بن دينار : الحمد لله الذي قال : والكافرون ، ولم يقل : والظالمون هم الكافرون ، ولو نزل هكذا لكان قد حكم على كل ظالم ، وهو من يضع الشيء في غير موضعه ، بالكفر ، فلم يكن ليخلص من الكفر كل عاص إلاَّ من عصمه الله من العصيان .
البقرة : ( 255 ) الله لا إله . . . . .
( اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ( هذه الآية تسمى آية الكرسي لذكره فيها ، وثبت في ( صحيح مسلم ) من حديث أبيّ أنها أعظم آية ، وفي ( صحيح البخاري ) من حديث أبي هريرة : أن قارئها إذا آوى إلى فراشه لن يزال عليه من الله حافظ ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح ، وورد أنها تعدل ثلث القرآن ، وورد أنا ما قرئت في دار إلاَّ اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين يوماً ، وورد أن من قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره ، والأبيات حوله ، وورد : أن سيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي ، وفضلت هذا التفضيل لما اشتملت عليه من توحيد الله وتعظيمه ، وذكر صفاته العلا ، ولا مذكور أعظم من الله ، فذكره أفضل من كل ذكر .
قال الزمخشري : وبهذا يعلم : أن أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند الله علم العدل والتوحيد ، ولا ينفرنك عنه كثرة أعدائه ف :
إن العرانين تلقاها محسدة
انتهى كلامه . وأهل العدل والتوحيد الذين أشار إليهم هم المعتزلة ، سموا أنفسهم بذلك قال بعض شعرائهم من أبيات : إن أنصر التوحيد والعدل في
كل مقام باذلاً جهدي
وهذا الزمخشري لغلوه في محبة مذهبه يكاد أن يدخله في كل ما يتكلم به ، وإن لم يكن مكانه .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه فضل بعض الأنبياء على بعض ، وأن منهم من كلمه ، وفسر بموسى عليه السلام ، وأنه رفع بعضهم درجات ، وفسر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ونص على عيسى عليه السلام ، وتفضيل المتبوع يفهم منه تفضيل التابع ، وكانت اليهود والنصارى قد أحدثوا بعد نبيهم بدعاً في أديانهم وعقائدهم ، ونسبوا الله تعالى إلى ما لا يجوز عليه ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعث إلى الناس كافة ، فكان منهم العرب ، وكانوا قد اتخذوا من دون الله آلهة وأشركوا ، فصار جميع الناس المبعوث إليهم ( صلى الله عليه وسلم ) ) على غير استقامة في شرائعهم وعقائدهم ، وذكر تعالى أن الكافرين هم الظالمون ، وهم الواضعون الشيء غير مواضعه ، أتى بهذه الآية العظيمة الدالة على إفراد الله بالوحدانية ، والمتضمنة صفاته العلا من : الحياة ، والاستبداد بالملك ، واستحالة كونه محلاً للحوادث ، وملكه لما في السموات والأرض ، وامتناع الشفاعة عنده إلاَّ باذنه ، وسعة علمه ، وعدم إحاطة أحد بشيء من علمه إلاَّ بارادته ، وباهر ما خلق من الكرسي العظيم الاتساع ، ووصفه بالمبالغة العلو والعظيمة ، إلى سائر ما تضمنته من أسمائه الحسنى وصفاته العلا ، نبههم بها على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد ، وعلى طرح ما سواها .
وتقدّم الكلام على لفظة : الله ، وعلى قوله : لا إله إلا هو ، فأغنى عن

" صفحة رقم 287 "
إعادته .
الحي : وصف وفعله حي ، قيل : وأصله : حيو ، فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها ، وأدغمت في الياء ، وقيل : أصله فيعل ، فخفف كميت في ميت ، ولين في لين ، وهو وصف لمن قامت به الحياة ، وهو بالنسبة إلى الله تعالى من صفات الذات حي بحياة لم تزل ولا تزول ، وفسر هنا بالباقي ، قالوا : كما في قول لبيد : فاما تريني اليوم أصبحت سالما
فلست بأحيا من كلاب وجعفر
أي : فلست بأبقى ، وحكى الطبري عن قوم أنه ، يقال : حي كما وصف نفسه ، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه ، وحكي أيضاً عن قوم : أنه حي لا بحياة ، وهو قول المعتزلة ، ولذلك قال الزمخشري . الحي الباقي الذي لا سبيل للفناء عليه ، وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر . انتهى كلامه ، وعنى بالمتكلمين متكلمي مذهبه ، والكلام على وصف الله بالحياة مذكور في كتب أصول الدين .
وقرأ الجمهور : القيوم ، على وزن فيعول ، أصله قيووم اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء وقرأ ابن مسعود ، وابن عمر ، وعلقمة ، والنخعي والأعمش : القيام وقرأ علقمة أيضاً : القيم ، كما تقول : ديور وديّار وقال أمية : لم تخلقِ السماءُ والنجوم
والشمس معها قمر يعوم
قدرها المهيمن القيُّوم
والحشر والجنة والنعيم
إلاَّ لأمر شأنه عظيم
ومعناه : أنه قائم على كل شيء بما يجب له ، بهذا فسره مجاهد ، والربيع ، والضحاك . وقال ابن جبير : الدائم الوجود وقال ابن عباس : الذي لا يزول ولا يحول ، وقال قتادة : القائم بتدبير خلقه . وقال الحسن : القائم على كل نفس بما كسبت . وقيل : العالم بالأمور ، من قولهم : فلان يقوم بهذا الكتاب أي : يعلم ما فيه . وقيل : هو مأخوذ من الاستقامة وقال أبو روق : الذي لا يبلى وقال الزمخشري : الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه . وهذه الأقوال تقارب بعضها بعضاً .
وقالوا : فيعول ، من صيغ المبالغة ، وجوّزوا رفع الحي على أنه صفة للمبتدأ الذي هو : الله ، أو على أنه خبر بعد خبر ، أو على أنه بدل من : هو ، أو من : الله تعالى ، أو : على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو ، أو : على أنه مبتدأ والخبر : لا تأخذه ، وأجودها الوصف ، ويدل عليه قراءة من قرأ : الحيَّ القيومَ بالنصب ، فقطع على إضمار : أمدح ، فلو لم يكن وصفاً ما جاز فيه القطع ، ولا يقال : في هذا الوجه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر ، لأن ذلك جائز حسن ، تقول : زيد قائم العاقل .
( لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ( يقال : وسن سنة ووسناً ، والمعنى : أنه تعالى لا يغفل عن دقيق ولا جليل ، عبر بذلك عن الغفلة لأنه سببها ، فأطلق اسم السبب على المسبب قال ابن جرير : معناه لا تحله الآفات والعاهات المذهلة عن حفظ المخلوقات ، وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع ،

" صفحة رقم 288 "
وهذا هو مفهوم الخطاب ، كما قال تعالى : ) وَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ( وقيل : نزه نفسه عن السنة والنوم لما فيها من الراحة ، وهو تعالى لا يجوز عليه التعب والاستراحة . وقيل : المعنى لا يقهره شيء ولا يغلبه ، وفي المثل : النوم سلطان قال الزمخشري : وهو تأكيد للقيوم ، لأن من جاز علمه ذلك استحال أن يكون قيوماً . ومنه حديث موسى أنه سأل الملائكة ، وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية : أينام ربُّنا ؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا تتركوه ينام . ثم قال : خذ بيدك قارورتين مملوؤتين ، فأخذهما ، وألقى الله عليه ، النعاس ، فضرب إحداهما عن الأخرى فانكسرتا ، ثم أوحى إليه : قل لهؤلاء إني أمسك السموات والأرض بقدرتي ، فلو أخذني نوم أو نعاس لزلتا . انتهى . هكذا أورد الزمخشري هذا الخبر ، وفيه أنه سأل الملائكة ، وكان ذلك يعني السؤال من قومه ، كطلب الرؤية ، يعني أن طلب الرؤية هو عنده من باب المستحيل ، كما استحال النوم في حقه تعالى ، وهذا من عادته في نصرة مذهبه ، يذكره حيث لا تكون الآية تتعرض لتلك المسألة .
وأورد غيره هذا الخبر عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر ، قال وقع في نفس موسى : هل ينام الله ؟ وساق الخبر قريباً من معنى ما ذكره الزمخشري .
قال بعض معاصرينا : هذا حديث وضعه الحشوية ، ومستحيل أن سأل موسى ذلك عن نفسه أو عن قومه ، لأن المؤمن لا يشك في أن الله ينام أو لا ينام ، فكيف الرسل ؟ انتهى كلامه .
وفائدة تكرار : لا ، في قوله : ولا نوم ، انتفاؤهما على كل حال ، إذ لو أسقطت ، لا : لااحتمل انتفاؤهما بقيد الاجتماع ، تقول : ما قام زيد وعمرو ، بل أحدهما ، ولا يقال : ما قام زيد ولا عمرو ، بل أحدهما .
وتقدّم قول من جعل هذه الجملة خبراً لقوله : الحي ، على أن يكون : الحي ، مبتدأ ، ويجوز أن يكون خبراً عن الله ، فيكون قد أخبره بعده إخباراً ، على مذهب من يجيز ذلك ، وجوّز أبو البقاء أن تكون الجملة في موضع الحال من الضمير المستكن في القيوم ، أي : قيوم بأمر الخلق غير غافل .
( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( يصح أن يكون خبراً بعد خبر ، ويصح أن يكون استئناف خبر ، كما يصح ذلك في الجملة التي قبلها . و : ما ، للعموم تشمل كل موجود ، و : اللام ، للملك أخبر تعالى أن مظروف السموات والأرض ملك له تعالى ، وكرر : ما ، للتوكيد . وكان ذكر المظروف هنا دون ذكر الظرف ، لأن المقصود نفي الإلهية عن غير الله تعالى ، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره ، لأن ما عبد من دون الله من الأجرام النيرة التي في السموات : كالشمس ، والقمر ، والشعرى ؛ والأشخاص الأرضية : كالأصنام ، وبعض بني آدم ، كل منهم ملك لله تعالى ، مربوب مخلوق .
وتقدّم أنه تعالى خالق السموات والأرض ، فلم يذكرهما كونه مالكاً لهما استغناء بما تقدّم .
( مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( كان المشركون يزعمون أن الأصنام تشفع لهم عند الله ، وكانوا يقولون : إنما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى . وفي هذه الآية أعظم دليل على ملكوت الله ، وعظم كبريائه ، بحيث لا يمكن أن يقدم أحد على الشفاعة عنده إلاَّ باذن منه تعالى ، كما قال تعالى : ) لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ( ودلت الآية على وجود الشفاعة بإذنه تعالى ، والإذن هنا معناه الأمر ، كما ورد : إشفع تشفع ، أو العلم أو التمكين إن شفع أحد بلا أمر .
و : من ، رفع على الابتداء ، وهو استفهام في معنى النفي ، ولذلك دخلت : إلاَّ ، في قوله : إلا بإذنه ، وخبر المبتدأ قالوا : ذا ، ويكون الذي نعتاً لذا ، أو بدلاً منه ، وعلى هذا الذي قالوا يكون : ذا ، اسم إشارة ، وفي ذلك بعد ، لأن : ذا ، إذا كان اسم إشارة وكان خبراً عن : من ، استقلت بهما الجملة ، وأنت ترى احتياجها إلى الموصول بعدها .
والذي يظهر أن : من ، الإستفهامية ركب معها : ذا ، وهو الذي يعبر عنها بعض النحويين أن : ذا ، لغو ، فيكون : من ذا ، كله في موضع رفع بالابتداء ، والموصول بعدهما هو الخبر ، إذ به يتم معنى الجملة الابتدائية ، و : عنده ، معمول : ليشفع ، وقيل : يجوز أن يكون حالاً من الضمير في يشفع ، فيكون التقدير : يشفع مستقراً عنده ، وضعف بأن المعنى

" صفحة رقم 289 "
على يشفع إليه . وقيل : الحال أقوى لأنه إذا لم يشفع من هو عنده وقريب منه ، فشفاعة غيره أبعد ، و : بإذنه ، متعلق : بيشفع ، والباء للمصاحبة ، وهي التي يعبر عنها بالحال ، أي : لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له .
( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ( الضمير يعود على : ما وهم الخلق ، وغلب من يعقل ، وقيل : الضميران في : أيديهم وخلفهم ، عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله : ) لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( قاله ابن عطية ، وججّوز ابن عطية أن يعود على ما دل عليه : من ذا ، من الملائكة والأنبياء . وقيل : على الملائكة ، قاله مقاتل ، و : ما بين أيديهم ، أمر الآخرة ، و : ما خلفهم ، أمر الدنيا . قاله ابن عباس ، وقتادة ، أو العكس قاله مجاهد ، وابن جريح ، والحكم بن عتبة ، والسدّي وأشياخه .
و : ما بين أيديهم ، هو ما قبل خلقهم ، و : ما خلفهم ، هو ما بعد خلقهم ، أو : ما بين أيديهم ، ما أظهروه ، و : ما خلفهم ، ما كتموه . قاله الماوردي ، أو : ما بين أيديهم ، من السماء إلى الأرض ، و : ما خلفهم ، ما في السموات . أو : ما بين أيديهم ، الحاضر من أفعالهم وأحوالهم ، و : ما خلفهم ، ما سيكون . أو : عكسه ، ذكر هذين القولين تاج القرّاء في تفسيره .
أو : ما بين أيدي الملائكة من أمر الشفاعة ، وما خلفهم من أمر الدنيا أو بالعكس قاله مجاهد . أو ما فعلوه وما هم فاعلوه ، قاله مقاتل .
والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات وكنى بهاتين الجهتين عن سائر جهات من أحاط علمه به ، كما تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ، وأنت تعني بذلك جميع جسده ، واستعيرت الجهات لأحوال المعلومات ، فالمعنى أنه تعالى عالم بسائر أحوال المخلوقات ، لا يعزب عنه شيء ، فلا يراد بما بين الأيدي ولا بما خلفهم شيء معين . كما ذهبوا إليه .
( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ ( الإحاطة تقتضي الحفوف بالشيء من جميع جهاته ، والاشتمال عليه ، والعلم هنا المعلوم لأن علم الله الذي هو صفة ذاته لا يتبعض ، كما جاء في حديث موسى والخضر : ما نقص علمي وعلمك من علمه إلاَّ كما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، والاستثناء يدل على أن المراد بالعلم المعلومات ، وقالوا : اللهم اغفر علمك فينا ، أي معلومك ، والمعنى : لا يعلمون من الغيب الذي هو معلوم الله شيئاً إلاَّ ما شاء أن يُعلمهم ، قاله الكلبي . وقال الزجاج : إبلا بما أنبأ به الأنبياء تثبيتاً لنبوتّهم .
و : بشيء وبما شاء ، متعلقان : بيحيطون ، وصار تعلق حرفي جر من جنس واحد بعامل واحد لأن ذلك على طريق البدل ، نحو قولك : لا أمر بأحد إلاَّ بزيد ، والأولى أن تقدر مفعول شاء أن يحيطوا به ، لدلالة قوله : ولا يحيطون على ذلك .
( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( قرأ الجمهور وسع بكسر السين ، وقرىء شاذا بسكونها ، وقرىء أيضاً شاذا وسع بسكونها وضم العين ، والسموات والأرض بالرفع مبتدأ ، وخبراً ، والكرسي : جسم عظيم يسع السموات والأرض ، فقيل : هو نفس العرش ، قاله الحسن . وقال غيره : دون العرش وفوق السماء السابعة ، وقيل : تحت الأرض كالعرش فوق السماء ، عن السدّي وقيل : الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم ، أو : ملك آخر عظيم القدر . وقيل : السلطان والقدرة ، والعرب تسمى أصل كل شيء الكرسي ، وسمي الملك بالكرسي لأن الملك في حال حكمه وأمره ونهيه يجلس عليه فسمي باسم مكانه على سبيل المجاز . قال الشاعر : قد علم القدّوس مولى القدس
أن أبا العباس أولى نفس

" صفحة رقم 290 "
في معدن الملك القديم الكرسي
وقيل : الكرسي العلم . لأن موضع العالم هو الكرسي ، سميت صفة الشيء باسم مكانه على سبيل المحاز ، ومنه يقال للعلماء : كراسي ، لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال : أوتاد الأرض ، ومنه الكراسة ، وقال الشاعر : تحف بهم بيض الوجوه وعصبة
كراسي بالأحداث حين تنوب
أي : ترجع ، وقيل : الكرسي السر قال الشاعر : مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه
ولا بكرسيّ علم الله مخلوق
وقيل : الكرسي : ملك من الملائكة يملأ السموات والأرض ، وقيل : قدرة الله ، وقيل : تدبير الله ، حكاهما الماوردي ، وقال : هو الأصل المعتمد عليه . قال المغربي : من تكرس الشيء تراكب بعضه على بعض ، وأكرسته أنا ، قال العجاج : يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا
قال نعم أعرفه وأكرسا
وقال آخر : نحن الكراسي لا تعدهوازن
أمثالنا في النائبات ولا الأشد
وقال الزمخشري : وفي قوله : ) وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ( أربعة أوجه : أحدها : أن كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته ، وما هو إلاَّ تصوير لعظمته وتخييل فقط ، ولا كرسي ثم ، ولا قعود ، ولا قاعد ، لقوله : ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( من غير تصور قبضه وطىّ ويمين ، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه ، وتمثيل حسيّ . ألا ترى إلى قوله : ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( ؟ انتهى ما ذكره في هذا الوجه .
واختار القفال معناه قال : المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله تعالى وكبريائه وتعزيزه ، خاطب الخلق في تعريف ذاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم .
وقيل : كرسي لؤلؤ ، طول القائمة سبعمائة سنة ، وطول الكرسي حيث لا يعلمه العالمون . ذكره ابن عساكر في تاريخه ، عن عليّ بن أبي طالب ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قاله .
قال ابن عطية : والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش ، والعرش أعظم منه ، وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما السموات السبع في الكرسي إلاَّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس ) . وقال أبو ذرّ : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقول : ما الكرسيّ في العرش إلاَّ كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض ) . وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله . إنتهى كلامه .
( وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ( قرأ الجمهور : يؤوده بالهمز ، وقرىء شاذاً بالحذف ، كما حذفت همزة أناس ، وقرىء أيضاً : يووده ، بواو منضمومة على البدل من الهمزة أي : لا يشقه ، ولا يثقل عليه ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم . وقال ابان بن تغلب : لا يتعاظمه حفظهما ، وقيل : لا يشغله حفظ السموات عن حفظ الأرضين ، ولا حفظ الأرضين عن حفظ السموات .
والهاء

" صفحة رقم 291 "
تعود على الله تعالى ، وقيل : تعود على يالكرسي ، والظاهر الأول لتكون الضمائر متناسبة لواحد ولا تختلف ، ولبعد نسبة الحفظ إلى الكرسي .
( وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ ( عليّ في جلاله ، عظيم في سلطانه . وقال ابن عباس : الذي كمل في عظمته ، وقيل : العظيم المعظّم ، كما يقال : العتيق في المعتق ، قال الأعشى : وكأنّ الخمر العتيق من الاس
فنط ممزوجة بماء زلال
وأنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف قبل الخلق وبعد فنائهم ، إذ لا معظم له حينئذ ، فلا يجوز هذا القول . وقيل : والجواب أنها صفة فعل : كالخلق والرزق ، فلا يلزم ما قالوه . وقيل : العلى الرفيع فوق خلقه ، المتعالي عن الأشباه والأنداد ، وقيل : العالي من : علا يعلو : ارتفع ، أي : العالي على خلقه بقدرته ، والعظيم ذو العظمة الذي كل شيء دونه ، فلا شيء أعظم منه . قال الماوردي : وفي الفرق بين العلي والعالي وجهان : أحدهما : ان العالي هو الموجود في محل العلو ، والعلي هو مستحق للعلو . الثاني : أن العالي هو الذي يجوز أن يشارك ، والعلي هو الذي لا يجوز أن يشارك ، فعلى هذا الوجه يجوز أن يوصف الله بالعليّ لا بالعالي ، وعلى الأول يجوز أن يوصف بهما ، وقيل : العلي : القاهر الغالب للأشياء ، تقول العرب : علا فلان فلاناً غلبه وقهره . قال الشاعر : فلما علونا واستوينا عليهم
تركناهم صرعى لنسر وكاسر
ومنه ) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ ( وقال الزمخشري : العلي الشأن العظيم الملك والقدرة . إنتهى . وقال قوم : العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه . قال ابن عطية : وهذا قول جهلة مجسمين ، وكان الوجه أن لا يحكى . وقال أيضاً : العلي يراد به علو القدر والمنزلة ، لا علو المكان ، لأن الله منزه عن التحيز . إنتهى .
قال الزمخشري : ) فَانٍ قُلْتَ ( كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف ؟
) قُلْتَ ( ما منها جملة إلاَّ وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه ، والبيان متحد بالمبين ، فلو توسط بينهما عطف لكان كما تقول اعرب : بين العصا ومحائها ، فالأولى : بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساه عنه ؛ والثانية : لكونه مالكاً لما يدبره . والثالثة : لكبرياء شأنه ، والرابعة : لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى . والخامسة : لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها ، أو : يجلاله وعظيم قدره . إنتهى كلامه .
وتضمنت هذه الآية الكريمة صفات الذات ، منها : الوحدانية ، بقوله : لا إله إلا هو ، والحياة ، الدالة على البقاء بقوله : الحي ، و : القدرة ، بقول ه : القيوم ، واستطرد من القيومية لانتفاء ما يؤول إلى العجز ، وهو ما يعرض للقادر غيره تعالى من الغفلة والآفات ، فينتفي عنه وصفه بالقدرة إذ ذاك ، واستطرد من القيومية الدالة على القدرة إلى ملكه وقهره وغلبته لما في السموات والأرض ، إذ الملك آثار القدرة ، إذ للمالك التصرف في المملوك . و : الارادة ، بقوله : ) مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( فهذا دال على الإختيار والإرادة ، و : العلم بقوله : ) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ( ثم سلب عنهم العلم إلاَّ إن أعلمهم هو تعالى ، فلما تكملت صفات الذات العلا ، واندرج معها شيء من صفات الفعل وانتفى عنه تعالى أن يكون محلاً للحوادث ، ختم ذلك بكونه : العلي القدر العظيم الشأن .
البقرة : ( 256 ) لا إكراه في . . . . .
( لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ( ذكر في سبب نزولها أقوال مضمون أكثرها : أن بعض أولاد الأنصار تنصر ، وبعضهم تهوّد ، فأراد آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام ، فنزلت . وقال أنس : نزلت فيمن قال له

" صفحة رقم 292 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أسلم ) . فقال : أجدني كارهاً .
واختلف أهل العلم في هذه الآية : أهي منسوخة ؟ أم ليست بمنسوخة ؟ فقيل : هي منسوخة ، وهي من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف ، وقال قتادة ، والضحاك : هي محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ، قالا : أمر بقتال أهل الأوثان لا يقبل منهم إلاَّ الإسلام أو السيف ، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية . ومذهب مالك : أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش ، فتكون الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم ، غ لا يقف ذلك على أهل الكتاب . وقال الكلبي : لا إكراه بعد إسلام العرب ، ويقبل الجزية . وقال الزجاج : لا تنسبوا إلى الكراهة من أسلم مكرهاً ، يقال : أكفره نسبه إلى الكفر . قال الشاعر : وطائفة قد أكفروني بحبهم
وطائفة قالوا : مسيء ومذنب
وقيل : لا يكره على الإسلام من خرج إلى غيره . وقال أبو مسلم ، والقفال : معناه أنه ما بني تعالى أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، وإنما بناه على التمكن والاختيار ، ويدل على هذا المعنى أنه لما بين دلائل التوحيد بياناً شافياً ، قال بعد ذلك : لم يبق عذر في الكفر إلاَّ أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ، وهذا ما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الإبتلاء ، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الإبتلاء . ويؤكد هذا قوله بعد : ) قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ( يعني : ظهرت الدلائل ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلاَّ طريق القسر والإلجاء وليس بجائز لأنه ينافي التكليف ، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول المعتزلة ، ولذلك قال الزمخشري : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والإختيار ، ونحوه قوله : ) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر على الأختيار .
والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده ، والألف واللام للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي : في دين الله .
( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ( أي : استبان الإيمان من الكفر ، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام .
وقرأ الجمهور : الرشد ، على وزن القفل ، والحسن : الرشد ، على وزن العنق وأبو عبد الرحمن : الرشد ، على وزن الجبل ، ورويت هذه أيضاً عن الشعبي ، والحسن ومجاهد . وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن : الرشاد ، بالألف .
والجمهور على إدغام دال ، قد ، في : تاء ، تبين . وقرىء شاذاً بالإظهار ، وتبين الرشد ، بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان ، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين ، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في الدين طوعاً من غير إكراه ، ولا موضع لها من الإعراب .
( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ( الطاغوت : الشيطان . قاله عمر ، ومجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدّي . أو : الساحر ، قاله ابن سيرين ، وأبو العالية . أو : الكاهن ، قاله جابر ، وابن جبير ، ورفيع ، وابن جريح . أو : ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك : كفرعون ، ونمروذ ، قاله الطبري . أو : الأصنام ، قاله بعضهم .
وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً ، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها .
قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت . إنتهى .
وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي ، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله ، لأن الكفر بها هو رفضها ، ورفض عبادتها ، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية ، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله ، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت ، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على

" صفحة رقم 293 "
الانسلاخ بالكلية ، مما كان مشتبهاً به ، سابقاً له قبل الإيمان ، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه .
وجواب الشرط : فقد استمسك ، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه ، وإن كان مستقبلاً في المعنى لإنه جواب الشرط ، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط ، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه ، و : بالعروة ، متعلق باستمسك ، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة ، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك . قال الزمخشري : وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر ، والاستدلال بالمشاهد المحسوس ، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن .
والمشبه بالعروة الإيمان ، قاله : مجاهد . أو : الإسلام قاله السدّي أو : لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والضحاك ، أو : القرآن ، قاله السدّي أيضاً ، أو : السنة ، أو : التوفيق . أو : العهد الوثيق . أو : السبب الموصل إلى رضا الله وهذه أقوال متقاربه .
( لاَ انفِصَامَ لَهَا ( لا انكسار لها ولا انقطاع ، قال الفراء : الانفصام والانقصام هما لغتان ، وبالفاء أفصح ، وفرق بعضهم بينهما ، فقال : الفصم انكسار بغير بينونه ، والقصم انكسار ببينونة .
وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من العروة ، وقيل : من الضمير المستكن في الوثقى ، ويجوز أن يكون خبراً مستأنفاً من الله عن العروة ، و : لها ، في موضع الخبر ، فتتعلق بمحذوف أي : كائن لها .
( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( أتى بهذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده الجنان ، فناسب هذا ذكر هذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، وقيل : سميع لدعائك يا محمد ، عليم بحرصك واجتهادك .
البقرة : ( 257 ) الله ولي الذين . . . . .
( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( الولي ، هنا الناصر والمعين أو المحب أو متولى أمورهم ، ومعنى : آمنوا ، أرادوا أن يؤمنوا ، والظلمات : هنا الكفر ، والنور الإيمان ، قاله قتادة ، والضحاك ، والربيع . قيل : وجمعت الظلمات لاختلاف الضلالات ، ووحد النور لأن الإيمان واحد .
والإخراج هنا إن كان حقيقة فيكون مختصاً بمن كان كافراً ثم آمن ، وإن كان مجازاً فهو مجاز عن منع الله إياهم من دخولهم في الظلمات قال الحسن : معنى يخرجهم يمنعهم ، وإن لم يدخلوا ، والمعنى أنه لو خلا عن توفيق الله لوقع في الظلمات ، فصار توفيقه سبباً لدفع تلك الظلمة ، قالوا : ومثل هذه الاستعارة شائع سائغ في كلامهم ، كما قال طفيل الغنوي : فإن تكنِ الأيام أحسنَّ مرة
إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
قال الواقدي : كل شيء في القرآن من الظلمات والنور فإنه أراد به الكفر والإيمان غير التي في الأنعام ، وهو : ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( فإنه أراد به الليل والنهار .
وقال الواسطي : يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى آدابها : كالرضا والصدق والتوكل والمعرفة والمحبة .
وقال أبو عثمان : يخرجهم من ظلمات الوحشة والفرقة إلى نور الوصلة والإلفة .
وقال الزمخشري : آمنوا أرادوا أن يؤمنوا ، تلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من الكفر إلى الإيمان ، أو : الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم ، بما يهديهم ويوفقهم لها من حلها ، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين .

" صفحة رقم 294 "
انتهى . فيكون على هذا القول : آمنوا على حقيقته .
( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ( قال مجاهد ، وعبدة بن أبي لبابة ، نزلت في قوم آمنوا بعيسى ، فلما جاء محمد عليه السلام كفروا به ، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات .
وقال الكلبي يخرجونهم من إيمانهم بموسى عليه السلام واستفتاحهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى كفرهم به ، وقيل : من فطرة الإسلام ، وقيل : من نور الإقرار بالميثاق ، وقيل : من الإقرار باللسان إلى النفاق . وقيل : من نور الثواب في الجنة إلى ظلمة العذاب في النار . وقيل : من نور الحق إلى ظلمة الهوى . وقيل : من نور العقل إلى ظلمة الجهل .
وقال الزمخشري : من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة .
وقال ابن عطية : لفظ الآية مستغن عن التخصيص ، بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب ، وذلك أن كان من آمن منهم فالله وليه ، أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، ومن كفر بعد وجود الداعي ، النبي المرسل ، فشيطانه ومغويه كأنه أخرجه من الإيمان ، إذ هو معد ، وأهل للدخول فيه ، وهذا كما تقول لمن منعك الدخول في أمر : أخرجتني يا فلان من هذا الأمر ، وإن كنت لم تدخل فيه ألبتة . انتهى .
والمراد بالطاغوت : الصنم ، لقوله : ) رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( وقيل : الشياطين والطاغوت اسم جنس .
وقرأ الحسن : الطواغيت بالجمع .
وقد تباين الإخبار في هاتين الجملتين ، فاستفتحت آية المؤمنين باسم الله تعالى ، وأخبر عنه بأنه ولي المؤمنين تشريفاً لهم إذ بدى في جملتهم باسمه تعالى ، ولقربه من قوله : ) وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( واستفتحت آية الكافرين بذكرهم نعياً عليهم ، وتسمية لهم بما صدر منهم من القبيح ثم أخبر عنهم بأن أولياءهم الطاغوت ، ولم يصدّر الطاغوت استهانة به ، وأنه مما ينبغي أن لا يجعل مقابلاً لله تعالى ، ثم عكس الإخبار فيه فابتدىء بقوله : أولياؤهم ، وجعل الطاغوت خبراً . كأن الطاغوت هو مجهول . أعلم المخاطب بأن أولياء الكفار هو الطاغوت ، والأحسن في : يخرجهم ويخرجونهم أن لا يكون له موضع من الإعراب ، لأنه خرج مخرج التفسير للولاية ، وكأنه من حيث إن الله ولي المؤمنين بين وجه الولاية والنصر والتأييد ، بأنها آخراجهم من الظلمات إلى النور ، وكذلك في الكفار .
وجوّزوا أن يكون : يخرجهم ، حالاً والعامل فيه : ولي ، وأن يكون خبراً ثانياً ، وجوّزوا أن يكون : يخرجونهم ، حالاً والعامل فيه معنى الطاغوت . وهو نظير ما قاله أبو عليّ : من نصب : نزّاعة ، على الحال ، والعامل فيها : لظى ، وسنذكره في موضعه ان شاء الله و : من ، و : إلى ، متعلقان بيخرج .
( أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( تقدّم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته .
وذكروا في هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة وعلم البيان ، منها في آية الكرسي : حسن الافتتاح لأنها افتتحت بأجل أسماء الله تعالى ، وتكرار اسمه في ثمانية عشر موضعاً ، وتكرير الصفات ، والقطع للجمل بعضها عن بعض ، ولم يصلها بحرف العطف . والطباق : في قوله ) الْحَىُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ( فإن النوم موت وغفلة ، والحي القيوم يناقضه . وفي قوله : ) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ ( والتشبيه : في قراءة من قرأ ) وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( أي كوسع ، فإن كان الكرسي جرماً فتشبيه محسوس بمحسوس ، أو معنى فتشبيه معقول بمحسوس .
ومعدول الخطاب في ) لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ( إذا كان المعنى لا تكرهوا على الدين أحداً . والطباق : أيضاً في قوله ) قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ( وفي قوله : ) ءامَنُواْ وَكَفَرُواْ ( وفي قوله ) مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( والتكرار : في

" صفحة رقم 295 "
الإخراج لتباين تعليقهما ، والتأكيد : بالمضمر في قوله : ) هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة الإشارة إلى الرسل المذكورين في قوله : ) وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( وأخبر تعالى أنه فضل بعضهم على بعض ، فذكر أن ) مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ( وفسر بموسى عليه السلام ، وبدىء به لتقدّمه في الزمان ، وأخبر أنه ) رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ( وفسر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وذكر ثالثاً عيسى بن مريم ، فجاء ذكر رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وسطاً بين هذين النبيين العظيمين ، فكان كواسطة العقد ، ثم ذكر تعالى أن اقتتال المتقدمين بعد مجيء البينات هو صادر عن مشيئته .
ثم ذكر اختلافهم وانقسامم إلى مؤمن وكافر ، وأنه تعالى يفعل ما يريد ، ثم أمر المؤمنين بالإنفاق مما رزقهم من قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه توسيل بصداقة ولا شفاعة .
ثم ذكر أن الكافرين هم المجاوزون الحد الذي حده الله تعالى ، ثم ذكر تعالى أنه هو المتوحد بالإلهية ، وذلك عقيب ذكر الكافرين . وذكرا أتباع موسى عليهما السلام .
ثم سرد صفاته العلا وهي التي يجب أن تعتقد في الله تعالى من كونه واحداً حياً قائماً بتدبير الخلق ، لا يلحقه آفة ، مالكاً للسموات والأرض ، عالماً بسرائر المعلومات ، لا يعلم أحد شيئاً من علمه إلاَّ بما يشاء هو تعالى ، وذكر عظيم مخلوقاته ، وأن بعضها ، وهو الكرسي ، يسع السموات والأرض ، ولا يثقل ولا يشق عليه حفظ السموات والأرض .
ثم ذكر أنه بعد وضوح صفاته العلا ف ) لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ( إذ قد تبينت طرق الرشاد من طرق الغواية ، ثم ذكر أن من كفر بالطاغوت وآمن بالله فهو مستمسك بالعروة الوثقى ، عروة الإيمان ، ووصفها بالوثقى لكونها لا تنقطع ولا تنفصم ، واستعار للإيمان عروة إجراء للمعقول مجرى المحسوس ، ثم ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين أخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وأن الكافرين أولياؤهم الأصنام والشياطين ، وهم على العكس من المؤمنين ، ثم أخبر عن الكفار أنهم أصحاب النار وأنهم مخلدون فيها والحالة هذه ، والله أعلم بالصواب .
2 ( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْىِ هَاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ) ) 2
البقرة : ( 258 ) ألم تر إلى . . . . .
بهت : تحير ودهش ، ويكون متعدياً على وزن فعَّل ، ومنه : فتبهتهم ، ولازماً على وزن فَعَلَ كظرف وفعل

" صفحة رقم 296 "
كدهش ، والأكثر في اللازم الضم وحكي عن بعض العرب : بهت بفتح الهاء لازماً ، ويقال بهته وباهته واجهه بالكذب ، وفي الحديث أن اليهود قوم بهت .
الخاوي : الخالي ، خوت الدار تخوى خوىً غير ممدود ، وخوياً ، والأولى أفصح ، ويقال خوى البيت انهدم لأنه بتهدّمه يخلو من أهله ، والخوى : الجوع : لخلو البطن من الغذاء ، وخوت المرأة وخويت خلا جوفها عند الولادة ، وخويت لها تخويةً علمت لها خوية تأكلها ، وهي طعام . والخوي على وزن فعيل : البطن السهل من الأرض ، وخوي البعير جافَى بطنه عن الأرض في مبركه ، وكذلك الرجل في سجوده قال الراجز : خوى على مستويات خمس
كركرة وثفنات ملسِ
العرش : سقف البيت ، وكل ما يهيأ ليُظلَّ أو يِكُنَّ فهو عريش الدالية ، وقال تعالى : ) وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( وفي الحديث لما أمر ببناء المسجد قالوا : نبنيه لك بنياناً قال : ( لا بل عرش كعرش أخي موسى ) فوضعوا النخل على الحجارة وغشوه بالجريد وسعفه ، وقيل : العرش البنيان قال الشاعر : إن يقتلونك فقد ثللث عروشهم
بعتيبة بن الحارث بن شهاب
مائة : اسم لرتبة من العدد معروفة ، ويجمع على مئات ومئين ، وهي مخففة محذوفة اللام ، ولا مهاياء ، فالأصل مئية ، ويقال : أمأيتُ الدراهم إذا صيرتها ، وأمأَتْ هي ، أي : صارت مائة .
العام : مدّة من الزمان معروفة ، وألفه منقلبة عن واو ، لقولهم : العويم والأعوام . وقال النقاش : العام مصدر كالعوم ، سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك ، والعوم كالسبح ، وقال تعالى ) وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( والعام على هذا : كالقول والقال .
اللبث : المكث والإقامة .
يتسنه : إن كانت الهاء أصلية فهو من السنة على من يجعل لامها المحذوف هاءً ، قالوا في التصغير : سنيهة ، وفي الجمع سنهات . وقالوا : سانهت وأسنهت عند بني فلان ، وهي لغة الحجاز وقال الشاعر : وليست بسنهاء ولا رجبية
ولكن عرايا في السنين الجوائح
وإن كانت الهاء للسكت ، وهو اختيار المبرد ، فلام الكلمة محذوفة للجازم ، وهي ألف منقلبة عن واو على من يجعل

" صفحة رقم 297 "
لام سنة المحذوف واواً . لقولهم : سنية وسنوات ، واشتق منه الفعل ، فقيل : سانيت وأسنى وأسنت . أبدل من الواو تاءً ، أو تكون الألف منقلبة عن ياء مبدلة من نون ، فتكون من المسنون أي : المتغير ، وأبدلت كراهة اجتماع الأمثال ، كما قالوا : تظني ، ويتلعَ الأصل تطنن ويتلعع ، قاله أبو عرم ، وخطأه الزجاج . قال : لأن المسنون : المصبوب على سنة الطريق وصوبه وقال النقاش : هو من قوله من ماء غير آسنٍ ورد النجاة عليه هذا القول لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن ، لأنك لو بنيت تفعل من الأكل لقلت تأكل ، ويحتمل ما قاله النقاش على اعتقاد القلب ، وجعل فاء الكلمة مكان اللام ، وعينها مكان الفاء ، فصار : تسنأ ، وأصله تأسن ، ثم أبدلت الهمزة كما قالوا في : هدأ وقرأ واستقرأ ، هذا وقرا واستقرا .
الحمار : هو الحيوان المعروف ، ويجمع في القلة على : أفعلة قالوا : أحمرة ، وفي الكثرة على : فُعُل ، قالوا : حمر وعلى : فعيل ، قالوا : حمير .
أنشر : الله الموتى ، ونشرهم ، ونشر الميت حيي قال الشاعر : حتى يقول الناس مما رأوا
يا عجباً للميت الناشر
وأما : أنشز ، بالزاي فمن النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض ، ومعن : أنشز الشيء جعله ناشزاً ، أي : مرتفعاً ، ومنه : انشزوا فانشزوا ، وامرأة ناشز ، أي : مرتفعة عن الحالة التي كانت عليها مع الزوج .
الطمأنينة : مصدر اطمأنَّ على غير القياس ، والقياس الإطمئنان ، وهو : السكون ، وطامنته أسكنته ، وطامنته فتطامن : خفضته فانخفض ، ومذهب سيبويه في اطمأن أنه مما قدّمت فيه الميم على الهمزة ، فهو من باب المقلوب ، ومذهب الجرمي : أن الأصل في اطمأن كاطأمن ، وليس من المقلوب ، والترجيح بين المذهبين مذكور في علم التصريف .
الطير : اسم جمع : كركْب وسفْر ، وليس بجمع خلافاً لأبي الحسن .
صار : يصور قطع وانصار : انقطع ، وصرته أصوره : أملته ، ويقال أيضاً في القطع والإمالة : صاره يصيره ، قاله أبو علي ، وقال الفراء : الضم في الصاد يحتمل الإمالة والتقطيع ، والكسر فيها لا يحتمل إلاَّ القطع ، وقال أيضاً : صاره مقلوب صراه عن كذا ، أي : قطعه ، وقال غيره : الكسر بمعنى القطع ، والضم بمعنى الإمالة .
الجبل : معروف ويجمع في القلة على : أجبال وأجبل ، وفي الكثرة على : جبال .
الجزء : من الشيء ، القطعة منه وجزَّأ الشيء جعله قطعاً .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ( مناسبة هذه القصة التي جرت بين إبراهيم والذي حاجه ، وانه ناظر ذلك الكافر فغلبه وقطعه ، إذ كان الله وليه ، وانقطع ذلك الكافر وبهت إذ كان وليه هو الطاغوت : ) أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ( ) أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( فصارت هذه القصة مثلاً للمؤمن والكافر اللذين تقدّم ذكرهما ، وتقدّم الكلام على قوله : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ( فأغنى عن إعادته .
وقرأ علي بن أبي طالب : ألم تر ، بسكون الراء ، وهو من إجراء الوصل مجرى الوقف ، والذي حاج إبراهيم : هو نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ، ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والربيع ، والسدّي ، وابن إسحاق ، وزيد بن أسلم ، وغيرهم . وقال ابن جريج : هو أول ملك في الأرض ، ورده ابن عطية .

" صفحة رقم 298 "
وقال قتادة : هو أول من تجبر ، وهو صاحب الصرح ببابل . قيل : إنه ملك الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته ، وقال مجاهد : ملك الأرض مؤمنان : سليمان وذو القرنين ، وكافران : نمروذ وبخت نصر . وقيل : هو نمروذ بن يجاريب بن كوش بن كنعان ابن سام بن نوح . وقيل : نمروذ بن فايخ بن عابر بن سايخ بن ارفخشده بن سام بن نوح . وحكى السهيلي أنه : النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح ، وكان ملكاً على السودان ، وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق ، واسمه اندراوست بن اندرشت ، وكان ملك الأقاليم كلها ، وهو الذي قتله أفريدون بن أهبان ، وفيه يقول أبو تمام حبيب في قصيد مدح به الأفشين ، وذكر أخذه بابك الخرّمي : بل كان كالضحاك في فتكاته
بالعالمين ، وأنت أفريدون
وهو أول من صلب وقطع الأيدي والأرجل ، وملك نمروذ أربعمائة عام فيما ذكروا : وله ابن يسمى نمروذاً الأصغر ملك عاماً واحداً .
ومعنى : ) حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ ( أي : عارض حجته بمثلها ، أو : أتى على الحجة بما يبطلها ، أو : أظهر المغالبة في الحجة . ثلاثة أقوال .
واختلفوا في وقت الحاجة ، فقيل : خرجوا إلى عيدٍ لهم ، فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها ، فلما رجعوا قال : أتعبدون ما تنحتون ؟ فقال له : فمن تعبد ؟ قال : أعبد ) رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ ( وقيل : كان نمروذ يحتكر ، فإذا احتاجوا اشتروا منه الطعام ، فإذا دخلوا عليه سجدوا له ، فلما دخل إبراهيم لم يسجد له ، فقال : مالك لم تسجد لي ؟ فقال : أنا لا أسجد إلا لربي فقال له نمروذ : من ربك ؟ قال : ) إِبْراهِيمُ رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ ).
وفي قوله : إنه كان كلما جاء قوم قال من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم وجاء إبراهيم يمتار ، فقال له : من ربك وإلهك ؟ فقال : ) رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ ).
وقيل : كانت الحاجة بعد أن خرج من النار التي ألقاه فيها النمروذ ، وذكروا أنه لما لم يُمْرِهِ النمروذ ، مر على رمل أعفر ، فأخذ منه وأتى أهله ونام ، فوجدوه أجود طعام ، فصنعت منه وقربته له ، فقال : من أين هذا ؟ قالت من الطعام الذي جئت به فعرف أن الله رزقه ، فحمد الله .
وقيل : مرّ على رملة حمراء ، فأخذ منها ، فوجدوها حنطة حمراء ، فكان إذا زرع منها جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً .
في : ربه ، يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم ، وأن يعود على النمروذ ، والظاهر الأول .
( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ( الظاهر أن الضمير في : آتاه ، عائد على : الذي حاج ، وهو قول الجمهور ، و : أن آتاه ، مفعول من أجله على معنيين : أحدهما : أن الحامل له على المحاجة هو ايتاؤه الملك ، أبطره وأورثه الكبر ، والعتوّ ، فحاج لذلك . والثاني : أنه وضع المحاجة موضع ما وجب عليه من الشكر لله تعالى على ايتائه الملك ، كما تقول : عاداني فلان لأني أحسنت إليه ، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان . ومنه : ) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ( وأجاز الزمخشري أن يكون التقدير : حاج وقت أن يكون التقدير : حاج وقت أن آتاه الله الملك ، فإن عنى أن ذلك على حذف مضاف ، فيمكن ذلك على أن فيه بعداً من جهة أن المحاجة لم تقع وقت أن آتاه الله الملك . إلاَّ أن يجوز في الوقت ، فلا يحمل على ما يقتضيه الظاهر من أنه وقت ابتداء ايتاء الله الملك له ، ألا ترى أن ايتاء الله الملك إياه سابق على الحاجة وإن عنى أن : أن والفعل ، وقعت موقع المصدر الواقع موقع ظرف الزمان ؟ كقولك : جئت خفوق النجم ، ومقدم الحاج ، وصياح الديك ؟ فلا يجوز ذلك ، لأن النحويين مضوا على أنه لا يقوم مقام ظرف الزمان إلا المصدر المصرح بلفظه ، فلا يجوز : أجىء أن يصيح الديك ، ولا جئت أن صاح الديك . وقال المهدوي : يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم : أي آتاه ملك النبوّة . قال ابن عطية : وهذا تحامل من التأويل . إنتهى . وما ذكره المهدوي

" صفحة رقم 299 "
احتمالاً هو قول المعتزلة ، قالوا : الهاء كناية عن إبراهيم لا عن الكافر الذي حاجه ، لأن الله تعالى قال : ) لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( والملك عهد منه ، وقال تعالى : ) مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً الْحِكْمَةَ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ( ورُدّ قول المعتزلة بأن إبراهيم ما عرف بالملك ، وبقول الكافر : أنا أحيي وأميت ، ولو كان إبراهيم الملك لما كان يقدر على محاجته في مثل هذه الحالة ، وبأنه لما قال : أنا أحيي وأميت ، جاء برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر ، ولو لم يكن ملكاً لم يقتل بين يدي إبراهيم بغير إذنه ، إذ كان إبراهيم هو الملك ، ولا يردّ على المعتزلة بهذه الأوجه ، لأن إثبات ملك النبوّة لإبراهيم لا ينافي ملك الكافر ، لأنهما ملكان : أحدهما : بفضل الشرف في الدين كالنبوّة والإمامة . والآخر : بفضل المال والقوّة والشجاعة والقهر والغلبة والاتباع . وحصول الملك للكافر بهذا المعنى يمكن ، بل هو واقع مشاهد .
وقال الزمخشري : ) فَانٍ قُلْتَ ( : كيف جاز أن يؤتى الله الملك الكافر ؟
) قُلْتَ ( : فيه قولان : آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع ، وأما التغليب والتسليط فلا ، وقيل : ملكة امتحاناً لعباده . إنتهى . وفيه نزغة اعتزالية ، وهو قوله : وأما التغليب والتسليط فلا ، لأنه عندهم هو الذي تغلب وتسلط ، فالتغليب والتسليط فعله لا فعل الله عندهم .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى ( هذا من إبراهيم عن سؤال سبق من الكافر ، وهو أن قال : من ربك ؟ وقد تقدّم في قصته شيء من هذ ، وإلاَّ فلا يببتدأ كلام بهذا .
واختص إبراهيم من آيات الله بالإحياء والإماتة لأنهما أبدع آيات الله وأشهرها ، وأدلها على تمكن القدرة ، والعامل في إذ حاجّ ، وأجاز الزمخشري أن يكون بدلاً من : أن آتاه ، إذاً جعل بمعنى يالوقت ، وقد ذكرنا ضعف ذلك ، وأيضاً فالظرفان مختلفان إذ وقت إيتاء الملك ليس وقت قوله : ) رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ ( وفي قول إبراهيم : ) رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ ( تقوية لقول من قال إن الضمير في قوله : في ربه ، عائد على إبراهيم .
وربي الذي يحيي ويميت ، مبتدأ وخبر ، وفيه إشارة إلى أنه هو الذي أوجد الكافر ويحييه ويميته ، كأنه قال : ربي الذي يحيي ويميت هو متصرّف فيك وفي أشباهك بما لا تقدر عليه أنت ولا أشباهك من هذين الوصفين العظميين المشاهدين للعالم اللذين لا ينفع فيهما حيل الحكماء ولا طب الأطباء ، وفيه إشارة أيضاً إلى المبدأ والمعاد وفي قوله : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى ( دليل على الاختصاص لأنهم قد ذكروا أن الخبر ، إذا كان بمثل هذا ، دل على الاختصاص ، فتقول : زيد الذي يصنع كذا ، أي : المختص بالصنع .
( قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّيَ ( لما ذكر إبراهيم أن ربه الذي يحيي ويميت عارضه الكافر بأنه بحيي ويميت ، ولم يقل : أنا الذي يحيي ويميت ، لأنه كان يدل على الاختصاص ، وكان الحس يكذبّه إذ قد حيي ناس قبل وجوده وماتوا ، وإنما أراد أن هذا الوصف الذي ادعيت فيه الاختصاص لربك ليس كذلك ، بل أنا مشاركه في ذلك . قيل : أحضر رجلين ، قتل أحدهما وأرسل الآخر ، وقيل : أدخل أربعة نفر بيتاً حتى جاعوا ، فأطعم اثنين فحييا ، وترك إثنين فماتا ، وقيل : أحيا بالمباشرة وإلقاء النطفة ، وأمات بالقتل .
وقرأ نافع باثبات ألف : أنا إذا كان بعدها همزة مفتوحة أو مضمر . وروى أبو نشيط إثباتها مع الهمزة المكسورة . وقرأ الباقون بحذف الألف ، وأجمعوا على إثباتها في الوقف ، وإثبات الألف وصلاً ووقفاً لغة بني تميم ، ولغة غيرهم حذفها في الوصل ، ولا تثبت عند غير بني تميم وصلاً إلاَّ في ضرورة الشعر نحو قوله : فكيف أنا وانتحالي القوافي
بعد المشيب كفى ذاك عاراً

" صفحة رقم 300 "
والأحسن أن تجعل قراءة نافع على لغة بني تميم . لأنه من إجراء الوصل مجرى الوقف على ما تأوّله عليه بعضهم ، قال : وهو ضعيف جداً ، وليس هذا مما يحسن الأخذ به في القرآن . إنتهى . فإذا حملنا ذلك على لغة تميم كان فصيحاً .
( وَأُمِيتُ قَالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ( لما خيل الكافر أنه مشارك لرب إبراهيم في الوصف الذي ذكره إبراهيم ، ورأى إبراهيم من معارضته ما يدل على ضعف فهمه أو مغالطته ، فإنه عارض اللفظ بمثله ، ولم يتدبر اختلاف الوصفين ، ذكر له ما لا يمكن أن يدعيه ، ولا يغالط فيه ، واختلف المفسرون هل ذلك انتقال من دليل إلى دليل ؟ أو هو دليل واحد والانتقال فيه من مثال إلى مثال أوضح منه ؟ وإلى القول الأول ذهب الزمخشري . قال : وكان الاعتراض عتيداً ، ولكنّ إبراهيم لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه ، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته أول شيء ، وهذا دليل على جواز الانتقال من حجة إلى حجة . إنتهى كلامه .
ومعنى قول الزمخشري : وكان الاعتراض عتيداً : أي من إبراهيم ، لو أراد أن يعترض عليه بأن يقول له : أحي من أمتّ ، فكان يكون في ذلك نصرة الحجة الأولى ، وقد قيل : إنه قال له ذلك ، فانقطع به ، وأردفه إبراهيم بحجة ثانية ، فحاجه من وجهين ، وكان ذلك قصداً لقطع المحاجة ، لا عجزاً عن نصرة الحجة الأولى ، وقيل : كان نمروذ يدعي الربوبية ، فلما قال له : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ وَأُمِيتُ ( أي : الذي يفعل ذلك أنا لا من نسبت ذلك إليه ، فلما سمع إبراهيم افتراءه العظيم ، ودّعاءه الباطل تمويهاً وتلبيساً ، اقترح عليه ، فقال : ) فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ( فافحم وبان عجزه وظهر كذبه .
وقيل : لما قال : ) رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ ( قال له النمروذ : وأنت رأيت هذا ؟ فلما لم يكن رآه مع علمه أن الله قادر عليه انتقل إلى ما هو واضح عنده وعند غيره ، وقيل : انتقل لأنهم كانوا يعظمون الشمس ، فأشار إلى أنها لله عز وجل مقهورة .
وأما القول الئاني : وهو أنه ليس انتقالاً من دليل إلى دليل ، بل الدليل واحد في الموضعين ، فهذا قول المحققين ، قالوا : وهو إنا نرى حدوث أشياء لا يقدر أحد على إحداثها ، فلا بد من قادر يتولى إحداثها وهو الله تعالى ولها أمثلة : منها : الإحياء والإماتة . ومنها : السحاب والرعد والبرق . ومنها : حركات الأفلاك والكواكب . والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل ، فكان ما فعله إبراهيم عليه السلام من باب ما يكون الدليل واحداً لا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر ، وليس من باب ما قع الانتقال فيه من دليل إلى دليل آخر ، ولما كان إبراهيم في المقام الأول الذي سأله الكافر عن ربه حين ادّعى الكافر الربوبية ، ( قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ ( فلما انتقل إلى دليل أو مثال أوضح وأقطع للخصم ، عدل إلى الاسم الشائع عند العالم كلهم فقال : ) فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ ( قرر بذلك بأن ربه الذي يحيي ويميت هو الذي أوجدك وغيرك أيها الكافر ، ولم يقل : فإن ربي يأتي بالشمس ، ليبين أن إله العالم كلهم هو ربه الذي يعبدونه ، ولأن العالم يسلمون أنه لا يأتي بها من المشرق إلاَّ إلهم .
ومجيء الفاء في : فإن ، يدل على جملة محذوفة قبلها ، إذ لو كانت هي المحكية فقط لم تدخل افاء ، وكأن التركيب قال إبراهيم : إن الله يأتي بالشمس ، وتقدير الجملة ، والله أعلم ؛ قال إبراهيم إن زعمت ذلك أو موهت بذلك ، فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، و : الباء ، في بالشمس للتعدية ، تقول : أتت الشمس ، وأتى بها الله ، أي أحياها ، و : من ، لابتداء الغاية .
( فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ ( قراءة الجمهور مبنياً لما لم يسم فاعله ، والفاعل المحذوف إبراهيم إذ هو المناظر له ، فلما أتى بالحجة الدامغة بهته بذلك وحيره وغلبه ، ويحتمل أن يكونه الفاعل المحذوف المصدر المفهوم من : قال ، أي : فحيره قول إبراهيم وبهته .
وقرأ ابن السميفع : فبهت ، بفتح الباء والهاء ، والظاهر أنه متعدّ كقراءة الجمهور فبهت مبيناً للمفعول أي فبهت إبراهيم الذي كفر وقيل : المعنى ، فبهت الكافر إبراهيم ، أي : سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة ، ويحتمل أن يكون لازماً ويكون الذي كفر فاعلاً ، والمعنى : : بهت أو أتى بالبهتان .
وقرأ أبو حيوة : فبهت ، بفتح الباء وضم الهاء . وقرىء فيما حكاه الأخفش :

" صفحة رقم 301 "
فبهت بكسر الهاء .
( وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( إخبار من الله تعالى بأن الظالم لا يهديه ، وظاهره العموم ، والمراد هداية خاصة ، أو ظالمون مخصوصون ، فما ذكر في الهداية الخاصة أنه لا يرشدهم في حجتهم ، وقيل : لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا إلى الجنة ، وقيل : لا يلطف بهم ولا يلهم ولا يوفق ، وخص الظالمون بمن يوافي ظالماً أي كافراً .
والذي يظهر أن هذا إخبار من الله بأن من حكم عليه ، وقضى بأن يكون ظالماً أي كافراً وقدّر أن لا يسلم ، فإنه لا يمكن أن يقع هداية من الله له ) فَمَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ ).
ومناسبة هذه الآية بهذا الإخبار ظاهرة ، لأنه ذكر حال مدّع شركة الله في الإحياء والإماتة ، مموّهاً بما فعله أنه إحياء وإماتة ، ولا أحد أظلم ممن يدعي ذلك ، فأخبر الله تعالى : أن من كان بهذه الصفة من الظلم لا يهديه الله إلى اتباع الحق ، ومثل هذا محتوم له عدم الهداية ، مختوم له بالكفر ، لأن مثل هذه الدعوى ليست مما يلتبس على مدّعيها ، بل ذلك من باب الزندقة والفلسفة والسفسطة ، فدّعيها إنما هو مكابر مخالف للعقل ، وقد منع الله هذا الكافر أن يدعي أنه هو الذي يأتي بالشمس من المشرق إذ من كابر في ادّعاء الإحياء والإماتة قد يكابر في ذلك ويدعيه . وهل المسألتان إلاَّ سواء في دعوى ما لا يمكن لبشر ؟ ولكنّ الله تعالى جعله بهوتاً دهشاً متحيراً منقطعاً إكراماً لنبيه إبراهيم ، وإظهاراً لدينه .
وقيل : إنما لم يدع أنه هو الذي يأتي بها من المشرق ، لظهور كذبه لأهل مملكته ، إذ يعلمون أنه محدث ، والشمس كانت تطلع من المشرق قبل حدوثه ، ولم يقل : أنا آتي بها من المغرب لعلمه بعجزه ، فلما رأى أنه لا مخلص له سكت وانقطع .
البقرة : ( 259 ) أو كالذي مر . . . . .
( أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ( قرأ الجمهور : أو ، ساكنة الواو ، قيل : ومعناها التفصيل ، وقيل : التخيير في التعجيب من حال من ينشأ منهما .
وقرأ أبو سفيان بتن حسين : أوَ ، كالذي ، بفتح الواو ، وهي حرف عطف دخل عليها ألف التقرير ، والتقدير : وأرأيت مثل الذي ؛ ومن قرأ : أو ، بحرف العطف فجمهور المفسرين أنه معطوف على قوله : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ ( على المعنى ، إذ معنى : ألم تر إلى الذي ؟ أرأيت كالذي حاجّ ؟ فعطف قوله : أو كالذي مر ، على هذا المعنى ، والعطف على المعنى موجود في لسان العرب قال الشاعر : تقي نقي لم يكثر غنيمة
بنهكة ذي قربى ولا بحقلّد
المعنى في قوله : لم يكثر : ليس بمكثر : ولذلك راعى هذا المعنى فعطف عليه قوله : ولا بحقلد وقال آخر : أجدّك لن ترى بثعيلبات
أولاء بيداء ناحية ذمولا
ولا متدارك والليل طفل
ببعض نواشع الوادي حمولا
المعنى : أجدّك لست برآء ، ولما راعى هذا المعنى عطف عليه قوله : ولا متدارك ، والعطف على المعنى نصوا على أنه لا ينقاس .
وقال الزمخشري ، أو كالذي : معناه أورأيت مثل الذي ؟ فحذف لدلالة : ألم تر ؟ عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب . انتهى . هو تخريج حسن ، لأن إضمار الفعل لدلالة المعنى عليه أسهل من العطف على مراعاة المعنى ، وقد جوّز الزمخشري الوجه الأولى .
وقيل : الكاف زائدة ، فيكون : الذي ، قد عطف على : الذي ، التقدير : ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم ؟ أو الذي مرّ على قرية ؟ قيل : كما زيدت في قوله تعالى : ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( وفي قوله الراجز .

" صفحة رقم 302 "
فصيروا مثل كعصف مأكول
ويحتمل أن لا يكون ذلك على حذف فعل ، ولا على العطف على المعنى ، ولا على زيادة الكاف ، بل تكون الكاف اسماً على ما يذهب إليه أبو الحسن ، فتكون الكاف في موضع جر ، معطوفة على الذي ، التقدير : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ ( أو إلى مثل ) الَّذِى مَرَجَ عَلَى قَرْيَةٍ ( ؟ ومجيء الكاف اسماً فاعلة ، ومبتداً ومجرورة بحرف الجر ثابت في لسان العرب ، وتأويلها بعيد ، فأَلاوْلى هذا الوجه الأخير ، وإنما عرض لهم الإشكال من حيث اعتقاد حرفية الكاف ، حملاً على مشهور مذهب البصريين ، والصحيح ما ذهب إليه أبو الحسن ، ألا ترى في الفاعلية لمثل في قول الشاعر : وإنك لم يُفخر عليك كفاخر
ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب ؟
والكلام على الكاف يذكر في علم النحو .
والذي مر على قرية هو عزير ، قاله علي ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبو العالية ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك ، والسدّي ، ومقاتل ، وسليمان بن بريدة ، وناجية بن كعب ، وسالم الخوّاص .
وقيل : أرمياء ، قاله وهب ، ومجاهد ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وبكر بن مضر وقال ابن إسحاق : و أرمياء ، وهو الخضر ، وحكاه النقاش عن وهب .
قال ابن عطية : وهذا كما نراه إلاَّ أن يكون إسماً وافق اسماً ، لأن الخضر معاصر لموسى ، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب .
قال بعض شيوخنا ، يحتمل أن يكون الخضر بعينه ويكون من المعمرين ، فيكون أدرك زمان خراب القرية ، وهو إلى الآن باق على قول أكثر العلماء . انتهى كلامه .
وقيل : على كافر مرّ على قرية وكان على حمار ومعه سلة تين ، قاله الحسن . وقيل : رجل من بني اسرائيل غير مسمى ، قاله مجاهد فيما حكاه مكي . وقيل : غلام لوط عليه السلام ، وقيل : شعياء .
والذي أحياها بعد خرابها : لو سك الفارسي ، حكاه السهيلي عن القتيبي .
والقريبة : بيت المقدس ، قاله وهب ، وقتادة ، والضحاك ، وعكرمة ، والربيع . أو : قرية العنب ، وهي على فرسخين من بيت المقدس ، أو : الأرض المقدسة ، قاله الضحاك ، أو : المؤتفكة ، قاله قوم ، أو : القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت ، قاله ابن زيد ، أو : دير هرقل ، قاله ابن عباس . أو : شابور أباد ، قاله الكلبي ، أو : سلماياذ ، قاله السدّي .
( وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ( قيل : المعنى خاوية من أهلها ثابتة على عروشها ، فالبيوت قائمة . وقال السَّدي . ساقطة متهدّمة جدرانها على سقوفها بعد سقوط السقوف ، وقيل : على ، بمعنى : مع ، أي : مع أبنيتها ، والعروش على هذه الأبنية .
وهذه الجملة في موضع الحال من الفاعل الذي في : مر ، أو : من قرية ، والحال من النكرة إذا تأخرت تقل ، وقيل : الجملة في موضع الصفة للقرية ، ويبعد هذا القول الواو ، و : على ، متعلقة بمحذوف إذا كان المعنى : خاوية من أهلها ، أي : مستقرة على عروشها ، أو : بخاوية إذا كان المعنى ساقطة . وقيل : على عروشها بدل من قوله : قرية ، أي : مر على عروشها ، وقيل : في موضع الصفة لقرية ، أي : مر على قرية كائنة على عروشها وهي خاوية .
( قَالَ أَنَّى يُحْىِ هَاذِهِ اللَّهُ

" صفحة رقم 303 "
بَعْدَ مَوْتِهَا ( قيل : لما خرّب بخت نصر البابلي بيت المقدس ، حين أحدثت بنو اسرائيل الأحداث ، وقف أرمياء ، أو عزير ، على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس ، لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل ، فقال هذا الكلام .
قال الزمخشري : والمارّكان كافراً بالبعث وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك ، ولكلمة الاستبعاد التي هي : أنَّى يحيي ، وقيل : عزير ، أو : الخضر ، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم . انتهى .
وقال أبو علي : لا يجوز أن يكون نبياً لأن مثل هذا الشك لا يقع للأنبياء . والإحياء والإماتة هنا مجازان ، عبر بالإحياء عن العمارة ، وبالموت عن الخراب . وقيل : حقيقتان فيكون ثم مضاف محذوف تقديره : أنَّى يحيي أهل هذه القرية ، أو يكون هذه إشارة إلى ما دل عليه المعنى من عظام أهلها البالية ، وجثثهم المتمزقة ، وأوصالهم المتفرقة ، فعلى القول بالمجاز يكون قوله : أنَّى يحيي على سبيل التلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته ، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه ، وعلى القول الثاني يكون قوله : أنَّى يحيي اعترافاً بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء واستعظاماً لقدرة المحيي ، وليس ذلك على سبيل الشك . وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكاً في قدرة الله على الإحياء ، فلذلك ضرب له المثل في نفسه .
( فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ( أي أحياه وجعل له الحركة والانتقال . قيل : لما مر سبعون سنة من موته ، وقد منعه من السباع والطير ، ومنع العيون أن تراه ، أرسل الله ملكاً إلى ملك من ملوك فارس عظيم يقال له لوسك ، فقال له : إن الله يأمرك أن تنفر بقوم ؛ فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أحسن ما كانت ، فانتدب الملك قيل ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل ، وجعلوا يعمرونها ، وأهلك الله بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه ، ونجى الله من بقي من بني اسرائيل وردّهم إلى بيت المقدس ونواحيه فعمروها ثلاثين سنة ، وكثر واحتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه .
( قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ). الظاهر أن القائل هو الله تعالى لقوله : ) كَيْفَ نُنشِزُهَا ( وقيل : هاتف من السماء ، وقيل : جبريل ، وقيل : نبي ، وقيل : رجل مؤمن شاهده حين مات وعمر إلى حين إحيائه .
وعلى اختيار الزمخشري لم يكن بعد البعث كافراً ، فلذلك ساغ أن يكلمه الله . انتهى . ولا نص في الآية على أن الله كلَّمه شفاهاً .
و : كم ، ظرف أي : كم مدّة لبثت ؟ أي : لبثت ميتاً وهو سؤال على سبيل التقرير .
( قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ( قال ابن جريج ، وقتادة ، والربيع : أماته الله غدوة يوم ثم بعثه قبل الغروب بعد مائة سنة ، فقال : قبل النظر إلى الشمس : يوماً ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس ، فقال : أو بعض يوم ، فكان قوله : يوماً على سبيل الظنّ ، ثم لما تحقق أنه لم يكمل اليوم ، قال ؛ أو بعض يوم .
والأولى أن لا تكون ، أو ، هنا للترديد ، بل تكون للإضراب ، كأنه قال : بل بعض يوم ، لما لاحت له الشمس أضرب عن الإخبار الأول الذي كان على طريق الظنّ ، ثم أخبر بالثاني على طريق التيقن عنده .
وفي قوله : أو بعض يوم ، دليل على أنه يطلق لفظ بعض على أكثر الشيء .
( قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ ( بل ، لعطف هذه الجملة على الجملة محذوفة التقدير ، قال : ما لبثت هذه المدة بل : لبثت مائة عام .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم باظهار التاء في : لبثت وقرأ الباقون بالإدغام ، وذلك في جميع القرآن .
وذكر تعيين المدة هنا في قوله : بل لبثت مائة عام ، ولم يذكر تعيينها في قوله : ) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ( وإن اشتركوا في جواب : ) لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ( لأن المبعوث في البقرة واحد فانحصرت مدّة إماتة الله إياه ، وأولئك متفاوتو اللبث تحت الأرض نحو من مات في أول الدنيا ، ومن مات في آخرها ، فلم ينحصروا تحت عدد مخصوص ، فلذلك أدرجوا تحت قوله : إلاَّ قليلاً ، لأن مدة الحياة الدنيا بالنسبة إلى حياة الآخرة قليلة ، والله تعالى محيط علمه بمدة لبث كل واحد واحد ، فلو ذكر مدة كل واحد واحد لاحتيج في عدة ذلك إلى أسفار كثيرة .
( فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ( في قصة عزير أنه لما نجا من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل

" صفحة رقم 304 "
على شط دجلة ، فطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، وعامة شجرها حامل ، فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه ، وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العنب في زق ، فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال : أنى يحيي ؟ على سبيل التعجب ، لا شكاً في البعث ، وقيل : كان شرابه لبناً . قيل : وجد التين والعنب كما تركه جنياً ، والشراب على حاله .
وقرأ حمزة ، والكسائي بحذف الهاء في الوصل على أنها هاء السكت ، وقرأ باقي السبعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف ، والأظهر أن تكون الهاء أصلية ، ويحتمل أن يكون ذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقد تقدّم الكلام على هذه اللفظة في الكلام على المفردات ، وقرأ أبي : لم يسنه ، بادغام التاء في السين ، كما قرىء : لا يسمعون ، والأصل : لا يتسمعون ، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره : لمائة سنة ، مكان : لم يتسنه . وقرأ عبد الله : وهذا شرابك لم يتسنه ، والضمير في : يتسنه مفرد ، فيحتمل أن يكون عائداً على الشراب خاصة ، ويكون قد حذف مثل هذه الجملة الحالية من الطعام لدلالة ما بعده عليه ، ويحتمل أن يكون الطعام والشراب أفرد ضميرهما لكونهما متلازمين ، فعوملا معاملة المفرد ، أو لكونهما في معنى الغذاء ، فكأنه قيل : وانظر إلى غذائك لم يتسنه وقال الشاعر في المتلازمين : وكأن في العينين حب قرنفل
أو سنبلاً كحلت به فانهلّت
والجملة من قوله : لم يتسنه ، في موضع الحال ، وهي منفية : بلم ، وزعم بعض أصحابنا أن إثبات الواو في الجملة المنفية بلم هو المختار ، كما قال الشاعر : بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم
ولم تكثر القتلى بها حين سُلَّت
وزعم بعضهم أنه إذا كان منفياً فالأولى أن ينفي : بلما ، نحو : جاء زيد ولما يضحك ، قال : وقد تكون منفية : بلم وما ، نحو : قام زيد ولم يضحك ، أو : ما يضحك ، وذلك قليل جداً . انتهى كلامه . وليس إثبات : الواو ، مع : لم ، أحسن من عدمها ، بل يجوز إثباتها وحذفها فصيحاً ، وقد جاء ذلك في القرآن في مواضع ، قال تعالى : ) فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء ( وقال تعالى : ) أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء ( ومن قال : إن النفي بلم قليل جدّاً فغير مصيب ، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في باب : الحال ، في ( منهج السالك على شرح ألفية ابن مالك ) من تأليفنا .
( وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ( قيل : لما مضت المائة أحيا الله منه عينيه وسائرُ جسده ميت ، ثم أحيا جسده وهو ينظر . ثم نظر إلى حماره ، فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح ، فسمع صوتاً من السماء : أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي ، فاجتمع بعضها على بعض ، واتصلت ، ثم نودي : إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وجلداً ، فكان كذلك . وروي أنه حين أحياه الله نهق ، وقيل : ردّ الله الحياة في عينيه وأخر جسده ميتاً ، فنظر إلى إيلياء وما حولها وهي تعمر وتجدّد ، ثم نظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير ، نظر إلى حماره واقفاً كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب أحياه الله له وهو يرى ، ونظر إلى الجبل وهو لم يتغير وقد أتى عليه ريح مائة عام ومطرها وشمسها وبردها . وقال وهب ، والضحاك : وإنظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة .
قال الزمخشري : وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء ، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير .

" صفحة رقم 305 "
) وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ ( قيل : الواو ، مقحمة أي : لنجعلك آية ، وقيل : تتعلق اللام بفعل محذوف مقدر تقديره أي : أريناك ذلك لتعلم قدرتنا ، ولنجعلك آية للناس . وقيل : بفعل محذوف مقدر تأخيره ، أي : ولنجعلك آية للناس فعلنا ذلك ، يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه . وقال الأعمش : كونه آية هو أنه جاء شاباً على حاله يوم مات ، فوجد الحفدة والأبناء شيوخاً . وقال عكرمة : جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات ، ووجد بنيه قد ينوفون على مائة سنة ، وقيل : كونه آية هو أنه جاء وقد هلك كل من يعرف ، وكان آية لمن كان حياً من قومه ، إذ كانوا موقنين بحاله سماعاً ، وقيل : أتى قومه راكب حماره ، وقال : أنا عزير ، فكذبوه ، فقال : هاتوا التوراة ، فأخذ يهذهذ عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب ، فما خرم حرفاً ، فقالوا هو : ابن الله . ولم يقرأ التوراة ظاهراً أحد قبل عزير ، فذلك كونه آية . وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه أعظم آية ، وأمره كله آية للناس غابر الدهر لا يحتاج إلى تخصيص بعض دون بعض .
والألف واللام في : للناس ، للعهد إن غنى به مَن بقي مِن قومه ، أو مَن كان في عصره . أو للجنس إذ هو آية لمن عاصره ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة .
( وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ( يعني ، بالعظام عظام نفسه ، قاله قتادة ، والضحاك ، والربيع ، وابن زيد . أو : عظام حماره ، أو عظامهما . زاد الزمخشري : أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم ، وهذا فيه بعد ، لأنهم لم يحيوا له في الدنيا ، ولا يمكن أن يكون يقال له في الآخرة ) وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ( وإنما هذا قيل له في الدنيا ، فلا يمكن حمله إلاَّ على عظامه ، أو عظام حماره ، أو عظامهما . والأظهر أن يراد عظام الحمار ، والتقدير : إلى العظام منه ، أو ، على رأى الكوفيين ، أن الألف واللام عوض من الضمير ، أي : إلى عظامه ، لأنه قد أخبر أنه بعثه ، ثم أخبر بمحاورته تعالى له في السؤال عن مقدار ما أقام ميتاً ، ثم أعقب الأمر بالنظر بالفاء ، فدل على أن إحياءه تقدم على المحاورة وعلى الأمر بالنظر .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : ننشرها ، بضم النون والراء المهملة ، وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وأبو حيوة ، وأبان عن عاصم : بفتح النون والراء المهملة ، وهما من أنشر ونشر بمعنى : أحياء ويحتمل نشر أن يكون ضد الطي ، كأن الموت طي العظام والأعضاء ، وكأن جمع بعضها إلى بعض نشر وقرأ باقي السبعة : ننشزها ، بضم النون والزاي المعجمة وقرأ النخعي : بفتح النون ، وضم الشين والزاي ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وقتادة ، قاله ابن عطية . وقال السجاوندي ، عن النخعي أنه قرأ بفتح الياء وضمها مع الراء والزاي .
ومعنى : ننشزها ، بالزاي : نحركها ، أو نرفع بعضها إلى بعض للتركيب للإحياء ، يقال : نشز وأنشزته . قال ابن عطية : وتعلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض ، وإنما النشوز الارتفاع قليلاً ، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات ، وخرج ما يوجد منها عند الاختراع . وقال النقاشي : ننشزها معناه ننبتها ، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت لك ، ومن ذلك : نشز ناب البعير ، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك ، ونشزت المرأة ، كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها ، وأنشزوا فأنشزوا أي ارتفعوا شيئاً فشيئاً كنشوز الناب ، فبذلك تكون التوسعة ، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع . ويبعد في الاستعمال لمن ارتفع في حائط أو غرفة : نشز . انتهى كلامه .
وقرأ أبي : كيف ننشيها ، بالياء أي نخلقها . وقال بعضهم : العظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض ، فالزاي أولى بهذا المعنى ، إذ هو بمعنى الإنضمام دون الإحياء ، فالموصوف بالإحياء الرجل دون العظام . ولا يقال : هذا عظم حي . فالمعنى : وانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء . انتهى .
والقراءة بالراء متواترة ، فلا تكون قراءة الزاي أولى .
و : كيف ، منصوبة بننشرها نصب الأحوال ، وذو الحال مفعول ننشرها ، ولا يجوز أن يعمل فيها : انظر ، لأن الإستفهام لا يعمل فيه ما قبله . وأعربوا : كيف ننشرها ، حالاً من العظام ، تقديره : وانظر إلى العظام محياة ، وهذا ليس بشيء ، لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالاً ، وإنما تقع حالاً : كيف ، وحدها نحو : كيف ضربت زيداً ؟ ولذلك تقول : قائماً أم قاعداً ؟ فتبدل منها الحال .
والذي يقتضيه النظر أن هذه الجملة

" صفحة رقم 306 "
في موضع البدل من العظام ، وذلك أن : انظر ، البصرية تتعدى بإلى ، ويجوز فيها التعليق ، فتقول : انظر كيف يصنع زيد ، قال تعالى : ) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( فتكون هذه الجملة في موضع نصب على المفعول : بانظر ، لأن ما يتعدّى بحرف الجر ، إذا علق صار يتعدى لمفعول ، تقول : فكرت في أمر زيد ، ثم تقول : فكرت هل يجيء زيد ؟ فيكون : هل يجيء زيد ، في موضع نصب على المفعول بفكرت ، فكيف ، ننشرها بدل من العظام على الموضع ، لأن موضعه نصب ، وهو على حذف مضاف أي : فأنظر إلى حال العظام كيف ننشزها ، ونظير ذلك قول العرب : عرقت زيداً أبو من هو : على أحد الأوجه فالجملة من قولك : أبو من هو في موضع البدل من قوله زيداً مفعول عرفت ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : عرفت قصة زيد أبو من . وليس الاستفهام في باب التعليق مراداً به معناه ، بل هذا من المواضع التي جرت في لسان العرب مغلباً عليها أحكام اللفظ دون المعنى ، ونظير ذلك : أيّ ، في باب الاختصاص . في نحو قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة ، غلب عليها أكثر أحكام النداء وليس المعنى على النداء ، وقد تقدّم من قولنا ، إن كلام العرب على ثلاثة أقسام : قسم يكون فيه اللفظ مطابقاً للمعنى ، وهو أكثر كلام العرب . وقسم يغلب فيه أحكام اللفظ كهذا الاستفهام الواقع في التعليق ، والواقع في التسوية . وقسم يغلب فيه أحكام المعنى نحو : أقائم الزيدان . وقد أمعنا الكلام على مسألة الاستفهام الواقع في التعليق في كتابنا الكبير المسمى ( بالتذكرة ) وهي إحدى المسائل التي سألني عنها قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي القشيري ، عرف بابن دقيق العيد ؛ وسألني أن أكتب له فيها ، وكان سؤاله في قوله عليه السلام : ( فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) .
( ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ( الكسوة حقيقة هي ما وارى الجسد من الثياب ، واستعارها هنا لما أنشأ من اللحم الذي غطى به العظم . كقوله : ) فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ( وهي استعارة في غاية الحسن ، إذ هي استعارة عين لعين ، وقد جاءت الاستعارة في المعنى للجرم قال النابغة : الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
حتى اكتسيت من الإسلام سربالاً
وروي أنه كان يشاهد اللحم والعصب والعروق كيف تلئم وتتواصل ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ : أن قول الله له كان بعد تمام بعثه ، لا أن القول كان بعد إحياء بعضه .
والتعقيب بالفاء في قوله : فانظر إلى آخره ، يدل على أن العظام لا يراد بها عظام نفسه ، وتقدّم ذكر شيء من هذا ، إلاَّ إن كان وضع : ننشرها ، مكان : أنشرتها ، و : نكسوها ، مكان : كسوتها ، فيحتمل . وتكرر الأمر بالنظر إلى الطعام والشراب في الثلاث الخوارق ، ولم ينسق نسق المفردات ، لأن كل واحد منها خارق عظيم ، ومعجز بالغ ، وبدأ أولاً بالنظر إلى العظام والشراب حيث لم يتغيرا على طول هذه المدة ، لأن ذلك أبلغ ، إذ هما من الأشياء التي يتسارع إليها الفساد ، إذ ما قام به الحياة وهو الحمار يمكن بقاؤه الزمان الطويل ، ويمكن أن يحتش بنفسه ويأكل ويرد المياه . كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) في ضالة الإبل : ( معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها ) . ولما أمر بالنظر إلى الطعام والشراب ، وبالنظر إلى الحمار ، وهذه الأشياء هي التي كانت صحبته ، وقال تعالى : ) وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً النَّاسِ ( أي فعلنا ذلك : ولما كان قوله : ) وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ( كالمجمل ، بين له جهة النظر بالنسبة إلى الحمار ، فجاء النظر الثالث توضيحاً للنظر الثاني ، من أي جهة ينظر إلى الحمار ، وهي جهة إحيائه وارتفاع عظامه شيئاً فشيئاً عند التركيب وكسوتها اللحم ، فليس نظراً مستقلاً ، بل هو من تمام النظر الثاني ، فلذلك حسن الفصل بين النظرين بقوله : ) وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ ).
وليس في الكلام تقديم وتأخير كما زعم بعضهم ، وأن الأنظار منسوق بعضها على بعض ، وأن قوله

" صفحة رقم 307 "
) وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ ( الخ وهو مقدّم في اللفظ ، مؤخر في الرتبة .
وفي هذه الآية أقوى دليل على البعث إذ وقعت الإماتة والإحياء في دار الدنيا مشاهدة .
( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ( قرأ الجمهور : تبين ، مبنياً للفاعل ، وقرأ ابن عباس : تبين له ، مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله . وقرأ ابن السميفع : بيه له ، بغير تاء مبنياً لما لم يسم فاعله ، فعلى قراءة الجمهور الظاهر أن تبين فعل لازم والفاعل مضمر يدل عليه المعنى ، وقدره الزمخشري : فلما تبين له ما أشكل عليه ، يعني أمر إحياء الموتى ، وينبغي أن يحمل على أنه تفسير معنى ؛ وتفسير الإعراب أن يقدر مضمراً يعود على كيفية الإحياء التي استغربها بعد الموت . وقال الطبري : لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل إعادته . قال ابن عطية : وهذا خطأ ، لأنه ألزم ما لا يقتضيه ، وفسر على القول الشاذ ، والاحتمال الضعيف ما حكى الطبري عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكاً في قدرة الله على الإحياء ، ولذلك ضرب له المثل في نفسه . إنتهى .
وقال الزمخشري وبدأ به ما نصه : وفاعل تبين مضمر تقديره : فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير ، قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قولهم : ضربني وضربت زيداً . إنتهى كلامه . فجعل ذلك من باب الإعمال ، وهذا ليس من باب الإعمال ، لأنهم نصوا على أن العاملين في هذا الباب لا بد أن يشتركا ، وأدّى ذلك بحرف العطف حتى لا يكون الفصل معتبراً ، ويكون العامل الثاني معمولاً للأول ، وذلك نحو قولك : جاءني يضحك زيد . فجعل في جاءني ضميراً أو في يضحك ، حتى لا يكونه هذا الفعل فاصلاً ، ولا يرد على هذا جعلهم ) اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ( ولا ) هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ( ولا ) تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ( ولا ) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ ( من الإعمال لأن هذه العوامل مشتركة بوجه مّا من وجوه الاشتراك ، ولم يحصل الاشتراك في العطف ولا العمل ، ولتقرير هذا بحث يذكر في النحو . فإذا كان على ما نصوا فليس العامل الثاني مشركاً بينه وبين : تبين ، الذي هو العامل الأول بحرف عطف ، ولا بغيره ، ولا هو معمول : لتبين ، بل هو معمول : لقال ، وقال جواب ، لما أن قلنا : إنها حرف وعاملة في ، لما أن قلنا إنها ظرف ، و : تبين ، على هذا القول في موضع خفض بالظرف ، ولم يذكر النحويون في مثل هذا الباب : لو جاء قتلت زيداً ، ولا : لما متى جاء قتلت زيداً ، ولا : إذا جاء ضربت خالداً . ولذلك حكى النحويون أن العرب لا تقول : أكرمت أهنت زيداً .
وقد ناقض الزمخشري في قوله : فإنه قال : وفاعل تبين مضمر ، ثم قدره ، فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال أعلم . إلى آخره ، قال : فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، كما في قولهم : ضربني وضربت زيداً ، والحذف ينافي الإضمار للفاعل ، وهذا عند البصريين إضمار يفسره ما بعده ، ولا يجيز البصريون في مثل هذا الباب حذف الفاعل أصلاً ، فإن كان أراد بالإضمار الحذف فقد خرج إلى قول الكسائي من أن الفاعل في هذا الباب لا يضمر ، لأنه يؤدي إلى الإضمار قبل الذكر ، بل يحذف عنده الفاعل ، والسماع يرد عليه . قال الشاعر : هو يتني وهويت الخرد العربا
أزمان كنت منوطاً بي هوى وصبا
وأما على قراءة ابن عباس فالجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأما في قراءة ابن السميفع فهو مضمر : أي : بين له هو ، أي : كيفية الإحياء .
وقرأ الجمهور و : قال مبنياً للفاعل ، على قراءة جمهور السبعة : أعلم ، مضارعاً ضميره يعود على المارّ ، وقال ذلك على سبيل الاعتبار ، كما أن الانسان إذا رأى شيئاً غريباً قال : لا إله إلا الله .
وقال أبو علي : معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته ، يعني يعلم عياناً ما كان يعلمه غيباً . وأما على قراءة

" صفحة رقم 308 "
أبي رجاء ، وحمزة ، والكسائي إعلم ، فعل أمر من علم ، فالفاعل ضمير يعود على الله تعالى ، أو على الملك القائل له عن الله ، ويناسب هذا الوجه الأوامر السابقة من قوله : وانظر ، فقال له : إعلم ، ويؤيده قراءة عبد الله والأعمش : قيل ، اعلم ، فبنى : قيل ، لما لم يسم فاعله ، والمفعول الذي لم يسم فاعله ضمير القول لا الجملة ، وقد تقدّم الكلام على ذلك أول هذه السورة مشبعاً فأغنى عن إعادته هنا .
وجوّزوا أن يكون الفاعل ضمير المار ، ويكون نزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي ، كأنه قال لنفسه : إعلم ، ومنه : ودّع هريرة ، وألم تغتمض عيناك ، وتطاول ليلك ، وإنما يخاطب نفسه ، نزلها منزلة الأجنبي .
وروى الجعبي عن أبي بكر قال : اعلم ، أمراً من أعلم ، فالفاعل بقال يظهر أنه ضمير يعود على الله ، أمره أن يعلم غيره بما شاهد من قدرة الله ، وعلى ما جوّزوا في : اعلم الأمر ، من علم يجوز أن يكون الفاعل ضمير المار .
البقرة : ( 260 ) وإذ قال إبراهيم . . . . .
( وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى ( مناسبة هذة الآية لما قبلها في غاية الظهور ، إذ كلاهما أتى بها دلالة على البعث المنسوب إلى الله تعالى ، في قول إبراهيم أراه ذلك في غيره ، وقدّمت آية المار على آية إبراهيم ، وإن كان إبراهيم مقدّماً في الزمان على المار ، لأنه تعجب من الإحياء بعد الموت ، وإن كان تعجب اعتبارٍ فأشبه الإنكار ، وإن لم يكن إنكاراً فكان أقرب إلى قصة النمروذ وإبراهيم ، وأما إن كان المار كافراً فظهرت المناسبة أقوى ظهور . وأما قصة إبراهيم فهي سؤال لكيفية إراءة الإحياء ، ليشاهد عياناً ما كان يعلمه بالقلب ، وأخبر به نمروذ .
والعامل في : إذ ، على ما قالوا محذوف ، تقديره : واذكر إذ قال ، وقيل : العامل مذكور وهو : ألم تر ، المعنى : ألم تر إذ قال ، وهو مفعول : بتر . والذي يظهر أن العامل في : إذ ، قوله ) قَالَ أُوْحِى لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( كما قررنا ذلك في قوله ) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ ( وفي افتتاح السؤال بقوله : رب ، حسن استلطاف واستعطاف للسؤال ، وليناسب قوله لنمروذ ) رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ ( لأن الرب هو الناظر في حاله ، والمصلح لأمره ، وحذفت ياء الإضافة اجتزاء ، بالكسرة ، وهي اللغة الفصحى في نداء المضاف لياء المتكلم ، وحذف حرف النداء للدّلالة عليه . و : أرني ، سؤال رغبة ، وهو معمول : لقال ، والرؤية هنا بصرية ، دخلت على رأى همزة النقل ، فتعدّت لاثنين : أحدهما ياء المتكلم ، والآخر الجملة الاستفهامية . فقول ) كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى ( في موضع نصب ، وتعلق العرب رأى البصرية من كلامهم ، أما ترى ، أيّ برق هاهنا . كما علقت : نظر ، البصرية . وقد تقرر .
وعلم أن الأنبياء ، عليهم السلام ، معصومون من الكبائر والصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً ، قاله ابن عطية ، والذي اخترناه أنهم معصومون من الكبائر والصغائر على الإطلاق ، وإذا كان كذلك ، فقد تكلم بعض المفسرين هنا في حق من سأل الرؤية هنا بكلام ضربنا عن ذكره صفحاً ، ونقول : ألفاظ الآية لا تدل على عروض شيء يشين المعتقد ، لأن ذلك سؤال أن يريه عياناً كيفية إحياء الموتى ، لأنه لما علم ذلك بقلبه وتيقنه ، واستدل به على نمروذ في قوله ) رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ ( طلب من الله تعالى رؤية ذلك ، لما في معاينة ذلك من رؤية اجتماع الأجزاء المتلاشية ، والأعضاء المتبدّدة ، والصور المضمحلة ، واستعظام باهر قدرته تعالى . والسؤال عن الكيفية يقتضي تيقن ما سأل عنه : وهو الإحياء وتقرره ، والإيمان به ، وأنه مما انطوى الضمير على اعتقاده . وأماما ذكره الماوردي عن بعض أهل المعاني : أن إبراهيم سأل من ربه كيف يحيي القلوب ، فتأويل ليس بشيء قالوا في سبب سؤاله أقوال أحدهما : أنه رأى دابة قد توزعتها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر ، قاله ابن زيد . أو : الفكر في الحقيقة والمجاز لما قاله نمروذ : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى ( قاله ابن إسحاق ، أو : التجربة للخلة من الله إذ بشر بها ، لأن الخليل يدل بما لا يدل غيره ، قاله ابن جبير .
( قَالَ أُوْحِى لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( الضمير في : قال ، عائد على الرب ، والهمزة للتقرير ، كقوله .

" صفحة رقم 309 "
ألستم خير من ركب المطايا
وقوله تعالى : ) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( المعنى : أنتم خير ، وقد شرحنا لك صدرك ، وكذلك هذا معناه : قد آمنت بالإحياء . قال ابن عطية ، إيماناً مطلقاً دخل فيه فعل إحياء الموتى ، والواو : واو حال ، دخلت عليها ألف التقرير . انتهى كلامه . وكون الواو هنا للحال غير واضح ، لأنها إذا كانت للحال فلا بد أن يكون في موضع نصب ، وإذ ذاك لا بد لها من عامل ، فلا تكون الهمزة للتقرير دخلت على هذه الجملة الحالية ، إنما دخلت على الجملة التي اشتملت على العامل فيها وعلى ذي الحال ، ويصير التقدير : أسألت ولم تؤمن ؟ أي : أسألت في هذه الحال ؟ .
والذي يظهر أن التقرير إنما هو منسحب على الجملة المنفية ، وأن : الواو ، للعطف ، كما قال : ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً ( ونحوه . واعتنى بهمزة الاستفهام ، فقدّمت . وقد تقدّم لنا الكلام في هذا ، ولذلك كان الجواب : ببلى ، في قوله ) قَالَ بَلَى ( وقد تقرر في علم النحو أن جواب التقرير المثبت ، وإن كان بصورة النفي ، تجريه العرب مجرى جواب النفي المحض ، فتجيبه على صورة النفي ، ولا يلتفت إلى معنى الإثبات ، وهذا مما قررناه ، أن في كلام العرب ما يلحظ في اللفظ دون المعنى ، ولذلك علة ذكرت في علم النحو ، وعلى ما قاله ابن عطية من أن : الواو ، للحال لا يتأتى أن يجاب العامل في الحال بقوله : بلى ، لأن ذلك الفعل مثبت مستفهم عنه ، فالجواب إنما يكون في التصديق : بنعم ، وفي غير التصديق : بلا ، أما أن يجاب : ببلى ، فلا يجوز ، وهذا على ما تقرر في علم النحو .
( قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ). قال الزمخشري : فإن قلت : كيف قال : أو لم تؤمن ، وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً ؟ .
قلت : ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين ، و : بلى ، إيجاب لما بعد النفي ، معناه : بلى آمنت ، ولكن ليطمئن قلبي ، ليزيد سكوناً وطمأنينة بمضامّة علم الضرورة علم الاستدال . وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب ، وأزيد للبصيرة واليقين ، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك ، بخلاف العلم الضروري ، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك . انتهى كلامه . وليس علم الاستدلال يجوز معه التشكيك كما قال ، بل منه ما يجوز معه التشكيك . أما إذا كان عن مقدمات صحيحة فلا يجوز معه التشكيك ، كعلمنا بحدوث العالم ، وبوحدانية الموجد ، فمثل هذا لا يجوز معه التشكيك .
وقال ابن عطية : ليطمئن ، معناه : ليسكن عن فكره في الشيء المعتقد ، والفكر في صورة الإحياء غير محظور ، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها ، بل هي فكر فيها عبر ، إذ حركه إلى ذلك ، أما أمر الدابة المأكولة ، وأما قول النمروذ ) أَلَمْ تَرَ أَوْ وَأُمِيتُ ). انتهى كلامه . وهو حسن .
واللام في قوله : ليطمئن ، متعلقة بمحذوف بعد لكن ، التقدير : ولكن سألت مشاهدة الكيفية لإحياء الموتى ليطمئن قلبي ، فيقتضي تقدير هذا المحذوف تقدير محذوف آخر قبل لكن حتى يصح الاستدراك ، التقدير : قال : بلى أي آمنت ، وما سألت عن غير إيمان ، ولكن سألت ليطمئن قلبي .
وروي عن : ابن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة : ليزداد يقيناً ، وعن بعضهم : لأزداد إيماناً مع إيماني . قال ابن عطية : ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلاَّ السكون عن الفكر ، وإلاَّ فاليقين لا يتبعض انتهى .
وقال النصراباذي : حنّ الخليل إلى صنع خليله ولم يتهمه في أمره ، فكأنه قوّله الشوق : أرني ، كما قال موسى عليه السلام ، ثم تعلل برؤية الصنع له تأدباً . وحكى القشيري أنه قيل : استجلب خطاباً بهذه القالة ، حتى قال له الحق : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى آمنت ، ولكن اشتقت إلى قولك : أو لم تؤمن ؟ فإني بقولك : أو لم تؤمن ؟ يطمئن قلي . والمحب أبداً يجتهد في أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه .
( قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطَّيْرِ ( لما سأل رؤية كيفية إحياء الموتى أجابة تعالى لذلك ، وعلمه كيف يصنع أولاً ، فأمره أن يأخذ أربعة من الطير ، ولم يذكر الله تعالى تعيين الأربعة من أي جنس هي من الطير ، فيحتمل أن يكون المأمور به معيناً ، وما ذكر تعيينه ،

" صفحة رقم 310 "
ويحتمل أن يكون أمر بأخذ أربعة ، أي أربعة كانت من غير تعيين ، إذ لا كبير علم في ذكر التعيين .
وقد احتلفوا فيما أخذ ، فقال ابن عباس : أخذ طاووساً ونسراً وديكاً وغراباً . وقال مجاهده ، وعكرمة ، وعطاء ، وابن جريج ، وابن زيد : كذلك ، إلاَّ أنهم جعلوا حمامة بدل النسر . وقال ابن عباس أيضاً ، فيما روى عبد الرحمن بن هبيرة عنه : أخذ حمامة وكركياً وديكاً وطاووساً . وقال في رواية الضحاك : أخذ طاووساً وديكاً ودجاجة سندية وأوزة . وقال في رواية أخرى عن الضحاك : أنه مكان الدجاجة السندية : الرأل ، وهو فرخ النعام . وقال مجاهد فيما روى ليث : ديك وحمامة وبطة وطاووس . وقال : ديك وحمامة وبطة وغراب .
وزاد عطاء الخراساني وصفاً في هذه الأربعة فقال : ديك أحمر ، وحمامة بيضاء ، وبطة خضراء ، وغراب أسود .
وقال أبو عبد الله : طاووس وحمامة وديك وهدهد ، ولما سأل ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى ، وكان لفظ الموتى جمعاً ، أجيب بأن يأخذ ما مدلوله جمع ، لا أن يأخذ واحداً . قيل : وخص هذا العدد بعينه إشارة إلى الأركان الأربعة التي في تركيب أبدان الحيوانات والنباتات ، وكانت من الطير ، قيل لأن الطير همته الطيران في السماء والارتفاع ، والخليل عليه السلام كانت همته العلوّ والوصول إلى الملكوت ، فجعلت معجزته مشاكلة لهمته ، وعلى القول الأول في تعيين الأربعة بما عين قيل : خص الطاووس إشارة إلى شدة الشغف بالأكل وطول الأمل ، والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء شهوة النكاح ، والغراب إشارة إلى شدة الحرص والطلب . وما أبدوه في تخصيص الأربعة وفي تعيينها لا تكاد تظهر حكمته فيما ذكروه ، وما أجراه الله تعالى لأنبيائه من الخوارق مختلف ، وحكمة اختصاص كل نبي بما أجرى الله له منها مغيبة عنا . ألا ترى خرق العادة لموسى في أشياء ، ولعيسى في أشياء غيرها ، ولرسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعليهم في أشياء لا يظهر لنا سر الحكمة في ذلك ؟ فكذلك كون هذه الأربعة من الطير ، لا يظهر لنا سر حكمته في ذلك .
وأمره بالأخذ للطيور وهو : إمساكها بيده ليكون أثبت في المعرفة بكيفية الإحياء ، لأنه يجتمع عليه حاسة الرؤية ، وحاسة اللمس .
والطير اسم جمع لما لا يعقل ، يجوز تذكيره وتأنيثه ، وهنا أتى مذكراً لقوله تعالى ) وَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطَّيْرِ ( وجاء على الأفصح في اسم الجمع في العدد حيث فصل : بمن ، فقيل : أربعة من الطير يجوز الإضافة ، كما قال تعالى : ) تِسْعَةُ رَهْطٍ ( ونص بعض أصحابنا على أن الإضافة لاسم الجمع في العدد نادرة لا يقاس عليها ، ونص بعضهم على أن اسم الجمع لما لا يعقل مؤنث ، وكلا القولين غير صواب .
( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ( أي قطعهنّ ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن إسحاق . وقال ابن عباس : هي بالنبطية . وقال أبو الأسود : هي بالسريانية ، وقال أبو عبيدة : قطعهنّ . وأنشد للخنساء : فلو يلاقي الذي لاقيته حضن
لظلت الشم منه وهي تنصار
أي تتقطع . وقال قتادة : فصلهنّ ، وعنه : مزقهنّ وفرقهنّ . وقال عطاء بن أبي رباح : اضممهنّ إليك . وقال ابن زيد : إجمعهنّ . وقال ابن عباس أيضاً ، أوثقهنّ . وقال الضحاك : شققهنّ ، بالنبطية . وقال الكسائي : أملهنّ .
وإذا كان : فصرهنّ ، بمعنى الإمالة فتتلعق إليك به ، وإذا كان بمعنى التقطيع تعلق بخذ .
وقرأ حمزة ، ويزيد ، وخلف ، ورويس ، بكسر الصاد ، وباقي السبعة بالضم . وهما لغتان ، كما تقدّم : صار يصور ويصير ، بمعنى أمال . وقرأ ابن عباس وقوم

" صفحة رقم 311 "
فصرهنّ ، بتشديد الراء وضم الصاد وكسرها من صرّه يصرّه ويصرّه ، إذا جمعه ، نحو : ضره يضره ويضره ، وكونه مضاعفاً متعدياً جاء على يفعل بكسر العين قليل ، وعنه : فصرهنّ ، بفتح الصاد وتشديد الراء وكسرها من التصرية ، ورويت هذه القراءة عن عكرمة . وعنه أيضاً : فصرهنّ إليك ، بضم الصاد وتشديد الراء .
وإذا تؤول : فصرهنّ ، بمعنى القطع فلا حذف ، أو بمعنى : الإمالة فالحذف ، وتقديره : وقطعهنّ واجعلهنّ أجزاءً ، وعلى تفسير : فصرهنّ بمعنى أملهنّ وضمهنّ إلى نفسك ، فإنما كان ذلك ليتأمل أشكالها وهيئاتها وحلاها لئلا يلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك .
( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا ( العموم في كل جبل مخصص بوصف محذوف أي : يليك ، أو : بحضرتك ، دون مراعاة عدد . قاله مجاهد . وروي عن ابن عباس أنه أمر أن يجعل على كل ربع من أرباع الدنيا ، وهو بعيد . وخصصت الجبال بعدد الأجزاء ، فقيل : أربعة ، قاله قتادة ، والربيع ، وقيل : سبعة ، قاله السدي ، وابن جريج ، قيل : عشرة ، قاله أبو عبد الله الوزير المغربي ، وقال عنه في رجل أوصى بجزء من ماله : إنه العشر ، إذ كانت أشلاء الطيور عشرة .
والظاهر أنه أمر أن يجعل على كل جبل ثلاثة مما يشاهده بصره ، بحيث يرى الأجزاء ، وكيف تلتئم إذا دعا الطيور .
وقرأ الجمهور جزءاً باسكان الزاي وبالهمز ، وضم أبو بكر : الزاي ، وقرأ أبو جعفر ، جزّاً ، بحذف الهمزة وتشديد الزاي ، ووجهه أنه حين حذف ضعف الزاي ، كما يفعل في الوقف ، كقولك : هذا فرج . ثم أجرى مجرى الوقف .
و : اجعل ، هنا يحتمل أن تكون بمعنى : ألق ، فيتعدى لواحد ، ويتعلق على كل جبل . باجعل ، ويحتمل أن يكون بمعنى : صير ، فيتعدى إلى اثنين ، ويكون الثاني على كل جبل ، فيتعلق بمحذوف .
( ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ( أمره بدعائهنّ أموات ، ليكون أعظم له في الآية ، ولتكون حياتها متسببة عن دعائه ، ولذلك رتب على دعائه إياهنّ إتياهنّ إليه ، والسعي هو الإسراع في الشيء .
وقال الخليل : لا يقال سعى الطائر ، يعنى على سبيل المجاز ، فيقال : وترشيحه هنا هو أنه لما دعاهنّ فأتينه تنزلن منزلة العاقل الذي يوصف بالسعي ، وكان إتيانهنّ مسرعات في المشي أبلغ في الآية ، إذ اتيانهنّ إليه من الجبال يمشين مسرعات هو على خلاف المعهود لهنّ من الطيران ، وليظهر بذلك عظم الآية ، إذ أخبره أنهنّ يأتين على خلاف عادتهنّ من الطيران ، فكان كذلك . وجعل سيرهنّ إليه سعياً ، إذ هو مشية المجد الراغب فيما يمشي إليه ، لإظهار جدها في قصد إبراهيم ، وإجابة دعوته .
وانتصاب : سعياً ، على أنه مصدر في موضع الحال من ضمير الطيور ، أي : ساعيات ، وروي عن الخليل : أن المعنى يأتينك وأنت تسعى سعياً . فعلى هذا يكون مصدر الفعل محذوف ، هو في موضع الحال من الكاف ، وكان المعنى : يأتينك وأنت ساع إليهنّ ، أي يكون منهنّ إتيان
إليك ، ومنك سعي إليهنّ ، فتلتقي بهنّ . والوجه الأول أظهر ، وقيل : انتصب : سعياً ، على أنه مصدر مؤكد لأن السعي والإتيان متقاربان . وروي في قصص الآية أن إبراهيم أخذ هذه

" صفحة رقم 312 "
الطيور وذكاها وقطعها قطعاً صغاراً ، وجمع ذلك مع الدم والريش ، وجعل من ذلك المجموع المختلط جزءاً على كل جبل ، ووقف هو من حيث يرى الأجزاء ، وأمسك رؤوس الطير في يده ثم قال : تعالين بأذن الله فتطايرت . تلك الأجزاء وصار الدم إلى الدم ، والريش إلى الريش ، حتى التأمت كما كانت أولاً ، بقيت بلا رؤوس ، ثم كرر النداء فجاءته سعياً حتى وضعت أجسادها في رؤوسها ، وطارت بإذن الله .
زاد النحاس : أن إبراهيم : كان إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر ، وإذا أشار إليه برأسه قرب منه حتى لقي كل طائر رأسه . وقال أبو عبد الله : ذبحهن ونحز أجزاءهنّ في المنحاز ، يعني الهاون إلا رؤوسهن ، وجعل ذلك المختلط عشرة أجزاء على عشرة جبال ، ثم جعل مناقيرهنّ بين أصابعه ، ثم دعاهنّ فأتين سعياً يتطاير اللحم إلى اللحم ، والريش إلى الريش ، والجلد إلى الجلد ، بقدرة الله تعالى .
وأجمع أهل التفسير أن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها وخلط بعضها ببعض مع دمائها ، وأنكر ذلك أبو مسلم ، وقال : لما طلب إبراهيم احياء الميت من الله ، أراه مثالاً قرب به الأمر عليه ، والمراد : يصرهنّ إليك : أملهنّ ، ومر بهنّ على الإجابة بحيث يصرن إذا دعوتههّن أجبنك ، فاذا صرن كذلك فاجعل على كل جبل منهنّ واحداً منها حال حياته ، ثم ادعهنّ يأتينك سعياً .
والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، وأنكر القول بالتقطيع ، قال : لأن المشهور في اللغة في : فصرهنّ ، أملهنّ وأما التقطيع والذبح ، فليس في اللفظ ما يدل عليه ، وبأنه لو كان المعنى : قطعهنّ ، لم يقل : إليك ، وتعليقه : بخذ ، خلاف الظاهر ، وبأن الضمير في ثم ادعهنّ ، وفي يأتينك عائد اليها لا إلى الأجزاء وعودة على الاجزاء المتفرقة خلاف الظاهر ، ولا دليل فيما ذكر ، واحتج الأول بإجماع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم على التقطيع ، وبأن ما ذكره غير مختص بابراهيم ، فلا مزية له . وبأنه سأله أن يريه كيف يحي الموتى ، ولا إراءة فيما ذكره أبو مسلم .
واحتج للقول الأول باجماع المفسرين الذين كانوا قبل ذلك .
والظاهر أنه أجيب بأن ظاهر : ثم اجعل ، على كل جبل منهنّ جزى ، يدل على أن تلك الطيور جعلت جزءاً جزءاً ، لأن الواحد منها سمي جزءاً ، وجعل كل واحد على جبل .
( وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( عزير لا يمتنع عليه ما يريد ، حكيم فيما يريد ويمثل ، والعزة تتضمن القدرة ، لأن الغلبة تكون عن العزة . وقيل : عزيز منتقم ممن ينكر بعث الأموات ، حكيم في نشر العظام الرفات .
وقد تضمنت هذه القصص الثلاث ، من فصيح المحاورة بذكر : قال ، سؤالاً وجواباً ، وغير ذلك من غير عطف ، إذ لا يحتاج إلى التشريك بالحرف إلاَّ إذا كان الكلام بحيث لو لم يشرك لم يستقل ، فيؤتى بحرف التشريك ليدل على معناه . أما إذا كان المعنى يدل على ذلك ، فالأحسن ترك الحرف إذا كان أخذ بعضه بعنق بعض ، ومرتب بعضه من حيث المعنى على بعض ، وقد أشرنا إلى شيء من هذا في قوله : ) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّى جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً ( ومما جاء ذلك كثيراً محاورة موسى وفرعون في سورة الشعراء وسيأتي تفسير ذلك إن شاى الله تعالى .
2 ( ) مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواْ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاٌّ ذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا

" صفحة رقم 313 "
َ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الاٌّ رْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاَ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } )
البقرة : ( 261 ) مثل الذين ينفقون . . . . .
الحبة : اسم جنس لكل ما يزرعه ابن آدم ويقتاته ، وأشهر ذلك البر ، وكثيراً ما يراد بالحب . ومنه قول المتلمس : آليت حب العراق الدهر أطعمه
والحب يأكله في القرية السوس
وحبة القلب سويداؤه ، والحِبة بكسر الحاء بذور البقل مما ليس بقوت ، والحُبة بالضم الحب والحب الحبيب .
الإنبات : الإخراج على سبيل التولد .
السنبلة : معروفة ، ووزنها فنعله ، فالنون زائدة بذلك على قولهم : أسبل الزرع أرسل ما فيه كما ينسبل الثوب ، وحكى بعض اللغويين سنبل الزرع . قال بعض أصحابنا النون أصلية ، ووزنه فعلل ، لأن فنعل لم يثبت فيكون مع أسبل كسبط وسبطر .
المنّ : ما يوزن به ، والمنّ قدر الشيء ووزنه ، والمنّ والمنة النعمة ، منّ عليه أنعم . ومن أسمائه تعالى : المنان ، والمنّ النقص من الحق والبخس له ، ومنه المنّ المذموم ، وهو ذكر المنة للمنعم عليه على سبيل الفخر عليه بذلك ، والاعتداد عليه باحسانه ، وأصل المنّ القطع ، لأن المنعم يقطع قطعة من ماله لمن ينعم عليه .
الغني : فعيل للمبالغة من غنى وهو الذي لا حاجة له إلى أحد كما قال الشاعر :
كلانا غني عن أخيه حياته
ويقال غني أقام بالمكان ، والغانية هي التي غنيت بحسنها عن التحسن .
الرئاء : فعال مصدر من راء من الرؤية ، ويجوز إبدال همزته ياء لكسرة ما قبلها ، وهو أن يرى الناس ما يفعله من البر حتى يثنوا عليه ويعظموه بذلك لا نية له غير ذلك .
الصفوان : الحجر الكبير الأملس ، وتحريك فائه بالفتح لغة ، وقيل : هو اسم جنس واحده

" صفحة رقم 314 "
صفوانة . وقال الكسائي : الصفوان واحده صفي ، وانكره المبرد ، وقال : صفي جمع صفا نحو : عصا وعصي ، وقفا وقفي . وقال الكسائي أيضاً : صفوان واحد ، وجمعه صِفوان بكر الصاد . وقاله النحاس : يجوز أن يكون المكسور الصاد واحداً . وما قاله الكسائي غير صحيح ، بل صِفوان جمع لصفا . كورل وورلان ، وأخ وإخوان . وكرى وكروان .
التراب : معروف ويقال فيه توراب ، وترب الرجل افتقر ، واترب استغنى ، الهمزة فيه للسلب ، أي : زال عنه الترب وهو القر ، وإذا زال عنه كان غنياً .
الوابل : المطر الشديد ، وبلت السماء تبل ، والأرض موبولة . وقال النضر : أول ما يكون المطر رشاً ، ثم طساً ، ثم طلاًّ ، ورذاذاً ، ثم نضحاً وهو قطرتين قطرتين ، ثم هطلاً وتهتاناً ثم وابلاً وجوداً . والوبيل : الوخيم ، والوبيل : العصا الغليظة ، والوبيلة حزمة الحطب .
الصلد : الأجرد الأملس النقي من التراب الذي كان عليه ، ومنه صلد جبين الأصلع برق . يقال : صلد يصلد صلداً . بتحريك اللام فهو صلد بالإسكان . وقال النقاش : الصلد الأجرد بلغة هذيل . وحكى أبان بن تغلب : أن الصلد هو اللين من الحجارة . وقال علي بن عيسى : الصلد ، الخالي من الخير من الحجارة والأرضين وغيرهما ، ومنه : قدر صلود : بطيئة الغليان .
الربوة : قال الخليل : أرض مرتفعة طيبة ، ويقال فيها : الرباوة ، وتثلث الراء في اللغتين ، ويقال : رابية . قال الشاعر : وغيث من الوسمي جوّ تلاعه
أجابت روابيه النجا وهواطله
وقال الأخفش : ويختار الضم في ربوة لأنه لا يكاد يسمع في الجمع إلاَّ الربا ، وأصله من ربا الشيء زاد وارتفع . وتفسير السدّي بأنها : ما انخفض من الأرض ليس بشيء .
الطل : المستدق من القطِ الخفيف ، هذا مشهور اللغة . وقال قوم ، منهم مجاهد : الطل الندى ، وهذا تجوّز . وفي ( الصحاح ) : الطل أضعف المطر ، والجمع طلال ، يقال : طلت الأرض وهو مطلوب . قال الشاعر :
ولما نزلنا منزلاً طله الندى
ويقال أيضاً : أطلها الندى ، والطلة الزوجة .
النخيل : اسم جمع أو جمع تكسير ، كنخل إسم الجنس ، كما قالوا كلب وكليب . قال الراغب : سمي بذلك لأنه منخول الأشجار وصفوها ، وذلك أنه أكرم ما ينبت ، لكونه مشبهاً للحيوان في احتياج الأنثى منه إلى الفحل في التذكير . أي التلقيح ، وأنه إذا قطع رأسه لم يثمر .
العنب : ثمر الكرم ، وهو اسم جنس ، واحده عنبة ، وجمع على أعناب . ويقال : عنباء بالمدغير منصرف على وزن سيراء في معنى العنب .
الإعصار : ريح شديدة ترتفع فيرتفع معها غبار إلى السماء يسميها العامة الزوبعة ، قاله الزجاج ، وقيل : الريح السموم

" صفحة رقم 315 "
التي تقتل ، سميت بذلك لأنها تعصر السحاب ، وجمعها أعاصير .
الاحتراق : معروف وفعله لا يتعدى ، ومتعديه رباعي ، تقول : أحرقتِ النارُ الحطب والخبز ، وحرق ناب الرجل ثلاثي لازم إذا احتك بغيره غيظاً ، ومتعد تقول : حرق الرجل نابه ، حكه بغيره من الغيظ . قال الشاعر : أبى الضيم والنعمان يحرق نابه
عليه فأفضى والسيوف معاقله
قرأناه برفع الناب ونصبه .
( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر قصة المارِّ على قرية وقصة إبراهيم ، وكانا من أدل دليل على البعث ، ذكر ما ينتفع به يوم البعث ، وما يجد جدواه هناك . وهو الإنفاق في سبيل الله ، كما أعقب قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بقوله : ) مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( وكما أعقب قتل داود جالوت ، وقوله : ) وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ ( بقوله : ) مَا يُرِيدُ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ ( فكذلك أعقب هنا ذكر الإحياء والإماتة بذكر النفقة في سبيل الله ، لأن ثمرة النفقة في سبيل الله إنما تظهر حقيقة يوم البعث : ) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا ( واستدعاء النفقة في سبيل الله مذكر بالبعث ، وخاض على اعتقاده ، لأنه لو لم يعتقد وجوده لما كان ينفق في سبيل الله ، وفي تمثيل النفقة بالحبة المذكورة إشارة أيضاً إلى البعث ، وعظيم القدرة ، إذ حبة واحدة يخرج الله منها سبعائة حبة ، فمن كان قادراً على مثل هذا الأمر العجاب ، فهو قادر على إحياء الموات ، وبجامع ما اشتركا فيه من التغذية والنمو .
ويقال : لما ذكر المبدأ والمعاد ، ودلائل صحتها ، أتبع ذلك ببيان الشرائع والأحكام والتكاليف ، فبدأ بإنفاق الأموال في سبيل الله ، وأمعن في ذلك ، ثم انتقل إلى كيفية تحصيل الأموال بالوجه الذي جوز شرعاً . ولما أمل في ذكر التضعيف في قوله : ) أَضْعَافًا كَثِيرَةً ( وأطلق في قوله : ) أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ ( فصل في هذه الآية ، وقيد بذكر المشبه به ، وما بين الآيات دلالة على قدرته على الإحياء والإماتة ، إذا لولا ذلك لم يحسن التكليف كما ذكرناه ، فهذه وجوه من المناسبة والمثل هنا الصفة ، ولذك قال : ) كَمَثَلِ حَبَّةٍ ( أي كصفة حبة ، وتقدير زيادة الكاف ، أو زيادة مثل . قول بعيد . وهذه الآية شبيهة في تقدير الحذف بقوله : ) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ ( فيحتمل أن يكون الحذف من الأول ، أي : مثل منفق الذين ، أو من الثاني : أي كمثل زارع حتى يصح التشبيه ، أو من الأول ومن الثاني باختلاف التقدير ، أي : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ومنفقهم . كمثل حبة وزارعها . وقد تقدم الكلام في تقرير هذا الوجه في قصة الكافر والناعق ، فيطالع هناك .
وهذا المثل يتضمن التحريض على الإنفاق في سبيل الله جميع ما هو طاعة ، وعائد نفعه على المسلمين ، وأعظمها وأغناها الجهاد لإعلاء كلمة الله وقيل : المراد : بسبيل الله ، هنا الجهاد خاصة ، وظاهر الإنفاق في سبيل الله يقتفي الفرض والنفل ، ويقتضي الإنفاق على نفسه في الجهاد وغيره ، والإنفاق على غيره ليتقوى به على طاعة من جهاد أو غيره . وشبه الإنفاق بالزرع ، لأن الزرع لا ينقطع .
وأظهر تاء التأنيث عند السين : الحرميان ، وعاصم ، وابن ذكوان ، وأدغم الباقون . ولتقارب السين من التاء أبدلت منها : النات ، والأكيات في : الناس ، والأكياس .
ونسب الإنبات إلى الحبة على سبيل المجاز ، إذ كانت سبباً للإنبات ، كما ينسب ذلك إلى الماء والأرض والمنبت هو الله ، والمعنى : أن الحبة خرج منها ساق ، تشعب منها سبع شعب ، في كل شعبة سنبلة ، في كل سنبلة مائة حبة ، وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر ، قالوا : والممثل به موجود ، شوهد ذلك في سنبلة الجاورس . وقال الزمخشري : هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما ، وربما فرخت ساق

" صفحة رقم 316 "
البرة في الأراضي القوية المغلة ، فبلغ حبها هذا المبلغ ، ولم لم يوجد لكان صححيحاً في سبيل الفرض والتقدير ؛ إنتهى كلامه .
وقال ابن عيسى : ذلك يتحقق في الدخن ، على أن التمثيل يصح بما يتصور ، وإن لم يعاين . كما قال الشاعر : فما تدوم على عهد تكون به
كما تلوّن في أثوابها الغول
إنتهى كلامه . وكما قال امرؤ القيس :
أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وخص سبعاً من العدد لأنه كما ذكر ، وأقصى ما تخرجه الحبة من الأسؤق . وقتال ابن عطية : قد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة ، وأما في سائر الحبوب فأكثر ، ولكن المثال وقع بمائة ، وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشرة أمثالها ، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد بسبعمائة ضعف ، ومن ذلك الحديث الصحيح . إنتهى ما ذكره .
وقيل : واختص هذا العدد لأن السبع أكثر أعداد العشرة ، والسبعين أكثر أعداد المائة ، وسبع المائة أكثر أعداد الألف ، والعرب كثيراً ما تراعي هذه الأعداد . قال تعالى : ) سَبْعَ سَنَابِلَ ( و ) سَبْعَ لَيَالٍ ( و ) سَبْعَ سُنبُلَاتٍ ( و ) سَبْعَ بَقَراتٍ ( و ) سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( و ) سَبْعُ سِنِينَ ( و ) ءانٍ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ( ) ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً ( وفي الحديث : ( إلى سبطعمائة ضعف ) ، ( إلى سبعة آلاف ) ( إلى ما لا يحصي عدده إلاَّ الله وأتى التميير هنا بالجمع الذي لا نظير له في الآحاد ، وفي سورة يوسف بالجمع بالألف والتاء في قوله : ) وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ ).
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : ) سَبْعَ سُنبُلَاتٍ ( على حقه من التمييز لجمع القله ، كما قال : ) وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ ( ؟
قلت : هذا لما قدمت عند قوله : ) ثَلَاثَةَ قُرُوء ( من وقوع أمثلة الجمع متعاورة مواقعها إنتهى كلامه . فجعل هذا من باب الاتساع ، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر على سبيل المجاز ، إذ كان حقه أن يميز بأقل الجمع ، لأن السبع من أقل العدد ، وهذا الذي قاله الزمخشري ليس على إطلاقه ، فنقول جمع السلامة بالواو والنون ، أو بالألف والتاء ، لا يميز به من ثلاثة إلى عشرة إلاَّ إذا لم يكن لذلك المفرد جمع غير هذا الجمع ، أو جاور ما أهمل فيه هذا الجمع ، وإن كان المجاور لم يهمل فيه هذا الجمع .
فمثال الأول : قوله تعالى : ) سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( فلم يجمع سماء هذه المظلة تسوى هذا الجمع وأما قوله :
فوق سبع سمائيا
فنصوا على شذوذه ، وقوله تعالى : ) سَبْعَ بَقَراتٍ ( ) عَلَيْهِمْ ءايَاتُ ( وخمس صلوات لأن البقرة والآية والصلاة ليس لها سوى هذا الجمع ، ولم يجمع على غيره .
ومثال الثاني : قوله تعالى : ) وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ ( لما عطف على : ) سَبْعَ بَقَراتٍ ( وجاوره حسن فيه جمعه بالألف والتاء ، ولو كان لم يعطف ولم يجاور لكان : ) سَبْعَ سَنَابِلَ ( ، كما في هذه الآية ، ولذلك إذا عرى عن المجاور جاء على مفاعل في الأكثر ، وأَلاوْلى ، وإن كان يجمع بالألف والتاء ، مثال ذلك قوله تعالى : ) سَبْعَ طَرَائِقَ ( و ) سَبْع

" صفحة رقم 317 "
َ لَيَالٍ ( ولم يقل : طريقات ، ولا : ليلات ، وإن كان جائزاً في جمع طريقة وليلة ، وقوله تعالى : ) عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ( ، وإن كان جائزاً في جمعه أن يكون جمع سلامة . فتقول : مسكينون ومسكينين ، وقد آثروا ما لا يماثل مفاعل من جموع الكثرة على جمع التصحيح ، وإن لم يكن هناك مجاور يقصد مشاكلته لقوله تعالى : ) ثَمَانِىَ حِجَجٍ ( وإن كان جائزاً فيه أن يجمع بالألف والتاء ، لأن مفرده حجة ، فتقول : حجات ، فعلى هذا الذي تقرر إذا كان للاسم جمعان : جمع تصحيح ، وجمع تكسير ، فجمع التكسير إما أن يكون للكثرة أو للقلة ، فإن كان للكثرة ، فإما أن يكون من باب مفاعل ، أو من غير باب مفاعل ، إن كان من باب مفاعل أوثر على جمع التصحيح ، فتقول : جاءني ثلاثة أحامد ، وثلاث زيانب ، ويجوز التصحيح على قلة ، فتقول : جاءني ثلاثة أحامد ، وثلاث زينبات ، وإن لم يكن من باب مفاعل . فإما أن يكثر فيه غير التصحيح ، وغير جمع الكثرة ، فلا يجوز التصحيح ، ولا جمع الكثرة إلاَّ قليلاً ، مثال ، ذلك : جاءني ثلاثة زيود ، وثلاث هنود ، وعندي ثلاثة أفلس ، ولا يجوز : ثلاثة زيدين ، و ، لا : ثلاث هندات ، ولا : ثلاثة فلوس ، إلاَّ قليلاً .
وإن قل فيه غير التصحيح ، وغير جمع الكثرة أوثر التصحيح وجمع الكسرة ، مثال ذلك : ثلاث سعادات ، وثلاثة شسوع ، ويجوز على قلة : ثلاث سعائد ، وثلاثة أشسع .
وتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله ) سَبْعَ سَنَابِلَ ( جاء على ما تقرر في العربية من كونه جمعاً متناهياً ، وأن قوله : ) سَبْعَ سُنبُلَاتٍ ( إنما جاز لأجل مشاكلة : ) سَبْعَ بَقَراتٍ ( ومجاورته ، فليس استعذار الزمخشري بصحيح .
و ) فِي كُلّ سُنبُلَةٍ ( في موضع الصفة : لسنابل ، فتكون في موضج جر ، أو : لسبع ، فيكون في موضع نصب ، وترتفع على التقديرين : مائة ، على الفاعل لأن الجار قد اعتمد بكونه صفته ، وهو أحسن من أن يرتفع على الابتداء ، و : في كل ، خبره ، والجملة صفة ، لأن الوصف بالمفرد أولى من الوصف بالجملة ، ولا بد من تقدير محذوف ، أي : في كل سنبلة منها ، أي : من السنابل .
وقرىء شاذاً : مائة حبة ، بالنصب ، وقدر بأخرجت ، وقدره ابن عطية بأنبتت ، والضمير عائد على الحبة ، وجوز أن ينتصب على البدل من : ) سَبْعَ سَنَابِلَ ( وفيه نظر ، لأنه لا يصح أن يكون بدل كل من كل ، لأن ) مّاْئَةُ حَبَّةٍ ( ليس نفس ) سَبْعَ سَنَابِلَ ( ولا يصح أن يكون بدل بعض من كل ، لأنه لا ضمير في البدل يعود على المبدل منه ، وليس : ) مّاْئَةُ حَبَّةٍ ( بعضاً من ) سَبْعَ سَنَابِلَ ( لأن المظروف ليس بعضاً من الظرف ، والسنبلة ظرف للحب . ألا ترى إلى قوله ) فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ ( ولا يصح أن يكون بدل اشتمال لعدم عود الضمير من البدل على المبدل منه ، ولأن المشتمل على مائة حبة هو سنبلة من سبع سنابل ، إلاَّ إن قيل : المشتمل على المشتمل على الشيء هو مشتمل على ذلك الشيء ، والسنبلة مشتمل على سبع سنابل ، فالسبع مشتملة على حب السنبلة ، فإن قدرت في الكلام محذوفاً . وهو : أنبتت حب سبع سنابل ، جاز أن يكون : ) مّاْئَةُ حَبَّةٍ ( بدل بعض من كل على حذف : حب ، وإقامة سبع مقامه .
وظاهر قوله : ) مّاْئَةُ حَبَّةٍ ( العدد المعروف ، ويحتمل أن يكون المراد به التكثير ، كأنه قيل : في كل سنبلة حب كثير ، لأن العرب تكثر بالمائة ، وتقدم لنا ذكر نحو ذلك في قوله ) وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ).
قيل : وفي هذه الآية دلالة على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحِرَفِ التي يتخذها الناس ، ولذلك ضرب الله به المثل في قوله : ) مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ( الآية . وفي ( صحيح مسلم ) . ( ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة ) . وفي رواية أخرى . ( وما رزىء فهو صدقة ) . وفي الترمذي : ( التمسوا الرزق في خبايا الأرض ) يعني : الزرع وقال بعضهم ، وقد قال له رجل : دلني على عمل أعالجه ، فقال : تتبع خبايا الأرض وادع مليكها
لعلك يوماً أن تجاب وترزقا

" صفحة رقم 318 "
والزراعة من فروض الكفاية ، فيجبر عليها بعض الناس إذا اتفقوا على تركها .
( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ( أي هذا التضعيف إذ لا تضعيف فوق سبعمائة ، وقيل : يضاعف أكثر من هذا العدد وروي عن ابن عباس : أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف . قال ابن عطية : وليس هذا بثابت الإسناد عنه . انتهى . وقال الضحاك : يضاعف إلى ألوف الألوف ، وخرّج أبو حاتم في صحيحه المسمى ( بالتقاسيم والأنواع ) عن ابن عمر قال : لما نزلت ) مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( رب زد أمّتي ) . فنزلت ) إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( وفي ( سنن النسائي ) قريب من هذا ، إلاَّ أنه ذكر بين الآيتين نزول . ) مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ).
وقوله : ) لِمَن يَشَاء ( أي : لمن يشاء التضعيف . وفيه دلالة على حذف ، ذلك بمشيئة الله تعالى وارادته . وقال الزمخشري : أي يضاعف تلك المضاعفة لا لكل منفق ، لتفاوت أحوال المنفقين ، أو يضاعف سبع المائة ويزيد عليها أضعافاً لمن يستوجب ذلك . انتهى . فقوله : لمن يستوجب ذلك ، فيه دسيسه الاعتزال .
( وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ( أي : واسع بالعطاء ، عليم بالنية . وقيل : واسع القدرة على المجازاة ، عليم بمقادير المنفقات وما يرتب عليها من الجزاء .
البقرة : ( 262 ) الذين ينفقون أموالهم . . . . .
( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا وَلا أَذًى ). قيل : نزلت في عثمان ، وقيل : في عليّ ، وقيل : في عبد الرحمن بن عوف وعثمان ، جاء ابن عوف في غزوة تبوك بأربعة آلاف درهم وترك عنده مثلها ، وجاء عثمان بألف بعير بأقتابها وأحلاسها ، وتصدق برمة ركية كانت له تصدق بها على المسلمين . وقيل : جاء عثمان بألف دينار فصبها في حجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما شبه تعالى صفة المنفق في سبيل الله بزارع الحبة التي أنجبت في تكثير حسناته ككثرة ما أخرجت الحبة ، وكان ذلك على العموم بيّن في هذه الآية أن ذلك إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه مناً ولا أذى ، لأنهما مبطلان للصدقة ، كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا ، بل يراعى جهة الاستحقاق لاجزاء من المنفق عليه ولا شكراً له ، فيكون قصده خالصاً لوجه الله تعالى ، فإذا التمس بإنفاقه الشكر والثناء كان صاحب سمعة ورياء ، وإن التمس الجزاء كان تاجراً مربحاً لا يستحق حمداً ولا شكراً . والمنّ من الكبائر ثبت في ( صحيح مسلم ) وغيره أنه أحد . ( الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) . وفي النسائي : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمانّ بما أعطى . .
وفي قوله : ) ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ ( بعد قوله : ) فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( دلالة على أن النفقة تمضي في سبيل الله ، ثم يتبعها ما يبطلها ، وهو المنّ والأذى ، وقد تبين ذلك في الآية بعدها ، فهي موقوفة ، أعني : قبولها على شريطة ، وهو أن لا يتبعها مناً ولا أذى .
وظاهر الآية يدل على أن المنّ والأذى يكونان من المنفق على المنفق عليه ، سواء كان ذلك الإنفاق في الجهاد على سبيل التجهيز أو الإعانة فيه ، أم كان في غير الجهاد . وسواء كان المنفق مجاهداً أم غير مجاهد .
وقال ابن زيد : هي في الذين لا يخرجون إلى الجهاد ، بل ينفقون وهم قعود . والآية قبلها في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم ، ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشرط على الأولين .
والأذى يشمل المن وغيره ، ونص على المن وقدم لكثرة وقوعه من المتصدّق ، فمن المن أن يقول : قد أحسنت إليه ونعشتك ، وشبهه . أو يتحدث

" صفحة رقم 319 "
بما أعطى ، فيبلغ ذلك المعطى ، فيؤذيه . ومن الأذى أن يسب المعطى ، أو يشتكي منه ، أو يقول : ما أشد إلحاحك ، و : خلصنا الله منك ، و : أنت أبداً تجيئني ، أو يكلفه الإعتراف بما أسدى إليه . وقيل : الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه . وقال زيد بن أسلم : إن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه ، تريد وجه الله ، فلا تسلم عليه . وقالت له : امرأة يا أبا اسامة ؟ دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقاً ، فانهم إنما يخرجون الفواكه ، فإن عندي أسهماً وجيعة . فقال لها : لا بارك الله في أسهمك وجيعتك ، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم .
( لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( تقدّم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته .
و ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ ( مبتدأ والجملة من قوله : ) لَهُمْ أَجْرُهُمْ ( خبر ، ولم يضمن المبتدأ معنى اسم الشرط ، فلم تدخل الفاء في الخبر ، وكان عدم التضمين هنا لأن هذه الجملة مفسرة للجملة قبلها ، والجملة التي قبلها أخرجت مخرج الشيء الثابت المفروغ منه ، وهو نسبة إنفاقهم بالحبة الموصوفة ، وهي كناية عن حصول الأجر الكثير ، فجاءت هذه الجملة ، كذلك أخرج المبتدأ والخبر فيهما مخرج الشيء الثابت المستقر الذي لا يكاد خبره يحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع ما قبله ، بخلاف ما إذا دخلت الفاء فإنها مشعرة بترتب الخبر على المبتدأ ، واستحقاقه به .
وقيل : ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ ( خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم الذين ينفقون ) وَلَهُمْ أَجْرَهُمْ ( في موضع الحال ، وهذا ضعيف ، أعنى : جعل لهم أجرهم في موضع الحال ، بل الأولى إذا أعرب : الذين ، خبر مبتدأ محذوف أن يكون : لهم أجرهم ، مستأنفاً وكأنه جواب لمن قال : هل لهم أجر ؟ وعند من أجرهم ؟ فقيل ) لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ ( وعطف : بثم ، التي تقتضي المهلة ، لأن من أنفق في سبيل الله ظاهر ألاَّ يحصل منه غالباً المنّ والأذى ، بل إذا كانت بنية غير وجه الله تعالى ، لا يمنّ ولا يؤذي على الفور ، فذلك دخلت : ثم ، مراعاة للغالب . وإن حكم المن والأذى المعتقبين للإنفاق ، والمقارنين له حكم المتأخرين .
وقال الزمخشري : ومعنى : ثم ، إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ، وأن تركهما خير من نفس الإنفاق ، كما جعل الإستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله : ) ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ( انتهى كلامه .
وقد تكرر للزمخشري ادعاء هذا المعنى لثم ، ولا أعلم له في ذلك سلفاً ، وقد تكلمنا قبل هذا معه في هذا المعنى ، و : ما ، من ) مَّا أَنفَقُواْ ( موصول عائده محذوف ، أي : أنفقوه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : إنفاقهم ، وثم محذوف ، أي : منّاً على المنفق عليه ، ولا أذى له ، وبعد ما قاله بعضهم من أن ولا أذى من صفة المعطي ، وهو مستأنف ، وكأنه قال : الذين ينفقون ولا يمنون ولا يتأذون بالإنفاق ، وكذلك يبعد ما قاله بعضهم من أن قوله : ) وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( لا يراد به في الآخرة ، وأن المعنى : إن حق المنفق في سبيل الله أن يطيب به نفسه ، وأن لا يعقبه المن ، وأن لا يشفق من فقر يناله من بعد ، بل يثق بكفاية الله ولا يحزن إن ناله فقر .
البقرة : ( 263 ) قول معروف ومغفرة . . . . .
( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ( أي : ردّ جميل من المسؤول ، وعفو من السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول من إلحاح أو سب أو تعريض بسبب ، كما يوجد في كثير من المستعطين ، وقيل : معنى و : مغفرة ، أي : نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل . وقيل : ومغفرة ، أي عفو من جهة السائل ، لأنه إذا رده ردّاً جميلاً عذره . وقيل : قول معروف ، هو الدعاء والتأسي والترجئة بما عند الله ، وقيل : الدعاء لأخيه بظهر الغيب ، وقيل : الأمر بالمعروف خير ثواباً عند الله من صدقة يتبعها أذى . وقيل : التسبيحات والدعاء والثناء والحمد لله والمغفرة ، أي : الستر على نفسه والكف عن إظهار ما ارتكب من المآثم خير ، أي : أخف على البدن من صدقة يتبعها أذى . وقيل : المغفرة الاقتصار على القول الحسن ، وقيل : المغفرة أن يسأل الله الغفران لتقصير في عطاء وسدّ خلة ، وقيل : المغفرة هنا ستر خلة المحتاج ، وسوء حاله . قاله ابن جرير ، وقيل ، لأعرابي سأل بكلام فصيح ، ممن الرجل ؟

" صفحة رقم 320 "
فقال اللهم غفراً سوء الاكتساب يمنع من الانتساب ، وقيل : أن يستر على السائل سؤاله وبذل وجهه له ولا يفضحه ، وقيل : معناه السلامة من المعصية ، وقيل : القول المعروف أن تحث غيرك على إعطائه . وهذا كله على أن يكون الخطاب مع المسؤول لأن الخطاب في الآية قبل هذا ، وفي الآية بعد هذا ، إنما هو مع المتصدّق ، وقيل : الخطاب للسائل ، وهو حث له على إجمال الطلب ، أي يقول قولاً حسناً من تعريض بالسؤال أو إظهار للغنى حيث لا ضرورة ، ويكسب خير من مثال صدقة يتبعها أذى ، واشترك القول المعروف والمغفرة مع الصدقة التي يتبعها أذى في مطلق الخيرية ، وهو : النفع ، وإن اختلفت جهة النفع ، فنفع القول المعروف والمغفرة باقٍ ، ونفع تلك الصدقة فانٍ ، ويحتمل أن يكون الخيرية هنا من باب قولهم : شيء خير من لا شيء . وقال الشاعر : ومنعك للندى بجميل قول
أحب إليّ من بذل ومنَّه
وقال آخر فأجاد : إن لم تكن ورق يوماً أجود بها
للمعتفين فإني لينُ العودِ
لا يعدم السائلون الخير من خلقي
إما نوالي وإما حسن مردود
وارتفاع : قول ، على أنه مبتدأ ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفها ، ومغفرة معطوف على المبتدأ ، فهو مبتدأ ومسوغ جواز الإبتداء به وصف محذوف أي : ومغفرة من المسؤول ، أو : من السائل . أو : من الله ، على اختلاف الأقوال . و : خير ، خبر عنهما .
وقال المهدوي وغيره : هما جملتان ، وخبر : قول ، محذوف ، التقدير : قول معروف أولى ومغفرة خير . قال ابن عطية : وفي هذا ذهاب تزويق المعنى ، وإنما يكون المقدّر كالظاهر . إنتهى . وما قاله حسن ، وجوز أن يكون : قول معروف ، خبر مبتدأ محذوف تقديره : المأمور به قول معروف ، ولم يحتج إلى ذكر المن في قوله :

" صفحة رقم 321 "
يتبعها ، لأن الأذى يشمل المن وغيره كما قلنا .
( وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ ( أي غني عن الصدقة ، حليم بتأخر العقوبة ، وقيل : غني لا حاجة به إلى منفق يمن ويؤذي ، حليم عن معاجلة العقوبة . وهذا سخط منه ووعيد .
البقرة : ( 264 ) يا أيها الذين . . . . .
( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( لما شرط في الإنفاق أن لا يتبع مناً ولا أذىً ، لم يكتفِ بذلك حتى جعل المن والأذى مبطلاً للصدقة ، ونهى عن الإبطال بهما ليقوي اجتناب المؤمن لهما ، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان . ولما جرى ذكر المن والأذى مرتين ، أعادهما هنا بالألف واللام ، ودلت الآية على أن المن والأذى مبطلان للصدقة ، ومعنى إبطالهما أنه لا ثواب فيها عند الله . والسدي يعتقد أن السيئات لا تبطل الحسنات ، فقال جمهور العلماء : الصدقة التي يعلم الله من صاحبها انه يمن ويؤذى لا تتقبل ، وقيل : جعل الله للملك عليها إمارة ، فهو لا يكتبها إذ نيته لم تكن لوجه الله .
ومعنى قوله : ) لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم ( أي : لا تأتوا بهذا العمل باطلاً ، لأنه إذا اقصد به غير وجه الله فقد أتى به على جهة البطلان . وقال القاضي عبد الجبار : معلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدّمت ، فلا يصح أن تبطل . فالمراد إذن إبطال أجرها ، لأن الأجر لم يحصل بعد ، وهو مستقبل ، فيصير إبطاله بما يأتيه من المن والأذى . إنتهى كلامه .
والمعنيان تحملهما الآية ، ولتعظيم قبح المن أعاد الله ذلك في معارض الكلام ، فأثنى على تاركه أولاً وفضل المنع على عطية يتبعها المن ثانياً . وصرح بالنهي عنها ثالثاً ، وخص الصدقة بالنهي إذ كان المن فيها أعظم وأشنع . والظاهر أن قوله : بالمن ، معناه على الفقير ، وهو قول الجمهور .
وقال ابن عباس : بالمن على الله تعالى بسبب صدقته ، والأذى للسائل . و : الكاف ، قيل في موضع نعت لمصدر محذوف تقديره إبطالاً ، كابطال صدقة الذي ينفق ، وقيل : الكاف في موضع الحال ، أي : لا تبطلوا مشبهين الذي ينفق ماله بالرياء .
وفي هذا المنفق قولان :
أحدهما : أنه المنافق ، ولم يذكر الزمخشري غيره ينفق للسمعة وليقال إنه سخي كريم ، هذه نيته ، لا ينفق لرضا الله . وطلب ثواب الآخرة ، لأنه في الباطن لا يؤمن بالله واليوم الآخر .
وقيل : المراد به الكافر المجاهر ، وذلك بإنفاقه لقول الناس : ما أكرمه وأفضله ولا يريد بإنفاقه إلاَّ الثناء عليه ، ورجح مكي القول الأول بأنه أضاف إليه الرياء ، وذلك من فعل المنافق الساتر لكفره ، وأما الكافر فليس عنده رياء لأنه مناصب للدّين مجاهر بكفره .
وانتصاب رئاء على أنه مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال .
وقرأ طلحة بي مصرف : رياءً بابدال الهمزة الأولى ياءً لكسر ما قبلها ، وهي مروية عن عاصم .
( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ( هذا تشبيه ثان ، واختلف في الضمير في قوله : ) فَمَثَلُهُ ( فأظاهر أنه عائد على ) الَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ ( لقربه منه ، ولإفراده ضرب الله لهذا المنافق المرائي ، أو الكافر المباهي ، المثل بصفوان عليه تراب ، يظنه الظان أرضاً منبتة طيبة ، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب ، فيبقى صلداً منكشفاً ، وأخلف ما ظنه الظان ، كذلك هذا المنافق يرى الناس أن له أعمالاً كما يُرى التراب على هذا الصفوان ، فإذا كان يوم القيامة اضمحلت وبطلت ، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب . وقيل : الضمير في ) فَمَثَلُهُ ( عائد على المانِّ المؤذي ، وأنه شبه بشيئين أحدهما : بالذي ينفق ماله رئاء الناس ، والثاني : بصفوان عليه تراب ، ويكون قد عدل من خطاب إلى غيبة ، ومن جمع إلى افراد .
قال القاضي عبد الجبار : ذكر تعالى لكيفية إبطال الصدقة بالمنّ والأذى مثلين ، فمثله أولاً بمن ينفق ماله رئاء الناس ، وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، لأن إبطال نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها بالمنّ والأذى . ثم مثله ثانياً بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار . ثم إذا أصابه المطر القوي فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما عليه تراب ولا غبار أصلاً ، قال : فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان ، فكذا المنّ والأذى يجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله ، وذلك صريح القول في الإحاطة والتكفير . إنتهى كلامه . وهو مبني على ما قدّمناه عنه في القول في الإحباط والتكفير في قوله : ) لاَ تُبْطِلُواْ==

مجلد 6. تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 322 "
صَدَقَاتِكُم ( من أن الصدقة وقعت صحيحة ثم بطلت بالمنّ والأذى ، وتقدّم القول بأن المعنى : لا توقعوها باطلة ، ويدل على هذا المعنى التشبيه بقوله : كالذي ينفق ، فان نفقته وقعت باطلة لمقارنة الكفر لها ، فيمتنع دخولها صحيحة في الوجود .
وأما التمثيل الثاني فإنه عند عبد الجيار وأصحابه ، جعل الوابل مزيلاً لذلك التراب بعد كينونته عليه ، فكذلك المنّ والأذى مزيلان للأجر بعد حصول استحقاقه ، وعند غيرهم أن المشبه بالتراب الواقع على الصفوان هو الصدقة المقترنة بالنية الفاسدة التي لولاها لكانت الصدقة مرتباً عليها حصول الأجر والثواب . قيل : والحمل على هذا المعنى أولى ، لأن التراب إذ وقع على الصفوان لم يكن ملتصقاً به ، ولا غائضاً فيه ، فهو في مرأى العين متصل ، وفي الحقيقة منفصل . فكذا الإنفاق المقرون بالمنّ والأذى ، يرى في الظاهر أنه عمل بر وفي الحقيقة ليس كذلك ، وعلى هذين القولين يكون التقدير : لا تبطلوا أجور صدقاتكم ، أو : لا تبطلوا أصل صدقاتكم .
وقرأ ابن المسيب ، والزهري : صفوان بفتح الفاء ، قيل : وهو شاذ في الأسماع . إنما بابه المصادر : كلغليان والتروان ، وفي الصفات نحو : رجل صيحان ، وتيس عدوان .
وارتفع تراب على الفاعلية ، أي : استقر عليه تراب ، فأصابه وابل . و : فأصابه ، معطوف على ذلك الفعل الرافع للتراب ، والضمير في : فأصابه ، عائد على الصفوان ، ويحتمل أن يعود على التراب ، وفي : فتركه ، عائد على الصفوان . وهذه الجملة جعل فيها العمل الظاهر : كالتراب ، والمانّ المؤذي ، أو المنافق كالصفوان ، ويوم القيامة كالوابل ، وعلى قول المعتزلة : المنّ والأذى كالوابل .
وقال القفال : وفيه احتمال آخر ، وهو أن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة ، فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذراً في أرض طيبة ، فهو يتضاعف له وينمو ، ألا ترى أنه ضرب المثل في ذلك بجنة فوق ربوة ؟ فهو يجده وقت الحاجة إليه . وأما المان والمؤذي والمنافق ، فكمن بذر في الصفوان لا يقبل بذراً ولا ينمو فيه شيء ، عليه غبار قليل أصابه جود فبقي مستودع بذر خالياً ، فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئاً . إنتهى ما لخص من كلامه . وحاصله : أن التشبيه انطوى من حيث المعنى على بذر وزرع .
( لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْء مّمَّا كَسَبُواْ ( اختلف في الضمير في : يقدرون ، فقيل : هو عائد على المخاطبين في قوله : ) لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم ( ويكون من باب الالتفات ، إذ هو رجوع من خطاب إلى غيبة ، والمعنى : أنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على الانتفاع بشيء مما كسبتم ، وهذا فيه بعد . وقيل : هو عائد على ) الَّذِى يُنفِقُ ( لأن : كالذي جنس ، فلك أن تراعي لفظه كما في قوله : ) يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ ( فأفرد الضمير ، ولك أن تراعي المعنى ، لأن معناه جمع ، وصار هذا ) كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ( ثم قال : ) ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ).
قال ابن عطية : وقد انحمل الكلام قبل على لفظ : الذي ، وهذا هو مهيع كلام العرب ، ولو انحمل أولاً على المعنى لقبح بعد أن يحمل على اللفظ . إنتهى كلامه .
وقد تقدّم لنا الكلام معه في شيء من هذا ، وفي الحمل على اللفظ أو المعنى تفصيل لا يوجد إلاَّ في مبسوطات النحو .
وقيل : هو عائد على معلوم غير مذكور المعنى لا يقدر أحد من الخلق على الانتفاع بذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي على الصفوان ، لأنه زال ذلك التراب وزال ما كان فيه ، فكذلك المان والمؤذي والمنافق ، لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة . وقيل : هو عائد على المرائي الكافر أو المنافق ، أو على المان ، أي : لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم ، وهو كسبهم ، عند حاجتهم إليه ، وعبروا عن النفقة بالكسب لأنهم قصدوا بها الكسب ، وهذا كقوله تعالى : ) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( وقوله : ) أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ( الآية . وقوله : ) أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ( ويكفي من ذكر العمل لغير وجه الله حديث الثلاثة الذين هم أوّل الناس يقضى عليه يوم القيامة ، وهو : المستشهد والعالم والجواد .
( وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( يعني الموافقين على الكفر ، ولا يهديهم في كفرهم بل هو ضلال محض . أو : لا يهديهم في أعمالهم ، هم على الكفر ، وفي هذا ترجح لمن قال : إن ضرب المثل عائد على الكافر .
البقرة : ( 265 ) ومثل الذين ينفقون . . . . .
( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتَ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ( لما ضرب مثل : من أنفق ماله رئاء الناس وهو غير مؤمن ، ذكر ضدّه بتمثيل محسوس للذهن ، حتى يتصوّر السامع

" صفحة رقم 323 "
تفاوت ما بين الضدّين ، وهذا من بديع أساليب فصاحة القرآن . ولما وصف صاحب النفقة بوصفين ، قابل ذلك هنا بوصفين ، فقوله : ) ابْتِغَاء مَرْضَاتَ اللَّهِ ( مقابل لقوله : ) رِئَاء النَّاسِ ( وقوله : ) وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ ( مقابل لقوله : ) وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( لأن المراد بالتثبيت توطين النفس على المحافظة عليه وترك ما يفسده ، ولا يكون إلاَّ عن يقين بالآخرة . والتقادير الثلاثة التي في قوله : ) مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ( جارية هنا ، أي : ومثل المنافقين كمثل غارس حبة ، أو : مثل نفقتهم كحبة ، أو : مثل المنفقين ونفقتهم كمثل حبة وغارسها . وجوّزوا في : ابتغاء أن يكون مصدراً في موضع الحال . أي : مبتغين ، وأن يكون مفعولاً من أجله ، وكذلك : وتثبيتاً .
قال ابن عطية : ولا يصح أن يكون ابتغاء مفعولاً من أجله ، لعطف ، وتثبيتاً عليه ، ولا يصح في : وتثبيتاً أنه مفعول من أجله ، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت .
وقال مكي في ( المشكل ) : كلاهما مفعول من أجله ، وهو مردود بما بيناه . إنتهى كلامه .
وتثبيت ، مصدر : ثبت ، وهو متعد ، ويحتمل أن يكون المفعول محذوفاً تقديره الثواب من الله تعالى ، أي : وتثبيتاً وتحصيلاً من أنفسهم الثواب على تلك النفقة ، فيكون إذ ذاك تثبيت الثواب وتحصيله من الله حاملاً على الإنفاق في سبيل الله . ومن قدر المفعول غير ذلك أي : وتثبيتاً من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية ، وجعله من أنفسهم على أن تكون : من ، بمعنى : اللام ، أي : لأنفسهم ، كما تقول : فعلت ذلك كسراً من شهوتي ، أي : لشهوتي ، فلا يتضح فيه أن ينتصب على المفعول له . قال الشعبي ، وقتادة ، والسدي ، وأبو صالح ، وابن زيد : معناه وتيقناً ، أي : أن نفوسهم لها بصائر متأكدة ، فهي تثبتهم على الإنفاق ويؤكده قراءة من قرأ : أو تبييناً من أنفسهم ، وقال قتادة أيضاً : وأحتساباً من أنفسهم . وقال الشعبي أيضاً والضحاك ، والكلبي : وتصديقاً ، أي : يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم . وقال ابن جبير ، وأبو مالك : تحقيقاً في دينهم . وقال إبن كيسان : إخلاصاً وتوطيداً لأنفسهم على طاعة الله في نفقاتهم . وقال الزجاج : ومقرين حين ينفقون أنها مما يثيب الله عليها . وقال الشعبي أيضاً : عزماً . وقال يمان أيضاً : بصيرة . وقال مجاهد ، والحسن : معناه أنهم يثبتون ، أي يضعون صدقاتهم . قال الحسن : كان الرجل إذا هم بصدقة يتثبت ، فإن كان ذلك لله أمضاه ، وإن خالطه شك أمسك .
وقد أجاز بعض المصريين أن يكون قوله : وتثبيتاً . بمعنى : تثبتاً ، فيكون لازماً . قال : والمصادر قد تختلف ، ويقع بعضها موقع بعض ، ومنه قوله : ) وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ( أي تبتلاً وردّ هذا القول بأن ذلك لا يكون بالفعل المتقدّم على المصدر نحو الآية ، أما أن يأتي بالمصدر من غير بنائه على فعل مذكور فلا يحمل على غير فعله الذي له في الأصل ، تقول : إن ثبت فعل لازم معناه : تمكن ، ورسخ ، وتحقق . وثبت معدى بالتضعيف ، ومعناه : مكن ، وحقق . قال ابن رواحة يخاطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : فثبَّت الله ما آتاك من حسن
تثبيت عيسى ونصراً كالذي نصروا
فالمعنى ، والله أعلم ، أنهم يثبتون من أنفسهم على الإيمان بهذا العمل الذي هو إخراج المال الذي هو عديل الروح في سبيل الله ابتغاء رضاً ، لأن مثل هذا العمل شاق على النفس ، فهم يعملون لتثبيت النفس على الإيمان ، وما ترجو من الله بهذا العمل الصعب ، لأنها إذا ثبتت على الأمر الصعب انقادت وذلت له .
وإذا كان التثبيت مسنداً إليهم كانت : من ، في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر ، وتكون للتبعيض ، مثلها في : هزّ من عطفه ، و : حرك من نشاطه ، وإن كان التثبيت مسنداً في المعنى إلى أنفسهم كانت : من ، في موضع نصب أيضاً صفة للمصدر تقديره : كائناً من أنفسهم .
قال الزمخشري

" صفحة رقم 324 "
فإن قلت : فما معنى التبعيض ؟
قلت : معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبتها كلها ) وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ( إنتهى . والظاهر أن نفسه هي التي تثبته وتحمله على الإنفاق في سبيل الله ، ليس له محرك إلاَّ هي ، لما اعتقدته من الإيمان وجزيل الثواب ، فهي الباعثه له على ذلك ، والمثبتة له بحسن إيمانها وجليل اعتقادها .
وقرأ عاصم الجحدري ) كَمَثَلِ حَبَّةٍ ( بالحاء والباء في : بربوة ، ظرفية ، وهي في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف . وخص الربوة لحسن شجرها وزكاء ثمرها . كما قال الشاعر ، وهو الخليل بن أحمد ، رحمه الله تعالى : ترفعت عن ندى الأعماق وانخفضت
عن المعاطش واستغنت بسقياها
شع فمال بالخوخ والرمان أسفلُها
واعتم بالنخل والزيتون أعلاها
تفسير ابن عباس : الربوة ، بالمكان المرتفع الذي لا يجرى فيه الأنهار ، إنما يريد المذكورة لقوله : ) أَصَابَهَا وَابِلٌ ( فدل على أنها ليس فيها ماء جار ، ولم يرد أن جنس الربوة لا يجرى فيها ماء ، ألا ترى قوله تعالى : ) إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ( وخصت بأن سقياها الوابل لا الماء الجاري فيها على عادة بلاد العرب بما يحسونه كثيراً .
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي : المفسرون قالوا : البستان إذا كان في ربوة كان أحسن ، وأكثر ريعاً ، وفيه لي أشكال ، لأنه يكون فوق الماء ، ولا ترتفع إليه الأنهار ، وتضربه الرياح كثيراً ، فلا يحسن ريعه . وإذا كان في وهدة انصبت إليه المياء ، ولا تصل إليه آثار الرياح ، فلا يحسن أيضاً ريعه ، وإنما يحسن ريعه في أرض مستوية ، فالمراد بالربوة ليس ما ذكروه ، وإنما هو كون الأرض طيبة بحيث إذا نظر نزول المطر عليها انتفخت وربت ، فيكثر ريعها ، وتكمل الأشجار فيها . ويؤيده : ) وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَةً ( الآية . وأنه في مقابلة المثل الأول ، والأول لا يؤثر فيه المطر ، وهو : الصفوان . انتهى كلامه . وفيه بعض تلخيص ، وما قاله قاله قبله الحسن . الربوة الأرض المستوية التي لا تعلو فوق الماء . وقال الشاعر في رياض الحزن :
ما روضة من رياض الحَزْنِ معشبة
خضراء جاد عليها وابل هطل
ولا يراد : برياض الحزن ، رياض الربا ، كما زعم الطبري ، بل : رياض الحزن هي المنسوبة إلى نجد ، ونجد يقال لها : الحزن ، وإنما نسبت الروضة إلى الحزن وهو نجد ، لأن نباته أعطر ، ونسيمه أبرد ، وأرق . فهي خير من رياض تهامة .
وقرأ ابن عامر ، وعاصم بفتح الراء ، وباقي السبعة بالضم . وكذلك خلافهم في ) قَدْ أَفْلَحَ ( وقرأ ابن عباس بكسر الراء وقرأ أبو جعفر ، وأبو عبد الرحمن : برباوة ، على وزن : كراهة . وأبو الأشهب العقيلي : برباوة ، على وزن رسالة .
( أَصَابَهَا وَابِلٌ ( جملة في موضع الصفة لجنة ، وبدىء بالوصف بالمجرور ، ثم بالوصف بالجملة ، وهذا الأكثر في لسان العرب ، وبدىء بالوصف الثابت ، وهو : كونها بربوة ، ثم بالوصف العارض ، وهو ) أَصَابَهَا وَابِلٌ ( وجاء في وصف صفوان قوله : عليه تراب ، ثم عطف عليه بالفاء ، وهنا لم يعطف ، بل أخرج صفة ، وينظر ما الفرق بين الموضعين ، وجوَّز أن يكون : ) أَصَابَهَا وَابِلٌ ( حالاً من جنة . لأنها نكرة ، وقد وصفت حالاً من الضمير في الجار والمجرور .
( فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ( آتت بمعنى : أعطت ، والمفعول الأول محذوف ، التقدير : فآتت صاحبها ، أو : أهلها أكلها . كما حذف في قوله ) كَمَثَلِ جَنَّةٍ ( أي : صاحب أو : غارس جنة ، ولأن المقصود ذكر ما يثمر لا لمن تثمر ، إذ هو معلوم ، ونصب : ضعفين ، على الحال ، ومن زعم أن : ضعفين ، مفعول ثان : لآتت ، فهو ساه ، وليس المعنى عليه ، وكذلك قول من زعم إن آتت بمعنى أخرجت ، وأنها تتعدى لواحد ، إذ لا يعلم ذلك في لسان العرب ، ونسبة الإيتاء إليها مجاز ، والأكل بضم الهمزة الشيء

" صفحة رقم 325 "
المأكول ، وأريد هنا الثمر ، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص ، كسرج الدابة ، إذ ليس الثمر مما تملكه الجنة .
وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو بضم الهمزة ، وإسكان الكاف ، وكذا كل مضاف إلى مؤنث . ونقل أبو عمرو فيما أضيف إلى غير مكني ، أو إلى مكني مذكر ، والباقون بالتثقيل .
ومعنى : ضعفين : مِثْلا ما كانت تثمر بسبب الوابل ، وبكونه في ربوة ، لأن ريع الربا أكثر ، ومن السيل والبرد أبعد ، وقيل : ضعفي غيرها من الأرضين ، وقيل : أربعة أمثالها ، وهذا مبني على أن ضعف الشيء مثلاه .
وقال أبو مسلم : ثلاثة أمثالها ، قال تاج القراء . وليس لهذا في العربية وجه ، وإيتاء الضعفين هو في حمل واحد وقال عكرمة ، وعطاء : معنى ضعفين أنها حملت في السنة مرتين . ويحتمل عندي أن يكون قوله : ضعفين ، مما لا يزاد به شفع الواحد ، بل يكون من التشبيه الذي يقصد به التكثير . وكأنه قيل : فآتت أكلها ضعفين ، ضعفاً بعد ضعف أي : أضعافاً كثيرة ، وهذا أبلغ في التشبيه للنفقة بالجنة ، لأن الحسنة لا يكون لها ثواب حسنتين ، بل جاء تضاعف أضعافاً كثيرة ، وعشر أمثالها ، وسبع مائة وأزيد .
( فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ( قال ابن عيسى : فيه إضمار ، التقدير : فإن لم يكن يصيبها وابل كما قال الشاعر :
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
أي : لم تكن تلدني ، والمعنى : أن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين ، وذلك أكرم الأرض وطيبها ، فلا تنقص ثمرتها بنقصان المطر . وقيل : المعنى فإن لم يصبها وابل فيتضاعف ثمرها ، وأصابها طل فأخرجت دون ما تخرجه بالوابل ، فهي على كل حال لا تخلو من أن تثمر . قال الماوردي : زرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعاً ، وفيه : وإن قل تماسك ونفع . انتهى .
ودعوى التقديم والتأخير في الآية ، على ما قاله بعضهم ، من أن المعنى أصابها وابل ، فإن لم يصبها وابل فطل ، فآتت أكلها ضعفين حتى يجعل ايتاؤها الأكل ضعفين على الحالين من الوابل والطل ، لا حاجة إليها . والتقديم والتأخير من ضرورات الشعر ، فينزه القرآن عن ذلك .
قال زيد بن أسلم : المضروب به المثل أرض مصر ، إن لم يصبها مطر زكت ، وإن أصابها مطر أضعفت .
قال الزمخشري : مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل ، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة ، فكذلك نفقتهم كثيرة ، كانت أو قليلة ، بعد أن يطلب بها وجه الله ويبذل فيها الوسع ، زاكية عند الله ، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده . انتهى كلامه .
وقال الماوردي قريباً من كلام الزمخشري ، قال : أراد بضرب هذا المثل أن كثير البر مثل زرع المطر ، كثير النفع ، وقليل البر مثل زرع الطل ، قليل النفع . فلا يدع قليل البر إذا لم يفعل كثيره ، كما لا يدع زرع الطل إذا لم يقدر على زرع المطر . انتهى كلامه .
وقال ابن عطية : شبه نموّ نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفصيل والفلو ، بنموّ نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة ، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلداً .
وقال ابن الجوزي : معنى الآية أن صاحب هذه الجنة لا يخيب فإنها إن أصابها الطل حسنت ، وإن أصابها الوابل أضعفت ، فكذلك نفقة المؤمن المخلص . انتهى .
وقوله : فطل جواب للشرط ، فيحتاج إلى تقدير بحيث تصير جملة ، فقدره المبرد مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه ، أي : فطل يصيبها ، وابتدىء بالنكرة لأنها جاءت في جواب الشرط . وذكر بعضهم أن هذا من مسوّغات جواز الابتداء بالنكرة ، ومثله ما جاء في المثل : إن ذهب عير فعير في الرباط . وقدره غير المبرد : خبر مبتدأ محذوف . أي : فالذي يصيبها ، أو : فمصيبها طلٌ ، وقدره بعضهم فاعلاً ، أي فيصيبها طل ، وكل هذه التقادير سائغة . والآخر يحتاج فيه إلى

" صفحة رقم 326 "
حذف الجملة الواقعة جواباً ، وإبقاء معمول لبعضها ، لأنه متى دخلت الفاء على المضارع فإنما هو على إضمار مبتدأ ، كقوله تعالى ) وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ( أي فهو ينتقم ، فكذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا أي : فهي ، أي : الجنة يصيبها طل ، وأما في التقديرين السابقين فلا يحتاج إلاَّ إلى حذف أحد جزئي الجملة ، ونظير ما في الآية قوله : ألا إن لا تكن إبل فمعزى
كأن قرون جلتها العصيّ
) وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( قرأ الزهري ، بالياء ، فظاهره أن الضمير يعود على المنافقين ، ويحتمل أن يكون عاماً فلا يختص بالمنافقين ، بل يعود على الناس أجمعين .
وقرأ الجمهور بالتاء ، على الخطاب ، وفيه التفات . والمعنى : أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من الأعمال والمقاصد من رياء وإخلاص ، وفيه وعد ووعيد .
البقرة : ( 266 ) أيود أحدكم أن . . . . .
( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ( لما تقدّم النهي عن إبطال الصدقة بالمن والأذى ، وشبه فاعل ذلك بالمنفق رئاء ، ومثل حاله بالصفوان المذكور ، ثم مثل حال من أنفق ابتغاء وجه الله ، أعقب ذلك كله بهذه الآية ، فقال السدّي : هذا مثل آخر للمرائي وقال ابن زيد : هو مثل للمان في الصدقة ، وقال مجاهد ، وقتادة ، والربيع ، وغيرهم : للمفرط في الطاعة . وقال ابن جريج : لمن أعطي الشباب والمال ، فلم يعمل حتى سلبا وقال ابن عباس : لمن عمل أنواع الطاعات كجنة فيها من كل الثمرات ، فختمها بإساءة كإعصار ، فشبه تحسره حين لا عود ، بتحسر كبير هلكت جنته أحوج ما كان إليها ، وأعجز عن عمارتها ، وروي نحو من هذا عن عمر وقال الحسن : هذا مثل قل والله من يعقله : شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه ، أفقر ما كان إلى جنته ، وأن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا .
والهمزة للاستفهام ، والمعنى على التبعيد والنفي ، أي : ما يود أحد ذلك ؟ و : أحد ، هنا ليس المختص بالنفي وشهبه ، وإنما المعنى : أيود واحد منكم ؟ على طريق البدلية .
وقرأ الحسن : جنات ، بالجمع .
( مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ( لما كان النخيل والأعناب أكرم الشجر وأكثرها منافع ، خصا بالذكر ، وجعلت الجنة منهما ، وإن كان في الجنة غيرهما ، وحيث جاء في القرآن ذكر هذا ، نص على النخيل دون الثمرة . وعلى ثمرة الكرم دون الكرم ، وذلك لأن أعظم منافع الكرم هو ثمرته دون أصله ، والنخيل كله منافعه عظيمة ، توازي منفعة ثمرته من خشبه وجريده وليفه وخوصه ، وسائر ما يشتمل عليه ، فلذلك ، والله أعلم ، اقتصر على ذكر النخيل وثمرة الكرم .
( تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( تقدّم شرح هذا في أول هذه السورة .
( لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ ( هذا يدل على أنه فيه أشجار غير النخيل والكرم ، كما ذكرنا قبل هذا الظاهر ، وأجاز الزمخشري أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها .
وهذه الجملة مركبة من مبتدأ وخبر ، فعلى مذهب الأخفش : من ، زائدة التقدير : له فيها كل الثمرات ، على إرادة التكثير . بلفظ العموم ، لا أن العموم مراد ، ولا يجوز أن تكون زائدة على مذهب الكوفيين ، لأنهم شرطوا في زيادتها أن يكون بعدها نكرة ، نحو : قد كان من مطر ، وأما على مذهب جمهور البصريين ، فلا يجوز زيادتها ، لأنهم شرطوا أن يكون قبلها غير موجب ، وبعدها نكرة ، ويحتاج هذا إلى تقييد ، قد ذكرناه في كتاب ( منهج السالك ) من تأليفنا . ويتخرج مذهب جمهور البصريين على حذف المبتدأ المحذوف تقديره ، له فيها رزق ، أو : ثمرات من كل الثمرات . ونظيره في الحذف قول الشاعر :

" صفحة رقم 327 "
كأنك من جمال بني أقيش
تقعقع خلف رجليه بشن
التقدير : كأنك جمل من جمال بني أقيش ، حذف : جمل ، لدلالة : من جمال ، عليه ، كما حذف ثمرات لدلالة : من كل الثمرات ، عليه وكذلك قوله تعالى ) وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( أي : وما أحد منا ، فأحد مبتدأ محذوف ، و : منا ، صفة ، وما بعد إلاَّ جملة خبر عن المبتدأ .
( وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ ( الظاهر أن الواو للحال ، وقد مقدرة أي وقد أصابه الكبر ، كقوله : ) وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( ) وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا ( أي : وقد كنتم ، و : قد قعدوا ، وقيل : معناه . ويصيبه ، فعطف الماضي على المضارع لوضعه موضعه وقال الفراء : يجوز ذلك في : يود ، لأنه يتلقى مرة بأن ، ومرة بأو ، فجاز أن يقدر أحدهما مكان الآخر قال الزمخشري : وقيل ، يقال : وددت لو كان كذا ، فحمل العطف على المعنى ، كأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة ، وأصابه الكبر ؟ انتهى .
وظاهر كلامه أن يكون : وأصابه ، معطوفاً على متعلق : أيود ، وهو : أن تكون ، لأنه في معنى : لو كانت ، إذ يقال : أيود أحدكم لو كانت ؟ وهذا ليس بشيء ، لأنه ممتنع من حيث : أن يكون ، معطوفاً على : كانت ، التي قبلها لو ، لأنه متعلق الود ، وأما : وأصابه الكبر ، فلا يمكن أن يكون متعلق الود ، لأن إصابة الكبر لا يوده أحد ، ولا يتمناه ، لكن يحمل قول الزمخشري على أنه : لما كان : أيود ، استفهاماً ، معناه الإنكار ، جعل متعلق الودادة الجمع بين الشيئين ، وهما كون جنة له ، وأصابة الكبر إياه ، لا أن كل واحد منهما يكون مودوداً على انفراده ، وإنما أنكر وداده الجمع بينهما ، وفي لفظ الإصابة معنى التأثير ، وهو أبلغ من : وكبر ، وكذلك بربوة أصابها وابل ، وعليه تراب فأصابه وابل ، ولم يأت : وبلت ، ولا توبل .
والكبر الشيخوخة ، وعلو السن .
( وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء ( وقرىء : ضعاف ، وكلاهما جمع : ضعيف ، كظريف وظرفاء . وظراف ، والمعنى ذرية صبية صغار ، ويحتمل أن يراد بضعفاء : محاويج .
( فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ( قال فيه ، فأتى بالضمير مذكراً ، لأن الإعصار مذكر من سائر أسماء الرياح ، وارتفاع : نار ، على الفاعلية بالجار قبله ، أو : كائن فيه نار ، وفي العطف بالفاء في قوله : فأصابها إعصار ، دليل على أنها حين أزهت وحسنت للانتفاع بها أعقبها الإعصار .
( فَاحْتَرَقَتْ ( هذا فعل مطاوع لأحرق ، كأنه قيل : فيه نار أحرقتها فاحترقت ، كقوله : أنصفته فانتصف ، وأوقدته فاتقد . وهذه المطاوعة هي انفعال في المفعول يكون له قابلية للواقع به ، فيتأثر له .
والنار التي في الإعصار هي السموم التي تكون فيها . وقال ابن مسعود : السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من النار ، يعني ، نار الآخرة ، وقد فسر أنها هلكت بالصاعقة . وقال الحسن ، والضحاك . إعصار فيه نار ، أي : ريح فيها صر برد .
( كَذالِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ( أي : مثل هذا البيان تصرف الأمثال المقربة الأشياء للذهن ، يبين لكم العلامات التي يوصل بها إلى اتباع الحق .
( لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( أي : تعلمون أفكاركم فيما يفنى ويضمحل من الدنيا ، وفيما هو باق لكم في الآخرة ، فتزهدون في الدنيا ، وترغبون في الآخرة .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ضروب الفصاحة وصنوف البلاغة أنواعاً : من الانتقال من الخصوص إلى العموم ، ومن الإشارة ، ومن التشبيه ، ومن الحذف ، ومن الاختصاص ، ومن الأمثال ، ومن المجاز . وكل هذا قد نبه عليه غضون تفسير هذه الآيات .

" صفحة رقم 328 "
( سقط : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبيتم ووما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم باخذيه إلا أن تغمضوا فيه وأعلموا أن الله غني حميد ، الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة ومنه وفضلا والله واسع عليم ، يؤتى الحكمة من يشاء ومن أوتى الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ، وماأنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين منأنصار ، إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم سيئاتكم والله بما تعملون خبير ، ( 2 ( ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاًّنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الاٌّ رْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْألُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ) ) 2
البقرة : ( 267 ) يا أيها الذين . . . . .
التيمم : القصد يقال أمّ كردّ . وأمم كأخر ، وتيمم بالتاء والياء ، وتأمّم بالتاء والهمزة ، وكلها بمعنى . وقال الخليل أممته قصدت أمامه ، ويممته قصدته من أي جهة كانت .
الخبيث : الرديء وهو ضد الطيب اسم فاعل من خبث .
الإغماض : التساهل يقال : أغمض في حقه تساهل فيه ورضى به ، والإغماض تغميض العين ، وهو كالإغضاء . وأغمض الرجل أتى غامضاً من الأمر ، كما يقال : أعمن وأعرق وأنجد ، أي : أتى عمان والعراق ونجداً ، وأصل هذه الكلمة من الغموض وهو : الخفاء ، غمض الشيء يغمض غموضاً خفي ، وإطباق الجفن إخفاء للعين ، والغمض المتطامن الخفي من الأرض .
الحميد : المحمود فعيل بمعنى مفعول ، ولا ينقاس ، وتقدّمت أقسام فعيل في أول هذه السورة . وتفسير الحمد في أوّل سورته .
النذر : تقدّمت مادّته في قوله : ) أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ ( وهو عقد الإنسان ضميره على فعل شيء والتزامه . وأصله من الخوف ، والفعل منه . نذر ينذر وينذر ، بضم الذال وكسرها ، وكانت النذور من سيرة العرب يكثرون منها فيما يرجون وقوعه ، وكانوا أيضاً ينذرون قتل أعدائهم كما قال الشاعر : الشاتمي عرضي ، ولم أشتمهما
والناذرين إذ لقيتهما دمي

" صفحة رقم 329 "
وأما على ما ينطلق شرعاً فسيأتى بيانه إن شاء الله .
نعم : أصلها نعم ، وهي مقابلة بئس ، وأحكامها مذكورة في النحو ، وتقدّم القول في : بئس ، في قوله : ) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ).
التعفف : تفعل من العفة ، عف عن الشيء أمسك عنه ، وتنزه عن طلبه ، من عشق فعف فمات مات شهيداً . أي : كف عن محارم الله تعالى ، وقال رؤبة بن العجاج : فعف عن أسرارها بعد الغسق
ولم يدعها بعد فرك وعشق
السيما : العلامة ، ويمد ويقال : بالسيمياء ، كالكيمياء . قال الشاعر : غلام رماه الله بالحسن يافعا
له سيمياء لا تشق على البصر
وهو من الوسم ، والسمة العلامة ، جعلت فأؤه مكان عينه ، وعينه مكان فائه ، وإذا مدّ : سيمياء ، فالهمزة فيه للإلحاق لا للتأنيث .
الإلحاف : الإلحاح واللجاج في السؤال ، ويقال : ألحف وأحفى ، واشتقاق : الإلحاف ، من اللحاف ، لأنه يشتمل على وجوه الطلب في كل حال ، وقيل : مِن : ألحف الشيء إذا اغطاه وعمه بالتغطية ، ومنه اللحاف . ومنه قول أبن أحمر : يظل يحفهنّ بقفقفيه
ويلحفهنّ هفهافاً ثخينا
يصف ذكر النعام يحضن بيضاً بجناحيه ، ويجعل جناحه كاللحاف . وقال الشاعر : ثم راحوا عبق المسك بهم
يلحفون الأرض هدّاب الأزر
أي : يجعلونها كاللحاف للأرض ، أي يلبسونها إياها . وقيل : اشتقاقه من لحف الجبل لما فيه من الخشونة ، وقيل : من قولهم : لحفني من فضل لحافه ، أي : أعطاني من فضل ما عنده .
( تَتَفَكَّرُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ( تظافرت النصوص في الحديث على أن سبب نزول هذه الآية هو أنهم لما أمروا بالصدقة كانوا يأتون بالأقناء من التمر فيعلقونها في المسجد ليأكل منها المحاويج ، فجاء بعض الصحابة بحشف ، وفي بعض الطرق : بشيص ، وفي بعضها : برديء ، وهو يرى أن ذلك جائز ، فنزلت . وهذا الخطاب بالأمر بالإنفاق عامّ لجميع هذه الأمّة . قال علي ، وعبيدة السلماني ، وابن سيرين : هي في الزكاة المفروضة ، وأنه كما يجوز التطوّع بالقليل فله أن يتطوع بنازل في القدر ، ودرهم زائف خير من تمرة ، فالأمر

" صفحة رقم 330 "
على هذا للوجوب .
والظاهر من قول البراء بن عازب ، والحسن ، وقتادة : أنها في التطوع ، وهو الذي يدل عليه سبب النزول ندبوا إلى أن لا يتطوّعوا إلا بجيد مختار .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما ذكر فضل النفقة في سبيل الله وحث عليها ، وقبح المنة ونهى عنها ، ثم ذكر القصد فيها من الرياء وابتغاء رضا الله ، ذكر هنا وصف المنفق من المختار ، وسواء كان الأمر للوجوب أو للندب .
والأكثرون على أن : ) طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ( هو الجيد المختار ، وأن الخبيث هو الرديء . وقال ابن زيد : من طيبات ، أي : الحلال والخبيث الحرام ، وقال علي : هو الذهب والفضة . وقال مجاهد : هو أموال التجارة .
قال ابن عطية قوله : ) مِن طَيّبَاتِ ( يحتمل أن لا يقصد به لا الحل ولا الجيد ، لكن يكون المعنى كأنه قال : أنفقوا مما كسبتم ، فهو حض على الإنفاق فقط ، ثم دخل ذكر الطيب تبييناً لصفة حسنه في المكسوب عاماً ، وتقريراً للنعمة . كما تقول : أطعمت فلاناً من مشبع الخبز ، وسقيته من مروي الماء ، والطيب على هذه الجهة يعم الجودة ، والحل ، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال : ليس في مال المؤمن من خبيث . إنتهى كلامه .
وظاهر قوله : ) مَّا كَسَبْتُم ( عموم كل ما حصل بكسب من الإنسان المنفق ، وسعاية وتحصيل بتعب ببدن ، أو بمقاولة في تجارة . وقيل : هو ما استقر عليه الملك من حادث أو قديم ، فيدخل فيه المال الموروث لأنه مكسوب للموروث عنه .
الضمير في كسبتم إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين ، وهو الظاهر .
وقال الراغب : تخصيص المكتسب دون الموروث لأن الإنسان بما يكتسبه أضن به مما يرثه ، فاذن الموروث معقول من فحواه . إنتهى . وهو حسن .
و : مِنْ ، للتبعيض ، وهي في موضع المفعول ، و : ما ، في ) مَّا كَسَبْتُم ( موصولة والعائد محذوف ، وجوز أن تكون مصدرية ، فيحتاج أن يكون المصدر مؤولاً بالمفعول ، تقديره : من طيبات كسبكم ، أي : مكسوبكم .
وظاهر الآية يدل على أن الأمر بالإنفاق عام في جميع أصناف الأموال الطيبة ، مجمل في المقدار الواجب فيها ، مفتقر إلى البيان بذكر المقادير ، فيصح الإحتجاج بها في إيجاب الحق فيما وقع الخلاف فيه ، نحو : أموال التجارة ، وصدقة الخيل ، وزكاة مال الصبي ، والحلي المباح اللبس غير المعد للتجارة ، والعروض ، والغنم ، والبقر المعلوفة ، والدين ، وغير ذلك مما اختلف فيه .
وقال خويزمنداذ : في الآية دليل على بجواز أكل الوالد من مال الولد ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( أولادكم من طيب أكسابكم فكلوا من مال أولادكم هنيأً ) إنتهى .
وروت عائشة عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه ) .
( وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الاْرْضِ ( يعني من أنواع الحبوب والثمار والمعادن والركاز ، وفي قوله : أخرجنا لكم ، امتنان وتنبيه على الإحسان التام كقوله : ) هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( والمراد : من طيبات ما أخرجنا ، فحذف لدلالة ما قبله . وما بعده عليه ، وكرر حرف الجر على سبيل التوكيد ، أو إشعاراً بتقدير عامل آخر ، حتى يكون الأمر مرتين .
وفي قوله : ) وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الاْرْضِ ( دلالة على وجوب الزكاة فيما تخرجه الأرض من قليل وكثير من سائر الأصناف لعموم الآية ، إذ قلنا إن الأمر للوجوب ، وبين العلماء خلاف في مسائل كثيرة مما أخرجت الأرض تذكر في كتب الفقه .
( وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ( هذا مؤكد للأمر ، إذ هو مفهوم من قوله : ) أَنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ( وفي هذا طباق بذكر الطيبات والخبيث .
وقرأ البزي : ولا تمموا ، بتشديد التاء ، أصله : تتيمموا ، فأدغم التاء في التاء ، وذلك في مواضع من القرآن ، وقد حصرتها في قصيدتي في القراءات المسماة ( عقدة اللآلىء ) وذلك في أبيات وهي : تولوا بأنفال وهود هما معا
ونور وفي المحنه بهم قد توصلا

" صفحة رقم 331 "
تنزل في حجر وفي الشعرا معا
وفي القدر في الأحزاب لا أن تبدّل
ا تبرجن مع تناصرون تنازعوا
تكلم مع تيمموا قبلهن لا
تلقف أنى كان مع لتعارفوا
وصاحبتيها فتفرّق حصلا
بعمران لا تفرقوا بالنساء أتى
توفاهم تخيرون له انجلا
تلهى تلقونه تلظى تربصو
ن زد لا تعارفوا تميز تكملا
ثلاثين مع احدى وفي اللات خلفه
تمنون مع ما بعد ظلتم تنزلا
وفي بدئه خفف ، وإن كان قبلها
لدى الوصل حرف المدِّ مُدَّ وطَوِّلا
وروي عن أبي ربيعة ، عن البزي : تخفيف التاء كباقي القراء ، وهذه التاءات منها ما قبله متحرك ، نحو : ) فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ( ) فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ ( ومنها ما قبله ساكن من حرف المد واللين نحو : ) وَلاَ تَيَمَّمُواْ ( ومنها ما قبله ساكن غير حرف مدّولين نحو : ) فَإِن تَوَلَّوْاْ ( ) نَّارٍ تَلَظَّى ( ) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ( ) هَلْ تَرَبَّصُونَ ( قال صاحب ( الممتع ) : لا يجيز سيبويه إسكان هذه التاء في يتكلمون ونحوه ، لأنها إذا سكنت احتيج لها ألف وصل ، وألف الوصل لا تلحق الفعل المضارع ، فإذا اتصلت بما قبلها جاز ، لأنه لا يحتاج إلى همزة وصل . إلاَّ أن مثل ) أَن تُوَلُّواْ ( و ) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ( لا يجوز عند البصريين على حال لما في ذلك من الجمع بين الساكنين ، وليس الساكن الأول حرف مدولين . إنتهى كلامه .
وقراءة البزي ثابتة تلقتها الأمة بالقبول ، وليس العلم محصوراً ولا مقصوراً على ما نقله وقاله البصريون ، فلا تنظر إلى قولهم : إن هذا لا يجوز .
وقرأ عبد الله : ولا تأمموا ، من : أممت ، أي : قصدت . وقرأ ابن عباس ، والزهري ، ومسلم بن جندب : تيمموا .
وحكى الطبري أن في قراءة عبد تالله ولا تأمّوا ، من : أممت ، أي : قصدت ، والخبيث والطيب صفتان غالبتان لا يذكر معهما الموصوف إلاَّ قليلا ، ولذلك جاء : ) وَالطَّيّبُونَ لِلْطَّيّبَاتِ ( وجاء : ) وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ( وقال تعالى : ) وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أعوذ بالله من الخبث والخبائث ) .
ومنه متعلق بقوله : تنفقون ، والضمير في : منه ، عائد على الخبيث . و : تنفقون ، حال من الفاعل في : تيمموا ، قيل : وهي حال مقدرة ، لأن الإنفاق منه يقع بعد القصد إليه ، ويجوز أن يكون حالاً من المفعول ، لأن في الكلام ضميراً يعود عليه ، وأجاز قوم أن يكون الكلام في قوله : الخبيث ، ثم ابتدأ خبراً آخر في وصف الخبيث ، فقال : تنفقون منه وأنتم لا تأخذونه إلاَّ إذا أغمضتم ، أي تساهلتم ، كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع ، وفيه تنبيه على أن المنهي عنه هو القصد للرديء من جملة ما في يده ، فيخصه بالإنفاق في سبيل الله ، وأما إنفاق الرديء لمن ليس له غيره ، أو لمن لا يقصده ، فغير منهي عنه .
( وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ ). وقيل : هذه الجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل : الواو للحال ، فالجملة في موضع نصب .
قال البراء ، وابن عباس ، والضحاك ، وغيرهم : معناه : ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس ، إلاَّ بأن تساهلوا في ذلك ، وتتركوا من حقوقكم وتكرهوه ولا ترضوه ، أي : فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم . وقال الحسن : المعنى : ولستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع إلاَّ أن يهضم لكم من ثمنه . وروري نحوه عن علي . وقال البراء أيضاً : معناه : ولستم بآخذيه لو أهدي لكم إلاَّ أن تغمضوا ، أي : تستحوا من المهدي أن تقبلوا من ما لا حاجة لكم به ، ولا قدر له في نفسه . وقال ابن زيد : ولستم بآخذي الحرام إلاَّ أن تغمضوا في مكروهه .
والظاهر

" صفحة رقم 332 "
عموم نفي الأخذ بأي طريق أخذ الخبيث ، من أخذ حق ، أوهبة .
والهاء في : بآخذيه ، عائدة على الخبيث ، وهي مجرورة بالإضافة ، وأن كانت من حيث المعنى مفعوله . قال بعض المعربين : والهاء في موضع نصب : بآخذين ، والهاء والنون لا يجتمعان ، لأن النون زائدة ، وهاء الضمير زائدة ومتصلة كاتصال النون ، فهي لا تجتمع مع المضمر المتصل . إنتهى كلامه . وهو قول الأخفش : أن التنوين والنون قد تسقطان للطافة الضمير لا للإضافة ، وذلك في نحو : ضاربك ، فالكاف ضمير نصب ، ومذهب الجمهور أنه لا يسقط شيء منها للطافة الضمير ، وهذا مذكور في النحو . وقد أجاز هشام : ضاربنك ، بالتنوين ، ونصب الضمير ، وقياسه جواز إثبات النون مع الضمير ، ويمكن أن يستدل له بقوله :
هم الفاعلون الخير والآمرونه
وقوله :
ولم يرتفق والناس محتضرونه
) إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ( موضع أن نصب أو خفض عند من قدره إلاَّ بأن تغمضوا ، فحذف الحرف ، إذ حذف جائز مطرد ، وقيل : نصب بتغمضوا ، وهو موضع الحال ، وقد قدمنا قبل ، أن سيبويه لا يجيز انتصاب أن والفعل مقدراً بالمصدر في موضع الحال ، وقال الفراء : المعنى معنى الشرط والجزاء ، لأن معناه إن أغمضتم أخذتم ، ولكن إلاَّ وقعت على أن ففتحتها ، ومثله : ( الا أن يخافه ) و ) إَّلا أَن يَعْفُونَ ( هذا كله جزاء ، وأنكر أبو العباس وغيره قول الفراء ، وقالوا : أن ، هذه لم تكن مكسورة قط ، وهي التي تتقدّر ، هي وما بعدها ، بالمصدر ، وهي مفتوحة على كل حال ، والمعنى : إلاَّ بإغماضكم .
وقرأ الجمهور : تغمضوا ، من أغمض ، وجعلوه مما حذف مفعوله ، أي : تغمضوا ، بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشدودة ، ومعناه معنى قراءة الجمهور . وروى عنه : تغمضوا ، بفتح التاء وسكون الغين وكسر الميم ، مضارع : غمض ، وهي لغة في أغمض ، ورويت عن اليزيدي : تغمضوا ، بفتح وضم الميم ، ومعناه : إلاَّ أن يخفي عليكم رأيكم فيه . وروي عن الحسن : تغمضوا مشددة الميم مفتوحة . وقرأ قتادة تغمضوا ، بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففاً ، ومعناه : إلاَّ أن يغمض لكم .
وقال أبو الفتح : معناه إلاَّ أن توجدوا قد أغمصتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم ، كما تقول : أحمد الرجل أصيب محموداً ، وقيل : معنى قراءة قتادة : إلاَّ أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه .
( وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( أي : غني عن صدقاتكم ، وإنما هي أعمالكم ترد عليكم ، حميد أي : محمود على كل حال ، إذ هو مستحق للحمد .
وقال الحسن : يستحمد إلى خلقه ، أي : يعطيهم نعماً يستدعي بها حمدهم . وقيل : مستحق للحمد على ما تعبدكم به .
البقرة : ( 268 ) الشيطان يعدكم الفقر . . . . .
( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ( أي : يخوفكم بالفقر ، يقول للرجل أمسك فإن تصدّقت افتقرت وروى أبو حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ : الفقر ، بضم الفاء ، وهي لغة . وقرىء : الفقر ، بفتحتين .
( وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ( أي : يغريكم بها إغراء الآمر ، والفحشاء : البخل وترك الصدقة ، أو المعاصي مطلقاً ، أو الزنا ، أقوال . ويحتمل أن تكون الفحشاء : الكلمة السيئة ، كما قال الشاعر : ولا ينطق الفحشاء من كان منهم
إذا جلسوا منا ولا من سوائنا
وكأن الشيطان يعد الفقر لمن أراد أن يتصدق ، ويأمره ، إذ منع ، بالرد القبيح على السائل ، وبخه وأقهره بالكلام السيء .
وروي ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أنه قال : ( إن للشيطان لمة من ابن آدم ، وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، فمن وجد ذلك فليتعوذ . وأما لمة الملك فوعد بالحق وتصديق بالخير ، فمن وجد ذلك فليحمد الله ) . ثم قرأ عليه السلام : ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ( الآية .
وتقدّم وعد الشيطان على أمره ، لأنه بالوعد يحصل

" صفحة رقم 333 "
الاطمئنان إليه ، فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر تسلط عليه بالأمر ، إذ الأمر استعلاء على المأمور .
وقال الزمخشري : والفاحش عند العرب البخيل ، وقال أيضاً : ويأمركم بالفحشاء ويغريكم على البخل ومنع الصدقات ، انتهى . فتكون الجملة الثانية كالتوكيد للأولى ، ونظرنا إلى ما شرحه الشراح في الفاحش في نحو قول الشاعر : حتى تأوى إلى لا فاحش برم
ولا شحيح إذا أصحابه غنموا
وقال الآخر : أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى
عقيلة مال الفاحش المتشدّد
فقالوا : الفاحش السيء الخلق ، ولو كان الفاحش هو البخيل لكان قوله : ولا شحيح ، من باب التوكيد . وقال في قول امرىء القيس :
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش
إن معناه ليس بقبيح ، ووافق الزمخشري أبا مسلم في تفسير الفاحش بالبخيل ، والفحشاء بالبخل ، قال بعضهم . وأنشد أبو مسلم قول طرفة :
عقيلة مال الفاحش المتشدّد
قال : والأغلب في كلام العرب ، وفي تفسير البيت الذي أنشده أن الفاحش السيء الردّ لضيفانه ، وسؤَّاله . قال : وقد وجدنا بعد ذلك شعراً يشهد لتأويل أبي مسلم أن الفحشاء البخل . وقال راجز من طيء : قد أخذ المجد كما أرادا
ليس بفحاش يصر الزادا
انتهى . ولا حجة في هذا البيت على أنه أراد بالفحاش البخيل ، بل يحمل على السيء الخلق ، أو السيء الردّ ، ويفهم البخيل من قوله : يصر الزادا .
( وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً ( أي ستراً لذنوبكم مكافأة للبذل ، وفضلاً زيادة على مقتضى ثواب البذل . وقيل : وفضلاً ، أن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم ، أو وثواباً عليه في الآخرة ، ولما تقدّم قوله : ) وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ( وكان الحامل لهم على ذلك إنما هو الشح والبخل بالجيد الذي مثيره الشيطان ، بدىء بهذه الجملة من قوله ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ( وإن ما تصدّقتم من الخبيث إنما ذلك من نزغات الشيطان ليقبح لهم ما ارتكبوه من ذلك بنسبته إلى الشيطان ، فيكون أبعد شيء عنه .
ثم ذكر تعالى في مقابلة وعد الشيطان وعد الله بشيئين : أحدهما : الستر لما اجترحوه من الذنوب ، والثاني : الفضل وهو زيادة الرزق والتوسعة في الدنيا والآخرة . روي أن في التوراة : عبدي ، أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي ، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة ، وفي كتاب الله مصداقه : ) وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ).
) وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ( أي : واسع بالجود والفضل على من أنفق ، عليم بنيات من أنفق ، وقيل : عليم أين يضع فضله ، ووردت الأحاديث بتفضيل الإنفاق والسماحة وذمّ البخل ، منها حديث البراء ،

" صفحة رقم 334 "
قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن الله يحب الإنفاق ويبغض الإقتار فكل وأطعم ولا تصرر ، فيعسر عليك الطلب ) . وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( وأي داء أردأ من البخل ) .
البقرة : ( 269 ) يؤتي الحكمة من . . . . .
( يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء ( قرأ الربيع بن خيثم بالتاء في : تؤتي ، وفي : تشاء ، على الخطاب ، وهو التفات إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، والحكمة : القرآن ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، والضحاك ، ومقاتل في آخرين .
وقال ابن عباس فيما رواه عنه علي بن طلحة : معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدّمه ومؤخره . وقال ، فيما رواه عنه أبو صالح : النبوّة ، وقاله السدي . وقال إبراهيم ، وأبو العالية ، وقتادة : الفهم في القرآن . وقال مجاهد . وقال الحسن : الورع في دين الله ، وقال الربيع بن أنس : الخشية ، وقال ابن زيد ، وأبوه زيد بن أسلم : العقل في أمر الله . وقال شريك : الفهم . وقال ابن قتيبة : العلم والعمل ، لا يسمى حكيماً حتى يجمعهما . وقال مجاهد أيضاً : الكتابة . وقال ابن المقفع : ما يشهد العقل بصحته ، وقال القشيري ، وقال فيما روي عنه ابن القاسم : التفكر في أمر الله والاتباع له ، وقال أيضاً : طاعة الله والفقه والدين والعمل به . وقال عطاء : المغفرة . وقال أبو عثمان : نور يفرق به بين الوسواس والمقام . ووجدت في نسخة : والإلهام بدل المقام . وقال القاسم بن محمد : أن يحكم عليك خاطر الحق دون شهوتك . وقال بندار بن الحسين : سرعة الجواب مع إصابة الصواب . وقال المفضل : الردّ إلى الصواب . وقال الكتاني : ما تسكن إليه الأرواح . وقيل إشارة بلا علة ، وقيل : إشهاد الحق على جميع الأحوال . وقيل : صلاح الدين وإصلاح الدنيا . وقيل : العلم اللدني . وقيل : تجريد السر لورود الإلهام . وقيل : التفكر في الله تعالى ، والاتباع له . وقيل : مجموع ما تقدّم ذكره : فهذه تسع وعشرون مقالة لأهل العلم في تفسير الحكمة .
قال ابن عطية ، وقد ذكر جملة من الأقوال في تفسير الحكمة ما نصه : وهذه الأقوال كلها ، ما عدا قول السدي ، قريب بعضها من بعض ، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول ، وكتاب الله حكمة ، وسنة نبيه حكمة ، وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس . انتهى كلامه .
وقد تقدّم تفسير الحكمة في قوله : ) وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ ( فكان يغني عن إعادة تفسيرها هنا ، إلاَّ أنه ذكرت هنا أقاويل لم يذكرها المفسرون هناك ، فلذلك فسرت هنا .
( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ( قرأ الجمهور مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو ضمير : من ، وهو المفعول الأول : ليؤت وقرأ يعقوب : ومن يؤت ، بكسر التاء مبنياً للفاعل قال الزمخشري : بمعنى ومن يؤته الله . انتهى .
فإن أراد تفسير المعنى فهو صحيح ، وإن أراد تفسير الإعراب فليس كذلك ، ليس في يؤت ضمير نصب حذف ، بل مفعوله مقدّم بفعل الشرط ، كما تقول : أياً تعط درهماً أعطه درهماً .
وقرأ الأعمش : ومن يؤته الحكمة ، بإثبات الضمير الذي هو المفعول الأول : ليؤت ، والفاعل في هذه القراءة ضمير مستكن في : يؤت ، عائد على الله تعالى . وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها لكونها في جملة أخرى ، وللاعتناء بها ، والتنبيه على شرفها وفضلها وخصالها .
( فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا ( هذا جواب الشرط ، والفعل الماضي المصحوب : بقد ، الواقع جواباً للشرط في الظاهر قد يكون ماضي اللفظ ، مستقبل المعنى . كهذا . فهو الجواب حقيقة ، وقد يكون ماضي اللفظ والمعنى ، كقوله تعالى

" صفحة رقم 335 "
) وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ ( فتكذيب الرسل واقع فيما مضى من الزمان ، وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يكون جواب الشرط ، لأن الشرط مستقبل ، وما ترتب على المستقبل مستقبل ، فالجواب في الحقيقة إنما هو محذوف ، ودل هذا عليه ، التقدير : وإن يكذبوك فتسلّ ، فقد كذبت رسل من قبلك ، فحالك مع قومك كحالهم مع قومهم .
قال الزمخشري : وخيراً كثيراً ، تنكير تعطيم ، كأنه قال : فقد أوتي أيّ خير كثيرا . انتهى .
وهذا الذي ذكره يستدعي أن في لسان العرب تنكير تعظيم ، ويحتاج إلى الدليل على ثبوته وتقديره ، أي خير كثير ، إنما هو على أن يجعل خير صفة لخير محذوف ، أي : فقد أوتي خيراً ، أي خير ، كثير . ويحتاج إلى إثبات مثل هذا التركيب من لسان العرب ، وذلك أن المحفوظ أنه إذا وصف بأي ، فإنما تضاف للفظ مثل الموصوف ، تقول : مررت برجل أي رجل كما قال الشاعر : دعوت امرأً ، أيّ امرىء ، فأجابني
وكنت وإياه ملاذاً وموئلا
وإذا تقرر هذا ، فهل يجوز وصف ما يضاف إليه ؟ أي : إذا كانت صفة ، فتقول : مررت برجل أيّ رجل كريم ، أو لا يجوز ؟ يحتاج جواب ذلك إلى دليل سمعي ، وأيضاً ففي تقديره : أي خير كثير ، حذف الموصوف وإقامة أي الصفة ، ولا يجوز ذلك إلاَّ في ندور ، لا تقول : رأيت أي رجل ، تريد رجلاً ، أي رجل إلاّ في ندور نحو قول الشاعر : إذا حارب الحجاج أيَّ منافق
علاه بسيف كلما هُزَّ يقطع
يريد : منافقاً ، أي منافق ، وأيضاً : ففي تقديره : خيراً كثيراً أيّ كثير ، حذف أي الصفة ، وإقامة المضاف إليه مقامها ، وقد حذف الموصوف به ، أي : فاجتمع حذف الموصوف به وحذف الصفة ، وهذا كله يحتاج في إثباته إلى دليل .
( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ ). أصله : يتذكر ، فأدغم التاء في الذال ، و : أولو الألباب ، هم أصحاب العقول السليمة ، وفي هذا حث على العمل بطاعة الله ، والامتثال لما أمر به من الإنفاق ، ونهى عنه من التصدّق بالخبيث ، وتحذير من وعد الشيطان وأمره ، ووثوق بوعد الله ، وتنبيه على أن الحكمة هي العقل المميز به بين الحق والباطل ، وذكر التذكر لما قد يعرض للعاقل من الغفلة في بعض الأحيان ، ثم يتذكر ما به صلاح دينه ودنياه فيعمل عليه .
البقرة : ( 270 ) وما أنفقتم من . . . . .
( وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ( ظاهره العموم في كل صدقة في سبيل الله ، أو سبيل الشيطان ، وكذلك النذر عام في طاعة الله أو معصيته ، وأتى بالمميز في قوله : من نفقة ، و : من نذر ، وإن كان مفهوماً من قوله : وما أنفقتم ، ومن قوله : أو نذرتم ، من نذر ، لتأكيد اندراج القليل والكثير في ذلك ، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، وقيل : تختص النفقة بالزكاة لعطف الواجب عليه وهو النذر ، والنذر على قسمين : محرم وهو كل نذر في غير طاعة الله ، ومعظم نذور الجاهلية كانت على ذلك ؛ ومباح مشروط وغير مشروط ، وكلاهما مفسر ، نحو : إن عوفيت من مرض كذا فعلىّ صدقة دينار ، ونحو : لله علي عتق رقبة . وغير مفسر ، نحوه إن عوفيت فعليّ صدقة أو نذر ، وأحكام النذر مذكورة في كتب الفقه .
قال مجاهد معنى : يعلمه ، يحصيه ، وقال الزجاج : يجازي عليه ، وقيل : يحفظه . وهذه الأقوال متقاربة .
وتضمنت هذه الآية وعداً ووعيداً بترتيب علم الله على ما أنفقوا أو نذروا ، و : من نفقة ، و : من نذر ، تقدم نظائرها في الإعراب فلا تعاد ، وفي قوله : من نذر ، دلالة على حذف موصول قبل قوله : نذرتم ، تقديره : أو ما نذرتم من نذر ، لأن : من نذر ، تفسير وتوضيح لذلك

" صفحة رقم 336 "
المحذوف ، وحذف ذلك للعلم به ، ولدلالة ما في قوله : وما أنفقتم ، عليه ، كما حذف ذلك في قوله : أمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء ؟
التقدير : ومن يمدحه ، فحذفه لدلالة : من ، المتقدمة عليه ، وعلى هذا الذي تقرر من حذف الموصول ، فجاء الضمير مفرداً في قوله : فإن الله يعلمه ، لأن العطف بأو ، وإذا كان العطف بأو كان الضمير مفرداً ، لأن المحكوم عليه هو أحدهما ، وتارة يراعى به الأول في الذكر ، نحو : زيد أو هند منطلق ، وتارة يراعى به الثاني نحو : زيد أو هند منطلقة . وأما أن يأتى مطابقاً لما قبله في التثنية أو الجمع فلا ، ولذلك تأوّل النحويون قوله تعالى : ) إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ( بالتأويل المذكور في علم النحو ، وعلى المهيع الذي ذكرناه ، جاء قوله تعالى : ) وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا ( وقوله تعالى : ) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ( كما جاء في هذه الآية ) فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ( ولما عزبت معرفة هذه الأحكام عن جماعة ممن تكلم في تفسير هذه الآية ، جعلوا إفراد الضمير مما يتأوّل ، فحكي عن النحاس أنه قال : التقدير : وما أنفقتم من نفقة فان الله يعلمها ، أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه . ثم حذف قال ، وهو مثل قوله : ) وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا ( وقوله ) وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ( وقول الشاعر : نحن بما عندنا ، وأنت بما
عندك راضٍ ، والرأي مختلف
وقول الآخر : رماني بأمر كنت منه ، ووالدي
بريئاً ومن أجل الطويّ رماني
التقدير : نحن بما عندنا راضون ، وكنت منه بريئاً ، ووالدي بريئاً . انتهى . فأجرى أو مجرى الواو في ذلك . قال ابن عطية : ووحد الضمير في يعلمه ، وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص . انتهى .
وقال القرطبي : وهذا حسن ، فإن الضمير يراد به جميع المذكور ، وإن كثر انتهى . وقد تقدّم لنا ذكر حكم أو ، وهي مخالفة للواو في ذلك ، ولا يحتاج لتأويل ابن عطية لأنه جاء على الحكم المستقر في لسان العرب في : أو .
( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ظاهره العموم ، فكل ظالم لا يجد له من ينصره ويمنعه من الله ، وقال مقاتل : هم المشركون . وقال أبو سليمان الدمشقي : هم المنفقون بالمن والأذى والرياء ، والمبذورن في المعصية . وقيل : المنفقو الحرام .
والأنصار : الأعوان جمع نصير ، كحبيب وأحباب ، وشريف وأشراف . أو : ناصر ، كشاهدو أشهاد ، وجاء جمعاً باعتبار أن ما قبله جمع ، كما جاء : ) وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ ( والمفرد يناسب المفرد نحو : ) مَالِكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ ( لا يقال : انتفاء الجمع لا يدل على انتفاء المفرد ، لأن ذلك في معرض نفي النفع والإغناء ، وحصول الإستعانة ، فإذا لم يجد الجمع ولم يغنِ ، فأحرى أن لا يجدي ولا يغني الواحد .
ولما بيَّن تعالى فضل الإنفاق في سبيله وحث عليه ، وحذرنا من الجنوح إلى نزغات الشيطان ، وذكرنا بوعد الله الجامع لسعادة الآخرة

" صفحة رقم 337 "
والدنيا من المغفرة والفضل ، وبين أن هذا الأمر والفرق بين الوعدين لا يدركه إلاَّ من تخصص بالحكمة التي يؤتيها الله من يشاء من عباده ، رجع إلى ذكر النفقة والحث عليها ، وأنها موضوعة عند من لا ينسى ولا يسهو ، وصار ذكر الحكمة مع كونه متعلقاً بما تقدم كالاستطراد ، والتنويه بذكرها ، والحث على معرفتها .
البقرة : ( 271 ) إن تبدوا الصدقات . . . . .
( إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ ( أي : إن تظهروا إعطاء الصدقات . قال الكلبي : لما نزلت : ) وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ ( الآية قالوا : يا رسول االله أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية ؟ فنزلت : ) إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ ( وقال يزيد بن أبي حبيب : نزلت في الصدقه على اليهود والنصارى ، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر ، والصدقات ظاهر العموم ، فيشمل المفروضة والمتطوّع بها .
وقيل الألف واللام للعهد ، فتصرف إلى المفروضة ، فإن الزكاة نسخت كل الصدقات ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، ويزيد بن أبي حبيب .
وقيل : المراد هنا صدقات التطوّع دون الفرض ، وعليه جمهور المفسرين ، وقاله سفيان الثوري .
وقد اختلفوا : هل الأفضل إظهار المفروضة أم إخفاؤها ؟ فذهب ابن عباس وآخرون إلى أن إظهارها أفضل من إخفائها . وحكى الطبري الإجماع عليه واختاره ، القاضي أبو يعلى ، وقال أيضاً ابن عباس : إخفاء صدقة التطوّع أفضل من إظهارها ، وروي عنه : صدقات السر في التطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً .
قال القرطبي : ومثل هذا لا يقال بالرأي ، وانما هو توقيف ، وقال قتادة : كلاهما إخفاؤه أفضل . وقال الزجاج : كان إخفاء الزكاة على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أحسن ، فأما اليوم فالناس مسيئون الظن فاظهارها أفضل . وقال ابن العربي : ليس في تفضيل صدقة السرّ على العلانية ، ولا صدقة العلانية على صدقة السر ، حديث صحيح / .
( فَنِعِمَّا هِىَ ( الفاء جواب الشرط ، و : نعم ، فعل لا يتصرف ، فاحتيج في الجواب إلى الفاء والفاعل بنعم مضمر مفسر بنكرة لا تكون مفردة في الوجود نحو : شمس وقمر . و : لا ، متوغلة في الإبهام نحو غير . ولا أفعل التفضيل نحو أفضل منك ، وذلك نحو : نعم رجلاً كزيد ، والمضمر مفرد واإن كان تمييزه مثنى أو مجموعاً ، وقد أعربوا : ما ، هنا تمييزاً لذلك المضمر الذي في نعم ، وقدروه بشيئاً : فما ، نكرة تامة ليست موصوفة ولا موصولة ، وقد تقدّم الكلام على : ما ، اللاحقة لهذين الفعلين ، أعنى : نعم وبئس ، عند قوله تعالى : ) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ ( وقد ذكرنا مذاهب الناس فيها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وهي : ضمير عائد على الصدقات ، وهو على حذف مضاف أي : فنعما ، ابداؤها ، ويجوز أن لا يكون على حذف مضاف ، بل يعود على الصدقات بقيد وصف الإبداء ، والتقدير في : فنعما هي ، فنعما الصدقات المبدأة وهي مبتدأ على أحسن الوجوه ، وجملة المدح خبر عنه ، والرابط هو العموم الذي في المضمر المستكن في : نعم .
وقرأ ابن كثير ، وورش ، وحفص : فنعما ، بكسر النون والعين هنا وفي النساء ، ووجه هذه القراءة أنه على لغة من يحرك العين ، فيقول : نعم ، ويتبع حركة النون بحركة العين ، وتحريك العين هو الأصل ، وهي لغة هذيل ، ولا يكون ذلك على لغة من أسكن العين ، لأنه يصير مثل : جسم مالك ، وهو لا يجوز إدغامه على ما ذكروا .
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : فنعما ، فيهما بفتح النون وكسر العين . وهو الأصل ، لأن وزنه على فعل . وقال قوم : يحتمل قراءة كسر العين أن يكون على لغة من أسكن ، فلما دخلت ما وأدغمت حركت العين لالتقاء الساكنين . وقرأ

" صفحة رقم 338 "
أبو عمرو ، وقالون ، وأبو بكر : بكسر النون وإخفاء حركة العين ، وقد روي عنهم الإسكان ، والأول أقيس وأشهر ، ووجه الإخفاء طلب الخفة ، وأما الإسكان فاختاره أبو عبيد ، وقال : الإسكان ، فيما يروي ، لغة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في هذا اللفظ ، قال لعمرو ابن العاص : ( نعما المال الصالح للرجل الصالح ) . وانكر الإسكان أبو العباس ، وأبو إسحاق ، وأبو علي لأن فيه جمعاً بين ساكنين على غير حدّه .
وقال أبو العباس لا يقدر أحد أن ينطق به ، وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأتيه . وقال أبو إسحاق : لم تضبط الرواة اللفظ في الحديث ، وقال أبو علي : لعل أبا عمرو أخفى ، فظنه السامع إسكاناً وقد أتى عن أكثر القراء ما أنكر ، فمن ذلك الإسكان في هذا الموضع ، وفي بعض تاءات البزي ، وفي : اسطاعوا وفي : يخصمون . إنتهى ما لخص من كلامهم .
وإنكار هؤلاء فيه نظر ، لأن أئمة القراءة لم يقرؤوا إلاَّ بنقل عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ومتى تطرق إليهم الغلط فيما نقلوه من مثل هذا ، تطرق إليهم فيما سواه ، والذي نختاره ونقوله : إن نقل القراءات السبع متواتر لا يمكن وقوع الغلط فيه .
( وَإِن تُخْفُوهَا ( الضمير المنصوب في : تخفوها ، عائد على الصدقات ، لفظاً ومعنى ، بأي تفسير فسرت الصدقات ، وقيل : الصدقات المبداة هي الفريضة ، والمخفاة هي التطوّع ، فيكون الضمير قد عاد على الصدقات لفظاً لا معنى ، فيصير نظير : عندي درهم ونصفه ، أي : نصف درهم آخر ، كذلك : وان تخفوها ، تقديره : وان تخفوا الصدقات غير الأولى ، وهي صدقة التطوّع ، وهذا خلاف الظاهر ، والأكثر في لسان العرب ، وإنما احتجنا في : عندى درِهم ونصفه ، إلى أن نقول : إن الضمير عائد على الدرهم لفظاً لا معنى لأضطرار المعنى إلى ذلك ، لأن قائل ذلك لا يريد أن عنده درهماً ونصف هذا الدرهم الذي عنده . وكذل قول الشاعر : كأن ثياب راكبه بريح
خريق وهي ساكنة الهبوب
يريد : ريحاً أخرى ساكنة الهبوب .
( أَنتُمُ الْفُقَرَاء ( فيه تنبيه على تطلب مصارفها وتحقق ذلك وهم الفقراء .
( فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ( الفاء جواب الشرط ، وهو ضمير عائد على المصدر المفهوم من قوله : ) وَإِن تُخْفُوهَا ( التقدير : فالإخفاء خير لكم ، ويحتمل أن يكون : خير ، هنا أريد به خير من الخيور ، و : لكم ، في موضع الصفة ، فيتعلق بمحذوف .
والظاهر انه أفعل التفضيل ، والمفضل عليه محذوف لدلالة المعنى عليه وهو الإبداء ، والتقدير : فهو خير لكم من إبدائها .
وظاهر الآية : أن إخفاء الصدقات على الإطلاق أفضل ، سواء كانت فرضاً أو نقلاً ، وإنما كان ذلك أفضل لبعد المتصدّق فيها عن الرياء والمنّ والأذى ، ولو لم يعلم الفقير بنفسه ، وأخفى عنه الصدقة أن يعرف ، كان أحسن وأجمل بخلوص النية في ذلك .
قال بعض الحكماء : إذا اصطنعت المعروف فاستره ، وإذا اصطنع إليك فانشره . وقال العباس بن عبد المطلب : لا يتم المعروف إلاَّ بثلاث خصال : تعجيله ، وتصغيره في نفسك ، وستره . فإذا عجلته هنيته ، وإذا صغرته عظمته ، وإذا استرته أتممته . وقال سهل بن هارون : يخفي صنائِعَه والله يظهرها
إن الجميل اذا أخفيته ظهرا
وفي الإبداء والإخفاء طباق لفظي ، وفي قوله : وتؤتوها الفقراء طباق معنوى ، لأنه لا يؤتى الصدقات إلاَّ الأغنياء ، فكأنه قيل : إن يبد الصدقاتِ الأغنياءُ وفي هذه الآية دلالة على أن الصدقة حق للفقير ، وفيها دلالة على أنه يجوز لرب المال أن يفرق الصدق بنفسه .
( وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن ( قرأ بالواو الجمهور في : ويكفر ، وباسقاطها وبالياء والتاء والنون ، وبكسر الفاء وفتحها ، وبرفع الراء وجزمها ونصبها ، فاسقاط الواو رواه أبو حاتم عن الأعمش ، ونقل عنه أنه قرأ بالياء وجزم الراء ، ووجه أن بدل على الموضع من قوله : فهو خير لكم لأنه في جزم ، وكأن المعنى : يكن لكم الإخفاء خيراً من الإبداء ، أو على إضمار حرف العطف : أي ويكفر .
وقرأ ابن عامر بالياء ورفع الراء . وقرأ الحسن بالياء وجزم الراء ، وروي عن الأعمش بالياء ونصب الراء . وقرأ ابن عباس بالتاء وجزم الراء ،

" صفحة رقم 339 "
وكذلك قرأ عكرمة إلاَّ أنه فتح الفاء وبنى الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله . وقرأ ابن هرمز ، فيما حكى عنه المهدوي بالتاء ورفع الراء ، وحكي عن عكرمة ، وشهر بن حوشب : بالتاء ونصب الراء . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر : بالنون ورفع الراء . وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : بالنون والجزم ، وروي الخفض عن الأعمش بالنون ونصب الراء فيمن قرأ بالياء .
فالأظهر أن الفعل مسند إلى الله تعالى ، كقراءة من قرأ : ونكفر ، بالنون فإنه ضمير لله تعالى بلا شك ، وقيل : يعود على الصرف ، أي صرف الصدقات ، ويحتمل أن يعول على الإخفاء أي : ويكفر إخفاء الصدقات ونسب التكفير إليه على سبيل المجاز لأنه سبب التكفير ، ومن قرأ بالتاء فالضمير في الفعل للصدقات ، ومن رفع الراء فيحتمل أن يكون الفعل خبر مبتدأ محذوف ، أي : ونحن نكفر ، أي : وهو يكفر ، أي : الله . أو الإخفاء أي : وهي تكفر أي : الصدقة .
ويحتمل أن يكون مستأنفاً لا موضع له من الإعراب ، وتكون الواو عطفت جملة كلام على جملة كلام ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على محل ما بعد الفاء ، إذ لو وقع مضارع بعدها لكان مرفوعاً ، كقوله : ) سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ( ومن جزم الراء فعلى مراعاة الجملة التي وقعت جزاء ، إذ هي في موضع جزم ، كقوله : ) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ ).
ونذرهم ، في قراءة من جزم ، ونذرهم ، ومن نصب الراء فبإضمار : أن ، وهو عطف على مصدر متوهم ، ونظيره قراءة من قرأ ) يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ ( بنصب الراء ، إلاَّ أنه هنا يعسر تقدير ذلك المصدر المتوهم من قوله : فهو خير لكم ، فيحتاج إلى تكلف بخلاف قوله : يحاسبكم ، فإنه يقدر تقع محاسبة فغفران .
وقال الزمخشري : ومعناه : وإن تخفوها يكن خيراً لكم ، وأن نكفر عنكم . إنتهى .
وظاهر كلامه هذا أن تقديره ؛ وأن نكفر ، يكون مقدّراً بمصدر ، ويكون معطوفاً على : خيراً ، خبر يكن التي قدرها كأنه قال : يكن الإخفاء خيراً لكم وتكفيراً ، فيكون : أن يكفر في موضع نصب .
والذي تقرر عند البصريين أن هذا المصدر المنسبك من أن المضمرة مع الفعل المنصوب بها هو مرفوع معطوف على مصدر متوهم مرفوع ، تقديره من المعنى ، فإذا قلت : ما تأتينا فتحدّثنا ، فالتقدير : ما يكون منك إتيان فحديث ، وكذلك إن تجيء وتحسن إلى أحسن إليك ، التقدير إن يكن منك مجيء وإحسان أحسن إليك . وكذلك ما جاء بعد جواب الشرط . كالتقدير الذي قدّرناه في : يحاسبكم به الله ، في قراءة من نصب ، فيغفر ، فعلى هذا يكون التقدير : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن زيادة خير للإخفاء على خير للإبداء وتكفير .
وقال المهدوي : في نصب الراء : هو مشبه بالنصب في جواب الإستفام ، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام .
وقال ابن عطية : بالجزم في الراء أفصح هذه القراءات لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء ، وكونه مشروطاً إن وقع الإخفاء ، وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى . إنتهى .
ونقول : إن الرفغ أبلغ وأعم ، لأن الجزم يكون على أنه معطوف على جواب الشرط الثاني ، والرفع بدل على أن التكفير مترتب من جهة المعنى على بذل الصدقات ، أبديت أو أخفيت ، لأنا نعلم أن هذا التكفير متعلق بما قبله ، ولايختص التكفير بالإخفاء فقط ، والجزم يخصصه به ، ولا يمكن أن يقال : إن الذي يبدي الصدقات لا يكفر من سيئآته ، فقد صار التكفير شاملاً للنوعين من إبداء الصدقات وإخفائها ، وإن كان الإخفاء خيراً من الإبداء .
و : من ، في قوله : من سيئاتكم ، للتبغيض ، لأن الصدقة لا تكفر جميع السيئات . وحكى الطبري عن فرقة قالت : من ، زائدة في هذا الموضع . قال ابن عطية وذلك منهم خطأ ، وقول من جعلها سببية وقدر : من أجل ذنوبكم ضعيف .
( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ختم الله بهذه الصفة لأنها تدل على العلم بما لطف من الاشياء وخفي ، فناسب الإخفاء ختمها بالصفة المتعلقة بما خفي ، والله أعلم .
البقرة : ( 272 ) ليس عليك هداهم . . . . .
( لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ( اختلف النقل في سبب نزول هذه الآية ، ومضمونها أن من أسلم كره أن يتصدق على قريبه المشرك ، أو على المشركين ، أو

" صفحة رقم 340 "
نهاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من التصدق عليهم ، أو امتنع هو من ذلك ، وقد سأله يهودي ، فنزلت هذه الآية .
وظاهر الهدى أنه مقابل الضلال ، وهو مصدر مضاف للمفعول ، أي : ليس عليك أن تهديهم ، أي : خلق الهدى في قلوبهم ، وأما الهدى بمعنى الدعاء فهو عليه ، وليس بمراد هنا . وفي ذلك تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو نظير : ) إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( فالمعنى : ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعه الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام ، فتصدق عليهم لوجه الله ، هداهم ليس إليك . وجعل الزمخشري هنا الهدى ليس مقابلاً للضلال الذي يراد به الكفر ، فقال : لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغيره ، وما عليك إلاَّ أن تبلغهم النواهي فحسب ، ويبعد ما قاله الزمخشري قوله : ) وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ( فظاهره أنه يراد به هدى الإيمان . وقال الزمخشري قوله : ) وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ( تلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه ، فينتهي عما نهى عنه . إنتهى . فلم يحمل الهدى في الموضعين على الإيمان المقابل للضلال ، وإنما حمله على هدى خاص ، وهو خلاف الظاهر ، كما قلنا . وقيل : الهداية هنا الغنى أي : ليس عليك أن تغنيهم ، وإنما عليك أن تواسيهم ، فإن الله يغني من يشاء . وتسمية الغنى : هداية ، على طريقة العرب من نحو قولهم : رشدت واهتديت ، لمن ظفر ، وغويت لمن خاب وخسر وعلى هذا قول الشاعر : فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره
ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
وتفسير الهدى بالغنى أبعد من تفسير الزمخشري ، وفي قوله : هداهم ، طباق معنوي ، إذ المعنى : ليس عليك هدى الضالين ، وظاهر الخطاب في : ليس عليك ، أنه لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي ذلك تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
ومناسبة تعلق هذه الجملة بما قبلها أنه لما ذكر تعالى قوله : ) يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء ( الآية اقتضى انه ليس كل أحد آتاه الله الحكمة ، فانقسم الناس من مفهوم هذا إلى قسمين : من آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ، ومن لم يؤته إياها فهو يخبط عشواء في الضلال . فنبه بهذه الآية أن هذا القسم ليس عليك هداهم ، بل الهداية وإيتاء الحكمة إنما ذلك إلى الله تعالى ، ليتسلى بذلك في كون هذا القسم لم يحصل له السعادة الأبدية ، ولينبه على أنهم وإن لم يكونوا مهتدين ، تجوز الصدقة عليهم . وقيل : المعنى في : ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ( هو ليس عليك أن تلجئهم إلى الهدى بواسطة أن تقف صدقتك على إيمانهم ، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به ، بل المطلوب منهم الإيمان على سبيل الطوع والاختيار . وفي قوله : ) وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ( رد على القدرية ، وتجنيس مغاير إذ : هداهم اسم ، ويهدي فعل .
( وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ ( أي : فهو لأنفسكم ، لا يعود نفعه ولا جدواه إلاَّ عليكم ، فلا تمنوا به ، ولا تؤذوا الفقراء ، ولا تبالوا بمن صادفتم من مسلم أو كافر ، فإن ثوابه إنما هو لكم . وقال سفيان بن عيينة : معنى : فلأنفسكم ، فلأهل دينكم ، كقوله تعالى : ) فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( ) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( أي : أهل ، دينكم ، نبه على أن حكم الفرض من الصدقة بخلاف حكم التطوّع ، فإن الفرض لأهل دينكم دون الكفار .
وحكي عن بعض أهل العلم أنه كان يصنع كثيراً من المعروف ، ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيراً قط ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنما فعلت مع نفسي ، ويتلو هذه الآية .
وروي عن عليّ ، كرم الله وجهه ، أنه كان يقول : ما أحسنت إلى أحد قط ، ولا أسأت له ثم يتلو : ) وَأَنْ

" صفحة رقم 341 "
أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ).
) وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ ( أي : وما تنفقون النفقة المعتد لكم قبولها إلاَّ ما كان إنفاقه لابتغاء وجه الله ، فإذا عريت من هذا القصد فلا يعتد بها فهذا خبر شرط فيه محذوف أي : وما تنفقون النفقة المعتدة القبول ، فيكون هذا الخطاب للأمة . وقيل : هو خير من الله أن نفقتهم أي : نفقة الصحابة ، رضي الله عنهم ، ما وقعت إلاّ على الوجه المطلوب من ابتغاء وجه الله ، فتكون هذه شهادة لهم من الله بذلك ، وتبشيراً بقبولها ، إذ قصدوا بها وجه الله تعالى ، فخرج هذا الكلام مخرج المدح والثناء ، فيكون هذا الخطاب خاصاً بالصحابة .
وقال الزمخشري : وليست نفقتكم إلاَّ لابتغاء وجه الله ، ولطلب ما عنده ، فما لكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله ؟ وهذا فيه إشارة إلى مذهب المعتزلة ، من أن الصدقة وقعت صحيحة ، ثم عرض لها الإبطال . بخلاف قول غيرهم : إن المن والأذى قارنها . وقيل : هو نفي معناه النهي ، أي : ولا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه الله ، ومجازه أنه : لما نهى عن أن يقع الإنفاق إلاَّ لوجه الله ، حصل الامتثال ، وإذا حصل الامتثال ، فلا يقع الإنفاق إلاَّ لإبتغاء وجه الله ، فعبر عن النهي بالنفي لهذا المعنى .
وانتصاب ابتغاء على أنه مفعول من أجله ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال تقديره : مبتغين ، وعبر بالوجه عن الرضا ، كما قال : ابتغاء مرضاة الله ، وذلك على عادة العرب ، وتنزه الله عن الوجه بمعنى : الجارحة ، تقدم الكلام على نسبة الوجه إلى الله في قوله : ) فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( مستوفي ، فأغنى عن إعادته .
( وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ( أي : يوفر عليكم جزاؤه مضاعفاً ، وفي هذا ، وفيما قبله ، قطع عذرهم في عدم الإنفاق ، إذ الذي ينفقونه هو لهم حيث يكونون محتاجين إليه ، فيوفون كاملاً موفراً ، فينبغي أن يكون إنفاقهم على أحسن الوجوه وأفضلها ، وقد جاء قوله تعالى : ) وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ ( وقوله / ( صلى الله عليه وسلم ) ) في حديث أبي هريرة : ( إذا تصدق العبد بالصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل ، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه ، أو فصيله ، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد ) . والضمير في : يوفَّ ، عائد على : ما ، ومعنى توفيته : إجزال ثوابه .
( وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ( جملة حالية ، العامل فيها يوفَّ . والمعنى : أنكم لا تنفقون شيئاً من ثواب إنفاقكم .
البقرة : ( 273 ) للفقراء الذين أحصروا . . . . .
( لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( قال ابن عباس ، ومقاتل : هم أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله ، ولم يكن لهم شيء ، وكانوا نحواً من أربعمائة . وقال مجاهد : هم فقراء المهاجرين من قريش ، ثم يتناول من كان بصفة الفقر ، وقال سعيد بن جبير : هم قوم أصابتهم جراحات مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فصاروا زمنى ، واختار هذا الكسائي ، وقال : أحصروا من المرض ، ولو أراد الحبس من العدو لقال : حصروا ، وقد تقدّم الكلام على الإحصار والحصر في قوله : ) فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ( وثبت من اللغة هناك أنه يقال في كل منهما أحصر وحصر ، وحكاه ابن سيده .
وقال السدي : أحصروا من خوف الكفار ، إذ أحاطوا بهم ، وقال قتادة : حبسوا أنفسهم للغزو ، ومنعهم الفقر من الغزو ، وقال محمد بن الفضل : منعهم علو همتهم عن رفع حاجتهم إلاَّ إلى الله . وقال الزمخشري : أحصرهم الجهاد ، لا يستطيعون لاشتغالهم به ضرباً في الأرض للكسب . إنتهى .
و : للفقراء ، في موضع الخبر مبتدأ محذوف ، وكأنه جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : لمن هذه الصدقات المحثوث على فعلها ؟ فقيل : للفقراء ، أي : هي للفقراء . فبين مصرف النفقة . وقيل : تتعلق اللام بفعل محذوف ، تقديره : أعجبوا للفقراء ، أو اعمدوا للفقراء ، واجعلوا ما تنفقون للفقراء ، وأبعد القفال في تقدير : إن تبدوا الصدقات للفقراء ، وكذلك من علقه بقوله : ) وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ ( وكذلك من جعل : للفقراء ، بدلاً من قوله : فلأنفسكم ، لكثرة الفواصل المانعة من ذلك .
( لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الاْرْضِ ( أي تصرفاً فيها ، إمّا لَزَمنِمِ وإمّا لخوفهم من العدو لقلتهم ، فقلتهم

" صفحة رقم 342 "
تمنعهم من الاكتساب بالجهاد ، وانكار الكفار عليهم إسلامهم يمنعهم من التصرف في التجارة ، فبقوا فقراء .
وهذه الجملة المنفية في موضع الحال ، أي : أحصروا عاجزين عن التصرف . ويجوز أن تكون مستأنفة ، لا موضع لها من الإعراب .
( يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ ). قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، بفتح السين حيث وقع ، وهو القياس ، لأن ماضيه على فَعِلَ بكسر العين . وقرأ باقي السبعة بكسرها ، وهو مسموع في الفاظ ، منها : عمد يعمدو يعمد ، وقد ذكرها النحويون ، والفتح في السين لغة تميم ، والكسر لغة الحجاز ، والمعنى : أنهم لفرط انقباضهم ، وترك المسألة ، واعتماد التوكل على الله تعالى ، يحسبهم من جَهِلَ أحوالهم أغنياء ، و : من ، سببية ، أي الحامل على حسبانهم أغنياء هو تعففهم ، لأن عادة من كان غني مال أن يتعفف ، ولا يسأل ، ويتعلق ، يحسبهم وجر المفعول له هناك بحرف السبب ، لانخرام شرط من شروط المفعول له من أجله وهو اتحاد الفاعل ، لأن فاعل يحسب هو : الجاهل ، وفاعل التعفف هو : الفقراء . وهذا الشرط هو على الأصح ، ولو لم يكن هذا الشرط منخرماً لكان الجر بحرف السبب أحسن في هذا المفعول له ، لأنه معرف بالألف واللام ، وإذا كان كذلك فالأكثر في لسان العرب أن يدخل عليه حرف السبب ، وإن كان يجوز نصبه ، لكنه قليل كما أنشدوا .
لا أقعد الجبن عن الهيجاء
أي : للجبن ، وإنما عرف المفعول له ، هنا لأنه سبق منهم التعفف مراراً ، فصار معهوداً منهم . وقيل : من ، لابتداء الغاية ، أي من تعففهم ابتدأت محسبتته ، لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غنى تعفف ، وإنما يحسبهم أغنياء مال ، فمحسبته من التعفف ناشئة ، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة من المسألة ، وهو الذي عليه جمهور المفسرين ، وكونها للسبب أظهر ، ولا يجوز أن تتعلق : من ، بأغنياء ، لأن المعنى يصير إلى ضد المقصود ، وذلك أن المعنى : حالهم يخفى على الجاهل به ، فيظن أنهم أعنياء ، وعلى تعليق : من ، بأغنياء يصير المعنى : أن الجاهل يظن أنهم أغنياء ، ولكن بالتعفف ، والغني بالتعفف فقير من المال ، وأجاز ابن عطية أن تكون : من ، لبيان الجنس ، قال : يكون التعفف داخلاً في المحسبة ، أي : أنهم لا يظهر لهم سؤال ، بل هو قليل . وبإجمال فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة . فمن ، لبيان الجنس على هذا التأويل . إنتهى . وليس ما قاله من أن : من ، هذه في هذا المعنى لبيان الجنس المصطلح عليه في بيان الجنس ، لأن لها إعتباراً عند من قال بهذا المعنى لمن يتقدّر بموصول ، وما دخلت عليه يحصر خبر مبتدأ محذوف ، نحو : ) فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( التقدير : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان . ولو قلت هنا : ) يحسبهم الجاهل أغنياء الذي هو التعفف ، لم يصح هذا التقدير ، وكأنه سمى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس ، أي : بينت بأي جنس وقع غناهم بالتعفف ، لا غنى بالمال . فتسمى : من ، الداخلة على ما يبين جهة الغنى لبيان الجنس ، وليس المصطلح عليه كما قدمناه ، وهذا المعنى يؤول إلى أن من سببية ، لكنها تتعلق : بأغنياء ، لا : بيحسبهم ، ويحتمل أن يكون : يحسبهم ، جملة حالية ، ويحتمل أن يكون مستأنفة .
( تعرفهم بسيماهم ( الخطاب يحتمل أن يكون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمعنى : أنك تعرف أعيانهم بالسيما التي تدل عليهم ، ويحتمل أن يكون المعنى : تعرف فقرهم بالسيما التي تدل على الفقر ، من : رثاثة الأطمار ، وشحوب الألوان لأجل الفقر . وقال مجاهد : السيما الخشوع والتواضع ، وقال السدي : الفاقة ، والجوع في وجوههم ، وقلة النعمة . وقال ابن زيد : رثاثة أثوابهم ، وصفرة وجوههم . وقيل : أثر السجود ، واستحسنه ابن عطية ، قال : لأنهم كانوا متفرغين للعبادة ، فكان الأغلب عليهم الصلاة .
وقال القرطبي : هذا مشترك بين الصحابة كلهم لقوله تعالى في حقهم : ) سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( إلا إن كان

" صفحة رقم 343 "
يكون أثر السجود في هؤلاء أكثر ، وأما من فسر السيما بالخشوع ، فالخشوع محله القلب ، ويشترك فيه الغني والفقير ، والذي يفرق بين الغني والفقير ظاهراً إنما هو : رثاثة الحال ، وشحوب الألوان . وللصوفية في تفسير السيما مقالات . قال المرتعش : عزتهم على الفقر ، وقال الثوري : فرحهم بالفقر ، وقال أبو عثمان : إيثار ما عندهم مع الحاجة ، إليه وقيل : تيههم على الغني ، وقيل : طيب القلب وبشاشة الوجه .
والباء متعلقة : بتعرفهم ، وهي للسبب ، وجوزوا في هذه الجملة ما جوزوا في الجمل قبلها ، من الحالية ، ومن الاستئناف .
وفي هذه الآية طباق في موضعين : أحدهما : في قوله : أحصروا وضربا في الأرض ، والثاني : في قوله : للفقراء وأغنياء .
( لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ( إذا نفي حكم عن محكوم عليه بقيد ، فالأكثر في لسان العرب إنصراف النفي لذلك القيد ، فيكون المعنى على هذا ثبوت سؤالهم ، ونفي الإلحاح أي : وإن وقع منهم سؤال ، فإنما يكون بتلطف وتستر لا بإلحاح ، ويجوز أن ينفي ذلك الحكم فينتفي ذلك القيد ، فيكون على هذا نفي السؤال ونفي الإلحاح ، فلا يكون النفي على هذا منصباً على القيد فقط .
قال ابن عباس : لا يسألون إلحافاً ولا غير إلحاف ، ونظير هذا : ما تأتينا فتحدثنا . فعلى الوجه الأول : ما تأتينا محدثاً ، إنما تأتي ولا تحدث ، وعلى الوجه الثاني : ما يكون منك إتيان فلا يكون حديث ، وكذلك هذا لا يقع منهم سؤال البتة فلا يقع إلحاح . ونبه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح لقبح هذا الوصف ، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده ووجود غيره ، لأنه كان يصير المعنى الأول وإنما يراد بنفي مثل هذا الوصف نفي المترتبات على المنفي الأول لأنه نفى الأول على سبيل العموم ، فتنفى مترتباته ، كما أنك إذا نفيت الإتيان فانتفى الحديث ، انتفت جميع مترتبات الإتيان من : المجالسة والمشاهدة والكينونة في محل واحد ، ولكنه نبه بذكر مترتب واحد لغرض مّا عن سائر المترتبات ، وتشبيه الزجاج هذا المعنى في الآية ، بقول الشاعر :
على لاحبٍ لا يهتدى بمناره
إنما هو مطلق انتفاء الشيئين ، أي لا سؤال ولا إلحاف . وكذلك : هذا لا منار ولا هداية ، لا أنه مثله في خصوصية النفي ، إذ كان يلزم أن يكون المعنى : لا إلحاف ، فلا سؤال ، وليس تركيب الآية على هذا المعنى ، ولا يصح : لا إلحاف فلا سؤال ، لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، كما لزم من نفي المنار نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه ، وإنما يؤدي معنى النفي على طريقة النفي في البيت أن لو كان التركيب : لا يلحفون الناس سؤالاً ، لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف ، إذ نفي العام يدل على نفي الخاص ، فتلخص من هذا كله : أن نفي الشيئين تارة يدخل حرف النفي على شيء فتنتفي جميع عوارضه ، ونبه على بعضها بالذكر لغرض مّا ، وتراه يدخل حرف النفي على عارض من عوارضه ، والمقصود نفيه ، فينتفي لنفيه عوارضه .
وقال ابن عطية : تشبيهه ، يعني الزجاج ، الآية ببيت امرىء القيس غير صحيح ، ثم بين أن انتفاء صحة التشبيه من جهة أنه ليس مثله في خصوصية النفي ، لأن انتفاء المنار في البيت يدل على انتفاء الهداية ، وليس انتفاء الإلحاح يدل على انتفاء السؤال ، وأطال ابن عطية في تقرير هذا ، وقد بينا أن تشبيه الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين ، وقررنا ذلك .
وقيل : معنى إلحافاً أنه السؤال الذي يستخرج به المال لكثرة تلطفه ، أي : لا يسألون الناس بالرفق والتلطف ، وإذا لم يوجد هذا ، فلأن لا يوجد بطريق العنف أولى ، وقيل : معنى إلحافاً أنهم يلحفون على أنفسهم في ترك السؤال ، أي : لا يسألون لإلحاحهم على أنفسهم في : تركهم ، السؤال ، ومنعهم ذلك بالتكليف الشديد ، وقيل : من سأل ، فلا بد أن يلح ، فنفي الإلحاح عنهم مطلقاً موجب لنفي السؤال مطلقاً . وقيل : هو كناية عن عدم إظهار آثار الفقر ، والمعنى : أنهم لا يضمون إلى السكون من رثاثة الحال والانكسار ، وما يقوم مقام السؤال الملحّ ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالاً ، وأن تكون مستأنفة . ومن جوز الحال في هذه الجمل وذو الحال واحد ، إنما هو على مذهب من يجيز تعدد الحال الذي حالٍ ، وهي

" صفحة رقم 344 "
مسألة خلاف وتفصيل مذكور في علم النحو .
وجوزوا في إعراب : إلحافاً أن يكون مفعولاً من أجله ، وأن يكون مصدراً لفعل محذوف دل عليه : يسألون ، فكأنه قال : لا يلحفون . وأن يكون مصدراً في موضع الحال تقديره : لا يسألون ملحفين .
( وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( تقدّم : ) وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ ( ) وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ( وليس على سبيل التكرار ، والتأكيد بل كل منهما مقيد بغير قيد الآخر فالأول : ذكر أن الخير الذي يعلمه مع غيره إنما هو لنفسه ، وأنه عائد إليه جزاؤه ، والثاني : ذكر أن ذلك الجزاء الناشيء عن الخير يوفاه كاملاً من غير نقص ولا بخس ، والثالث : ذكر أنه تعالى عليم بما ينفقه الإنسان من الخير ، ومقداره ، وكيفية جهاته المؤثرة في ترتب الثواب ، فأتى بالوصف المطلع على ذلك وهو : العلم .
البقرة : ( 274 ) الذين ينفقون أموالهم . . . . .
2 ( ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( ) ) 2
) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً ( قال أبو ذر ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، وأبو أمامة ، وعبد الله بن بشر الغافقي ، ومكحول ، ورباح بن بريد ، والأوزاعي : هي في علف الخيل المرتبطة في سبيل الله ، ومرتبطها . وكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية .
وقال ابن عباس أيضاً ، والكلبي : نزلت في علي ، كانت عنده أربعة دراهم ، قال الكلبيب ، لم يملك غيرها ، فتصدّق بدرهم ليلاً ، وبدرهم نهارا وبدرهم سراً ، بدرهم علانية .
وقال ابن عباس أيضاً : نزلت في عليّ بعث بوسق تمر إلى أهل الصفة ليلاً ، وفي عبد الرحمن بن عوف بعث إليهم بدراهم كثيرة نهاراً .
وقال قتادة : نزلت في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير . إنتهى . وقيل : نزلت في أبي بكرب ، تصدق بأربعين ألف دينار : عشرة بالليل ، وعشرة بالأنهار وعشرة في السر ، وعشرة في الجهر .
والآية ، وإن نزلت على سبب خاص ، فهي عامة في جميع ما دلت عليه ألفاظ الآية ، والمعنى أنهم فيما قال الزمخشري : يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير ، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ، ولم يؤخروه ، ولم يتعللوا بوقت ولا حال . إنتهى .
ولم يبين في هذه الآية أفضلية الصدقة في أحد الزمانين ، ولا في إحدى الحالتين اعتماداً على الآية قبلها ، وهي : ) إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ ( أو جاء تفصيلاً على حسب الواقع من صداقة أبي بكر ، وصدقة علي ، وقد يقال : إن تقديم الليل على النهار ، والسر على العلانية يدل على تلك الأفضلية ، والليل مظنة صدقة السر ، فقدم الوقت الذي كانت الصدقة فيه أفضل ، والحال التي كانت فيها أفضل .
والباء في : بالليل ، ظرفية ، وانتصاب : سراً وعلانية ، على أنهما مصدران في موضع الحال أي : مسرين ومعلنين ، أو : على أنهما حالان من ضمير الإنفاق على مذهب سيبوية ، أو : نعتان لمصدر محذوف أي : إنفاقاً سراً ، على مشهور الإغراب في : قمت طويلاً ، أي قياماً طويلاً .
( فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( تقدّم تفسير بهذا فلا نعيده ، ودخلت : الفاء في فلهم ، لتضمن الموصول معنى اسم الشرط لعمومه .
قال ابن عطية : وإنما يوجد الشبه ، يعنى بين الموصول واسم الشرط ، إذا كان : الذي ، موصولاً بفعل ، وإذا لم يدخل على : الذي ، عامل يغير معناه . إنتهى . فحصر الشبه فيما إذا كان : الذي ، موصولاً بفعل

" صفحة رقم 345 "
وهذا كلام غير محرر ، إذ ما ذكره له قيود .
أولها : أن ذلك لا يختص بالذي بل كل موصول غير الألف واللام حكمه في ذلك حكم الذي بلا خلاف ، وفي الألف واللام خلاف ، ومذهب سيبويه المنع من دخول الفاء .
الثاني : قوله موصولاً بفعل ، فأطلق في الفعل واقتصر عليه وليس كذلك ، بل شرط الفعل أن يكون قابلاً لأداة الشرط ، فلو قلت : الذي يأتيني ، أو : لما يأتيني ، أو : ما يأتيني ، أو : ليس يأتيني ، فله درهم ، لم يجز لأداة الشرط ، لا يصلح أن تدخل على شيء من ذلك ، وأما الاقتصار على الفعل فليس كذلك ، بل الظرف والجار والمجرور كالفعل في ذلك ، فمتى كانت الصلة واحداً منهما جاز دخول الفاء . وقوله : وإذا لم يدخل على : الذي ، عامل يغير عبارة غير مخلصة ، لأن العامل الداخل عليه كائناً ما كان لا يغير معنى الموصول ، إنما ينبغي أن يقول : معنى جملة الابتداء في الموصول ، وخبره فيخرجه إلى تغيير المعنى الابتدائي من : تمن ، أو تشبيه ، أو ظن ، أو غير ذلك . لو قلت : الذي يزورنا فيحسن إلينا لم يجز ، وكان ينبغي أيضاً لابن عطية أن يذكر أن شرط دخول الفاء في الخبر أن يكون مستحقاً بالصلة ، نحو ما جاء في الآية ، لأن ترتب الأجر إنما هو على الإنفاق . ومسألة دخول الفاء في خبر المبتدأ يستدعي كلاماً طويلاً ، وفي بعض مسائلها خلاف وتفصيل ، قد ذكرنا ذلك في كتاب ( لتذكرة ) من تأليفنا .
2 ( ) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوااْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوااْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوااْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( )
البقرة : ( 275 ) الذين يأكلون الربا . . . . .
الربا : الزيادة يقال : ربا يربو وأرباه ، غيره : وأربى الرجل ، عامل بالربا ، ومنه الربوة والرابي . وقال حاتم : وأسمر خطيا كأن كعوبه
نوى القشب قد أربى ذراعاً على العشر
وكتب في القرآن بالواو والألف بعدها ، ويجوز أن يكتب بالياء للكسرة ، وبالألف . وتبدل الباء ميماً قالوا : الرما ، كماغ أبدلوها في كتب قالوا : كتم ، ويثنى : ربوان ، بالواو عند البصريين ، لأن ألفه منقلبة عنها . وقال الكوفيون : ويكتب بالياء ، وكذلك الثلاثي المضموم الأول نحو : ضحى ، فتقول : ربيان وضحيان ، فإن كان مفتوحاً نحو : صفا ، فاتفقوا على الواو .
وأما الربا الشرعي فهو محدود في كتب الفقهاء على حسب اختلاف مذاهبهم .
تخبط : تفعل من الخبط وهو الضرب على غير استواء ، وخبط البعير الأرض بأخفافه ، ويقال للذي يتصرف ولا يهتدي : خبط عشواء ، وتورط في عمياء وقول علقمة :
وفي كل حي قد خبطت بنعمة

" صفحة رقم 346 "
أي : أعطيت من أردت بلا تمييز كرماً .
سلف : مضى وانقضى ، ومنه سالف الدهر أي ماضيه .
عاد عوداً : رجع ، وذكر بعضهم أنها تكون بمعنى صار ، وأنشد : تعد فيكُمُ جزر الجزور رماحنا
ويرجعن بالأسياف منكسرات
المحق : نقصان الشيء حالاً بعد حال . ومنه : المحاق في الهلال ، يقال : محقه الله فانمحق وامتحق أنشد الليث : يزداد حتى إذا ما تمَّ أعقبه
كرّ الجديدين نقصاً ثم ينمحق
) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَوااْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أن ما قبلها وارد في تفضيل الإنفاق والصدقة في سبيل الله ، وأنه يكون ذلك من طيب ما كسب ، ولا يكون من الخبيث . فذُكر نوع غالب عليهم في الجاهلية ، وهو : خبيث ، وهو : الربا ، حتى يمتنع من الصدقة بما كان من ربا ، وأيضاً فتظهر مناسبة أخرى ، وذلك أن الصدقات فيها نقصان مال ، والربا فيه زيادة مال ، فاستطرد من المأمور به إلى ذكر المنهي عنه لما بينهما من مناسبة ذكر التضاد ، وأبدى لأكل الربا صورة تستبشعها العرب على عادتها في ذكر ما استغربته واستوحشت منه ، كقوله : ) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّياطِينِ ( وقول الشاعر :
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وقل الآخر :
خيلاً كأمثال السعالي شرّباً
وقل الآخر :
بخيل عليها جنّة عبقريّة
والأكل هنا قيل على ظاهره من خصوص الأكل ، وأن الخبر : عنهم ، مختص بالآكل الربى ، وقيل : عبر عن معاملة الربا وأخذه بالأكل ، لأن الأكل غالب ما ينتفع به فيه ، كما قال تعالى : ) وَأَخْذِهِمُ الرّبَا ( وقيل : الربا هنا كناية عن الحرام ، لا يخص الربا الذي في الجاهلية ، ولا الربا الشرعي . وفرأ العدوي : الربو ، بالواو وقيل : وهي لغة الحيرة ، ولذلك كتبها أهل الحجاز بالواو لأنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة ، وهذه القراءة على لغة من وقف على أفعى بالواو ، فقال : هذه أفعو ، فأجرى هذا القارىء الوصل إجراء الوقف .
وحكى أبو زيد : أن بعضهم قرأ بكسر الراء وضم الباء وواو ساكنة ، وهي قراءة بعيدة ، لأن لا يوجد في لسان العرب اسم آخره واو قبلها ضمة ، بل متى أدى التصريف إلى ذلك قلبت تلك الواو ياءً وتلك الضمة كسرة ، وقد أولت هذه القراءة على أنها على لغة من قال : في أفعى : أفعو ، في الوقف . وأن القارىء إما أنه لم يضبط حركة الباء ، أو سمى قربها من الضمة ضماً .
و : لا يقومون ، خبر عن : الذين ، ووقع في بعض التصانيف أنها جملة

" صفحة رقم 347 "
حالية ، وهو بعيد جداً ، إذ يتكلف إضمار خبر من غير دليل عليه . وظاهر هذا الإخبار أنه عن الذين يأكلون الربا ، وقيل : هو إخبار ووعيد عن الذين يأكلون الربا مستحلين ذلك ، بدليل قولهم : ) إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ ( وقوله : ) الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( وقوله : ) فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( ومن اختار حرب الله ورسوله فهو كافر ، وهذا القيام الذي في الآية قيل هو يوم القيامة .
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وجبير ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، وابن زيد : معناه لا يقومون من قبورهم في البعث يوم القيامة إلاَّ كالمجانين ، عقوبة لهم وتمقيتاً عند جمع المحشر ، ويكون ذلك سيما لهم يعرفون بها ، ويقوي بهذا التأويل قراءة عبد الله : لا يقومون يوم القيامة .
وقال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنقه كأنه يخبط في المعاملات في الدنيا ، فجوزي في الآخرة بمثل فعله . وقد أثر في حديث الإسراء أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) رأى أكلة الربا ، كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم ، وذكر حالهم أنهم إذا قاموا تميل بهم بطونهم فيصرعون ، وفي طريق أنه رأى بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم .
قال ابن عطية : وأما ألفاظ الآية فيحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون ، لأن الطمع والرغبة يستفزه حتى تضطرب أعضاؤه ، كما يقوم المسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته ، إما من فزع أو غيره قد جن . هذا وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله : وتصبح عن غب السرى وكأنها
ألمَّ بها من طائف الجن أولق
لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل . إنتهى كلامه . وهو حسن ، إلاَّ كما يقوم الكاف في موضع الحال ، أو نعتاً لمصدر محذوف على الخلاف المتقدم بين سيبوية وغيره ، وتقدم في مواضع .
و : ما ، الظاهر أنها مصدرية ، أي : كقيام الذي ، وأجاز بعضهم أن يكون بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره إلاَّ كما يقومه الذي يتخبطه الشيطان . قيل : معناه كالسكران الذي يستجره الشيطان فيقع ظهراً لبطن ، ونسبه إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره .
وظاهر الآيه أن الشيطان يتخبط الإنسان ، فقيل ذلك حقيقة هو من فعل الشيطان بتمكين الله تعالى له من ذلك في بعض الناس ، وليس يفي العقل ما يمنع من ذلك ، وقيل : ذلك من فعل الله لما يحدثه فيه من غلبة السوء أو انحراف الكيفيات واحتدادها فتصرعه ، فنسب إلى الشيطان مجازاً تشبيهاً بما يفعله أعوانه مع الذين يصرعونهم ، وقيل : أضيف إلى الشيطان على زعمات العرب أن الشيطان يخيبط الإنسان فيصرعه ، فورد على ما كانوا يعتقدون ، يقولون : رجل ممسوس ، وجُنَّ الرجل .
قال الزمخشري : ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عنده كإنكار المشاهدات . إنتهى .
وتخبط هنا : تفعَّل ، موافق للمجرد ، وهو خبط ، وهو أحد معاني : تفعل ، نحو : تعدى الشيء وعداه إذا جاوزه .
من المس ، المس الجنون يقال : مس فهو ممسوس وبه مس . أنشد ابن الأنباري ، رحمة الله تعالى : أعلل نفسي بما لا يكون
كذي المس جن ولم يخنق وأصله من المس باليد ، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه ، وسمي الجنون مساً كما أن الشيطان يخبطه ويطأه برجله فيخيله ، فسمي الجنون خبطة ، فالتخبط بالرجل والمس باليد ، ويتعلق : من المس ، بقوله : يتخبطه ، وهو على سبيل التأكيد ، ورفع ما يحتمله يتخبطه من المجاز إذ هو ظاهر في أنه لا يكون إلاَّ من المس ، ويحتمل أن يراد بالتخبط الإغواء وتزيين المعاصي ، فأزال قوله : من المس ، هذا الاحتمال . وقيل : يتعلق : بيقوم ، أي : كما يقوم من جنونه المصروع .
وقال الزمخشري : فإن قلت : بم يتعلق قوله : من المس ؟ .
قلت : بلا يقومون ، أي : لا يقومون من المس الذي بهم إلاَّ كما يقوم

" صفحة رقم 348 "
المصروع . إنتهى .
وكان قد قدم في شرح المس أنه الجنون ، وهو الذي ذهب إليه في تعلق : من المس ، بقوله : لا يقومون ، ضعيف لوجهين :
أحدهما : أنه قد شرح المس بالجنون ، وكان قد شرح أن قيامهم لا يكون إلاَّ في الآخرة ، وهناك ليس بهم جنون ولا مس ، ويبعد أن يكنى بالمس الذي هو الجنون عن أكل الربا في الدينا ، فيكون المعنى : لا يقومون يوم القيامة . أو من قبورهم من أجل أكل الربا إلاَّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان ، إذ لو أريد هذا المعنى لكان التصريح به أولى من الكناية عنه بلفظ المس ، إذ التصريح به أبلغ في الزجر والردع .
والوجه الثاني : أن : ما ، بعد : إلاَّ ، لا يتعلق بما قبلها ، إلاَّ إن كان في حيز الاستثناء ، وهذا ليس في حيز الاستثناء ، ولذلك منعوا أن يتعلق ) بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ ( بقوله : ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً ( وان التقدير : ما أرسلنا بالبينات والزبر إلاَّ رجالاً .
( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ ( الإشارة بذلك إلى ذلك القيام المخصوص بهم في الآخرة ، ويكون مبتدأ ، والمجرور الخبر ، أي : ذلك القيام كائن بسبب أنهم ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره : قيامهم ذلك إلاَّ أن في هذا الوجه فصلاً بين المصدر ومتعلقه الذي هو : بأنهم ، على أنه لا يبعد جواز ذلك لحذف المصدر ، فلم يظهر قبح بالفصل بالخبر ، وقدّره الزمخشري : ذلك العقاب بسبب أنهم ، والعقاب بسبب أنهم ، والعقاب هو ذلك القيام ، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى أكلهم الربا ، أي ذلك الأكل الذي استحلوه بسبب قولهم واعتقادهم أن البيع مثل الربا ، أي : مستندهم في ذلك التسوية عندهم بين الربا والبيع ، وشبهوا البيع وهو المجمع على جوازه بالربا وهو محرم ، ولم يعكسوا تنزيلاً لهذا الذي يفعلونه من الربا منزلة الأصل المماثل له البيع ، وهذا من عكس التشبيه ، وهو موجود في كلام العرب . قاله ذو الرمّة :
ورمل كأروال العذارى قطعته
وهو كثير في أشعار المولدين ، كما قال أبو القاسم بن هانيء : كأن ضياء الشمس غرّة جعفر
رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفاً
وكان أهل الجاهلية إذا حل دينه على غريمه طالبه ، فيقول : زدني في الأجل وأزيدك في المال ، فيفعلان ذلك ويقولان : سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح ، أو عند المحل لأجل التأخير ، فكذبهم الله تعالى . وقيل : كانت ثقيف أكثر العرب رباً ، فلما نهوا عنه قالوا : إنما هو مثل البيع .
( الرّبَوااْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ ). ظاهره أنه من كلام الله تعالى لا من كلامهم ، وفي ذلك ردّ عليهم إذ ساووا بينهما ، والحكم في الأشياء إنما هو إلى الله تعالى ، لا يعارض في حكمه ولا يخالف في أمره ، وفي هذه الآية دلالة على أن القياس في مقابلة النص لا يصح ، إذ جعل الدليل في إبطال قولهم هو : أن الله أحل البيع وحرم الربا . وقال بعض العلماء : قياسهم فاسد ، لأن البيع عوض ومعوض لا غبن فيه ، والربا فيه التغابن وأكل المال البطل ، لأن الزيادة لا مقابل لها من جنسها ، بخلاف البيع ، فإن الثمن مقابل بالمثمن . .
قال جعفر الصادق : حرم الله الربا ليتقارض الناس ، وقيل : حرم لأنه متلف للأموال ، مهلك للناس . وقال بعضهم : يحتمل أن يكون : ) وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ ( من كلامهم ، فكانوا قد عرفوا تحريم الله الربا فعارضوه بآرائهم ، فكان ذلك كفراً منهم .
والظاهر : عموم البيع والربا في كل بيع ، وفي كل ربا ، إلاَّ ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا ، وقيل : هما مجملان ، فلا يقدّم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلاَّ ببيان ، وهذا فرق ما بين العام والمجمل ، وقيل : هو عموم دخله التخصيص ، ومجمل دخله التفسير ، وتقاسيم البيع والربا وتفاصيلهما مذكور في كتب الفقه .
والظاهر أن الآية كما قالوا في

" صفحة رقم 349 "
الكفار ، لقوله : ) فَلَهُ مَا سَلَفَ ( لأن المؤمن العاصي بالربا ليس له ما سلف ، بل ينقض ويردّ فعله ، وإن كان جاهلاً بالتحريم ، لكنه يأخذ بطرف من وعيد هذه الآية .
( فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ( حذف تاء التأنيث من : جاءته ، للفصل ، ولأن تأنيث الموعظة مجازي . وقرأ أبيّ ، والحسن : فمن جاءته بالتاء على الأصل ، وتلث عائشة هذه الآية حين سألتها العالية بنت أبقع ، زوج أبي إسحاق السبيعي عن شرائها جارية بستمائة درهم نقداً من زيد بن أرقم ، وكانت قد باعته إياها بثمانمائة درهم إلى عطائه ، فقالت عائشة : بئسما شريت وما اشتريت ، فابلغي زيداً أنه أبطل جهاده مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلاَّ أن يتوب ، فقالت العالية : أرأيت إن لم آخذ منه إلاَّ رأس مالي ؟ فتلت الآية عائشة . والموعظة : التحريم ، أو : الوعيد ، أو : القرآن ، أقوال . ويتعلق : من ربه ، بجاءته ، أو : بمحذوف ، فيكون صفة لموعظة ، وعلى التقدير فيه تعظيم الموعظة إذ جاءته من ربه ، الناظر له في مصالحه ، وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة . إذ الرب فيه إشعار بإصلاح عبده ، فانتهى تبع النهي ، ورجع عن المعاملة بالربا ، أو عن كل محرم من الاكتساب ) فَلَهُ مَا سَلَفَ ( أي ما تقدم له أخذه من الربا لاتباعه عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة ، وهذا حكم من الله لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ، ومن كان يتجر هنالك . وهذا على قول من قال : الآية مخصوصة بالكفار ، ومن قال : إنها عامة فمعناه : فله ما سلف ، قبل التحريم .
( وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ( الظاهر أن الضمير في : أمره ، عائد على المنتهي ، إذ سياق الكلام معه ، وهو بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير ، كما تقول : أمره إلى طاعة وخير ، وموضع رجاء ، والأمر هنا ليس في الربا خاصة ، بل وجملة أموره ، وقيل : في الجزاء والمحاسبة ، وقيل : في العفو والعقوبة ، وقيل : أمره إلى الله يحكم في شأنه يوم القيامة ، لا إلى الذين عاملهم ، فلا يطالبونه بشيء ، وقيل : المعنى فأجره على الله لقبوله الموعظة ، قال الحسن .
وقيل : الضمير يعود على : ما سلف ، أي في العفو عنه ، وإسقاط التبعة فيه ، وقيل : يعود على ذي الربا ، أي : في أن يثبته على الانتهاء ، أو يعيده إلى المعصية . قاله ابن جبير ، ومقاتل ، وقيل : يعود على الربا أي في إمرار تحريمه ، أو غير ذلك ، وقيل : في عفو الله من شاء منه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
( وَمَنْ عَادَ ( إلى فعل الربا ، والقول بأن البيع مثل الربا ، قال سفيان : ومن عاد إلى فعل الربا حتى يموت فله الخلود ) فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( تقدّم تفسير هذه الجملة الواقعة خبراً : لمن ، وحمل فيها على المعنى بعد الحمل على اللفظ ، فإن كانت في الكفار فالخلود خلود تأبيد ، أو في مسلم عاص فخلوده دوام مكثه لا التأبيد .
وقال الزمخشري : وهذا دليل بيِّن على تخليد الفساق . إنتهى . وهو جارٍ على مذهبه الإعتزالي في : أن الفاسق يخلد في النار أبداً ولا يخرج منها ، وورد عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وصح أن أكل الربا من السبع الموبقات ، وروي عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه : أن رسول الله لعن آكل الربا ومؤكله ، وسأل مالكاً رحمه الله رجلٌ رأى سكران يتقافز ، يريد أن يأخذ القمر ، فقال : امرأته طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم شر من الخمر ، أتطلق امرأته ؟ فقال له مالك ، بعد أن ردّه مرتين : امرأتك طالق ، تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئاً أشر من الربا ، لأن الله تعالى قد آذن فيه بالحرب .
البقرة : ( 276 ) يمحق الله الربا . . . . .
( يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ ( أي : يذهب ببركته ويذهب المال الذي يدخل فيه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير ؛ وعن ابن مسعود : أن الربا وإن كثر ، فعاقبته إلى قل . وروى الضحاك عن ابن عباس أن محاقه إبطال ما يكون منه من صدقةٍ وصلة رحم وجهادٍ ونحو ذلك .
( وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ ( قيل : الإرباء حقيقة وهو أنه يزيدها وينميها في الدنيا بالبركة ،

" صفحة رقم 350 "
وكثرة الأرباح في المال الذي خرجت منه الصدقة ، وقيل : الزيادة معنوية ، وهي تضاعف الحسنات والأجور الحاصلة بالصدقة ، كما جاء في كثير من الآيات والأحاديث .
وقرأ ابن الزبير ، ورويت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يمحق ويربي ، من : محق وربى مشدّداً .
وفي ذكر المحق والإرباء بديع الطباق ، وفي ذكر الربا ويربى بديع التجنيس المغاير .
( وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( فيه تغليط أمر الربا وإيذان أنه من فعل الكفار لا من فعل أهل الإسلام ، وأتى بصيغة المبالغة في الكافر والآثم ، وإن كان تعالى لا يحب الكافر ، تنبيهاً على عظم أمر الربا ومخالفة الله وقولهم : ) إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ ( وأنه لا يقول ذلك ، ويسوي بين البيع والربا ليستدل به على أكل الربا إلاَّ مبالغ في الكفر ، مبالغ في الإثم . وذكر الأثيم على سبيل المبالغة والتوكيد من حيث اختلف اللفظان . وقال ابن فورك : ذكر الأثيم ليزول الاشتراك الذي في : كفار ، إذ يقع على الزارع الذي يستر الأرض . إنتهى . وهذا فيه بعد ، إطلاق القرآن : الكافر ، والكافرون ، والكفار ، إنما هو على من كفر بالله ، وأما إطلاقه على الزارع فبقرينة لفظية ، كقوله : ) كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ).
وقال ابن فورك : ومعنى الآية : ) وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( محسناً صالحاً ، بل يريده مسيئاً فاجراً ، ويحتمل أن يريد : والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم .
وقال ابن عطية : وهذه تأويلات مستكرهة : أما الأول فأفرط في تعدية الفعل ، وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه ، وأما الثاني فغير صحيح المعنى ، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه ، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ، ولطف به ، وحرص على حفظه وتظهر دلائل ذلك ، والله تعالى يريد وجود ظهور الكافر على ما هو عليه ، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه ، نحو ما ذكرناه في الشاهد ، وتلك المزية موجودة للمؤمن . إنتهى كلامه .
والحب حقيقة ، وهو الميل الطبيعي ، منتف عن الله تعالى ، وابن فورك جعله بمعنى الإرادة ، فيكون صفة ذات ، وابن عطية جعله بمعنى اللطف وإظهر الدلائل ، فيكون صفة فعل وقد تقدّم الكلام على ذلك .
( ) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَآتَوُاْ الزَّكَواةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( )
) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَآتَوُاْ الزَّكَواةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (
البقرة : ( 277 ) إن الذين آمنوا . . . . .
مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة ، وذلك أنه لما ذكر حال آكل الربا ، وحال من عاد بعد مجيء الموعظة ، وأنه كافر أثيم ، ذكر ضد هؤلاء ليبين فرق ما بين الحالين .
وظاهر الآية العموم ، وقال مكي : معناه أن الذين تابوا من أكل الربا وآمنوا ما أنزل عليهم ، وانتهوا عما نهوا عنه وعملوا الصالحات . إنتهى . ونص على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وإن كانا مندرجين في عموم الأعمال البدنية والمالية ، وألفاظ الآية تقدّم تفسيرها .
( يَحْزَنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (
البقرة : ( 278 ) يا أيها الذين . . . . .
قيل : نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف ، كانت لهم ديون ربا على بني المغيرة من بني مخزوم ، وقيل : في

" صفحة رقم 351 "
عباس ، وقيل : في عثمان ، وقال السدّي : في عباس ، وخالد بن الوليد ، وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا ، وملخصه أنهم أرادوا أن يتقاضوا رباهم ، فنزلت . ولما تقدّم قوله : ) فَلَهُ مَا سَلَفَ ( وكان المعنى : فله ما سلف قبل التحريم ، أي : لا تبعة عليه فيما أخذه قبل التحريم ، واحتمل أن يكون قوله : ما سلف ، أي : ما تقدّم العقد عليه ، فلا فرق بين المقبوض منه وبين ما في الذمة ، وإنما يمنع إنشاء عقد ربوي بعد التحريم ، أزال تعالى هذا الإحتمال بأن أمر بترك ما بقي من الربا في العقود السابقة ، قبل التحريم ، وأن ما بقي في الذمة من الربا هو كالمنشأ بعد التحريم ، وناداهم بإسم الإيمان تحريضاً لهم على قبول الأمر بترك ما بقي من الربا ، وبدأ أولاً بالأمر بتقوى الله ، إذ هي أصل كل شيء ، ثم أمر ثانياً بترك ما بقي من الربا .
وفتحت عين : وذروا ، حملاً على : دعوا ، وفتحت عين : دعوا ، حملاً على : يدع ، وفتحت في يدع ، وقياسها الكسر ، إذ لامه حرف حلق وقرأ الحسن : ما بقا ، بقلب الياء ألفاً ، وهي لغة لطيء ، ولبعض العرب . وقال علقمة بن عبدة التميمي : زها الشوق حتى ظل إنسان عينه
يفيض بمغمور من الماء متأق
وروي عنه أيضاً أنه قرأ : ما بقي ، باسكان الياء وقال الشاعر : لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقي
على الأرض قيسيّ يسوق الأباعرا
وقال جرير : هو الخليفة فارضوا ما رضى لكم
ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( تقدّم أنهم مؤمنون بخطاب الله تعالى لهم : ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( وجمع بينهما بأنه شرط مجازي على جهة المبالغة ، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه : إن كنت رجلاً فافعل كذا قاله ابن عطية ، أو بأن المعنى : إن صح إيمانكم ، يعني أن دليل صحة الإيمان وثباثه امتثال ما أمرتم به من ذلك ، قاله الزمخشري ، وفيه دسيسه اعتزال ، لأنه إذا توقفت صحة الإيمان على ترك هذه المعصية فلا يجامعها الصحة مع فعلها ، وإذا لم يصح إيمانه لم يكن مؤمناً ، وهو قول البعض النحويين ، أن : إن ، تكون بمعنى : إذ ، وهو ضعيف مردود ولا يثبت في اللغة ، وقيل : هو شرط يراد به الاستدامة ، وقيل : يراد به الكمال ، وكأن الإيمان لا يتكامل إذا أصرّ الإنسان على كبيرة ، وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق إذا اجتنب الكبائر ، هذه وإن كانت الدلائل قد قامت على أن حقيقة الإيمان لا يدخل العمل في مسماها ، وقيل : الإيبمان متغاير بحسب متعلقه ، فمعنى الأول : ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( بألسنتهم . ومعنى الثاني : ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( بقلوبكم .
وقيل : يحتمل أن يريد : يا أيها الذي آمنوا بمن قبل ، محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الأنبياء ، ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بمحمد ، إذ لا ينفع الأول إلاَّ بهذا ، قاله ابن فورك .
قال ابن عطية : وهو مردود بما روي في سبب الآية . إنتهى . يعني أنها نزلت في عباس ، وعثمان ، أو في عباس ، وخالد ، أو فيمن أسلم من ثقيف ولم يكونوا هؤلاء قبل الإيمان آمنوا بأنبياء ، وقيل : هو شرط محض في ثقيف على بابه ، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام . إنتهى . وعلى هذا ليس بشرط صحيح إلاَّ على تأويل استدامة الإيمان ، وذكر ابن عطية : أن أبا السماك ، وهو العدوي ، قرأ هنا : من

" صفحة رقم 352 "
الرِّبو ، بكسر الراء المشدّدة وضم الباء وسكون الواو ، وقد ذكرنا قراءته كذلك في قوله : ) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَوااْ ( وشيئاً من الكلام عليها .
وقال أبو الفتح : شذ هذا الحرف في أمرين ، أحدهما : الخروج من الكسر إلى الضم بناءً لازماً ، والآخر : وقوع الواو بعد الضمة في آخر الأسم ، وهذا شيء لم يأت إلاَّ في الفعل ، نحو : يغزو ، ويدعو .
وأماذو ، الطائية بمعنى : الذي فشاذة جداً ، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع ، فتقول : رأيت ذاقام . وجه القراءة أنه فخم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم : الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة . إنتهى كلام أبي الفتح .
ويعني بقوله : بناءً لازماً ، أنه قد يكون ذلك عارضاً نحو : الحبك ، فكسرة الحاء ليست لازمة ، ومن قولهم الردؤ ، في الوقف ، فضمة الدال ليست لازمة ، ولذلك لم يوجد في أبنية كلامهم فعل لا في اسم ولا فعل ، وأما قوله : وهذا شيء لم يأت إلاَّ في الفعل ، نحو : يغزو ، فهذا كما ذكر إلاَّ أنه جاء ذلك في الأسماء الستة في حالة الرفع ، فله أن يقول : لما لم يكن ذلك لازماً في النصب والجر ، لم يكن ناقصاً لما ذكروا ، ونقول : إن الضمة التي فيما قبل الآخر إما هي للاتباع ، فليس ضمة تكون في أصل بنية الكلمة كضمة تغزو .
البقرة : ( 279 ) فإن لم تفعلوا . . . . .
( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( ظاهره : فإن لم تتركوا ما بقي من الربا ، وسمي الترك فعلاً ، وإذا أمروا بترك ما بقي من الربا من ذلك الأمر بترك إنشاء الربا على طريق الأولى والأحرى . وقال الرازي : فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، ومن ذهب إلى هذا قال : فيه دليل على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام خرج من الملة كما لو كفر بجميعها .
وقرأ حمزة ، وأبو بكر في غير رواية البرجمي ، وابن غالب عنه : فأذنوا ، أمر من : آذن الرباعي بمعنى : أعلم ، مثل قوله : ) فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء ).
وقرأ باقي السبعة : فأذنوا ، أمر من : أذن ، الثلاثي ، مثل قوله : ) لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ).
وقرأ الحسن : فأيقنوا بحرب .
والظاهر أن الخطاب في قوله : ) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ( هو لمن صدرت الآية بذكره ، وهم المؤمنون ، وقيل : الخطاب للكفار الذين يستحلون الربا ، فعلى هذا المحاربه ظاهرة ، وعلى الأول فالإعلام أو العلم بالحرب جاء على سبيل المبالغة في التهديد دون حقيقة الحرب ، كما جاء : ( من أهان لي ولياً فقد آذنني بالمحاربة ) . وقيل : المراد نفس الحرب .
ونقول : الإصرار على الربا إن كان ممن يقدر عليه الإمام ، قبض عليه الإمام وعزره وحبسه إلى أن يظهر منه التوبة ، أو ممن لا يقدر عليه ، حاربه كما تحارب الفئة الباغية .
وقال ابن عباس : من عامل بالربا يستتاب ، فإن تاب وإلاَّ ضربت عنقه .
ويحمل قوله هذا على من يكون مستبيحاً للربا ، مصراً على ذلك ، ومعنى الآية : فإن لم تنتهوا حاربكم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : المعنى : فأنتم حرب الله ورسوله ، أي : أعداء . والحرب داعية القتل ، وقالوا : حرب الله النار ، وحرب رسوله السيف .
وروي عن ابن عباس أنه : ( يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب . والباء في بحرب على قراءة القصر للإاصاق ، تقول : أذن بكذا ، أي : علم ، وكذلك قال ابن عباس وغيره : المعنى فاستيقنوا بحرب من الله .
وقال الزمخشري : وهو من الأذن ، وهو الاستماع ، لأنه من طريق

" صفحة رقم 353 "
العلم . إنتهى .
وقراءة الحسن تقوي قراءة الجمهور بالقصر . وقال ابن عطية : هي عندي من الإذن ، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبني مع نفسه عليه ، فكأنه قيل لهم : قرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله .
ويلزمهم من لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون ، إذ هم الآذنون فيها ، وبها ، ويندرج في هذا علمهم بأنه حرب الله ، وتيقنهم لذلك . إنتهى كلامه . فيظهر منه ان الباء في : ) بِحَرْبٍ ( ظرفية . أي : فاذنوا في حرب ، كما تقول أذن في كذا ، ومعناه أنه سوغه ومكن منه .
قال أبو علي : ومن قرأ فآذنوا بالمدّ ، فتقديره : فأعلموا من لم بنته عن ذلك بحرب ، والمفعول محذوف ، وقد ثبت هذا المعفول في قوله تعالى : ) فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء ( وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة ، قال : ففي إعلامهم علمهم ، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم .
فقراءة المد أرجح ، لأنها أبلغ وآكد .
وقال الطبري : قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم ، وإنما أمروا على قراءة المدّ بإعلام غيرهم ، وقال ابن عطية : والقراءتان عندي سواء ، لأن المخاطب محصور ، لأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا ، فإن قيل : فآذنوا ، فقد عمهم الأمر . وإن قيل : فآذنوا ، بالمدّ فالمعنى : أنفسكم ، أو : بعضكم بعضاً . وكأن هذه القراءة تقتضي فسحاً لهم في الارتياء والتثبت ، فأعلموا نفوسكم هذا ، ثم انظروا في الأرجح لكم : ترك الربا أو الحرب إنتهى .
وروي : أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا يدلنا بحرب الله ورسوله .
ومن ، في قوله : من الله ، لابتداء الغاية ، وفيه تهويل عظيم ، إذا الحرب من الله تعالى ومن نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا يطيقه أحد ، ويحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف ، أي : من حروب الله .
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل بحرب الله ورسوله ؟ قلت : كان هذا أبلغ لأن المعنى : فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله . إنتهى . وإنما كان أبلغ لأن فيها نصاً بأن الحرب من الله لهم ، فالله تعالى هو الذي يحاربهم ، ولو قيل : بحرب الله ، لاحتمل أن تكون الحرب مضافة للفاعل ، فيكون الله هو المحارب لهم ، وأن تكون مضافة للمفعول ، فيكونوا هم المحاربين الله . فكون الله محاربهم أبلغ وأزجر في الموعظة من كونهم محاربين الله .
( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ ( أي : إن تبتم من الربا ورؤوس الأموال : أصولها ، وأما الأرباح فزوائد وطوارىء عليها . قال بعضهم : إن لم يتوبوا كفروا برد حكم الله واستحلال ما حرم الله ، فيصير مالهم فيئاً للمسلمين ، وفي الاقتصار على رؤوس الأموال مع ما قبله دليل واضح على أنه ليس لهم إلاَّ ذلك ، ومفهوم الشرط أنه : إن لم يتوبوا فليس لهم رؤوس أموالهم ، وتسمية أصل المال رأساً مجاز .
( لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ( قرأ الجمهر الأول مبنياً للفاعل ، والثاني مبنياً للمفعول ، أي : لا تظلمون الغريم بطلب زيادة على رأس المال ، ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال ، وقيل : بالمطل . وقرأ أبان ، والمفضل ، عن عاصم الأول مبنياً للمفعول ، والثاني مبيناً للفاعل ورجح أبو علي قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله : وإن تبتم ، في إسناد الفعلين إلى الفاعل ، فتظلمون بفتح التاء أشكل بما قبله .
والجملة يظهر أنها مستأنفة وإخبار منه تعالى أنهم إذا اقتصروا على رؤوس الأموال كان ذلك نصفة ، وقيل : الجملة حال من المجرور في : لكم ، والعامل في الحال ما في حرف الجر من شوب الفعل ، قاله الأخفش

" صفحة رقم 354 "
البقرة : ( 280 ) وإن كان ذو . . . . .
( وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ( شكا بنو المغيرة العسرة وقالوا : أخرونا إلى أن تدرك الغلات ، فأبوا أن يؤخروا ، فنزلت . قيل : هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين ، وقيل : أمر به في صدر الإسلام ، فإن ثبت هذا فهو نسخ ، وإلا فليس بنسخ والعسرة ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه : جيش العسرة ، والنظرة : التأخير ، والميسرة : اليسر .
وقرأ الجمهور : ذو عسرة ، على أن : كان ، تامة ، وهو قول سيبوية ، وأبي علي ، وإن ورقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ، وأجاز بعض الكوفيين أن تكون : كان ، ناقصة هنا . وقدّر الخبر : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة فحذف المجرور الذي هو الخبر ، وقدر أيضاً : وإن ذو عسرة لكم عليه حق ، وحذف خبر كان لا يجوز عند أصحابنا ، لا إقتصاراً ولا اختصاراً لعلة ذكروها في النحو .
وقرأ أبي ، وابن مسعود ، وعثمان ، وابن عباس : ذا عسرة . وقرأ الأعمش : معسراً . وحكى الداني عن أحمد بن موسى أنها كذلك في مصحف أبي علي إن في كان إسمها ضميراً تقديره : هو ، أي : الغريم ، يدل على إضماره ما تقدم من الكلام ، لأن المرابي لا بد له ممن يرابيه .
وقرىء : ومن كان ذا عسرة ، وهي قراءة أبان بن عثمان . وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان : فإن كان ، بالفاء ، فمن نصب ذا عسرة أو قرأ معسراً ، وذلك بعد : إن كان ، فقيل : يختص بأهل الربا . ومن رفع فهو عام في جميع من عليه دين وليس بلازم ، لأن الآية إنما سيقت في أهل الربا ، وفيهم نزلت .
وقيل : ظاهر الآية يدل على أن الأصل الإيسار ، وأن العدم طارىء جاذب يحتاج إلى أن يثبت .
( فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ( قرأ الجمهور : فنِظرة ، على وزن نِبقة . وقرأ أبو رجاء ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، وقتادة : بسكون الظاء وهي لغة تميمية ، يقولون في : كبد كبد . وقرأ عطاء : فناظرة ، على وزن : فاعله وخرجه الزجاج على أنها مصدر كقوله تعالى : ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( وكقوله : ) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( وكقوله : ) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ ( وقال : قرأ عطاء : فناظره ، بمعنى : فصاحب الحق ناظره ، أي : منتظره ، أو : صاحب نظرته ، على طريقة النسب ، كقولهم : مكان عاشب ، وباقل ، بمعنى : ذو عشب وذو بقل . وعنه : فناظره ، على الأمر بمعنى : فسامحه بالنظرة ، وباشره بها . إنتهى . ونقلها ابن عطية . وعن مجاهد : جعلاه أمراً ، والهاء ضمير الغريم . وقرأ عبد الله : فناظروه ، أي : فأنتم ناظروه . أي : فأنتم منتظروه .
فهذه ست قراآت ، ومن جعله اسم مصدر أو مصدراً فهو يرتفع على أنه خبر مبتدأ

" صفحة رقم 355 "
محذوف تقديره : فالأمر والواجب على صاحب الدين نظرة منه لطلب الدين من المدين إلى ميسرة منه .
وقرأ نافع وحده : ميسرة ، بضم السين ، والضم لغة أهل الحجاز ، وهو قليل ؛ كمقبرة ، ومشرفة ، ومسر به . والكثير مفعلة بفتح العين . وقرأ الجمهور بفتح السين على اللغة الكثيرة ، وهي لغة أهل نجد . وقرأ عبد الله : إلى ميسوره ، على وزن مفعول مضافاً إلى ضمير الغريم ، وهو عند الأخفش مصدر كالمعقول والمجلود في قولهم : ماله معقول ولا مجلود ، أي : عقل وجلد ، ولم يثبت سيبوية مفعولاً مصدراً ، وقرأ عطاء ومجاهد : إلى ميسره ، بضم السين وكسر الراء بعدها ضمير الغريم . وقرىء كذلك بفتح السين ، وخرج ذلك على حذف التاء لأجل الإضافة . كقوله :
واخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
أي : عدة ، وهذا أعني حذف التاء لأجل الإضافة ، هو مذهب الفراء وبعض المتأخرين ، وأداهم إلى هذا التأويل : أن مفعلاً ليس في الأسماء المفردة ، فأما في الجمع فقد ذكروا ذلك في قول عدي بن زيد : أبلغ النعمان عنى مألكا
أنه قد طال حبسي وانتظار
وفي قول جميل : بثين الزمي لا إنَّ لا إن لزمته
على كثرة الواشين أي معون
فمألك ومعون جمع مألكة ومعونة . وكذلك قوله :
ليوم روع أو فعال مكرم
هذا تأويل أبي علي ، وتأول أبو الفتح على أنها مفردة حذف منها التاء . وقال سيبوية : ليس في الكلام مفعل ، يعني في الآحاد ، كذا قال أبو علي ، وحكي عن سيبوية : مهلك ، مثلث اللام . وأجاز الكسائي أن يكون : مفعل ، واحداً ولا يخالف قول سيبويه ، إذ يقال : ليس في الكلام كذا ، وإن كان قد جاء منه حرف أو حرفان ، كأنه لا يعتد بالقليل ، ولا يجعل له حكم .
وتقدّم شيء من الإشارة إلى الخلاف : أهذا الإنظار يختص بدين الربا ؟ وهو قول ابن عباس ، وشريح ، أم ذلك عام في كل معسر بدين ربا أو غيره ؟ وهو قول أبي هريرة ، والحسن ، وعطاء ، والضحاك ، والربيع بن خيثم ، وعامة الفقهاء .

" صفحة رقم 356 "
وقد جاء في فضل إنظار المعسر أحاديث كثيرة ، منها : ( من أنظر معسراً ، ووضع عنه ، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ) . ومنها : ( يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول : يا رب ما عملت لك خيراً قط أريدك به إلا أنك رزقتني مالاً فكنت أوسع على المقتر ، وأنظر المعسر ، فيقول الله عز وجل : أنا أحق بذلك منك . فتجاوزوا عن عبدي ) .
( وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ( أي : تصدقوا على الغريم برأس المال أو ببعضه خير من الإنظار ، قاله الضحاك والسدي ، وابن زيد ، والجمهور . وقيل : وان تصدقوا فالإنظار خير لكم من المطالبة ، وهذا ضعيف ، لأن الإنظار للمعسر واجب على رب الدين ، فالحمل على فائدة جديدة أولى . ولأن : أفعل التفضيل باقية على أصل وصفها ، والمراد بالخير : حصول الثناء الجميل في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة . وقال قتادة : ندبوا إلى أن يتصدقوا برؤوس أموالهم على الغني والفقير .
وقرأ الجمهور : وأن تصدقوا ، بادغام التاء في الصاد ، وقرأ عاصم : تصدقوا ، بحذف التاء . وفي مصحف عبد الله : تتصدقوا ، بتاءين وهو الأصل ، والإدغام تخفيف . والحذف أكثر تخفيفاً .
( إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( : يريد العمل ، فجعله من لوازم العلم ، وقيل : تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض ، وقيل : تعلمون أن ما أمركم به ربكم أصلح لكم .
قيل : آخر آية نزلت آية الربا ، قاله عمر ، وابن عباس ، ويحمل على أنها من آخر ما نزل ، لأنه الجمهور قالوا : آخر آية نزلت :
البقرة : ( 281 ) واتقوا يوما ترجعون . . . . .
( وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ( فقيل : قبل موته بتسع ليال ، ثم لم ينزل شيء . وروي : بثلاث ساعات ، وقيل : عاش بعدها ( صلى الله عليه وسلم ) ) أحداً وثمانين يوماً . وقيل : أحداً وعشرين يوماً . وقيل : سبعة أيام . وروي أنه قال : ( أجعلوها بين آية الربا وآية الدين ) . وروي أنه قال عليه السلام : جاءني جبريل فقال : إجعلها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة .
وتقدم الكلام على : واتقوا يوماً ، في قوله : ) وَاتَّقُواْ يَوْمًا ).
وقرأ يعقوب ، وأبو عمرو : ترجعون ، مبنياً للفاعل ، وخبر عباس عن أبي عمرو وقرأ باقي السبعة منبياً للمفعول وقرأ الحسن : يرجعون ، على معنى يرجع جميع الناس ، وهو من باب الالتفات . قال ابن جني : كان الله تعالى رفق بالمؤمنين عن أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما تتفطر له القلوب ، فقال لهم : واتقوا ، ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقاً بهم . انتهى .
وقرأ أبي : تردون ، بضم التاء ، حكاه عنه ابن عطية وقال الزمخشري : وقرأ عبد الله : يردون . وقرأ أبي : تصيرون . انتهى .
قال الجمهور والمراد بهذا اليوم يوم القيامة ، وقال قوم : هو يوم الموت ، والأول أظهر لقوله : ) ثُمَّ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ( والمعنى إلى حكم الله وفصل قضائه .
( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ( أي تعطى وافياً جزاء ) مَّا كَسَبَتْ ( من خير وشر ، وفيه نص على تعلق الجزاء بالكسب ، وفيه ردّ على الجبرية .
( وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( أي : لا ينقصون مما يكون جزاء العمل الصالح من الثواب ، ولا يزادون على جزاء العمل السيء من العقاب ، وأعاد الضمير أولاً في : كسبت ، على لفظ : النفس ، وفي قوله : وهم لا يظلمون ، على المعنى لأجل فاصلة الآي ، إذ لو أتى وهي لا تظلم لم تكن فاصلة ، ومن قرأ : يرجعون ، بالياء فتجيء : وهم ، عليه غائباً مجموعاً لغائب مجموع .
( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ

" صفحة رقم 357 "
الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الاٍّ خْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيأَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } )
تداين : تفاعل من الدين ، يقال : داينت الرجل عاملته بدين معطياً أو آخذاً ، كما تقول : بايعته إذا بعته أو باعك قال رؤبة : داينت أروى والديون تقضى
فمطلت بعضاً وأدّت بعضاً
ويقال : دنت الرجل إذا بعته بدين ، وادّنت أنا أي : أخذت بدين .
أمل وأملى لغتان : الأولى لأهل الحجاز

" صفحة رقم 358 "
وبني أسد ، والثانية لتميم ، يقال : أمليت وأمللت على الرجل أي : ألقيت عليه ما يكتبه ، وأصله في اللغة الإعادة مرة بعد أخرى قال الشاعر : ألاياديار الحيّ بالسبعان
أمل عليها بالبلى الملوان
وقيل : الأصل أمللت ، أبدل من اللام ياء لأنها أخف .
البخس : النقص ، يقال منه : بخس يبخس ، ويقال بالصاد ، والبخس : إصابة العين ، ومنه : استعير بخس حقه ، كقولهم : عوّر حقه ، وتباخسوا في البيع تغابنوا ، كان كل واحد يبخس صاحبه عن ما يريده منه باحتياله .
السأم والسآمة : الملل من الشيء والضجر منه ، يقال منه : سئم يسأم .
الصغير : اسم فاعل من صغر يصغر ، ومعناه قلة الجرم ، ويستعمل في المعاني أيضاً .
القسط : بكسر القاف : العدل ، يقال منه : أقسط الرجل أي عدل ، وبفتح القاف : الجور ، ويقال منه : قسط الرجل أي جار ، والقسط بالكسر أيضاً : النصيب .
الرهن : ما دفع إلى الدائن على استيثاق دينه ، ويقال : رهن يرهن رهناً ، ثم أطلق المصدر على المرهون ، ويقال : رهن الشيء دام قال الشاعر : اللحم والخبز لهم راهن
وقهوة راووقها ساكب
وأرهن لهم الشراب : دام ، قال ابن سيده : ورهنه ، أي : أدامه ، ويقال : أرهن في السلعة إذا غالى بها حتى أخذها بكثير الثمن قال الشاعر : يطوى ابن سلمى بها من راكب بعرا
عيدية أرهنت فيها الدنانير العيد : بطن من مهر ، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة ، ويقال ، من الرهن الذي هو من التوثقة : أرهن إرهاناً قال همام بن مرة :
فلما خشيت أظافيرهم
نجوت وأرهنتهم مالكاً
وقال ابن الأعرابي ، والزجاج : يقال في الرهن رهنت وأرهنت وقال الأعشى :
حتى يقيدك من بنيه رهينة
نعش ويرهنك السماك الفرقدا
وتقول : رهنت لساني بكذا ، ولا يقال فيه : أرهنت ، ولما أطلق الرهن على المرهون صار إسماً ، فكسر تكسير

" صفحة رقم 359 "
الأسماء وانتصب بفعله نصب المفاعيل ، فرهنت رهناً كرهنت ثوباً .
الإصر : الامر الغليظ الصعب ، والآصرة في اللغة : الأمر الرابط من ذمام ، أو قرابة ، أو عهد ، ونحوه . والإصار : الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها ، يقال : أصر يأصر أصراً ، والإصر ، بكسر الهمزة الاسم من ذلك ، وروي أُلاصر بضمها وقد قرىء به قال الشاعر : يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم
والحامل الإصر عنهم بعدما عرقوا
البقرة : ( 282 ) يا أيها الذين . . . . .
( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ( قال ابن عباس : نزلت في السلم خاصة ، يعنى : أن سلم أهل المدينة كان السبب ، ثم هي تتناول جميع الديون بالإجماع .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر بالنفقة في سبيل الله ، وبترك الربا ، وكلاهما يحصل به تنقيص المال ، نبه على طريق حلال في تنمية المال وزيادته ، وأكد في كيفية حفظه ، وبسط في هذه الآية وأمر فيها بعدة أوامر على ما سيأتي بيانه .
وذكر قوله ؛ بدين ، ليعود الضمير عليه في قوله : فاكتبوه ، وإن كان مفهوماً من : تداينتم ، أو لإزالة اشتراك : تداين ، فإنه يقال ؛ تداينوا ، أي جازى بعضهم بعضاً ، فلما قال : بدين ، دل على غير هذا المعنى . أو للتأكيد ، أو ليدل على أي دين كان صغيراً أو كبيراً ، وعلى أي وجه كان من سلم أو بيع .
( إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ( ليس هذا الوصف احترازاً من أن الدين لا يكون إلى أجل مسمى ، بل لا يقع الدين إلاَّ إلى أجل مسمى ، فأما الآجال المجهولة فلا يجوز ، والمراد بالمسمى الموقت المعلوم ، نحو التوقيت بالنسبة والأشهر والأيام ، ولو قال : إلى الحصاد ، أو إلى الدياس ، أو رجوع الحاج ، لم يجز لعدم التسمية ، و : إلى أجل ، متعلق : بتداينتم ، أو في موضع الصفة لقوله : بدين ، فيتعلق بمحذوف .
( فَاكْتُبُوهُ ( أمر تعالى بكتابته لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان ، وأبعد من الجحود .
وظاهر الأمر الوجوب ، وقد قال بعض أهل العلم ، منهم الطبري ، وأهل الظاهر . وقال الجمهور : هو أمر ندب يحفظه له المال ، وتزال به الريبة ، وفي ذلك حث على الاعتراف به وحفظه ، فإن الكتاب خليفة اللسان ، واللسان خليفة القلب .
وروي عن أبي سعيد الخدري ، وابن زيد ، والشعبي ، وابن جريج أنهم كانوا يرون أن قوله : ) فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا ( ناسخ لقوله : ) فَاكْتُبُوهُ ( وقال الربيع وجب بقوله : فاكتبوه ، ثم خفف بقوله : فإن أمن .
( وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ( وهذا الأمر قيل : على الوجوب على الكفاية كالجهاد ، قال عطاء ، وغيره : يجب على الكاتب أن يكتب على كل حال ، وقال الشعبي ، أيضاً : إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب ، وقال السدّي : هو واجب مع الفراغ . واختار الراغب أن الصحيح كون الكتابة فرضاً على الكفاية ، وقال : الكتابة فيما بين المتبايعين ، وإن لم تكن واجبة ، فقد تجب على الكتابة إذا أتوه ، كما أن الصلاة النافلة ، وإن لم تكن واجبة على فاعلها ، فقد يجب على العالم تبيينها إذا أتاه مستفت .
ومعنى : بينكم ، أي : بين صاحب الدين والمستدين ، والبائع والمشترى ، والمقرض والمستقرض ، والتثنية تقتضي أن لا ينفرد أحد المتعاملين لأن يتهم في الكتابة ، فإذا كانت واقعة بينهما كان كل واحد منهما مطلعاً على ما سطره الكاتب .
ومعنى : بالعدل ، أي : بالحق والإنصاف بحيث لا يكون في قلبه ولا في قلمه ميل لأحدهما على الآخر .
واختلف فيما يتعلق به : بالعدل ، فقال الزمخشري : بالعدل ، متعلق بكاتب صفة له ، أي : بكاتب مأمون على ما يكتب ، يكتب بالسوية والاحتياط ، لا يزيد على ما يجب أن يكتب ،

" صفحة رقم 360 "
ولا ينقص . وفيه أن يكون الكاتب فقيهاً عالماً بالشروط ، حتى يجيء مكتوبه معدّلاً بالشرع ، وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب ، وأن لا يستكتبوا إلاَّ فقيهاً ديناً .
وقال ابن عطية : والباء متعلقة بقوله تعالى : وليكتب ، وليست متعلقة بكاتب ، لأنه كان يلزم أن لا يكتب وثيقة إلاَّ العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها ، أما أن المنتخبين لكتبها لا يجوز للولاة أن يتركوهم إلاَّ عدولاً مرضيين ، وقيل : الباء زائدة ، أي فليكتب بينكم كاتب العدل .
وقال القفال في معنى ) بِالْعَدْلِ ( : أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين أهل العلم ، لا يرفع إلى قاض فيجد سبيلاً إلى إبطاله بألفاظ لا يتسع فيها التأويل ، فيحتاج الحاكم إلى التوقف .
وقرأ الحسن : وليكتب ، بكسر لام الأمر ، والكسر الأصل .
( يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ( نهى الكاتب عن الامتناع من الكتابة . و : كاتب ، نكرة في سياق النهي ، فتعم . وأن يكتب مفعول ، ولا يأب ، ومعنى : كما علمه الله ، أي : مثل ما علمه الله من كتابة الوثائق ، لا يبدّل ولا يغير ، وفي ذلك حث على بذل جهده في مراعاة شروطه مما قد لا يعرفه المستكتب ، وفيه تنبيه على المنة بتعليم الله إياه .
وقيل : المعنى كما أمره الله به من الحق ، فيكون : علم ، بمعنى : أعلم ، وقيل : المعنى كما فضله الله بالكتاب ، فتكون الكاف للتعليل ، أي : لأجل ما فضله الله ، فيكون كقوله ) وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( أي : لأجل إحسان الله إليك . والظاهر تعلق الكاف بقوله : أن يكتب ، وقيل : تم الكلام عند قوله : أن يكتب ، وتتعلق الكاف بقوله : فليكتب ، وهو قلق لأجل الفاء ، ولأجل أنه لو كان متعلقاً بقوله : فليكتب ، لكان النظم : فليكتب كما علمه الله ، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخر في المعنى .
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون : كما ، متعلقاً بما في قوله : ولا يأب ، أي : كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو ، وليفضل كما أفضل عليه . انتهى . وهو خلاف الظاهر . وتكون الكاف في هذا القول للتعليل ، وإذا كان متعلقاً بقوله : أن يكتب ، كان قوله : ولا يأب ، نهياً عن الامتناع من الكتابة المقيدة ، ثم أمر بتلك الكتابة ، لا يعدل عنها ، أمر توكيد . وإذا كان متعلقاً بقوله : فليكتب ، كان ذلك نهياً عن الامتناع من الكتابة على الإطلاق ، ثم أمر بالكتابة المقيدة .
وقال الربيع ، والضحاك : ولا يأب ، منسوخ بقوله : ) وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ).
) فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ ( أي : فليكتب الكاتب ، وليملل من وجب عليه الحق ، لأنه هو المشهود عليه بأن الدين في ذمّته ، والمستوثق منه بالكتابة .
( وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ( ، فيما يمليه ويقربه ، وجمع بين اسم الذات وهو : الله ، وبين هذا الوصف الذي هو : الرب ، وإن كان اسم الذات منطوقاً على جميع الأوصاف . ليذكره تعالى كونه مربياً له ، مصلحاً لأمره ، باسطاً عليه نعمه . وقدم لفظ : الله ، لأن مراقبته من جهة العبودية والألوهية أسبق من جهة النعم .
( وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ( أي : لا ينقص بالمخادعة أو المدافعة ، والمأمور بالإملال هو المالك لنفسه . وفك المضاعفين في قوله : وليملل ، لغة الحجاز ، وذلك في ماسكن آخره بجزم ، نحو ، هذا ، أو وقف نحو : أملل ، ولا يفك في رفع ولا نصب وقرىء : شيئاً ، بالتشديد .
( فَإن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا ( قال مجاهد ، وابن جبير : هو الجاهل بالأمور والإملاء . وقال الحسن : الصبي والمرأة ، وقال الضحاك ، والسدّي : الصغير . وضعف هذا لأنه قد يصدق السفيه على الكبير ، وذكر القاضي أبو يعلى : أنه المبذر . وقال الشافعي : المبذر لماله المفسد لدينه وروي عن السدي : أنه الأحمق ، وقيل : الذي

" صفحة رقم 361 "
يجهل قدر المال فلا يمتنع من تبذيره ولا يرغب في تثميره . وقال ابن عباس : الجاهل بالاسلام .
( أَوْ ضَعِيفًا ( قال ابن عباس : وابن جبير : إنه العاجز ، والأخرس ، ومن به حمق . وقال مجاهد ، والسدي : الأحمق . وذكر القاضي أبو يعلى ، وغيره : أنه الصغير . وقيل : المدخول العقل ، الناقص الفطرة . وقال الشيخ : الكبير ، وقال الطبري : العاجز عن الإملاء لعيّ أو لخرس .
( أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ ( قال أبن عباس : لعي أو خرس أو غيبة ، وقيل : بجنون ، وقيل : بجهل بما له أو عليه . وقيل : لصغر . والذي يظهر تباين هؤلاء الثلاثة ، فمن زعم زيادة : أو ، في قوله : أو ضعيفاً ، أو زيادتها في هذا ، وفي قوله : أو لا يستطيع ، فقوله ساقط ، إذ : أو لا ، تزاد ، وأن السفه هو تبذير المال والجهل بالتصرف ، وأن الضعف هو في البدن لصغر أو إفراط شيخ ينقص معه التصرف ، وأن عدم استطاعته الإملاء لعي أو خرس ، لأن الإستطاعة هي القدرة على الإملاء . وهذا الشرح أكثره عن الزمخشري .
وقال ابن عطية : ذكر تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمان ، ويترتب الحق لهم في كل جهات سوى المعاملات : كالمواريث إذا قسمت . وغير ذلك . والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ والاعطاء ، وهذه الصفة لا تخلو من حجر ولي أو وصي ، وذلك وليه . والضعيف المدخول العقل الناقص الفطرة ، ووليه وصي أو أب ، والذي لا يستطيع أن يمل هو الغائب عن موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك ، ووليه وكيله ، والأخرس من الضعفاء ، والأولى أنه ممن لا يستطيع ، وربما اجتمع اثنان أو الثلاثة في شخص . انتهى . وفيه بعض تلخيص ، وهو توكيد الضمير المستكن في : أن يملّ ، وفيه من الفصاحة ما لا يخفى ، لأن في التأكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير ، والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه .
وقرىء شاذاً بإسكان هاء : هو ، وإن كان قد سبقها ما ينفصل ، إجراء للمنفصل مجرى المتصل بالواو والفاء واللام ، نحو : وهو ، فهو ، لهو . وهذا أشذ من قراءة من قرأ : ثم هو يوم القيامة ، لأن ثم شاركت في كونه للعطف ، وأنها لا يوقف عليها فيتم المعنى .
( فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ). الضمير في وليه عائد على أحد هؤلاء الثلاثة ، وهو الذي عليه الحق ، وتقدّم تفسير ابن عطية للولي . وقال الزمخشري : الذي يلي أمره من وصي إن كان سفيهاً أو صبياً ، أو وكيل إن كان غير مستطيع ، أو ترجمان يملّ عنه . وهو يصدّقه . وذهب الطبري إلى أن الضمير في وليه يعود على الحق ، فيكون الولي هو الذي له الحقّ . وروي ذلك عن ابن عباس والربيع .
قال ابن عطية : ولا يصح عن ابن عباس ، وكيف تشهد البينة على شيء ويدخل مالا في ذمّة السفيه ، بإملاء الذي له الدين ، هذا شيء ليس في الشريعة .
قال الراغب : لا يجوز أن يكون ولي الحق كما قال بعضهم ، لأن قوله لا يؤثر إذ هو مدّع .
و : بالعدل ، متعلق بقوله : فليملل ، ويحتمل أن تكون الباء للحال ، وفي قوله : بالعدل ، حث على تحريه لصاحب الحق ، والمولى عليه ، وقد استدل بهذه الآية على جواز الحجر على الصغير ، واستدل بها على جواز تصرف السفيه ، وعلى قيام ولاية التصرفات له في نفسه وأمواله .
( وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ ( أي : اطلبوا للإشهاد شهيدين ، فيكون استفعل للطلب ، ويحتمل أن يكون موافقة أفعل أي : وأشهدوا ، نحو : استيقن موافق أيقن ، واستعجله بمعنى أعجله . ولفظ : شهيد ، للمبالغة ، وكأنهم أمروا بأن يستشهدوا من كثرت منه الشهادة ، فهو عالم بمواقع الشهادة وما يشهد فيه لتكرر ذلك منه ، فأمروا بطلب الأكمل ، وكان في ذلك إشارة إلى العدالة ، لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلاَّ وهو مقبول عندهم .
من رجالكم ، الخطاب للمؤمنين ، وهم المصدّر بهم الآية ، ففي قوله : من رجالكم ،

" صفحة رقم 362 "
دلالة على أنه لا يستشهد الكافر ، ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض ، وأجاز ذلك أبو حنيفة . وإن اختلفت مللهم ، وفي ذلك دلالة على اشتراط البلوغ ، واشتراط الذكورة في الشاهدين .
وظاهر الآية أنه : يجوز شهادة العبد ، وهو مذهب شريح ، وابن سيرين ، وابن شبرمة ، وعثمان البتي ، وقيل عنه : يجوز شهادته لغير سيده . وروي عن علي أنه كان يقول : شهادة العبد على العبد جارية جائزة . وروي المغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز شهادة المملوك في الشيء التافه . وروي عن أنس أنه قال : ما أعلم أن أحداً ردّ شهادة العبد . وقال الجمهور : أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وابن شبرمة في إحدى الروايتين ، ومالك ، وابن صالح ، وابن أبي ليلى ، والشافعي : لا تقبل شهادة العبد في شيء . وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، والحسن .
وظاهر الآية يدل على أن شهادة الصبيان لا تعتبر ، وبه قال الثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة ، وابن شبرمة ، والشافعي . وروي ذلك عن : عثمان ، وابن عباس ، وابن الزبير . وقال ابن أبي ليلى : تجوز شهادة بعضهم على بعض ، وروي ذلك عن علي ، قال مالك : تجوز شهادتهم في الجراح وحدها بشروط ذكرت عنه في كتب الفقه .
وظاهر الآية اشتراط الرجولية فقط في الشاهدين .
فلو كان الشاهد أعمى ، ففي جواز شهادته خلاف . ذهب أبو حنيفة ، ومحمد إلى أنه لا يجوز بحال . وروي ذلك عن علي ، والحسن ، وابن جبير ، وإياس ابن معاوية . وقال ابن أبي ليلى ، وأبو يوسف ، والشافعي : إذا علم قبل العمى جازت ، أو بعده فلا . وقال زفر : لا يجوز إلا في النسب يشهد أن فلان ، وقال شريح والشعبي شهادته جائزة ، وقال مالك يجوز وإن علمه حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والإقرار ونحوه ، وإن شهد بزنا أو حدّ قذف لم تقبل شهادته .
ولو كان الشاهد أخرس ، فقيل : تقبل شهادته بإشارة ، وسواء كان طارئاً أم أصلياً ، وقيل : لا تقبل .
وإن كان أصمّ ، فلا تقبل في الأقوال ، وتقبل فيما عدا ذلك من الحواس .
ولو شهد بدوي على قروي ، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تجوز إلاَّ في الجراح . وروى ابن القاسم عنه : لا تجوز في الحضر إلاَّ في وصية القروي في السفر في البيع .
( فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ ( الضمير عائد على الشهيدين أي : فإن لم يكن الشهيدان رجلين ، والمعنى أنه : إن أغفل ذلك صاحب الحق ، أو قصد أن لا يشهد رجلين لغرض له ، وكان على هذا التقدير ناقصة . وقال قوم : بل المعنى : فإن لم يوجد رجلان ، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلاَّ مع عدم الرجال ، وهذا لا يتم إلاَّ على اعتقاد أن الضمير في : يكونا ، عائد على : شهيدين ، بوصف الرجولية ، وتكون : كان ، تامّة ، ويكون : رجلين ، منصوباً على الحال المؤكد ، كقوله : ) فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ ( على أحسن الوجهين .
( فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ( ارتفاع رجل على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالشاهد ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي : فرجل وامرأتان يشهدون ، أو : فاعل ، أي فليشهد رجل ، أو : مفعول لم يسم فاعله ، أي فليستشهد ، وقيل : المحذوف فليكن ، وجوّز أن تكون تامّة ، فيكون رجل فاعلاً ، وأن تكون ناقصة ، ويكون خبرها محذوفاً وقد ذكرنا أن أصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان لا اقتصاراً ولا اختصاراً . وقرىء شاذاً : وامرأتان ، بهمزة

" صفحة رقم 363 "
ساكنة ، وهو على غير قياس ، ويمكن أن سكنها تخفيفاً لكثرة توالي الحركات وجاء نظير تخفيف هذه الهمزة في قول الشاعر : يقولون جهلاً ليس للشيخ عيّل
لعمري لقد أعيَلتُ وأن رقوبُ
يريد : وأنا رقوب ، قيل : خفف الهمزة بإبدالها ألفاً ثم همزة بعد ذلك ، قالوا : الخأتم ، والعأم .
وظاهر الآية يقتضي جواز شهادة المرأتين مع الرجل في سائر عقود المداينات ، وهي كل عقد وقع على دين سواء كان بدلاً أم بضعاً ، أم منافع أم دم عمد ، فمن ادّعى خروج شيء من العقود من الظاهر لم يسلم له ذلك إلاَّ بدليل .
وقال الشافعي : لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال ، ولا يجوز في الوصية إلاَّ الرجل ، ويجوز في الوصية بالمال .
وقال الليث : تجوز شهادة النساء في الوصية والعتق ، ولا تجوز في النكاح ولا الطلاق ولا قتل العمد الذي يقاد منه .
وقال الأوزاعي : لا تجوز شهادة رجل وامرأتين في نكاح . وقال الحسن بن حي : لا تجوز شهادتهنّ في الحدود . وقال الثوري : تجوز في كل شيء إلاَّ الحدود .
وقال مالك لا تجوز في الحدود ولا القصاص ، ولا الطلاق ولا النكاح ، ولا الأنساب ولا الولاء ولا الإحصان ، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق . وقال الحسن ، والضحاك : لا تجوز شهادتهنّ إلاَّ في الدين . وقال عمر ، وعطاء ، والشعبي : تجوز في الطلاق . وقال شريح : تجوز في العتق ، وقال عمر ، وابنه عبد الله : تجوز شهادة الرجل والمرأتين في النكاح . وقال علي تجوز في العقد . وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وعثمان البتي : لا تقبل شهادة النساء مع الرجال في الحدود والقصاص ، وتقبل فيما سوى ذلك من سائر الحقوق . وأدلة هذه الأقوال مذكورة في كتب الفقة .
وأما قبول شهادتهنّ مفردات فلا خلاف في قبولها في : الولادة ، والبكارة ، والإستهلال ، وفي عيوب النساء الإماء وما يجري مجرى ذلك مما هو مخصوص بالنساء . وأجاز أبو حنيفة شهادة الواحدة العدلة في رؤية الهلال إذ هو عنده من باب الإخبار ، وكذلك شهادة القابلة مفردة .
( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء ( قيل : هذا في موضع الصف لقوله : ) فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ( وقيل : هو بدل من قوله : رجالكم ، على تكرير العامل ، وهما ضعيفان ، لأن الوصف يشعر باختصاصه بالموصوف ، فيكون قد انتفى هذا الوصف عن شهيدين ، ولأن البدل يؤذن بالاختصاص بالشهيدين الرجلين ، فعري عنه : رجل وامرأتان ، والذي يظهر أنه متعلق بقوله : واستشهدوا ، أي : واستشهدوا ممن ترضون من الشهداء ، ليكون قيداً في الجميع ، ولذلك جاء متأخراً بعد ذكر الجميع ، والخطاب في ترضون ظاهره أنه للمؤمنين ، وفي ذلك دلالة على أن في الشهود من لا يرضى ، فيدل على هذا على أنهم ليسوا محمولين على العدالة حيث تثبت لهم . وقال ابن بكير وغيره : الخطاب للحكام ، والأول أوْلى لأنه الظاهر ، وإن كان المتلبس بهذه القضايا هم الحكام ، ولكن يجيء الخطاب عاماً ويتلبس به بعض الناس ، وقيل : بالخطاب لأصحاب الدين .
واختلفوا في تفسير قوله : ) مِمَّن تَرْضَوْنَ ( فقال ابن عباس : من أهل الفضل والدين والكفاءة . وقال الشعبي : ممن لم يطعن في فرج ولا بطن ، وفسر قوله بأنه لم يقذف امرأة ولا رجلاً ، ولم يطعن في نسب . وروي : من لم يطعن عليه في فرج ولا بطن ، ومعناه : لا ينسب إلى ريبة ، ولا يقال إنه ابن زنا . وقال الحسن : من لم تعرف له خربة . وقال النخعي : من لا ريبة فيه . وقال الخصاف : من غلبت حسناته سيآته مع اجتناب الكبائر .
وقيل : المرضي من الشهود من اجتمعت فيه عشر خصال : أن يكون حراً ، بالغاً ، مسلماً ، عدلاً ، عالماً بما يشهد به ،

" صفحة رقم 364 "
لا يجر بشهادته منفعة لنفسه ، ولا يدفع بها عن نفسه مضرة ، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط ، ولا بترك المروءة ، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة .
وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف : أن من سلم من الفواحش التي يجب فيها الحدود ، وما يجب فيها من العظائم ، وأدّى الفرائض وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار ، قبلت شهادته ، لأنه لا يسلم عبد من ذنب ، ولا تقبل شهادة من ذنوبه أكثر من أخلاق البر ، ولا من يلعب بالشطرنج يقامر عليها ، ولا من يلعب بالحمام ويطيرها ، ولا تارك الصلوات الخمس في جماعة استخفافاً أو مجانةً أو فسقاً ، لا أن تركها على تأويل ، وكان عدلاً ، ومن يكثر الحلف بالكذب ، ولا مداوم على ترك ركعتي الفجر ، ولا معروف بالكذب الفاحش ، ولا مظهر شتيمة أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولا شتام الناغس والجيران ، ولا من اتهمه الناس بالفسق والفجور ، ولا متهم بسب الصحابة حتى يقولوا : سمعناه يشتم .
وقال ابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف : تقبل شهادة أهل الأهواء العدول ، إلاَّ صنفاً من الرافضة وهم الخطابية . وقال محمد : لا أقبل شهادة الخوارج ، وأقبل شهادة الحرورية ، لأنهم لا يستحلون أموالنا ، فإذا خرجوا استحلوا . وروي عن أبي حنيفة أنه : لا يجوز شهادة البخيل . وعن إياس بن معاوية لا يجيز شهادة الأشراف بالعراق ولا البخلاء ، ولا التجار الذين يركبون البحر ، وعن بلال بن أبي بردة ، وكان على البصرة ، أنه لا يجيز شهادة من يأكل الطين وينتف لحيته . وردّ عمر بن عبد العزير شهادة من ينتف عنفقته ويخفي لحيته . ورد شريح شهادة رجل اسمه ربيعة ويلقب بالكويفر ، فدعي : يا ربيعة ، فلم يجب ، فدعي : يا ربيعة الكويفر ، فأجاب ، فقال له شريح : دعيت باسمك فلم تجب ، فلما دعيت بالكفر أجبت فقال : أصلحك الله إنما هو لقب . فقال له : قم ، وقال لصاحبه : هات غيره . وعن أبي هريرة : لا يجوز شهادة أصحاب الحمر ، يعني : النخاسين . وعن شريح : لا يجيز شهادة صاحب حمام ، ولا حمال ، ولا ضيق كم القباء ، ولا من قال : أشهد بشهادة الله عز وجل ، وعن محمد : لا تقبل شهادة من ظهرت منه مجانة ، ولا شهادة مخنث ، ولا لاعب بالحمام يطيرهنّ ، ورد ابن أبي ليلى شهادة الفقير ، وقال : لا يؤمن أن يحمله فقره على الرغبة في المال .
وقال مالك : لا تجوز شهادة السؤال في الشيء الكثير ، وتجوز في الشيء التافه . وعن الشافعي : إذا كان الأغلب من حاله المعصية وعدم المروءة ردت شهادته ، وعنه : إذا كان أكثر أمره الطاعة ، ولم يقدم على كبيرة ، فهو عدل ، وينبغي أن تفسر المروءة بالتصاون ، والسمت الحسن ، وحفظ الحرمة ، وتجنب السخف ، والمجون ، لا تفسر بنظافة الثوب ، وفراهة المركوب ، وجودة الآلة ، والشارة الحسنة . لأن هذه ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين .
واختلفوا في حكم من لم تظهر منه ريبة ، هل يسأل عنه الحاكم إذا شهد ؟ ففي كتاب عمر لأبي موسى : والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلاَّ مجلوداً في حدّ ، أو مجرباً عليه شهادة زور ، أو ظنيناً أو قرابة . وكان الحسن ، لما ولي القضاء ، يجيز شهادة المسلمين إلاَّ أن يكون الخصم يجرح الشاهد . وقال ابن شبرمة : إن طعن المشهود عليه فيهم سألت عنهم في السرّ والعلانية . وقال محمد ، وأبو يوسف : يسأل عنهم ، وإن لم يطعن فيهم في السرّ والعلانية ، وقال مالك : لا يقضي بشهادة الشهود حتى يسأل عنهم في السرّ . وقال الليث : إنما كان الوالي يقول للخصم

" صفحة رقم 365 "
إن كان عندك من يخرج شهادتهم فأت به ، وإلاَّ أجزنا شهادتهم عليك . وقال الشافعي : يسأل عنه في السرّ ، فإذا عدل سأل عن تعديله في العلانية .
وأما ما ذكر من اعتبار نفي التهمة عن الشاهد إذا كان عدلاً ، فاتفق فقهاء الأمصار على بطلان شهادة الشاهد لولده ووالده إلاَّ ما حكي عن البتي ، قال : تجوز شهادة الولد لوالديه ، والأب لابنه وامرأته ، وعن إياس بن معاوية أنه أجاز شهادة رجل لابنه . وذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، ومالك ، والأوزاعي ، والليث إلى أنه : لا يجوز شهادة أحد الزوجين للآخر . وعن أبي حنيفة : لا تجوز شهادة الأجير الخاص لمستأجره ، وتجوز شهادة الأجير المشترك له . وقال مالك : لا تجوز شهادة أجير لمن استأجره إلاَّ أن يكون مبرزاً في العدالة . وقال الأوزاعي : لا تجوز مطلقاً . وقال الثوري : تجوز إذا كان لا يجر إلى نفسه منفعة .
ومن وردت شهادته لمعنى ، ثم زال ذلك المعنى ، فهل تقبل تلك المشهادة فيه ؟
قال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا تقبل إذا ردّت لفسق أو زوجية ، وتقبل إذا ردّت لرق أو كفر أو صبي . وقال مالك : لا تقبل إن ردت لرق أو صبي . وروي عن عثمان بن عفان مثل هذا .
وظاهر الآية : أن الشهود في الديون رجلان ، أو رجل وامرأتان ، ممن ترضون ، فلا يقضي بشاهد واحد ويمين ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وابن شبرمة ، والثوري والحكم ، والأوزاعي . وبه قال عطاء ، وقال : أول من قضى به عبد الملك ابن مروان ، وقال الحكم : أوّل من حكم به معاوية .
واختلف عن الزهري ، فقيل ، قال : هذا شيءأحدثه الناس لا بدّ من شهيدين ، وقال أيضاً : ما أعرفه ، وإنها البدعة ، وأول من قضاه معاوية ، وروي عنه أنه أول ما ولي القضاء حكم بشاهد ويمين وقال مالك ، والشافعي وأتباعهما ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد : يحكم به في الأموال خاصة ، وعليه الخلفاء الأربعة وهو عمل أهل المدينة ، وهو قول أبيّ بن كعب ، ومعاوية ، وأبي سلمة ، وأبي الزياد ، وربيعة .
( أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاْخْرَى ( قرأ الأعمش ، وحزة : إن تضل بكسر الهمزة ، جعلها حرف شرط فتذكر ، بالتشديد ورفع الراء وجعله جواب الشرط .
وقرأ الباقون بفتح همزة : أن ، وهي الناصبة ، وفتح راء فتذكر عطفاً على : أن تضل وسكن الذال وخفف الكاف ابن كثير ، وأبو عمرو . وفتح الذال ، وشدّد الكاف الباقون من السبعة .
وقرأ الجحدري وعيسى بن عمران : تضل ، بضم التاء وفتح الضاد مبنياً للمفعول ، بمعنى : تنسى ، كذا حكى عنهما الداني . وحكى النقاش عن الجحدري : أن تضل ، بضم التاء وكسر الضاد ، بمعنى أن تضل الشهادة ، تقول : أضللت الفرس والبعير إذا ذهبا فلم تجدهما .
وقرأ حميد بن عبد الرحمن ، ومجاهد : فتذكر ، بتخفيف الكاف المكسورة ، ورفع الراء ، أي فهي : تذكر وقرأ زيد بن أسلم : فتذاكر ، من الذاكرة .
والجملة الشرطية من قوله ) أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ ( على قراءة الأعمش وحمزة قال ابن عطية : في موضع رفع بكونه صفة للمذكر ، وهما المرأتان . انتهى . كان قد قدم أن قوله ) مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء ( في موضع الصفة لقوله ) فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ( فصار نظير : جاءني رجل وامرأتان عقلاء حبليان ، وفي جواز مثل هذا التركيب نظر ، بل الذي تقتضيه الأقيسة تقديم حبليان على عقلاء ، وأما على قول من أعرب : ممن ترضون ، بدلاً من : رجالكم ، وعلى ما اخترناه من تعلقه بقوله : واستشهدوا ، فلا يجوز أن تكون جملة الشرط صفة لقوله : وامرأتان ، للفصل بين الموصوف والصفة بأجنبي ، وأما : أن تضل ، بفتح الهمزة ، فهو في موضع المفعول من أجله ، أي لأن تضل على تنزيل السبب ، وهو الإضلال منزلة المسبب عنه ، وهو الإذكار ، كما ينزل المسبب منزلة السبب لالتباسهما واتصالهما ، فهو كلام محمول على المعنى ، أي : لأن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ، ونظيره : أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح أن يطرق العدو فأدفعه ، ليس إعداد الخشبة لأجل الميل إنما إعدادها لإدعام الحائط إذا مال ، ولا يجوز أن يكون التقدير : مخالفة أن تضل ، لأجل عطف فتذكر عليه .
وقال النحاس : سمعت علي بن سليمان يحكي عن أبي العباس أن التقدير : كراهة أن تضل ، قال أبو جعفر : وهذا غلط ، إذ يصير المعنى كراهة أن تذكر . ومعنى الضلال هنا هو عدم الاهتداء للشهادة لنسيان أو غفلة ، ولذلك قوبل بقوله : فتذكر ، وهو من الذكر ، وأما ما روي عن أبي عمرو بن العلاء ، وسفيان بن عيينة من أن قراءة التخفيف ، فتذكر ، معناه : تصيرها ذكراً في

" صفحة رقم 366 "
الشهادة ، لأن شهادة امرأة نصف شهادة ، فإذا شهدتا صار مجموع شهادتها كشهادة ذكر ، فقال الزمخشري : من بدع التفاسير .
وقال ابن عطية : هذا تأويل بعيد غير صحيح ، ولا يحسن في مقابله الضلال إلاَّ الذكر . انتهى .
وما قالاه صحيح ، وينبو عنه اللفظ من جهة اللغة ومن جهة المعنى ، أما من جهة اللغة فإن المحفوظ أن هذا الفعل لا يتعدى ، تقول : أذكرت المرأة فهي مذكر إذا ولدت الذكور ، وأما : أذكرت المرأة ، أي : صيرتها كالذكر ، فغير محفوظ . وأما من جهة المعنى ، فإن لو سلم أن : أذكر ، بمعنى صيرها ذكراً فلا يصح ، لأن التصيير ذَكَراً شامل للمرأتين ، إذ ترك شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر فليست إحداهما أذكرت الأخرى على هذا التأويل ، إذ لم تصير شهادتهما وحدها بمنزلة شهادة ذكر .
ولما أبهم الفاعل في : أن تضل ، بقوله : إحداهما ، أبهم الفاعل في : فتذكر ، بقوله : إحداهما ، إذ كل من المرأتين يجوز عليها الضلال ، والإذكار ، فلم يرد : بإحداهما ، معيَّنة . والمعنى : إن ضلت هذه أذكرتها هذه ، وإن ضلت هذه أذكرتها هذه ، فدخل الكلام معنى العموم ، وكأنه قيل : من ضل منهما أذكرتها الأخرى ، ولو لم يذكر بعد : فتذكر ، الفاعل مظهراً للزم أن يكون أضمر المفعول ليكون عائداً على إحداهما الفاعل بتضل ، ويتعين أن يكون : الأخرى ، هو الفاعل ، فكان يكون التركيب : فتذكرها الأخرى . وأما على التركيب القرآني فالمتبادر إلى الذهن أن : إحداهما ، فاعل تذكر ، والأخرى هو المفعول ، ويراد به الضالة ، لأن كلاًّ من الإسمين مقصور ، فالسابق هو الفاعل ، ويجوز أن يكون : إحداهما ، مفعولاً ، والفاعل هو الأخرى لزوال اللبس ، إذ معلوم أن المذكرة ليست الناسية ، فجاز أن يتقدّم المفعول ويتأخر الفاعل ، فيكون نحو : كسر العصا موسى ، وعلى هذا الوجه يكون قد وضع الظاهر موضع المضمر المفعول ، فيتعين إذ ذاك أن يكون الفاعل هو : الأخرى ، ومن قرأ : أن ، بفتح الهمزة و : فتذكر ، بالرفع على الاستئناف ، قيل : وقال : إن تضل إحداهما ، المعنى : أن النسيان غالب على طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة ، واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان عن المرأة الواحدة ، فأقيمت المرأتان مقام الرجل ، حتى إن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى ، وفيه دلالة على تفضيل الرجل على المرأة .
و : تذكر ، يتعدّى لمفعولين ، والثاني محذوف ، أي : فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة ، وفي قوله ) فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاْخْرَى ( دلالة على أن من شرط جواز إقامة الشهادة ذكر الشاهد لها ، وأنه لا يجوز الاقتصار فيها على الخط ، إذ الخط والكتابة مأمور ربه لتذكر الشهادة ، ويدل عليه قوله : ) إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( وإذا لم يذكرها فهو غير عالم بها .
وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، والشافعي : إذا كتب خطه بالشهادة فلا يشهد حتى يذكرها ، وقال محمد بن أبي ليلى ، إذا عرف خطه وسعه أن يشهد عليها . وقال الثوري : إذا ذكر أنه شهد ، ولا يذكر عدد الدراهم ، فإنه لا يشهد .
( وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ( قال قتادة : سبب نزولها أن الرجل كان يطوف في الحراء العظيم ، فيه القوم ، فلا يتبعه منهم أحد ، فأنزلها الله .
وظاهر الآية : أن المعنى : ولا يأب الشهداء من تحمل الشهادة إذا ما دعوا لها ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والربيع وغيرهم . وهذا النهي ليس نهي تحريم ، فله أن يشهد ، وله أن لا يشهد . قاله عطاء ، والحسن وقال الشعبي : إن لم يوجد غيره تعين عليه أن يشهد ، وإن وجد فهو مخير ، وقيل : المعنى : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لأداء الشهادة إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك ، قاله مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والسدي ، وإبراهيم ، ولاحق بن حميد ، وابن زيد . وروى النقاش : هكذا فسره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولو صح هذا

" صفحة رقم 367 "
عنه ، عليه السلام ، لم يعدل عنه فيكون نهي تحريم .
وقال ابن عباس أيضاً ، والحسن ، والسدي : هي في التحمل والإقامة إذا كان فارغاً ، وقال ابن عطية : والآية كما قال الحسن ، جمعت الأمرين ، والمسلمون مندوبون إلى معاونة إخوانهم ، فإذا كانت الفسحة في كثرة الشهود ، والأمن من تعطيل الحق ، فالمدعو مندوب ، وله أن يتخلف لأدنى عذر وأن يتخلف لغير عذر ، ولا إثم عليه . وإذا كانت الضرورة ، وخيف تعطيل الحق أدنى خوف ، قوي الندب وقرب من الوجوب . وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة ، فواجب عليه القيام بها ، لا سيما إن كانت محصلة . وكان الدعاء إلى أدائها ، فإن هذا الطرف آكد ، لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء انتهى .
( وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ( لما نهى عن امتناع الشهود إذا ما دعوا للشهادة ، نهى أيضاً عن السآمة في كتابة الدين ، كل ذلك ضبط لأموال الناس ، وتحريض على أن لا يقع النزاع ، لأنه متى ضبط بالكتابة والشهادة قل أن يحصل وهمٌ فيه أو إنكار ، أو منازعة في مقدار أو أجل أو وصف ، وقدم الصغير اهتماماً به ، وانتقالاً من الأدنى إلى الأعلى . ونص على الأجل للدلالة على وجوب ذكره ، فكتب كما يكتب أصل الدين ومحله إن كان مما يحتاج فيه إلى ذكر المحل ، ونبه بذكر الأجل على صفة الدين ومقداره ، لأن الأجل بعض أوصافه ، والأجل هنا هو الوقت الذي اتفق المتداينان على تسميته .
وقال الماتريدي : فيه دلالة على جواز السلم في الثياب ، لأن ما يؤكل أو يوزن لا يقال فيه الصغير والكبير ، وإنما يقال ذلك في العددي والذرعي . انتهى .
ولا يظهر ما قال : إذ الصغر ، والكبر هنا لا يراد به الجرم ، وإنما هو عبارة عن القليل والكثير ، فمن أسلم في مقدار رويبة ، أو في مقدار عشرين أردباً ، صدق على الأول أنه حق صغير ودين صغير ، وعلى الثاني انه دين كبير وحق كبير .
قيل : ومعنى : ولا تسأموا ، أي لا تكسلوا ، وعبر بالسأم عن الكسل ، لأن الكسل صفة المنافق ، ومنه الحديث : ( لا يقل المؤمن كسلت ) ، وكأنه من الوصف الذي نسبه الله إليهم في قوله : ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( وقيل : معناه لا تضجروا ، و : أن تكتبوا ، في موضع نصب على المفعول به ، لأن سئم متعد بنفسه . كما قال الشاعر : سئمت تكاليف الحياة ومن يعي
ثمانين عاماً لا أبك لك يسأم
وقيل : يتعدّى سئم بحرف جر ، فيكون : أن تكتبوه ، في موضع نصب على إسقاط الحرف ، أو في موضع جر على الخلاف الذي تقدم بين سيبويه والخليل ، ومما يدل على أن سئم يتعدّى بحرف جر قوله :
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد
وضمير النصب في : تكتبوه ، عائد على الدَّين ، لسبقه ، أو على الحق لقربه ، والدَّين هو الحق من حيث المعنى ، وكان من كثرت ديونه يمل من الكتابة ، فنهوا عن ذلك .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير للكتاب ، و : أن تكتبوه ، مختصراً أو مشبعاً ، ولا يخل بكتابته . انتهى . وهذا الذي قاله فيه بُعد .
وقرأ السلمي : ولا يسأموا ، بالياء وكذلك : أن يكتبوه ، والظاهر في هذه القراءة أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الشهداء ، ويجوز أن يكون من باب الالتفات ، فيعود على المتعاملين أو على الكتاب . وانتصاب : صغيراً أو كبيراً ، على الحال من الهاء في : أن تكتبوه ، وأجاز السجاوندي نصب : صغيراً ، على أن يكون خبراً لكان مضمرة ، أي : كان صغيراً ، وليس موضع إضمار كان ، ويتعلق : إلى أجله ، بمحذوف لا تكتبوه لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدين ، إذ ينقضي في زمن يسير ، فليس نظير : سرت إلى الكوفة ، والتقدير : أن

" صفحة رقم 368 "
تكتبوه مستقراً في الذمة إلى أجل حلوله .
( ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ( الإشارة إلى أقرب مذكور وهو الكتابة ، وقيل الكتابة والاستشهاد وجميع ما تقدّم مما يحصل به الضبط ، و : أقسط ، أعدل قيل : وفيه شذوذ ، لأنه من الرباعي الذي على وزن : أفعل ، يقال : أقسط الرجل أي عدل ، ومنه وأقسطوا ، وقد راموا خروجه عن الشذوذ الذي ذكروه ، بأن يكون : أقسط ، من قاسط على طريقة النسب بمعنى : ذي قسط ، قاله الزمخشري .
وقال ابن عطية : انظر هل هو من قسط بضم السين ، كما تقول : أكرم من كرم . انتهى . وقيل : من القسط بالكسر ، وهو العدل ، وهو مصدر لم يشتق منه فعل ، وليس من الإقساط ، لأن أفعل لا يبنى من الأفعال .
وقال الزمخشري : فإن قلت : مم بنى فعلاً التفضيل . أعني : أقسط . وأقوم .
قلت : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام . انتهى .
لم ينص سيبويه على أن أفعل التفضيل . بني من أفعل ، إنما يؤخذ ذلك بالاستدلال ، لأنه نص في أول كتابه على أن بناء أفعل للتعجب يكون من : فعل وفعل وفعل وأفعل ، فظاهر هذا أن أفعل الذي للتعجب يبني من أفعل ، ونص النحويون على أن ما يبنى منه أفعل للتعجب يبني منه أفعل التفضيل ، فما انقاس في التعجب : انقاس في التفضيل ، وما شذ فيه شد فيه .
وقد اختلف النحويون في بناء أفعل للتعجب على ثلاثة مذاهب : الجواز ، والمنع ، والتفصيل . بين أن يكون الهمزة للنقل فلا يبني منه أفعل للتعجب ، أو لا تكون للنقل ، فيبنى منه . وزعم أن هذا مذهب سيبويه ، وتؤول قوله : وأفعل على أنه أفعل الذي همزته لغير النقل ، ومن منع ذلك مطلقاً ضبط قول سيبويه . وأفعل على أنه على صيغة الأمر ، ويعني أنه يكون فعل التعجب على أفعل ، وبناؤه من : فعل وفعل وفعل وعلى أفعل وحجج هذه المذاهب مستوفاة في كتب النحو .
والذي ينبغي أن يحمل عليه أقسط هو أن يكون مبنياً من قسط الثلاثي بمعنى عدل قال ابن السيد في ( الاقتضاب ) ما نصبه : حكى ابن السكيت في كتاب الأضداد عن أبي عبيدة : قسط جار ، وقسط عدل ، وأقسط بالألف عدل لا غير . وقال ابن القطاع : قسط قسوطاً وقسطاً ، جار وعدل ضد ، فعلى هذا لا يكون شاذاً .
ومعنى : أقسط عند الله . أعدل في حكم الله أن لا يقع التظالم .
( وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ( إن كان من أقام ففيه شذوذ على قول بعضهم ، ومن جعله مبنياً من قام بمعنى اعتدل فلا شذوذ فيه ، وتقدّم قول الزمخشري إنه جائز على مذهب سيبويه أن يكون من أقام ، وقال أيضاً : يجوز أن يكون على معنى النسب من قويم . انتهى .
وعد بعض النحويين في التعجب ما أقومه في الشذوذ ، وجعله مبنياً من استقام ، ويتعلق : للشهادة ، بأقوم ، وهو من حيث المعنى مفعول كما تقول : زيد أضرب لعمرو من خالد ، ولا يجوز حذف هذه اللام والنصب إلاَّ في الشعر كما قال الشاعر .
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
وقد تؤول على إضمار فعل أي : تضرب القوانس ومعنى : أقوم للشهادة ، أثبت وأصح .
( وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ ( أي أقرب لانتفاء الريبة وقرأ السلمي : أن لا يرتابوا بالياء ، والمفضل عليه محذوف ، وحسن حذفه كونه أفعل الذي للتفضيل وقع خبراً للمبتدأ ، وتقديره : الكتب أقسط وأقوم وأدنى لكذا من عدم الكتب ، وقدّر : أدنى ، لأن : لا ترتابوا ، وإلى أن لا ترتابوا ، و : من أن لا ترتابوا . ثم حذف حرف الجر فبقي منصوباً أو مجروراً على الخلاف الذي سبق .
ونسق هذه الإخبار في غاية الحسن ، إذ بدىء أولاً بالأشرف ، وهو قوله ) أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ( أي : في حكم الله ، فينبغي أن يتبع ما أمر به ، إذ اتباعه هو متعلق الدين الإسلامي ، وبنى لقوله : ) وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ( لأن ما بعد امتثال أمر الله هو الشهادة بعد الكتابة ، وجاء بالياء . و ) أَدْنَى أَن لا ( لأن انتفاء الريبة مترتب على طاعة الله في الكتابة والإشهاد ، فعنهما تنشأ أقربية انتفاء الريبة ، إذ ذلك هو الغاية في أن لا يقع ريبة ، وذلك لا يتحصل إلا بالكتب والإشهاد غالباً ، فيثلج الصدر بما كتب ،

" صفحة رقم 369 "
وأشهد عليه .
و : ترتابوا ، بني افتعل من الريبة ، وتقدم تفسيرها في قوله ) الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( قيل : والمعنى : أن لا ترتابوا بمن عليه الحق أن ينكر ، وقيل : أن لا ترتابوا بالشاهد أن يضل ، وقيل : في الشهادة ومبلغ الحق والأجل ، وقيل : المعنى أقرب لنفي الشك للشاهد والحاكم والمتعاملين ، وما ضبط بالكتابة والإشهاد لا يكاد يقع فيه شك ولا لبس ولا نزاع .
( إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا ( في التجارة الحاضرة قولان : أحدهما : ما يعجل ولا يدخله أجل من بيع وثمن ؛ والثاني : ما يجوزه المشتري من العروض المنقولة ، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل : كالمطعوم ، بخلاف الأملاك . ولهذا قال السدي ، والضحاك : هذا فيما إذا كان يداً بيدٍ تأخذه وتعطي . وفي معنى الإدارة ، قولان : أحدهما : يتناولونها من يد إلى يد . والثاني : يتبايعونها في كل وقت ، والإدارة تقتضي التقابض والذهاب بالمقبوض ، ولما كانت الرباع والأرض ، وكثير من الحيوان لا تقوى البينونة ، ولا يعاب عليها حسن الكتب والإشهاد فيها ، ولحقت بمبايعة الديون ، ولما كانت الكتابة في التجارة الحاضرة الدائرة بينهم شاقة ، رفع الجناح عنهم في تركها ، ولأن ما بيع نقداً يداً بيدٍ لا يكاد يحتاج إلى كتابة ، إذ مشروعية الكتابة إنما هي لضبط الديون ، إذ بتأجيلها يقع الوهم في مقدارها وصفتها وأجلها ، وهذا مفقود في مبايعة التاجر يداً بيد . وهذا الاستثناء في قوله : إلاَّ أن تكون ، منقطع لأن ما بيع لغير أجل مناجزة لم يندرج تحت الديون المؤجلة . وقيل : هو استثناء متصل ، وهو راجع إلى قوله ) إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ( إلاَّ أن يكون الأجل قريباً . وهو المراد من التجارة الحاضرة . وقيل : هو متصل راجع إلى قوله : ) وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ( وقرأ عاصم : تجارة حاضرة ، بنصبهما على أن كان ناقصة ، التقدير إلاَّ أن تكون هي أي التجارة . وقرأ الباقون برفعهما على أن يكون : تكون ، تامة . و : تجارة ، فاعل بتكون ، وأجاز بعضهم أن تكون ناقصة وخبرها الجملة من قوله : تديرونها بينكم . ونفي الجناح هنا معناه لا مضرة عليكم في ترك الكتابة ، هذا على مذهب أكثر المفسرين ، إذا الكتابة عندهم ليست واجبة ، ومن ذهب إلى الوجوب فمعني : لا جناح ، لا إثم .
( وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ( هذا أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ، ناجزاً أو كالئاً ، لأنه أحوط وأبعد مما عسى أن يقع في ذلك من الاختلاف ، وقيل : يعود إلى التجارة الحاضرة ، لما رخص في ترك الكتابة أمروا بالإشهاد .
قيل : وهذه الآية منسوخة بقوله : ) فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا ( روي ذلك عن الجحدري ، والحسن ، وعبد الرحمن بن يزيد ، والحكم . وقيل : هي محكمة ، والأمر في ذلك على الوجوب قال ذلك أبو موسى الأشعري ، وابن عمر ، والضحاك ، وابن المسيب ، وجابر بن زيد ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم ، والشعبي ، والنخعي ، وداود بن علي ، وابنه أبو بكر ، والطبري .
قال الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل وقال عطاء : أشهد إذا بعت أو اشتريت بدرهم ، أو نصف درهم ، أو ثلاث دراهم ، أو أقل من ذلك وقال الطبري : لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلاَّ أن يشهد ، وإلاَّ كان مخالفاً لكتاب الله عز وجل . وذهب الحسن وجماعة إلى أن هذا الأمر على الندب والإرشاد لا على الحتم قال ابن العربي : وهذا قول الكافة .
( وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ( هذا نهي ، ولذلك فتحت الراء لأنه مجزوم .

" صفحة رقم 370 "
والمشدّد إذا كان مجزوماً كهذا كانت حركته الفتحة لخفتها ، لأنه من حيث أدغم لزم تحريكه ، فلو فك ظهر فيه الجزم .
واحتمل هذا الفعل أن يكون مبنياً للفاعل فيكون الكاتب والشهيد قد نهيا أن يضارّا أحداً بأن يزيد الكاتب في الكتابة ، أو يحرف . وبأن يكتم الشاهد الشهادة ، أو يغيرها أو يمتنع من أدائها قال معناه الحسن ، وطاووس ، وقتادة ، وابن زيد واختاره : الزجاج لقوله بعد : ) وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ( لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة ، ويمتنع من الشهادة ، حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أبرم الكاتب والشهيد ، ولأنه تعالى قال ، فيمن يمتنع من أداء الشهادة ) وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ ( والآثم والفاسق متقاربان وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء : بأن يقولا : علينا شغل ولنا حاجة .
واحتمل أن يكون مبنياً للمفعول ، فنهى أن يضارّهما أحد بأن يعنتا ، ويشق عليهما في ترك أشغالهما ، ويطلب منهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة قال معناه أيضاً ابن عباس ، ومجاهد ، وطاووس ، والضحاك ، والسدي .
ويقوي هذا الاحتمال قراءة عمر : ولا يضار ، بالفك وفتح الراء الأولى . رواها الضحاك عن ابن مسعود ، وابن كثير عن مجاهد ، واختاره الطبري لأن الخطاب من أول الآيات إنما هو للمكتوب له ، وللمشهود له ، وليس للشاهد والكاتب خطاب تقدّم ، إنما رده على أهل الكتابة والشهادة ، فالنهي لهم أبين أن لا يضار الكاتب والشهيد فيشغلونهما عن شغلهما ، وهم يجدون غيرهما . ورجح هذا القول بأنه لو كان خطاباً للكاتب والشهيد لقيل : وإن تفعلا فإنه . فسوق بكما ، وإذا كان خطاباً للمداينين فالمنهيون عن الضرار هم ، وحكى أبو عمرو الذاني عن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن أبي إسحاق : أن الراء الأولى مكسورة ، وحكى عنهم أيضاً فتحها ، وفك الفعل . والفك لغة الحجاز ، والإدغام لغة تميم .
وقرأ ابن القعقاع ، وعمرو بن عبيد : ولا يضار ، بجزم الراء ، وهو ضعيف لأنه في التقدير جمع بين ثلاث سواكن ، لكن الألف لمدّها يجري مجرى المتحرك ، فكأنه بقي ساكنان ، والوقف عليه ممكن . ثم أجريا الوصل مجرى الوقف .
وقرأ عكرمة : ولا يضارر ، بكسر الراء الأولى والفك ، كاتباً ولا شهيداً بالنصب أي : لا يبدأهما صاحب الحق بضرر .
ووجوه المضارة لا تنحصر ، وروي مقسم عن عكرمة أنه قرأ : ولا يضارّ ، بالإدغام وكسر الراء لالتقاء الساكنين .
وقرأ ابن محيصن : ولا يضارّ ، برفع الراء المشدّدة ، وهي نفي معناه النهي . وقد تقدّم تحسين مجيء النهي بصورة النفي ، وذلك أن النهي إنما يكون عن ما يمكن وقوعه ، فإذا برز في صورة النفي كان أبلغ ، لأنه صار مما لا يقع ، ولا ينبغي أن يقع .
( وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ( ظاهره أن مفعول : تفعلوا ، المحذوف راجع إلى المصدر المفهوم من قوله : ولا يضار ، وإن تفعلوا لمضارة أو الضرار فإنه ، أي الضرار ، فسوق بكم أي : ملتبس بكم ، أو تكون الباء ظرفية ، أي : فيكم ، وهذا أبلغ ، إذ جعلوا محلاً للفسق .
والخطاب في : تفعلوا ، عائد الكاتب والشاهد ، إذ كان قوله : ولا يضار ، قد قدر مبنياً للفاعل ، وأما إذا قدر مبنياً للمفعول فالخطاب للمشهود لهم . وقيل : هو راجع إلى ما وقع النهي عنه ، والمعنى وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتكم عنه ، أو تتركوا شيئاً مما أمرتكم به ، فهو عام في جميع التكاليف ، فإنه فسوق بكم ، أي : خروج عن أمر الله وطاعته .
( وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( أي : في ترك الضرار ، أو : في جميع أوامره ونواهيه ، ولما كان قوله ) وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ( خطاباً على سبيل الوعيد ، أمر بتقوى الله حتى لا يقع في الفسق .
( وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ ( هذه جملة تذكر بنعم الله التي أشرفها : التعليم للعلوم ، وهي جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل : هي في موضع نصب على الحال من الفاعل في : واتقوا ، تقديره : واتقوا الله مضموناً لكم التعليم والهداية . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون حالاً مقدرة . انتهى . وهذا القول ، أعني : الحال ، ضعيف جداً ، لأن المضارع الواقع حالاً ، لا يدخل عليه واو الحال إلاَّ فيما شذ من نحو : قمت وأصك عينه . ولا ينبغي أن يحمل القرآن على الشذوذ .
( وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ ( إشارة إلى احاطته تعالى بالمعلومات ، فلا يشذ عنه منها شيء . وفيها

" صفحة رقم 371 "
إشعار بالمجازاة للفاسق والمتقي ، وأعيد لفظ الله في هذه الجمل الثلاث على طريق تعظيم الأمر ، جعلت كل جملة منها مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى ربط بالضمير ، بل اكتفي فيها بربط حرف العطف ، وليست في معنى واحد ، فالأولى : حث على التقوى ، والثانية : تذكر بالنعم ، والثالثة : تتضمن الوعد والوعيد . وقيل : معنى الآية الوعد ، فإن من اتقى علمه الله ، وكثيراً ما يتمثل بهذه بعض المتطوعة من الصوفية الذين يتجافون عن الاشتغال بعلوم الشريعة ، من الفقه وغيره ، إذا ذكر له العلم ، والاشتغال به ، قالوا : قال الله : واتقوا الله ويعلمكم الله ، ومن أين تعرف التقوى ؟ وهل تعرف إلاَّ بالعلم ؟ .
البقرة : ( 283 ) وإن كنتم على . . . . .
( وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ). مفهوم الشرط يقتضي امتناع الاستيثاق بالرهن ، وأخذه في الحضر ، وعند وجدان الكاتب ، لأنه تعالى علق جواز ذلك على وجود السفر وفقدان الكاتب ، وقد ذهب مجاهد ، والضحاك : إلى أن الرهن والائتمان إنما هو في السفر ، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك ، ونقل عنهما أنهما لا يجوزان الارتهان إلاَّ في حال السفر ، وجمهور العلماء على جواز الرهن في الحضر ، ومع وجود الكاتب ، وأن الله تعالى ذكر السفر على سبيل التمثيل للإعذار ، لأنه مظنة فقدان الكاتب ، وإعواز الإشهاد ، فأقام التوثق بالرهن مقام الكتابة والشهادة ، ونبه بالسفر على كل عذر ، وقد يتعذر الكاتب في الحضر ؛ كأوقات الاشتغال والليل وقد صح أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) رهن درعه في الحضر ، فدل ذلك على أن الشرط لا يراد مفهومه .
وقرأ الجمهور : كاتباً ، على الإفراد وقرأ أبي ، ومجاهد ، وأبو العالية : كاتباً على أنه مصدر ، أو جمع كاتب . كصاحب وصحاب . ونفي الكاتب يقتضي نفي الكتابة ، ونفي الكتابة يقتضي أيضاً نفي الكتب .
وقرأ ابن عباس والضحاك : كتاباً ، على الجمع اعتباراً بأن كل نازلة لها كاتب ، وروي عن أبي العالية : كتباً جمع كتاب ، وجمع اعتباراً بالنوازل أيضاً .
وقرأ الجمهور : فرهان ، جمع رهن نحو : كعب وكعاب . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : فرهن ، بضم الراء والهاء . وروي عنهما تسكين الهاء . وقرأ بكل واحدة منهما جماعة غيرهما ، فقيل : هو جمع رهان ، ورهان جمع رهن ، قاله الكسائي ، والفراء . وجمع الجمع لا يطرد عند سيبويه ، وقيل : هو جمع رهن ، كسقف ، ومن قرأ بسكون الهاء فهو تخفيف من رهن ، وهي لغة في هذا الباب ، نحو : كتب في كتب ، واختاره أبو عمرو بن العلاء وغيره ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لا أعرف الرهان إلاَّ في الخيل لا غير ، وقال يونس : الرهن والرهان عربيان ، والرهن في الرهن أكثر ، والرهان في الخيل أكثر . انتهى . وجمع فعل على فعل قليل ، ومما جاء فيه : رهن قول الأعشى : آليت لا يعطيه من أبنائنا
رهناً فيفسدهم كرهن أفسدا
وقال بكسر : رهن ، على أقل العدد لم أعلمه جاء ، وقياسه : أفعل ، فكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل . انتهى .
والظاهر من قوله : مقبوضة ، اشتراط القبض . وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن ، وقبض وكيله ، وإما قبض عدل يوضع الرهن على يديه ، فقال الجمهور به وقال عطاء ، وقتادة ، والحكم ، وابن أبي ليلى : ليس بقبض ، فإن وقع الرهن بالإيجاب والقبول ، ولم يقع القبض ، فالظاهر من الآية أنه لا يصح إلاَّ بالقبض ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وقالت المالكية : يلزم الرهن بالعقد ، ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن ، فالقبض عند مالك شرط في كمال فائدته ، وعند أبي حنيفة والشافعي شرط في صحته ، وأجمعوا على أنه لا يتم إلاَّ بالقبض .
واختلفوا في استمراره ، فقال مالك : إذا ردّه بعارية أو غيرها بطل وقال أبو حنيفة : إن ردّه بعارية أو وديعة لم يبطل . وقال الشافعي : يبطل برجوعه إلى يد الراهن

" صفحة رقم 372 "
مطلقاً .
والظاهر من اشتراط القبض أن يكون المرهون ذاتاً متقومّة يصح بيعها وشراؤها ، ويتهيأ فيها القبض أو التخلية . فقال الجمهور : لا يجوز رهن ما في الذمّة . وقالت المالكية : يجوز ، وقال الجمهور : لا يصح رهن الغرر ، مثل : العبد الآبق ، والبعير الشارد ، والأجنة في بطون أمّهاتها ، والسمك في الماء ، والثمرة قبل بدو صلاحها وقال مالك : لا بأس بذلك .
واختلفوا في رهن المشاع ، فقال مالك ، والشافعي : يصح فيما يقسم وفيما لا يقسم . وقال أبو حنيفة : لا يصح مطلقاً . وقال الحسن بن صالح : يجوز فيما لا يقسم ، ولا يجوز فيما يقسم .
ومعنى : على سفر ، أي : مسافرين ، وقد تقدّم الكلام على مثله في آية الصيام .
ويحتمل قوله : ولم تجدوا ، أن يكون معطوفاً على فعل الشرط ، فتكون الجملة في موضع جزم ، ويحتمل أن تكون الواو للحال ، فتكون الجملة في موضع نصب . ويحتمل أن يكون معطوفاً على خبر كان ، فتكون الجملة في موضع نصب ، لأن المعطوف على الخبر خبر ، وارتفاع : فرهان ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : فالوثيقة رهان مقبوضة .
( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ( أي : إن وثق رب الدين بأمانة الغريم ، فدفع إليه ماله بغير كتاب ولا إشهاد ولا رهن ، فليؤدّ الغريم أمانته ، أي ما ائتمنه عليه رب المال وقرأ أبيّ : فإن أومن ، رباعيا مبنياً للمفعول ، أي : آمنه الناس ، هكذا نقل هذه القراءة عن أبيّ الزمخشري ، وقال السجاوندي : وقرأ أبيّ : فإن ائتمن ، افتعل من الأمن ، أي : وثق بلا وثيقة صك ، ولا رهن .
والضمير في : أمانته ، يحتمل أن يعود إلى رب الدين ، ويحتمل أن يعود إلى الذي اؤتمن . والأمانة : هو مصدر أطلق على الشيء الذي في الذمّة ، ويحتمل أن يراد به نفس المصدر ، ويكون على حذف مضاف ، أي : فليؤدّ دين أمانته . واللام في : فليؤدّ ، للأمر ، وهو للوجوب . وأجمعوا على وجوب أداء الديون ، وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه ، ويجوز إبدال همزة : فليؤدّ ، واواً نحو : يوجل ويوخر ويواخذ ، لضمة ما قبلها .
وروى أبو بكر عن عاصم : الذي اؤتمن ، برفع الألف ، ويشير بالضمة إلى الهمزة . قال ابن مجاهد : وهذه الترجمة غلط . وروي سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم ، وفي الإشارة والإشمام المذكورين نظر .
وقرأ ابن محيصن ، وورش بإبدال الهمزة ياء ، كما أبدلت في بئر وذئب ، وأصل هذا الفعل : أؤتمن ، بهمزتين : الأولى همزة الوصل ، وهي مضمومة . والثاني : فالكلمة ، وهي ساكنة ، فتبدل هذه واواً لضمة ما قبلها ، ولاستثقال اجتماع الهمزتين ، فإذا اتصلت الكلمة بما قبلها رجعت الواو إلى أصلها من الهمزة ، لزوال ما أوجب إبدالها . وهي همزة الوصل ، فإذا كان قبلها كسرة جاز ، إبدالها ياءً لذلك .
وقرأ عاصم في شاذه : اللذتمن ، بإدغام التاء المبدلة من الهمزة قياساً على : اتسر ، في الافتعال من اليسر قال الزمخشري : وليس بصحيح ، لأن التاء منقلبة عن الهمزة في حكم الهمزة ، واتزر عامّي ، وكذلك ريّا في رؤيا . انتهى . كلامه .
وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح ، وأن اترز عامي يعني : أنه من إحداث العامّة ، لا أصل له في اللغة ، قد ذكره غيره ، أن بعضهم أبدل وأدغم ، فقال : اتمن واتزر ، وذكر أن ذلك لغة رديئة . وأما قوله : وكذلك ريّا في رؤيا ، فهذا التشبيه إما أن يعود إلى قوله : واترز عامي ، فيكون إدغام ريّاً عامياً . وإما أن يعود إلى قوله : فليس بصحيح ، أي : وكذلك إدغام : ريا ، ليس بصحيح . وقد حكى الإدغام في ريا الكسائي .
( وَلْيَتَّقِ اللَّهَ

" صفحة رقم 373 "
رَبَّهُ ( أي عذاب الله في أداء ما ائتمنه رب المال ، وجمع بين قوله : الله ربه ، تأكيداً الأمر التقوى في أداء الدين كما جمعهما في قوله : ) وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ ( فأمر بالتقوى حين الإقرار بالحق ، وحين أداء ما لزمه من الدين ، فاكتنفه الأمر بالتقوى حين الأخذ وحين الوفاء .
( وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ ( هذا نهي تحريم ، ألا ترى إلى الوعيد لمن كتمها ؟ وموضع النهي حيث يخاف الشاهد ضياع الحق . وقال ابن عباس : على الشاهد أن يشهد حيث ما استشهد ، ويخبر حيث ما استخبر . ولا تقل : أخبر بها عن الأمير ، بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي .
وقرأ السملي : ولا يكتموا ، بالياء على الغيبة .
( وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ ( كتم الشهادة هو إخفاؤها بالامتناع من أدائها ، والكتم من معاصي القلب ، لأن الشهادة علم قام بالقلب ، فلذلك علق الإثم به . وهو من التعبير بالبعض عن الكل : إلا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب . وإسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ وآكد ، ألا ترى أنك تقول : أبصرته عيني ؟ وسمعته أذني ؟ ووعاه قلبي ؟ فأسند الإثم إلى القلب إذ هو متعلق الإثم ، ومكان اقترافه ، وعنه يترجم اللسان . ولئلا يظنّ أن الكتمان من الآثام المتعلقة باللسان فقط ، وأفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها ، لو خشع قلبه لخشعت جوارحه . وقراءة الجمهور : آثم ، اسم فاعل من : أثم قلبه ، و : قلبه ، مرفوع به على الفاعلية ، و : آثم ، خبر : إن ، وجوّز الزمخشري أن يكون : آثم ، خبراً مقدّماً ، و : قلبه ، مبتدأ . والجملة في موضع خبر : إن ، وهذا الوجه لا يجيزه الكوفيون .
وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون يعني : آثم ابتداء وقلبه فاعل يسدّ مسدّ الخبر ، والجملة خبر إن . انتهى . وهذا لا يصح على مذهب سيبويه وجمهور البصريين ، لأن اسم الفاعل لم يعتمد على أداة نفي ولا أداة استفهام ، نحو : أقائم الزيدان ؟ وأقائم الزيدون ؟ وما قائم الزيدان ؟ لكنه يجوز على مذهب أبي الحسن ، إذ يجيز : قائم الزيدان ؟ فيرفع الزيدان باسم الفاعل دون اعتماد على أداة نفي ولا استفهام . قال ابن عطية : ويجوز أن يكون : قلبه ، بدلاً على بدل بعض من كل ، يعنى : أن يكون ب لا من الضمير المرفوع المستكن في : آثم ، والإعراب الأول هو الوجه .
وقرأ قوم : قلبَه ، بالنصب ، ونسبها ابن عطية إلى ابن أبي عبلة . وقال : قال مكي : هو على التفسير يعنى التمييز ، ثم ضعف من أجل أنه معرفة . والكوفيون يجيزون مجيء التمييز معرفة . وقد خرجه بعضهم على أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به ، نحو قولهم : مررت برجل حسن وجهه ومثله ما أنشد الكسائي رحمه الله تعالى : أنعتها إني من نعاتها
مدارة الأخفاف مجمراتها
غلب الدفار وعفر يناتها
كوم الذرى وادقة سراتها
وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين جائز ، وعلى مذهب المبرد ممنوع ، وعلى مذهب سيبويه جائز في الشعر لا في الكلام ، ويجوز أن ينتصب على البدل من اسم إن بدل بعض من كل ، ولا مبالاة بالفصل بين البدل والمبدل منه بالخبر ، لأن ذلك جائز . وقد فصلوا بالخبر بين الصفة والموصوف ، نحو : زيد منطلق العاقل ، نص عليه سيبويه ، مع أن العامل في النعت والمنعوت واحد ، فأحرى في البدل ، لأن الأصح أن العامل فيه هو غير العامل في المبدل منه .
ونقل الزمخشري وغيره : أن ابن أبي عبلة قرأ : أثم قلبه ، بفتح الهمزة والثاء والميم وتشديد الثاء ، جعله فعلاً ماضياً . وقلبه بفتح الباء نصباً على

" صفحة رقم 374 "
المفعول بأثم ، أي : جعله آثماً .
( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( بما تعملون عام في جميع الأعمال ، فيدخل فيها كتمان الشهادة وأداؤها على وجهها . وفي الجملة توعد شديد لكاتم الشهادة ، لأن علمه بها يترتب عليه المجازاة ، وإن كان لفظ العلم يعم الوعد والوعيد .
وقرأ السلمي : بما يعملون ، بالياء جرياً على قراءته ، و : لا يكتموا ، بالياء على الغيبة .
وقد تضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة .
التجنيس المغاير في قوله : إذا تداينتم بدين ، وفي قوله : وليكتب بينكم كاتب . وفي قوله : ولا يأب كاتب أن يكتب . وفي قوله : ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم . وفي قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم . وفي قوله : أؤتمن أمانته .
والتجنيس المماثل في قوله : ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها .
والتأكيد في قوله : تداينتم بدين ، وفي قوله : وليكتب بينكم كاتب ، إذ يفهم من قوله : تداينتم ، قوله : بدين ، ومن قوله : فليكتب ، قوله : كاتب .
والطباق في قوله : أن تضل إحداهما فتذكر ، لأن الضلال هنا بمعنى النسيان . وفي قوله : صغيراً أو كبيراً .
والتشبيه في قوله : أن يكتب كما علمه الله .
والاختصاص في قوله : كاتب بالعدل . وفي قوله : فليملل وليه بالعدل ، وفي قوله : أقسط عند الله وأقوم للشهادة . وفي قوله : تجارة حاضرة تديرونها بينكم .
والتكرار في قوله : فاكتبوه وليكتب ، وأن يكتب كما علمه الله ، فليكتب ، ولا يأب كاتب ، وفي قوله : فليملل الذي عليه الحق ، فإن كان الذي عليه الحق . كرر الحق للدّعاء إلى اتباعه ، وأتى بلفظة على للإعلام أن لصاحب الحق مقالاً واستعلاء ، وفي قوله : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى . وفي قوله : واتقوا الله ، ويعلمكم الله ، والله .
والحذف في قوله : يا أيها الذين آمنوا ، حذف متعلق الإيمان . وفي قوله : مسمى ، أي بينكم فليكتب الكاتب ، أن يكتب الكتاب كما علمه الله الكتابة والخط ، فليكتب كتاب الذي عليه الحق ما عليه من الدين ، وليتق الله ربه في املائه سفيهاً في الرأي أو ضعيفاً في البينة ، أو لا يستطيع أن يمل هو لخرس أو بكم فليملل الدين وليه على الكاتب ، واستشهدوا إذا تعاملتم من رجالكم المعينين للشهادة المرضيين ، فرجل مرضي وامرأتان مرضيتان من الشهداء المرضيين فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة ، ولا يأب الشهداء من تحمل الشهادة أو من أدائها عند الحاكم إذا ما دعوا أي دعائهم صاحب الحق للتحمل ، أو للأداء إلى أجله المضروب بينكم ، ذلكم الكتاب أقسط وأقوم للشهادة المرضية أن لا ترتابوا في الشهادة تديرونها بينكم ، ولا تحتاجون إلى الكتب والإشهاد فيها ، وأشهدوا إذا تبايعتم شاهدين ، أو رجلاً وامرأتين ، ولا يضارّ كاتب ولا شهيد أي صاحب الحق ، أو : لا يضار صاحب الحق كاتباً ولا شهيداً ، ثم حذف وبنى للمفعول ، وأن تفعلوا الضرر ، واتقوا عذاب الله ، ويعلمكم الله الصواب ، وإن كنتم على سبيل سفر ولم تجدوا كاتباً يتوثق بكتابته ، فالوثيقة رهن أمن بعضكم بعضاً ، فأعطاه مالاً بلا إشهاد ولا رهن أمانته من غير حيف ولا مطل ، وليتق عذاب الله ، ولا تكتموا الشهادة عن طالبها .
وتلوين الخطاب ، وهو الانتقال من الحضور إلى الغيبة ، في قوله : فاكتبوه ، وليكتب ، ومن الغيبة إلى الحضور في قوله : ولا يأب كاتب ، وأشهدوا . ثم انتقل إلى الغيبة بقوله : ولا يضار ، ثم إلى الحضور بقوله : ولا تكمتوا الشهادة ، ثم إلى الغيبة بقوله : ومن يكتمها ، ثم إلى الحضور بقوله : بما تعملون .
والعدول من فاعل إلى فعيل ، في قوله : شهيدين ، ولا يضار كاتب ولا شهيد .
والتقديم والتأخير في قوله : فليكتب ، وليملل ، أو الإملال ، بتقديم الكتابة قبل ، ومن ذلك : ممن ترضون من الشهداء ، التقدير واستشهدوا ممن ترضون ، ومنه وأشهدوا إذا تبايعتم .
انتهى ما لخصناه مما ذكر في هذه الآية . من أنواع الفصاحة . وفيها من التأكيد في حفظ الأموال في المعاملات ما لا يخفي : من الأمر بالكتابة للمتداينين ، ومن الأمر للكاتب بالكتابة بالعدل ، ومن النهي عن الامتناع من الكتابة ، ومن أمره ثانياً بالكتابة ، ومن الأمر لمن عليه الحق بالإملال إن أمكن ، أو لوليه إن لم يمكنه ، ومن الأمر بالاستشهاد ، ومن الاحتياط في من يشهد وفي وصفه ، ومن النهي للشهود عن الامتناع من الشهادة إذا ما دعوا إليها ، ومن النهي عن الملل في كتابة الدين وإن كان حقيراً ، ومن الثناء على الضبط بالكتابة ، ومن الأمر بالإشهاد عند التبايع ، ومن النهي للكاتب والشاهد عن ضرار من يشهد له ويكتب ، ومن التنبيه على أن الضرار في مثل هذا هو فسوق ، ومن الأمر بالتقوى ، ومن الإذكار بنعمة التعلم ، ومن التهديد بعد ذلك ، ومن الاستيثاق في السفر وعدم الكاتب بالرهن المقبوض ، ومن الأمر بأداء

" صفحة رقم 375 "
أمانة من لم يستوثق بكاتب وشاهد ورهن ، ومن الأمر لمن استوثق بتقوى الله المانعة من الإخلال بالأمانة ، ومن النهي عن كتم الشهادة ، ومن التنبيه على أن كاتمها مرتكب الإثم ، ومن التهديد آخرها بقوله : ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( فانظر إلى هذه المبالغة والتأكيد في حفظ الأموال وصيانتها عن الضياع ، وقد قرنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالنفوس والدماء ، فقال : ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) . وقال : ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم ) . ولصيانتها والمنع من إضاعتها ، ومن التبذير فيها كان حجر الإفلاس ، وحجر الجنون ، وحجر الصغر ، وحجر الرق ، وحجر المرض ، وحجر الإرتداد .
البقرة : ( 284 ) لله ما في . . . . .
( للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( قال الشعبي ، وعكرمة : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها ، ورواه مجاهد ومقسم عن ابن عباس ، قال مقاتل ، والواقدي : نزلت فيمن يتولى الكافرين من المؤمنين .
ومناسبتها ظاهرة ، لأنه لما ذكر أن من كتم الشهادة فإن قلبه آثم ، ذكر ما انطوى عليه الضمير ، فكتمة أو أبداه ، فإن الله يحاسبه به ، ففيه وعيد وتهديد لمن كتم الشهادة ، ولما علق الإثم بالقلب ذكر هنا الأنفس ، فقال : ) وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ( وناسب ذكر هذه الآية خاتمة لهذه السورة لأنه تعالى ضمنها أكثر علم الأصول والفروع من : دلائل التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، والصلاة ، والزكاة ، والقصاص ، والصوم ، والحج ، والجهاد ، والحيض ، والطلاق ، والعدّة ، والخلع ، والإيلاء ، والرضاعة ، والربا ، والبيع ، وكيفية المداينة . فناسب تكليفه إيانا بهذه الشرائع أن يذكر أنه تعالى مالك لما في السموات وما في الأرض ، فهو يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تعبداته وتكليفاته .
ولما كانت هذه التكاليف محل اعتقادها إنما هو الأنفس ، وما تنطوي عليه من النيات ، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة ، نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخررة بقوله : ) وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ( فصفة الملك تدل على القدرة الباهرة ، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير ، فحصل بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين ، وغاية الوعيد للعاصين .
والظاهر في : اللام ، أنها للملك ، وكان ملكاً له لأنه تعالى هو المنشيء له ، الخالق . وقيل : المعنى لله تدبير ما في السموات وما في الأرض ، وخص السموات والأرض لأنها أعظم ما يرى من المخلوقات ، وقدم السموات لعظمها ، وجاء بلفظ : ما ، تغليباً لما لا يعقل على من يعقل ، لأن الغالب فيما حوته إنما هو جماد وحيوان ، لا يعقل ، وأجناس ذلك كثيرة . وأما العاقل فأجناسه قليلة إذ هي ثلاثة : إنس وجنّ وملائكة .
( وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ( ظاهر : ما ، العموم ، والمعنى : أن الحالتين من الإخفاء والإبداء بالنسبة إليه تعالى سواء ، وإنما يتصف بكونه إبداء وإخفاء بالنسبة إلى المخلوقين لا إليه تعالى ، لأن علمه ليس ناشئاً عن وجود الأشياء ، بل هو سابق بعلم الأشياء قبل الإيجاد ، وبعد الإيجاد ، وبعد الإعدام . بخلاف علم المخلوق ، فإنه لا يعلم الشيء إلاَّ بعد إيجاده ، فعلمه محدث . وقد خصص هذا العموم فقال ابن عباس ، وعكرمة ، والشعبي ، واختاره ابن جرير : هو في معنى الشهادة أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب ، وقيل : من الاحتيال للربا ، وقال مجاهد : من الشك واليقين ، ومما يدل على أن الله تعالى يؤاخذ بما تجن القلوب ، قوله : ) وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ).
وبعد فإن المحبة والإرادة والعلم والجهل أفعال القلب وهي من أعظم أفعال العباد وقال القاضي عبد الجبار بين أن أفعال القلوب كأفعال الجوارح في أن الوعيد يتناولها ، ويعني ما يلزم إظهاره إذا خفي ، وما يلزم كتماته إذا ظهر مما يتعلق به الحقوق ، ولم يرد بذلك ما يخطر بالقلب مما قد رفع فيه المأثم . انتهى كلامه . وإلى ما يهجس في النفس أشار ، والله أعلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بقوله : ( إن الله تعالى تجاوز لأمتى ما حدّثت به أنفسها ولم تعمل به وتكلم ) وقال : إن تظهروا العمل أو تسروه .
وقال أبو علي : يحاسب عباده على ما يخفون من أعمالهم وعلى ما يبدونه ، فيغفر للمستحق ويعذب المستحق ودلت على أن الثواب

" صفحة رقم 376 "
والعقاب يستحقان بالعزم وسائر أفعال القلوب إذا كانت طاعة أو معصية .
وقال الزمخشري : من السوء وهذا حسن لأنه جاء بعد ذلك ذكر الغفران والتعذيب ، لكن ذيل ذلك الزمخشري بقوله : فيغفر لمن يشاء ، لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه ، أو أضمر . ويعذب من يشاء من استوجب العقوبة بالإصرار . انتهى . وهذه نزعة إعتزالية ، وأهل السنة يقولون : إن الغفران قد يكون من الله تعالى لمن مات مصرّاً على المعصية ولم يتب ، فهو في المشيئة ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ).
ثم قال الزمخشري : ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان الوسواس ، وحديث النفس ، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ، ولكن ما اعتقده وعزم عليه . وعن عبد الله بن عمر ، أنه تلاها فقال : لئن أخذنا الله بهذا لنهلكن ، ثم بكى حتى سمع نشجه ، فذكر لابن عباس فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد ، فنزل : ) لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( انتهى كلامه .
وقال ابن عطية : في أنفسكم ، يقتضي قوّة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحب الفكر فيه ، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلاَّ على تجوز . انتهى .
وقال بعضهم : إن هذه الآية مسنوخة بقوله : ) لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( وينبغي أن يجعل هذا تخصيصاً إذا قلنا : إن الوسوسة والهواجس مندرجة تحت ما في قوله : ) مَا فِي أَنفُسِكُمْ ( والأصح أنها محكمة ، وأنه تعالى يحاسبهم على ما علموا وما لم يعملوا مما ثبت في نفوسهم ونووه وأرادوه ، فيغفر للمؤمنين ، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، وقيل : العذاب الذي يكون جزاء للخواطر هو مصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها وروي هذا المعنى عن عائشة .
ولما كان اللفظ مما يمكن أن يدخل فيه الخواطر ، أشفق الصحابة ، فبين الله ما أراد بها وخصصها ، ونص على حكمه أنه لا يكلف نفساً إلاَّ وسعها ، والخواطر ليس دفعها في الوسع ، وكان في هذا فرجهم وكشف كربهم .
والآية خبر ، والنسخ لا يدخل الأخبار ، وانجزم : يحاسبكم ، على أنه جواب الشرط ، وقيل : عبر عن العلم بالمحاسبة إذ من جملة تفاسير الحسيب : العالم ، فالمعنى : أنه يعلم ما في السرائر والضمائر ، وقيل : الجزاء مشروط بالمشيئة أو بعدم المحاسبة ، ويكون التقدير : يحاسبكم إن شاء أو يحاسبكم إن لم يسمح .
وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، ويزيد ، ويعقوب ، وسهل : فيغفر لمن يشاء ويعذب ، بالرفع فيهما على القطع ، ويجوز على وجهين : أحدهما : أن يجعل الفعل خبر مبتدأ محذوف . والآخر : أن يعطف جملة من فعل وفاعل على تقدّم وقرأ باقي السبعة بالجزم عطفاً على الجواب وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وأبو حيوة بالنصب فيهما على إضمار : أن ، فينسبك منها مع ما بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم من الحساب ، تقديره : يكن محاسبة فمغفرة وتعذيب ، وهذه الأوجه قد جاءت في قول الشاعر : فان يهلك أبو قابوس يهلك
ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش
أجب الظهر ليس له سنام
يروى بجزم : ونأخذ ، ورفعه ونصبه وقرأ الجعفي ، وخلاد ، وطلحة بن مصرف : يغفر لمن يشاء ، ويروى أنها كذلك في مصحف عبد الله . قال ابن جني : هي على البدل من : يحاسبكم ، فهي تفسير للمحاسبة . انتهى . وليس بتفسير ، بل هما مترتبان على المحاسبة ، ومثال الجزم على البدل من الجزاء قوله ) وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ ).

" صفحة رقم 377 "
وقال الزمخشري : ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ، لأن التفصيل أوضح من المفصل ، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل ، أو بدل الاشتمال ، كقولك : ضربت زيداً رأسه . وأحب زيداً عقله ، وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان . انتهى كلامه . وفيه بعض مناقشة .
أولاً : فلقوله : ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ، وليس الغفران والعذاب تفصيلاً لجملة الحساب ، لأن الحساب إنما هو تعداد حسناته وسيئاته وحصرها ، بحيث لا يشذ شيء منها ، والغفران والعذاب مترتبان على المحاسبة ، فليست المحاسبة تفصل الغفران والعذاب .
وأما الثانية : فلقوله بعد ان ذكر بدل البعض والكل : وبدل الاشتمال هذا البدل وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان . أما بدل الاشتمال فهو يمكن ، وقد جاء لأن الفعل بما هو يدل على الجنس يكون تحته أنواع يشتمل عليها ، ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس ، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل ، إذ الفعل لا يقبل التجزيء ، فلا يقال في الفعل : له كل وبعض إلاَّ بمجاز بعيد ، فليس كالاسم في ذلك ، ولذلك يستحيل وجود بدل البعض من الكل بالنسبة لله تعالى ، إذ الباري تعالى واحد فلا ينقسم ولا يتبعض .
قال الزمخشري ، وقد ذكر قراءة الجزم : فإن قلت : كيف يقرأ الجازم ؟ .
قلت : يظهر الراء ويدغم الباء ، ومدغم الراء في اللام لاحن مخطىء خطأً فاحشاً ، وراويه عن أبي عمرو مخطىء مرتين ، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم ، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة ، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو . انتهى كلامه . وذلك على عادته في الطعن على القراء .
وأما ما ذكر أن مدغم الراء في اللام لا حن مخطىء خطأً فاحشاً إلى آخره ، فهذه مسألة اختلف فيها النحويون ، فذهب الخليل ، وسيبويه وأصحابه : إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل التكرير الذي فيها ، ولا في النون قال أبو سعيد . ولا نعلم أحداً خالفه إلاَّ يعقوب الحضرمي ، وإلاَّ ما روي عن أبي عمرو ، وأنه كان يدغم الراء في اللام متحركة متحركاً ما قبلها ، نحو : ) يَغْفِرُ لِمَن ( ) الْعُمُرِ لِكَيْلاَ ( ) وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ( فإن سكن ما قبل الراء أدغمها في اللام في موضع الضم والكسر ، نحو ) الانْهَارُ لَهُمْ ( و ) النَّارِ لِيَجْزِىَ ( فإن انفتحت وكان ما قبلها حرف مد ولين أو غيره لم يدغم نحو ) مِن مّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ ( ) الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ ( ) وَلَنْ تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ ( ) وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ( فإن سكنت الراء أدغمها في اللام بلا خلاف عنه إلاَّ ما روي أحمد بن جبير بلا خلاف عنه ، عن اليزيدي ، عنه : أنه أظهرها ، وذلك إذا قرأ بإظهار المثلين ، والمتقاربين المتحركين لا غير ، على أن المعمول في مذهبه بالوجهين جميعاً على الإدغام نحو ) وَيَغْفِرْ لَكُمْ ( انتهى . وأجاز ذلك الكسائي والفراء وحكياه سماعاً ، ووافقهما على سماعه رواية وإجازة أبو جعفر الرواسي ، وهو إمام من أئمة اللغة والعربية من الكوفيين ، وقد وافقهم أبو عمرو على الإدغام رواية وإجازة ، كما ذكرناه ، وتابعه يعقوب كما ذكرناه ، وذلك من رواية الوليد بن حسان . والإدغام وجه من القياس ، ذكرناه في كتاب ( التكميل لشرح التسهيل ) من تأليفنا ، وقد اعتمد بعض أصحابنا على أن ما روي عن القراء من الإدغام الذي منعه البصريون يكون ذلك إخفاءً لا إدغاماً ، وذلك لا يجوز أن يعتقد في القراء أنهم غلطوا ، وما ضبطوا ، ولا فرقوا بين الإخفاء والإدغام ، وعقد هذا الرجل باباً قال : هذا باب يذكر فيه ما أدغمت القراء مما ذكر أنه لا يجوز إدغامه ، وهذا لا ينبغي ، فإن لسان العرب ليس

" صفحة رقم 378 "
محصوراً فيما نقله البصريون فقط ، والقراءات لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه ، بل القراء من الكوفيين يكادون يكونون مثل قراء البصرة ، وقد اتفق على نقل إدغام الراء في اللام كبير البصريين ورأسهم : أبو عمرو بن العلاء ، ويعقوب الحضرمي . وكبراء أهل الكوفة : الرواسي ، والكسائي ، والفراء ، وأجازوه ورووه عن العرب ، فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم ، إذ من علم حجة على من لم يعلم .
وأما قول الزمخشري : إن راوي ذلك عن أبي عمرو مخطىء مرتين ، فقد تبين أن ذلك صواب ، والذي روي ذلك عنه الرواة ، ومنهم : أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراآت في اللغات .
قال النقاش : يغفر لمن ينزع عنه ، ويعذب من يشاء إن أقام عليه .
وقال الثوري : يغفر لمن يشاء العظيم ، ويعذب من يشاء على الصغير .
وقد تعلق قوم بهذه الآية في جواز تكليف ما لا يطاق ، وقالوا : كلفوا أمر الخواطر ، وذلك مما لا يطاق .
قال ابن عطية : وهذا غير بين ، وإنما كان من الخواطر تأويلاً تأوله أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولم يثبت تكليفاً .
( وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ). لما ذكر المغفرة والتعذيب لمن يشاء ، عقب ذلك بذكر القدرة ، إذ ما ذكر جزء من متعلقات القدرة .
البقرة : ( 285 ) آمن الرسول بما . . . . .
( آمن الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ( سبب نزولها أنه لما نزل : ) وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ ( الآية أشفقوا منها ، ثم تقرر الأمر على أن ) قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ( فرجعوا إلى التضرع والاستكانة ، فمدحهم الله وأثنى عليهم ، وقدّم ذلك بين يدي رفقه بهم ، وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم ، فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر ، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى ، كما جرى لبني اسرائيل ضد ذلك من : ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والجلاء ، إذ ) قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ( وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله ، أعاذنا الله تعالى من نقمه . انتهى هذا ، وهو كلام ابن عطية .
وظهر بسبب النزول مناسبة هذه الآية لما قبلها ، ولما كان مفتتح هذه السورة بذكر الكتاب المنزل ، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بما وصفوا به من الإيمان بالغيب ، وبما أنزل إلى الرسول وإلى من قبله ، كان مختتمها أيضاً موافقاً لمفتتحها .
وقد تتبعت أوائل السور المطولة فوجدتها يناسبها أواخرها ، بحيث لا يكاد ينخرم منها شيء ، وسأبين ذلك إن شاء الله في آخر كل سورة سورة ، وذلك من أبدع الفصاحة ، حيث يتلاقى آخر الكلام المفرط في الطول بأوله ، وهي عادة للعرب في كثير من نظمهم ، يكون أحدهم آخذاً في شيء ، ثم يستطرد منه إلى شيء آخر ، ثم إلى آخر ، هكذا طويلاً ، ثم يعود إلى ما كان آخذاً فيه أولاً . ومن أمعن النظر في ذلك سهل عليه مناسبة ما يظهر ببادىء النظم أنه لا مناسبة له ، فبين تعالى في آخر هذه السورة أن أولئك المؤمنين هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
قال المروزي : ) الرَّسُولُ بِمَا ( قال الحسن ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وابن عباس في رواية : أن هاتين الآيتين لم ينزل بهما جبريل ، وسمعهما ( صلى الله عليه وسلم ) ) ليلة المعراج بلا واسطة ، والبقرة مدنية إلاَّ هاتين الآيتين .
وقال ابن عباس في رواية أخرى ، وابن جبير ، والضحاك ، وعطاء : إن جبريل نزل عليه بهما بالمدينة ، وهي ردّ على من يقول : إن شاء الله في إيمانه ، لأن الله تعالى شهد بإيمان المؤمنين ، فالشك فيه شك في علم الله تعالى . انتهى كلامه .
والألف واللام في : الرسول ، هي للعهد ، وهو رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقد كثر في القرآن تسميته من الله بهذا الاسم الشريف ، وما أنزل إليه من ربه شامل لجميع ما أنزل إليه من الله تعالى : من العقائد ، وأنواع الشرائع ، وأقسام الأحكام في القرآن ، وفي غيره . آمن بأن ذلك وحي من الله وصل إليه ، وقدّم الرسول لأن إيمانه هو المتقدّم وإيمان المؤمنين متأخر عن إيمانه ، إذ هو المتبوع وهم التابعون في ذلك .
وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لما نزلت عليه ، قال : ( يحق له أن يؤمن ) .
والظاهر أن يكون قوله : والمؤمنون ، معطوفاً على قوله : الرسول ، ويؤيده قراءة علي ، وعبد الله : وآمن المؤمنون ، فأظهر الفعل الذي أضمره غيره من القراء ، فعلى هذا يكون : كل ، لشمول الرسول والمؤمنين ، وجوزوا أن يكون الوقف تم عند قوله : من ربه ، ويكون : المؤمنون ، مبتدأ ، و : كل

" صفحة رقم 379 "
مبتدأ ثان لشمول المؤمنين خاصة . و : آمن بالله ، جملة في موضع خبر : كل ، والجلمة ، من : كل وخبره ، في موضع خبر المؤمنين ، والرابط لهذه الجملة بالمبتدأ الأوّل محذوف ، وهو ضمير مجرور تقديره : كل منهم آمن ، كقولههم : السمن منوان بدرهم ، يريدون : منه بدرهم ، والإيمان بالله هو : التصديق به ، وبصفاته ، ورفض الأصنام ، وكل معبود سواه . والإيمان بملائكته هو اعتقاد وجودهم ، وأنهم عباد الله ، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم ، والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمنهم كتاب الله ، وما أخبر به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من ذلك ، والإيمان برسله هو التصديق بأن الله أرسلهم لعباده .
وهذا الترتيب في غاية الفصاحة ، لأن الإيمان بالله هو المرتبة الأولى ، وهي التي يستبد بها العقل إذ وجود الصانع يقربه كل عاقل ، والإيمان بملائكته ههي المرتبة الثانية ، لأنهم كالوسائط بين الله وعباده ، والإيمان بالكتب ههو الوحي الذي يتلقنه الملك من الله ، يوصله إلى البشر ، هي المرتبة الثالثة ، والإيمان بالرسل الذين يقتبسون أنوار الوحي فهم متأخرون في الدرجة عن الكتب ، هي المرتبة الرابعة وقد تقدّم الكلام على شيء من هذا الترتيب في قوله : ) مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ ( وقيل : الكلام في عرفان الحق لذاته ، وعرفان الخير للعمل به واستكمال القوة النظرية بالعلم والقوة العملية ، بفعل الخيرات ، والأولى أشرف ، فبدىء بها ، وهو : الإيمان المذكور ، والثانية هي المشار إليها بقوله ) سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ( وقيل : للإنسان مبدأ وحال ومعاد ، فالإيمان إشارة إلى المبدأ ، و : سمعنا وأطعنا إشارة إلى الحال ، و : غفرانك ، وما بعده إشارة إلى المعاد .
وقرأ حمزة ، والكسائي : وكتابه ، على التوحيد ، وباقي السبعة : وكتبه ، على الجمع . فمن وحد أراد كل مكتوب ، سمي المفعول بالمصدر ، كقولهم : نسج اليمين أي : منسوجه قال أبو علي : معناه أن هذا الإفراد ليس كإفراد المصادر ، وإن أريد بها الكثير ، كقوله ) وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ( ولكنه ، كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة ، نحو : كثر الدينار والدرهم ، ومجيئها بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة ، ومن الإضافة ) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( وفي الحديث : ( منعت العراق درهمها وقفيزها ) . يراد به : الكثير ، كما يراد بما فيه لام التعريف . انتهى ملخصاً . ومعناه أن المفرد المحلى بالألف واللام يعم أكثر من المفرد المضاف .
وقال الزمخشري : وقرأ ابن عباس : وكتابه ، يريد القرآن . أو الجنس ، وعنه : الكتاب أكثر من الكتب . فإن قلت : كيف يكون الواحد أكثر من الجمع ؟ .
قلت : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس ، والجنسية ، قائمة في وحدان الجنس كلها ، لم يخرج منه شيء ، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلاَّ ما فيه الجنسية من الجموع . انتهى كلامه . وليس كما ذكر ، لأن الجمع إذا أضيف أو دخلته الألف واللام الجنسية صار عاماً ، ودلالة العام دلالة على كل فرد فرد ، فلو قال : أعتقت عبيدي ، يشمل ذلك كل عبد عبد ، ودلالة الجمع أظهر في العموم من الواحد ، سواء كانت فيه الألف واللام أم الإضافة ، بل لا يذهب إلى العموم في الواحد إلاَّ بقرينة لفظية ، كأن يستثني منه ، أو يوصف بالجمع ، نحو : ) إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( و : أهلك الناسَ الدينارُ الصفرُ والدرهمُ البيضُ ، أو قرينة معنوية نحو : نية المؤمن أبلغ من علمه ، وأقصى حاله أن يكون مثل الجمع العام إذا أربد به العموم ، وحمل على اللفظ في قوله : آمن ، فأفرد كقوله ) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ).
وقرأ يحيي بن يعمر : وكتبه ورسله ، بإسكان التاء والسين ، وروي ذلك عن نافع وقرأ الحسن : ورسله ، بإسكان السين ، وهي رواية عن أبي عمرو وقرأ عبد الله : وكتابه ولقائه ورسله .
( لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( قرأ الجمهور بالنون ، وقدره : يقولون لا نفرق ، ويجوز أن يكون التقدير : يقول لا نفرق ، لأنه يخبر عن نفسه . وعن غيره ، فيكون : يقول ، على اللفظ ، و : يقولون ، على المعنى بعد الحمل على اللفظ ، وعلى كلا التقديرين فموضع هذا المقدر نصب على الحال ، وجوّز الحوفي وغيره أن يكون خبراً بعد خبر لكل .
وقرأ ابن جبير ، وابن يعمر ، وأبو زرعة بن

" صفحة رقم 380 "
عمرو بن جرير ، ويعقوب ، ونص رواة أبي عمر : ولا يفرق ، بالياء على لفظ : كل .
قال هارون : وهي في مصحف أبيّ ، وابن مسعود : لا يفرقون ، حمل على معنى : كل بعد الحمل على اللفظ ، والمعنى : أنهم ليسوا كاليهود والنصارى يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .
والمقصود من هذا الكلام إثبات النبوّة ، وهو ظهور المعجزة على وفق الدعوى فاختصاص بعض دون بعض متناقض ، لا ما ادعاه بعضهم من أن المقصود هو عدم التفضيل بينهم ، و : أحد ، هنا هي المختصة بالنفي ، وما أشبهه ؟ فهي للعموم ، فلذلك دخلت : من ، عليها كقوله تعالى : ) فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( والمعنى بين آحادهم قال الشاعر : إذا أمور الناس ديكت دوكا
لا يرهبون أحداً رأوكاً
قال بعضهم : وأحد ، قيل : إنه بمعنى جميع ، والتقدير : بين جميع رسله ، ويبعد عندي هذا التقدير ، لأنه لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل . والمقصود بالنفي وهذا ، لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل ، بل البعض ، وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فثبت أن التأويل الذي ذكره باطل ، بل معنى الآية : لا يفرق أحد من رسله وبين غيره في النبوّة . انتهى . وفيه بعض تلخيص . ولا يعني من فسرها : بجميع ، أو قال : هي في معنى الجميع ، إلا أنه يريد بها العموم نحو : ما قام أحد ، أي : ما قام فرد فرد من الرجال ، مثلاً ، ولا فرد فرد من النساء ، لا أنه نفي القيام عن الجميع ، فيثبت لبعض ، ويحتمل عندي أن يكون مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : لا يفرق بين أحد من رسله وبين أحد ، فيكون أحد هنا بمعنى واحد ، لا أنه اللفظ الموضوع للعموم في النفي . ومن حذف المعطوف : سرابيل تقيكم الحر أي والبرد وقول الشاعر : فما كان بين الخير لو جاء سالما
أبو حجر إلا ليال قلائل أي : بين الخير وبيني ، فحذف ، وبيني ، لدلالة المعنى عليه .
( وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ( أي : سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، ولا يراد مجرد السماع ، بل القبول والإجابة . وقدم : سمعنا ، على : وأطعنا ، لأن التكليف طريقه السمع ، والطاعة بعده ، وينبغي للمؤمن أن يكون قائلاً هذا دهره .
( غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ( أي : من التقصير في حقك ، أو لأن عبادتنا ، وإن كانت في نهاية الكمال ، فهي بالنسبة إلى جلالك تقصير .
( وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( إقرار بالمعاد . أي : وإلى جزائك المرجع ، وانتصاب : غفرانك ، على المصدر ، وهو من المصادر التي يعمل فيها الفعل مضمراً ، التقدير عند سيبويه : إغفر لنا غفرانك ، قال السجاوندي : ونسبه ابن عطية للزجاج ، وقال الزمخشري : غفرانك منصوب بإضمار فعله ، يقال : غفرانك لاكفرانك ، أي : نستغفرك ولانكفرك . فعلى التقدير الأول : الجملة طلبية ، وعلى الثاني : خبرية .
واضطرب قول ابن عصفور فيه ، فمرة قال : هو منصوب بفعل يجوز إظهاره ، ومرة قال : هو منصوب يلتزم إضماره . وعدّه مع : سبحان الله ، واخواتها . وأجاز بعضهم انتصابه على المفعول به ، أي : نطلب ، أو : نسأل غفرانك . وجوّز بعضهم الرفع فيه على أن يكون مبتدأ ، أي : غفرانك بغيتنا .
والمصير : اسم مصدر من صار يصير ، وهو مبني على : مفعل ، بكسر العين ، وقد اختلف النحويون في بناء المفعل مما عينه ياء نحو : يبيت ، ويعش ، ويحيض ، ويقيل ، ويصير ، فذهب بعضهم إلى أنه كالصحيح ، نحو : يضرب ، يكون للمصدر بالفتح ، وللمكان والزمان نحو

" صفحة رقم 381 "
) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ( أي : عيشا ، فيكون : المحيض بمعنى الحيض ، والمصير بمعنى الصيرورة ، على هذا شاذاً . وذهب بعضهم إلى التخيير في المصدر بين أن تبنيه على مفعِل بكسر العين ، أو : مفعَل بفتحها ، وأما الزمان والمكان فبالكسر . ذهب إلى ذلك الزجاج ، ورده عليه أبو عليّ ، وذهب بعضهم إلى الاقتصار على السماع ، فحيث بنت العرب المصدر على مفعِل أو مفعَل اتبعناه ، وهذا المذهب أحوط .
البقرة : ( 286 ) لا يكلف الله . . . . .
( لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( ظاهره أنه استئناف ، خبر من الله تعالى أخبر به أنه لا يكلف العباد من أفعال القلوب والجوارح إلاَّ ما هو في وسع المكلف ، ومقتضى إدراكه وبنيته ، وانجلى بهذا أمر الخواطر الذي تأوله المسلمون في قوله : ) إِن تُبْدُواْ ( الآية ، وظهر تأويل من يقول : إنه لا يصح تكليف ما لا يطاق ، وهذه الآية نظير . ) يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( ) وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( ) فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ).
وقال الزمخشري : أي ما يكلفها إلاَّ ما يتسع فيه طوقها ، ويتيسر عليها دون مدى الطاقة والمجهود ، وهذا إخبار عن عدله ورحمته ، لقوله ) يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويحج أكثر من حجة . وقيل : هذا من كلام الرسول والمؤمنين ، أي : وقالوا ) لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( والمعنى : أنهم لما قالوا ) سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ( قالوا : كيف لا نسمع ذلك ، ولا نطيع ؟ وهو تعالى لا يكلفنا إلاَّ ما في وسعنا ؟ والوسع دون المجهود في المشقة ، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان .
وانتصابه على أنه مفعول ثان ليكلف وقال ابن عطية : يكلف ، يتعدّى إلى مفعولين . أحدهما محذوف تقديره : عبادة أو شيئاً . انتهى . فإن عنى أن أصله كذا ، فهو صحيح ، لأن قوله : إلاَّ وسعها ، استثناء مفرغ من المفعول الثاني ، وإن عنى أنه محذوف في الصناعة ، فليس كذلك . بل الثاني هو وسعها ، نحو : ما أعطيت زيداً إلاَّ درهماً ، ونحو : ما ضربت إلاَّ زيداً . هذا في الصناعة هو المفعول ، وإن كان أصله : ما أعطيت زيداً شيئاً إلاَّ درهماً . و : ما ضربت أحداً إلاَّ زيداً .
وقرأ ابن أبي عبلة : ) إِلاَّ وُسْعَهَا ( جعله فعلاً ماضياً . وأولوه على إضمار : ما ، الموصولة ، وعلى هذا يكون الموصول المفعول الثاني ليكلف ، كما أن وسعها في قراءة الجمهور هو المفعول الثاني ، وفيه ضعف من حيث حذف الموصول دون أن يدل عليه موصول آخر يقابله ، كقول حسان : فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
أي : ومن ينصره ، فحذف : من ، لدلالة : من ، المتقدّمة . وينبغي أن لا يقاس حذف الموصول ، لأنه وصلته كالجزء الواحد ، ويجوز أن يكون مفعول : يكلف ، الثاني محذوفاً ، لفهم المعنى ، ويكون : وسعها ، جملة في موضع الحال ، التقدير : لا يكلف الله نفساً شيئاً إلاَّ وسعها ، أي : وقد وسعها ، وهذا التقدير أولى من حذف الموصول .
قال ابن عطية : وهذا يشير إلى قراءة ابن أبي عبلة ، فيه تجوز لأنه مقلوب ، وكان وجه اللفظ : إلاَّ وسعته . كما قال : ) وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ) وَسِعَ كُلَّ شَىْء عِلْماً ( ولكن يجيء هذا من باب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، وفمي في الحجر . انتهى .
وتكلم ابن عطية هنا في تكليف ما لا يطاق ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين ، والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه غير واقع .
( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ). أي : ما كسبت من الحسنات واكتسبت من السيئات ، قاله السدي ، وجماعة المفسرين ، لا خلاف في ذلك . والخواطر ليست من كسب الإنسان ، والصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والإكتساب واحد ، والقرآن ناطق بذلك . قال الله تعالى ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( وقال : ) وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ( وقال : ) بَلِ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَةً ( وقال : ) بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ ).
ومنهم من فرق فقال : الاكتساب أخص من الكسب ، لأن الكسب ينقسم إلى كسب لنفسه ولغيره ، والاكتساب

" صفحة رقم 382 "
لا يكون إلاَّ لنفسه . يقال : كاسب أهله ، ولا يقال : مكتسب أهله قال الشاعر :
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
وقال الزمخشري : ينفعها ما كسبت من خير ، ويضرها ما اكتسبت من شر ، لا يؤاخذ غيرها بذنبها ولا يثاب غيرها بطاعتها .
فإن قلت لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب .
قلت : في الاكتساب إعتمال ، فاما كان الشر مما تشتهيه النفس ، وهي منجذبة إليه ، وأمّارة به ، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه . ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال . انتهى كلامه .
وقال ابن عطية : وكرر فعل الكسب ، فخالف بين التصريف حسناً لنمط الكلام ، كما قال : ) فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ( هذا وجه ، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف ، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهى الله تعالى ، ويتخطاه إليها ، فيحسن في الآية مجيء التصريفين احترازاً لهذا المعنى . انتهى كلامه .
وحصل من كلام الزمخشري ، وابن عطية : أن الشر والسيئات فيها اعتمال ، لكن الزمخشري قال : إن سبب الاعتمال هو اشتهاء النفس وانجذابها إلى ما تريده ، وابن عطية قال : إن سبب ذلك هو أنه متكلف ، خرق حجاب نهي الله تعالى ، فهو لا يأتي المعصية إلاَّ بتكلف ، ونحا السجاوندي قريباً من منحى ابن عطية ، وقال : الافتعال الالتزام ، وشره يلزمه ، والخير يشرك فيه غيره بالهداية والشفاعة .
والافتعال . الإنكماش ، والنفس تنكمش في الشر انتهى . وجاء : في الخير ، باللام لأنه مما يفرح به ويسرّ ، فأضيف إلى ملكه . وجاء : في الشر ، بعلى من حيث هو أوزار وأثقال ، فجعلت قد علته وصار تحتها ، يحملها . وهذا كما تقول لي مال وعلى دين .
( رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ( هذا على إضمار القول ، أي : قولوا في دعائكم : ربنا لا تؤاخذنا ، والدعاء مخّ العبادة ، إذ الداعي يشاهد نفسه في مقام الحاجة والذلة والافتقار ، ويشاهد ربه بعين الاستغناء والإفضال ، فلذلك ختمت هذه الصورة بالدعاء والتضرع ، وافتتحت كل جملة منها بقولهم : ربنا ، إيذاناً منهم بأنهم يرغبون من ربهم الذي هو مربيهم ، ومصلح أحوالهم ، ولأنهم مقرون بأنهم مربوبون داخلون تحت رق العبودية والافتقار ، ولم يأت لفظ : ربنا ، في الجمل الطلبية أخيراً لأنها نتائج ما تقدّم من الجمل التي دعوا فيها : بربنا ، وجاءت مقابلة كل جملة من الثلاث السوابق جملة ، فقابل ) لاَ تُؤَاخِذْنَا ( بقوله ) وَاعْفُ عَنَّا ( وقابل ) وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ). بقوله : ) وَاغْفِرْ لَنَا ( وقابل قوله ) وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ( بقوله : ) وَارْحَمْنَا ( لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو ، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ، ومن آثار عدم تكليف ما لا يطاق الرحمة .
ومعنى : المؤاخذة ، العاقبة . وفاعل هنا بمعنى الفعل المجرد ، نحو : أخذ ، لقوله : ) فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ( وهو أحد المعاني التي جاءت لها فاعل ، وقيل : جاء بلفظ المفاعلة ، وهو فعل واحد ، لأن المسيء قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله ، فصار من يعاقب تذنبه كالمعين لنفسه في إيذائها ، وقيل إنه تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة ، والمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والتكرم ، إذ لا يجد من يخلصه من عذاب الله إلاَّ هو تعالى ، فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به ، فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة والنسيان الذي هو : عدم الذكر ، والخطأ موضوعان عن المكلف لا يؤاخذ بهما ، فقال عطاء : نسينا : جهلنا ، وأخطأنا :

" صفحة رقم 383 "
تعمدنا ، وقال قطرب ، والطبري : نسينا تركنا ، وأخطأنا . قال الطبري : قصدنا . وقال قطرب : أخطأنا في التأويل . قال الأصمعي : يقال أخطأ : سها وخطىء تعمد قال الشاعر : والناس يلحون الأمير إذا هم
خطئوا الصواب ولا يلام المرشد
ومن المفسرين من حمل النسيان هنا والأخطاء على ظاهرهما ، وهما اللذان لا يؤاخذ المكلف بهما ، وتجوّز عنهما إن صدرامنه ، وإياه أجاز الزمخشري في آخر كلامه في هذه الآية ، واختاره ابن عطية قال الزمخشري : ذكر النيسان والخطأ والمراد بهما ما هما منسيان عنه من التفريط والإغفال ألا ترى إلى قوله ) وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ ( ؟ والشيطان لا يقدر على فعل النسيان ، وإنما يوسوس ، فتكون وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان ، ولأنهم كانوا متقين لله حق تقاته ، فما كانت تفرط منهم فرطة إلاَّ على وجه النسيان والخطأ ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به ، كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به فما منهم سبب مؤاخذة إلاَّ الخطأ والنسيان ، ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله ، لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه . انتهى كلامه .
قال ابن عطية ذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ عن المقصود ، وهذا هو الصحيح .
قال قتادة في تفسير الآية : بلغني أن النبي عليه السلام قال : ( إن الله تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطئها ) وقال السدي : لما نزلت هذه الآية تغالوا قال جبريل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : قد فعل الله ذلك يا محمد .
فظاهر قوليهما ، يعني قتادة والسدي ما صححته . وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى : ) يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ( أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه ، وذلك في النسيان والخطأ . انتهى كلامه .
وقيل : النسيان فيه ومنه ما لا يعذر فالأول ، كنسيان النجاسة في الثوب بعد العلم بها ، فمثل هذا هو المطلوب عدم المؤاخذة به ، وهو ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب الذكر ، وقيل : هذا دعاء على سبيل التقدير ، فكأنهم قالوا : إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذ به ، وقيل : المؤاخذة به غير ممتنعة عقلاً ، وذلك أن الإنسان إذا علم أنه مؤاخذ به استدام التذكر ، فحينئذ لا يصدر عنه إلاَّ استدامة التذكر ، وذلك فعل شاق على النفس ، فحسن الدعاء بترك المؤاخذة به .
وقد استدل بهذه الآية على جواز تكليف ما لا يطاق ، وقيل : في الآية دليل على حصول العفو لأصحاب الكبائر ، لأن حمل النسيان والخطأ على ما لا يؤاخذ به قبيح طلبه والدعاء به ، فتعين أن يحمل على ما كان فيه العمد إلى المعصية ، فيكون النسيان ترك الفعل ، والخطأ الفعل . وقد أمر تعالى المؤمنين بطلب عدم المؤاخذة بهما ، فهو أمر منه لهم أن يطلبوا منه أن لا يعذبهم على المعاصي ، وهذا دليل على إعطائه إياهم هذا المطلوب .
( رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ( قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وابن جريج ، والربيع ، وابن زيد : الإصر : العهد والميثاق الغليظ وقال ابن زيد أيضاً : الإصر : الذنب الذي لا كفارة فيه ولا توبة

" صفحة رقم 384 "
منه وقال مالك : الإصر : الأمر الغليظ الصعب وقال عطاء : الإصر : المسخ قردة وخنازير ، وقيل : الإثم . حكاه ثعلب . وقيل : فرض يصعب أداؤه ، وقيل : تعجيل العقوبة . روي ذلك عن قتادة . وقال الزجاج : محنة تفتننا كالقتل والجرح في بني اسرائيل ، والجعل لمن يكفر سقفاً من فضة . وقال الزمخشري : العبء الذي يأصر صاحبه ، أي يحبسه مكانه لا يستقل به ، استعير للتكليف الشاق من نحو : قتل النفس ، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب ، وغير ذلك . انتهى .
قال القفال : من نظر في السفر الخامس منالتوراة التي يدعيها هؤلاء اليهود ، وقف على ما أخذ عليهم من غليظ العهود والمواثيق ، ورأى الأعاجيب الكثيرة .
وقرأ أبيّ : ولا تحمل ، بالتشديد ، و : آصاراً ، بالجمع . وروي عن عاصم أنه قرأ : أصراً ، بضم الهمزة . و : الذين من قبلنا ، المراد به اليهود . وقال الضحاك : والنصارى .
( رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ( قال قتادة : لا تشدّد علينا كما شدّدت على من كان قبلنا وقال الضحاك : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق . وقال نحوه ابن زيد . وقال ابن جريج : لا تمسخنا قردة وخنازير ، وقال مكحول ، وسلام بن سابور : الذي لا طاقة لنا به الغلمة ، وحكاه النقاش عن مجاهد ، وعطاء ، ومكحول . وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه . وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدّة . وقال النخعي : الحب . وقال محمد بن عبد الوهاب : العشق ، وقيل : القطيعة . وقيل : شماتة الأعداء . روى وهب أن أيوب ، على نبينا وعليه السلام ، قيل له : ما كان أشق عليك في بلائك : قال شماتة الأعداء قال الشاعر : أشمت بي الأعداء حين هجرتني
والموت دون شماتة الأعداء
وقال السدّي : التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل من التحريم . وقيل : عذاب النار . وقيل : وساوس النفس .
وينبغي أن تحمل هذه التفاسير على أنها على سبيل التمثيل ، لا على سبيل تخصيص العموم .
و : ما ، في ، قوله ) مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ( عامّ ، وهذا أعمّ من الذي قبله في الآية ، لأنه قال في تلك : ) رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ( فشبه الإصر بالإصر الذي حمله على من قبلهم ، وهنا سألوا أن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به ، وهو أعم من الإصر السابق لتخصيصه بالتشبيه . وعموم هذا ، والتشديد في : ولا تحملنا ، للتعدية . وفي قراءة أبيّ في قوله : ) وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ( للتكثير في حمل : كجرحت زيداً وجرّحته ، وقيل : ما لا طاقة لنا به من العقوبات النازلة بمن قبلنا ، طلبوا أوّلاً أن يعفيهم من التكاليف الشاقة بقوله : ) وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ( ثم ثانياً طلبوا أن يعفيهم عما نزل على أولئك من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها . انتهى .
والطاقة القدرة على الشيء ، وهي مصدر جاء على غير قياس المصادر ، والقياس طاقة ، فهو نحو : جابة ، من أجاب ، و : غارة ، من أغار . في ألفاظ سمعت لا يقاس عليها . فلا يقال : أطال طالة ، وهذا يحتمل وجهين .
أحدهما : أن يعني بما لا طاقة ، ما لا قدرة لهم عليه ألبتة ، وليس في وسعهم ، وهو المعنى الذي وقع فيه الخلاف .
والثاني : أن يعني بالطاقة ما فيه المشقة الفادحة ، وإن كان مستطاعاً حملها .
فبالمعنى الأول يرجع إلى

" صفحة رقم 385 "
العقوبات . وما أشبهها . وبالمعنى الثاني يرجع إلى التكاليف قال ابن الأنباري : المعنى لا تحملنا حملاً يثقل علينا أداؤه ، وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه . خاطب العرب على حسب ما يعقل فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليه ، وهو مطيق للنظر إليه لكنه يثقل عليه ، ومثله ) مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ).
) وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ( تقدّم تفسير العفو والغفران والرحمة ، طلبوا العفو وهو الصفح عن الذنب : وإسقاط العقاب ، ثم ستره عليهم صوناً لهم من عذاب التخجيل ، لأن العفو عن الشيء لا يقتضي ستره فيقال : عفا عنه إذا وقفه على الذنب ثم أسقط عنه عقوبة ذلك الذنب ، فسألوا الإسقاط للعقوبة أولاً لأنه الأهم ، إذ فيه التعذيب الجسماني والنعيم الروحاني بتجلى البارىء تعالى لهم وقال الراغب : العفو إزالة الذنب بترك عقوبته ، والغفران ستر الذنب وإظهار الإحسان بدله ، فكأنه جمع بين تغطية ذنبه ، وكشف الإحسان الذي غطى به . والرحمة إفاضة الإحسان إليه ، فالثاني أبلغ من الأول ، والثالث أبلغ من الثاني . انتهى . وقيل : واعف عنا من المسخ ، واغفر لنا عن الخسف من القذف ، وقيل : اعف عنا من الأفعال ، واغفر لنا من الأقوال ، وارحمنا بثقل الميزان . وقيل : واعف عنا في سكرات الموت ، واغفر لنا في ظلمة القبر ، وارحمنا في أهوال يوم القيامة . وكل هذه الأقوال تخصيصات لا دليل عليها .
( أَنتَ مَوْلَانَا ( المولى مفعل من ولي يلي ، يكون للمصدر والزمان والمكان . أما إذا أريد به مالك التدبير والتصريف في وجوه الضر والنفع ، أو السيد ، أو الناصر ، أو ابن العم أو غير ذلك من محامله ، فأصله المصدر ، سمي به وغلبت عليه الإسمية ، ووليته العوامل .
( فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( أدخل الفاء إيذاناً بالسببية . لأن كونه تعالى مولاهم ، ومالك تدبيرهم ، وأمرهم ، ينشأ عن ذلك النصرة لهم على أعدائهم ، كما تقول : أنت الشجاع فقاتل ، وأنت الكريم فجد عليّ . أي : أظهرنا عليهم بما تحدث في قلوبنا من الجرأة والقوّة ، وفي قلوبهم من الخور والجبن .
وتضمنت هذه الآية من أنواع الفصاحة وضروب البلاغة أشياء ، منها : الطباق في ) وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ( والطباق المعنوي في : ) لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( لأن : لها ، إشارة إلى ما يحصل به نفع ، و : عليها ، إشارة إلى ما يحصل به ضرر . والتكرار في قوله : ) وَمَا فِى الاْرْضِ ( كرر : ما ، تنبيهاً وتوكيداً . وفي قوله : ) بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( وفي قوله : ما كسبت وما اكتسبت . إذا قلنا إنهما بمعنى واحد ، إذ كان يعني : لها ما كسبت . والتجنيس المغاير في : ) مِن وَالْمُؤْمِنُونَ ). والحذف في عدّة مواضع . والله أعلم .

" صفحة رقم 386 "
3
( سُورَةٌ ءالَ عِمْرَانَ )
( 1 )
( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )
2 ( ) الم اللَّهُ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الاٌّ رْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الاٌّ رْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِىأَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَائِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( )
آل عمران : ( 1 - 2 ) الم
التوراة : اسم عبراني ، وقد تكلف النحاة في اشتقاقها وفي وزنها وذلك بعد تقرير النحاة أن الأسماء الأعجمية لا يدخلها اشتقاق ، وأنها لا توزن ، يعنون اشتقاقاً عربياً . فأمّا اشتقاق : التوراة ، ففيه قولان : أحدهما : إنها من : ورى الزند يري ، إذا قدح وظهر منه النار ، فكأن التوراة ضياء من الظلال ، وهذا الاشتقاق قول الجمهور . وذهب أبو فيد مؤرج السدوسي إلى أنها مشتقة من : ورَّى ، كما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان إذا أراد سفراً ورى بغيره ، لأن أكثر التوراة تلويح

" صفحة رقم 387 "
وأما وزنها فذهب الخليل ، وسيبويه ، وسائر البصريين إلى أن وزنها : فوعلة ، والتاء بدل من الواو ، كما أبدلت في : تولج ، فالأصل فيها ووزنه : وولج ، لأنهما من ورى ، ومن ولج . فهي : كحوقلة ، وذهب الفراء إلى أن وزنها : تفعلة ، كتوصية . ثم أبدلت كسرة العين فتحة والياء ألفا . كما قالوا في : ناصية ، وجارية : ناصاه وجاراه .
وقال الزجاج : كأنه يجيز في توصية توصاه ، وهذا غير مسموع وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها : تفعلة ، بفتح العين من : وريت بك زنادي ، وتجوز إمالة التوراة .
وقد قرىء بذلك على ما سيأتي ان شاء الله تعالى .
الإنجيل : اسم عبراني أيضاً ، وينبغي أن لا يدخله اشتقاق ، وأنه لا يوزن ، وقد قالوا : وزنه فعيل . كإجفيل ، وهو مشتق من النجل ، وهو الماء الذي ينز من الأرض . قال الخليل : استنجلت الأرض نجالاً ، وبها نجال ، إذا خرج منها الماء . والنجل أيضاً : الولد والنسل ، قاله الخليل ، وغيره . ونجله أبوه أي : ولده . وحكى أبو القاسم الزجاجي في نوادره : أن الولد يقال له : نجل ، وأن اللفظة من الأضداد ، والنجل أيضاً : الرمي بالشيء .
وقال الزجاج : الإنجيل مأخوذ من النجل ، وهو الأصل ، فهذا ينحو إلى ما حكاه الزجاجي .
قال أبو الفتح : فهو من نجل إذا ظهر والده ، أو من ظهور الماء من الأرض ، فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ ، وإما من التوراة . وقيل : هو مشتق من التناجل ، وهو التنازع ، سمي بذلك لتنازع الناس فيه .
وقال الزمخشري : التوراة والإنجيل اسمان أعجميان ، وتكلف أشتقاقهما من الوري والنجل ، ووزنهما متفعلة وإفعيل : إنما يصحح بعد كونهما عربيين . إنتهى . وكلامه صحيح ، إلاَّ أن في كلامه إستدراكاً في قوله : متفعلة ، ولم يذكر مذهب البصريين في أن وزنها : فوعلة ، ولم ينبه في : تفعلة ، على أنها مكسورة العين ، أو مفتوحتها .
وقيل : هو مشتق من نجل العين ، كأنه وسع فيه ما ضيق في التوراة .
الإنتقام : افتعال من النقمة ، وهو السطوة والأنتصار . وقيل : هي المعاقبة على الذنب مبالغة في ذلك ، ويقال : نقم ونقم إذا أنكر ، وانتقم عاقب .
صور : جعل له صورة . قيل : وهو بناء للمبالغة من صار يصور ، إذا أمال ، وثنى إلى حال ، ولما كان التصوير إمالة إبلى حال وإثباتاً فيها ، جاء بناؤه على المبالغة . والصورة : الهيئة يكون عليها الشيء بالتأليف . وقال المروزي : التصوير إنه ابتداء مثال من غير أن يسبقه مثله .
الزيغ : الميل ، ومنه : زاغت الشمس ) لاِوْلِى الاْبْصَارِ ). وقال الراغب : الزيغ : الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وزاغ وزال وما يتقارب ، لكن زاغ لا يقال إلاَّ فيما كان من حق إلى باطل .
التأويل : مصدر أوَّل ، ومعناه : آخر الشيء ومآله ، قاله الراغب . وقال غيره : التأويل المرد والمرجع . قال : أؤول الحكم على وجهه
ليس قضاى بالهوى الجائر
الرسوخ : الثبوت . قال : لقد رسخت في القلب منيّ مودة
لليلى أبت أيامها أن تغيّرا
الهبة : العطية المتبرع بها ، يقال : وهب يهب هبة ، وأصله : أن يأتي المضارع على يفعِل ، بكسر يالعين . ولذلك حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، لكن لما كانت العين حرف حلق فتحت مع مراعاة الكسرة المقدرة ، وهو نحو : وضع يضع ، إلاَّ أن

" صفحة رقم 388 "
هذا فتح لكون لامه حرف حلق ، والأصل فيهما : يوهب ويوضع . ويكون : وهب ، بمعنى جعل ، ويتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، تقول العرب : وهبني الله فداك ، أي : جعلني الله فداك . وهي في هذا الوجه لا تتصرف ، فلا تستعمل منها بهذا المعنى إلاَّ الفعل الماضي خاصة .
لدن : ظرف ، وقل أن تفارقها : من ، قاله ابن جني ، ومعناها : ابتداء الغاية في زمان أو مكان ، أو غيره من الذوات غير المكانية ، وهي مبنية عند أكثر العرب ، وإعرابها لغة قيسية ، وذلك إذا كانت مفتوحة اللام مضمومة الدال بعدها النون ، فمن بناها قيل : فلشبها بالحروف في لزوم استعمال واحد ، وامتناع الإخبار بها ، بخلاف : عند ، ولدي . فإنهما يكونان لابتداء الغاية ، وغير ذلك ، ويستعملان فضلة وعمدة ، فالفضلة كثير ، ومن العمدة ) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ( ) وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ ( وأوضح بعضهم علة البناء فقال : علة البناء كونها تدل على الملاصقة للشيء وتختص بها . بخلاف : عند ، فإنها لا تختص بالملاصقة ، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف ، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف ، فهي كأنها متضمنة للحرف الذي كان ينبغي أن يوضع دليلاً على القرب . ومثله : ثم ، و : هنا . لأنهما بُنيا لما تضمنا معنى الحرف الذي كان ينبغي أن يوضع ليدل على الإشارة .
من أعربها ، وهم قيس ، فتشبيهاً : بعند ، لكون موضعها صالحاً لعند ، وفيها تسع لغات غير الأولى : لَدُن ، ولُدْنُ ، ولَدْنٌ ، ولَدِنٌ ، ولَدُنِ ، ولَدٌ ولُدْ ، ولَدٌ ولَتْ . بإبدال الدال تاء ، وتضاف إلى المفرد لفظاً كثيراً ، وإلى الجملة قليلاً . فمن إضافتها إلى الجملة الفعلية قول الشاعر : صريع غوانٍ راقهن ورُقنَه
لدن شب حتى شاب سود الذوائبِ
قوال الآخر : لزمنا لدن سالتمونا وفاقكم
فلا يك منكم للخلاف جنوحُ
ومن إضافتها إلى الجملة الإسمية قول الشاعر : تذكر نعماه لدن أنت يافع
إلى أنت ذو فودين أبيض كالنسر وجاء إضافتها إلى : أن والفعل ، قال :
وليت فلم يقطع لدن أن وليتناقرابة ذي قربى ولا حق مسلم وأحكام لدن كثيرة ذكرت في علم النحو .
الإغناء : الدفع والنفع ، وفلان عظيم الغنى ، أي : الدفع والنفع .
الدأب : العادة . دأب على كذا : واظب عليه وأدمن . قال زهير : لأرتحلنْ بالفجر ثم لأدأبن
إلى الليل إلاَّ أن يعرجني طفل

" صفحة رقم 389 "
الذنب : التلو ، لأن العقاب يتلوه ، ومنه الذنب والذنوب لأنه يتبع الجاذب .
( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ( هذه السورة ، سورة آل عمران ، وتسمى : الزهراء ، والأمان ، والكنز ، والمعينة ، والمجادلة ، وسورة الاستغفارد وطيبة . وهي : مدنية الآيات ، وسبب نزولها فيما ذكره الجمهور : أنه وفد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وفد نصاري نجران ، وكانوا ستين راكباً ، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ، منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم ، أميرهم : العاقب عبد المسيح ، وصاحب رحلهم : السيد الأيهم ، وعالمهم : أبو حارثة بن علقمة ، أحد بني بكر بن وائد . وذكر من جلالتهم ، وحسن شارتهم وهيئتهم . وأقاموا بالمدينة أياماً يناظرون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في عيسى ، ويزعمون تارة أنه الله ، وتارة ولد الإله ، وتارة : ثالث ثلاثة . ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يذكر لهم أشياء من صفات الباري تعالى ، وانتفاءها عن عيسى ، وهم يوافقونه على ذلك ، ثم أبوا إلاَّ جحوداً ، ثم قالوا : يا محمد ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال : ( بلى ) . قالوا : فحسبنا . فأنزل الله فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية منها ، إلى أن دعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إبلى الإبتهال .
وقال مقاتل : نزلت في اليهود المبغضين لعيسى ، القاذفين لأمّه ، المنكرين لما أنزل الله عليه من الإنجيل .
ومناسبة هذه السورة لما قبلها واضحة لأنه ، لما ذكر آخر البقرة ) أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( ناسب أن يذكر نصرة الله تعالى على الكافرين ، حيث ناظرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وردّ عليهم بالبراهين الساطعة ، والحجج القاطعة ، فقص تعالى أحوالهم ، وردّ عليهم في اعتقادهم ، وذكر تنزيهه تعالى عما يقولون ، وبداءة خلق مريم وابنها المسيح إلى آخر ما ردّ عليهم ، ولما كان متفتح آية آخر البقرة ) الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ( فكأن في ذلك الإيمان بالله وبالكتب ، ناسب ذكر أوصاف الله تعالى ، وذكر ما أنزل على رسوله ، وذكر المنزل على غيره صلى الله عليهم .
قرأ السبعة : ألم الله ، بفتح الميم ، وألف الوصل ساقطة . وروى أبو بكر في بعض طرقه ، عن عاصم : سكون الميم ، وقطع الألف . وذكرها الفراء عن عاصم ، ورويت هذه القراءة عن الحسن ، وعمرو بن عبيد ، والرؤاسي ، والأعمش ، والبرجمي ، وابن القعقاع : وقفوا على الميم ، كما وقفوا على الألف واللام ، وحقها ذلك ، وأن يبدأ بعدها كما تقول : واحد اثنان .
وقرأ أبو حيوة بكسر الميم ، ونسبها ابن عطية إلى الرؤاسي ، ونسبها الزمخشري إلى عمرو بن عبيد ، وقال : توهم التحريك لالتقاء الساكنين ، وما هي بمقبولة ، يعني : هذه القراءة . إنتهى .
وقال غيره : ذلك رديء ، لأن الياء تمنع من ذلك ، والصواب الفتح قراءة جمهور الناس . إنتهى .
وقال الأخفش : يجوز : ألم الله ، بكسر الميم لالتقاء الساكنين . قال الزجاج : هذا خطأ ، ولا تقوله العرب لثقله .
واختلفوا في فتحة الميم : فذهب سيبويه إلى أنها حركت لالتقاء الساكنين ، كما حركوا : من الله ، وهمزة الوصل ساقطة للدرج كما سقطت في نحو : من الرجل ، وكان الفتح أولى من الكسر لأجل الياء ، كما قالوا : أين ؟ كيف ؟ ولزيادة الكسرة قبل الياء ، فزال الثقل . وذهب الفراء إلى أنها حركة نقل من همزة الوصل ، لأن حروف الهجاء ينوي بها الوقف ، فينوي بما بعدها الاستئناف . فكأن الهمزة في حكم الثبات كما في أنصاف الأبيات نحو : لتسمعن وشياً في دياركم
الله أكبر : يا ثارات عثماناً

" صفحة رقم 390 "
وضعف هذا المذهب بإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل . وما يسقط لا تلقى حركته ، قاله أبو علي . وقد اختار مذهب الفراء في أن الفتحة في الميم هي حركة الهمزة حين أسقطت للتخفيف الزمخشري ، وأورد أسئلة وأجاب عنها .
فقال : فإن قلت : كيف جامز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام ، فلا تثبت حركتها لأن ثبات حركتها كثباتها ؟
قلت : ليس هذا بدرج ، لأن ميم في حكم الوقف والسكون ، والهمزة في حكم الثابت . وإنما حذفت تخفيفاً ، وألقيت حركتها على الساكن قبلها لتدل عليها ، ونظيره قولهم : واحد إثنان ، بالقاء حركة الهمزة على الدال . إنتهى هذا السؤال وجوابه . وليس جوابه بشيء ، لأنه ادّعى أن الميم حين حركت موقوفة عليها . وأن ذلك ليس بدرج ، بل هو وقف ، وهذا خلاف لما أجمعت العرب والنحاة عليه من أنه لا يوقف على متحرك ألبتة ، سواء كانت حركته إعرابية ، أو بنائية ، أو نقلية ، أو لإلتقاء الساكنين ، أو للحكاية ، أو للاتباع . فلا يجوز في : قد أفلح ، إذا حذفت الهمزة ، ونقلت حركتها إلى دال : قد ، أن تقف على دال : قد ، بالفتحة ، بل تسكنها قولاً واحداً .
وأما قوله : ونظير ذلك قولهم : واحد اثنان بالقاء حركة الهمزة على الدال ، فإن سيبوية ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه ، ولم يحك الكسر لغة . فإن صح الكسر فليس واحد موقوفاً عليه ، كما زعم الزمخشري ، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ، ولكنه موصول بقولهم : إثنان ، فالتقى ساكنان ، دال ، واحد ، و : ثاء ، إثنين ، فكسرت الدال لإلتقائهما ، وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل . وأما ما استدل به الفراء من قولهم : ثلاثة أربعة ، بإلقائهم الهمزة على بالهاء ، فلا دلالة فيه ، لأن همزة أربعة همزة قطع في حال الوصل بما قبلها وابتدائها ، وليس كذلك همزة الوصل نحو : من الله ، وأيضاً ، فقولهم : ثلاثة أربعة بالنقل ليس فيه وقف على ثلاثة ، إذ لو وقف عليها لم تكن تقبل الحركة ، ولكن أقرت في الوصل هاء اعتباراً بما آلت إليه في حال مّا ، لا أنها موقوف عليها .
ثم أورد الزمخشري سؤالاً ثانياً . فقال :
فإن قلت : هلا زعمت أنها حركت لإلتقاء الساكنين ؟ .
قلت : لأن إلتقاء الساكنين لا نبالي به في باب الوقف ، وذلك كقولك : هذا إبراهيم ، وداود ، وإسحاق . ولو كان لإلتقاء الساكنين في حال الوقف موجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم لإلتقاء الساكنين ، ولما انتظر ساكن آخر . إنتهى هذا السؤال وجوابه . وهو سؤال صحيح ، وجواب صحيح ، لكن الذي قال : إن الحركة هي لإلتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من ألف لام ميم في الوقف ، وإنما عنى إلتقاء الساكنين اللذين هما : ميم ميم الأخيرة . و : لام التعريف ، كالتقاء نون : من ، ولام : الرجل ، إذا قلت : من الرجل .
ثم أورد الزمشخري سؤالاً ثالثاً ، فقال :
فإن قلت : إنما لم يحركوا لإلتقاء الساكنين في ميم ، لأنهم أرادوا الوقف ، وأمكنهم النطق بساكنين ، فإذا جاء بساكن ثالث لم يمكن إلاَّ التحريك فحركوا ؟
قلت : الدليل على أن الحركة ليست الملاقاة الساكن أنهم كان يمكنهم أن يقولوا : واحد اثنان ، بسكون الدال مع طرح الهمزة ، فجمعوا بين ساكنين ، كما قالوا : أصيم ومديق ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ،

" صفحة رقم 391 "
وليست لالتقائ الساكنين . إنتهى هذا السؤال وجوابه . وفي سؤاله تعمية في قوله : فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين ؟ ويعني بالساكنين : الياء والميم في ميم ، وحيئذ يجيء التعليل بقوله : لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين ، يعني الياء والميم ، ثم قال : فإن جاء بساكن ثالث ، يعني لام التعريف ، لم يمكن إلاَّ التحريك ، يعني في الميم ، فحركوا يعني : الميم لالتقائها ساكنة مع لام التعريف ، إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن ، وهو لا يمكن . هذا شرح السؤال .
وأما جواب الزمخشري عن سؤاله ، فلا يطابق ، لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بامكانية الجمع بين ساكنين في قولهم : واحد اثنان ، بأن يسكنوا الدال ، والثاء ساكنة ، وتسقط الهمزة . فعدلوا عن هذا الإمكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال ، وهذه مكابرة في المحسوس ، لا يمكن ذلك أصلاً ، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء ، وطرح الهمزة .
وأما قوله : فجمعوا بين ساكنين ، فلا يمكن الجمع كما قلناه ، وأما قوله : كما قالوا : أصيم ومديق ، فهذا ممكن كما هو في : راد وضال ، لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدّهما المشروط في النحو ، فأمكن النطق به ، وليس مثل : واحد اثنان . لأن الساكن الأول ليس حرف علة ، ولا الثاء في مدغم ، فلا يمكن الجمع بينهما .
وأما قوله : فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وليست لالتقاء الساكنين ، لما بني على أن الجمع بين الساكنين في واحد اثنان ممكن ، وحركة ا التقاء الساكنين إنما هي لا يمكن أن يجتمعا فيه في اللفظ ، ادّعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة لالتقاء الساكنين ، وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك ، فإن صح كسر الدال ، كما نقل هذا الرجل ، فتكون حركتها لالتقاء الساكنين لا لنقل ، وقد ردّ قول الفراء ، واختيار الزمخشري إياه بأن قيل : لا يجوز أن تكون حركة الميم حركة الهمزة ألقيت عليها ، لما في ذلك من الفساد والتدافع ، وذلك أن سكون آخر ميم إنما هو على نية الوقف عليها ، والقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل ، ونية الوصل توجب حذف الهمزة ، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها ، وهذا متناقض . إنتهى . وهو ردّ صحيح .
والذي تحرر في هذه الكلمات : أن العرب متى سردت أسماء مسكنة الآخر وصلاً ووقفاً ، فلوا التقى آخر مسكن منها ، بساكن آخر ، حرك لالتقاء الساكنين . فهذه الحركة التي في ميم : ألم الله ، هي حركة التقاء الساكنين .
والكلام على تفسير : ) الم ( ، تقدم في أول البقرة ، واختلاف الناس في ذلك الاختلاف المنتشر الذي لا يوقف منه على شيء يعتمد عليه في تفسيره وتفسير أمثاله من الحروف المقطعة .
والكلام على : ) اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ( تقدم في آية ) وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ اللَّهِ ( وفي أول آية الكرسي ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
وذكر ابن عطية عن القاضي الجرجاني أنه ذهب في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون ) الم ( إشارة إلى حروف المعجم ، كأنه يقول : هذه الحروف كتابك ، أو نحو هذا .
( اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( على ما ترك ذكره ، مما هو خبر عن الحروف ، قال : وذلك في نظمه مثل قوله : ) أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ ( ترك الجواب لدلالة قوله ) فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللَّهِ ( عليه ، تقديره : كمن قسا قبله ومنه قول الشاعر : فلا تدفنوني ، إن دفني محرم
عليكم ، ولكن خامري أم عامر
أي : ولكن اتركوني للتي يقال لها : خامري أم عامر .
قال ابن عطية : يحسن في هذا القول أن يكون نزل خبر قوله : الله ، حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى الذي ذكره الجرجاني ،

" صفحة رقم 392 "
وفيه نظر ، لأن مثليته ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه ، وما قاله في الآية محتمل ، ولكن الآبرع في نظم الآية أن يكون ) الم ( لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى ، وأن يكون ) اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ( كلاماً مبتدأ جزماً ، جملة رادّة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فحاجوه في عيسى بن مريم ، وقالوا : إنه الله . إنتهى كلامه .
قال ابن كيسان : موضع : ألم ، نصب ، والتقدير : قرؤوا ألم ، و : عليكم ألم . ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى : هذا ألم ، و : ذلك ألم .
وتقدم من قول الجرجاني أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : هذه الحروف كتابك .
وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود ، وعلقمة بن قيس : القيام . وقال خارجه في مصحف عبد الله : القيم ، وروي هذا أيضاً عن علقمة .
( اللَّهِ ( رفع على الإبتداء ، وخبره : ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( و ) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( خبر بعد خبر ، ويحتمل أن يكون : نزل ، هو الخبر ، و : لا إله إلا هو ، جملة اعترض .
وتقدم في آية الكرسي استقصاء إعراب : ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ( فأغنى عن إعادته هنا .
وقال الرازي : مطلع هذه السورة عجيب ، لأنهم لما نازعوا كأنه قيل : إما أن تنازعوا في معرفة الله ، أو في النبوة ، فإن كان الأول فهو باطل ، لأن الأدلة العقلية دلت على أنه : حي قيوم ، والحي القيوم يستحيل أن يكون له ولد ، وإن كان في الثاني فهو باطل ، لأن الطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل ، هو يعينه قائم هنا ، وذلك هو المعجزة .
آل عمران : ( 3 ) نزل عليك الكتاب . . . . .
( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ ( الكتاب هنا : القرآن ، باتفاق المفسرين ، وتكرر كثيراً ، والمراد القرآن ، فصار علماً . بالغلبة . وقرأ الجمهور : نزّل ، مشدداً و : الكتاب ، بالنصب ، وقرأ النخعي ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : نزل ، مخففاً ، و : الكتابْ ، بالرفع ، وفي هذه القراءة تحتمل الآية وجهين : أحدهما : أن تكون منقطعة . والثاني : أن تكون متصلة بما قبلها ، أي : نزل الكتاب عليك من عنده ، وأتى هنا بذكر المنزل عليه ، وهو قوله : عليك ، ولم يأت بذكر المنزل عليه التوراة ، ولا المنزل عليه الإنجيل ، تخصيصاً له وتشريفاً بالذكر ، وجاء بذكر الخطاب لما في الخطاب من المؤانسة ، وأتى بلفظة : على ، لما فيها من الاستعلاء . كأن الكتاب تجلله وتغشاه / ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
ومعنى : بالحق : بالعدل ، قاله ابن عباس ، وفيه وجهان : أحدهما : العدل فيما استحقه عليك من حمل أثقال النبوة . الثاني : بالعدل فيما اختصك به من شرف النبوة .
وقيل : بالصدق فيما اختلف فيه ، قاله محمد بن جرير وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الأخبار عن القرون الخالية وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الوعد بالثواب على الطاعة ، ومن الوعيد بالعقاب على المعصية .
وقيل : معنى بالحق : بالحجج والبراهين القاطعة .
والباء : تحتمل السببية أي : بسبب إثبات الحق ، وتحتمل الحال ، أي : محقاً نحو : خرج زيد بسلاحه ، أي متسلحاً .
( مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ( أي : من كتب الأنبياء ، وتصديقه إياها أنها أخبرت بمجيئه ، ووقوع المخبر به يجعل المخبر صادقاً ، وهو يدل على صحة القرآن ، لأنه لو كان من عند غير الله لم يوافقها ، قاله أبو مسلم وقيل : المراد منه أنه لم يبعث نبياً قط ، إلاَّ بالدعاء إلى توحيده ، والإيمان ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان ، والشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان . فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك ، والقرآن ، وإن كان ناسخاً لشرائع أكثر الكتب ، فهي مبشرة بالقرآن وبالرسول ، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثة الله تعالى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن . فقد وافقت القرآن ، وكان مصدقاً لها ، ن الدلائل الدالة على ثبوت الإلهية لا تختلف .
وانتصاب : مصدقاً ، على الحال من الكتاب ، وهي حال مؤكدة ، وهي لازمة ، لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه ، فهو كما قال

" صفحة رقم 393 "
أنا ابن دارة معروفاً به نسبي
وهل بدارة يا للناس من عار ؟ وقيل : انتصاب : مصدقاً ، على أنه بدل من موضع : بالحق ، وقيل : حال من الضمير المجرور . و : لما ، متعلق بمصدقاً ، واللام لتقوية التعدية ، إذ : مصدقاً ، يتعدى بنفسه ، لأن فعله يتعدى بنفسه . والمعنى هنا بقوله ) لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ( المتقدم في الزمان . وأصل هذا أن يقال لما يتمكن الإنسان من التصرف فيه . كالشيء الذي يحتوي عليه ، ويقال : هو بين يديه إذا كان قدامه غير بعيد .
( وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ ( فخم راء التوراة : ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، وأضجعها : أبو عمرو ، والكسائي . وقرأها بين اللفظين : حمزة ، ونافع وروي المسيبي عن نافع فتحها .
وقرأ الحسن : والأنجيل ، بفتح الهمزة ، وهذا يدل على أنه أعجمي ، لأن أفعيلاً ليس من أبنية كلام العرب ، بخلاف إفعيل ، فإنه موجود في أبنيتهم : كإخريط ، وإصليت .
آل عمران : ( 4 ) من قبل هدى . . . . .
وتعلق : من قبل ، بقوله : وأنزل ، والمضاف إليه المحذوف هو الكتاب المذكور ، أي : من قبل الكتاب المنزل عليك وقيل : التقدير من قبلك ، فيكون المحذوف ضمير الرسول . وغاير بين نزل وأنزل ، وإن كانا بمعنى واحد ، إذ التضعيف للتعدية ، كما أن الهمزة للتعدية .
وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل : نزل الكتاب ، وأنزل التوراة والإنجيل ؟ .
قلت لأن القرآن نزل منجماً ، ونزل الكتابان جملة . انتهى . وقد تقدم الرد على هذا القول . وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير ، ولا التنجيم ، وقد جاء في القرآن : نزل وأنزل ، قال تعالى : ) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ ( و ) وَأَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان : ممن ينزل ، مشدداً بالتخفيف ، إلاَّ ما استثني ، فلو كان أحدهما يدل على التنجيم ، والآخر يدل على النزول دفعة واحدة ، لتناقض الإخبار . وهو محال .
( هُدًى لّلنَّاسِ ( قيل : هو قيد في الكتاب والتوراة والإنجيل . والظاهر أنه قيد في التوراة والإنجيل ، ولم يثن لأنه مصدر . وقيل : هو قيد في الإنجيل وحده ، وحذف من التوراة ، ودل عليه هذا القول الذي للإنجيل وقيل : تم الكلام عند قوله ) مِن قَبْلُ ( ثم استأنف فقال ) هُدًى لّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ( فيكون الهدى للفرقان فحسب ، ويكون على هذا الفرقان القرآن ، وهذا لا يجوز ، لأن هدى إذ ذاك يكون معمولاً لقوله : وأنزل الفرقان هدى ، وما بعد حرف العطف لا يتقدم عليه ، لو قلت : ضربت زيداً ، مجردةٍ و : ضربت هنداً ، تريد ، وضربت هنداً مجردة لم يجز ، وانتصابه على الحال . وقيل : هو مفعول من أجله ، والهدى : هو البيان ، فيحتمل أن يراد أن التوراة والإنجيل هدى بالفعل ، فيكون الناس هنا مخصوصاً ، إذا لم تقع الهداية لكل الناس ، ويحتمل أن يكون أراد أنهما هدىً في ذاتهما ، وأنهما داعيان للهدى ، فيكون الناس عاماً ، أي : هما منصوبان وداعيان لمن اهتدى بهما ، ولا يلزم من ذلك وقوع الهداية بالفعل لجميع الناس وقيل : الناس قوم موسى وعيسى وقيل : نحن متعبدون بشرائع من قبلنا ، فالناس عام . قال الكعبي : هذا يبطل قول من زعم أن القرآن عمى على الكافر ، وليس هدى له ، ويدل على أن معنى ) وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ( أنهم عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز ، لقوله نوح ، ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( انتهى .
قيل : وخص الهدى بالتوراة والإنجيل هنا ، وإن كان القرآن هدىً ، لأن المناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن ، بل

" صفحة رقم 394 "
وصف بأنه حق في نفسه ، قبلوه أو لم يقبلوه ، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما ، فلذلك اختصا في الذكر بالهدى .
قال ابن عطية : قال هنا للناس ، وقال في القرآن هدى للمتقين ، لأن هذا خبر مجرّد ، و : هدى للمتقين ، خبر مقترن به الاستدعاء ، والصرف إلى الإيمان ، فحسنت الصفة ليقع من السامع النشاط والبدار ، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب ، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء ، أو الهدى الذي هو في نفسه معدٌّ أن يهتدي به الناس ، فسمي هدى بذلك .
قال ابن فورك : التقدير هنا : هدى للناس المتقين ، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص ، وفي هذا نظر . انتهى كلام ابن عطية . وملخصه : أنه غاير بين مدلولي الهدى ، فحيث كان بالفعل ذكر المتقون ، وحيث كان بمعنى الدعاء ، أو بمعنى أنه هدى في ذاته ، ذكر العام .
وأما الموضعان فكلاهما خبر لا فرق في الخبرية بين قوله ) ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( وبين قوله : ) وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ ).
) وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ( الفرقان : جنس الكتب السماوية ، لأنها كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل ، من كتبه أو من هذه الكتب ، أو أراد الكتاب الرابع ، وهو الزبور . كما قال تعالى : ) وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( أو الفرقان : القرآن ، وكرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل ، بعدما ذكره باسم الجنس تعظيماً لشأنه ، واظهاراً لفضله . واختار هذا القول الأخير ابن عطية . قال محمد بن جعفر : فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام الذي جادل فيه الوفد . وقال قتادة ، والربيع ، وغيرهما : فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع ، وفي الحلال والحرام ، ونحوه وقيل : الفرقان : كل أمر فرق بين الحق والباطل فيما قدم وحدث ، فدخل في هذا التأويل : طوفان نوح ، وفرق البحر لغرق فرعون ، ويوم بدر ، وسائر أفعال الله المفرقة بين الحق والباطل وقيل : الفرقان : النصر . وقال الرازي : المختار أن يكون المراد بالفرقان هنا المعجزات التي قرنها الله بالإنزال هذه الكتب ، لأنهم إذا ادعو أنها نازلة من عند الله افتقروا إلى ، تصحيح دعواهم بالمعجزات ، وكانت هي الفرقان ، لأنها تفرق بين دعوى الصادق والكاذب ، فلما ذكر أنه أنزلها ، أنزل معها ما هو الفرقان . وقال ابن جرير : أنزل بإنزال القرآن الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب وأهل الملل . وقيل : الفرقان : هنا الأحكام التي بينها الله ليفرق بها بين الحق والباطل .
فهذه ثمانية أقوال في تفسير الفرقان . والفرقان مصدر في الأصل ، وهذه التفاسير تدل على أنه أريد به اسم الفاعل ، أي : الفارق ، ويجوز أن يراد به المفعول أي : المفروق . قال تعالى : ) وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ).
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ( لما قرر تعالى أمر الإلهية ، وأمر النبوّة بذكر الكتب المنزلة ، توعد من كفر بآيات الله من كتبه المنزلة ، وغيرها ، بالعذاب الشديد من عذاب الدنيا ، كالقتل ، والأسر . والغلبة ، وعذاب الآخرة : كالنار .
و ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( عام داخل فيه من نزلت الآيات بسببهم ، وهم نصارى وفد نجران . وقال النقاش : إشارة إلى كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وبني أخطب وغيرهم .
( وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ( أي : ممتنع أو غالب لم لا يغلب ، أو منتصر ذو عقوبة ، وقد تقدّم أن الوصف : بذو ، أبلغ من الوصف بصاحب ، ولذلك لم يجيء في صفات الله صاحب ، وأشار بالعزة إلى القدرة التامة التي هي من صفات الذات ، وأشار بذي انتقام ، إلى كونه فاعلاً للعقاب ، وهي من صفات الفعل .
قال الزمخشري : ) ذُو انتِقَامٍ ( له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم . انتهى .

" صفحة رقم 395 "
ولا يدل على هذا الوصف لفظ : ذو انتقام ، إنما يدل على ذلك من خارج اللفظ .
آل عمران : ( 5 ) إن الله لا . . . . .
( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء ( شيء نكرة في سياق النفي ، فتعم ، وهي دالة على كمال العلم بالكليات والجزئيات ، وعبر عن جميع العالم بالأرض والسماء ، إذ هما أعظم ما نشاهده ، والتصوير على ما شاء من الهيئات دال على كمال القدرة ، وبالعلم والقدرة يتم معنى القيومية ، إذ هو القائم بمصالح الخلق ومهماتهم ، وفي ذلك ردّ على النصارى ، إذ شبهتهم في إدعاء إلهية عيسى كونه : يخبر بالغيوب ، وهذا راجع إلى العلم ، وكونه : يحيي الموتى ، وهو راجع إلى القدرة . فنبهت الآية على أن الإله هو العالم بجميع الأشياء ، فلا يخفي عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلها ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن عالماً بجميع المعلومات ، ونبهت على أن الإله هو ذو القدرة التامة ، فلا يمتنع عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى قادراً على الإحياء في بعض الصور أن يكون إلهاً ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن قادراً على تركيب الصور وإحيائها ، بل إنباؤه ببعض المغيبات ، وخلقه وأحياؤه بعض الصور ، إنما كان ذلك بإنباء الله له على سبيل الوحي ، وإقداره تعالى له على ذلك ، وكلها على سبيل المعجزة التي أجراها ، وأمثالها ، على أيدي رسله .
وفي الذكر التصوير في الرحم ردّ على من زعم أن عيسى إله ، إذ من المعلوم بالضرورة أنه صور في الرحم .
وقيل : في قوله ) لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء ( تحذير من مخالفته سراً وجهراً ، ووعيد بالمجازاة وقيل : المعنى شيء مما يقولونه في أمر عيسى عليه السلام . وقال الزمخشري : مطلع على كفر من كفر ، وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه . وقال الماتريدي : لا يخفى عليه شيء من الأمور الخفية عن الخلق ، فكيف تخفي عليه أعمالكم التي هي ظاهرة عندكم ؟ وكل هذه تخصيصات . واللفظ عام ، فيندرج فيه هذا كله . وقال الراغب : لا يخفى عليه شيء ، أبلغ من : يعلم في الأصل ، وإن كان استعمال اللفظين فيه يفيدان معنى واحداً .
آل عمران : ( 6 ) هو الذي يصوركم . . . . .
وقال محمد بن جعفر بن الزبير ، والربيع ، في قوله : ) هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ ( ردّ على أهل الطبيعة ، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة كيف يشاء . قال الماتريدي : فيه إبطال قول من يجعل قول القائف حجة في دعوى النسب ، لأنه جعل علم التصوير في الأرحام لنفسه ، فكيف يعرف القائف أنه صوره من مائه عند قيام التشابه في الصور ؟ انتهى .
والأحسن أن تكون هذه الجمل مستقلة ، فتكون الأولى : إخباراً عنه تعالى بالعلم التام ، والثانية : إخباراً بالقدرة التامة وبالإرادة . والثالثة : بالإنفراد بالإلهية ، ويحتمل أن يكون خبراً عن : أن .
وقال الراغب ، هنا : يصوركم ، بلفظ الحال ، وفي موضع آخر : فصوركم ، لأنه لا اعتبار بالأزمنة في أفعاله ، وإنما استعملت الألفاظ فيه للدلالة على الأزمنة بحسب اللغات ، وأيضاً : فصوركم ، إنما هو على نسبة التقدير ، وإن فعله تعالى في حكم ما قد فرع منه . ويصوركم على حسب ما يظهر لنا حالاً فحالاً . انتهى .
وقرأ طاووس : تصوركم ، أي صوركم لنفسه ولتعبده . كقولك : أثلت مالاً ، أي : جعلته أثلة . أي : أصلاً . وتأثلته إذا أثلته لنفسك وتأتي : تفعَّل ، بمعنى : فعل ، نحو : تولى ، بمعنى : ولي .
ومعنى ) كَيْفَ يَشَاء ( أي : من الطول والقصر ، واللون ، والذكورة والأنوثة ، وغير ذلك من الاختلافات . وفي قوله : ) كَيْفَ يَشَاء ( إشارة إلى أن ذلك يكون بسبب وبغير سبب ، لأن ذلك متعلق بمشيئته فقط .
و : كيف ، هنا للجزاء ، لكنها لا تجزم . ومفعول : يشاء ، محذوف لفهم المعنى ، التقدير : كيف يشاء أن يصوركم . كقوله ) يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ( أي : كيف يشاء أن ينفق ، و : كيف ، منصوب : بيشاء ، والمعنى : على أي حال شاء أن يصوركم صوركم ، ونصبه على الحال ، وحذف فعل الجزاء لدلالة ما قبله عليه ، نحو قولهم : أنت ظالم إن فعلت ، التقدير : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم ، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب ، وإن كانت متعلقة بما قبلها في المعنى ، فتعلقها كتعلق إن فعلت ، كقوله : أنت ظالم .
وتفكيك هذا الكلام وإعرابه على ما ذكرناه ، لا يهتدى له إلاَّ بعد تمرّن في الإعراب ، واستحضار للطائف النحو .
وقال بعضهم ) كَيْفَ يَشَاء ( في موضع الحال ، معمول : يصوركم ؛ ومعنى الحال

" صفحة رقم 396 "
أي : يصوركم في الأرحام قادراً على تصوريكم مالكاً ذلك وقيل : التقدير في هذه الحال : يصوركم على مشيئته ، أي مريداً ، فيكون حالاً من ضمير اسم الله ، ذكره أبو البقاء ، وجوّز أن يكون حالاً من المفعول ، أي : يصوركم منقلبين على مشيئته .
وقال الحوفي : يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر ، المعنى : يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة ، وكما يشاء .
( لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( كرر هذه الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى ، وانحصارها فيه ، توكيداً لما قبلها من قوله ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( ورداً على من ادعى إلهية عيسى ، وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة ، إذ مَن هذان الوصفان له ، هو المتصف بالإلهية لا غيره ، ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير ، والحكمة الموجبة لتصوير الإشياء على الإتقان التام .
آل عمران : ( 7 ) هو الذي أنزل . . . . .
( هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ( مناسبة هذا لما قبله أنه : لما ذكر تعديل البنية وتصويرها على ما يشاء من الأشكال الحسنة ، وهذا أمر جسماني ، استطرد إلى العلم ، وهو أمر روحاني . وكان قد جرى لوفد نجران أن من شُبَهِهِمْ قوله ) وَرُوحٌ مّنْهُ ( فبيّن أن القرآن منه محكم العبارة قد صينت من الاحتمال ، ومنه متشابه ، وهو ما احتمل وجوهاً .
ونذكر أقاويل المفسرين في المحكم والمتشابة .
وقد جاء وصف القرآن بأن آياته محكمة ، بمعنى كونه كاملاً ، ولفظه أفصح ، ومعناه أصح ، لا يساويه في هذين الوصفين كلام ، وجاء وصفه بالتشابه بقوله : ) كِتَاباً مُّتَشَابِهاً ( معناه يشبه بعضه بعضاً في الجنس والتصديق . وأما هنا فالتشابه ما احتُمل وعجز الذهن عن التمييز بينهما ، نحو : ) إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ( ) وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ( أي : مختلف الطعوم متفق المنظر ، ومنه : اشتبه الأمران ، إذا لم يفرق بينهما . ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وتقول : الكلمة الموضوعة لمعنى لا يحتمل غيره نص ، أو يحتمل راجحاً أحد الاحتمالين على الآخر ، فبالنسبة إلى الراجح ظاهر ، وإلى المرجوح مؤوّل ، أو يحتمل من غير رجحان ، فمشترك بالنسبة إليهما ، ومجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما . والقدر المشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤوّل هو المتشابه ، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين .
قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك : المحكم الناسخ ، والمتشابه المنسوخ . وقال مجاهد ، وعكرمة : المحكم : ما بيَّن تعالى حلاله وحرمه فلم تشتبه معانيه ، والمتشابه : ما اشتبهت معانيه . وقال جعفر بن محمد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والشافعي : المحكم ما لا يتحمل إلاَّ وجهاً واحداً ، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً . وقال ابن زيد : المحكم : ما لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه : ما تكررت . وقال جابر بن عبد الله ، وابن دئاب ، وهو مقتصى قول الشعبي والثوري وغيرهما : المحكم ما فهم العلماء تفسيره ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه : كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغر بها ، وخروج عيسى .
وقال أبو عثمان : المحكم ، الفاتحة . وقال

" صفحة رقم 397 "
محمد بن الفضل : سورة الإخلاص ، لأن ليس فيها إلاَّ التوحيد فقط . وقال محمد بن إسحاق : المحكمات ما ليس لها تصريف ولا تحريف . وقال مقاتل : المحكمات خمسمائة آية ، لأنها تبسط معانيها ، فكانت أمَّ فروع قيست عليها وتولدت منها ، كالأم يحدث منها الولد ، ولذلك سماها : أم الكتاب ، والمتشابه : القصص والأمثال .
وقال يحي بن يعمر : المحكم الفرائض ، والوعد والوعيد ؛ والمتشابه : القصص والأمثال . وقيل : المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال . والمتشابه ما كان معاني أحكامه غير معقولة ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصوم بشهر رمضان دون شعبان . وقيل : المحكم ما تقرر من القصص بلفظ واحد ، والمتشابه ما اختلف لفظه ، كقوله : ) فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى ( ) فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ( و ) قُلْنَا احْمِلْ ( و ) فَاسْلُكْ ).
وقال أبو فاختة : المحكمات فواتح السور المستخرج منها السور : كألم والمر . وقيل : المتشابه فواتح السور ، بعكس الأول . وقيل : المحكمات : التي في سورة الأنعام إلى آخر الآيات الثلاث ، والمتشابهات : آلم وآلمّرَ ، وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها ، حين سمعوا : آلم ، فقالوا : هذه بالجُمَّلِ : أحد وسبعون ، فهو غاية أجل هذه الأمة ، فلما سمعوا : ألر ، وغيرها ، اشتبهت عليهم . أو : ما اشتبه من النصارى من قوله : ) وَرُوحٌ مّنْهُ ).
وقيل : المتشابهات ما لا سبيل إلى معرفته ، كصفة الوجه ، واليدين ، واليد ، والاستواء .
وقيل : المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله ، نحو قوله : ) قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ ( الآيات و ) قَضَى رَبَّكَ ( الآيات وما سوى المحكم متشابه .
وقال أكثر الفقهاء : المحكمات التي أحكمت بالإبانة ، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها ، لأنها ظاهرة بينه ، والمتشابهات : ما خالفت ذلك . وقال بن أبي نجيح : المحكم ما فيه الحلال والحرام . وقال ابن خويز منداذ : المتشابه ما له وجوه واختلف فيه العلماء ، كالآيتين في الحامل المتوفى عنها زوجها ، عليّ وابن عباس يقولان : تعتد أقصى الأجلين ، وعمر ، وزيد ، وابن مسعود يقولون : وضع الحمل . وخلافهم في النسخ ، وكالاختلاف في الوصية للوراث هل نسخت أم لا . ونحو تعارض الآيتين : أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ؟ نحو : ) وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ( يقتضي الجمع بين الأقارب بملك اليمين ) وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ( يمنع من ذلك ؟
ومعنى : أم الكتاب ، معظم الكتاب ، إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل . وقال يحي بن يعمر : هذا كما

" صفحة رقم 398 "
يقال لمكة : أم القرى ، ولمرو : أم خراسان ، و : أم الرأس : لمجتمع الشؤون ، إذ هو أخطر مكان .
وقال ابن زيد : جماع الكتاب ، ولم يقل : أمهات ، لأنه جعل المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء وآخر ، وأحدهما أم للآخر ، ونظيره ) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً ( ولم يقل : اثنين ، ويحتمل أن يكون : هنّ ، أي كل واحدة منهنّ ، نحو : ) فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ( أي كل واحد منهم . قيل : ويحتمل أن إفراد في موضع الجمع . نحو : ) وَعَلَى سَمْعِهِمْ ( وقال الزمخشري : أمّ الكتاب أي أصل الكتاب ، تحمل المتشابهات عليها ، وترد إليها . ومثال ذلك : ) لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( ) إِلَى رَبّهَا ( ) اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ( ) أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ( إنتهى . وهذا على مذهبه الإعتزالي في أن الله لا يُرى ، فجعل المحكم لا تدركه الأبصار . والمتشابه قوله : ) إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ ).
وأهل السنة يعكسون هذا ، أو يفرقون بين الإدراك والرّؤية . وذكر من المحكم : ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ( ) لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى ( ومتشابهه : ) نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ( ظاهر النسيان ضد العلم ، ومرجوحه الترك . وأرباب المذاهب مختلفون في المحكم والمتشابه ، فما وافق المذهب فهو عندهم محكم ، وما خالف فهو متشابه . فقوله : ) فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( عند المعتزلة محكم ) وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( متشابه . وغيرهم بالعكس .
وصرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوحي لا بد فيه من دليل منفصل ، فإن كان لفظياً فلا يتم إلاَّ بحصول التعارض ، وليس الحمل على أحدهما أولى من العكس ، ولا قطع في الدليل اللفظي ، سواء كان نصاً وأرجح لتوقفه على أمور ظنية ، وذلك لا يجوز في المسائل الأصولية . فإذن المصير إلى المرجوح لا يكون بواسطة الدلالة العقلية القاطعة ، وإذا علم صرفه عن ظاهره فلا يحتاج إلى تعيين المراد ، لأن ذلك يكون ترجيح مجاز على مجاز ، وتأويل على تأويل .
ومن الملاحدة من طعن في القرآن إلى يوم القيامة ، ثم إنا نراه يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر : ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ( ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ). والقدري يقول : هذا مذهب الكفار في معرض الذم لهم في قوله : ) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِىءاذانِنَا وَقْرٌ ( وفي موضع آخر : ) قُولُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ).
ومثبتو الرؤية تمسكوا بقوله : ) إِلَى رَبّهَا ( والآخرون ، بقوله : ) وَكِيلٌ لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ). ومثبتو الجهة بقوله : ) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ( وبقوله : ) عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( والآخرون بقوله : ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء ( فكيف يليق بالمحكم أن يرجع إلى المرجوع إليه هكذا ؟ إنتهى كلام الفخر الرازي . وبعضه ملخص .
وقد ذكر العلماء لمجيء المتشابه فوائد ، وأحسن ذلك ما ذكره الزمشخري . قاله :
فإن قلت : فهلا كان القرآن كله محكماً ؟
قلت : لو كان كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلاَّ به ، ولما في المتشابه من الإبتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتقانهم القرائح في إستخراج معانيه ، ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة ، والعلوم الجمة ، ونيل الدرجات عند الله ، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ، ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض

" صفحة رقم 399 "
في ظاهره ، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ، ففكر وراجع نفسه وغيره ، ففتح الله عليه ، وتبين مطابقة المتشابة المحكم ، إزداد طمأنينة إلى معتقده ، وقوة في اتقانه . إنتهى كلام الزمخشري ، وهو مؤلف مما قاله الناس في فائدة المجيء بالمشابه في القرآن .
ولما ذكر تعالى أول السورة ) اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( ذكر هنا كيفية الكتاب ، وأتى بالموصول ، إذ في صلته حوالة على التنزيل السابق ، وعهد فيه . وقوله : ) مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ( إلى آخره ، في موضع الحال ، أي : تركه على هذين الوجهين محكماً ومتشابهاً ، وارتفع : آيات ، على الفاعلية بالمجرور لأنه قد اعتمد ، ويجوز ارتفاعه على الإبتداء ، والجملة حالية . ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة ، ووصف الآيات بالأحكام صادق على أن كل آية محكمة ، وأما قوله : ) وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ( فأُخر صفة لآيات محذوفة ، والوصف بالتشابه لا يصح في مفرد آخر ، لو قلت : وأخرى متشابهة لم يصح إلاَّ بمعنى أن بعضها يشبه بعضاً ، وليس المراد هنا هذا المعنى ، وذلك أن التشابه المقصود هنا لا يكون إلاَّ بين اثنين فصاعداً ، فلذلك صح هذا الوصف مع الجمع ، لأن كل واحد من مفرداته يشابه الباقي ، وإن كان الواحد لا يصح فيه ذلك ، فهو نظير ، رجلين يقتتلان ، وإن كان لا يقال : رجل يقتتل .
وتقدم الكلام على أخر في قوله : ) فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( فاغنى عن إعادته هنا .
وذكر ابن عطية أن المهدوي خلط في مسألة : أخر ، وأفسد كلام سيبوية ، فتوقف على ذلك من كلام المهدوي .
( فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ( هم نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى ، قاله الربيع . أو : اليهود ، قاله ابن عباس ، والكلبي ، لأنهم طلبوا بقاء هذه الآية من الحروف المقعطة والزيغ : عنادهم .
وقال الطبري : هو الأشبه . وذكر محاورة حي بن أخطب وأصحابه لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في مدة ملته ، واستخراج ذلك من الفواتح ، وانتقالهم من عدد إلى عدد إلى أن قالوا : خلطت علينا فلا ندري بكثير نأخذ أم بقليل ؟ ونحن لا نؤمن بهذا . فأنزل الله تعالى : ) هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( الآية ، وفسر الزيغ : بالميل عن الهدى ، ابن مسعود ، وجماعة من الصحابة ، ومجاهد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وغيرهم .
وقال قتادة : هم منكرو البعث ، فإنه قال في آخرها ) وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ( وما ذاك إلاَّ يوم القيامة ، فإنه أخفاه عن جميع الخلق . وقال قتادة أيضاً : هم الحرورية ، و : هم الخوارج . ومن تأول آية لا في محلها . وقال أيضاً : إن لم تكن الحرورية هم الخوارج السبائية ، فلا أدرى من هم .
وقال ابن جريح : هم المنافقون . وقيل : هم جميع المبتدعة .
وظاهر اللفظ العموم في الزائغين عن الحق ، وكل طائفة ممن ذكر زائغة عن الحق ، فاللفظ يشملهم وإن كان نزل على سبب خاص ، فالعبرة لعموم اللفظ .
( فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ( قال القرطبي : متبعو المتشابه إما طالبو تشكيك وتناقض وتكرير ، وإما طالبو ظواهر المتشابه : كالمجمسة إذ أثبتوا أنه جسم ، وصورة ذات وجه ، وعين ويد وجنب ورجل وأصبع . وإما متبعو إبداء تأويل وإيضاح معاينة ، كما سأل رجل ابن عباس عن أشياء اختلفت عليه في القرآن ، مما ظاهرها التعارض ، نحو : ) وَلاَ يَتَسَاءلُونَ ( و ) أَقْبِلْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ( ) وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ( ) وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( ونحو ذلك . وأجابه ابن عباس بما أزال عنه

" صفحة رقم 400 "
التعارض ، وإما متبعوه وسائلون عنه سؤال تعنت ، كما جرى لأصيبغ مع عمر ، فضرب عمر رأسه حتى جرى دمه على وجهه . إنتهى كلامه ملخصاً .
( ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ( علل اتباعهم للمتشابه بعلتين :
إحداهما : إبتغاء الفتنة . قال السدي ، وربيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة : هي الكفر . وقال مجاهد : الشبهات واللبس . وقال الزجاج : إفساد ذات البين . وقيل : الشبهات التي حاج بها وفد نجران .
والعلة الثانية : إبتغاء التأويل . قال ابن عباس : ابتغوا معرفة مدة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : التأويل : التفسير ، نحو ) سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ( وقال ابن عباس أيضاً : طلبوا مرجع أمر المؤمنين ، ومآل كتابهم ودينهم وشريعتهم ، والعاقبة المنتظرة . وقال الزجاج : طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم تعالى : أن تأويل ذلك ، ووقته يوم يرون ما يوعدون من البعث والعذاب ، يقول الذين نسوه ، أي تركوه : قد جاءت رسل ربنا ، أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل . وقال السدي : أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن ، وهو تأويله متى ينسخ منه شيء . وقيل : تأويله طلب كنه حقيقته وعمق معانيه . وقال الفخر الرازي كلاماً ملخصه : إن المراد بالتأويل ما ليس في الكتاب دليل عليه ، مثل : متى الساعة ؟ ومقادير الثواب والعقاب لكل مكلف ؟
وقال الزمخشري : ) الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ( هم أهل البدع ، فيتبعون ما تشابه منه ، فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ، ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق ، إبتغاء الفتنة : طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ، وإبتغاء تأويله : طلب أن يؤولوه التأويل الذي يشهونه . إنتهى كلامه . وهو كلام حسن .
( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ( تم الكلام عند قوله : إلا الله ، ومعناه إن الله استأثر بعلمه تأويل المتشابه ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي ، وابن عباس ، وعائشة ، والحسن ، وعروة ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي نهيك الأسدي ، ومالك بن أنس ، والكسائي ، والفراء ، ولجلبائي ، والأخفش ، وأبي عبيد . واختاره : الخطابي والفخر الرازي .
ويكون قوله ) وَالرسِخُونَ ( مبتدأ و ) يَقُولُونَ ( خبر عنه وقيل : والراسخون ، معطوف على الله ، وهم يعلمون تأويله ، و : يقولون ، حال منهم أي : قائلين وروي هذا عن ابن عباس أيضاً ، ومجاهد والربيع بن أنس ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وأكثر المتكلمين . ورجح الأول بأول بأن الدليل إذا دل على غير الظاهر علم أن المراد بعض المجازات ، وليس الترجيح لبعض إلاَّ بالأدلة اللفظية ، وهي ظنية ، والظن لا يكفي في القطعيات ، ولأن ما قبل الآية يدل على ذم طالب المتشابه ، ولو كان جائزاً لما ذمّ بأن طلب وقت الساعة تخصيص بعض المتشابهات ، وهو ترك للظاهر ، ولا يجوز ، ولأنه مدح الراسخين في

" صفحة رقم 401 "
العلم بأنهم قالوا ) بِهِ إِنَّهُ ( ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح ، لأن من علم شيئاً على التفصيل لا بد أن يؤمن به ، وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر ، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى ، وقطعوا أنه الحق ، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان ، ولأنه لو كان : الراسخون ، معطوف على : الله ، للزم أن يكون : يقولون ، خبر مبتدأ وتقديره : هؤلاء ، أو : هم ، فيلزم الإضمار ، أو حال والمتقدّم : الله والراسخون ، فيكون حالاً من الراسخين فقط ، وفيه ترك للظاهر . ولأن قوله : ) كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا ( يقتضي فائدة ، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه ، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عري عن الفائدة ، ولما نقل عن ابن عباس أن تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يقع جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلاَّ الله ، تعالى .
وسئل مالك ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . انتهى ما رجح به القول الأول ، وفي ذلك نظر ، ويؤيد هذا القول قراءة أبي ، وابن عباس ، فيما رواه طاووس عنه : إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به . وقراءة عبد الله : وابتغاء تأويله إن تأويله إلاَّ عند الله ، والراسخون في العلم يقولون .
ورجح ابن فورك القول الثاني وأطنب في ذلك ، وفي قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لابن عباس : ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) ما يبين ذلك ، أي : علمه معاني كتابك . وكان عمر إذا وقع مشكل في كتاب الله يستدعيه ويقول له : غص غوّاص . ويجمع أبناء المهاجرين والأنصار ، ويأمرهم بالنظر في معاني الكتاب .
وقال ابن عطية : إذا تأملت قرب الخلاف من الاتفاق ، وذلك أن الكتاب محكم ومتشابه ، فالمحكم المتضح لمن يفهم كلام العرب من غير نظر ، ولا لبس فيه ، ويستوى فيه الراسخ وغيره . والمتشابه منه ما لا يعلمه إلاَّ الله ، كأمر الروح ، وآماد المغيبات المخبر بوقوعها ، وغير ذلك . ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ، فيتأول على الاستقامة كقوله في عيسى ) وَرُوحٌ مّنْهُ ( إلى غير ذلك . ولا يسمى راسخاً إلاَّ من يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدّر له ، وإلاَّ فمن لا يعلم سوى المحكم فليس براسخ .
فقوله ) إِلاَّ اللَّهُ ( مقتض ببديهة العقل أنه تعالى يعلمه على استيفاء نوعيه جميعاً ، والراسخون يعلمون النوع الثاني ، والكلام مستقيم على فصاحة العرب . ودخلوا بالعطف في علم التأويل كما تقول : ما قام لنصري إلاَّ فلان وفلان ، وأحدهما نصرك بأن ضارب معك ، والآخر أعانك بكلام فقط .
وإن جعلنا ) وَالرسِخُونَ ( مبتدأ مقطعوعاً مما قبله ، فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي استوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ؟ وما الرسوخ إلاَّ المعرفة بتصاريف الكلام ، وموارد الأحكام ، ومواقع المواعظ ؟ .
وإعراب : الراسخين ، يحتمل الوجهين ، ولذلك قال ابن عباس بهما .
ومن فسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه فقط ، فتفسيره غير صحيح ، لأنه تخصيص لبعض المتشابه . انتهى . وفيه بعض تلخيص ، وفيه اختياره أنه معطوف على : الله ، وإياه اختار الزمخشري . قال : لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلاَّ الله وعباده الذين رسخوا في العلم ، أي ثبتوا فيه وتمكنوا ، وعضوا فيه بضرس قاطع . ويقولون ، كلام مستأنف موضح لحال الراسخين ، بمعنى : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به ، أي : بالمتشابه . انتهى كلامه .
وتلخص في إعراب ) وَالرسِخُونَ ( وجهان : .
أحدهما : أنه معطوف على قوله : الله ، ويكون في إعراب : يقولون ، وجهان : أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف . والثاني : أنه في موضع نصب على الحال من الراسخين ، كما تقول : ما قام إلاَّ زيد وهند ضاحكة .
والثاني : من إعراب : والراسخون ، أن يكون مبتدأ ، ويتعين أن يكون : يقولون ، خبراً عنه ، ويكون من عطف الجمل .
وقيل : ) الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ ( مؤمنو أهل الكتاب : كعبد الله بن سلام

" صفحة رقم 402 "
وأصحابه ، بدليل ) لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ ( يعنى الراسخين في علم التوراة ، وهذا فيه بعد ، وقد فسر الرسوخ في العلم بما لا تدل عليه اللغة ، وإنما هي أشياء نشأت عن الرسوخ في العلم ، كقول نافع : الراسخ المتواضع لله ، وكقول مالك : الراسخ في العلم العامل بما يعلم ، المتبع .
( كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا ( هذا من المقول ، ومفعول : يقولون قوله : ) بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا ( وجعلت كل جملة كأنها مستقلة بالقول ، ولذلك لم يشترك بينهما بحرف العطف ، أو جعلا ممتزجين في القول امتزاج الجملة الواحدة ، نحو قوله : كيف أصحبت ؟ كيف أمسيت ؟ مما
يزرع الود في فؤاد الكريم ؟ كأنه قال : هذا الكلام مما يزرع الودّ . والضمير في : به ، يحتمل أن يعود على المتشابه ، وهو الظاهر ، ويحتمل أن يعود على الكتاب . والتنوين في : كل ، للعوض من المحذوف ، فيحتمل أن يكون ضمير الكتاب ، أي : كله من عند ربنا ، ويحتمل أن يكون التقدير : كل واحد من المحكم والمتشابه من عند الله ، وإذا كان من عند الله فلا تناقض ولا أختلاف ، وهو حق يجب أن يؤمن به . وأضاف العندية إلى قوله : ربنا ، لا إلى غيره من أسمائه تعالى لما في الإشعار بلفظة الرب من النظر في مصلحة عبيده ، فلولا أن في المتشابه مصلحة ما أنزله تعالى ، ولجعل كتابه كله محكماً .
( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ ( أي : وما يتعظ بنزول المحكم والمتشابه إلاَّ أصحاب العقول ، إذ هم المدركون لحقائق الأشياء ، ووضع الكلام مواضعه ، ونبه بذلك على أن ما أشتبه من القرآن ، فلا بد من النظر فيه بالعقل الذي جعل مميزاً لإدراك : الواجب ، والجائز ، والمستحيل ، فلا يوقف مع دلالة ظاهر اللفظ ، بل يستعمل في ذلك الفكر حتى لا ينسب إلى البارىء تعالى ، ولا إلى ما شرع من أحكامه ، ما لا يجوز في العقل .
وقال ابن عطية : أي ، ما يقول هذا ويؤمن به ، ويقف حيث وقف ، ويدع اتباع المتشابه إلاَّ ذولبَ .
وقال الزمخشري : مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل .
آل عمران : ( 8 ) ربنا لا تزغ . . . . .
( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ( ويحتمل أن يكون هذا من جملة المقول أي : يقولون ربنا ، وكأنهم لما رأوا انقسام الناس إلى زائغ ، ومتذكر مؤمن ، دعوا الله تعالى بلفظ الرب أن لا يزيغ قلوبهم بعد هدايتهم ، فيلحقوا بمن في قلبه زيغ ، ويحتمل أن يكون تعالى علمهم هذا الدعاء ، والتقدير : قولوا ربنا .
ومعنى الإزاغة هنا الضلالة . وفي نسبة ذلك إليه تعالى رد على المعتزلة في قولهم : إن الله لا يضل ، إذ لو لم تكن الإزاغة من قبله تعالى لما جاز أن يدعى في رفع ما لا يجوز عليه فعله .
وقال الزجاج : لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ بها قلوبنا ، وهذا القول فيه التحفظ من خلق الله الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد .
وقال ابن كيسان : سألوا أن لا يزيغوا ، فيزيغ الله قلوبهم ، نحو : ) فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ( أي : ثبتنا على هدايتك ، وأن لا نزيغ ، فنستحق أن تزيغ قلوبنا . وهذه نزغة إعتزالية ، كما قال الجبائي : لا تمنعها الألطاف التي بها يستمر القلب على صفة الإيمان . ولما منعهم الألطاف لاستحقاقهم منع ذلك ، جاز أن يقال : أزاغهم ، ويدل عليه : فلما زاغوا . وقال الجبائي أيضاً : لا تزغنا عن جنتك وثوابك .
وقال أبو مسلم : أحرسنا من الشيطان وشر أنفسنا حتى لا نزيغ .
وقال

" صفحة رقم 403 "
الزمخشري : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا ، أو : لا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا . انتهى .
وهذه مسألة كلامية : هل الله تعالى خالق الشر كما هو خالق الخبر ؟ أو لا يخلق الشر ؟ فالأول : قول أهل السنة . والثاني : قول المعتزلة . وكل يفسر على مذهبه .
وقرأ الصديق ، وأبو قائله ، والجراح : لا تزغ قلوبنا ، بفتح التاء ورفع الباء وقرأ بعضهم : لا يزغ بالياء مفتوحة ، ورفع باء قلوبنا ، جعله من زاغ ، وأسنده إلى القلوب . وظاهره نهي القلوب عن الزيغ ، وإنما هو من باب : لا أرينك ههنا .
ولا أعرفن ربرباً حوراً مدامعه
أي : لا تزغنا فتزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا . ظاهره الهداية التي هي مقابلة الضلال وقيل : بعد اذ هديتنا للعلم بالمحكم ، والتسليم للمتشابه من كتابك ، و : إذ ، أصلها أن تكون ظرفاً ، وهنا أضيف إليها : بعد ، فصارت إسماً غير ظرف ، وهي كانت قبل أن تخرج عن الظرفية تضاف إلى الجملة ، واستصحب فيها حالها من الإضافة إلى الجملة ، وليست الإضامة إليها تخرجها عن هذا الحكم . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ ( ؟ ) يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ ( في قراءة من رفع يوم ؟ وقول الشاعر . على حين عاتبت المشيب على الصبا
على حين من تكتب عليه ذنوبه
على حين الكرام قليل
ألا ليت أيام الصفاء جديد
كيف خرج الظرف هنا عن بابه ، واستعمل خبراً ومجروراً بحرف الجر ، واسم ليت ، وهو مع ذلك مضاف إلى الجملة ؟ .
( وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ( سألوا بلفظ الهبة المشعرة بالتفضل والإحسان إليهم من غير سبب ولا عمل ولا معاوضة ، لأن الهبة كذلك تكون ، وخصوها بأنها من عنده ، والرحمة إن كانت من صفات الذات فلا يمكن فيها الهبة ، بل يكون المعنى : نعيماً ، أو ثواباً صادراً عن الرحمة . ولما كان المسؤول صادراً عن الرحمة ، صح أن يسألوا الرحمة إجراءً للسبب مجرى المسبب وقيل : معنى رحمة توفيقاً وسداداً وتثبيتاً لما نحن عليه من الإيمان والهدى .
( إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ( هذا كالتعليل لقولهم : وهب لنا ، كقولك : حل هذا المشكل أنك أنت العالم بالمشكلات ، وأتى بصيغة المبالغة التي على فعال ، وإن كانوا قد قالوا : وهاب ، لمناسبة رؤوس الآي ، ويجوز في : أنت ، التوكيد للضمير ، والفصل ، والابتداء .
آل عمران : ( 9 ) ربنا إنك جامع . . . . .
( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( لما سألوه

" صفحة رقم 404 "
تعالى أن لا يزيغ قلوبهم بعد الهداية ، وكانت ثمرة انتفاء الزيغ والهداية إنما تظهر في يوم القيامة ، أخبروا أنهم موقنون بيوم القيامة ، والبعث فيه للمجازاة ، وأن اعتقاد صحة الوعد به هو الذي هداهم إلى سؤال أن لا يزيغ قلوبهم . ومعنى : ليوم لا ريب فيه ، أي : لجزاء يوم ، ومعنى : لا ريب فيه ، لا شك في وجوده لصدق من أخبر به ، وإن كان يقع للمكذب به ريب فهو بحال ما لا ينبغي أن يرتاب فيه .
وقيل : الللام ، بمعنى : في ، أي : في يوم ، ويكون المجموع لأجله لم يذكر ، وظاهر هذا الجمع أنه الحشر من القبور للمجازاة ، فهو اسم فاعل بمعنى الاستقبال ، ويدل على أنه مستقبل قراءة أبي حاتم : جامع الناس ، بالتنوين ، ونصب : الناس .
وقيل : معنى الجمع هنا أنه يجمعهم في القبور ، وكأن اللام تكون بمعنى إلى للغاية ، أي : جامعهم في القبور إلى يوم القيامة ، ويكون اسم الفاعل هنا لم يلحظ فيه الزمان ، إذ من الناس من مات ، ومنهم من لم يمت ، فنسب الجمع إلى الله من غير اعتبار الزمان ، واالضمير في : فيه ، عائد على اليوم ، إذ الجملة صفة له ، ومن أعاده على الجمع المفهوم من جامع ، أو على الجزاء الدال عليه المعنى ، فقد أبعد .
( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( ظاهر العدول من ضمير الخطاب إلى الاسم الغائب يدل على الاستئناف ، وأنه من كلام الله تعالى لا من كلام الراسخين الداعين .
قال الزمخشري : معناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد ، كقولك : إن الجواد لا يخيب سائله ، والميعاد : الموعد . انتهى كلامه ، وفيه دسيسه الاعتزال بقوله : إن الإلهية تنافي خلف الميعاد . وقد استدل الجبائي بقوله ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( على القطع بوعيد الفساق مطلقاً ، وهو عندنا مشروط بعدم العفو ، كما اتفقنا نحن وهم على أنه مشروط بعدم التوبة ، والشرطان يثبتان بدليل منفصل ، ولئن سلمنا ما يقولونه فلا نسلم أن الوعيد يدخل تحت الوعد .
وقال الواحدي : يجوز حمله على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب ، ولذلك يمدحون به قال الشاعر : إذا وعد السرّاءَ أنجز وعده
وإن وعد الضراءَ فالعفو مانعه
ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام الداعين ، ويكون ذلك من باب الالتفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة لما في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة ، وكأنهم لما والوا الدعاء بقولهم : ربنا ، أخبروا عن الله تعالى بأنه الوفي بالوعد . وتضمن هذا الكلام الإيمان بالبعث ، والمجازاة ، والإيفاء بما وعد تعالى .
آل عمران : ( 10 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا ( قيل : المراد وفد نجران لأنه روي أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه : إني أعلم أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولكني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الرّوم مني ما أعطوني من المال . وقيل : الإشارة إلى معاصري رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال ابن عباس : قريظة ، والنضير . وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم ، وهي عامّة تتناول كل كافر .
ومعنى : من الله ، أي : من عذابه الدنيوي والأخروي ، ومعنى : أغنى عنه ، دفع عنه ومنعه ، ولما كان المال في باب المدافعة والتقرب والفتنة أبلغ من الأولاد ، قدم في هذه الآية ، وفي قوله : ) وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى وَفِى قَوْلُهُ إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ( وفي قوله : ) وَتَكَاثُرٌ فِى الاْمْوالِ وَالاْوْلْادِ ( وفي قوله : ) لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ( بخلاف قوله تعالى : ) زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ ( إلى آخرها ، فإنه ذكر هنا حب الشهوات ، فقدّم فيه النساء والبنين على ذكر الأموال . وسيأتى

" صفحة رقم 405 "
الكلام على ذلك إن شاء الله .
وقرأ أبو عبد الرحمن : لن يغني ، بالياء على تذكير العلامة . وقرأ علي : لن يغني ، بسكون الياء . وقرأ الحسن : لن يغني بالياء أولاً وبالياء منالساكنة آخراً ، وذلك لاستثقال الحركة في حرف اللين ، وإجراء المنصوب مجرى المرفوع . وبعض النحويين يخص هذا بالضرورة ، وينبغي أن لا يخص بها ، إذ كثر ذلك في كلامهم .
و : من ، لابتداء الغاية عند اعبد ، وبمعنى : عند ، قاله أبو عبيدة ، وجعله كقوله تعالى : ) الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ ( قال : معناه عند جوع وعند خوف ، وكون : من ، بمعنى : عند ، ضعيف جداً .
وقال الزمشخري : قوله : من الله ، مثله في قوله : ) إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا ( والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة الله ، أو من طاعة الله شيئاً ، أي : بدل رحمته وطاعته ، وبدل الحق . ومنه : ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد أي : لا ينفعه جدّه وحظه من الدنيا بذلك ، أي : بدل طاعتك وعبادتك . وما عندك . وفي معناه قوله تعالى : ) وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ( إنتهى كلامه .
وإثبات البدلية : لمن ، فيه خلاف أصحابنا ينكرونه ، وغيرهم قد أثبته ، وزعم أنها تأتي بمعنى البدل . واستدل بقوله تعالى : ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ ( ) لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً ( أي : بدل الآخرة وبدلكم . وقال الشاعر : أخذوا المخاض من الفصيل غلبة
ظلماً ويكتب للأمير إفيلا
أي بدل الفصيل ، وشيئاً ينتصب على أنه مصدر ، كما تقول ضربت شيئاً من الضرب ، ويحتمل أن ينتصب على المفعول به ، لأن معنى : لن تغني ، لن تدفع أو تمنع ، فعلى هذا يجوز أن يكون : من ، في موضع الحال من شيئاً ، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لها ، فلما تقدّم انتصب على الحال . وتكون : من إذ ذاك للتبعيض .
فتلخص في : من ، أربعة أقوال : ابتداء الغاية ، وهو قول المبرد ، والكلبي . و : كونها بمعنى : عند ، وهو قول أبي عبيدة . و : البدلية ، وهو قول الزمخشري ، و : التبعيض ، وهو الذي قررناه .
( وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ( لما قدم : إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ، ولا تناصر أولادهم ، أخبر بمآلهم . وأن غاية من كفر ، ومنتهى من كذب بآيات الله النار ، فاحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على خبر : إن ، واحتمل أن تكونه مستأنفة عطفت على الجملة الأولى ، وأشار : بأولئك ، إلى بعدهم . وأتى بلفظ : هم ، المشعرة بالاختصاص ، وجعلهم نفس الوقود مبالغة في الاحتراق ، كأن النار ليس لها ما يضرمها إلا هم ، وتقدّم الكلام في الوقود في قوله : ) وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ).
وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وغيرهما : وقود ، بضم الواو ، وهو مصدر : وقدت النار تقد وقوداً ، ويكون على حذف مضاف ، أي : أهل وقود النار ، أو : حطب وقود ، أو جعلهم نفس الوقود مبالغة ، كما تقول : زيد رضا .
وقد قيل في المصدر أيضاً : وقود ، بفتح الواو ، وهو من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الواو ، وتقدّم ذكر ذلك ، و :

" صفحة رقم 406 "
هم ، يحتمل أن يكون مبتدأ ، ويحتمل أن يكون فصلاً .
آل عمران : ( 11 ) كدأب آل فرعون . . . . .
( كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ ( لما ذكر أن من كفر وكذب بالله مآله إلى النار ، ولن يغني عنه ماله ولا ولده ، ذكر أن شأن هؤلاء في تكذيبهم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وترتب العذاب على كفرهم ، كشأن من تقدّم من كفار الأمم ، أخذوا بذنوبهم ، وعذبوا عليها ، ونبه على آل فرعون ، لأن الكلام مع بني إسرائيل ، وهم يعرفون ما جرى لهم حين كذبوا بموسى من إغراقهم وتصييرهم آخراً إلى النار ، وظهور بني إسرائيل عليهم ، وتوريثهم أماكن ملكهم ، ففي هذا كله بشارة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولمن آمن به . أن الكفار مآلهم في الدنيا إلى الاسئصال ، وفي الآخرة إلى النار ، كما جرى لآل فرعون ، أهلكوا في الدنياد وصاروا إلى النار .
واختلفوا في إعراب : كدأب ، فقيل : هو خبر مبتدأ محذوف ، فهو في موضع رفع ، التقدير : دأبهم كدأب ، وبه بدأ الزمشخري وابن عطية .
وقيل : هو في موضع نصب بوقود ، أي : توقد النار بهم ، كما توقد بآل فرعون . كما تقول : إنك لتثلم الناس كدأب أبيك ، تريد : كظلم أبيك ، قاله الزمخشري .
وقيل : يفعل مقدّر من لفظ الوقود ، ويكون التشبيه في نفس الإحتراق ، قاله ابن عطية . وقيل : من معناه أي عذبوا تعذيباً كدأب آل فرعون . ويدل عليه وقود النار .
وقيل : بلن تغني ، أي : لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، قاله الزمخشري . وهو ضعيف ، للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي : ) أُولَائِكَ هُمُ وَقُودُ النَّارِ ( على أي التقديرين اللذين قدرناهما ، فيها من أن تكون معطوفة على خبر إن ، أو على الجملة المؤكدة بإن ، فان قدرتها اعتراضية ، وهو بعيد ، جاز ما قاله الزمخشري .
وقيل : بفعل منصوب من معنى : لن تغني ، أي بطل انتفاعهم بالأموال والأولاد بطلاناً كعادة آل فرعون .
وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : كفراً كدأب والعامل فيه : كفروا ، قاله الفراء وهو خطأ ، لأنه إذا كان معمولاً للصلة كان من الصلة ، ولا يجوز أن يخبر عن الموصول حتى يستوفي صلته ومتعلقاتها ، وهنا قد أخبر ، فلا تجوز أن يكون معمولاً لما في الصلة .
وقيل : بفعل محذوف يدل عليه : كفروا ، التقدير : كفروا كفراً كعادة آل فرعون .
وقيل : العامل في الكاف كذبوا بآياتنا ، والضمير في : كذبوا ، على هذا لكفار مكة وغيرهم من معاصري رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي : كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعون .
وقيل : يتعلق بقوله : ) فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ( أي : أخذهم أخذاً كما أخذ آل فرعون ، وهذا ضعيف ، لأن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها .
وحكى بعض أصحابنا عن الكوفيين أنهم أجازوا : زيداً قمت فضربت ، فعلى هذا يجوز هذا القول .
فهذه عشرة أقوال في العامل في الكاف .
قال ابن عطية : والدأب ، بسكون الهمزة وفتحها ، مصدر دأب يدأب ، إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهداً فيه ، ويقال للعادة : دأب . وقال أبو حاتم : وسمعت يعقوب يذكر : كدأب ، بفتح الهمزة ، وقال لي : وأنا غُلَيْمٌ على أي شيء يجوز كدأب ؟ فقلت له : أظنه من : دئب يدأب دأباً ، فقبل ذلك مني ، وتعجب من جودة تقديري على صغري ، ولا أدري : أيقال أم لا ؟ قال النحاس : لا يقال دئب ألبتة ، وإنما يقال : دأب يدأب دؤباً هكذا حكى النحويون ، منهم الفرّاء ، حكاه في كتاب ( المصادر ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وآل فرعون : أشياعه وأتباعه . .
( وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( هم كفار الأمم السالفة ، كقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وغيرهم . فالضمير على هذا عائد على آل فرعون ، ويحتمل أن يعود الضمير على الذين كفروا وهم معاصر ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وموضع : والذين ، جر عطفاً على : آل فرعون .
( كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( بهذه الجملة تفسير للدأب ، كأنه قيل : ما فعلوا ؟ وما فعلوا بهم ؟ فقيل : كذبوا بآياتنا ، فهي كأنها جواب سؤال مقدّر ، وجوّزوا أن تكون في موضع الحال ، أي : مكذبين ، وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : ) كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ ( ثم ابتدأ فقال : ) وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ ( فيكون : الذين ، مبتدأ ، و : كذبوا خبره وفي قوله : بآياتنا ، التنفات ، إذ قبله من الله ، فهو اسم غيبة ، فانتقل منه إلى التكلم .
و : الآيات ، يحتمل أن تكون المتلوة في كتب الله ، ويحتمل أن تكون العلامات الدالة على توحيد الله وصدق أنبيائه

" صفحة رقم 407 "
) فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ( رجع من التكلم إلى الغيبة ، ومعنى الأخذ بالذنب : العقاب عليه ، والباء في : بذنوبهم ، للسبب .
( وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( تقدّم تفسير مثل هذا ، وفيه إشارة إلى سطوة الله على من كفر بآياته وكذب بها .
قيل : وتضمنت هذه الآيات من ضروب الفصاحة .
حسن الإبهام ، وهو فيما افتتحت به ، لينبه الفكر إلى النظر فيما بعده من الكلام .
ومجاز التشبيه في مواضع منها ) نُزّلَتْ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( وحقيقة النزول طرح جرم من علوٍ إلى أسفل ، والقرآن مثمبت في اللوح الحفوظ ، فلما أثبت في القلب صار بمنزلة جرم ألقي من علو إلى أسفل فشبه به ، وأطلق عليه لفظ الإنزال وفي قوله : ) لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ( القرآن مصدّق لما تقدّمه من الكتب ، شبه بالإنسان الذي بين يديه شيء يناله شيئاً فشيئاً وفي قوله : ) وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ الإنجِيلِ مِن قَبْلُ هُدًى النَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ( أقام المصدر فيه مقام اسم الفاعل ، فجعل التوراة كالرجل الذي يوري عنك أمراً ، أي : يستره لما فيها من المعاني الغامضة ، والإنجيل شبه لما فيه من اتساع الترغيب والترهيب والمواعظ والخضوع بالعين النجلاء ، وجعل ذلك هدى لما فيه من الإرشاد ، كالطريق الذي يهديك إلى المكان الذي ترومه ، وشبه الفرقان بالجرم الفارق بين جرمين ، وفي قوله : ) عَذَابٍ شَدِيدٍ ( شبه ما يحصل للنفس من ضيق العذاب وألمه بالمشدود الموثق المضيق عليه ، وفي قوله : ) يُصَوّرُكُمْ ( شبه أمره بقوله : كن أو تعلق إرادته بكونه جاء على غاية من الإحكام والصنع بمصوّر يمثل شيئاً ، فيضم جرماً إلى جرم ، ويصوّر منه صورة وفي قوله : ) مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ( جعل ما اتضح من معاني كتابه ، وظهرت آثار الحكمة عليه محكماً ، وشبه المحكم لما فيه من أصول المعاني التي تتفرّع منها فروع متعدّدة ترجع إليها بالأم التي ترجع إليها ما تفرّع من نسلها ويؤمونها ، وشبه ما خفيت معانيه لاختلاف أنحائه كالفواتح ، والألفاظ المحتملة معاني شتى ، والأيات الدالة على أمر المعاد والحساب بالشيء المشتبه الملبس أمره الذي وجم العقل عن تكييفه ؛ وفي قوله : ) فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ( شبه القلب المائل عن القصد بالشيء الزائغ عن مكانه ، وفي قوله : ) وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ( شبه المعقول من الرحمة عن إرادة الخير ، بالمحسوس من الإجرام من العوض والمعوض في الهبة وفي قوله : ) وَقُودُ النَّارِ ( شبهم بالحطب الذي لا ينتفع به إلاَّ في الوقود . وقال تعالى : ) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( والحصب الحطب بلغة الحبشة ، وفي قوله : ) فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ( شبه إحاطة عذابه بهم بالمأخوذ باليد المتصرف فيه بحكم إرادة الأخذ .
وقيل : هذه كلها استعارات ، ولا تشبيه فيها إلاَّ ) كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ ( فإنه صرح فيه بذكر أداة التشبيه .
والاختصاص في مواضع ، منها في قوله : ) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( إلى ) وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ( على من فسره بالزبور ، واختص الأربعة دون بقية ما أنزل ، لأن أصحاب الكتب إذ ذاك : المؤمنون ، واليهود ، والنصارى ، وفي قوله : ) لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء ( خصمهما لأنهما أكبر مخلوقاته الظاهرة لنا ، ولأنهما محلان للعقلاء ، ولأن منهما أكثر المنافع المختصة بعباده . وفي قوله : ) وَالرسِخُونَ ( اختصهم بخصوصية الرسوخ في العلم بهم ؛ وفي قوله : ) أُوْلُو الاْلْبَابِ ( لأن العقلاء لهم خصوصية التمييز ، والنظر ، والاعتيار . وفي قوله : ) لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا ( اختص القلوب لأن بها صلاح الجسد وفساده ، وليس كذلك بقية الأعضاء ، ولأنها محل الإيمان ومحل العقل على قول من يقول ذلك ، وفي قوله : ) إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ ( وهو جامعهم في الدنيا على وجه الأرض أحياءً وفي بطنها أمواتاً ، لأن في ذلك اليوم الجمع الأكبر ، وهو الحشر ، ولا يكون إلاَّ في ذلك اليوم ، ولا جامع إلاَّ هو تعالى . وفي قوله : ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم ( اختص الكفار لأن المؤمنين تغني عنهم أموالهم التي ينفقونها في وجوه البر ، فهم يجنون ثمرتها في الآخرة ، وتنفعهم أولادهم في الآخرة ، يسقونهم ويكونون لهم حجاباً من النار ، ويشفعون فيهم إذا ماتوا صغاراً ، وينفعونهم بالدعاء الصالح كباراً . وكل هذا ورد به الحديث الصحيح .
وفي قوله : ) كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ ( خصهم بالذكر ، وقدمهم لأنهم أكثر الأمم طغياناً ، وأعظمهم تعنتاً على أنبيائهم ، فكانوا أشد الناس عذاباً .
والحذف في مواضع ، في قوله : ) لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ( أي : من الكتب و ) أَنَزلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( أي : وأنزل الإنجيل ، لأن الإنزالين في زمانين ) هُدًى لّلنَّاسِ ( أي : الدين أراد هداهم : عذاب شديد ، أي يوم القيامة ، . ) ذُو انتِقَامٍ ( أي ممن أراد عقوبته ) فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء ( أي ولا في غيرهما ) الْعَزِيزُ ( أي : في ملكه . ) الْحَكِيمُ ( أي في صنعه ) وَأَخَّرَ ( أي : آيات أُخر ) زَيْغٌ (

" صفحة رقم 408 "
أي عن الحق ) ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ ( أي : لكم ) وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ( أي : على غير الوجه المراد منه ) وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ( أي : على الحقيقة المطلوبة ) رَبَّنَا ( أي يا ربنا ) لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا ( أي : عن الحق ) بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ( أي : إليه ) كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( أي : المنزلة على الرسل ، أو المنصوبات علماً على التوحيد ) بِذُنُوبِهِمْ ( أي السالفة .
والتكرار : نزل عليك الكتاب ، وأنزل التوراة ، وأنزل الفرقان . كرر لاختلاف الإنزال ، وكيفيته ، وزمانه ، بآيات الله ، والله . كرر اسمه تعالى تفخيماً ، لأن في ذكر المظهر من التفخيم ما ليس في المضمر . لا إله إلاَّ هو الحي القيوم ، لا إله إلا هو العزيز . كرر الجملة تنبيهاً على استقرار ذلك في النفوس ، ورداً على من زعم أن معه إلهاً غيره . ابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله . كرر لاختلاف التأويلين ، أو للتفخيم لشأن التأويل . ربنا لا تزغ ، ربنا إنك . كرر الدعاء تنبيهاً على ملازمته ، وتحذيراً من الغفلة عنه لما فيه من إظهار الافتقار .
والتقديم والتأخير ، وذلك في ذكر إنزال الكتب ، لم يجيء الإخبار عن ذلك على حسب الزمان ، إذ التوراة أولاً ، ثم الزبور ، ثم الإنجيل ، ثم القرآن . وقدم القرآن لشرفه ، وعظم ثوابه ونسخه لما تقدم ، وبقائه ، واستمرار حكمه إلى آخر الزمان . وثنى بالتوراة لما فيها من الأحكام الكثيرة ، والقصص ، وخفايا الاستنباط .
ورواها من : أن التوراة حين نزلت كانت سبعين وسقاً ، ثم ثلث بالإنجيل ، لأنه كتاب فيه من المواعظ والحكم ما لا يحصى ، ثم تلاه بالزبور لأن فيه مواعظ وحكما لم تبلغ مبلغ الإنجيل ، وهذا إذا قلنا إن الفرقان هو الزبور ، وفي قوله : ) فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء ( قدم الأرض على السماء وإن كانت السماء أكثر في العوالم ، وأكبر في الأجرام ، وأكبر في الدلائل والآيات ، وأجزل في الفضائل لطهارة سكانها ، بخلاف سكان الأرض ، ليعلمهم ، إطلاعه على خفايا أمورهم ، فاهتم بتقديم محلهم عسى أن يزدجروا عن قبيح أفعالهم ، لأنه إذا أنبه على أن الله لا يخفى عليه شيء من أمره ، استحيا منه .
والالتفات ) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ ( ثم قال ) إِنَّ اللَّهَ ( وفي قوله : ) كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( ثم قال ) وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ).
والتأكيد : ) وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ( فاكد بلفظة : هم ، وأكد بقوله : ) هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ ( قوله ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( وأكد بقوله ) هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( قوله ) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ).
والتوسع بإقامة المصدر مقام اسم الفاعل في قوله : هدى ، والفرقان ، أي : هادياً ، والفارق . وبإقامة الحرف مقام الظرف في قوله : من الله ، أي : عند الله ، على قول من أوَّل : من ، بمعنى : عند .
والتجنيس المغاير في قوله : وهب ، والوهاب .
2 ( ) قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لاوْلِى الاٌّ بْصَارِ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ ( ) ) 2
العبرة : الاتعاظ يقال : منه اعتبر ، وهو الاستدلال بشيء على شيء يشبهه ، واشتقاقها من العبور ، وهو مجاوزة الشيء إلى الشيء ، ومنه : عبر النهر ، وهو شطه ، والمعبر : السفينة ، والعبارة يعبر بها إلى المخاطب بالمعاني ، وعبرت الرؤيا مخففاً ومثقلاً : نقلت ما

" صفحة رقم 409 "
عندك من علمها إلى الرائي أو غيره ممن يجهل : وكان الاعتبار انتقالاً عن منزلة الجهل إلى منزلة العلم ، ومنه ، العَبرة ، وهي الدمع ، لأنها تجاوز العين .
الشهوة : ما تدعو النفس إليه ، والفعل منه : اشتهى ، ويجمع بالألف والتاء فيقال : شهوات ، ووجدت أنا في شعر العرب جمعها على : شُهى ، نحو : نزوة ونزى ، و : كوة وكوى ، على قول من زعم أن : كوى ، جمع كوة بفتح الكاف ، وهذا مع : قرية وقرى ، ذكره النحويون مما جاء على وزن فعلة معتل اللام ، وجمع على فعل ، واستدركت أنا : شهى ، وقالت امرأة من بني نضر بن معاوية : فلولا الشُّهى والله كنت جديرة
بأن أترك اللذات في كل مشهد
القنطار : فنعال نونه زائدة ، قاله ابن دريد ، فيكون وزنه : فنعالاً من : قطر يقطر وقيل : أصل ووزن فعلال ، وفيه خلاف : أهو واقع على عدد مخصوص ؟ أم هو وزن لا يحد ولا يحصر ؟ والقائلون بأنه عدد مخصوص اختلفوا في ذلك العدد ، ويأتي ذلك في التفسير ، إن شاء الله تعالى .
ويقال منه : قنطر الرجل إذا كان عنده قناطير ، أو قنطار من المال وقال الزجاج : هو مأخوذ من : قنطرت الشيء ، عقدته وأحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها وقيل : قنطرته : عبيته شيئاً على شيء ، ومنه سمي القنطرة . فشبه المال الكثير الذي يعبى بعضه على بعض بالقنطرة .
الذهب : معروف ، وهو مؤنث يجمع على ذهاب وذهوب . وقيل : الذهب جمع ذهبية .
والفضة : معروفة ، وجمعها قضض ، فالذهب مشتق من الذهاب ، والفضة من انفض الشيء : تفرق ، ومنه : فضضت القوم .
الخيل : جمع لا واحد له من لفظه ، بل واحدة : فرس . وقيل : واحده خايل ، كراكب وركب ، قاله أبو عبيدة . سميت بذلك لاختيالها في مشيها . وقيل : اشتقاقه من التخيل ، لأنه يتخيل في صورة من هو أعظم منه . وقيل : الاختيال مأخوذ من التخيل .
النعم : الإبل فقط ، قال الفراء : وهو مذكر ولا يؤنث ، يقولون هذا نعم وارد . وقال الهروي : النعم ، يذكر ويؤنث ، وإذا جمع انطلق على الإبل والبقر والغنم . وقال ابن قتيبة : الأنعام : الإبل والبقر والغنم ، واحدها نعم ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، وسميت بذلك لنعومة مسها وهو لينها ، ومنه : الناعم ، والنعامة ، والنعامي الجنوب ، سميت بذلك للين هبوبها .
المآب : مفعل من آب يؤوب إياباً . أي : رجع ، يكون للمصدر والمكان والزمان .
آل عمران : ( 12 ) قل للذين كفروا . . . . .
( قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( سبب نزولها أن يهود بني قينقاع قالوا بعد وقعة بدر ، إن قريشاً كانوا أغماراً ، ولو حاربتنا لرأيت رجالاً . وقيل : نزلت في قريش قبل بدر بسنتين ، فحقق الله تعالى ذلك وقيل : لما غلب قريشاً ببدر ، قالت اليهود : هو النبي المبعوث الذي في كتابنا ، لا تهزم له راية . فقالت لهم شياطينهم : لا تعجلوا حتى

" صفحة رقم 410 "
نرى أمره في وقعة أخرى . فلما كانت أحد كفروا جميعهم ، وقالوا : ليس بالنبي المنصور .
وقيل : في أبي سفيان وقومه ، جمعوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعد بدر ، فنزلت . ولما أخبر تعالى قيل : ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم وَإِنَّهُمْ وَقُودُ النَّارِ ( ناسب ذلك الوعد الصادق اتباعه هذا الوعد الصادق ، وهو كالتوكيد لما قبله ، فالغلبة تحصل بعدم انتفاعهم بالأموال والأولاد ، والحشر لجهنم مبدأ كونهم يكونون لها وقوداً .
وقرأ حمزة ، والكسائي : سيغلبون ويحشرون ، بالياء على الغيبة وقرأ باقي السبعة : بالتاء ، خطاباً ، فتكون الجملة معمولاً للقول . ومن قرأ بالياء فالظاهر أن الضمير : للذين كفروا ، وتكون الجملة إذ ذاك ليست محكية بقل ، بل محكية بقول آخر ، التقدير : قل لهم قولي سيغلبون ، وإخباري أنه يقع عليهم الغلبة والهزيمة . كما قال تعالى : ) قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيغلبون ، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيغلبون ، وأجاز بعضهم ، وهو : الفراء ، وأحمد بن يحيى ، وأورده ابن عطية ، إحتمالاً أن يعود الضمير في : سيغلبون ، في قراءة التاء على قريش ، أي : قل لليهود ستغلب قريش ، وفيه بُعْدٌ .
والظاهر أن : الذين كفروا ، يعم الفريقين المشركين واليهود ، وكل قد غلب بالسيف ، والجزية ، والذلة ، وظهور الدلائل والحجج ، وإلى معناها الغاية ، وإن جهنم منتهى حشرهم ، وأبعد من ذهب إلى أن : إلى ، في معنى : في ، فيكون المعنى : إنهم يجمعون في جهنم وبئس المهاد ، يحتمل أن يكون من جملة المقول ، ويحتمل أن يكون استئناف كلام منه تعالى ، قاله الراغب ؛ والمخصوص بالذم محذوف لدلالة ما قبله عليه ، التقدير : وبئس المهاد جهنم . وكثيراً ما يحذف لفهم المعني ، وهذا مما يستدل به لمذهب سيبويه : أنه مبتدأ والجملة التي قبله في موضع الخبر ، إذ لو كان خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر للزم من ذلك حذف الجملة برأسها من غير أن يبقى ما يدل عليها ، وذلك لا يجوز ، لأن حذف المفرد أسهل من حذف الجملة . وأمّا من جعل : المهاد ، ما مهدوا لأنفسهم ، أي : بئسما مهدوا لأنفسهم ، وكان المعنى عنده ، و : بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم ، ففيه بُعْدٌ ،
آل عمران : ( 13 ) قد كان لكم . . . . .
ويروى عن مجاهد .
( قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ( قال في ( ري الظمآن ) : أجمع المفسرون على أنهها وقعة بدر ، والخطاب للمؤمنين ، قاله ابن مسعود ، والحسن . فعلى هذا معنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما أمر أن يقول للكفار ما قال ، أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال : من قال يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ونحن لا نأمن على النساء في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم ، حين أخبره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : فأين دعار طيء الذين سعروا البلاد ؟ الحديث بكماله .
وقيل : الخطاب للكافرين ، وهو ظاهر ، ولا سيما على قراءة من قرأ : ستغلبون ، بالتاء . ويخرج ذلك من قول ابن عباس ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم ، وإعلاماً بأن الله سينصر دينه . وقد أراكم في ذلك مثالاً بما جرى لمشركي قريش من الخذلان والقتل والأسر .
وقيل : الخطاب لليهود ، قاله الفراء ، وابن الأنباري وابن جرير ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم ، كأنه قيل : لا تغتروا بدربتكم في الحرب ، ومنعة حصونكم ، ومجالبتكم لمشركي قريش ، فإن الله غالبكم ، وقد علمتم ما حل بأهل بدر ، ولم يلحق التاء . كان ، وإن كان قد أسند إلى مؤنث ، وهو الآية ، لأجل أنه تأنيث مجازي . وازداد حسناً بالفصل ، وإذا كان الفصل حسناً في المؤنث الحقيقي ، فهو أولى في المؤنث المجازي ، ومن كلامهم : حضر القاضي امرأة وقال : إن امرأ غره منكن واحدة
بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور

" صفحة رقم 411 "
وقيل : ذكر لأن معنى الآية البيان ، فهو كما قال : برهرهة رودة رخصة
كخرعوبة البانة المنفطر
ذهب إلى القضيب ، وفي قوله ) فِي فِئَتَيْنِ ( محذوف تقديره في : قصة فئتين ، ومعنى : التقتا ، أي للحرب والقتال .
( فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ( أي : فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله ، وفئة أخرى تقاتل في سبيل الشيطان ، فحذف من الأولى ما أثبتت مقابله في الثانية ، ومن الثانية ما أثبت نظيره في الأولى ، فذكر في الأولى لازم الإيمان ، وهو القتال في سبيل الله . وذكر في الثانية ملزوم القتال في سبيل الشيطان ، وهو الكفر .
والجمهورُ برفع : فئة ، على القطع ، التقدير : إحداهما ، فيكون : فئة ، على هذا خبر مبتدأ محذوف ، أو التقدير : منهما ، فيكون مبتدأ محذوف الخبر .
وقيل : الرفع على البدل من الضمير في التقتا .
وقرأ مجاهد ، والحسن ، والزهري وحميد : فئةٍ ، بالجر على البدل التفصيلي ، وهو بدل كل من كل ، كما قال : وكنت كذي رجلينٍ رجل صحيحة
ورجل رمي فيها الزمان فشُلَّتِ
ومنهم من رفع : كافرة ، ومنهم من خفضها على العطف ، فعلى هذه القراءة تكون : فئة ، الأولى بدل بعض من كل ، فيحتاج إلى تقدير ضمير أي : فئة منهما تقاتل في سبيل الله ، وترتفع أخرى على وجهي القطع إما على الإبتداء وإما على الخبر .
وقرأ ابن السميفع ، وابن أبي عبلة : فئة ، بالنصب . قالوا : على المدح ، وتمام هذا القول : إنه انتصب الأول على المدح ، والثاني على الذم ، كأنه قيل : أمدح فئة تقاتل في سبيل الله ، وأذم أخرى كافرة .
وقال الزمخشري : النصب في : فئة ، على الاختصاص وليس بجيد ، لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً ، وأجاز هو ، وغيره قبله كالزجاج : أن ينتصب على الحال من الضمير في : التقتا ، وذكر : فئة ، على سبيل التوطئة .
وقرأ الجمهور : تقاتل ، بالتاء على تأنيث الفئة ، وقرأ مجاهد ، ومقاتل : يقاتل بالياء على التذكير ، قالوا : لأن معنى الفئة القوم فرد إليه ، وجرى على لفظه .
( يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ ( قرأ نافع ، ويعقوب ، وسهل ، ترونهم ، بالتاء على الخطاب وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة وقرأ ابن عباس ، وطلحة : ترونهم بضم التاء على الخطاب وقرأ السلمي بضم الياء على الغيبة ، فأما من قرأ بالتاء المفتوحة فهو جار على ما قبله من الخطاب ، فيكون الضمير في : لكم ، للمؤمنين ، والضمير المرفوع في : ترونهم ، للمؤمنين أيضاً . وضمير النصب في : ترونهم ، وضمير الجر في : مثليهم ، عائد على الكافرين ، والتقدير : ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي أنفسهم في العدد ، فيكون ذلك أبلغ في الآية ، أنهم رأوا الكفار في مثلي عددهم ، ومع ذلك نصرهم الله عليهم ، وأوقع المسلمون بهم . وهذه حقيقة التأييد بالنصر ، كقوله تعالى ) كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ( واستبعد هذا المعنى لأنهم جعلوا هذه الآية ، وآية الأنفال ، قصة واحدة ، وهناك نص على أنه تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين ، فلا يجامع هذا التكثير في هذه الآية على هذا التأويل ، ويحتمل على من قرأ بتاء الخطاب أن يكون الخطاب للمؤمنين ، والضمير المنصوب في : ترونهم للكافرين والمجرور للمؤمنين . والتقدير : ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي المؤمنين ، واستبعد هذا إذ كان التركيب يقتضي أن يكون : ترونهم مثليكم .
وأجيب بأنه من الالتفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ، كقوله تعالى : ) حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ ( ويحتمل أن يعود الضمير في : مثليهم ، على الفئة المقاتلة في سبيل الله ، أي : ترون أيها المؤمنون الفئة الكافرة مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله وهم أنفسهم . والمعنى : ترونهم مثليكم ، وهذا تقليل ، إذا كانوا نيفاً على ألف ، والمسلمون في تقدير ثلث .

" صفحة رقم 412 "
منهم ، فأرى الله المسلمين الكافرين في ضعفي المسلمين على ما قرر في قوله : ) إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ( لتجترئوا عليهم .
وإذن كان الضمير في : لكم ، للكافرين وفي : ترونهم ، الخطاب لهم ، والمنصوب والمجرور للمؤمنين . والتقدير : ترون أيها الكافرون المؤمنين مثلي أنفسهم .
ويحتمل أن يكون الضمير المجرور عائداً على الفئة الكافرة ، أي : مثلي الفئة الكافرة وهم أنفسهم ، فيكون الله تعالى قد أرى المشركين المؤمنين أضعاف أنفس المؤمنين ، أو أضعاف الكافرين على قلة المؤمنين ليهابوهم ويجبنوا عنهم ، وكانت تلك الرؤية مدداً من الله للمؤمنين ، كما أمدهم تعالى بالملائكة ، فإن كانت هذه ، وآية الأنفال في قصة واحدة ، فالجمع بين هذا التكثير وذاك التقليل باعتبار حالين ، قللوا أولاً في أعين الكفار حتى يجترئوا على ملاقاة المؤمنين ، وكثروا حالة الملاقاة حتى قهروا وغلبوا ، كقوله : ) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ( ) فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ( وأما من قرأ بالياء المفتوحة . فالظاهر أن الجملة صفة لقوله : وأخرى كافرة ، وضمير الرفع عائد عليها على المعنى ، إذ لو عاد على اللفظ لكان : تراهم ، وضمير النصب عائد على : فئة تقاتل في سبيل الله ، وضمير الجرّ في : مثليهم ، عائد على فئة أيضاً ، وذلك على معنى الفئة ، إذ لو عاد على اللفظ لكان التركيب : تراها مثليها ، أي ترى الفئةُ الكافرُة الفئةَ المؤمنةَ في مثلي عدد نفسها . أي : ستمائة ونيف وعشرين ، أو مثلي أنفس الفئة الكافرة ، أي ألفين ، أو قريباً من ألفين .
ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الفئة المؤمنة على المعنى ، والضمير المنصوب والمجرور عائداً على الفئة الكافرة على المعنى ، أي : ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي نفسها .
ويحتمل أن يعود الضمير المجرور على الفئة الكافرة ، أي : مثلي الفئة الكافرة . والجملة إذ ذاك صفة لقوله : وأخرى كافرة ، ففي الوجه الأول الرابط الواو ، وفي هذا الوجه الرابط ضمير النصب . وإذا كان الضمير في : لكم ، لليهود ؛ فالآية كما أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم ، وتثبيتاً لصورة الوعد السابق من أن الكفار : سيغلبون .
فمن قرأ بالتاء كان معناه : لو حضرتم ، أو إن كنتم حضرتم ، وساغ هذا الخطاب لوضوح الأمر في نفسه ، ووقوع اليقين به ، لكل إنسان في ذلك العصر ، ومن قرأ بالياء فضمير الفاعل يحتمل أن يكون للفئة المؤمنة ، ويحتمل أن يكون للفئة الكافرة على ما تقرر قبل .
والرؤية في هاتين القراءتين بصرية تتعدّى لواحد ، وانتصب : مثليهم ، على الحال . قاله أبو علي ، ومكي ، والمهدوي . ويقوي ذلك ظاهر قوله : رأي العين ، وانتصابه على هذا انتصاب المصدر المؤكد .
قال الزمخشري : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات . وقيل : الرؤية هنا من رؤية القلب ، فيتعدى لإثنين ، والثاني هو : مثليهم . ورد هذا بوجهين : أحدهما : قوله تعالى : رأي العين ، والثاني : أن رؤية القلب علم ، ومحال أن يعلم الشيء شيئين .
وأجيب عن الأول : بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي ، أي : رأياً مثل رأي العين أي يشبه رأي العين وليس في التحقيق به . وعن الثاني : بأن معنى الرؤية هنا الإعتقاد ، فلا يكون ذلك محالاً . وإذا كانوا قد أطلقوا العلم في اللغة على الإعتقاد دون اليقين ، فلأن يطلقوا الرأي عليه أولى . قال تعالى : ) فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ ( أي فإن اعتقدتم إيمانهن ، ويدل على هذا قراءة من قرأ : ترونهم ، بضم التاء ، أو الباء . قالوا : فكأن المعنى أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار أو المؤمنين كان تخميناً وظناً ، لا يقيناً . فلذلك ترك في العبارة ضرب من الشك ، وذلك أن : أُري ، بضم الهمزة تقولها فيما عندك فيه نظر ، وإذا كان كذلك ، فكما استحال أن يحمل الرأي هنا على العلم ، يستحيل أن يحمل على النظر بالعين ، لأنه كما لا يقع : العلم غير مطابق للمعلوم ، كذلك لا يقع : النظر البصري مخالفاً للمنظور إليه ، فالظاهر أن ذلك إنما هو على سبيل التخمين والظن ، وإنه لتمكن ذلك في اعتقادهم .
شبه برؤية العين ، والرأي مصدر : رأى ، يقال : رأى رأياً ورؤية ورؤيا ، ويغلب رؤيا في المنام ورؤية في البصرية يقظة ، ورأيا في الإعتقاد ، يقال : هذا رأي فلان ، قال

" صفحة رقم 413 "
رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه
خوارج تراكين قصد المخارج
ومعنى : مثليهم ، قدرهم مرتين . وزعم الفراء أن معنى : يرونهم مثليهم ، ثلاثة أمثالهم كقول القائل : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها . وغلطه الزجاج . وقال : إنما مثل الشيء مساو له . ومثلاه مساويه مرتين .
وقال ابن كيسان : أوقع الفراء في هذا التأويل أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المسلمين يوم بدر ، فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلاّ على عدتهم ، وهذا بعيد ، وليس المعنى عليه ، وإنما المعنى أراهم الله على غير عدتهم بجهتين : إحداهما : أنه رأى الصلاح في ذلك ، لأن المؤمنين يقوي قلوبهم بذلك . والأخرى : أنه آية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . انتهى كلام ابن كيسان .
وتظاهرت الروايات أن جميع الكفار ببدر كانوا نحو الألف أو تسعمائة ، والمؤمنين ثلثمائة وأربعة عشر . وقيل : وثلاثة عشرة ، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، ورجع طالب بن أبي طالب وأتباع ، وناس كثير حتى بقي للقتال من بقرب من الثلثين ، فذكر الله المثلين ، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه أحد . وحكي عن ابن عباس : أن المشركين كانوا في قتال بدر ستمائة وستة وعشرين ، وقد ذهب الزجاج وغيره إلى أنهم كانوا نحو الألف .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( يوم بدر القوم ألف ) . وقال ابن عباس : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً . وقال في رواية : لقد قللوا في أعيننا حتى لقد قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . فأسرنا منهم رجلاً فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفاً . ونقل أن المشركين لما أسروا ، قالوا للمسلمين : كم كنتم ؟ قالوا : كنا ثلاثمائة وثلاثة عشرة ، قالوا : ما كنا نراكم إلاّ تضعفون علينا وتكثير كل طائفة في عين الأخرى ، وتقليلها بالنسبة إلى وقتين جائز ، فلا يمتنع .
( وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء ( أي : يقويه بعونه . وقيل : النصر الحجة . ونسبة التأييد إليه يدل على أن المؤيد هم المؤمنون ، ومفعول : من يشاء ، محذوف أي : من يشاء نصره .
( إِنَّ فِى ذَلِكَ ( أي : النصر . وقيل : رؤية الجيش مثليهم ) لَعِبْرَةً ( أي اتعاظاً ودلالة . ) لاِوْلِى الاْبْصَارِ ( إن كانت الرؤية بصرية ، فالمعنى : للذين أبصروا الجمعين ، وإن كانت اعتقادية ، فالمعنى : لذوي العقول السليمة القابلة للاعتبار .
آل عمران : ( 14 ) زين للناس حب . . . . .
( زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ ( قرأ الجمهور : زين مبنياً للمفعول ، والفاعل محذوف ، فقيل : هو الله تعالى ، قاله عمر ، لأنه قال حين نزلت : الآن يا رب حين زينتها ، فنزلت ) قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ ( الآية ، ومعنى التزيين : خلقها وإنشاء الجبلة على الميل إليه ، وهذا كقوله : ) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ ( فزينها تعالى للابتلاء ، ويدل عليه قراءة : زين للناس حب ، مبنياً للفاعل ، وهو الضمير العائد على الله في قوله : ) وَاللَّهُ يُؤَيّدُ ).
وقيل : المزين الشيطان ، وهو ظاهر قول الحسن ، قال : من زينها : ما أحد أشد ذماً لها من خالقها ويصح إسناد التزيين إلى الله تعال بالإيجاد والتهيئة للانتفاع ، ونسبته إلى الشيطان بالوسوسة ، وتحصيلها من غير وجهها . وأشارت الآية إلى توبيخ معاصري رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من اليهود وغيرهم ، المفتونين بالدنيا ، وأضاف المصدر إلى المفعول ، وهو الكثير في القرآن ، وعبر عن المشتهيات : بالشهوات ، مبالغة . إذ جعلها نفس الأعيان ، وتنبيهاً على خستها ، لأن الشهوة مسترذلة عند العقلاء ، يذم متبعها ويشهد له بالانتظام في البهائم ، وناهيك لها ذماً قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره ) وأتى بذكر الشهوات أولاً مجموعة على

" صفحة رقم 414 "
سبيل الإجمال ، ثم أخذ في تفسيرها شهوة شهوة ليدل على أن المزين ما هو إلاّ شهوة دنيوية لا غير ، فيكون في ذلك تنفير عنها ، وذم لطالبها وللذي يختارها على ما عند الله ، وبدأ في تفصيلها بالأهم فالأهم ، بدأ بالنساء لأنهنّ حبائل الشيطان وأقرب وأكثر امتزاجاً : ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكنّ ) . ويقال ؛ فيهنّ فتنتان : قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام ، وفي البنين فتنة واحدة وهي جمع المال .
وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء ، وفروع عنهنّ ، وشقائق النساء في الفتن ، الولد مبخلة مجبنة : وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم
لامتنعت عيني من الغمض
وقدّموا على الأموال لأن حب الإنسان ولده أكثر من حبه ماله ، وحيث ذكر الامتنان والإنعام أو الاستعانة والغلبة . قدمت الأموال على الأولاد .
وظاهر قوله : والبنين ، الذكران . وقيل يشمل : الإناث ، وغلب التذكير .
( وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ ( ثلث بالأموال لما في المال من الفتنة ، ولأنه يحصل به غالب الشهوات ، ولأن المرء يرتكب الأخطار في تحصيله للولد .
واختلف في : القنطار ، أهو عدد مخصوص ، أم ليس كذلك ؟ فقيل : ألف ومائتا أوقية ، وقيل : اثنا عشر ألف أوقية ، وقيل : ألف ومائتا دينار . وكل هذه رويت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : الأول : رواه أبيّ ، وقال به معاذ ، وابن عمر ، وعاصم بن أبي النجود ، والحسن في رواية . والثاني : رواه أبو هريرة وقال به . والثالث : رواه الحسن ، ورواه العوفي عن ابن عباس .
وقيل : اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار ذهباً ، وروي عن ابن عباس ، وعن الحسن ، والضحاك .
وقال ابن المسيب : ثمانون ألفاً . وقال مجاهد ، وروي عن ابن عمر : سبعون ألف دينار . وقال السدي : ثمانية آلاف مثقال ، وهي مائة رطل . وقال الكلبي : ألف مثقال ذهب أو فضة . وقال قتادة : مائة رطل من الذهب ، أو ثمانون ألف درهم من الفضة . وقال سعيد بن جبير ، وعكرمة : مائة ألف ، ومائة منّ ، ومائة رطل ، ومائة مثقال ، ومائة درهم . ولقد جاء الإسلام يوم جاء ، وبمكة مائة رجل قد قنطروا . وقيل : أربعون أوقية من ذهب أو فضة ، ذكره مكي ، وقاله ابن سيده في ( المحكم ) . وقيل : ثمانية آلاف مثقال ، وهي مائة رطل . وقال ابن سيده في ( المحكم ) القنطار : بلغة بربر : ألف مثقال . وروى أنس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في تفسير : ) وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ ( قال : ألف دينار . وحكى الزجاج أنه قيل : إن القنطار هو رطل ذهباً أو فضة . قال ابن عطية ، وأظنه وهماً ، وإن القول مائة رطل ، فسقطت مائة للناقل . انتهى . وقال أبو حمزة الثمالي : القنطار بلسان أفريقية والأندلس : ثمانية آلاف مثقال وهذا يكون في الزمان الأول .
وأما الآن فهو عندنا : مائة

" صفحة رقم 415 "
رطل ، والرطل عندنا ، ستة عشر أوقية . وقال أبو بصرة ، وأبو عبيدة : ملء مسك ثور ذهباً . قال ابن سيده : وكذا هو بالسريانية . وقال ابن الكلبي : وكذا هو بلغة الروم . وقال الربيع بن أنس : المال الكثير بعضه على بعض . وقال ابن كيسان : المال العظيم . وقال أبو عبيدة : القنطار عند العرب وزن لا يحد ، وقال الحكم : القنطار ما بين السماء والأرض من مال . وقال ابن عطية : القنطار معيار يوزن به ، كما أن الرطل معيار .
ويقال : لما بلغ ذلك الوزن قنطاراً . أي يعدل القنطار ، وأصح الأقوال الأول ، والقنطار يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية . انتهى .
والمقنطرة : مفعللة ، أو مفيعلة من القنطار . ومعناه المجتمعة ، كما يقول : الألوف المؤلفة ، والبدرة المبدرة . اشتقوا منها وصفاً للتوكيد . وقيل : المقنطرة المضعفة ، قاله قتادة والطبري .
وقيل : المقنطرة تسعة قناطير ، لأنه جمع جمع ، قاله النقاش . وهذا غير صحيح . وقال ابن كيسان : لا تكون المقنطرة أقل من تسعة . وقال الفراء : لا تكون أكثر من تسعة ، وهذا كله تحكم . وقال السدي : المقنطرة المضروبة دنانير ، أو دراهم . وقال الربيع والضحاك المنضد : الذي بعضه فوق بعض ، وقيل : المخزونة المدخورة . وقال يمان : المدفونة المكنوزة . وقيل : الحاضرة العتيدة ، قاله ابن عطية . .
وقال مروان بن الحكم ، ما المال إلاَّ ما حازته العيان ) مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ( تبيين للقناطير ، وهو في موضع الحال منها ، أي كائناً من الذهب ) وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ( أي : الراعية في المروج ، سامت سرحت وأخذت سومها من الرعي : أي غاية جهدها ، ولم تقصر على حال دون حال ، فيكون قد عدى الفعل بالتضعيف ، كما عدى بالهمزة في قولهم : أسمتها ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، ومجاهد ، والربيع . وروي عن مجاهد : أنها المطهمة الحسان . وقال السدي : هي الرائقة من سيما الحسن . وقال عكرمة : سومها الحسن ، واختاره النحاس .
من قولهم : رجل وسيم ، ولا يكون ذلك لاختلاف المادتين ، إلاَّ إن ادعى القلب . وقال أبو عبيدة ، والكسائي : المعلمة بالشيات وروي عن ابن عباس ، وهو من السومة ، وهي العلامة قال أبو طالب : أمين محب للعباد مسوّم
بخاتم ربّ طاهر للخواتم
قال أبو زيد : أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى : وقال ابن فارس في ( المجمل ) المسومة : هي المرسل عليها ركبانها . وقال ابن زيد : المعدّة للجهاد . وقال ابن المبرد : المعروفة في البلدان . وقال ابن كيسان : البلق . وقيل : ذوات الأوضاح من الغرة والتحجيل . وقيل : هي الهماليج .
( وَالانْعَامِ وَالْحَرْثِ ( يحتمل أن يكون المعاطيف من قوله : والقناطير ، إلى آخرها . غير ما أتى تبييناً معطوفاً على الشهوات ، أي : وحب القناطير وكذا وكذا . ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله : من النساء ، فيكون مندرجاً في الشهودات . ولم يجمع الحرث لأنه مصدر في الأصل . وقيل : يراد به المفعول ، وتقدّم الكلام فيه عند قوله ) وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ ).
) ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( أشار : بذلك ، وهو مفرد إلى الأشياء السابقة وهي كثيرة ، لأنه أراد ذلك المذكور ، أو المتقدم ذكره . والمعنى : تحقير أمر الدنيا ، والإشارة إلى فنائها وفناء ما يستمتع به فيها ، وأدغم أبو عمر وفي الإدغام الكبير ثاء : والحرث ، في : ذال : ذلك ، واستضعف لصحة الساكن قبل الثاء .
( وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ ( أي : المرجع ، وهو إشارة إلى نعيم الآخرة الذي لا يفني ولا ينقطع .
ومن غريب ما استنبط من الأحكام في هذه الآية أن فيها دلالة على إيجاب الصدقة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة ، فالنساء والبنون فيهم النفقة ، وباقيها فيها الصدقة ، قاله الماتريدي .
وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة والبلاغة : الخطاب العام : ويراد به الخاص في قوله : ) لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ( على قول عامّة المفسرين هم اليهود ، وهذا من تلوين الخطاب . والتجنيس المغاير : في ) تَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ ( والاحتراس : في

" صفحة رقم 416 "
) رَأْىَ الْعَيْنِ ( قالوا لئلا يعتقد أنه من رؤية القلب ، فهو من باب الحزر وغلبة الظن . والإبهام : في ) زُيّنَ لِلنَّاسِ ). والتجنيس المماثل : في ) وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ ). والحذف : في مواضع ، وهي كل موضع يضطر فيه إلى تصحيح المعنى بتقدير محذوف .
2 ( ) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَاالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاٌّ سْحَارِ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ) ) 2
آل عمران : ( 15 ) قل أؤنبئكم بخير . . . . .
الرضوان : مصدر رضي ، وكسر رائه لغة الحجاز ، وضمها لغة تميم وبكر ، وقيس ، وغيلان . وقيل : الكسر للأسم ، ومنه : رِضوان خازن الجنة ، والضم للمصدر .
السحر : بفتح الحاء وسكونها ، قال قوم منهم الزجاج : الوقت قبل طلوع الفجر ، ومنه يقال : تسحر أكل في ذلك الوقت ، واستحر : سار فيه قال . بكرن بكوراً واستحرت بسحرة
فهنّ لوادي الرس كاليد للفم
واستحر الطائر صالح وتحرك فيه قال : يعل به برد أنيابها
اذا غرّد الطائر المستحر
وأسحر الرجل واسثحر دخل في السحر قال : وأدلج من طيبة مسرعا
فجاء إلينا وقد أسحرا
وقال بعض اللغويين السحر : من ثلث الليل الآخر إلى الفجر ، وجاء في بعض الأشعار عن العرب أن السحر يستمر حكمه فيما بعد الفجر . وقيل : السحر عند العرب بكون من آخر الليل ثم يستمر إلى الإسفار . وأصل السحر الخفاء للطفة ، ومنه السحر والسحر .
( قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ ( نزلت حين قال عمر عندما نزل : ) زُيّنَ لِلنَّاسِ ( يا رب الآن حين زينتها . ولما ذكر تعالى أن ) عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ ( ذكر المآب وأنه خير من متاع الدنيا ، لأنه خير خال من شوب المضار ، وباق لا ينقطع . والهمزة في : أؤنبئكم ، الأولى همزة الاستفهام دخلت على همزة المضارعة وقرىء في السبعة بتحقيق الهمزتين من غير ادخال ألف بينهما ، وبتحقيقهما ، وادخال ألف بينهما ، وبتسهيل الثانية من غير ألف بينهما . ونقل ورش الحركة إلى اللام ، وحذف الهمزة . وبتسهيلها وإدخال ألف بينهما

" صفحة رقم 417 "
وفي هذه الآية تسلية عن زخارف الدنيا ، وتقوية لنفوس تاركها وتشريف الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، ولما قال : ذلك متاع ، فأفرد ، جاء : بخير من ذلكم ، فأفرد اسم الإشارة ، وإن كان هناك مشاراً به إلى ما تقدّم ذكره ، وهو كثير . فهذا مشار به إلى ما أشير بذلك ، و : خير ، هنا أفعل التفضيل ، ولا يجوز أن يراد به خير من الخيور ، ويكون : من ذلكم ، صفة لما يلزم في ذلك من أن يكون ما رغبوا فيه بعضاً مما هدوا فيه .
( لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( يحتمل أن يكون للذين متعلقاً بقوله : بخير من ذلكم ، و : جنات ، خبر مبتدأ محذوف أي : هو جنات ، فتكون ذلك تبييناً لما أبهم في قوله : بخير من ذلكم ويؤيد ذلك قراءة يعقوب : جنات ، بالجر بدلاً من : بخير ، كما تقول : مررت برجل زيد ، بالرفع و : زيد بالجر ، وجوّز في قراءة يعقوب أن يكون : جنات ، منصوباً على إضمار : أعني ، ومنصوباً على البدل على موضع بخير ، لأنه نصب . ويحتمل أن يكون : للذين ، خبرا لجنات ، على أن تكون مرتفعة على الإبتداء ، ويكون الكلام تم عند قوله : بخير من ذلكم ، ثم بين ذلك الخير لمن هو ، فعلى هذا العامل في : عند ربهم ، العامل في : للذين ، وعلى القول الأول العامل فيه قوله : بخير .
( خَاالِدِينَ فِيهَا وَأَزْواجٌ مُّطَهَّرَةٌ ( تقدّم تفسير هذا وما قبله .
( وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ ( بدأ أولاً بذكر المقر ، وهو الجنات التي قال فيها ) وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( ( فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التامّ من الأزواج المطهرة ، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم ، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني ، حيث علم برضا الله عنه ، كما جاء في الحديث أنه تعالى : ( يسأل أهل الجنة هل رضيم ؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا .
ففي هذه الآية الإنتقال من عال إلى أعلى منه ، ولذلك جاء في سورة براءة ، قد ذكر تعالى الجنات والمساكن الطيبة فقال : ) وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ( يعنى أكبر مما ذكر من ذكر من الجنات والمساكن . وقال الماتريدي : أهل الجنة مطهرون لأن العيوب في الأشياء علم الفناء ، وهم خلقوا للبقاء ، وخص النساء بالطهر لما فيهنّ في الدنيا من فضل المعايب والأذى .
وقال أبو بكر : ورضوان ، بالضم حيث وقع إلاَّ في ثاني العقود ، فعنه خلاف . وباقي السبعة بالكسر ، وقد ذكرنا أنهما لغتان .
( وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( أي بصير بأعمالهم ، مطلع عليها ، فيجازي كلاً بعمله ، فتضمنت الوعد والوعيد .
آل عمران : ( 16 ) الذين يقولون ربنا . . . . .
ولما ذكر المتقين أفهم مقابلهم فختم الآية بهذا .
( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( لما ذكر أن الجنة للمتقين ذكر شيئاً من صفاتهم ، فبدأ بالإيمان الذي هو رأس التقوى ، وذكر دعاءهم ربهم عند الإخبار عن أنفسهم بالإيمان ، وأكد الجملة بأن مبالغة في الإخبار ، ثم سألوا الغفران ووقايتهم من العذاب مرتباً ذلك على مجرد الإيمان ، فدل على أن الإيمان يترتب عليه المغفرة ، ولا يكون الإيمان عبارة عن سائر الطاعات ، كما يذهب إليه بعضهم ، لأن من تاب وأطاع الله لا يدخله النار بوعده الصادق ، فكان يكون السؤال في أن لا يفعله مما لا ينبغي ، ونظيرها ، ( بِنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً ( الآية ، فالصفات الآتية بعد هذا ليست شرائط بل هي صفات تقتضي كمال الدرجات . وقال الماتريدي : مدحهم تعالى بهذا القول ، وفيه تزكية أنفسهم بالإيمان ، والله تعالى نهى عن تزكية الأنفس بالطاعات ، كما قال تعالى : ) فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( فلو كان الإيمان إسما لجميع الطاعات لم يرض منهم التزكية بالإيمان ، كما لم يرضها بسائر الطاعات ، فالآية حجة من جعل الطاعات من الإيمان ، وفيها دلالة على أن إدخال الاستثناء في الإيماغن باطل ، لأنه رضيه منهم دون استثناء . إنتهى .
قيل : ولا تدل على شيء من التزكية ولا من الاسثنتاء ، لأن قولهم : آمنا ، هو اعتراف بما أمروا به ، فلا يكون ذلك تزكية منهم لأنفسهم ، ولأن الاستثناء إنما هو فيما يموت عليه المرء ، لا فيما هو متصف به ، ولا قائل بأن الإيمان الذي يتصف به العبد يجوز الاستثناء فيه ، فإن ذلك محال عقلاً .
وأعرب : الذين يقولون ، صفة وبدلاً ومقطوعاً لرفع أو لنصب ، ويكون ذلك من توابع : ) الَّذِينَ اتَّقَوْاْ ( أو من توابع : العباد ، والأول أظهر .
آل عمران : ( 17 ) الصابرين والصادقين والقانتين . . . . .
( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِين

" صفحة رقم 418 "
َ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ ( لما ذكر الإيمان بالقول ، أخبر بالوصف الدّال على حبس النفس على ما هو شاق عليها من التكاليف ، فصبروا على أداء الطاعة ، وعن اجتناب المحارم ، ثم بالوصف الدال على مطابقة الإعتقاد في القلب للفظ الناطق به اللسان ، فهم صادقون فيما أخبروا به من قولهم : ) رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا ( وفي جميع ما يخبرون .
وقيل : هم الذين صدقت نياتهم ، واستقامت قلوبهم وألسنتهم في السر والعلانية ، وهذا راجع للقول الذي قبله ، ثم بوصف القنوت ، وتقدم تفسيره في قوله : ) كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ( فأغنى عن إعادته ، ثم بوصف الإنفاق ، لأن ما تقدم هو من الأوصاف التي نفعها مقتصر على المتصف بها لا يتعدى ، فأبى في هذا بالوصف المتعدي إلى غيره ، وهو الإنفاق ، وحذفت متعلقات هذه الأوصاف للعلم بها ، فالمعنى : الصابرين على تكاليف ربهم ، والصادقين في أقوالهم ، والقانتين لربهم ، والمنفقين أموالهم في طاعته ، والمستغفرين الله لذنوبهم في الأسحار ولما ذكر أنهم رتبوا طلب المغفرة على الإيمان الذي هو أصل التقوى ، أخبر أيضاً عنهم ، أنهم عند اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة ، هم مستغفرون بالأسحار ، فليسوا يرون اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة مما يسقط عنهم طلب المغفرة ، وخص السحر بالذكر ، وإن كانوا مستغفرين دائماً ، لأنه مظنة الإجابة ، كما صح في الحديث : ( أنه تعالى ، تنزه عن سمات الحدوث ، ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر ) . وكانت الصحابة : ابن مسعود ، وابن عمر ، وغيرهم يتحرون الأسحار ليستغفروا فيها ، وكان السحر مستحباً فيه الإستغفار لأن العبادة فيه أشق ، ألا تراهم يقولون : إن إغفاءة الفجر من ألذ النوم ؟ ولأن النفس تكون إذ ذاك أصفى ، والبدن أقل تعباً ، والذهني أرق وأحد ، إذ قد أجم عن الأشياء الشاقة الجسمانية والقلبية بسكون بدنه ، وترك فكرة بانغماره في وارد النوم .
وقال الزمخشري : إنهم كانوا يقدمون قيام الليل ، فيحسن طلب الحاجة فيه ) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( إنتهى . ومعناه ، عن الحسن وهذه الأوصاف الخمسة هي لموصوف واحد وهم : المؤمنون ، وعطفت بالواو ولم تتبع دون عطف لتباين كل صفة من صفة ، إذ ليست في معنى واحد ، فينزل تغاير الصفات وتباينها منزلة تغاير الذوات فعطفت .
وقال الزمخشري : والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها . إنتهى ولا نعلم العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال .
قال المفسرون في الصابرين : صبروا عن المعاصي . وقيل : ثبتوا على العهد الأول . وقيل : هم الصائمون .
قالوا في الصادقين : في الأقوال . وقيل : في القول والفعل والنية . وقيل : في السر والعلانية .
قالوا في القانتين : الحافظين للغيب . وقال الزجاج : القائمين على العبادة . وقيل : القائمين بالحق . وقيل : الداعين المتضرعين . وقيل : الخاشعين . وقيل : المصلين .
وقالوا في المنفقين : المخرجين المال على وجه مشروع . وقيل : في الجهاد . وقيل : في جميع أنواع البر . وقال ابن قتيبة : في الصدقات .
قالوا في المستغفرين السائلين قاله ابن عباس وقال ابن مسعود وان عمر وأنس وقتادة

" صفحة رقم 419 "
السائلين المغفرة وقت فراغ البال وخفة الأشفال ، وقال قتادة أيضاً : المصلين بالأسحار . وقال زيد بن أسلم : المصلين الصبح في جماعة .
وهذا الذي فسروه كله متقارب .
آل عمران : ( 18 ) شهد الله أنه . . . . .
( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ).
سبب نزولها أن حبرين من الشام قدما المدينة ، فقال أحدهما للآخر : ما أشبه هذه بمدينة النبي الخارج في آخر الزمان ، ثم عرفا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالنعت ، فقالا : أنت محمد ؟ قال : ( نعم ) . فقالا : أنت أحمد ؟ فقال : ( نعم ) . فقالا : نسألك عن شهادة إن أخبرتنا بها آمنا . فقال : ( سلاني فقال أحدهما : أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله ، فنزلت وأسلما .
وقال ابن جبير : كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ، فلما نزلت هذه الآية خرت سجدا .
وقيل : نزلت في نصارى نجران لما حاجوا في أمر عيسى .
وقيل : في اليهود والنصارى لما تركوا اسم الإسلام وتسموا باليهودية والنصرانية .
وقيل : إنهم قالوا : ديننا أفضل من دينك ، فنزلت .
وأصل : شهد ، حضر ، ثم صرفت الكلمة في أداء ما تقرر علمه في النفس ، فأي وجه تقرر من حضور أو غيره . فقيل : معنى : شهد ، هنا : أعلم . قاله المفضل وغيره ، وقال الفرّاء ، وأبو عبيدة : قضى ، وقال مجاهد : حكم ، وقيل : بين . وقال ابن كيسان : شهد بإظهار صنعه . وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
قال الزمخشري : شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره ، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص ، وآية الكحرسي وغيرهما . بشهادة الشاهد في البيان والكشف ، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك ، واحتجاجهم عليه . إنتهى . وهو حسن .
وقال المروزي : ذكر شهادته سبحانه على سبيل التعظيم لشهادة من ذكر بعده ، كقوله : ) قُلِ الانفَالُ ( إنتهى .
ومشاركة الملائكة وأولي العلم لله تعالى في الشهادة . من حيث عطفا عليه لصحة نسبة الإعلام ، أو صحة نسبة الإظهار والبيان ، وإن اختلفت كيفية الإظهار والبيان من حيث أن إظهاره تعالى بخلق الدلائل ، وإظهار الملائكة بتقريرها للرسل ، والرسل لأولي العلم .
وقال الواحدي : شهادة الله بيانه وإظهاره ، والشاهد هو العالم الذي بيّن ما علمه ، والله تعالى بيّن دلالات التوحيد بجميع ما خلق ، وشهادة الملائكة بمعنى بالإقرار كقوله : ) هَاذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا ( أي : أقررنا . فنسق شهادة الملائكة على شهادة الله ، وإن اختلفت معنىً ، لتماثلهما لفظاً . كقوله : ) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ( لأنها من الله الرحمة ، ومن الملائكة الأستغفار والدعاء وشهادة أولي العلم يحتمل الإقرار ويحتمل التبيين ، لأنهم أقرّوا وبينوا . إنتهى .
وقال المؤرخ : شهد الله ، بلغة قيس بن غيلان .
و ) أُوْلُواْ الْعِلْمِ ( قيل : هم الأنبياء . وقيل : العلماء وقيل

" صفحة رقم 420 "
مؤمنو أهل الكتاب . وقيل : المهاجرون والأنصار . وقيل : علماء المؤمنين . وقال الحسن : المؤمنون .
والمراد بأولي العلم : من كان من البشر عالماً ، لأنهم ينقسمون إلى : عالم وجاهل ، بخلاف الملائكة . فإنهم في العلم سواء .
و ) وَأَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( : مفعول : شهد ، وفصل به بين المعطوف عليه والمعطوف ، ليدل على الاعتناء بذكر المفعول ، وليدل على تفاوت درجة المتعاطفين ، بحيث لا ينسقان متجاورين . وقدم الملائكة على أولي العلم من البشر لأنهم الملأ الأعلى ، وعلمهم كله ضروري ، بخلاف البشر ، فإن علمهم ضروري وإكتسابي .
وقرأ أبو الشعثاء : شهد ، بضم الشين مبنياً للمفعول ، فيكون : أنه ، في موضع البدل أي : شهد وحدانية الله وألوهيته . وارتفاع : الملائكة ، على هذه القراءة على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والملائكة وأولو العلم يشهدون . وحذف الخبر لدلال المعنى عليه ، ويحتمل أن يكون فاعلاً بإضمار فعل محذوف لدلالة شهد عليه ، لأنه إذا بني الفعل للمفعول فإنه قبل ذلك كان مبنياً للفاعل ، والتقدير : وشهد بذلك الملائكة وأولو العلم .
وقرأ أبو المهلب ، عم محارب بن دثار : شهداء الله ، على وزن : فعلاء ، جمعاً منصوباً .
قال ابن جني : على الحال من الضمير في المستغفرين . وقيل : نصب على المدح ، وهو جمع شهداء ، وجمع شاهد : كظرفاء وعلماء . وروي عنه ، وعن أبي نهيك : شهداء الله ، بالرفع أي : هم شهداء الله . وفي القراءتين : شهداء ، مضاف إلى اسم الله .
وروي عن أبي المهلب : شهد بضم الشين والهاء ، جمع : شهيد ، كنذير ونذر ، وهو منصوب على الحال ، واسم الله منصوب . وذكر النقاش : أنه قرىء كذلك بضم الدال وبفتحها مضافاً لام الله في القراءتين .
وذكر الزمخشري ، أنه قرىء : شهداء لله ، برفع الهمزة ونصبها ، وبلام الجر داخلة على اسم الله ، فوجه النصب على الحال من المذكورين ، والرفع على إضمارهم ، ووجه رفع الملائكة على هاتين القراءتين عطفاً على الضمير المستكن في شهداء ، وأجاز ذلك الوقوع الفاصل بينهما . وتقدم توجيه رفع الملائكة إما على الفاعلية ، وإما على الإبتداء .
وقرأ أبو عمر وبخلاف عنه بإدغام : واو ، وهو في : واو ، والملائكة . وقرأ ابن عباس : ) أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( بكسر الهمزة في : أنه ، وخرج ذلك على أنه أجرى : شهد ، مجرى : قال ، لأن الشهادة في معنى القول ، فلذلك كسر إن ، أو على أن معمول : شهد ، هو إن الدين عند الله الإسلام ( ويكون قوله : ) ( ويكون قوله : ) أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( جملة اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف ، إذ فيها تسديد لمعنى الكلام وتقوية ، هكذا خرجوه والضمير في : أنه ، يحتمل أن يكون عائداً على : الله ، ويحتمل أن يكون ضمير الشأن ، ويؤيد هذا قراءة عبد الله ) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( ففي هذه القراءة يتعين أن يكون المحذوف إذا خففت ضمير الشأن ، لأنها إذا خففت لم تعمل في غيره إلاَّ ضرورة ، وإذا عملت فيه لزم حذفه .
قالوا : وانتصب : ) قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( على الحال من اسم الله تعالى ، أو من : هو ، أو من الجميع ، على اعتبار كل واحد واحد ، أو على المدح ، أو صفة للمنفي ، كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلاَّ هو . أو : على القطع ، لأن أصله : القائم ، وكذا قرأ ابن مسعبود ، فيكون كقوله : ) وَلَهُ الدّينُ وَاصِبًا ( أي الواصب .
وقرأ أبو حنيفة : قيما ، وانتصابه على ما ذكر . وذكر السجاوندي : أن قراءة عبد الله : قائم ، فأما انتصابه على الحال من اسم الله فعالمها شهد ، إذ هو العامل في الحال ، وهي في هذا الوجه حال لازمة ، لأن القيام بالقسط وصف ثابت لله تعالى .
وقال الزمخشري : وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه ، أي : من الله ،

" صفحة رقم 421 "
كقوله ) وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدّقًا ). انتهى . وليس من الحال المؤكدة ، لأنه ليس من باب : ) وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ( ولا من باب : أنا عبد الله شجاعاً . فليس ) قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( بمعنى : شهد ، وليس مؤكداً مضمون الجملة السابقة في نحو : أنا عبد الله شجاعاً ، وهو زيد شجاعاً . لكن في هذا التخريج قلق في التركيب ، إذ يصير كقولك : أكل زيد طعاماً وعائشة وفاطمة جائعاً . فيفصل بين المعطوف عليه والمعطوف بالمفعول ، وبين الحال وذي الحال بالمفعول والمعطوف ، لكن بمشيئة كونها كلها معمولة لعامل واحد ، وأما انتصابه على الحال من الضمير الذي هو : هو ، فجوّزه الزمخشري وابن عطية .
قال الزمخشري : فإن قلت : قد جعلته حالاً من فاعل : شهد ، فهل يصح أن ينتصب حالاً من : هو ، في : ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( ؟
قلت : نعما لأنها حال مؤكدة ، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها ، كقوله : أنا عبد الله شجاعاً . انتهى . ويعني . أن الحال المؤكدة لا يكون العامل فيها النصب شيئاً من الجملة السابقة قبلها ، وإنما ينتصب بعامل مضمر تقديره : أحق ، أو نحوه مضمراً بعد الجملة ، وهذا قول الجمهور . والحال المؤكدة لمضمون الجملة هي الدالة على معنى ملازم للمسند إليه الحكم ، أو شبيه بالملازم ، فإن كان المتكلم بالجملة مخبراً عن نفسه ، فيقدر الفعل : أحق ، مبنياً للمفعول ، نحو : أنا عبد الله شجاعاً ، أي : أحق شجاعاً . وإن كان مخبراً عن غيره نحو : هو زيد شجاعاً ، فتقديره : أحقه شجاعاً .
وذهب الزجاج إلى أن العامل في هذه الحال هو الخبر بما ضمن من معنى المسمى ، وذهب ابن خروف إلى أنه المبتدأ بما ضمن من معنى التنبيه . وأما من جعله حالاً من الجميع ، على ما ذكر ، فرد بأنه لو جاز ذلك لجاز : جاء القوم راكباً ، أي : كل واحد منهم . وهذا لا تقوله العرب .
وأما انتصابه على المدح ، فقال الزمخشري : فإن قلت أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة ، كقولك : الحمد لله الحميد ، ( إنا معشر الأنبياء لا نورث ) . إنا بني نهشل لا ندعى لأب ؟
قلت : قد جاء نكرة في قول الهذلي :
ويأوي إلى نسوة عطل
وشعثاً مراضيع مثل السعالي

" صفحة رقم 422 "
انتهى سؤاله وجوابه . وفي ذلك تخليط ، وذلك أنه لم يفرّق بين المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم ، وبين المنصوب على الاختصاص ، وجعل حكمهما واحداً ، وأورد مثالاً من المنصوب على المدح وهو : الحمد لله الحميد ، ومثالين في المنصوب على الاختصاص وهما : ( إنا معشر الأنبياء لا نورث ) . إنا بني نهشل لا ندعى لأب والذي ذكر النحويون أن المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم قد يكون معرفة ، وقبله معرفة يصلح أن يكون تابعاً لها ، وقد لا يصلح ، وقد يكون نكرة كذلك ، وقد يكون نكرة وقبلها معرفة ، فلا يصلح أن يكون نعتاً لها نحو قول النابغة :
أقارعُ عوفٍ لا أحاولُ غيرَها
وجوهَ قرودٍ يبتغي من يخادعُ
فانتصب : وجوهَ قرودٍ ، على الذم . وقبله معرفة وهو قوله : أقارع عوف .
وأما المنصوب على الاختصاص فنصبوا على أنه لا يكون نكرة ولا مبهماً ، ولا يكون إلاَّ معرفاً بالألف واللام ، أو بالإِضافة ، أو بالعلمية ، أو بأي ، ولا يكون إلاَّ بعد ضمير متكلم مختص به ، أو مشارك فيه ، وربما أتى بعد ضمير مخاطب . وأما انتصابه على أنه صفة للمنفي فقال الزمخشري .
فإن قلت : هل يجوز أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلا هو ؟
قلت : لا يبعد ، فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف ، ثم قال : وهو أوجه من انتصابه عن فاعل : شهد ، وكذلك انتصابه على المدح . انتهى . وكان قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله : لا رجل إلاَّ عبد الله شجاعاً . ويعني أن انتصاب : قائماً ، على أنه صفة لقوله : إله ، أو لكونه انتصب على المدح أوجه من انتصابه على الحال من فاعل : شهد ، وهو الله . وهذا الذي ذكره لا يجوز ، لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي ، وهو المعطوفان اللذان هما : الملائكة وأولو العلم ، وليسا معمولين من جملة ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ اللَّهُ ( بل هما معمولان : لشهد ، وهو نظير : عرف زيد أن هنداً خارجة وعمرو وجعفر ا لتميمية . فيفصل بين هنداً والتميمية بأجنبي ليس داخلاً فيما عمل فيها ، وفي خبرها بأجنبي وهما : عمرو وجعفر ، المرفوعان بعرف ، المعطوفان على زيد .
وأما المثال الذي مثل به وهو : لا رجل إلاَّ عبد الله شجاعاً ، فليس نظير تخريجه في الآية ، لأن قولك : إلاَّ عبد الله ، يدل على الموضع من : لا رجل ، فهو تابع على الموضع ، فليس بأجنبي . على أن في جواز هذا التركيب نظراً ، لأنه بدل ، و : شجاعاً ، وصف ، والقاعدة أنه : إذا اجتمع البدل والوصف قدم الوصف على البدل ، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل على المذهب الصحيح ، فصار من جملة أخرى على المذهب .
وأما انتصابه على القطع فلا يجيء إلاَّ على مذهب الكوفيين ، وقد أبطله البصريون .
والأولى من هذه الأقوال كلها أن يكون منصوباً على الحال من اسم الله ، والعامل فيه : شهد ، وهو قول الجمهور .
وأما قراءة عبد الله : القائم بالقسط ، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو القائم بالقسط . قال الزمخشري وغيره : إنه بدل من : هو ، ولا يجوز ذلك ، لأن فيه فصلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي . وهو المعطوفان ، لأنهما معمولان لغير العامل في المبدل منه ، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل في المبدل منه لم يجز ذلك أيضاً ، لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قدم البدل على العطف ، لو قلت جاء زيد وعائشة أخوك ، لم يجز . إنما الكلام : جاء زيد أخوك وعائشة .

" صفحة رقم 423 "
وقال الزمخشري فإن قلت : لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ، ولو قلت : جاءني زيد وعمر وراكباً لم يجز ؟
قلت : إنما جاز هذا لعدم الإلباس ، كما جاز في قوله : ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ( إن انتصب : نافلة ، حالاً عن : يعقوب ، ولو قلت : جاءني زيد وهند راكباً ، جاز لتميزه بالذكورة . انتهى كلامه .
وما ذكر من قوله في : جاءني زيد وعمرو راكباً ، أنه لا يجوز ليس كما ذكر ، بل هذا جائز ، لأن الحال قيد فيمن وقع منه أو به الفعل ، أو ما أشبه ذلك ، وإذا كان قيداً فإنه يحمل على أقرب مذكور ، ويكون راكباً حالاً مما يليه ، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة ، لو قلت : جاءني زيد وعمرو الطويل . لكان : الطويل ، صفة : لعمرو ، ولا تقول : لا تجوز هذه المسألة ، لأنه يلبس بل لا لبس في هذا ، وهو جائز فكذلك الحال .
وأما قوله : في : نافلة ، إنه انتصب حالاً عن : يعقوب ، فلا يتعين أن يكون حالاً عن : يعقوب ، إذ يحتمل أن يكون : نافلة ، مصدراً كالعافية والعاقبة . ومعناه : زيادة ، فيكون ذلك شاملاً لإسحاق ويعقوب ، لأنهما زيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره ، إذ كان إنما جاء له إسحاق على الكبر ، وبعد أن عجزت سارة وأيست من الولادة ، وأولاد إبراهيم غير إسماعيل وإسحاق مديان ، ويقال : مدين ، ويشتاق ، وشواح ، وهو خاضع ، ورمران وهو محدان ، ومدن ، ويقشان وهو مصعب ، فهؤلاء ولد إبراهيم لصلبه . والعقب الباقي منهم لإسماعيل وإسحاق لا غير .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما المراد بأولي العلم ، الذين عظمهم هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله ؟
قلت : هم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج القاطعة ، والبراهين الساطعة ، وهم علماء العدل والتوحيد . انتهى .
ويعني بعلماء العدل والتوحيد : المعتزلة ، وهم يسمون أنفسهم بهذا الاسم كما أنشدنا شيخنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي رحمه الله بقراءتي عليه قال : أنشدنا الصاحب أبو حامد عبد الحميد بن هبة بن محمد بن أبي الحديد المعتزلي ببغداد لنفسه : لولا ثلاث لم أخف صرعتي
ليست كما قال فتى العبد
أن أنصر التوحيد والعدل في
كل مقام باذلاً جهدي
وأن أناجي الله مستمتعا
بخلوة أحلى من الشهد
وأن أتيه الدهر كبراً على
كل لئيم أصعر الخدّ
لذاك أهوى لا فتاة ولا
خمر ولا ذي ميعة نهد
) لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( كرر التهليل توكيداً وقيل : الأول شهادة الله ، والثاني شهادة الملائكة وأولي العلم ، وهذا بعيد جدّاً لأنه يؤدّي إلى قطع الملائكة عن العطف على الله تعالى ، وعلى إضمار فعل رافع ، أو على جعلهم مبتدأ ، وعلى الفصل بين ما يتعلق بهم وبين التهليل بأجنبي ، وهو قوله : ) قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ).
وقيل : الأول جار مجرى الشهادة ، والثاني جار مجرى الحكم وقيل : هذا الكلام ينطوي على مقدّمتين ، وهذا هو نتيجتهما ، فكأنه قال : شهد الله والملائكة وأولو العلم وما

" صفحة رقم 424 "
شهدوا به حق فلا إله إلا هو حق ، فحذف إحدى المقدّمتين للدّلالة عليها ، وهذا التقدير كله لا يساعد عليه اللفظ .
وقال الراغب : إنما كرر ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد لأن أكثرها مشارك في ألفاظها العبيد ، فيصح وصفهم بها ، وكذلك وردت ألفاظ التنزيه في حقه أكثر ، وأبلغ ما وصف به من التنزيه : لا إله إلا الله ، فتكريره هنا لأمرين : أحدهما : لكون الثاني قطعاً للحكم ، كقولك : أشهد أن زيداً خارج ، وهو خارج . والثاني : لئلا يسبق بذكر العزيز الحكيم إلى قلب السامع تشبيه ، إذ قد يوصف بهما المخلوق انتهى .
وقال الزمخشري : صفتان مقرّرتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل ، يعني أنه العزيز الذي لا يغالبه إله آخر ، الحكيم الذي لا يعدل عن العدل في أفعاله . انتهى . وهو تحويم على مذهب المعتزلة .
وارتفع : العزيز ، على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : والعزيز ، على الاستئناف قيل : وليس بوصف ، لأن الضمير لا يوصف ، وليس هذا بالجمع عليه ، بل ذهب الكسائي إلى أن ضمير الغائب كهذا يوصف .
وجوّزوا في إعراب : العزيز ، أن يكون بدلاً من : هو . وروي في حديث عن الأعمش أنه قام يتهجد ، فقرأ هذه الآية ، ثم قال : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ، إن الدين عند الله الإسلام قالها مراراً ، فسئل ، فقال : حدّثني أبو وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى ، أدخلوا عبدي الجنة ) .
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي : العزيز ، إشارة إلى كمال القدرة ، و : الحكيم ، إشار ، إلى كمال العلم ، وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلهية إلاَّ معهما ، لأن كونه ) قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( لا يتم إلاَّ إذا كان عالماً بمقادير الحاجات ، فكان قادراً على تحصيل المهمات ، وقدم العزيز في الذكر لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الاستدلالية ، وهذا الخطاب مع المستدل . انتهى كلامه .
( ) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاٍّ مِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَائِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( )
7 )
آل عمران : ( 19 ) إن الدين عند . . . . .
( إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( أي الملة والشرع ، والمعنى : إن الدين المقبول أو النافع أو المقرر .
قرأ الجمهور : إن ، بكسر الهمزة وقرأ ابن عباس ، والكسائي ، ومحمد بن عيسى الأصبهاني : أن ، بالفتح ، وتقدّمت قراءة ابن عباس : شهد الله إنه ، بكسر الهمزة ، فأما قراءة الجمهور فعلى الاستئناف ، وهي مؤكدة للجملة الأولى .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة هذا التوكيد ؟
قلت : فائدته أن قوله : لا إله إلاَّ هو توحيد ، وقوله : قائماً بالقسط ، تعديل ، فإذا أردفه قوله : إن الدين عند الله الإسلام ، فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند الله ، وما عداه فليس عنده بشيء من الدين ، وفيه أن من ذهب إلى تشبيه ، أو ما يؤدّي إليه ، كإجازة الرؤية ، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور ، لم يكن على دينا لله الذي هو الإسلام ، وهذا بيِّن جلي كما ترى . انتهى كلامه . وهو على طريقة المعتزلة من إنكار الرؤية ، وقولهم : إن أفعال العبد مخلوقة له لا لله تعالى .
وأما قراءة لكسائي ومن وافقه في نصب : أنه ، وأن ، فقال أبو علي الفارسي : إن شئت جعلته من بدل

" صفحة رقم 425 "
الشيء من الشيء وهو هو ، ألا ترى أن الدين الذي هو الإسلام يتضمن التوحيد والعدل وهو هو في المعنى ؟ وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال ، لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل . وقال : وإن شئت جعلته بدلاً من القسط ، لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل ، فيكون أيضاً من بدل الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة . انتهت تخريجات أبي علي ، وهو معتزلي ، فلذلك يشتمل كلامه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل ، وعلى البدل من أنه لا إله إلاَّ هو ، خرجه غيره أيضاً وليس بجيد ، لأنه يؤدي إلى تركيب بعيدٌ أن يأتي مثله في كلام العرب ، وهو : عرف زيد أنه لا شجاع إلاَّ هو ، و : بنو تميم ، وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل المحامي ، إن الخصلة الحميدة هي البسالة . وتقريب هذا المثال : ضرب زيد عائشة ، والعمران حنقاً أختك . فحنقاً : حال من زيد ، وأختك بدل من عائشة ، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف ، وهو لا يجوز . وبالحال لغير المبدل منه ، وهو لا يجوز ، لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل . وخرجها الطبري على حذف حرف العطف ، التقدير : وأن الدين . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، ولم يبين وجه ضعفه ، ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف ، فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية ، وبجملتي الاعتراض ، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل ، نحو : أكل زيد خبزاً وعمرو وسمكاً . وأصل التركيب : أكل زيد وعمرو خبراً وسمكاً . فإن فصلنا بين قولك : وعمرو ، وبين قولك : وسمكاً ، يحصل شنع التركيب . وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح .
وقال الزمخشري : وقرئتا مفتوحتين على أن الثاني بدل من الأول ، كأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، والبدل هو المبدل منه في المعنى ، فكان بياناً صريحاً ، لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل . إنتهى . وهذا نقل كلام أبي علي دون استيفاء .
وأما قراءة ابن عباس فخرج على ) إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( هو معمول : شهد ، ويكون في الكلام اعتراضان : أحدهما : بين المعطوف عليه والمعطوف وهو ) أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( والثاني : بين المعطوف والحال وبين المفعول لشهد وهو ) لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( وإذا أعربنا : العزيز ، خبر مبتدأ محذوف ، كان ذلك ثلاث اعتراضات ، فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظير من كلام العرب ، وإنما حمل على ذلك العجمة ، وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب ، وحفظ أشعارها .
وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب : أنه لا يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب ، بل لا بدّ من الاطلاع على كلام العرب ، والتطبع بطباعها ، والاستكثار من ذلك ، والذي خرجت عليه قراءة : أن الدّين ، بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول : للحكيم ، على إسقاط حرف الجر ، أي : بأن ، لأن الحكيم فعيل للمبالغة : كالعليم والسميع والخبير ، كما قال تعالى ) مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ( وقال ) مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ( والتقدير : لا إله إلا هو العزيز الحاكم أن الدّين عند الله الإسلام . ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية ، وشهد له بذلك الملائكة وأولو العلم ، حكم أن الدّين المقبول عند الله هو الإسلام ، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه ) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( وعدل من صيغة الحاكم إلى الحكيم لأجل المبالغة ، ولمناسبة العزيز ، ومعنى المبالغة تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع إن الدين عنده هو الإسلام ، إذ حكم في كل شريعة بذلك .
فإن قلت : لم حملت الحكيم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، وهلا جعلته فعيلاً بمعنى مفعل ، فيكون معناه المحكم ، كما قالوا في : أليم ، إنه بمعنى مؤلم ، وفي سميع من قول الشاعر :
أمن ريحانة الداعي السميع

" صفحة رقم 426 "
أي المسمع ؟
فالجواب : إنا لا نسلم أن فعيلاً يأتي بمعنى مفعل ، وقد يؤوّل : أليم وسميع ، على غير مفعل ، ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور والشذوذ والقلة بحيث لا ينقاس ، وأما فعيل المحوّل من فاعل للمبالغة فهو منقاس كثير جداً ، خارج عن الحصر : كعليم وسميع قدير وخبير وحفيظ ، في ألفاظ لا تحصى ، وأيضاً فإن العربي القح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم إلاَّ أنه محوّل للمبالغة من حاكم ، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ ) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( أنكد أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق : والله غفور رحيم فقيل له التلاوة : ) وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ ( فقال : هكذا يكون عز فحكم ، ففهم من حكم أنه محول للمبالغة من حالكم ، وفهم هذا العربي حجة قاطعة بما قلناه ، وهذا تخريج سهل سائغ جداً ، يزيل تلك التكلفات والتركيبات المعقدة التي ينزه كتاب الله عنها .
وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول ، ولا نجعل : أن الدين معمولاً : لشهد ، كما فهموا ، وأن : أنه لا إله إلاَّ هو ، اعتراض ، وأنه بين المعطوف والحال وبين : أن الدين ، اعتراض آخر ، أو اعتراضان ، بل نقول : معمول : شهد ، إنه بالكسر على تخريج من خرج أن شهد ، لما كان بمعنى القول كسر ما بعدها إجراءً لها مجرى القول ، أو نقول : إنه معمولها ، وعلقت ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي بخلاف أن لو كان مثبتاً ، فإنك تقول : شهدت إن زيداً لمنطلق ، فيعلق بأن مع وجود اللام لأنه لو لم تكن اللام لفتحت أن فقلت : شهدت أن زيداً منطلق ، فمن قرأ بفتح : أنه ، فإنه لم ينو التعليق ، ومن كسر فإنه نوى التعليق . ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي كما ذكرنا .
والإسلام : هنا الإيمان والطاعات ، قاله أبو العالية ، وعليه جمهور المتكلمين ، وعبر عنه قتادة ، ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان ومرادهما أنه مع الأعمال . وقرأ عبد الله : إن الدين عند الله الحنيفية .
قال ابن الإنباري : ولا يخفي على ذي تمييز أن هذا كلام من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) على جهة التفسير ، أدخله بعض من ينقل الحديث في القراءات ، وقد تقدّم الكلام في الإسلام والإيمان : أهما شيء واحد أهم هما مختلفان ؟ والفرق ظاهر في حديث سؤال جبريل .
( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( أي : اليهود والنصارى ، أو هما والمجوس ، أقوال ثلاثة :
فعلى أنهم اليهود ، وهو قول الربيع بن أنس ، الذين اختلفوا فيه التوراة . قال : لما حضرة موسى عليه السلام الوفاة ، استودع سبعين من أحبار بني إسرائيل التوراة عند كل حبر جزء ، واستخلف يوشع ، فلما مضى ثلاثة قرون وقعت الفرقة بينهم .
وقيل : الذين اختلفوا فيه

" صفحة رقم 427 "
نبوة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقال بعضهم : بعث إلى العرب خاصة ، وقال بعضهم : ليس بالنبي المبعوث لأن ذلك حقق في بني إسحاق .
وعلى أنهم النصارى ، وهو قول محمد بن جعفر الزبير ، فالذي اختلفوا فيه : دينهم ، أو أمر عيسى ، أو دين الإسلام . ثلاثة أقوال .
وقال الزمخشري : هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، واختلفوا أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد والعدل من بعد ما جاءهم العلم أنه الحق الذي لا محيد عنه ، فثلثت النصارى ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عَزِيزٌ ابْنُ اللَّهِ ( ، وقالوا : كنا أحق بأن تكون النبوة فينا من قريش لأنهم أمّيون ، ونحن أهل كتاب ، وهذا تجوير لله تعالى . إنتهى .
ثم قال : وقيل : اختلافهم في نبوة محمد عليه السلام ، حيث آمن به بعض وكفر بعض ، وقيل : اختلافهم في الإيمان بالأنبياء فمنهم من آمن بموسى ، ومنهم من آمن بعيسى . إنتهى .
والذي يظهر أن اللفظ عام في ) الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( وأن المختلف فيه هو : الإسلام ، لأنه تعالى قرر أن الدين هو الإسلام ، ثم قال : ) وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( أي : في الإسلام حتى تنكبوه إلى غيره من الأديان .
( إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ ( الذي هو سبب لاتباع الإسلام ، والاتفاق على اعتقاده ، والعمل به ، لكن عموا عن طريق العلم وسلوكه بالبغي الواقع بينهم من الحسد ، والاسئثار بالرياسة ، وذهاب كل منهم مذهباً يخالف الإسلام حتى يصير رأساً يتبع فيه ، فكانوا ممن ضل على علم . وقد تقدّم ما يشبه هذا من قوله ) وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ).
) بَغْياً بَيْنَهُمْ ( وإعراب : بغياً ، فإنه أتى بعد إلاَّ شيآن ظاهرهما أنهما مستثنيان ، وتخريج ذلك : فأغنى عن إعادته هنا .
( وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( هذا عام في كل كافر بآيات الله ، فلا يخص بالمختلفين من أهل الكتاب ، وإن جاءت الجملة الشرطية بعد ذكرهم .
وآياته ، هنا قيل : حججه ، وقيل : التوراة والإنجيل وما فيهما من وصف نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : القرآن ، وقال الماتريدي : أي من المختلفين .
وتقدّم تفسير : سريع الحساب ، فأغنى عن إعادته ، وهذه الجملة جواب الشرط والعائد منها على إسم الشرط محذود تقديره : سريع الحساب له .
آل عمران : ( 20 ) فإن حاجوك فقل . . . . .
( فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ ( الضمير في : حاجوك ، ابلظاهر أنه يعود على ) الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( وقال أبو مسلم : يعود على جميع الناس ، لقوله بعد ) وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاْمّيّينَ ( وقيل : يعود على نصارى نجران ، قدموا المدينة للمحاجة . وظاهر المحاج فيه أنه دين الإسلام ، لأنه السابق . وجواب الشرط هو : ) فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ ( والمعنى : انقدت وأطعت وخضعت لله وحده ، وعبر : بالوجه ، عن جميع ذاته ، لأن الوجه أشرف الأعضاء ، وإذا خضع الوجه فما سواه أخضع وقال الزوزي ، وسبقه الفراء إلى معناه : معنى أسلمت وجهي ، أي : ديني ، لأن الإيمان كالوجه بين الأعمال إذ هو الأصل ، وجاء في التفسير أقوال : أقول لكم ، كما قال ابن نعيم : وقد أجمعتم على أنه محق ) قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ).
وقال الزمخشري : وأسلمت وجهي ، أي : أخلصت نفسي وعملي لله وحده ، لم أجعل له شريكاً بأن أعبده وأدعوا إلها معه ، يعني : أن ديني التوحيد ، وهو الدين القديم الذي ثبت عندكم صحته ، كما ثبت عندي . وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه ، ونحوه ) قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ ( الآية ، فهو دفع للمجادلة . إنتهى .
وفي تفسيره أطلق الوجه على النفس والعمل معاً ، إلاَّ إن كان أراد تفسير المعنى لا تفسير اللفظ ، فيسوغ له ذلك .
وقال الرازي : في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان :
الأول : أنه إعراض عن المحاجة ، إذ قد أظهر لهم الحجة على صدقة قبل نزول هذه الآية ، فإن هذه السورة مدنية ، وذلك بإظهار بالمعجزات بالقرآن وغيره ، وقد ذكر قبل هذه الآية الحجة بقوله : ) الْحَىُّ الْقَيُّومُ ( على فساد قول النصارى في إلهية عيسى ، وبقوله ) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( على صحة نبوّته ، وذكر شُبَهَ القوم وأجاب عنها ، وذكر معجزات

" صفحة رقم 428 "
أخرى ، وهي ما شاهدوه يوم بدر ، بين القول بالتوحيد بقوله : شهد الله .
والطريق الثاني : أنه إظهار للدليل ، وذلك أنهم كانوا مقرين بالصانع واستحقاقه للعبادة فكأنه قال : أنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه ، والخلف فيما وراءه ، وعلى المدعي الإثبات . وأيضاً كانوا معظمين إبراهيم عليه السلام وأنه كان محقاً ، وقد أمر أن يتبع ملته ، وهنا أمر أن يقول كقوله ، فيكون هذا من باب الإلزام ، أي : أنا متمسك بطريق من هو عندكم محق ، وهذا قاله أبو مسلم ، وأيضاً لما تقدّم أن الدين هو الإسلام ، قيل له : إن نازعوك فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله ، فهذا تمام الوفاء بلزوم الربوبية والعبودية ، فصح أن الدين الكامل الإسلام ، وأيضاً فالآية مناسبة لقول إبراهيم ) لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ( أي : لا تجوز العبادة إلاَّ لمن يكون نافعاً وضاراً وقادراً على جميع الأشياء ، وعيسى ليس كذلك ، وأيضاً فهذه إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه السلام إذ قال له ربه : أسلم قال أسلمت لرب العالمين ( وروي هذا عن ابن عباس . إنتهى ما لخص من كلام الرازي . وليس أواخر كلامه بظاهرة من مراد الآية ومدلولها .
وفتح الياء : من : وجهي ، هنا ، وفي الأنعام نافع ، وابن عامر ، وحفص ، وسكنها الباقون .
( ( وروي هذا عن ابن عباس . إنتهى ما لخص من كلام الرازي . وليس أواخر كلامه بظاهرة من مراد الآية ومدلولها .
وفتح الياء : من : وجهي ، هنا ، وفي الأنعام نافع ، وابن عامر ، وحفص ، وسكنها الباقون .
( وَمَنِ اتَّبَعَنِ ( قيل : من ، في موضع رفع ، وقيل : ي موضع نصب على أنه مفعول معه ، وقيل : في موضع خفض عطفاً على اسم الله .
ومعناه : جعلت مقصدي بالإيمان به ، والطاعة له ، ولمن اتبعني بالحفظ له ، والتحفي بتعلمه ، وصحته .
فأما الرفع فعطفاً على الفاعل في : أسلمت ، قاله الزمخشري ، وبدأ به قال : وحسن للفاصل ، يعنى أنه عطف على الضمير المتصل ، ولا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلاَّ في الشعر ، على رأي البصريين . إلاَّ أنه فصل بين الضمير والمعطوف ، فيحسن . وقاله ابن عطية أيضاً ، وبدأ به . ولا يمكن حمله على ظاهره لأنه إذا عطف على الضمير في نحو : أكلت رغيفاً وزيد ، لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف ، وهنا لا يسوغ ذلك ، لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم وهو ( صلى الله عليه وسلم ) ) وجهه لله ، وإنما المعنى : أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أسلم وجهه لله ، وهم أسلموا وجوههم لله ، فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول ، لا مشارك في مفعول : أسلمت ، التقدير : ومن اتبعني وجهه .
أو أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه ، ومن اتبعني كذلك ، أي : أسلموا وجوههم لله ، كما تقول : قضى زيد نحبه وعمرو ، أي : وعمرو كذلك . أي : قضى نحبه .
ومن الجهة التي امتنع عطف . ومن ، على الضمير إذا حمل الكلام على ظاهره دون تأويل ، يمتنع كون : من ، منصوباً على أنه مفعول معه ، لأنك إذا قلت : أكلت رغيفاً وعمراً ، أي : مع عمرو ، دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف ، وقد أجاز هذا الوجه الزمخشري ، وهو لا يجوز لما ذكرنا على كل حال ، لأنه لا يمكن تأويل حذف المفعول مع كون الواو واو المعية .
وأثبت ياء : اتبعني ، في الوصل أبو عمرو ، ونافع ، وحذفها الباقون ، وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف ، ولأنها رأس آية كقوله : أكرمن وأهانن ، فتشبه قوافي الشعر كقول الشاعر : وهل يمنعنّي ارتيادُ البلا
د من حذر الموت أن يأتيَنْ

" صفحة رقم 429 "
) وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( هم : اليهود والنصارى باتفاق ) وَالاْمّيّينَ ( هم مشركو العرب ، ودخل في ذلك كل من لا كتاب له ) ءأَسْلَمْتُمْ ( تقدير في ضمنه الأمر . وقال الزجاج : تهدّد . قال ابن عطية : وهذا احسن ، لأن المعنى : أأسلمتم له أم لا ؟ وقال الزمخشري : يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة ، فهل أسلمتم أم أنتم على كفركم ؟ وهذا كقولكم لمن لخصت له المسألة ، ولم تبقِ من طرق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته ، هل فهمتها لا أمّ لك ؟ ومنه قوله عز وعلا : ) فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ( بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر ، وفي هذا الاستفهام استقصار وتغيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة ولم يتوقف إذعانه للحق ، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسداداً بينه وبين الإذعان ، وكذلك في : هل فهمتها ؟ توبيخ بالبلادة وكله القريحة ، وفي ) فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ( بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه . انتهى كلامه . وهو حسن ، وأكثره من باب الخطابة .
( فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ ( أي إن دخلوا في الإسلام فقد حصلت لهم الهداية ، وعبر بصيغة الماضي المصحوب بقد الدالة على التحقيق مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى ، ومن الظلمة إلى النور . انتهى .
( وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ( أي : هم لا يضرونك بتوليهم ، وما عليك أنت إلاَّ تنبيههم بما تبلغه إليهم من طلب إسلامهم وانتظامهم في عبادة الله وحده ، وقيل : إنها آية مواعدة منسوخة بآية السيف ، ولا نحتاج إلى معرفة تاريخ النزول ، وإذا نظرت إلى سبب نزول هذه الآيات ، وهو وفود وفد نجران ، فيكون المعنى : فإنما عليك البلاغ بقتالٍ وغيره .
( وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ). وفيه وعيد وتهديد شديد لمن تولى عن الإسلام ، ووعد بالخير لمن أسلم ، إذ معناه : إن الله مطلع على أحوال عبيده فيجازيهم بما تقتضي حكمته .
آل عمران : ( 21 ) إن الذين يكفرون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ ( الآية هي في اليهود والنصارى ، قاله محمد بن جعفر بن الزبير وغيره ، وصف من تولى عن الإسلام وكفر بثلاث صفات :
إحداهما : كفره بآيات الله وهم مقرون بالصانع ، جعل كفرهم ببعض مثل كفرهم بالجميع ، أو يجعل : بآيات الله ، مخصوصاً بما يسبق إليه الفهم من القرآن والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الثانية : قتلهم الأنبياء ، وقد تقدّمت كيفية قتلهم في البقرة في قوله ) وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ( والألف واللام في : النبيين ، للعهد .
والثالثة : قتل من أمر بالعدل .
فهذه ثلاثة أوصاف بدىء فيها بالأعظم فالأعظم ، وبما هو سبب للآخر : فأولها : الكفر بآيات الله ، وهو أقوى الأسباب في عدم المبالاة بما يقع من الأفعال القبيحة ، وثانيها : قتل من أظهر آيات الله واستدل بها . والثالث : قتل أتباعهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
وهذه الآية جاءت وعيداً لمن كان في زمانه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولذلك جاءت الصلة بالمستقبل ، ودخلت الفاء في خبر : أن ، لأن الموصول ضمن معنى اسم الشرط ، ولما كانوا على طريقة أسلافهم في ذلك ، نسب إليهم ذلك ، ولأنهم أرادوا قتله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقتل أتباعه

" صفحة رقم 430 "
فأطلق ذلك عليهم مجازاً أي : من شأنهم وإرادتهم ذلك . ويحتمل أن تكون الفاء زائدة على مذهب من يرى ذلك ، وتكون هذه الجملة حكاية عن حال آبائهم وما فعلوه في غابر الدهر من هذه الأوصاف القبيحة ، ويكون في ذلك إرذال لمن انتصب لعداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ هم سالكون في ذلك طريقة آبائهم .
والمعنى : إن آباءكم الذين أنتم مستمسكون بدينهم كانوا على الحالة التي أنتم عالمون بها من الاتصاف بهذه الأوصاف ، فينبغي لكم أن تسلكوا غير طريقهم ، فإنهم لم يكونوا على حق . فذكر تقبيح الأوصاف ، والتوعد عليها بالعقاب ، مما ينفر عنها ، ويحمل على التحلي بنقائضها من الإيمان بآيات الله وإجلال رسله وأتباعهم .
وقرأ الحسن : ويقتلون النبيين ، بالتشديد ، والتشديد هنا للتكثير بحسب المحل وقرأ حمزة ، وجماعة من غير السبعة : ويقاتلون الثاني . وقرأها الأعمش : وقاتلوا الذين ، وكذا هي في مصحف عبد الله وقرأ أبيّ : يقتلون النبيين والذين يأمرون ، ومن غاير بين الفعلين فمعناه واضح إذا لم يذكر أحدهما على سبيل التوكيد ، ومن حذف اكتفى بذكر فعل واحد لأشتراكهم في القتل ، ومن كرر الفعل فذلك على سبيل عطف الجمل وابراز كل جملة في صورة التشنيع والتفظيع ، لأن كل جملة مستقلة بنفسها ، أو لاختلاف ترتب العذاب بالنسبة على من وقع به الفعل ، فقتل الأنبياء أعظم من قتل من يأمر بالمعروف من غير الأنبياء ، فجعل القتل بسبب اختلاف مرتبته كأنهما فعلان مختلفان .
وقيل : يحتمل أن يراد بأحد القتلين تفويت الرّوح ، وبالآخر الإهانة وإماتة الذكر ، فيكونان إذ ذاك مختلفين .
وجاء في هذه السورة ) بِغَيْرِ حَقّ ( بصيغة التنكير ، وفي البقرة ) بِغَيْرِ الْحَقّ ( بصيغة التعريف ، لأن الجملة هنا أخرجت مخرج الشرط ، وهو عام لا يتخصص ، فناسب أن يكون المنفي بصيغة التنكير حتى يكون عاماً ، وفي البقرة جاء ذلك في صورة الخبر عن ناس معهودين ، وذلك قوله ) ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ( فناسب أن يأتي بصيغة التعريف ، لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفاً ، كقوله ) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ( فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف ، بخلاف ما في هذه السورة .
وقد تقدّم في البقرة أن قوله : ) بِغَيْرِ الْحَقّ ( هي حال مؤكدة ، إذ لا يقع قتل نبي إلاَّ بغير الحق ، وأوضحنا لك ذلك . فأغنى عن إعادته وإيضاحه هنا .
ومعنى : من الناس ، أي : غير الأنبياء ، إذ لو قال : ويقتلون الذين يأمرون بالقسط ، لكان مندرجاً في ذلك الأنبياء لصدق اللفظ عليهم ، فجاء من الناس بمعنى : من غير الأنبياء . قال الحسن : تدل الآية على أن القائم بالأمر بالمعروف تلى منزلته في العظم منزلة الأنبياء . وعن أبيه عبيدة بن الجراح ، قلت يا رسول الله : أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة ؟ قال : ( رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر ) . ثم قرأها . ثم قال : ( يا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني اسرائيل ، فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار ) .
( فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو يدل على أن المراد معاصروه لا آباؤهم ، فيكون إطلاق قتل الأنبياء مجازاً لأنهم لم يقتلوا أنبياء لكهنم رضوا ذلك وراموه .
وهذه الجملة هي خبر : إن ، ودخلت الفاء لما يتضمن الموصول من معنى اسم الشرط كما قدّمناه ، ولم يعب بهذا الناسخ لأنه لم يغير معنى الابتداء ، أعني : إن .
ومع ذلك في المسألة خلاف : الصحيح جواز دخول الفاء في خبر : إن ، إذا كان اسمها مضمناً معنى الشرط ، وقد تقدّمت شروط جواز دخول الفاء في خبر المبتدأ ، وتلك الشروط معتبرة هنا ، ونظير هذه الآية في دخول الفاء ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ( ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ( ) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ).
ومن منع ذلك جعل الفاء زائدة ، ولم يقس زيادتها . وتقدم أن البشارة هي أول خبر سار ، فإذا استعملت مع ما ليس بسار ، فقيل : ذلك هو على سبيل التهكم والاستهزاء كقوله :

" صفحة رقم 431 "
تحية بينهم ضرب وجيع
أي : القائم لهم مقام الخبر السار هو العذاب الأليم وقيل : هو على معنى تأثر البشرة من ذلك ، فلم يؤخذ فيه قيد السرور ، بل لوحظ معنى الاشتقاق .
آل عمران : ( 22 ) أولئك الذين حبطت . . . . .
( أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ ). تقدم تفسير هذه الجملة عند قوله ومن ) يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ( فأغنى عن إعادته .
وقرأ ابن عباس ، وأبو السمال : حبطت ، بفتح الباء وهي لغة .
( وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ ( مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء الإفراد ، لأنه رأس آية ، ولأنه بإزاء من للمؤمنين من الشفعاء الذين هم الملائكة والأنبياء وصالحو المؤمنين ، أي : ليس لهم كأمثال هؤلاء ، والمعنى : بانتفاء الناصرين انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد ، وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أَولى ، وإذا كان جمع لا ينصر فأحرى أن لا ينصر واحد ، ولما تقدم ذكر معصيتهم بثلاثة أوصاف ناسب أن يكون جزاؤهم بثلاثة ، ليقابل كل وصف بمناسبة ، ولما كان الكفر بآيات الله أعظم ، كان التبشير بالعذاب الأليم أعظم ، وقابل قتل الأنبياء بحبوط العمل في الدنيا والأخرة ، ففي الدنيا بالقتل والسبي وأخذ المال والاسترقاق ، وفي الآخرة بالعقاب الدائم ، وقابل قتل الآمرين بالقسط ، بانتفاء الناصرين عنهم إذا حل بهم العذاب ، كما لم يكن للآمرين بالقسط من ينصرهم حين حل بهم قتل المعتدين ، كذلك المعتدون لا ناصر لهم إذا حل بهم العذاب .
وفي قوله : أولئك ، إشارة إلى من تقدم موصوفاً بتلك الأوصاف الذميمة ، وأخبر عنه : بالذين ، إذ هو أبلغ من الخبر بالفعل ، ولأن فيه نوع انحصار ، ولأن جعل الفعل صلة يدل على كونها معلومة للسامع ، معهودة عنده ، فإذا أخبرت بالموصول عن اسم استفاد المخاطب أن ذلك الفعل المعهود المعلوم عنده المعهود هو منسوب للمخبر عنه بالموصول ، بخلاف الإخبار بالفعل ، فإنك تخبر المخاطب بصدوده عن من أخبرت به عنه ، ولا يكون ذلك الفعل معلوماً عنده ، فإن كان معلوماً عنده جعلته صلة ، وأخبرت بالموصول عن الأسم .
قيل وجمعت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبلاغة . أحدهما : التقديم والتأخير في : ) إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( قال ابن عباس التقدير : شهد الله أن الدين عند الله الاسلام ، أنه لا إله إلا هو ، ولذلك قرأ إنه ، بالكسر : وأن الدين ، بالفتح .
وأطلق اسم السبب على المسبب في قوله ) مِنْ بَعْدَمَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ ( عبر بالعلم عن التوراة والإنجيل أو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، على الخلاف الذي سبق .
وإسناد الفعل إلى غير فاعله في : ) حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ( وأصحاب النار

" صفحة رقم 432 "
والإيماء في قوله : ) بَغْياً بَيْنَهُمْ ( فيه إيماء إلى أن النفي دائر شائع فيهم ، وكل فرقة منهم تجاذب طرفاً منه .
والتعبير ببعض عن كل في : ) أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ ).
والاستفهام الذي يراد به التقرير أو التوبيخ والتقريع في قوله ) ءأَسْلَمْتُمْ ).
والطباق المقدر في قوله : ) فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ( ووجهه : أن الإسلام الانقياد إلى الإسلام ، والإقبال عليه ، والتولي ضد الإقبال . والتقدير : وإن تولوا فقد ضلوا ، والضلالة ضد الهداية .
والحشو الحسن في قوله ) بِغَيْرِ حَقّ ( فإنه لم يقتل قط نبي بحق ، وإنما أتى بهذه الحشوة ليتأكد قبح قتل الأنبياء ، ويعظم أمره في قلب العازم عليه .
والتكرار في ) وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ ( تأكيداً لقبح ذلك الفعل .
والزيادة في ) فَبَشّرْهُم ( زاد الفاء إيذاناً بأن الموصول ضمن معنى الشرط .
والحذف في مواضع قد تكلمنا عليها فيما سبق .
2 ( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ إِلاَ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( )

" صفحة رقم 433 "
آل عمران : ( 23 ) ألم تر إلى . . . . .
غَر ، يغر ، غروراً : خدع والغِر : الصغير ، والغريرة : الصغيرة ، سميا بذلك لأنهما ينخدعان بالعجلة ، والغِرة منه يقال : أخذه على غرة ، أي : تغفل وخداع ، والغُرة : بياض في الوجه ، يقال منه : وجه أغر ، ورجل أغر ، وامرأة غراء . والجمع على القياس فيهما غُر . قالوا : وليس بقياس وغران . قال الشاعر : ثياب بني عوف طهارى نقية
وأوجههم عند المشاهد غران
نزع ينزع : جذب ، وتنازعنا الحديث تجاذبناه ، ومنه : نزاع الميت ، ونزع إلى كذا : مال إليه وانجذب ، ثم يعبر به عن الزوال ، يقال : نزع الله عنه الشر : أزاله .
ولج يلج ولوجاً ولجة وولجاً ، وولج تولجاً وأتلج إتلاجاً قال الشاعر : فإن القوافي يتَّلجْن موالجا
تضايق عنها أن تولجها الإبر
الامد : غاية الشيء ، ومنتهاه ، وجمعه آماد .
اللهم : هو الله إلاَّ أنه مختص بالنداء فلا يستعمل في غيره ، وهذه الميم التي لحقته عند البصريين هي عوض من حرف النداء ، ولذلك لا تدخل عليه إلاَّ في الضرورة . وعند الفراء : هي من قوله : يا الله أمنا بخير ، وقد أبطلوا هذا النصب في علم النحو ، وكبرت هذه اللفظة حتى حذفوا منها : أل ، فقالوا : لا همّ ، بمعنى : اللهمّ . قال الزاجر : لا هم إني عامر بن جهم
أحرم حجاً في ثياب دسم
وخففت ميمها في بعض اللغات قال : كَحَلْقَه من أبي رياح
يسمعها اللَّهُمَ الكُبار
الصدر : معروف ، وجمعه : صدور .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ ( قال السدّي : دعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) اليهود إلى الإسلام ، فقال له النعمان بن أبي أوفى : هلم نخاصمك إلى الأحبار . فقال : ( بل إلى كتاب الله ) . فقال : بل إلى الأحبار . فنزلت .
وقال ابن عباس : دخل ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى المدارس على اليهود ، فدعاهم إلى الله ، فقال نعيم بن عمرو ، والحارث بن زيد : على

" صفحة رقم 434 "
أي دين أنت يا محمد ؟ فقال : ( على ملة إبراهيم ) . قالا : إن إبراهيم كان يهودياً . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( فهلموا إلى التوراة ) . فأبيا عليه ، فنزلت .
وقالَ الكلبي : زنى رجل منهم بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم ، فتحاكموا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) تخفيفاً للزانيين لشرفهما ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إنما أحكم بكتابكم ) . فأنكروا الرجم ، فجيء بالتوراة ، فوضع حبرهم ، ابن صوريا ، يده على آية الرجم ، فقال عبد الله بن سلام : جاوزها يا رسول الله ، فأظهرها فرُجما .
وقال النقاش : نزلت في جماعة من اليهود أنكروا نبوّته ، فقال لهم : ( هلموا إلى التوراة ففيها صفتي ) .
وقال مقاتل : دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام ، فقالوا : نحن أحق بالهدى منك ، وما أرسل الله نبياً إلا من بين إسرائيل ، قال : ( فأخرجوا التوراة فإني مكتوب فيها أني نبي ) فأبوا ، فنزلت ) وَالَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ ( هم : اليهود ، والكتاب : التوراة .
وقال مكي وغيره : اللوح المحفوظ ، وقيل : ) مّنَ الْكِتَابِ ( جنس للكتب المنزلة ، قاله ابن عطية ، وبدأ به الزمخشري و : من ، تبعيض .
وفي قوله : نصيباً ، أي : طرفاً ، وظاهر بعض الكتاب ، وفي ذلك إذ هم لم يحفظوه ولم يعلموا جميع ما فيه .
( يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ( هو : التوراة ، وقال الحسن ، وقتادة ، وابن جريح : القرآن . و : يدعون ، في موضع الحال من الذين ، والعامل : تر ، والمعنى : ألا تعجب من هؤلاء مدعوين إلى كتاب الله ؟ أي : في حال أن يدعوا إلى كتاب الله ) لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ( أي : ليحكم الكتاب . وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وعاصم الجحدري : ليُحكم ، مبيناً للمفعول والمحكوم فيه هو ما ذكر في سبب النزول .
( ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ ( هذا استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب ، ونسب التولي إلى فريق منهم لا إلى جميع المبعدين ، لأن منهم من أسلم ولم يتول كابن سلام وغيره .
( وَهُم مُّعْرِضُونَ ( جملة حالية مؤكدة لأن التولي هو الإعراض ، أو مبينة لكون التولي عن الداعي ، والإعراض عما دعا إليه ، فيكون المتعلق مختلفاً ، أو لكون التولي بالبدن والإعراض بالقلب ، أو لكون التولي من علمائهم والإعراض من أتباعهم ، قاله ابن الأنباري . أو جملة مستأنفة أخبر عنهم قوم لا يزال الإعراض عن الحق وأتباعه من شأنهم وعادتهم ، وفي قوله : ) بَيْنَهُمْ ( دليل على أن المتنازع فيه كان بينهم واقعاً لا بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو خلاف ما ذكر في أسباب النزول ، فإن صح سبب منها كان المعنى : ليحكم بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإن لم يصح حمل على الاختلاف الواقع بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم ، فدعوا إلى التوراة التي لا اختلاف في صحتها عندكم ، ليحكم بين المحق والمبطل ، فتولى من لم يسلم .
قيل وفي هذه الآية دليل على صحة نبوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنهم ولولا علمهم بما ادّعاه في كتبهم من نعته وصحة نبوته ، لما أعرضوا وتسارعوا إلى موافقة ما في كتبهم ، حتى ينبئوا عن بطلان دعواه . وفيا دليل على أن من دعاه خصمه إلى الحكم الحق لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب الله ، ويعضده : ) وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ ).
قال القرطبي : وإذا دعي إلى كتاب الله وخالف تعين زجره بالأدب على قدر المخالِف ، والمخالَف . وهذا الحكم جارٍ عندنا بالأندلس وبلاد المغرب ، وليس بالديار المصرية .
قال ابن خويزمنداد المالكي : واجب على من دعي إلى مجلس الحكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق .
آل عمران : ( 24 ) ذلك بأنهم قالوا . . . . .
( ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( الإشارة بذلك إلى التولي ، أي : ذلك التولي بسبب هذه الأقوال الباطلة ، وتسهيلهم على أنفسهم العذاب ، وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل .
وقال الزمخشري : كما طمعت الجبرية والحشوية .
( وَغَرَّهُمْ فِى

" صفحة رقم 435 "
دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( من أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، كما غرى أولئك بشفاعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في كبائرهم . إنتهى كلامه . وهو على عادته من اللهج بسب أهل السنة والجماعة ، ورميهم بالتشبيه ، والخروج إلى الطعن عليهم بأي طريق أمكنه .
وتقدّم تفسير هذه : الأيام المعدودات ، في سورة البقرة فأغنى عن إعادته هنا ، إلاَّ أنه جاء هناك : معدودة ، وهنا : معدودات ، وهما طريقان فصيحان تقول : جبال شامخة ، وجبال شامخات . فتجعل صفة جمع التكسير للمذكر الذي لا يعقل تارة لصفة الواحدة المؤنثة ، وتارة لصفة المؤنثات . فكما تقول : نساء قائمات ، كذلك تقول : جبال راسيات ، وذلك مقيس مطرد فيه .
( وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( قال مجاهد : الذي افتروه هو قولهم : ) لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( وقال قتادة : بقولم : نحن أبناء الله وأحباؤه . وقيل : ) لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ). وقيل : مجموع هذه الأقوال .
وارتفع : ذلك ، بالابتداء ، و : بأنهم ، هو الخبر ، أي : ذلك الإعراض والتولي كائن لهم وحاصل بسبب هذا القول ، وهو قولهم : إنهم لا تمسهم النار إلاَّ أياماً قلائل ، يحصرها العدد . وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، أي : شأنهم ذلك ، أي التولي والإعراض ، قاله الزجاج . وعلى هذا يكون : بأنهم ، في موضع الحال ، أي : مصحوباً بهذا القول ، و : ما في : ما كانوا ، موصولة ، أو مصدرية .
آل عمران : ( 25 ) فكيف إذا جمعناهم . . . . .
( فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( هذا تعجيب من حالهم ، واستعظام لعظم مقالتهم حين اختلفت مطامعهم ، وظهر كذب دعواهم ، إذ صاروا إلى عذاب ما لهم حيلة في دفعه ، كما قال تعالى : ) تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ( هذا الكلام يقال عند التعظيم لحال الشيء ، فكيف إذا توفتهم الملائكة ؟ وقال الشاعر : فكيف بنفس ، كلما قلت : أشرفت
على البرء من دهماء ، هيض اندمالها
وقال : فكيف ؟ وكلٌّ ليس يعدو حمامه
وما لامرىء عما قضى الله مرحلُ
وانتصاب : فكيف ، قيل على الحال ، والتقدير : كيف يصنعون ؟ وقدره الحوفي : كيف يكحون حالهم ؟ فإن أراد كان التامة كانت في موضع نصب على الحال ، وإن كانت الناقصة كانت في موضع نصب على خبر كان ، والأجود أن تكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى : التقدير : كيف حالهم ؟ والعامل في : إذا ، ذلك الفعل الذي قدره ، والعامل في : كيف ، إذا كانت خبراً عن المبتدأ إن قلنا إن انتصابها انتصاب الظروف ، وإن قلنا إنها اسم غير ظرف ، فيكون العامل في : إذا ، المبتدأ الذي قدرناه ، أي : فكيف حالهم في ذلك الوقت ؟ وهذا الاستفهام لا يحتاج إلى جواب ، وكذا أككثر استفهامات القرآن ، لأنها من عالم الشهادة ، وإنما استفهامه تعالى تقريع .
واللام ، تتعلق : بجمعناهم ، والمعنى : لقضاء يوم وجزائه كقوله : ) إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ ( قال النقاش : اليوم ، هنا الوقت ، وكذلك : ) أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( و ) فِى يَوْمَيْنِ ( و ) فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ( إنما هي عبارة عن أوقات ، فإنما الأيام والليالي عندنا في الدنيا .
وقال ابن عطية : الصحيح في يوم القيامة أنه يومك ، لأنه قبله ليلة وفيه شمس .
ومعنى : ) لاَ رَيْبَ فِيهِ ( أي في نفس الأمر ، أو عند المؤمن ، أو عند المخبر عنه ، أو حين يجمعهم فيه ، أو معناه : الأمر خمسة أقوال .
( وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( تقدم تفسير مثل يهذا في البقرة ، آخر آيات الربا .
آل عمران : ( 26 ) قل اللهم مالك . . . . .
( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِك

" صفحة رقم 436 "
َ الْمُلْكِ ( قال الكلبي : ظهرت صخرة في الخندق ، فضربها ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فبرق برق فكبر ، وكذا في الثانية والثالثة ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( في الأولى : قصور العجم ، وفي الثانية : قصور الروم . وفي الثالثة : قصور اليمن فأخبرني جبريل عليه السلام : أن أمتي ظاهرة على الكل ) . فعيره المنافقون بأنه يضرب المعول ويحفر الخندق فرقاً ، ويتمنى ملك فارس والروم ، فنزلت . اختصره السجاوندي هكذا ، وهو سبب مطول جد .
وقال ابن عباس : لما فتحت مكة ، كبر على المشركين وخافوا فتح العجم ، فقال عبد الله بن أبي : هم أعز وأمنع ، فنزلت .
وقال ابن عباس ، وأنس : لما فتح ( صلى الله عليه وسلم ) ) مكة ، وعد أمته ملك فارس والروم ، فنزلت .
وقيل : بلغ ذلك اليهود فقالو : هيهات هيهات فنزلت ، فذلوا وطلبوا المواصمة . وقال الحسن : سأل ( صلى الله عليه وسلم ) ) ملك فارس والروم لأمته ، فنزلت على لفظ النهي . وروي نحوه عن قتادة أنه ذكر له ذلك . وقال أبو مسلم الدمشقي : قالت اليهود : والله لا نطيع رجلاً جاء بنقل النبوّة من بني إسرائيل إلى غيرهم ، فنزلت .
وقيل : نزلت رداً على نصارى نجران في قولهم : إن عيسى هو الله ، وليس فيه شيء من هذه الأوصاف .
والملك هنا ظاهره السلطان والغلبة ، وعلى هذا التفسير جاءت أسباب النزول . وقال مجاهد : الملك النبوّة ، وهذا يتنزل على نقل أبي مسلم في سبب النزول . وقيل : المال والعبيد ، وقيل : الدنيا والآخرة .
وقال الزجاج : مالك العباد وما ملكوا . وقال الزمخشري : أي تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون . وقال معناه ابن عطية ، وقد تكلم في لفظة : اللهم ، من جهة النحو ، فقال : أجمعوا على أنها مضمومة الهاء مشدّدة الميم المفتوحة ، وأنها منادى . إنتهى . وما ذكر من الإجماع على تشديد الميم قد نقل الفراء تخفيف ميمها في بعض اللغات ، قال : وأنشد بعضهم : كَحْلَفةٍ من أبي رِيَاح
يسمعها اللَّهم الكبار
قال الراد عليه : تخفيف الميم خطأ فاحش خصوصاً عند الفراء ، لأن عنده هي التي في أمّنا ، إذ لا يحتمل التخفيف أن تكون الميم فيه بقية أمّنا . قال : والرواية الصحيحة يسمعها لاهه الكبار . إنتهى . وإن صح هذا البيت عن العرب كان فيه شذوذ آخر من حيث استعماله في غير النداء ، ألا ترى أنه جعله في هذا البيت فاعلاً بالفعل الذي قبله ؟ قال أبو رجاء العطاردي : هذه الميم تجمع سبعين اسماً من اسمائه وقال النضر بن شميل : من قال اللهم فقد دعا الله بجيع أسمائه كلها . وقال الحسن : اللهم مجمع الدعاء . ومعنى قول النضر : إن اللهم هو الله زيدت فيه الميم ، فهو الأسم العلم المتضمن لجميع أوصاف الذات ، لأنك إذا قلت : جاء زيد ، فقد ذكرت الأسم الخاص ، فهو متضمن جميع أوصافه التي هي فيه من شهلة أو طول أو جود أو شجاعة ، أو اضدادها وما أشبه ذلك .
وانتصاب : مالك الملك ، على أنه منادى ثانٍ أي : يا مالك الملك ، ولا يوصف اللهم عند سيبويه ، وأجاز أبو العباس وأبو إسحاق وصفه ، فهو عندهما صفة للاهم ، وهي مسألة خلافية يبحث عنها في علم النحو .
( تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ( الظاهر أن الملك هو السلطان والغلبة ، كما أن ظاهر الملك الأوّل كذلك ، فيكون الأوّل عاماً ، وهذان

" صفحة رقم 437 "
خاصين . والمعنى : إنك تعطي من شئت قسماً من الملك ، وتنزع ممن شئت قسماً من الملك وقد فسر الملك هنا بالنبوّة أيضاً ، ولا يتأتى هذا التفسير في : تنزع الملك ، لأن الله لم يؤت النبوّة لأحد ثم نزعها منه إلاَّ أن يكون تنزع مجازاً بمعنى : تمنع النبوّة ممن تشاء ، فيمكن .
وقال أبو بكر الوراق : هو ملك النفس ومنعها من اتباع الهوى . وقيل : العافية ، وقيل : القناعة . وقيل : الغلبة بالدين والطاعة . وقيل : قيام الليل . وقال الشبلي : هو الاستغناء بالمكون عن الكونين . وقال عبد العزيز بن يحيى : هو قهر إبليس كما كان يفرّ من ظل عمر ، وعكسه من كان يجري الشيطان منه مجرى الدم . وقيل : ملك المعرفة بلا علة ، كما أتى سحرة فرعون ، ونزع من بلعام . وقال أبو عثمان : هو توفيق الإيمان .
وإذا حملناه على الأظهر : وهو السلطنة والغلبة ، وكون المؤتَى هو الآمر المتبع ، فالذي آتاه الملك هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمته ، والمنزوع منهم فارس والروم . وقيل : المنزوع منه أبو جهل وصناديد قريش . وقيل : العرب وخلفاء الإسلام وملوكه ، والمنزوع فارس والروم . وقال السدي : الأنبياء أمر الناس بطاعتهم ، والمنزوع منه الجبارون أمر الناس بخلافهم . وقيل : داود عليه السلام ، والمنزوع منه طالوت . وقيل : صخر ، والمنزوع منه سليما أيام محنته . وقيل : المعنى تؤتي الملك في الجنة من تشاء وتنزع الملك من ملوك الدنيا في الآخرة ممن تشاء . وقيل : الملك العزلة والانقطاع ، وسموه الملك المجهول .
وهذه أقوال مضطربة ، وتخصيصات ليس في الكلام ما يدل عليها ، والأولى أن يحمل على جهة التمثيل لا الحصر في المراد .
( وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ( قيل : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه ، حين دخلوا مكة في اثني عشر ألفاً ك ظاهرين عليها ، وأذل أبا جهل وصناديد قريش حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب . وقيل : بالتوفيق والعرفان ، وتذل بالخذلان . وقال عطاء : المهاجرين والأنصار وتذل فارس والروم . وقيل : بالطاعة وتذل بالمعصية . وقيل : بالظفر والغنيمة وتذل بالقتل والجزية . وقيل : بالإخلاص وتذل بالرياء . وقيل بالغنى وتذل بالفقر . وقيل : بالجنة والرؤية وتذل بالحجاب والنار ، قاله الحسن بن الفضل . وقيل : بقهر النفس وتذل باتباع الخزي ، قاله الوراق . وقيل : بقهر الشيطان وتذل بقهر الشيطان اياه ، قاله الكتاني . وقيل : بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع .
ينبغي حمل هذه الأقاويل على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية ، بل الذي يقع به العز والذل مسكوت عنه ، وللمعتزلة هنا كلام مخالف لكلام أهل السنة ، قال الكعبي : تؤتى الملك على سبيل الاستحقاق من يقوم به ، ولا تنزعه إلاَّ ممن فسق ، يدل عليه ) لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( ) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ( جعل الاصطفاء سبباً للملك ، فلا يجوز أن يكون ملك الظالمين بإيتائه وقد يكون ، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ، فصح أن الملوك العادلين

" صفحة رقم 438 "
هم المخصوصون بايتاء الله الملك ، وأما الظالمون فلا .
أما النزع فبخلافه ، فكما ينزعه من العادل لمصلحة ، فقد ينزعه من الظالم .
وقال القاضي عبد الجبار : الإعزاز المضاف إليه تعالى يكون في الدين بالإمداد بالألطاف ومدحهم وتغلبهم على الأعداء ، ويكون في الدنيا بالمال وإعطاء الهيبة . وأشرف أنواع العزة في الدين هو الإيمان ، وأذل الأشياء الموجبه للذلة هو الكفر ، فلو كان حصول الإيمان والكفر من العبد لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله إياه وإذلاله ، ولو كان كذلك كان حظه من هذا الوصف أتم من حظه سبحانه ، وهو باطل قطعاً .
وقال الجبائي : يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ، ولا يذل أولياءه وإن أفقرهم وأمرضهم وأخافهم وأحوجهم إلى غير ذلك ، لأن ذلك لعزهم في الآخرة بالثواب أو العوض فصار كالفصد يؤلم في الحال ويعقب نفعاً . قال : ووصف الفقر بكونه ذلاً مجازاً ، كقوله أذلة على المؤمنين ( وإذلال الله المبطل بوجوه بالذم واللعن ، وخذلانهم بالحجة والنصرة ، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة ، وبعقوبتهم في الآخرة .
( ( وإذلال الله المبطل بوجوه بالذم واللعن ، وخذلانهم بالحجة والنصرة ، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة ، وبعقوبتهم في الآخرة .
( بِيَدِكَ الْخَيْرُ ( أي : بقدرتك وتصديقك وقع الخير ، ويستحيل وجود اليد بمعنى الجارحه لله تعالى .
قيل : المعنى والشر ، نحو : تقيكم الحرّ ، أي والبرد . وحذف المعطوف جائز لفهم المعنى ، إذ أحد الضدين يفهم منه الآخر ، وهو تعالى قد ذكر إيتاء الملك ونزعه ، والإعزاز والإذلال ، وذلك خير لناس وشر لآخرين ، فلذلك كان التقدير : بيدك الخير والشر ، ثم ختمها بقوله ) إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ( فجاء بهذا العام المندرج تحته الأوصاف السابقة ، وجمع الخيور والشرور ، وفي الاقتصار على ذكر الخير تعليم لنا كيف نمدح بأن نذكر أفضل الخصال .
وقال الزمخشري . فإن قلت : كيف قال ) بِيَدِكَ الْخَيْرُ ( فذكر الخير دون الشر ؟
قلت لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين ، وهو الذي أنكرته الكفرة ، فقال : ) بِيَدِكَ الْخَيْرُ ( تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك ، ولأن كل أفعال الله من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله . انتهى كلامه ، وهو يدافع آخرهُ أولَه ، لأنه ذكر في السؤال ؛ لَم اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؟
وأجاب بالجواب الأول ، وذلك يدل على أن بيده تعالى الخير والشر ، وإنما كان اقتصاره على الخير لأن الكلام إنما وقع فيما يسوقه تعالى من الخير للمؤمنين ، فناسب الاقتصار على ذكر الخير فقط .
وأجاب بالجواب الثاني : وذلك يدل على أنه تعالى جميع أفعاله خير ليس فيها شر ، وهذا الجواب يناقض الأول .
وقال ابن عطية : خص الخير بالذكر ، وهو تعالى بيده كل شيء ، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة ، فكان المعنى : ) بِيَدِكَ الْخَيْرُ ( فأجزل حظي منه .
وقال الراغب : لما كانت في الحمد والشكر لا للحكم ، ذكر الخير إذ هو المشكور عليه .
وقال الرازي : الخير فيه الألف واللام الدالة على العموم ، وتقديم : بيدك ، يدل على الحصر ، فدل على أن لا خير إلاَّ بيده ، وأفضل الخيرات الإيمان ، فوجب أن يكون بخلق الله . ولأن فاعل الأشرف أشرف ، والإيمان أشرف .
آل عمران : ( 27 ) تولج الليل في . . . . .
( تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ ( قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد : المعنى ما ينتقص من النهار يزيد في الليل ، وما ينتقص من الليل يزيد في النهار ، دأباً كل فصل من السنة ، قيل : حتى يصير الناقص تسع ساعات ، والزائد خمس عشرة ساعة . وذكر بعض معاصرينا : أجمع أرباب علم الهيئة على أن الذي تحصل به الزيادة من الليل والنهار يأخذ كل واحد منهما من صاحبه ثلاثين درجة ، فتنتهي زيادة الليل على النهار إلى أربع عشرة ساعة ، وكذلك العكس .
وذكر الماوردي : أن المعنى في الولوج هنا تغطية الليل بالنهار إذا أقبل ، وتغطية النهار بالليل ، إذا أقبل ، فصيرورة كل واحد منهما في زمان الآخر كالولوج فيه ، وأورد هذا القول احتمالاً ابن عطية ، فقال : ويحتمل لفظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار ، وكان زوال أحدهما ولوج الآخر .
( وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَىِّ ( معنى الإخراج التكوين هنا ، والإخراج حقيقة هو إخراج الشيء من الظرف قال ابن مسعود ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، وإبراهيم ، والسدي ، وإسماعيل بن أبي خالة إبراهيم ، وعبد الرحمن بن زيد . تخرج

" صفحة رقم 439 "
الحيوان من النطفة وهي ميتة إذا انفصلت النطفة من الحيوان ، وتخرج النطفة وهي ميتة من الرجل وهو حي ، فعلى هذا يكون الموت مجازاً إذ النطفة لم يسبق لها حياة ، ويكون المعنى : وتخرج الحي من ما لا تحله الحياة وتخرج ما لا تحله الحياة من الحي ، والإخراج عبارة عن تغير الحال .
وقال عكرمة ، والكلبي : أي الفرخ من البيضة ، والبيضة من الطير ، والموت أيضاً هنا مجاز والإخراج حقيقة .
وقال أبو مالك : النخلة من النواة ، والسنبلة من الحبة ، والنواة من النخلة ، والحبة من السنبلة ، والموت والحياة في هذا مجاز .
وقال الحسن ، وروى نحوه عن سامان الفارسي : تخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، وهما أيضاً مجاز . وفي الحديث : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( سبحان الله الذي يخرج الحيّ من الميت ) . وقد رأى امرأة صالحة مات أبوها كافراً وهي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث .
وقال الزجاج : يخرج النبات الغض الطري من الحب ، ويخرج الحب اليابس من النبات الحيّ .
وقيل : الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب وقال الماوردي : ويحتمل يخرج الجلد الفطن من البليد العاجز ، والعكس ، لأن الفطنة حياة الحس والبلادة موته . وقيل : يخرج الحكمة من قلب الفاجر لأنها لا تستقر فيه ، والسقطة من لسان العارف وهذه كلها مجازات بعيدة .
والأظهر في قوله ) الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ ( تصور اثنين وقيل : عنى بذلك شيئاً واحداً يتغير به الحال ، فيكون ميتاً ثم يحيا ، وحياً ثم يموت . نحو قولك : جاء من فلان أسد وقال ابن عطية : ذهب جمهور من العلماء إلى أن الحياة والموت هنا حقيقتان لا استعارة فيهما ، ثم اختلفوا في المثل الذي فسروا به ، وذكر قول ابن مسعود وقول عكرمة المتقدمين ، ولا يمكن الحمل إذ ذاك على الحقيقة أصلاً ، وكذلك في الموت ، وشدّد حفص ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي : الميِّت ، في هذه الآية . وفي الأنعام ، والأعراف ، ويونس ، والروم ، وفاطر زاد نافع تشديد الياء في : ) أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( وفي الأنعام و ) الاْرْضُ الْمَيْتَةُ ( في يس و ) لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ( في الحجرات . وقرأ الباقون بتخفيف ذلك ، ولا فرق بين التشديد والتخفيف في الاستعمال ، كما تقول : لين وليّن وهين وهيّن . ومن زعم أن المخفف لما قد مات ، والمشدّد لما قد مات ولما لم يمت فيحتاج إلى دليل .
( وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( تقدّم تفسير نظيره في قوله ) وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ( فأغنى ذلك عن اعادته هنا وقال الزمخشري : ذكر قدرته الباهرة ، فذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما ، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر ، وعطف عليه رزقه بغير حساب دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده ، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ، ويؤتيه العرب ويعزهم . انتهى . وهو حسن .
قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من : الفصاحة ، والبلاغة ، والبديع .
الاستفهام الذي معناه التعجب في ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ). والإشارة في ) نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ ( فإدخال : من ، يدل على أنهم لم يحيطوا بالتوراة علماً ولا حفظاً ، وذلك إشارة إلى الإزراء بهم

" صفحة رقم 440 "
وتنقيص قدرهم وذمهم ، اذ يزعمون أنهم أخياروهم بخلاف ذلك ، وفي قوله ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ( إشارة إلى توليهم وإعراضهم اللذين سببهما افتراؤهم ، وفي ) وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ( إشارة إلى أن جزاء أعمالهم لا ينقص منه شيء .
والتكرار في ) عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ ( ) يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ( إما في اللفظ والمعنى إن كان المدلول واحداً ، وإما في اللفظ إن كان مختلفاً . وفي التولي والإعراض إن كانا بمعنى واحد . وفي : ) مَالِكَ الْمُلْكِ ( ) تُؤْتِى الْمُلْكَ ( ) وَتَنزِعُ الْمُلْكَ ( وتكراره في جمل للتفخيم والتعظيم إن كان المراد واحداً ، وإن اختلف كان من تكرار اللفظ فقط ، وتكرار ) مَن تَشَاء ( وفي ) تُولِجُ ( وفي ) تُخْرِجُ ( وفي متعلقيهما . والاتساع في جعل : في ، بمعنى : على ، على قول من زعم ذلك في قوله ) تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ ( أي على النهار ، ( وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ ( أي على الليل . وعبر بالإيلاج عن العلو والتغشية .
والنفي المتضمن الأمر في ) لاَ رَيْبَ فِيهِ ( على قول الزجاج ، أي لا ترتابوا فيه ، والتجنيس المماثل في ) مَالِكَ الْمُلْكِ ( والطباق : في : تؤتي وتنزع ، وتعز وتذل ، وفي الليل والنهار ، وفي الحي والميت . ورد العجز على الصدر في : تولج ، وما بعده ، والحذف وهو في مواضع مما يتوقف فهم الكلام على تقديرها . كقوله ) تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء ( أي من تشاء أن تؤتيه . والإسناد المجازي في ) لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ( أسند الحكم إلى الكتاب لأنه يبين الأحكام فهو سبب الحكم وروي في الحديث : ( إن من أراد قضاء دينه قرأ كل يوم : قل اللهم مالك الملك إلى بغير حساب . ويقول رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطي منهما من تشاء إقض عني ديني . فلو كان ملء الأرض ذهباً لأداه الله ) .
آل عمران : ( 28 ) لا يتخذ المؤمنون . . . . .
( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( قيل : نزلت في عبادة بن الصامت ، كان له حلفاء من اليهود فأراد أن يستظهر بهم على العدو وقيل : في عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتوالون اليهود وقيل : في قوم من اليهود ، وهم : الحجاح بن عمر ، وكهمس بن أبي الحقيق ، وقيس بن يزيد ، كانوا يباطنون نفراً من الأنصار يفتنونهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين وقالوا : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، فأبوا ، فنزلت هذه الأقوال مروية عن ابن عباس . وقيل : في حاطب بن بلتعة ، وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار قريش ، فنزلت .
ومعنى : اتخاذهم أولياء : اللطف بهم في المعاشرة ، وذلك لقرابة أو صداقة . قبل الإسلام ، أو يد سابقة أو غير ذلك ، وهذا فيما

" صفحة رقم 441 "
يظهر نهوا عن ذلك ، وأما أن يتخذ ذلك بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن ، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان ، فالنهي هنا إنما معناه النهي عن اللطف بهم والميل إليهم ، واللطف عام في جميع الأعصار ، وقد تكرر هذا في القرآن . ويكفيك من ذلك قوله تعالى : ) لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( الآية ، والمحبة في الله والبغض في الله أصل عظيم من أصول الدين .
وقرأ الجمهور : لا يتخذ ، على النهي وقرأ الضبي برفع الذال على النفي ، والمراد به النهي ، وقد أجاز الكسائي فيه الرفع كقراءة الضبي .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه من تعظيم الله تعالى والثناء عليه بالأفعال التي يختص بها ، ذكر ما يجب على المؤمن من معاملة الخلق ، وكان الآيات السابقة في الكفار فنهوا عن موالاتهم وأمروا بالرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه إذ هو تعالى مالك الملك .
وظاهر الآية تقتضي النهي عن موالاتهم إلاَّ ما فسح لنا فيه من اتخاذهم عبيداً ، والاستعانة بهم استعانه العزيز بالذليل ، والأرفع بالأوضع ، والنكاح فيهم . فهذا كله ضرب من الموالاة أذن لنا فيه ، ولسنا ممنوعين منه ، فالنهي ليس على عمومه .
( مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( تقدم تفسير : من دون ، في قوله ) وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ ( فأغنى عن إعادته .
و : يتخذ ، هنا متعدية إلى اثنين ، و : من دون ، متعلقة بقوله : لا يتخذ ، و : من ، لابتداء الغاية قال علي بن عيسى : أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين .
( وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْء ( ذلك إشارة إلى اتخاذهم أولياء ، وهذا يدل على المبالغة في ترك الموالاة ، إذ نفي عن متوليهم أن يكون في شيء من الله ، وفي الكلام مضاف محذوف أي : فليس من ولاية الله في شيء وقيل : من دينه وقيل : من عبادته وقيل : من حزبه . وخبر : ليس ، هو ما استقلت به الفائدة ، وهي : في شيء ، و : من الله ، في موضع نصب على الحال ، لأنه لو تأخر لكان صفة لشيء ، والتقدير : فليس في شيء من ولاية الله . و : من ، تبعيضية نفي ولاية الله عن من اتخذ عدوه ولياً ، لأن الولايتين متنافيتان ، قال : تود عدوي ثم تزعم أنني
صديقك ، ليس النَّوْكُ عنك بعازب
وتشبيه من شبه الآية ببيت النابغة : إذا حاولت في أسد فجورا
فإني لست منك ولست مني
ليس بجيد ، لأن : منك ومني ، خبر ليس ، وتستقل به الفائدة . وفي الآية الخبر قوله : في شيء ، فليس البيت كالآية .
قال ابن عطية ) فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْء ( معناه في شيء مرضي على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من غشنا فليس منا ) . وفي الكلام حذف مضاف تقديره : فليس من التقرب إلى الله والتزلف . ونحو هذا مقوله : في شيء ، هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله : ) لَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَىْء ). انتهى كلامه . وهو كلام مضطرب ، لأن تقديره : فليس من التقرب إلى الله ، يقتضي أن لا يكون من الله خبراً لليس ، إذ لا يستقل . فقوله : في شيء ، هو في موضع نصب على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً ، فيبقى : ليس ، على قوله لا يكون لها خبر ، وذلك لا يجوز . وتشبيهه بقوله عليه السلام : ( من غشنا فليس منا ) ليس بجيد لما بيناه من الفرق في بيت النابغة بينه وبين الآية .
( إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ( هذا استثناء مفرع من المفعول له ، والمعنى لا يتخذوا كافراً ولياً لشيء من الأشياء إلاَّ لسبب التقية ، فيجوز إظهار الموالاة باللفظ والفعل دون

" صفحة رقم 442 "
ما ينعقد عليه القلب والضمير ، ولذلك قال ابن عباس : التقية المشار إليها مداراة ظاهرة وقال : يكون مع الكفار أو بين أظهرهم ، فيتقيهم بلسانه ، ولا مودة لهم في قلبه .
وقال قتادة : إذا كان الكفار غالبين ، أو يكون المؤمنون في قوم كفار فيخافونهم ، فلهم أن يحالفوهم ويداروهم دفعاً للشر وقلبهم مطمئن بالإيمان .
وقال ابن مسعود : خالطوا الناس وزايلوهم وعاملوهم بما يشتهون ، ودينكم فلا تثلموه وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد : خالص المؤمن وخالق الكافر ، إن الكافر يرضى منك بالخلق الحسن .
وقال الصادق : التقية واجبة ، إني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فاستتر منه بالسارية لئلا يراني وقال : الرياء مع المؤمن شرك ، ومع المنافق عبادة .
وقال معاذ بن جبل ، ومجاهد : كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين ، فأما اليوم فقد أعز الله المسلمين أن يتقوهم بأن يتقوا من عدوهم .
وقال الحسن : التقية جائزة إلى يوم القيامة ، ولا تقية في القتل وقال مجاهد : إلا أن تتقوا قطيعة الرحم فخالطوهم في الدنيا .
وفي قوله ) إِلا أَن تَتَّقُواْ ( التفات ، لأنه خرج من الغيبة إلى الخطاب ، ولو جاء على نظم الأول لكان : إلا أن يتقوا ، بالياء المعجمة من أسفل ، وهذا النوع في غاية الفصاحة ، لأنه لما كان المؤمنون نهوا عن فعل ما لا يجوز ، جعل ذلك في اسم غائب ، فلم يواجهوا بالنهي ، ولما وقعت المسامحة والإذن في بعض ذلك ووجهوا بذلك إيذاناً بلطف الله بهم ، وتشريفاً بخطابه إياهم .
وقرأ الجمهور : تقاة ، وأصله : وقية ، فأبدلت الواو تاء ، كما أبدلوها في : تجاه وتكاه ، وانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وهو مصدر على فعلة : كالتؤدة والتخمة ، والمصدر على فعل أو فعلة جاء قليلاً . وجاء مصدراً على غير الصدر ، إذ لو جاء على المقيس لكان : اتقاء ونظير وقوله تعالى : ) وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ( وقول الشاعر : ولاح بجانب الجبلين منه
ركام يحفر الأرض احتفاراً
والمعنى : إلاَّ أن تخافوا منهم خوفاً . وأمال الكسائي : تقاة ، وحق تقاته ، ووافقه حمزة هنا وقرأ ورش بين اللفظين ، وفتح الباقون .
وقال الزمخشري : إلاَّ أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه وقرىء : تقية . وقيل : للمتقي تقاة وتقية ، كقولهم : ضرب الأمير لمضروبه . انتهى فجعل : تقاة ، مصدراً في موضع اسم المفعول ، فانتصابه على أنه مفعول به لا على أنه مصدر ، ولذلك قدره إلاَّ أن تخافوا أمراً .
وقال أبو عليّ : يجوز أن يكون : تقاة ، مثل : رماة ، حالاً من : تتقوا ، وهو جمع فاعل ، وإن كان لم يستعمل منه فاعل ، ويجوز أن يكون جمع تقي . انتهى كلامه .
وتكون الحال مؤكدة لأنه قد فهم معناها من قوله ) إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ ( وتجويز كونه جمعاً ضعيف جدّاً ، ولو كان جمع : تقي ، لكان أتقياء ، كغني وأغنياء ، وقولهم : كمي وكماة ، شاذ فلا يخرجّ عليه ، والذي يدل على تحقيق المصدرية فيه قوله تعالى : ) اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ( المعنى حق اتقائه ،

" صفحة رقم 443 "
وحسن مجيء المصدر هكذا ثلاثياً أنهم قد حذفوا : اتقى ، حتى صار : تقي يتقي ، تق الله فصار كأنه مصدر لثلاثي .
وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو حيوة ، ويعقوب ، وسهل ، وحميد ابن قيس ، والمفضل عن عاصم : تقية على وزن مطية وجنية ، وهو مصدر على وزن : فعيلة ، وهو قليل نحو : النميمة . وكونه من افتعل نادر .
وظاهر الآية يقتضى جواز موالاتهم عند الخوف منهم ، وقد تكلم المفسرون هنا في التقية ، إذ لها تعلق بالآية ، فقالو : أما الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها ، وكذلك الموالاة بالقول والفعل من غير تقية ، ونصوص القرآن والسنة تدل على ذلك ، والنظر في التقية يكون فيمن يتقى منه ؟ وفيما يبيحها ؟ وبأي شيء تكون من الأقوال والأفعال ؟ فأما من يتقى منه فكل قادر غالب يكره بجور منه ، فيدخل في ذلك : الكفار ، وجورة الرؤساء ، والسلابة ، وأهل الجاه في الحواضر . قال مالك : وزوج المرأة قد يكره ؛ وأما ما يببحها : فالقتل ، والخوف على الجوارح ، والضرب بالسوط ، والوعيد ، وعداوة أهل الجاه الجورة . وأما بأي شيء تكون من الأقوال ؟ فبالكفر فما دونه من : بيع ، وهبة ، وغير ذلك . وأما من الأفعال : فكل محرم .
وقال مسروق : إن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وهذا شاذ .
وقال جماعة من أهل العلم : التقية تكون في الأقوال دون الأفعال ، روي ذلك عن ابن عباس ، والربيع ، والضحاك .
وقال أصحاب أبي حنيفة : التقية رخصة من الله تعالى ، وتركها أفضل ، فلو أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل فهو أفضل ممن أظهر ، وكذلك كل أمر فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة . قال أحمد بن حنبل ، وقد قيل له : إن عرضت على السيف تجيب ؟ قال : لا . وقال : إذا أجاب العالم تقية ، والجاهل يجهل ، فمتى يتبين الحق ؟ والذي نقل إلينا خلفاً عن سلف أن الصحابة ، وتابعيهم ، بذلوا أنفسهم في ذات الله . وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا سطوة جبار ظالم .
وقال الرازي : إنما تجوز التقية فيما يتعلق بإظهار الحق والدين ، وأما ما يرجع ضرورة إلى الغير : كالقتل ، والزنا ، وغصب الأموال ، والشهادة بالزور ، وقذف المحصنات ، وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فغير جائز البتة .
وظاهر الآية يدل على أنها مع الكفار الغالبين ، إلاَّ أن مذهب الشافعي : أن الحالة بين المسلمين إذا شاكت الحال بين المشركين جازت التقية محاماة عن النفس ، وهي جائزة لصون النفس والمال . إنتهى .
قيل : وفي الآية دلالة على أنه لادلالة لكافر على مسلم في شيء ، ماذا كان له ابن صغير مسلم باسلام أمة فلا ولا به له عليه في تصرف ولا تزوّج ولا غيره .
قيل : وفيها دلالة على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم ، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته ، لأن ذلك من الموالاة والنصرة والمعونة .
( وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ( قال ابن عباس : بطشه ، وقال الزجاج : نفسه أي : إياه تعالى ، كما قال الأعشى : يوماً بأجود نائلاً منه إذا
نفس الجبان تجهمت سؤَّالها
أراد إذا البخيل تجهم سؤاله . قال ابن عغطية : وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر ، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات . وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه . فقال ابن عباس ، والحسن : ويحذركم الله عقابه . إنتهى كلامه .
ولما نهاهم تعالى عن اتخاذ الكافرين أولياء ، حذرهم من مخالفته بموالاة أعداه قال : ) وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( أي : صيرورتكم ورجوعكم ، فيجازيكم إن ارتكبتم موالاتهم بعد النهي . وفي ذلك تهديد وعيد شديد .
آل عمران : ( 29 ) قل إن تخفوا . . . . .
( قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ( تقدّم تفسير نظير هذه الآية في أواخر آي البقرة ، وهناك قدّم الإبداء على الإخفاء ، وهنا قدم الإخفاء على الإبداء ، وجعل محلهما ما في الصدور ، وأتى جواب الشرط قوله : ) يَعْلَمْهُ اللَّهُ ( وذلك من التفنن في الفصاحة . والمفهوم أن

" صفحة رقم 444 "
الباري تعالى مطلع على ما في الضمائر ، لا يتفاوت علمه تعالى بخفاياها ، وهو مرتب على ما فيها الثواب والعقاب إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . وفي ذلك تأكيد لعدم الموالاة ، وتحذير من ذلك .
( وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ( هذا دليل على سعة علمه ، وذكر عموم بعد خصوص ، فصار علمه بما في صدورهم مذكوراً مرتين على سبيل التوكيد ، أحدهما : بالخصوص ، والآخر : بالعموم ، إذ هم ممن في الأرض .
( يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ( فيه تحذير مما يترتب على علمه تعالى بأحوالهم من المجازاة على ما أكنته صدروهم .
وقال الزمخشري : وهذا بيان لقوله ) وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ( لأن نفسه ، وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات ، متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون معلوم ، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور ، فهي قادرة على المقدورات كلها ، فكان حقها أن تحذر وتتقي ، فلا يجسر أحد على قبيح ، ولا يقصر عن واجب ، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة ، فلا حق به العذاب . إنتهى . وهو كلام حسن ، وفيه التصريح بإثبات صفة العلم ، والقدرة لله تعالى ، وهو خلاف ما عليه أشياخه من المعتزلة ، وموافقة لأهل السنة في إثبات الصفات .
آل عمران : ( 30 ) يوم تجد كل . . . . .
( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا ( اختلف في العامل في : يوم ، فقال الزجاج : العامل فيه : ويحذركم ، ورجحه . وقال أيضاً : العامل فيه : المصير . وقال مكي بن أبي طالب : العامل فيه : قدير ، وقال أيضاً : فيه مضمر تقديره اذكر . وقال ابن جرير : تقديره : اتقوا ، ويضعف نصبه بقوله : ويحذركم ، لطول الفصل . هذا من جهة اللفظ ، وأما من جهة المعنى فلأن التحذير موجود ، واليوم موعود ، فلا يصح له العمل فيه ، ويضعف انتصابه : بالمصير ، للفصل بين المصدر ومعموله ، ويضعف نصبه : بقدير ، لأن قدرته على كل شيء لا تختص بيوم دون يوم ، بل هو تعالى متصف بالقدرة دائماً . وأما نصبه باضمار فعل ، فالإضمار على خلاف الأصل .
وقال الزمخشري : ) يَوْمَ تَجِدُ ( منصوب : بتود ، والضمير في : بينه ، ليوم القيامة ، حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً . إنتهى هذا التخريأ .
والظاهر في بادىء النظر حسنه وترجيحه ، إذ يظهر أنه ليس فيه شيء من مضعفات الأقوال السابقة ، لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها خلاف بين النحويين ، وهي : إذا كان الفاعل ضميراً عائداً على شيء اتصل بالمعمول للفعل ، نحو : غلام هند ضربت ، وثوبي أخويك يلبسان ، ومال زيد أخذ ، فذهب الكسائي ، وهشام ، وجمهور البصريين : إلى جوزاز هذه المسائل . ومنها الآية على تخريج الزمخشري ، لأن الفاعل : بتودّ ، هو ضمير عائد على شيء اتصل بمعمول : تودّ ، وهو : يوم ، لأن : يوم ، مضاف إلى : تجد كل نفس ، والتقدير : يوم وجدان كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تودّ .
وذهب الفراء ، وأبو الحسن الأخفش ، وغيره من البصريين إلى أن هذه المسائل وأمثالها لا تجوز ، لأن هذا المعمول فضلة ، فيجوز الاستغناء عنه ، وعود الضمير على ما اتصل به في هذه المسائل يخرجه عن ذلك ، لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ، ولهذه العلة امتنع : زيداً ضرب ، وزيداً ظنّ قائماً . والصحيح جواز ذلك قال الشاعر : أجل المرء يستحث ولا يد
ري إذا يبتغي حصول الأماني
أي : المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يشعر .
و : تجد ، الظاهر أنها متعدّية إلى واحد وهو : ما عملت ، فيكون بمعنى نصيب ، ويكون : محضراً ، منصوباً على الحال . وقيل : تجد ، هنا بمعنى : تعلم ، فتتعدّى إلى اثنين ،

" صفحة رقم 445 "
وينتصب : محضراً على أنه مفعول ثان لها ، وما ، في : ما عملت ، موصولة ، والعائد عليها من الصلة محذوف ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : عملها ، ويراد به إذ ذاك اسم المفعول ، أي : معمولها ، فقوله : ما عملت ، هو على حذف مضاف أي : جزاء ما عملت وثوابه .
قيل : ومعنى : محضراً على هذا موفراً غير مبخوس . وقيل : ترى ما عملت مكتوباً في الصحف محضراً إليها تبشيراً لها ، ليكون الثواب بعد مشاهدة العمل .
وقرأ الجمهور : محضراً ، بفتح الضاد ، اسم مفعول . وقرأ عبيد بن عمير : محضرا بكسر الضاد ، أي محضراً الجنة أو محضراً مسرعاً به إلى الجنة من قولهم : أحضر الفرس ، إذا جرى وأسرع .
وما عملت من سوء ، يجوز أن تكون في موضع نصب ، معطوفاً على : ما عملت من خير ، فيكون المفعول الثاني إن كان : تجد ، متعدّية إليهما ، أو الحال إن كان يتعدّى إلى واحد محذوفاً ، أي : وما عملت من سوء محضراً . وذلك نحو : ظننت زيداً قائماً وعمراً ، إذا أردت : وعمراً قائماً ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون : تودّ ، مستأنفاً . ويجوز أن يكون : توّد ، في موضع الحال أي : وادة تباعد ما بينها وبين ما عملت من سوء ، فيكون الضمير في بينه عائداً على ما عملت من سوء ، وأبعد الزمخشري في عوده على اليوم ، لأن أحد القسمين اللذين أحضر له في ذلك اليوم هو : الخير الذي عمله ، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير إلاَّ بتجوّز إذا كان يشتمل على إحضار الخير والشر ، فتودّ تباعدة لتسلم من الشر ، ودعه لا يحصل له الخير . والأولى : عوده على : ما عملت من السوء ، لأنه أقرب مذكور ، لأن المعنى : أن السوء يتمنى في ذلك اليوم التباعد منه ، وإلى عطف : ما عملت من سوء ، على : ما عملت من خير ، وكون ، تودّ ، في موضع الحال ذهب إليه الطبري ، ويجوز أن يكون : وما عملت من سوء ، موصولة في موضع رفع بالابتداء و : تودّ ، جملة في موضع الخبر : لما ، التقدير : والذي عملته من سبوء تودّ هي لو تباعد ما بينها وبينه ، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وثنى به ابن عطية ، واتفقا على أنه لا يجوز أن يكون : وما عملت من سوء ، شرطاً . قال الزمخشري : لارتفاع : تودّ . وقال ابن عطية : لأن الفعل مستقبل مرفوع يقتضى جزمه ، اللهم إلاَّ أن يقدر في الكلام محذوف ، أي : فهي تودّ ، وفي ذلك ضعف . إنتهى كلامه . وظهر من كلاميهما امتناع الشرط لأجل رفع : تودّ ، وهذه المسألة كان سألني عنها قاضي القضاة أبون العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي ، رحمه الله ، واستشسكل قول الزمخشري . وقال : ينبغي أن يجوز غاية ما في هذا أن يكون مثل قول زهير : وإن أتاه خليل يوم مسألة
يقول : لا غائب مالي ولا حرم
وكتبت جواب ما سألني عنه في كتابي الكبير المسمى : ( بالتذكرة ) ، ونذكر هنا ما تمس إليه الحاجة من ذلك ، بعد أن نقدّم ما ينبغي تقديمه في هذه المسألة ، فنقول : إذا كان فعل الشرط ماضياً ، وما بعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء ، جاز في ذلك المضارع الجزم ، وجاز فيه الرفع ، مثال ذلك : إن قام زيد يقوم عمرو ، وان قام زيد يقم عمرو . فاما الجزم فعلى أنه جواب الشرط ، ولا تعلم في جواز ذلك خلافاً ، وأنه فصيح ، إلاَّ ما ذكره صاحب كتاب ( الإعراب ) عن بعض النحويين أنه : لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع : كان ، لقوله تعالى ) مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ( لأنها أصل الأفعال ، ولا يجوز ذلك مع غيرها .
وظاهر كلام سيبويه ، ونص الجماعة ، أنه لا يختص ذلك بكان ، بل سائر الأفعال في ذلك مثل كان ، وأنشد سيبويه للفرزدق :

" صفحة رقم 446 "
دسَّت رسولاً بأن القوم إن قدروا
وقال أيضاً : تعال فإن عاهدتني لا تخونني
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثير . وقال بعض أصحابنا : وهو أحسن من الجزم ، ومنه بين زهير السابق إنشاده ، وهو قوله أيضاً : وإن سل ريعان الجميع مخافة
يقول جهاراً : ويلكم لا تنفروا
وقال أبو صخر : ولا بالذي إن بان عنه حبيبه
يقول ويخفي الصبر : إني لجازع
وقال الآخر : وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه
تشوّف أهل الغائب بالمتنظِّر
وقال الآخر : وإن كان لا يرضيك حتى تردّني
إلى قطري لا إخالك راضياً
وقال الآخر : إن يسألوا الخير يعطوه ، وإن خبروا
في الجهد أدرك منهم طيب إخبار
هذا الرفع ، كما رأيت كثير ، ونصوص الأمة على جوازه في الكلام ، وإن اختلفت تأويلاتهم كما سنذكره . وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن رشيد المالقي ، وهو مصنف ( وصف المباني ) رحمه الله : لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام ،

" صفحة رقم 447 "
وإذا جاء فقياسه الجزم لأنه أصل العمل في المضارع ، تقدّم الماضي أو تأخر ، وتأوّل هذا المسموع على إضمار الفاء ، وجعله مثل قول الشاعر :
إنك إن يصرغ أخوك تصرغ .
على مذهب من جعل الفاء منه محذوفة .
وأما المقدّمون فاختلفوا في تخريج الرفع ، فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم . وأما جواب الشرط فهو محذوف عنده .
وذهب الكوفيون ، وأبو العباس إلى أنه هو الجواب حذفت منه الفاء ، وذهب غيرهما إلى أنه لما لم تظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط ، لكونه ماضياً ، ضعف عن العمل في فعل الجواب ، وهو عنده جواب لا على إضمار الفاء ، ولا على نية التقديم ، وهذا والمذهب الذي قبله ضعيفان .
وتلخص من هذا الذي قلناه : أن رفع المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً ، لكن امتنع أن يكون : وما عملت ، شرطاً لعلة أخرى ، لا لكون : تود ، مرفوعاً ، وذلك على ما نقرره على مذه سيبويه من أن النية بالمرفوع التقديم ، ويكون إذ ذاك دليلاً على الجواب لا نفس الجواب ، فنقول : إذا كان : تود ، منوياً به كالتقديم أدّى إلى تقدّم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية . ألا ترى أن الضمير في قوله : وبينه ، عائد على اسم الشرط الذي هو : ما ، فيصير التقدير : تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء ؟ فيلزم من هذا التقدير تقدّم المضمر على الظاهر ، وذلك لا يجوز .
فإن قلت : لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخر عن اسم الشرط ؟ فإن كان نيته التقديم فقد حصل عود الضمير على الاسم الظاهر قبله ، وذلك نظير : ضرب زيداً غلامه ، فالفاعل رتبته التقديم ووجب تأخيره لصحة عود الضمير .
فالجواب : إن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير ، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا جملة دليله ، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل ، بل إنما تعمل في جملة الجزاء وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب . وإذا كان كذلك تدافع الأمر ، لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل الشرط ، ومن حيث عود الضمير على اسم الشرط اقتضتها ، فتدافعا . وهذا بخلاف : ضرب زيداً غلامه ، هي جملة واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً ، وكل واحد منهما يقتضي صاحبه ، ولذلك جاز عند بعضهم : ضرب غلامها هنداً ، لاشتراك الفاعل المضاف للضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل ، وامتنع : ضرب غلامها جار هند ، لعدم الاشتراك في العامل ، فهذا فرق ما بين المسألتين . ولا يحفظ من لسان العرب : أودّلو أني أكرمه أياً ضربت هند ، لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير المواضع التي ذكرها النحويون ، فلذلك لا يجوز تأخيره .
وقرأ عبد الله ، وابن أبي عبلة : من سوء ودّت لو أن ، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون : ما ، شرطية في موضع نصب ، فعملت . أو في موضع رفع على إضمار الهاء في : عملت ، على مذهب الفراء ، إذ يجيز ذلك في اسم الشرط في فصيح الكلام ، وتكون : ودّت ، جزاء الشرط .
قال الزمخشري : لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى ، لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ، وأثبت لموافقة قراءة العامة . انتهى .
و : لو ، هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف ، ومفعول : تود ، محذوف ، والتقدير : تود تباعد ما بينهما لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسرت بذلك ، وهذا الإعراب والتقدير هو على المشهور في : لو ، و : أن ، وما بعدها في موضع مبتداً على مذهب سيبويه ، وفي موضع فاعل على مذهب أبي العباس .
وأمّا على قول من يذهب إلى أن : لو ، بمعنى : أن ، وأنها مصدرية فهو بعيد هنا لولايتها أن وأن مصدرية ، ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلاّ

" صفحة رقم 448 "
َ قليلاً ، كقوله تعالى ) مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ( والذي يقتضيه المعنى أن : لو أن ، وما يليها هو معمول : لتودّ ، في موضع المفعول به . قال الحسن : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً ، ذلك معناه .
ومعنى أمداً بعيداً : غاية طويلة ، وقيل : مقدار أجله ، وقيل : قدر ما بين المشرق والمغرب .
( وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ). كرر التحذير للتوكيد والتحريض على الخوف من الله بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه .
( وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ ( لما ذكر صفة التخويف وكررها ، كان ذلك مزعجاً للقلوب ، ومنبهاً على إيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من اطلاعه على خفايا الأعمال واحضاره لها يوم الحساب ، وهذا هو الاتصاف بالعلم والقدرة اللذين يجب أن يحذر لأجلهما ، فذكر صفة الرحمة ليطمع في إحسانه ، وليبسط الرجاء في أفضاله ، فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدّة الأمر ، ذكر ما يدل على سعة الرحمة ، كقوله تعالى : ) إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( وتكون هذه الجملة أبلغ في الوصف من جملة التخويف ، لأن جملة التخويف جاءت بالفعل الذي يقتضي المطلق ولم يتكرر فيها اسم الله ، وجاء المحذر مخصوصاً بالمخاطب فقط ، وهذه الجملة جاءت إسمية ، فتكرر فيها اسم الله ، إذا لوصف محتمل ضميره تعالى ، وجاء المحكوم به على وزن فعول المقتضي للمبالغة والتكثير ، وجاء بأخص ألفاظ الرحمة وهو : رؤوف ، وجاء متعلقة عاماً ليشمل المخاطب وغيره ، وبلفظ العباد ليدل على الإحسان التام ، لأن المالك محسن لعبده وناظر له أحسن نظر ، إذ هو ملكه .
قالوا : ويحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير ، أي : إن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد ، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروا دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه . وعن الحسن : من رأفته بهم أن حذرهم نفسه ، وقال الحوفي : جعل تحذيرهم نفسه إياه ، وتخويفهم عقابه رأفة بهم ، ولم يجعلهم في عمىً من أمرهم . وروي عن ابن عباس هذا المعنى أيضاً ، والكلام محتمل لذلك ، لكن الأظهر الأول ، وهو أن يكون ابتداء إعلامه بهذه الصفة على سبيل التأنيس والإطماع لئلا يفرط الوعيد على قلب المؤمن .
آل عمران : ( 31 ) قل إن كنتم . . . . .
( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ). نزلت في اليهود ، قالوا : ) نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( أو : في قول المشركين ) مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( قالوا ذلك ، وقد نصبت قريش أصنامها يسجدون لها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم ) وكلا هذين القولين عن ابن عباس .
وقال الحسن ، وابن جريج : في قوم قالوا : إنا لنحب ربنا حباً شديداً . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : في وفد نجران حيث قالوا : إنا نعظم المسيح حباً لله . انتهى .
ولفظ الآية يعم كل من ادعى محبة الله ، فمحبة العبد لله عبارة عن عن ميل قلبه إلى ما حدّه له تعالى وأمره به ، والعمل به واختصاصه إياه بالعبادة ، ومحبته تعالى للعبد تقدّم الكلام عليها ، وهل هي من صفات الذات أم من صفات الفعل ، فأغنى عن إعادته . رتب تعالى على محتبهم له واتباع رسوله محبته لهم ، وذلك أن الطريق الموصل إلى رضاه تعالى إنما هو مستفاد من نبيه ، فإنه هو المبين عن الله ، إذ لا يهتدي العقل إلى معرفة أحكام اا في العبادات ولا في غيرها ، بل رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو الموضح لذلك ، فكان اتباعه فيما أتى به احتماء لمن يحب أن يعمل بطاعة الله تعالى .
وقرأ الجمهور : تحبون ، ويحببكم ، من أحب . وقرأ أبو رجاء العطاردي : تحبون ويحببكم ، بفتح التاء والياء من حب ، وهما لغتان وقد تقدّم ذكرهما . وذكر الزمخشري أنه قرىء : يحبكم ، بفتح الياء والإدغام .
وقرأ الزهري : فاتبعوني ، بتشديد النون ، ألحق فعل الأمر نون التوكيد وأدغمها في نون الوقاية ، ولم يحذف الواو شبهاً : بأتحاجوني ، وهذا توجيه شذوذ . قال

" صفحة رقم 449 "
الزمخشري : أراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل ، فمن أدّعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب ، وكتاب الله يكذبه .
ثم ذكر من يذكر محبة الله ، ويصفق بيديه مع ذكرها ، ويطرب وينعر ويصفق ، وقبح من فعله هذا ، وزرى على فاعل ذلك بما يوقف عليه في كتابه .
وروي عن أبي عمر إدغم : راء ، و : يغفر لكم ، في لام : لكم ، وذكر ابن عطية عن الزجاج أن ذلك خطأ وغلط ممن رواها عن أبي عمرو ، وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك ، وذكرنا أن رؤساء الكوفة : أبا جعفر الرواسي ، والكسائي ، والفراء رووا ذلك عن العرب ، ورأسان من البصريين وهما : أبو عمرو ، ويعقوب قرآ بذلك وروياه ، فلا التفات لمن خالف في ذلك .
آل عمران : ( 32 ) قل أطيعوا الله . . . . .
( قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ( هذا توكيد لقوله : فاتبعوني ، وروي عن ابن عباس أنه لما نزل ) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ( قال عبد الله بن أبي لاصحابه : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ، ويأمر بأن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم ، فنزل ) قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ ).
) فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( يحتمل أن يكون : تولوا ، ماضياً . ويحتمل أن يكون مضارعاً حذفت منه التاء ، أي : فإن تتولوا ، والمعنى : فإن تولوا عما أمروا به من اتباعه وطاعته فإن الله لا يحب من كان كافراً . وجعل من لم يتبعه ولم يطعه كافراً ، وتقييد انتفاء محبة الله بهذا الوصف الذي هو الكفر مشعر بالعلية ، فالمؤمن من العاصي لا يندرج في ذلك .
قيل : وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة وفنون البلاغة الخطاب العام الذي سببه خاص . وفي قوله ) لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ ( والتكرار ، في قوله : المؤمنون من دون المؤمنين ، وفي قوله : من الله ، ويحذركم الله نفسه ، وإلى الله ، وفي : يعلمه الله ، ويعلم ، وفي قوله : يعلمه الله ، والله علي ، وفي قوله : ما عملت ، وما عملت ، وفي قوله : الله نفسه ، والله ، وفي قوله : ويحذركم الله ، والله روؤف ، وفي قوله : تحبون الله ، يحببكم الله ، والله غفور ، قل أطيعوا الله ، فإن الله .
والتجنيس المماثل في : تحبون ويحببكم ، والتجنيس المغاير ، في : تتقوا منهم تقاه ، وفي يغفر لكم وغفور .
والطباق في : تخفوا وتبدوه ، وفي : من خير ومن سوء ، وفي : محضراً وبعيداً .
والتعبير بالمحل عن الشيء في قوله : ما في صدوركم ، عبر بها عن القلوب ، قال تعالى : ) فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ ( الآية .
والإشارة في قوله : ومن يفعل ذلك ، الآية . أشار إلى انسلاخهم من ولاية الله .
والاختصاص في قوله : ما في صدوركم ، وفي قوله : ما في السموات وما في الأرض .
والتأنيس بعد الإيحاش في قوله : والله روؤف بالعباد ، والحذف في عدة مواضع تقدم ذكرها في التفسير .
2 ( ) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْس

" صفحة رقم 450 "
َ الذَّكَرُ كَالاٍّ نثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ قَالَ كَذَالِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّىءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِىِّ وَالإِبْكَارِ ( )
7 )
آل عمران : ( 33 ) إن الله اصطفى . . . . .
نوح : اسم أعجمي مصروف عند الجمهور وإن كان فيه ما كان يقتضي منع صرفه وهو : العلمية والعجمة الشخصية ، وذلك لخفة البناء بكونه ثلاثياً ساكن الوسط لم يضف إليه سبب آخر ، ومن جوز فيه الوجهين فبالقياس على هذا لا بالسماع ، ومن ذهب إلى أنه مشتق من النواح فقوله ضعيف ، لأن العجمة لا يدخل فيها الاشتقاق العربي إلاَّ ادعى أنه مما اتفقت فيه لغة العرب ولغة العجم ، فيمكن ذلك . ويسمى : آدم الثاني واسمه السكن ، قاله غير واحد ، وهو ابن لملك بن متوشلخ بن اخنوخ بن سارد بن مهلابيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم .
عمران : اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة ، ولو كان عربياً لامتنع أيضاً للعلمية ، وزيادة الألف والنون إذ كان يكون اشتقاقه من العمر واضحاً .
محرراً : اسم مفعول من حرر ، ويأتي اختلاف المفسرين في مدلوله في الآية ، والتحرير : العتق ، وهو تصيير المملوك حراً .
الوضع : الحط والإلقاء ، تقول : وضع يضع وضعاً وضعة ، ومنه الموضع .
الأنثى والذكر : معروفان ، وألف أنثى للتأنيث ، وجمعت على إناث ، كربى ورباب ، وقياس الجمع : أناثى ، كحبلى وحبالى . وجمع الذكر : ذكور وذكران .
مريم : اسم عبراني ، وقيل عربي جاء شاذاً : كمدين ، وقياسه : مرام كمنال ، ومعناه في العربية التي تغازل الفتيان ، قال الراجز : .
قلت لزيد لم تصله مريمه
عاذ بكذا : اعتصم به ، عوذاً وعياذ أو معاذ أو معاذة ومعناه : التجأ واعتصم وقيل : اشتقاقه من العوذ وهو : عوذ يلجأ إليه الحشيش في مهب الريح .
رجم : رمى وقذف ، ومنه ) رَجْماً بِالْغَيْبِ ( أي : رمياً به من غير تيقن ، والحديث المرجم هو : المظنون ليس فيه يقين .
والرجيم : يحتمل أن يكون للمبالغة من فاعل ، أي إنه يرمي ويقذف بالشر والعصيان في قلب ابن آدم ، ويحتمل أن يكون بمعنى : مرجوم ، أي يُرجم بالشهب أو يبعد ويطرد .
الكفالة : الضمان ، يقال : كفل يكفل فهو كافل وكفيل ، هذا أصله ثم يستعار للضم والقيام على الشيء .
زكريا : أعجمي شبه بما فيه الألف الممدودة والألف المقصورة فهو ممدود ومقصور ، ولذلك يمتنع صرفه نكرة ، وهاتان اللغتان فيه عند أهل الحجاز ، ولو كان امتناعه للعلمية

" صفحة رقم 451 "
والعجمة انصرف نكرة . وقد ذهب إلى ذلك أبو حاتم ، وهو غلط منه ، ويقال : ذكرى بحذف الألف ، وفي آخره ياء كياء بحتى ، منونة فهو منصرف ، وهي لغة نجد ، ووجهه فيما قال أبو علي ؛ إنه حذف ياءي الممدود والمقصور ، وألحقه ياءي النسب يدل على ذلك صرفه ، ولو كانت الياءان هما اللتين كانتا في زكريا لوجب أن لا يصرف للعجمة والتعريف . انتهى كلامه . وقد حكي : ذكر على وزن : عمر ، وحكاها الأخفش .
المحراب : قال أبو عبيدة : سيد المجالس وأشرفها ومقدمها ، وكذلك هو من المسجد ، وقال الاصمعي : الغرفة وقال : وماذا عليه إن ذكرت أوانسا
كغزلان رمل في محاريب أقتالِ
شرحه الشراح في غرف أقيال وقال الزجاج : الموضع العالي الشريف وقال أبو عمرو بن العلاء : القصر ، لشرفه وعلوه وقيل : المسجد وقيل : محرابه المعهود سمي بذلك لتحارب الناس عليه وتنافسهم فيه ، وهو مقام الإمام من المسجد .
هنا : اسم إشارة للمكان القريب ، والتزم فيه الظرفية إلاَّ أنه يجر بحرف الجر ، فإن ألحقته كاف الخطاب دل على المكان البعيد . وبنو تميم تقول : هناك ، ويصح دخول حرف التنبيه عليه إذا لم تكن فيه اللام ، وقد يراد بها ظرف الزمان .
النداء : رفع الصوت ، وفلان أندى صوتاً ، أي أرفع ، ودار الندوة لأنهم كانوا ترتفع أصواتهم بها ، والمنتدى والنادي مجتمع القوم منه ، ويقال : نادى مناداة ونِداء ونُداء ، بكسر النون وضمها قيل : فبالكسر المصدر ، وبالضم اسم ، وأكثر ما جاءت الأصوات على الضم : كالدُعاء والُرغاء والصُراخ وقال يعقوب : يمد مع كسر النون ، ويقصر مع ضمها . والندي : المطر ، يقال منه ندى يندى ندى .
يحيي : اسم أعجمي امتنع الصرف للعجمة والعلمية ، وقيل : هو عربي ، وهو فعل مضارع من : حي ، سمي به فامتنع الصرف للعلمية ووزن الفعل ، وعلى القولين يجمع على : يحيون ، بحذف الألف وفتح ما قبلها على مذهب الخليل ، وسيبويه ونقل عن الكوفيين : إن كان عربياً فتحت الياء ، وإن كان أعجمياً ضمت الياء .
سيد : فيعل من : ساد ، أي : فاق في الشرف ، وتقدم الكلام في نظير هذا ، وجمعه على : فعلة ، فقالوا : سادة ، شاذ وقال الراغب : هو السايس بسواد الناس ، أي : معظمهم ، ولهذا يقال : سيد العبد ، ولا يقال سيد الثوب . انتهى .
الحصور : فعول من الحصر ، وهو للمبالغة من حاصر وقيل : فعول بمعنى مفعول ، أي محصور ، وهو في الآية بمعنى الذي لا يأتي النساء .
الغلام : الشاب من الناس ، وهو الذي طرّ شاربه ، ويطلق على الطفل على سبيل التفاؤل ، وعلى الكهل ومنه قول ليلى الأخيلية : شفاها من الداء العضال الذي بها
غلام إذا هز القناة سقاها
تسمية بما كان عليه قبل الكهولة ، وهو من الغلمة والاغتلام ، وذلك شدة طلب النكاح . ويقال : اغتلم الفحل : هاج من شدة شهوة الضراب ، واغتلم البحر : هاج وتلاطمت أمواجه ، وجمعه على ، غلمة ، شاذ وقياسه في القلة : أغلمة ، وجمع في الكثرة على : غلمان ، وهو قياسه : الكبر ، مصدر : كبر يكبر من السن قال : صغيرين نرعى البهم يا ليت إننا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ

" صفحة رقم 452 "
العاقر : من لا يولد له من رجل أو امرأة ، وفعله لازم ، والعاقر اسم فاعل من عقر أي : قتل ، وهو متعد .
الرمز : الإشارة باليد أو بالرأس أو بغيرهما وأصله التحرك يقال ارتمز تحرك ومنه قيل للبحر الراموز .
العشي : مفرد عشية ، كركيّ . وركية والعشية : أواخر النهار ، ولامها واو ، فهي كمطي .
الإبكار : مصدر أبكر ، يقال أبكر : خرج بكرة .
( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( قال ابن عباس : قالت اليهود : نحن أبناء إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب . ونحن على دينهم ، فنزلت . وقيل : في نصارى نجران لما غلوا في عيسى ، وجعلوه ، ابن الله تعالى ، واتخذوه إلهاً ، نزلت رداً عليهم ، وإعلاماً أن عيسى من ذرية البشر المتنقلين في الأطوار المستحيلة على الإله ، واستطرد من ذلك إلى ولادة أمه ، ثم إلى ولادته هو ، وهذه مناسبة هذه الآيات لما قبلها . وأيضاً . لما قدم قبل : ) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ( ووليه ) قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ( وختمها بأنه ) لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( ذكر المصطفين الذين يحب اتباعهم ، فبدأ أولاً بأولهم وجوداً وأصلهم ، وثنى بنوح عليه السلام إذ هو آدم الأصغر ليس أحد على وجه الأرض إلاَّ من نسله ، ثم أتى ثالثاً بآل إبراهيم ، فاندرج فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، المأمور باتباعه وطاعته ، وموسى عليه السلام ، ثم أتى رابعاً بآل عمران ، فاندرج في آله مريم وعيسى عليهما السلام ، ونص على آل إبراهيم لخصوصية اليهود بهم ، وعلى آل عمران لخصوصية النصارى بهم ، فذكر تعالى جعلَ هؤلاءِ صفوة ، أي مختارين نقاوة . والمعنى أنه نقاهم من الكدر . وهذا من تمثيل المعلوم بالمحسوس . .
واصطفاء آدم بوجوه .
منها خلقة أول هذا الجنس الشريف ، وجعله خليفة في الأرض ، وإسجاد الملائكة له ، واسكانه جنته ، إلى غير ذلك مما شرّفه به .
واصطفاء نوح عليه السلام بأشياء ، منها : أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض بتحريم : البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر ذوي المحارم ، وأنه أب الناس بعد آدم وغير ذلك ، واصطفاء آل إبراهيم عليه السلام بأن جعل فيهم النبوّة والكتاب . قال ابن عباس ، والحسن : آل إبراهيم من كان على دينه . وقال مقاتل : آله اسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط . وقيل : المراد بآل إبراهيم إبراهيم نفسه . وتقدّم لناشىء من الكلام على ذلك في قوله : ) وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى وَءالُ هَارُونَ ).
وعمران هذا المضاف إليه

" صفحة رقم 453 "
آل ، قيل هو : عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود ، وهو أبو مريم البتول أم عيسى عليه السلام ، قاله : الحسن ووهب . وقيل : هو عمران أبو موسى وهارون ، وهو عمران بن نصير قاله مقاتل . فعلى الأول آله عيسى ، قاله الحسن وعلى الثاني آله موسى وهارون ، قاله مقاتل . وقيل : المراد بآل عمران عمران نفسه ، والظاهر في عمران أنه أبو مريم لقوله بعد ) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ( فذكر قصة مريم وابنها عيسى ، ونص على أن الله اصطفاها بقوله ) إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ ( فقوله : ) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ( كالشرح لكيفية الاصطفاء ، لقوله : وآل عمران ، وصار نظير تكرار الاسم في جملتين ، فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول ، نحو : أكرم زيداً رجل صالح . وإذا كان المراد بالثاني غير الأول ، كان في ذلك إلباس على السامع . وقد رجح القول الآخر بأن موسى يقرن بإبراهيم كثيراً في الذكر ، ولا يتطرق الفهم إلى أن عمران الثاني هو أبو موسى وهارون ، وإن كانت له بنت تسمى مريم ، وكانت أكبر من موسى وهارون سناً ، للنص على أن مريم بنت عمران بن ماثان ولدت عيسى ، وأن زكريا كفل مريم أم عيسى ، وكان زكريا قد تزوج أخت مريم إمشاع ابنة عمران بن ماثان فكان يحيى وعيسى ابني خالة ، وبين العمرانين والمريمين أعصار كثيرة . قيل : بين العمرانين ألف سنة وثمانمائة سنة .
والظاهر أن الآل من يؤول إلى الشخص في قرابة أو مذهب ، والظاهر أنه نص على هؤلاء هنا في الاصطفاء للمزايا التي جعلها الله تعالى فيهم .
وذهب قاضي القضاة بالأندلس : أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي ، رحمه الله ورضى عنه ، إلى أن ذكر آدم ونوح تضمن الإشارة إلى المؤمنين من بينهما ، وأن الآل الأتباع ، فالمعنى أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين ، وخص هؤلاء بالذكر تشريفاً لهم ، ولأن الكلام في قصة بعضهم . إنتهى ما قال ملخصاً ، وقوله شبيه في المعنى بقول من تأول قوله آدم وما بعده على حذف مضاف ، أي : أن الله اصطفى دين آدم .
وروي معناه عن ابن عباس ، قال : المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان ، واختاره الفراء . وقال التبريزي : هذا ضعيف ، لأنه لو كان ثَمَّ مضاف محذوف لكان : ونوح مجروراً ، لأن آدم محله الجر بالإضافة ، وهذا الذي قاله التبريزي ليس بشيء ، ولولا تسطيره في الكتب ما ذكرته . لأنه لا يلزم أن يجر المضاف إليه إذا حذف المضاف ، فيلزم جر ما عطف عليه ، بل يعرب المضاف إليه بإعراب المضاف المحذوف . ألا ترى إلى قوله واسأل القرية ؟ وأما إقراره مجروراً فلا يجوز إلا بشرط ذكر في علم النحو .
( عَلَى الْعَالَمِينَ ( متعلق باصطفى ، ضمنه معنى فضل ، فعداه بعلى . ولو لم يضمنه معنى فضل لعدى بمن . قيل : والمعنى على عالمي زمانهم ، واللفظ عام ، والمراد به الخصوص كما قال جرير :
ويضحى العالمون له عيالاً
وقال الحطيئة :
أراح الله منك العالمينا
وكما تؤول في ) وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ).
وقال القتبي : لكل دهر عالم ، ويمكن أين يخص بمن

" صفحة رقم 454 "
سوى هؤلاء ، ويكون قد اندرج في قوله : وآل إبراهيم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فيكون المعنى : أن هؤلاء فضلوا على من سواهم من العالمين . واشتراكهم في القدر المشترك من التفضيل لا يدل على التساوي في مراتب التفضيل ، كما تقول : زيد وعمر وخال أغنياء ، فاشتراكهم في القدر المشترك من الغنى لا يدل على التساوي في مراتب الغنى ، وإذا حملنا : العالمين ، على من سوى هؤلاء ، كان في ذلك دلالة على تفضيل البشر على الملائكة ، لأنهم من سوى هؤلاء الصطفين ، وقد استدل بالآية على ذلك . ولا يمكن حمل : العالمين ، على عمومه لأجل التناقض ، لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين ، يلزم كل واحد منهم أن يكون أفضل من الآخر ، وهو محال .
وقرأ عبد الله : وآل محمد على العالمين .
آل عمران : ( 34 ) ذرية بعضها من . . . . .
( ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ( أجازوا في نصب : ذرية ، وجهين : .
أحدهما : أن يكون بدلاً . قال الزمخشري ) مّنْ ءالِ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ( يعني أن الآلين ذرية واحدة ، وقال غيره بدل من نوح ومن عطف عليه من الأسماء . قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون بدلاً من آدم لأنه ليس بذرية انتهى . وقال ابن عطية : لا يسوغ أن تقول في والد هذا ذرية لولده . وقال الراغب : الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل . كقوله : ) حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ ( أي آباءهم ، ويقال للنساء : الذراري . وقال صاحب النظم : الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء ، والابناء ذرية للآباء ، وجاز ذلك لأنه من ذرأ الله الخلق ، فالأب ذرىء منه الولد ، والولد ذرىء من الأب . وقال معناه النقاش فعلى قول الراغب وصاحب النظم ، يجوز أن يكون : ذرية ، بدلاً من : آدم ، ومن عطف عليه .
وأجازوا أيضاً نصب : ذرية ، على الحال ، وهو الوجه الثاني من الوجهين ، ولم يذكره الزمخشري ، وذكره ابن عطية . وقال : وهو أظهر من البدل .
وتقدّم الكلام على ذرية دلالةً واشتقاقاً ووزناً ، فأغنى عن إعادته .
وقرأ زيد بن ثابت والضحاك : ذِرية ، بكسر الذال ، والجمهور بالضم .
( بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ( جملة في موضع الصفة لذرية و : من ، للتبعيض حقيقة أي : متشعبة بعضها من بعض في التناسل ، فإن فسر عمران بوالد موسى وهارون فهما منه ، وهو من يصهر ، ويصهر من قاهث ، وقاهث من لاوي ، ولاوى من يعقوب ، ويعقوب من إسحاق ، وإسحاق من إبراهيم عليهم السلام . وإن فسر عمران بوالد مريم أم عيسى ، فعيسى من مريم ، ومريم من عمران بن ماثان ، وهو من ولد سليمان بن داود ، وسليمان من ولد يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقيل : من ، للتبعيض مجازاً أي : من بعض في الإيمان والطاعة والإنعام عليهم بالنبوّة ، وإلى نحو من هذا ذهب الحسن ، قال : من بعض في تناصر الدين ، وقال أبورون : بعضها على دين بعض . وقال قتادة : في النية والعمل والإخلاص والتوحيد .
( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( أي سميع لما يقوله الخلق ، عليم بما بضمرونه . أو : سميع لما تقوله امرأة عمران ، عليم بما تقصد . أو : سميع لما تقوله الذرية ، عليم بما تضمره . ثلاثة أقوال .
وقال الزمشخري : عليم بمن يصلح للاصطفاء ، أو : يعلم أن بعضهم من بعض في الدين . إنتهى .
والذي يظهر أن ختم هذه الآية بقوله ) وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( مناسب لقوله ) إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ إِنَّ اللَّهَ ( لأن إبراهيم عليه السلام دعا لآله في قوله : ) رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ ( بقوله : ) فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ ( وحمد ربه تعالى فقال : ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( وقال مخبراً عن ربه : ) إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاء ( ثم دعا ربه بأنه يجعله مقيم الصلاة وذريته ، وقال حين بنى هو واسماعيل الكعبة ) رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ( إلى سائر ما دعا به حتى قوله : ) وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ( ولذا قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أنا دعوة إبراهيم ) . فلما تقدمت من إبراهيم تضرعات وأدعية لربه تعالى في آله وذريته ، ناسب أن يختم بقوله : ) وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( وكذلك آل عمران ، دعت امرأة عمران بقبول ما كانت نذرته لله تعالى ، فناسب أيضاً ذكر الوصفين ، ولذلك حين ذكرت النذر

" صفحة رقم 455 "
ودعت بتقبله ، أخبرت عن ربها بأنه ) السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( أي : السميع لدعائها ، العليم بصدق نيتها بنذرها ما في بطنها الله تعالى .
آل عمران : ( 35 ) إذ قالت امرأة . . . . .
( إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ ( الآية ، لما ذكر أنه تعالى اصطفى آل عمران ، وكان معظم صدر هذه السورة في أمر النصارى وفد نجران ، ذكر ابتداء حال آل عمران ، وامرأة عمران اسمها : حنة ، بالحاء المهملة والنون المشدّدة مفتوحتين وآخرها تاء تأنيث ، وهو اسم عبراني ، وهي حنة بنت فاقود ، ودير حنة بالشام معروف ، وثم دير آخر يعرف بدير حنة ، وقد ذكر أبو نواح دير حنة في شعره فقال : يا دير حنة من ذات الاكيداح
من يصح عنك فاني لست بالصاح
وقبر حنة ، جدّة عيسى ، بظاهر دمشق . وقال القرطبي : لا يعرف في العربي اسم امرأة حنة ، وذكر عبد الغني بن سعيد الحافظ : حنة أم عمر ويروي حديها ابن جريج .
ويستفاد حنة مع : حبة ، بالحاء المهملة وباء بواحدة من أسفل ، و : حية ، بالحاء المهملة وياء باثنتين من أسفل ، وهما اسمان لناس ، ومع : خبة ، بالخاء المعجمة والباء بواحدة من أسفل ، وهي خبة بنت يحيى بن أكثم القاضي ، أم محمد بن نصر ، ومع : جنة بجيم ونون وهو أبو جنة خال ذي الرمة الشاعر ، لا نعرف سواه .
ولم تكتف حنة بنية النذر حتى أظهرته باللفظ ، وخاطبت به الله تعالى ، وقدّمت قبل التلفظ بذلك نداء ها له تعالى بلفظ الرب . الذي هو مالكها ومالك كل شيء ، وتقدّم معنى النذر وهو استدفاع المخوف بما يعقده الإنسان على نفسه من أعمال البر . وقيل : ما أوجبه الإنسان على نفسه بشريطة وبغير شريطة . قال الشاعر :
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي
وهموا بقتلي يا بثين لفوني
و : لك ، اللام فيه لام السبب ، وهو على حذف التقدير : لخدمة بيتك ، أو للاحتباس على طاعتك .
( مَا فِي بَطْنِي ( جزمت النذر على تقدير أن يكون ذكراً ، أو لرجاء منها أن يكون ذكراً .
( مُحَرَّرًا ( معناه عتيقاً من كل شغل من أشغال الدنيا ، فهو من لفظ الحرية . قال محمد بن جعفر بن الزبير : أو خادماً للبيعة . قاله مجاهد ، أو : مخلصاً للعبادة ، قاله الشعبي . ورواه خصيف عن عكرمة ، ومجاهد ، وأتى بلفظ : ما ، دون : من ، لأن الحمل إذ ذاك لم يتصف بالعقل ، أو لأن : ما ، مبهمة تقع على كل شيء ، فيجوز أن تقع موقع : من . ونسب هذا إلى سيبويه .
( فَتَقَبَّلْ مِنّي ( دعت الله تعالى بأن يقبل منها ما نذرته له ، والتقبل أخذ الشيء على الرضا به ، وأصله المقابلة بالجزاء ، و : تقبل ، هنا بمعنى : قبل ، فهو مما تفعل فيه بمعنى الفعل المجرد ، كقولهم : تعدى الشيء وعدّاه ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل .
( إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ختمت بهذين الوصفين لأنها اعتقدت النذر ، وعقدته بنيتها ، وتلفظت به ، ودعت بقبوله . فناسب ذلك ذكر هذين الوصفين .
والعامل في : إذ ، مضمر تقديره : إذكر ، قاله الأخفش ، والمبرد ، أو معنى الاصطفاء ، التقدير : واصطفى آل عمران . قاله الزجاج ، وعلى هذا يجعل ) إِنَّ اللَّهَ ( من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات ، لأنه إن جعل من باب عطف المفردات لزم أن يكون العامل فيه اصطفى آدم ، ولا يسوغ ذلك لتغاير زمان هذا الاصطفاء ، وزمان قول امرأة عمران ، فلا يصح عمله فيه .
وقال الطبري ما معناه : إن العامل فيه : سميع ، وهو ظاهر قول الزمخشري ، أو : سميع عليم ، لقول امرأة عمران ونيتها ، و : إذ ، منصوب به . انتهى . ولا يصح ذلك لأن قوله : عليم ، إما ان يكون خبراً بعد خبر ، أو وصفاً لقوله : سميع ، فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما ، وإن كان وصفاً فلا يجوز أن يعمل : سميع ، في الظرف ، لأنه قد

" صفحة رقم 456 "
وصف . اسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله لا يجوز له إذ ذاك أن يعمل على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك ، ولأن اتصافه تعالى : بسميع عليم ، لا يتقيد بذلك الوقت .
وذهب أبو عبيدة إلى أن إذ زائدة ، المعنى : قالت امرأة عمران . وتقدّم له نظير هذا القول في : مواضع ، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو .
وانتصب محرراً ، على الحال . قيل : من ما ، فالعامل : نذرت وقيل من الضمير الذي في : استقر ، العامل في الجار والمجرور ، فالعامل في هذا : استقر ، وقال مكي فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدّره : غلاماً محرراً . وقال ابن عطية : وفي هذا نظر ، يعني أن : نذر ، قد أخذ مفعوله ، وهو : ما في بطني ، فلا يتعدّى إلى آخره ، ويحتمل أن ينتصب : محرراً ، على أن يكون مصدراً في معنى : تحريراً ، لأن المصدر يجوز أن يكون على زنة المفعول من كل فعل زائد على الثلاثة ، كما قال الشاعر : ألم تعلم مسرجي القوافي
فلاعياً بهنّ ولا اجتلابا
التقدير : تسريجي القوافي ، ويكون إذ ذاك على حذف مضاف ، أي : نذر تحرير ، أو على أنه مصدر من معنى : نذرت ، لأن معنى : ) نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي ( حررت لك بالنذر ما في بطني . والظاهر القول الأول ، وهو أن يكون حالاً من : ما ، ويكون ، إذ ذاك حالاً مقدّرة إن كان المراد بقوله : محرراً ، خادماً للكنيسة ، وحالاً مصاحبة إن كان المراد عتيقاً ، لأن عتق ما في البطن يجوز .
وكتبوا : امرأة عمران ، بالتاء لا بالهاء ، وكذلك امرأة العزيز في موضعين ، وامرأة نوح ، وامرأة لوط ، وامرأة فرعون . سبعة مواضع ، فأهل المدينة يقفون بالتاء اتباعاً لرسم المصحف مع أنها لغة لبعض العرب يقفون على طلحة طلحت ، بالتاء . ووقف أبو عمرو ، والكسائي : بالهاء ولم يتبعوا رسم المصحف في ذلك ، وهي لغة أكثر العرب ، وذكر المفسرون سبب هذا الحمل الذي اتفق لامرأة عمران فروي أنها كانت عاقراً ، وكانوا أهل بيت لهم عند الله مكانة ، فبينا هي يوماً في ظل شجرة نظرت إلى طائر يذق فرخاً له ، فتحركت به نفسها للولد ، فدعت الله تعالى أن يهب لها ولداً . فحملت . ومات عمران زوجها وهي حامل ، فحسبت الحمل ولداً فنذرته لله حبيساً لخدمة الكنيسة أو بيت المقدس ، وكان من عادتهم التقرب بهبة أولادهم لبيوت عباداتهم ، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وأحبارهم ، ولم يكن أحد منهم إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس من الغلمان ، وكانت الجارية لا تصلح لذلك ، وكان جائزاً في شريعتهم ، وكان على أولادهم أن يطيعوهم ، فإذا حرر خدم الكنيسة بالكنس والإسراج حتى يبلغ ، فيخير ، فإن أحب أن يقيم في الكنيسة أقام فيها ، وليس له الخروج بعد ذلك ، وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء ، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس .
آل عمران : ( 36 ) فلما وضعتها قالت . . . . .
( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى ( أنث الضمير في وضعتها حملاً على المعنى في : ما ، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله تعالى وقال ابن عطية : حملاً على الموجدة ، ورفعاً للفظ : ما ، في قولها : ما في بطني . وقال الزمخشري : أو على تأويل الجبلة ، أو النفس ، أو النسمة . جواب : لما ، هو : قالت وخاطبت ربها على سبيل التحسر على ما فاتها من رجائها ، وخلاف ما قدّرت لأنها كانت ترجو أن تلد ذكراً يصلح للخدمة ، ولذلك نذرته محرراً . وجاء في قوله : ) إِنّى وَضَعْتُهَا ( الضمير مؤنثاً ، فإن كان على معنى النسمة أو النفس فظاهر ، إذ تكون الحال في قوله : أنثى ، مبينة إذا النسمة والنفس تنطلق على المذكر والؤنث .

" صفحة رقم 457 "
وقال الزمخشري : فإ قلت : كيف جاز انتصاب أنثى حالاً من الضمير في وضعتها ؛ وهو كقولك : وضعت الأنثى أنثى ؟ .
قلت : الأصل وضعته أنثى ، وإنما أنث لتأنيث الحال لأن الحال ، وذا الحال شيء واحد ، كما أنث الأسم في من كانت أمّك لتأنيث الخبر ، ونظيره قوله تعالى : ) فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ ). إنتهى . وآل قوله إلى أن : أنثى ، تكون حالاً مؤكدة ، لا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال من أن يكون الحال مؤكدة . وأما تشبيهه ذلك بقوله : من كانت أمّك ، حيث عاد الضمير على معنى : من ، فليس ذلك نظير : وضعتها أنثى ، لأن ذلك حمل على معنى : من ، إذ المعنى : أية امرأة ، كانت امّك ، أي : كانت هي أيّ المرأة أمّك ، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر ، وإنما هو من باب الحمل على معنى : من ، ولو فرضنا أنه تأنيث للأسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير : وضعتها أنثى ، لأن الخبر مخصص بالإضافة إلى الضمير ، فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف أنثى ، فإنه لمجرد التأكيد .
وأما تنظيره بقوله : ) فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ ( فيعنى أنه ثنى بالأسم لتثنية الخبر ، والكلام عليه يأتي في مكانه ، فإنه من المشكلات ، فالأحسن أن يجعل الضمير في : وضعتها أنثى ، عائداً على النسمة ، أو النفس ، فتكون الحال مبنية لا مؤكدة .
وقيل : خاطبت الله تعالى بذلك على سبيل الاعتذار ، والتنصل من نذر ما لا يصلح لسدانة البيت ، إذ كانت الأنثى لا تصلح لذلك في شريعتهم .
وقيل : كانت مريم أجمل نساء زمانها وأكملهنّ .
( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ( قرأ ابن عامر ، وأبو بكر ، ويعقوب : بضم التاء ، ويكون ذلك وما بعده من كلام أمّ مريم ، وكأنها خاطبت نفسها بقولها : والله أعلم . ولم تأت على لفظ : رب ، إذ لو أتت على لفظه لقالت : وأنت أعلم بما وضعت . ولكن خاطبت نفسها على سبيل التسلية عن الذكر ، وأن علم الله وسابق قدرته وحكمته يحمل ذلك على عدم التحسر والتحذر على ما فاتنى من المقصد ، إذ مراده ينبغي أن يكون المراد ، وليس الذكر الذي طلبته ورجوته مثل الأنثى التي علمها وأرادها وقضى بها . ولعل هذه الأنثى تكون خيراً من الذكر ، إذ أرادهنا الله ، سلت بذلك نفسها .
وتكون : الألف واللام في : الذكر ، للعهد فيكون مقصودها ترجيح هذه الأنثى التي هي موهوبة الله على ما كان قد رجت من أنه يكون ذكراً ، ويحتمل أن يكون مقصودها أنه ليس كالأنثى في الفضل والدرجة والمزية ، لأن الذكر يصلح للتحرير ، والاستمرار على خدمة موضع العبادة ، ولأنه أقوى على الخدمة ، ولا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس ولا تهمة .
قال ابن عطية : كالانثى ، في امتناع نذره إذا الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان ؟ قاله قتادة ، والربيع ، والسدّي ، وعكرمة ، وغيرهم . وبدأت بذكر الأهمّ في نفسها ، وإلاَّ فسياق الكلام أن تقول : وليست الانثى كالذكر ، فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها ، وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد . إنتهى . وعلى هذا الاحتمال تكون الألف واللام في : الذكر ، للجنس .
وقرأ باقي السبعة : بما وضعت ، بتاء التأنيث الساكنة على أنه إخبار من الله بأنه أعلم بالذي وضعته . أي : بحاله ، وما يؤول إليه أمر هذه الأنثى ، فإن قولها : وضعتها أنثى ، يدل على أنها لم تعلم من حالها إلاَّ على هذا القدر من كون هذه النسمة جاءت أنثى لا تصلح للتحرير ، فأخبر تعالى أنه أعلم بهذه الموضوعة ، فأتى بصيغة التفضيل المقتضية للعلم بتفاصيل الأحوال ، وذلك على سبيل التعظيم لهذه الموضوعة ، والإعلام بما علق بها وبابنها من عظيم الأمور ، إذ جعلها وابنها آية للعالمين . ووالدتها جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً . وقرأ ابن عباس : بما وضعت ، بكسر تاء الخطاب ، خاطبها الله بذلك أي : إنك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة ، وما علمه الله تعالى من عظم شأنها وعلوّ قدرها .
و : ما ، موصولة بمعنى : الذي ، أو : التي ، وأتى بلفظ : ما ، كما في قوله : ) نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي ( والعائد عليها محذوف على كل قراءة .
( وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ( مريم في لغتهم معناه : العابدة ، أرادت بهذه التسمية التفاؤل لها بالخير ، والتقرب إلى الله تعالى ، والتضرّع إليه بأن يكون فعلها مطابقاً

" صفحة رقم 458 "
لاسمها ، وأن تصدّق فيها ظنها بها . ألا ترى إلى إعاذتها بالله وإعاذة ذريتها من الشيطان ؟ وخاطبت الله بهذا الكلام لترتب لاستعاذة عليه ، واستبدادها بالتسمية يدل على أن أباها عمران كان قد مات ، كما نقل أنه مات وهي حامل ، على أنه يحتمل من حيث هي أنثى أن تستبدّ الأمّ بالتسمية لكراهة الرجال البنات ، وفي الآية تسمية الطفل قرب الولادة ، وفي الحديث : ( ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم ) . وفي الحديث أنه : ( يعق عن المولود في السابع ويسمى ) .
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها من كلامها ، وهي كلها داخله تحت القول على قراءة من قرأ : بما وضعت ، بضم التاء . وأما من قرأ : بما وضعت ، بسكون التاء أو بالكسر . فقال الزمخشري : هي معطوفة على : إني وضعتها أنثى ، وما بينهما جملتان معترضان ، كقوله : ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ). إنتهى كلامه . ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتا معترضتان ، لأنه يحتمل أن يكونه ) وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاْنثَى ( في هذه القراءة من كلامها ، ويكون المعترض جملة واحدة ، كما كان من كلامها في قراءة من قرأ : وضعت ، بضم التاء ، بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة ، لأن في اعتراض جملتين خلافاً مذهب أبي علي : أنه لا يعترض جملتان وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك .
وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما بين المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله : ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( ليس تشبيهاً مطابقاً للآية ، لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعترض بين القسم الذي هو : ) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( وجوابه الذي هو : ) إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ ( بجملة واحدة وهي قوله : ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( لكنه جاء في جملة الأعتراض بين بعض أجزائه وبعض ، اعتراض بجملة وهي قوله : ) لَّوْ تَعْلَمُونَ ( اعترض به بين المنعوت الذي هو : لقسم ، وبين نعته الذي هو : عظيم ، فهذا اعتراض في اعتراض ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض لقوله : ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاْنثَى ( وسمي من الأفعال التي تتعدى إلى واحد بنفسها ، وإلى آخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه واثباته هو الأصل ، يقول سميت ابني بزيد ، وسميته زيداً . قال : وسميت كعباً بشر العظام
وكان أبوك يسمى الجعل
أي : وسميت بكعب ، ويسمى : بالجعل ، وهو باب مقصور على السماع ، وفيه خلاف عن الأخفش الصغير ، وتحرير ذلك في علم النحو .
( وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( أتى خبر : إن ، مضارعاً وهو : أعيذها ، لأن مقصودها ديمومة الإستعاذة ، والتكرار بخلاف : وضعتها ، وسميتها ، فإنهما ماضيان قد انقطعا ، وقدّمت ذكر المعاذ به على المعطوف على الضمير للأهتمام به ، ثم استدركت بعد ذلك الذكر ذريتها ، ومناجاتها الله بالخطاب السابق إنما هو وسيلة إلى هذة الاستعاذة ، كما يقدّم الانسان بين يدى مقصوده ما يستنزل به إحسان من يقصده ، ثم يأتي بعد ذلك بالمقصود ، وورد في الحديث ، من رواية أبي هريرة : ( كل مولولد من بني آدم له طعنة من الشيطان ، وبها يستهل الصبي ، إلاَّ ما كان من مريم ابنة عمران وابنها ، فإن أمّها قالت حين وضعتها : واني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب ) .
وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث من طرق ، والمعنى واحد . وطعن القاضي عبد الجبار في هذا الحديث ، قال : لأنه خبر واحد على خلاف

" صفحة رقم 459 "
الدليل ، فوجب رده ، وإنما كان على خلاف الدليل لأن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الشر والخير ، والصبي ليس كذلك ، ولأنه لو تمكن من هذا المس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وغير ذكل ، لأنه خص فيه مريم وابنها عيسى دون سائر الأنبياء ، ولأنه لو وجد المس لنفي أثره ، ولو نفي لدام الصراخ والبكاء ، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلان هذا الحديث .
وقال الزمخشري : وما يروي في الحديث : ( ما من مولولد يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلاَّ مريم وابنها ) . فالله أعلم بصحته ، فإن صح فمعناه : أن كل مولود يطمع الشيطان في اغوائه إلاَّ مريم وابنها ، فإنهما كانا معصومين . وكذلك كل من كان صفتهما لقوله : ) لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( واستهلاله صارخاً من مسه ، تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول : هذا ممن أغويه ، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي : لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ، ولو سلط إبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه . إنتهى كلامه . وهو جار على طريقة أهل الاعتزال ، وقد مرلنا شيء من الكلام على هذا في قوله : ) كَالَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ).
آل عمران : ( 37 ) فتقبلها ربها بقبول . . . . .
( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ( قال الزجاج : الأصل فتقبلها بتقبل حسن ، ولكن قبول محمول على : قبلها قبولاً ، يقال : قبل الشيء قبولاً والقياس فيه الضم : كالدخول والخروج ، ولكنه جاء بالفتح ، وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف ، ونقلها ابن الأعرابي فقال : قبلته قَبولاً وقُبولاً . وقال ابن عباس : معناه سلك بها طريق السعداء وقال قوم : تكفل بتربيتها والقيام بشأنها . وقال الحسن : معناه لم يعذيها ساعة قط من ليل ولا نهار وعلى هذه الأقوال يكون تقبل بمعنى استقبل ، فيكون تفعل بمعنى استفعل ، أي : استقبلها ربها ، نحو : تعجلت الشيء فاستعجلته ، وتقصيت الشيء واستقصيته ، من قولهم : استقبل الأمر أي أخذه بأوله . قال : وخير الأمر ما استقبلت منه
وليس ببأن تتبعه اتباعاً
أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت . وقيل : المعنى فقبلها أي : رضى بها في النذر مكان الذكر في النذر كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك ، وقبل دعاءها في قولها : فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك ، ويكون : تفعل ، بمعنى الفعل المجرد نحو : تعجب وعجب ، وتبرأ وبريء .
والباء في : بقبول ، قيل : زائدة ، ويكون إذ ذاك ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر ، وقيل : ليست بزائدة .
والقبول اسم لما يقبل به الشيء : كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد ، وهو اختصاصه لها باقامتها مقام الذكر في النذر ، أو : مصدر على تقدير حذف مضاف أي : بذي قبول حسن ، أي : بأمر ذي قبول

" صفحة رقم 460 "
حسن ، وهو الاختصاص .
( وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ( عبارة عن حسن النشأة والجودة في خلق وخلق ، فأنشأها على يالطاعة والعبادة . قال ابن عباس : لما بلغت تسع سنين صامت من النهار وقامت الليل حتى أربت على الأحبار . وقيل : لم تجر عليها خطيئة . قال قتادة : حُدِّثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب كما يصيب بنو آدم . وقيل : معنى ) وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ( أي : جعل ثمرتها مثل عيسى .
وانتصب : نباتاً ، على أنه مصدر على غير الصدر ، أو مصدر لفعل محذوف أي : فنبتت نباتاً حسناً ، ويقال : القبول الحسن الاستقامة على الطاعة وإيثار رضا الله في جميع الأوقات .
( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ( قال قتادة : ضمها إليه . وقال أبو عبيدة : ضمن القيام بها ، ومن القبول الحسن والنبات الحسن أن جعل تعالى كافلها والقيم بأمرها وحفظها نبياً . أوحى الله إلى داود عليه السلام : إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً .
وقرأ الكوفيون : وكفلها ، بتشديد الفاء ، وباقي السبعة بتخفيفها . وأبيّ : وأكفلها ، ومجاهد : فتقبلها بسكون اللام ربها ، بالنصب على النداء ، و : أبنتها ، بكسر الباء وسكون التاء ، و : كفلها ، بكسر الفاء مشدّدة وسكون اللام على الدعاء من أم مريم لمريم . وقرأ عبد الله المزني : وكفلها ، بكر الفاء وهي لغة يقال : كفل يكفِل وكفل يكفَل ، كعلم يعلم .
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : زكريا ، مقصوراً وباقي السبعة ممدوداً . وتقدم ذكر اللغات فيه .
روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم ، وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها . فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها . فانطلقوا ، وكانوا سبعة وعشرين ، إلى نهر . قيل : هو نهر الأردن وهو قول الجمهور . وقيل : في عين ماء كانت هناك ، فألقوا فيه أقلامهم ، فارتفع قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها . قيل : واسترضع لها . وقال الحسن : لم تلتقم ثدياً قط . وقال عكرمة : ألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا عكس جرية الماء . وقيل : عامت مع الماء معروضة ، وبقي قلم زكريا واقفاً كأنما ركز في طين ، قال ابن إسحاق : إن زكريا كان تزوّج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين ، ولدت امرأة زكريا يحيى ، وولدت امرأة عمران مريم . وقال السدّي ، وغيره : كان زكريا تزوّج ابنة أخرى لعمران . ويعضد هذا القول قول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في يحيى وعيسى : ابنا الخالة . وقيل : إنما كفلها لأن أمّها هلكت ، وكان أبوها قد هلك وهي في بطن أمّها . وقيل : كان زكريا ابن عمها وكانت أختها تحته . وقال ابن إسحاق : ترعرعت وأصاب بني إسرائيل مجاعة ، فقال لهم زكريا : أني قد عجزت عن إنفاق مريم ، فاقترعوا على من يكفلها ، ففعلوا ، فخرج إليهم رجل يقال له جريح ، فجعل ينفق عليها ، وهذا استهام غير الأول ، هذا المراد منه دفعها للإنفاق عليها ، والأول المراد منه : أخذها ، فعلى هذا القول يكون زكريا قد كفلها من لدن الطفولة دون استهام ، والذي عليه الناس أن زكريا إنما كفلها بالاستهام ، ولم يدل القرآن على أن غير زكريا كفلها ، وكان زكريا أولى بكفالتها ، لأنه من أقربائها من جهة أبيها ، ولأن خالتها أو أختها تحته ، على اختلاف القولين ، ولأنه كان نبياً ، فهو أولى بها لعصمته .
وزكريا هو ابن أذن بن مسلم من ولد سليمان بن داود عليهم السلام وذكر النقيب أبو البركات الجواني النسابة : أن يحيى بن زكريا ، واليسع ، والياس ، والعزير من ولد هارون أخي موسى ، فلا يكون على هذا زكريا من ولد سليمان ، ولا يكون ابن عم مريم ، لأن مريم من ذرية سليمان عليه السلام ، وسليمان من يهوذا بن يعقوب ، وموسى وهارون بن لاوي بن يعقوب .
قال ابن إسحاق : ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محراباً في المسجد ، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليه إلاَّ بسلم ، مثل باب الكعبة ، ولا يصعد إليها غيره . وقيل : كان يغلق عليها سبعة أبواب إذا

" صفحة رقم 461 "
خرج قال مقاتل : كان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح لا يأمن عليه أحداً ، فإذا حاضت أخرجها إلى منزلة تكون مع خالتها أم يحيى أو أختها ، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس وقيل : كانت مطهرة من الحيض .
( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ). قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء وقال الحسن : تكلمت في المهد ولم تلقم ثدياً قط ، وإنما كانت يأتيها رزقها من الجنة .
والذي ورد في الصحيح أن الذي تكلم في المهد ثلاثة : عيسى ، وصاحب جريج ، وابن المرأة وورد من طريق شاذ : صاحب الأخدود . والأغرب أن مريم منهم .
وقيل : كان جريج النجار ، واسمه يوسف بن يعقوب ، وكان ابن مريم حين كفلها بالقرعة وقد ضعف زكريا عن القيام بها ، يأتيها من كسبه بشيء لطيف على قدر وسعه ، فيزكو ذلك الطعام ويكثر ، فيدخل زكريا عليها فيتحقق أنه ليس من وسع جريج ، فيسألها . وههذا يدل على أن ذلك كان بعد أن كبرت وهو الأقرب للصواب .
وقيل : كانت ترزق من غير رزق بلادهم قال ابن عباس : كان عنباً في مكتل ولم يكن في تلك البلاد عنب ، وقاله ابن جبير ، ومجاهد وقيل : كان بعض الصالحين يأتيها بالرزق .
والذي يدل عليه ظاهر الآية أن الذي كفلها بالتربية هو زكريا لا غيره ، فإن الله تعالى كفاه لما كفلها مؤونة رزقها ، ووضع عنه بحسن التكفل مشقة التكلف .
و : كلما ، تقتضي التكرار ، فيدل على كثرة تعهده وتفقده لأحوالها . ودلت الآية على وجود الرزق عندها كل وقت يدخل عليها ، والمعنى : أنه غذاء يتغذى به لم يعهده عندها ، ولم يوجهه هو . وأَبْعَدَ من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من الله من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي ، فسماه رزقاً قال الراغب : واللفظ محتمل ، انتهى ، وهذا شبيه بتفسير الباطنية .
( قَالَ يَاءادَمُ مَرْيَمَ إِنّى لَكَ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( استغرب زكريا وجود الرزق عندها وهو لم يكن أتى به ، وتكرر وجوده عندها كلما دخل عليها ، فسأل على سبيل التعجب من وصول الرزق إليها ، وكيف أتى هذا الرزق ؟ و : أنَّى ، سؤال عن الكيفية وعن المكان وعن الزمان ، والأظهر أنه سؤال عن الجهة ، فكأنه قال : من أي جهة لك هذا الرزق ؟ ولذلك قال أبو عبيدة : معناه من أين ؟ ولا يبعد أن يكون سؤالاً عن الكيفية ، أي كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك ؟ وقال الكميت : أنَّى ومن أين أتاك الطرب
من حيث لا صبوة ولا طرب
وجوابها سؤاله بأنه ) مِنْ عِندِ اللَّهِ ( ظاهره أنه لم : يأت به آدمي ألبتة ، بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى . وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقاً ، لأن من الجائز في الفعل أن يكون هذا الثاني من جهة غير الجهة التي تقدّمت ، فتجيبه بأنه من عند الله ، وتحيله على مسبب الأسباب ، ومبرز الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود المحض ، فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم ، وبكونه يشهد مقاماً شريفاً ، واعتناءً لطيفاً بمن اختارها الله تعالى بأن جعلها في كفالته .
وهذا الخارق العظيم قيل : هو بدعوة زكريا لها بالرزق ، فيكون من خصائص زكريا وقيل : كان تأسيساً لنبوّة ولدها

" صفحة رقم 462 "
عيسى . وهذان القولان شبيهان بأقوال المعتزلة حيث ينفون وجود الخارق على غير النبي ، إلا إن كان ذلك في زمان نبي ، فيكون ذلك معجزة لذلك النبي .
والظاهر أنها كرامة خص الله بها مريم ، ولو كان خارقاً لأجل زكريا لم يسأل عنه زكريا ، وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى ، فهو كان لم يخلق بعد .
قال الزجاج : وهذا الخارق من الآية التي قال تعالى : ) وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَةً لّلْعَالَمِينَ ( وقال الجبائي : يجوز أن يكون من معجزات زكريا ، دعا لها على الإجمال . لأن يوصل لها رزقها ، وربما غفل عن تفاصيل ذلك ، فلما رأى شيئاً معيناً في وقت معين ، سأل عنه ، فعلم أنه معجزة ، فدعا به أو سأل عن ذلك خشية أن يكون الآتي به إنساناً ، فأخبرته أنه ) مِنْ عِندِ اللَّهِ ( ويحتمل أن يكون على أيدي المؤمنين ، وسأل لئلا يكون على وجه لا ينبغي .
( إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( تقدّم تفسير هذه الجملة ، والظاهر أنها من كلام مريم وقال الطبري : ليس من كلام مريم ، وأنه خبر من الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . .
وروى جابر حديثاً مطولاً فيه تكثير الخبز واللحم على سبيل خرق العادة لفاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فسألها : من أين لك هذا ؟ فقالت : هو من عند الله . فحمد الله ، وقال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل .
قيل : وفي هذه الآيات أنواع من الفصاحة . العموم الذي يراد به الخصوص في قوله : على العالمين ، والإختصاص في قوله : آدم ، ونوحاً ، وآل إبراهيم ، وآل عمران . وإطلاق اسم الفرع على الأصل والمسبب على السبب ، في قوله : ذرية ، فيمن قال المراد الآدباء ، والإبهام في قوله : ما في بطني ، لما تعذر عليها الإطلاع على ما في بطنها أتت بلفظ : ما ، الذي يصدق على الذكر والأنثى ، والتأكيد في قوله : ) إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( والخبر الذي يراد به الاعتذار في قولها : وضعتها أنثى ، والاعتراض في قوله : والله أعلم بما وضعت ، في قراءة من سكن التاء أو كسرها وتلوين الخطاب ومعدوله في قوله : والله أعلم بما وضعت ، في قراءة من كسر التاء ، خرج من خطاب الغيبة في قولها : فلما وضعتها ، إلى خطاب المواجهة في قوله : بما وضعت والتكرار في : وأنى ، وفي : زكريا ، وزكريا ، وفي : من عند الله ، إن الله والتجنيس المغاير في : فتقبلها ربها بقبول ، وأنبتها نباتاً ، وفي : رزقاً ويرزق والإشارة ، وهو أن يعبر باللفظ الظاهر عن المعنى الخفي ، في قوله : هو من عند الله ، أي هو رزق لا يقدر على الإتيان به في ذلك الوقت إلاَّ الله . وفي قوله : رزقاً ، أتى به منكّراً مشيراً إلى أنه ليس من جنس واحد ، بل من أجناس كثيرة ، لأن النكرة تقتضي الشيوع والكثرة . والحذف في عدة مواضع لا يصح المعنى إلا باعتبارها .
آل عمران : ( 38 ) هنالك دعا زكريا . . . . .
( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ( أصل : هنالك ، أن يكون إشارة للمكان ، وقد يستعمل للزمان وقيل بهما في هذه الآية ، أي في ذلك المكان دعا زكريا ، أو : في ذلك الوقت لما رأى هذا الخارق

" صفحة رقم 463 "
العظيم لمريم ، وأنها ممن اصطفاها الله ، ارتاح إلى طلب الولد واحتاج إليه لكبر سنه ، ولأن يرث منه ومن آل يعقوب ، كما قصه تعالى في سورة مريم ، ولم يمنعه من طلب كون امرأته عاقراً ، إذ رأى من حال مريم أمراً خارجاً عن العادة ، فلا يبعد أن يرزقه الله ولداً مع كون امرأته كانت عاقراً ، إذ كانت حنة قد رزقت مريم بعدما أيست من الولد .
وانتصاب : هنالك ، بقوله : دعا ، ووقع في تفسير السجاوندي : أن هناك في المكان ، وهنالك في الزمان ، وهو وهم ، بل الأصل أن يكون للمكان سواء اتصلت به اللام والكاف أو الكاف فقط أو لم يتصلا . وقد يتجوز بها عن المكان إلى الزمان ، كما أن أصل : عند ، أن يكون للمكان ، ثم يتجوز بها للزمان ، كما تقول : آتيك عند طلوع الشمس .
قيل : واللام في : هنالك ، دلالة على بعد المسافة بين الدعاء والإجابة ، فإنه نقل المفسرون أنه كان بين دعائه وإجابته أربعون سنة . وقيل : دخلت اللام لبعد منال هذا الأمر لكونه خارقاً للعادة ، كما أدخل اللام في قوله : ) ذالِكَ الْكِتَابُ ( لبعد مناله وعظم ارتفاعه وشرفه . وقال الماتريدي : كانت نفسه تحدثه بأن يهب الله له ولداً يبقى به الذكر إلى يوم القيامة ، لكنه لم يكن يدعو مراعاة للأدب ، إذ الأدب أن لا يدعو لمراد إلاَّ فيما هو معتاد الوجود وإن كان الله قادراً على كل شيء ، فلما رأى عندها ما هو ناقض للعادة حمله ذلك على الدعاء في طلب الولد غير المعتاد . انتهى .
وقوله : كانت تحدثه نفسه بذلك ، يحتاج إلى نقل . وفي قوله : ) هُنَالِكَ دَعَا ( دلالة على أن يتوخى العبد بدعائه الأمكنة المباركة والأزمنة المشرفة .
( قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً ( هذه الجملة شرح للدعاء وتفسير له ، وناداه بلفظ : رب ، إذ هو مربيه ومصلح حاله ، وجاء الطلب بلفظ : هب ، لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلتها شيء يكون عوضاً للواهب ، ولما كان ذلك يكاد يكون على سبيل ما لا تسبب فيه : لا من الوالد لكبر سنة ، ولا من الوالدة لكونها عاقراً لا تلد ، فكان وجوده كالوجود بغير سبب ، أتى هبة محضة منسوبة إلى الله تعالى بقوله : من لدنك ، أي من جهة محض قدرتك من غير توسط سبب .
وتقدّم أن : لدن ، لما قرب ، و : عند ، لما قرب ولما بعد ، وهي أقل إبهاماً من : لدن ، ألا ترى أن : عند ، تقع جواباً لأين ، ولا تقع له جواباً : لدن ؟ .
( وَمِنْ لَّدُنْكَ ( متعلق : بهب ، وقيل : في موضع الحال من : ذرية ، لأنه لو تأخر لكان صفة ، فعلى هذا تتعلق بمحذوف ، والذرية جنس يقع على واحد ، فأكثر . وقال الطبري : أراد بالذرية هنا واحداً دليل ذلك طلبه : ولياً ، ولم يطلب : أولياء . قال ابن عطية : وفيما قاله الطبري تعقب ، وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد ، وهكذا كان طلب زكريا . انتهى .
وفسر : طيبة ، بأن تكون سليمة في الخلق وفي الدين تقية . وقال الراغب : صالحة ، واستعمال الصالح في الطيب كاستعمال الخبيث في ضده ، على أن في الطيب زيادة معنى على الصالح . وقيل : أراد : بطيبة ، أنها تبلغ في الدين رتبة النبوّة ، فإن كان أراد بالذرية مدلولها من كونها اسم جنس ، ولم يقيد بالوحدة ، فوصفها : بطيبة ، واضح وإن كان أراد ذكراً واحداً ، فأنث لتأنيث اللفظ ، كما قال : أبوك خليفة ولدته أخرى
سكات إذا ما عَضّ ليس بأدْرَدَا
وكما قال : أبوك خليفة ولدته أخرى
وأنت خليفة ذاك الكمال
وفي قوله : ) هَبْ لِى ( دلالة على طلب الولد الصالح ، والدعاء بحصوله وهي سنة المرسلين والصديقين والصالحين .

" صفحة رقم 464 "
) إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ( لما دعا ربه بأنه يهب له ولداً صالحاً ، أخبر بأنه تعالى مجيب الدعاء . وليس المعنى على السماع المعهود ، بل مثل قوله : سمع الله لمن حمده . عبر بالسماع عن الإجابة إلى المقصد ، واقتفى في ذلك جده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ ذال : ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاء ( فأجاب الله دعاءه ورزقه على الكبر كما رزق إبراهيم على الكبر ، وكان قد تعود من الله إجابة دعائه . ألا ترى إلى قوله : ) وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ( ؟ .
قيل : وذكر تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ : أحدها : هذا ، والثاني : ) إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى ( إلى آخره . والثالث : ) رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ( فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات بهذه الثلاث الصيغ ، ودل على أن بين الدعاء والإجابة زماناً . انتهى . ولا يدل على ذلك تكرير الدعاء ، كما قيل : لأنه حالة الحكاية قد يكون حكي في قوله ) رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً ( على سبيل الإيجاز ، وفي سورة مريم على سبيل الإسهاب ، وفي هذه السورة على سبيل التوسط .
وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى ، إذ لم يكن لسانهم عربياً ، ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في قوله : ) فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَةُ ( وفي قوله : ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يُحْىِ ( وظاهر قوله في مريم : ) رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ ( اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه . .
آل عمران : ( 39 ) فنادته الملائكة وهو . . . . .
( فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَةُ ( قيل : النداء يستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به ، فلم يكن هذا إخباراً من الملائكة على عرف الوحي ، بل نداءً كما نادى الرجل الأنصاري : كعب بن مالك ، من أعلى الجبل . قاله ابن عطية ، وغيره . ولا يظهر ذلك ، بل المناداة تكون لتبشير ولتحزين ولغير ذلك ، كما جاء . ( يا أهل النار خلود بلا موت ) وجاء : ) فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً ( وإنما فهمت البشارة في الآية من قولهم ) إِنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكِ ( لا إن لفظ نادته يدل على ذلك ، لا بالوضع ولا بالاستعمال . ويحتمل أن يكون نداؤهم إياه على سبيل الوحي ، أي : أوحي إليهم بأن ينادوه ، أو يكون نادوه من تلقاء أنفسهم ، كما يقال لك : بلغ زيداً كذا وكذا ، فتقول له : يا زيد جرى كذا وكذا . وهما قولان للمفسرين .
وفي الكلام حذف تقديره : فتقبل الله دعاءه ، ووهب له يحيى ، وبعث إليه الملائكة بذلك ، فنادته . وذكر أنه كان بين دعائه والإستجابة له أربعون سنة ، والظاهر خلاف ذلك .
والظاهر أن مناديه جماعة من الملائكة لصيغة اللفظ ، وقد بعث تعالى ملائكة إلى قوم لوط وإلى إبراهيم وفي غير ما قصة .
وذكر الجمهور أن المنادي هو جبريل وحده ، ويؤيده قراءة عبد الله ومصحفه : فناداه جبريل وهو قائم . وقال الزمخشري : وإنما قيل الملائكة على قولهم : فلان يركب الخيل ، يعني : إن الذي ناداه هو من جنس الملائكة ، لا يريد خصوصية الجمع ، كما أن قولهم : فلان يركب الخيل لا يريد خصوصية الجمع ، إنما يريد مركوبه من هذا الجنس . وخرج عليه الذين قال لهم الناس ، وهو نعيم بن مسعود . وقال الفضل : الرئيس يخبر عنه أخبار الجمع لاجتماع أصحابه معه ، أو لاجتماع الصفات الجميلة فيه ، المتفرقة في غيره . فعبر عنه بالكثرة لذلك . قيل : وجبريل رئيس الملائكة .
وقرأ حمزة ، والكسائي : فناداه ، ممالة وباقي السبعة : فنادته ، بتاء التأنيث و : الملائكة ، جمع تكسير ، فيجوز أن يلحق العلامة ، وإن لا يلحق . تقول : قام الرجال ، وقامت الرجال . وإلحاق العلامة قيل . أحسن ، ألا ترى : إذ قالت الملائكة ؟ ولما جاءت رسلنا ؟ ومحسِّن الحذف هنا الفصل بالمفعول .
( وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ ( ذكر البغوي أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان ، ويفتح باب المذبح ، فلا يدخلون حتى يؤذن . فبينما هو قائم يصلي في المحراب ، يعنى المسجد عند المذبح ، والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول ، إذا هو برجل عليه ثياب بيض ، ففزع منه ، فناداه ، وهو جبريل : يا زكريا إن الله يبشرك . وقيل : المحراب موقف

" صفحة رقم 465 "
الإمام من المسجد ، وهو قول جمهور المفسرين . وقيل : القبلة . والظاهر أن المحراب هو المحراب الذي قبله في قوله : ) كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ( ففي المكان الذي رأى فيه خرق العادة ، فيه دعا ، وفيه جاءته البشارة . وهذا يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم .
وقيل : الصلاة هنا الدعاء ، وفي الآية دليل على جواز نداء المتلبس بالصلاة وتكليمه ، وإن كان في ذلك شغل له عن صلاته .
وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول ، أو من الملائكة ، و : يصلي ، يحتمل أن يكون صفة : لقائم ، ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير المستكن في : قائم ، أو : من ضمير المفعول ، على مذهب من جوّز حالين من ذي حال واحد ، ويحتمل أن يكون خبراً ثانياً : لهو ، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لمبتدأ واحد ، وإن لم تكن في معنى خبر واحد .
ويتعلق : في المحراب ، بقوله : يصلي ، ولا يجوز أن يتعلق : بقائم ، في وجه من احتمالات إعراب : يصلي ، إلا في وجه واحد ، وهو أن يكون : يصلي ، حالاً من الضمير الذي استكن في : قائم ، فيجوز . لأنه إذ ذاك يتحد العامل فيه وفي : يصلى ، وهو : قائم ، لأن العامل إذ ذاك في الحال هو : قائم ، إذ هو العامل في ذي الحال ، وبه يتعلق المجرور .
وفي قوله : ) قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ ( قالوا : دلالة على جواز قيام الإمام في محرابه ، وقد كرهه أبو حنيفة ، وقال : كان ذلك شرعاً لمن قبلنا .
ورقق وَرش راء : المحراب ، وأمال الراء ابن ذكوان إذا كانت : المحراب ، مجروراً ونسب ذلك أبو علي إلى ابن عامر . ولم يقيد بالجر .
( أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى ( قرأ ابن عامر ، وحمزة : إن الله ، بكسر الهمزة . فعند البصريين الكسر على إضمار القبول ، أي : وقالت . وعند الكوفيين لا إضمار ، لأن غير القول مما هو في معناه : كالنداء والدعاء ، يجري مجرى القول في الحكاية ، فكسرت بنادته ، لأن معناه قالت له .
وقرأ الباقون بفتح الهمزة ، وهو معمول لباء محذوفة في الأصل ، أي بتبشير :
وحين حذفت فالموضع نصب بالفعل أو جر بالباء المحذوفة ، قولان قد تقدما في غير ما موضع من هذا الكتاب .
وقرأ عبد الله : يا زكريا إن الله . فقوله : يا زكرياء ، هو معمول النداء . فهو في موضع نصب ، ولا يجوز فتح : إن ، على هذه القراءة ، لأن الفعل قد استوفى مفعوليه ، وهما : الضمير والمنادى . وتبليغ البشارة على لسان الرسول إلى المرسل إليه ليست بشارة من الرسول ، بل من المرسل . ألا ترى إضافة ذلك إليه في قوله : يبشرك ؟ وقد قال في سورة مريم : ) رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ ( فأسند ذلك إليه تعالى . وقرأ حمزة ، والكسائي : يبشرك ، في الموضعين في قصة زكريا وقصة مريم ، وفي الإسراء ، وفي الكهف ، وفي الشورى ، من : بشر ، مخففاً . وافقهما ابن كثير ، وأبو عمر ، وفي الشورى زاد حمزة في الحجر : ألا فبم تبشرون ، ومريم وقرأ الباقون : يبشر ، من بشر المضعف العين وقرأ عبد الله يبشر في جميع القرآن من أبشر ، وهي لغىً ثلاث ذكرها غير واحد من اللغويين وقال الشاعر : بَشَرْتُ عِيالي إِذ رأيتُ صحيفة
أتتك من الحجاج يتُلى كتابها
وقال الآخر : يا بشر حق لوجهك التَّبشير
هلا غضبت لنا وأنت أمير
بيحيى ، متعلق بقوله : نبشرك ، والمعنى : بولادة يحيى منك ومن امرأتك ، فإن كان أعجمياً فمنع صرفه للعلمية والعجمة ، وإن كان عربياً فللعلمية ووزن الفعل ، كيعمر . وقد ذكرنا هذا .
وهذا الذي عليه كثير من المفسرين لاحظوا فيه

" صفحة رقم 466 "
معنى الاشتقاق من الحياة .
قال قتادة : سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان . وقال الحسن بن المفضل : حيي بالعصمة والطاعة وقال أبو القاسم بن حبيب : سمي يحيى لأنه استشهد ، والشهداء أحياء روي في الحديث : ( من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة ) وقال مقاتل : سمي يحيى لأنه أحياه بين شيخ وعجوز وقال الزجاج : حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها وقال ابن عباس : إن الله أحيا به عقر أمّه وقيل : معناه يموت فسمي يحيى تفاؤلاً ، كالمفازة والسليم وقيل : لأن الله أحيا به الناس بالهدى .
( مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ اللَّهِ ( الجمهور على أن الكلمة هو عيسى ، وسيأتي لم سمي كلمة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدّي وغيرهم . قال الربيع ، وغيره : كان يحيى أوّل من صدق بعيسى وشهد أنه كلمة من الله ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ، قاله الأكثرون وقيل : بثلاث سنين ، وقتل قبل رفع عيسى ، وكانت أمّ يحيى تقول لمريم : إني لأجد الذي في بطني يتحرك ، وفي رواية : يسجد ، وفي رواية : يومي برأسه لما في بطنك ، فذلك تصديقه ، وهو أول التصديق .
وقال أبو عبيدة ، وغيره ) بِكَلِمَةٍ مّنَ اللَّهِ ( أي : بكتاب من الله التوراة والإنجيل وغيرهما ، أوقع المفرد موقع الجمع ، فالكلمة اسم جنس ، وقد سمت العرب القصيدة كلمة روي أن الحويدرة ذكر لحسان ، فقال : لعن الله كلمته ، أي قصيدته . وفي الحديث : ( أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألاكل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل )
وقيل معنى : ) بِكَلِمَةٍ مّنَ اللَّهِ ( هنا أي : بوعد من الله ، وقرأ أبو السمال العدوي : بكلمة ، بكسر الكاف وسكون اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل : كتف وكتف ، ووجهه أنه أتبع فاء الكلمة لعينها ، فيقل اجتماع كسرتين ، فسكن العين . ومنهم من يسكنها مع فتح الفاء استثقالاً للكسرة في العين .
وانتصب : مصدّقاً ، على الحال قال ابن عطية : وهي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
( وَسَيّدًا ( قال ابن عباس : السيد الكريم وقال قتادة : الحليم ، ومنه قول الشاعر : سيد لا تحل حبوته
بوادر الجاهلين إن جهلوا
وقال عكرمة : من لا يغلبه الغضب وقال الضحاك : الحسن الخلق وقال سالم : التقي وقال ابن زيد : الشريف وقال ابن المسيب : الفقيه العالم وقال أحمد بن عاصم : الراضي بقضاء الله وقال الخليل : المطاع الفائق أقرانه وقال أبو بكر الورّاق : المتوكل وقال الترمذي : العظيم الهمة وقال الثوري : السيد مَن لا يحسد من قولهم : الحسود لا يسود وقال أبو إسحاق : السيد الذي يفوق في الخير قومه . وقال بعض أهل اللغة : السيد المالك الذي

" صفحة رقم 467 "
تجب طاعته . ولهذا قيل للزوج : سيد وقيل : سيد الغلام ، وقال سلمة عن الفراء : السيد المالك ، والسيد الرئيس ، والسيد الحكيم ، والسيد السخي .
وجاء في الحديث : ( السيد من أعطى مالاً ورزق سماحاً ، فأدنى الفقراء ، وقلت شكايته في الناس ) . وفي معناه : من بذل معروفه وكف أذاه وقال في الحديث بني سلمة وقد سألهم من سيدكم فقالوا الجدّ بن قيس على بخله فقال عليه السلام : ( وأي داء أدوى من البخل ؟ سيدكم عمرو بن الجموح ) . وسمي أيضاً سعد بن معاذ سيداً في قوله : ( قوموا إلى سيدكم ) . أي رئيسكم والمطاع فيكم . وسمي الحسن بن علي : سيداً . في قوله : ( إن ابني هذا سيد ، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) .
وقال الزمخشري : السيد الذي يسود قومه أي يفوقها في الشرف . وكان يحيى قائماً لقومه ، قائماً للناس كلهم في أنه لم يرتكب سيئة قط ، ويا لها من سيادة ؟ انتهى كلامه .
وقال ابن عطية ما ملخصه : خصه الله بذكر السؤدد ، وهو الإعتمال في رضا الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل ، وتفضيله : بذل الندى وهو الكرم ، وكف الأذى وهي العفة في الفرج واليد واللسان ، واحتمال العظائم وهنا هو الحلم من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإنقاذ من الهلكات . وقد يوجد من الثقات العلماء من لا يبرز في هذه الخصال ، وقد يوجد من يبرز فيها ، فيسمى سيداً وإن قصر في مندوب ، ومكافحة في حق وقلة مبالاة باللائمة .
وقال ابن عمر : ما رأيت أسود من معاوية ؟ قيل له : وأبو بكر وعمر ؟ قال : هما خير منه ، ومعاوية أسود منهما انتهى كلامه .
وهذه الأقوال التي ذكرت في تفسير السيد كلها يصلح أن يكون تفسيراً في وصف يحيى عليه السلام ، وأحق الناس بصفات الكمال هم النبيون .
وفي قوله : وسيداً ، دلالة على إطلاق هذا الاسم على من فيه سيادة ، وهو من أوصاف المدح . ولا يقال ذلك للظالم والمنافق والكافر .
وورد النهي : ( لا تقولوا للمنافق سيداً ) ، وما جاء من قوله ) أَطَعْنَا سَادَتَنَا ( فعلى ما في اعتقادهم وزعمهم .
قيل : وما جاء في حديث وفد بني عامر من قولهم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : أنت سيدنا وذو الطول علينا ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( السيد هو الله ، تكلموا بكلامكم ) ، فمحمول على أنه رآهم متكلفين لذلك ، أو كان ذلك قبل أن يعلم أنه سيد البشر ، وقد سمى هو الحسن بن علي سيداً ، وكذلك سعد بن معاذ ، وعمرو بن الجموح .
( وَحَصُورًا ( هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، وعطاء ، وأبو الشعثاء ، والحسن ، والسدي ، وابن زيد ، قال الشاعر : وحصوراً لا يريد نكاحا
لا ولا يبتغي النساء الصِّباحا
وقد روي أنه تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره وقيل : الحاضر نفسه عن الشهوات وقيل : عن معاصي

" صفحة رقم 468 "
الله وقيل : الحصور الهيوب وقال ابن مسعود أيضاً ، وابن عباس أيضاً ، والضحاك ، والمسيب : هو العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل .
وإيراد الحصور وصفاً في معرض الثناء الجميل إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب ، والذي يقتضيه مقام يحيى عليه السلام أنه كان يمنع نفسه من شهوات الدنيا من النساء وغيرهن ، ولعل ترك النساء زهادة فيهن كان شرعهم إذ ذاك .
قال مجاهد : كان طعام يحيي العشب ، وكان يبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه ، وكان الدمع اتخذ مجرىً في وجهه .
قيل : ومن هذا حاله فهو في شغل عن النساء وغيرهن من شهوات الدنيا .
وقيل : الحصور الذي لا يدخل مع القوم في الميسر . قال الأخطل : وشارب مربح بالكأس نادمني
لا بالحصور ولا فيها بسآر
فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو .
وقد روي أنه : مر وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب ، فقال : ما للعب خلقت . والحصور والحصِر كما تم السر قال جرير : ولقد تساقطني الوشاة فصادفوا
حَصِراً بسرك يا أميم ضنينا
وجاء في الحديث عن ابن العاصي ، ما معناه : أن يحيى لم يكن له ما للرجل إلاَّ مثل هذا العود ، يشير إلى عويد صغير . وفي رواية أبي هريرة : كان ذكره مثل هذه القذاة ، يشير إلى قذاة من الأرض أخذها . وقد استدل بقوله ) وَحَصُورًا ( من ذهب إلى أن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح ، وهو مذهب الجمهور خلافاً لمذهب أبي حنيفة ، فإنه بالعكس .
( وَنَبِيّا ( هذا الوصف الأشرف ، وهو أعلى الأوصاف ، فذكر أولاً الوصف الذي تبنى عليه الأوصاف بعده ، وهو : التصديق الذي هو الإيمان ، ثم ذكر السيادة وهي الوصف يفوق به قومه ، ثم ذكر الزهادة وخصوصاً فيما لا يكاد يزهد فيه وذلك النساء ، ثم ذكر الرتبة العليا وهي : رتبة النبوّة . وفي هذه الأوصاف تشابه من أوصاف . مريم عليها السلام ، وذلك أن زكريا لما رأى ما اشتملت عليه مريم من الأوصاف الجميلة ، وما خصها الله تعالى به من الخوارق للعادة ، دعا ربه أن يهب له ذرية طيبة ، فأجابة إلى ذلك ، ووهب له يحيى على وفق . ما طلب ، فالتصديق مشترك بين مريم ويحيى ، وكانت مريم سيدة بني إسرائيل بنص الرسول في حديث فاطمة ، وكان يحيى سيداً ، فاشتركا في هذا الوصف . وكانت مريم عذراء بتولاً لم يمسسها بشر وكان يحيى لا يقرب النساء . وكانت مريم أتاها الملك رسولاً من عند الله وحاوراها عن الله بمحاورات حتى زعم قوم أنها كانت نبية ، وكان يحيى نبياً ، وحقيقة النبوّة هو أن يوحي الله إليه ، فقد اشتركا في هذا الوصف .
( مّنَ الصَّالِحِينَ ( يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المعنى من أصلاب الأنبياء ، كما قال : ) ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ( ويحتمل أن يكون المعنى : وصالحاً من جملة الصالحين . كما قال تعالى في وصف إبراهيم ) وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( قال ابن الأنباري : معناه من صالحي الحال عند الله قال الكرماني : خص الأنبياء بذكر الصلاح لأنه لا يتخلل صلاحهم خلاف ذلك وقال الزجاج : الصالح هو الذي يؤدي ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم . انتهى .

" صفحة رقم 469 "
وقد قال سليمان بعد حصول النبوّة له ) وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( قيل : وتحقيق ذلك أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوّة ، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر ، فمن كان أكثر نصيباً من الصلاح كان أعلى قدراً .
وقال الماتريدي : الصلاح يتحقق في كل نبي من جميع الوجوه ، وفي غيرهم لا يتحقق إلاَّ بعضها ، وإن كان الاسم ينطلق على الكل لكن سبب استحقاق الاسم في الأنبياء هو تحقيق الصلاح من جميع الوجوه ، وفي غيرههم من بعضها ، فخصه بالذكر حتى ينقطع احتمال جواز النبوّة في مطلق المؤمنين ، فكان تقييده باسم الصلاح مفيداً .
وقيل : من الصالحين في الدنيا والآخرة ، فيكون إشارة إلى الدوام على الإيمان ، والأمن من خوف الخاتمة .
آل عمران : ( 40 ) قال رب أنى . . . . .
( قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ ( كان قد تقدّم سؤاله به : ) رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً ( فلا شك في إمكانية ذلك ، وجوازه : وإذا كان ذلك ممكناً وبشرته به الملائكة ، فما وجه هذا الاستفهام ؟ .
وأجيب بوجوه : .
أحدهما : أنه سؤال عن الكيفية ، والمعنى : أيولد لي على سن الشيخوخة وكون امرأتي عاقراً ؟ أي بلغت سن من لا تلد ، وكان قد بلغ تسعاً وتسعين سنة ، وامرأته بلغت ثمانياً وتسعين سنة وقال ابن عباس : كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة وقال الكلبي : ابن اثنتين وتسعين سنة .
أم أُعاد أنا وامرأتي إلى سن الشبيبة وهيئة من يولد له ؟ فأجيب : بأنه يولد له على هذه الحال . قال معناه : الحسن ، والأصم .
الثاني : أنه لما بشر بالولد استعلم : أيكون ذلك الولد من صلبه نفسه أم من بنيه ؟ .
الثالث : أنه كان نسي السؤال ، وكان بين السؤال والتبشير أربعون سنة ونقل عن سفيان أنه كان بينهما ستون سنة .
الرابع : أن هذا الاستعلام هو على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى ، يحدث ذلك عند معاينة الآيات وهو يرجع معناه إلى ما قاله بعضهم : إن ذلك من شدّة الفرح ، لكونه كالمدهوش عند حصول ما كان مستعبداً له عادة .
الخامس : إنما سأل لأنه كان عاجزاً عن الجماع لكبر سنه ، فسأل ربه : هل يقويه على الجماع وامرأته على القبول على حال الكبر ؟
السادس : سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم من غيرها .
السابع : أنه لما بشر بالولد أتاه الشيطان ليكدر عليه نعمة ربه ، فقال له : هل تدري من ناداك ؟ قال : ملائكة ربي قال له : بل ذلك الشيطان ، ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك ، فخالطت قلبه وسوسة ، فقال : ) أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ ( ليبين الله له من الوحي ، قاله عكرمة ، والسدي . قال القاضي : لو اشتبه على الرسل كلام الملك بكلام الشيطان لم يبق الوثوق بجميع الشرائع .
وأجيب : بأن ما قاله لا يلزم لاحتمال أن تقوم المعجزة على الوحي بما بتعلق بالدين ، وأما ما يتعلق بمصالح الدنيا فربما لا يؤكد بالمعجزة ، فيبقى الاحتمال ، فيطلب زواله .
وقال الزمخشري : استبعاد من حيث العادة . كما قالت مريم . إنتهى . وعلى ما قاله : لو كان استبعاداً لما سأله بقوله : ) هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً ( لأنه لا يسأل إلاَّ ما كان ممكناً لا سيما

" صفحة رقم 470 "
الأنبياء ، لأن خرق العادة في حقهم كثير الوقوع .
و : يكون ، يجوز أن تكون تامّة وفاعلها غلام ، أي : أنَّي يحدث لي غلام ؟ ويجوز أن تكون ناقصة ، ولا يتعين إذ ذاك تقديم الخبر على الأسم ، لأنه قيل : دخول كان مصحح لجواز الإبتداء بالنكرة ، إذ تقدّم أداة الإستفهام مسوغ لجواز الإبتداء بالنكرة ، والجملتان بعد كل منهما حال ، والعامل فيهما : يكون ، إن كانت تامة ، أو العامل في : لي ، إن كانت ناقصة .
وقيل : ) وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ ( حال من المفعول في : بلغني ، والعامل بلغني ، وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدّد شيئاً فشيئاً ، فلم يكن وصفاً لازماً ، وكانت الثانية اسمية والخبر : عاقر ، لأنه كونها عاقراً أمر لازم لها لم يكن وصفاً طارئاً عليها ، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية ، وناسب أن تكون الثانية جملة اسمية ، ومعنى : بلغني الكبر ، أثر فيّ : وحقيقة البلوغ في الأجرام ، وهو أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه .
وأسند البلوغ إلى الكبر توسعاً في الكلام ، كأن الكبر طالب له ، لأن الحوادث طارئة على الإنسان ، فكأنهما طالبة له وهو المطلوب ، وقيل : هو من المقلوب ، كما جاء : ) وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ( وكما قال : مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت
نجران أو بلغت سوءاتهم هجر
وقال الراغب : إذا بلغت الكبر فقد بلغك الكبر . إنتهى . وهنا قدّم حال نفسه وأخر حال امرأته ، وفي مريم عكس ، فقال الماتريدي : لا تراعي الألفاظ في الحكاية إنما تراعي المعاني المدرجة في الألفاظ .
وقال غيره : صدر الآيات في مريم مطابق لهذا الترتيب هنا ، لأنه قدم : أنه وهن العظم منه ، ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ). وقال : ) وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَائِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا ( ، فلما أعاد ذكرها في الاستعلام أخر ذكر الكبر ليوافق عتياً روؤس الآي ، وهو باب مقصود في الفصاحة يترجح إذا لم يخل بالمعنى ، والعطف هنا بالواو ، فليس التقديم والتأخير مشعراً بتقدم زمان ، وإنما هذا من باب تقديم المناسب في فصاحة الكلام .
( قَالَ كَذالِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( الكاف : للتشبيه ، وذلك : إشارة إلى الفعل ، أي : مثل ذلك الفعل ، وهو تكوّن الولد بين الفاني والعاقر ، يفعل الله ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخباراً من الله أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلاً ، مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء ، بل سبب إيجاده هو تعلق الإرادة : سواء كان من الأفعال الجارية على العادة أم من التي لا تجري على العادة ؟ وإذا كان تعالى يوجد الأشياء من العدم الصرف بلا مادة ولا سبب ، فكيف بالأشياء التي لها مادة وسبب وإن كان ذلك على خلاف العادة ؟ وتكون الكاف على هذا الوجه في موضع نصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : فعلاً مثل ذلك الفعل ، أو على انها في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف : من يفعل ، وذكل على مذهب سيبويه ، وقد تقدّم لنا مثل هذا ، ويحتمل أن يكون كذلك الله مبتدأ وخبراً ، وذلك على حذف مضاف ، أي صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، ويكون ) يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة ، وقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة : الله ، قال : ) وَيَفْعَلُ مَا يَشَاء ( بيان له ، أي يفعل ما يشاء من الأفاعيل الخارقة للعادات . إنتهى .
وقال ابن عطية : أي : كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله . إنتهى .
وعلى هذا الاحتمال ، تكون الكاف في موضع رفع ، لأن الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ والكلام جملتان ، وعلى التفسير الأول الكلام جملة واحدة . قال ابن عطية وغيره : واللفظ لابن عطية : ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : رب على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا ؟ فقال له : كما أنتما يكحون لكما الغلام . والكلام تام على هذا التأويل . في قوله : كذلك وقوله : الله يفعل ما يشاء . جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب . إنتهى كلامه . فيكون : كذلك ، متعلقاً بمحذوف وشرح الراغب المعنى فقال : يهب لك الولد وأنت بحالتك .

" صفحة رقم 471 "
والظاهر من هذه الأقوال الثلاثة هو الأول .
آل عمران : ( 41 ) قال رب اجعل . . . . .
( قَالَ رَبّ اجْعَل لِّىءايَةً قَالَ ءايَتُكَ أَن لا تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( قال الربيع ، والسدي ، وغيرهما : هن زكريا قال : يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك ، والبشارة حق ، فاجعل لي آية ، علامة أعرف بها صحة ذلك فعوقب على هذا الشك في أمر الله بأن منع الكلام ثلاثة أيام مع الناس . وقالت فرقة من المفسرين : لم يشك قط زكريا ، وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد ، وتتم به البشارة ، فلما قيل له : .
( كَذالِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يكون العلوق بيحيى .
واختلفوا في منعه الكلام : هل كان لآفة نزلت به أم لغير آفة ؟ فقال جبير بن نفير : ربا لسانه في فيه حتى ملأه ، ثم أطلقه الله بعد ثلاث . وقال الربيع ، وغيره : أخذ الله عليه لسانه فجعل لا يقدر على الكلام معاقبة على سؤال آية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة . وقالت طائفة : لم تكن آفة ، ولكنه منع مجاورة الناس ، فلم يقدر عليها ، وكان يقدر على ذكر الله . قاله الطبري ، وذكر نحوه عن محمد بن كعب ، وكانت الآية حبس اللسان لتخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها ، وكأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلاَّ عن الشكر .
وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقاً من السؤال ، ومنتزعاً منه وكان الإعجاز في هذه الآية من جهة قدرته على ذكر الله ، وعجزه عن تكليم الناس ، مع سلامة البنية واعتدال المزاج ، ومنه جهة وقوع العلوق وحصوله على وفق الأخبار .
وقيل : أمر أن يصوم ثلاثة أيام ، وكانوا لا يتكلمون في صومهم . وقال أبو مسلم : يحتمل أن يكون معناه : آيتك أن تصير مأموراً بأن لا تكلم الخلق ، وأن تشتغل بالذكر شكراً على إعطاء هذه الموهبة ، وإذا أمرت بذلك فقد حصل المطلوب . قيل : فسأل الله أن يفرض عليه فرضاً يجعله شكراً لذلك .
والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه سأل آية تدل على أنه يولد له ، فأجابه بأن آيته انتفاء الكلام منه مع الناس ثلاثة أيام إلاَّ رمزاً ، وأمر بالذكر والتسبيح وانتفاء الكلام قد يكون لمتكلف به ، أو بملزومه في شريعتهم ، وهو الصوم ، وقد يكون لمنع قهري مدّة معينة لآفة تعرض في الجارحة ، أو لغير آفة ، قالوا : مع قدرته على الكلام بذكر الله . قال الزمخشري : ولذلك قال : ) وَاذْكُر رَّبَّكَ ( إلى آخره يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس ، وهي من الآيات الباهرة . إنتهى .
ولا يتعين ما قاله لما ذكرناه من احتمالات وجوه الإنتفاء ، ولأن الأمر بالذكحر والتسبيح ليس مقيداً بالزمان الذي لا يكلم الناس ، وعلى تقدير تقييد ذلك لا يتعين أن يكون الذكر والتسبيح بالنطق بالكلام ، وظاهر : جعل ، هنا أنها بمعنى صيِّر ، فتتعدّى لمفعولين : الأول آية ، والثاني المجرور ، قبله وهو : لي ، وهو يتعين تقديمه ، لأنه قبل دخول : اجعل ، هو مصحح لجواز الابتداء بالنكرة .
وقرأ ابن أبي عبلة : أن لا تكلم ، برفع الميم على أن : أن ، هي المخففة من الثقيلة ، أي أنه لا تكلم ، واسمها محذوف ضمير الشأن ، أو على إجراء : أن ، مجرى : ما المصدرية ، وانتصاب : ثلاثة أيام ، على الظرف خلافاً للكوفيين ، إذ زعموا أنه كان اسم الزمان يستغرقه الفعل ، فليس بظرف ، وإنما ينتصب انتصاب المفعول به نحو : صمت يوماً ، فانتصاب ثلاثة أيام عندهم على أنه مفعول به ، لأن انتفاء الكلام منه للناس كان واقعاً في جميع الثلاثة ، لم يخل جزء منها من انتفاء فيه . والمراد : ثلاثة أيام بلياليها ، يدل على ذلك قوله في سورة مريم : ) قَالَ رَبّ أَن لا تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ( وهذا يضعف تأويل من قال : أمر بالصوم ثلاثة أيام ، وكانوا لا يتكلمون في صومهم ، والليالي تبعد مشروعية صومها ، ولم يعين ابتداء ثلاثة أيام ، بل أطلق فقال : ثلاثة أيام ، فإن كان ذلك بتكليف فيمكن أن يكون ذلك موكولاً إلى اختياره ، يمتنع من تكليم الناس ثلاثة أيام متى شاء ، ويمكن أن يكون ذلك من حين الخطاب ، وإن كان بمنع قهري فيظهر أنه من حين الخطاب .
قيل : وفي ذلك دلالة على نسخ القرآن بالسنة ، وهذا على تقدير قدرة زكريا على الكلام في تلك الأيام الثلاثة ، وأن شرعه شرع لنا وإن نسخه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : لا صمت يوم إلى الليل .
وقد ذهب كثير من العلماء

" صفحة رقم 472 "
إلى أن معناه : لا صمت يوم ، أي عن ذكر الله ، وأما الصمت عما لا منفعة فيه ، فحسن .
واستثناء الرمز ، قيل : هو استثناء منقطع ، إذا الرمز لا يدخل تحت التكليم ، من أطلق الكلام في اللغة على الإشارة الدالة على ما في نفس المشير ، فلا يبعد أن يكون هذا استثناء متصلاً على مذهبه . ولذلك أنشد النحويون : أرادت كلاماً فاتقت من رقيبها
فلم يك إلاَّ ومؤها بالحواجب
وقال : إذا كلمتني بالعيون الفواتر
رددت عليها بالدموع البوادر
واستعمل المولدون هذا المعنى . قال حبيب :
كلمته بجفون غير ناطقة
فكان من ردّه ما قال حاجبه وكونه استثناءً متصلاً بدأ به الزمخشري . قال : لما أدّى مؤدّي الكلام ، وفهم منه ما يفهم منه ، سمي كلاماً .
وأما ابن عطية فاختار أن يكون منقطعاً . قال : والكلام المراد به في الآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الأستثناء أنه منقطع ، وبدأ به أوّلاً ، فقال استثناء الرمز وهو استثناء منقطع ، ثم قال : وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلا ، والرمز هنا : تحريك بالشضفتين ، قاله مجاهد . أو : إشارة باليد والرأس ، قاله الضحاك ، والسدّي ، وعبد الله بن كثير . أو : إشارة باليد ، قاله الحسن . أو : إيماء ، قاله قتادة . فالإيماء هو الإشارة لكنه لم يعين بماذا أشار . وروي عن قتادة : إشارة باليد أو أشارة بالعين ، روي ذلك عن الحسن .
وقيل : رمزه الكتابة على الأرض . وقيل : الإشارة بالإصبع المسبحة . وقيل : باللسان . ومنه قول الشاعر : ظل أياماً له من دهره
يرمز الأقوال من غير خرس
وقيل : الرمز الصوت الخفي .
وقرأ علقمة بن قيس ، ويحيى بن وثاب : رمزاً ، بضم الراء والميم ، وخرج على أنه جمع رموز ، كرسل ورسول ، وعلى أنه مصدر كرمز جاء على فعل ، وأتبعت العين الفاء كاليسر واليسر .
وقرأ الأعمش : رمزاً ، بفتح الراء والميم ، وخرج على أنه جمع رامز ، كخادم وخدم ، وانتصابه إذا كان جمعاً على الحال من الفاعل ، وهو الضمير في تكلم ، ومن المفعول وهو : الناس . كما قال الشاعر : فلئن لقيتك خاليين لتعلمن
أيىّ وأيّك فارس الأحزاب
أي : إلاَّ مترامزين كما يكلم الأخرس الناس ويكلمونه .
وفي قوله : ) إِلاَّ رَمْزًا ( دلالة على أن الإشارة تتنزل منزلة الكلام ، وذلك موجود في كثير من السنة . وفي الحديث : ( أين الله ) . فأشارت برأسها إلى السماء ، فقال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) . فأجاز الإسلام بالإشارة وهو أصل الديانة التي تحقن الدم وتحفظ المال وتدخل الجنة ، فتكون الإشارة عامة في جميع الديانات ، وهو

" صفحة رقم 473 "
قول عامة الفقهاء .
( وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا ( قيل : الذكر هنا هو بالقلب ، لأنه منع من الكلام . وقيل : باللسان لأنه منع من الكلام مع الناس ولم يمنع من الذكر . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : واذكر عطاء ربك وإجابته دعائك . وقال محمد بن كعب القرظي : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا ، وللرجل في الحرب . وقد قال تعالى : ) إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً ( وأمر بكثرة الذكر ليكثر ذكر الله له بنعمه وألطافه ، كما قال تعالى : ) فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ).
وانتصاب : كثيراً ، على أنه نعت لمصدر محذوف ، أو منصوب على الحال من ضمير المصدر المحذوف الدال عليه : اذكروا ، على مذهب سيبويه .
( وَسَبّحْ بِالْعَشِىّ وَالإبْكَارِ ( أي : نزه الله عن سمات النقص بالنطق باللسان بقولك : سبحان الله . وقيل : معنى وسبح وصلّ ، ومنه : كان يصلي سبحة الضحى أربعاً ، فلولا أنه كان من المسبحين على أحد الوجهين .
والظاهر أنه أمر بتسبيح الله في هذين الوقتين : أول الفجر ، ووقت ميل الشمس للغروب ، قاله مجاهد وقال غيره : يحتمل أن يكون أراد بالعشيّ الليل ، وبالإبكار النهار ، فعبر بجزء كل واحد منهما عن جملته ، وهو مجاز حسن .
ومفعول : وسبح ، محذوف للعلم به ، لأن قبله : ) وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا ( أي : وسبح ربك . و : الباء في : بالعشي ، ظرفية أي : في العشي .
وقرىء شاذاً والإبكار ، بفتح الهمزة ، وهو جمع بكر بفتح الباء والكاف ، تقول : أتيتك بكراً ، وهو مما يلتزم فيه الظرفية إذا كان من يوم معين ونظيره : سحر وأسحار ، وجبل وأجبال . وهذه القراءة مناسبة للعيش على قول من جعله جمع عشية إذ يكون فيها تقابل من حيث الجمعية ، وكذلك هي مناسبة إذا كان العيش مفرداً ، وكانت الألف واللام فيه للعموم ، كقوله : ) إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( وأهلك الناس الدينار الصفر .
وأما على قراءة الجمهور : والإبكار ، بكسر الهمزة ، فهو مصدر ، فيكون قد قابل العشي الذي هو وقت ، بالمصدر ، فيحتاج إلى حذف أي : بالعشي ووقت الإبكار . والظاهر في : بالعشي والإبكار ، أن الألف واللام فيهما للعموم ، ولا يراد به عشى تلك الثلاثة الأيام ولا وقت الإبكار فيها .
وقال الراغب : لم يعن التسبيح طرفي النهار فقط ، بل إدامة العبادة في هذه الأيام . وقال غيره : يدل على أن المراد بالتسبيح الصلاة ، ذكره العشي وازبكار فكأنه قال : اذكر ربك في جميع هذه الأيام والليالي ، وصل طرفي النهار . إنتهى .
ويتعلق : بالعشي ، بقوله : وسبح ، ويكون على إعمال الثاني وهو الأولى ، إذ لو كان متعلقاً بقوله : واذكر ربك ، لأضمر في الثاني ، إذ لا يجوز حذفه إلا في ضرورة .
قيل : أو في قليل من الكلام ، ويحتمل أن يكون من باب الإعمال ، فيكون الأمر بالذكر غير مقيد بهذين الزمانين .
قيل : وتضمنت هذه الآية من فنون الفصاحة أنواعاً : الزيادة في البناء في قوله : هنالك ، وقد ذكرت فائدته و : التكرار ، في ربه : قال رب ، وفي أن الله يبشرك ، وبكلمة من الله . وفي آية قال : آيتك ، وفي : يكون لي غلام كانت وتأنيث المذكر حملاً على اللفظ . وفي : ذرية طيبة ، و : الإسناد المجازي في : وقد بلغني الكبر ، والسؤال والجواب : قال رب أني ؟ قال كذلك قال رب ، اجعل لي آية . قال : آيتك .
قال أرباب الصناعة : أحسن هذا النوع ما كثرت فيه القلقلة والحذف في مواضع .

" صفحة رقم 474 "
2 ( ) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الرَاكِعِينَ ذالِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذَالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِىإِسْرَاءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِىأَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الاٌّ كْمَهَ والاٌّ بْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلاٌّ حِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( ) ) 2
آل عمران : ( 42 ) وإذ قالت الملائكة . . . . .
القلم : معروف وهو الذي يكتب به ، وجمعه أقلام ويقع على السهم الذي يقترع به ، وهو فعل بمعنى مفعولاً لأنه يقلم أي : يبرى ويسوى وقيل : هو مشتق من القلامة ، وهي نبت ضعيف لترقيقه ، والقلامة أيضاً ما سقط من الظفر إذا قلم ، وقلمت أظفاره أخذت منها وسويتها قال زهير : لدى أسد شاكي السلاح مقذف
له لبد أظفاره لم تقلم
وقال بعض المولدين : يشبه بالهلال وذاك نقص
قلامة ظفره شبه الهلال
الوحي : إلقاء المعنى في النفس في خفاء ، فقد يكون بالملك للرسل وبالإلهام كقوله : ) وَأُوحِىَ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( وبالإشارة كقوله .
لأوحت إلينا والأنامل رسلها
) فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ ( وبالكتابة : قال زهير : أتى العجم والآفاق منه قصائد
بَقِينَ بقاء الوَحْيِ في الحَجَرِ أَلاصَم

" صفحة رقم 475 "
والوحي : الكتاب قال :
فمدافع الرّيان عرّى رسمها
خلقا كما ضمن الوحيّ سلامها
وقيل : الوحي جمع : وحي ، وأما الفعل فيقال أوحى ووحى .
المسيح : عبراني معرب ، وأصله بالعبراني مشيحاً ، بالشين عرب بالسين كما غيرت في موشى ، فقيل : موسى ، قاله أبو عبيد وقال الزمخشري : ومعناه المبارك ، كقوله ) وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ ( وهو من الألقاب المشرّفة ، كالصدّيق ، والفاروق ، انتهى . وقيل : المسيح عربي ، واختلف : أهو مشتق من السياحة فيكون وزنه مفعلاً ؟ أو من المسيح فيكون وزنه فعيلاً ؟ وهل يكون بمعنى مفعول أو فاعل خلاف ، ويتبين في التفسير لم سمي بذلك .
الكهل : الذي بلغ سن الكهولة وآخرها ستون وقيل : خمسون وقيل : اثنان وخمسون ، ثم يدخل سن الشيخوخة .
واختلف في أوّلها فقيل : ثلاثون وقيل : اثنان وثلاثون وقيل : ثلاثة وثلاثون . وقيل : خمسة وثلاثون وقيل : أربعون عاماً .
وهو من اكتهل النبات إذا قوي وعلا ، ومنه : الكاهل ، وقال ابن فارس : اكتهل الرجل وخطه الشيب ، من قولهم : اكتهلت الروضة إذا عمها النور ، ويقال للمرأة : كهلة . انتهى .
ونقل عن الأئمة في ترتيب سن المولود وتنقل أحواله : أنه في الرحم : جنين ، فإذا ولد : فوليد ، فإذا لم يستتم الأسبوع : فصديع ، وإذا دام يرضع : فرضيع ، وإذا فطم : ففطيم ، وإذا لم يرضع : فجحوش ، فإذا دب ونما : فدارج ، فإذا سقطت رواضعه : فمثغور ، فإذا نبتت بعد السقوط : فمتغر ، بالتاء والثاء . فإذا كان يجاوز العشر : فمترعرع وناشيء ، فإذا كان يبلغ الحلم : فيافع ، ومراهق ، فإذا احتلم : فمحزور ، وهو في جميع هذه الأحوال : غلام . فإذا اخضر شاربه وسال عذاره : فباقل ، فإذا صار ذاقناً : ففتى وشارخ ، فإذا كملت لحيته : فمجتمع ، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين : فهو شاب ، ثم هو كهل : إلى أن يستوفي الستين . هذا هو المشهور عند أهل اللغة .
الطين : معروف ، ويقال طانه الله على كذا ، وطامه بابدال النون ميماً ، جبله وخلقه على كذا ، ومطين لقب لمحدث معروف .
الهيئة : الشكل والصورة ، وأصله مصدر يقال : هاء الشيء بهاء هيأ وهيئة إذا ترتب واستقر على حال مّا ، وتعديه بالتضعيف ، فتقول : هيأته ، قال ) اللَّهُ لَكُمْ ).
النفخ : معروف .
الإبراء : إزالة العلة والمرض ، يقال : برىء الرجل وبرأ من المرض ، وأما من الذنب ومن الدّين فبريء .
الكمه : العمى يولد به الإنسان وقد يعرض ، يقال : كمه يكمه كمهاً : فهو أكمه . وكمهتها أنا أعميتها قال سويد : .
كمهت عيناه حتى ابيضتا

" صفحة رقم 476 "
وقال رؤبة .
فارتد عنها كارتداد الأكمه
البرص : داء معروف وهو بياض يعتري الجلد ، يقال منه : برص فهو أبرص ، ويسمى القمر أبرص لبياضه ، والوزغ سام أبرص للبياض الذي يعلو جلده .
ذخر : الشيء يذخره خبأه ، والذخر المذخور قال : لها أشارير من لخم تثمره
من الثعالي وذخر من أرانبها
) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ ( لما فرغ من قصة زكريا ، وكان قد استطرد من قصة مريم إليها ، رجع إلى قصة مريم ، وهكذا عادة أساليب العرب ، متى ذكروا شيئاً استطردوا منه إلى غيره ثم عادوا إلى الأول إن كان لهم غرض في العود إليه ، والمقصود تبرئة مريم عن ما رمتها به اليهود ، وإظهار استحالة أن يكون عيسى إلهاً ، فذكر ولادته .
وظاهر قوله الملائكة أنه جمع من الملائكة وقيل : المراد جبريل ومن معه من الملائكة ، لأنه نقل أنه : لا ينزل لأمر إلاَّ ومعه جماعة من الملائكة وقيل : جبريل وحده .
وقرأ ابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو : وإذ قال الملائكة ، وفي نداء الملائكة لها باسمها تأنيس لها وتوطئة لما تلقيه إليها ومعمول القول الجملة المؤكدة : بإن .
والظاهر مشافهة الملائكة لها بالقول قال الزمخشري : روي أنهم كلموها شفاهاً معجزة لزكريا ، أو إرهاصاً لنبوّة عيسى . انتهى . يعني : بالارهاص التقدّم ، والدلالة على نبوّة عيسى وهذا مذهب المعتزلة ، لأن الخارق للعادة عندهم لا يكون على يد غير نبي إلاَّ إن كان في وقته نبي ، أو انتظر بعث نبي ، فيكون ذلك الخارق مقدمة بين يدي بعثة ذلك النبي .
( وَطَهَّرَكِ ( التطهير هنا من الحيض ، قاله ابن عباس قال السدي : وكانت مريم لا تحيض . وقال قوم : من الحيض والنفاس وروي عن ابن عباس : من مس الرجال وعن مجاهد : عما يصم النساء في خلق وخلق ودين ، وعنه أيضاً : من الريب والشكوك .
( وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( قيل : كرر على سبيل التوكيد والمبالغة وقيل : لا توكيد إذ المراد بالاصطفاء الأول اصطفاء الولاية ، وبالثاني اصطفاء ولادة عيسى ، لأنها بولادته حصل لها زيادة اصطفاء وعلو منزلة على الأكفاء وقيل : الاصطفاء الأول : اختيار وعموم يدخل فيه صوالح من النساء ، والثاني : اصطفاء على نساء العالمين . وقيل : لما أطلق الاصطفاء الأول بيّن بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال وقال الزمخشري : اصطفاك أوّلاً حين تقبلك من أمّك ورباك ، واختصك بالكرامة السنية ، وطهرك مما يستقذر من الأفعال ، ومما قذفك به اليهود ، واصطفاك آخراً على نساء العالمين بأن وهب لك عيسى من غير أب ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء . انتهى . وهو كلام حسن ، ويكون : نساء العالمين ، على قوله عاماً ، ويكون الأمر الذي اصطفيت به من أجله هو اختصاصها بولادة عيسى وقيل : هو خدمة البيت وقيل : التحرير ولم تحرر أنثى غير مريم وقيل : سلامتهها من نخس الشيطان وقيل : نبوتها ، فإنه قيل إنها نبئت ، وكانت الملائكة تظهر لها وتخاطبها برسالة الله لها ، وكان زكريا يسمع

" صفحة رقم 477 "
ذلك ، فيقول : إن لمريم لشأناً . والجمهور على أنه لم ينبأ امرأه ، فالمعنى الذي اصطفيت لأجله مريم على نساء العالمين هو شيء يخصها ، فهو اصطفاء خاص إذ سببه خاص وقيل : نساء العالمين ، خاص بنساء عالم زمانها ، فيكون الاصطفاء إذ ذاك عاماً ، قاله ابن جريج .
وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( خير نساء الجنة مريم بنت عمران ) . وروي : ( خير نسائها مريم بنت عمران ) وروي : ( خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ) وروي : ( فضلت خديجة على نساء أمّتي كما فضلت مريم على نساء العالمين ) وروي : أنها من الكاملات من النساء .
وقد روي في الأحاديث الصحاح تفضيل مريم على نساء العالمين ، فذهب جماعة من المفسرين إلى ظاهر هذا التفضيل قال بعض شيوخنا : والذي رأيت ممن اجتمعت عليه من العلماء ، أنهم ينقلون عن أشياخهم : أن فاطمة أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات لأنها بضعة من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
آل عمران : ( 43 ) يا مريم اقنتي . . . . .
( يامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبّكِ ( لا خلاف بين المفسرين أن المنادي لها بذلك الملائكة الذين تقدّم ذكرهم على الخلاف المذكور ، والمراد بالقنوت هنا : العبادة ، قاله الحسن ، وقتادة . أو : طول القيام في الصلاة ، قاله مجاهد ، وابن جريج ، والربيع ، أو : الطاعة ، أو : الإخلاص ، قاله ابن جبير .
وفي قوله : لربك ، إشارة إلى أن تفرّده بالعبادة وتخصصه بها ، والجمهور على ما قاله مجاهد ، وهو المناسب في المعنى لقوله : ) وَاسْجُدِى وَارْكَعِى ( وروي مجاهد أنها : لما خوطبت بهذا قامت حتى ورمت قدماها . وقال الأوزاعي : قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها . وروي : أن الطير كانت تنزل على رأسها تظنها جماداً لسكونها في طول قيامها .
( وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ ( أمرتها الملائكة بفعل ثلاثة أشياء من هيئات الصلاة ، فإن أريد ظاهر الهيئات فهي معطوفة بالواو ، والواو لا ترتب ، فلا يسأل لم قدم

" صفحة رقم 478 "
السجود على الركوع إلاَّ من جهة علم البيان .
والجواب : أن السجود لما كانت الهيئة التي هي أقرب ما يكون العبد فيها إلى الله قدم ، وإن كانت متأخراً في الفعل على الركوع ، فيكون إذ ذاك التقديم بالشرف . وقيل : كان السجود مقدّماً على الركوع في شرع زكريا وغيره منهم ، ذكره أبو موسى الدمشقي . وقيل : في كل الملل إلاَّ ملة الإسلام ، فجاء التقديم من حيث الوقوع في ذلك الشرع ، فيكون إذ ذاك التقديم زمانياً من حيث الوقوع ، وهذا التقديم أحد الأنواع الخمسة التي ذكرها البيانيون ، وكذلك التقديم الذي قبله ، وتوارد الزمخشري ، وابن عطية على أنه لا يراد ظاهر الهيئات .
فقال الزمخشري : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة وأركانها ، ثم قيل لها ) وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ ( المعنى : ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة ، أي وانظمي نفسك في جملة المصلين ، وكوني معهم وفي عدادهم ، ولا تكون في عداد غيرهم .
وقال ابن عطية : القول عندي في ذلك أن مريم أمرت بفعلين ومعلمين من معالم الصلاة ، وهما : طول القيام والسجود ، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة . وهذان يختصان بصلاتها منفردة ، وإلاَّ فمن يصلي وراء إمام لا يقال له : أطل قيامك ، ثم أمرت بعدُ بالصلاة في الجماعة ، فقيل لها : ) وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ ( وقصد هنا معلم آخر من معالم الصلاة لئلا يتكرر لفظ . ولم يرد بالآية السجود والركوع الذي هو منتظم في ركعة واحدة . انتهى كلامه . ولا ضرورة بنا تخرج اللفظ عن ظاهره .
وقد ذكرنا مناسبة لتقديم السجود على الركوع ، وقد استشكل ابن عطية هذا ، فقال : وهذه الآية أشد إشكالاً من قولنا : قام زيد وعمرو ، لأن قيام زيد وعمر وليس له رتبة معلومة ، وقد علم أن السجود بعد الركوع ، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك في هذه الآية ؟ انتهى . وهذا كلام من لم يمعن النظر في كتاب سيبويه ، فإن سيبويه ذكر أن الواو يكون معها في العطف المعية ، وتقديم السابق وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء ، فلا يترجح أحد الاحتمالات على الآخر ، ولا التفات لقول بعض أصحابنا المتأخرين في ترجيح المعية على تقديم السابق وعلى تقديم اللاحق ، ولا في ترجيح تقديم السابق على تقديم اللاحق .
وذكر الزمخشري توجيهاً آخر في تأخير الركوع عن السجود ، فقال : ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع ، وفيه من يركع ، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ، ولا تكون مع من لا يركع . انتهى . فكأنه قيل : لا تقتصري على القيام والسجود ، بل أضيفي إلى ذلك الركوع .
وقيل : المراد : باقنتي : أطيعي ، وباسجدي : صلي ، ومنه ) وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( أي : الصلوات ، و : باركعي : أشكري مع الشاكرين ، ومنه : ) وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ( ويقوي هذا المعنى ، ويرد على من زعم أنه لم تشرع صلاة إلاَّ والركوع فيها مقدّم على السجود ، فإن المشاهد من صلاة اليهود والنصارى خلوّها من الركوع ، ويبعد أن يراد بالركوع الإنحناء الذي يتوصل منه إلى السجود ، ويحتمل أن يكون ترك الركوع مما غيرته اليهود والنصارى من معالم شريعتهم .
و : مع ، في قوله : مع الراكعين ، تقتضي الصحبة والإجتماع في إيقاع الركوع مع من يركع ، فتكون مأمورة بالصلاة في جماعة ، ويحتمل أن يتجوز في : مع ، فتكون للموافقة للفعل فقط دون اجتماع ، أي : إفعلي كفعلهم ، وإن لم توقعي الصلاة معهم ، فإنها كانت تصلي في محرابها . وجاء : مع الراكعين ، دون الراكعات لأن هذا الجمع أعمَ إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب ، ولمناسبة أواخر الآيات قبل وبعد ، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا إنها مأمورة بصلاة الجماعة .
قال الماتريدي : ولم تكره لها الصلاة في الجماعة ، وإن كانت شابة ، لأنهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم ، ولذلك اختصوا في ضمها وإمساكها . انتهى .
آل عمران : ( 44 ) ذلك من أنباء . . . . .
( ذالِكَ مِنْ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ( الإشارة إلى ما تقدّم من قصص امرأة عمران ، وبنتها مريم ، وزكريا ، ويحيى ، والمعنى : أن هذه القصص وصولها إليك من جهة الوحي إذ لست ممن دارس الكتب ، ولا

" صفحة رقم 479 "
صحب من يعرف ذلك ، وهو من قوم أمّيين ، فمدرك ذلك إنما هو الوحي من عند الله كما قال في الآية الأخرى ، وقد ذكر قصة أبعد الناس زماناً من زمانه / ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وهو نوح عليه السلام ، واستوفاها له في سورة هود أكثر مما استوفاها في غيرها ) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا ( وفي هذا دليل على نبوّة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذ أخبر بغيوب لم يطلع عليها إلاَّ من شاهدها ، أو : من قرأها في الكتب السابقة ، أو : من أوحي الله إليه بها . وقد انتفى العيان والقراءة ، فتعين الثالث وهو الوحي من الله تعالى .
والكاف في : ذلك ، و : إليك ، خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والأحسن في الإعراب أن يكون : ذلك ، مبتدأ و : من أنباء الغيب ، خبره . وأن يكون : نوحيه ، جملة مستأنفة ، ويكون الضمير في : نوحيه ، عائداً على الغيب ، أي : شأننا أننا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ، ولذلك أتى بالمضارع ، ويكون أكثر فائدة من عوده على : ذلك ، إذ يشتمل ما تقدّم من القصص وغيرها التي يوحيها إليه في المستقبل ، إذ يصير نظير : زيد يطعم المساكين ، فيكون إخباراً بالحالة الدائمة . والمستعمل في هذا المعنى إنما هو المضارع ، وإذ يلزم من عوده على : ذلك ، أن يكون : نوحيه ، بمعنى : أوحيناه إليك ، لأن الوحي به قد وقع وانفصل ، فيكون أبعد في المجاز منه إذا كان شاملاً لهذه القصص وغيرها مما سيأتي ، وجوّزوا أن يكون : نوحيه ، خبراً : لذلك ، و : من أنباء ، حال من : الهاء ، في : نوحيه ، أو متعلقاً : بنوحيه .
( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ( هذا تقرير وتثبيت أن ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى ، والمعلم به قصتان : قصة مريم ، وقصة زكريا . فنبه على قصة مريم إذ هي المقصودة بالإخبار أولاً ، وإنما جاءت قصة زكريا على سبيل الاستطراد ، ولأندراج بعض قصة زكريا في ذكر من يكفل ، فما خلت من تنبيه على قصة .
ومعنى : ) مَا كُنتُ لَدَيْهِمْ ( أي : ما كنت معهم بحضرتهم إذ يلقون أقلامهم . ونفي المشاهدة ، وإن كانت منتفية بالعلم ولم تنتف القراءة والتلقي ، من حفاظ الأنباء على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي ، وقد علموا أنه ليس ممن يقرأ ، ولا ممن ينقل عن الحفاظ للأخبار ، فتعين أن يكون علمه بذلك بوحي من الله تعالى إليه ، ونظيره في قصة موسى : ) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىّ ( ) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ ( وفي قصة يوسف ) مَا كُنتُ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ ).
والضمير ، في : لديهم ، عائد على غير مذكور ، بل على ما دل عليه المعنى ، أي : وما كنت لدى المتنازعين ، كقوله : ) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ( أي : بالمكان .
والعامل في : إذ ، العامل في : لديهم . وقال أبو علي الفارسي : العامل في : إذ ، كنت . إنتهى . ولا يناسب ذلك مذهبه في كان الناقصة . لأنه يزعم أنها سلبت الدلالة على الحدث ، وتجردت للزمان وما سبيله هكذا ، فكيف يعمل في ظرف ؟ لأن الظرف وعاء للحدث ولا حدث فلا يعمل فيه ، والمضارع بعد : إذ ، في معنى الماضي ، أي : إذ ألقوا أقلامهم للاستهام على مريم ، والظاهر أنها الأقلام التي للكتابة . وقيل : كانوا يكتبون بها التوراة ، فاختاروها للقرعة تبركاً بها . وقيل : الأقلام هنا الأزلام ، وهي : القداح ، ومعنى الإلقاء هنا الرمي والطرح ، ولم يذكر في الآية ما الذي ألقوها فيه ، ولا كيفية حال الإلقاء ، كيف خرج قلم زكريا . وقد ذكرنا فيما سبق شيئاً من ذلك عن المفسرين ، والله أعلم بالصحيح منها . وقال أبو مسلم : كانت الأمم يكتبون أسماءهم على سهام عند المنازعة ، فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وهو شبيه بأمر القداح التي يتقاسم بهال الجزور .
وارتفع ) أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ( على الابتداء والخبر ، وهو في موضع نصب إما على الحكاية بقول محذوف ، أي : يقولون أيهم يكفل ، ودل على المحذوف : ) يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ ( وقد استدل بهذه الآية على إثبات القرعة وهي مسألة فقهية تذكر في علم الفقه .
( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( أي : بسبب مريم ، ويحتمل أن يكون هذا الاختصام هو الاقتراع ، وأن يكون اختصاماً آخر بعده ، والمقصود شدّة رغبتهم في التكفل بشأنها . والعامل في : اذ ، العامل في : لديهم ، أو ، كنت ، على قول أبي علي في : إذ يلقون

" صفحة رقم 480 "
وتضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة : التكرار في : اصطفاك ، وفي : يا مريم ، وفي : ما كنت لديهم . قيل : والتقديم والتأخير في : واسجدي واركعي ، على بعض الأقوال . والأشتعارة ، فيمن جعل القنوعت والسجود والركوع ليس كناية عن الهيئات التي في الصلاة ، والإشارة بذلك من أنباء الغيب ، والعموم المراد به الخصوص في نساء العالمين على أحد التفسيرين ، والتشبيه في أقلامهم ، إذا قلنا إنه أراد القداح . والحذف على عدة مواضع .
آل عمران : ( 45 ) إذ قالت الملائكة . . . . .
( إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ إِنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ ( العامل في : إذا ، اذكر أو : يختصمون ، أو إذ ، بدل من إذ ، في قوله : إذ يختصمون ، أو من : وإذ قالت الملائكة ، أقوال يلزم في القولين المتوسطين اتحاد زمان الاختصام وزمان قول الملائكة ، وهو بعيد ، وهو قول الزجاج . ويبعد الرابع لطول الفصل بين البدل والمبدل منه . والرابع اختيار الزمخشري وبه بدأ .
والخلاف في الملائكة : أَهُمْ جمع من الملائكة أو جبريل وحده على ما سبق قبل في خطابهم لزكريا ولمريم ؟ وتقدم تكليم الملائكة قبل هذا التبشير بذكر الاصطفاء والتطهير من الله ، وبالأمن بالعبادة له على سبيل التأنيس واللطف ، ليكون ذلك مقدمة لهذا التبشضير بهذا الأمر العجيب الخارق الذي لم يجر لامرأة قبلها ، ولا يجري لأمرأة بعدها ، وهو أنها تحمل من غير مس ذكر لها ، وكان جرى ذلك الخارق من رزق الله لها أيضاً تأنيساً لهذا الخارق .
وقرأ ابن مسعود ، وابن عمر : وإذ قال الملائكة .
والكلمة من الله هو عيسى عليه السلام ، سمي كلمة لصدوره بكلمة : كن ، بلا أب . قاله قتادة . وقيل : لتسميته المسيح ، وهو كلمة من الله أي : من كلام الله . وقيل : لوعد الله به في كتابه التوراة والكتب السابقة . وفي التوراة : أتانا الله من سيناء ، وأشرق من ساعر ، واستعلن من جبال فاران . وساعر هو الموضع الذي بعث منه المسيح . وقيل : لأن الله يهدي بكلمته . وقيل : لأنه جاء على وفق كلمة جبريل ، وهو : ) إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ( فجاء على الصفة التي وصف . وقيل : سماه الله بذلك كما سمى من شاء من سائر خلقه بما شاء من الأسماء ، فيكون على هذا علماً موضوعاً له لم تلحظ فيه جهة مناسبة . وقيل : الكلمة هنا لا يراد بها عيسى ، بل الكلمة بشارة الملائكة لمريم بعيسى . وقيل : بشارة النبي لها .
( اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ( الضمير في اسمه ، عائد على : الكلمة ، على معنى : نبشرك بمكون منه ، أو بموجود من الله . وسمي : المسيح ، لأنه مسح بالبركة ، قاله الحسن ، وسعيد ، وشمر . أو : بالدهن الذي يمسح به الأنبياء ، خرج من بطن أمّه ممسوحاً به ، وهو دهن طيب الرائحة إذا مسح به شخص علم أنه نبي . أو : بالتطهير من الذنوب ، أو : بمسح جبريل له بجناحه أو : لمسح رجليه فليس فيهما خمص ، والأخمص ما تجافى عن الأرض من باطن الرجل ، وكان عيسى أمسح القدم لا أخمص له . قال الشاعر :

" صفحة رقم 481 "
بات يقاسيها غلام كالزلم
خدلج الساقين ممسوح القدم
أو : لمسح الجمال إياه وهو ظهوره عليه ، كما قال الشاعر :
على وجه مي مسحة من ملاحة
أو : لمسحة من الأقذار التي تنال المولودين ، لأن أمه كانت لا تحيض ولم تدنس بدم نفاس . أقوال سبعة ، ويكون : فعيل ، فيها بمعنى مفعول ، والألف واللام في : المسيح ، للغلبة مثلها في : الدبران والعيوق . وقال ابن عباس : سمي بذلك لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إبلا بريء ، فعلى هذا يكون : فعيل ، مبنياً للمبالغة : كعليم ، ويكون من الأمثلة التي حولت من فاعل إلى فعيل للمبالغة . وقيل : من المساحة ، وكان يجول في الأرض فكأنه كان يمسحها . وقيل : هو مفعل من ساح يسيح من السياحة . وقال مجاهد ، والنخعي : المسيح : الصديق . وقال ابن عباس ، وابن جبير : المسيح : الملك ، سمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى وغير ذلك من الآيات . وقال أبو عبيد : أصله بالعبرانية مشيحاً ، فغير ، فعلى هذا يكون اسماً مرتجلاً ليس هو مشتقاً من المسح ولا من السياحة ) عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ( الأبناء ينسبون إلى الآباء ، ونسب إليها . وإن كان الخطاب لها إعلاماً أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إليها .
والظاهر أن اسمه : المسيح ، فيكون : اسمه المسيح ، مبتدأ وخبراً ، و : عيسى ، جوزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون بدلاً ، وأن يكون عطف بيان . ومنع بعض النحويين أن يكون خبراً بعد خبر ، وقال : كان يلزم أن يكون أسماه على المعنى ، أو أسماها على لفظ الكلمة ، ويجوز أن يكون : عيسى ، خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو عيسى ابن مريم . قال ابن عطية : ويدعو إلى هذا كون قوله : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، إذ قد أجمع الناس على كتبه دون الألف . وأما على البدل ، أو عطف البيان ، فلا يجوز أن يكون : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، لأن الاسم هنا لم يرد به الشخص . هذه النزعة لأبي علي . وفي صدر الكلام نظر . إنتهى كلامه .
وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل : ) اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ( وهذه ثلاثة أشياء الاسم منها : عيسى ، وأما : المسيح و : الأبن ، فلقب وصفة ؟ .
قلت : الاسم للمسمى علامة يعرف بها ، ويتميز من غيره ، فكأنه قيل : الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة . إنتهى كلامه . ويظهر من كلامه أن اسمه مجموع هذه الثلاثة ، فتكون الثلاثة أخباراً عن قوله : اسمه ، ويكون من باب : هذا حلو حامض ، و : هذا أعسر يسر . فلا يكون أحدها على هذا مستقلاً بالخبرية . ونظيره في كون الشيئين أو الأشياء في حكم شيء واحد قول الشاعر :

" صفحة رقم 482 "
كيف أصبحت كيف أمسيت مما
يزرع الود في فؤاد الكريم ؟
أي : مجموع هذا مما يزرع الود ، فلما جاز في المبتدأ أن يتعدد دون حرف عطف إذا كان المعنى على المجموع ، كذلك يجوز في الخبر . وأجاز أبو البقاء أن يكون : ابن مريم ، خبر مبتدأ محذوف أي : هو ابن مريم ، ولا يجوز أن يكون بدلاً مما قبله ، ولا صفة لأن : ابن مريم ، ليس باسم . ألا ترى أنك لا تقول : اسم هذا الرجل ابن عمرو إلاَّ إذا كان علماً عليه ؟ إنتهى .
قال بعضهم : ومن قال إن المسيح صفة لعيسى ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره : اسمه عيسى المسيح ، لأن الصفة تابعة لموصوفها . إنتهى . ولا يصح أن يكون المسيح في هذا التركيب صفة ، لأن المخبر به على هذا اللفظ ، والمسيح من صفة المدلول لا من صفة الدال ، إذ لفظ عيسى ليس المسيح .
ومن قال : إنهما اسمان تقدم المسيح على عيسى لشهرته . قال ابن الأنباري : وإنما بدأ بلقبه لأن : المسيح ، أشهر من : عيسى ، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه ، وعيسى قد يقع على عدد كثير ، فقدمه لشهرته . ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم ؟ وهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري لقب لا اسم .
قال الزجاج : وعيسى معرب من : ايسوع ، وإن جعلته عربياً لم ينصرف في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف تأنيث ، ويكون مشتقاً من : عاسه يعوسه ، إذا ساسه وقام عليه .
وقال الزبمخشري : مشتق من العيس كالرقم في الماء .
( وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ ( قال ابن قتيبة : الوجيه ذو الجاه ، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة . وقال ابن دريد : الوجيه المحب المقبول . وقال الأخفش : الشريف ذو القدر والجاه . وقيل : الكريم على من يسأله ، لأنه لا يرده لكرم وجهه .
ومعناه في حق عيسى أن وجاهته في الدنيا بنبوته ، وفي الآخرة بعلو درجته . وقيل : في بالدنيا بالطاعة ، وفي الآخرة بالشفاعة . وقيل : في الدنيا بإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، وفي الآخرة بالشفاعة . وقيل : في الدنيا كريماً لا يرد وجهه ، وفي الآخرة في علية المرسلين . وقال الزمشخري : الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس ، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة . وقال ابن عطية : وجاهة عيسى في الدنيا نبوته وذكره ورفعه ، وفي الآخرة مكانته ونعميه وشفاعته .
( وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( معناه من الله تعالى . وقال الزمخشري : وكونه من المقرّبين رفع إلى السماء وصحبته الملائكة . وقال قتادة : ومن المقربين عند الله يوم القيامة . وقيل : من الناس بالقبول والإجابة ، قاله الماوردي . وقيل : معناه : المبالغ في تقريبهم ، لأن فعل من صغ المبالغة ، فقال : قرّبه يقرّبه إذا بالغ في تقريبه إنتهى . وليس فعل هنا من صبغ المبالغة ، لأن التضعيف هنا للتعدية ، إنما يكون للمبالغة في نحو : جرّحت زيداً و : موّت الناس .
( وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( معطوف على قوله : وجيهاً ، وتقديره : ومقرباً من جملة المقربين .
أعلم تعالى أن ثَمَّ مقربين ، وأن عيسى منهم . ونظير هذا العطف قوله تعالى : ) وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ ( فقوله : وبالليل ، جار ومجرور في موضع الحال ، وهو معطوف على : مصبحين ، وجاءت هذه الحال هكذا لأنها من الفواصل ، فلو جاء : ومقرباً ، لم تكن فاصلة ، وأيضاً فأعلم تعالى أن عيسى مقرب من جملة المقربين ، والتقريب صفة جليلة عظيمة . ألا ترى إلى قوله : ) وَلاَ الْمَلَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ( ؟ وقوله : ) فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ ( وهو تقريب من الله تعالى بالمكانة والشرف وعلو المنزلة .
آل عمران : ( 46 ) ويكلم الناس في . . . . .
( وَيُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً ( وعطف : ويكلم ، وهو حال أيضاً على : وجيهاً ، ونظيره : ) إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ( أي : وقابضات . وكذلك : ويكلم ، أي : ومكلماً . وأتى في الحال الأولى بالاسم لأن الأسم

" صفحة رقم 483 "
هو للثبوت ، وجاءت الحال الثانية جاراً ومجروراً لأنه يقد بالأسم . وجاءت الحالة الثالثة جملة لأنها في الرتبة الثالثة . ألا ترى في الحال وصف في المعنى ؟ فكما أن الأحسن والأكثر في لسان العرب أنه إذا اجتمع أوصاف متغايرة بدىء بالأسم ، ثم الجار والمجرور ، ثم بالجملة . كقوله تعالى : ) وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ( فكذلك الحال ، بدىء بالأسم ، ثم الجار والمجرور ، ثم بالجملة . وكانت هذه الجملة مضارعية لأن الفعل يشعر بالتجدد ، كما أن الأسم يشعر بالثبوت ، ويتعلق : في المهد ، بمحذوف إذ هو في موضع الحال ، التقدير : كائنا في المهد وكهلاً ، معطوف على هذه الحال ، كأنه قيل : طفلاً وكهلاً ، فعطف صريح الحال على الجار والمجرور الذي في موضع الحال . ونظيره عكساً : ) وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ ( ومن زعم أن : وكهلاً ، معطوف على : وجيهاً ، فقد أببعد .
والمهد : مقر الصبي في رضاعه ، وأصله مصدر سمي به يقال : مهدت لنفسي بتخفيف الهاء وتشديدها ، أي : وطأت ، ويقال : أمهد الشيء ارتفع .
وتقدم تفسير : الكهل لغة . وقال مجاهد : الكهل الحليم ، وهذا تفسير باللازم غالباً ، لأن الكهل يقوى عقله وإدراكه وتجربته ، فلا يكون في ذلك كالشارخ ، والعرب تتمدح الكهولة ، قال : وما ضر من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلى وكهول
ولذلك خص هذا السن في الآية دون سائر العمر ، لأنها الحالة الوسطى في استحكام العقل وجودة الرأي ، وفي قوله : وكهلاً ، تبشير بأنه يعيش إلى سن الكهولة ، قاله الربيع ، ويقال : إن مريم ولدته لثمانية أشهر ، ومن ولد لذلك لم يعش ، فكان ذلك بشارة لها بعيشه إلى هذا السن . وقيل : كانت العادة أن من تكلم في المهدمات ، وفي قوله : ) فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً ( إشارة إلى تقلب الأحوال عليه ، ورد على النصارى في دعواهم إلهيته . وقال ابن كيسان : ذكر ذلك قبل أن يخلقه إعلاماً به أنه يكتهل ، فإذا أخبرت به مريم علم أنه من علم الغيب . واختلف في كلامه : في المهد ، أكان ساعة واحدة ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق ؟ أو كان يتكلم دائماً في المهد حتى بلغ إبان الكلام ؟ قولان : الأول : عن ابن عباس .
ونقل الثعالبي أشياء من كلامه لأمه وهو رضيع ، والظاهر أنه كان حين كلم الناس في الهد نبياً لقوله : ) قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى ( ولظهور هذه المعجزة منه والتحدي بها . وقيل : لم يكن نبياً في ذلك الوقت ، وإنما كان الكلام تأسيساً لنبوته ، فيكون قوله : ) وَجَعَلَنِى نَبِيّاً ( إخباراً عما يؤول إليه بدليل قوله : ) وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ ( ولم يتعرض لوقت كلامه إذا كان كهلاً ، فقيل : كلامه قبل رفعه إلى السماء كلمهم بالوحي والرسالة .
وقيل : ينزل من السماء كهلاً ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فيقول لهم : إني عبد الله ، كما قال في المهد ، وهذه فائدة قوله : وكهلاً ، أخبر أنه ينزل عند قتله الدجال كهلاً ، قاله ابن زيد . وقال الزمشخري : معناه : ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ، وينبأ فيها الأنبياء . إنتهى .
قيل : وتكلم في المهد سبعة : عيسى ، ويحيى ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج . وصبي ماشطة امرأة فرعون ، وصاحب الجبار ، وصاحب الأخدود ، وقصص هؤلاء مروية ، ولا يعارض هذا ما جاء من حصر من تكلم رضيعاً في ثلاثة ، لأن ذلك كان إخباراً قبل أن يعلم بالباقين ، فأخبر على سبيل ما أعلم به أولاً ، ثم أعلم بالباقين .
( وَمِنَ الصَّالِحِينَ ( أي : وصالحاً من جملة الصالحين ، وتقدم تفسير الصلاح الموصوف به الأنبياء .
وانتصاب : وجيهاً ، وما عطف عليه على الحال من قوله : بكلمة منه ، وحسن ذلك ، وإن كان نكرة ، كونه وصف بقوله : منه ، وبقوله : منه ، وبقوله : اسمه المسيح .
آل عمران : ( 47 ) قالت رب أنى . . . . .
( قَالَتْ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ ( لما أخبرتها الملائكة أن الله بشرها بالمسيح ، نادت ربها ، وهو الله ، مستفهمة على طريق التعجب من حدوث الولد من غير أب إذ ذاك من الأمور الموجبة للتعجب ، وهذه القضية أعجب

" صفحة رقم 484 "
من قضية زكريا ، لأن قضية زكريا حدث منها الولد بين رجل وامرأة ، وهنا حدث من امرأة بغير واسطة بشر ، ولذلك قالت : ) وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ ).
وقيل : استفهمت عن الكيفية ، كما سأل زكريا عن الكيفية ، تقديره : هل يكون ذلك على جري العادة بتقدم وطء ؟ أَمْ بأمر من قدرة الله ؟ .
وقال الانباري : لما خاطبها جبريل ظنته آدمياً يريد بها سوءاً ، ولهذا قالت : ) إِنّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً ( فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله لأنها لم تعلم أنه ملك ، فقال : ) رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ ( ؟
ومن ذهب إلى أن قولها : رب ، وقول زكريا : رب ، إنما هو نداء لجبريل لما بشرهما ، ومعناه : يا سيدي فقد أبعد وقال الزمخشري : هو من بدع التفاسير ، و : يكون ، يحتمل أن تكون الناقصة والتامة ، كما سبق في قصة زكريا . و : لم يمسسني بشر ، جملة حالية ، والمسيس هنا كناية عن الوطء ، وهذا نفي عام أن يكون باشرها أحد بأي نوع كان من تزوّج أو غيره ، والبشر يطلق على الواحد والجمع ، والمراد هنا النفي العام ، وسمي بشراً لظهور بشرته وهو جلده ، وبشرت الأديم قشرت وجهه ، وأبشرت الأرض أخرجت نباتها ، وتباشير الصبح أول ما يبدو من نوره .
( قَالَ كَذالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء ( تقدم الكلام في نظيرها في قصة زكريا ، إلاَّ أن في قصته ) يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( من حيث إن أمر زكريا داخل في الإمكان العادي الذي يتعارف ، وإن قل ، وفي قصة مريم : يخلق ، لأنه لا يتعارف مثله ، وهو وجود ولد من غير والد ، فهو إيجاد واختراع من غير سبب عادي ، فلذلك جاء بلفظ : يخلق ، الدال على هذا المعنى .
وقد ألغز بعض العرب المستشهد بكلامها فقال : ألا رب مولود وليس له أب
وذي ولد لم يلده أبوان يريد : عيسى وآدم .
( إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة : لغةً وتفسيراً وقراءةً وإعراباً ، فأغنى ذلك عن إعادته .
آل عمران : ( 48 ) ويعلمه الكتاب والحكمة . . . . .
( وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( الكتاب : هنا مصدر ، أي : يعلمه الخط باليد ، قاله ابن عباس ، وابن جريج وجماعة وقيل : الكتاب هو كتاب غير معلوم ، علمه الله عيسى مع التوراة والإنجيل وقيل : كتب الله المنزلة . والألف واللام للجنس وقيل : هو التوراة والإنجيل .
قالوا : وتكون الواو في : والتوراة ، مقحمة ، والكتاب عبار عن المكتوب ، وتعليمه إياها قيل : بالإلهام ، وقيل : بالوحي ، وقيل : بالتوفيق والهداية للتعلم والحكمة . تقدم تفسيرها ، وفسرت هنا : بسنن الأنبياء ، وبما شرعه من الدين ، وبالنبوة ، وبالصواب في القول والعمل وبالعقل ، وبأنواع العلم . وبمجموع ما تقدم أقوال سبعة .
روي أن عيسى كان يستظهر التوراة ، ويقال لم يحفظها عن ظهر قلب غير : موسى ، ويوشع ، وعزير ، وعيسى .
وذكر الإنجيل لمريم وهو لم ينزل بعد لأنه كان كتاباً مذكوراً عند الأنبياء والعلماء ، وأنه سينزل .
وقرأ نافع ، وعاصم ، ويعقوب ، وسهل : ويعلمه ، بالياء وقرأ الباقون : بالنون ، وعلى كلتا القراءتين هو معطوف على الجملة المقولة ، وذلك إن قوله : قال كذلك ، الضمير في : قال ، عائد على الرب ، والجملة بعده هي المقولة ، وسواء كان لفظ الله مبتدأ ، وخبره فيما قبله ، لزم مبتدأ وخبره يخلق على ما مر إعرابه في : ) قَالَ كَذالِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( فيكون هذا من المقول لمريم ، أم على سبيل الاغتباط والتبشير بهذا الولد الذي يوجده الله منها ، ويجوز أن يكون معطوفاً على : يخلق ، سواء كانت خبراً عن الله أم تفسيراً لما قبلها ، إذا أعربت لفظ : الله مبتدأ وما قبله الخبر ، وهذا ظاهر كله على قراءة الياء .

" صفحة رقم 485 "
وأما على قراءة النون ، فيكون من باب الإلتفات ، خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم لما في ذلك من الفخامة .
وقال أبو علي : وجوزه الزمخشري ، وغيره عطف : ويعلمه ، على : يبشرك ، وهذا بعيد جداً لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه . وأجاز ابن عطية وغيره أن يكون معطوفاً على : ويكلم ، وأجاز الزمخشري أن يكون معطوفاً على : وجيهاً ، فيكون على هذين القولين في موضع نصب على الحال . وفيما أجازه أبو علي والزمخشري في موضع رفع لأنه معطوف على خبر إن ، وهذا القولان بعيدان أيضاً لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا يقع مثله في لسان العرب .
وقال بعضهم : ونعلمه ، بالنون حمله على قوله ) نُوحِيهِ إِلَيْكَ ( فإن عنى بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير ، وإن عنى بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح وقال الزمخشري : أو هو كلام مبتدأ يعنى أنه لا يكون معطوفاً على شيء من هذه التي ذكرت ، فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله ، أو من الله ، على اختلاف القراءتين ، فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله ، فلا يكون ابتداء كلام إلاَّ أن يدعى زيادة الواو في : ويعلمه ، فحينئذ يصح أن يكون ابتداء كلام ، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر ، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه ، وأن يكون الذي عطف عليه ابتداء كلام حتى يكون المعطوف كذلك .
وقال الطبري : قراءة الياء عطف على قوله ) يَخْلُقُ مَا يَشَاء ( وقراءة النون عطف على قوله ) نُوحِيهِ إِلَيْكَ ( قال ابن عطية : وهذا القول الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى . انتهى . ولم يبين ابن عطية جهة إفساد المعنى ، أما قراءة النون فظاهر فساد عطفه على : نوحيه ، من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان العرب لبعد الفصل المفرط ، وتعقيد التركيب ، وتنافر الكلام . وأما من حيث المعنى فإن المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه ، فيصير المعنى بقوله ذلك من أنباء الغيب أي : إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمران ، وولادتها لمريم ، وكفالة زكريا ، وقصته في ولادة يحيى له ، وتبشير الملائكة لمريم بالاصطفاء والتطهير ، كل ذلك من أخبار الغيب ، نعلِّمه ، أي : نعلم عيسى الكتاب ، فهذا كلام لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله .
وأما قراءة الياء وعطف : ويعلمه ، على : يخلق ، فليست مفسدة للمعنى ، بل هو أولى وأصح ما يحمل عليه عطف : ويعلمه ، لقرب لفظه وصحة معناه . وقد ذكرنا جوازه قبل ، ويكون الله قد أخبر مريم بأنه تعالى يخلق الأشياء الغريبة التي لم تجرِ بها عادة ، مثل ما خلق لك ولداً من غير أب ، وأنه تعالى يعلم هذا الولد الذي يخلقه لك ما لم يعلمه قبله من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشير لها بهذا الولد ، وإظهار بركته ، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس من بني إسرائيل ، بل هو مخالف لهم في أصل النشأة ، وفيما يعلمه تعالى من العلم ، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف : ويعلمه .
آل عمران : ( 49 ) ورسولا إلى بني . . . . .
( وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ ( اختلفوا في : رسولاً ، هنا فقيل : هو وصف بمعنى المرسل على ظاهر ما يفهم منه وقيل : هو مصدر بمعنى رسالة ، إذ قد ثبت أن رسولاً يكون بمعنى رسالة ، وممن جوز ذلك فيه هنا الحوفي ، وأبو البقاء ، وقالا : هو معطوف على الكتاب ، أي : ويعلمه رسالة إلى بني اسرائيل ، فتكون : رسالة ، داخلاً في ما يعلمه الله عيسى . وأجاز أبو البقاء في هذا الوجه أن يكون مصدراً في موضع الحال . وأما الوجه الأول فقالوا في إعرابه ، وجوها .

" صفحة رقم 486 "
أحدها : أن يكون منصوباً بإضمار فعل تقديره : ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيل ، قالوا : فيكون مثل قوله : يا ليت زوجك قد غدا
متقلداً سيفاً ورمحاً
أي : ومعتقلاً رمحاً . لما لم يمكن تشريكه مع المنصوبات قبله في العامل الذي هو : يعلمه ، أضمر له فعل ناصب يصح به المعنى ، قاله ابن عطية وغيره .
الثاني : أن يكون معطوفاً على : ويعلمه ، فيكون : حالاً ، إذ التقدير : ومعلماً الكتاب ، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله : وجيهاً ، قاله الزمخشري ، وثنى به ابن عطية ، وبدأ به وهو مبني على إعراب : ويعلمه وقد بينا ضعف إعراب من يقول : إن : ويعلمه ، معطوف على : وجيهاً ، للفصل المفرط بين المتعاطفين .
الثالث : أن يكون منصوباً على الحال من الضمير المستكن في : ويكلم ، فيكون معطوفاً على قوله : وكهلاً ، أي : ويكلم الناس طفلاً وكهلاً ورسولاً إلى بني إسرائيل ، قاله ابن عطية ، وهو بعيد جداً لطول الفصل بين المتعاطفين .
الرابع : أن تكون الواو زائدة ، ويكون دالاً من ضمير : ويعلمه ، قاله الأخفش ، وهو ضعيف لزيادة الواو ، لا يوجد في كلامهم : جاء زيد وضاحكاً ، أي : ضاحكاً .
الخامس : أن يكون منصوباً على إضمار فعل من لفظ رسول ، ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول من عيسى ، التقدير : وتقول أرسلت رسولاً إلى بني إسرائيل ، واحتاج إلى هذا التقدير كله ، لقوله : ) أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ ( وقوله : ) وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ ( ، إذ لا يصح في الظاهر حمله على ما قبله من المنصوبات لاختلاف الضمائر ، لأن ما قبله ضمير غائب ، وهذان ضمير متكلم ، فاحتاج إلى هذا الإضمار لتصحيح المعنى . قاله الزمخشري ، وقال : هو من المضايق ، يعني من المواضع التي فيها إشكال . وهذا الوجه ضعيف ، إذ فيه إضمار القول ومعموله الذي هو : أرسلت ، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة ، إذ يفهم من قوله : وأرسلت ، أنه رسول ، فهي على هذا التقدير حال مؤكدة .
فهذه خمسة أوجه في إعراب : ورسولاً ، أولاها الأول ، إذ ليس فيه إلاَّ إضمار فعل يدل عليه المعنى ، أي : ويجعله رسولاً ، ويكون قوله ) أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ ( معمولاً لرسول ، أي ناطقاً بأني قد جئتكم ، على قراءة الجمهور ، ومعمولاً لقول محذوف على قراءة من كسر الهمزة ، وهي قراءة شاذة ، أي : قائلاً إني قد جئتكم ، ويحتمل أن يكون محكياً بقوله : ورسولاً ، لأنه في معنى القول ، وذلك على مذهب الكوفيين .
وقرأ اليزيدي : ورسولٍ ، بالجر ، وخرجه الزمخشري على أنه معطوف على : بكلمة منه ، وهي قراءة شاذة في القياس لطول البعد بين المعطوف عليه والمعطوف .
وأرسل عيسى إلى بني إسرائيل مبيناً حكم التوراة ، وداعياً إلى العمل بها ، ومحللاً أشياء مما حرم فيها : كالثروب ، ولحوم الإبل ، وأشياء من الحيتان . والطير ، وكان عيسى قد هربت به أمّه من قومها إلى مصرحين عزلوا أولادهم ، ونهوهم عن مخالطته ، وحبسوهم في بيت ، فجاء عيسى يطلبهم فقالوا : ليسوا ها هنا ، فقال ما في هذا البيت ؟ قالوا : خنازير ، قال : كذلك يكونون ، ففتحوا عنهم

" صفحة رقم 487 "
فإذا هم خنازير . ففشا ذلك في بني إسرائيل ، فهموا به ، فهربت به أمّه إلى أرض مصر . فلما بلغ اثنتي عشرة سنة أوحى الله إليها : أن انطلقي إلى الشام ، ففعلت حتى إذا بلغ ثلاثين سنة جاءه الوحي على رأس الثلاثين ، فكانت نبوّته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله إليه . وكأن أول أنبياء بني إسرائيل : يوسف ، وقيل : موسى ، وآخرهم عيسى .
والظاهر أن قوله : ) أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ ( إلى قوله ) مُّسْتَقِيمٍ ( متعلق بقوله ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ ( ومعمول له ، فيكون ذلك مندرجاً تحت القول السابق . والخطاب لمريم بقوله : قال كذلك الله ، فتكون مريم قد بشرت بأشياء مما يفعلها الله لولدها عيسى : من تعليمه ما ذكر ، ومن جعله رسولاً ناطقاً بما يكون منه إذا أرسل : من مجيئه بالآيات ، وإظهار الخوارق على يديه ، وغير ذلك مما ذكر إلى قوله : مستقيم . ويكون بعد قوله : مستقيم .
وقيل : قوله : فلما أحس ، محذوف يدل عليه وتضطرء إلى تقديره ، المعنى ، تقديره : فجاء عيسى بني إسرائيل ورسولاً ، فقال لهم ما تقدّم ذكره ، وأتى بالخوارق التي قالها ، فكفروا به وتمالؤوا على قتله وإذايته ، فلما أحس عيسى منهم الكفر .
وقيل : يحتمل أن يكون الكلام تم عند قوله ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ ( ولا يكون ) أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ ( متعلقاً بما قبله ، ولا داخلاً تحت القول والخطاب لمريم ، ويكون المحذوف هنا : لا بعد قوله : مستقيم ، والتقدير : فجاء عيسى كما بشر الله رسولاً إلى بني اسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم .
وقرأ الجمهور : بأنه ، على الإفراد ، وكذلك في ) وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ ( وفي مصحف عبد الله : بآيات ، على الجمع في الموضعين . ويجوز أن يكون : من ربكم ، في موضع الصفة ، لأنه يتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يتعلق : بجئتكم ، أي : جئتكم من ربكم بآية .
( أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ( قرأ الجمهور : أني أخلق ، بفتح الهمزة على أن يكون بدلاً من : آية ، فيكون في موضع جر ، أو بدلاً من قوله : أني قد جئتكم ، فيكون في موضع نصب أو جر على الخلاف ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي ، أي : الآية أني أخلق ، فيكون في موضع رفع . وقرأ نافع بالكسر على الاستئناف ، أو على إضمار القول ، أو على التفسير للآية . كما فسر المثل في قوله : ) كَمَثَلِ ءادَمَ ( بقوله : ) خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( ومعنى : أخلق : أقدّر وأهيء ، والخلق يكون بمعنى الإنشاء وإبراز العين من العدم الصرف إلى الوجود . وهذا لا يكون إلاَّ لله تعالى . ويكون بمعنى : التقدير والتصوير ، ولذلك يسمون صانع الأديم ونحوه : الخالق ، لأنه يقدّر ، وأصله في الإجرام ، وقد نقلوه إلى المعاني قال تعالى ) وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ( ومما جاء الخلق فيه بمعنى التقدير قوله تعالى : ) فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( أي المقدّرين . وقال الشاعر : ولأنت تَتِفري ما خَلَقْت
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
واللام في : لكم ، معناها التعليل ، و : من الطين ، تقييد بأنه لا يوجد من العدم الصرف ، بل ذكر المادة التي يشكل منها صورة .
وقرأ الجمهور : كهيئة ، على وزن : جيئة ، وقرأ الزهري : كهية ، بكسر الهاء وياء مشددة مفتوحة بعدها تاء التأنيث ، و : الكاف ، من : كهيئة ، اسم على مذهب أبي الحسن ، فهي مفعولة : بأخلق ، وعلى قول الجمهور : يكون ، صفة لمفعول محذوف تقديره : هيئة مثل هيئة ، ويكون : هيئة ، مصدراً في معنى المفعول ، أي : مثالاً مهيأً مثل .
وقرأ الجمهور : الطير ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : كهيئة الطائر ، والمراد به الجنس : فأنفخ فيه الضمير في : فيه ، يعود على : الكاف ، أو على

" صفحة رقم 488 "
موصوفها على القولين المذكورين . وقرأ بعض القراء : فأنفخها ، أعاد الضمير على الهيئة المحذوفة ، إذ يكون التقدير : هيئة كهيئة الطير ، أو : على الكاف على المعنى ، إذ هي بمعنى : مماثلة هيئة الطير ، فيكون التأنيث هنا كما هو في المائدة في قوله : ) فَتَنفُخُ فِيهَا ( ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجرّ . كما قال : ما شق جيب ولا قامتك نائحة
ولا بكتك جياد عند إسلاب
يريد : ولا قامت عليك ، وهي قراءة شاذة نقلها الفراء . وقال النابغة :
كالهبرقيّ تنحَّى ينفخ الفحماء
فعدى : نفخ ، لمنصوب ، فيمكن أن يكون على إسقاط حرف الجر ، ويمكن أن يكون على التضمين ، أي : يضرم بالنفخ الفحم ، فيكون هنا ناقصة على بابها ، أو بمعنى : تصير .
وقرأ نافع ويعقوب هنا وفي المائدة : طائراً ، وقرأ الباقون : طيراً ، وانتصابه على أنه خبر : يكون ، ومن جعل : يكون ، هنا تامّة ، و : طائراً ، حالاً فقد أبعد . وتعلق بإذن الله ، قيل : بيكون . وقيل : بطائر ، ومعنى : بإذن الله ، أي بتمكينه وعلمه بأني أفعل ، وتعاطي عيسى التصوير بيده والنفخ في تلك الصورة تبيين لتلبسه بالمعجزة ، وتوضيح أنها من قبله ، وأما خلق الحياة في تلك الصورة الطينية فمن الله وحده .
وظاهر الآية يدل على أن خلقه لذلك لم يكن باقتراح منهم ، بل هذه الخوارق جاءت تفسيراً لقوله : ) أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ ( وقيل : كان ذلك باقتراح منهم ، طلبوا منه أن يخلق لهم خفاشاً على سبيل التعنت جرياً على عاداتهم مع أنبيائهم ، وخصوا الخفاش لأنه عجيب الخلق ، وهو أكمل الطير خلقاً ، له : ثدي ، وأسنان ، وآذان ، وضرع ، يخرج منه اللبن ، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل ، إنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة ، وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جداً ، ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويطير بغير ريش ، وتحيض أنثاه وتلد .
روي عن أبي سعيد الخدري : أنه قال لهم : ماذا تريدون ؟ قالوا : الخفاش . فسألوه أشد الطير خلقاً لأنه يطير بغير ريش ، ويقال : ما صنع غير الخفاش ، ويقال : فعل ذلك أولاً وهو مع معلمه في الكتاب ، وتواطأ النقل عن المفسرين أن الطائر الذي خلقه عيسى كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق ، وكان بنو إسرائيل مع معاينتهم لذلك الطائر يطير يقولون في عيسى : هذا ساحر .
( وَأُبْرِىء الاْكْمَهَ والاْبْرَصَ ( تقدّم تفسيرهما في المفردات . وقال مجاهد : الأكمه هو الأعشى . وقال عكرمة : هو الأعمش . وقال الزمخشري : هو الذي ولد أعمى . وقيل : هو الممسوح العين ، ولم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير . وقال ابن عباس ، والحسن ، والسدّي : هو الأعمى على الإطلاق . وحكى النقاش : أن الأكمه هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يُفهم ، الميت الفؤاد ، وقال ابن عباس أيضاً ، وقتادة : هو الذي يولد

" صفحة رقم 489 "
أعمى مضموم العينين .
قيل : وقد كان عيسى يبرىء بدعائه ، والمسح بيده ، كل علة . ولكن لا يقوم الحجة على بني إسرائيل في معنى النبوة إلاَّ بالإبراء من العلل التي يعجز عن إبرائها الأطباء ، حتى يكون فعله ذلك خارقاً للعادات . والإبراء من العشي والعمش ليس بخارق ، وأما العمى فالأبلغ الإبراء من عمى الممسوح العين .
روي أنه ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى ، من أطاق منهم أتاه ، ومن لم يطق أتاه عيسى ، وما كانت مداواته إلاَّ بالدعاء وحده ، وخص بالذكر الكمه والبرص لأنهما داءان معضلان لا يقدر على الإبراء منهما ، إلاَّ الله تعالى ، وكان الغالب على زمان عيسى الطب ، فأراهم الله المعجزة في جنس علمهم ، كما أرى قوم موسى ، إذ كان الغالب عليهم السحر ، المعجزة بالعصا واليد البيضاء ، وكما أرى العرب ، إذ كان الغالب عليهم البلاغة ، المعجزة بالقرآن .
روي أن جالينوس كان في زمان عيسى ، وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه ، فمات في طريقه .
( وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ( نقل أئمة التفسير أنه أحيا أربعة : عاذر ، وكان صديقاً له ، بعد ثلاثة أيام . فقام من قبره يقطر ودكه ، وبقي إلى أن ولد له . و : ابن العجوز ، وهو على سريره ، فنزل عن أعناق الرجال وحمل سريره وبقي إلى أن ولد له ، و : بنت العاشر ، متعث بولدها بعد ما حييت ، وسألوه أن يحيى سام بن نوح ليخبرهم عن حال السفينة ، فخرج من قبره فقال : أَقَدْ قامت الساعة ؟ وقد شاب نصف رأسه ، وكان شاباً ابن خمسمائة ، فقال : شيبني هول يوم القيامة .
وروي أنه في إحيائه الموتى كان يضرب بعصاه الميت ، أو القبر ، أو الجمجمة ، فيحيي الإنسان ويكلمه ويعيش . وقيل : تموت سريعاً .
وروي عن الزهري أنه قال : بلغني أن عيسى خرج هو ومن معه من حوارييه حتى بلغ الأندلس ، وذكر قصة فيها طول ، مضمونها : أنه أحيا بها ميتاً ، وسألوه فإذا هو من قوم عاد . ووردت قصص في إحياء خلق كثير على يد عيسى ، وذكروا أشياء مما كان يدعو بها إذا أحيا ، الله أعلم بصحتها .
( وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ ( قال السدّي ، وابن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وابن إسحاق : كان عيسى من لدن طفوليته ، وهو في الكتاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم ، وبما يؤكل من الطعام ، وما يدخر إلى أن نبىء ، ويقول لمن سأله : أكلت البارحة كذا ، وادّخرت . وقيل : كان ذلك بعد النبوة لما أحيا لهم الموتى ، طلبوا منه آية أخرى ، وقالوا : أخبرنا بما نأكل وما ندّخر للغد ، فأخبرهم . وقال قتادة : كان ذلك في نزول المائدة ، عهد إليهم أن يأكلوا منها ولا يخبؤوا ولا يدخروا ، فخالفوا ، فكان عيسى يخبرهم بما أكلوه وما ادّخروا في بيوتهم ، وعوقبوا على ذلك .
وأتى بهذه الخوارق الأربع مصدرة بالمضارع الدال على التجدد ، والحالة الدائمة : وبدأ بالخلق إذ هو أعظم في الإعجاز ، وثنى بإبراء الأكمه والأبرص ، وأتى ثالثاً بإحياء الموتى ، وهو خارق شاركه فيه غيره بإذن الله تعالى ، وكرر : بإذن الله ، دفعاً لمن يتوهم فيه الآلُوهية ، وكان ، بإذن الله ، عقب قوله : أني أخلق ، وعطف عليه : وأبرىء الأكمه والأبرص ، ولم يذكر : بإذن الله ، اكتفاء به في الخارق الأعظم ، وعقب قوله : وأحيى الموتى ، بقوله : بإذن الله ، وعطف عليه : وأنبئكم ، ولم يذكر فيه ، بإذن الله ، لأن إحياء الأموات أعظم من الإخبار بالمغيبات ، فاكتفى به في الخارق الأعظم أيضاً ، فكل واحد من

" صفحة رقم 490 "
الخارقين الأعظمين قيد بقوله : بإذن الله ، ولم يحتج إلى ذلك فيما عطف عليهما اكتفاء بالأول إذ كل هذه الخوارق لا تكون إلا بإذن الله .
و : ما ، في : ما تأكلون وما تدخرون ، موصولة اسمية ، وهو الظاهر . وقيل : مصدري .
وقرأ الجمهور : تدخرون ، بدال مشددة ، وأصله : إذتخر ، من الذخر ، أبدلت التاء دالاً ، فصار : إذدخر ، ثم أدغمت الذال في الدال ، فقيل : ادّخر ، كما قيل : ادكره . وقرأ مجاهد ، والزهري ، وأيوب السختياني ، وأبو السمال : تذخرون ، بذال ساكنة وخاء مفتوحة . وقرأ أبو شعيب السوسي ، في رواية عنه : وما تذدخرون ، بذال ساكنة ودال مفتوحة من غير إدغام ، وهذا الفك جائز . وقراءة الجمهور بالإدغام أجود ، ويجوز جعل بالدال ذالاً ، والإدغام فتقول : اذخر ، بالذال المعجمة المشددة .
( إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ظاهر هذه الجملة أنها من كلام عيسى لاحتفافها بكلامه من قبلها ومن بعدها ، حكاه الله عنه . وقيل : هو من كلام الله تعالى ، استئناف صيغته صيغة الخبر ، ومعناه التوبيخ والتقريع ، وأشير بذلك إلى ما تقدم من جعل الطين طائراً ، والإبراء والإحياء والإنباء .
وتقدم أن في مصحف ابن مسعود : آيات ، على الجمع ، فمن أفرد أراد الجنس وهو صالح للقليل والكثير ، ويعين المراد القرائن : اللفظية ، والمعنوية ، والحالية ، ومن جمع فعلى الأصل ، إذ هي : آيات ، وهي : آية في نفسها ، آمنوا أو كفروا ، فيحتمل أن يكون ثَمَّ صفة محذوفة حتى يتجه التعليق بهذا الشر ، أي : لآية نافعة هادئة لكم إن آمنتم ، ويكون خطاباً لمن لم يؤمن بعد ، وإن كان خطاباً لم آمن فذلك على سبيل التثبيت وتطمين النفس وهزها . كما تقول لإبنك : أطعني إن كنت إبني ، ومعلوم أنه ابنك ، ولكن تريد أن تهزه بذكر ما هو محقق . ذكر ما جعل معلقاً به ما قبله على سبيل أن يحصل .
آل عمران : ( 50 - 51 ) ومصدقا لما بين . . . . .
( وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ( عطف و : مصدقاً ، على قوله : بآية إذ الباء فيه للحال ، ولا تكون للتعدية لفساد المعنى ، فالمعنى : وجئتكم مصحوباً بآية من ربكم ، ومصدقاً لما بين يدي . ومنعوا أن يكون : ومصدقاً ، معطوفاً على : رسولاً إلى بني إسرائيل ، ولا على : وجيهاً ، لما يلزم من كون الضمير في قوله : لما بين يدي ، غائباً . فكان يكون : لما بين يديه ، وقد ذكرنا أنه يجوز في قوله : ورسولاً ، أن يكون منصوباً بإضمار فعل ، أي : وأرسلت رسولاً ، فعلى هذا التقدير يكون : ومصدقاً ، معطوفاً على : ورسولاً . ومعنى تصديقه للتوراة الإيمان بها وإن كانت شريعته تخالف في أشياء . قال وهب بن منبه : كان يسبت ويستقبل بيت المقدس .
( وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ ( قال ابن جريج : أحل لهم لحوم الأبل والشحوم . وقال الربيع : وأشياء من السمك وما لا ضئضئة له من الطير ، وكان ذلك في التوراة محرماً .
وقال بعض المفسرين : حرم عليكم ، إشارة إلى ما حرمه الأحبار بعد موسى وشرعوه ، فكأن عيسى ردّ أحكام التوراة إلى حقائقها التي نزلت من عند الله . إنتهى كلامه .
واختلفوا في إحلاله لهم السبت . وقرأ عكرمة : ما حرم عليكم ، مبنياً للفاعل ، والفاعل ضمير يعود على : ما ، من قوله : لما بين يدي ، أو يعود على : الله ، منزل التوراة ، أو على : موسى ، صاحب التوراة . والظاهر الأول لأنه مذكور . وقرأ : حرم ، بوزن : كرم ، إبراهيم النخعي ، والمراد ببعض مدلولها المتعارف ، وزعم أبو عبيدة أن المراد به هنا معنى كل خطأ ، لأنه كان يلزم أن يحل لهم : القتل ، والزنا ، والسرقه ، لأن ذلك محرم عليهم ، واستدلاله على أن : بعضاً ، تأتي بمعنى : كل ، بقول لبيد :

" صفحة رقم 491 "
ترَّاك أمكنة إذا لم أرضها
أو ترتبط بعض النفوس حمامها
ليس بصحيح ، لأن بعضاً على مدلوله ، إذ يريد نفسه ، فهو تبعيض صحيح ، وكذلك استدلال من استدل بقوله : إن الأمور إذا الأحداث دبرها
دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
لصحة التبعيض ، إذ ليس كل ما دبره الأحداث يكون فيه الخلل . وقال بعضهم : لا يقوم : بعض ، مقام : كل إلا إذل دلت قرينة على ذلك ، نحو قوله :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
يريد : بعض الشر أهون من كله . إنتهى . وفي ذكل نظر .
واللام في : ولأحل لكم ، لام كي ، ولم يتقدم ما يسوغ عطفه عليه من جهة اللفظ ، فقيل : هو معطوف على المعنى ، إذ المعنى في : ومصدقاً ، أي : لأصدق ما بين يدي من التوراة ، ولأحل لكم . وهذا هو العطف على التوهم ، وليس هذا منه ، لأن معقولية الحال مخالفة لمعقولية التعليل ، والعطف على التوهم لا بد أن يكون المعنى متحداً في المعطوف والمعطوف عليه . ألا ترى إلى قوله : فأصدق وأكن كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض ؟ وكذلك قوله :
تقي نقي لم يكثر غنيمة
بنكهة ذي قربى ولا بحفلد
كيف اتحد معنى النفي في قوله : لم يكثر ، ولا في قوله : ولا بحفلد ؟ أي : ليس بمكثر ولا بحفلد . وكذلك ما جاء من هذا النوع . وقيل : اللام تتعلق بفعل مضمر بعد الواو يفسره المعنى : أي وجئتكم لأحلّ لكم . وقيل : تتعلق اللام بقوله : وأطيعون ، والمعنى : واتبعون لأحل لكم ، وهذا بعيد جداً . وقال أبو البقاء : هو معطوف على محذوف تقديره : لأخفف عنكم ، أو نحو ذلك .
وقال الزمخشري : ولأحل ، ردّ على قوله : بآية من ربكم ، أي : جئتكم بآية من ربكم ، لأن : بآية ، في موضع حال ، و : لأحل ، تعليل ، ولا يصح عطف التعليل على الحال لأن العطف بالحرف المشترك في بالحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه ، فإن عطفت على مصدر ، أو مفعول به ، أو ظرف ، أو حال ، أو تعليل ، أو غير ذلك شاركه في ذلك المعطوف .
( وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ( ظاهر اللفظ أن يكون قوله : ) وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ ( للتأسيس لا للتوكيد ، لقوله : قد جئتكم بآية من ربكم ، وتكون هذه الآية قوله : ) إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ( لأن هذا القول شاهد على صحة رسالته ، إذ جميع الرسل كانوا عليه لم يختلفوا فيه ، وجعل هذا القول آية وعلامة ، لأنه رسول كسائر الرسل ، حيث هداه للنظر في أدلة العقل والأستدلال . وكسر : إن ، على هذا القول لأن : قولاً ، قبلها محذوف ، وذلك القول بدل من الآية ، فهو معمول للبدل . ومن قرأ بفتح : أن ، فعلى جهة البدل من : آية ، ولا تكون

" صفحة رقم 492 "
الجملة من قوله : إن ، بالكسر مستأنفة على هذا التقدير من إضمار القول ، ويكون قوله : ) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( جملة اعتراضية بين البدل والمبدل منه .
وقيل : الآية الأولى في قوله : ) قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ ( هي معجزة . وفي قوله : ) وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ ( هي الآية من الإنجيل ، فاختلف متعلق المجيء ، ويجوز أن يكون ) وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ ( كررت على سبيل التوكيد ، أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من : خلق الطير والإبراء والإحياء والإنباء بالخفيات ، وبغيره من ولادتي من غير أب ، ومن كلامي في المهد ، وسائر الآيات . فعلى بهذا من كسر : إن ، فعلى الأستئناف ، ومن فتح فقيل التقدير ، لأن الله ربي وربك فاعبدوه ، فيكون متعلقاً بقوله : فاعبدوه ، كقوله : ) لإِيلَافِ قُرَيْشٍ ( ثم قال : ) فَلْيَعْبُدُواْ ( فقدم : أن ، على عاملها . ومن جوز : أن تتقدم : أن ، ويتأخر عنها العامل في نحو هذا غير مصيب ، لا يجوز : أن زيداً منطلق عرفت ، نص على ذلك سيبويه وغيره ، ويجوز أن يكون المعنى : وجئتكم بآية على أن الله ربي وربكم ، وما بينهما اعتراض . وقال ابن عطية : التقدير : أطيعون لأن الله ربي وربكم . إنتهى . وليس قوله بظاهر .
والأمر بالتقوى والطاعة تحذير ودعاء ، والمعنى أنه : تظاهر بالحجج والخوارق في صدقه ، فاتقوا الله في خلافي ، وأطيعون في أمري ونهيي . وقيل : اتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى ، وأطيعون فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم .
وتكرار : ربي وربكم ، أبلغ في التزام العبودية من قوله : ربنا ، وأدل على التبري من الربوبية .
( هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( أي : طريق واضح لمن يسلكه لا اعوجاج فيه ، والإشارة بهذا إلى قوله : ) إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ( أي إفراد الله وحده بالعبادة هو الطريق المستقيم ، ولفظ العبادة يجمع الإيمان والطاعات .
وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة والبديع : إسناد الفعل للآمر به لا لفاعله ، في قوله : إن الله يبشرك ، اذ هم المشافهون بالبشارة ، والله الآمر بها . ومثله : نادى السلطان في البلد بكذا ، وإطلاق اسم السبب على المسبب في قوله : بكلمة منه ، على الخلاف الذي في تفسير : كلمة .
والاحتراس : في قوله : وكهلاً ، من ما جرت به العادة أن من تكلم في حال الطفولة لا يعيش .
والكناية : في قوله : ولم يمسسني بشر ، كنت بالمسّ عن الوطء ، كما كنى عنه : بالحرث ، واللباس ، والمباشرة .
والسؤال والجواب في : قالت الملائكة وفي أنى يكون ؟ والتكرار : في : جئتكم بآية . وفي : أنى أخلق لكم . و ، في : الطير ، وفي : بإذن الله ، وفي : ربي وربكم ، وفي : ما ، في قوله : بما تأكلون وما .
والتعبير عن الجمع بالمفرد في : الآية ، وفي : الأكمة والأبرص ، وفي : إذا قضى أمراً .
والطباق في : وأحيي الموتى ، وفي : لأحل وحرم والالتفات في : ونعلمه فيمن قرأ بالنون والتفسير بعد الإبهام في : من قال : الكتاب مبهم غير معين ، والتوراة والإنجيل تفسير له والحذف في عدة مواضع .

" صفحة رقم 493 "
2 ( ) فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِىإِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذالِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( ) ) 2
آل عمران : ( 52 ) فلما أحس عيسى . . . . .
الإحساس : الإدراك ببعض الحواس الخمس وهي : السمع والبصر والشم والذوق واللمس . يقال : أحسست الشيء ، وحسست به . وتبدل سينه ياء فيقال : حسيت به ، أو تحذف أولى سنييه في أحسست فيقول : أحست . قال : سوى ان العتاق من المطايا
أحسن به فهن إليه شوس
وقال سيبويه : وما شذ من المضاعف ، يعني في الحذف ، فشبيه بباب : أقمت ، وذلك قولهم : أحست وأحسن يريدون : أحسست ، وأحسسن ، وكذلك يفعل بكل بناء تبنى لام الفعل فيه على السكون ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت لم أحس لم تحذف .
الحواري : صفوة الرجل وخاصته . ومنه قيل : الحضريات الحواريات لخلوص ألوانهنّ ونظافتهنّ قال أبو جَلْذة اليشكري : فقل للحواريات تبكين غيرنا
ولا تبكنا إلا الكلابُ النوابح
ومثله في الوزن : الحوالي ، للكثير الحيل ، وليست الياء فيهما للنسب ، وهو مشتق من : الحور ، وهو البياض . حورت الثوب بيضته .
المكر : الخداع والخبث وأصله الستر ، يقال : مكر الليل إذا أظلم واشتقاقه من المكر ، وهو شجر ملتف ، فكأن

" صفحة رقم 494 "
الممكور به يلتف به المكر ، ويشتمل عليه ، ويقال : امرأة ممكورة إذا كانت ملتفة الخلق . والمكر : ضرب من النبات .
تعالى : تفاعل من العلو ، وهو فعل ، لاتصال الضمائر المرفوعة به ، ومعناه : استدعاء المدعوّ من مكانه إلى مكان داعيه ، وهي كلمة قصد بها أولاً تحسين الأدب مع المدعو ، ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدّوه ولبهيمته ونحو ذلك .
الابتهال : قوله بهلة الله على الكاذب ، والبهلة بالفتح والضم : اللعنة ، ويقال بهله الله : لعنه وأبعده ، من قولك أبهله إذا أهمله ، وناقة باهلة لا ضرار عليها ، وأصل الابتهال هذا ، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه ، وإن لم يكن التعاناً . وقال لبيد : من قروم سادة من قومهم
نظر الدهر إليهم فابتهل
) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ( تقدّم ترتيب هذه الجملة على ما قبلها من الكلام ، وهل الحذف بعد قوله ) صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( أو بعد قوله : ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ ( وذلك عند تفسير ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ ).
قال مقاتل : أحس ، هنا رأى من رؤية العين أو القلب وقال الفراء : أحسّ وجد وقال أبو عبيدة : عرف . وقيل : علم وقيل : خاف .
والكفر : هنا جحود نبوّته وإنكار معجزاته ، و : منهم ، متعلق بأحس قيل : ويجوز أن يكون حالاً من الكفر .
( قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ( لما أرادوا قتله استنصر عليهم ، قال مجاهد وقال غيره : إنه استنصر لما كفروا به وأخرجوه من قريتهم وقيل : استنصرهم لإقامة الحق .
قال المغربي : إنما قال عيسى : ) مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ( بعد رفعه إلى السماء وعوده إلى الأرض ، وجمع الحواريين الأثني عشر ، وبثهم في الآفاق يدعون إلى الحق ، وما قاله من أن ذلك القول كان بعد ما ذكر بعيد جداً ، لم يذكره غيره بل المنقول . والظاهر أنه قال ذلك قبل رفعه إلى السماء .
قال السدّي : من أعواني مع الله وقال الحسن : من أنصاري في السبيل إلى الله وقال أبو علي الفارسي معنى : إلى الله : لله ، كقوله : ) يَهْدِى إِلَى الْحَقّ ( أي للحق وقيل : من ينصرني إلى نصر الله . وقيل : من ينقطع معي إلى الله ، قاله ابن بحر وقيل : من ينصرني إلى أن أبين أمر الله وقال أبو عبيدة : من أعواني في ذات الله ؟ وقال ابن عطية : من أنصاري إلى الله . عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ، ويؤمن بالشرع ويحميه ، كما كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) يعرض نفسه على القبائل ، ويتعرض للأحياء في المواسم . انتهى وقال الزمخشري وإلى الله من صلة أنصاري ؟ مضمناً معنى الإضافة ، كأنه قيل : من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله ينصرونني كما ينصرني ؟ أو يتعلق بمحذوف حالاً من الياء ، أي : من أنصاري ذاهباً إلى الله ملتجئاً إليه ؟ انتهى .
( قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ( أي أصفياء عيسى . قاله ابن عباس . أو : خواصه ، قاله الفراء . أو : البيض الثياب ، رواه ابن جبير عن ابن عباس . أو : القصارون ، سموا بذلك لأنهم يجودون الثياب ، أي يبيضونها ، قاله الضحاك ، ومقاتل . أو : المجاهدون ، أو

" صفحة رقم 495 "
الصيادون ، قال لهم عيسى على نبينا وعليه السلام : ألا تمشون معي تصطادون الناس لله ؟ فأجابوا . قال مصعب : كانوا اثني عشر رجلاً يسيحون معه ، يخرج لهم ما احتاجوا إليه من الأرض ، فقالوا : من أفضل منا ؟ نأكل من أين شئنا . فقال عيسى : من يعمل بيده ؟ ويأكل من كسبه ؟ فصاروا قصَّارين وحكى ابن الأنباري : الحواريون : الملوك وقال الضحاك ، وأبو أرطاة : الغسالون وقال ابن المبارك : الحوار النور ، ونسبوا إليه لما كان في وجوههم من سيما العبادة ونورها وقال تاج القراء : الحواري : الصديق .
قيل : لما أراهم الآيات وضع لهم ألواناً شتى من حب واحد آمنوا به واتبعوه وقرأ الجمهور : الحواريون ، بتشديد الياء . وقرأ إبراهيم النخعي ، وأبو بكر الثقفي ، بتخفيف الياء في جميع القرآن ، والعرب تستثقل ضمة الياء المكسور ما قبلها في مثل : القاضيون ، فتنقل الضمة إلى ما قبلها وتحذف الياء لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها ، فكان القياس على هذا أن يقال : الحوارون ، لكن أقرت الضمة ولم تنقل دلالة على أن التشديد مراد ، إذ التشديد يحتمل الضمة كما ذهب إليه الأخفش في : يستهزئون ، إذ أبدل الهمزة ياءً ، وحملت الضمة تذكراً لحال الهمزة المراد فيها .
( نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( أي : أنصار دينه وشرعه . والداعي إليه .
( بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا ( لما ذكروا أنهم أنصار الله ذكروا مستند لإيمانهم ، لأن انقياد الجوارح تابعة لانقياد القلب وتصديقه ، والرسل تشهد يوم القيامة لقومهم ، وعليهم . ودل ذلك على أن عيسى عليه السلام كان على دين الإسلام ، برأه الله من سائر الأديان كما برأ إبراهيم بقوله : ) مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا ( الآية ، ويحتمل أن يكون : واشهد ، خطاباً لله تعالى أي : واشهد يا ربنا ، وفي هذا توبيخ لنصارى نجران ، إذ حكى الله مقالة أسلافهم المؤمنين لعيسى ، فليس كمقالهم فيه ، ودعوى الإلهية له .
آل عمران : ( 53 ) ربنا آمنا بما . . . . .
( رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ ( أي : من الآيات الدالة على صدق أنبيائك ، أو : بما أنزلت من كلامك على الرسل أو بالإنجيل .
( وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ( هو : عيسى على قول الجمهور .
( فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( هم : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمّته ، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ، ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) يشهد لهم بالصدق . روى ذلك عكرمة عن ابن عباس ، أو : من آمن قبلهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . أو : الأنبياء لأن كل نبي شاهد على أمّته . أو : الصادقون ، قاله مقاتل . أو : الشاهدون للأنبياء بالتصديق ، قاله الزجاج . أو : الشاهدون لنصرة رسلك ، أو : الشاهدون بالحق عندك ، رغبوا في أن يكونوا عنده في عداد الشاهدين بالحق من مؤمني الأمم ، وعبروا عن فعل الله ذلك بهم بلفظ : فاكتبنا ، إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال .
آل عمران : ( 54 ) ومكروا ومكر الله . . . . .
( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( الضمير في : مكروا ، عائد على من عاد عليه الضمير في : ) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ( وهم : بنو إسرائيل ، ومكرهم هو احتيالهم في قتل عيسى بأن وكلوا به من يقتله غيلة ، وسيأتي ذكر كيفية حصره وحصر أصحابه في مكان ، ورومهم قتله وإلقاء الشبه على رجل ، وقتل ذلك الرجل وصلبه في مكانه ، إن شاء الله .
( وَمَكَرَ اللَّهُ ( مجازاتهم على مكرهم سمى ذلك مكراً ، لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر ، كقوله : ) وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ( وقوله ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ( وكثيراً ما تسمى العقوبة باسم الذنب ، وإن لم تكن في معناه .
وقيل : مكر الله بهم هو ردّهم عما أرادوا برفع عيسى إلى السماء ، وإلقاء شبهه على من أراد اغتياله حتى

" صفحة رقم 496 "
قتل .
وقال الأصم : مكر الله بهم أن سلط عليهم أهل فارس فقتلوهم وسبوا ذراريهم وذكر ابن إسحاق : أن اليهود غزوا الحواريين بعد رفع عيسى ، فأخذوهم وعذبوهم ، فسمع بذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته ، فأنقذهم ثم غزا بني إسرائيل وصار نصرانياً ، ولم يظهر ذلك . ثمَ ولي ملك آخر بعدُ وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحوٍ من أربعين سنة ، فلم يترك فيه حجراً على آخر ، وخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز .
وقال المفضل : ودبروا ودبر الله ، والمكر لطف التدبير وقال ابن عيسى : المكر قبيح ، وإنما جاز في صفة الله تعالى على مزاوجة الكلام وقيل : مكر الله بهم إعلاء دينه وقهرهم بالذل ، ومكرهم لزومهم إبطال دينه . والمكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر في خفية ، وذلك غير ممتنع وقيل : المكر الأخذ بالغفلة لمن استحقه ، وسأل رجل الجنيد ، فقال : كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر وقد عاب به غيره ؟ فقال : لا أدري ما تقول ، ولكن أنشدني فلان الظهراني : ويقبح من سواك الفعل عندي
فتفعله فيحسن منك ذاكاً
ثم قال : قد أجبتك إن كنت تعقل .
( وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( معناه أي : المجازين أهل الخير بالفضل وأهل الجور بالعدل ، لأنه فاعل حق في ذلك ، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب ، وقال تعالى : ) وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ).
وقيل : خير ، هنا ليست للتفضيل ، بل هي : كهي في قوله : ) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( وقال حسان .
فشركما لخيركما الفداء
وفي هذه الآية من ضروب البلاغة : الاستعارة في : أحس ، إذ لا يحس إلا ما كان متجسداً ، والكفر ليس بمحسوس ، وإنما يعلم ويفطن به ، ولا يدرك بالحس إلاَّ إن كان أحس ، بمعنى رأى ، أو بمعنى : سمع منهم كلمة الكفر ، فيكون : أحس ، لا استعارة فيه ، إذ يكون أدرك ذلك منهم بحاسة البصر ، أو بحاسة الأذن ، وتسمية الشيء باسم ثمرته .
قال الجمهور : أحس منهم القتل ، وقتل نبي من أعظم ثمرات الكفر .
والسؤال والجواب في : قال ) مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ( والتكرار في : من أنصاري إلى الله ، وأنصار الله ، وآمنا بالله ، وآمنا بما أنزلت ، ومكروا ومكر الله ، والماكرين ، وفي هذا التجنيس المماثل ، والمغاير ، والحذف ، في مواضع .
آل عمران : ( 55 ) إذ قال الله . . . . .
( إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى إِنّي مُتَوَفّيكَ ( العامل في : إذ ، ومكر الله قاله الطبري ، أو : اذكر ، قاله بعض النحاة ، أو : خير الماكرين ، قاله الزمخشري . وهذا القول هو بواسطة الملك ، لأن عيسى ليس

" صفحة رقم 497 "
بمكلم ، قاله ابن عطية : .
و : متوفيك ، هي وفاة يوم رفعه الله في منامه ، قاله الربيع من قوله : ) وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ ( أي : ورافعك وأنت نائم ، حتى لا يلحقك خوف ، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب . أو : وفاة موت ، قاله ابن عباس . وقال وهب : مات ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك في السماء ، وفي بعض الكتب : سبع ساعات .
وقال الفراء : هي وفاة موت ، ولكن المعنى : متوفيك في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال ، وفي الكلام تقديم وتأخير .
وقال الزمخشري : مستوفي أجلك ، ومعناه أي : عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم . وقيل : متوفيك : قابضك من الأرض من غير موت ، قاله الحسن ، والضحاك ، وابن زيد ، وابن جريج ، ومطر الوراق ، ومحمد بن جعفر ابن الزبير ، من : توفيت مالي على فلان إذا استوفيته .
وقيل : أجعلك كالمتوفى ، لأنه بالرفع يشبهه وقيل : آخذك وافياً بروحك وبدنك وقيل : متوفيك : متقبل عملك ، ويضعف هذا من جهة اللفظ وقال أبو بكر الواسطي : متوفيك عن شهواتك .
قال ابن عطية : وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من : ( أن عيسى في السماء حي ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويقتل الدجال ، ويفيض العدل ، وتظهر به الملة ، ملة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويحج البيت ، ويعتمر ، ويبقى في الأرض أربعاً وعشرين سنة ) وقيل : أربعين سنة . انتهى .
( وَرَافِعُكَ إِلَىَّ ( الرفع نقل من سفل إلى علو ؛ و : إليّ ، إضافة تشريف . والمعنى : إلى سمائي ومقر ملائكتي . وقد علم أن الباري تعالى ليس بمتحيز في جهة ، وقد تعلق بهذا المشبهة في ثبوت المكان له تعالى وقيل : إلى مكان لا يملك الحكم فيه في الحقيقة ولا في الظاهر إلاَّ أنا ، بخلاف الأرض ، فإنه قد يتولى المخلوقون فيها الأحكام ظاهراً وقيل : إلى محل ثوابك .
قال ابن عباس : رفعه إلى السماء ، سماء الدنيا ، فهو فيها يسبح مع الملائكة ، ثم يهبطه الله عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس قيل : كان عيسى على طور سيناء ، وهبت ريح فهرول عيسى فرفعه الله في هرولته ، وعليه مدرعة من شعر .
وقال الزجاج : كان عيسى في بيت له كوة ، فدخل رجل ليقتله ، فرفع عيسى من البيت وخرج الرجل في شبه عيسى يخبرهم أن عيسى ليس في البيت ، فقتلوه .
وروي أبو بكر بن أبي شيبة ، عن ابن عباس قال : رفع الله عيسى من روزنة كانت في البيت .
( وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( جعل الذين كفروا دنساً ونجساً فطهره منهم ، لأن صحبة الأشرار وخلطة الفجار تتنزل منزلة الدنس في الثوب ، والمعنى : أنه تعالى يخلصه منهم ، فكنى عن إخراجه منهم وتخليصه بالتطهير ، وأتى بلفظ الظاهر لا بالضمير ، وهو : الذين كفروا ، إشارة إلى علة الدنس والنجس وهو الكفر ، كما قال : ) إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( وكما جاء في الحديث : ( المؤمن لا ينجس ) فجعله علة تطهيره الإيمان .
وقيل : مطهرك من أذى الكفرة . وقيل : من الكفر والفواحش . وقيل : مما قالوه فيك وفي أمك . وقيل : ومطهرك أي مطهر بك وجه الناس من نجاسة الكفر والعصيان .
وقال الراغب : متوفي : آخذك عن هواك ، ورافعك إلي عن شهواتك ، ولم يكن ذلك رفعاً مكانياً وإنما هو رفعة المحل ، وإن كان قدر رفع إلى السماء ، وتطهيره من الكافرين إخراجه من بينهم . وقيل : تخليصه من قتلهم ، لأن ذلك نجس طهره الله منه . قال أبو مسلم : التخليص والتطهير واحد ، إلاَّ أن لفظ التطهير فيه رفعة للمخاطب ، كما أن الشهود والحضور واحد ، وفي الشهود رفعة . ولهذا ذكره الله في المؤمنيٌّ ، وذكر الحضور والإحضار في الكافرين .
( وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ( الكاف : ضمير عيسى كالكاف السابقة . وقيل : هو خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو من تلوين الخطاب . إنتهى هذا القول ، ولا يظهر . ومعنى اتبعوك : أي في الدين والشريعة ، وهم المسلمون . لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع .
( فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( معلونهم بالحجة ، وفي أكثر بالأحوال بها

" صفحة رقم 498 "
وبالسيف ، والذين كفروا هم الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى ، قاله الزمخشري ، بتقديم وتأخير في كلامه .
فالفوقية هنا بالحجة والبرهان ، قاله الحسن . أو : بالعز والمنعة ، قاله ابن زيد . فهم فوق اليهود ، فلا تكون لهم مملكة كما للنصارى . فالآية ، على قوله ، مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة ، فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين ، وجعله حكماً دنيوياً لافضلية فيه للمتبعين الكفار ، بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود .
وقال الجمهور : بعموم المتبعين ، فتدخل في ذلك أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، نص عليه قتادة ، وبعموم الكافرين .
والآية تقتضي إعلام عيسى أن أهل الإيمان به كما يحب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان والعزة والمنعة والغلبة ، ويظهر عن عبارة ابن جريج أن المتبعين له هم في وقت استنصاره ، وهم الحواريون ، جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم ، وأبقى لهم في الصالحين ذكراً ، فهم فوقهم بالحجة والبرهان ، وما ظهر عليهم من رضوان الله .
وقيل : فوق الذين كفروا يوم القيامة في الجنة ، إذ هم في الغرفات ، والذين كفروا في أسفل سافلين في الدركات .
وتلخص من أقوال هؤلاء المفسرين أن متبعيه هم متبعوه في أصل الإسلام ، فيكون عاماً في المسلمين ، وعاماً في الكافرين ، أوهم متبعوه في الإنتماء إلى شريعته ، وإن لم يتبعوها حقيقة ، يكون الكافرون خاصاً باليهود ، أو متبعوه هم الحواريون ، والكافرون : من كفر به . وأما الفوقية فإما حقيقة وذلك بالجنة والنار ، وإما مجازاً أي : بالحجة والبرهان ، فيكون ذلك دينياً ، و : إما بالعزة والغلبة فيكون ذلك دنيوياً ، وإما بهما .
( إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ( الظاهر أن : إلى ، تتعلق بمحذوف ، وهو العامل في : فوق ، وهو المفعول الثاني : لجاعل ، إذ معنى جاعل هنا مصير ، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة ، وهذا على أن الفوقية مجاز ، وأما إن كانت الفوقية حقيقة ، وهي الفوقية بالجنة ، فلا تتعلق : إلى ، بذلك المحذوف ، بل بما تقدّم من : متوفيك ، أو من : رافعك ، أو من : مطهرك ، إذ يصح تعلقه بكل واحد منها ، أما برافعك أو مطهرك ، فظاهر . وأما بمتوفيك فعلى بعض الأقوال . وهذه الأخبار الأربعة ترتيبها في غاية الفصاحة ، بدأ أولاً : بإخباره تعالى لعيسى أنه متوفيه ، فليس للماكرين به تسلط عليه ولا توصل إليه ، ثم بشره ثانياً : برفعه إلى سمائه وسكناه مع ملائكته وعبادته فيها ، وطول عمره في عبادة ربه . ثم ثالثاً : برفعه إلى سمائه بتطهيره من الكفار ، فعم بذلك جميع زمانه حين رفعه ، وحين ينزله في آخر الدنيا فهي بشارة عظيمة له أنه مطهر من الكفار أولاً وآخراً . ولما كان التوفي والرفع كل منهما خاص بزمان ، بدىء بهما . ولما كان التطهير عاماً يشمل سائر الأزمان أخر عنهما ، ولما بشره بهذه البشائر الثلاث ، وهو أوصاف له في نفسه ، بشره برفعة أتباعه فوق كل كافر ، لتقرّ بذلك عينه ، ويسر قلبه .
ولما كان هذا الوصف من إعتلاء تابعيه على الكفار من أوصاف تابعيه ، تأخر عن الأوصاف الثلاثة التي لنفسه ، إذ البداءة بالأوصاف التي للنفس أهم ، ثم أتبع بهذا الوصف الرابع على سبيل التبشير بحال تابعيه في الدنيا ، ليكمل بذلك سروره بما أوتيهن ، وأوتى تابعوه من الخير .
( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( هذا إخبار بالحشر والبعث ، والمعنى ثم إلى حكمي ، وهذا عندي من الالتفات ، لأنه سبق ذكر مكذبيه : وهم اليهود ، وذكر من آمن به ؛ وهم الحواريون . وأعقب ذلك قوله : ) وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( فذكر متبعيه والكافرين ، فلو جاء على نمط هذا السابق لكان التركيب : ثم إليّ مرجعهم ، ولكنه التفت على سبيل الخطاب للجميع ، ليكون الإخبار أبلغ في التهديد ، وأشد زجراً لمن يزدجر .
ثم ذكر لفظة : إليّ ، ولفظة : فأحكم ، بضمير المتكلم ، ليعلم أن الحاكم هناك من لا تخفى عليه خافية ، وذكر أنه يحكم فيما اختلفوا فيه من أمر الأنبياء واتباع شرائعهم ، وأتى بالحكم مبهماً ، ثم فصل المحكوم بينهم إلى : كافر ومؤمن ، وذكر جزاء كل واحد منهم .
وقال ابن عطية : مرجعكم ، الخطاب لعيسى ، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر ، فلذلك جاء اللفظ عاماً من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده ، فخاطبه كما يخاطب الجماعة ، إذ هو أحدها ، وإذ هي مرادة في المعنى . إنتهى كلامه .
والأولى عندي أن يكون من الالتفات كما ذكرته .
آل عمران : ( 56 ) فأما الذين كفروا . . . . .
( فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ ( قيل : يحتمل أن يكون خاصاً ، أي : كفروا بك وجحدوا نبوّتك ، والظاهر العموم ، ويجوز أن يكون الذين ، مبتدأ

" صفحة رقم 499 "
ويجوز أن يكون منصوباً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، فيكون من باب الإشتغال .
( فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً ( وصف العذاب بالشدّة لتضاعفه وازدياده . وقيل : لاختلاف أجناسه .
( فِى الدُّنْيَا ( بالأسر والقتل والجزية والذل ، ومن لم ينله شيء من هذا فهو على وجل ، إذ يعلم أن الإسلام يطلبه .
( وَالاْخِرَةِ ( بعذاب النار . وهذا إخبار منه تعالى بما يفعل بالكافر من أول أمره في دنياه إلى آخر أمره في عقباه .
( وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ ( تقدّم تفسير هذه الجملة في هذه السورة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
آل عمران : ( 57 ) وأما الذين آمنوا . . . . .
( وَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ ( بدأ أولاً بقسم الكفار ، لأن ما قبله من ذكر حكمه تعالى بينهم هو على سبيل التهديد والوعيد للكفار ، والإخبار بجزائهم ، فناسبت البداءة بهم ، ولأنهم أقرب في الذكر بقوله : ) فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( وبكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى وراموا قتله ، ثم أتى ثانياً بذكر المؤمنين ، وعلق هناك العذاب على مجرَّد الكفر ، وهنا علق توفية الأجر على الإيمان وعمل الصالحات تنبيهاً على درجة الكمال في الإيمان ، ودعاء إليها .
والتوفية : دفع الشيء وافياً من غير نقص ، والأجور : ثواب الأعمال ، شبهه بالعامل الذي يوفى أجره عند تمام عمله . وتوفية الأجور هي : قسم المنازل في الجنة بحسب الأعمال على ما رتبها تعالى ، وفي الآية قبلها قال : ) فَأُعَذّبُهُمْ ( أسند الفعل إلى ضمير المتكلم وحده ، وذلك ليطابق قوله : ) فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ( وفي هذه الآية قال : فيوفيهم ، بالياء على قراءة حفص ، ورويس ، وذلك على سبيل الالتفات والخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة . وقرأ الجمهور : فنوفيهم ، بالنون الدالة على المتكلم المعظم شأنه ، ولم يأت بالهمزة كما في تلك الآية ليخالف في الإخبار بين النسبة الإسنادية فيما يفعله بالكافر وبالمؤمن ، كما خالف في الفعل ، ولأن المؤمن العامل للصالحات عظيم عند الله ، فناسبه الإخبار عن المجازي بنون العظمة .
ويجوز أن يكون : الذين آمنوا ، مبتدأ ، ويجوز انتصابه على إضمار فعل يفسر ما بعده ، ويكون ذلك من باب الإشتغال ، كقوله : ) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ( فيمن نصب الدال .
( وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( تقدّم تفسير ما يشبه هذا ، وهو قوله : ) فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( واحتج المعتزلة بهذا على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي ، لأن مريد الشيء محب له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال ، وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص ، فيقال : أحب زيداً ، ولا يقال : أريده ، وأمّا الأفعال فهما فيها واحد ، فقوله : لا يحب : لا يريد ظلم الظالمين ، هكذا قرره عبد الجبار ، وعند أصحابنا المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير له ، فهو تعالى ، وإن أراد كفر الكافر ، لا يريد إيصال الثواب إليه .
آل عمران : ( 58 ) ذلك نتلوه عليك . . . . .
( ذالِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ ( ذلك : إشارة إلى ما تقدم من خبر عيسى وزكريا وغيرهما ، و : نتلوه ، نسرده ونذكره شيئاً بعد شيء ، وأضاف التلاوة إلى نفسه وإن كان الملك هو التالي تشريفاً له ، جعل تلاوة المأمور تلاوة الآمر ، وفي : نتلوه ، التفات ، لأن قبله ضمير غائب في قوله : لا يحب ، ونتلوه : معناه تلوناه ، كقوله : ) وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّياطِينِ ( ويجوز أن يراد به ظاهره من الحال ، لأن قصة عيسى لم يفرغ منها ، ويكون : ذلك ، بمعنى : هذا .
والآيات هنا الظاهر أنه يراد بها آيات القرآن ، ويحتمل أن يراد بها المعجزات والمستغربات ، أي : نأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا ، وبسبب تلاوتنا ، وأنت أمي لا تقرأ ولا تصحب أهل الكتاب ، فهي آيات لنبوتك . قالن ابن عباس ، والجمهور : والذكر : القرآن والحكيم أي : الحاكم ، أتى بصيغة المبالغة فيه ، ووصف بصفة من هو من سببه وهو الله تعالى ، أو : كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه . قال الزجاج : لأنه ذو حكمة في تأليفه ونظمه ، ويجوز أن يكون بمعنى المحكم ، قاله الجمهور ، أحكم عن طرق الخلل ، ومنه قوله : ) الر كِتَابٌ ( ويكون : فعيل ، بمعنى : مفعل ، وهو قليل ، ومنه : أعقدت العسل فهو معقد وعقيد ، وأحبست فرساً في سبيل الله فهو محبس وحبيس .
وقيل : المراد بالذكر هنا اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع كتب الله المنزلة على الأنبياء ، أخبر أنه أنزل هذه القصص مما كتب هناك .
و : ذلك ، مبتدأ ، و : نتلوه ، خبر و : من الآيات ، متعلق بمحذوف لأنه في موضع الحال ، أي : كائناً من الآيات . و : من ، للتبعيض لأن هذا المتلو بعض الآيات والذكر ، وجوّزوا أن يكون : من

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدليل البديل

مجلد1 ومجلد 2. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغز... مجلد3.و 4. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغزالي أ... مجلد 5.و6. إحياء علوم الدين محمد...