Translate

السبت، 28 مايو 2022

مجلد 17. و18. تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

 

  مجلد 17.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 97 "
تعالى . والضمير في ) لِنَبْلُوَهُمْ ( إن كانت ما لمن يعقل فهو عائد عليها على المعنى ، وأن لا يعود على ما يفهم من سياق الكلام وهو سكان الأرض المكلفون ) وأيهم ( يحتمل أن يكون الضمير فيها إعراباً فيكون ) لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم ( مبتدأ و ) أَحْسَنُ ( خبره . والجملة في موضع المفعول ) لِنَبْلُوَهُمْ ( ويكون قد علق ) لِنَبْلُوَهُمْ ( إجراءً لها مجرى العلم لأن الابتلاء والاختبار سبب للعلم ، كما علقوا سل وانظر البصرية لأنهما سببان للعلم وإلى أن الجملة استفهامية مبتدأ وخبر ذهب الحوفي ، ويحتمل أن تكون الضمة فيها بناء على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء في أي . وهو كونها مضافة قد حذف صدر صلتها ، فأحسن خبر مبتدأ محذوف فتقديره هو ) أَحْسَنُ ( ويكون ) أَيُّهُم ( في موضع نصب بدلاً من الضمير في ) لِنَبْلُوَهُمْ ( ، والمفضل عليه محذوف تقديره ممن ليس ) أَحْسَنُ عَمَلاً ). وقال الثوري أحسنهم عملاً أزهدهم فيها . وقال إبو عاصم العسقلاني : أَترك لها . وقال الزمخشري : حسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها . وقال أبو بكر غالب بن عطية : أحسن العمل أخذ بحق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه . وقال الكلبي : أحسن طاعة . وقال القاسم بن محمد ما عليها من الأنبياء والعلماء ليبلوَ المرسل إليم والمقلدين للعلماء أيهم أحسن قبولاً وإجابة . وقال سهل : أحسن توكلاً علينا فيها . وقيل : أصفى قلباً وأحسن سمتاً . وقال ابن إسحاق : أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي .
الكهف : ( 8 ) وإنا لجاعلون ما . . . . .
و ) أَنَاْ لَجَاعِلُونَ ( أي مصيرون ) مَا عَلَيْهَا ( مما كان زينة لها أو ) مَا عَلَيْهَا ( مما هو أعم من الزينة وغيره ) صَعِيداً ( تراباً ) جُرُزاً ( الأنبات فيه ، وهذا إشارة إلى التزهيد في الدنيا والرغبة عنها وتسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن ما تضمنته أيدي المترفين من زينتها ، إذ مآل ذلك كزله إلى الفناء والحاق . وقال الزمخشري : ) مَا عَلَيْهَا ( من هذه الزينة ) صَعِيداً جُرُزاً ( يعني مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته وإماطة حسنة وإبطال ما به كان زينة من إماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار ونحو ذلك انتهى . قيل : والصعيد ما تصاعد على وجه الأرض . وقال مجاهد : الأرض التي لا نبات بها . وقال السدّي الأملس المستوي . وقيل : الطريق . وفي الحديث : ( إياكم والقعود على الصعدات ) .
( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءايَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَىءاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلاهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ).
الكهف : ( 9 ) أم حسبت أن . . . . .
( أَمْ ( هنا هي المنقطعة فتتقدر ببل والهمزة . قيل : للإضراب عن الكلام الأول بمعنى الانتقال من كلام إلى آخر لا بمعنى الإبطال ، والهمزة للإستفهام . وزعم بعض النحويين أن ) أَمْ ( هنا بمعنى الهمزة فقط ، والظاهر في ) أَمْ حَسِبْتَ ( أنه خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فقال مجاهد : لم ينهه عن التعجب وإنما أراد كل آياتنا كذلك . وقال قتادة : لا يتعجب منها فالعجائب في خلق السموات والأرض أكثر . وقال ابن عباس : سألوك عن ذلك ليجعلوا جوابك علامة لصدقك وكذبك ، وسائر آيات القرآن أبلغ وأعجب وأدل على صدقك . وقال الطبري : تقرير له عليه السلام على حسبانه ) أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ ( كانوا ) عَجَبًا ( بمعنى إنكار ذلك عليه أن لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة ، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم . قال : وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق . وقال الزهراوي : يحتمل معنى آخر وهو أن يكون استفهاماً له هل علم ) أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ كَانُواْ عَجَبًا ( بمعنى إثبات أنهم عجب ، ويكون فائدة تقريره جمع نفسه للأمر لأن جوابه أن يقول لم أحسب ولا علمته ، فيقال له وصفهم عند ذلك والتجوز في هذا التأويل هو في لفظة حسبت انتهى . وقال غيره : معناه أعلمت أي لم تعلمه حتى أعلمتك .
وقال الزمخشري : ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها ، وإزالة ذلك كله كأن

" صفحة رقم 98 "
لم يكن ثم قال : ) أَمْ حَسِبْتَ ( يعني ) ءانٍ ( ذلك من قصة أهل الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة انتهى . وقيل : أي أم علمت أي فاعلم أنهم ) كَانُواْ ( ) عَجَبًا ( كما تقول : أعلمت أن فلاناً فعل كذا أي قد فعل فاعلمه . وقيل : الخطاب للسامع ، والمراد المشركون أي قل لهم ) أَمْ حَسِبْتُمْ ( الآية . والظن قد يقام مقام العلم ، فكذلك حسبت بمعنى علمت والكهف تقدم تفسيره في المفردات . وعن أنس : الكهف الجبل . قال القاضي : وهذا غير مشهور في اللغة . وقال مجاهد : تفريج بين الجبلين ، والظاهر ) أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ( هم الفتية المذكورون هنا . وعن ابن المسيب أنهم قوم كان حالهم كأصحاب الكهف . فقال الضحاك ) الرقيم ( بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفساً أموات كلهم نيام على هيئة ) أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ ). وقيل : هم أصحاب الغار ففي الحديث عن النعمان بن بشير أنه سمع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يذكر الرقيم قال : ( إن ثلاثة نفر أصابتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف ) . وذكر الحديث وهو حديث المستأجر والعفيف وبارّ والديه ، وفيما أورده فيه زيادة ألفاظ على ما في الصحيح . ومن قال إنهم طائفتان قال : أخبر الله عن ) أَصْحَابَ الْكَهْفِ ( ولم يخبر عن أصحاب ) الرقيم ( بشيء ، ومن قال : بأنهم طائفة واحدة اختلفوا في شرح ) الرقيم ( فعن ابن عباس : إن لا يدري ما ) الرقيم ( أكتاب أم بنيان ، وعنه أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين المسيح عليه السلام . وقيل : من دين قبل عيسى ، وعن ابن عباس ووهب أنه اسم قريتهم . وقيل : لوح من ذهب تحت الجدار أقامه الخضر عليه السلام . وقيل : كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وسبب خروجهم . وقيل : لوح من رصاص كتب فيه شأن الفتية ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف . وقيل : صخرة كتب فيها أسماؤهم وجعلت في سور المدينة . وقيل : اسم كلبهم وتقدم بيت أمية قاله أنس والشعبي وابن جبير ، وعن الحسن : الجبل الذي به الكهف وعن عكرمة اسم الدواة بالرومية . وقيل : اسم للوادي الذي فيه الكهف . وقيل : رقم الناس حديثهم نقراً في الجبل .
و ) ءايَاتِنَا عَجَبًا ( نصب على أنه صفة لمحذوف دل عليه ما قبله ، وتقديره آية ) عَجَبًا ( ، وصفت بالمصدر أو على تقدير ذات عجب وأما أسماء فتية أهل الكهف فأعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط ، والسند في معرفتها ضعيف والرواة مختلفون في قصصهم وكيف كان اجتماعهم وخروجهم ، ولم يأت في الحديث الصحيح كيفية ذلك ولا في القرآن إلاّ ما قص تعالى علينا من قصصهم ، ومن أراد تطلب ذلك في كتب التفسير . ورُوي أن اسم الملك الكافر الذي خرجوا في أيامه عن ملته اسمه دقياً نوس . وروي أنهم كانوا في الروم . وقيل : في الشام وأن بالشام كهفاً فيه موتي ، ويزعم مجاوروه أنهم ) أَصْحَابَ الْكَهْفِ ( وعليهم مسجد وبناء يسمي ) الرقيم ( ومعهم كلب رمة . وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتي ومعهم كلب رمّة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم ) أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ ). قال ابن عطية : دخلت إليهم فرأيتهم منذ أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمي ) الرقيم ( كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه ، وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس . وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها وإنما استسهلت ذكر هذا مع بعده لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء الله عز وجل انتهى . وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم ، وأن معهم كلباً ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم ، وأما ما ذكرت من مدينة دقيوس التي بقبلي غرناطة فقد مررت عليها مراراً لا تحصى ، وشاهدت فيها حجارة كباراً ، ويترجح كون أهل الكهف بالأندلس لكثرة دين النصاري بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى ، ولأن الأخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرفه أحد إلاّ بوحي من الله تعالى .

" صفحة رقم 99 "
الكهف : ( 10 ) إذ أوى الفتية . . . . .
والعامل في ) الْمُرْسَلِينَ إِذْ ). قيل : أذكر مضمرة . وقيل ) عَجَبًا ( ، ومعنى ) أَوَى ( جعلوه مأوى لهم ومكان اعتصام ، ثم دعوا الله تعالى أن يؤتيهم رحمة من عنده وفسرها المفسرون بالرزق . وقال الزمخشري : هي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء . و ) الْفِتْيَةُ ( جمع فتي جمع تكسير جمع قلة ، وكذلك كانوا قليلين . وعند ابن السراج أنه اسم جمع لا جمع تكسير . ولفظ ) الْفِتْيَةُ ( يشعر بأنهم كانوا شباباً وكذا روي أنهم كانوا شباباً من أبناء الأشراف والعظماء مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب وهم من الروم ، اتبعوا دين عيسى عليه السلام . وقيل : كانوا قبل عيسى وأصحابنا الأندلسيون تكثر في ألفاظهم تسمية نصاري الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم ، فيقولون : غزونا الروم ، جاءنا الروم . وقل من ينطق بلفظ النصاري ، ولما دعوا بإيتاء الرحمة وهي تتضمن الرزق وغيره ، دعوا الله بأن يهيء لهم من أمرهم الذي صاروا إليه من مفارقة دين أهليهم وتوحيد الله رشداً وهي الاهتداء والديمومة عليه .
وقال الزمخشري : واجعل ) أَمْرِنَا رَشَدًا ( كله كقولك رأيت منك أسداً . وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري : وهي ويهيي بياءين من غير همز ، يعني أنه أبدل الهمزة الساكنة ياء . وفي كتاب ابن خالويه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم : وهيء لنا ويهي لكم لا يهمز انتهى . فاحتمل أن يكون أبدل الهمزة ياءً ، واحتمل أن يكون حذفها فالأول إبدال قياسي ، والثاني مختلف فيه ينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر أو المضارع إذا كان مجزوماً . وقرأ أبو رجاء : رشد بضم الراء وإسكان الشين . وقرأ الجمهور ) رَشَدًا ( بفتحهما . قال ابن عطية : وهي أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد ، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك ، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتهما ، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فإنها كافية ، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة انتهى .
الكهف : ( 11 ) فضربنا على آذانهم . . . . .
( فَضَرَبْنَا عَلَىءاذَانِهِمْ ( استعارة بديعة للإنامة المستثقلة التي لا يكاد يسمع معها ، وعبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم ومنه ) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ ( وضرب الجزية وضرب البعث . وقال الفرزدق : ضربت عليك العنكبوت بنسجها
وقضي عليك به الكتاب المنزل
وقال الأسود بن يعفر ومن الحوادث لا أبا لك أنني
ضربت على الأرض بالأسداد وقال آخر :
إن المروءة والسماحة والندي في قبة ضربت على ابن الحشرج استعير للزوم هذه الأوصاف لهذا الممدوح ، وذكر الجارحة التي هي الآذان إذ هي يكون منها السمع لأنه لا يستحكم نوم إلاّ مع تعطل السمع . وفي الحديث : ( ذلك رجل بال الشيطان في أذنه ) أي استثقل نومه جداً حتى لا

" صفحة رقم 100 "
يقوم بالليل . ومفعول ضربنا محذوف أي حجاباً من أن يسمع كما يقال بني على امرأته يريدون بني عليها القبة . وانتصب ) سِنِينَ ( على الظرف والعامل فيه ) فَضَرَبْنَا ( ، و ) عَدَدًا ( مصدر وصف به أو منتصب بفعل مضمر أي بعد ) عَدَدًا ( وبمعنى اسم المفعول كالقبض والنفض ، ووصف به ) سِنِينَ ( أي ) سِنِينَ ( معدودة . والظاهر في قوله ) عَدَدًا ( الدلالة على الكثرة لأنه لا يحتاج أن يعد إلاّ ما كثر لا ما قل .
وقال الزمخشري : ويحتمل أن يريد القلة لأن الكثير قليل عنده كقوله ) لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ ( انتهى وهذا تحريف في التشبيه لأن لفظ الآية كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار ، فهذا تشبيه لسرعة انقضاء ما عاشوا في الدنيا إذا رأوا العذاب كما قال الشاعر :
كأن الفتي لم يعر يوماً إذا اكتسي
ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولاً
الكهف : ( 12 ) ثم بعثناهم لنعلم . . . . .
( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ( أي أيقظناهم من نومهم ، والبعث التحريك عن سكون إما في الشخص وإما عن الأمر المبعوث فيه ، وإن كان المبعوث فيه متحركاً و ) لَنَعْلَمُ ( أي لنظهر لهم ما علمناه من أمرهم ، وتقدم الكلام في نظير هذا في قوله ) لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ). وفي التحرير وقرأ الجمهور : ) لَنَعْلَمُ ( بالنون ، وقرأ الزهري بالياء وفي كتاب ابن خالوية ليعلم ) أَيُّ الحِزْبَيْنِ ( حكاه الأخفش . وفي الكشاف وقرىء ليعلم وهو معلق عنه لأن ارتفاعه بالإبتداء لا بإسناد يعلم إليه ، وفاعل يعلم مضمون الجملة كما أن مفعول يعلم انتهى . فأما قراءة لنعلم فيظهر أن ذلك التفات خرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ، فيكون معناها ومعنى ) لَنَعْلَمُ ( بالنون سواء ، وأما ليعلم فيظهر أن المفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه ، والتقدير ليعلم الله الناس ) أَيُّ الحِزْبَيْنِ ). والجملة من الابتداء والخبر في موضع مفعولي يعلم الثاني والثالث ، وليعلم معلق . وأما ما في الكشاف فلا يجوز ما ذكر على مذهب البصريين لأن الجملة إذ ذاك تكون في موضع المفعول الذي لا يسمى فاعله وهو قائم مقام الفاعل ، فكما أن تلك الجملة وغيرها من الجمل لا تقوم مقام الفاعل فكذلك لا يقوم مقام ما ناب عنه . وللكوفيين مذهبان :
أحدهما : أنه يجوز الإسناد إلى الجملة اللفظية مطلقاً .
والثاني : أنه لا يجوز إلاّ إن كان مما يصح تعليقه .
والظاهر أن الحزبين هما منهم لقوله تعالى ) وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ ( الآية . وكأن الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم علموا أن لبثهم تطاول ، ويدل على ذلك أنه تعالى بدأ بقصتهم ولا مختصرة من قوله ) أَمْ حَسِبْتَ ( إلى قوله ) أَمَدًا ( ثم قصها تعالى مطولة مسهبة من قوله ) نَحْنُ نَقُصُّ إِلَى قَوْلُهُ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ).
وقال ابن عطية : والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم ) الْفِتْيَةُ ( أي ظنوا لبثهم قليلاً ، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية ، وهذا قول الجمهور من المفسرين انتهى . وقالت فرقة : هما حزبان كافران اختلفا في مدة أهل الكهف . قال السدّي من اليهود والنصارى الذين علموا قريشاً السؤال عن أهل الكهف ، وعن الخضر وعن الروح وكانوا قد اختلفوا في مدة إقامة أهل الكهف في الكهف . وقال مجاهد : قوم أهل الكهف كان منهم مؤمنون وكافرون واختلفوا في مدة إقامتهم . وقيل : حزبان من المؤمنين في زمن ) أَصْحَابَ الْكَهْفِ ( اختلفوا في مدة لبثهم قاله الفراء . وقال ابن عباس الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب وأهل الكهف حزب . وقال ابن بحر : الحزبان الله والخلق كقوله ) أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ ( وهذه كلها أقوال مضطربة . وقال ابن قتادة : لم يكن للفريقين علم بلبثهم لا لمؤمن ولا لكافر بدليل قوله ) اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ). وقال مقاتل : كما بعثوا زال الشك وعرفت حقيقة اللبث .
و ) أَحْصَى ( جوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون فعلاً ماضياً ، وما مصدرية و ) أَمَدًا ( مفعول به ، وأن يكون أفعل تفضيل و ) أَمَدًا ( تمييز .

" صفحة رقم 101 "
واختار الزجاج والتبريزي أن يكون أفعل للتفضيل واختار الفارسي والزمخشري وابن عطية أن تكون فعلاً ماضياً ، ورجحوا هذا بأن ) أَحْصَى ( إذا كان للمبالغة كان بناء من غير الثلاثي ، وعندهم أن ما أعطاه وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب شاذ لا يقاس . ويقول أبو إسحاق : إنه قد كثر من الرباعي فيجوز ، وخلط ابن عطية فأورد فيما بني من الرباعي ما أعطاه للمال وآتاه للخير وهي أسود من القار وماؤه أبيض من اللبن . وفهو لما سواها أضيع . قال : وهذه كلها أفعل من الرباعي انتهى . وأسود وأبيض ليس بناؤهما من الرباعي . وفي بناء أفعل للتعجب وللتفضيل ثلاثة مذاهب يبني منه مطلقاً وهو ظاهر كلام سيبويه ، وقد جاءت منه ألفاظ ولا يبني منه مطلقاً وما ورد حمل على الشذود والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل . فلا يجوز ، أو لغير النقل كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز أن تقول ما أشكل هذه المسألة ، وما أظلم هذا الليل . وهذا اختيار ابن عصفور من أصحابنا . ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو ، وإذا قلنا بأن ) أَحْصَى ( اسم للتفضيل جاز أن يكون ) أَيُّ الحِزْبَيْنِ ( موصولاً مبنياً على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه ، وهو كون ) أَيُّ ( مضافة حذف صدر صلتها ، والتقدير ليعلم الفريق الذي هو ) أَحْصَى ( ) لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا ( من الذين لم يحصوا ، وإذا كان فعلاً ماضياً امتنع ذلك لأنه إذ ذاك لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل صلة بنفسه على تقدير جعل ) أَيُّ ( موصولة فلا يجوز بناؤها لأنه فات تمام شرطها ، وهو أن يكون حذف صدر صلتها .
وقال : فإن قلت : فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل ؟ قلت : ليس بالوجه السديد ، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس ، ونحو أعدي من الجرب ، وأفلس من ابن المذلق شاذ ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به ، ولأن ) أَمَدًا ( لا يخلو إما أن ينصب بأفعل فأفعل لا يعمل ، وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى ، فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل عليه ) أَحْصَى ( كما أضمر في قوله :
واضرب منا بالسيوف القوانسا
على يضرب القوانس فقد أبعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون ) أَحْصَى ( فعلاً ثم رجعت مضطراً إلى تقديره وإضماره انتهى . أما دعواه الشذوذ فهو مذهب أبي عليّ ، وقد ذكرنا أن ظاهر مذهب سيبويه جواز بنائه من أفعل مطلقاً وأنه مذهب أبي إسحاق وأن التفصيل اختيار ابن عصفور وقول غيره . والهمزة في ) أَحْصَى ( ليست للنقل . وأما قوله فافعل لا يعمل ليس بصحيح فإنه يعمل في التمييز ، و ) أَمَدًا ( تمييز وهكذا أعربه من زعم أن ) أَحْصَى ( أفعل للتفضيل ، كما تقول : زيداً أقطع الناس سيفاً ، وزيد أقطع للهام سيفاً ، ولم يعربه مفعولاً به . وأما قوله : وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى أي لا يكون سديداً فقد ذهب الطبري إلى نصب ) أَمَدًا ( بلبثوا . قال ابن عطية : وهذا غير متجه انتهى . وقد يتجه ذلك أن الأمد هو الغاية ويكون عبارة عن المدة من حيث أن للمدة غاية في أمد المدة على الحقيقة ، وما بمعنى الذي و ) أَمَدًا ( منتصب على إسقاط الحرف ، وتقديره لما ) لَبِثُواْ ( من أمد أي مدة ، ويصير من أمد تفسيراً لما أنهم في لفظ ) مَا لَبِثُواْ ( كقوله ) مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ ( ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل . وأما قوله : فإن زعمت إلى آخره فيقول : لا يحتاج إلى هذا الزعم لأنه

" صفحة رقم 102 "
لقائل ذلك أن يسلك مذهب الكوفيين في أن أفعل التفضيل ينتصب المفعول به ، فالقوانس عندهم منصوب بأضرب نصب المفعول به ، وإنما تأويله بضرب القوانس قول البصريين ، ولذلك ذهب بعض النحويين إلى أن قوله ) أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ ( من منصوبة بأعلم نصب المفعول به ، ولو كثر وجود مثل .
واضرب منا بالسيوف القوانسا
لكنا نقيسه ويكون معناه صحيحاً لأن أفعل التفضيل مضمن معنى المصدر فيعمل بذلك التضمين ، ألا ترى أن المعنى يزيد ضربنا بالسيوف القوانسا على ضرب غيرنا ، ولما ذكر قوله ليعلم مشعراً باختلاف في أمرهم عقب بأنه تعالى هو الذي يقص شيئاً فشيئاً على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خبرهم ) بِالْحَقّ ( أي على وجه الصدق ،
الكهف : ( 13 ) نحن نقص عليك . . . . .
وجاء لفظ ) نَحْنُ نَقُصُّ ( موازياً لقوله لنعلم .
ثم قال ) بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ ( ففيه إضافة الرب وهو السيد والناظر في مصلحة عبيده ، ولم يأت التركيب ) ءامَنُواْ ( بناء للأشعار بتلك الرتبة وهي أنهم مربوبون له مملوكون . ثم قال : ) وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ( ولم يأت التركيب وزادهم لما في لفظة نا من العظمة والجلال ، وزيادته تعالى لهم ) هُدًى ( هو تيسيرهم للعمل الصالح والإنقطاع إليه ومباعدة الناس والزهد في الدنيا ، وهذه زيادة في الإيمان الذي حصل لهم . وفي التحرير ) زِدْنَاهُمْ ( ثمرات ) هُدًى ( أو يقيناً قولان ، وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي ، أو إنطاق الكلب لهم بأنه هو على ما هم عليه من الإيمان ، أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون الدين به كله لله فآمنوا به قبل بعثه أقوال ملخصة من التحرير .
الكهف : ( 14 ) وربطنا على قلوبهم . . . . .
( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ( ثبتناها وقوّيناها على الصبر على هجرة الوطن والنعيم والفرار بالدين إلى غار في مكان قفر لا أنيس به ولا ماء ولا طعام ، ولما كان الفزع وخوف النفس يشبه بالتناسب الإنحلال حسن في شدة النفس وقوّة التصميم أن تشبه الربط ، ومنه فلان رابط الجأش إذا كانت نفسه لا تتفرق عند الفزع والحرب . وقال تعالى : ) إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ( والعامل في ) أَن رَّبَطْنَا ( أي ربطنا حين ) قَامُواْ ( ، ويحتمل القيام أن يكون مقامهم بين يديّ الملك الكافر دقيانوس ، فإنه مقام محتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخلعوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته ، ويحتمل أن يكون عبارة عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس كما يقال : قام فلان إلى كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد .
وقال الكرماني : ) قَامُواْ ( على أرجلهم . وقيل : ) قَامُواْ ( يدعون الناس سرّاً . وقال عطاء ) قَامُواْ ( عند قيامهم من النوم قالوا وقيل : ) قَامُواْ ( على إيمانهم . وقال صاحب الغنيان : ) إِذْ قَامُواْ ( بين يديّ الملك فتحركت هرة . وقيل : فأرة ففزع دقيانوس فنظر بعضهم إلى بعض فلم يتمالكوا أن قالوا ) رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( وكان قومهم عباد أصنام ، وما أحسن ما وحدوا الله بأن ربهم هو موجد السموات والأرض المتصرّف فيها على ما يشاء ، ثم أكدوا هذا التوجيد بالبراءة من إله غيره بلفظ النفي المستغرق تأبيد الزمان على قول . واللام في ) لَقَدِ ( لام توكيد و ) إِذَا ( حرف جواب وجزاء ، أي ) لَّقَدْ قُلْنَا ( لن ندعو من دونه إلهاً قولاً ) شَطَطًا ( أي ذا شطط وهو التعدي والجور ، فشططاً نعت لمصدر محذوف إما على الحذف كما قدرناه ، وإما على الوصف به على جهة المبالغة . وقيل : مفعول به بقلنا . وقال قتادة : ) شَطَطًا ( كذباً . وقال أبو زيد : خطأً .
الكهف : ( 15 ) هؤلاء قومنا اتخذوا . . . . .
( هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءالِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَإِذِ ).
ولما وحدوا الله تعالى ورفضوا ما دونه من الآلهة أخذوا في ذم قومهم وسوء فعلهم وأنهم لا حجة لهم في عبادة غير الله ، ثم عظموا جرم من افترى على الله كذباً وهذه المقالة يحتمل أن قالوها في مقامهم بين يديّ الملك تقبيحاً لما هو وقومهم عليه وذلك أبلغ في التبرّي من عبادة الأصنام ، وأفتّ في عضد الملك إذا اجترؤوا عليه بذم ما هو عليه ، ويحتمل أن قالوا ذلك عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه و ) هَؤُلاء ( مبتدأ .
و ) قَوْمُنَا ( قال الحوفي : خبر و ) اتَّخَذُواْ ( في موضع الحال . وقال الزمخشري : وتبعه أبو البقاء : ) قَوْمُنَا ( عطف بيان و ) اتَّخَذُواْ ( في موضع الخبر . والضمير في ) مِن دُونِهِ ( عائد على الله

" صفحة رقم 103 "
ولولا تحضيض صحبه الإنكار إذ يستحيل وقوع سلطان بيَّن على ذلك فلا يمكن فيه التحضيض الصرف ، فحضوهم على ذلك على سبيل التعجيز لهم ، ومعنى ) عَلَيْهِمْ ( على اتخاذهم آلهة و ) اتَّخَذُواْ ( هنا يحتمل أن يكون بمعنى عملوا لأنها أصنام هم نحتوها ، وأن تكون بمعنى صيروا ، وفي ما ذكروه دليل على أن الديّن لا يؤخذ إلاّ بالحجة والدعوى إذا لم يكن عليها دليل فاسدة وهي ظلم وافتراء على الله وكذب بنسبة شركاء الله .
الكهف : ( 16 ) وإذ اعتزلتموهم وما . . . . .
و ) إِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ( خطاب من بعضهم لبعض والأعتزال يشمل مفارقة أوطان قومهم ومعتقداتهم فهو اعتزال جسماني وقلبي ، وما معطوف على المفعول في ) اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ( أي واعتزلتم معبودهم و ) إِلاَّ اللَّهُ ( استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله مع آلهتهم لاندراج لفظ الجلالة في قوله ) وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ ).
وذكر أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله . وقال هذا أيضاً الفرّاء ، ومنقطع إن كانوا لا يعرفون الله ولا يعبدونه لعدم اندراجه في معبوداتهم . وفي مصحف عبد الله ) وَمَا يَعْبُدُونَ ( من دوننا انتهى وما في مصحف عبد الله فيما ذكر هارون إنما أريد به تفسير المعنى . وإن هؤلاء الفتية اعتزلوا قومهم ) وَمَا يَعْبُدُونَ ( من دون الله وليس ذلك قرآناً لمخالفتها لسواد المصحف ، ولأن المستفيض عن عبد الله بل هو متواتر ما ثبت في السواد وهو ) مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهِ ). وقيل : ) وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ ( كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله تعالى ، فعلى هذا ) مَا ( فيه و ) إِلا ( استثناء مفرغ له العامل .
( فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ ( أي اجعلوه مأوى لكم تقيمون فيه وتأوون إليه . وقوله ) يَنْشُرْ ( فيه ما كانوا عليه من التوكل حيث أووا إلى كهف ، ورتبوا على مأواهم إليه نشر رحمة الله عليهم وتهيئة رفقه تعالى بهم لأن من أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان لا يضيعه ، والمعنى أنه تعالى سيبسط علينا رحمته ويهيء لنا ما نرتفق به في أمر عيشنا .
قال ابن عباس : ) اللَّهُ لَكُمْ ( يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه ، ويأتيكم باليسر والرفق واللطف . وقال ابن الأنباري : المعنى ) اللَّهُ لَكُمْ ( بدلاً من أمركم الصعب ) مّرْفَقًا ). قال الشاعر : فليت لنا من ماء زمزم شربة
مبردة باتت على طهيان أي بدلاً من ماء زمزم . وقال الزمخشري : إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم ، وإما أن يخبرهم به نبيّ في عصرهم ، وإما أن يكون بعضهم نبياً . وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجي والجعفي عنه ، وأبو عمرو في رواية هارون بفتح الميم وكسر الفاء . وقرأ ابن أبي إسحاق وطلحة والأعمش وباقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء رفقاً لأن جميعاً في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة حكاه الزجاج وثعلب . ونقل مكي عن الفراء أنه قال : لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلاّ كسر الميم ، وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلاّ بفتح الميم وكسر الفاء ، وخالفه أبو حاتم وقال : المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد . وقال أبو زيد : هو مصدر كالرفق جاء على مفعل . وقيل : هما لغتان فيما يرتفق به وإما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير ، وعن الفراء أهل الحجاز يقولون ) مّرْفَقًا ( بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان ، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعاً انتهى وأجاز معاذ فتح الميم والفاء .
الكهف : ( 17 ) وترى الشمس إذا . . . . .
( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ

" صفحة رقم 104 "
وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ ذالِكَ ). ( سقط : من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا )
هنا جمل محذوفة دل عليها ما تقدم ، والتقدير ) فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ ( فألقى الله عليهم النوم واستجاب دعاءهم وأرفقهم في الكهف بأشياء . وقرأ الحرميان ، وأبو عمر و ) تَّزَاوَرُ ( بإدغام تتزاور في الزاي . وقرأ الكوفيون ، والأعمش ، وطلحة ، وابن أبي ليلى ، وابن مناذر ، وخلف ، وأبو عبيد ، وابن سعدان ، ومحمد بن عيسى الأصبهاني ، وأحمد بن جبير الأنطاكي بتخفيف الزاي إذا حذفوا التاء . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وابن عامر ، وقتادة ، وحميد ، ويعقوب عن العمري : تزورّ على وزن تحمر . وقرأ الجحدري ، وأبو رجاء ، وأيوب السختياني ، وابن أبي عبلة ، وجابر ، وورد عن أيوب ) تزوار ( على وزن تحمارّ . وقرأ ابن مسعود ، وأبو المتوكل : تزوئرُّ بهمزة قبل الراء على قولهم ادهأمّ واشعألّ فراراً من التقاء الساكنين ، والمعنى تزوغ وتميل .
و ) كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ( جهة يمين الكهف ، وحقيقته الجهة المسماة باليمين يعني يمين الداخل إلى الكهف أو يمين الفتية . و ) تَّقْرِضُهُمْ ( لا تقر بهم من معنى القطيعة ) وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ ( أي متسع من الكهف . وقرأ الجمهور : ) تَّقْرِضُهُمْ ( بالتاء . وقرأت فرقة بالياء أي يقرضهم الكهف . قال ابن عباس : المعنى أنهم كانوا لا تصيبهم الشمس ألبتة . وقالت فرقة : إنها كانت الشمس بالعشي تنالهم بما في مسها صلاح لأجسامهم ، وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب ، وحاجب من جهة الدبور ، وهم في زاوية . وقال عبد الله بن مسلم : كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش وعلى هذا كان أعلى الكهف مستوراً من المطر . قال ابن عطية : كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب ، اختار الله لهم مضجعاً متسعاً في مقناة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم وتدفع عنهم كربة الغار وغمومه . وقال الزمخشري : المعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس لولا أن الله يحجبها عنهم انتهى . وهو بسط قول الزجاج .
قال الزجاج : فعل الشمس آية ) مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ( دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك . وقال أبو عليّ : معنى ) تَّقْرِضُهُمْ ( تعطيهم من ضوئها شيئاً ثم تزول سريعاً كالقرض يسترد ، والمعنى عنده أن الشمس تميل بالغدوة وتصيبه بالعشي إصابة خفيفة انتهى . ولو كان من القرض الذي يعطي ثم يسترد لكان الفعل رباعياً فكان يكون تقرضهم بالتاء مضمومة . لكنه من القطع ، وإنما التقدير تقرض لهم أي تقطع لهم من ضوئها شيئاً . قيل : ولو كانت الشمس لا تصيب مكانهم أصلاً لكان يفسد هواؤه ويتعفن ما فيه فهلكوا ، والمعنى أن تعالى دبر أمرهم فأسكنههم مسكناً لا يكثر سقوط الشمس فيه فيحمي ، ولا تغيب عنه غيبوبة دائمة فيعفن . والإشارة بذلك إلى ما صنعه تعالى بهم من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة آية من آياته يعني أن ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم اختصاصاً لهم بالكرامة ، ومن قال أنه كان مستقبل بنات نعش بحيث كان له حاجب من الشمس كان الإشارة إلى أن حديثهم ) مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ( وهو هدايتهم إلى توحيده وإخراجهم من بين عبدة الأوثان وإيواؤهم إلى ذلك الكهف ، وحمايتهم من عدوّهم وإلقاء الهيبة عليهم ، وصرف الشمس عنهم يميناً وشمالاً لئلا تفسد أجسامهم وإنامتهم هذه المدة الطويلة ، وصونهم من البلي وثيابهم من التمزّق .
ويدل على أنه إشارة إلى الهداية قوله ) مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ( وهو لفظ عام يدخل فيه ما سبق نسبتهم وهم أهل الكهف ، ( وَمَن يُضْلِلِ ( عام أيضاً مثل دقيانوس الكافر وأصحابه ،
الكهف : ( 18 ) وتحسبهم أيقاظا وهم . . . . .
والخطاب في ) وَتَحْسَبُهُمْ ( وفي ) وَتَرَى الشَّمْسَ ( لمن قدر له أنه يطلع عليهم . قيل : كانوا مفتحة أعينهم وهم نيام فيحسبهم الناظر منتبهين . قال أبو محمد بن عطية : ويحتمل أن يحسب

" صفحة رقم 105 "
الرائي ذلك لشدّة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغيير ، وذلك أن الغالب على النوام أن يكون لهم استرخاء وهيئات تقتضي النوم ، فيحسبه الرائي يقظان وإن كان مسدود العينين ، ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في أن يحسب عليهم التيقظ ، والظاهر أن قوله ) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا ( إخبار مستأنف وليس على تقدير . وقيل : في الكلام حذف تقديره لو رأيتهم لحسبتهم ) أَيْقَاظًا ).
والظاهر أن قوله ) وَنُقَلّبُهُمْ ( خبر مستأنف . وقيل : إنما وقع الحسبان من جهة تقلبهم ، ولا سيما إذا كان من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين وفي قراءة الجمهور ) وَنُقَلّبُهُمْ ( بالنون مزيد اعتناء الله بهم حيث أسند التقليب إليه تعالى ، وأنه هو الفاعل ذلك . وحكي الزمخشري أنه قرىء ويقلبهم بالياء مشدّداً أي يقلبهم الله . وقرأ الحسن فيما حكي الأهوازي في الإقناع : ويقلبهم بياء مفتوحة ساكنة القاف مخففة اللام . وقرأ الحسن فيما حكي ابن جنيّ : وتقلبهم مصدر تقلب منصوباً ، وقال : هذا نصب بفعل مقدر كأنه قال : وترى أو تشاهد تقلبهم ، وعنه أيضاً أنه قرأ كذلك إلاّ أنه ضم الياء فهو مصدر مرتفع بالابتداء قاله أبو حاتم ، وذكر هذه القراءة ابن خالويه عن اليماني . وذكر أن عكرمة قرأ وتقلبهم بالتاء باثنتين من فوق مضارع قلب مخففاً . قيل : والفائدة في تقليبهم في الجهتين لئلا تبلي الأرض ثيابهم وتأكل لحومهم ، فيعتقدوا أنهم ماتوا وهذا فيه بعد ، فإن الله الذي قدر على أن يبقيهم أحياء تلك المدة الطويلة هو قادر على حفظ أجسامهم وثيابهم .
وعن ابن عباس : لو مستهم الشمس لأحرقتهم ، ولو لا التقليب لأكلتهم الأرض انتهى . و ) ذَاتُ ( بمعنى صاحبة أي جهة ) ذَاتَ الْيَمِينِ ). ونقل المفسرون الخلاف في أوقات تقليبهم وفي عدد التقليبات ، عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وقتادة ، ومجاهد ، وابن عياض بأقوال متعارضة متناقضة ضربنا عن نقلها صفحاً وكذلك لم نتعرض لأسم كلبهم ولا لكونه كلب زرع أو غيره ، لأن مثل العدد والوصف والتسمية لا يدرك بالعقل وإنما يدرك بالسمع ، والسمع لا يكون في مثل هذا إلاّ عن الأنبياء أو الكتب الإلهية ، ويستحيل ورود هذا الاختلاف عنها . والظاهر أن قوله ) وَكَلْبُهُمْ ( أريد به الحيوان المعروف ، وأبعد من ذهب إلى أنه أسد ، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنه رجل طباخ لهم تبعهم ، أو أحدهم قعد عند الباب طليعة لهم . وحكي أبو عمر والزاهد غلام ثعلب أنه قرىء وكالئهم اسم فاعل من كلأ إذا حفظ ، فينبغي أن يحمل على أنه الكلب لحفظه للإنسان . قيل : ويحتمل أن يراد بالكاليء الرجل على ما روي إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الربيئة المستخفي بنفسه . وقرأ أبو جعفر الصادق : وكالبهم بالباء بواحدة أي صاحب كلبهم ، كما تقول لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر .
وقال الزمخشري : ) بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ( حكاية حال ماضية ، لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ، وإضافته إذا أضيف حقيقة معرفة كغلام

" صفحة رقم 106 "
زيد إلاّ إذا نويت حكاية الحال الماضية انتهى . وقوله لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ليس إجماعاً ، بل ذهب الكسائي وهشام ، ومن أصحابنا أبو جعفر بن مضاء إلى أنه يجوز أن يعمل ، وحجج الفريقين مذكورة في علم النحو .
والوصيد قال ابن عباس : الباب . وعنه أيضاً وعن مجاهد وابن جبير : الفناء . وعن قتادة : الصعيد والتراب . وقيل : العتبة . وعن ابن جبير أيضاً التراب . والخطاب في ) لَوِ اطَّلَعْتَ ( لمن هو في قوله ) وَتَرَى الشَّمْسَ ( ) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا ). وقرأ ابن وثاب والأعمش : ) لَوِ اطَّلَعْتَ ( بضم الواو وصلاً . وقرأ الجمهور : بكسرها ، وقد ذكر ضمها عن شيبة وأبي جعفر ونافع وغلبة الرعب لما ألقى الله عليهم من الهيبة والجلال ، فمن رام الإطلاع عليهم أدركته تلك الهيبة .
ومعنى ) لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ ( أعرضت بوجهك عنهم . وأوليتهم كشحك ، وانتصب ) فِرَاراً ( على المصدر إما لفررت محذوفة ، وإما ) لَوْلَّيْتَ ( لأنه بمعنى لفررت ، وإما مفعولاً من أجله . وانتصب ) رُعْبًا ( على أنه مفعول ثان ، وأبعد من ذهب إلى أنه تمييز منقول من المفعول كقوله ) وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً ( على مذهب من أجاز نقل التمييز من المفعول ، لأنك لو سلطت عليه الفعل ما تعدى إليه تعدى المفعول به بخلاف ، ( وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً ( وقيل : سبب الرعب طول شعورهم وأظفارهم وصفرة وجوههم وتغيير أطمارهم . وقيل : لإظلام المكان وإيحاشه ، وليس هذان القولان بشيء لأنهم لو كانوا بتلك الصفة أنكروا أحوالهم ولم يقولوا ) لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ( ولأن الذي بعث إلى المدينة لم ينكر إلاّ العالم والبناء لا حاله في نفسه ، ولأنهم بحالة حسنة بحيث لا يفرق الرائي بينهم وبين الأيقاظ ) وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ ( تتخرقه الرياح والمكان الذي بهذه الصورة لا يكون موحشاً . وقرأ ابن عباس ، والحرميان ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة بتشديد اللام والهمزة . وقرأ باقي السبعة بتخفيف اللام والهمزة . وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وإبدال الياء من الهمزة . وقرأ الزهري بتخفيف اللام والإبدال ، وتقدم الخلاف في ) رُعْبًا ( في آل عمران . وقرأ هنا بضم العين أبو جعفر وعيسى .
الكهف : ( 19 ) وكذلك بعثناهم ليتساءلوا . . . . .
( وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا ).
الكاف للتشبيه والإشارة بذلك . قيل إلى المصدر المفهوم من ) فَضَرَبْنَا عَلَىءاذَانِهِمْ ( أي مثل جعلنا إنامتهم هذه المدة الطويلة آية ، جعلنا بعثهم آية . قاله الزجاج وحسنه الزمخشري . فقال : وكما أنمناهم تلك النومة ) كَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ ( إذكاراً بقدرته على الإماتة والبعث جميعاً ، ليسأل بعضهم بعضاً ويتعرّفوا حالهم وما صنع الله بهم ، فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله ، ويزداد يقيناً ويشكر وأما أنعم الله به عليهم وكرموا به انتهى . وناسب هذا التشبيه قوله تعالى حين أورد قصتهم أولاً مختصرة ) فَضَرَبْنَا عَلَىءاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ).
وقال ابن عطية : الإشارة بذلك إلى الأمر الذي ذكره الله في جهتهم والعبرة التي فعلها فيهم ، واللام في ) لِيَتَسَاءلُوا ( لام الصيرورة لأن بعثهم لم يكن لنفس تساؤلهم انتهى . والقائل . قيل : كبيرهم مكلمينا . وقيل : صاحب نفقتهم تمليخاً وكم سؤال عن العدد والمعنى كم يوماً أقمتم نائمين ، والظاهر صدور الشك من المسؤولين . وقيل : ) أَوْ ( للتفضيل . قال بعضهم ) لَبِثْنَا يَوْمًا ). وقال بعضهم ) بَعْضَ يَوْمٍ ( والسائل أحس في خاطره طول نومهم ولذلك سأل . قيل : ناموا أول النهار واستيقظوا آخر النهار ، وجوابهم هذا مبني على غلبة الظن والقول بالظن الغالب لا يعد كذباً ، ولما عرض لهم الشك في الإخبار ردوا علم لبثهم إلى الله تعالى .
وقال الزمخشري : ) قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ( إنكار عليهم من

" صفحة رقم 107 "
بعضهم وأن الله تعالى أعلم بمدة لبثهم كان هؤلاء قد علموا بالأدلة أو بإلهام من الله أن المدة متطاولة وأن مقدارها مبهم لا يعلمه إلاّ الله انتهى . ولما انتبهوا من نومهم أخذهم ما يأخذ من نام طويلاً من الحاجة إلى الطعام ، واتصل ) فَابْعَثُواْ ( بحديث التساؤل كأنهم قالوا خذوا فيما يهمكم ودعوا علم ذلك إلى الله . والمبعوث قيل هو تمليخاً ، وكانوا قد استصحبوا حين خرجوا فارين دراهم لنفقتهم وكانت حاضرة عندهم ، فلهذا أشاروا إليها بقولهم ) هَاذِهِ ).
وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر والحسن والأعمش واليزيدي ويعقوب في رواية ، وخلف وأبو عبيد وابن سعدان ) بِوَرِقِكُمْ ( بإسكان الراء . وقرأ باقي السبعة وزيد بن عليّ بكسرها . وقرأ أبو رجاء بكسر الواو وإسكان الراء وإدغام القاف في الكاف وكذا إسماعيل عن ابن محيض ، وعن ابن محيض أيضاً كذلك إلاّ أنه كسر الراء ليصح الإدغام ، وقال الزمخشري : وقرأ ابن كثير ) بِوَرِقِكُمْ ( بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف انتهى . وهو مخالف لما نقل الناس عنه . وحكى الزجاج قراءة بكسر الواو وسكون الراء دون إدغام . وقرأ عليّ بن أبي طالب بوارقكم على وزن فاعل جعله اسم جمع كباقر وجائل .
و ) الْمَدِينَةِ ( هي مدينتهم التي خرجوا منها ، وقيل وتسمى الآن طرسوس وكان اسمها عند خروجهم أفسوس . ) فَلْيَنظُرِ ( يجوز أن يكون من نظر العين ، ويجوز أن يكون من نظر القلب ، والجملة في موضع نصب بفلينظر معلق عنها الفعل . و ) أَيُّهَا ( استفهام مبتدأ و ) أَزْكَى ( خبره ، ويجوز أن يكون ) أَيُّهَا ( موصولاً مبنياً مفعولاً لينظر على مذهب سيبويه ، و ) أَزْكَى ( خبر مبتدأ محذوف . و ) أَزْكَى ( قال ابن عباس وعطاء أحل ذبيحة وأطهر لأن عامة بلدتهم كانوا كفاراً يذبحون للطواغيت . وقال ابن جبير : أحل طعاماً . قال الضحاك : وكان أكثر أموالهم غصوباً . وقال مجاهد : قالوا له لا تبتع طعاماً فيه ظلم . وقال عكرمة : أكثر . وقال قتادة : أجود . وقال ابن السائب ومقاتل : أطيب . وقال يمان بن ريان : أرخص . وقيل : أكثر بركة وريعاً . وقيل : هو الأرز . وقيل : التمر . وقيل : الزبيب . وقيل : في الكلام حذف أي أيّ أهلها ) أَزْكَى طَعَامًا ( فيكون ضمير المؤنث عائداً على ) الْمَدِينَةِ ( وإذا لم يكن حذف فيكون عائده على ما يفهم من سياق الكلام كأنه قيل أي المآكل .
وفي قوله : ) فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ ( دليل على أن حمل النفقة وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتوكلين على الإنفاقات وعلى ما في أوعية الناس . وقال بعض العلماء : ما لهذا السفر يعني سفر الحج إلا شيئان شد الهميان والتوكل على الرحمن . ) وَلْيَتَلَطَّفْ ( في اختفائه وتحيله مدخلاً ومخرجاً . وقال الزمخشري : وليتكلف اللطف والنيقة فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن ، أو في أمر التخفي حتى لا يعرف انتهى . والوجه الثاني هو الظاهر . وقرأ الحسن : ) وَلْيَتَلَطَّفْ ( بكسر لام الأمر ، وعن قتيبة الميال ) وَلْيَتَلَطَّفْ ( بضم الياء مبنياً للمفعول . ) وَلاَ يُشْعِرَنَّ ( أي لا يفعل ما يؤدي من غير قصد منه إلى الشعور بنا ، سمي ذلك إشعاراً منه بهم لأنه سبب فيه . وقرأ أبو صالح ويزيد بن القعقاع وقتيبة ) وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ ( أحد ببناء الفعل للفاعل ، ورفع أحد .
والضمير في ) أَنَّهُمْ ( عائد على ما دل عليه المعنى من كفار تلك المدينة . وقيل : ويجوز أن يعود على ) أَحَدًا ( لأن لفظه للعموم فيجوز أن يجمع الضمير كقوله ) فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( ففي حاجزين

" صفحة رقم 108 "
ضمير جمع عائد على أحد .
الكهف : ( 20 ) إنهم إن يظهروا . . . . .
وقال الزمخشري : الضمير في ) أَنَّهُمْ ( راجع إلى الأهل المقدر في ) أَيُّهَا ( والظهور هنا الإطلاع عليهم والعلم بمكانهم . وقيل : العلو والغلبة . وقرأ زيد بن عليّ ) يَظْهَرُواْ ( بضم الياء مبنياً للمفعول ، والظاهر الرجم بالحجارة وكان الملك عازماً على قتلهم لو ظفر بهم ، والرجم كان عادة فيما سلف لمن خالف من الناس إذ هي أشفى ولهم فيها مشاركة . وقال حجاج : معناه بالقول يريد السب وقاله ابن جبير ) أَوْ يُعِيدُوكُمْ ( يدخلوكم فيها مكرهين ، ولا يلزم من العود إلى الشيء التلبس به قبل إذ يطلق ويراد به الصيرورة ) وَلَن تُفْلِحُواْ ( إن دخلتم في دينهم و ) إِذَا ( حرف جزاء وجواب ، وقد تقدم الكلام عليها وكثيراً ما يتضح تقدير شرط وجزاء .
الكهف : ( 21 ) وكذلك أعثرنا عليهم . . . . .
( وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ ).
قبل هذا الكلام جمل محذوفة التقدير فبعثوا أحدهم ونظر أيها أزكى طعاماً وتلطف ، ولم يشعر بهم أحداً فأطلع الله أهل المدينة على حالهم وقصة ذهابه إلى المدينة وما جرى له مع أهلها ، وحمله إلى الملك وادعائهم عليه أنه أصاب كثيراً من كنوز الأقدمين ، وحمل الملك ومن ذهب معه إليهم مذكور في التفاسير ذلك بأطول مما جرى والله أعلم بتفاصيل ذلك ، ويقال عثرت على الأمر إذا أطّلعت عليه وأعثرني غيري إذا أطلعني عليه ، وتقدم الكلام على هذه المادة في قوله ) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً ( ومفعول ) أَعْثَرْنَا ( محذوف تقديره ) أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ( أهل مدينتهم ، والكاف في ) وَكَذالِكَ ( للتشبيه والتقدير وكما أنمناهم بعثناهم لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم ، والضمير في ) لِيَعْلَمُواْ ( عائد على مفعول ) أَعْثَرْنَا ( وإليه ذهب الطبري .
و ) وَعَدَ اللَّهُ ( هو البعث لأن حالتهم في نومهم وانتباهتهم بعد المدة المتطاولة كحال من يموت ثم يبعث و ) لاَ رَيْبَ ( فيها أي لا شك ولا ارتياب في قيامها والمجازاة فيها ، وكان الذين أعثروا على أهل الكهف قد دخلتهم فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور ، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه . وقالوا : تحشر الأرواح فشق على ملكهم وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم حتى لبس المسوح وقعد على الرماد ، وتضرع إلى الله في حجة وبيان ، فأعثر الله على أهل الكهف ، فلما بعثهم الله تعالى وتبين الناس أمرهم سرّ الملك ورجع من كان شك في أمر بعث الأجساد إلى اليقين ، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله ) إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ( و ) إِذْ ( معمولة لأعثرنا أو ) لِيَعْلَمُواْ ). وقيل : يحتمل أن يعود الضمير في و ) لِيَعْلَمُواْ ( على أصحاب الكهف ، أي جعل الله أمرهم آية لهم دالة على بعث الأجساد من القبور . وقوله ) إِذْ يَتَنَازَعُونَ ( على هذا القول ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم ، والتنازع إذ ذاك في أمر البناء والمسجد لا في أمر القيامة .
وقيل : التنازع إنما هو في أن أطلعوا عليهم . فقال بعض : هم أموات . وقال بعض : هم أحياء . وروي أن الملك وأهل المدينة انطلقوا مع تمليخاً إلى الكهف وأبصروهم ثم قالت الفتية للملك : نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم ، وتوفى الله أنفسهم وألقى الملك عليهم ثيابه ، وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب ، فرآهم في المنام كارهين للذهب فجعلها من الساج ، وبني على باب الكهف . والظاهر أن قوله ) رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ( من كلام المتنازعين داخل تحت القول أي أمروا بالبناء وأخبروا بمضمون هذه الجملة كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ، ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا

" صفحة رقم 109 "
) رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ). وقيل : يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى رد القول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين أو من الذين تنازعوا فيه على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أهل الكتاب ، والذين غلبوا . قال قتادة : هم الولاة . روي أن طائفة ذهبت إلى أن يطمس الكهف عليهم ويتركوا فيه مغيبين ، وقالت الطائفة الغالبة : ) لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا ( فاتخذوه .
وروي أن التي دعت إلى البنيان كانت كافرة أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجداً . وقرأ الحسن وعيسى الثقفي : ) غَلَبُواْ ( بضم الغين وكسر اللام ، والمعنى أن الطائفة التي أرادت المسجد كانت تريد أن لا يبني عليهم شيء ولا يعرض لموضعهم . وروي أن طائفة أخرى مؤمنة أرادت أن لا يطمس الكهف ، فلما غلبت الأولى على أن يكون بنيان ولا بد قالت يكون ) مَّسْجِدًا ( فكان . وعن ابن عمر أن الله عمى على الناس أمرهم وحجبهم عنه فذلك دعاء إلى بناء البنيان ليكون معلماً لهم .
الكهف : ( 22 ) سيقولون ثلاثة رابعهم . . . . .
والظاهر أن الضمير في ) سَيَقُولُونَ ( عائد على من تقدم ذكرهم وهم المتنازعون في حديثهم قبل ظهورهم عليهم ، فأخبر تعالى نبيه بما كان من اختلاف قومهم في عددهم وكون الضمير عائداً على ما قلنا ذكره الماوردي . وقيل : يعود على نصارى نجران تناظروا مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في عددهم . فقالت الملكانية : الجملة الأولى ، واليعقوبية الجملة الثانية ، والنسطورية الجملة الثالثة ، وهذا يروي عن ابن عباس . وفي الكشاف أن السيد قال الجملة الأولى وكان يعقوبياً ، والعاقب قال الثانية وكان نسطورياً ، والمسلمون قالوا الثالثة وأصابوا وعرفوا ذلك بإخبار الرسول عن جبريل عليهما الصلاة والسلام ، فتكون الضمائر في ) سَيَقُولُونَ ( ) وَيَقُولُونَ ( عائداً بعضها على نصارى نجران ، وبعضها على المؤمنين . وعن عليّ هم سبعة نفر أسماؤهم تمليخاً ، ومكشلبيناً ومشلبيناً هؤلاء أصحاب يمين الملك ، وكان عن يساره مرنوش ، ودبرنوش ، وشاذنوش وكان يستثير هؤلاء الستة في أمره ، والسابع الراعي الذي وافقهم ، هربوا من ملكهم دقيانوس واسم مدينتهم أفسوس واسم كلبهم قطمير انتهى .
وقال ابن عطية الضمير في قوله ) سَيَقُولُونَ ( يراد به أهل التوراة من معاصري محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص انتهى . قيل : وجاء بسين الاستقبال لأنه كانه في الكلام طي وإدماج ، والتقدير فإذا أجبتهم عن سؤالهم وقصصت عليهم قصة أهل الكهف فسلهم عن عددهم فإنهم إذا سألتهم ) سَيَقُولُونَ ). وقرأ ابن محيصن ثلاث بإدغام الثاء في التاء ، وحسن ذلك لقرب مخرجهما وكونهما مهموسين ، لأن الساكن الذي قبل الثاء من حروف اللين فحسن ذلك ، ويقولون لم يأت بالسين فيه ولا فيما بعده لأنه معطوف على المستقبل فدخل في الاستقبال ، أو لأنه أريد به معنى الاستقبال الذي هو صالح له . وقرأ شبل بن عباد عن ابن كثير بفتح ميم ) خَمْسَةٍ ( وهي لغة كعشرة . وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم وبإدغام التاء في السين ، وعنه أيضاً إدغام التنوين في السين بغير غنة .
( رَجْماً بِالْغَيْبِ ( رمياً بالشيء المغيب عنهم أو ظناً ، استعير من الرجم كأن الإنسان يرمي الموضع المجهول عنده بظنه المرة بعد المرة يرجم به عسى أن يصيب ، ومنه الترجمان وترجمة الكتاب . وقول زهير : وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجم أي المظنون ، وأتت هذه عقب ما تقدم ليدل على أن قائل تلك المقالتين لم يقولوا ذلك عن علم وإنما قالوا ذلك على سبيل التخمين والحدس ، وجاءت المقالة الثالثة خالية عن هذا القيد مشعرة أنها هي المقالة الصادقة كما تقدم ذكر ذلك عن عليّ . وعن رسول الله عن جبريل عليهما الصلاة والسلام . وانتصب ) رَجْماً ( على أنه مصدر لفعل مضمر أي يرجمون بذلك ، أو لتضمين ) سَيَقُولُونَ ( و ) يَقُولُونَ ( معنى يرجمون ، أو لكونه مفعولاً من أجله أي قالوا ذلك لرميهم بالخبر

" صفحة رقم 110 "
الخفي أو لظنهم ذلك ، أي الحامل لهم على هذا القول هو الرجم بالغيب .
و ) ثَلَاثَةً ( خبر مبتدأ محذوف ، والجملة بعده صفة أي هم ثلاثة أشخاص ، وإنما قدرنا أشخاصاً لأن ) رَّابِعُهُمْ ( اسم فاعل أضيف إلى الضمير ، والمعنى أنه ربعهم أي جعلهم أربعة وصيرهم إلى هذا العدد ، فلو قدر ) ثَلَاثَةً ( رجال استحال أن يصير ثلاثة رجال أربعة لاختلاف الجنسين ، والواو في ) وَثَامِنُهُمْ ( للعطف على الجملة السابقة أي ) يَقُولُونَ ( هم ) سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ( فأخبروا أولاً بسبعة رجال جزماً ، ثم أخبروا اخباراً ثانياً أن ) رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ( بخلاف القولين السابقين ، فإن كلاً منهما جملة واحدة وصف المحدث عنه بصفة ، ولم يعطف الجملة عليه . وذكر عن أبي بكر بن عياش وابن خالويه أنها واو الثمانية ، وأن قريشاً إذا تحدثت تقول ستة سبعة وثمانية تسعة فتدخل الواو في الثمانية ، وكونهما جملتين معطوف إحداهما على الأخرى مؤذن بالتثبيت في الإخبار بخلاف ما تقدم فإنهم أخبروا بشيء موصوف بشيء لم يتأخر عن الإخبار ، ولذلك جاء فيه ) رَجْماً بِالْغَيْبِ ( ولم يجيء في هاتين الجملتين بشيء يقدح فيهما . وقرىء وثامنهم كالبهم أي صاحب كلبهم ، وزعم بعضهم أنهم ثمانية رجال ، واستدل بهذه القراءة وأول قوله وكلبهم على حذف مضاف ، أي وصاحب كلبهم . وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله ) وَثَامِنُهُمْ ( ليس داخلاً تحت قولهم بل لقولهم هو قوله : ) وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ ( ثم أخبر تعالى بهذا على سبيل الاستئناف ، وإذا كان استئنافاً من الله دل ذلك على أنهم ثمانية بالكلب ، وأما ) رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ( و ) سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ( فهو من جملة المحكي من قولهم ، لأن كلاً من الجملتين صفة ، وإلى أن العدة ثمانية بالكلب ذهب الأكثرون من الصحابة والتابعين وأئمة التفسير .
وقال الزمخشري : فإن قلت : فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ولم دخلت عليها دون الأولتين ؟ قلت : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك : جاءني رجل ومعه آخر ، ومررت بزيد وفي يده سيف . ومنه قوله عز وعلا ) وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ( وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على اتصافه أمر ثابت مستقر ، وهي الواو التي آذنت بأن الدين قالوا ) سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ( قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم انتهى .
وكون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون ، بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلاّ إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالاً على المغايرة ، وأما إذا لم يختلف فلا يجوز العطف هذا في الأسماء المفردة ، وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها ، وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول سيبويه ، وأما ما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل هو على أن وليس باسم ولا فعل صفة لقوله لمعنى ، وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام العرب مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة . وأما قوله تعالى ) إِلاَّ وَلَهَا ( فالجملة حالية ويكفي رداً لقول الزمخشري : إنّا لا نعلم أحداً من علماء النحو ذهب إلى ذلك ، ولما أخبر تعالى عن مقالتهم واضطرابهم في عددهم أمره تعالى أن يقول ) قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم ( أي لا يخبر بعددهم إلا من يعلمهم حقيقة وهو الله تعالى ) مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ( والمثبت في حق الله تعالى هو الأعلمية وفي حق القليل العالمية فلا تعارض . قيل : من الملائكة . وقيل : من العلماء وعلم القليل لا يكون إلاّ بإعلام الله .
وقال ابن عباس : أنا من القليل ، ثم نهاه تعالى عن الجدال فيهم أي في عدتهم ، والمراء وسمي مراجعته لهم ) مِرَآء ( على سبيل المقابلة لمماراة أهل الكتاب له في ذلك ، وقيده بقوله ظاهراً أي غير متعمق فيه وهو إن نقص عليهم ما أوحي إليك فحسب من غير تجهيل

" صفحة رقم 111 "
ولا تعنيف كما قال ) وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ). وقال ابن زيد : ) مِرَآء ظَاهِرًا ( هو قولك لهم ليس كما تعلمون . وحكي الماوردي إلاّ بحجة ظاهرة . وقال ابن الأنباري : إلاّ جدال متيقن عالم بحقيقة الخبر ، والله تعالى ألقي إليك ما لا يشوبه باطل . وقال ابن بحر : ) ظَاهِراً ( يشهده الناس . وقال التبريزي : ) ظَاهِراً ( ذاهباً بحجة الخصم . وأنشد :
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
أي ذاهب ، ثم نهاه أن يسأل أحداً من أهل الكتاب عن قصتهم لا سؤال متعنت لأنه خلاف ما أمرت به من الجدال بالتي هي أحسن ، ولا سؤال مسترشد لأنه تعالى قد أرشدك بأن أوحي إليك قصتهم ،
الكهف : ( 23 ) ولا تقولن لشيء . . . . .
ثم نهاه أن يخبر بأنه يفعل في الزمن المستقبل شيئاً إلاّ ويقرن ذلك بمشيئة الله تعالى ، وتقدم في سبب النزول أنه عليه السلام حين سأله قريش عن أهل الكهف والخضر والروح قال : ( غداً أخبركم ) . ولم يقل إن شاء الله ، فتأخر عنه الوحي مدة . قيل : خمسة عشر يوماً . وقيل : أربعين و
الكهف : ( 24 ) إلا أن يشاء . . . . .
( إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( استثناء لا يمكن حمله على ظاهره لأنه يكون داخلاً تحت القول ، فيكون من ينهي عنه ، فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقدير .
فقال ابن عطية : في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسنه الإيجاز تقديره إلاّ أن تقول ) إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( أو إلاّ أن تقول إن شاء الله ، فالمعنى إلاّ أن تذكر مشيئة الله فليس ) إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( من القول الذي نهى عنه . وقال الزمخشري : ) إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( متعلق بالنهي لا بقوله ) إِنّى فَاعِلٌ ( لأنه لو قال ) إِنّى فَاعِلٌ ( كذا ) إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( كان معناه إلاّ أن تعترض مشيئة الله دون فعله ، وذلك ما لا مدخل فيه للنهي وتعلقه بالنهي على وجهين .
أحدهما : ولا تقولنّ ذلك القول إلاّ أن يشاء الله أن تقوله بأن ذلك فيه .
والثاني : ولا تقولنه إلاّ بأن يشاء الله أي إلاّ بمشيئته وهو في موضع الحال ، أي إلاّ ملتبساً بمشيئة الله قائلاً إن شاء الله . وفيه وجه ثالث وهو أن يكون إلاّ أن يشاء الله في معنى كلمة ثانية كأنه قيل : ولا تقولنه أبداً ونحوه ) وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّنَا ( لأن عودهم في ملتهم مما لن يشاء الله ، وهذا نهي تأديب من الله لنبيه حين قال : ( ائتوني غداً أخبركم ) . ولم يستثن انتهى .
قال ابن عطية : وقالت فرقة هو استثناء من قوله ) وَلاَ تَقْولَنَّ ( وحكاه الطبري ، ورد عليه وهو من الفساد من حيث كان الواجب أن لا يحكي انتهى . وتقدم تخريج الزمخشري : ذلك على أن يكون متعلقاً بالنهي ، وتكلم المفسرون في هذه الآية في الاستثناء في اليمين ، وليست الآية في الإيمان والظاهر أمره تعالى بذكر الله إذا عرض له نسيان ، ومتعلق النيسان غير متعلق الذكر . فقيل : التقدير ) وَاذْكُر رَّبَّكَ ( إذا تركت بعض ما أمرك به . وقيل واذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسيّ ، وقد حمل قتادة ذلك على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها . وقيل : ) وَاذْكُر رَّبَّكَ ( بالتسبيح والاستغفار ) إِذَا نَسِيتَ ( كلمة الاستثناء تشديداً في البعث على الاهتمام بها . وقيل : ) وَاذْكُرْ ( مشيئة ) رَبَّكَ ( إذا فرط منك نسيان لذلك أي ) إِذَا نَسِيتَ ( كلمة الاستثناء ثم تنبهت لها ، فتداركتها بالذكر قاله ابن جبير . قال : ولو بعد يوم أو شهر أو سنة . وقال ابن الأنباري : بعد تقضي النسيان كما تقول : اذكر لعبد الله إذا صلى صاحبك أي إذا قضى الصلاة .
والإشارة بقوله لأقرب من هذا إلى الشيء المنسي أي ) اذْكُرْ رَبَّكَ ( عند نسيانه بأن تقول ) عَسَى أَن يَهْدِيَنِى رَبّى ( لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه

" صفحة رقم 112 "
) رَشَدًا ( وأدنى خيراً أو منفعة ، ولعل النسيان كان خيرة كقوله ) أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا ). وقال الزمخشري : وهذا إشارة إلى بناء أهل الكهف ، ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والحجج على أني نبيّ صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من بناء أصحاب الكهف ، وقد فعل ذلك حيث آتاد من قصص الأنبياء والأخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأدل انتهى . وهذا تقدمه إليه الزجاج قال المعنى : ) عَسَى ( أن ييسر الله من الأدلة على نبوّتي أقرب من دليل أصحاب الكهف . . وقال ابن الأنباري : ) عَسَى ( أن يعرفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد . وقال محمد الكوفي المفسر : هي بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن وإنها كفارة لنسيان الاستثناء .
( وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا وَاتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ).
الكهف : ( 25 ) ولبثوا في كهفهم . . . . .
الظاهر أن قوله ) وَلَبِثُواْ ( الآية إخبار من الله تعالى بمدة لبثهم نياماً في الكهف إلى أن أطلع الله عليهم . قال مجاهد : وهو بيان لمجمل قوله تعالى ) فَضَرَبْنَا عَلَىءاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ( ولما تحرر هذا العدد بإخبار من الله تعالى أمر نبيه أن يقول ) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ( فخبره هذا هو الحق والصدق الذي لا يدخله ريب ، لأنه عالم ) غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ ( والظاهر أن قوله ) بِمَا لَبِثُواْ ( إشارة إلى المدة السابق ذكرها . وقال بعضهم : ) بِمَا لَبِثُواْ ( إشارة إلى المدة التي بعد الإطلاع عليهم إلى مدة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : لما قال ) وَازْدَادُواْ تِسْعًا ( كانت التسعة منبهمة هي الساعات والأيام والشهور والأعوام ، واختلفت بنو إسرائيل بحسب ذلك فأمره تعالى برد العلم إليه يعني في التسع وهذا بعيد لأنه إذا سبق عدد مفسر وعطف عليه ما لم يفسر حمل تفسيره على السابق . وحكى النقاش أنها ثلاثمائة شمسية ، ولما كان الخطاب للعرب زيدت التسع إذ حساب العرب هو بالقمر لاتفاق الحسابين . وقال قتادة ومطر الورّاق : ) لَبِثُواْ ( إخبار من بني إسرائيل ، واحتجوا بما في مصحف عبد الله وقالوا ) لَبِثُواْ ( وعلى غير قراءة عبد الله يكون معطوفاً على المحكي بقوله ) سَيَقُولُونَ ).
ثم أمر الله نبيه أن يرد العلم إليه ) بِمَا لَبِثُواْ ( ردّاً عليهم وتفنيداً لمقالتهم . قيل : هو من قول المتنازعين في أمرهم وهو الصحيح على مقتضى سياق الآية ، ويؤيده ) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ( جعل ذلك من الغيوب التي هو تعالى مختص بها . وقرأ الجمهور : مائة بالتنوين . قال ابن عطية : على البدل أو عطف البيان . وقيل : على التفسير والتمييز . وقال الزمخشري : عطف بيان لثلاثمائة . وحكي أبو البقاء أن قوماً أجازوا أن يكون بدلاً من مائة لأن مائة في معنى مئات ، فأما عطف البيان فلا يجوز على مذهب البصريين ، وأما نصبه على التمييز فالمحفوظ من لسان العرب المشهور أن مائة لا يفسر إلاّ بمفرد مجرور ، وإن قوله إذا عاش الفتى مائتين عاماً من الضرورات ولا سيما وقد انضاف إلى ذلك كون ) سِنِينَ ( جمعاً . وقرأ حمزة والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش والحسن وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي مائة بغير تنوين مضافاً إلى ) سِنِينَ ( أوقع الجمع موقع المفرد ، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة ولا يجوز له ذلك . وقال أبو عليّ : هذه تضاف في المشهور إلى المفرد ، وقد تضاف إلى الجمع . وقرأ أبي سنة وكذا في مصحف عبد الله . وقرأ الضحاك : سنون بالواو على إضمار هي سنون . وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه ) تِسْعًا ( بفتح التاء كما قالوا عشر .
الكهف : ( 26 ) قل الله أعلم . . . . .
ثم ذكر اختصاصه بما غاب في السموات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها ، وجاء بما دل على التعجب من إدراكه للمسموعات والمبصرات للدّلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين ، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها كما يدرك أكبرها حجماً وأكثفها جرماً ، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر والضمير في ) بِهِ ( عائد على

" صفحة رقم 113 "
الله تعالى ، وهل هو في موضع رفع أو نصب وهل ) أَسْمِعْ ( و ) أَبْصَارُ ( أمران حقيقة أم أمران لفظاً معناهما إنشاء التعجب في ذلك خلاف مقرر في النحو . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى ) أَبْصَارُ ( بدين الله ) وَاسْمَعْ ( أي بصر بهدي الله وسمع فترجع الهاء إما على الهدى إما على الله ذكره ابن الأنباري . وقرأ عيسى : أسمع به وأبصر على الخبر فعلاً ماضياً لا على التعجب ، أي ) أَبْصَارُ ( عباده بمعرفته وأسمعهم ، والهاء كناية عن الله تعالى .
والضمير في قوله ) مَّا لَهُم ( قال الزمخشري : لأهل السموات والأرض من ) وَلِيُّ ( متول لأمورهم ) وَلاَ يُشْرِكْ ( قضائه ) أَحَدًا ( منهم . وقيل : يحتمل أن يعود على أصحاب الكهف أي هذه قدرته وحده . ولم يوالهم غيره يتلطف بهم ولا أشرك معه أحداً في هذا الحكم . ويحتمل أن يعود على معاصري الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الكفارة ومشاقيه ، وتكون الآية اعتراضاً بتهديد قاله ابن عطية . وقيل : يحتمل أن يعود على مؤمني أهل السموات والأرض أي لن يتخذ من دونه ولياً . وقيل : يعود على المختلفين في مدة لبثهم أي ليس لهم من دون الله من يتولى تدبيرهم ، فكيف يكونون أعلم منه ؟ أو كيف يعلمون من غير إعلامه إياهم ؟ وقرأ الجمهور : ) وَلاَ يُشْرِكْ ( بالياء على النفي . وقرأ مجاهد بالياء والجزم . قال يعقوب : لا أعرف وجهه . وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو حيوة وزيد وحميد ابن الوزير عن يعقوب والجعفي واللؤلؤي عن أبي بكر : ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي .
الكهف : ( 27 ) واتل ما أوحي . . . . .
ولما أنزل عليه ما أنزل من قصة أهل الكهف أمره بأن يقص ويتلو على معاصريه ما أوحي إليه تعالى من كتابه في قصة أهل الكهف وفي غيرهم ، وأن ما أوحاه إليه ) لاَ مُبَدّلَ ( له و ) لاَ مُبَدّلَ ( عام و ) لِكَلِمَاتِهِ ( عام أيضاً فالتخصيص إما في ) لاَ مُبَدّلَ ( أي لا مبدل له سواه ، ألا ترى إلى قوله ) وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ ( وإما في كلماته أي ) لِكَلِمَاتِهِ ( المتضمنة الخبر لأن ما تضمن غير الخبر وقع النسخ في بعضه ، وفي أمره تعالى أن يتلو ما أوحي إليه وإخباره أنه لا مبدّل ) لِكَلِمَاتِهِ ( إشارة إلى تبديل المتنازعين في أهل الكهف ، وتحريف أخبارهم والملتحد الملتجأ الذي تميل إليه وتعدل .
الكهف : ( 28 ) واصبر نفسك مع . . . . .
( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلاَ ).
قال كفار قريش لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ، يعنون عماراً وصهيباً وسلمان وابن مسعود وبلالاً ونحوهم من الفقراء ، وقالوا : إن ريح جبابهم تؤذينا ، فنزلت ) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ( الآية ، وعن سلمان أن قائل ذلك عيينة بن حصن والأقرع وذووهم من المؤلفة فنزلت ، فالآية على هذا مدنية والأول أصح لأن السورة مكية ، وفعل المؤلفة فعل قريش فردّ بالآية عليهم ) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ( أي أحبسها وثبتها . قال أبو ذؤيب : فصبرت عارفة لذلك حرة
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان أي حبسه للرمي ، و ) مَّعَ ( تقتضي الصحبة والموافقة والأمر بالصبر هنا يظهر منه كبير اعتناء بهؤلاء الذين أمر أن يصبر نفسه معهم . وهي أبلغ من التي في الأنعام ) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ( الآية . وقال ابن عمر ومجاهد وإبراهيم : ) بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ ( إشارة إلى الصلوات الخمس . وقال قتادة : إلى صلاة الفجر وصلاة العصر ، وقد يقال : إن ذلك يراد به العموم أي ) يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ( دائماً ، ويكون مثل : ضرب زيد الظهر

" صفحة رقم 114 "
والبطن يريد جميع بدنه لا خصوص المدلول بالوضع . وتقدّم الكلام على قوله ) بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ ( قراءة وإعراباً في الأنعام .
( وَلاَ تَعْدُ ( أي لا تصرف ) عَيْنَاكَ ( النظر عنهم إلى أبناء الدنيا ، وعدا متعد تقول : عدا فلان طوره وجاء القوم عداً زيداً ، فلذلك قدرنا المفعول محذوفاً ليبقى الفعل على أصله من التعدية . وقال الزمخشري : وإنما عدَّي بعن لتضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك : نبت عنه عينه ، وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به . فإن قلت : أي غرض في هذا التضمين ؟ وهلا قيل ولا تعدهم عيناك أو ) وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ). قلت : الغرض فيه إعطاء مجموع معنين . وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ، ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك ولا تقتحمهم عيناك مجاوزين إلى غيرهم ونحو قوله ) وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ ( أي ولا تضموها إليها آكلين لها انتهى . وما ذكره من التضمين لا ينقاس عند البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة ، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى . وقرأ الحسن : ) وَلاَ تَعْدُ ( من أعدى ، وعنه أيضاً وعن عيسى والأعمش ) وَلاَ تَعْدُ ). قال الزمخشري : نقلاباً بالهمزة وبنقل الحشو ومنه قوله .
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له
لأن معناه فعد همك عما ترى انتهى . وكذا قال صاحب اللوامح . قال : وهذا مما عديته بالتضعيف كما كان في الأولى بالهمز ، وما ذهبا إليه ليس بجيد بل الهمزة والتكثير في هذه الكلمة ليسا للتعدية وإنما ذلك لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد ، وإنما قلنا ذلك لأنه إذا كان مجرداً متعد وقد أقر بذلك الزمخشري فإنه قال : يقال عداه إذا جاوزه ، ثم قال : وإنما عدّي بعن للتضمين والمستعمل في التضمين هو مجاز ولا يتسعون فيه إذا ضمنوه فيعدونه بالهمزة أو التضعيف ، ولو عدِّي بهما وهو متعد لتعدي إلى اثنين وهو في هذه القراءة ناصب مفعولاً واحداً ، فدل على أنه ليس معدى بهما .
وقال الزمخشري : ) تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( في موضع الحال انتهى . وقال صاحب الحال : إن قدر ) عَيْنَاكَ ( فكان يكون التركيب تريدان ، وإن قدر الكاف فمجيء الحال من المجرور بالإضافة مثل هذا فيها إشكال لاختلاف العامل في الحال وذي الحال ، وقد أجاز ذلك بعضهم إذا كان المضاف جزأً أو كالجزء ، وحسن ذلك هنا أن المقصود نهيه عليه الصلاة والسلام عن الإعراض عنهم والميل إلى غيرهم ، وإنما جيء بقوله ) عَيْنَاكَ ( والمقصود هو لأنهما بهما تكون المراعاة للشخص والتلفت له ، والمعنى ) وَلاَ تَعْدُ ( أنت ) عَنْهُمْ ( النظر إلى غيرهم .
وقال الزمخشري : ) مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ ( من جعلنا قلبه غافلاً عن الذكر بالخذلان أو وجدناه غافلاً عنه كقولك : أجبنته وأفحمته وأبحلته إذا وجدته كذلك ، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بالذكر ، ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله ) وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ( انتهى . وهذا على مذهب المعتزلة ، والتأويل الآخر تأويل الرماني وكان معتزلياً قال : لم نسمه بما نسم به قلوب المؤمنين بما يبين به ، فلاحهم كما قال : كتب في قلوبهم الإيمان من قولهم بعير غفل لم يكن عليه سمة ، وكتاب غفل لم يكن عليه إعجام ، وأما أهل السنة فيقولون : إن الله تعالى أغفله حقيقة وهو خالق الضلال فيه والغفلة . وقال المفضل : أخليناه عن الذكر وهو القرآن . وقال ابن جريج : شغلنا قلبه بالكفر وغلبة الشقاء ، والظاهر أن المراد بمن ) أَغْفَلْنَا ( كفار قريش . وقيل : عيينة والأقرع والأول أولى لأن الآية مكية .
وقرأ عمر بن فائد وموسى الأسواري وعمرو بن عبيد ) أَغْفَلْنَا ( بفتح اللام ) قَلْبَهُ ( بضم الباء أسند الأفعال إلى القلب . قال ابن جنيِّ من ظننا غافلين عنه .

" صفحة رقم 115 "
وقال الزمخشري : حسبنا قلبه غافلين من أغفلته إذا وجدته غافلاً انتهى . ) وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ( في طلب الشهوات ) وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ). قال قتادة ومجاهد : ضياعاً . وقال مقاتل بن حيان : سرفاً . وقال الفرّاء : متروكاً . وقال الأخفش : مجاوزاً للحد . قيل : وهو قول عتبة إن أسلمنا أسلم الناس . وقال ابن بحر : الفرط العاجل السريع ، كما قال ) وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً ). وقيل : ندماً . وقيل : باطلاً . وقال ابن زيد : مخالفاً للحق . وقال ابن عطية : الفرط يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع ، أي أمره الذي يجب أن يلزم ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف أي ) أَمَرَهُ ( و ) هَوَاهُ ( الذي هو بسبيله انتهى .
الكهف : ( 29 ) وقل الحق من . . . . .
و ) الْحَقّ ( يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فقدره ابن عطية هذا ) الْحَقّ ( أي هذا القرآن أو هذا الإعراض عنكم وترك الطاعة لكم وصبر النفس مع المؤمنين . وقال الزمخشري : ) الْحَقّ ( خبر مبتدأ محذوف والمعنى جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلاّ اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك ، وجيء بلفظ الأمر والتخيير لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين انتهى . وهو على طريق المعتزلة ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ) مّن رَّبّكُمْ ). قال الضحاك : هو التوحيد . وقال مقاتل : هو القرآن . وقال مكي : أي الهدى والتوفيق والخذلان من عند الله يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ، ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إليّ من ذلك شيء . وقال الكرماني : أي الإسلام والقرآن ، وهذا الذي لفظه لفظ الأمر معناه التهديد والوعيد ولذلك عقبه بقوله : ) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ ( قال معناه ابن عباس . وقال السدّي : هو منسوخ بقوله ) وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( وهذا قول ضعيف ، والظاهر أن الفاعل بشاء عائد على ) مِنْ ).
وعن ابن عباس من شاء الله له بالإيمان آمن ، ومن لا فلا انتهى . وحكي ابن عطية عن فرقة أن الضمير في ) شَاء ( عائد على الله تعالى ، وكأنه لما كان الإيمان والكفر تابعين لمشيئة الله جاء بصيغة الأمر حتى كأنه تحتم وقوعه مأمور به مطلوب منه . وقرأ أبو السمال قعنب وقلَ الحق بفتح اللام حيث وقع . قال أبو حاتم : وذلك رديء في العربية انتهى . وعنه أيضاً ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف . وقرأ أيضاً ) الْحَقّ ( بالنصب . قال صاحب اللوامح : هو على صفة المصدر المقدر لأن الفعل يدل على مصدره وإن لم يذكر فينصبه معرفة كنصبه إياه نكرة ، وتقديره ) وَقُلْ ( القول ) الْحَقّ ( وتعلق ) مِنْ ( بمضمر على ذلك مثل هو إرجاء والله أعلم . وقرأ الحسن وعيسى الثقفي بكسر لامي الأمر .
ولما تقدم الإيمان والكفر أعقب بما أعد لهما فذكر ما أعد للكافرين يلي قوله ) فَلْيَكْفُرْ ( وأتى بعد ذلك بما أعد للمؤمنين ، ولما كان الكلام مع الكفار وفي سياق ما طلبوا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) كانت البداءة بما أعد لهم أهم وآكد ، وهما طريقان للعرب هذه الطريق والأخرى أنه يجعل الأول في التقسيم للأول في الذكر ، والثاني للثاني . والسرادق قال ابن عباس : حائط من نار محيط بهم . وحكي أقضى القضاة الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا . وحكي الكلبي : أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار . وقيل : دخان ) وَإِن يَسْتَغِيثُواْ ( يطلبوا الغوث مما حل بهم من النار وشدة إحراقها واشتداد عطشهم ) يُغَاثُواْ ( على سبيل المقابلة وإلاّ فليست إغاثة . وروي في الحديث أنه عكر الزيت إذا قرب منه سقطت فروة وجهه فيه . وقال ابن عباس : ماء غليظ مثل دردي الزيت . وعن مجاهد أنه القيح والدم الأسود . وعن ابن جبير : كل شيء ذائب قد انتهى حرّه . وذكر ابن الأنباري أنه الصديد . وعن الحسن أنه الرماد الذي ينفط إذا خرج من التنور . وقيل : ضرب من القطران .
و ) يَشْوِى ( في موضع الصفة لماء أو في موضع الحال منه لأنه قد وصف فحسن مجيء الحال منه ، وإنما اختص ) الْوجُوهَ ( لكونها عند شربهم يقرب حرّها من وجوههم . وقيل : عبر

" صفحة رقم 116 "
بالوجوه عن جميع أبدانهم ، والمعنى أنه ينضج به جميع جلودهم كقوله ) كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ( والمخصوص بالذم محذوف تقديره ) بِئْسَ الشَّرَابُ ( هو أي الماء الذي يغاثون به . والضمير في ) سَاءتْ ( عائد على النار . والمرتفق قال ابن عباس : المنزل . وقال عطاء : المقر . وقال القتبي : المجلس . وقال مجاهد : المجتمع ، وأنكر الطبري أن يعرف لقول مجاهد معنى ، وليس كذلك كان مجاهداً ذهب إلى معنى الرفاقة ومنه الرفقة . وقال أبو عبيدة : المتكأ . وقال الزجاج : المتكأ على المرفق ، وأخذه الزمخشري فقال : متكأ من المرفق وهذا لمشاكلة قوله ) وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ( وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء . وقال ابن الأنباري : ساءت مطلباً للرفق ، لأن من طلب رفقاً من جهنم عدمه . وقال ابن عطية : قريباً من قول ابن الأنباري . قال : والأظهر عندي أن يكون المرتفق بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره . وقال أبو عبد الله الرازي : والمعنى بئس الرفقاء هؤلاء ، وبئس موضع الترافق النار .
2 (
الكهف : ( 30 ) إن الذين آمنوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَائِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاٌّ رَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ( ) ) 2
) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ ).
لما ذكر تعالى حال أهل الكفر وما أعد لهم في النار ذكر حال أهل الإيمان وما أعد لهم في الجنة ، وخبر ) ءانٍ ( يحتمل أن تكون الجملة من قوله أولئك لهم . وقوله ) إِنَّا لاَ نُضِيعُ ( الجملة اعتراض . قال ابن عطية : ونحو هذا من الاعتراض قول الشاعر : إن الخليفة إن الله ألبسه
سربال ملك به ترجى الخواتيم
انتهى ، ولا يتعين في قوله إن الله ألبسه أن يكون اعتراضاً هي اسم إن وخبرها الذي هو ترجى الخواتيم ، يجوز أن يكون إن الله ألبسه هو الخبر ، ويحتمل أن يكون الخبر قوله ) إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ( والعائد محذوف تقديره ) مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ( منهم . أو هو قوله ) مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ( على مذهب الأخفش في ربطه الجملة بالاسم إذا كان هو المبتدأ في المعنى ، لأن ) مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ( هم ) الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( فكأنه قال : إنّا لا نضيع أجرهم ، ويحتمل أن تكون الجملتان خبرين لأن على مذهب من يقتضي المبتدأ خبرين فصاعداً من غير شرط أن يكونا ، أو يكن في معنى خبر . واحد .
وإذا كان خبر ) ءانٍ ( قوله ) إِنَّا لاَ نُضِيعُ ( كان قوله ) أُوْلَائِكَ ( استئناف أخبار موضح لما انبهم في قوله ) إِنَّا لاَ نُضِيعُ ( من مبهم الجزاء . وقرأ عيسى الثقفي ) لاَ نُضِيعُ ( من ضيع عداه بالتضعيف ، والجمهور من أضاع عدوّه بالهمزة ،
الكهف : ( 31 ) أولئك لهم جنات . . . . .
ولما ذكر مكان أهل الكفر وهو النار . ذكر مكان أهل الإيمان وهي ) جَنَّاتِ عَدْنٍ ( ولما ذكر هناك ما يغاثون به وهو الماء كالمهل ذكر هنا ما خص به أهل الجنة من كون الأنهار تجري من تحتهم ، ثم ذكر ما أنعم عليهم من التحلية واللباس اللذين هما زينة ظاهرة . وقال سعيد بن جبير : يحلى كل واحد ثلاثة أساور سوار من ذهب ، وسوار من فضة ، وسوار من لؤلؤ ويواقيت .
وقال الزمخشري : و ) مِنْ ( الأول للابتداء والثانية للتبيين ، وتنكير ) أَسَاوِرَ ( لإبهام أمرها في الحسن انتهى . ويحتمل أن تكون ) مِنْ ( في قوله ) مّن ذَهَبٍ ( للتبعيض لا للتبيين . وقرأ أبان عن عاصم من اسورة من غير ألف وبزيادة هاء وهو جمع سوار . وقرأ أيضاً أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر : ) وَيَلْبَسُونَ ( بكسر الباء . وقرأ ابن محيصن ) وَإِسْتَبْرَقٍ ( بوصل الألف وفتح القاف حيث وقع جعله فعلاً ماضياً على وزن استفعل من البريق ، ويكون استفعل فيه موافقاً للمجرد الذي هو برق كما تقول : قر واستقر بفتح القاف ذكره الأهوازي في الإقناع عن ابن محيصن . قال ابن محيصن . وحده : ) وَإِسْتَبْرَقٍ ( بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه

" صفحة رقم 117 "
انتهى . فظاهره أنه ليس فعلاً ماضياً بل هو اسم ممنوع الصرف . وقال ابن خالويه : جعله استفعل من البريق ابن محيصن فظاهره أنه فعل ماض وخالفهما صاحب اللوامح . قال ابن محيصن : ) وَإِسْتَبْرَقٍ ( بوصل الهمزة في جميع القرآن فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفاً على غير قياس ، ويجوز أنه جعله عربيا من برق يبرق بريقاً . وذلك إذا تلالأ الثوب لجدته ونضارته ، فيكون وزنه استفعل من ذلك فلما تسمى به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ، ومعاملة المتمكنة من الأسماء في الصرف والتنوين ، وأكثر التفاسير على أنه عربي وليس بمستعرب دخل في كلامهم فأعربوه انتهى .
ويمكن أن يكون القولان روايتين عنه فتح القاف وصرفه التنوين ، وذكر أبو الفتح بن جنيّ قراءة فتح القاف ، وقال : هذا سهو أو كالسهو انتهى . وإنما قال ذلك لأنه جعله اسماً ومنعه من الصرف لا يجوز لأنه غير علم ، وقد أمكن جعله فعلاً ماضياً فلا تكون هذه القراءة سهواً . قال الزمخشري : وجمع السندس وهو مارقَّ من الديباج ، وبين الاستبرق وهو الغليظ منه جمعاً بين النوعين ، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب ، وفي القيمة أغلى ، وفي العين أحلى ، وبناء فعله للمفعول الذي لم يسم فاعله إشعاراً بأنهم يكرمون بذلك ولا يتعاطون ذلك بأنفسهم كما قال الشاعر : غرائر في كن وصون ونعمة
تحلين ياقوتاً وشذراً مفقراً
وأسند اللباس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصاً لو كان بادي العورة ، ووصف الثياب بالخضرة لأنها أحسن الألوان والنفس تنبسط لها أكثر من غيرها ، وقد روي في ذلك أثر إنها تزيد في ضوء البصر وقال بعض الأدباء : أربعة مذهبة لكل هم وحزن
الماء والخضرة والبستان والوجه الحسن
وخص الاتكاء لأنها هيئة المنعمين والملوك على أسرتهم . وقرأ ابن محيصن : ) عَلَى الاْرَائِكِ ( بنقل الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام على ) فِيهَا ( فتنحذف ألف ) عَلَى ( لتوهم سكون لام التعريف والنطق به علرائك ومثله قول الشاعر : فما أصبحت علرض نفس برية
ولا غيرها إلاّ سليمان بالها
يريد على الأرض ، والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم الثواب ما وعدوا به ، والضمير في ) حَسُنَتْ ( عائد على الجنات .
2 ( ) وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لاًّحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا وَلَوْلاإِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا فعسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ( )

" صفحة رقم 118 "
الكهف : ( 32 ) واضرب لهم مثلا . . . . .
حفه : طاف به من جوانبه . قال الشاعر : يحفه جانباً نيق ويتبعه
مثل الزجاجة لم يكحل من الرمد وحففته به : جعلته مطيفاً به ، وحف به القوم صاروا في حفته ، وهي جوانبه . كلتا : اسم مفرد اللفظ عند البصريين مثنى المعنى . ومثنى لفظاً ، ومعنى عند البغداديين وتاؤه عند البصريين غير الجرمي بدل من واو فاصله كلوى ، والألف فيه للتأنيث وزائدة عند الجرمي ، والألف منقلبة عن أصلها ووزنها عنده فعيل . المحاورة : مراجعة الكلام من حار إذا رجع . البيدودة الهلاك ، ويقال منه : باد يبيد بيوداً وبيدودة . قال الشاعر :
فلئن باد أهله
لبما كان يوهل
النطفة القليل من الماء ، يقال ما في القربة من الماء نطفة ، المعنى ليس فيها قليل ولا كثير ، وسمِّي المني نطفة لأنه ينطف أي يقطر قطرة بعد قطرة . وفي الحديث : جاء ورأسه ينطف ماء أي يقطر . الحسبان في اللغة الحساب ، ويأتي أقوال أهل التفسير فيه . الزلق : ما لا يثبت فيه القدم من الأرض .
( وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا هُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً ).
قيل نزلت في أخوين من بني مخزوم الأسود بن عبد الأسود بن عبد ياليل وكان كافراً ، وأبي سلمة عبد الله بن الأسود كان مؤمناً . وقيل : أخوان من بني إسرائيل فرطوس وهو الكافر وقيل : اسمه قطفير ، ويهوذاً وهو المؤمن في قول ابن عباس . وقال مقاتل : اسمه تمليخاً وهو المذكور في الصافات في قوله ) قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ ( وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل الله وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله . وعن مكي أنهما رجلان من بني إسرائيل اشتركاً في مال كافر ستة آلاف فاقتسماها . وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالاً . وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار ، فاشترى الكافر أرضاً بألف وبني داراً بألف وتزوج امرأة بألف واشترى خدماً ومتاعاً بألف ، واشترى المؤمن أرضاً في الجنة بألف فتصدق به ، وجعل ألفاً صداقاً للحور فتصدق به ، واشترى الولدان المخلدين بألف فتصدق به ، ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقة فمر في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصديق بماله .
والضمير في ) لَهُمْ ( عائد على المتجبرين الطالبين من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) طرد الضعفاء المؤمنين ، فالرجل الكافر بإزاء المتجبرين والرجل المؤمن بإزاء ضعفاء المؤمنين ، وظهر بضرب هذا المثل الربط بين هذه الآية والتي قبلها إذ كان من أشرك إنما افتخر بماله وأنصاره ، وهذا قد يزول فيصير الغني فقيراً ، وإنما المفاخرة بطاعة الله والتقدير ) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً ( قصة ) رَّجُلَيْنِ ( وجعلنا تفسير للمثل فلا موضع له من الإعراب ، ويجوز أن يكون موضعه نصباً نعتاً لرجلين . وأبهم في قوله ) جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا ( وتبين أنه هو الكافر الشاك في البعث ، وأبهم تعالى مكان الجنتين إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة . وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين وكانتا لأخوين ، فباع أحدهما نصيبه من الآخر وأنفقه في طاعة الله حتى عيره الآخر ، وجرت بينهما هذه المحاورة قال : فغرقها الله في ليلة وإياهما عنى بهذه الآية . قال ابن عطية : وتأمل هذه الهيئة التي ذكر الله فإن المرء لا يكاد يتخيل أجل منهما في مكاسب الناس جنتا عنب أحاط بهما نخل بينهما

" صفحة رقم 119 "
فسحة هي مزدرع لجميع الحبوب والماء المعين ، يسقي جيمع ذلك من النهر .
وقال الزمخشري : ) جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ ( بساتين من كروم ، ( وَحَفَفْنَاهُمَا ( ) بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا ( النخل محيطاً بالجنتين ، وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة انتهى .
الكهف : ( 33 ) كلتا الجنتين آتت . . . . .
وقرأ الجمهور ) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ( وفي مصحف عبد الله كلا الجنتين ، أتى بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي ، ثم قرأ ) اتَتْ ( فأنث لأنه ضمير مؤنث ، فصار نظير قولهم طلع الشمس وأشرقت . وقال الفراء في قراءة ابن مسعود : كل الجنتين آتى أكله انتهى فأعاد الضمير على كل . وقال الزمخشري : جعلها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه ، ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينهما مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق ، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص ثم بما هو أصل الخير ومادته من أمر الشرب ، فجعله أفضل ما يسقي به وهو السيح بالنهر الجاري فيها والأكل الثمر .
وقرأ الجمهور ) وَفَجَّرْنَا ( بتشديد الجيم . وقال الفراء : إنما شدد ) وَفَجَّرْنَا ( وهو نهر واحد لأن النهر يمتد فكان التفجر فيه كله أعلم الله تعالى أن شربهما كان من نهر واحد وهو أغزر الشرب . وقرأ الأعمش وسلام ويعقوب وعيسى بن عمر بتخفيف الجيم وكذا قرأ الأعمش في سورة القمر ، والتشديد في سورة القمر أظهر لقوله ) عُيُوناً ( وقوله هنا ) نَهَراً ( وانتصب ) خِلَالَهُمَا ( على الظرف أي وسطهما ، كان النهر يجري من داخل الجنتين . وقرأ الجمهور ) نَهَراً ( بفتح الهاء . وقرأ أبو السمال والفياض بن غزوان وطلحة بن سليمان بسكون الهاء .
الكهف : ( 34 ) وكان له ثمر . . . . .
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير ونافع وجماعة قراء المدينة : ) ثَمَرٌ ( وبثمره بضم الثاء والميم جمع ثمار . وقرأ الأعمش وأبو رجاء وأبو عمرو بإسكان الميم فيهما تخفيفاً أو جمع ثمرة كبدنة وبدن . وقرأ أبو جعفر والحسن وجابر بن زيد والحجاج وعاصم وأبو حاتم ويعقوب عن رويس عنه بفتح الثاء والميم فيهما . وقرأ رويس عن يعقوب ) ثَمَرٌ ( بضمهما وبثمره بفتحهما فيمن قرأ بالضم . قال ابن عباس وقتادة الثمر جميع المال من الذهب والحيوان وغير ذلك . وقال النابغة : مهلاً فداء لك الأقوام كلهم
وما أثمروا من مال ومن ولد وقال مجاهد : يراد بها الذهب والفضة خاصة . وقال ابن زيد : هي الأصول فيها الثمر . وقال أبو عمرو ابن العلاء : الثمر المال ، فعلى هذا المعنى أنه كانت له إلى الجنتين أموال كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما ، فكان متمكناً من عمارة الجنتين . وأما من قرأ بالفتح فلا إشكال أنه يعني به حمل الشجر . وقرأ أبو رجاء في رواية ) ثَمَرٌ ( بفتح الثاء وسكون الميم ، وفي مصحف أبيّ وآتيناه ثمراً كثيراً ، وينبغي أن يجعل تفسيراً .
ويظهر من قوله ) فَقَالَ لَصَاحِبِهِ ( أنه ليس أخاه ، ( وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ( جملة حالية ، والظاهر أن ذا الحال هو القائل أي يراجعه الكلام في إنكاره البعث ، وفي إشراكه بالله . وقيل : هي حال من صاحبه أي المسلم كان يحاوره بالوعظ والدعاء إلى الله وإلى الإيمان بالبعث ، والظاهر كون أفعل للتفضيل وأن صاحبه كان له مال ونفر ولم يكن سبروتاً كما ذكر أهل التاريخ ، وأنه جاء يستعطيه ويدل على ذلك كونه

" صفحة رقم 120 "
قابله بقوله ) إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا ( وهذا على عادة الكفار في الافتخار بكثرة المال وعزة العشيرة والتكبير والاغترار بما نالوه من حطام الدنيا ، ومقالته تلك لصاحبه بإزاء مقالة عيينة والأقرع للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : نحن سادات العرب وأهل الوبر والمدر ، فنح عنا سلمان وقرناءه .
وعنى بالنفر أنصاره وحشمه . وقيل : أولاداً ذكوراً لأنهم ينفرون معه دون الإناث ، واستدل على أنه لم يكن أخاه بقوله : ) وَأَعَزُّ نَفَراً ( إذ لو كان أخاه لكان نفره وعشيرته نفر أخيه وعشيرته ، وعلى التفسيرين السابقين لا يرد هذا . أما من فسر النفر بالعشيرة التي هي مشتركة بينهما فيرد ،
الكهف : ( 35 ) ودخل جنته وهو . . . . .
وأفرد الجنة في قوله ) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ( من حيث الوجود كذلك لأنه لا يدخلهما معاً في وقت واحد .
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أفرد الجنة بعد التثنية ؟ قلت : معناه ودخل ما هو جنته ماله جنة غيرها ، يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما انتهى .
ولا يتصور ما قال لأن قوله ودخل جنته إخبار من الله تعالى بدخول ذلك الكافر جنته فلا بد أن قصد في الإخبار أنه دخل إحدى جنتيه إذ لا يمكن أن يدخلهما معاً في وقت واحد ، والمعنى ) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ( يري صاحبه ما هي عليه من البهجة والنضارة والحسن . ) وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( جملة حالية أي وهو كافر بنعمة ربه مغتر بما ملكه شاك في نفاد ما خوله . وفي البعث الذي حاوره فيه صاحبه ، والظاهر أن الإشارة بقوله ) هَاذِهِ ( إلى الجنة التي دخلها ، وعنى بالأبد أبد حياته وذلك لطول أمله وتمادي غفلته ، ولحسن قيامه عليها بما أوتي من المال والخدم فهي باقية مدة حياته على حالها من الحسن والنضارة ، والحس يقتضي أن أحوال الدنيا بأسرها غير باقية أو يكون قائلاً بقدم العالم ، وأن ما حوته هذه الجنة فنيت أشخاص أثمارها فتخلفها أشخاص أخر ، وكذا دائماً . ويبعد قول من قال : يحتمل أن يشير بهذه إلى الهيئة من السموات والأرض وأنواع المخلوقات ،
الكهف : ( 36 ) وما أظن الساعة . . . . .
ودل كلامه على أن المحاورة التي كانت بينهما هي في فناء هذا العالم الذي هذه الجنة جزء منه ، وفي البعث الآخروي أن صاحبه كان تقرر له هذان الأمران وهو يشك فيهما .
ثم أقسم على أنه إن رد إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وقياس الأخرى على الدنيا وكما يزعم صاحبه ليجدن في الآخرة خيراً من جنته في الدنيا تطمعاً ، وتمنياً على الله ، وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده ، وأنه ما أولاه الجنتين في الدنيا إلاّ لاستحقاقه ، وأن معه هذا الاستحقاق أين توجه كقوله ) إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ).
وأما ما حكي الله تعالى عما قاله العاص بن وائل لأوتين مالاً وولداً فليس على حد مقالة هذا لصاحبه لأن العاصي قصد الاستخفاف وهو مصمم على التكذيب ، وهذا قال ما معناه إن كان ثم رجوع فسيكون حالي كذا وكذا . وقرأ ابن الزبير وزيد بن عليّ وأبو بحرية وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد وابن مناذر ونافع وابن كثير وابن عامر منهما على التثنية وعود الضمير على الجنتين ، وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام . وقرأ الكوفيون وأبو عمرو ) مِنْهَا ( على التوحيد وعود الضمير على الجنة المدخولة وكذا في مصاحف الكوفة والبصرة ، ومعنى ) مُنْقَلَباً ( مرجعاً وعاقبة أي منقلب الآخرة لبقائها خير من منقلب الدنيا لزوالها ، وانتصب ) مُنْقَلَباً ( على التمييز المنقول من المبتدأ .
( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَكُنَّا هُوَ اللَّهُ رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا ). ( سقط : فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها

" صفحة رقم 121 "
حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا ، أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا ، وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحد ، ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان الله منتصرا ، هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا )
الكهف : ( 37 ) قال له صاحبه . . . . .
( وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ( حال من الفاعل وهو صاحبه المؤمن . وقرأ أبيّ وهو يخاصمه وهي قراءة تفسير لا قراءة رواية لمخالفته سواد المصحف ، ولأن الذي روي بالتواتر ) هُوَ يُحَاوِرُهُ ( لا يخاصمه . و ) أَكَفَرْتَ ( استفهام إنكار وتوبيخ حيث أشرك مع الله غيره . وقرأ ثابت البناني : ويلك ) أَكَفَرْتَ ( وهو تفسير معنى التوبيخ والإنكار لا قراءة ثابتة عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ثم نبهه على أصل نشأته وإيجاده بعد العدم وأن ذلك دليل على جواز البعث من القبور ، ثم تحتم ذلك بإخبار الصادقين وهم الرسل عليهم السلام . وقوله ) خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ( إما أن يراد خلق أصلك ) مّن تُرَابٍ ( وهو آدم عليه السلام وخلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقاً له ، أو أريد أن ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب ، فنبهه أولاً على ما تولد منه ماء أبيه ثم ثانيه على النطفة التي هي ماء أبيه . وأما ما نقل من أن ملكاً وكلّ بالنطفة يلقى فيها قليلاً من تراب قبل دخولها في الرحم فيحتاج إلى صحة نقل .
ثم نبهه على تسويته رجلاً وهو خلقه معتدلاً صحيح الأعضاء ، ويقال للغلام إذا تمّ شبابه قد استوى . وقيل : ذكره بنعمة الله عليه في كونه رجلاً ولم يخلقه أنثى ، نبهه بهذه التنقلات على كمال قدرته وأنه لا يعجزه شيء . قال الزمخشري : ) سَوَّاكَ ( عدلك وكملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال ، جعله كافر بالله جاحداً لأنعمه لشكه في البعث كما يكون المكذب بالرسول كافراً انتهى . وانتصب ) رَجُلاً ( على الحال . وقال الحوفي ) رَجُلاً ( نصب بسوى أي جعلك ) رَجُلاً ( فظاهره أنه عدي سوي إلى اثنين ، ولما لم يكن الاستفهام استفهام استعلام وإنما هو استفهام إنكار وتوبيخ فهو في الحقيقة تقرير على كفره وإخبار عنه به لأن معناه قد كفرت بالذي استدرك هو مخبراً عن نفسه ، فقال ) لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبّى ( إقرار بتوحيد الله وأنه لا يشرك به غيره .
الكهف : ( 38 ) لكن هو الله . . . . .
وقرأ الكوفيون وأبو عمرو وابن كثير ونافع في رواية ورش وقالون لكن بتشديد النون بغير ألف في الوصل وبألف في الوقف وأصله ، ولكن أنا نقل حركة الهمزة إلى نون ) لَكِنِ ( وحذف الهمزة فالتقى مثلان فأدغم أحدهما في الآخر . وقيل : حذف الهمزة من أنا على غير قياس فالتقت نون ) لَكِنِ ( وهي ساكنة مع نون أنا فأدغمت فيها ، وأما في الوقف فإنه أثبت ألف أنا وهو المشهور في الوقف على أنا ، وأما في الوصل فالمشهور حذفها وقد أبدلها ألفاً في الوقف أبو عمر وفي رواية فوقف لكنه ذكره ابن خالويه . وقال ابن عطية : وروي هارون عن أبي عمرو لكنه ) هُوَ اللَّهُ رَبّى ( بضمير لحق ) لَكِنِ ). وقرأ ابن عامر ونافع في رواية المسيلي وزيد بن عليّ والحسن والزهري وأبو بحرية ويعقوب في رواية وأبو عمر وفي رواية وكردم وورش في رواية وأبو جعفر بإثبات الألف وقفاً ووصلاً ، أما في الوقف فظاهر ، وأما في الوصل فبنو تميم يثبتونها فيه في الكلام وغيرهم في الاضطرار فجاء على لغة بني تميم . وعن أبي جعفر حذف الألف وصلاً ووقفاً وذلك من رواية الهاشمي ، ودل إثباتها في الوصل أيضاً على أن أصل ذلك ) لَكِنِ ( أنا .
وقال الزمخشري : وحسن ذلك يعني إثبات الألف في الوصل وقوع الألف عوضاً من حذف الهمزة انتهى . ويدل على ذلك أيضاً قراءة فرقة لكننا بحذف الهمزة وتخفيف النونين . وقال أيضاً الزمخشري ونحوه يعني ونحو إدغام

" صفحة رقم 122 "
نون ) لَكِنِ ( في نون أنا بعد حذف الهمزة قول القائل : وترمينني بالطرف أي أنت مذنب
وتقلينني لكن إياك لا أقلي
أي لكن أنا لا أقليك انتهى . ولا يتعين ما قاله في البيت لجواز أن يكون التقدير لكنني فحذف اسم لكن وذكروا أن حذفه فصيح إذا دل عليه الكلام ، وأنشدوا على ذلك قول الشاعر : فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي
ولكن زنجي عظيم المشافر
أي ولكنك زنجي ، وأجاز أبو علي أن تكون لكن لحقتها نون الجماعة التي في خرجنا وضربنا ووقع الإدغام لاجتماع المثلين ثم وحد في ) رَبّى ( على المعنى ، ولو اتبع اللفظ لقال ربنا انتهى . وهو تأويل بعيد . وقال ابن عطية : ويتوجه في لكنا أن تكون المشهورة من أخوات إن المعنى لكن قولي ) هُوَ اللَّهُ رَبّى ( إلاّ أني لا أعرف من يقرأ بها وصلاً ووقفاً انتهى . وذكر أبو القاسم يوسف بن عليّ ابن جبارة الهذلي في كتاب الكامل في القراءات من تأليفه ما نصه : يحذفها في الحالين يعني الألف في الحالين يعني الوصل والوقف حمصي وابن عتبة وقتيبة غير الثقفي ، ويونس عن أبي عمر ويعني بحمصي ابن أبي عبلة وأبا حيوة وأبا بحرية . قرأ أبيّ والحسن ) لَكِنِ ( أنا ) هُوَ اللَّهُ ( على الإنفصال ، وفكه من الإدغام وتحقيق الهمز ، وحكاها ابن عطية عن ابن مسعود . وقرأ عيسى الثقفي ) لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ ( بغير أنا ، وحكاها ابن خالويه عن ابن مسعود ، وحكاها الأهوازي عن الحسن . فأما من أثبت ) هُوَ ( فإنه ضمير الأمر والشأن ، وثم قول محذوف أي ) لَكِنِ ( أنا أقول ) هُوَ اللَّهُ رَبّى ( ويجوز أن يعود على الذي ) خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ( ، أي أما أقول : ) هُوَ ( أي خالقك ) اللَّهُ رَبّى ( و ) رَبّى ( نعت أو عطف بيان أو بدل ، ويجوز أن لا يقدر . أقول محذوفة فيكون أنا مبتدأ ، و ) هُوَ ( ضمير الشأن مبتدأ ثان و ) اللَّهِ ( مبتدأ ثالث ، و ) رَبّى ( خبره والثالث خبر عن الثاني ، والثاني وخبره خبر عن أنا ، والعائد عليه هو الياء في ) رَبّى ( ، وصار التركيب نظير هند هو زيد ضاربها . وعلى رواية هارون يجوز أن يكون هو توكيد الضمير النصب في لكنه العائد على الذي خلقك ، ويجوز أن يكون فصلاً لوقوعه بين معرفين ، ولا يجوز أن يكون ضمير شأن لأنه لا عائد على اسم لكن من الجملة الواقعة خبراً .
وفي قوله و ) لا أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا ( تعريض بإشراك صاحبه وأنه مخالفه في ذلك ، وقد صرح بذلك صاحبه في قوله يا ليتني لم أشرك بربي أحداً . وقيل : أراد بذلك أنه لا يرى الغنى والفقر إلاّ منه تعالى ، يفقر من يشاء ويغني من يشاء . وقيل : لا أعجز قدرته على الإعادة ، فأسَّوي بينه وبين غيره فيكون إشراكاً كما فعلت أنت .
الكهف : ( 39 ) ولولا إذ دخلت . . . . .
ولما وبخ المؤمن الكافر أورد له ما ينصحه فحضه على أن كان يقول إذا دخل جنته ) مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ( أي الأشياء مقذوفة بمشيئة الله إن شاء أفقر ، وإن شاء أغنى ، وإن شاء نصر ، وإن شاء خذل . ويحتمل أن تكون ما شرطية منصوبة بشاء ، والجواب محذوف أي أي شيء شاء الله كان ، ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي موفوعة على الابتداء ، أي الذي شاءه الله كائن ، أو على الخبر أي الأمر ما شاء الله ) وَلَوْلاَ ( تحضيضية ، وفصل بين الفعل وبينها بالظرف وهو معمول لقوله ) قُلْتَ ). ثم نصحه بالتبرىء من القوة فيما يحاوله ويعانيه وأن يجعل القوة لله تعالى . وفي الحديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال لأبي هريرة : ( ألا أدلك على كلمة من

" صفحة رقم 123 "
كنز الجنة ) ؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال : ( لا قوة إلاّ بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم ) . ونحوه من حديث أبي موسى وفيه إلاّ بالله العلي العظيم .
ثم أردف تلك النصيحة بترجية من الله ، وتوقعه أن يقلب ما به وما بصاحبه من الفقر والغنى . فقال : ) إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا ( أي إني أتوقع من صنع الله تعالى وإحسانه أن يمنحني جنة خيراً من جنتك لإيماني به ، ويزيل عنك نعمته لكفرك به ويخرب بستانك . وقرأ الجمهور : ) أَقُلْ ( بالنصب مفعولاً ثانياً لترني وهي علمية لا بصرية لوقوع ) أَنَاْ ( فصلاً ، ويجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب في ترني ، ويجوز أن تكون بصرية و ) أَنَاْ ( توكيد للضمير في ترني المنصوب فيكون ) أَقُلْ ( حالاً . وقرأ عيسى بن عمر ) أَقُلْ ( بالرفع على أن تكون أنا مبتدأ ، و ) أَقُلْ ( خبره ، والجملة في موضع مفعول ترني الثاني إن كانت علمية ، وفي موضع الحال إن كانت بصرية . ويدل قوله ) وَوَلَدًا ( على أن قوله صاحبه ) وَأَعَزُّ نَفَراً ( عنى به الأولاد إن قابل كثرة المال بالقلة وعزة النفر بقلة الولد .
الكهف : ( 40 ) فعسى ربي أن . . . . .
والحسبان ، قال ابن عباس وقتادة : العذاب . وقال الضحاك : البرد . وقال الكلبي : النار . وقال ابن زيد : القضاء . وقال الأخفش : سهام ترمي في مجرى فقلما تخطىء . وقيل : النبل . وقيل : الصواعق . وقيل : آفة مجتاحة . وقال الزجاج : عذاب حسبان وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك ، وهذا الترجي إن كان ذلك أن يؤتيه في الدنيا فهي أنكى للكافر وآلم إذ يرى حاله من الغنى قد انتقلت إلى صاحبه ، وإن كان ذلك أن يؤتيه في الآخرة فهو أشرف وأذهب مع الخير والصلاح ) فَتُصْبِحَ صَعِيدًا ( أي أرضاً بيضاء لا نبات فيها لا من كرم ولا نخل ولا زرع ، قد اصطلم جميع ذلك فبقيت يباباً قفراً يزلق عليها لإملاسها ، والزلق الذي لا تثبت فيه قدم ذهب غراسة وبناؤه وسلب المنافع حتى منفعة المشي فيه فهو وحل لا ينبت ولا يثبت فيه قدم . وقال الحسن : الزلق الطريق الذي لا نبات فيه . وقيل : الخراب . وقال مجاهد : رملاً هائلاً . وقيل : الزلق الأرض السبخة
الكهف : ( 41 ) أو يصبح ماؤها . . . . .
وترجِّي المؤمن لجنة هذا الكافر آفة علوية من السماء أو آفة سفلية من الأرض ، وهو غور مائها فيتلف كل ما فيها من الشجر والزرع ، وغور مصدر خبر عن اسم أصبح على سبيل المبالغة و ) أَوْ يُصْبِحَ ( معطوف على قوله ) يُرْسِلُ ( لأن غؤور الماء لا يتسبب على الآفة السماوية إلاّ إن عنى بالحسبان القضاء الإلهي ، فحينئذ يتسبب عنه إصباح الجنة ) صَعِيدًا زَلَقًا ( أو إصباح مائها ) غَوْرًا ).
وقرأ الجمهور ) غَوْرًا ( بفتح الغين . وقرأ البرجمي : ) غَوْرًا ( بضم الغين . وقرأت فرقة بضم الغين وهمز الواو يعنون وبواو بعد الهمزة فيكون غؤوراً كما جاء في مصدر غارت عينه غؤوراً ، والضمير في ) لَهُ ( عائد على الماء أي لن يقدر على طلبه لكونه ليس مقدوراً على ردّ ماغوره الله تعالى . وحكى الماوردي أن معناه : لن تستطيع طلب غيره بدلاً منه ، وبلغ الله المؤمن ما ترجاه من هلاك ما بيد صاحبه الكافر وإبادته على خلاف ما ظنّ في قوله ما أظن أن تبيد هذه أبداً
الكهف : ( 42 ) وأحيط بثمره فأصبح . . . . .
فأخبر تعالى أنه ) أُحِيطَ بِثَمَرِهِ ( وهو عبارة عن الإهلاك وأصله من أحاط به العدّو وهو استدارته به من جوانبه ، ومتى أحاط به ملكه واستولى عليه ثم استعملت في كل إهلاك ومنه ) إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ). وقال ابن عطية : الإحاطة كناية عن عموم العذاب والفساد انتهى .
والظاهر أن الإحاطة كانت ليلاً لقوله ) فَأَصْبَحَ ( على أن أنه يحتمل أن يكون معنى ) فَأَصْبَحَ ( فصار فلا يدل على تقييد الخبر بالصباح ، وتقليب كفية ظاهره أنه ) يُقَلّبُ كَفَّيْهِ ( ظهراً لبطن وهو أنه يبدي باطن كفه ثم يعوج كفه حتى يبدو ظهرها ، وهي فعلة النادم المتحسر على شيء قد فاته ، المتأسف على فقدانه ، كما يكنى بقبض الكف والسقوط في اليد . وقيل : يصفق بيده على الأخرى و ) يُقَلّبُ كَفَّيْهِ ( ظهر البطن . وقيل : يضع باطن إحداهما على ظهر الأخرى ، ولما كان هذا الفعل كناية عن الندم عداه تعدية فعل الندم فقال ) عَلَى مَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ( كأنه قال : فأصبح نادماً على ذهاب ما أنفق في عمارة تلك الجنة ) وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ( تقدم

" صفحة رقم 124 "
الكلام على هذه الجملة في أواخر البقرة . وتمنيه انتفاء الشرك الظاهر أنه صدر منه ذلك في حالة الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة ، وفي ذلك زجر للكفرة من قريش وغيرهم لئلا يجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم ، قيل : أرسل الله عليها ناراً فأكلتها فتذكر موعظة أخيه ، وعلم أنه أتى من جهة شركة وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركاً .
الكهف : ( 43 ) ولم تكن له . . . . .
وقال بعض المفسرين : هي حكاية عن قول الكافر هذه القالة في الآخرة ، ولما افتخر بكثرة ماله وعزة نفره أخبر تعالى أنه لم تكن ) لَّهُ فِئَةٌ ( أي جماعة تنصره ولا كان هو منتصراً بنفسه ، وجمع الضمير في ) يَنصُرُونَهُ ( على المعنى كما أفرده على اللفظ في قوله ) فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( واحتمل النفي أن يكون منسحباً على القيد فقط ، أي له فئة لكنه لا يقدر على نصره . وأن يكون منسحباً على القيد ، والمراد انتفاؤه لانتفاء ما هو وصف له أي لا فئة فلا نصر وما كان منتصراً بقوة عن انتقام الله .
وقرأ الأخوان ومجاهد وابن وثاب والأعمش وطلحة وأيوب وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير ولم يكن بالياء لأن تأنيث الفئة مجاز . وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بالتاء . وقرأ ابن أبي عبلة ) فِئَةٌ ( تنصره على اللفظ
الكهف : ( 44 ) هنالك الولاية لله . . . . .
والحقيقة في هنالك أن يكون ظرف مكان للبعد ، فالظاهر أنه أشير به لدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله كقوله ) لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ). قيل : لما نفى عنه الفئة الناصرة في الدنيا نفى عنه أن ينتصر في الآخرة ، فقال ) وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ ( أي في الدار الآخرة ، فيكون ) هُنَالِكَ ( معمولاً لقوله ) مُنْتَصِراً ). وقال الزجّاج : أي ) وَمَا كَانَتْ مُنْتَصِراً ( في تلك الحال و ) الْوَلَايَةُ لِلَّهِ ( على هذا مبتدأ وخبر . وقيل : ) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ ( مبتدأ وخبر ، والوقف على قوله ) مُنْتَصِراً ).
وقرأ الأخوان والأعمش وابن وثاب وشيبة وابن غزوان عن طلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير ) الْوَلَايَةُ ( بكسر الواو وهي بمعنى الرئاسة والرعاية . وقرأ باقي السبعة بفتحها بمعنى الموالاة والصلة . وحُكِي عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن لأن فعالة إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلداً وليس هنالك تولي أمور . وقال الزمخشري : ) الْوَلَايَةُ ( بالفتح النصرة والتولي بالكسر السلطان والملك ، وقد قرىء بهما والمعنى هنالك أي في ذلك المقام ، وتلك الحال النصرة لله وحده لا يملكها غيره ولا يستطيعها أحد سواه تقريراً لقوله ) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ( أو ) هُنَالِكَ ( السلطان والملك ) لِلَّهِ ( لا يغلب ولا يمتنع منه ، أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر يعني إن قوله ) وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا ( كلمة ألجىء إليها فقالها فزعاً من شؤم كفره ، ولولا ذلك لم يقلها . ويجوز أن يكون المعنى ) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ ( ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم ، يعني أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن . وصدق قوله عسى ) رَبّى إِنَّ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء ( ويعضده قوله ) هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ( أي لأوليائه انتهى .
وقرأ النحويان وحميد والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني ) الْحَقّ ( برفع القاف صفة للولاية . وقرأ باقي السبعة بخفضها وصفاً لله تعالى . وقرأ أُبيّ ) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ ( الحق لله برفع الحق للولاية وتقديمها على قوله ) لِلَّهِ ). وقرأ أبو حيوة وزيد بن عليّ وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو ) لِلَّهِ الْحَقّ ( بنصب القاف . قال الزمخشري : على التأكيد كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل وهي قراءة حسنة فصيحة ، وكان عمرو بن عبيد رحمة الله عليه ورضوانه من أفصح الناس وأنصحهم انتهى . وكان قد قال الزمخشري : وقرأ عمرو بن عبيد رحمه الله انتهى . فترحم عليه وترضى عنه إذ هو من أوائل أكابر شيوخه المعتزلة ، وكان على غاية من الزهد والعبادة وله أخبار في ذلك

" صفحة رقم 125 "
إلاّ أن أهل السنة يطعنون عليه وعلى أتباعه ، وفي ذلك يقول أبو عمرو الداني في أرجوزته التي سماها المنبهة : وابن عبيد شيخ الاعتزال
وشارع البدعة والضلال
وقرأ الحسن والأعمش وعاصم وحمزة ) عُقْبًا ( بسكون القاف والتنوين ، وعن عاصم عقبى بأبف التأنيث المقصورة على وزن رجعى ، والجمهور بضم القاف والتنوين والثلاث بمعنى العاقبة .
2 ( ) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاٌّ رْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الاٌّ رْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىءٍ جَدَلاً وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاٌّ وَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُواْ ءايَاتِى وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِأايِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا ( ) ) 2
الكهف : ( 45 ) واضرب لهم مثل . . . . .
الهشيم اليابس قاله الفرّاء واحده هشيمة . وقال الزجّاج وابن قتيبة : كل شيء كان رطباً ويبس ، ومنه كهشيم المحتظر وهشيم الثريد ، وأصل الهشيم المتفتت من يابس العشب . ذرى وأذرى لغتان فرّق قاله أبو عبيدة . وقال ابن كيسان : تذروه تجيء به وتذهب . وقال الأخفش : ترفعه . غادر ترك من الغدر ، ومنه ترك الوفاء ، ومنه الغدير ، وهو ما تركه السيل . الصف الشخص بإزاء الآخر إلى نهايتهم وقوفاً أو جلوساً أو على غير هاتين الحالتين طولاً أو تحليقاً يقال منه : صف يصف والجمع صفوف . العضد العضو من الإنسان وغيره معروف وفيه لغتان ، فتح العين وضم الضاد وإسكانها وفتحها وضم العين والضاد وإسكان الضاد ، ويستعمل في العون والنصير . قال الزجاج : والإعضاد التقوّي وطلب المعونة يقال : اعتضدت بفلان استعنت به . الموبق المهلك يقال : وبق يوبق وبقاً ووبق يبق وبوقاً إذا هلك فهو وابق ، وأوبقته ذنوبه أهلكته . أدحض الحق أرهقه قاله ثعلب ، وأصله من إدحاض القدم وهو إزلاقها قال الشاعر

" صفحة رقم 126 "
وردت ويجىّ اليشكري حذاره
وحاد كما حاد البعير عن الدّحض
وقال آخر : أبا منذر رمت الوفاء وهبته
وحدت كما حاد البعير المدحض
والدحض الطين الذي يزهق فيه . الموئل قال الفراء : المنجي يقال والت نفس فلان نجت . وقال الأعشى : وقد أخالس رب البيت غفلته
وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي : ما ينجو . وقال ابن قتيبة : الملجأ يقال : وأل فلان إلى كذا ألجأ ، يئل وألاً وؤولاً .
( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللَّهُ ).
لما بين تعالى في المثل الأول حال الكافر والمؤمن وما آل إليه افتخر به الكافر من الهلاك ، بيّن في هذا المثل حال ) قَالُواْ لَن ( واضمحلاها ومصير ما فيها من النعيم والترفه إلى الهلاك و ) كَمَاء ( قدره ابن عطية خبر مبتدأ محذوف ، أي هي أي ) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواةِ ). وقال الحوفي : الكاف متعلقة بمعنى المصدر أي ضرباً ) كَمَاء أَنزَلْنَاهُ ( وأقول إن ) كَمَاء ( في موضع المفعول الثاني لقوله ) وَاضْرِبْ ( أي وصيِّر ) لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( أي صفتها شبه ماء وتقدم الكلام على تفسير نظير هذه الجمل في قوله ) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالاْنْعَامُ ( في يونس ) فَأَصْبَحَ ( أي صار ولا يراد تقييد الخبر بالصباح فهو كقوله : أصبحت لا أحمل السلاح ولا
أملك رأس البعير إن نفرا
وقيل : هي دالة على التقييد بالصباح لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلاً فهي كقوله ) فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ ). وقرأ ابن مسعود : تذريه من أذرى رباعياً . وقرأ زيد بن عليّ والحسن والنخعي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن محيصن وخلف وابن عيسى وابن جرير : الريح على الإفراد . والجمهور ) تَذْرُوهُ الرّياحُ ). ولما ذكر تعالى قدرته الباهرة في صيرورة ما كان في غاية النضرة والبهجة إلى حالة التفتت

" صفحة رقم 127 "
والتلاشي إلى أن فرقته الرياح ولعبت به ذاهبة وجائية ، أخبر تعالى عن اقتداره على كل شيء من الإنشاء والإفناء وغيرهما مما تتعلق به قدرته تعالى .
الكهف : ( 46 ) المال والبنون زينة . . . . .
ولما حقر تعالى حال الدنيا بما ضربه من ذلك المثل ذكر أن ما افتخر به عيينه وأضرا به من المال والبنين إنما ذلك ) زِينَةُ ( هذه ) قَالُواْ لَن ( المحقرة ، وإن مصير ذلك إنما هو إلى النفاد ، فينبغي أن لا يكترث به ، وأخبر تعالى بزينة المال والبنين على تقدير حذف مضاف أي مقر ) زِينَةُ ( أو وضع المال والبنين منزلة المعنى والكثرة ، فأخبر عن ذلك بقوله ) زِينَةُ ( ولما ذكر مآل ما في الحياة الدنيا إلى الفناء اندرج فيه هذا الجزئي من كون المال والبنين زينة ، وأنتج . أن زينة الحياة الدنيا فإن إذ ذاك فرد من أفراد ما في الحياة الدنيا ، وترتيب هذا الإنتاج أن يقال ) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( وكل ما كان ) زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( فهو سريع الإنقضاء فالمال والبنون سريع الإنقضاء ، ومن بديهة العقل أن ما كان كذلك يقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه ، وهذا برهان على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد .
( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ( قال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم . وقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل هي الصلوات الخمس . وعن ابن عباس أنه كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة ، ورجحه الطبري وقول الجمهور مروي عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من طريق أبي هريرة وغيره . وعن قتادة : كل ما أريد به وجه الله . وعن الحسن وابن عطاء : أنا النيات الصالحة فإنّ بها تتقبل الأعمال وترفع ، ومعنى ) خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا ( أنها دائمة باقية وخيرات الدنيا منقرضة فانية ، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي . ) وَخَيْرٌ أَمَلاً ( أي وخير رجاء لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة دون ذي المال والبنين العاري من الباقيات الصالحات فإنه لا يرجو ثواباً .
الكهف : ( 47 ) ويوم نسير الجبال . . . . .
ولما ذكر تعالى ما يؤول إليه حال الدنيا من النفاد أعقب ذلك بأوائل أحوال يوم القيامة فقال ) وَيَوْمَ مِنْهُ الْجِبَالُ ( كقوله ) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ). وقال : ) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ). وقال ) فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ). وقال ) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ ( والمعنى أنه ينفك نظام هذا العالم الدنيوي ويؤتي بالعالم الأخروي ، وانتصب ) وَيَوْمَ ( على إضمار اذكر أو بالفعل المضمر عند قوله ) لَّقَدْ جِئْتُمُونَا ( أي قلنا يوم كذا لقد . وقرأ نافع وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وعاصم وابن مصرّف وأبو عبد الرحمن ) نُسَيّرُ ( بنون العظمة الجبال بالنصب ، وابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب بضم التاء وفتح الياء المشددة مبنياً للمفعول ) الْجِبَالُ ( بالرفع وعن الحسن كذلك إلاّ أنه بضم الياء باثنتين من تحتها ، وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمر وتسير من سارت الجبال . وقرأ أبيّ سيرت الجبال ) وَتَرَى الاْرْضَ بَارِزَةً ( أي منكشفة ظاهرة لذهاب الجبال والظراب والشجر والعمارة ، أو ترى أهل الأرض بارزين من بطنها . وقرأ عيسى ) وَتَرَى الاْرْضَ ( مبنياً للمفعول ) وَحَشَرْنَاهُمْ ( أي أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرصة القيامة .
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم جيء بحشرناهم ماضياً بعد تسير وترى ؟ قلت : للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم ، كأنه قيل : ) وَحَشَرْنَاهُمْ ( قبل ذلك انتهى . والأولى أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف ، والمعنى وقد ) حشرناهم ( أي يوقع التسيير في حالة حشرهم . وقيل : ) بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ ( ) وَعُرِضُواْ ( ) وَوُضِعَ الْكِتَابُ ( مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوعه . وقرأ الجمهور : نغادر بنون العظمة وقتادة تغادر على الإسناد إلى القدرة أو الأرض ، وأبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنياً للمفعول واحد بالرفع وعصمة كذلك ، والضحاك نغدر بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال ،
الكهف : ( 48 ) وعرضوا على ربك . . . . .
وانتصب ) صَفَّا ( على الحال وهو مفرد تنّزل منزلة الجمع أي صفوفاً . وفي الحديث الصحيح : ( يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفاً يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ) . الحديث بطوله وفي حديث آخر : ( أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفاً أنتم منها ثمانون صفاً ) . أو انتصب

" صفحة رقم 128 "
على المصدر الموضوع موضع الحال أي مصطفين . وقيل : المعنى ) صَفَّا ( صفاً فحذف صفاً وهو مراد ، وهذا التكرار منبيء عن استيفاء الصفوف إلى آخرها ، شبه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان مصطفين ظاهرين يرى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً .
( لَّقَدْ جِئْتُمُونَا ( معمول لقول محذوف أي وقلنا ) كَمَا خَلَقْنَاكُمْ ( نعت لمصدر محذوف أي مجيئاً مثل مجيء خلقكم أي ( حفاة عراة غرلاً ) كما جاء في الحديث ، وخالين من المال والولد و ) ءانٍ ( هنا مخففة من الثقيلة . وفصل بينها وبين الفعل بحرف النفي وهو ) لَنْ ( كما فصل في قوله ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ ( و ) بَلِ ( للإضراب بمعنى الانتقال من خبر إلى خبر ليس بمعنى الإبطال ، والمعنى أن لن نجمع لإعادتكم وحشركم ) مَّوْعِدًا ( أي مكان وعد أو زمان وعد لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور ، والخطاب في ) لَّقَدْ جِئْتُمُونَا ( للكفار المنكرين البعث على سبيل تقريعهم وتوبيخهم .
الكهف : ( 49 ) ووضع الكتاب فترى . . . . .
( وَوُضِعَ الْكِتَابُ ( وقرأ زيد بن عليّ ) وَوُضِعَ ( مبنياً للفاعل ) الْكِتَابِ ( بالنصب . و ) الْكِتَابِ ( اسم جنس أي كتب أعمال الخلق ، ويجوز أن تكون الصحائف كلها جعلت كتاباً واحداً ووضعته الملائكة لمحاسبة الخلق وإشفاقهم خوفهم من كشف أعمالهم السيئة وفضحهم وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي ، ونادوا هلكتهم التي هلكوا خاصة من بين الهلكات فقالوا يا ويلنا والمراد من بحضرتهم كأنهم قالوا يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا ، وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله ) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ( ) نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ ( ) قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ( وقول الشاعر : يا عجباً لهذه الفليقة
فيا عجباً من رحلها المتحمل
إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادي . و ) لاَ يُغَادِرُ ( جملة في موضع الحال . وعن ابن عباس : الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة . وعن ابن جبير : القبلة والزنا وعن غيره السهو والعمد . وعن الفضيل ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر ، وقدمت الصغيرة اهتماماً بها ، وإذا أحصيت فالكبيرة أحرى ) إِلاَّ أَحْصَاهَا ( ضبطها وحفظها ) وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا ( في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا . ) وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( فيكتب عليه ما لم يعمل أو يزيد في عقابه الذي يستحقه أو يعذبه بغير جرم . قال الزمخشري : كما يزعم من ظلم الله في تعذيب أطفال المشركين انتهى . ولا يقال : إن ذلك ظلم منه تعالى لأنه تعالى كل مملوكون له فله أن يتصرف في مملوكيه بما يشاء ، لا يسأل عما يفعل ، والصحيح في أطفال المشركين أنهم يكونون في الجنة خدماً لأهلها نص عليه في البخاري عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الكهف : ( 50 ) وإذ قلنا للملائكة . . . . .
( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً مَّا ).
ذكروا في ارتباط هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بمجالسة الفقراء وكان أولئك المتكبرون قد تأنفوا عن مجالستهم ، وذكروا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) طردهم عنه وذلك لما جبلوا عليه من التكبر والتكثر بالأموال والأولاد وشرف الأصل والنسب ، وكان أولئك الفقراء بخلافهم في ذلك ناسب ذكر قصة إبليس بجامع ما اشتركا فيه من التكبر والافتخار بالأصل الذي خلق منه وهذا الذي ذكروه في الإرتباط هو ظاهر بالنسبة للآيات السابقة قبل ضرب المثلين ، وإما أنه واضح بالنسبة لما بعد المثلين فلا والذي يظهر في إرتباط هذه الآية بالآية التي قبلها هو أنه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المشركين مما سطر في ذلك الكتاب ، وكان إبليس هو الذي حمل المجرمين على معاصيهم واتخاذ شركاء مع الله ناسب ذكر إبليس والنهي

" صفحة رقم 129 "
عن اتخاذ ذريته أولياء من دون الله تبعيداً عن المعاصي ، وعن امتثال ما يوسوس به . وتقدم الكلام في استثناء إبليس أهو استثناء متصل أم منقطع ، وهل هو من الملائكة أم ليس منهم في أوائل سورة البقرة فأغني عن إعادته ، والظاهر من هذه الآية أنه ليس من الملائكة وإنما هو من الجن . قال قتادة : الجن حي من الملائكة خلقوا من نار السموم . وقال شهر بن حوشب : هو من الجن الذين ظفرت بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء . وقال الحسن وغيره : هو أول الجن وبداءتهم كآدم في الإنس . وقالت فرقة : كان إبليس وقبيله جناً لكن الشياطين اليوم من ذريته فهو كنوح في الإنس . وقال الزمخشري : كان من الجن كلام مستأنف جارٍ مجري التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلاً قال : ما له لم يسجد فقيل ) كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ ( والفاء للتسبيب أيضاً جعل كونه من الجن سبباً في فسقه ، يعني إنه لو كان ملكاً كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله لأن الملائكة معصومون ألبتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس كما قال : ) لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( وهذا الكلام المعترض تعمد من الله عز وعلا لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم ، فما أبعد البون بين ما تعمده الله وبين قول من ضادّه فزعم أنه كان ملكاً ورئيساً على الملائكة فعصي فلعن ومسخ شيطاناً ، ثم وكه على ابن عباس انتهى .
والظاهر أن معنى ) فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ ( فخرج عما أمره ربه به من السجود . قال رؤبة : يهوين في نجد وغوراً غائرا
فواسقاً عن قصدها حوائراً
وقيل : ) فَفَسَقَ ( صار فاسقاً كافراً بسبب أمر ربه الذي هو قوله ) اسْجُدُواْ لاِدَمَ ( حيث لم يمتثله . قيل : ويحتمل أن يكون المعنى ) فَفَسَقَ ( فأمر ربه أي بمشيئته وقضائه لأن المشيئة يطلق عليها أمر كما تقول : فعلت ذلك عن أمرك أي بحسب مرادك ، والهمزة في ) أَفَتَتَّخِذُونَهُ ( للتوبيخ والإنكار والتعجب أي أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان تتخذونه وذريته أولياء من دوني مع ثبوت عداوته لكم تتخذونه ولياً . وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر وهو يخطب ) أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ ( بفتح الذال ، والظاهر أن لإبليس ذرية وقال بذلك قوم منهم قتادة والشعبي وابن زيد والضحاك والأعمش . قال قتادة : ينكح وينسل كما بنسل بنو آدم . وقال الشعبي : لا يكون ذرية إلاّ من زوجة . وقال ابن زيد : إن الله قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلاّ ذرأت لك مثلها ، فليس يولد لولد آدم ولد إلاّ ولد معه شيطان يقرن . وقيل للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ألك شيطان ؟ قال : ( نعم ألا إن الله تعالى أعانني عليه فأسلم ) . وسمي الضحاك وغيره من ذرية إبليس جماعة الله أعلم بصحة ذلك ، وكذلك ذكروا كيفيات في وطئه وإنساله الله أعلم بذلك ، وذهب قوم إلى أنه ليس لإبليس ولد وإنما الشياطين هم الذين يعينونه على بلوغ مقاصده ، والمخصوص بالذم محذوف أي ) بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ( من الله إبليس وذريته وقال ) لّلظَّالِمِينَ ( لأنهم اعتاضوا من الحق بالباطل وجعلوا مكان ولايتهم إبليس وذريته ، وهذا نفس الظالم لأنه وضع الشيء في غيره موضعه .
الكهف : ( 51 ) ما أشهدتهم خلق . . . . .
وقرأ الجمهور ) مَّا أَشْهَدتُّهُمْ ( بتاء المتكلم . وقرأ أبو جعفر وشيبة والسختياني وعون العقيلي وابن مقسم : ما أشهدناهم بنون العظمة ، والظاهر عود ضمير المفعول في ) أَشْهَدتُّهُمْ ( على إبليس وذريته أي لم أشاورهم في ) خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ( بل خلقتهم على ما أردت ، ولهذا قال ) وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً ). وقال الزمخشري : يعني إنكم اتخذتم شركاء لي في العبادة وإنما كانوا يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية فنفي

" صفحة رقم 130 "
مشاركتهم في الإلهية بقوله : ) مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( لا أعتضد بهم في خلقها ) وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ( أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله ) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( وما كنت متخذهم أعواناً فوضع ) الْمُضِلّينَ ( موضع الضمير ذماً لهم بالإضلال فإذا لم يكونوا لي ) عَضُداً ( في الخلق فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة انتهى . وقيل : يعود على الملائكة والمعنى أنه ما أشهدهم ذلك ولا استعان بهم في خلقها بل خلقتهم ليطيعوني ويعبدوني فكيف يعبدونهم . وقيل : يعود على الكفار . وقيل : على جميع الخلق . وقال ابن عطية : الضمير في ) أَشْهَدتُّهُمْ ( عائد على الكفار وعلى الناس بالجملة ، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين والأطباء وسواهم من كل من يتخرص في هذه الأشياء ، وقاله عبد الحق الصقلي وتأول هذا التأويل في هذه الآية وأنها رادة على هذه الطوائف ، وذكر هذا بعض الأصوليين انتهى .
وقرأ أبو جعفرر والجحدري والحسن وشيبة ) وَمَا كُنْتَ ( بفتح التاء خطاباً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال الزمخشري : والمعنى وما صح لك الأعتضاد بهم ، وما ينبغي لك أن تعتز بهم انتهى . والذي أقوله أن المعنى إخبار من الله عن نبيه وخطاب منه تعالى له في انتفاء كينونته متخذ عضد من المضلين ، بل هو مذ كان ووجد عليه السلام في غاية التبرّي منهم والبعد عنهم لتعلم أمته أنه لم يزل محفوظاً من أول نشأته لم يعتضد بمضل ولا مال إليه ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ عليّ بن أبي طالب متخذاً المضلين أعمل اسم الفاعل . وقرأ عيسى ) عَضُداً ( بسكون الضاد خفف فعلاً كما قالوا : رجل وسبع في رجل وسبع وهي لغة عن تميم ، وعنه أيضاً بفتحتين . وقرأ شيبة وأبو عمر وفي رواية هارون وخارجة والخفاف ) عَضُداً ( بضمتين ، وعن الحسن ) عَضُداً ( بفتحتين وعنه أيضاً بضمتين . وقرأ الضحاك ) عَضُداً ( بكسر العين وفتح الضاد .
الكهف : ( 52 ) ويوم يقول نادوا . . . . .
وقرأ الجمهور ) وَيَوْمَ يَقُولُ ( بالياء أي الله . وقرأ الأعمش وطلحة ويحيى وابن أبي ليلى وحمزة وابن مقسم : نقول بنون العظمة أي للذين أشركوا به في الدنيا ) نَادُواْ شُرَكَائِىَ ( وليس المعنى أنه تعالى أخبر أنهم شركاؤه ولكن ذلك على زعمكم ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة ومفعولاً ) زَعَمْتُمْ ( محذوفان لدلالة المعنى عليهما إذ التقدير زعمتموهم شركائي والنداء بمعنى الاستغاثة ، أي استغيثوا بشركائكم والمراد نادوهم لدفع العذاب عنكم أو للشفاعة لكم ، والظاهر أن الضمير في ) بَيْنَهُمْ ( عائد على الداعين والمدعوين وهم المشركون والشركاء . وقيل : يعود على أهل الهدى وأهل الضلالة ، والظاهر وقوع الدعاء حقيقة وانتفاء الإجابة . وقيل : يحتمل أن يكون استعارة كأن فكرة الكافر ونظره في أن تلك الجمادات لا تغني شيئاً ولا تنفع هي بمنزلة الدعاء وترك الإجابة .
وقرأ الجمهور ) شُرَكَائِىَ ( ممدوداً مضافاً للياء ، وابن كثير وأهل مكة مقصوراً مضافاً لها أيضاً ، والظاهر انتصاب ) بَيْنَهُمْ ( على الظرف . وقال الفراء : البين هنا الوصل أي ) وَجَعَلْنَا ( نواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة ، فعلى هذا يكون مفعولاً أول لجعلنا ، وعلى الظرف يكون في موضع المفعول الثاني . وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : الموبق المهلك . وقال الزجاج : جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم . وقال عبد الله بن عمر وأنس ومجاهد : واد في جهنم يجري بدم وصديد . وقال الحسن : عداوة . وقال الربيع بن أنس : إنه المجلس . وقال أبو عبيدة : الموعد .
الكهف : ( 53 ) ورأى المجرمون النار . . . . .
( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ( هي رؤية عين أي عاينوها ، والظن هنا قيل : على موضوعه من كونه ترجيح أحد الجانبين . وكونهم لم يجزموا بدخولها رجاء وطمعاً في رحمة الله . وقيل : معنى ) فَظَنُّواْ ( أيقنوا قاله أكثر الناس ، ومعنى ) مُّوَاقِعُوهَا ( مخالطوها واقعون فيها كقوله ) وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ رَّبُّهُمْ ). وقال ابن عطية : أطلق الناس أن الظن هنا بمعنى التيقن ، ولو قال بدل ظنوا أيقنوا لكان الكلام متسقاً على مبالغة فيه ، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبداً في موضع يقين تام قد ناله الحسن بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع علم متحقق ، لكنه لم يقع ذلك المظنون وإلاّ فمن يقع ويحس لا يكاد يوجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن .
وتأمل هذه الآية وتأمل قول دريد :

" صفحة رقم 131 "
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
انتهى . وفي مصحف عبد الله ملاقوها مكان ) مُّوَاقِعُوهَا ( وقرأه كذلك الأعمش وابن غزوان عن طلحة ، والأولى جعله تفسيراً لمخالفة سواد المصحف . وعن علقمة أنه قرأ ملافوها بالفاء مشددة من لففت . وفي الحديث : ( إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة ) . ومعنى ) مَصْرِفًا ( معدلاً ومراعاً . ومنه قول أبي كبير الهذلي : أزهير هل عن شيبة من مصرف
أم لا خلود لباذل متكلف وأجاز أبو معاذ ) مَصْرِفًا ( بفتح الراء وهي قراءة زيد بن عليّ جعله مصدراً كالمضرب لأن مضارعه يصرف على يفعل كيصرف .
( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءانِ لِلنَّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاْوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ).
الكهف : ( 54 ) ولقد صرفنا في . . . . .
تقدّم تفسير نظير صدر هذه الآية : و ) شَىْء ( هنا مفرد معناه الجمع أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال إن فصلتها واحداً بعد واحد . ) جَدَلاً ( خصومة ومماراة يعني إن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء ونحوه ، فإذا هو خصيم مبين . وانتصب ) جَدَلاً ( على التمييز . قيل : ) الإِنسَانَ ( هنا النضر بن الحارث . وقيل : ابن الزبعري . وقيل : أبيّ بن خلف ، وكان جداله في البعث حين أتى بعظم فذره ، فقال : أيقدر الله على إعادة هذا ؟ قاله ابن السائب . قيل : كل من يعقل من ملك وجنّ يجادل و ) الإِنْسَانُ أَكْثَرَ ( هذه الأشياء ) جَدَلاً ( انتهى .
وكثيراً ما يُذكر الإنسان في معرض الذمّ وقد تلا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قوله : ) وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً ( حين عاتب علياً كرم الله وجهه على النوم عن صلاة الليل ، فقال له عليّ : إنما نفسي بيد الله ، فاستعمل ) الإِنسَانَ ( على العموم .
الكهف : ( 55 ) وما منع الناس . . . . .
وفي قوله ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ ( الآية تأسف

" صفحة رقم 132 "
عليهم وتنبيه على فساد حالهم لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب ، وإنما امتنعوا هم مع اعتقاد أنهم مصيبون لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا فكان حالهم يقتضي التأسف عليهم . و ) النَّاسِ ( يراد به كفار عصر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) الذين تولوا دفع الشريعة وتكذبيها قاله ابن عطية .
وقال الزمخشري : إن الأولى نصب والثانية رفع وقبلهما مضاف محذوف تقديره ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ ( الإيمان ) إِلا ( انتظار ) أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاْوَّلِينَ ( وهي الإهلاك ) أَوْ ( انتظار ) أَن يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابَ ( يعني عذاب الآخرة انتهى . وهو مسترق من قول الزجاج . قال الزجاج : تقديره ما منعهم من الإيمان ) إِلا ( طلب ) أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاْوَّلِينَ ). وقال الواحدي : المعنى ما منعهم إلاّ أني قد قدّرت عليهم العذاب ، وهذه الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين ، وهذا القول نحو من قول من قال التقدير ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ ( إلاّ ما سبق في علمنا وقضائنا أن يجري عليهم ) قُل لِلَّذِينَ ( من عذاب الاستئصال من المسخ والصيحة والخسف والغرق وعذاب الظلة ونحو ذلك ، وأراد بالأولين من أهلك من الأمم السالفة . وقال صاحب الغنيان : إلاّ إرادة أو انتظار أن تأتيهم سنتنا في الأولين ، ومن قدر المضاف هذا أو الطلب فإنما ذلك لاعتقادهم عدم صدق الأنبياء فيما وعدوا به من العذاب كما قال حكاية عن بعضهم ) إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ). وقيل : ) مَا ( هنا استفهامية لا نافية ، والتقدير وأي شيء ) مَنَعَ النَّاسَ ( أن ) يُؤْمِنُواْ ( و ) الْهُدَى ( الرسول أو القرآن قولان .
وقرأ الحسن والأعرج والأعمش وابن أبي ليلى وخلف وأيوب وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير والكوفيون بضم القاف والباء ، فاحتمل أن يكون بمعنى ) قُبُلاً ( لأن أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة ، وأن يكون جمع قبيل أي يجيئهم العذاب أنواعاً وألواناً . وقرأ باقي السبعة ومجاهد وعيسى بن عمر ) قُبُلاً ( بكسر القاف وفتح الباء ومعناه عياناً . وقرأ أبو رجاء والحسن أيضاً بضم القاف وسكون الباء وهو تخفيف قبل على لغة تميم . وذكر ابن قتيبة أنه قرىء بفتحتين وحكاه الزمخشري وقال مستقبلاً . وقرأ أبيّ بن كعب وابن غزوان عن طلحة قبيلاً بفتح القاف وباء مكسورة بعدها ياء على وزن فعيل .
الكهف : ( 56 - 57 ) وما نرسل المرسلين . . . . .
( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشّرِينَ ( أي بالنعيم المقيم لمن آمن ) وَمُنذِرِينَ ( أي بالعذاب الأليم لمن كفر لا ليجادلوا ولا ليتمنى عليهم الاقتراحات ) لِيُدْحِضُواْ ( ليزيلوا ) وَاتَّخَذُواْ ءايَاتِى ( يجمع آيات القرآن وعلامات الرسول قولاً وفعلاً ) وَمَا أُنْذِرُواْ ( من عذاب الآخرة ، واحتملت ) مَا ( أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي ) وَمَا ( أنذروه وأن تكون مصدرية أي وإنذارهم فلا تحتاج إلى عائد على الأصح ) هزؤاً ( أي سخرية واسخفافاً لقولهم أساطير الأولين . لو شئنا لقلنا مثل هذا وجداً لهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قولهم ) وَمَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا ( ولو شاء الله لأنزل ملائكة وما أشبه ذلك ، والآيات المضاف إلى الرب هو القرآن ولذلك عاد الضمير مفرداً في قوله ) أَن يَفْقَهُوهُ ( وإعراضه عنها كونه لا يتذكر حين ذكر ولم يتدبر ونسي عاقبة ما قدّمت يداه من الكفر والمعاصي غير مفكر فيها ولا ناظر في أن المحسن والمسيء يجزيان بما عملا .
وتقدم تفسير نظير قوله ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا ( ثم أخبر تعالى أن هؤلاء لا يهتدون أبداً وهذا من العام والمراد به الخصوص ، وهو من طبع الله على قلبه وقضى عليه بالموافاة على الكفر إذ قد اهتدي كثير من الكفرة وآمنوا ، ويحتمل أن يكون ذلك حكماً على الجميع أي ) وَإِن تَدْعُهُمْ ( أي ) إِلَى الْهُدَى ( جميعاً ) فَلَنْ يَهْتَدُواْ ( جميعاً ) أَبَدًا ( وحمل أولاً على لفظ من فأفرد ثم على المعنى في قوله ) إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ( فجمع وجعلوا دعوة الرسول إلى الهدى وهي التي تكون سبباً لوجود الإهتداء ، سبباً لانتفاء هدايتهم ، وهذا الشرط كأنه جواب للرسول عن تقدير قوله مالي لا أدعوهم إلى الهدى حرصاً منه عليه الصلاة والسلام على حصول إيمانهم ، فقيل : ) وَإِن تَدْعُهُمْ ( وتقييده بالأبدية مبالغة في انتفاء هدايتهم .
الكهف : ( 58 ) وربك الغفور ذو . . . . .
و ) الْغَفُورُ ( صفة مبالغة و ) ذُو الرَّحْمَةِ ( أي الموصوف

" صفحة رقم 133 "
بالرحمة ، ثم ذكر دليل رحمته وهو كونه تعالى ) لا يُؤَاخِذُهُم ( عاجلاً بل يمهلهم مع إفراطهم في الكفر وعداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والموعد أجل الموت ، أو عذاب الآخرة ، أو يوم بدر ، أو يوم أحد ، وأيام النصر أو العذاب إما في الدنيا وإما في الآخرة أقوال .
والموئل قال مجاهد : المحرز . وقال الضحاك : المخلص والضمير في ) مِن دُونِهِ ( عائد على الموعد . وقرأ الزهري موّلاً بتشديد الواو من غير همز ولا ياء . وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه مولاً بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء . وقرأ الجمهور بسكون الواو وهمزة بعدها مكسورة ،
الكهف : ( 59 ) وتلك القرى أهلكناهم . . . . .
وأشارة تعالى بقوله ) وَتِلْكَ الْقُرَى ( إلى القرى المجاورة أهل مكة والعرب كقرى ثمود وقوم لوط وغيرهم ، ليعتبروا بما جرى عليهم وليحذروا ما يحل بهم كما حل بتلك القرى . ) وَتِلْكَ ( مبتدأ و ) الْقُرَى ( صفة أو عطف بيان والخبير ) أَهْلَكْنَاهُمْ ( ويجوز أن تكون ) الْقُرَى ( الخبر و ) أَهْلَكْنَاهُمْ ( جملة حالية كقوله ) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً ( ويجوز أن تكون ) تِلْكَ ( منصوباً بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا ) تِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ ( و ) تِلْكَ الْقُرَى ( على إضمار مضاف أي وأصحاب تلك القرى ، ولذلك عاد الضمير على ذلك المضمر في قوله ) أَهْلَكْنَاهُمْ ).
وقوله ) لَمَّا ظَلَمُواْ ( إشعار بعلة الإهلاك وهي الظلم ، وبهذا استدل الأستاذ أبو الحسن بن عصفور على حرفية ) لَّمّاً ( وأنها ليست بمعنى حين لأن الظرف لا دلالة فيه على العلية . وفي قوله ) لَمَّا ظَلَمُواْ ( تحذير من الظلم إذ نتيجته الإهلاك وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً ، وهو الموعد واحتمل أن تكون مصدراً أو زماناً . وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام ، واحتمل أن يكون مصدراً مضافاً إلى المفعول وأن يكون زماناً . وقرأ حفص وهارون عن أبي بكر بفتحتين وهو زمان الهلاك . وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام مصدر هلك يهلك وهو مضاف للفاعل . وقيل : هلك يكون لازماً ومتعدياً فعلى تعديته يكون مضافاً للمفعول ، وأنشد أبو عليّ في ذلك :
ومهمه هالك من تعرجاً
ولا يتعين ما قاله أبو عليّ في هذا البيت ، بل قد ذهب بعض النحويين إلى أن هالكاً فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة أصله هالك من تعرجاً . فمن فاعل ثم أضمر في هالك ضمير مهمه ، وانتصب ) مِنْ ( على التشبيه بالمفعول ثم أضاف من نصب ، وقد اختلف في الموصول هل يكون من باب الصفة المشبهة ؟ والصحيح جواز ذلك وقد ثبت في أشعار العرب . قال الشاعر وهو عمر بن أبي ربيعة : أسيلات أبدان دقاق خصورها
وثيرات ما التفت عليها الملاحف
وقال آخر : فعجتها قبل الأخيار منزلة
والطيبي كل ما التاثت به الأزر
( ) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاأَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ

" صفحة رقم 134 "
ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَاذَا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَىءَاثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ سَتَجِدُنِىإِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْراً فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } )
الكهف : ( 60 ) وإذ قال موسى . . . . .
برح : زال مضارع يزول ، ومضارع يزال فتكون من أخوات كان الناقصة . الحقب : السنون واحدها حقبة . قال الشاعر : فإن تنأ عنها حقبة لاتلاقها
فإنك مما أحدثت بالمحرب
وقال الفراء : الحقب سنة ، ويأتي قول أهل التفسير فيه . السرب : المسلك في جوف الأرض . النصب : التعب والمشقة . الصخرة معروفة وهي حجر كبير . السفينة معروفة وتجمع على سفن وعلى سفائن ، وتحذف التاء فيقال سفينة وسفين وهو مما بينه وبين مفردة تاء التأنيث وهو كثير في المخلوق نادر في المصنوع ، نحو عمامة وعمام . وقال الشاعر : متى تأته تأت لج بحر
تقاذف في غوار به السفين

" صفحة رقم 135 "
الأمر البشع من الأمور كالداهية والأد ونحوه . الجدار معروف ويجمع على جدر وجدران . انقض سقط ، ومن أبيات معاياة الأعراب . مرّ كما انقضّ على كوكب
عفريت جن في الدجى الأجدل
عاب الرجل ذكر وصفاً فيه يذم به ، وعاب السفينة أحدث فيها ما تنقص به .
( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ ءاتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَاذَا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ ).
) مُوسَى ( المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران عليه السلام ، ولم يذكر الله في كتابه موسى غيره ، ومن ذهب إلى أنه غيره وهو موسى بن ميشا بن يوسف ، أو موسى بن افراثيم بن يوسف فقول لا يصح ، بل الثابت في الحديث الصحيح وفي التواريخ أنه موسى بن عمر ان نبيّ إسرائيل ، والمرسل هو وأخوه هارون إلى فرعون ، وفتاه هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب عليهم الصلاة والسلام ، والفتى الشاب ولما كان الخدم أكثر ما يكونون فتياناً قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب ، وندبت الشريعة إلى ذلك . ففي الحديث : ( لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي ) . ) لفتاة ( لأنه كان يخدمه ويتبعه . وقيل : كان يأخذ منه العلم . ويقال : إن يوشع كان ابن أخت موسى عليه السلام وسبب هذه القصة أن موسى عليه السلام جلس يوماً في مجلس لبني إسرائيل وخطب فأبلغ ، فقيل له هل تعلم أحداً أعلم منك ؟ قال : لا ، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ ) أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ( أسير أي لا أزال . قال ابن عطية : وإنما قال هذه المقالة وهو سائر . ومن هذا قول الفرزدق : فما برحوا حتى تهادت نساؤهم
ببطحاء ذي قار عباب اللطائم
انتهى . وهذا الذي ذكره فيه حذف خبر ) لا أَبْرَحُ ( وهي من أخوات كان ، ونص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل على حذفه إلاّ ما جاء في الشعر من قوله : لهفي عليك للهفة من خائف
يبغي جوارك حين ليس مجير
أي حين ليس في الدنيا . وقال الزمخشري : فإ ن قلت : ) لا أَبْرَحُ ( إن كان بمعنى لا أزول من برح المكان فقد دل على الإقامة على السفر ، وإن كان بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر قلت : هو بمعنى لا أزال وقد حذف الخبر لأن الحال

" صفحة رقم 136 "
والكلام معاً يدلان عليه ، أما الحال فلأنها كانت حال سفر ، وأما الكلام فلأن قوله ) حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ( غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له ، فلا بد أن يكون المعنى لا يبرح مسيري ) حَتَّى أَبْلُغَ ( على أن ) حَتَّى أَبْلُغَ ( هو الخبر ، فاما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم ، فانقلب الفعل عن ضمير الغائب إلى لفظ المتكلم وهو وجه لطيف انتهى . وهما وجهان خلطهما الزمخشري : أما الأول : فجعل الفعل مسنداً إلى المتكلم وهو وجه وتقديراً وجعل الخبر محذوفاً كما قدره ابن عطية و ) حَتَّى أَبْلُغَ ( فضلة متعلقة بالخبر المحذوف وغاية له . والوجه الثاني جعل ) لا أَبْرَحُ ( مسنداً من حيث اللفظ إلى المتكلم ، ومن حيث المعنى إلى ذلك المقدر المحذوف وجعله ) لا أَبْرَحُ ( هو ) حَتَّى أَبْلُغَ ( فهو عمدة إذ أصله خبر للمبتدأ لأنه خبر ) أَبْرَحَ ).
وقال الزمخشري . أيضاً : ويجوز أن يكون المعنى ) لا أَبْرَحُ ( ما أنا عليه بمعنى ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه ) حَتَّى أَبْلُغَ ( كما تقول لا أبرح المكان انتهى . يعني إن برح يكون بمعنى فارق فيتعدى إذ ذاك إلى مفعول ويحتاج هذا إلى صحة نقل ، وذكر الطبري عن ابن عباس قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه بمصر ، فلما استقرت الحال خطب يوماً فذكر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل ، ثم ذكر ما هو عليه من أنه لا يعلم أحداً أعلم منه .
قال ابن عطية : وما يرى قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلاّ في هذا الكلام ، وما أراه يصح بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين ، وهذا المروي عن ابن عباس ذكره الزمخشري فقال : روي أنه لما ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بعد هلاك القبط أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة الله ، وقال : إن الله اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له : قد علمنا هذا فأي الناس أعلم ؟ قال : أنا فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إلى الله فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر ، كان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى ، وذكر أيضاً في أسئلة موسى أنه قال : إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه ، قال : أعلم منك الخضر انتهى . وهذا مخالف لما ثبت في الصحيح من أنه قيل له هل أحد أعلم منك ؟ قال : لا .
و ) مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ( قال مجاهد وقتادة : هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم . قال ابن عطية : وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان ، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجتمع البحرين على هذا القول . وقالت فرقة منهم محمد بن كعب القرظي : هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا . وعن أبيّ بإفريقية . وقيل : هو بحر الأندلس والقرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء . وقيل : ) مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ( بحر ملح وبحر عذب فيكون الخضر على هذا عند موقع نهر عظيم في البحر . وقالت فرقة : البحران كناية عن موسى والخضر لأنهما بحر اعلم . وهذا شبيه بتفسير الباطنية وغلاة الصوفية ، والأحاديث تدل على أنهما بحراً بماء .
وقال الزمخشري : من بدع التفاسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما كانا بحرين في العلم انتهى . وقيل : بحر القلزم . وقيل : بحر الأزرق . وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار ) مَجْمَعَ ( بكسر الميم الثانية والنضر عن ابن مسلم في كلا الحرفين وهو شاذ ، وقياسه من يفعل فتح الميم كقراءة الجمهور . والظاهر أن ) مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ( هو اسم مكان جمع البحرين . وقيل : مصدر .
قال ابن عباس : الحقب الدهر . وقال عبد الله بن عمرو وأبو هريرة : ثمانون سنة . وقال الحسن : سبعون . وقيل : سنة بلغة قريش ذكره الفراء . وقيل : وقت غير محدود قاله أبو عبيدة . والظاهر أن قوله ) أَوْ أَمْضِىَ ( معطوف على ) أَبْلُغُ ( فغيا بأحد الأمرين إما ببلوغه المجمع وإما بمضيه ) حُقُباً ). وقيل : هي تغيية لقوله ) لا أَبْرَحُ ( كقولك لا أفارقك أو تقضيني حقي ، فالمعنى ) لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغ

" صفحة رقم 137 "
َ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ( إلى أن أمضي زماناً أتيقن معه فوات مجمع البحرين . وقرأ الضحاك ) حُقُباً ( بإسكان القاف والجمهور بضمها .
الكهف : ( 61 ) فلما بلغا مجمع . . . . .
( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ( ثم جملة محذوفة التقدير فسار ) فَلَمَّا بَلَغَا ( أي موسى وفتاه ) مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ( أي بين البحرين ) نَسِيَا حُوتَهُمَا ( وكان من أمر الحوت وقصته أن موسى عليه السلام حين أوحي إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك . قال موسى : يا رب فيكف لي به ؟ قال : تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم ، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فنام موسى واضطرب الحوت في المكتمل فخرج منه فسقط ) فِى الْبَحْرِ سَرَباً ( وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق . قيل : وكان الحوت مالحاً . وقيل : مشوياً . وقيل : طرياً . وقيل : جمع يوشع الحوت والخبز في مكتل فنزلا ليلة على شاطىء عين تسمى عين الحياة ونام موسى ، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت . وروي أنهما أكلا منها . وقيل : توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء ، والظاهر نسبة النسيان إلى موسى وفتاه .
وقيل : كان النسيان من أحدهما وهو فتى موسى نسي أن يعلم موسى أمر الحوت إذ كان نائماً ، وقد أحس يوشع بخروجه من المكتل إلى البحر ورآه قد اتخذ السرب فأشفق أن يوقظ موسى . وقال أؤخر إلى أن يستيقظ ثم نسي أن يعلمه حتى ارتحلا و ) جَاوَزَا ( وقد يسند الشيء إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحد منهم . وقيل : هو على حذف مضاف أي نسي أحدهما . وقال الزمخشري : أي ) نَسِيّاً ( تفقد أمره وما يكون منه مما جعل إمارة على الظفر بالطلبة . وقيل : نسي يوشع أن يقدمه ، ونسي موسى أن يأمر فيه بشيء انتهى . وشبه بالسرب مسلك الحوت في الماء حين لم ينطبق الماء بعده بل بقي كالطاق ، هذا الذي ورد في الحديث . وقال الجمهور : بقي موضع سلوكه فارغاً . وقال قتادة : ماء جامداً وعن ابن عباس : حجراً صلداً . وقال ابن زيد : إنما اتخذ سبيله سرباً في البر حتى وصل إلى البحر ثم عام على العادة كأنه يعني بقوله ) سَرَباً ( تصرفاً وجولاناً من قولهم : فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء . ومنه قوله تعالى ) وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ( أي متصرف . وقال قوم : اتخذ ) سَرَباً ( في التراب من المكتمل ، وصادف في طريقه حجراً فنقبه . والظاهر أن السرب كان في الماء ولا يفسر إلاّ بما ورد في الحديث الصحيح أن الماء صار عليه كالطاق وهو معجزة لموسى عليه السلام أو الخضر إن قلنا أنه نبي وإلاّ تكن كرامة .
وقيل : عاد موضع سلوك الحوت حجراً طريقاً وأن موسى مشى عليه متبعاً للحوت حتى أفضى به ذلك إلى جزيرة في البحر وفيها وجد الخضر
الكهف : ( 62 ) فلما جاوزا قال . . . . .
( فَلَمَّا جَاوَزَا ( أي مجمع البحرين . وقال الزمخشري : الموعد وهو الضخرة . قيل : سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر وألقى على موسى النصب والجوع حين جاوزا لموعد ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك فتذكر الحوت وطلبه . وقوله ) مِن سَفَرِنَا ( هذا إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة . وقرأ الجمهور ) نَصَباً ( بفتحتين وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمتين . قال صاحب اللوامح وهي إحدى اللغات الأربع التي فيها .
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف نسي يوشع ذلك ومثله لا ينسى لكونه إمارة لهما على الطلبة التي تناهضاً من أجلها ولكونه معجزتين بينتين وهما حياة السمكة المملوحة المأكول منها وقيل : ما كانت إلاّ شق سمكة وقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب ، ثم كيف استمر به النيسان حتى خلفا الموعد وسارا مسيرة ليلة إلى ظهر الغد ، وحتى طلب موسى عليه السلام الحوت قلت : قد شغله الشيطان بوساوسه فذهب بفكره كل مذهب حتى اعتراه النسيان ، وانضم إلى

" صفحة رقم 138 "
ذلك أنه ضري بمشاهدة أمثاله عند موسى من العجائب ، واستأنس بأخواته فأعان الإلف على قلة الإهتمام انتهى . قال أبو بكر غالب بن عطية والداني عبد الحق المفسر : سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظة : مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوماً لم يحتج إلى طعام ، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم .
الكهف : ( 63 ) قال أرأيت إذ . . . . .
وقال الزمخشري : ) أَرَأَيْتَ ( بمعنى أخبرني فإن قلت : فما وجه التئام هذا الكلام فإن كل واحد من ) أَرَأَيْتَ ( و ) إِذْ أَوَيْنَا ( و ) فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ ( لا متعلق له ؟ قلت : لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك ، كأنه قال : ) أَرَأَيْتَ ( ما دهاني ) إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ ( فحذف ذلك انتهى . وكون أرأيتك بمعنى أخبرني ذكره سيبويه : وقد أمعّنا الكلام في ذلك في سورة الأنعام وفي شرحنا لكتاب التسهيل .
وأما ما يختص بأرأيت في هذا الموضع فقال أبو الحسن الأخفش : إن العرب أخرجتها عن معناها بالكلية فقالوا : أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة إذا كانت بمعنى أخبرني ، وإذا كانت بمعنى أبصرت لم تحذف همزتها قال : وشذت أيضاً فألزمتها الخطاب على هذا المعنى ، ولا تقول فيها أبداً أراني زيد عمراً ما صنع ، وتقول هذا على معنى أعلم . وشذت أيضاً فأخرجتها عن موضعها بالكلية بدليل دخول الفاء ألا ترى قوله ) أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ ( فما دخلت الفاء إلاّ وقد أخرجت لمعنى إما أو تنبه ، والمعنى أما ) إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ ( فالأمر كذا ، وقد أخرجتها أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدمنا ، وإذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام ، وقد يخرج لمعنى أما ويكون أبداً بعدها الشرط وظرف الزمان فقوله ) فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ ( ( معناه أما ) ( معناه أما ) إِذْ أَوَيْنَا ( ) فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ ( أو تنبه ) إِذْ أَوَيْنَا ( وليست الفاء إلاّ جواباً لأرأيت ، لأن إذ لا يصح أن يجازي بها إلاّ مقرونة بما بلا خلاف انتهى كلام الأخفش . وفيه إن ) أَرَأَيْتَ ( إذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه ، وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام وهذان مفقود إن في تقدير الزمخشري ) أَرَأَيْتَ ( هنا بمعنى أخبرني ، ومعنى ) نَسِيتُ الْحُوتَ ( نسيت ذكر ما جرى فيه لك .
وفي قوله ) وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ ( حسن أدب سبب النسيان إلى المتسبب فيه بوسوسته و ) أَنْ أَذْكُرَهُ ( بدل اشتمال من الضمير العائد على الحوت ، والظاهر أن الضمير في ) وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا ( عائد على الحوت كما عاد في قوله ) وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً ( وهو من كلام يوشع . وقيل : الضمير عائد على موسى أي اتخذ موسى . ومعنى ) عَجَبًا ( أي تعجب من ذلك أو اتخاذاً ) عَجَبًا ( وهو أن أثره بقي إلى حيث سار . وقدره الزمخشري ) سَبِيلِهِ ( ) عَجَبًا ( وهو كونه شبيه السرب قال : أو قال ) عَجَبًا ( في آخر كلام تعجباً من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها ، أو مما رأى من المعجزتين وقوله : ) وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ( اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه . وقيل : إن ) عَجَبًا ( حكاية لتعجب موسى وليس بذلك انتهى .
وقال ابن عطية : ) وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا ( يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى أي اتخذ الحوت سبيلاً عجباً للناس ، ويحتمل أن يكون قوله ) وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ ( تمام الخبر ثم استأنف التعجب فقال من قبل نفسه ) عَجَبًا ( لهذا الأمر ، وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأكل شقه ثم حيي بعد ذلك .
قال أبو شجاع في كتاب الطبري رأيته أتيت به فإذا هو شق حوت وعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيّ . قال ابن عطية : وأنا رأيته والشق الذي فيه شيّ عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكة ، ويحتمل أن يكون ) وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ ( الآية إخباراً من الله تعالى وذلك على وجهين : إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر ) عَجَبًا ( أي تعجب منه ، وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله ) عَجَبًا ( للناس انتهى . وقرأ حفص : ) وَمَا أَنْسَانِيهُ ( بضم الهاء وفي الفتح عليه الله وذلك

" صفحة رقم 139 "
في الوصل وأمال الكسائي فتحة السين ، وفي مصحف عبد الله وقراءته ) أَنْ أَذْكُرَهُ ( ) إِلاَّ الشَّيْطَانُ ). وقرأ أبو حيوة : واتخاذ سبيله عطف على المصدر على ضمير المفعول في ) أَذْكُرَهُ ( والإشارة بقوله ذلك إلى أمر الحوت وفقده واتخاذه سبيلاً في البحر لأنه إمارة الظفر بالطلبة من لقاء ذلك العبد الصالح
الكهف : ( 64 ) قال ذلك ما . . . . .
و ) مَا ( موصولة والعائد محذوف أي نبغيه . وقرىء نبغ ياء في الوصل وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ونافع ، وأما الوقف فالأكثر فيه طرح الياء اتباعاً لرسم المصحف ، وأثبتها في الحالين ابن كثير .
( فَارْتَدَّا ( رجعاً على أدراجهما من حيث جاءا . ) قَصَصًا ( أي يقصان الأثر ) قَصَصًا ( فانتصب على المصدرية بإضمار يقصان ، أو يكون في موضع الحال أي مقتصين فينصب بقوله ) فَارْتَدَّا (
الكهف : ( 65 ) فوجدا عبدا من . . . . .
( فَوَجَدَا ( أي موسى والفتى ) عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا ( هذه إضافة تشريف واختصاص ، وجداه عند الصخرة التي فقد الحوت عندها وهو مسجى في ثوبه مستلقياً على الأرض فقال : السلام عليك فرفع رأسه ، وقال : أني بأرضك السلام ثم قال له ، من أنت ؟ قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم ، قال له : ألم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا ؟ قال : بلى ، ولكن أحببت لقاءك وأن أتعلم منك ، قال له : إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا . والجمهور على أنه الخضر وخالف من لا يعتد بخلافه فزعم أنه عالم آخر . وقيل : اليسع . وقيل : الياس . وقيل : خضرون ابن قابيل بن آدم عليه السلام . قيل : واسم الخضر بليا بن ملكان ، والجمهور على أن الخضر نبي وكان علمه معرفة بواطن قد أوحيت إليه ، وعلم موسى الأحكام والفتيا بالظاهر . وروي أنه وجد قاعداً على ثبج البحر . وفي الحديث سمي خضراً لأنه جلس على فروة بالية فاهتزت تحته خضراء . وقيل : كان إذا صلى اخضّر ما حوله . وقيل : جلس على فروة بيضاء وهي الأرض المرتفعة . وقيل : الصلبة واهتزت تحته خضراء . وقيل : كانت أمه رومية وأبوه فارسي . وقيل : كان ابن ملك من الملوك أراد أبوه أن يستخلفه من بعده فلم يقبل منه ولحق بجزائر البحر فطلبه أبوه فلم يقدر عليه . والجمهور على أنه مات .
وقال شرف الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي : أما خضر موسى بن عمران فليس بحي لأنه لو كان حياً للزمه المجيء إلى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) والإيمان به واتبّاعه . وقد روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( لو كان موسى وعيسى حيين لم يسعهما إلاّ اتباعي ) . انتهى هكذا ورد لحديث ومذهب المسلمين أن عيسى حي وأنه ينزل من السماء ، ولعل الحديث : ( لو كان موسى حياً لم يسعه إلاّ اتباعي ) .
والرحمة التي آتاه الله إياها هي الوحي والنبوة . وقيل : الرزق . ) وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( أي من عندنا أي مما يختص بنا من العلم وهو الإخبار عن الغيوب . وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو ) مّن لَّدُنَّا ( بتخفيف النون وهي لغة في لدن وهي الأصل .
قيل : وقد أولع كثير ممن ينتمي إلى الصلاح بادعاء هذا العلم ويسمونه العلم اللدني ، وأنه يلقي في روع الصالح منهم شيء من ذلك حتى يخبر بأن من كان من أصحابه هو من أهل الجنة على سبيل القطع ، وأن بعضهم يرى الخضر . وكان قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن عليّ بن مطيع القشيري المعروف بابن دقيق العيد يخبر عن شيخ له أنه رأى الخضر وحدثه ، فقيل له : من أعلمه أنه الخضر ؟ ومن أين عرف ذلك ؟ فسكت . وبعضهم يزعم أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر ، وسمعنا الحديث عن شيخ يقال له عبد الواحد العباسي الحنبلي وكان أصحابه الحنابلة يعتقدون فيه أنه يجتمع بالخضر .
الكهف : ( 66 ) قال له موسى . . . . .
( قَالَ لَهُ مُوسَى ( في الكلام محذوف تقديره فلما التقيا وتراجعا الكلام وهو الذي ورد في الحديث الصحيح ) قَالَ لَهُ مُوسَى اتَّبَعَكَ ( وفي هذا دليل على التواضع للعالم ، وفي هذه القصة دليل على الحث على الرحلة في طلب العلم وعلى حسن التلطف والاستنزال والأدب في طلب العلم . بقوله ) هَلْ أَتَّبِعُكَ ( وفيه المسافرة مع العالم لاقتباس فوائده ، والمعنى هل يخف عليك ويتفق لك وانتصب ) رَشَدًا ( على أنه مفعول ثان لقوله ) تعلمني ( أو على أنه مصدر في موضع الحال ، وذو الحال الضمير في ) نَرَاكَ اتَّبَعَكَ ).
وقال

" صفحة رقم 140 "
الزمخشري : ) عِلْمًا ( ذا رشد أرشد به في ديني ، قال : فإن قلت : أما دلت حاجته إلى التعلم من آخر في عهده أنه كما قيل موسى بن ميشا لا موسى بن عمران لأن النبيّ يجب أن يكون أعلم أهل زمانه وإمامهم المرجوع إليه في أبواب الدين ؟ قلت : لا غضاضة بالنبيّ في أخذ العلم من نبيّ قبله ، وإنما يغض منه أن يأخذ ممن دونه .
وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس : إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى ، وأن موسى هو موسى بن ميشا فقال : كذب عدو الله انتهى .
وقرأ الحسن والزهري وأبو بحرية وابن محيصن وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد واليزيدي ) رَشَدًا ( بفتحتين وهي قراءة أبي عمرو من السبعة . وقرأ باقي السبعة بضم الراء وإسكان الشين ،
الكهف : ( 67 ) قال إنك لن . . . . .
ونفي الخضر استطاعة الصبر معه على سبيل التأكيد كأنها مما لا يصح ولا يستقيم ، وعلل ذلك بأنه يتولى أموراً هي في ظاهرها ينكرها الرجل الصالح فكيف النبيّ فلا يتمالك أن يشمئز لذلك ، ويبادر بالإنكار
الكهف : ( 68 ) وكيف تصبر على . . . . .
( وَكَيْفَ تَصْبِرُ ( أي إن صبرك على ما لا خبرة لك به مستبعد ، وفيه إبداء عذر له حيث لا يمكنه الصبر لما يرى من منافاة ما هو عليه من شريعته . وانتصب ) خُبْراً ( على التمييز أي مما لم يحط به خبرك فهو منقول من الفاعل أو على أنه مصدر على غير الصدر لأن معنى ) بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ( لم تخبره . وقرأ الحسن وابن هرمز ) خُبْراً ( بضم الباء .
الكهف : ( 69 ) قال ستجدني إن . . . . .
( قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا ( وعده بوجدانه ) صَابِراً ( وقرن ذلك بمشيئة الله علماً منه بشدة الأمر وصعوبته ، إذ لا يصبر إلاّ على ما ينافي ما هو عليه إذ رآه ) وَلاَ أَعْصِى ( يحتمل أن يكون معطوفاً على ) صَابِراً ( أي ) صَابِراً ( وغير عاص فيكون في موضع نصب عطف الفعل على الاسم إذا كان في معناه كقوله ) صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ( أي وقابضات ، ويجوز أن يكون معطوفاً على ) سَتَجِدُنِى ( فلا محل له من الإعراب ولا يكون مقيداً بالمشيئة لفظاً .
وقال القشيري : وعد موسى من نفسه بشيئين : بالصبر وقرنه بالاستثناء بالمشيئة فصبر حين وجد على يدي الخضر فيما كان منه من الفعل ، وبأن لا يعصيه فأطلق ولم يقرنه بالاستثناء فعصاه حيث قال له ) فَلاَ تَسْأَلْنى ( فكان يسأله فما قرن بالاستثناء لم يخالف فيه وما أطلقه وقع فيه الخف انتهى . وهذا منه على تقدير أن يكون ) وَلاَ أَعْصِى ( معطوفاً اً على ) سَتَجِدُنِى ( فلم يندرج تحت المشيئة .
الكهف : ( 70 ) قال فإن اتبعتني . . . . .
( قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى ( أي إذا رأيت مني شيئاً خفي عليك وجه صحته فأنكرت في نفسك فلا تفاتحني بالسؤال حتى أكون أنا الفاتح عليك ، وهذا من أدب المتعلم مع العالم المتبوع . وقرأنا نافع وابن عامر ) فَلاَ تَسْأَلْنى ( وعن أبي جعفر بفتح السين واللام من غير همز مشددة النون وباقي السبعة بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون . قال أبو علي . كلهم بياء في الحالين انتهى . وعن ابن عامر في حذف الياء خلاف غريب .
( فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ).
الكهف : ( 71 ) فانطلقا حتى إذا . . . . .
( فَانطَلَقَا ( أي موسى والخضر وكان معهم يوشع ولم يضمر لأنه في حكم التبع . وقيل : كان موسى قد صرفه وردّه إلى بني إسرائيل . والألف واللام في ) السَّفِينَةِ ( لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة . وروي في كيفية ركوبهما السفينة وخرقها وسدها أقوال ، والمعتمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما قالا : ( فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فلكموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلاّ والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها ) لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ( إلى قوله

" صفحة رقم 141 "
) عُسْراً ( ) قال : وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( وكان الأول من موسى نسياناً قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلاّ مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ) .
واللام في ) لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ). قيل : لام العاقبة . وقيل : لام العلة . وقرأ زيد بن عليّ والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وحمزة والكسائي وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني ليغرق بفتح الياء والراء وسكون الغين ) أَهْلِهَا ( بالرفع . وقرأ باقي السبعة بضم تاء الخطاب وإسكان الغين وكسر الراء ونصب لام ) أَهْلِهَا ). وقرأ الحسن وأبو رجاء كذلك إلاّ أنهما فتحا الغين وشدد الراء .
الكهف : ( 72 ) قال ألم أقل . . . . .
ثم ذكره الخضر بما سبق له من نفي استطاعته الصبر لما يرى
الكهف : ( 73 ) قال لا تؤاخذني . . . . .
فقال ) لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ ( والظاهر حمل النسيان على وضعه . وقد قال عليه السلام : ( كانت الأولى من موسى نسياناً ) والمعنى أنه نسي العهد الذي كان بينهما من عدم سؤاله حتى يكون هو المخبر له أولاً وهذا قول الجمهور . وعن أبيّ ابن كعب أنه ما نسي ولكن قوله هذا من معاريض الكلام . قال الزمخشري : أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي ، أو أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان توهمه أنه نسي ليبسط عذره في الإنكار وهو من معاريض الكلام التي ينفي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه السلام . هذه أختي وإني سقيم : أو أراد بالنسيان الترك أي ) لاَ تُؤَاخِذْنِى ( بما تركت من وصيتك أول مرة انتهى .
وقد بيَّن ابن عطية كلام أبيّ بكلام طويل يوقف عليه في كتابه ، ولا يعتمد إلاّ قول الرسول : ( كانت الأولى من موسى نسياناً ) .
( وَلاَ تُرْهِقْنِى ( لا تغشني وتكلفني ) مِنْ أَمْرِى ( وهو اتباعك ) عُسْراً ( أي شيئاً صعباً ، بل سهِّل عليّ في متابعتك بترك المناقشة . وقرأ أبو جعفر ) عُسْراً ( بضم السين حيث وقع
الكهف : ( 74 ) فانطلقا حتى إذا . . . . .
فانطلقا في الكلام حذف تقديره فخرجا من السفينة ولم يقع غرق بأهلها ، فانطلقا فبينما هما يمشيان على الساحل إذا بصر الخضر ) غُلَاماً ( يلعب مع الصبيان وفي بعض الروايات فمر بغلمان يلعبون فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء الوجه فاقتلع رأسه . وقيل : رضه بحجر . وقيل : ذبحه . وقيل : فتل عنقه . وقيل : ضرب برأسه الحائط . قيل : وكان هذا الغلام لم يبلغ الحلم ولهذا قال : ) أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ). وقيل : كان الغلام بالغاً شاباً ، والعرب تبقى على الشاب اسم الغلام . ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج : شفاها من الداء الذي قد أصابها
غلام إذا هز القناة سقاها
وقال آخر : تلق ذباب السيف عني فإنني
غلام إذا هو جيت لست بشاعر وقيل : أصله من الاغتلام وهو شدّة الشبق ، وذلك إنما يكون في الشباب الذين قد بلغوا الحلم ويتناول الصبي الصغير تجوّزاً تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه . ( واختلف في اسم هذا الغلام واسم أبيه واسم أمه ) ولم يرد شيء من ذلك في الحديث . وفي الخبر أن هذا الغلام كان يفسد ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه .

" صفحة رقم 142 "
وحكي القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه السلام لما قال للخضر ) أَقَتَلْتَ نَفْسًا ( غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه ، وإذا في عظم كتفه مكتوب كافر لا يؤمن بالله أبداً .
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل ) السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ( بغير فاء و ) فَقَتَلَهُ ( بالفاء ؟ قلت : جعل خرقها جزاء للشرط ، وجعل قتله من جملة الشرط معطوفاً عليه والجزاء قال ) أَقَتَلْتَ ( : فإن قلت : فلم خولف بينهما ؟ قلت : لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام انتهى .
ومعنى ) زَكِيَّةً ( طاهرة من الذنوب ، ووصفها بهذا الوصف لأنه لم يرها أذنبت ، قيل أو لأنها صغيره لم تبلغ الحنث . وقوله ) بِغَيْرِ نَفْسٍ ( يرده ويدل على كبر الغلام وإلاّ فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس . وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب والتمار عن رويس عنه وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف . وقرأ زيد بن عليّ والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون ) زَكِيَّةً ( بغير ألف وبتشديد الياء وهي أبلغ من زاكية لأن فعيلا المحول من فاعل يدل على المبالغة .
وقرأ الجمهور ) نُّكْراً ( بإسكان الكاف . وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم برفع الكاف حيث كان منصوباً . والنكر قيل : أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهون من إعراق أهل السفينة . وقيل : معناه شيئاً أنكر من الأول ، لأن الخرق يمكن سده والقتل لا سبيل إلى تدارك الحياة معه . وفي قوله ) لَكَ ( زجر وإغلاظ ليس في الأول لأن موقعه التساؤل بأنه بعد التقدم إلى ترك السؤال واستعذار موسى بالنسيان أفظع وأفظع في المخالفة لما كان أخذ على نفسه من الصبر وانتفاء العصيان .
الكهف : ( 76 ) قال إن سألتك . . . . .
( قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا ( أي بعد هذه القصة أو بعد هذه المسألة ) فَلاَ تُصَاحِبْنِى ( أي فأوقع الفراق بيني وبينك . وقرأ الجمهور ) فَلاَ تُصَاحِبْنِى ( من باب المفاعلة . وقرأ عيسى ويعقوب فلا تصحبني مضارع صحب وعيسى أيضاً بضم التاء وكسر الحاء مضارع أصحب ، ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني علمك وقدره بعضهم فلا تصحبني إياك وبعضهم نفسك . وقرأ الأعرج بفتح التاء والباء وشد النون . ومعنى ) قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً ( أي قد اعتذرت إليّ وبلغت إلى العذر . وقرأ الجمهور ) مِن لَّدُنّى ( بإدغام نون لدن في نون الوقاية التي اتصلت بياء المتكلم . وقرأ نافع وعاصم بتخفيف النون وهي نون لدن اتصلت بياء المتكلم وهو القياس ، لأن أصل الاسماء إذا أضيفت إلى ياء المتكلم لم تلحق نون الوقاية نحو غلامي وفرسي ، وأشم شعبة الضم في الدال ، وروي عن عاصم سكون الدال . قال ابن مجاهد : وهو غلط وكأنه يعني من جهة الرواية ، وأما من حيث اللغة فليست بغلط لأن من لغاتها لد بفتح اللام وسكون الدال . وقرأ عيسى ) عُذْراً ( بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي عذري بكسر الراء مضافاً إلى ياء المتكلم . وفي البخاري قال : ( يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما ) وأسند الطبري قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا دعا لأحد بدأ بنفسه فقال : ( رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأي العجب ) ولكنه قال ) فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً ).
الكهف : ( 77 ) فانطلقا حتى إذا . . . . .
والقرية التي أتيا أهلها إنطاكية أو الأبله أو بجزيرة الأندلس وهي الجزيرة الخضراء ، أو برقة أو أبو حوران بنا حية أذربيجان ، أو ناصرة من أرض الروم أو قرية بأرمينية أقوال مضطربة بحسب اختلافهم في أي ناحية من الأرض كانت قصة والله أعلم بحقيقة ذلك . وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله تعالى . وتكرر لفظ ) أَهْلُ ( على سبيل التوكيد ، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد وهو أنهما حين ) أَتَيَا أَهْلَ القَرْيَةِ ( لم يأتيا جميع أهل القرية إنما أتيا بضعهم ، فلما قال ) اسْتَطْعَمَا ( احتمل أنهما لم يستطعما إلاّ ذلك البعض الذي أتياه

" صفحة رقم 143 "
فجيء بلفظ أهلها ليعم جميعهم وأنهم يتبعونهم واحداً واحداً بالاستطعام ، ولو كان التركيب استطعماهم لكان عائداً على البعض المأتي .
وقرأ الجمهور ) يُضَيّفُوهُمَا ( بالتشديد من ضيف . وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بكسر الضاد وإسكان الياء من أضاف ، كما تقول ميّل وأمال ، وإسناد الإرادة إلى الجدار من المجاز البليغ والاستعارة البارعة وكثيراً ما يوجد في كلام العرب إسناد أشياء تكون من أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل من الحيوان وإلى الجماد ، أو الحيوان الذي لا يعقل مكان العاقل لكان صادراً منه ذلك الفعل . وقد أكثر الزمخشري وغيره من إيراد الشواهد على ذلك ومن له أدنى مطالعة لكلام العرب لا يحتاج إلى شاهد في ذلك .
قال الزمخشري : ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله ممن لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر لأن ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة ، فتمحل ليرده إلى ما هو عنده أصح وأفصح ، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز أدخل في الإعجاز انتهى . وما ذكره أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني من أنه ينكر المجاز في القرآن لعله لا يصح عنه ، وكيف يكون ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدين في النظم والنثر .
وقرأ الجمهور ) يَنقَضَّ ( أي يسقط من انقضاض الطائر ، ووزنه انفعل نحو انجر . قال صاحب اللوامح : من القضة وهي الحصى الصغار ، ومنه طعام قضض إذا كان فيه حصى ، فعلى هذا ) يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ( أي يتفتت فيصير حصاة انتهى . وقيل : وزنه أفعّل من النقض كأحمرِّ . وقرأ أبي ) يَنقَضَّ ( بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنياً للمفعول من نقضته وهي مروية عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش يريد لينقض كذلك إلاّ أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام . وقرأ علي وعكرمة وأبو شيخ خيوان بن خلالد الهنائي وخليد بن سعد ويحيى بن يعمر ينقاص بالصاد غير معجمة مع الألف ، ووزنه ينفعل اللازم من قاص يقيص إذا كسرته تقول : قصيته فانقاص . قال ابن خالويه : وتقول العرب انقاصت السنّ إذا انشقت طولاً . قال ذو الرمة : منقاص ومنكثب . وقيل : إذا تصدعت كيف كان . ومنه قول أبي ذؤيب : فراق كقص السن فالصبر إنه
لكل أناس عشرة وحبور
وقرأ الزهري : ينقاض بألف وضاد معجمة وهي من قولهم : قضته معجمة فانقاض أي هدمته فانهدم . قال أبو عليّ : والمشهور عن الزهري بصاد غير معجمة .
( فَأَقَامَهُ ( الظاهر أنه لم يهدمه وبناه كما ذهب إليه بعضهم من أنه هدمه وقعد يبنيه . ووقع هذا في مصحف عبد الله وأيد بقوله ) لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ( لأن بناءه بعد هدمه يستحق عليه أجراً . وقال ابن جبير : مسحه بيده وأقامه فقام . وقيل : أقامه بعمود عمده به . وقال مقاتل : سواه بالشيد أي لبسه به وهو الجيار . وعن ابن عباس : دفعه بيده فاستقام وهذا أليق بحال الأنبياء . قال الزمخشري : كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة فلم يجدا مواسياً ، فلما أقام الجدار لم يتمالك

" صفحة رقم 144 "
موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن ) قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ( وطلبت على عملك جعلاً حتى تنتعش به وتستدفع الضرورة انتهى . قال ابن عطية : وقوله ) لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ( وإن لم يكن سؤالاً ففي ضمنه الإنكار لفعله ، والقول بتصويب أخذ الأجر وفي ذلك تخطئة ترك الأجر انتهى . وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وابن بحرية ولتخذت بتاء مفتوحة وخاء مكسورة ، يقال تخذ واتخذ نحو تبع واتبع ، افتعل من تخذ وأدغم التاء في التاء . قال الشاعر : وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها
نسيفاً كأفحوص القطاة المطرق والتاء أصل عند البصريين وليس من الأخذ ، وزعم بعضهم أن الاتخاذ افتعال من الأخذ وأنهم ظنوا التاء أصلية فقالوا في الثلاثي تخذ كما قالوا تقي من اتقى . والظاهر أن هذا إشارة إلى قوله ) لَوْ شِئْتَ ( أي هذا الإعراض سبب الفراق ) بَيْنِى وَبَيْنَكَ ( على حسب ما سبق من ميعاده . أنه قال ) إِن سَأَلْتُكَ ( وهذه الجملة وإن لم تكن سؤالاً فإنها تتضمنه ، إذ المعنى ألم تكن تتخذ عليه أجراً لاحتياجنا إليه .
وقال الزمخشري : قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام ) إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى ( فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه كما تقول : هذا أخوك فلا يكون هذا إشارة إلى غير الأخ انتهى . وفيما قاله نظر .
الكهف : ( 78 ) قال هذا فراق . . . . .
وقرأ ابن أبي عبلة ) فِرَاقُ بَيْنِى ( بالتنوين والجمهور على الإضافة . والبين قال ابن عطية : الصلاح الذي يكون بين المصطحبين ونحوهما ، وذلك مستعار فيه من الظرفية ومستعمل استعمال الأسماء ، وتكريره ) بَيْنِى وَبَيْنَكَ ( وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد . ) سَأُنَبّئُكَ ( أي سأخبرك ) بِتَأْوِيلِ ( ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ، أي بما آل إليه الأمر فيما كان ظاهره أن لا يكون . وقرأ ابن وثاب سأنبيك بإخلاص الياء من غير همز . وعن ابن عباس : كان قول موسى في السفينة وفي الغلام لله ، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا فكان سبب الفراق . وقال أرباب المعاني : هذه الأمثلة التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى وإعجاله ، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي : يا موسي أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحاً في اليم ؟ فلما أنكر قتل الغلام قيل له : أين إنكار هذا من وكز القبطي وقضائك عليه ؟ فلما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجرة ؟ ) سَأُنَبّئُكَ ( في معاني هذا معك ولا أفارقك حتى أوضح لك ما استبهم عليك .
2 ( ) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَواةً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ( ) ) 2
) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَواةً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ).

" صفحة رقم 145 "
الكهف : ( 79 ) أما السفينة فكانت . . . . .
روي أن موسى عليه السلام لما عزم الخضر على مفارقته أخذ بثيابه ، وقال : لا أفارقك حتى تخبرني بمَ أباح لك فعل ما فعلت ، فلما التمس ذلك منه أخذ في البيان والتفصيل ، فقال : ) أَمَّا السَّفِينَةُ ( فبدأ بقصة ما وقع له أولاً . قيل : كانت لعشرة إخوة ، خمسة زمني وخمسة يعملون في البحر . وقيل : كانوا أجراء فنسبت إليهم للاختصاص . وقرأ الجمهور : مساكين بتخفيف السين جمع مسكين . وقرأ عليّ كرم الله وجهه بتشديد السين جمع مساك جمع تصحيح . فقيل : المعنى ملاحين ، والمساك الذي يمسك رجل السفينة وكل منهم يصلح لذلك . وقيل : المساكون دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ، والقراءة الأولى تدل على أن السفينة كانت لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم ، واحتج بهذه الآية على أن المسكين هو الذي له بلغة من العيش كالسفينة لهؤلاء ، وأنه أصلح حالاً من الفقير . وقوله ) فَأَرَدتُّ ( فيه إسناد إرادة العيب إليه . وفي قوله : فأراد ربك أن يبلغا لما في ذكر العيب ما فيه فلم يسنده إلى الله ، ولما في ذلك من فعل الخير أسنده إلى الله تعالى .
قال الزمخشري : فإن قلت : قوله ) فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ( مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدم عليه ؟ قلت : النية به التأخير ، وإنما قدم للعناية ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كونها ) المساكين ( فكان بمنزلة قولك : زيد ظني مقيم .
وقيل في قراءة أبيّ وعبد الله كل سفينة صالحة انتهى . ومعنى ) فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ( بخرقها . وقرأ الجمهور ) وَرَاءهُم ( وهو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام ، ومعناه هنا أمامهم . وكذا قرأ ابن عباس وابن جبير . وكون ) وَرَاءهُم ( بمعنى أمامهم قول قتادة وأبي عبيد وابن السكيت والزجاج ، ولا خلاف عند أهل اللغة أن وراء يجوز بمعنى قدام ، وجاء في التزيل والشعر قال تعالى ) مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ( وقال ) وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ( وقال ) وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ). وقال لبيد : أليس ورائي إن تراخت منيتي
لزوم العصا يحني عليها الأصابع
وقال سوار بن المضرب السعدي أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي
وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقال آخر أليس ورائي أن أدب على العصا
فتأمن أعداء وتسأمني أهلي وقال ابن عطية : وقوله ) وَرَاءهُم ( عندي هو على بابه ، وذلك أن هذه الالفاظ إنما تجيء يراعى بها الزمن ، والذي يأتي بعد هو الوراء وهو ما خلف ، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي ، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت

" صفحة رقم 146 "
تجدها تطرد ، فهذه الآية معناها أن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك ، ومن قرأ أمامهم أراد في المكان أي أنهم كانوا يسيرون إلى بلده وقوله تعالى في التوراة والإنجيل . إنها بين يدي القرآن ، مطرد على ما قلناه في الزمن . وقوله ) مّن وَرَائِهِمْ ( مطرد كما قلنا من مراعاة الزمن . وقول النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( الصلاة أمامك ) يريد في المكان ، وإلاّ فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن . وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب الألفاظ ووقع لقتادة في كتب الطبري ) أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ ). قال قتادة : أمامهم ألا ترى أنه يقول ) مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ( وهي من بين أيديهم ، وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجاج . ويجوز أن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب فكان وراءهم حقيقة انتهى . وهو كلام فيه تكثير وكأنه ينظر إلى ما قاله الفراء . قال الفراء : لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك ، إنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهر تقول : وراءك برد شديد ، وبين يديك برد شديد جاز الوجهان لأن البرد إذا لحقك صار من ورائك ، وكأنك إذا بلغته صار بين يديك . قال : إنما جاز هذا في اللغة لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك .
وقال أبو علي : إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة ، ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ، وأكثر أهل اللغة على أن وراء من الأضداد انتهى .
قيل : واسم هذا الملك هدد بن بدد وكان كافراً . وقيل : الجلندي ملك غسان ،
الكهف : ( 80 ) وأما الغلام فكان . . . . .
وقوله ) فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ( في هذا حذف وهو أن المعنى وكان كافراً وكذا وجد في مصحف أبيّ . وقرأ ابن عباس : ) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ ( كافراً وكان ) أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ( ونص في الحديث على أنه كان كافراً مطبوعاً على الكفر ، ويراد بأبويه أبوه وأمه ثني تغليباً من باب القمرين في القمر والشمس ، وهي تثنية لا تنقاس . وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري : فكان أبواه مؤمنان ، فخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن ، والجملة في موضع خبر لكان ، وأجاز أبو الفضل الرازي على أن في كل ضمير الشأن والجملة في موضع خبر لكان ، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون مؤمنان على لغة بني الحارث ابن كعب ، فيكون منصوباً ، وأجاز أيضاً أن يكون في كان ضمير الغلام والجملة خبر كان .
( فَخَشِينَا ( أي خفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين ) طُغْيَانًا ( عليهما ) وَكُفْراً ( لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه ، ويلحق بهما شراً وبلاء ، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفرة ، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان ، وطاغ كافر أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان . وإنما خشى الخضر منه ذلك لأن الله عز وعلا أعلمه بحاله وأطلعه على سرائر أمره وأمره بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته . وفي قراءة أبيّ فخاف ربك ، والمعنى فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره . ويجوز أن يكون قوله ) فَخَشِينَا ( حكاية لقول الله عز وجل بمعنى فكرهنا كقوله ) لاِهَبَ لَكِ ( قاله الزمخشري . وفي قوله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته مذهب المعتزلة في قولهم بالأجلين ، والظاهر إسناد فعل الخشية في خشينا إلى ضمير الخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر

" صفحة رقم 147 "
وتكلموا . وقيل : هو في جهة الله وعنه عبر الخضر وهو الذي قال فيه الزمخشري ، ويجوز أن يكون إلى آخر كلامه . قال الطبري : ومعناه وقال : معناه فكر هنا . قال ابن عطية : والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة أي على ظن المخلوقين ، والمخاطب لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للوالدين .
وقرأ ابن مسعود فخاف ربك ، وهذا بين الاستعارة في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى فإن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون . و ) يُرْهِقَهُمَا ( معناه يجشمهما ويكلفهما بشدة ، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتبّاعه .
الكهف : ( 81 ) فأردنا أن يبدلهما . . . . .
وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة وحميد والأعمش وابن جرير ) أَن يُبْدِلَهُمَا ( بالتشديد هنا وفي التحريم والقلم . وقرأ باقي السبعة والحسن وابن محيصن بالتخفيف ، والزكاة هنا الطهارة والنقاء من الذنوب وما ينطوي عليه من شرف الخلق والسكينة ، والرحم والرحمة العطف مصدران كالكثر والكثرة ، وافعل هنا ليست للتفضيل لأن ذلك الغلام لا زكاة فيه ولا رحمة . والظاهر أن قوله ) وَأَقْرَبَ رُحْماً ( أي رحمة والديه وقال ابن جريج : يرحمانه . وقال رؤبة بن العجاج : يا منزل الرحم على إدريسا
ومنزل اللعن على إبليسا
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر في رواية ويعقوب وأبو حاتم ) رُحْماً ( بضم الحاء . وقرأ ابن عباس ) رُحْماً ( بفتح الراء وكسر الحاء . وقيل الرحم من الرحم والقرابة أي أو صل للرحم . قيل : ولدت غلاماً مسلماً . وقيل : جارية تزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة من الأمم . وقيل : ولدت سبعين نبياً . رُوي ذلك عن ابن عباس . قال ابن عطية : وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلاّ في بني إسرائيل ، ولم تكن هذه المرأة منهم انتهى .
الكهف : ( 82 ) وأما الجدار فكان . . . . .
ووصف الغلامين باليتم يدل على أنهما كانا صغيرين . وفي الحديث : ( لا يتم بعد بلوغ ) أي كانا ) يَتِيمَيْنِ ( على معنى الشفقة عليهما . قيل : واسمهما أصرم وصريم ، واسم أبيهما كاشح واسم أمهما دهنا ، والظاهر في الكنز أنه مال مدفون جسيم ذهب وفضة قاله عكرمة وقتادة . وقال ابن عباس وابن جبير : كان علماً في مصحف مدفونة . وقيل : لوح من ذهب فيه كلمات حكمة وذكر ، وقد ذكرها المفسرون في كتبهم ولا نطول بذكرها ، والظاهر أن أباهما هو الأقرب إليهما الذي ولدهما دنية . وقيل : السابع . وقيل : العاشر وحفظ هذان الغلامان بصلاح أبيهما . وفي الحديث : ( إن الله يحفظ الرجل الصالح في ذريته ) . وانتصب ) رَحْمَةً ( على المفعول له وأجاز الزمخشري أن ينصب على المصدر بأراد قال : لأنه في معنى رحمهما ، وأجاز أبو البقاء أن ينتصب على الحال وكلاهما متكلف .
( وَمَا فَعَلْتُهُ ( أي وما فعلت ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار عن اجتهاد مني ورأي ، وإنما فعلته بأمر الله وهذا يدل على أنه نبيّ أوحي إليه . و ) تَسْطِع ( مضارع اسطاع بهمزة الوصل . قال ابن الكسيت : يقال ما استطيع وما اسطيع وما استتيع واستتيع أربع لغات ، وأصل اسطاع استطاع على وزن استفعل ، فالمحذوف في اسطاع تاء الافتعال لوجود الطاء التي هي أصل ولا حاجة تدعو إلى أن المحذوف هي الطاء التي هي فاء الفعل ، ثم أبدلوا من تاء الافتعال طاءً ، وأما استتيع ففيه أنهم أبدلوا من الطاء تاء ، وينبغي في تستيع أن يكون المحذوف تاء الافتعال كما في تسطيع .

" صفحة رقم 148 "
وفي كتاب التحرير والتحبير ما نصه : تعلق بعض الجهال بما جرى لموسى مع الخضر عليهما السلام على أن الخضر أفضل من موسى وطردوا الحكم ، وقالوا : قد يكون بعض الأولياء أفضل من آحاد الأنبياء ، واستدلوا أيضاً بقول أبي يزيد خضت بحراً وقف الأنبياء على ساحله وهذا كله من ثمرات الرعونة والظنة بالنفس انتهى . وهكذا سمعنا من يحكي هذه المقالة عن بعض الضالين المضلين وهو ابن العربي الطائي الحاتمي صاحب الفتوح المكية ، فكان ينبغي أن يسمي بالقبوح الهلكية وأنه كان يزعم أن الولّي خير من النبيّ قال : لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، والنبيّ يأخذ بواسطة عن الله ، ولأن الولي قاعد في الحضرة الألهية والنبيّ مرسل إلى قوم ، ومن كان في الحضرة أفضل ممن يرسله صاحب الحضرة إلى أشياء من هذه الكفريات والزندقة ، وقد كثر معظِّمو هذا الرجل في هذا الزمان من غلاة الزنادقة القائلة بالوحدة نسأل الله السلام في أدياننا وأبداننا .
2 ( ) وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاٌّ رْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَىْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الاٌّ رْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ءَاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِىأُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْبًا قَالَ هَاذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّى فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقّاً وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِىأَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاٌّ خْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُواْ ءَايَاتِى وَرُسُلِى هُزُواً إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات

" صفحة رقم 149 "
كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ( )
الكهف : ( 83 ) ويسألونك عن ذي . . . . .
السد الحاجز والحائل بين الشيئين ، ويقال بالضم وبالفتح . الردم : السد . وقيل : الردم أكبر من السد لأن الردم ما جعل بعضه على بعض ، يقال : ثوب مردّم إذا كان قد رقع رقعة فوق رقعة . وقيل : سد الخلل ، قال عنترة .
هل غادر الشعراء من متردم
أي خلل في المعاني فيسد ردماً . الزبرة : القطعة وأصله الاجتماع ، ومنه زبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر ، وزبرت الكتاب جمعت حروفه . الصدفان جانبا الجبل إذا تحاذيا لتقاربهما أو لتلاقيهما قاله الأزهري ، ويقال : صدف بضمهما وبفتحهما وبضم الصاد وسكون الدال وعكسه . قال بعض اللغويين : وفتحهما لغة تميم وضمهما لغة حمير . وقال أبو عبيدة : الصدف كل بناء عظيم مرتفع . القطر النحاس المذاب في قول الأكثرين . وقيل : الحديد المذاب . وقيل : الرصاص المذاب . النقب مصدر نقب أي حفر وقطع . الغطاء معروف وجمعه أغطية ، وهو من غطى إذا ستر . الفردوس قال الفراء : البستان الذي فيه الكرم . وقال ثعلب : كل بستان يحوّط عليه فهو فردوس .
( وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ).
الضمير في ) وَيَسْئَلُونَكَ ( عائد على قريش أو على اليهود ، والمشهور أن السائلين قريش حين دستها اليهود على سؤاله عن الروح ، والرجل الطواف ، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك . وذو القرنين هو الإسكندر اليوناني ذكره ابن إسحاق . وقال وهب : هو رومي وهل هو نبيّ أو عبد صالح ليس بنبي قولان . وقيل : كان ملكاً من الملائكة وهذا غريب . قيل : ملك الدنيا مؤمنان سليمان وذو القرنين ، وكافران نمروذ وبخت نصر ، وكان بعد نمروذ . وعن عليّ كان عبداً صالحاً ليس بملك ولا نبيّ ضرب على قرنه الأيمن فمات في طاعة الله ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات ، فبعثه الله فسمي ذا القرنين . وقيل : طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها . وقيل : كان له قرنان أي ضفيرتان . وقيل : انقرض في وقته قرنان من الناس . وعن وهب لأنه ملك الروم وفارس وروي الروم والترك وعنه كانت صفيحتا رأسه من نحاس . وقيل : كان لتاجه قرنان . وقيل : كان على رأسه ما يشبه القرنين . قال الزمخشري : ويجوز أن يسمى بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه ، وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره انتهى . وقيل غير ذلك في تسميته ذا القرنين والمشهور أنه الإسكندر . وقال أبو الريحان البيروتي المنجم صاحب كتاب الآثار الباقية عن القرون

" صفحة رقم 150 "
الخالية : هو أبو بكر بن سمي بن عمير بن إفريقس الحميري ، بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال : قد كان ذو القرنين قبلي مسلما
ملكاً علا في الأرض غير مبعد
بلغ المشارف والمغارب يبتغي
أسباب ملك من كريم سيد قال أبو الريحان : ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلوا أسماؤهم من ذي كذي المنار ، وذي يواس انتهى . والشعر الذي أنشده نسب أيضاً إلى تبع الحميري وهو .
قد كان ذو القرنين جدي مسلماً
وعن عليّ وابن عباس أن اسمه عبد الله بن الضحاك . وعن محمد بن عليّ بن الحسين عياش . وعن أبي خيثمة هو الصعب بن جابر بن القلمس . وقيل : مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث . وعن عليّ هو من القرن الأول من ولد يافث بن نوح . وعن الحسن : كان بعد ثمود وكان عمره ألف سنة وستمائة . وعن وهب : كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم .
والخطاب في ) عَلَيْكُمْ ( للسائلين إما اليهود وأما قريش على الخلاف الذي سبق في السائلين . وقوله ) ذِكْراً ( يحتمل أن يريد قرآناً وأن يريد حديثاً وخيراً ،
الكهف : ( 84 ) إنا مكنا له . . . . .
والتمكين الذي له ) فِى الاْرْضِ ( كونه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلها . قال بعض المفسرين : والدليل على أنه الإسكندر أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وإلى أقصى المشرق وإلى أقصى الشمال ، بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال ، وهذا الذي بلغه ملك هذا الرجل هو نهاية المعمور من الأرض ، ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الدهر ، وأن لا يكون مختفياً ، والملك الذي اسمه في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلاّ الإسكندر وذلك أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان مع طوائف ثم قصد ملوك العرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ، ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية ودان له العراقيون والقبط والبربر ، ثم نحو دار ابن داراً وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حربه ، واستولى الإسكندر على ممالك الفرس وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات بها .
وورد في الحديث : ( إن الذين ملكوا الأرض أربعة مؤمنان : سليمان بن داود ، وذو القرنين ) . وقد تقدم ذكر ذلك وثبت في علم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلاّ الإسكندر فوجب القطع أن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلفوس اليوناني . وقيل تمكينه في الأرض بالنبوة وإجراء المعجزات . وقيل : تمكينه بأن سخر له السحاب وحمله عليها وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء .

" صفحة رقم 151 "
وقيل : بكثرة أعوانه وجنوده والهيبة والوقار وقذف الرعب في أعدائه وتسهيل السير عليه وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها .
( وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَىْء ( أي يحتاج إليه في الوصول إلى أغراضه ) سَبَباً ( أي طريقاً موصلاً إليه ، والسبب ما يتوصل به إني المقصود من علم أو قدرة أو آلة ، فأراد بلوغ المغرب
الكهف : ( 85 - 86 ) فأتبع سببا
) فَأَتْبَعَ سَبَباً ( يوصله إليه حتى بلغ ، وكذلك أراد المشرق ) فَأَتْبَعَ سَبَباً ( وأراد بلوغ السدين ) فَأَتْبَعَ سَبَباً ( وأصل السبب الحبل ، ثم توسع فيه حتي صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود . وقال الحسن : بلاغاً إلى حيث أراد . وقرأ زيد بن علي والزهري والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والكوفيون وابن عامر ) فَأَتْبَعَ ( ثلاثتها بالتخفيف . وقرأ باقي السبعة بالتشديد والظاهر أنهما بمعنى واحد . وعن يونس بن حبيب وأبي زيد أنه بقطع الهمزة عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب ، وبوصلها إنما يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات .
وقرأ عبد الله وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاصي وابن عمر وعبد الله بن عمرو ومعاوية والحسن وزيد بن عليّ وابن عامر وحمزة والكسائي حامية بالياء أي حارة . وقرأ ابن عباس وباقي السبعة وشيبة وحميد وابن أبي ليلى ويعقوب وأبو حاتم وابن جبير الأنطاكي ) حَمِئَةٍ ( بهمزة مفتوحة والزهري يلينها ، يقال حمئت البئر تحمأ حمأً فهي حمئة ، وحمأتها نزعت حمأتها وأحمأتها أبقيت فيها الحمأة ، ولا تنافي بين الحامية والحمئة إذ تكون العين جامعة للوصفين . وقال أبو حاتم : وقد تمكن أن تكون حامية مهموزة بمعنى ذات حمأة فتكون القراءتان بمعنى واحد يعني إنه سهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسرة ما قبلها ، وفي التوراة تغرب في ماء وطين . وقال تبع : فرأى مغيب الشمس عند مآبها
في عين ذي خلب وثاط حرمد أي في عين ماء ذي طين وحم أسود . وفي حديث أبي ذر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) نظر إلى الشمس عند غروبها فقال : ( أتدري أين تغرب يا أبا ذر ؟ ) فقلت : لا . فقال : ( إنها تغرب في عين حامية ) . وهذا الحديث وظاهر النص دليل على أن قوله ) فِى عَيْنٍ ( متعلق بقوله ) تَغْرُبُ ( لا ما قاله بعض المتعسفين أن قوله في ) عَيْنٍ حَمِئَةٍ ( إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها أي هي آخر الأرض ، ومعنى ) تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ ( أي فيما ترى العين لا أن ذلك حقيقة كما نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض ، ويجوز أن تكون هذه العين من البحر ، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها ، وزعم بعض البغداديين أن ) فِى ( بمعنى عند أي ) تَغْرُبُ ( عند عين .
( وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً ( أي عند تلك العين . قال ابن السائب : مؤمنين وكافرين . وقال غيره : كفرة لباسهم جلود السباع وطعامهم ما أحرقته الشمس من الدواب ، وما لفظته العين من الحوت إذا غربت . وقال وهب : انطلق يؤم المغرب إلى أن انتهى إلى باسك فوجد جمعاً لا يحصيهم إلاّ الله ، فضرب حولهم ثلاثة عساكر حتى جمعهم في مكان واحد ، ثم دخل عليهم في النور ودعاهم إلى عبادة الله ، فمنهم من آمن ومنهم من صدّ عنه . وقال أبو زيد السهيلي : هم أهل حابوس ويقال لها بالسريانية جرجيساً يسكنها قوم من نسل ثمود . بقيتهم الذين آمنوا بصالح عليه السلام .
وظاهر قوله ) قُلْنَا ( أنه أوحي الله إليه على لسان ملك . وقيل : كلمه كفاحاً من غير رسول كما كلم موسى عليه السلام ، وعلى هذين القولين يكون نبياً ويبعد ما قاله بعض المتأولين أنه إلهام وإلقاء في روعه لأن مثل هذا التخيير لا

" صفحة رقم 152 "
يكون إلاّ بوحي إذ التكاليف وإزهاق النفوس لا تتحقق بالإلهام إلاّ بالإعلام . وقال عليّ بن عيسى : المعنى ) قُلْنَا ( يا محمد قالوا ) قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ ( ثم حذف القول الأول لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه الله ، وعلى هذا يكون الضمير الذي في قالوا . المحذوفة يعود على جنده وعسكره الذين كانوا معه .
وقوله ) إِمَّا أَن تُعَذّبَ ( بالقتل على الكفر ) وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ( أي بالحمل على الإيمان والهدى ، إما أن تكفر فتعذب ، وإما أن تؤمن فتحسن فعبر في التخيير بالمسبب عن السبب . قال الطبري : اتخاذ الحسن هو أسرهم مع كفرهم يعني أنه خير مع كفرهم بين قتلهم وبين أسرهم ، وتفصيل ذي القرنين ) أَمَّا مَن ظَلَمَ ( و ) أَمَّا مَنِ مِن ( يدفع هذا القول
الكهف : ( 87 - 88 ) قال أما من . . . . .
ولما خيره تعالى بين تعذيبهم ودعائهم إلى الإسلام اختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم . فقال : أما من دعوته فأبى إلاّ البقاء على الظلم وهو الكفر هنا بلا خلاف فذلك هو المعذب في الدارين ، وأما من آمن وعمل ما يقتضيه الإيمان فله جزاء الحسنى . وأتى بحرف التنفيس في ) فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ( لما يتخلل بين إظهاره كفره وبين تعذيبه من دعائه إلى الإيمان وتأبيه عنه ، فهو لا يعاجلهم بالقتل على ظلمهم بل يدعوهم ويذكرهم فإن رجعوا وإلاّ فالقتل .
وقوله ) ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ ( أي يوم القيامة وأتى بنون العظمة في ) نُعَذِّبُهُ ( على عادة الملوك في قولهم نحن فعلنا . وقوله ) إِلَى رَبّهِ ( فيه إشعار بأن التخيير لذي القرنين ليس من الله تعالى ، إذ لو كان كذلك لكان التركيب ثم يرد إليك فتعذبه ، ولا يبعد أن يكون التخيير من الله ويكون قد أعلم ذو القرنين بذلك أتباعه ثم فصل مخاطباً لاتباعه لا لربه تعالى ، وما أحسن مجيء هذه الجمل لما ذكر ما يستحقه من ظلم بدأ بما هو أقرب لهم ومحسوس عندهم ، وهو قوله ) فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ( ثم أخبر بما يلحقه آخراً يوم القيامة وهو تعذيب الله إياه العذاب النكر ولأن الترتيب الواقع هو كذا ولما ذكر ما يستحقه ) مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ( ذكر جزاء الله له في الآخرة وهو ) الْحُسْنَى ( أي الجنة لأن طمع المؤمن في الآخرة ورجاءه هو الذي حمله على أن آمن لأجل جزائه في الآخرة ، وهو عظيم بالنسبة للإحسان في الدنيا ثم أتبع ذلك بإحسانه له في الدنيا بقوله ) وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ( أي لا نقول له ما يتكلفه مما هو شاق عليه أي قولاً ذا يسر وسهولة كما قال قولاً ميسوراً . ولما ذكر ما أعد الله له من الحسنى جزاء لم يناسب أن يذكر جزاءه بالفعل بل اقتصر على القول أدباً مع الله تعالى وإن كان يعلم أنه يحسن إليه فعلاً وقولاً .
وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومحمد بن جرير ) فَلَهُ جَزَاء ( بالنصب والتنوين وانتصب ) جَزَاء ( على أنه مصدر في موضع الحال أي مجازي كقولك في الدار قائماً زيد . وقال أبو علي قال أبو الحسن : هذا لا تكاد العرب تكلم به مقدماً إلاّ في الشعر . وقيل : انتصب على المصدر أي يجزي ) جَزَاء ). وقال الفراء : ومنصوب على التفسير والمراد بالحسنى على قراءة النصب الجنة . وقرأ باقي السبعة ) جَزَاء الْحُسْنَى ( برفع ) جَزَاء ( مضافاً إلى ) الْحُسْنَى ). قال أبو عليّ جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها أو يراد بالحسنى الحسنة والجنة هي الجزاء ، وأضاف كما قال دار الآخرة و ) جَزَاء ( مبتدأ وله خبره .
وقرأ عبد الله بن إسحاق ) فَلَهُ جَزَاء ( مرفوع وهو مبتدأ وخبر و ) الْحُسْنَى ( بدل من ) جَزَاء ). وقرأ ابن عباس ومسروق ) جَزَاء ( نصب بغير تنوين ) الْحُسْنَى ( بالإضافة ، ويخرج على حذف المبتدإ لدلالة المعنى عليه ، أي ) فَلَهُ ( الجزاء ) جَزَاء الْحُسْنَى ( وخرجه المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين . وقرأ أبو جعفر ) يُسْراً ( بضم السين حيث وقع .
الكهف : ( 89 ) ثم أتبع سببا
) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ( أي طريقاً إلى مقصده الذي يسر له .
الكهف : ( 90 ) حتى إذا بلغ . . . . .
وقرأ الحسن وعيسى وابن محيصن ) مَطْلِعَ ( بفتح اللام ، ورويت عن ابن كثير وأهل مكة وهو القياس . وقرأ الجمهور بكسرها وهو سماع في أحرف معدودة ، وقياس كسره أن يكون المضارع تطلع بكسر اللام وكان الكسائي يقول : هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب ، يعني ذهب من يقول من العرب تطلع بكسر اللام وبقي ) مَطْلِعَ ( بكسرها في اسم المكان والزمان على ذلك القياس ، والقوم هنا الزنج . وقال قتادة هم الهنود وما وراءهم . والستر البنيان أو الثياب أو السجر والجبال أقوال ، والمعنى أنهم لا شيء لهم يسترهم من حر الشمس .

" صفحة رقم 153 "
وقيل : تنفذ الشمس سقوفهم وثيابهم فتصل إلى أجسامهم . فقيل : إذا طلعت نزلوا الماء حتى ينكسر حرها قاله الحسن وقتادة وابن جريج . وقيل : يدخلون أسراباً . وقال مجاهد : السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض . قال ابن عطية : والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم ، وفعلها بقدرة الله فيهم ونيلها منهم ، ولو كانت لهم أسراب لكان ستراً كثيفاً انتهى . وقال بعض الرجاز : بالزنج حرّ غير الأجسادا
حتى كسا جلودها سوادا
وذلك إنما هو من قوة حرّ الشمس عندهم واستمرارها . كذلك الإشارة إلى البلوغ أي كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها . وقيل ) أَتْبَعَ سَبَباً ( كما ) أَتْبَعَ سَبَباً ). وقيل : كما وجد أولئك عند مغرب الشمس وحكم فيهم كذلك وجد هؤلاء عند مطلع الشمس وحكم فيهم . وقيل : كذلك أمرهم كما قصصنا عليكم . وقيل : ) تَطَّلِعُ ( طلوعها مثل غروبها . وقيل : ) لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً
الكهف : ( 91 ) كذلك وقد أحطنا . . . . .
كَذالِكَ أي مثل أولئك الذين وجدهم في مغرب الشمس كفرة مثلهم ، وحكمهم مثل حكمهم في التعذيب لمن بقي على الكفر والإحسان لمن آمن .
وقال الزمخشري : ) كَذالِكَ ( أي أمر ذي القرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيماً لأمره . وقيل ) لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً ( مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأكنان من كل جنس ، والثياب من كل صنف . وقال ابن عطية : ) كَذالِكَ ( معناه فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب ، وأخبر بقوله ) كَذالِكَ ( ثم أخبر تعالى عن إحاطته بجميع ما لدى ذي القرنين وما تصرّف فيه من أفعاله ، ويحتمل أن يكون ) كَذالِكَ ( استئناف قول ولا يكون راجعاً على الطائفة الأولى فتأمله ، والأول أصوب . وإذا كان مستأنفاً لا تعلق له بما قبله فيحتاج إلى تقدير يتم به كلاماً .
( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُواْ يأَبَانَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا قَالَ مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا مَا زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى سَاوِى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْبًا قَالَ هَاذَا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لّلْكَافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً ).
الكهف : ( 92 ) ثم أتبع سببا
) سَبَباً ( أي طريقاً أو مسيراً موصلاً إلى الشمال
الكهف : ( 93 ) حتى إذا بلغ . . . . .
فإن ) السَّدَّيْنِ ( هناك . قال وهب : السدّان جبلان منيفان في السماء من ورائهما ومن أمامهما البلدان ، وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي أرمينية وأذربيجان . وذكر الهروي أنهما جبلان من وراء بلاد الترك . وقيل : هما جبلان من جهة الشمال لينان أملسان ، يزلق عليهما كل شيء ، وسمي الجبلان سدّين لأن كل واحد منهما سد فجاج الأرض وكانت بينهما فجوة كان يدخل منها يأجوج ومأجوج . وقرأ مجاهد وعكرمة والنخعي وحفص وابن كثير وأبو عمرو ) بَيْنَ السَّدَّيْنِ ( بفتح السين . وقرأ باقي السبعة بضمها . قال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد . وقال الخليل وسيبويه : بالضم الاسم وبالفتح المصدر . وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة : ما كان من خلق الله لم يشارك فيه أحد فهو بالضم ، وما كان من صنع البشر فبالفتح . وقال ابن أبي إسحاق ما رأت عيناك فبالضم ، وما لا يرى فبالفتح . وانتصب ) بَيْنَ ( على أنه مفعول به يبلغ كما ارتفع في ) لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ( وانجر بالإضافة في ) هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ ( و ) بَيْنَ ( من الظروف المتصرفة ما لم تركب مع أخرى مثلها ، نحو قولهم همزة بين بين .
( مِن دُونِهِمَا ( من دون السدين و ) قَوْماً ( يعني من

" صفحة رقم 154 "
البشر . وقال الزمخشري : هم الترك انتهى . وأبعد من ذهب إلى أنهم جان . قال الزمخشري : وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق ، ونفي مقارنة فقههم ) قَوْلاً ( وتضمن نفي فقههم . وقال الزمخشري : لا يكادون يفهمونه إلاّ بجهد ومشقة كأنه فهم من نفي يكاد أنه يقع منهم الفهم بعد عسر ، وهو قول لبعضهم إن نفيها إثبات وإثباتها نفي ، وليس بالمختار .
وقرأ الأعمش وابن أبي ليلى وخلف وابن عيسى الأصبهاني وحمزة والكسائي ) يَفْقَهُونَ ( بضم الياء وكسر القاف أي يفهمون السامع كلامهم ، ولا يبينونه لأن لغتهم غريبة مجهولة .
الكهف : ( 94 ) قالوا يا ذا . . . . .
والضمير في ) قَالُواْ ( عائد على هؤلاء القوم شكوا ما يلقون من يأجوج ومأجوج إذ رجوا عنده ما ينفعهم لكونه ملك الأرض ودوخ الملوك وبلغ إليهم وهم لم يبلغ أرضهم ملك قبله ، و ) يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ( من ولد آدم قبيلتان . وقيل : هما من ولد يافث بن نوح . وقيل : ) يَأْجُوجَ ( من الترك ) وَمَأْجُوجَ ( من الجيل والديلم . وقال السدي والضحاك : الترك شرذمة منهم خرجت تغير ، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب . وقال قتادة والسدي : بني السد على إحدى وعشرين قبيلة ، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك وقد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء وهما ممنوعاً الصرف ، فمن زعم أنهما أعجميان فللعجمة والعلمية ، ومن زعم أنهما عربيان فللتأنيث والعلمية لأنهما اسما قبيلتين .
وقال الأخفش : إن جعلنا ألفهما أصلية فيأجوج يفعول ومأجوج مفعول ، كأنه من أجيج النار ومن لم يهمزهما جعلها زائدة فيأجوج منم يججت ، ومأجوج من مججت . وقال قطرب في غير الهمز مأجوج فاعول من المج ، ويأجوج فاعول من يج . وقال أبو الحسن عليّ بن عبد الصمد السخاوي أحد شيوخنا : الظاهر أنه عربي وأصله الهمز ، وترك الهمز على التخفيف وهو إما من الأجّة وهو الاختلاف كما قال تعالى ) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ ( أو من الأج وهو سرعة العدو ، قال تعالى ) وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ( وقال الشاعر : يؤج كما أج الظليم المنفر أو من الأجة وهو شدة الحرّ ، أو من أجّ الماء يئج أجوجاً إذا كان ملحاً مراً انتهى . وقرأ عاصم والأعمش ويعقوب في رواية بالهمزة وفي ) يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ( وكذا في الأنبياء وفي لغة بني أسد ذكره الفراء . قيل : ولا وجه له إلاّ اللغة الغربية المحكية عن العجاج أنه كان يهمز العألم والخأتم . وقرأ باقي السبعة بألف غير مهموزة وهي لغة كل العرب غير بني أسد . وقرأ العجاج ورؤبة ابنه : آجوج بهمزة بدل الياء . وإفسادهم الظاهر تحقق الإفساد منهم لا توقعه لأنها شكت من ضررنا لها . وقال سعيد بن عبد العزيز : إفسادهم أكل بني آدم . وقيل : هو الظلم والقتل ووجوه الإفساد المعلوم من البشر . وقيل : كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئاً أخضر إلاّ أكلوه ، ولا يابساً إلاّ احتملوه ، وروي أنه لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلٌّ قد حمل السلاح .
( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً ( استدعاء منهم قبول ما يبذلونه مما يعينه على ما طلبوا على جهة حسب الأدب إذ سألوه ذلك كقول موسى للخضر ) هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن ). وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومن السبعة حمزة والكسائي خراجاً بألف هنا ، وفي حرفي قد أفلح وسكن ابن عامر الراء فيها . وقرأ باقي السبعة ) لَكَ خَرْجاً ( فيهما بسكون

" صفحة رقم 155 "
الراء فخراج بالألف والخرج والخراج بمعنى واحد كالنول والنوال ، والمعنى جعلا تخرجه من أموالنا ، وكل ما يستخرج من ضريبة وجزية وغلة فهو خراج وخرج . وقيل : الخرج المصدر أطلق على الخراج ، والخراج الاسم لما يخرج . وقال ابن الأعرابي : الخرج على الرؤوس يقال : أدّ خرج رأسك ، والخراج على الأرض . وقال ثعلب : الخرج أخص والخراج أعم . وقيل : الخرج المال يخرج مرة والخراج المجبي المتكرر عرضوا عليه أن يجمعوا له أموالاً يقيم بها أمر السد . وقال ابن عباس ) خراجاً ( أجراً .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ) وَبَيْنَهُمْ سَدّا ( بضم السين وابن محيصن وحميد والزهري والأعمش وطلحة ويعقوب في رواية وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وباقي السبعة بفتحها
الكهف : ( 95 ) قال ما مكني . . . . .
( قَالَ مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ ( أي ما بسط الله لي من القدرة والملك خير من خرجكم ) فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ ( أي بما أتقوّى به من فعلة وصناع يحسنون العمل والبناء ؛ قاله مقاتل وبالآلات ؛ قال الكلبي ) رَدْمًا ( حاجزاً حصيناً موثقاً . وقرأ ابن كثير وحميد : ما مكنني بنونين متحركتين ، وباقي السبعة بإدغام نون مكن في نون الوقاية .
ثم فسر الإعانة بالقوة فقال ) زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى ( أي أعطوني . قال ابن عطية : إنما هو استدعاء مناولة لا استدعاء عطية وهبة لأنه قد ارتبط من قوله إنه لا يأخذ منهم الخراج ، فلم يبق إلاّ استدعاء المناولة انتهى .
الكهف : ( 96 ) آتوني زبر الحديد . . . . .
وقرأ الجمهور ) ءاتُونِى ). وقرأ أبو بكر عن عاصم ائتوني أي جيئوني . وانتصب ) زُبُرِ ( بإيتوني على إسقاط حرف الجر أي جيئوني بزبر ) الْحَدِيدَ ). وقرأ الجمهور ) زُبُرِ ( بفتح الباء والحسن بضمها ، وفي الكلام حذف تقديره فأتوه أو فآتوه بها فأمر برصّ بعضها فوق بعض ) حَتَّى إِذَا سَاوَى ).
وقرأ الجمهور ) سَاوِى ( وقتادة سوّى ، وابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم سُووي مبنياً للمفعول . وحكي في الكيفية أن ذا القرنين قاس ما بين الصدفين من حفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل حشوه الصخر وطينه النحاس مذاب ، ثم يصب عليه والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، ثم وضع المنافخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً . وقيل : طول ما بين السدين مائة فرسخ وعرضه خمسون . وفي الحديث أن رجلاً أخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) به فقال : ( كيف رأيته ) ؟ فقال : كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء ، قال : ( قد رأيته ) .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والزهري ومجاهد والحسن ) الصَّدَفَيْنِ ( بضم الصاد والدال ، وأبو بكر وابن محيصن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن كذلك إلاّ أنه سكن الدال وباقي السبعة وأبو جعفر وشيبة وحميد وطلحة وابن أبي ليلى وجماعة عن يعقوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وابن سعدان بفتحهما ، وابن جندب بالفتح وإسكان الدال ، ورويت عن قتادة . وقرأ الماجشون بالفتح وضم الدال . وقرأ قتادة وأبان عن عاصم بضم الصاد وفتح الدال ) حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً ( في الكلام حذف تقديره فنفخوا حتى . وقرأ الجمهور قال ) ءاتُونِى ( أي أعطوني . وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة وأبو بكر بخلاف عنه قال : ائتوني أي جيئوني و ) قِطْراً ( منصوب بأفرغ على إعمال الثاني ، ومفعول ) ءاتُونِى ( محذوف لدلالة الثاني عليه .
الكهف : ( 97 ) فما اسطاعوا أن . . . . .
( فَمَّا اسْطَاعُواْ ( أي يأجوج ومأجوج ) أَن يَظْهَرُوهُ ( أي يصلوا عليه لبعده وارتفاعه وامّلاسه ، ولا أن ينقبوه

" صفحة رقم 156 "
لصلابته وثخانته فلا سبيل إلى مجاوزته إلى غيرهم من الأمم إلاّ بأحد هذين : إما ارتقاء وإما نقب وقد سلب قدرتهم على ذلك .
وقرأ الجمهور ) فَمَا اسْطَاعُواْ ( بحذف التاء تخفيفاً لقربها من الطاء . وقرأ حمزة وطلحة بإدغامها في الطاء وهو إدغام على غير حده . وقال أبو عليّ هي غير جائزة . وقرأ الأعشى عن أبي بكر : فما اصطاعوا بالإبدال من السين صاداً لأجل الطاء . وقرأ الأعمش : فما استطاعوا بالتاء من غير حذف .
الكهف : ( 98 ) قال هذا رحمة . . . . .
( قَالَ هَاذَا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى ( أي قال ذو القرنين والإشارة بهذا قال ابن عطية إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به . وقال الزمخشري : إشارة إلى السد أي ) هَاذَا ( السد نعمة من الله و ) رَحْمَةً ( على عباده أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته . قيل : وفي الكلام حذف وتقديره فلما أكمل بناء السد واستوى واستحكم ) قَالَ هَاذَا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى ).
وقرأ ابن أبي عبلة هذه رحمة من ربي بتأنيث اسم الإشارة . والوعد يحتمل أن يراد به يوم القيامة ، وأن يراد به وقت خروج يأجوج ومأجوج . وقال الزمخشري : فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي جعل السد دكاً أي مدكوكاً منبسطاً مستوياً بالأرض ، وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقداندك انتهى . وقرأ الكوفيون : ) دَكَّاء ( بالمدّ ممنوع الصرف وباقي السبعة دكاً منونة مصدر دككته ، والظاهر أن ) جَعَلَهُ ( بمعنى صيره فدك مفعول ثان . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون جعل بمعنى خلق وينصب فدكاً على الحال انتهى . وهذا بعيد جداً لأن السد إذ ذاك موجود مخلوق ولا يخلق المخلوق لكنه ينتقل من بعض هيئاته إلى هيئة أخرى ، ووعد بمعنى موعود قد سبق و
الكهف : ( 99 ) وتركنا بعضهم يومئذ . . . . .
( تَّرَكْنَا ( هذا الضمير لله تعالى والأظهر أن الضمير في ) بَعْضُهُمْ ( عائد على يأجوج ومأجوج ، والجملة المحذوفة بعد إذ المعوض منها التنوين مقدرة بإذ جاء الوعد وهو خروجهم وانتشارهم في الأرض أو مقدرة بإذ حجز السد بينهم وبين القوم الذين كانوا يفسدون عندهم وهم متعجبون من السد فماج بعضهم في بعض .
وقيل : الضمير في ) بَعْضُهُمْ ( يعود على الخلق أي يوم إذ جاء وعد الله وهو يوم القيامة ويقويه قوله ) وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ( فيظهر أن ذلك هو يوم القيامة ، وكذلك ما جاء بعده من الجمع وعرض جهنم وتقدم الكلام على النفخ في الصور في سورة الأنعام . و ) جَمْعاً ( مصدر كموعد
الكهف : ( 100 ) وعرضنا جهنم يومئذ . . . . .
( وَعَرَضْنَا ( أي أبرزنا ) جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ ( أي يوم إذ جمعناهم . وقيل : اللام بمعنى على كقوله : فخر صريعاً لليدين وللفم وأبعد من ذهب إلى أنه مقلوب . والتقدير وعرضنا الكافرين على جهنم ) عَرْضاً ( وتخصيصه بالكافرين بشارة للمؤمنين . و
الكهف : ( 101 ) الذين كانت أعينهم . . . . .
( الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ( صفة ذم في ) غِطَاء ( استعار الغطاء لأعينهم ، والمراد أنهم لا يبصرون آياتي التي ينظر

" صفحة رقم 157 "
إليها فيعتبر بها ، واذكر بالتعظيم وهذا على خذف مضاف أي من آيات ) ذِكْرِى ). وقيل ) عَن ذِكْرِى ( عن القرآن وتأمل معانيه ، ويكون المراد بالأعين هنا البصائر لا الجوارح لأن الجوارح لا نسبة بينها وبين الذكر ) وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ( مبالغة في انتفاء السمع إذ نفيت الاستطاعة ، وهم وإن كانوا صماً لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وكان هؤلاء أصمت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع
الكهف : ( 102 ) أفحسب الذين كفروا . . . . .
( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( هم من عبد الملائكة وعزيراً والمسيح واتخذوهم أولياء من دون الله وهم بعض العرب واليهود والنصارى ، وهو استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ ، والمعنى أنهم ليس لهم من ولاية هؤلاء الذين تولوهم شيء ، ولا يجدون عندهم منتفعاً ويظهر أن في الكلام حذفاً والتقدير ) أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاء ( فيجدي ذلك وينتفعون بذلك الاتخاذ . وقيل : العباد هنا الشياطين . روي عن ابن عباس وقال مقاتل : الأصنام لأنها خلقه وملكه ، والأظهر تفسير العباد بما قلناه لإضافتهم إليه والأكثر أن تكون الإضافة في مثل هذا اللفظ إضافة تشريف .
وحسب هنا بمعنى ظن وبه قرأ عبد الله أفظن . وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن علي بن الحسين ويحيى بن يعمر ومجاهد وعكرمة وقتادة ونعيم بن ميسرة والضحاك وابن أبي ليلى وابن كثير ويعقوب بخلاف عنهما وابن محيصن وأبو حيوة والشافعي ومسعود بن صاح ) أَفَحَسِبَ ( بإسكان السين وضم الباء مضافاً إلى ) الَّذِينَ ( أي أفكافيهم ومحسبهم ومنتهى عرضهم ، والمعنى أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا . وقال أبو الفضل الرازي قال سهل : يعني أبا حاتم معناه : أفحسبهم وحظهم إلاّ أن ) أَفَحَسِبَ ( أبلغ في الذم لأنه جعله غاية مرادهم انتهى . وارتفع حسب على الابتداء والخبر ) أَن يَتَّخِذُواْ ). وقال الزمخشري : أو على الفعل والفاعل لأن اسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل كقولك : أقائم الزيدان وهي قراءة محكمة جيدة انتهى . والذي يظهر أن هذا الإعراب لا يجوز لأن حسباً ليس باسم فاعل فتعمل ، ولا يلزم من تفسيره شيء بشيء أن تجري عليه جميع أحكامه ، وقد ذكر سيبويه أشياء من الصفات التي تجري مجرى الأسماء وأن الوجه فيها الرفع . ثم قال : وذلك مررت برجل خير منه أبوه ، ومررت برجل سواء عليه الخير والشر ، ومررت برجل أب له صاحبه ، ومررت برجل حسبك من رجل ، ومررت برجل أيما رجل هو انتهى . ولا يبعد أن يرفع به الظاهر فقد أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبو ارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في معنى والد عشرة .
( إِنَّا أَعْتَدْنَا ( أي أعددنا ويسرنا والنزل موضع النزول والنزل أيضاً ما يقدم للضيف ويهيأ له وللقادم من الطعام ، والنزل هنا يحتمل التفسيرنن وكونه موضع النزول قاله الزجاج هنا ، وما هيىء من الطعام للنزيل قول القتبي . وقيل : جمع نازل ونصبه على الحال نحو شارف وشرف ، فإن كان ما تقدم للضيف وللقادم فيكون كقوله : ) فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ). وكقول الشاعر :
تحية بينهم ضرب وجيع وقرأ أبو حيوة وأبو عمرو بخلاف عنه ) نُزُلاً ( بسكون الزاي ) قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُواْ ءايَاتِى وَرُسُلِى هُزُواً ).
الكهف : ( 103 ) قل هل ننبئكم . . . . .
أي ) قُلْ ( يا محمد للكافرين هل نخبركم الآية فإذا طلبوا ذلك فقل لهم ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( والأخسرون أعمالاً عن عليّ هم الرهبان كقوله ) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ). وعن مجاهد : هم أهل الكتاب . وقيل : هم الصابئون . وسأل ابن الكواء علياً عنهم فقال : منهم أهل حروراء . وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل على الحصر إذ الأخسرون أعمالاً هم كل من دان بدين غير الإسلام ، أو راءى بعمله ، أو أقام على بدعة

" صفحة رقم 158 "
تؤول به إلى الكفر والأخسر من أتعب نفسه فأدى تعبه به إلى النار . وانتصب ) أَعْمَالاً ( على التمييز وجمع لأن أعمالهم في الضلال مختلفة وليسوا مشتركين في عمل واحد و
الكهف : ( 104 ) الذين ضل سعيهم . . . . .
( الَّذِينَ ( يصح رفعه على أنه خبر مبتدإِ محذوف ، أي هم ) الَّذِينَ ( وكأنه جواب عن سؤال ، ويجوز نصبه على الذمّ وخبره على الوصف أو البدل ) ضَلَّ سَعْيُهُمْ ( أي هلك وبطل وذهب و ) يَحْسَبُونَ ( و ) يُحْسِنُونَ ( من تجنيس التصحيف وهو أن يكون النقط فرقاً بين الكلمتين . ومنه قول أبي عبادة البحتري : ولم يكن المغتر بالله إذ سرى
ليعجز والمعتز بالله طالبه
ومن غريب هذا النوع من التجنيس . قال الشاعر : سقينني ربي وغنينني
بحت بحبي حين بنّ الخرد
صحف بقوله سقيتني ربي وغنيتني بحب يحيى بن الجرد .
الكهف : ( 105 ) أولئك الذين كفروا . . . . .
وقرأ ابن عباس وأبو السمال ) فَحَبِطَتْ ( بفتح الباء والجمهور بكسرها . وقرأ الجمهور ) فَلاَ نُقِيمُ ( بالنون ) وَزْناً ( بالنصب ومجاهد وعبيد بن عمير فلا يقيم بالياء لتقدم قوله ) بآيَاتِ رَبّهِمْ ( وعن عبيد أيضاً يقوم بفتح الياء كأنه جعل قام متعدياً . وعن مجاهد وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم : فلا يقوم مضارع قام وزن مرفوع به . واحتمل قوله ) فَلاَ نُقِيمُ ( إلاّ به أنهم لا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ، ومن لا حسنة له فهو في النار . واحتمل أن يريد المجاز كأنه قال : فلا قدر لهم عندنا يومئذ .
وفي الحديث : ( يؤتي بالأكول الشروب الطويل فلا يزن جناح بعوضة ) ثم قرأ ) فَلاَ نُقِيمُ ( الآية . وفي الحديث أيضاً : ( يأتي ناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئاً ) .
الكهف : ( 106 ) ذلك جزاؤهم جهنم . . . . .
( ذَلِكَ جَزَاؤُهُم ( مبتدأ وخبر و ) جَهَنَّمَ ( بدل و ) ذالِكَ ( إشارة إلى ترك إقامة الوزن ، ويجوز أن يشار بذلك وإن كان مفرداً إلى الجمع فيكون بمعنى أولئك ويكون ) جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ ( مبتدأ وخبراً . وقال أبو البقاء : ) ذالِكَ ( أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر ، ويجوز أن يكون ) ذالِكَ ( مبتدأ و ) جَزَآؤُهُمْ ( مبتدأ ثان و ) جَهَنَّمَ ( خبره . والجملة خبر الأول والعائد محذوف أي جزاؤه انتهى . ويحتاج هذا التوجيه إلى نظر قال : ويجوز أن يكون ) ذالِكَ ( مبتدأ و ) جَزَآؤُهُمْ ( بدل أو عطف بيان و ) جَهَنَّمَ ( الخبر . ويجوز أن يكون ) جَهَنَّمَ ( بدلاً من جزاء أو خبر لابتداء محذوف ، أي هو جهنم و ) بِمَا كَفَرُواْ ( خبر ذلك ، ولا يجوز أن تتعلق الباء بجزاؤهم للفصل بينهما و ) اتَّخَذُواْ ( يجوز أن يكون معطوفاً على ) كَفَرُواْ ( وأن يكون مستأنفاً انتهى . والآيات هي المعجزات الظاهرة على أيدي الأنبياء والصحف الإلهية المنزلة عليهم .
( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ).
الكهف : ( 107 ) إن الذين آمنوا . . . . .
لما ذكر تعالى ما أعد للكافرين ذكر ما أعد للمؤمنين وفي الصحيح ) جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ ( أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما ، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما . وفي حديث عبادة ) الْفِرْدَوْسِ ( أعلاها يعني أعلا الجنة . قال قتادة وربوتها ومنها تفجر أنهار الجنة . وقال أبو هريرة جبل تتفجر منه أنهار الجنة . وفي حديث أبي أمامة ) الْفِرْدَوْسِ ( سرة الجنة . وقال مجاهد ) الْفِرْدَوْسِ ( البستان بالرومية . وقال كعب والضحاك ) جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ ( الأعناب . وقال

" صفحة رقم 159 "
عبيد الله بن الحارث بن كعب إنه جنات الكروم والأعناب خاصة من الثمار . وقال المبرد : ) الْفِرْدَوْسِ ( فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب . وحكى الزجاج أنه الأودية التي تنبت ضروباً من النبات ، وهل هو عربي أو أعجمي ؟ قولان وإذا قلنا أعجمي فهل هو فارسي أو رومي أو سرياني ؟ أقوال . وقال حسان : وإن ثواب الله كل موحد
جنان من الفردوس فيها يخلد
قيل : ولم يسمع بالفردوس في كلام العرب إلاّ في هذا البيت بيت حسان ، وهذا لا يصح فقد قال أمية بن أبي الصلت : كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة
فيها الفراديس ثم الثوم والبصل
الفراديس جمع فردوس . والظاهر أن معنى ) جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ ( بساتين حول الفردوس ولذلك أضاف الجنات إليه . ويقال : كرم مفردس أي معرش ، وكذلك سميت الروضة التي دون اليمامة فردوساً لأجتماع نخلها وتعريشها على أرضها . وفي دمشق باب الفراديس يخرج منه إلى البساتين . و ) نُزُلاً ( يحتمل من التأويل ما احتمل قوله ) نُزُلاً ( المتقدم .
الكهف : ( 108 ) خالدين فيها لا . . . . .
ومعنى ) حِوَلاً ( أي محولاً إلى غيرها . قال ابن عيسى : هو مصدر كالعوج والصغر . قال الزمخشري : يقال حال عن مكانه حولاً كقوله .
عادني حبها عوداً
يعني لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم ، وهذه غاية الوصف لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه ، ويجوز أن يراد نفي التحول وتأكيد الخلود انتهى . وقال ابن عطية : والحول بمعنى التحول . قال مجاهد متحولاً . وقال الشاعر : لكل دولة أجل
ثم يتاح لها حول
وكأنه اسم جمع وكان واحده حوالة وفي هذا نظر . وقال الزجاج عن قوم : هي بمعنى الحيلة في التنقل وهذا ضعيف متكلف .
الكهف : ( 109 ) قل لو كان . . . . .
( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ ). قيل سبب نزولها أن اليهود قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليها ، وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم وأنت مقصر قد سئلت عن الروح فلم تجب فيه ؟ فنزلت معلمة باتساع معلومات الله وأنها غير متناهية وأن الوقوف دونها ليس ببدع ولا نكر ، فعبر عن هذا بتمثيل ما يستكثرونه وهو قوله ) قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ ). وقيل قال حيي بن أخطب في كتابكم ) وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا ( ثم تقروؤن ) وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( فنزلت يعني إن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله ) قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ ( أي ماء البحر ) مِدَاداً ( وهو ما يمد به الدواة من الحبر ، وما يمد به السراج من السليط . ويقال : السماء مداد الأرض ) لّكَلِمَاتِ رَبّى ( أي معد الكتب كلمات ربي وهو علمه وحكمته ، وكتب بذلك

" صفحة رقم 160 "
المداد ) لَنَفِدَ الْبَحْرُ ( أي فني ماؤه الذي هو المداد قبل أن تنفد الكلمات لأن كلماته تعالى لا يمكن نفادها لأنها لا تتناهى والبحر ينفد لأنه متناه ضرورة ، وليس ببدع أن أجهل شيئاً من معلوماته
الكهف : ( 110 ) قل إنما أنا . . . . .
( وَإِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( لم أعلم إلاّ ما أُوحي إلى به وأعلمت .
وقرأ الجمهور ) مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّى ). وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش ومجاهد والأعرج والحسن والمنقري عن أبي عمر ومدداً لكلمات ربي . وقرأ الجمهور ) تَنفَدَ ( بالتاء من فوق . وقرأ حمزة والكسائي وعمرو بن عبيد والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى بالياء . وقرأ السلمي ) أَن تَنفَدَ ( بالتشديد على تفعل على المضي ، وجاء كذلك عن عاصم وأبي عمرو فهو مطاوع من نفد تقديره لنفد . وقرأ الجمهور بمثله مدداً بفتح الميم والدال بغير ألف ، والأعرج بكسر الميم . وأنتصب ) مَدَداً ( على التمييز عن مثل كقوله .
فإن الهوى يكفيكه مثله صبراً
وقرأ ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأعمش بخلاف والتيمي وابن محيصن وحميد والحسن في رواية ، وأبو عمرو في رواية وحفص في رواية بمثله مداداً بألف بين الدالين وكسر الميم . قال أبو الفضل الرازي : ويجوز أن يكون نصبه على المصدر بمعنى ولو أمددناه بمثله إمداداً ثم ناب المدد مناب الإمداد مثل أنبتكم نباتاً .
وفي قوله ) بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( إعلام بالبشرية والمماثلة في ذلك لا أدّعي إني ملك ) يُوحِى إِلَىَّ ( أي عليّ إنما هو مستند إلى وحي ربي ، ونبه على الوحدانية لأنهم كانوا كفاراً بعبادة الأصنام ، ثم حض على ما فيه النجاة و ) يَرْجُو ( بمعنى يطمع و ) لِقَاء رَبّهِ ( على تقدير محذوف أي حسن لقاء ربه . وقيل ) يَرْجُو ( أي يخاف سوء ) لِقَاء رَبّهِ ( أي لقاء جزاء ربه ، وحمل الرجاء على بابه أجود لبسط النفس إلى إحسان الله تعالى . ونهى عن الإشراك بعبادة الله تعالى . وقال ابن جبير : لا يراثي في عمله فلا يبتغي إلاّ وجه ربه خالصاً لا يخلط به غيره . قيل نزلت في جندب بن ز هير قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إني أعمل العمل لله فإذا أطلع عليه سرني فقال : ( إن الله لا يقبل ماشورك فيه ) . وروي أنه قال : ( لك أجران أجر السر وأجر العلانية ) وذلك إذا قصد أن يقُتدى به . وقال معاوية بن أبي سفيان : هذه آخر آية نزلت من القرآن .
وقرأ الجمهور ) وَلاَ يُشْرِكْ ( بياء الغائب كالأمر في قوله ) فَلْيَعْمَلِ ). وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي عنه : ولا تشرك بالتاء خطاباً للسامع والتفاتاً من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب ، وهو المأمور بالعمل الصالح ثم عاد إلى الإلتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله بربه ، ولم يأت التركيب بربك إيذاناً بأن الضميرين لمدلول واحد وهو من في قوله ) فَمَن كَانَ يَرْجُو ).

" صفحة رقم 161 "
19
( سورة مريم )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً يازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قَالَ رَبِّ اجْعَل لِىءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَواةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّىأَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّىإِلَيْكِ بِجِذْع

" صفحة رقم 162 "
النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِىإِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَواةِ وَالزَّكَواةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلَامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ( )
مريم : ( 1 - 2 ) كهيعص
اشتعال النار تفرقها في التهابها فصارت شعلاً . وقيل : شعاع النار . الشيب معروف ، شاب شعره أبيّض بعدما كان بلون غيره . المخاض اشتداد وجع الولادة والطلق . الجذع ما بين الأرض التي فيها الشجرة منها وبين متشعب الأغصان ، ويقال للغصن أيضاً جذع وجمعه أجذاع في القلة ، وجذوع في الكثرة . السري المرتفع القدر ، يقال سرو يسرو ، ويجمع على سراة بفتح السين وسرواء وهما شاذان فيه ، وقياسه أفعلاء . والسري النهر الصغير لأن الماء يسري فيه ولامه ياء كما أن لام ذلك واو . وقال لبيد : فتوسطا عرض السري فصدّعا
مسجورة متحاوراً قلامها
أي جدولاً . الهز التحريك . الرطب معروف واحده رطبة ، وجمع شاذاً على أرطاب كربع وأرباع وهو ما قطع قبل أن يشتد وييبس . الجني ما طاب وصلح للاجتناء . وقال أبو عمرو بن العلاء : لم يجف ولم ييبس . وقيل : الجنيّ ما ترطب من البسر . وقال الفراء : الجني والمجني واحد ، وعنه الجني المقطوع . قرة العين : مأخوذ من القر ، يقال : دمع الفرح بارد اللمس ودمع الحزن سخن اللمس . وقال أبو تمام : فأما عيون العاشقين فأسخنت
وأما عيون الشامتين فقرت
وقريش يقول : قررت به عيناً ، وقررت بالمكان أقر وأهل نجد قررت به عيناً بالكسر . الفري العظيم من الأمر يستعمل في الخير وفي الشر ، ومنه في وصف عمر : فلم أر عبقرياً يفري فريه ، والفري القطع وفي المثل : جاء يفري الفري أي يعمل عظيماً من العمل قولاً أو فعلاً . وقال الزمخشري : الفري البديع وهو من فري الجلد . الإشارة معروفة تكون باليد والعين والثوب والرأس والفم ، وأشار ألفه منقلبة عن ياء يقال : تشايرنا الهلال للمفاعلة . وقال كثير : فقلت وفي الأحشاء داء مخامر
ألا حبذا يا عز ذاك التشاير
) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً قَالَ رَبّ إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَائِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قَالَ رَبّ اجْعَل لِىءايَةً قَالَ ءايَتُكَ أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا وَزَكَواةً وَكَانَ تَقِيّا وَبَرّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ).
هذه السورة مكية كالسورة التي قبلها . وقال مقاتل :

" صفحة رقم 163 "
إلاّ آية السجدة فهي مدنية نزلت بعد مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة . ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى ضمن السورة قبلها قصصاً عجباً كقصة أهل الكهف ، وقصة موسى مع الخضر ، وقصة ذي القرنين ، وهذه السورة تضمنت قصصاً عجباً من ولادة يحيى بين شيخ فان وعجوز عاقر ، وولادة عيسى من غير أب ، فلما اجتمعا في هذا الشيء المستغرب ناسب ذكر هذه السورة بعد تلك ، وتقدم الكلام في أول البقرة على هذه الحروف المقطعة التي في فواتح السور بما يوقف عليه هناك و ) ذُكِرَ ( خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلو من هذا القرآن ) ذُكِرَ ). وقيل ) ذُكِرَ ( خبر لقوله ) كهيعص ( وهو مبتدأ ذكره الفرّاء . قيل : وفيه بُعد لأن الخبر هو المبتدأ في المعنى وليس في الحروف المقطعة ذكر الرحمة ، ولا في ذكر الرحمة معناها . وقيل : ) ذُكِرَ ( مبتدأ والخبر محذوف تقديره فيما يتلى ) ذُكِرَ ).
وقرأ الجمهور كاف بإسكان الفاء . وروي عن الحسن ضمها ، وأمال نافع هاء وياء بين اللفظين ، وأظهر دال صاد عند ذاك . ) ذُكِرَ ( وقرأ الحسن بضم الهاء وعنه أيضاً ضم الياء وكسر الهاء ، وعن عاصم ضم الياء وعنه كسرهما وعن حمزة فتح الهاء وكسر الياء . قال أبو عمرو الداني : معنى الضم في الهاء والياء إشباع التفخيم وليس بالضم الخالص الذي يوجب القلب . وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن المقري الرازي في كتاب اللوامح في شواذ القراءات خارجة عن الحسن : كاف بضم الكاف ، ونصر بن عاصم عنه بضم الهاء وهارون بن موسى العتكي عن إسماعيل عنه بالضم ، وهذه الثلاث مترجم عليها بالضم ولسن مضمومات المحال في الحقيقة لأنهن لو كنّ كذلك لوجب قلب ما بعدهن من الألفات واوات بل نحيت هذه الألفات نحو الواو على لغة أهل الحجاز ، وهي التي تسمى ألف التفخيم بضد الألف الممالة فأشبهت الفتحات التي تولدت منهن الضمات ، وهذه الترجمة كما ترجموا عن الفتحة الممالة المقربة من الكسرة بكسرة لتقريب الألف بعدها من الياء انتهى .
وقرأ أبو جعفر بتقطيع هذه الحروف وتخليص بعضها من بعض فرقاً بينها وبين ما ائتلف من الحروف ، فيصير أجزاء الكلم فاقتضين إسكان آخرهن ، وأظهر الأكثرون دال صاد عند ذال ) ذُكِرَ ( وأدغمها أبو عمرو . وقرأ حفص عن عاصم وفرقة بإظهار النون من عين والجمهور على إخفائها .
وقرأ الحسن وابن يعمر ) ذُكِرَ ( فعلاً ماضياً ) رَحْمَةً ( بالنصب ، وحكاه أبو الفتح وذكره الزمخشري عن الحسن أي هذا المتلو من القرآن ) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ ( وذكر الداني عن ابن يعمر ) ذُكِرَ ( فعل أمر من التذكير ) رَحْمَةً ( بالنصب و ) عَبْدِهِ ( نصب بالرحمة أي ) ذُكِرَ ( أن ) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ ). وذكر صاحب اللوامح أن ) ذُكِرَ ( بالتشديد ماضياً عن الحسن باختلاف وهو صحيح عن ابن يعمر ، ومعناه أن المتلو أي القرآن ) ذُكِرَ بِرَحْمَةٍ رَبَّكَ ( فلما نزع الباء انتصب ، ويجوز أن يكون معناه أن القرآن ذكر الناس تذكيراً أن رحم الله عبده فيكون المصدر عاملاً في ) عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ( لأنه ذكرهم بما نسوه من رحمة الله فتجدد عليهم بالقرآن ونزوله على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويجوز أن يكون ) ذُكِرَ ( على المضي مسنداً إلى الله سبحانه .
وقرأ الكلبي ) ذُكِرَ ( على المضي خفيفاً من الذكر ) رَحْمَةِ رَبّكَ ( بنصب التاء ) عَبْدِهِ ( بالرفع بإسناد الفعل إليه . وقال ابن خالويه : ) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ ( يحيى بن يعمر و ) ذُكِرَ ( على الأمر عنه أيضاً انتهى .
و ) إِذْ ( ظرف العامل فيه قال الحوفي : ) ذُكِرَ ( وقال أبو البقاء : و ) إِذْ ( ظرف لرحمة أو لذكر انتهى . ووصف نداء بالخفي . قال ابن جريج : لئلا يخالطه رياء . مقاتل : لئلا يعاب بطلب الولد في الكبر . قتادة : لأن السر والعلانية عنده تعالى سواء . وقيل : أسره من مواليه الذين خافهم . وقيل : لأنه أمر دنياوي فأخفاه لأنه إن أجيب فذاك بغيته ، وإلاّ فلا يعرف ذلك أحد . وقيل : لأنه كان في جوف الليل . وقيل : لإخلاصه فيه فلا يعلمه إلاّ الله . وقيل : لضعف صوته بسبب كبره ، كما قيل : الشيخ صوته خفات وسمعه تارات . وقيل : لأن الإخفاء سنة الأنبياء والجهر به يعد من الاعتداء . وفي التنزيل ) ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ). وفي الحديث : ( إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ) .
( قَالَ رَبّ إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى ( هذه كيفية دعائه وتفسير ندائه .
مريم : ( 4 ) قال رب إني . . . . .
وقرأ الجمهور : ) وَهَنَ ( بفتح الهاء . وقرأ الأعمش بكسرها . وقرىء بضمها لغات ثلاث ، ومعناه ضعف وأسند الوهن إلى العظم لأنه عمود

" صفحة رقم 164 "
البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه ، فإذا وهن تداعى ما وراءه وتساقطت قوته ، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أو هن ووحد ) الْعِظَامَ ( لأنه يدل على الجنس ، وقصد إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام ، وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان قصداً آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها . وقال قتادة : اشتكى سقوط الأضراس . قال الكرماني : وكان له سبعون سنة . وقيل : خمس وسبعون . وقيل : خمس وثمانون . وقيل : ستون . وقيل : خمس وستون . وشبه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس ، وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكرياء فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة قاله الزمخشري ، وإلى هذا نظر ابن دريد . فقال : واشتعل المبيض في مسوده
مثل اشتعال النار في جزل الغضا وبعضهم أعرب ) شِيباً ( مصدراً قال : لأن معنى ) وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ ( شاب فهو مصدر من المعنى . وقيل : هو مصدر في موضع نصب على الحال ، واشتعال الرأس استعارة المحسوس للمحسوس إذ المستعار منه النار والمستعار له الشيب ، والجامع بينهما الانبساط والانتشار ) وَلَمْ أَكُنْ ( نفي فيما مضى أي ما كنت ) بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ( بل كنت سعيداً موفقاً إذ كنت تجيب دعائي فأسعد بذلك ، فعلى هذا الكاف مفعول . وقيل : المعنى ) بِدُعَائِكَ ( إلى الإيمان ) شَقِيّاً ( بل كنت ممن أطاعك وعبدك مخلصاً . فالكاف على هذا فاعل والأظهر الأول شكراً لله تعالى بما سلف إليه من إنعامه عليه ، أي قد أحسنت إليّ فيما سلف وسعدت بدعائي إياك فالإنعام يقتضي أن تجيبني آخر كما أجبتني أولاً .
وروي أن حاتماً الطائي أتاه طالب حاجة فقال : أنا أحسنت إليك وقت كذا ، فقال حاتم : مرحباً بالذي توسل بنا إلينا وقضى حاجته .
مريم : ( 5 ) وإني خفت الموالي . . . . .
( وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَائِى ( ) الْمَوَالِىَ ( بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب . قال الشاعر : مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا
لا تنبشوا بينا ما كان مدفوناً وقال لبيد
ومولى قد دفعت الضيم عنه
وقد أمسى بمنزلة المضيم
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح ) الْمَوَالِىَ ( هنا الكلالة خاف أن يرثوا ماله وأن يرثه الكلالة . وروي قتادة والحسن عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( يرحم الله أخي زكريا ما كان عليه ممن يرث ماله ) . وقالت : فرقة إنما كان مواليه مهملين الدين فخاف بموته أن يضيع الدين فطلب ولياً يقوم بالدين بعده ، وهذا لا يصح عنه إذ قال عليه السلام : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) والظاهر اللائق بزكريا عليه السلام من حيث هو معصوم أنه لا يطلب الولد لأجل ما يخلفه من حطام الدنيا . وكذلك قول من قال : إنما خاف أن تنقطع النبوّة من ولده ويرجع إلى عصبته لأن تلك إنما يضعها الله حيث شاء ولا يعترض على الله فيمن شاءه واصطفاه من عباده . قال الزمخشري كان مواليه

" صفحة رقم 165 "
وهم عصبته إخوته وبنو عمه شرار بني إسرائيل فخافهم على الدين أن يغيروه وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته ، فطلب عقباً صالحاً من صلبه يقتدي به في إحياء الدين .
وقرأ الجمهور ) خِفْتُ ( من الخوف . وقرأ عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن العاصي وابن يعمر وابن جبير وعليّ بن الحسين وولده محمد وزيد وشبيل بن عزرة والوليد بن مسلم لأبي عامر ) خِفْتُ ( بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر تاء التأنيث ) الْمَوَالِىَ ( بسكون الياء والمعنى انقطع مواليّ وماتوا فإنما أطلب ولياً يقوم بالدين . وقرأ الزهري ) خِفْتُ ( من الخوف ) الْمَوَالِىَ ( بسكون التاء على قراءة ) خِفْتُ ( من الخوف يكون ) مِن وَرَائِى ( أي بعد موتي . وعلى قراءة ) خِفْتُ ( يحتمل أن يتعلق ) مِن وَرَائِى ( بخفت وهو الظاهر ، فالمعنى أنهم خفوا قدامه أي درجوا فلم يبق منهم من له تقوّ واعتضاد ، وأن يتعلق بالموالي أي قلوا وعجزوا عن إقامة الدين . و ) وَرَائِى ( بمعنى خلفي ومن بعدي ، فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولي يرزقه . وروي عن ابن كثير من وراي مقصوراً كعصاي .
وتقدم شرح العاقر في آل عمران وقوله ) مِن لَّدُنْكَ ( تأكيد لكونه ولياً مرضياً بكونه مضافاً إلى الله وصادراً من عنده ، أو أراد اختراعاً منك بلا سبب لأني وامرأتي لا نصلح للولادة . والظاهر أنه طلب من الله تعالى أن يهبه ولياً ولم يصرح بأن يكون ولد البعد ذلك عنده لكبره وكون امرأته عاقراً . وقيل : إنما سأل الولد .
مريم : ( 6 ) يرثني ويرث من . . . . .
وقرأ الجمهور : ) يَرِثُنِى وَيَرِثُ ( برفع الفعلين صفة للولي فإن كان طلب الولد فوصفه بأن تكون الإجابة في حياته حتى يرثه لئلا تكون الإجابة في الولد لكن يحرمه فلا يحصل ما قصده . وقرأ النحويان والزهري والأعمش وطلحة واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني وابن محيصن وقتادة بجزمهما على جواب الأمر . وقرأ عليّ وابن عباس والحسن وابن يعمر والجحدري وقتادة وأبو حرب بن أبي الأسود وجعفر بن محمد وأبو نهيك ) يَرِثُنِى ( بالرفع والياء وارث جعلوه فعلاً مضارعاً من ورث . قال صاحب اللوامح : وفيه تقديم فمعناه ) فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ( من آل يعقوب ) يَرِثُنِى ( إن مت قبله أي نبوّتي وأرثه إن مات قبلي أي ماله ، وهذا معنى قول الحسن . وقرأ عليّ وابن عباس والجحدري ) يَرِثُنِى ( وارث ) مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ ). قال أبو الفتح هذا هو التجريد التقدير ) يَرِثُنِى ( منه وارث . وقال الزمخشري وارث أي ) يَرِثُنِى ( به وارث ويسمى التجريد في علم البيان ، والمراد بالإرث إرث العلم لأن الأنبياء لا تورث المال . وقيل : ) يَرِثُنِى ( الحبورة وكان حبراً ويرث ) مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ ( الملك يقال : ورثته وورثت منه لغتان .
وقيل : ) مِنْ ( للتبعيض لا للتعدية لأن ) يَعْقُوبَ كَمَا ( ليسوا كلهم أنبياء ولا علماء . وقرأ مجاهد أو يرث من آل يعقوب على التصغير ، وأصله وويرث فأبدلت الواو همزة على اللزوم لاجتماع الواوين وهو تصغير وارث أي غليم صغير . وعن الجحدري وارث بكسر الواو يعني به الإمالة المحضة لا الكسر الخالص ، والظاهر أن يعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم . وقيل : هو يعقوب بن ماثان أخو زكرياء . وقيل : يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوان من نسل سليمان بن داود ومرضياً بمعنى مرضي .
مريم : ( 7 ) يا زكريا إنا . . . . .
( زَكَرِيَّا ( أي قيل له بإثر الدعاء . وقيل : رزقه بعد أربعين سنة من دعائه . وقيل : بعد ستين والمنادي والمبشر زكرياء هم الملائكة بوحي من الله تعالى قال تعالى ) فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَةُ ( الآية والغلام الولد الذكر ، وقد يقال للأثنى غلامة كما قال .
تهان لها الغلامة والغلام
والظاهر أن ) يَحْيَى ( ليس عربياً لأنه لم تكن عادتهم أن يسموا بألفاظ العربية فيكون منعه الصرف للعلمية والعجمة ، وإن كان عربياً فيكون مسمى بالفعل كيعمر ويعيش قد سموا بيموت وهو يموت بن المزرع ابن أخت الجاحظ . وعلى أنه عربي . فقيل : سمي بذلك لأنه يحيى بالحكمة والعفة . وقيل : يحيى بهدايته إرشاده خلق كثير . وقيل لأنه يستشهد

" صفحة رقم 166 "
والشهداء أحياء . وقيل : لأنه يعمر زمناً طويلاً . وقيل : لأنه حيي بين شيخ كبير وأمّ عاقر . وقيل : لأنه حيي به عقر أمه وكانت لا تلد . وقال ابن عباس وقتادة والسدّي وابن أسلم : لم نسم قبله أحداً بيحيى . قال الزمخشري : وهذا شاهد على أن الأسامي الشنع جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنحي في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النفر ، حتى قال القائل في مدح قوم : شنع الأسامي مسبلي أزر
حمر تمس الأرض بالهدب
وقال رؤبة للنسابة البكري : وقد سأله عن نسبه أنا ابن العجاج فقال : قصرت وعرفت انتهى . وقيل للصلت بن عطاء : كيف تقدمت عند البرامكة وعندهم من هو آدب منك ، فقال : كنت غريب الدار غريب الأسم خفيف الحزم شحيحاً بالاشلاء . فذكر مما قدمه كونه غريب الاسم إذ كان اسمه الصلت . وقال مجاهد وغيره ) سَمِيّاً ( أي مثلاً ونظيراً وكأنه من المساماة والسموّ . قال ابن عطية : وهذا فيه بعد لأنه لا يفضل على إبراهيم وموسى . وقال ابن عباس أيضاً لم تلد العواقر مثله .
قال الزمخشري : وإنما قيل للمثل سمّي لأن كل متشاكلين يسمى كل واحد منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير فكل واحد منهما سَمِي لصاحبه . وقيل : لم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط ، وأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر وأنه كان حصوراً انتهى .
مريم : ( 8 ) قال رب أنى . . . . .
( وَإِنّى ( بمعنى كيف : وتقدم الكلام عليها في قوله ) قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ ( في آل عمران والعتيّ المبالغة في الكبر . ويبس العود . وقرأ أبو بحرية وابن أبي ليلى والأعمش وحمزة والكسائي ) عِتِيّاً ( بكسر العين وباقي السبعة بالضم وعبد الله بفتح العين وصاد صلياً جعلهما مصدرين كالعجيج والرحيل ، وفي الضم هما كذلك إلاّ أنهما على فعول . وعن عبد الله ومجاهد عسياً بضم العين والسين كمسورة . وحكاها الداني عن ابن عباس وحكاها الزمخشري عن أبيّ ومجاهد يقال عتا العود وعسا يبس وجسا .
مريم : ( 9 ) قال كذلك قال . . . . .
( قَالَ كَذالِكَ ( أي الأمر كذلك تصديق له ثم ابتدأ ) قَالَ رَبُّكِ ( فالكاف رفع أو نصب بقال ، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره ) هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ ( ونحوه ) وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ). وقرأ الحسن ) وَهُوَ عَلِيمٌ هَيّنٌ ( ولا يخرج هذا إلاّ على الوجه الأول أي الأمر كما قلت ، وهو عليّ ذلك يهون ، ووجه آخر وهو أن يشار بذلك إلى ما تقدم من وعد الله لا إلى قول ذكرياء وقال : محذوف في كلتا القراءتين أي قال ) هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ ( وإن شئت لم تنوه لأن الله هو المخاطب ، والمعنى أنه قال ذلك ووعده وقوله الحق قاله الزمخشري : وقال ابن عطية وقوله ) قَالَ كَذالِكَ ( قيل إن المعنى قال له الملك ) كَذالِكَ ( فليكن الوجود كما قيل لك ) قَالَ رَبُّكِ ( خلق الغلام ) عَلَىَّ هَيّنٌ ( أي غير بدع وكما خلقتك قبل وأخرجتك من عدم إلى وجود كذلك أفعل الآن . وقال الطبري : معنى قوله ) كَذالِكَ ( أي الأمر أن اللذان ذكرت من المرأة العاقر والكبر هو كذلك ولكن ) قَالَ رَبُّكِ ( والمعنى عندي قال الملك ) كَذالِكَ ( أي على هذه الحال ) قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ ( انتهى . وقرأ الحسن ) هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ ( بكسر الياء . وقد أنشدوا قول النابغة : عليّ لعمر نعمة بعد نعمة
لوالده ليست بذات عقارب

" صفحة رقم 167 "
بكسر ياء المتكلم وكسرها شبيه بقراءة حمزة ) وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ ( بكسر الياء . وقرأ الجمهور ) وَقَدْ خَلَقْتُكَ ( بتاء المتكلم . وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي خلقناك بنون العظمة ) وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ( أي شيئاً موجوداً . وقال الزمخشري : ) شَيْئاً ( لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئاً يعتد به كقولهم : عجبت من لا شيء إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً .
مريم : ( 10 ) قال رب اجعل . . . . .
( قَالَ ( أي زكريا ) رَبّ اجْعَل لِّىءايَةً ( أي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به وطلب ذلك ليزداد يقيناً كما قال إبراهيم عليه السلام ) وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَبْلِى ( لا لتوقف منه على صدق ما وعد به ، ولا لتوهم أنه ذلك من عند غير الله لعصمة الأنبياء عن مثل ذلك . وقال الزجاج : وقعت البشارة مطلقة فلم يعرف الوقت فطلب الآية ليعرف وقت الوقوع . ) قَالَ رَبّ ( روي عن ابن زيد أنه لما حملت زوجته بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحداً وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله ، فإذا أراد مناداة أحد لم يطقه . و ) سَوِيّاً ( حال من ضمير أي لا تكلم في حال صحتك ليس تك خرس ولا علة قاله الجمهور وغن ابن عباس عائد على الليالي أي كاملات مستويات فتكون صفة لثلاث ، ودل ذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران على أن المنع من الكلام استمر له ثلاثة أيام بلياليهن .
وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي ) أَن لا تُكَلّمَ ( برفع الميم جعلها أن المخففة من الثقيلة التقدير أنه لا يكلم . وقرأ الجمهور بنصبها جعلوا أن الناصبة للمضارع
مريم : ( 11 ) فخرج على قومه . . . . .
( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ( أي وهو بتلك الصفة من كونه لا يستطيع أن يكلم الناس ، ومحرابه موضع مصلاة ، والمحراب تقدم الكلام عليه في آل عمران ) فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ( أي أشار . قال قتادة وابن منبه والكلبي والقرطبي أوحي إليهم أشار ، وذكره الزمخشري عن مجاهد قال : ويشهد له إلاّ رمزاً . وعن ابن عباس كتب لهم على الأرض . وقال ابن عطية : وقال مجاهد : بل كتب لهم في التراب وكلا الوجهين وحي انتهى . وقال عكرمة : كتب في ورقة والوحي في كلام العرب الكتابة . ومنه قول ذي الرمة : سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها
بقية وحي في بطون الصحائف
وقال عنترة كوحي صحائف من عهد كسرى
فأهداها لأعجم طمطمي
وقال جرير كأن أخا اليهود يخط وحيا
بكاف في منازلها ولام
والجمهور على أن المعنى ) أَن سَبّحُواْ ( صلوا . وقيل أمرهم بذكر الله والتسبيح . قال المفسرون كان يخرج على قومه بكرة وعشياً فيأمرهم بالصلاة إشارة . قال صاحب التحرير والتحبير وعندي في هذا معنى لطيف وهو أنه إنما خص بالتسبيح بالذكر لأن العادة جارية أن كل من رأى أمراً عجب منه أو رأى فيه بديع صنعة أو غريب حكمة يقول : سبحان الله سبحان الخالق ، فلما رأى حصول الولد من شيخ وعاقر عجب من ذلك فسبح وأمر بالتسبيح انتهى . وقال الزمخشري وابن عطية و ) ءانٍ ( مفسرة . وقال الحوفي ) أَن سَبّحُواْ ( ) ءانٍ ( نصب بأوحى . وقال أبو البقاء : يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى أي انتهى . وقرأ طلحة أن سبحوه بهاء الضمير عائدة على الله تعالى . وروي ابن عزوان عن

" صفحة رقم 168 "
طلحة أن سجن بنون مشددة من غيروا وألحق فعل الأمر نون التوكيد الشديد .
مريم : ( 12 ) يا يحيى خذ . . . . .
( يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ( في الكلام حذف والتقدير فلما ولد يحيى وكبر وبلغ السنّ الذي يؤمر فيه قال الله له على لسان الملك وأبعد التبريزي في قوله إن المنادي له أبوه حين ترعرع ونشأ ، والصحيح ما سبق لقوله ) وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ( و ) الْكِتَابِ ( هو التوراة . قال ابن عطية بلا خلاف لأنه ولد قبل عيسى ولم يكن الإنجيل موجوداً انتهى . وليس كما قال بل قيل له كتاب خص به كما خص كثير من الأنبياء بمثل ذلك . وقيل : ) الْكِتَابِ ( هنا اسم جنس أي اتل كتب الله . وقيل : ) الْكِتَابِ ( صحف إبراهيم . وقال الحسن وعلمه التوراة والإنجيل وأرسله إلى بني إسرائيل ، وكان يصوم ويصلي في حال طفوليته ويدعو إلى الله بقوة بجد واستظهار وعمل بما فيه والحكم النبوة أو حكم الكتاب أو الحكمة أو العلم بالأحكام أو اللب وهو العقل ، أو آداب الخدمة أو الفراسة الصادقة أقوال ) صَبِيّاً ( أي شاباً لم يبلغ سن الكهولة . وقيل : ابن سنتين . وقيل : ابن ثلاث . وعن ابن عباس في حديث مرفوع : ( ابن سبع سنين
مريم : ( 13 ) وحنانا من لدنا . . . . .
( وَحَنَانًا ( معطوف على الحكم والحنان الرحمة قاله ابن عباس في رواية والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وأبو عبيدة والفراء وأنشد أبو عبيدة : تحنن على هداك المليك
فإن لكل مقام مقالا
قال : وأكثر ما تستعمل مثنى كما قال :
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقال ابن الأنباري : المعنى وجعلناه ) حناناً ( لأهل زمانه . وقال مجاهد وتعطفاً من ربه عليه . وعن ابن جبير : ليناً . وعن عكرمة وابن زيد : محبة ، وعن عطاء تعظيماً .
وقوله ) لَّدُنَّا وَزَكَواةً ( عن الضحاك وقتادة عملاً صالحاً . وعن ابن السائب : صدقة تصدق بها على أبويه . وعن الزجاج تطهيراً . وعن ابن الأنباري زيادة في الخبر . وقيل ثناء كما يزكي الشهود . ) وَكَانَ تَقِيّا ). قال قتادة : لم يهم قط بكبيرة ولا صغيرة ولا هم بامرأة . وقال ابن عباس : جعله متقياً له لا يعدل به غيره . وقال مجاهد : كان طعامه العشب المباح وكان للدمع في خديه مجار بائنة
مريم : ( 14 ) وبرا بوالديه ولم . . . . .
( وَبَرّا بِوالِدَيْهِ ( أي كثير البر والإكرام والتبجيل . وقرأ الحسن وأبو جعفر في رواية وأبو نهيك وأبو مجلز ) وَبَرّاً ( في الموضعين بكسر الباء أي وذا بر ) وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً ( أي متكبراً ) عَصِيّاً ( أي عاصياً كثير العصيان ، وأصله عصوى فعول للمبالغة ، ويحتمل أن يكون فعيلاً وهي من صيغ المبالغة .
مريم : ( 15 ) وسلام عليه يوم . . . . .
( وَسَلَامٌ عَلَيْهِ ). قال الطبري : أي أمان . قال ابن عطية : والأظهر أنها التحية المتعارفة وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله ، وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيى عليهما السلام التقيا وهما ابنا الخالة ، فقال يحيى لعيسى : ادع لي فأنت خير مني ، فقال له عيسى : بل أنت ادعى لي فأنت خير مني سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي .
وقال أبو عبد الله الرازي : ) يَوْمَ وُلِدَ ( أي أمان عليه من أن يتاله الشيطان ) وَيَوْمَ يَمُوتُ ( أي أمان من عذاب القبر ) وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ( من عذاب الله يوم

" صفحة رقم 169 "
القيامة . وفي قوله ) وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ( تنبيه على كونه من الشهداء لقوله ) بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( وهذا السلام يحتمل أن يكون من الله وأن يكون من الملائكة انتهى . والأظهر أنه من الله لأنه في سياق ) وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ ).
) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرّى عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِى إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً ).
مريم : ( 16 ) واذكر في الكتاب . . . . .
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة زكريا وطلبه الولد وإجابة الله إياه فولد له من شيخ فان وعجوز له عاقر وكان ذلك مما يتعجب منه ، أردفه بما هو أعظم في الغرابة والعجب وهو وجود ولد من غير ذكر ، فدل ذلك على عظم قدرة الله وحكمته ، وأيضاً فقص عليهم ما سألوه من قصة أهل الكهف وأتبع ذلك بقصة الخضر وموسى ، ثم قص عليهم ما سألوه أيضاً وهو قصة ذي القرنين ، فذكر في هذه السورة قصصاً لم يسألوه عنها وفيها غرابة ، ثم أتبع ذلك بقصة إبراهيم وموسى وهارون موجزة ، ثم بقصة إسماعيل وإدريس ليستقر في أذهانهم أنه أطلع نبيه على ما سألوه وعلى ما لم يسألوه ، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام وحيه في ذلك واحد يدل على صدقه وصحة رسالته من أمي لم يقرأ الكتب ولا رحل ولا خالط من له ولا عنى بجمع سير .
و ) الْكِتَابِ ( القرآن . و ) مَرْيَمَ ( هي ابنة عمران أم عيسى ، و ) إِذْ ( قيل ظرف زمان منصوب باذكر ، ولا يمكن ذلك مع بقائه على الظرفية لأن الاستقبال لا يقع في الماضي . وقال الزمخشري : ) إِذْ ( بدل من ) مَرْيَمَ ( بدل الاشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وقته ، إذ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا لوقوع هذه القصة العجيبة فيها انتهى . ونصب ) إِذْ ( باذكر على جهة البدلية يقتضي التصرف في ) إِذْ ( وهي من الظروف التي لم يتصرف فيها إلاّ بإضافة ظرف زمان إليها . فالأولى أن يجعل ثم معطوف محذوف دل المعنى عليه وهو يكون العامل في ) إِذْ ( وتبقى على ظرفيتها وعدم تصرفها ، وهو أن تقدر مريم وما جرى لها ) إِذِ انتَبَذَتْ ( واستبعد أبو البقاء قول الزمخشري قال : لأن الزمان إذا لم يكن حالاً عن الجثة ولا خبراً عنها ولا وصفاً لها لم يكن بدلاً منها انتهى . واستبعاده ليس بشيء لعدم الملازمة . قال : وقيل التقدير خبر مريم فإذ منصوبة لخبر . وقيل : حال من هذا المضاف المحذوف . وقيل : ) إِذْ ( بمعنى أن المصدرية كقولك : أكرمك إذ لم تكرمني أي إن لم تكرمني . قال أبو البقاء : فعلى هذا يصح بدل الاشتمال أي ) وَاذْكُرْ ( ) مَرْيَمَ ( انتباذها انتهى .
و ) انتَبَذَتْ ( افتعل من نبذ ، ومعناه ارتمت وتنحت وانفردت . قال السدّي ) انتَبَذَتْ ( لتطهر من حيضها وقال غيره : لتعبد الله وكانت وقفاً على سدانة المتعبد وخدمته والعبادة فتنحت من الناس كذلك ، وانتصب ) مَكَاناً ( على الظرف أي في مكان ، ووصف بشرقي لأنه كان مما يلي بيت المقدس أو من دارها ، وسبب كونه في الشرق أنهم كانوا يعظمون جهة الشرق من حيث تطلع الشمس . وعن ابن عباس : اتخذت النصارى الشرق قبلة لميلاد عيسى عليه السلام . وقيل : قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أي شيء يسترها ، وكان موضعها المسجد فبيناهي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمي شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوي الخلق لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئاً أو حسن الصورة مستوي الخلق . وقال قتادة ) شَرْقِياً ( شاسعاً بعيداً انتهى .
مريم : ( 17 ) فاتخذت من دونهم . . . . .
والحجاب الذي اتخذته لتستتر به عن الناس لعبادة ربها . قال السدّي : كان من جدران . وقيل : من ثياب . وعن ابن عباس : جعلت الجبل بينها وبين

" صفحة رقم 170 "
الناس ) حِجَاباً ( وظاهر الإرسال من الله إليها ومحاورة الملك تدل على أنها نبية . وقيل : لم تنبأ وإنما كلمها مثال بشر ورؤيتها للملك كما رأى جبريل عليه السلام في صفة دحية . وفي سؤاله عن الإيمان والإسلام . والظاهر أن الروح جبريل لأن الدين يحيا به ويوحيه أو سماه روحه على المجاز محبة له وتقريباً كما تقول لحبيبك : أنت روحي . وقيل عيسى كما قال وروح منه ، وعلى هذا يكون قوله ) فَتَمَثَّلَ ( أي الملك . وقرأ أبو حيوة وسهل ) رُوحَنَا ( بفتح الراء لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المقرّبين في قوله ) فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ ( أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا وذا روحنا . وذكر النقاش أنه قرىء ) رُوحَنَا ( بتشديد النون اسم ملك من الملائكة وانتصب ) بَشَراً سَوِيّاً ( على الحال لقوله وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً . قيل : وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه ، ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت به من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاءً لها وسبر لعفتها .
وقيل : كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه ، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفرج السقف لها فخرجت فجلست في المشرقة وراء الجبل فأتاها الملك . وقيل : قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس ،
مريم : ( 18 ) قالت إني أعوذ . . . . .
وتعليقها الاستعاذة على شرط تقواه لأنه لا تنفع الاستعاذة ولا تجدي إلاّ عند من يتقي الله أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك . وجواب الشرط محذوف أي فإني أعوذ . وقال الزجاج : فستتعظ بتعويذي بالله منك . وقيل : فاخرج عني . وقيل : فلا تتعرض لي وقول من قال تقي اسم رجل صالح أو رجل فاسد ليس بسديد . وقيل : ) ءانٍ ( نافية أي ما ) كُنتَ تَقِيّاً ( أي بدخولك عليّ ونظرك إليّ ، ولياذها بالله وعياذها به وقت التمثيل دليل على أنه أول ما تمثل لها استعاذت من غير جري كلام بينهما .
مريم : ( 19 ) قال إنما أنا . . . . .
( قَالَ ( أي جبريل عليه السلام ) إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ ( الناظر في مصلحتك والمالك لأمرك ، وهو الذي استعذت به وقوله لها ذلك تطمين لها وإني لست ممن تظن به ريبه أرسلني إليك ليهب . وقرأ شيبة وأبو الحسن وأبو بحرية والزهري وابن مناذر ويعقوب واليزيدي ومن السبعة نافع وأبو عمر : وليهب أي ليهب ربك . وقرأ الجمهور وباقي السبعة ) لاِهَبَ ( بهمزة المتكلم وأسند الهبة إليه لما كان الإعلام بها من قبله .
وقال الزمخشري : ) لاِهَبَ لَكِ ( لأكون سبباً في هبة الغلام بالنفخ في الروع . وفي بعض المصاحف أمرني أن أهب لك ، ويحتمل أن يكون محكي بقول محذوف أي قال ) لاِهَبَ ( والغلام اسم الصبي أول ما يولد إلى أن يخرج إلى سن الكهولة . وفسرت الزكاة هنا بالصلاح وبالنبوة
مريم : ( 20 ) قالت أنى يكون . . . . .
وتعجبت مريم وعلمت بما ألقي في روعها أنه من عند الله . وتقدم الكلام على سؤالها عن الكيفية في آل عمران في قصتها وفي قولها ) وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ( تخصيص بعد تعميم لأن مسيس البشر يكون بنكاح وبسفاح .
وقال الزمخشري : جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله ) مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ( أو لمستم النساء والزنا ليس كذلك إنما يقال فجربها وخبث بها وما أشبه ذلك ، وليس بقمن أن يراعي فيه الكنايات والآداب انتهى . والبغي المجاهرة المشتهرة في الزنا ، ووزنه فعول عند المبرد اجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياء كما كسرت في عصي ودلي . قيل : ولو كان فعيلاً لحقتها هاء التأنيث فيقال بغية . وقال ابن جنيّ في كتاب التمام : هي فعيل ، ولو كانت فعولاً لقيل بغوكما قيل فلان نهو عن المنكر انتهى . قيل : ولما كان هذا اللفظ خاصاً بالمؤنث لم يحتج إلى علامة التأنيث فصار كحائض وطالق ، وإنما يقال للرجل باغ . وقيل : بغى فعيل

" صفحة رقم 171 "
بمعنى مفعول كعين كحيل أي مبغية بطلبها أمثالها .
مريم : ( 21 ) قال كذلك قال . . . . .
( قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ ( الكلام عليه كالكلام السابق في قصة زكريا ) وَلِنَجْعَلَهُ ( يحتمل أن يكون معطوفاً على تعليل محذوف تقديره لنبين به قدرتنا ) وَلِنَجْعَلَهُ ( أو محذوف متأخر أي فعلنا ذلك ، والضمير في ) وَلِنَجْعَلَهُ ( عائد على الغلام وكذلك في قوله ) وَكَانَ ( أي وكان وجوده ) أمْراً ( مفروغاً منه ، وكونه رحمة من الله أي طريق هدى لعالم كثير فينالون الرحمة بذلك . وذكروا أن جبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها أو فيه وفي كمها وقال : أي دخل الروح المنفوخ من فمها ، والظاهر أن المسند إليه النفخ هو الله تعالى لقوله ) فَنَفَخْنَا ( ويحتمل ما قالوا :
مريم : ( 22 ) فحملته فانتبذت به . . . . .
( فَحَمَلَتْهُ ( أي في بطنها والمعنى فحملت به . قيل : وكانت بنت أربع عشرة سنة . وقيل : بنت خمس عشرة سنة قاله وهب ومجاهد . وقيل : بنت ثلاث عشرة سنة . وقيل : اثنتي عشرة سنة . وقيل : عشرة سنين . قيل : بعد أن حاضت حيضتين . وحكى محمد بن الهيصم أنها لم تكن حاضت بعد . وقيل : لم تحض قط مريم وهي مطهرة من الحيض ، فما أحست وخافت ملامة الناس أن يظن بها الشر فارتمت به إلى مكان قصي حياءً وفراراً . روي إنها فرت إلى بلاد مصر أو نحوها قاله وهب . وقيل : إلى موضع يعرف ببيت لحم بينه وبين إيليا أربعة أميال . وقيل : بعيداً من أهلها وراء الجبل . وقيل : أقصى الدار . وقيل : كانت سميت لابن عم لها اسمه يوسف فلما قيل حملت من الزنا خاف عليها قتل الملك هرب بها ، فلما كان ببعض الطريق حدثته نفسه بأن يقتلها فأتاه جبريل عليه السلام فقال : إنه من روح القدس فلا تقتلها فتركها حملته في ساعة واحدة فكما حملته نبذته عن ابن . وقيل : كانت مدة الحمل ثلاث ساعات . وقيل : حمل في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة . وقيل : ستة أشهر . وعن عطاء وأبي العالية والضحاك : سبعة أشهر . وقيل : ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية إلاّ عيسى وهذه أقوال مضطربة متناقضة كان ينبغي أن يضرب عنها صفحاً إلاّ أن المفسرين ذكروها في كتبهم وسوّدوا بها الورق ، والباء في ) بِهِ ( للحال أي مصحوبة به أي اعتزلت وهو في بطنها كما قال الشاعر : تدوس بنا الجماجم والتريبا أي تدوس الجماجم ونحن على ظهورها .
مريم : ( 23 ) فأجاءها المخاض إلى . . . . .
ومعنى ) فَأَجَاءهَا ( أي جاء بها تارة فعدي جاء بالباء وتارة بالهمزة . قال الزمخشري : إلاّ أن استعماله قد يغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء الإتراك ، لا تقول : جئت المكان وأجاءنيه زيد كما تقول : بلغته وأبلغنيه ، ونظيره آتى حيث لم يستعمل إلاّ في الإعطاء ولم يقل آتيت المكان وآتانيه فلان انتهى . أما قوله وقول غيره إن الاستعمال غيره إلى معنى الإلجاء فيحتاج إلى نقل أئمة اللغة المستقرئين ذلك عن لسان العرب ، والإجاءة تدل على المطلق فتصلح لما هو بمعنى الإلجاء ولما هو بمعنى الاختيار كما لو قلت : أقمت زيداً فإنه قد يكون مختاراً لذلك وقد يكون قد قسرته على القيام . وأما قوله الإتراك لا تقول إلى آخره فمن رأى أن التعدية بالهمزة قياس أجاز لك ولو لم يسمع ومن لا يراه قياساً فقد سمع ذلك في جاء حيث قالوا : أجاء فيجيز ذلك ، وأما تنظيره ذلك بآتي فهو تنظير غير صحيح لأنه بناه على أن الهمزة فيه للتعدية ، وأن أصله أتى وليس كذلك بل آتى مما بُني على أفعل وليس منقولاً من أتى بمعنى جاء ، إذ لو كان منقولاً من أتى المتعدية لواحد لكان ذلك الواحد هو المفعول الثاني ، والفاعل هو الأول إذا عديته بالهمزة تقول : أتى المال زيداً ، وآتى عمراً زيداً المال ، فيختلف التركيف بالتعدية لأن زيداً عند النحويين هو المفعول الأول والمال هو المفعول الثاني . وعلى ما ذكره الزمخشري كان يكون العكس فدل على أنه ليس على ما قاله . وأيضاً فآتى مرادف لأعطى فهو مخالف من حيث الدلالة في

" صفحة رقم 172 "
المعنى . وقوله : ولم تقل أتيت المكان وآتانيه هذا غير مسلم بل يقال : أتيت المكان كما تقول : جئت المكان . وقال الشاعر : أتوا ناري فقلت منون أنتم
فقالوا الجن الجن قلت عموا ظلاما
ومن رأى النقل بالهمزة قياساً قال : أتانيه . وقرأ الجمهور ) فَأَجَاءهَا ( أي ساقها . وقال الشاعر : وجار سار معتمداً إليكم
أجائته المخافة والرجاء
وأما فتحه الجيم الأعمش وطلحة . وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم . قال ابن عطية وشبيل بن عزرة فاجأها من المفاجأة . وقال صاحب اللوامح شبيل بن عزرة : فاجأها . فقيل : هو من المفاجأة بوزن فاعلها فبدلت همزتها بألف تخفيف على غير قياس ، ويحتمل أن تكون همزة بين بين غير مقلوبة . وروي عن مجاهد كقراءة حماد عن عاصم . وقرأ ابن كثير في رواية ) الْمَخَاضُ ( بكسر الميم يقال مخضت الحامل مخاضاً ومخاضاً وتمخض الولد في بطنها : و ) إِلَى ( تتعلق بفأجاءها ، ومن قرأ فاجأها من المفاجأة فتتعلق بمحذوف أي مستندة أي فيحال استنادها إلى النخلة ، والمستفيض المشهور أن ميلاد عيسى عليه السلام كان بيت لحم ، وأنها لما هربت وخافت عليه أسرعت به وجاءت به إلى بيت المقدس فوضعته على صخرة فانخفضت الصخرة له وصارت كالمهد وهي الآن موجودة تزار بحرم بيت المقدس ، ثم بعد أيام توجهت به إلى بحر الأردن فعمدته فيه وهو اليوم الذي يتخذه النصارى ويسمونه يوم الغطاس وهم يظنون أن المياه في ذلك اليوم تقدست فلذلك يغطسون في كل ماء ، ومن زعم أنها ولدته بمصر قال : بكورة اهناس .
قيل : ونخلة مريم قائمة إلى اليوم ، والظاهر أن النخلة كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها . وقيل : إن الله أنبت لها نخلة تعلقت بها . وروي أنها بلغت إلى موضع كان فيه جذع نخلة يابس بال أصله مدوّد لا رأس له ولا ثمر ولا خضرة ، وأل إما لتعريف الجنس أو الداخلة على الأسماء الغالبة كأن تلك الصحراء كان بها جذع نخلة معروف فإذا قيل ) جِذْعِ النَّخْلَةِ ( فهم منه ذلك دون غير . وأرشدها تعالى إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها ولظهور تلك الآيات منها فتستقر نفسها وتقر عينها ، فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه ) قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا ( وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيغبنها ذلك ، وهذا مباح وعلى هذا الحد تمنى عمر بن الخطاب وجماعة من الصالحين . وأما النهي عن ذلك فإنما هو لضر نزل بالبدن ، وتقدم الخلاف من القراء في كسر الميم من مت وضمها في آل عمران ، والنسي الشيء الحقير الذي من شأنه لا ينسى فلا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر وخرقة الطمث . وقرأ الجمهور بكسر النون وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح وهو ما من شأنه أن يذبح . وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وحفص بفتح النون . وقرأ محمد بن كعب القرظي : نسأ بكسر النون والهمز مكان الياء وهي قراءة نون الأعرابي . وقرأ بكر بن حبيب السهمي ومحمد بن كعب أيضاً نسأ بفتح النون والهمز وهو مصدر من نسأت اللبن إذا صببت عليه ماء ، فاستهلك اللبن فيه لقلته فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن الذي لا يرى ولا يتميز من الماء .
وقال ابن عطية : وقرأ بكر بن حبيب نسا بفتح النون والسين من غير همز بناه على فعل كالقبض

" صفحة رقم 173 "
والنفض . قال الفراء نسي ونسي لغتان كالوتر والوتر والفتح أحب إليّ . وقال أبو علي الفارسي الكسر أعلى اللغتين . وقال ابن الأنباري : من كسر فهو اسم لما ينسى كالنقض اسم لما ينقض ، ومنه فتح فمصدر نائب عن اسم كما يقال : رجل دنف ودنف والمكسور هو الوصف الصحيح والمفتوح مصدر يسد مسد الوصف ، ويمكن أن يكونا لمعنى كالرطل والرطل والإشارة بقوله هذا إلى الحمل .
وقيل : ) قَبْلَ هَاذَا ( اليوم أو ) قَبْلَ هَاذَا ( الأمر الذي جرى : وقرأ الأعمش وأبو جعفر في رواية ) مَّنسِيّاً ( بكسر الميم اتباعاً لحركة السين كما قالوا منتن باتباع حركة الميم لحركة التاء . وقيل : تمنت ذلك لما لحقها من فرط الحياء على حكم العادة البشرية لا كراهة لحكم الله أو لشدة التكليف عليها إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة ، وبضد ما قربت من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام ، أو لحزنها على الناس أو يأثم الناس بسببها . وروي أنها سمعت نداء أخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت و ) قَالَتْ ياأَيُّهَا لَيْتَنِى مّتَّ ). وقال وهب : أنساها كرب الولادة وما سمعت من الناس بشارة الملائكة بعيسى .
مريم : ( 24 ) فناداها من تحتها . . . . .
وقرأ زر وعلقمة فخاطبها مكان ) فَنَادَاهَا ( وينبغي أن يكون تفسيراً لا قراءة لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، والمنادي الظاهر أنه عيسى أي فولدته فأنطقه الله وناداها أي حالة الوضع . وقيل : جبريل وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وقاله الحسن وأقسم على ذلك . قيل : وكان يقبل الولد كالقابلة . وقرأ ابن عباس ) فَنَادَاهَا ( ملك ) مِن تَحْتِهَا ). وقرأ البراء بن عازب وابن عباس والحسن وزيد بن عليّ والضحاك وعمرو بن ميمون ونافع وحمزة والكسائي وحفص ) مِنْ ( حرف جر . وقرأ الابنان والأبوان وعاصم وزر ومجاهد والجحدري والحسن وابن عباس في رواية عنهما ) مِنْ ( بفتح الميم بمعنى الذي و ) تَحْتِهَا ( ظرف منصوب صلة لمن ، وهو عيسى أي ناداها المولود قاله أبيّ والحسن وابن جبير ومجاهد و ) ءانٍ ( حرف تفسير أي ) لا تَحْزَنِى ( والسري في قول الجمهور الجدول . وقال الحسن وابن زيد وقتادة عظيماً من الرجال له شأن . وروي أن الحسن فسر الآية فقال : أجل لقد جعله الله ) سَرِيّاً ( كريماً فقال حميد بن عبد الرحمن : يا أبا سعيد إنما يعني بالسري الجدول ، فقال الحسن لهذه وأشباهها أحب قربك ، ولكن غلبنا الأمراء .
مريم : ( 25 ) وهزي إليك بجذع . . . . .
ثم أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع . وقالت فَرِقة : بل كانت النخلة مطعمة رطباً . وقال السدّي : كان الجذع مقطوعاً وأجى تحته النهر لجنبه ، والظاهر أن المكلم هو عيسى وأن الجذع كان يابساً وعلى هذا ظهرت لها آيات تسكن إليها وحزنها لم يكن لفقد الطعام والشراب حتى تتسلى بالأكل والشرب ، ولكن لما ظهر في ذلك من خرق العادة حتى يتبين لقومها أن ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها . قال ابن عباس : كان جذعاً نخراً فلما هزت إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ، ثم اخضر فصار بلحاً ، ثم احمر فصار زهواً ثم رطباً كل ذلك في طرفة عين ، فجعل الرطب يقع من بين يديها لا يتسرح منه شيء . وإلى حرف بلا خلاف ويتعلق بقوله ) وهُزِّي ( وهذا جاء على خلاف ما تقرر في علم النحو من أن الفعل لا يتعدى إلى الضمير المتصل ، وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا علم وهما لمدلول واحد لا يقال : ضربتك ولا زيد ضربه أي ضرب نفسه ولا ضربني إنما يؤتى في مثل هذه التراكيب بالنفس فتقول : ضربت نفسك وزيد ضرب نفسه وضربت نفسي والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا تقول : هززت إليك ولا زيد هز إليه ولا هززت إلى ولهذا زعموا في قول الشاعر : دع عنك نهياً صيح في حجراته
ولكن حديثاً ما حدثت الرواحل

" صفحة رقم 174 "
وفي قول الآخر : وهوّن عليك فإن الأمو
ر بكف الإله مقاديرها
إنّ عن وعلى ليسا حرفين وإنما هما اسمان ظرفان ، وهذا ليس ببعيد لأن عن وعلى قد ثبت كونهما اسمين في قوله : من عن يمين الحبيا نظرة قبل
وفي قوله :
غدت من عليه بعدما تم ظمؤها
وبعض النحويين زعم أن على لا تكون حرفاً البتة ، وأنها اسم في كل مواردها ونسب إلى سيبويه ، ولا يمكن أن يدعي أن إلى تكون اسماً لإجماع النحاة على حرفى تها كما قلنا . ونظير قوله تعالى ) أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ( قوله تعالى ) وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ( وعلى تقرير تلك القاعدة ينبغي تأويل هذين ، وتأويله على أن يكون قوله ) إِلَيْكَ ( ليس متعلقاً بهزي ولا باضم ، وإنما ذلك على سبيل البيان والتقدير أعني إليك فهو متعلق بمحذوف كما قالوا في قوله ) إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( وما أشبهه على بعض التأويلات . والباء في ) بِجِذْعِ ( زائدة للتأكيد كقوله ) وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ). قال أبو عليّ كما يقال : ألقى بيده أي ألقى يده . وكقوله :
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
أي لا يقرأن السور . وأنشد الطبري :
فؤاد يمان ينبت السدر صدره
وأسفله بالمرخ والسهان
وقال الزمخشري أو على معنى أفعلي الهز به . كقوله :
يخرج في عراقيبها نصلي

" صفحة رقم 175 "
قالوا : التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذلك التحنيك ، وقالوا : كان من العجوة قاله محمد بن كعب . وقيل : ما للنفساء خير من الرطب . وقيل : أذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب . وقرأ الجمهور ) تُسَاقِطْ ( بفتح التاء والسين وشدها بعد ألف وفتح القاف . وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب ومسروق وحمزة كذلك إلاّ أنهم خففوا السين . وقرأ حفص ) تُسَاقِطْ ( مضارع ساقطت . وقرأ أبو السمال تتساقط بتاءين . وقرأ البراء بن عازب والأعمش في رواية يساقط بالياء من تحت مضارع أساقط . وقرأ أبو حيوة ومسروق . تسقط بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف . وعن أبي حيوة كذلك إلاّ أنه بالياء من تحت ، وعنه تسقط بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف ، وعنه كذلك إلاّ أنه بالياء من تحت ، وقال بعضهم في قراءة أبي حيوة هذه أنه قرأ رطب جني بالرفع على الفاعلية ، وأما النصب فإن قرأ بفعل متعد نصبه على المفعول أو بفعل لازم فنصبه على التمييز ، ومن قرأ بالياء من تحت فالفعل مسند إلى الجذع ، ومن قرأ بالتاء فمسند إلى النخلة ، ويجوز أن يكون مسنداً إلى الجذع على حدّ ) يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ( وفي قراءة من قرأ يلتقطه بالتاء من فوق .
وأجاز المبرد في قوله ) رُطَباً ( أن يكون منصوباً بقوله ) وهزي ( أي ) وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ( رطباً تساقط عليك ، فعلى هذا الذي أجازه تكون المسألة من باب الإعمال فيكون قد حذف معمول ) تُسَاقِطْ ( فمن قرأه بالياء من تحت فظاهر ، ومن قرأ بالتاء من فوق فإن كان الفعل متعدياً جاز أن يكون من باب الإعمال ، وإن كان لازماً فلا لاختلاف متعلق هزي إذ ذاك والفعل اللازم .
وقرأ طلحة بن سليمان ) جَنِيّاً ( بكسر الجيم إتباعاً لحركة النون والرزق فإن كان مفروغاً منه فقد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه ، ولذلك أمرت مريم بهز الجذع وعلى هذا جاءت الشريعة وليس ذلك بمناف للتوكل .
مريم : ( 26 ) فكلي واشربي وقري . . . . .
وعن ابن زيد قال عيسى لها لا تحزني ، فقالت : كيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة أي شيء عذري عند الناس ؟ ) قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا ( الآية فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام ) فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرّى عَيْناً ). قال الزمخشري : أي جمعنا لك في السري والرطب فائدتين إحداهما الأكل والشرب ، والثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين وهو معنى قوله ) فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرّى عَيْناً ( أي وطيبي نفساً ولا تغتمي وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك انتهى . ولما كانت العادة تقديم الأكل على الشرب تقدم في الآية والمجاورة قوله ) تُسَاقِطْ ( عليك رطباً جنياً ( ولما كان المحزون قد يأكل ويشرب قال : ) ( ولما كان المحزون قد يأكل ويشرب قال : ) وَقَرّى عَيْناً ( أي لا تحزني ، ثم ألقى إليها ما تقول إن رأت أحداً . وقرىء ) وَقَرّى ( بكسر القاف وهي لغة نجدية وتقدم ذكرها .
وقرأ أبو عمرو في ما روي عنه ابن رومي ترئن بالإبدال من الياء همزة وروى عنه لترؤن بالهمز أيضاً بدل الواو . قال ابن خالويه : وهو عند أكثر النحويين لحن . وقال الزمخشري : وهذا من لغة من يقول لتأت بالحج أصلهاوحلأت السويق وذلك لتأخ بين الهمزة وحروف اللين في الإبدال انتهى . وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة ) تَرَيِنَّ ( بسكون الياء وفتح النون خفيفة . قال ابن جنيّ : وهي شاذة يعني لأنه لم يؤثر الجازم فيحذف النون . كما قال الأفوه الأودي : أما ترى رأسي أزرى به
مأس زمان ذي انتكاس مؤوس
والآمر لها بالأكل والشرب وذلك القول الظاهر أنه ولدها . وقيل جبريل على الخلاف الذي سبق ، والظاهر أنه

" صفحة رقم 176 "
أبيح لها أن تقول ما أُمَرِت بقوله وهو قول الجمهور . وقالت فرقة : معنى ) فَقُولِى ( أي بالإشارة لا بالكلام وإلاّ فكان التناقض ينافي قولها انتهى . ولا تناقض لأن المعنى ) فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً ( بعد ) قَوْلِي ( هذا وبين الشرط وجزائه جملة محذوفة يد عليه المعنى ، أي ) فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً ( وسألك أو حاورك الكلام ) فَقُولِى ).
وقرأ زيد بن عليّ صياماً وفسر ) صَوْماً ( بالإمساك عن الكلام . وفي مصحف عبد الله صمتاً . وعن أنس بن مالك مثله . وقال السدّي وابن زيد : كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام انتهى . والصمت منهي عنه ولا يصح نذره . وفي الحديث : ( مره فليتكلم ) . وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق وأمرت بنذر الصوم لأن عيسى بما يظهر الله عليه يكفيها أمر الاحتجاج ومجادلة السفهاء . وقوله ) إِنسِيّاً ( لأنها كانت تكلم الملائكة دون الإنس .
( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً فَرِيّاً ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَواةِ وَالزَّكَواةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلَامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ).
مريم : ( 27 ) فأتت به قومها . . . . .
( فَأَتَتْ بِهِ ( قيل إتيانها كان من ذاتها . قيل : طهرت من النفاس بعد أربعين يوماً وكان الله تعالى قد أراها آيات واضحات ، وكلمها عيسى ابنا وحنت إلى الوطن وعلمت أن عيسى سيكفيها من يكلمها فعادت إلى قومها . وقيل : أرسلوا إليها لتحضري إليها بولدك ، وكان الشيطان قد أخبر قومها بولادتها وفي الكلام حذف أي فلما رأوها وابنها ) قَالُواْ ( قال مجاهد والسدّي : الفري العظيم الشنيع . وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية ) فَرِيّاً ( بسكون الراء ، وفيما نقل ابن خالويه فرئاً بالهمز ، و ) هَارُونَ ( شقيقها أو أخوها من أمّها ، وكان من أمثل بني إسرائيل ، أو ) هَارُونَ ( أخو موسى إذ كانت من نسله ، أو رجل صالح من بني إسرائيل شبهت به ، أو رجل من النساء وشبهوها به أقوال . والأولى أنه أخوها الأقرب .
مريم : ( 28 ) يا أخت هارون . . . . .
وفي حديث المغيرة حين خصمه نصارى نجران في قوله تعالى ) فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ( والمدة بينهما طويلة جداً فقال له الرسول : ( ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم ) . وأنكروا عليها ما جاءت به وأن أبويها كانا صالحين ، فكيف صدرت منك هذه الفعلة القبيحة وفي هذا دليل على أن الفروع غالباً تكون زاكية إذا زكت الأصول ، وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك .
وقرأ عمر بن لجا التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريراً ) مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء ( لجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة وحسن ذلك قليلاً كونها فيها مسوع جواز الابتداء وهو الإضافة ، ولما اتهموها بما اتهموها نفوا عن أبويها السوء لمناسبة الولادة ، ولم ينصوا على إثبات الصلاح وإن كان نفي السوء يوجب الصلاح ونفي البغاء يوجب العفة لأنهما بالنسبة إليهما نقيضان .
مريم : ( 29 ) فأشارت إليه قالوا . . . . .
روي أنها لما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك . وقيل : هموا برجمها حتى تكلم عيسى فتركوها .
( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ( أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه . وقيل : كان المستنطق لعيسى

" صفحة رقم 177 "
زكريا . ويروى أنهم لما أشاروا إلى الطفل قالوا : استخفافها بنا أشد علينا من زناها ، ثم قالوا لها على جهة الإنكار والتهكم بها أي إن من كان في المهد يُربيّ لا يكلم ، وإنما أشارت إليه لما تقدم لها من وعده أنه يجيبهم عنها ويغنيها عن الكلام . وقيل : بوحي من الله إليها . و ) كَانَ ( قال أبو عبيدة : زائدة . وقيل : تامّة وينتصب ) صَبِيّاً ( على الحال في هذين القولين ، والظاهر أنها ناقصة فتكون بمعنى صار أو تبقى على مدلولها من اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي ، ولا يدل ذلك على الانقطاع كما لم يدل في قوله ) وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( وفي قوله ) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ( والمعنى ) كَانَ ( وهو الآن على ما كان ، ولذلك عبر بعض أصحابنا عن ) كَانَ ( هذه بأنها ترادف لم يزل وما ردّ به ابن الأنباري كونها زائدة من أن الزائدة لا خبر لها ، وهذه نصبت ) صَبِيّاً ( خبراً لها ليس بشيء لأنه إذ ذاك ينتصب على الحال ، والعامل فيها الاستقرار .
وقال الزمخشري : كان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة والدال عليه معنى الكلام وأنه مسوق للتعجب ، ووجه آخر أن يكون ) نُكَلّمُ ( حكاية حال ماضية أي كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس ) صَبِيّاً ).
) فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً ( فيما سلف من الزمان حتى نكلم هذا انتهى . والظاهر أن ) مِنْ ( مفعول بنكلم . ونقل عن الفراء والزجاج أن ) مِنْ ( شرطية و ) كَانَ ( في معنى يكن وجواب الشرط محذوف تقديره فكيف ) نُكَلّمُ ( وهو قول بعيد جداً . وعن قتادة أن ) الْمَهْدِ ( حجر أمه . وقيل : سريره . وقيل : المكان الذي يستقر عليه .
مريم : ( 30 ) قال إني عبد . . . . .
وروي أنه قام متكئاً على يساره وأشار إليهم بسبابته اليمني ، وأنطقه الله تعالى أولاً بقوله ) قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِىَ ( ردّاً للوهم الذي ذهبت إليه النصارى .
وفي قوله ) عَبْدُ اللَّهِ ( والجمل التي بعده تنبيه على براءة أمّه مما اتهمت به لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بالنبوة والخلال الحميدة إلاّ مبرأة مصطفاة و ) الْكِتَابِ ( الإنجيل أو التوراة أو مجموعهما أقوال . وظاهر قوله ) وَجَعَلَنِى نَبِيّاً ( أنه تعالى نبأه حال طفوليته أكمل الله عقله واستنبأه طفلاً . وقيل : إن ذلك سبق في قضائه وسابق حكمه ،
مريم : ( 31 - 32 ) وجعلني مباركا أين . . . . .
ويحتمل أن يجعل الآتي لتحققه كأنه قد وجد ) وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً ( قال مجاهد : نفاعاً . وقال سفيان : معلم خير . وقيل : آمراً بمعروف ، ناهياً عن منكر . وعن الضحاك : قضاء للحوائج ) وَلَوْ كُنتُ ( شرط وجزاؤه محذوف تقديره ) وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً ( وحذف لدلالة ما تقدم عليه ، ولا يجوز أن يكون معمولاً لجعلني السابق لأن ) أَيْنَ ( لا يكون إلاّ استفهاماً أو شرطاً لا جائز أن يكون هنا استفهاماً ، فتعينت الشرطية واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله إنما هو معمول للفعل الذي يليه ، والظاهر حمل الصلاة والزكاة على ما شرع في البدن والمال . وقيل : ) الزَّكَواةَ ( زكاة الرؤوس في الفطر . وقيل الصلاة الدعاء ، و ) الزَّكَواةَ ( التطهر .
و ) مَا ( في ) مَا دُمْتُ ( مصدرية ظرفية . وقال ابن عطية . وقرأ ) دُمْتُ ( بضم الدال عاصم وجماعة . وقرأ ) دُمْتُ ( بكسر الدال أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو وانتهى والذي في كتب القراءات أن القراء السبعة قرؤوا ) دُمْتُ حَيّاً ( بضم الدال ، وقد طالعنا جملة من الشواذ فلم نجدها لا في شواذ السبعة ولا في شواذ غيرهم على أنها لغة تقول ) دُمْتُ ( تدام كما قالوا مت تمات ، وسبق أنه قرىء ) وَبَرّاً ( بكسر الباء فإما على حذف مضاف أي وذا بر ، وإما على المبالغة جعل ذاته من فرط بره ، ويجوز أن يضمر فعل في معنى أوصاني وهو كلفني لأن أوصاني بالصلاة وكلفنيها واحد ، ومن قرأ ) وَبَرّاً ( بفتح الباء فقال الحوفي وأبو البقاء : إنه معطوف على ) مُبَارَكاً ( وفيه بعد للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي ) أوصاني ( ومتعلقها ، والأولى إضمار فعل أي وجعلني ) براً ). وحكى الزهراوي وأبو البقاء أنه قرىء وبر بكسر الباء والراء عطفاً على ) نَبِيّاً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً ).
وقوله : ) بِوَالِدَتِى ( بيان محل البر وأنه لا والد له ، وبهذا القول برأها قومها . والجبار كما تقدم المتعاظم وكان في غاية التواضع يأكل الشجر ويلبس الشعر

" صفحة رقم 178 "
مريم : ( 33 ) والسلام علي يوم . . . . .
ويجلس على التراب حيث جنه الليل لا مسكن له ، وكان يقول : سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي ، والألف واللام في ) وَالسَّلَامُ ( للجنس . قال الزمخشري : هذا التعريف تعريض بلعنة متهمي مريم وأعدائهما من اليهود ، وحقيقته أن اللام للجنس فإذا قال : وجنس السلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم ، ونظيره ) وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( يعني إن العذاب على من كذب وتولى ، وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو هذا من التعريض . وقيل : أل لتعريف المنكر في قصة يحيى في قوله ) وَسَلَامٌ ( نحو ) كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ( فعصى فرعون الرسول أي وذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إليّ . وسبق القول في تخصيص هذه المواطن .
وقرأ زيد بن علي ) يَوْمَ وُلِدْتُّ ( أي يوم ولدتني جعله ماضياً لحقته تاء التأنيث ورجح وسلام عليّ والسلام لكونه من الله وهذا من قول عيسى عليه السلام . وقيل : سلام عيسى أرجح لأنه تعالى أقامه في ذلك مقام نفسه فسلم نائباً عن الله .
2 ( ) ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الاٌّ حْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الاٌّ مْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الاٌّ رْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( ) ) 2
) ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الاْحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الاْمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الاْرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ).
مريم : ( 34 ) ذلك عيسى ابن . . . . .
الإشارة بذلك إلى المولود الذي ولدته مريم المتصف بتلك الأوصاف الجميلة ، و ) ذالِكَ ( مبتدأ و ) عِيسَى ( خبره و ) ابْنَ مَرْيَمَ ( صفة لعيسى أو خبر بعد خبر أو بدل ، والمقصود ثبوت بنوّته من مريم خاصة من غير أب فليس بابن له كما يزعم النصارى ولا لغير رشدة كما يزعم اليهود . وقرأ زيد بن عليّ وابن عامر وعاصم وحمزة وابن أبي إسحاق والحسن ويعقوب ) قَوْلَ الْحَقّ ( بنصب اللام ، وانتصابه على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي هذه الأخبار عن ) عِيسَى ( أنه ) ابْنَ مَرْيَمَ ( ثابت صدق ليس منسوباً لغيرها ، أي إنها ولدته من غير مس بشر كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل ، أي أقول ) الْحَقّ ( وأقول قول ) الْحَقّ ( فيكون ) الْحَقّ ( هنا الصدق وهو من إضافة الموصوف إلى صفته أي القول ) الْحَقّ ( كما قال ) وَعْدَ الصّدْقِ ( أي الوعد الصدق وإن عنى به الله تعالى كان القول مراداً به الكلمة كما قالوا كلمة الله كان انتصابه على المدح وعلى هذا تكون الذي صفة للقول ، وعلى الوجه الأول تكون ) الَّذِى ( صفة للحق .
وقرأ الجمهور ) قَوْلَ ( برفع اللام . وقرأ ابن مسعود والأعمش قال بألف ورفع اللام . وقرأ الحسن ) قَوْلَ ( بضم القاف ورفع اللام وهي مصادر كالرهب والرهب والرهب وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو أي نسبته إلى أمه فقط ) قَوْلَ الْحَقّ ( فتتفق إذ ذاك قراءة النصب وقراءة الرفع في المعنى .
وقال الزمخشري : وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر أو بدل انتهى . وهذا الذي ذكر لا يكون إلاّ على المجاز في قول وهو أن يراد به كلمة الله لأن

" صفحة رقم 179 "
اللفظ لا يكون الذات . وقرأ طلحة والأعمش في رواية زائدة قال : بألف جعله فعلاً ماضياً ) الْحَقّ ( برفع القاف على الفاعلية ، والمعنى قال الحق وهو الله ) ذالِكَ ( الناطق الموصوف بتلك الأوصاف هو ) عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ( و ) الَّذِى ( على هذا خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي . وقرأ عليّ كرم الله وجهه والسلمي وداود بن أبي هند ونافع في رواية والكسائي في رواية ) تَمْتَرُونَ ( بتاء الخطاب والجمهور بياء الغيبة ، وامترى افتعل إما من المرية وهي الشك ، وإما من المراء وهو المجادلة والملاحاة ، وكلاهما مقول هنا قالت اليهود ساحر كذاب ، وقالت النصارى ابن الله وثالثها ثلاثة وهو الله
مريم : ( 35 ) ما كان لله . . . . .
( مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدِهِ ( هذا تكذيب للنصارى في دعواهم أنه ابن الله ، وإذا استحالت البنوة فاستحالة الإلهية مستقلة أو بالتثليث أبلغ في الاستحالة ، وهذا التركيب معناه الانتفاء فتارة يدل من جهة المعنى على الزجر ) مَا كَانَ لاهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الاْعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ ( وتارة على التعجيز ) مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ( وتارة على التنزيه كهذه الآية ، ولذلك أعقب هذا النفي بقوله ) سُبْحَانَهُ ( أي تنزه عن الولد إذ هو مما لا يتأتى ولا يتصور في المعقول ولا تتعلق به القدرة لاستجالته ، إذ هو تعالى متى تعلقت إرادته بإيجاد شيء أو جده فهو منزه عن التوالد . وتقدم الكلام على الجملة من قوله ) إِذَا قَضَى أَمْرًا ).
مريم : ( 36 ) وإن الله ربي . . . . .
وقرأ الجمهور ) وَأَنَّ اللَّهَ ( بكسر الهمزة على الاستئناف . وقرأ أبي بالكسر دون واو ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو ) وَأَنْ ( بالواو وفتح الهمزة ، وخرجه ابن عطية على أن يكون معطوفاً على قوله هذا ) قَوْلَ الْحَقّ ( ) وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى ( كذلك . وخرجه الزمخشري على أن معناه ولأنه ربي وربكم فاعبدوه كقوله ) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً ( انتهى . وهذا قول الخليل وسيبويه وفي حرف أبي أيضاً ، وبأن ) اللَّهِ ( بالواو وباء الجر أي بسبب ذلك فاعبدوه . وأجاز الفراء في ) وَأَنْ ( يكون في موضع خفض معطوفاً على والزكاة ، أي ) وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ ( وبأن الله ربي وربكم انتهى . وهذا في غاية البعد للفصل الكثير ، وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى الأمر ) إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ ).
وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أن يكون المعنى ، وقضى ) إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ ( فهي معطوفة على قوله ) أمْراً ( من قوله ) إِذَا قَضَى أَمْرًا ( والمعنى ) إِذَا قَضَى أَمْرًا ( وقضى ) إِنَّ اللَّهَ ( انتهى . وهذا تخبيط في الإعراب لأنه إذا كان معطوفاً على ) أمْراً ( كان في حيز الشرط ، وكونه تعالى ربنا لا يتقيد بالشرط وهذا يبعد أن يكون قاله أبو عمرو بن العلاء فإنه من الجلالة في علم النحو بالمكان الذي قل أن يوازنه أحد مع كونه عربياً ، ولعل ذلك من فهم أبي عبيدة فإنه يضعف في النحو والخطاب في قول ) وَرَبّكُمْ ( قيل لمعاصري رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من اليهود والنصارى أمر الله تعالى أن يقول لهم ) ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ( أي قل لهم يا محمد هذا الكلام . وقيل : الخطاب للذين خاطبهم عيسى بقوله ) إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ( الآية وإن الله معطوف على الكتاب ، وقد قال وهب عهد عيسى إليهم ) إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ ( ومن كسر الهمزة عطف على قوله ) إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ( فيكون محكياً . يقال : وعلى هذا القول يكون قوله ) ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِلَى وَأَنَّ اللَّهَ ( حمل اعتراض أخبر الله تعالى بها رسوله عليه السلام .
والإشارة بقوله ) هَاذَا ( أي القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة ، هو الطريق المستقيم الذي يفضي بقائله ومعتقده إلى النجاة
مريم : ( 37 - 38 ) فاختلف الأحزاب من . . . . .
( فَاخْتَلَفَ الاْحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ( هذا إخبار من الله للرسول بتفرق بني إسرائيل فرقاً ، ومعنى ) مِن بَيْنِهِمْ ( أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين لم يقع الاختلاف سببه غيرهم . و ) الاْحَزَابِ ( قال الكلبي : اليهود والنصارى . وقال الحسن : الذين تحزبوا على الانبياء لما قص عليهم قصة عيسى اختلفوا فيه من بين الناس انتهى . فالضمير في ) بَيْنَهُمْ ( على هذا ليس عائداً على ) الاْحَزَابِ ). وقيل : ) الاْحَزَابِ ( هنا المسلمون واليهود والنصارى . وقيل : هم النصارى فقط .
وعن قتادة إن بني إسرائيل جمعوا أربعة من أحبارهم . فقال أحدهم : عيسى هو الله نزل إلى الأرض وأحيا من أحيا وأمات من أمات ، فكذبه الثلاثة واتبعته اليعقوبية . ثم قال أحد الثلاثة : عيسى ابن الله فكذبه الاثنان واتبعته النسطورية ، وقال أحد الاثنين : عيسى أحد ثلاثة الله إله ، ومريم إله ، وعيسى إله فكذبه

" صفحة رقم 180 "
الرابع وأتبعته الإسرائيلية . وقال الرابع : عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فاتبعته فرقة من بني إسرائيل ثم اقتتل الأربعة ، فغلب المؤمنون وظهرت اليعقوبية على الجميع فروي أن في ذلك نزلت ) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ( آية آل عمران ، والأربعة يعقوب ونسطور وملكا وإسرائيل .
وبين هنا أصله ظرف استعمل اسماً بدخول ) مِنْ ( عليه . وقيل : ) مِنْ ( زائدة . وقيل البين هنا البعد أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق . و ) مَّشْهِدِ ( مفعل من الشهود وهو الحضور أو من الشهادة ويكون مصدراً ومكاناً وزماناً ، فمن الشهود يجوز أن يكون المعنى من شهود هول الحساب والجزاء في يوم القيامة ، وإن يكون من مكان الشهود فيه وهو الموقف ، وأن يكون من وقت الشهود ومن الشهادة ، يجوز أن يكون المعنى من شهادة ذلك اليوم وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر ، وأن يكون من مكان الشهادة ، وأن يكون من وقت الشهادة واليوم العظيم على هذه الاحتمالات يوم القيامة . وعن قتادة : هو يوم قتل المؤمنين حين اختلف الأحزاب وقيل ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه يوم اختلافهم ، وتقدم الكلام على التعجب الوارد من الله في قوله تعالى ) فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ( وأنه لا يوصف بالتعجب .
قال الحسن وقتادة : لئن كانوا صماً وبكماً عن الحق فما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة ، ولكنهم يسمعون ويبصرون حيث لا ينفعهم السمع ولا البصر . وعن ابن عباس أنهم أسمع شيء وأبصره . وقال علي بن عيسى : هو وعيد وتهديد أي سوف يسمعون ما يخلع قلوبهم ، ويبصرون ما يسود وجوههم . وعن أبي العالية : إنه أمر حقيقة للرسول أي ) أَسْمِعْ ( الناس اليوم وأبصرهم ) بِهِمُ ( وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب إذا أتوا محشورين مغلولين ) لَاكِنِ الظَّالِمُونَ ( عموم يندرج فيه هؤلاء الأحزاب الكفارة وغيرهم من الظالمين ، و ) الْيَوْمَ ( أي في دار الدنيا . وقال الزمخشري : أوقع الظاهر أعني الظالمين موقع الضمير إشعاراً بأن لا ظلم أشد من ظلمهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدي عليهم ويسعدهم ، والمراد بالضلال المبين إغفال النظر والاستماع انتهى .
مريم : ( 39 ) وأنذرهم يوم الحسرة . . . . .
( وَأَنذِرْهُمْ ( خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) والضمير لجميع الناس . وقيل : يعود على الظالمين . و ) يَوْمَ الْحَسْرَةِ ( يوم ذبح الموت وفيه حديث . وعن ابن زيد : يوم القيامة . وقيل : حين يصدر الفريقان إلى الجنة والنار وعن ابن مسعود : حين يرى الكفارة مقاعدهم التي فاتتهم من الجنة لو كانوا مؤمنين . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ) يَوْمَ الْحَسْرَةِ ( اسم جنس لأن هذه حسرات كثيرة في مواطن عدة ، ومنها يوم الموت ، ومنها وقت أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك انتهى .
و ) إِذْ ( بد من ) يَوْمَ الْحَسْرَةِ ). قال السدّي وابن جريج : ) قُضِىَ الاْمْرُ ( ذبح الموت . وقال مقاتل : قضى العذاب . وقال ابن الأنباري المعنى ) إِذْ قُضِىَ الاْمْرُ ( الذي فيه هلاككم . وقال الضحاك : يكون ذلك إذا برزت جهنم ورمت بالشرر . وعن ابن جريج أيضاً : إذا فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار . وقيل ) إِذَا قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ). وقيل : إذا يقال ) وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ( وقيل : إذا قضى سد باب التوبة وذلك حين تطلع الشمس من مغربها .
( وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ ). قال الزمخشري : متعلق بقوله ) فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( عن الحسن ) وَأَنذِرْهُمْ ( إعراض وهو متعلق بأنذرهم أي ) وَأَنذِرْهُمْ ( على هذه الحال غافلين غير مؤمنين . وقال ابن عطية : ) وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ ( يريد في الدنيا الآن ) وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( كذلك انتهى . وعلى هذا يكون حالاً والعامل فيه ) وَأَنذِرْهُمْ ( والمعنى أنهم مشتغلون بأمور دنياهم معرضون عما يراد منهم ، والظاهر أن يكون المراد بقوله ) وَقُضِىَ الاْمْرُ ( أمر يوم القيامة .
مريم : ( 40 ) إنا نحن نرث . . . . .
( إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الاْرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ( تجوز وعبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق فكأنها وراثة . وقرأ الجمهور ) يَرْجِعُونَ ( بالياء من تحت مبنيا

" صفحة رقم 181 "
للمفعول ، والأعرج بالتاء من فوق . وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق وعيسى بالياء من تحت مبيناً للفاعل على وحكى عنهم الداني بالتاء .
( وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً إِذْ قَالَ لاِبِيهِ ياأَبَتِ صِدّيقاً نَّبِيّاً إِذْ قَالَ لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ياأَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً ياأَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ).
مريم : ( 41 - 42 ) واذكر في الكتاب . . . . .
( وَاذْكُرْ ( خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمراد اتل عليهم نبأ ) إِبْرَاهِيمَ ( وذاكره ومورده في التنزيل هو الله تعالى ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة مريم وابنها عيسى واختلاف الأحزاب فيهما وعبادتهما من دون الله ، وكانا من قبيل من قامت بهما الحياة ذكر الفريق الضال الذي عبد جماداً والفرى قان وإن اشتركا في الضلال ، والفريق العابد الجماد أضل ثم ذكر قصة إبراهيم مع أبيه عليه السلام تذكيراً للعرب بما كان إبراهيم عليه من توحيد الله وتبيين أنهم سالكو غير طريقه ، وفيه صدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيما أخبر به وأن ذلك متلقى بالوحي والصديق من أبنية المبالغة وهو مبني من الثلاثي للمبالغة أي كثير الصدق ، والصدق عرفه في اللسان ويقابله الكذب ، وقد يستعمل في الأفعال والخلق وفيما لا يعقل يقال : صدقني الطعام كذا وكذا قفيزاً ، وعود صدق للصلب الجيد فوصف إبراهيم بالصدق على العموم في أقواله وأفعاله ، والصديقية مراتب ألا ترى إلى وصف المؤمنين بها في قوله ) مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ ( ومن غريب النقل ما ذهب إليه بعض النحويين من أن فعيلاً إذا كان من متعد جاز أن يعمل فتقول هذا شريب مسكر كما أعملوا عند البصريين فعولاً وفعالاً ومفعالاً .
وقال الزمخشري : والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله ، وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقاً لجميع الأنبياء وكتبهم وكان ) نَبِيّاً ( في نفسه لقوله تعالى ) بَلْ جَاء بِالْحَقّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ( وكان بليغ في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق الله بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك ، وهذه الجملة وقعت اعتراضاً بين المبدل منه وبدله أعني ) إِبْرَاهِيمَ ).
و ) إِذْ قَالَ ( نحو قولك : رأيت زيداً ونعم الرجل أخاك ، ويجوز أن تتعلق ) إِذْ ( بكان أو ب ) صِدّيقاً نَّبِيّاً ( أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات

" صفحة رقم 182 "
انتهى . فالتخريج الأول يقتضي تصرف ) إِذْ ( وقد تقدم لنا أنها لا تتصرف ، والتخريج الثاني مبني على أن كان لنا قصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلاف . والتخريج الثالث لا يصح لأن العمل لا ينسب إلاّ إلى لفظ واحد ، أما أن ينسب إلى مركب من مجموع لفظين فلا ، وجائز أن يكون معمولاً لصديقاً لأنه نعت إلاّ على رأي الكوفيين ، ويحتمل أن يكون معمولاً لنبياً أي منبأ في وقت قوله لأبيه ما قال ، وأن التنبئة كانت في ذلك الوقت وهو بعيد .
وقرأ أبو البر هثيم إنه كان صادقاً .
مريم : ( 43 ) يا أبت إني . . . . .
وفي قوله ) يا أبت ( تلطف واستدعاء بالنسب . وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر ) يا أبت ( بفتح التاء وقد لحن هارون هذه القراءة ، وتقدم الكلام على ) يا أبت ( في سورة يوسف عليه السلام ، وفي مصحف عبد الله وا أبت بواو بدل ياء ، واستفهم إبراهيم عليه السلام عن السبب الحامل لأبيه على عبادة الصنم وهو منتف عنه السمع والبصر والإغناء عنه شيئاً تنبيهاً على شنعة الرأي وقبحه وفساده في عبادة من انتف عنه هذه الأوصاف .
وخطب الزمخشري فقال : انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطاً فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقل وانسلخ عن قضية التمييز كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحاً في ذلك نصيحة ربه جل وعلا . حدث أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار ، تدخل مداخل الأبرار ) ، كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس ، وأدنيه من جواري . وسرد الزمخشري بعد هذا كلاماً كثيراً من نوع الخطابة تركناه .
و ) لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ ( الظاهر أنها موصولة ، وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة ومعمول ) يَسْمَعُ ( و ) يَبْصِرُ ( منسي ولا ينوي أي ما ليس به استماع ولا إبصار لأن المقصود نفي هاتين الصفتين دون تقييد بمتعلق . و ) شَيْئاً ). إما مصدر أو مفعول به ، ولما سأله عن العلة في عبادة الصنم ولا يمكن أن يجد جواباً ، انتقل معه إلى إخباره بأنه قد جاءه من العلم ما لم يأته ولم يصف أباه بالجهل إذ يغني عنه السؤال السابق . وقال ) مّن الْعِلْمِ ( على سبيل التبعيض أي شيء من العلم ليس معك ، وهذه المحاورة تدل على أن ذلك كان بعدما نبىء ، إذ في لفظ ) جَاءنِى ( تجدد العلم ، والذي جاءه الوحي الذي أتى به الملك أو العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها أو توحيد الله وإفراده بالالوهية والعبادة أقوال ثلاثة ) فَاتَّبِعْنِى ( على توحيد الله بالعبادة وارفض الأصنام ) أَهْدِكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ( وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة .
مريم : ( 44 ) يا أبت لا . . . . .
وانتقل من أمره باتباعه إلى نهيه عن عبادة الشيطان وعبادته كونه يطيعه في عبادة الأصنام ثم نفره عن عبادة الشيطان بأنه كان عصياً للرحمن ، حيث استعصى حين أمره بالسجود لآدم فأبى ، فهو عدوّ لك ولأبيك آدم من قبل . وكان لفظ الرحمن هنا تنبيهاً على سعة رحمته ، وأن من هذا وصفه هو الذي ينبغي أن يعبد ولا يعصى ، وإعلاماً بشقاوة الشيطان حيث عصى من هذه صفته وارتكب من ذلك ما طرده من هذه الرحمة ، وإن كان مختاراً لنفسه عصيان ربه لا يختار لذريته من عصى لأجله إلاّ ما اختار لنفسه من عصيانهم .
مريم : ( 45 ) يا أبت إني . . . . .
( يا أبت إِنّى أَخَافُ ( قال الفرّاء والطبري ) أَخَافُ ( أعلم كما قال ) فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا ( أي تيقنا ، والأولى حمل ) أَخَافُ ( على موضوعه الأصلي لأنه لم يكن آيساً من إيمانه بل كان راجياً له وخائفاً أن لا يؤمن وأن يتمادى على الكفر فيمسه العذاب ، وخوّفه إبراهيم سوء العاقبة وتأدّب معه إذ لم يصرّح بلحوق العذاب به بل أخرج ذلك مخرج الخائف ، وأتى بلفظ المس الذي هو ألطف من المعاقبة ونكر العذاب ، ورتب على مس العذاب ما هو أكبر منه وهو

" صفحة رقم 183 "
ولاية الشيطان كما قال في مقابل ذلك ) وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ( أي من النعيم السابق ذكره ، وصدر كل نصيحة بقوله ) يا أبت ( توصلاً إليه واستعطافاً .
وقيل : الولاية هنا كونه مقروناً معه في الآخرة وإن تباغضاً وتبرأ بعضهما من بعض . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير إني أخاف أن تكون ولياً في الدنيا للشيطان فيمسك في الآخرة عذاب من الرحمن . وقوله ) إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَنِ ( لا يعين أن العذاب يكون في الآخرة ، بل يحتمل أن يحمل العذاب على الخذلان من الله فيصير موالياً للشيطان ، ويحتمل أن يكون مس العذاب في الدنيا بأن يبتلى على كفره بعذاب في الدنيا فيكون ذلك العذاب سبباً لتماديه على الكفر وصيرورته إلى ولاية الشيطان إلى أن يوافي على الكفر كما قال ) وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( وهذه المناصحات تدل على شدة تعلق قلبه بمعالجة أبيه ، والطماعية في هدايته قضاء لحق الأبوة وإشاداً إلى الهدى ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) .
مريم : ( 46 ) قال أراغب أنت . . . . .
( قَالَ ( أي أبوه ) أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإِبْراهِيمُ إِبْرَاهِيمَ ( استفهم استفهام إنكار ، والرغبة عن الشيء تركه عمداً وآلهته أصنامه ، وأغلظ له في هذا الإنكار وناداه باسمه ولم يقابل ) يا أبت ( بيا بني . قال الزمخشري : وقدم الخبر على المبتدأ في قوله ) وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ( لأنه كان أهم عنده وهو عنده أعني وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته ، وإن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد . وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه انتهى . والمختار في إعراب ) أَرَاغِبٌ أَنتَ ( أن يكون راغب مبتدأ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام ، و ) أَنتَ ( فاعل سد مسد الخبر ، ويترجح هذا الإعراب على ما أعربه الزمخشري من كون ) أَرَاغِبٌ ( خبراً و ) أَنتَ ( مبتدأ بوجهين :
أحدهما : أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ .
والثاني : أن لا يكون فصل بين العامل الذي هو ) أَرَاغِبٌ ( وبين معموله الذي هو ) عَنْ الِهَتِى ( بما ليس بمعمول للعامل ، لأن الخبر ليس هو عاملاً في المبتدأ بخلاف كون ) أَنتَ ( فاعلاً فإن معمول ) أَرَاغِبٌ ( فلم يفصل بين ) أَرَاغِبٌ ( وبين ) عَنْ الِهَتِى ( بأجنبي إنما فصل بمعمول له .
ولما أنكر عليه رغبته عن آلهته توعده مقسماً على إنفاذ ما توعده به إن لم ينته ومتعلق ) تَنتَهِ ( محذوف واحتمل أن يكون عن مخاطبتي بما خاطبتني به ودعوتني إليه ، وأن يكون ) لَئِن لَّمْ تَنتَهِ ( عن الرغبة عن آلهتي ) لارْجُمَنَّكَ ( جواب القسم المحذوف قبل ) لَئِنْ ). قال الحسن : بالحجارة . وقيل : لأقتلنك . وقال السدي والضحاك وابن جريج : لأشتمنك .
قال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف ) وَاهْجُرْنِى ( ؟ قلت : على معطوف عليه محذوف يدل عليه ) لارْجُمَنَّكَ ( أي فاحذرني ) وَاهْجُرْنِى ( لأن ) لارْجُمَنَّكَ ( تهديد وتقريع انتهى . وإنما احتاج إلى حذف ليناسب بين جملتي العطف والمعطوف عليه ، وليس ذلك بلازم عند سيبويه بل يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة الإنشائية . فقوله ) وَاهْجُرْنِى ( معطوف على قوله ) لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ ( وكلاهما معمول للقول . وانتصب ) مَلِيّاً ( على الظرف أي دهراً طويلاً قاله الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما ، ومنه الملوان وهما الليل والنهار والملاوة بتثليث حركة الميم الدهر الطويل من قولهم : أمليت لفلان في الأمر إذا أطلت له . وقال الشاعر : فعسنا بها من الشباب ملاوة
فالحج آيات الرسول المحبب
وقال سيبويه : سير عليه مليّ من الدهر أي زمان طويل . وقال ابن عباس وغيره : ) مَلِيّاً ( معناه سالم سوّيا

" صفحة رقم 184 "
ً فهو حال من فاعل ) وَاهْجُرْنِى ). قال ابن عطية : وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستنداً بحالك غنياً عني ) مَلِيّاً ( بالاكتفاء . وقال السدي : معناه أبداً . ومنه قول مهلهل : فتصدعت صم الجبال لموته
وبكت عليه المرملات ملياً
وقال ابن جبير : دهر ، وأصل الحرف المكث يقال : تمليت حيناً . وقال الزمخشري : أو ) مَلِيّاً ( بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرخ فلان ملي بكذا إذا كان مطيقاً له مضطلعاً به انتهى .
مريم : ( 47 ) قال سلام عليك . . . . .
( قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ). قرأ أبو البرهثيم : سلاماً بالنصب . قال الجمهور : هذا بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية ، أي أمنة مني لك وهؤلاء لا يرون ابتداء الكافر بالسلام . وقال النقاش حليم : خاطب سفيهاً كقوله ) وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ). وقيل : هي تحية مفارق ، وجوز قائل هذا تحية الكافر وإن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلاً بقوله تعالى ) لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ ( الآية وبقوله ) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْراهِيمَ ( الآية .
و ) قَالَ ( إبراهيم لأبيه ) سَلَامٌ عَلَيْكَ ( وما استدل به متأول ، ومذهبهم محجوج بما ثبت في صحيح مسلم : ( لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام ) ورفع ) سَلَامٌ ( على الابتداء ونصبه على المصدر ، أي سلمت سلاماً دعاء له بالسلامة على سبيل الاستمالة ، ثم وعده بالاستغفار وذلك يكون بشرط حصول ما يمكن معه الاستغفار وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة ، وهذا كما يرد الأمر والنهي على الكافر ولا يصح الامتثال إلاّ بشرط الإيمان . ومعنى ) سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ( أدعو الله في هدايتك فيغفر لك بالإيمان ولا يتأول على إبراهيم عليه السلام أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر . قال ابن عطية : ويجوز أن يكون إبراهيم عليه السلام أول نبيّ أوحي إليه أن الله لا يغفر لكافر لأن هذه الطريقة إنما طريقها السمع ، وكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه ، وذلك أنه إنما تبين له في أبيه أنه عدو لله بأحد وجهين : إما بموته على الكفر كما روي ، وإما أن يوحي إليه الحتم عليه .
وقال الزمخشري : ولقائل أن يقول الذي يمنع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع ، فأما القضية العقلية فلا تأباه ، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع بناء على قضية العقل ، والذي يدل على صحته قوله تعالى ) إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( فلو كان شارطاً للإيمان لم يكن مستنكراً ومستثنى عما وجبت فيه الأسرة . وقول من قال إنما استغفر له لأنه وعده أن يؤمن من مستدلاً بقوله ) إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ( فجعل الواعد آزر والموعود إبراهيم عليه السلام ليس بجيد لاعتقابه في هذه الآية الوعد بالاستغفار بعد ذلك القول الجافي من قوله ) لَئِن لَّمْ تَنتَهِ ( الآية . فكيف يكون وعده بالإيمان ؟ ولأن الواعد هو إبراهيم ويدل عليه قراءة حماد الراوية وعدها إياه .
والحفي المكرم المحتفل الكثير البر والألطاف ، وتقدم شرحه لغة في قوله ) كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا ). وقال ابن عباس : رحيماً . وقال الكلبي : حليماً . وقال القتبي : باراً . وقال السدي : حفيك من يهمه أمرك ، ولما كان في قوله ) لارْجُمَنَّكَ ( فظاظة وقساوة قلب قابله بالدعاء له بالسلام والأمن ووعده بالاستغفار قضاء لحق الأبوة ، وإن كان قد صدر منه إغلاظ .
مريم : ( 48 ) وأعتزلكم وما تدعون . . . . .
ولما أمره بهجره الزمان الطويل أخبره بأنه يتمثل أمره ويعتزله وقومه ومعبوداتهم ، فهاجر إلى الشام قيل أو إلى حران وكانوا بأرض كوثاء ، وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر ، والأظهر أن قوله

" صفحة رقم 185 "
) وَأَدْعُو رَبّى ( معناه وأعبد ربي كما جاء في الحديث : ( الدعاء العبادة ) لقوله ) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء ) رَبّ هَبْ لِى حُكْماً ( إلى آخره ، وعرض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله ) عَسَى أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا ( مع التواضع لله في كلمة ) عَسَى ( وما فيه من هضم النفس . وفي ) عَسَى ( ترج في ضمنه خوف شديد ،
مريم : ( 49 ) فلما اعتزلهم وما . . . . .
ولما فارق الكفار وأرضهم أبدله منهم أولاداً أنبياء ، والأرض المقدّسة فكان فيها ويتردد إلى مكة فولد له إسحاق وابنه يعقوب تسلية له وشدّاً لعضده ، وإسحاق أصغر من إسماعيل ، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت سارة ثم حملت بإسحاق .
مريم : ( 50 ) ووهبنا لهم من . . . . .
وقوله ) مِن رَّحْمَتِنَا ( قال الحسن : هي النبوة . وقال الكلبي : المال والولد ، والأحسن أن يكون الخير الديني والدنيوي من العلم والمنزلة والشرف في الدنيا والنعيم في الآخرة . ولسان الصدق : الثناء الحسن الباقي عليهم آخر الإبد قاله ابن عباس ، وعبر باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية . واللسان في كلام العرب الرسالة الرائعة كانت في خير أو شر . قال الشاعر :
إني أتتني لسان لا أسر بها
وقال آخر :
ندمت على لسان كان مني
ولسان العرب لغتهم وكلامهم . استجاب الله دعوته ) وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ ( في الآخرين فصيره قدوة حتى عظمه أهل الأديان كلهم وادعوه . وقال تعالى ) مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ( و ) مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ( ) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( وأعطى ذلك ذريته فأعلى ذكرهم وأثنى عليهم ، كما أعلى ذكرهم وأثنى عليهم كما أعلى ذكره وأثنى عليه .

" صفحة رقم 186 "
مريم : ( 51 ) واذكر في الكتاب . . . . .
جثا : قعد على ركبتيه ، وهي قعدة الخائف الذليل يجثو ويجثي جثواً وجثاية . حتم الأمر : أوجبه . الندى والنادي : المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة . وقيل : مجلس أهل الندى وهو الكرم . وقيل : المجلس فيه الجماعة . قال حاتم : فدعيت في أولى الندى
ولم ينظر إليّ بأعين خزر
الري : مصدر رويت من الماء ، واسم مفعول أي مروي قاله أبو علي . الزي : محاسن مجموعة من الزي وهو الجمع . كلا : حرف ردع وزجر عند الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد وعامة البصريين ، وذهب الكسائي ونصر بن يوسف وابن واصل وابن الأنباري إلى أنها بمعنى حقاً ، وذهب النضر بن شميل إلى أنها حرف تصديق بمعنى نعم ، وقد تستعمل مع القسم . وذهب عبد الله بن محمد الباهلي إلى أن كلا رد لما قبلها فيجوز الوقف عليها وما بعدها

" صفحة رقم 187 "
استئناف ، وتكون أيضاً صلة للكلام بمنزلة إي والكلام على هذه المذاهب مذكور في النحو . الضد : العون يقال : من أضداد أي أعوانكم ، وكان العون سمي ضداً لأنه يضاد عدوك وينافيه بإعانته لك عليه : الأز والهز والاستفزاز أخوات ، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج ، ومنه أزيز المرجل وهو غليانه وحركته . وفد يفد وفداً ووفوداً ووفادة : قدم على سبيل التكرمة ، الأدّ والإدّ : بفتح الهمزة وكسرها العجب . وقيل : العظيم المنكر والأدّة الشدة ، وأدنيّ الأمر وآدني أثقلني وعظم علي أدّاً . الهد : قال الجوهري هدّاً البناء هداً كسره . وقال المبرد : هو سقوط بصوت شديد ، والهدة صوت وقع الحائط ونحوه يقال : هديهد بالكسر هديداً . وقال الليث : الهد الهدم الشديد . الركز : الصوت الخفي ، ومنه ركز الرمح غيب طرفه في الأرض ، والركاز المال المدفون . وقيل : الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم . قال الشاعر : فتوجست ركز الأنيس فراعها
عن ظهر غيب والأنيس سقامها
) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَواةِ وَالزَّكَواةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيَّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّيْنَ مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْراءيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً ).
قرأ الكوفيون ) مُخْلِصاً ( بفتح اللام وهي قراءة أبي رزين ويحيى وقتادة ، أي أخلصه الله للعبادة والنبوة . كما قال تعالى ) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ). وقرأ باقي السبعة والجمهور بكسر اللام أي أخلص العبادة عن الشرك والرياء ، أو أخلص نفسه وأسلم وجهه لله . ونداؤه إياه هو تكليمه تعالى إياه .

" صفحة رقم 188 "
مريم : ( 52 ) وناديناه من جانب . . . . .
و ) الطُّورِ ( الجبل المشهور بالشام ، والظاهر أن ) الاْيْمَانَ ( صفة للجانب لقوله في آية أخرى ) جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ ( بنصب الأيمن نعتاً لجانب الطور ، والجبل نفسه لا يمنة له ولا يسرة ولكن كان على يمين موسى بحسب وقوفه فيه ، وإن كان من اليمن احتمل أن يكون صفة للجانب وهو الراجح ليوافق ذلك في الآيتين ، واحتمل أن يكون صفة للطور إذ معناه الأسعد المبارك .
قال ابن القشيري : في الكلام حذف وتقديره ) وَنَادَيْنَاهُ ( حين أقبل من مدين ورأى النار من الشجرة وهو يريد من يهديه إلى طريق مصر ) مِن جَانِبِ الطُّورِ ( أي من ناحية الجبل . ) وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( قال الجمهور : تقريب التشريف والكلام واليوم . وقال ابن عباس : أدنى موسى من الملكوت ورفعت له الحجب حتى سمع صريف الأقلام ، وقاله أبو العالية وميسرة . وقال سعيد : أردفه جبريل عليه السلام . قال الزمخشري : شبهه بمن قربه بعض العظماء للمناجاة حيث كلمه بغير واسطة ملك انتهى . ونجي فعيل من المناجاة بمعنى مناج كالجليس ، وهو المنفرد بالمناجاة وهي المسارة بالقول . وقال قتادة : معنى نجاه صدقه
مريم : ( 53 ) ووهبنا له من . . . . .
ومن في من رحمتنا للسبب أي من أجل رحمتنا له أو للتبعيض أي بعض رحمتنا .
قال الزمخشري : و ) أَخَاهُ ( على هذا الوجه بدل و ) هَارُونَ ( عطف بيان كقولك رأيت رجلاً أخاك زيداً انتهى . والذي يظهر أن أخاه مفعول بقوله ) وَوَهَبْنَا ( ولا ترادف من بعضاً فتبدل منها ، وكان هارون أسن من موسى طلب من الله أن يشد أزره بنبوته ومعونته فأجابه و
مريم : ( 54 - 55 ) واذكر في الكتاب . . . . .
( إِسْمَاعِيلَ ( هو ابن إبراهيم أبو العرب يمينها ومضريها وهو قول الجمهور . وقيل : إنه إسماعيل بن حزقيل ، بعثه الله إلى قومه فشجوا جلدة رأسه فخيره فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته ، وصدق وعده أنه كانت منه مواعيد لله وللناس فوفى بالجميع ، فلذلك خص بصدق الوعد . قال ابن جريج : لم يعد ربه موعدة إلاّ أنجزها ، فمن مواعيده الصبر وتسليم نفسه للذبح ، ووعد رجلاً أن يقيم له بمكان فغاب عنه مدة . قيل : سنة . وقيل : اثني عشر يوماً فجاءه ، فقال : أما برحت من مكانك ؟ فقال : لا والله ، ما كنت لأخلف موعدي .
( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ ). قال الحسن : قومه وأمته ، وفي مصحف عبد الله وكان يأمر قومه . وقال الزمخشري : كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم ، ولأنهم أولى من سائر الناس ) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( و ) أَمْرٍ وَأْمُرْ أَهْلَكَ ( ) قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ( أي ترى أنهم أحق بالتصدق عليهم بالإحسان الديني أولى . وقيل : ) أَهْلِهِ ( أمته كلهم من القرابة وغيرهم ، لأن أمم النبيين في عداد أهاليهم ، وفيه أن حق الصالح أن لا يألو نصحاً للأجانب فضلاً عن الأقارب والمتصلين به ، وأن يخطيهم بالفوائد الدينية ولا يفرط في ذلك انتهى . وقال أيضاً ذكر إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً له وإكراماً كالتلقيب نحو الحليم الأواه والصديق ، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله .
وقرأ الجمهور ) رَضِيّاً ( وهو اسم مفعول أي مرضوو فأعل بقلب واوه ياء لأنها طرف بعد واو ساكنة ، والساكن ليس بحاجز حصين فكأنها وليت حركة ، ولو بنيت من ذوات الواو مفعلاً لصار مفعلاً لأن الواو لا تكون طرفاً وقبلها متحرك في الأسماء المتمكنة غير المتقيدة بالإضافة ، ألا ترى أنهم حين سموا بيغزو الغازي من الضمير قالوا : بغز حين صار اسماً ، وهذا الإعلال أرجح من التصحيح ، ولأنه اعتل في رضي وفي رضيان تثنية رضي . وقرأ ابن أبي عبلة : مرضواً مصححاً . وقالت العرب : أرض مسنية ومسنوة ، وهي التي تستقي بالسواني .
و
مريم : ( 56 - 57 ) واذكر في الكتاب . . . . .
( إِدْرِيسَ ( هو جد أبي نوح وهو أخنوخ ، وهو أول من نظر في النجوم والحساب ، وجعله الله من معجزاته وأول

" صفحة رقم 189 "
من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط ، وكان خياطاً وكانوا قبل يلبسون الجلود ، وأول مرسل بعد آدم وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل . وقال ابن مسعود : هو إلياس بعث إلى قومه بأن يقولوا لا إلاه إلاّ الله ويعملوا ما شاؤوا فأبوا وأهلكوا . و ) إِدْرِيسَ ( اسم أعجمي منع من الصرف للعلمية والعجمة ، ولا جائز أن يكون إفعيلاً من الدرس كما قال بعضهم لأنه كان يجب صرفه إذ ليس فيه إلاّ سبب واحد وهو العلمية .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون معنى ) إِدْرِيسَ ( في تلك اللغة قريباً من ذلك أي من معنى الدرس ، فحسبه القائل مشتقاً من الدرس . والمكان العلي شرف النبوة والزلفى عند الله ، وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة انتهى . وقاله جماعة وهو رفع النبوة والتشريف والمنزلة في السماء كسائر الأنبياء . وقيل : بل رفع إلى السماء . قال ابن عباس : كان ذلك بأمر الله كما رفع عيسى كان له خليل من الملائكة فحمله على جناحه وصعد به حتى بلغ السماء الرابعة ، فلقي هنالك ملك الموت فقال له : إنه قيل لي اهبط إلى السماء الرابعة فاقبض فيها روح إدريس وإتي لأعجب كيف يكون هذا ، فقال له الملك الصاعد : هذا إدريس معي فقبض روحه . وروي أن هذا كله كان في السماء السادسة قاله ابن عباس . وكذلك هي رتبته في حديث الإسراء في بعض الروايات من حديث أبي هريرة وأنس يقتضي أنه في السماء الرابعة . وعن الحسن : إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة . وقال قتادة : يعبد الله مع الملائكة في السماء السابعة ، وتارة يرفع في الجنة حيث شاء . وقال مقاتل : هو ميت في السماء .
مريم : ( 58 ) أولئك الذين أنعم . . . . .
( أُوْلَائِكَ ( إشارة إلى من تقدم ذكره في هذه السورة من الأنبياء و ) مِنْ ( في ) مّنَ النَّبِيّيْنَ ( للبيان ، لأن جميع الأنبياء منعم عليهم و ) مِنْ ( الثانية للتبعيض ، وكان إدريس ) مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ ( لقربه منه لأنه جد أبي نوح وإبراهيم من ذرية من حمل من نوح ، لأنه من ولد سام بن نوح ) وَمِن ذُرّيَّةِ إِبْراهِيمَ ( إسحاق وإسماعيل ويعقوب وإسرائيل معطوف على إبراهيم ، وزكريا ويحيى وموسى وهارون من ذرية إسرائيل ، وكذلك عيسى لأن مريم من ذريته .
( وَمِمَّنْ هَدَيْنَا ( يحتمل العطف على ) مِنْ ( الأولى أو الثانية ، والظاهر أن ) الَّذِينَ ( خبر لأولئك . ) وَإِذَا تُتْلَى ( كلام مستأنف ، ويجوز أن يكون ) الَّذِينَ ( صفة لأولئك والجملة الشرطية خبر . وقرأ الجمهور ) تُتْلَى ( بتاء التأنيث . وقرأ عبد الله وأبو جعفر وشيبة وشبل بن عباد وأبو حيوة وعبد الله بن أحمد العجلي عن حمزة وقتيبة في رواية وورش في رواية النحاس ، وابن ذكوان في رواية التغلي بالياء . وانتصب ) سُجَّدًا ( على الحال المقدرة قاله الزجاج لأنه حال خروره لا يكون ساجداً ، والبكي جمع باك كشاهد وشهود ، ولا يحفظ فيه جمعه المقيس وهو فعلة كرام ورماة والقياس يقتضيه .
وقرأ الجمهور ) بكياً ( بضم الباء وعبد الله ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي بكسرها اتباعاً لحركة الكاف كعصي ودلي ، والذي يظهر أنه جمع لمناسبة الجمع قبله . قيل : ويجوز أن يكون مصدر البكا بمعنى بمكاء ، وأصله بكو وكجلس جلوساً . وقال ابن عطية : و ) بكياً ( بكسر الباء وهو مصدر لا يحتمل غير ذلك انتهى . وقوله ليس بسديد لأن اتباع حركة الكاف لا تعين المصدرية ، ألا تراهم قروؤا ) جَهَنَّمَ جِثِيّاً ( بكسر الجيم جمع جاث ، وقالوا عصي فاتبعوا .
( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَواةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذالِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً رَّبُّ ).
مريم : ( 59 ) فخلف من بعدهم . . . . .
نزل ) فَخَلَفَ ( في اليهود عن ابن عباس ومقاتل ، وفيهم وفي النصارى عن السدي ، وفي قوم من أمّة الرسول يأتون عند ذهاب صالحيها يتبارزون بالزنا ينزو في الأزقة بعضهم على بعض عن مجاهد وقتادة وعطاء ومحمد بن كعب القرظي . وعن وهب : هم شرابو القهوة ،

" صفحة رقم 190 "
وتقدم الكلام على ) خَلْفٌ ( في الأعراف ، وإضاعة الصلاة تأخيرها عن وقتها قاله ابن مسعود والنخعي والقاسم بن مخيمرة ومجاهد وإبراهيم وعمر بن عبد العزيز . وقال القرظي واختاره الزجاج : إضاعتها الإخلال بشروطها . وقيل : إقامتها في غير الجماعات . وقيل : عدم اعتقاد وجوبها . وقيل : تعطيل المساجد والاشتغال بالصنائع . والاسباب ، و ) الشَّهَواتِ ( عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة وذكر الله . وعن عليّ من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور . وقرأ عبد الله والحسن وأبو رزين العقيلي والضحاك وابن مقسم الصلوات جمعاً . والغيّ عند العرب كل شر ، والرشاد كل خير . قال الشاعر : فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره
ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً وقال الزجاج : هو على حذف مضاف أي جزاء غي كقوله ) يَلْقَ أَثَاماً ( أي مجازة آثام . وقال ابن زيد : الغي الخسران والحصول في الورطات . وقال عبد الله بن عمرو وابن مسعود وكعب : غيّ واد في جهنم . وقال ابن زيد : ضلال . وقال الزمخشري : أو ) غَيّاً ( عن طريق الجنة . وحكى الكرماني : آبار في جهنم يسيل إليها الصديد والقيح . وقيل : هلاك . وقيل : شر . وقرىء فيما حكى الأخفش ) يُلْقُون ( بضم الياء وفتح اللام وشد القاف .
مريم : ( 60 - 61 ) إلا من تاب . . . . .
( إِلاَّ مَن تَابَ ( استثناء ظاهره الاتصال . وقال الزجاج : منقطع ) وَامَنَ ( هذا يدل على أن تلك الإضاعة كفر ، وقرأ الحسن ) يَدْخُلُونَ ( مبنياً للفاعل ، وكذا كل ما في القرآن من ) يَدْخُلُونَ ). وقرأ كذلك هنا الزهري وحميد وشيبة والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان . وقرأ ابن غزوان عن طلحة : سيدخلون بسين الاستقبال مبنياً للفاعل .
وقرأ الجمهور جنات نصباً جمعاً بدلاً من ) الْجَنَّةِ ( ) وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ( اعتراض أو حال . وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر والأعمش وأحمد بن موسى عن أبي عمر و ) جَنَّاتُ ( رفعاً جمعاً أي تلك جنات وقال الزمخشري الرفع على الابتداء انتهى يعني والخبر ) الَّتِى ). وقرأ الحسن بن حي وعليّ بن صالح جنة عدن نصباً مفرداً ورويت عن الأعمش وهي كذلك في مصحف عبد الله . وقرأ اليماني والحسن وإسحاق الأزرق عن حمزة جنة رفعاً مفرداً و ) عَدْنٍ ( إن كان علماً شخصياً كان التي نعتاً لما أضيف إلى ) عَدْنٍ ( وإن كان المعنى إقامة كان ) الَّتِى ( بدلاً .
وقال الزمخشري : ) عَدْنٍ ( معرفة علم لمعنى العدن وهو الإقامة ، كما جعلوا فينة وسحر وأمس في من لم يصرفه أعلاماً لمعاني الفينة والسحر والأمس ، فجرى العدن كذلك . أو هو علم الأرض الجنة لكونها مكان إقامة ، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلاّ موصوفة ، ولما ساغ وصفها بالتي انتهى .
وما ذكره متعقب . أما دعواه أن عدناً علم لمعنى العدن فيحتاج إلى توقيف وسماع من العرب ، وكذا دعوى العلمية الشخصية فيه . وأما قوله ولو لا ذلك إلى قوله موصوفة فليس مذهب البصريين لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم تكن موصوفة ، وإنما ذلك شيء قاله البغداديون وهم محجوجون بالسماع علم ما بيناه في كتبنا في النحو ، فملازمته فاسدة . وأما قوله : ولما ساغ وصفها

" صفحة رقم 191 "
بالتي فلا يتعين كون التي صفة ، وقد ذكرنا أنه يجوز إعرابه بدلاً و ) بِالْغَيْبِ ( حال أي وعدها وهي غائبة عنهم أو وهم غائبون عنها لا يشاهدونها ، ويحتمل أن تكون الباء للسبب أي بتصديق الغيب والإيمان به . وقال أبو مسلم : المراد الذين يكونون عباداً بالغيب أي الذين يعبدونه في السر ، والظاهر أن ) وَعْدَهُ ( مصدر . فقيل : ) مَأْتِيّاً ( بمعنى آتياً . وقيل : هو على موضوعه من أنه اسم المفعول . وقال الزمخشري : ) مَأْتِيّاً ( مفعول بمعنى فاعل ، والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها ، أو هو من قولك أتى إليه إحساناً أي كان وعده مفعولاً منجزاً ، والقول الثاني وهو قوله : والوجه مأخوذ من قول ابن جريج قال : ) وَعْدَهُ ( هنا موعوده وهو الجنة ، و ) مَأْتِيّاً ( يأتيه أولياؤه انتهى .
مريم : ( 62 ) لا يسمعون فيها . . . . .
( إِلاَّ سَلَاماً ( استثناء منقطع وهو قول الملائكة ) سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ). وقيل : يسلم الله عليهم عند دخولها . ومعنى ) بُكْرَةً وَعَشِيّاً ( يأتيهم طعامهم مرتين في مقدار اليوم والليلة من الزمن . وقال مجاهد : لا بكرة ولا عشي ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا . وقد ذكر نحوه قتادة أن تكون مخاطبة بما تعرف العرب في رفاهة العيش . وقال الحسن : خوطبوا على ما كانت العرب تعلم من أفضل العيش ، وذلك أن كثيراً من العرب إنما كان يجد الطعام المرة في اليوم ، وكان عيش أكثرهم من شجر البرية ومن الحيوان . وقال الزمخشري : اللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته ، وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها . وما أحسن قوله ) وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( ) وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ( الآية أي أن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم ) لَغْواً ( فلا يسمعون لغواً إلاّ ذلك فهو من وادي قوله : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب أو ) لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا ( إلاّ قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة على الاستثناء المنقطع ، أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ، ودار السلام هي دار السلامة وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء . فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الكلام . وقال أيضاً : ولا يكون ثم ليل ولا نهار ولكن على التقدير . ولأن المتنعم عند العرب من وجد غداءً وعشاءً . وقيل : أراد دوام الرزق ودروره كما تقول : أنا عند فلان صباحاً ومساءً وبكرةً وعشياً ، ولا يقصد الوقتين المعلومين انتهى .
مريم : ( 63 ) تلك الجنة التي . . . . .
وقرأ الجمهور ) نُورِثُ ( مضارع أورث ، والأعمش نورثها بإبراز الضمير العائد على الموصول ، والحسن والأعرج وقتادة ورويس وحميد وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمر وبفتح الواو وتشديد الراء . والتوريث استعارة أي تبقى عليه الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث ، والأتقياء يلقون ربهم قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة ، فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى . وقيل : أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا .
مريم : ( 64 ) وما نتنزل إلا . . . . .
( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ ( أبطأ جبريل عن الرسول مرة ، فلما جاء قال : ( يا جبريل قداشتقت إليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا ) ؟ فنزلت . وقال مجاهد والضحاك : سببها أن جبريل عليه السلام تأخر في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف وهي كالتي في الضحى ، وتنزل تفعل وهي للمطاوعة وهي أحد معاني تفعل ، تقول : نزلته فتنزل فتكون لمواصلة العمل في مهلة ، وقد تكون لا يلحظ فيه ذلك إذا كان بمعنى المجرد كقولهم : تعدى

" صفحة رقم 192 "
الشيء وعداه ولا يكون مطاوعاً فيكون تنزل في معنى نزل . كما قال الشاعر : فلست لأنسى ولكن لملاك
تنزل من جو السماء يصوب
وقال الزمخشري : التنزل على معنيين : معنى النزول على مهل ، ومعنى النزول على الإطلاق . كقوله :
فلست لأنسى البيت
لأنه مطاوع نزّل ونزّل يكون بمعنى أنزل وبمعنى التدريج واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل ، والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتاً غبّ وقت انتهى .
وقال ابن عطية : وهذه الواو التي في قوله ) وَمَا نَتَنَزَّلُ ( هي عاطفة جملة كلام على أخرى واصلة بين القولين ، وإن لم يكن معناهما واحداً . وحكى النقاش عن قوم أن قوله و ) مَا نَتَنَزَّلُ ( متصل بقوله ) إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ( وهذا قول ضعيف انتهى .
والذي يظهر في مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة زكريا ومريم وذكر إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ثم ذكر أنهم أنعم تعالى عليهم وقال ) وَمِن ذُرّيَّةِ إِبْراهِيمَ ( وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من ذرية إبراهيم ، وذكر تعالى أنه خلف بعد هؤلاء خلف وهم اليهود والنصارى أصحاب الكتب لأن غيرهم لا يقال فيهم أضاعوا الصلاة إنما يقال ذلك فيمن كانت له شريعة فرض عليهم فيها الصلاة بوحي من الله تعالى ، وكان اليهود هم سبب سؤال قريش للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) تلك المسائل الثلاث ، وأبطأ الوحي عنه ففرحت بذلك قريش واليهود وكان ذلك من اتباع شهواتهم ، هذا وهم عالمون بنبوّة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فأنزل الله تعالى ) وَمَا نَتَنَزَّلُ ( تنبيهاً على قصة قريش واليهود ، وأن أصل تلك القصة إنما حدثت من أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وختماً لقصص أولئك المنعم عليهم لمخاطبة أشرفهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) واستعذاراً من جبريل عليه السلام للرسول بأن ذلك الإبطاء لم يكن منه إذ لا يتنزل إلاّ بأمر الله تعالى ، ولما كان إبطاء الوحي سببه قصة السؤال وكونه ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يقرن أن يجيبهم بالمشيئة ، وكان السؤال متسبباً عن اتباع اليهود شهواتهم وخفيات خبثهم اكتفى بذكر النتيجة المتأخرة عن ذكر ما آثرته شهواتهم الدنيوية وخبثهم .
قال أبو العالية : ما بين الأيدي الدنيا بأسرها إلى النفخة الأولى ، وما خلف ذلك الآخرة من وقت البعث ، وما بين ذلك ما بين النفختين . قال ابن عطية : وقول أبي العالية إنما يتصور في بني آدم ، وهذه المقالة هي للملائكة فتأمله . وقال ابن جريج : ما بين الأيدي هو ما مر من الزمان قبل الإيجاد ، وما خلف هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة ، وما بين ذلك هو مدة الحياة . وفي كتاب التحرير والتحبير ) مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ( الآخرة ) وَمَا خَلْفَنَا ( الدنيا رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير وقتادة ومقاتل وسفيان . وقال مجاهد : عكسه . وقال الأخفش : ) مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ( قبل أن نخلق ) وَمَا خَلْفَنَا ( بعد الفناء ) وَمَا بَيْنَ ذالِكَ ( ما بين الدنيا والآخرة . وقال مجاهد وعكرمة وأبو العالية : ما بين النفختين . وقال الأخفش : حين كوننا . وقال صاحب الغينان : ) مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ( نزول الملائكة من السماء ، ( وَمَا خَلْفَنَا ( من الأرض ) وَمَا بَيْنَ ذالِكَ ( ما بين السماء والأرض . قال ابن القشيري مثل قول ابن جريج ، ثم قال : حصر الأزمنة الثلاثة وهي أن كلها لله هو منشئها ومدبر أمرها على ما يشاء من تقديم إنزال وتأخيره انتهى . وفيه بعض تلخيص وتصرف .
وقال ابن عطية : إنما القصد الإشعار بملك الله تعالى لملائكته ، وأن قليل تصرفهم وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم له ، فلو ذهب بالآية إلى أن المراد بما بين الأيدي وما خلف الأمكنة التي فيها تصرفهم والمراد بما بين ذلك هم أنفسهم ومقاماتهم لكان وجهاً كأنه قال : نحن مقيدون بالقدرة لا ننتقل ولا نتنزل إلاّ بأمر ربك انتهى . وما قاله فيه ابن عطية له إلى آخره ذهب إلى نحوه الزمخشري قال له : ما قدامنا وما خلفنا من الجهات والأماكن . وما بين

" صفحة رقم 193 "
ذلك فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلاّ بأمر المليك ومشيئته ، والمعنى أنه محيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلاّ صادراً عما توجبه حكمته ويأمرنا ويأذن لنا فيه انتهى . وقال البغوي : له علم ما بين أيدينا .
وقال أبو مسلم وابن بحر : ) وَمَا نَتَنَزَّلُ ( الآية ليس من كلام الملائكة وإنما هو من كلام أهل الجنة بعضهم لبعض إذا دخلوها وهي متصلة بالآية الأولى إلى قوله ) وَمَا بَيْنَ ذالِكَ ( أي ما ننزل الجنة إلاّ بأمر ربك له ) مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ( أي في الجنة مستقبلاً ) وَمَا خَلْفَنَا ( مما كان في الدنيا وما بينهما أي ما بين الوقتين . وحكى الزمخشري هذا القول فقال : وقيل هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة أي وما ننزل الجنة إلاّ بإذن من الله علينا بثواب أعمالنا وأرنا بدخولها وهو الملك لرقاب الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة ، اللاطف في أعمال الخير والموفق لها والمجازي عليها .
ثم قال تعالى تقريراً لهم ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ( لأعمال العاملين غافلاً عما يجب أن يثابوا به ، وكيف يجوز النسيان والغفلة على ذي ملكوت السموات والأرض وما بينهما انتهى . وقال القاضي : هذا مخالف للظاهر من وجوه .
أحدهما : أن ظاهر التنزيل نزول الملائكة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ولقوله ) بِأَمْرِ رَبّكَ ( فظاهر الأمر بحال التكليف أليق .
وثانيها : خطاب من جماعة لواحد ، وذلك لا يليق بمخاطبة بعضهم لبعض في الجنة .
وثالثها : أن ما في مساقه ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ( لا يليق بحال التكليف ولا يوصف به الرسول انتهى .
وقرأ الجمهور ) وَمَا نَتَنَزَّلُ ( بالنون عنى جبريل نفسه والملائكة . وقرأ الأعرج بالياء على أنه خبر من الله . قيل : والضمير في يتنزل عائد على جبريل عليه السلام . قال ابن عطية : ويردّه له ) مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ( لأنه لا يطرد معه وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أن القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل ، والضمير للوحي انتهى . ويحمل ذلك القول على إضمار أي وما يتنزل جبريل إلاّ بأمر ربك قائلاً له ) مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ( أي يقول ذلك على سبيل الاستعذار في البطء عنك بأن ربك متصرف فينا ليس لنا أن نتصرف إلاّ بمشيئته ، وإخبار أنه تعالى ليس بناسيك وإن تأخر عنك الوحي .
مريم : ( 65 ) رب السماوات والأرض . . . . .
وارتفع ) رَبّ السَّمَاوَاتِ ( على البدل أو على خبر مبتدأ محذوف . وقرأ الجمهور ) هَلْ تَعْلَمُ ( بإظهار اللام عند التاء . وقرأ الأخوان وهشام وعليّ بن نصر وهارون كلاهما عن أبي عمرو والحسن والأعمش وعيسى وابن محيصن بالإدغام فيهما . قال أبو عبيدة هما لغتان وعلى الإدغام أنشدوا بيت مزاحم العقيلي : فذرذا ولكن هثعين متيما
على ضوء برق آخر الليل ناصب وعدي فاصطبر باللام على سبيل التضمين أي اثبت بالصبر لعبادته لأن العبادة تورد شدائد ، فاثبت لها وأصله التعدية بعلى كقوله تعالى ) وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ( والسميّ من توافق في الاسم تقول : هذا سميك أي اسمه مثل اسمك ، فالمعنى أنه لم يسم بلفظ الله شيء قط ، وكان المشركون يسمون أصنامهم آلهة والعزّى إله وأما لفظ الله فلم يطلقوه على شيء من أصنامهم . وعن ابن عباس : لا يسمى أحد الرحمن غيره . وقيل : يحتمل أن يعود ذلك على قوله ) رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ( أي هل تعلم من يسمى أو يوصف بهذا الوصف ، أي ليس أحد من الأمم يسمى

" صفحة رقم 194 "
شيئاً بهذا الاسم سوى الله . وقال مجاهد وابن جبير وقتادة ) سَمِيّاً ( مثلاً وشبيهاً ، وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً . قال ابن عطية : وكان السميّ بمعنى المسامي والمضاهي فهو من السمو ، وهذا قول حسن ولا يحسن في ذكر يحيى انتهى . يعني لم نجعل له من قبل ) سَمِيّاً ). وقال غيره : يقال فلان سميّ فلان إذا شاركه في اللفظ ، وسمِّيه إذا كان مماثلاً له في صفاته الجميلة ومناقبه . ومنه قول الشاعر :
فأنت سمي للزبير ولست للزبير
سمياً إذ غدا ما له مثل
وقال الزجاج : هل تعلم أحداً يستحق أن يقال له خالق وقادراً إلاّ هو . وقال الضحاك : ولداً رداً على من يقول ولد الله .
( وَيَقُولُ الإِنْسَانُ ).
مريم : ( 66 ) ويقول الإنسان أئذا . . . . .
قيل : سبب النزول أن رجلاً من قريش قيل هو أُبَيّ بن خلف جاء بعظم رفات فنفخ فيه ، وقال للرسول : أيبعث هذا ؟ وكذب وسخر ، وإسناد هذه المقالة للجنس بما صدر من بعضهم . كقول الفرزدق :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد أسند الضرب إلى بني عبس مع قوله نبا بيدي ، ورقاء وهو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي ، أو للجنس الكافر المنكر للبعث أو المعنى أُبَيّ بن خلف ، أو العاصي بن وائل ، أو أبو جهل ، أو الوليد بن المغيرة أقوال .
وقرأ الجمهور ) أئذا ( بهمزة الاستفهام . وقرأت فرقة منهم ابن ذكوان بخلاف عنه إذا بدون همزة الاستفهام . وقرأ الجمهور ) مِتُّ لَسَوْفَ ( باللام . وقرأ طلحة بن مصرف سأخرج بغير لام وسين الاستقبال عوض سوف ، فعلى قراءته تكون إذا معمولاً لقوله سأخرج لأن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده من الفعل فيما قبله ، على أن فيه خلافاً شاذاً وصاحبه محجوج بالسماع . قال الشاعر :
فلما رأته آمناً هان وجدها
وقالت أبونا هكذا سوف يفعل
فهكذا منصوب بينفعل وهو بحرف الاستقبال . وحكى الزمخشري أن طلحة بن مصرف قرأ لسأخرج ، وأما على قراءة الجمهور وما نقله الزمخشري من قراءة طلحة فاللام لام الابتداء فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، فيقدر العالمل محذوفاً من معنى ) لَسَوْفَ أُخْرَجُ ( تقديره إذا ما مت أبعث .
وقال الزمخشري : فإن قلت لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال ، فكيف جامعت حرف الاستقبال ؟ قلت : لم تجامعها إلاّ مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض ، واضمحل عنها معنى التعريف انتهى .
وما ذكر من أن اللام تعطي معنى الحال

" صفحة رقم 195 "
مخالف فيه ، فعلى مذهب من لا يقول ذلك يسقط السؤال ، وأما قوله كما أخلصت الهمزة إلى آخره فليس ذلك إلاّ على مذهب من يزعم أن الأصل فيه أله ، وأما من يزعم أن أصله لاه فلا تكون الهمزة فيه للتعويض إذ لم يحذف منه شيء ، ولو قلنا إن أصله إله وحذفت فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض ، إذ لو كانت للعوض من المحذوف لثبتت دائماً في النداء وغيره ، ولما جاز حذفها في النداء قالوا : يا الله بحذفها وقد نصوا على أن قطع همزة الوصل في النداء شاذ . وقال ابن عطية : واللام في قوله ) لَسَوْفَ ( مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم بهذا المعنى كأن قائلاً قال للكافر : إذا مت يا فلان لسوف تخرج حياً ، فقرر الكلام على الكلام على جهة الاستبعاد ، وكرر اللام حكاية للقول الأول انتهى . ولا يحتاج إلى هذا التقدير ولا أن هذا حكاية لقول تقدم ، بل هذا من الكافر استفهام فيه معنى الجحد والإنكار ، ومن قرأ إذا ما أن تكون حذفت الهمزة لدلالة المعنى عليه ، وإما أن يكون إخباراً على سبيل الهزء والسخرية بمن يقول ذلك إذ لم يرد به مطابقة للفظ للمعنى . وقرأ الجمهور ) أَخْرَجَ ( مبنياً للمفعول . وقرأ الحسن وأبو حيوة مبنياً للفاعل . وقال الزمخشري : وإيلاؤه أي وإيلاء الظرف حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة ، ومنه جاء إنكارهم فهو كقولك للمسيء إلى المحسن أحين تمت عليك نعمة فلأن أسأت إليه .
مريم : ( 67 ) أولا يذكر الإنسان . . . . .
وقرأ أبو بحرية والحسن وشيبة وابن أبي ليلى وابن مناذر وأبو حاتم ومن السبعة عاصم وابن عامر ونافع ) أَوْ لاَ يُذْكَرِ ( خفيفاً مضارع ذكر . وقرأ باقي السبعة بفتح الذال والكاف وتشديدهما أصله يتذكر أدغم التاء في الذال . وقرأ أُبَيّ يتذكر على الأصل . قال الزمخشري : الواو عاطفة لا يذكر على يقول ، وسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف انتهى . وهذا رجوع منه إلى مذهب الجماعة من أن حرف العطف إذا تقدمته الهمزة فإنما عطف ما بعدها على ما قبلها ، وقدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام ، وكان مذهبه أن يقدر بين الهمزة والحرف ما يصلح أن يعطف عليه ما بعد الواو الهمزة على حالها ، وليست مقدمة من تأخير وقد رددنا عليه هذه المقالة .
( أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ ( أي أنشأناه واخترعناه من العدم الصرف إلى الوجود ، فكيف ينكر النشأة الثانية وهذه الحجة في غاية الاختصار والإلزام للخصم ، ويسمى هذا النوع الاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي ، وقد تكرر هذا الاحتجاج في القرآن : ) وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ( إشارة إلى العدم الصرف وانتفاء الشيئية عنه يدل على أن المعدوم لا يسمى شيئاً . وقال أبو علي الفارسي : ) وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ( موجود أو هي نزعة اعتزالية والمحذوف المضاف إليه ) قَبْلُ ( في التقدير قدره بعضهم ) مِن قَبْلُ ( بعثه ، وقدره الزمخشري ) مِن قَبْلُ ( الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه انتهى .
مريم : ( 68 - 70 ) فوربك لنحشرنهم والشياطين . . . . .
ولما أقام تعالى الحجة الدامغة على حقية البعث أقسم على ذلك باسمه مضافاً إلى رسوله تشريفاً له وتفخيماً ، وقد تكرر هذا القسم في القرآن تعظيماً لحقه ورفعاً منه كما رفع من شأن السماء والأرض بقوله ) فَوَرَبّ السَّمَاء وَالاْرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ( والواو في ) وَالشَّيَاطِينَ ( للعطف أو بمعنى مع يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم ، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة وهذا إذا كان الضمير في ) لَنَحْشُرَنَّهُمْ ( للكفرة وهو قول ابن عطية وما جاء بعد ذلك فهو من الإخبار عنهم وبدأ به الزمخشري ، والظاهر أنه عام للخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم ولم يفرق بين المؤمنين والكافرين كما فرق في الجزاء ، وأحضروا جميعاً وأوردوا النار ليعاين المؤمنون الأهوال التي نجوا منها فيسروا بذلك ويشمتوا بأعدائهم الكفار ، وإذا كان الضمير عاماً فالمعنى يتجاثون عند موافاة شاطىء جهنم كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع التوافق للحساب قبل الوصول إلى الثواب والعقاب . وقال تعالى في حالة الموقف ) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ( و ) جِثِيّاً ( حال مقدرة . وعن ابن عباس : قعوداً ، وعنه

" صفحة رقم 196 "
جماعات جمع جثوة وهو المجموع من التراب والحجارة . وقال مجاهد والحسن والزجاج : على الركب . وقال السدّي قياماً على الركب لضيق المكان بهم .
وقرأ حمزة والكسائي وحفص ) جِثِيّاً ( و ) عِتِيّاً ( و ) صِلِيّاً ( بكسر الجيم والعين والصاد والجمهور بضمها ) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ ( أي لنخرجن كقوله ) وَنَزَعَ يَدَهُ ). وقيل : لنرمين من نزع القوس وهو الرمي بالسهم ، والشيعة الجماعة المرتبطة بمذهب . قال أبو الأحوص : يبدأ بالأكابر فالأكابر جرماً . وقال الزمخشري : يمتاز من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم ، فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب فقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم ، والضمير في ) أَيُّهُم ( عائد على المحشورين المحضرين . وقرأ الجمهور ) أَيُّهُم ( بالرفع وهي حركة بناء على مذهب سيبويه ، فأيهم مفعول بننزعن وهي موصولة : و ) أَشَدَّ ( خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صلة لأيهم وحركة إعراب على مذهب الخليل ويونس على اختلاف في التخريج . و ) أَيُّهُمْ أَشَدُّ ( مبتدأ وخبر محكي على مذهب الخليل أي الذين يقال فيهم ) أَيُّهُمْ أَشَدُّ ). وفي موضع نصب فيعلق عنه ) لَنَنزِعَنَّ ( على مذهب يونس ، والترجيح بين هذه المذاهب مذكور في علم النحو . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون النزع واقعاً على من كل شيعة كقوله ) وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا ( أي ) لَنَنزِعَنَّ ( بعض ) كُلّ شِيعَةٍ ( فكأن قائلاً قال : من هم ؟ فقيل إنهم أشد ) عِتِيّاً ( انتهى . فتكون ) أَيُّهُم ( موصولة خبر مبتدأ محذوف ، وهذا تكلف وادعاء إضمار لا ضرورة تدعو إليه ، وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين ، وقرن الخليل تخريجه بقول الشاعر : ولقد أبيت من الفتاة بمنزل
فأبيت لا حرج ولا محروم
أي فأبيت يقال فيّ لا حرج ولا محروم ، ورجح الزجاج قول الخليل وذكر عنه النحاس أنه غلط سيبويه في هذه المسألة . قال سيبويه : ويلزم على هذا أن يجوز اضرب السارق الخبيث الذي يقال له قبل ، وليس بلازم من حيث هذه أسماء مفردة والآية جملة وتسلط الفعل على المفرد أعظم منه على الجملة . ومذهب الكسائي أن معنى ) لَنَنزِعَنَّ ( لنناذين فعومل معاملته فلم تعمل في أي انتهى . ونقل هذا عن الفراء . قال المهدوي : ونادى تعلق إذا كان بعده جملة نصب فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ . وقال المبرد : ) أَيُّهُم ( متعلق بشيعة ، فلذلك ارتفع والمعنى من الذين تشايعوا ) أَيُّهُمْ أَشَدُّ ( كأنهم يتبادرون إلى هذا ، ويلزم أن يقدر مفعولاً ) لَنَنزِعَنَّ ( محذوفاً وقدر أيضاً في هذا المذهب من الذين تشايعوا ) أَيُّهُم ( أي من الذين تعاونوا فنظروا ) أَيُّهُمْ أَشَدُّ ). قال النحاس : وهذا قول حسن . وقد حكى الكسائي أن التشايع هو التعاون .
وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول : في ) أَيُّهُم ( معنى الشرط ، تقول : ضربت القوم أيهم غضب ، والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا فعلى هذا يكون التقدير إن اشتد عتوهم أو لم يشتد . وقرأ طلحة بن مصرف ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء وزائدة عن الأعمش ) أَيُّهُم ( بالنصب مفعولاً بلننزعنّ ، وهاتان القراءتان تدلان على أن مذهب سيبويه أنه لا يتحتم فيها البناء إذا أضيفت وحذف صدر صلتها ، وقد نقل عنه تحتم البناء وينبغي أن يكون فيه على مذهبه البناء والإعراب . قال أبو عمرو الجرمي : خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحداً يقول لأضربن أيهم قائم بالضم بل بنصبها انتهى . وقال أبو جعفر النحاس : وما علمت أحداً من النحويين إلاّ وقد خطأ سيبويه ، وسمعت أبا إسحاق يعني الزجاج يقول : ما تبين أن سيبويه غلط في كتابه إلاّ في

" صفحة رقم 197 "
موضعين هذا أحدهما . قال : وقد أعرب سيبويه أياً وهي مفردة لأنها تضاف فكيف يبنيها وهي مضافة ؟ .
و ) عَلَى الرَّحْمَنِ ( متعلق بأشد . و ) عِتِيّاً ( تمييز محول من المبتدأ تقديره ) أَيُّهُم ( هو عتوه ) أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ ( وفي الكلام حذف تقديره فيلقيه في أشد العذاب ، أو فيبدأ بعذابه ثم بمن دونه إلى آخرهم عذاباً . وفي الحديث : ( إنه تبدو عنق من النار فتقول : إني أمرت بكل جبار عنيد فتلتقطهم ) . وفي بعض الآثار : ( يحضرون جميعاً حول جهنم مسلسلين مغلولين ثم يقدم الأكفر فالأكفر ) . قال ابن عباس : ) عِتِيّاً ( جراءة . وقال مجاهد : فجراً . وقيل : افتراء بلغة تميم . وقيل : ) عِتِيّاً ( جمع عات فانتصابه على الحال .
( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ ( أي نحن في ذلك النزع لا نضع شيئاً غير موضعه ، لأنا قد أحطنا علماً بكل واحد فأولى بصلى النار نعلمه . قال ابن جريج : أولى بالخلود . وقال الكلبي ) صِلِيّاً ( دخولاً . وقيل : لزوماً . وقيل : جمع صال فانتصب على الحال وبها متعلق بأولى .
مريم : ( 71 ) وإن منكم إلا . . . . .
والواو في قوله ) وَإِن مّنكُمْ ( للعطف . وقال ابن عطية : ) وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( قسم والواو تقتضيه ، ويفسره قول النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلاّ تحلة القسم ) . انتهى . وذهل عن قول النحويين أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلاّ إذا كان الجواب باللام أو بأن ، والجواب هنا جاء على زعمه بأن النافية فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا . وقوله والواو تقتضيه يدل على أنها عنده واو القسم ، ولا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار ، ولا يجوز ذلك إلاّ إن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما أولوا في قولهم : نعم السير على بئس العير ، أي على عير بئس العير . وقول الشاعر :
والله ما زيد بنام صاحبه
أي برجل نام صاحبه . وهذه الآية ليست من هذا الضرب إذ لم يحذف المقسم به وقامت صفته مقامه .
وقرأ الجمهور ) مّنكُمْ ( بكاف الخطاب ، والظاهر أنه عام للخلق وأنه ليس الورود الدخول لجميعهم ، فعن ابن مسعود والحسن وقتادة هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها . وعن ابن عباس : قد يرد الشيء ولم يدخله كقوله ) وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ ( ووردت القافلة البلد ولم تدخله ، ولكن قربت منه أو وصلت إليه . قال الشاعر : فلما وردن الماء زرقاً جمامة
وضعن عصى الحاضر المتخيم
وتقول العرب : وردنا ماء بني تميم وبني كلب إذا حضروهم ودخلوا بلادهم ، وليس يراد به الماء بعينه . وقيل : الخطاب للكفار أي قل لهم يا محمد فيكون الورود في حقهم الدخول ، وعلى قول من قال الخطاب عام وأن المؤمنين والكافرين يدخلون النار ولكن لا تضر المؤمنين ، وذكروا كيفية دخول المؤمنين النار بما لا يعجبني نقله في كتابي هذا الشناعة قولهم أن المؤمنين يدخلون النار وإن لم تضرهم .
وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعة وإن منهم : بالهاء للغيبة على ما تقدم من الضمائر . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالورود جثوهم حولها وإن أريد الكفار خاصة فالمعنى بيِّن ، واسم ) كَانَ ( مضمر يعود على الورود أي كان ورودهم حتماً أي واجباً قضي به .
مريم : ( 72 ) ثم ننجي الذين . . . . .
وقرأ الجمهور ) ثُمَّ ( بحرف العطف وهذا يدل

" صفحة رقم 198 "
على أن الورود عام . وقرأ عبد الله وابن عباس وأبيّ وعليّ والجحدري وابن أبي ليلى ومعاوية بن قرة ويعقوب ثَمَّ بفتح الثاء أي هناك ، ووقف ابن أبي ليلى ثمه بهاء السكت . وقرأ الجمهور : ) نُنَجّى ( بفتح النون وتشديد الجيم . وقرأ يحيى والأعمش والكسائي وابن محيصن بإسكان النون وتخفيف الجيم . وقرأت فرقة نجي بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة . وقرأ علي : ننحي بحاء مهملة مضارع نحى ، ومفعول ) اتَّقَوْاْ ( محذوف أي الشرك والظلم هنا ظلم الكفر .
مريم : ( 73 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيّنَاتٍ ( نزلت في النضر بن الحارث وأصحابه ، كان فقراء الصحابة في خشونة عيش ورثاثة سربال والمشركون يدهنون رؤوسهم ويرجلون شعورهم ويلبسون الحرير وفاخر الملابس ، فقالوا للمؤمنين : ) أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً ( أي منزلاً وسكناً ) وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ( ولما أقام الحجة على منكري البعث وأتبعه بما يكون يوم القيامة أخبر عنهم أنهم عارضوا تلك الحجة الدامغة بحسن شارتهم في الدنيا ، وذلك عندهم يدل على كرامتهم على الله . وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن يتلي بالياء والجمهور بالتاء من فوق كان المؤمن يتلو على الكافر القرآن وينوه بآيات النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيقول الكافر : إنما يحسن الله لأحب الخلق إليه وينعم على أهل الحق ، ونحن قد أنعم علينا دونكم فنحن أغنياء وأنتم فقراء ، ونحن أحسن مجلساً وأجمل شارة .
ومعنى ) بَيّنَاتٍ ( مرتلات الألفاظ ملخصات المعاني أو ظاهرات الإعجاز أو حججاً وبراهين . و ) بَيّنَاتٍ ( حال مؤكدة لأن آياته تعالى لا تكون إلاّ بهذا الوصف دائماً . وقرأ الجمهور ) مَقَاماً ( بفتح الميم . وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد والجعفي وأبو حاتم عن أبي عمر وبضم الميم واحتمل الفتح والضم أن يكون مصدراً أو موضع قيام أو إقامة ، وانتصابه على التمييز .
مريم : ( 74 ) وكم أهلكنا قبلهم . . . . .
ثم ذكر تعالى كثرة ما أهلك من القرون ممن كان أحسن حالاً منهم في الدنيا تنبيهاً على أنه تعالى يهلكهم ويستأصل شأفتهم كما فعل بغيرهم واتعاظاً لهم إن كانوا ممن يتعظ ، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من حسن الأثاث والري ، ويعني إهلاك تكذيب لما جاءت به الرسل . و ) مّن قَرْنٍ ( تبيين لكم و ) كَمْ ( مفعول بأهلكنا .
وقال الزمخشري : و ) هُمْ أَحْسَنُ ( في محل النصب صفة لكم . ألا ترى أنك لو تركت ) هُمْ ( لم يكن لك بد من نصب ) أَحْسَنُ ( على الوصفية انتهى . وتابعه أبو البقاء على أن ) هُمْ أَحْسَنُ ( صفة لكم ، ونص أصحابنا على أن ) كَمْ ( الاستفهامية والخبرية لا توصف ولا يوصف بها ، فعلى هذا يكون ) هُمْ أَحْسَنُ ( في موضع الصفة لقرن ، وجمع لأن القرن هو مشتمل على أفراد كثيرة فروعي معناه ، ولو أفرد الضمير على اللفظ لكان عربياً فصار كلفظ جميع . قال ) لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( وقال : نحن جميع منتصر فوصفه بالجمع وبالمفرد وتقدم تفسير الأثاث في سورة النحل .
وقرأ الجمهور ) ورئياً ( بالهمزة من رؤية العين فعل بمعنى مفعول كالطحن والسقي . وقال ابن عباس : الرئي المنظر . وقال الحسن : معناه صوراً . وقال الزهري وأبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية الهمداني وأيواب وابن سعدان وابن ذكوان وقالون ورياً بتشديد الياء من غير همز ، فاحتمل أن يكون مهموز الأصل من الرواء والمنظر سهلت همزته بإبدالها ياء ثم أدغمت الياء في الياء ، واحتمل أن يكون من الريّ ضد العطش لأن الريان من الماء له من الحسن والنضارة ما يستحب ويستحن ، كماله منظر حسن من وجه آخر مما يرى ويقابل . وقرأ أبو بكر في رواية الأعمش عن عاصم وحميد ) ورئياً ( بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب ووزنه فلعا ، وكأنه من راء . قال الشاعر : وكل خليل راءني فهو قائل
من أجل هذا هامة اليوم أو غد

" صفحة رقم 199 "
وقرىء ورياءً بياء بعدها ألف بعدها همزة ، حكاهها اليزيدي وأصله ورئاء من المراءاة أي يرى بعضهم بعضاً حسنه . وقرأ ابن عباس ، فيما روي عنه طلحة ورياً من غير همز ولا تشديد ، فتجاسر بعض الناس وقال هي لحن وليس كذلك بل لها توجيه بأن تكون من الرواء ، وقلب فصار ) ورئياً ( ثم نقلت حركة الهمزة إلى الياء وحذفت ، أو بأن تكون من الريّ وحذفت إحدى الياءين تخفيفاً كما حذفت في لا سيما ، والمحذوفة الثانية لأنها لام الكلمة لأن النقل إنما حصل للكلمة بانضمامها إلى الأولى فهي أولى بالحذف . وقرأ ابن عباس أيضاً وابن جبير ويزيد البربري والأعسم المكي وزياً بالزاي مشدد الياء وهي البزة الحسنة ، والآلات المجتمعة المستحسنة .
( قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَِّقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ).
) فَلْيَمْدُدْ (
مريم : ( 75 ) قل من كان . . . . .
يحتمل أن يكون على معناه من الطلب ويكون دعاء ، وكان المعنى الأضل منا ومنكم مدّ الله له ، أي أملى له حتى يؤول إلى عذابه . وكان الدعاء على صيغة الطلب لأنه الأصل ، ويحتمل أن يكون خبراً في المعنى وصورته صورة الأمر ، كأنه يقول : من كان ضالاً من الأمم فعادة الله له أنه يمدد له ولا يعاجله حتى يفضي ذلك إلى عذابه في الآخرة . وقال الزمخشري : أخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك ، وإنه مفعول لا محالة كالمأمور به الممتثل ليقطع معاذير الضال ، ويقال له يوم القيامة ) أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ( أو كقوله ) إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( والظاهر أن ) حَتَّى ( غاية لقوله ) فَلْيَمْدُدْ ( والمعنى إن الذين في الضلالة ممدود لهم فيها إلى أن يعاينوا العذاب بنصرة الله المؤمنين أو الساعة ومقدماتها .
وقال الزمخشري : في هذه الآية وجهان أحدهما أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها ، والآيتان اعتراض بينهما أي قالوا ) أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ( ) حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ ( أي لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين ) إِمَّا العَذَابَ ( في الدنيا وهي غلبة المسلمين عليهم ، وتعذيبهم إياهم قتلاً وأسراً ، وإظهار الله دينه على الدين كله على أيديهم وإما يوم القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال فحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه ، وأنهم ) شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً ( لا ) خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ( وأن المؤمنين على خلاف صفتهم . انتهى هذا الوجه وهو في غاية البعد لطول الفصل بين قوله قالوا : ) أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ ( وبين الغاية وفيه الفصل بجملتي اعتراض ولا يجيز ذلك أبو علي .
قال الزمخشري : والثاني أن يتصل بما يليها فذكر نحواً مما قدمناه ، وقابل قولهم خير مكاناً بقوله ) شَرٌّ مَّكَاناً ( وقوله ) وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ( بقوله ) وَأَضْعَفُ جُنداً ( لأن الندي هو المجلس الجامع لوجوه القوم والأعوان ، والأنصار والجند هم الأعوان ، والأنصار و ) إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ( بدل من ما المفعولة برأوا . و ) مِنْ ( موصولة مفعولة بقوله ) فَسَيَعْلَمُونَ ( وتعدى إلى واحد واستفهامية ، والفعل قبلها معلق والجملة في موضع نصب .
مريم : ( 76 ) ويزيد الله الذين . . . . .
ولما ذكر إمداد الضال في ضلالته وارتباكه في الافتخار بنعم الدنيا عقب ذلك بزيادة هدى للمهتدي وبذكر ) الباقيات ( التي هي بدل من تنعمهم في الدنيا الذي يضمحل ولا يثبت . و ) وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ( معناه مرجعاً وتقدم تفسير ) يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ( في الكهف . وقال الزمخشري : ) يَزِيدُ ( معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر تقديره من كان في

" صفحة رقم 200 "
الضلالة مداً ويمد له الرحمن ) وَيَزِيدُ ( أي يزيد في ضلال الضال بخذلانه ، ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه انتهى . ولا يصح أن يكون ) وَيَزِيدُ ( معطوفاً على موضع ) فَلْيَمْدُدْ ( سواء كان دعاء أم خبراً بصورة الأمر لأنه في موضع الخبر إن كانت ) مِنْ ( موصولة أو في موضع الجواب إن كانت ) مِنْ ( شرطية ، وعلى كلا التقديرين فالجملة من قوله ) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى ( عارية من ضمير يعود على من يربط جملة الخبر بالمبتدأ أو جملة الشرط بالجزاء الذي هو فليمدد وما عطف عليه لأن المعطوف على الخبر خبر ، والمعطوف على جملة الجزاء جزاء ، وإذا كانت أداة الشرط اسماً لا ظرفاً تعين أن يكون في جملة الجزاء ضميره أو ما يقول مقامه ، وكذا في الجملة المعطوفة عليها . وقال الزمخشري : هي ) خَيْرٌ ( ) ثَوَاباً ( من مفاخرات الكفار ) وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ( أي وخير مرجعاً وعاقبة أو منفعة من قولهم ليس لهذا الأمر مرد وهل يرد مكاني زيداً . فإن قلت : كيف قيل خير ثواباً كان لمفاخراتهم ثواباً حتى يجعل ثواب الصالحات خيراً منه ؟ قلت : كأنه قيل ثوابهم النار على طريقة قوله فاعتبوا بالصيلم . وقوله : شجعاء جربها الذميل تلوكه
أصلاً إذا راح المطي غراثاً
وقوله .
تحية بينهم ضرب وجيع
ثم بنى عليه خير ثواباً وفيه ضرب من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له عقابك النار . فإن قلت : فما وجه التفضيل في الخبر كان لمفاخرهم شركاء فيه ؟ قلت : هذا من وجيز كلامهم يقولون : الصيف أحر من الشتاء أي أبلغ في حره من الشتاء في برده انتهى .
مريم : ( 77 ) أفرأيت الذي كفر . . . . .
( أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا ( نزلت في العاصي بن وائل عمل له خباب بن الأرث عملاً وكان قيناً ، فاجتمع له عنده دين فتقاضاه فقال : لا أنصفك حتى تكفر بمحمد ، فقال خباب : لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك . فقال العاصي : أو مبعوث أنا بعد الموت ؟ فقال خباب : نعم ، قال : فائت إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك . وقال الحسن : نزلت في الوليد بن المغيرة وقد كانت للوليد أيضاً أقوال تشبه هذا الغرض ، ولما كانت رؤية الأشياء سبيلاً إلى الإحاطة بها وصحة الخبر عنها استعملوا أرأيت بمعنى أخبر ، والفاء للعطف أفادت التعقيب كأنه قيل : أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر عقيب قصة أولئك ، والآيات : القرآن والدلالات على البعث . وقرأ الجمهور ) وَلَدًا ( أربعتهن هنا ، وفي الزخرف بفتح اللام والواو ويأتي الخلاف في نوح . وقرأ الأعمش وطلحة والكسائي وابن أبي ليلى وابن عيسى الأصبهاني بضم الواو وإسكان اللام ، فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى على الجنس لا ملحوظاً فيه الإفراد وإن كان مفرد اللفظ ، وعلى هذه القراءة فقيل هو جمع

" صفحة رقم 201 "
كأسد وأسد ، واحتج قائل ذلك بقول الشاعر : ولقد رأيت معاشرا
قد ثمروا مالاً وولداً
وقيل : هو مرادف للولد بالفتحتين واحتجوا بقوله : فليت فلاناً كان في بطن أمه
وليت فلاناً كان ولد حمار
مريم : ( 78 ) أطلع الغيب أم . . . . .
وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر بكسر الواو وسكون اللام والهمزة في اطلع للاستفهام ، ولذلك عادلتها ) أَمْ ). وقرىء بكسر الهمزة في الابتداء وحذفها في الوصل على تقدير حذف همزة الاستفهام لدلالة ) أَمْ ( عليها كقوله :
بسبع رمين الجمر أم بثمان
يريد أبسبع ، وجاء التركيب في أرأيت على الوضع الذي ذكره سيبويه من أنها تتعدى لواحد تنصبه ، ويكون الثاني استفهاماً فأطلع وما بعده في موضع المفعول الثاني لأرأيت ، وما جاء من تركيب أرأيت بمعنى أخبرني على خلاف هذا في الظاهر ينبغي أن يرد إلى هذا بالتأويل .
قال الزمخشري : ) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ( من قولهم : أطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه واطلع الثنية . قال جرير :
لاقيت مطلع الجبال وعوراً
وتقول : مر مطلعاً لذلك الأمر أي عالياً له مالك له ، ولاختيار هذه الكلمة شأن تقول : أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار ، والمعنى أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلاّ بأحد هذين الطريقين ، إما علم الغيب ، وإما عهد من عالم الغيب فبأيهما توصل إلى ذلك .
والعهد . قيل كلمة الشهادة . وقال قتادة : هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول . وعن الكلبي : هل عهد الله إليه أن يؤتيه ذلك .
مريم : ( 79 ) كلا سنكتب ما . . . . .
و ) كَلاَّ ( ردع وتنبيه على الخطأ الذي هو مخطىء فيما تصوره لنفسه ويتمناه فليرتدع عنه . وقرأ أبو نهيك ) كَلاَّ ( بالتنوين فيهما هنا وهو مصدر من كلّ السيف كلاً إذا نبا عن الضريبة ، وانتصابه على إضمار فعل من لفظه وتقديره كلوا كلاً عن عبادة الله أو عن الحق . ونحو ذلك ، وكنى بالكتابة عن ما يترتب عليها من الجزاء . فلذلك دخلت السين التي للاستقبال أي سنجازيه على ما ما يقول . وقال الزمخشري : فيه وجهان .
أحدهما : سيظهر له ونعلمه إنّا كتبنا قوله على طريقه قوله :
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمةٌ
أي تبين وعلم بالانتساب أني لست ابن لئيمة .
والثاني : أن المتوعد يقول للجاني سوف أنتقم منك يعني أنه لا يبخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان ، واستأخر فجردها هنا لمعنى الوعيد انتهى .
وقرأ الجمهور ) سَنَكْتُبُ ( بالنون والأعمش بياء مضمومة والتاء مفتوحة مبنياً للمفعول ، وذكرت عن عاصم ) وَنَمُدُّ ( أي نطول له ) مّنَ الْعَذَابِ ( الذي يعذب به المستهزئون أو نزيده من العذاب ونضاعف له المدد . وقرأ عليّ بن أبي طالب ) وَنَمُدُّ لَهُ ( يقال مده وأمده بمعنى
مريم : ( 80 ) ونرثه ما يقول . . . . .
( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ( أُي نسلبه المال والولد فنكون كالوارث له . وقال الكلبي : نجعل ما يتمنى من الجنة لغيره . وقال أبو

" صفحة رقم 202 "
سهيل : نحرمه ما يتمناه من المال والولد ونجعله لغيره . قال الزمخشري : ويحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله في الدنيا مالاً وولداً ، وبلغت به أشعبيته أن تأليّ على الله في قوله ) لاَوتَيَنَّ ( لأنه جواب قسم مضمر ، ومن يتألَّ على الله يكذبه فيقول الله عز وعلا : هب أنّا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة ) وَيَأْتِينَا فَرْداً ( غداً بلا مال ولا ولد كقوله تعالى ) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا ( الآية فما يجدي عليه تمنيه وتأليه . ويحتمل أن هذا القول إنما يقوله ما دام حياً ، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ) يَقُولُ وَيَأْتِينَا ( رافضاً له ) منفرداً ( عنه غير قائل له انتهى .
وقال النحاس : ) مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ( معناه نحفظه عليه للعاقبة ومنه العلماء ورثة الأنبياء أي حفظة ما قالوه انتهى . و ) فَرْداً ( تتضمن ذلته وعدم أنصاره ، و ) يِقُولُ ( صلة ) مَا ( مضارع ، والمعنى على الماضي أي ما قال .
مريم : ( 81 ) واتخذوا من دون . . . . .
والضمير في ) وَاتَّخَذُواْ ( العبادة الأصنام وقد تقدم ما يعود عليه وهم الظالمون في قوله ) وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ ( فكل ضمير جمع ما بعده عائد عليه إن كان مما يمكن عوده عليه ، واللام في ) لّيَكُونُواْ ( لام كي أي ) لّيَكُونُواْ ( أي الآلهة ) لَهُمْ عِزّاً ( يتعززون بها في النصرة والمنفعة والإنقاذ من العذاب .
مريم : ( 82 ) كلا سيكفرون بعبادتهم . . . . .
( كَلاَّ ( قال الزمخشري : ) كَلاَّ ( ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة . وقرأ ابن نهيك ) كَلاَّ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ ( أي سيجحدون ) كَلاَّ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ ( كقولك : زيد مررت بغلامه وفي محتسب ابن جنيّ ) كَلاَّ ( بفتح الكاف والتنوين ، وزعم أن معناه كل هذا الرأي والإعتقاد كلاً ، ولقائل أن يقول إن صحت هذه الرواية فهي ) كَلاَّ ( التي للردع قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قواريراً انتهى . فقوله وقرأ ابن نهيك الذي ذكر ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية وأبو نهيك بالكنية وهو الذي يحكى عنه القراءة في الشواذ وأنه قرأ ) كَلاَّ ( بفتح الكاف والتنوين وكذا حكاه عنه أبو الفتح . وقال ابن عطية وهو يعني ) كَلاَّ ( نعت للآلهة قال : وحكى عنه أي عن أبي نهيك أبو عمر والداني ) كَلاَّ ( بضم الكاف والتنوين وهو منصوب بفعل مضمر يدل عليه ) سَيَكْفُرُونَ ( تقديره يرفضون أو يتركون أو يجحدون أو نحوه . وأما قول الزمخشري ولقائل أن يقول إلى آخره فليس بجيد لأنه قال إنها التي للردع ، والتي للردع حرف ولا وجه لقلب ألفها نوناً وتشبيهه بقواريراً ليس بجيد لأن قواريراً اسم رجع به إلى أصله ، فالتنوين ليس بدلاً من ألف بل هو تنوين الصرف . وهذا الجمع مختلف فيه أيتحتم منع صرفه أم يجوز ؟ قولان ، ومنقول أيضاً أن لغة للعرب يصرفون ما لا ينصرف عند غيرهم ، فهذا التنوين إما على قول من لا يرى بالتحتم أو على تلك اللغة . وذكر الطبري عن أبي نهيك أنه قرأ كل بضم الكاف ورفع اللام ورفعه على الابتداء والجملة بعده الخبر ، وتقدم ظاهر وهو الآلهة وتلاه ضمير في قوله ليكونوا فالأظهر أن الضمير في ) سَيَكْفُرُونَ ( عائد على أقرب مذكور محدث عنه . فالمعنى أن الآلهة سيجحدون عبادة هؤلاء إياهم كما قال : ) وَإِذَا رَءا الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ ( وفي آخرها ) فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ( وتكون ) ءالِهَةً ( هنا مخصوصاً بمن يعقل ، أو يجعل الله للآلهة غير العاقلة إدراكاً تنكر به عبادة عابديه . ويجوز أن يكون الضمير للمشركين ينكرون لسوء العاقبة أن يكونوا كما قالوا ) وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( لكن قوله ) وَيَكُونُونَ ( يرجح القول الأول لا تساق الضمائر لواحد ، وعلى القول الآخر يختلف الضمائر إذ يكون في ) سَيَكْفُرُونَ ( للمشركين وفي ) يَكُونُونَ ( للآلهة .
ومعنى ) ضِدّاً ( أعواناً قاله ابن عباس . وقال الضحاك : أعداءً . وقال قتادة : قرناء . وقال ابن زيد : بلاءً . وقال ابن عطية : معناه يجيئهم منه خلاف ما كانوا أمّلوه فيؤول بهم ذلك إلى ذلة ضد ما أملوه من العز ، فالضد هنا مصدر وصف به الجمع كما يوصف به الواحد . وقال الزمخشري : والضد

" صفحة رقم 203 "
العون وحد توحيد وهم على من سواهم لإتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامهم وتوافقهم ، ومعنى كونهم عوناً عليهم أنهم وقود النار وحصب جهنم ولأنهم عذبوا بسبب عبادتهم .
( أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِذَا تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَاذَا إِنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِّبَاعَ الرَّحْمَنِ عَبْداً لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ).
مريم : ( 83 ) ألم تر أنا . . . . .
( أَرْسَلْنَا ( معناه سلطناً أو لم نحل بينهم وبينهم مثل قوله ) نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً ( وتعديته بعلى دليل على أنه تسليط و ) تَؤُزُّهُمْ ( تحركهم إلى الكفر . وقال قتادة : تزعجهم . وقال ابن زيد : تشليهم . وقال الزمخشري : تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات ، والمعنى خلينا بينهم وبينهم ولم نمنعهم ولو شاء لمنعهم ، والمراد تعجيب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة من الكفار وأقاويلهم .
مريم : ( 84 - 87 ) فلا تعجل عليهم . . . . .
عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلاّ أيام محصورة وأنفاس معدودة كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لوعدت ونحوه قوله تعالى ) وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ ( انتهى . وقيل ) نَعُدُّ ( أعمالهم لنجازيهم . وقيل : آجالهم فإذا جاء أحللنا العقوبة بهم . وقيل : أيامهم التي سبق قضاؤنا أن نمهلهم إليها . وقيل : أنفاسهم ، وانتصب ) يَوْمٍ ( باذكر أو احذر مضمرة أو على تقدير يكون ذلك جواباً لسؤال مقدر تقديره متى يكون ذلك أو سيكفرون بعبادتهم أو بيكونون عليهم ضداً أو معنى بعداً ، وتضمن العدّ والإحصاء معنى المجازاة ، أو ) يَوْمَ نَحْشُرُ ( ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف أو بلا يملكون ، وكلها مقول في نصب ) يَوْمٍ ( والأوجه الأخير . وعدى ) نَحْشُرُ ( بإلى ) الرَّحْمَنُ ( تعظيماً لهم وتشريفاً . وذكر صفة الرحمانية التي خصهم بها كرامة إذ لفظ الحشر فيه جمع من أماكن متفرقة وأقطار شاسعة على سبيل القهر ، فجاءت لفظة ) الرَّحْمَنُ ( مؤذنة بأنهم يحشرون إلى من يرحمهم ، ولفظ السوق فيه إزعاج وهو إن عدِّي بإلى جهنم تفظيعاً لهم وتبشيعاً لحال مقرهم ، ولفظة الوفد مشعرة بالإكرام والتبجيل كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عنده .
وعن عليّ : على نوق رحالها ذهب ، وعلى نجائب سرجها ياقوت ، وعنه أيضاً إنهم يجيئون ركباناً على النوق المحلاة بحلية الجنة خطمها من ياقوت وزبرجد . وريوي عمرو بن قيس الملائي أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة في غاية الحسن ، روى أنه يركب كل أحد منهم ما أحب من إبل أو خيل أو سفن تجيء عائمة بهم . والظاهر أن هذه الوفادة بعد إنقضاء الحساب وأنها النهوض إلى الجنة كما قال ) فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( وشبهوا بالوفود لأنهم سراة الناس وأحسنهم شكلاً وليست وفادة حقيقية لأنها تتضمن الإنصراف من الموفود عليه ، وهؤلاء مقيمون أبداً في ثواب ربهم وهو الجنة والورد العطاش قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن ، والورد مصدر ورد أي سار إلى الماء . قال الراجز : ردي ردي ورد قطاة صما
كدرية أعجبها برد الماء

" صفحة رقم 204 "
ولما كان من يرد الماء لا يرده إلاّ لعطش ، أطلق الورد على العطاش تسمية للشيء بسببه . وقرأ الحسن والجحدري يحشر المتقون ويساق المجرمون مبنياً للمفعول ، والضمير في ) لاَّ يَمْلِكُونَ ( عائد على الخلق الدال عليهم ذكر المتقين والمجرمين إذ هم قسماه ، والاستثناء متصل و ) مِنْ ( بدل من ذلك الضمير أو نصب على الاستثناء ) وَلاَ يَمْلِكُونَ ( استئناف إخبار . وقيل : موضه نصب على الحال من الضمير في ) لاَّ يَمْلِكُونَ ( ويكون عائداً على المجرمين . والمعنى غير مالكين أن يشفع لهم ، ويكون على هذا الاستثناء منقطعاً . وقيل : الضمير في ) لاَّ يَمْلِكُونَ ( عائد على المتقين والمجرمين ، والاستثناء متصل . وقيل : عائد على المتقين ، واتخاذ العهد هو العمل الصالح الذي يحصل به في حيِّز من يشفع . وتظافرت الأحاديث على أن أهل العلم والصلاح يشفعون فيشفعون . وفي الحديث : ( إن في أمتي رجلاً يدخل الله بشفاعته أكثر من بني تميم ) . وقال قتادة : كنا نحدث أن الشهيد يشفع في سبعين . وقال بعض من جعل الضمير للمتقين : المعنى لا يملك المتقون ) الشَّفَاعَةَ ( إلاّ لهذا الصنف ، فعلى هذا يكون من اتخذ المشفوع فيهم ، وعلى التأويل الأول يكون من اتخذ الشافعين فالتقدير على التقدير الثاني ) لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ لاِحَدٍ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ ( فيكون في موضع نصب كما قال :
فلم ينج إلاّ جفن سيف ومئزرا .
أي لم ينج شيء إلا جفن سيف . وعلى هذه الأقوال الواو ضمير . وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون يعني الواو في ) لاَّ يَمْلِكُونَ ( علامة للجمع كالتي في أكلوني البراغيث ، والفاعل من ) اتَّخَذَ ( لأنه في معنى الجمع انتهى . ولا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميراً . وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة . وأيضاً قالوا : والألف والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلاّ بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف ، إما أن تأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو على مثنى فيحتاج في إثبات ذلك إلى نقل ، وأما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى ، والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ، ولكن الأحفظ أن لا يقال ذلك إلاّ بسماع . وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب يعني من على تقدير حذف المضاف أي إلاّ شفاعة من ) اتَّخَذَ ).
والعهد هنا . قال ابن عباس : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله . وفي الحديث من قال : ( لا إله إلاّ الله محمد رسول الله كان له عند الله عهد ) . وقال السدي : العهد الطاعة . وقال ابن جريج : العمل الصالح . وقال الليث : حفظ كتاب الله . وقيل : عهد الله إذنه لمن شاء في الشفاعة من عهد الأمير إلى فلان بكذا ، أي أمره به أي لا يشفع إلاّ المأمور بالشفاعة المأذون له فيها . ويؤيده ) وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ( ) يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ). ) لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى ). وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المجرمون يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم ) لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ ( إلاّ العصاة المؤمنون فإنهم سيشفع فيهم ،

" صفحة رقم 205 "
فيكون الاستثناء متصلاً . وفي الحديث : ( لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلاّ الله ، فيقول : يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي ) انتهى . وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد . وقال ابن عطية أيضاً : ويحتمل أن يراد بمن اتخذ محمد عليه الصلاة والسلام وبالشفاعة الخاصة لمحمد العامة للناس . وقوله تعالى ) عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ( والضمير في ) لاَّ يَمْلِكُونَ ( لأهل الموقف انتهى .
مريم : ( 88 ) وقالوا اتخذ الرحمن . . . . .
وفيه بعض تلخيص .
( وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ( الضمير في ) قَالُواْ ( عائد على بعض اليهود حيث قالوا عزير ابن الله ، وبعض النصارى حيث قالوا المسيح ابن الله ، وبعض مشركي العرب حيث قالوا : الملائكة بنات الله
مريم : ( 89 ) لقد جئتم شيئا . . . . .
( لَقَدْ جِئْتُمْ ( أي قل لهم يا محمد ) لَقَدْ جِئْتُمْ ( أو يكون التفاتاً خرج من الغيبة إلى الخطاب زيادة تسجيل عليهم بالجرأة على الله والتعرض لسخطه وتنبيه على عظيم ما قالوا .
وقرأ الجمهور ) إِدّاً ( بكسر الهمزة وعليّ بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن بفتحها أي شيئاً أداً حذف المضاف وأقيم المصدر مقامه .
مريم : ( 90 ) تكاد السماوات يتفطرن . . . . .
وقرأ نافع والكسائي يكاد بالياء من تحت وكذا في الشورى وهي قراءة أبي حيوة والأعمش . وقرأ باقي السبعة بالتاء . وقرأ ينفطرن مضارع انفطر وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وابن عامر هنا وهي قراءة أبي بحرية والزهري وطلحة وحميد واليزيدي ويعقوب وأبي عبيد . وقرأ باقي السبعة ) يتفطرون ( مضارع تفطر والتي في الشورى قرأها أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالياء والنون وباقي السبعة بالياء والتاء والتشديد . وقرأ ابن مسعود يتصد عن وينبغي أن يجعل تفسيراً لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه ، ولرواية الثقاة عنه كقراءة الجمهور . وقال الأخفش ) العَظِيمُ تَكَادُ ( تريد وكذلك قوله ) أَكَادُ أُخْفِيهَا ( وأنشد شاهداً على ذلك قول الشاعر : وكادت وكدت وتلك خير إرادة
لو عاد من زمن الصبابة ما مضى
ولا حجة في هذا البيت ، والمعروف أن الكيدودة مقاربة الشيء وهذه الجمل عند الجمهور من باب الاستعارة لبشاعة هذا القول ، أي هذا حقه لو فهمت الجمادات قدره وهذا مهيع للعرب . قال جرير :
لما أتى خبر الزبير تواضعت
سور المدينة والجبال الخشع
وقال آخر
ألم تر صدعاً في السماء مبينا
على ابن لبني الحارث بن هشام وقال الآخر
فأصبح بطن مكة مقشعرّاً
كأن الأرض ليس بها هشام
وقال آخر بكى حارث الجولان من فقد ربه
وحوران منه خاشع متضائل

" صفحة رقم 206 "
حارث الجولان موضع .
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى انفطار السموات وإنشقاق الأرض وخرور الجبال ، ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات ؟ قلت : فيه وجهان أحدهما أن الله يقول : كدت أفعل هذه بالمسوات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوه بها لولا حلمي ووقاري ، وإني لا أعجل بالعقوبة كما قال ) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الآية .
والثاني : أن يكون استعظاماً للكلمة ، وتهويلاً من فظاعتها ، وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لأركانه . وقواعده ، وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات أن يصيب هذه الأجرام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخر انتهى .
وقال ابن عباس إن هذا الكلام فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلاّ الثقلين وكدن أن يزلن منه تعظيماً لله تعالى . وقيل : المعنى كادت القيامة أن تقوم فإن هذه الأشياء تكون حقيقة يوم القيامة . وقيل : ) تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ ( أي تسقط عليهم ) وَتَنشَقُّ الاْرْضُ ( أي تخسف بهم ) وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً ( أي تنطبق عليهم . وقال أبو مسلم : تكاد تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول ، وانتصب ) هَدّاً ( عند النحاس على المصدر قال : لأن معنى ) تخرّ ( تنهد انتهى . وهذا على أن يكون ) الْجِبَالُ هَدّاً ( مصدراً لهد الحائط يهد بالكسر هديداً وهداً وهو فعل لازم . وقيل ) هَدّاً ( مصدر في موضع الحال أي مهدودة ، وهذا على أن يكون ) هَدّاً ( مصدر هد الحائط إذا هدمه وهو فعل متعد ، وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولاً له أي لأنها تهد ، وأجاز الزمخشري في ) أَن دَعَوْا ( ثلاثة أوجه . قال أن يكون مجروراً بدلاً من الهاء في منه كقوله :
على حالة لو أن في القوم حاتما
على جوده لضن بالماء حاتم
وهذا فيه بعد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه لجملتين ، قال : ومنصوباً بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي ) هَدّاً ( لأن دعوا علل الخرور بالهد ، والهد بدعاء الولد للرحمن ، وهذا فيه بعد لأن الظاهر أن ) هَدّاً ( لا يكون مفعولاً بل مصدر من معنى ) وَتَخِرُّ ( أو في موضع الحال ، قال : ومرفوعاً بأنه فاعل ) هَدّاً ( أي هدها دعاء الولد للرحمن ، وهذا فيه بعد لأن ظاهر ) هَدّاً ( أن يكون مصدراً توكيدياً ، والمصدر التوكيدي لا يعمل ولو فرضناه غير توكيد لم يعمل بقياس إلاّ إن كان أمراً أو مستفهماً عنه ، نحو ضرب زيداً ، واضربا زيداً على خلاف فيه . وأما إن كان خبراً كما قدره الزمخشري أي هدها دعاء الرحمن فلا ينقاس بل ما جاء من ذلك هو نادر كقوله .
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم
أي وقف صحبي .
مريم : ( 91 ) أن دعوا للرحمن . . . . .
وقال الحوفي وأبو البقاء ) أَن دَعَوْا ( في موضع نصب مفعول له ، ولم يبينا العامل فيه . وقال أبو البقاء أيضاً : هو في موضع جر على تقدير اللام ، قال : وفي موضع رفع أي الموجب لذلك دعاؤهم ، ومعنى ) دَّعَوَا ( سموا وهي تتعدّى إلى اثنين حذف الأول منهما ، والتقدير سموا معبودهم ولداً للرحمن أي بولد لأن دعا هذه تتعدى لاثنين ، ويجوز دخول الباء على الثاني تقول : دعوت ولدي بزيد ، أو دعوت ولدي زيداً . وقال الشاعر :

" صفحة رقم 207 "
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن
أخاها ولم أرضع لها بلبان وقال آخرألا رب من يدعي نصيحاً وإن يغب تجده بغيب منك غير نصيحوقال الزمخشري : اقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلباً للعموم والإحاطة بكل ما دعا له ولداً ، قال أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام : ( من ادّعى إلى غير مواليه ) . وقول الشاعر .
إنّا بني نهشل لا ندعي لأب
أي لا ننتسب إليه انتهى . وكون ) دَّعَوَا ( هنا بمعنى سموا هو قول الأكثرين . وقيل : ) دَّعَوَا ( بمعنى جعلوا .
مريم : ( 92 ) وما ينبغي للرحمن . . . . .
و ) يَنبَغِى ( مطاوع لبغي بمعنى طلب ، أي وما يتأتى له إتخاذ الولد لأن التوالد مستحيل والتبني لا يكون إلاّ فيما هو من جنس المتبنى ، وليس له تعالى جنس و ) يَنبَغِى ( ليس من الأفعال التي لا تتصرف بل سمع لها الماضي قالوا : أنبغى وقد عدّها ابن مالك في التسهيل من الأفعال التي لا تتصرف وهو غلط
مريم : ( 93 ) إن كل من . . . . .
و ) مِنْ ( موصولة بمعنى الذي أي ما كل الذي في السموات وكل تدخل على الذي لأنها تأتي للجنس كقول تعالى ) وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ ( ونحو .
وكل الذي حملتنّي أتحمل
وقال الزمخشري : ) مِنْ ( موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة وقوعها بعد رب في قوله :
رب من أنضجت غيظاً صدره
انتهى . والأولى جعلها موصولة لأن كونها موصوفة بالنسبة إلى الموصولة قليل . وقرأ عبد الله وابن الزبير وأبو حيوة وطلحة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ويعقوب إلاّ آتٍ بالتنوين ) الرَّحْمَنُ ( بالنصب والجمهور بالإضافة و ) اتِى ( خبر ) كُلٌّ ( وانتصب ) عَبْداً ( على الحال . وتكرر لفظ ) الرَّحْمَنُ ( تنبيهاً على أنه لا يستحق هذا الاسم غيره ، إذ أصول النعم وفروعها منه ومن في السموات والأرض يشمل من اتخذوه معبوداً من الملائكة وعيسى وعزيراً بحكم ادعائهم صحة التوالد أو بحكم زعمهم ذلك فأشركوهم في العبادة إذ خدمة الأبناء خدمة الآباء ، فأخبر تعالى أنه ما من معبود لهم في السموات أو في الأرض إلاّ يأتي الرحمن عبداً منقاداً لا يدعيّ لنفسه شيئاً مما نسبوه إليه .
مريم : ( 94 ) لقد أحصاهم وعدهم . . . . .
ثم ذكر تعالى أنه ) أَحْصَاهُمْ ( وأحاط

" صفحة رقم 208 "
بهم وحصرهم بالعدد ، فلم يفته أحد منهم
مريم : ( 95 ) وكلهم آتيه يوم . . . . .
وانتصب ) فَرْداً ( على الحال أي منفرداً ليس معه أحد ممن جعلوه شريكاً ، وخير ) كُلُّهُمْ ءاتِيهِ ( ) فَرْداً ( وكلّ إذا أضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم وكل الناس فالمنقول أنه يجوز أن يعود الضمير مفرداً على لفظ كل ، فتقول : كلكم ذاهب ، ويجوز أن يعود جمعاً مراعاة للمعنى فتقول : كلكم ذاهبون . وحكى إبراهيم ابن أصبغ في كتاب رؤوس المسائل الإتفاق على جواز الوجهين ، وعلى الجمع جاء لفظ الزمخشري في تفسير هذه الآية في الكشاف ) وَكُلُّهُمْ ( متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره ، وقد خدش في ذلك أبو زيد السهيلي فقال : كل إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظاً يعني إلى معرفة فلا يحسن إلاّ إفراد الخبر حملاً على المعنى ، تقول : كلكم ذاهب أي كل واحد منكم ذاهب ، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح فإن قلت : في قوله ) وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ ( إنما هو حمل على اللفظ لأنه اسم مفرد قلنا : بل هو اسم للجمع واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد ، تقول : القوم ذاهبون ، ولا تقول : القوم ذاهب وإن كان لفظ القوم كلفظ المفرد ، وإنما حسن كلكم ذاهب لأنهم يقولون كل واحد منكم ذاهب فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى انتهى . ويحتاج في إثبات كلكم ذاهبون بالجمع ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب ، أما إن حذف المضاف المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان .
مريم : ( 96 ) إن الذين آمنوا . . . . .
والسين في ) سَيَجْعَلُ ( للاستقبال فاحتمل أن يكون هذا الجعل في الدنيا ، وجيء بأداة الاستقبال لأن المؤمنين كانوا بمكة حال نزول هذه السورة ، وكانوا ممقوتين من الكفرة ، فوعدهم الله بذلك إذا ظهر الإسلام وفشا . واحتمل أن يكون ذلك في الدنيا على الإطلاق كما في الترمذي . قال : ( إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إني قد أحببت فلاناً فأحبه ، قال : فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في الأرض ) قال الله عز وجل : ) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ( إلى آخر الحديث وقال : هذا حديث صحيح . قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون الآية متصلة بما قبلها في المعنى أي أن الله تعالى لما أخبر عن إتيان كل من في السموات والأرض في حال العبودية والانفراد ، أنس المؤمنين بأنه سيجعل لهم في ذلك اليوم ) وُدّاً ( وهو ما يظهر عليهم من كرامته لأن محبة الله للعبد إنما هي ما يظهر عليه من نعمه وأمارات غفرانه انتهى .
وقال الزمخشري : وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم . وقال أيضاً : والمعنى سيحدث لهم في القلوب مودّة ويزرعها لهم فيها من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي يكتسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع مبرة أو غير ذلك ، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة ، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً وإجلالاً لمكانهم انتهى . وقيل : في الكلام حذف والتقدير سيدخلهم دار كرامته ويجعل لهم ) وُدّاً ( بسبب نزع الغل من صدورهم بخلاف الكفار ، فإنهم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً ، وفي النار أيضاً يتبرأ بعضهم من بعض .
وقرأ الجمهور ) وُدّاً ( بضم الواو . وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها . وقرأ جناح بن حبيش ) وُدّاً ( بكسر الواو . قيل : نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن عوف كان اليهود والنصارى والمنافقون يحبونه ، وكان لما

" صفحة رقم 209 "
هاجر من مكة استوحش بالمدينة فشكا ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فنزلت . وقيل : نزلت في المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب ألقى الله لهم وداً في قلب النجاشي ، وذكر النقاش أنها نزلت في عليّ بن أبي طالب . وقال محمد بن الحنيفة : لا تجد مؤمناً إلاّ وهو يحب علياً وأهل بيته انتهى . ومن غريب هذا ما أنشدنا الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن عليّ بن يوسف الأنصاري الشاطبي رحمه الله تعالى لزبينا بن إسحاق النصراني الرسغي . عدّي وتيم لا أحاول ذكرهم
بسوء ولكني محب لهاشم
وما تعتريني في عليّ ورهطه
إذا ذكروا في الله لومة لائم
يقولون ما بال النصارى تحبهم
وأهل النهي من أعرب وأعاجم
فقلت لهم إني لأحسب حبهم
سرى في قلوب الخلق حتى البهائم وذكر أبو محمد بن حزم أن بغض عليّ من الكبائر .
مريم : ( 97 ) فإنما يسرناه بلسانك . . . . .
والضمير في ) يَسَّرْنَاهُ ( عائد على القرآن ، أي أنزلناه عليك ميسراً سهلاً ) بِلَسَانِكَ ( أي بلغتك وهو اللسان العربي المبين . ) لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ( أي تخبرهم بما يسرهم وبما يكون لهم من الثواب على تقواهم واللد جمع . وقال ابن عباس : ) لُّدّاً ( ظلمة ، ومجاهد فجازاً ، والحسن صماً ، وأبو صالح عوجاً عن الحق ، وقتادة ذوي جدل بالباطل آخذين ف يكل لديد بالمراء أي في كل جانب لفرط لجاجهم يريد أهل مكة .
( وَكَمْ أَهْلَكْنَا ( تخويف لهم وإنذار بالإهلاك بالعذاب والضمير في قوله ) قَبْلَهُمْ ( عائد على ) قَوْماً لُّدّاً ( و
مريم : ( 98 ) وكم أهلكنا قبلهم . . . . .
( هَلْ تُحِسُّ ( استفهام معناه النفي أي لا تحس . وقرأ الجمهور : ) هَلْ تُحِسُّ ( مضارع أحس . وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وأبو جعفر المدني ) تُحِسُّ ( بفتح التاء وضم الحاء . وقرىء ) تُحِسُّ ( من حسه إذا شعر به ومنه الحواس والمحسوسات . وقرأ حنظلة ) أَوْ تَسْمَعُ ( مضارع أسمعت مبنياً للمفعول . وقال ابن عباس : الركز الصوت الخفي . قال ابن زيد الحس . وقال الحسن : لما أتاهم عذابنا لم يبق منهم شخص يرى ولا صوت يسمع . وقيل : المعنى ماتوا ونسي ذكرهم فلا يخبر عنهم مخبر .

" صفحة رقم 210 "
20
( سورة طه )
عليه السلام مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الاٌّ رْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الاٌّ سْمَآءُ الْحُسْنَى وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لاًّهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّىءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّىآتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِىَ يامُوسَى إِنِّىأَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِىأَنَا اللَّهُ لاإِلَاهَ إِلاأَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواةَ لِذِكْرِى إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاٍّ ولَى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ءَايَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِىأَمْرِى وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي وَاجْعَل لِّى وَزِيراً مِّنْ أَهْلِى هَارُونَ أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فِىأَمْرِى كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى إِذْ تَمْشِىأُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِىأَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يامُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى ( ) ) 2
طه : ( 1 ) طه
الثرى : التراب الندي ويثنّى ثريان ، ويقال ثريت التربة بللتها ، وثريت الأرض تثرى ثري فهي ترية ابتل ترابها بعد الجدوبة ، وأثرت فهي مثرية كثر ترابها ، وأرض ثرى ذات ثرى . وقال ابن الأعرابي : يقال فلان قريب الثرى بعيد النبط للذي يعد ولا يفي ، ويقال : إني لأرى ثرى الغضب في وجه فلانا أي أثره ، ويقال الثرى بيني وبين فلان إذا انقطع ما بينكما . وقال جرير : فلا تنبشوا بيني وبينكم الثرى
فإن الذي بيني وبينكم مثري

" صفحة رقم 211 "
آنس : وجد ، تقول العرب : هل آنست فلان أي وجدته . وقيل : أحس وهو قريب من وجد . قال الحارث بن حلزة : آنست نبأة وروعها القناص
عصراً وقد دنا الإمساء
القبس جذوة من النار تكون على رأس عود أو قصبة أو نحوه فعل بمعنى مفعول كالقبض والنفض ، ويقال : قبست منه ناراً أقبس فأقبسني أعطاني منه قبساً ، ومنه المقبسة لما يقتبس فيه من شقفة وغيرها ، واقتبست منه ناراً . وعلماً أي استفدته . وقال المبرد : أقبست الرجل علم وقبسته ناراً . وقال الكسائي : أقبسته ناراً وعلماً وقبسته أيضاً فيهما . الخلع والنعل معروفان وهو إزالتها من الرجل . وقيل : النعل ما هو وقاية للرجل من الأرض كان من جلد أو حديد أو خشب أو غيره . طوى : اسم موضع . السعي المشي بسرعة ، وقد يطلق على العمل . ردى يردى ردى هلك ، وأرداه أهلكه . قال دريد بن الصمة : تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا
فقلت أعبد الله ذلكم الردى
توكأ على الشيء تحامل عليه في المشي والوقوف ، ومنه الاتكاء . توكأت واتكأت بمعنى . وتقدمت هذه المادة في سورة يوسف في قوله ) متكأ ( وشرحت هنا لاختلاف الوزنين وإن كان الأصل واحداً . هش على الغنم يهش بضم الهاء خبط أوراق الشجر لتسقط ، وهش إلى الرجل يهش بالكسر قاله ثعلب إذا بش وأظهر الفرح به ، والأصل في هذهالمادة الرخاوة يقال : رجل هش . الغنم معروف وهو اسم جنس مؤنث . المأربة بضم الراء وفتحها وكسرها الحاجة وتجمع على مآرب ، والإربة أيضاً الحاجة . الحية الحنش ينطلق على الذكر والأنثى والصغير والكبير ، وتقدمت مادته وكررت هنا لخصوصية المدلول . وقولهم حواء للذي يصيد الحيات من باب قوة فالمادتان مختلفتان كسبط وسبطر . الأزر : الظهر قاله الخليل ، وأبو عبيد وآزره قواه ، والأزر أيضاً القوة . وقال الشاعر : بمحنية قد آزر الضال نبتها
مجر جيوش غانمين وخيب
القذف الرمي والإلقاء . الساحل شاطىء البحر وهو جانبه الخالي من الماء ، سمي بذلك لأن الماء يسحله أي يقشره فهو فاعل بمعنى مفعول . وقال أبو تمام : هو البحر من أي النواحي أتيته
فلجته المعروف والجود ساحله
) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الاْرْضَ وَالسَّمَاواتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ).
هذه السورة مكية بلا خلاف ، كان عليه السلام يراوح بين قدميه يقوم على رجل فنزلت قاله عليّ . وقال الضحاك : صلّى عليه السلام هو وأصحابه فأطال القيام لما أنزل عليه القرآن ، فقالت قريش : ما أنزل عليه إلاّ ليشقى . وقال مقاتل : قال أبو جهل والنضر والمطعم : إنك لتشقى بترك دينناً فنزلت . ومناسبة هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما ذكر تيسير القرآن بلسان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أي بلغته وكان فيما علل به قوله ) لِتُبَشّر

" صفحة رقم 212 "
َ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ( أكد ذلك بقوله ) مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَى ( والتذكرة هي البشارة والنذارة ، وإن ما ادعاه المشركون من إنزاله للشقاء ليس كذلك بل إنما نزل تذكرة ، والظاهر أن طه من الحروف المقطعة نحو : يس وألر وما أشبههما ، وتقدم الكلام على ذلك في أول البقرة . وعن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة : معنى ) طه ( يا رجل . فقيل بالنبطية . وقيل بالحبشية . وقيل بالعبرانية . وقيل لغة يمنية في عك . وقيل في عكل . وقال الكلبي : لو قلت في عك يا رجل لم يجب حتى تقول ) طه ). وقال السدّي معنى ) طه ( يا فلان . وأنشد الطبري في معنى يا رجل في لغة عك قول شاعرهم : دعوت بطه في القتال فلم يجب
فخفت عليه أن يكون موائلاً وقول الآخر
إن السفاهة طه من خلائقكملا بارك الله في القوم الملاعين وقيل هو اسم من أسماء الرسول . وقيل : من أسماء الله . وقال الزمخشري : ولعل عكاً تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء فقالوا في يا طأ واختصروا هذا فاقتصروا على ها ، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفي في البيت المستشهد به .
إن السفاهة طه في خلائقكم
لا قدس الله أخلاق الملاعين
انتهى . وكان قد قدم أنه يقال إن طاها في لغة عك في معنى يا رجل ، ثم تخرص وحزر على عك بما لا يقوله نحوي هو أنهم قلبوا الياء طاء وهذا لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء ، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه . وقيل : طا فعل أمر وأصله طأ ، فخففت الهمزة بإبدالها ألفاً وها مفعول وهو ضمير الأرض ، أي طأ الأرض بقدميك ولا تراوح إذ كان يراوح حتى تورمت قدماه . وقرأت فرقة منهم الحسن وعكرمة وأبو حنيفة وورش في اختياره ) طه ). قيل : وأصله طأ فحذفت الهمزة بناء على قلبها في يطأ على حد لا هناك المرتع بُني الأمر عليه وأدخلت هاء السكت وأجري الوصل مجرى الوقف ، أو أصله طأ وأبدلت همزته هاء فقيل ) طه ). وقرأ الضحاك وعمرو بن فائد : طاوي .
طه : ( 2 ) ما أنزلنا عليك . . . . .
وقرأ طلحة ما نزل عليك بنون مضمومة وزاي مكسورة مشددة مبنياً للمفعول ) الْقُرْءانَ ( بالرفع . وقرأ الجمهور ) مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( ومعنى ) لِتَشْقَى ( لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ( والشقاء يجيء في معنى التعب ومنه المثل : أتعب من رائض مهر . وأشقى من رائض مهر . قال الزمخشري : أي ما عليك إلاّ أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعطة الحسنة انتهى . وقيل : أريد رد ما قاله أبو جهل وغيره مما تقدم ذكره في سبب النزول . و ) لِتَشْقَى ( و ) تَذْكِرَةٌ ( علة لقوله ) مَا أَنَزَلْنَا ( وتعدى في ) لِتَشْقَى ( باللام لاختلاف الفاعل إذ ضمير ) مَا أَنَزَلْنَا ( هو لله ، وضمير ) لِتَشْقَى ( للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولما اتحد الفاعل في ) أَنزَلْنَا ( و
طه : ( 3 ) إلا تذكرة لمن . . . . .
( تَذْكِرَةٌ ( إذ هو مصدر ذكر ، والمذكر هو الله وهو المنزل تعدى إليه الفعل فنصب على أن في اشتراط اتحاد الفاعل خلافا

" صفحة رقم 213 "
والجمهور يشترطونه .
وقال الزمخشري : فإن قلت : أما يجوز أن تقول : ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى كقوله ) أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ( قلت : بلى ولكنها نصبة طارئة كالنصبة في ) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( وأما النصبة في ) تَذْكِرَةٌ ( فهي كالتي في ضربت زيد لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها انتهى . وليس كون أن تشقى إذا حذف الجار منصوب متفقاً عليه بل في ذلك خلاف . أهو منصوب تعدى إليه الفعل بعد إسقاط الحرف أو مجرور بإسقاط الجار وإبقاء عمله ؟
وقال ابن عطية : ) إِلاَّ تَذْكِرَةً ( يصح أن ينصب على البدل من موضع ) لِتَشْقَى ( ويصح أن ينصب بإضمار فعل تقديره لكن أنزلناه تذكرة انتهى . وقد ردّ الزمخشري تخريج ابن عطية الأول فقال : فإن قلت : هل يجوز أن يكون ) تَذْكِرَةٌ ( بدلاً من محل ) لِتَشْقَى ( ؟ قلت : لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلاّ فيه بمعنى لكن انتهى . ويعني باختلاف الجنسين أن نصب ) تَذْكِرَةٌ ( نصبة صحيحة ليست بعارضة والنصبة التي تكون في ) لِتَشْقَى ( بعد نزع الخافض نصبة عارضة والذي نقول أنه ليس له محل البتة فيتوهم البدل منه .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى ) إِنَّا أَنزَلْنَا ( إليك ) الْقُرْءانَ ( لتحمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة و ) مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ( هذا المتعب الشاق ) إِلا ( ليكون ) تَذْكِرَةٌ ( وعلى هذا الوجه يجوز أن كيون ) تَذْكِرَةٌ ( حالاً ومفعولاً له ) لّمَن يَخْشَى ( لمن يؤول أمره إلى الخشية انتهى . وهذا معنى متكلف بعيد من اللفظ وكون ) إِلاَّ تَذْكِرَةً ( بدل من محل ) لِتَشْقَى ( هو قول الزجاج . وقال النحاس : هذا وجه بعيد وأنكره أبو عليّ من قبل أن التذكرة ليست بشقاء . وقال الحوفي : ويجوز أن يكون ) تَذْكِرَةٌ ( بدلاً من ) الْقُرْءانَ ( ويكون ) الْقُرْءانَ ( هو ) التَّذْكِرَةِ ( وأجاز هو وأبو البقاء أن يكون مصدراً أي لكن ذكرنا به ) تَذْكِرَةٌ ). قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون مفعولاً له لأنزلنا المذكور لأنه قد تعدى إلى مفعول وهو ) لِتَشْقَى ( ولا يتعدى إلى آخر من جنسه انتهى . والخشية باعثة على الإيمان والعمل الصالح .
طه : ( 4 ) تنزيلا ممن خلق . . . . .
وانتصب ) تَنْزِيلاً ( على أنه مصدر لفعل محذوف أي نزل ) تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق ). وقال الزمخشري : في نصب ) تَنْزِيلاً ( وجوه أن يكون بدلاً من ) تَذْكِرَةٌ ( إذا جعل حالاً لا إذا كان مفعولاً له ، لأن الشيء لا يعلل بنفسه ، وأن ينصب بنزل مضمراً ، وأن ينصب بأنزلنا لأن معنى ) مَا أَنَزَلْنَا ( ) إِلاَّ تَذْكِرَةً ( أنزلناه تذكرة ، وأن ينصب على المدح والاختصاص ، وأن ينصب بيخشى مفعولاً به أي أنزله الله ) تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَى ( تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين انتهى . والأحسن ما قدمناه أولاً من أنه منصوب بنزل مضمرة . وما ذكره الزمخشري من نصبه على غير ذلك متكلف أما الأول ففيه جعل ) تَذْكِرَةٌ ( و ) تَنْزِيلاً ( حالين وهما مصدران ، وجعل المصدر حالاً لا ينقاس ، وأيضاً فمدلول ) تَذْكِرَةٌ ( ليس مدلول ) تَنْزِيلاً ( ولا ) تَنْزِيلاً ( بعض ) تَذْكِرَةٌ ( فإن كان بدلاً فيكون بدل اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول لأن التنزيل مشتمل على التذكرة وغيرها . وأما قوله : لأن معنى ما أنزلناه إلاّ تذكرة أنزلناه تذكرة فليس كذلك لأن معنى الحصر يفوت في قوله أنزلناه تذكرة ، وأما نصبه على المدح فبعيد ، وأما نصبه بمن يخشى ففي غاية البعد لأن يخشى رأس آية وفاصل فلا يناسب أن يكون تنزيل مفعولاً بيخشى وقوله فيه وهو معنى حسن وإعراب بين عجمة وبعد عن إدراك الفصاحة .
وقرأ ابن أبي عبلة تنزيل رفعاً على إضمار هو ، وهذه القراءة تدل على عدم تعلق يخشى بتنزيل وأنه منقطع مما قبله فنصبه على إضمار نزل كما ذكرناه ، ومن الظاهر أنها

" صفحة رقم 214 "
متعلقة بتنزيل ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف . وفي قوله ) مّمَّنْ خَلَق ( تفخيم وتعظيم لشأن القرآن إذ هو منسوب تنزيله إلى من هذه أفعاله وصفاته ، وتحقير لمعبوداتهم وتعريض للنفوس على الفكر والنظر وكأن في قوله ) مّمَّنْ خَلَق ( التفات إذ فيها الخروج من ضمير التكلم وهو في ما أنزلناه إلى الغيبة وفيه عادة التفنن في الكلام وهو مما يحسن إذ لا يبقى على نظام واحد وجريان هذه الصفات على لفظ الغيبة والتفخيم بإسناد الإنزال إلى ضمير الواحد المعظم نفسه ، ثم إسناده إلى من اختص بصفات العظمة التي لم يشركه فيها أحد فحصل التعظيم من الوجهين .
وقال الزمخشري ويجوز أن يكون ) أَنزَلْنَا ( حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه انتهى . وهذا تجويز بعيد بل الظاهر أنه إخبار من الله تعالى عن نفسه . و ) الْعُلَى ( جمع العليا ووصف ) السَّمَاوَاتِ ( بالعُلَى دليل على عظم قدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علوها من غيره تعالى ،
طه : ( 5 ) الرحمن على العرش . . . . .
والظاهر رفع ) الرَّحْمَنُ ( على خبر مبتدأ محذوف تقديره هو ) الرَّحْمَنُ ). وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير المستتر في ) خُلِقَ ( انتهى . وأرى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه ، و ) الرَّحْمَنُ ( لا يمكن أن يحل محل الضمير لأن الضمير عائد على من الموصولة و ) خُلِقَ ( صلة ، والرابط هو الضمير فلا يحل محله الظاهر لعدم الرابط . وأجاز الزمخشري أن يكون رفع ) الرَّحْمَنُ ( على الابتداء قال يكون مبتدأ مشاراً بلامه إلى من خلق . وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ الرحمن بالكسر . قال الزمخشري : صفة لمن خلق يعني لمن الموصولة ومذهب الكوفيين أن الاسماء النواقص التي لا تتم إلاّ بصلاتها نحو من وما لا يجوز نعتها إلاّ الذي والتي فيجوز نعتهما ، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون ) الرَّحْمَنُ ( صفة لمن فالأحسن أن يكون ) الرَّحْمَنُ ( بدلاً من من ، وقد جرى ) الرَّحْمَنُ ( في القرآن مجرى العلم في ولايته العوامل . وعلى قراءة الجر يكون التقدير هو ) عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( وعلى قراءة الرفع إن كان بدلاً كما ذهب إليه ابن عطية فكذلك أو مبتدأ كما ذكره الزمخشري ففي موضع الخبر أو خبر مبتدأ كما هو الظاهر ، فكيون ) الرَّحْمَنُ ( والجملة خبرين عن هو المضمر . وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في الأعراف .
وما روي عن ابن عباس من الوقف على قوله ) عَلَى الْعَرْشِ ( ثم يقرأ ) اسْتَوَى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ( على أن يكون فاعلاً لاستوى لا يصح إن شاء الله .
طه : ( 6 ) له ما في . . . . .
ولما ذكر تعالى أنه اخترع السموات والأرض وأنه استوى على العرش ذكر أنه تعالى ) لَهُ ( ملك جميع ) مَا ( حوت ) السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ( أي تحت الأرض السابعة قاله ابن عباس ومحمد بن كعب . وعن السدّي : هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة . وقيل : ) مَا تَحْتَ الثَّرَى ( ما هو في باطن الأرض فيكون ذلك توكيداً لقوله ) وَمَا فِى الاْرْضِ ( إلاّ إن كان المراد بفي الأرض ما هو عليها فلا يكون توكيداً . وقيل : المعنى أن علمه تعالى محيط بجميع ذلك لأنه منشئه فعلى هذا يكون التقدير ) لَهُ ( علم ) مَا فِي السَّمَاوَاتِ ).
ولما ذكر تعالى أولاً إنشاء السموات والأرض وذكر أن جميع ذلك وما فيهما ملكه
طه : ( 7 ) وإن تجهر بالقول . . . . .
ذكر تعالى صفة العلم وأن علمه لا يغيب عنه شيء والخطاب بقوله : ) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ ( للرسول ظاهر أو المراد أمته ، ولما كان خطاب الناس لا يتأتى إلاّ بالجهر بالكلام جاء الشرط بالجهر وعلق على الجهر علمه بالسر لأن علمه بالسر يتضمن علمه بالجهر ، أي إذا كان يعلم السر فأحرى أن يعلم الجهر والسر مقابل للجهر كما قال ) يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ( والظاهر أن ) أُخْفِىَ ( أفعل تفضيل أي ) وَأَخْفَى ( من السر .
قال ابن عباس : ) السّرَّ ( ما تسره إلى غيرك ، والأخفى ما تخفيه في نفسك وقاله الفراء . وعن ابن عباس أيضاً ) السّرَّ ( ما أسره في نفسه ، والأخفى ما خفي عنه مما هو فاعله وهو لا يعلمه . وعن قتادة : قريب من هذا . وقال مجاهد : ) السّرَّ ( ما تخفيه من الناس ) وَأَخْفَى ( منه الوسوسة . وقال ابن زيد ) السّرَّ ( سر الخلائق ) وَأَخْفَى ( منه سره تعالى وأنكر ذلك الطبري . وقيل : ) السّرَّ ( العزيمة ) وَأَخْفَى ( منه ما لم يخطر على

" صفحة رقم 215 "
القلب ، وذهب بعض السلف إلى أن قوله ) وَأَخْفَى ( هو فعل ماض لا أفعل تفضيل أي ) يَعْلَمْ ( أسرار العباد ) وَأَخْفَى ( عنهم ما يعلمه هو كقوله ) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ ( وقوله ) وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ). قال ابن عطية : وهو ضعيف .
وقال الزمخشري : وليس بذلك قال : فإن قلت : كيف طابق الجزاء الشرط ؟ قلت : معناه إن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك فإما أن يكون نهياً عن الجهر كقوله ) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ( وإما تعليماً للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر انتهى .
طه : ( 8 ) الله لا إله . . . . .
والجلالة مبتدأ و ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( الخبر و ) لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( خبر ثان ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل من ذا الذي يعلم السر وأخفى ؟ فقيل : هو ) اللَّهِ ( و ) الْحُسْنَى ( تأنيث الأحسن وصفة المؤنثة المفردة تجري على جمع التكسير ، وحسن ذلك كونها وقعت فاصلة والأحسنية كونها تضمنت المعاني التي هي في غاية الحسن من التقديس والتعظيم والربوبية ، والأفعال التي لا يمكن صدورها إلاّ منه ، وذكروا أن هذه ) الاْسْمَاء ( هي التي قال فيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن لله تسعاً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ) . وذكرها الترمذي مسندة .
( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لاِهْلِهِ نَاراً فَقَالَ لاِهْلِهِ امْكُثُواْ إِنّىءانَسْتُ نَاراً لَّعَلّى اتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يامُوسَى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَاهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواةَ لِذِكْرِى إِنَّ السَّاعَةَ ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاْولَى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء ءايَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ).
طه : ( 9 ) وهل أتاك حديث . . . . .
ولما ذكر تعالى تعظيم كتابه وتضمن تعظيم رسوله أتبعه بقصة موسى ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد ، كما قال تعالى ) وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ( فقال تعالى : ) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ( وهذا استفهام تقرير يحث على الإصغاء لما يلقى إليه وعلى التأسي . وقيل : ) هَلُ ( بمعنى قد أي قد ) ءاتَاكَ ( ، والظاهر خلاف هذا لأن السورة مكية . والظاهر أنه لم يكن أطلعه على قصة موسى قبل هذا . وقيل : إنه استفهام معناه النفي أي ما أخبرناك قبل هذه السورة بقصة موسى ، ونحن الآن قاصون قصته لتتسلى وتتأسى وكان من حديثه أنه عليه السلام لما قضى أكمل الأجلين استأذن شعيباً في الرجوع من مدين إلى مصر لزيارة والدته وأخته فأذن له ، وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره ، فخرج بأهله وماله وكان في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام ، وامرأته حامل فلا يدري أليلاً تضع أم نهاراً ، فسار في البرية لا يعرف طرقها ، فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد ، وأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فلم يور . قيل : كان رجلاً غيوراً يصحب الرفقة ليلاً ويفارقهم نهار لئلا ترى امرأته ، فأضل الطريق .
قال وهب : ولد له ابن في الطريق
طه : ( 10 ) إذ رأى نارا . . . . .
ولما صلد زنده ) رَأَى نَاراً ). والظاهر أن ) إِذْ ( ظرف للحديث لأنه حدث . وأجاز الزمخشري أن تكون ظرفاً لمضمر أي ) نَارًا ( كان كيت وكيت ، وأن تكون مفعولاً لأذكر ) امْكُثُواْ ( أي أقيموا في مكانكم ، وخاطب امرأته وولديه والخادم . وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية ) لاِهْلِهِ امْكُثُواْ ( بضم الهاء وكذا في القصص والجمهور بكسرها ) إِنّى آنَسْتُ ( أي أحسست ، والنار على بعد لا تحس إلاّ بالبصر فلذلك فسره بعضهم برأيت ، والإيناس أعم من الرؤية لأنك تقول

" صفحة رقم 216 "
) آنَسْتُ ( من فلان خيراً . وقال الزمخشري : الإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم . وقيل : هو إبصار ما يؤنس به لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعاً متيقناً حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم . ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع ، وقال : لعل ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما ليس يستيقن الوفاء به انتهى . والظاهر أنه رأى نوراً حقيقة .
وقال الماوردي : كانت عند موسى ) نَارًا ( وكانت عند الله نوراً . قيل : وخيِّل له أنه نار . قيل : ولا يجوز هذا لأن الإخبار بغير المطابق لا يجوز على الانبياء عليهم الصلاة والسلام . ولفظة على ههنا على بابها من الاستعلاء ، ومعناه إن أهل النار يستعلون المكان القريب منها ، أو لأن المصطلين بها والمستمتعين إذا تكنفوها قياماً وقعوداً كانوا مشرفين عليها ومنه قول الأعشى .
ويات على النار الندى والمحلق
وقال ابن الأنباري : على بمعنى عند وبمعنى مع وبمعنى الباء ، وذكر الزجاج أنه ضل عن الماء فترجى أن يلقى من يهديه الطريق أو يدله على الماء ، وانتصب ) هُدًى ( على أنه مفعول به على تقدير محذوف أي ذا ) هُدًى ( أو على تقدير حذف لأنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدى هدى الطريق . وقيل : ) هُدًى ( في الدين قاله مجاهد وقتادة وهو بعيد ، وهو وإن كان طلب من يهديه الطريق فقد وجد الهدى على الإطلاق .
طه : ( 11 ) فلما أتاها نودي . . . . .
والضمير في ) أَتَاهَا ( عائد على النار أتاها فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة عناب قاله ابن عباس . وقيل : سمرة قاله عبد الله . وقيل : عوسج قاله وهب . وقيل : عليقة عن قتادة ومقاتل والكلبي وكان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبر اتبعته ، فأيقن أن هذا أمر من أمور الله الخارقة للعادة ، ووقف متحيراً وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة و ) نُودِىَ ( وهو تكليم الله إياه .
طه : ( 12 ) إني أنا ربك . . . . .
وقرأ الجمهور : ) إِنّى ( بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين ، وعلى معاملة النداء معاملة القول لأنه ضرب منه على مذهب الكوفيين . و ) أَنَاْ ( مبتدأ أو فصل أو توكيد لضمير النصب ، وفي هذه الأعاريب حصل التركيب لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة . وقرأ ابن كثير وأبو عمر : وأني بفتح الهمزة والظاهر أن التقدير بأني ) أَنَاْ رَبُّكَ ). وقال ابن عطية : على معنى لأجل ) إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ( و ) نُودِىَ ( قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو عليّ : ناديت باسم ربيعة بن مكدم
إن المنوّه باسمه الموثوق
انتهى . وعلمه بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقاً منه تعالى فيه أو بالاستدلال بالمعجزة ، وعند المعتزلة لا يكون ذلك إلاّ بالمعجز فمنهم من عينه ومنهم من قال : لا يلزم أن يعرف ما ذلك المعجز قالوا : ولا يجوز أن يكون ذلك بالعلم الضروري لأنه ينافي في التكليف ، والظاهر أن أمره تعالى إياه بخلع النعلين لعظم الحال التي حصل فيها كما يخلع عند الملوك غاية في التواضع . وقيل : كانتا من جلد حمار ميت فأمر بطرحهما لنجاستهما . وفي الترمذي عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف ، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت ) . قال : هذا حديث غريب ، والكمة القلنسوة الصغيرة وكونهما من جلد حمار ميت غير مدبوغ قول عكرمة وقتادة والسدّي ومقاتل والكلبي والضحاك . وقيل : كانتا من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعهما البيان بركة الوادي المقدس ، وتمس

" صفحة رقم 217 "
قدماه تربته وروى أنه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي . و ) الْمُقَدَّسِ ( المطهر و ) طُوًى ( اسم علم عليه فيكون بدلاً أو عطف بيان .
وقرأ الحسن والأعمش وأبو حيوة وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن محيص بكسر الطاء منوناً . وقرأ الكوفيون وابن عامر بضمها منوناً . وقرأ الحرميان وأبو عمرو بضمها غير منون . وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون . وقرأ عيس بن عمر والضحاك طاوى أذهب فمن نون فعلى تأويل المكان ، ومن لم ينون وضم الطاء فيحتمل أن يكون معدولاً عن فعل نحو زفر وقثم ، أو أعجمياً أو على معنى البقعة ، ومن كسر ولم ينون فمنع الصرف باعتبار البقعة . وقال الحسن : ) طُوًى ( بكسر الطاء والتنوين مصدر ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين فهو بوزن الثناء وبمعناه وذلك لأن الثنا بالكسر والقصر الشيء الذي تكرره ، فكذلك الطوى على هذه القراءة . وقال قطرب ) طُوًى ( من الليل أي ساعة أي قدس لك في ساعة من الليل لأنه نودي بالليل ، فلحق الوادي تقديس محدد أي ) إِنَّكَ إِذْ نَادَاهُ ( ليلاً .
طه : ( 13 ) وأنا اخترتك فاستمع . . . . .
قرأ طلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وخلف في اختياره وأما بفتح الهمزة وشد النون اخترناك بنون العظمة .
وقرأ السلمي وابن هرمز والأعمش في رواية ) وَأَنَا ( والألف عطفاً على ) إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ ( لأنهم كسروا ذلك أيضاً ، والجمهور ) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ( بضمير المتكلم المفرد غير المعظم نفسه . وقرأ أُبَيّ وأني بفتح الهمزة وياء المتكلم ) اخْتَرْتُكَ ( بتاء عطفاً على ) إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ ( ومفعول ) اخْتَرْتُكَ ( الثاني المتعدي إليه بمن محذوف تقديره من قومك . والظاهر أن ) لِمَا يُوحَى ( من صلة استمع وما بمعنى الذي .
وقال الزمخشري وغيره : ) لَّمّاً يُوحِى ( للذي يوحى أو للوحي ، فعلق اللام باستمع أو باخترتك انتهى . ولا يجوز التعليق باخترتك لأنه من باب الأعمال فيجب أو يختار إعادة الضمير مع الثاني ، فكان يكون فاستمع له لما يوحى فدل على أنه إعمال الثاني .
وقال أبو الفضل الجوهري : لما قيل لموسى صلوات الله على نبينا وعليه استمع لما يوحى وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره ، ووقف ليستمع وكان كل لباسه صوفاً . وقال وهب : أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر والإصغاء بالسمع وحضور العقل والعزم على العمل ، وذلك هو الاستماع لما يحب الله وحذف الفاعل في ) يُوحَى ( للعلم به ويحسنه كونه فاصلة ، فلو كان مبنياً للفاعل لم يكن فاصلة
طه : ( 14 ) إنني أنا الله . . . . .
والموحى قوله ) إِنّى أَنَا اللَّهُ ( إلى آخره معناه وحّدني كقوله تعالى ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( إلى آخر الجمل جاء ذلك تبييناً وتفسيراً للإبهام في قوله ) لِمَا يُوحَى ). وقال المفسرون ) فَاعْبُدْنِى ( هنا وحدني كقوله تعالى ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( معناه ليوحدون ، والأولى أن يكون ) فَاعْبُدْنِى ( لفظ يتناول ما كلفه به من العبادة ، ثم عطف عليه ما هو قد يدخل تحت ذلك المطلق فبدأ بالضلالة إذ هي أفضل الأعمال وأنفعها في الآخرة ، والذكر مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي ليذكرني فإن ذكري أن اعبدو يصلي لي أو ليذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، ويحتمل أن تضاف إلى المفعول أي لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق ، أو لأن تذكرني خاصة لا تشو به بذكر غيري أو خلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر ، أو لتكون لي ذاكراً غير ناسٍ فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على ابل منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به كما قال ) لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة لقوله ) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً ( واللام على هذا القول مثلها في قوله ) أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها من قوله عليه الصلاة والسلام : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) .
قال الزمخشري : وكان حق العبادة أن يقال لذكرها كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) )

" صفحة رقم 218 "
: ( إذا ذكرها ) . ومن يتمحل له يقول : إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله ، أو بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي أو لأن الذكر والنسيان من الله عز وجل في الحقيقة انتهى . وفي الحديث بعد قوله : ( فليصلها إذا ذكرها ) قوله ( إذ لا كفارة لها إلاّ ذلك ) ثم قرأ ) يُوحَى إِنَّنِى أَنَا ). وقرأ السلمي والنخعي وأبو رجاء : للذكري بلام التعريف وألف التأنيث ، فالذكرى بمعنى التذكرة أي لتذكيري إياك إذا ذكرتك بعد نسيانك فأقمها . وقرأت فرقة لِذِكْرَى بألف التأنيث بغير لام التعريف . وقرأت فرقة : للذكر .
ولما ذكر تعالى الأمر بالعبادة وإقامة الصلاة ذكر الحامل على ذلك وهو البعث والمعاد للجزاء
طه : ( 15 ) إن الساعة آتية . . . . .
فقال ) إِنَّ السَّاعَةَ ءاتِيَةٌ ( وهي التي يظهر عندها ما عمله الإنسان وجزاء ذلك إما ثواباً وإما عقاباً . وقرأ أبو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد أَخْفِيها بفتح الهمزة ورويت عن ابن كثير وعاصم بمعنى أظهرها أي إنها من صحة وقوعها وتيقن كونها تكاد تظهر ، ولكن تأخرت إلى الأجل المعلوم وتقول العرب : خفيت الشيء أي أظهرته . وقال الشاعر : خفاهن من إيقانهن كأنما
خفاهن ودق من عشي مجلب
وقال آخر فإن تدفنوا الداء لا نخفه
وإن توقدوا الحرب لا نقعد
ولام ) لِتُجْزَى ( على هذه القراءة متعلقة بأخفيها أي أظهرها ) لِتُجْزَى ( كل نفس . وقرأ الجمهور ) أُخْفِيهَا ( بضم الهمزة وهو مضارع أخفي بمعنى ستر ، والهمزة هنا للإزالة أي أزلت الخفاء وهو الظهور ، وإذا أزلت الظهور صار للستر كقولك : أعجمت الكتاب أزلت عنه العجمة . وقال أبو علي : هذا من باب السلب ومعناه ، أزيل عنها خفاءها وهو سترها ، واللام على قراءة الجمهور . قال صاحب اللوامح متعلقة بآتية كأنه قال ) إِنَّ السَّاعَةَ ءاتِيَةٌ ( لنجزي انتهى ، ولا يتم ذلك إلاّ إذا قدرنا ) أَكَادُ أُخْفِيهَا ( جملة اعتراضية ، فإن جعلتها في موضع الصفة لآتية فلا يجوز ذلك على رأي البصريين لأن أسم الفاعل لا يعمل إذا وصف قبل أخذ معموله . وقيل : ) أُخْفِيهَا ( بضم الهمزة بمعنى أظهرها فتتحد القراءتان ، وأخفى من الأضداد بمعنى الإظهار وبمعنى الستر . قال أبو عبيدة : خفيت وأخفيت بمعنى واحد وقد حكاه أبو الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا شك في صدقه و ) أَكَادُ ( من أفعال المقاربة لكنها مجاز هنا ، ولما كانت الآية عبارة عن شدة إخفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ في إبهام وقتها فقال ) أَكَادُ أُخْفِيهَا ( حتى لا تظهر ألبتة ، ولكن لا بد من ظهورها . وقالت فرقة ) أَكَادُ ( بمعنى أريد ، فالمعنى أريد إخفاءها وقاله الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم . قال أبو مسلم : ومن أمثالهم لا أفعل ذلك : ولا أكاد أي لا أريد أن أفعله . وقالت فرقة : خبر كاد محذوف تقديره ) أَكَادُ ( أتى بها لقربها وصحة وقوعها كما حذف في قول صابيء البرجمي : هممت ولم أفعل وكذت وليتني
تركت على عثمان تبكي حلائله
أي وكدت أفعل . وتم الكلام ثم استأنف الإخبار بأنه يخفيها واختاره النحاس . وقالت فرقة : معناه ) أَكَادُ أُخْفِيهَا ( من نفسي إشارة إلى شدة غموضها عن المخلوقين وهو مروي عن ابن عباس .
ولما رأى بعضهم قلق هذا القول قال معنى من نفسي : من تلقائي ومن عندي . وقالت فرقة ) أَكَادُ ( زائدة لا دخول لها في المعنى بل الإخبار أن الساعة آتية

" صفحة رقم 219 "
وأن الله يخفي وقت إتيانها ، وروي هذا المعنى عن ابن جبير ، واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى ) لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ( وبقول الشاعر وهو زيد الخيل : سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
فما إن يكاد قرنه يتنفس
وبقول الآخر وأن لا ألوم النفس مما أصابني
وأن لا أكاد بالذي نلت أنجح ولا حجة في شيء من هذا . وقال الزمخشري : ) أَكَادُ أُخْفِيهَا ( فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها ، ولو لا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به . وقيل : معناه ) أَكَادُ أُخْفِيهَا ( من نفسي ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف ، ومحذوف لا دليل عليه مطرح . والذي غزهم منه أن في مصحف أبي ) أَكَادُ أُخْفِيهَا ( من نفسي وفي بعض المصاحف ) أَكَادُ أُخْفِيهَا ( من نفسي فكيف أظهركم عليها انتهى . ورويت هذه الزيادة أى ضاً عن أُبَيّ ذكر ذلك ابن خالويه . وفي مصحف عبد الله ) أَكَادُ أُخْفِيهَا ( من نفسي فكيف يعلمها مخلوق . وفي بعض القراءات وكيف أظهرها لكم وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال : كذت أخفيه من نفسي ، والله تعالى لا يخفى عليه شيء قال معناه قطرب وغيره . وقال الشاعر :
أيام تصحبني هند وأخبرهاما كدت أكتمه عني من الخبر وكيف يكتم من نفسه ومن نحو هذا من المبالغة ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، والضمير في ) أُخْفِيهَا ( عائد على ) السَّاعَةَ ( و ) السَّاعَةَ ( يوم القيامة بلا خلاف ، والسعي هنا العمل .
طه : ( 16 ) فلا يصدنك عنها . . . . .
والظاهر أن الضمير في ) عَنْهَا ( و ) بِهَا ( عائد على الساعة . وقيل : على الصلاة . وقيل ) عَنْهَا ( عن الصلاة و ) بِهَا ( أي بالساعة ، وأبعد جداً من ذهب إلى أن الضمير في ) عَنْهَا ( يعود على ما تقدم من كلمة ) لا إِلَاهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى ).
والظاهر أن الخطاب في ) فَلا ( لموسى عليه السلام ، ولا يلزم من النهي عن الشيء إمكان وقوعه ممن سبقت له العصمة ، فينبغي أن يكون لفظاً وللسامع غيره ممن يمكن وقوع ذلك منه ، وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) لفظاً ولأمته معنى .
وقال الزمخشري : فإن قلت : العبارة أنهى من لا يؤمن عن صدّ موسى ، والمقصود نهي موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق ؟ قلت : فيه وجهان .
أحدهما : أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب ، فذكر السبب ليدل على المسبب .
والثاني : أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته ، فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك هاهنا . المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته وذلك سبب رؤيته إياه ، فكان ذكر المسبب دليلاً على السبب كأنه قيل : فكن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه ) هَوَاهُ فَتَرْدَى ( يجوز أن يكون منصوباً على جواز النهي وأن يكون مرفوعاً أي فأنت تردى . وقرأ يحيى فَتِردى بكسر التاء .
طه : ( 17 ) وما تلك بيمينك . . . . .
( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ( هو تقرير مضمنه التنبيه ، وجمع النفس لما يورد عليها وقد علم تعالى في الأزل ما هي وإنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وجل في الخشبة

" صفحة رقم 220 "
اليابسة من قلبها حية نضناضة ، ويتقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه ، وينبهه على قدرته الباهرة و ) مَا ( استفهام مبتدأ و ) تِلْكَ ( خبره و ) يَمِينِكَ ( في موضع الحال كقوله ) وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا ( والعامل اسم الإشارة . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون ) تِلْكَ ( أسماً موصولاً صلته بيمينك ، ولم يذكر ابن عطية غيره وليس ذلك مذهباً للبصريين وإنما ذهب إليه الكوفيون ، قالوا : يجوز أن يكون اسم الإشارة موصولاً حيث يتقدر بالموصول كأنه قيل : وما التي بيمينك ؟ وعلى هذا فيكون العامل في المجرور محذوفاً كأنه قيل : وما التي استقرت بيمينك ؟ وفي هذا السؤال وما قبله من خطابه تعالى لموسى عليه السلام استئناس عظيم وتشريف كريم .
طه : ( 18 ) قال هي عصاي . . . . .
( قَالَ هِىَ عَصَاىَ ). وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري عصَيّ بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم . وقرأ الحسن عَصَايِ بكسر الياء وهي مروية عن ابن أبي إسحاق أيضاً وأبي عمرو معاً ، وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين . وعن أبي إسحاق والجحدري عَصَايْ بسكون الياء . ) قَالَ هِىَ ( أي أتحامل عليها في المشي والوقوف ، وهذا زيادة في الجواب كما جاء ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) . في جواب من سأل أيتوضأ بماء البحر ؟ وكما جاء في جواب ألهذا حج ؟ قال : ( نعم ولك أجر ) . وحكمة زيادة موسى عليه السلام رغبته في مطاولة مناجاته لربه تعالى ، وازدياد لذاذته بذلك كما قال الشاعر : وأملي عتاباً يستطاب فليتني
أطلت ذنوباً كي يطول عتابه
وتعداده نعمه تعالى عليه بما جعل له فيها من المنافع ، وتضمنت هذه الزيادة تفصيلاً في قوله ) قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ ( وإجمالاً في قوله ) وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى ). وقيل : ) قَالَ هِىَ ( جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال ) هِىَ عَصَاىَ ( قال له تعالى فما تصنع بها ؟ قال : ) قَالَ هِىَ ( الآية . وقيل : سأله تعالى عن شيئين عن العصا بقوله ) وَمَا تِلْكَ ( وبقوله ) بِيَمِينِكَ ( عما يملكه ، فأجابه عن ) وَمَا تِلْكَ ( ؟ بقوله ) هِىَ عَصَاىَ ( وعن قوله ) بِيَمِينِكَ ( بقوله ) قَالَ هِىَ عَصَاىَ ( إلى آخره انتهى . وفي التحقيق ليس قوله ) بِيَمِينِكَ ( بسؤال وقدم في الجواب مصلحة نفسه في قوله ) قَالَ هِىَ ( ثم ثنى بمصلحة رعيته في قوله ) وَأَهُشُّ ).
وقرأ الجمهور ) وَأَهُهُّ ( بضم الهاء والشين المعجمة ، والنخعي بكسرها كذا ذكر أبو الفضل الرازي وابن عطية وهي بمعنى المضمومة الهاء والمفعول محذوف وهو الورق . قال أبو الفضل : ويحتمل ذلك أن يكون من هش يهش هشاشة إذا مال ، أي أميل بها على غنمي بما أصلحها من السوق وتكسير العلف ونحوهما ، يقال منه : هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولأن انتهى . وقرأ الحسن وعكرمة : وأَهُسُّ بضم الهاء والسين غير معجمة ، والهس السوق ومن ذلك الهس والهساس غير معجمة في الصفات . ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ وأَهُسُّ بضم الهمزة من أهس رباعياً وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة ومجاهد وأَهُهُّ بضم الهاء وتخفيف الشين قال : ولا أعرف وجهه إلاّ أن يكون بمعنى العامة لكن فرّ من قراءته من التضعيف لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي . فيكون كتخفيف ظلت ونحوه . وذكر الزمخشري عن النخعي أنه قرأ ) عَلَيْهَا وَأَهُشُّ ( بضم الهمزة والشين المعجمة من أهش رباعياً قال : وكلاهما من هش الخبز يهش إذا كان يتكسر لهشاشته . ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال ما هي إلاّ عصا لا تنفع إلاّ منافع بنات جنسها كما ينفع العيدان ليكون جوابه مطابقاً

" صفحة رقم 221 "
للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه ، ويجوز أن يريد عز وجل أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة كأنه يقول أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة . كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها وقالوا اسم العصا نبعة انتهى .
وقرأت فرقة ) غَنَمِى ( بسكون النون وفرقة عليّ غنمي بإيقاع الفعل على الغنم . والمآرب ذكر المفسرون أنها كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين ، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب ، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل ، وإذا قصر رشاؤه وصل بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه .
وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً وتكونان شمعتين بالليل ، وإذا ظهر عدو حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب . وكانت تقيه الهوامّ ويردّ بها غنمه وإن بعد واو هذه العصا أخذها من بيت عصي الأنبياء التي كانت عند شعيب حين اتفقا على الرعية هبط بها آدم من الجنة وطولها عشرة أذرع ، وقيل : اثنتا عشرة بذراع موسى عليه السلام وعامل المآرب وإن كان جمعاً معاملة الواحدة المؤنثة فأتبعها صفتها في قوله أخرى ولم يقل آخر رعياً للفواصل وهي جائز في غير الفواصل . وكان أجود وأحسن في الفواصل .
وقرأ الزهري وشيبة : مارب بغير همز كذا قال الأهوازي في كتاب الإقناع في القراءات ويعني والله أعلم بغير هم محقق ، وكأنه يعني أنهما سهلاها بين بين .
طه : ( 19 ) قال ألقها يا . . . . .
( قَالَ أَلْقِهَا ( الظاهر أن القائل هو الله تعالى ، ويبعد قول من قال يجوز أن يكون القائل الملك بإذن الله ومعنى ) أَلْقَاهَا ( اطرحها على الأرض ومنه قول الشاعر :
فألقت عصاها واستقر بها النوى
طه : ( 20 ) فألقاها فإذا هي . . . . .
وإذا هي التي للمفاجأة ، والحية تنطلق على الصغيرة والكبيرة والذكر والأنثى والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم منها ، ولا تنافي بين تشبيهها بالجان في قوله ) فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ( وبين كونها ثعباناً لأن تشبيهها بالجان هو في أول حالها ثم تزيدت حتى صارت ثعباناً أو شبهت بالجان وهي ثعبان في سرعة حركتها واهتزازها مع عظم خلقها . قيل : كان لها عرف كعرف الفرس وصارت شعبتا العصا لها فماً وبين لحييها أربعون ذراعاً .
وعن ابن عباس : انقلبت ثعباناً تبتلع الصخر والشجر والمجن عنقاً وعيناها تتقدان ، فلما رأى هذا الأمر العجيب الهائل لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف لا سيما هذا الأمر الذي يذهل العقول . ومعنى ) تَسْعَى ( تنتقل وتمشي بسرعة ، وحكمة انقلابها وقت مناجاته تأنيسه بهذا المعجز الهائل حتى يلقيها لفرعون فلا يلحقه ذعر منها في ذلك الوقت إذ قد جرت له بذلك عادة وتدريبه في تلقى تكاليف النبوّة ومشاق الرسالة ،
طه : ( 21 ) قال خذها ولا . . . . .
ثم أمره تعالى بالإقدام على أخذها ونهاه عن أن يخاف منها وذلك حين ولى مدبراً ولم يعقب . وقيل : إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها . وقيل : لما قال له الله ) لاَ تَخَفْ ( بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها ويبعد ما ذكره مكي في تفسيره أنه قيل له خذ مرة وثانية حتى قيل له ) خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاْولَى ( فأخذها في الثالثة لأن منصب النبوة لا يليق أن يأمره ربه مرة وثانية فلا يمتثل ما أمر به ، وحين أخذها بيده صارت عصا والسيرة من السير كالركبة والجلسة ، يقال : سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة . وقيل : سير الأولين . وقال الشاعر :

" صفحة رقم 222 "
فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها
فأول راض سيرة من يسيرها
واختلفوا في إعراب ) سِيَرتَهَا ( فقال الحوفي مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار مثل ) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( يعني إلى ) سِيَرتَهَا ( قال : ويجوز أن يكون بدلاً من مفعول ) سَنُعِيدُهَا ). وقال هذا الثاني أبو البقاء قال : بدل اشتمال أي صفتها وطريقتها . وقال الزمخشري : يجوز أن ينتصب على الظرف أي ) سَنُعِيدُهَا ( في طريقتها الأولى أي في حال ما كانت عصا انتهى . و ) سِيَرتَهَا ( وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلاّ بواسطة ، في ولا يجوز الحذف إلاّ في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون مفعولاً من عاده بمعنى عاد إليه . ومنه بيت زهير :
وعادك أن تلاقيها عداء
فيتعدى إلى مفعولين انتهى . وهذا هو الوجه الأول الذي ذكره الحوفي . قال : ووجه ثالث حسن وهو أن يكون ) سَنُعِيدُهَا ( مستقلاً بنفسه غير متعلق بسيرتها ، بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية ، فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولاً ونصب ) سِيَرتَهَا ( بفعل مضمر أي تسير ) سِيَرتَهَا الاْولَى ( يعني ) سَنُعِيدُهَا ( سائرة ) سِيَرتَهَا الاْولَى ( حيث كنت تتوكأ عليها ، ولك فيها المآرب التي عرفتها انتهى .
طه : ( 22 ) واضمم يدك إلى . . . . .
والجناح حقيقة في الطائر والملك ، ثم توسع فيه فأطلق على اليد وعلى العضد وعلى جنب الرجل . وقيل لمجنبتي العسكر جناحان على سبيل الاستعارة ، وسمي جناح الطائر لأنه يجنح به عند الطيران ، ولما كان المرغوب من ظلمة أو غيرها إذا ضم يده إلى جناحه فتر رغبة وربط جأشه أمره تعالى أن يضم يده إلى جناحه ليقوى جأشه ولتظهر له هذه الآية العظيمة في اليد . والمراد إلى جنبك تحت العضد . ولهذا قال ) تُخْرِجُ ( فلو لم يكن دخول لم يكن خروج كما قال في الآية الأخرى ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ ( وفي الكلام حذف إذ لا يترتب الخروج على الضم وإنما يترتب على الإخراج والتقدير ) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ( تنضم وأخرجها ) تُخْرِجُ ( فحذف من الأول وأبقى مقابله ، ومن الثاني وأبقى مقابله وهو ) اضمم ( لأنه بمعنى أدخل كما يبين في الآية الأخرى .
( جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء ( قيل خرجت بيضاء تشف وتضيء كأنها شمس ، وكان آدم اللون وانتصب ) بَيْضَاء ( على الحال والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة ، وكما كنوا عن جذيمة وكان أبرص بالأبرص والبرص أبغض شيء إلى العرب وطباعهم تنفر منه وأسماعهم تمج ذكره فكنى عنه . وقوله ) مِنْ غَيْرِ سُوء ( متعلق ببيضاء كأنه قال ابيضت ) مِنْ غَيْرِ سُوء ). وقال الحوفي : ) مِنْ غَيْرِ سُوء ( في موضع النعت لبيضاء ، والعامل فيه الاستقرار انتهى . ويقال له عند أرباب البيان الاحتراس لأنه لو اقتصر على قوله ) بَيْضَاء ( لأوهم أن ذلك من برص أو بهق . وانتصب ) ءايَةً ( على الحال وهذا على مذهب من يجيز تعداد الحال لذي حال واحد . وأجاز الزمخشري أن يكون منصوباً على إضمار خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام كذا قال ، فأما تقدير خذ فسائغ وأما دونك فلا يسوغ لأنه اسم فعل من باب الإغراء فلا يجوز أن يحذف النائب والمنوب عنه ولذلك لم يجر مجراه في جميع أحكامه ، وأجاز أبو البقاء والحوفي أن يكون ) ءايَةً ( بدلاً من ) بَيْضَاء ( وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير في ) بَيْضَاء ( أي تبيض ) ءايَةً ). وقيل منصوب بمحذوف تقديره

" صفحة رقم 223 "
جعلناها ) ءايَةً ( أو آتيناك ) ءايَةً ).
طه : ( 23 ) لنريك من آياتنا . . . . .
واللام في ) لِنُرِيَكَ ( قال الحوفي متعلقة باضمم ، ويجوز أن تتعلق بتخرج . وقال أبو البقاء : تتعلق بهذا المحذوف يعني المقدر جعلناها أو آتيناك ، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه ) ءايَةً ( أي دللنا بها ) لِنُرِيَكَ ). وقال الزمخشري : ) لِنُرِيَكَ ( أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض ) الْكُبْرَى اذْهَبْ ( أو ) لِنُرِيَكَ ( بهما ) الْكُبْرَى ( من ) ءايَاتِنَا ( أو ) لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى ( فعلنا ذلك ، وتهنى أنه جاز أن يكون مفعول ) لِنُرِيَكَ ( الثاني ) الْكُبْرَى ( أو يكون ) مِنْ ءايَاتِنَا ( في موضع المفعول الثاني . وتكون ) الْكُبْرَى ( صفة لآياتنا على حد ) الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( و ) مَأَرِبُ أُخْرَى ( بجريان مثل هذا الجمع مجرى الواحدة المؤنثة ، وأجاز هذين الوجهين من الإعراب الحوفي وابن عطية وأبو البقاء . والذي نختاره أن يكون ) مِنْ ءايَاتِنَا ( في موضع المفعول الثاني ، و ) الْكُبْرَى ( صفة لآياتنا لأنه يلزم من ذلك أن تكون إياته تعالى كلها هي الكبر لأن ما كان بعض الآيات الكبر صدق عليه أنه ) الْكُبْرَى ). وإذا جعلت ) الْكُبْرَى ( مفعولاً لم تتصف الآيات بالكبر لأنها هي المتصفة بأفعل التفضيل ، وأيضاً إذا جعلت ) الْكُبْرَى ( مفعولاً فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معاً لأنهما كان يلزم التثنية في وصفيهما فكان يكون التركيب الكبريين ولا يمكن أن يخص أحدهما لأن كلاً منهما فيها معنى التفضيل . ويبعد ما قال الحسن من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه ذكر عقيب اليد ) لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى ( لأنه جعل ) الْكُبْرَى ( مفعولاً ثانياً ) لِنُرِيَكَ ( وجعل ذلك راجعاً إلى الآية القريبة وهي إخراج اليد بيضاء من غير سوء وقد ضعف قوله هذا لأنه ليس في اليد إلاّ تغيير اللون ، وأما العصا ففيها تغيير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الشجر والحجر ، ثم عادت عصا بعد ذلك فقد وقع التغيير مراراً فكانت أعظم من اليد .
طه : ( 24 ) اذهب إلى فرعون . . . . .
وملا أراه تعالى هاتين المعجزتين العظيمتين في نفسه وفيما يلابسه وهو العصا أمره بالذهاب إلى فرعون رسولاً من عنده تعالى وعللك حكمة الذهاب إليه بقوله ) إِنَّهُ طَغَى ( وخص فرعون وإن كان مبعوثاً إليهم كلهم لأنه رأس الكفر ومدعّي الإلهية وقومه تباعه . قال وهب بن منبه : قال الله لموسى عليه السلام اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي أرعاك بعيني وسمعي ، وإن معك يدي ونصري ، وألبسك جنة من سلطاني تستكمل بها العزة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي ، أقسم بعزتي لولا الحجة والقدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ، ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي . وقل له قولاً ليناً فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلاّ بعلمي في كلام طويل . قال : فسكت موسى عليه السلام سبعة أيام . وقيل : أكثر فجاءه ملك فقال انفذ ما أمرك ربك .
( قَالَ رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسّرْ لِى أَمْرِى وَاحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي وَاجْعَل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هَارُونَ أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى كَىْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى ). ( سقط ولتصنع على عيني ، إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتنالك فتونا فلبث سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى ، واصطنعتك لنفسي )

" صفحة رقم 224 "
طه : ( 25 ) قال رب اشرح . . . . .
لما أمره تعالى بالذهاب إلى فرعون عرف أنه كلف أمراً عظيماً يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلاّ ذو جأش رابط وصدر فسيح ، فسأل ربه ورغب في أن يشرح صدره ليحتمل ما يرد عليه من الشدائد التي يضيق لها الصدر ، وأن يسهل عليه أمره للذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة جلائل الخطوب ، وقد علم ما عليه فرعون من الجبروت والتمرد والتسلط . وقال ابن جريج : معناه وسع لي صدري لأعي عنك ما تودعه من وحيك . وقال الكرماني وسع قلبي ولينه لفهم خطابك وأداء رسالتك . والقيام بما كلفتنيه من أعبائها ، والعقدة استعارة لثقل كان في لسانه خلقة .
وقال مجاهد : كانت من الجمرة التي أدخلها فاه وكانت آسية قد ألقى الله محبته في قلبها وسألت فرعون أن لا يذبحه ، فبيناهي ترقصه يوماً أخذه فرعون في حجره فأخذ خصلة من لحيته . وقيل : لطمه . وقيل : ضربه بقضيب كان في يده فغضب فرعون فدعاء بالسياف فقالت : إنما هو صبي لا يفرق بين الياقوت والجمر . فاحضرا وأراد أن يمد يده إلى الياقوت فحول جبريل عليه السلام يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فاحترق لسانه انتهى وإحراق النار وتأثيرها في لسانه لا في يده دليل على فساد قول القائلين بالطبيعة . وعن ابن عباس كانت في لسانه رثت . وقيل : حدثت العقدة بعد المناجاة حتى لا يكلم أحد بعدها . وقال قطرب : كانت فيه مسكة عن الكلام . وقال ابن عيسى : العقدة كالتمتمة والفأفأة . وطلب موسى من حل العقدة قدر ما يفقه قوله ، قيل : وبقي بعضها لقوله وأخي هارون هو أفصح مني لسان وقوله ولا يكاد يبين . وقيل : زالت لقوله ) قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى ( وهو قول الحسن ، قيل : وهو ضعيف لأنه لم يقل واحلل العقدة بل قال ) عُقْدَةَ ( فإذا حل عقدة فقد آتاه الله سؤله . وقيل في قوله ولا يكاد يبين أن معناه لا يأتي ببيان وحجة ، وإنما قال ذلك فرعون تمويهاً وقد خاطبه وقومه وكانوا يفهمون عنه فكيف يمكن نفي البيان أو مقاربته ؟ .
وقال الزمخشري : فإن قلت : لي في قوله ) اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسّرْ لِى أَمْرِى ( ما جدواه والكلام بدون مستتب ؟ قلت : قد أبهم الكلام أولاً فقال ) اشْرَحْ لِى (
طه : ( 26 ) ويسر لي أمري
) وَيَسّرْ لِى ( فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً ثم بين ورفع الإبهام فذكرهما فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره ، وأمره من أن يقول اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الشارح لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل .
طه : ( 27 ) واحلل عقدة من . . . . .
وقال أيضاً : وفي تنكير العقدة وإن لم يقل ) وَاحْلُلْ عُقْدَةً ( ) لّسَانِى ( أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهماً جيداً ولم يطلب الفصاحة الكاملة ، و ) مّن لّسَانِى ( صفة للعقدة كأنه قيل ) عُقْدَةً مّن ( عقد ) لّسَانِى ( انتهى . ويظهر أن ) مّن لّسَانِى ( متعلق باحلل لأن موضع الصفة لعقدة وكذا قال الحوفي . وأجاز أبو البقاء الوجهين
طه : ( 29 ) واجعل لي وزيرا . . . . .
والوزير المعين القائم بوزر الأمور أي بثقلها فوزير الملك يتحمل عنه أوزاره ومؤنه . وقيل : من الوزر وهو الملجأ يلتجىء إليه الإنسان . وقال الشاعر : من السباع الضواري دونه وزر
والناس شرهم ما دونه وزر
كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع
وما نرى بشراً لم يؤذهم بشر فالملك يعتصم برأيه ويلتجىء إليه في أموره . وقال الأصمعي : هو من المؤازرة وهي المعاونة والمساعدة ،

" صفحة رقم 225 "
والقياس أزير وكذا قال الزمخشري : قال وكان القياس أزير فقلبت الهمزة إلى الواو ووجه قلبها أن فعيلاً جاء في معنى مفاعل مجيأ صالحاً كعشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم ، فلما قلب في أخيه قلبت فيه ، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز . ونظراً إلى يوازر وأخواته وإلى الموازرة انتهى ولا حاجة إلى ادعاء قلب الهمزة واواً لأن لنا اشتقاقاً واضحاً وهو الوزر ، وأما قلبها في يؤازر فلأجل ضمة ما قبل الواو وهو أيضاً إبدال غير لازم ، وجوزوا أن يكون ) لّى وَزِيراً ( مفعولين لاجعل و
طه : ( 30 ) هارون أخي
) هَارُونَ ( بدل أو عطف بيان ، وأن يكون ) وَزِيراً ( و ) هَارُونَ ( مفعولية ، وقدم الثاني اعتناء بأمر الوزارة و ) أَخِى ( بدل من ) هَارُونَ ( في هذين الوجهين .
قال الزمخشري : وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن انتهى . ويبعد فيه عطف البيان لأن الأكثر في عطف البيان أن يكون الأول دونه في الشهرة ، والأمر هنا بالعكس . وجوزوا أن يكون ) وَزِيراً مّنْ أَهْلِى ( هما المفعولان و ) لِى ( مثل قوله ) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( يعنون أنه به يتم المعنى . و ) هَارُونَ ( على ما تقدم . وجوزوا أن ينتصب ) هَارُونَ ( بفعل محذوف أي اضم إليّ هارون وهذا لا حاجة إليه لأن الكلام تام بدون هذا المحذوف .
طه : ( 31 - 32 ) اشدد به أزري
وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وابن عامر ) اشْدُدْ ( بفتح الهمزة ) وَأَشْرِكْهُ ( بضمها فعلاً مضارعاً مجزوماً على جواب الأمر وعطف عليه ) وَأَشْرِكْهُ ). وقال صاحب اللوامح عن الحسن أنه قرأ أشدِّد به مضارع شدّد للتكثير ، والتكرير أي كلما حزنني أمر شددت ) بِهِ أَزْرِى ). وقرأ الجمهور ) اشْدُدْ ( ) وَأَشْرِكْهُ ( على معنى الدعاء في شد الأزر وتشريك هارون في النبوة ، وكان الأمر في قراءة ابن عامر لا يريد به النبوة بل يريد تدبيره ومساعدته لأنه ليس لموسى أن يشرك في النبوة أحداً . وفي مصحف عبد الله أخي وأشدد .
وقال الزمخشري : ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل ) أَخِى ( مرفوعاً على الابتداء ) وَاشْدُدْ بِهِ ( خبره ويوقف على ) هَارُونَ ( انتهى . وهو خلاف الظاهر فلا يصار إليه لغير حاجة ، وكان هارون أكبر من موسى بأربعة أعوام ، وجعل موسى ما رغب فيه وطلبه من نعم سبباً تلزم منه العبادة والاجتهاد في أمر الله والتظافر على العبادة والتعاون فيها مثير للرغبة والتزيد من الخير .
طه : ( 33 - 34 ) كي نسبحك كثيرا
) كَىْ نُسَبّحَكَ ( ننزهك عما لا يليق بك ) وَنَذْكُرَكَ ( بالدعاء والثناء عليك وقدم التسبيح لأنه تنزيهه تعالى في ذاته وصفاته وبراءته عن النقائص ، ومحل ذلك القلب والذكر والثناء على الله بصفات الكمال ومحله اللسان ، فلذلك قدم ما محله القلب على ما محله اللسان . و ) كَثِيراً ( نعت لمصدر محذوف أو منصوب على الحال ، أي نسبحك التسبيح في حال كثرتهم على ما ذهب إليه سيبويه
طه : ( 35 ) إنك كنت بنا . . . . .
( إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً ( عالماً بأحوالنا . والسؤل فعل بمعنى المسؤل كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول ، والمعنى أعطيت طلبتك وما سألته من شرح الصدر وتيسر الأمر وحل العقدة ، وجعل أخيك وزيراً وذلك من المنة عليه .
طه : ( 36 - 37 ) قال قد أوتيت . . . . .
ثم ذكره تعالى تقديم منته عليه على سبيل التوقيف ليعظم اجتهاده وتقوي بصيرته و ) مَرَّةٍ ( معناه منة و ) أُخْرَى ( تأنيث آخر بمعنى غير أي منة غير هذه المنة ، وليست ) أُخْرَى ( هنا بمعنى آخرة فتكون مقابلة للأولى ، وتخيل ذلك بعضهم فقال : سماها ) أُخْرَى ( وهي أولى لأنها ) أُخْرَى ( في الذكر والأخرى لفظ مشترك يكون تأنيث الآخر بفتح الخاء وتأنيث الآخر بمعنى آخره فهذه يلحظ فيها معنى التأخر . والمعنى أني قد حفظتك وأنت طفل رضيع فكيف لا أحفظك وقد أهلتك للرسالة .
طه : ( 38 ) إذ أوحينا إلى . . . . .
وفي قوله ) مَرَّةً أُخْرَى ( إجمال يفسره قوله ) إِذَا أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ ). قال الجمهور : هي وحي إلهام كقوله ) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ). وقيل : وحي إعلام إما بإراءة ذلك في منام ، وإما ببعث ملك إليها لا على جهة النبوّة كما بعث إلى مريم وهذا و الظاهر لظاهر قوله ) يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ ( ولظاهر آية القصص ) إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاء كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ويبعد ما صدر به

" صفحة رقم 226 "
الزمخشري قوله : من يرد يده إما أن يكون على لسان نبي في وقتها كقوله ) وَإِذَا أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ ( لأنه لم ينقل أنه كان في زمن فرعون ، وكان في زمن الحواريين زكريا ويحيى . وفي قوله ) مَا يُوحَى ( إبهام وإجمال كقوله ) إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( ) فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ ( وفيه تهويل
طه : ( 39 - 40 ) أن اقذفيه في . . . . .
وقد فسر هنا بقوله ) أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ ).
قال الزمخشري : و ) ءانٍ ( هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول . وقال ابن عطية : و ) ءانٍ ( في قوله ) أَنِ اقْذِفِيهِ ( بدل من ما يعني أنّ ) ءانٍ ( مصدرية فلذلك كان لها موضع من الإعراب . والوجهان سائغان والظاهر أن ) التَّابُوتِ ( كان من خشب . وقيل : من بردى شجر مؤمن آل فرعون سدت خروقه وفرشت فيه نطعاً . وقيل : قطناً محلوجاً وسدت فمه وجصصته وقيرته وألقته في ) أَلِيمٌ ( وهو اسم للبحر العذب . وقيل : اسم للنيل خاصة والأول هو الصواب كقوله ) فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمّ ( ولم يغرقوا في النيل .
والظاهر أن الضمير في ) فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمّ ( عائد على موسى ، وكذلك الضميران بعده إذ هو المحدث عنه لا ) التَّابُوتِ ( إنما ذكر ) التَّابُوتِ ( على سبيل الوعاء والفضلة . وقال ابن عطية : والضمير الأول في ) قذفيه ( عائد على موسى وفي الثاني عائد على ) فِى التَّابُوتِ ( ويجوز أن يعود على موسى . وقال الزمخشري : والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم فإن قلت : المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل قلت : ما ضرك لو قلت المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن ، والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر انتهى .
ولقائل أن يقول أن الضمير إذا كان صالحاً لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحاً ، وقد نص النحويون على هذا فعوده على ) التَّابُوتِ ( في قوله ) فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ ( راجح ، والجواب أنه إذا كان أحدهما هو المحدث عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدث عنه أرحج ، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا على أبي محمد بن حزم في دعواه أن الضمير في قوله ) فَإِنَّهُ رِجْسٌ ( عائد على خنزير لا على لحم لكونه أقرب مذكور ، فيحرم بذلك شحمه وغضروفه وعظمه وجلده بأن المحدث عنه هو لحم خنزير لا خنزير .
و ) فَلْيُلْقِهِ ( أمر معناه الخبر ، وجاء بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها ، ومنه قول النب : ي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( قوموا فلأصل لكم ) . أخرج الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة ، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر حسن جوابه كذلك وهو قوله ) يَأْخُذْهُ ). وقال الزمخشري : لما كانت مشيئة الله وإرادته أن لا يخطىء جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقاءه إليه سلك في ذلك سبل المجاز ، وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل ) فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ( انتهى . وقال الترمذي : إنما ذكره بلفظ الأمر لسابق علمه بوقوع المخبر به على ما أخبر به ، فكأن البحر مأمور ممتثل للأمر . وقال الفراء : ) فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمّ ( أمر وفيه معنى المجازاة أي اقذفيه يلقه اليم ، والظاهر أن البحر ألقاه بالساحل فالتقطه منه .
وروي أن فرعون كان يشرب في موضع من النيل إذ رأى التابوت فأمر به فسيق إليه وامرأته معه ففتح قرأوه فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه ابناً فأباح لها ذلك . وروي أن التابوت جاء في الماء إلى المشرعة التي كانت جواري امرأة فرعون يستقين منها الماء . فأخذت التابوت وجلبته إليها فأخرجته وأعلمته فرعون والعد والذي لله ولموسى هو فرعون ، وأخبرت به أم موسى على طريق الإلهام ولذلك قالت لأخته ) قُصّيهِ ( وهي لا تدري أين استقر .
( وَأَلْقَيْت

" صفحة رقم 227 "
ُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى ). قيل : محبة آسية وفرعون ، وكان فرعون قد أحبه حباً شديداً حتى لا يتمالك أن يصبر عنه . قال ابن عباس : أحبه الله وحببه إلى خلقه . وقال عطية : جعلت عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه . وقال قتادة : كان في عينيه ملاحة ما رآه أحد إلاّ أحبه . وقال ابن عطية : وأقوى الأقوال أنه القبول . وقال الزمخشري : ) مِنّي ( لا يخلوا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة أي محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا فيها في القلوب وزرعتها فيها ، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك .
وقرأ الجمهور ) وَلِتُصْنَعَ ( بكسر لام كي وضم التاء ونصب الفعل أي ولتُرَبَّي ويحسن إليك . وأنا مراعيك وراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به . قال قريباً منه قتادة . وقال النحاس : يقال صنعت الفرس إذا أحسنت إليه وهو معطوف على علة محذوف أي ليتلطف بك ) وَلِتُصْنَعَ ( أو متعلقة بفعل متأخر تقديره فعلت ذلك . وقرأ الحسن وأبو نهيك بفتح التاء . قال ثعلب : معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني . وقرأ شيبة وأبو جعفر في رواية بإسكان اللام والعين وضم التاء فعل أمر ، وعن أبي جعفر كذلك إلا أنه كسر اللام .
( إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ ( قيل اسمها مريم سبب ذلك أن آسية عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة ، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف به ويعرض للمراضع فيأبى ، وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته بالتفتيش في المدينة لعلها تقع على خبره ، فبصرت به في طوافها فقالت ) أَنَاْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ( فتعلقوا بها وقالوا : أنت عرفين هذا الصبيّ ؟ فقالت : لا ، ولكن أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة والجد في خدمتها ورضاها ، فتركوها وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها فسرّت آسية وقالت لها : كوني معنى في القصر ، فقالت : ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي قالت : نعم ، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع والنسب من الملكة ، ولما كمل رضاعه أرسلت آسية إليها أن جيئيني بولدي ليوم كذا ، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس ، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل شباب ، فسرّت به ودخلت به على فرعون ليراه وليهبه فأعجبه وقرّبه ، فأخذ موسى بلحية فرعون وتقدم ما جرى له عند ذكر العقدة .
والعامل في ) إِذَا ( قال ابن عطية فعل مضمر تقديره ومننا إذ . وقال الزمخشري العامل في ) إِذْ تَمْشِى ( ) ألقيت ( أو تصنع ، ويجوز أن يكون بدلاً من ) أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا ( فإن قلت : كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان ؟ قلت : كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل لقيت فلاناً سنة كذا ، فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك . وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها انتهى . وليس كما ذكر لأن السنة تقبل الاتساع فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين فإن كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصصيهما بما أضيفا إليه فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول ، إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحي فيه ووقوع مشي الأخت فليس وقت وقوع الوحي مشتملاً على أجزاء وقع في بعضها المشي بخلاف السنة . وقال الحوفي : ) إِذْ ( متعلقة بتصنع ، ولك أن تنصب ) إِذْ ( بفعل مضمر تقديره واذكر .
وقرأ الجمهور ) كَى تَقَرَّ ( بفتح التاء والقاف . وقرأت فرقة بكسر القاف ، وتقدم أنهما لغتان في قوله ) وَقَرّى عَيْناً ). وقرأ جناح بن حبيش بضم التاء وفتح القاف مبنياً للمفعول . و ) قَتَلْتَ نَفْساً ( هو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، واغتم بسبب القتل خوفاً من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون ، فغفر الله له باستغفاره حين قال ) رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى ( ونجاه من فرعون حين هاجر به إلى مدين والغمّ ما يغمّ على القلب بسبب خوف أو فوات مقصود ، والغمّ بلغة قريش القتل ، وقيل : من غم التابوت . وقيل : من غم البحر ، والظاهر أنه من غم القتل حين ذهبنا بك من مصر إلى مدين . والفتون مصدر جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي ) فتناك (

" صفحة رقم 228 "
ضروباً من الفتن ، والفتنة المحنة وما يشق على الإنسان . وعن ابن عباس خلصناك من محنة بعد محنة . ولد في عام كان يقتل فيه الولدان ، وألقته أمه في البحر وهمّ فرعون بقتله ، وقتل قبطياً وآجر نفسه عشر سنين وضل الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة انتهى . وهذه الفتون اختبره بها وخلصه حتى صلح للنبوة وسلم لها والسنون التي لبثها في مدين عشر سنين . وقال وهب : ثمان وعشرون سنة منها مهر ابنته وبين مصر ومدين ثمان مراحل وفي الكلام حذف والتقدير ) الْغَمّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ( فخرجت خائفاً إلى ) أَهْلِ مَدْيَنَ ( فلبثت سنين وكان عمره حين ذهب إلى مدين اثني عشر عاماً وأقام عشرة أعوام في رعي غنم شعيب ، ثم ثمانية عشر عاماً بعد بنائه بامرأته بنت شعيب ، وولد له فيها فكمل له أربعون سنة وهي المدة التي عادة الله إرسال الأنبياء على رأسها .
( ثُمَّ جِئْتَ ( إلى المكان الذي ناجيتك فيه وكلمتك واستنبأتك . ) عَلَى قَدَرٍ ( أي وقت معين قدّرته لم تتقدمه ولم تتأخر عنه . وقيل على مقدار من الزمان يوحى إلى الأنبياء فيه وهو الأربعون . وقال الشاعر : نال الخلافة أو جاءت على قدركما أتى ربه موسى على قدر
طه : ( 41 ) واصطنعتك لنفسي
) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى ( أي جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإكمال والإحسان ، وأخلصتك بالألطاف واخترتك لمحبتي يقال : اصطنع فلان فلاناً اتخذه صنيعة وهو افتعال من الصنع وهو الإحسان إلى الشخص حتى يضاف إليه فيقال هذا صنيع فلان . وقال الزمخشري : هذا تمثيل لما خوله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم مثل حاله بحال من يراه الملوك بجميع خصال فيه وخصائص أهلاً لأن يكون أقرب منزلة إليه وألطف محلاً فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويستخلصه لنفسه انتهى . ومعنى ) لِنَفْسِى ( أي لأوامري وإقامة حججي وتبليغ رسالتي ، فحركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لأحد غيرك .
2 ( ) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِأايَاتِى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولاإِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِىإِسْرَاءِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِأايَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِىأَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاٍّ ولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّ رْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لأيَاتٍ لاٌّ وْلِى النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يامُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا

" صفحة رقم 229 "
َ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى قَالُواْ إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ( )
طه : ( 42 ) اذهب أنت وأخوك . . . . .
الونى : الفتور ، يقال : ونى يني وهو فعل لازم ، وإذا عُدِيَّ فبعن وبفي وزعم بعض البغداديين أنه يأتي فعلاً ناقصاً من أخوات ما زال وبمعناها ، واختاره ابن مالك وأنشد : لا يني الخب شيمة الحب
ما دام فلا تحسبنه ذا ارعواء
وقالوا : امرأة آناءة أي فاترة عن النهوض ، أبدلوا من واوها همزة على غير قياس . قال الشاعر :
فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر
شت الأمر شتاً وشتاتاً تفرّق ، وأمر شتّ متفرّق ، وشتى فعلى من الشت وألفه للتأنيث جمع شتيت كمريض ومرضى ، ومعناه متفرقة ، وشتان اسم فاعل سحت : لغة الحجاز وأسحت لغة نجد وتميم ، وأصله استقصاء الحلق للشعر . وقال الفرزدق وهو تميمي : وعض زمان يا ابن مروان لم يك
من المال إلا مسحت أو محلق
ثم استعمل في الإهلاك والإذهاب . الخيبة : عدم الظفر بالمطلوب . الصف : موضع المجمع قاله أبو عبيدة ، وسمي المصلى الصف وعن بعض العرب الفصحاء ما استطعت أن آتي الصف أي المصلى ، وقد يكون مصدراً ويقال جاؤوا صفاً أي مصطفين . التخييل : إبداء أمر لا حقيقة له ، ومنه الخيال وهو الطيف الطارق في النوم . قال الشاعر :
ألا يا لقومي للخيال المشوق وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي
) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَاتِى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ وَلاَ تُعَذّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ ).
أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون فلما دعا ربه وطلب منه أشياء كان

" صفحة رقم 230 "
فيها أن يشرك أخاه هارون فذكر الله أنه آتاه سؤله وكان منه إشراك أخيه ، فأمره هنا وأخاه بالذهاب و ) أَخُوكَ ( معطوف على الضمير المستكن في ) اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ ( في سورة المائدة وقول بعض النحاة ، أن ) وَرَبُّكَ ( مرفوع على إضمار فعل ، أي وليذهب ربك وذلك البحث جار هنا . وروي أن الله أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى . وقيل : سمع بمقدمه . وقيل : ألهم ذلك وظاهر ) بِآيَاتِي ( الجمع . فقيل : هي العصا ، واليد ، وعقدة لسانه . وقيل : اليد ، والعصا . وقد يطلق الجمع على المثنى وهما اللتان تقدم ذكرهما ولذلك لما قال : فائت بآية ألقى العصا ونزع اليد ، وقال : فذانك برهانان . وقيل العصا مشتملة على آيات انقلابها حيواناً ، ثم في أول الأمر كانت صغيرة ثم عظمت حتى صارت ثعباناً ، ثم إدخال موسى يده في فمها فلا تضرّه . وقيل : ما أعطي من معجزة ووحي .
( وَلاَ ( أي لا تضعفا ولا تقصرا . وقيل : تنسياني ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما ، ويجوز أن يراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على سائر العبادات ، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها ، فكان جديراً أن يطلق عليه اسم الذكر . وقرأ ابن وثاب : ولا تِنَيَا بكسر التاء اتّباعاً لحركة النون . وفي مصحف عبد الله ولا تهنا أي ولا تلنا من قولهم هين لين ،
طه : ( 43 - 44 ) اذهبا إلى فرعون . . . . .
ولما حذف من يذهب إليه في الأمر قبله نص عليه في هذا الأمر الثاني . فقيل : ) ذِكْرِى اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ ( أي بالرسالة وأبعد من ذهب إلى أنهما أمرا بالذهاب أولاً إلى الناس وثانياً إلى فرعون ، فكرر الأمر بالذهاب لاختلاف المتعلق ، ونبه على سبب الذهاب إليه بالرسالة من عنده بقوله ) إِنَّهُ طَغَى ( أي تجاوز الحد في الفساد ودعواه الربوبية والإلاهية من دون الله . والقول اللين هو مثل ما في النازعات ) هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى ( وهذا من ليف الكلام إذ أبرز ذلك في صورة الاستفهام والمشورة والعرض لما فيه من الفوز العظيم . وقيل : عداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته . وقيل : لا تجبهاه بما يكره وألطفا له في القول لما له من حق تربية موسى . وقيل : كنياه وهو ذو الكنى الأربع أبو مرة ، وأبو مصعب ، وأبو الوليد ، وأبو العباس . وقيل : القول اللين لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له ، ولِينها خفتها على اللسان . وقال الحسن : هو قولهما إن لك ربًّا وإن لك معاداً وإن بين يديك جنة وناراً فآمن بالله يدخلك الجنة يقك عذاب النار . وقيل : أمرهما تعالى أن يقدما المواعيد على الوعيد كما قال الشاعر : أقدم بالوعد قبل الوعيد
لينهى القبائل جهالها
وقيل : حين عرض عليه موسى وهارون عليهما السلام ما عرضا شاور آسية فقالت : ما ينبغي لأحد أن يرد هذا فشاور هامان وكان لا يبت أمراً دون رأيه ، فقال له : كنت أعتقد أنك ذو عقل تكون مالكاً فتصير مملوكاً ورباً فتصير مربوباً فامتنع من قبول ما عرض عليه موسى ، والترجي بالنسبة لهما إذ هو مستحيل وقوعه من الله تعالى أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه ، وفائدة إرسالهما مع علمه تعالى أنه لا يؤمن إقامة الحجة عليه وإزالة المعذرة كما قال تعالى : ) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ ( الآية .
وقيل : القول اللين ما حكاه الله هنا وهو ) فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ إِلَى قَوْلُهُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( وقال أبو معاذ : ) قَوْلاً لَّيّناً ( وقال الفراء لعل هنا بمعنى كي أي كي يتذكر أو يخشى كما تقول : اعمل لعلك تأخذ أجرك ، أي كي تأخذ أجرك . وقيل : لعل هنا استفهام أي هل يتذكر أو يخشى ، والصحيح أنها على بابها من الترجِّي وذلك بالنسبة إلى البشر وفي قوله ) لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( دلالة على أنه لم يكن شاكاً في الله . وقيل :

" صفحة رقم 231 "
) يَتَذَكَّرُ ( حاله حين احتبس النيل فسار إلى شاطئه وأبعد وخرَّ ساجداً لله راغباً أن لا يخجله ثم ركب فأخذ النيل يتبع حافر فرسه فرجاً أن يتذكر حلم الله وكرمه وأن يحذر من عذاب الله . وقال الزمخشري : أي ) يَتَذَكَّرُ ( ويتأمل فيبذل النصفة من نفسه والإذغان للحق ) أَوْ يَخْشَى ( أن يكون الأمر كما يصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة .
طه : ( 45 - 46 ) قالا ربنا إننا . . . . .
فرط سبق وتقدم ومنه الفارط الذي يتقدم الواردة وفرس فرط تسبق الخيل انتهى . وقال الشاعر : واستعجلونا وكانوا من صحابتنا
كما تقدم فارط الوراد
وفي الحديث : ( أنا فرطكم على الحوض ) . أي متقدمكم وسابقكم ، والمعنى إننا نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها . وقرأ يحيى وأبو نوفل وابن محيصن في روايته ) أَن يَفْرُطَ ( مبنياً للمفعول أي يسبق في العقوبة ويسرع بها ، ويجوز أن يكون من الإفراط ومجاوزة الحد في العقوبة خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعذاب من شيطان ، أو من جبروته واستكباره وادعائه الربوبية ، أو من حبه الرياسة ، أو من قومه القبط المتمرّدين الذين قال الله فيهم ) قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ ( ) وَقَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ ).
وقرأت فرقة والزعفراني عن ابن محيصن ) يَفْرُطَ ( بضم الياء وكسر الراء من الإفراط في الأذية ) أَوْ أَن يَطْغَى ( في التخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي تجرئة عليك وقسوة قلبه ، وفي المجيء به هكذا على سبيل الإطلاق والرمز باب من حسن الأدب والتجافي عن التفوه بالعظيمة .
والمعية هنا بالنصرة والعون أسمع أقوالكما وأرى أفعالكما . وقال ابن عباس ) أَسْمِعْ ( جوابه لكما ) وَأَرَى ( ما يفعل بكما وهما كناية عن العلم
طه : ( 47 ) فأتياه فقولا إنا . . . . .
( فَأْتِيَاهُ ( كرر الأمر بالإتيان ) فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ ( وخاطباه بقولهما ) رَبَّكَ ( تحقيراً له وإعلاماً أنه مربوب مملوك إذ كان هو يدَّعي الربوبية . وأُمرا بدعوته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من ذل خدمة القبط وكانوا يعذبونهم بتكليف الأعمال الشاقة من الحفر والبناء ونقل الحجارة والسخرة في كل شيء مع قتل الولدان واستخدام النساء . وقد ذكر في غير هذه الآية دعاؤه إلى الإيمان فجملة ما دعى إليه فرعون الإيمان وإرسال بني إسرائيل .
ثم ذكرا ما يدل على صدقهما في إرسالهما إليه فقالا ) قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ ( وتكرر أيضاً قولهما ) مِن رَبّكَ ( على سبيل التوكيد بأنه مربوب مقهور ، والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد ، ولما كانا مشتركين في الرسالة صح نسبة المجيء بالآية إليهما وإن كانت صادرة من أحدهما . وقال الزمخشري : ) قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ ( جارية من الجملة الأولى وهي ) إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ ( مجرى البيان والتفسير ، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء بالآية ، وإنما وحد بآية ولم يثن ومعه آيتان لأن المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها فكأنه قال : قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة وكذلك ) قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ ( ) مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ ( ) أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ ( انتهى . وقيل : الآية اليد . وقيل : العصا ، والمعنى بآية تشهد لنا بأنا رسولا ربك . والظاهر أن قوله ) وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( فصل للكلام ، فالسلام بمعنى التحية رغباً به عنه وجرياً على العادة في التسليم عند الفراغ من القول ، فسلما على متبعي الهدى وفي هذا توبيخ له . وفي هذا المعنى استعمل الناس هذه الآية في مخاطباتهم ومحاوراتهم . وقيل : هو مدرج متصل بقوله ) إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا ( فيكون إذ ذاك خبراً بسلامة المهتدين من العذاب . وقيل ) عَلَىَّ ( بمعنى اللام أي والسلامة ) لِمَنِ اتَّبَعَكَ الْهُدَى ).
وقال الزمخشري : وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين ، وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين انتهى . وهو تفسير غريب .
وقد يقال : السلام هنا السلامة من العذاب بدليل قوله ) إِنَّا قَدْ أُوحِىَ

" صفحة رقم 232 "
إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (
طه : ( 48 ) إنا قد أوحي . . . . .
وبنيْ ) أُوحِىَ ( لما لم يسم فاعله ، ولم يذكر الموحى لأن فرعون كانت له بادرة فربما صدر منه في حق الموحى ما لا يليق به ، والمعنى على من كذب الأنبياء وتولى عن الإيمان . وقال ابن عباس هذه أرجى آية في القرآن لأن المؤمن ما كذب وتولى فلا يناله شيء من العذاب . وفي الكلام حذف تقديره فأتيا فرعون وقالا له ما أمرهما الله أن يبلغاه قال
طه : ( 49 ) قال فمن ربكما . . . . .
( فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى ( خاطبهما معاً وأفرد بالنداء موسى . قال ابن عطية : إذ كان صاحب عظم الرسالة وكريم الآيات . وقال الزمخشري لأنه الأصل في النبوة وهارون وزيره وتابعه ، ويحتمل أن يحمله خبثه وذعارته على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه لما عرف من فصاحة هارون والرتة في لسان موسى ، ويدل عليه قوله ) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ( انتهى .
واستبد موسى عليه السلام بجواب فرعون من حيث خصه بالسؤال والنداء معاً ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا حيث خصه بالسؤال والنداء معاً
طه : ( 50 ) قال ربنا الذي . . . . .
ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا بوجه مجاز . قال الزمخشري : ولله در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالباً للحق انتهى . والمعنى أعطى كل ما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ولكن خلق كل شيء فقدره تقديراً . وقال الشاعر : وله في كل شيء خلقة
وكذلك الله ما شاء فعل
وهذا قول مجاهد وعطية ومقاتل وقال الضحاك ) خلقة ( من المنفعة المنوطة به المطابقة له ) خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( أي يسر كل شيء لمنافعه ومرافقه ، فأعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع ، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه . قال القشيري : والخلق المخلوق لأن البطش والمشي والرؤية والنطق معان مخلوقة أودعها الله للأعضاء ، وعلى هذا مفعول ) أَعْطَى ( الأول ) كُلّ شَىْء ( والثاني ) خَلَقَهُ ( وكذا في قول ابن عباس وابن جبير والسدّي وهو أن المعنى ) أَعْطَى كُلَّ شَىء ( مخلوقه من جنسه أي كل حيوان ذكر نظيره أنثى في الصورة . فلم يزاوج منهما غير جنسه ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه . وعن ابن عباس أنه هداه إلى إلفه والاجتماع به والمناكحة . وقال الحسن وقتادة ) أَعْطَى كُلَّ شَىء ( صلاحه وهداه لما يصلحه .
وقيل ) كُلّ شَىْء ( هو المفعول الثاني لأعطى و ) خَلَقَهُ ( المفعول الأول أي ) أَعْطَى ( خليقته ) كُلّ شَىْء ( يحتاجون إليه ويرتفقون به . وقرأ عبد الله وأناس من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأبو نهيك وابن أبي إسحاق والأعمش والحسن ونصير عن الكسائي وابن نوح عن قتيبة وسلام خَلَقَهُ بفتح اللام فعلاً ماضياً في موضع الصفة لكل شيء أو لشيء ، ومفعول ) أَعْطَى ( الثاني حذف اقتصاراً أي ) كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ( لم يخله من عطائه وإنعامه ) ثُمَّ هَدَى ( أي عرف كيف يرتفق بما أعطى وكيف يتوصل إليه . وقيل : حذف اختصاراً لدلالة المعنى عليه ، أي ) أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ( ما يحتاج إليه وقدره ابن عطية كماله أو مصلحته .
طه : ( 51 ) قال فما بال . . . . .
( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى ( لما أجابه موسى بجواب مسكت ، ولم يقدر فرعون على معارضته فيه انتقل إلى سؤال آخر وهو ما حال من هلك من القرون ، وذلك على سبيل الروغان عن الاعتراف بما قال موسى وما أجابه به ، والحيدة والمغالطة . قيل : سأله عن أخبارها وأحاديثها ليختبر أهما نبيان أو هما من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة ، ولم يكن عنده عليه السلام علم بالتوراة إنما أنزلت عليه بعد هلاك فرعون فقال ) عِلْمُهَا عِندَ رَبّى ). وقيل : مراده من السؤال عنها لم عبدت الأصنام ولم تعبد الله إن كان الحق ما وصفت ؟ وقيل : مراده ما لها لا تبعث ولا تحاسب ولا تُجَازَى
طه : ( 52 ) قال علمها عند . . . . .
فقال ) عِلْمُهَا عِندَ رَبّى ( فأجابه بأن هذا سؤال عن

" صفحة رقم 233 "
الغيب وقد استأثر الله به لا يعلمه إلاّ هو . وقال النقاش : إنما سأل لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون ) ءامَنَ ياقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاْحْزَابِ ( الآية فرد علم ذلك إلى الله لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة . وقيل لما قال ) إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( قال فرعون ) فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى ( فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا . وقيل : لما قرر أمر المبدأ والدلالة القاطعة على إثبات الصانع قال فرعون : إن كان ما ذكرت في غاية الظهور فما بال القرون الأولى نسوه وتركوه ، فلو كانت الدلالة واضحة وجب على القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها . فعارض الحجة النقلية ، ويجوز أن يكون فرعون قد نازعه في إحاطة الله بكل شيء وتبينه لكل معلوم فتعنت وقال : ما تقول في سوالف القرون وتمادي كثرتهم وتباعد أطراف عددهم ، كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم ، فأجاب بأن كل كائن محيط به علمه وهو مثبت عنده ) فِى كِتَابِ ( ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل ، أي ) لاَّ يَضِلُّ ( كما تضل أنت ) وَلاَ يَنسَى ( كما تنسى يا مدّعي الربوبية بالجهل والوقاحة قاله الزمخشري .
والظاهر عود الضمير في ) عِلْمُهَا ( إلى ) الْقُرُونِ الاْولَى ( أي مكتوب عند ربي في اللوح المحفوظ لا يجوز عليه أن يخطىء شيئاً أو ينساه ، يقال : ضللت الشيء إذا أخطجته ف مكانه ، وضللته لغتان فلم يهتد إليه كقولك : ضللت الطريق والمنزل ولا يقال أضللته إلاّ إذا ضاع منك كالدابة إذا انفلتت وشبهها قاله الفراء . وقال الزجاج : ضللته أضله إذا جعلته في مكان ولم تدر أين هو ، وأضللته والكتاب هنا اللوح المحفوظ . وقيل ) فِى كِتَابِ ( فيما كتبته الملائكة من أحوال البشر . وقيل : الضمير في ) عِلْمُهَا ( عائد على القيامة لأنه سأله عن بعث الأمم . وقال السدّي ) لاَّ يَضِلُّ ( لا يغفل . وقال ابن عيسى ) لاَّ يَضِلُّ ( لا يذهب عليه تقول العرب ضل منزله بغير ألف . وفي الحيوان أضل بعيره بالألف . وقيل : التقدير ) لاَّ يَضِلُّ رَبّى ( الكتاب ) وَلاَ يَنسَى ( ما فيه قاله مقاتل . وقال القفال ) لاَّ يَضِلُّ ( عن معرفة الأشياء فيحيط بكل المعلومات ) وَلاَ يَنسَى ( إشارة إلى بقاء ذلك العلم أبد الآباد على حاله لا يتغير . وقال الحسن : لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه .
وقال مجاهد : معنى الجملتين واحد وهو إشارة إلى أنه لا يعرض في علمه ما يغيره . وقال ابن جرير : لا يخطىء في التدبير فيعتقد في غير الصواب صواباً وإذا عرفه لا ينساه ، وقال أبو عبد الله الرازي : علم الله صفة قائمة به ولا تكون حاصلة في الكتاب لأن ذلك لا يعقل ، فالمعنى أن بقاء تلك المعلومات في علمه كبقاء المكتوبات في الكتاب ، فالغرض التوكيد بأن أسرارها معلومة له لا يزول شيء منها ، ويتأكد هذا بقوله ) لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى ( أو المعنى أنه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده يظهر للملائكة مزيادة لهم في الاستدلال على أنه عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة انتهى . وفيه بعض تلخيص .
وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وحماد بن سلمة وابن محيصن وعيسى الثقفي لا يُضِلُّ بضم الياء أي ) لاَّ يَضِلُّ ( الله ذلك الكتاب فيضيع ) وَلاَ يَنسَى ( ما أثبته فيه . وقرأ السلمي لا يُضِلُّ ربِيَ ولا يُنْسَى مبنيتين للمفعول ، والظاهر أن الجملتين استئناف وإخبار عنه تعالى بانتفاء هاتين الصفتين عنه . وقيل : هما في موضع وصف لقوله ) فِى كِتَابِ ( والضمير العائد على الموصوف محذوف أي لا يضله ربي ولا ينساه . والظاهر أن الضمير في ) وَلاَ يَنسَى ( عائد على الله . وقيل : يحتمل أن يعود على ) كِتَابٌ ( أي لا يدع شيئاً فالنسيان استعارة كما قال ) إِلاَّ أَحْصَاهَا ( فأسند الإحصاء إليه من حيث الحصر فيه ، وعن ابن عباس لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه .
( الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مِهَاداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لأيَاتٍ لاِوْلِى لاِوْلِى النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يامُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَاناً سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى قَالُواْ إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُم

" صفحة رقم 234 "
ْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ).
طه : ( 53 ) الذي جعل لكم . . . . .
ولما ذكر موسى دلالته على ربوبية الله تعالى وثم كلامه عند قوله ) وَلاَ يَنسَى ( ذكر تعالى ما نبه به على قدرته تعالى ووحدانيته ، فأخبر عن نفسه بأنه تعالى هو الذي صنع كيت وكيت ، وإنما ذهبنا إلى أن هذا هو من كلام الله تعالى لقوله تعالى ) فَأَخْرَجْنَا ( وقوله
طه : ( 54 ) كلوا وارعوا أنعامكم . . . . .
( كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ( وقوله ) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ( فيكون قوله ) فَأَخْرَجْنَا ( و ) أَرَيْنَاهُ ( التفاتاً من الضمير الغائب في ) أعل ( وسلك إلى ضمير المتكلم لمعظم نفسه ، ولا يكون الالتفات من قائلين وأبعد من ذهب إلى أن الذي نعت لقوله ) إِنَّهُ رَبّى ( فيكون في موضع رفع أو يكون في موضع نصب على المدح وقالهما الحوفي والزمخشري لكونه كان يكون كلام موسى فلا يتأتى الالتفات في قوله ) فَأَخْرَجْنَا ( ) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ).
وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون ) فَأَخْرَجْنَا ( من كلام موسى حكاية عن الله تعالى على تقدير يقول عز وجل ) فَأَخْرَجْنَا ( ويحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله ) وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء ( ثم وصل الله كلام موسى بإخباره لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمراد بالخطاب في لكم الخلق أجمع نبههم على هذه الآيات . وقرأ الأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة والكسائي ) مِهَاداً ( بفتح الميم وإسكان الهاء ، وباقي السبعة مهاداً وكذا في الزخرف فقال المفضل : مصدران مهد مهداً ومهاداً . وقال أبو عبيد : مهاد اسم ، ومهد الفعل يعني المصدر . وقال آخر ) مِهَاداً ( مفرد ومهاد جمعه ، ومعنى ذلك أنه تعالى جعلها لهم يتصرفون عليها في جميع أحوالهم ومنافعهم ، ونهج لكم فيها طرقاً لمقاصدكم حتى لا تتعذر عليكم مصالحكم . والضمير في ) بِهِ ( عائد على الماء أي بسببه .
( أَزْواجاً ( أي أصنافاً وهذا الالتفات في أخرجنا كهو في قوله ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا ( ) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا ( ) وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْء ( وفي هذا الالتفات تخصيص أيضاً بأنا نحن نقدر على مثل هذا ، ولا يدخل تحت قدرة أحد والأجود أن يكون ) شَتَّى ( في موضع نصب نعتاً لقوله ) أَزْواجاً ( لأنها المحدث عنها .
وقال الزمخشري : يجوز أن يكون صفة للنبات ، والنبات مصدر سُمِّيَ به النابت كما سُمِّيَ بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع ، يعني أنها ) شَتَّى ( مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل ، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم .
قالوا : من نعمته عز وجل أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله ) كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ( أمر إباحة معمول لحال محذوفة أي ) فَأَخْرَجْنَا ( قائلين أي آذنين في الانتفاع بها ، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها ، عُدِيّ هنا ) وَارْعَوْا ( ورعى يكون لازماً ومتعدياً تقول : رعت الدابة رعياً ، ورعاها صاحبها رعاية إذا سامها وسرحها وأراحها قاله الزجاج . وأشار بقوله ) إِنَّ فِى ذَلِكَ ( للآيات السابقة من جعل الأرض مهداً وسلك سبلها وإنزال الماء وإخراج النبات . وقالوا ) النُّهَى ( جمع نهية وهو العقل سُمِّيَ بذلك لأنه ينهى عن القبائح ، وأجاز أبو علي أن يكون مصدراً كالهدي .
طه : ( 55 ) منها خلقناكم وفيها . . . . .
والضمير في ) مِنْهَا ( يعود على الأرض ، وأراد خلق أصلهم آدم . وقيل : ينطلق الملك إلى تربة المكان الذي يدفن فيه من يخلق فيبددها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة معاً قاله عطاء الخراساني . وقيل : من الأغذية التي تتولد من الأرض فيكون ذلك تنبيهاً على ما تولدت منها الأخلاط المتولد منها الإنسان فهو من باب مجاز المجاز ) وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ( أي بالدفن بها أو بالتمزيق عليها ) وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً ( بالبعث ) تَارَةً ( مرة ) أُخْرَى ( يؤلف أجزاءهم المتفرقة ويردّهم كما كانوا أحياء . وقوله ) أُخْرَى ( أي إخراجة أخرى لأن معنى قوله ) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ( أخرجناكم .
طه : ( 56 ) ولقد أريناه آياتنا . . . . .
( وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءايَاتِنَا كُلَّهَا ( هذا إخبار من الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهذا يدل على أن قوله ) فَأَخْرَجْنَا ( إنما هو خطاب له عليه السلام ) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ( هي المنقولة

" صفحة رقم 235 "
من رأى البصرية ، ولذلك تعدت إلى اثنين بهمزة النقل و ) ءايَاتِنَا ( ليس عاماً إذ لم يره تعالى جميع الآيات ، وإنما المعنى آياتنا التي رآها ، فكانت الإضافة تفيد ما تفيده الألف واللام من العهد . وإنما رأى العصا واليد والطمسة وغير ذلك مما رآه فجاء التوكيد بالنسبة لهذه الآيات المعهودة . وقيل : المعنى آيات بكمالها وأضاف الآيات إليه على حسب التشريف كأنه قال آيات لنا . وقيل : يكون موسى قد أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم ، وهو نبي صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به ) فَكَذَّبَ بِهَا ( جميعاً ) وَأَبَى ( أن يقبل شيئاً منها انتهى . وقاله الزمخشري وفيه بعد لأن الإخبار بالشيء لا يسمى رؤية إلا بمجاز بعيد .
وقيل : ) أَرَيْنَاهُ ( هنا من رؤية القلب لا من رؤية العين ، لأنه ما كان أراه في ذلك الوقت إلا العصا واليد البيضاء أي ولقد أعلمنا ) كُلَّهَا فَكَذَّبَ ( هي الآيات التسع . قيل : ويجوز أن يكون أراد بالآيات آيات توحيده التي أظهرها لنا في ملكوت السموات والأرض فيكون من رؤية العين . وقال ابن عطية وأُبيّ : يقتضي كسب فرعون وهذا الذي يتعلق به الثواب والعقاب ، ومتعلق التكذيب محذوف فالظاهر أنه الآيات واحتمل أن يكون التقدير ) فَكَذَّبَ ( موسى ) وَأَبَى ( أن يقبل ما ألقاه إليه من رسالته .
قيل : ويجوز أن يكون أراد وكذب أنها من آيات الله وقال : من سحر ،
طه : ( 57 ) قال أجئتنا لتخرجنا . . . . .
ولهذا ) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يامُوسَى مُوسَى ( ويبعد هذا القول قوله ) لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بَصَائِرَ ( وقوله ) وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ( فيظهر أنه كذب لظلمه لا أنه التبس عليه أنها آيات سحر . وفي قوله ) أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا ( وهن ظهر منه كثير واضطراب لما جاء به موسى إذ علم أنه على الحق وأنه غالبه على ملكه لا محالة ، وذكر علة المجيء وهي إخراجهم وألقاها في مسامع قومه ليصيروا مبغضين له جداً إذ الإخراج من الموطن مما يشق وجعله الله مساوياً للقتل في قوله ) أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ ( وقوله ) بِسِحْرِكَ ( تعلل وتحير لأنه لا يخفى عليه أن ساحراً لا يقدر أن يخرج ملك مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر ، وأورد ذلك على سبيل الشبهة الطاعنة في النبوة ، وأن المعجز إنما يتميز عن السحر بكون المعجز مما تتعذر معارضته
طه : ( 58 - 59 ) فلنأتينك بسحر مثله . . . . .
فقال ) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ ( ويدل على أن أمر موسى عليه السلام كان قد قَوِيَ وكثر منعته من بني إسرائيل ووقع أمره في نفوس الناس ، إذ هي مقالة من يحتاج إلى الحجة لا من يصدع بأمر نفسه ، وأرضهم هي أرض مصر وخاطبه بقوله ) بِسِحْرِكَ ( لأن الكلام كان معه والعصا واليد إنما ظهرنا من قبله ) فَلَنَأْتِيَنَّكَ ( جواب لقسم محذوف ، أوهم الناس أن ما جاء به موسى إنما هو من باب السحر وأن عنده من يقاومه في ذلك ، فطلب ضرب موعد للمناظرة بالسحر . والظاهر أن ) مَّوْعِدًا ( هنا هو زمان أي فعين لنا وقت اجتماع ولذلك أجاب بقوله ) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ ( ومعنى ) لاَّ نُخْلِفُهُ ( أي لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه وقدره بعضهم مكاناً معلوماً وينبوعه قوله ) مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ ).
وقال القشيري : الأظهر أنه مصدر ولذلك قال ) لاَّ نُخْلِفُهُ ( أي ذلك الموعد والإخلاف أن يعد شيئاً ولا ينجزه . وقال الزمخشري : إن جعلته زماناً نظراً في قوله ) مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ ( مطابق له لزمك شيئان أن نجعل الزمان مخلفاً وأن يعضل عليك ناصب ) مَكَاناً ( وإن جعلته مكاناً لقوله ) مَكَاناً ( لزمك أيضاً أن يقع الإخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله ) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ ( وقراءة الحسن غير مطابقة له ) مَكَاناً ( جميعاً لأنه قرأ ) يَوْمُ الزّينَةِ ( بالنصب فبقي أن يجعل مصدراً بمعنى الوعد ، ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد . ويجعل الضمير في ) نُخْلِفُهُ ( و ) مَكَاناً ( بدل من المكان المحذوف . فإن قلت : كيف طابقته قوله ) مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ ( ولا بد من أن تجعله زماناً والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان ؟ قلت : هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً لأنه لا بد لهم

" صفحة رقم 236 "
من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهراً باجتماعهم فيه في ذلك اليوم ، فبذكر الزمان علم المكان .
وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير ، والمعنى إنجاز وعدكم يوم الزينة وطابق هذا أيضاً من طريق المعنى ، ويجوز أن يقدر مضاف محذوف ويكون المعنى اجعل ) بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ ( وعداً ) لاَّ نُخْلِفُهُ ( فإن قلت : فبم ينتصب ) مَكَاناً ( ؟ قلت : بالمصدر أو بفعل يدل عليه المصدر ، فإن قلت : كيف يطابقه الجواب ؟ قلت : أما على قراءة الحسن فظاهر ، وأما على قراءة العامة فعلى تقدير وعدكم وعد يوم الزينة .
ويجوز على قراءة الحسن أن يكون ) مَوْعِدُكُمْ ( مبتدأ بمعنى الوقت و ) ضُحًى ( خبره على نية التعريف فيه لأنه قد وصف قبل العمل بقوله ) لاَّ نُخْلِفُهُ ( وهو موصول ، والمصدر إذا وصف قبل العمل لم يجز أن يعمل عندهم . وقوله و ) ضُحًى ( خبره على نية التعريف فيه ، لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه ، هو وإن كان ضحى ذلك اليوم بعينه ليس على نية التعريف بل هو نكرة ، وإن كان من يوم بعينه لأنه ليس معدولاً عن الألف واللام كسحر ولا هو معرف بالإضافة . ولو قلت : جئت يوم الجمعة بكراً لم ندع أن بكراً معرفة وإن كنا نعلم أنه من يوم بعينه .
وقرأ أبو جعفر وشيبة لا نَخلُفْهُ بجزم الفاء على أنه جواب الأمر . وقرأ الجمهور برفعها صفة لموعد . وقال الحوفي ) مَّوْعِدًا ( مفعول اجعل ) مَكَاناً ( طرف العامل فيه اجعل . وقال أبو علي ) مَّوْعِدًا ( مفعول أولا لأجعل و ) مَكَاناً ( مفعول ثان ، ومنع أن يكون ) مَكَاناً ( معمولاً لقوله ) مَّوْعِدًا ( لأنه قد وصف . قال ابن عطية : وهذه الأسماء العاملة عمل الفعل إذا نعتت أو عطف عليها أو أخبر عنها أو صغرت أو جمعت وتوغلت في الأسماء كمثل هذا لم تعمل ولا يعلق بها شيء هو منها ، وقد يتوسع في الظروف فيعلق بعد ما ذكرنا لقوله عز وجل ) يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ ( فقوله إذ متعلق بقوله لمقت . وهو قد أخبر عنه وإنما جاز هذا في الظروف خاصة ومنع قوم أن يكون ) مَكَاناً ( نصباً على المفعول الثاني لنخلفه ، وجوزه جماعة من النحاة ووجهه أن يتسع في أن يحلف الموعد انتهى . وقوله إذا نعت هذا ليس مجمعاً عليه في كل عامل عمل الفعل ، ألا ترى اسم الفاعل العاري عن أل إذا وصف قبل العمل في إعماله خلاف البصريون يمنعون والكوفيون يجوزون ، وكذلك أيضاً إذا صغر في إعماله خلاف ، وأما إذا جمع فلا يعلم خلاف في جواز إعماله ، وأما المصدر إذا جمع ففي جواز إعماله خلاف ، وأما استثناؤه من المعمولات الظروف فغيره يذهب إلى منع ذلك مطلقاً في المصدر ، وينصب إذ بفعل يقدر بما قبله أي مقتكم إذ تدعون .
( وَلا أَنتَ ( معطوف على الضمير المستكن في ) تُخْلَفَهُ ( المؤكد بقوله ) نَحْنُ ). وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب والحسن وقتادة وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وأبو حاتم وابن جرير ) سُوًى ( بضم السين منوناً في الوصل . وقرأ باقي السبعة بكسرها منوناً في الوصل . وقرأ الحسن أيضاً ( سُوى ( بضم السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل مجرى الوقف لا أنه منعه الصرف لأن فعلاً من الصفات متصرف كحطم ولبد . وقرأ عيسى سِوَى بكسر السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل أيضاً مجرى الوقف ، ومعنى ) ( بضم السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل مجرى الوقف لا أنه منعه الصرف لأن فعلاً من الصفات متصرف كحطم ولبد . وقرأ عيسى سِوَى بكسر السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل أيضاً مجرى الوقف ، ومعنى ) سُوًى ( أي عدلاً ونصفة . قال أبو علي : كأنه قال قربه منكم قربه منا . وقال غيره : إنما أراد أن حالنا فيه مستوية فيعم ذلك القرآن ، وأن تكون المنازل فيه واحدة في تعاطي الحق لا تعترضكم فيه الرئاسة وإنما يقصد الحجة . وعن مجاهد وهو من الاستواء لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها ، وهذا معنى ما تقدم من قول أبي عليّ قربه منكم قربه منا . وقال الأخفش ) سُوًى ( مقصور إن كسرت سينه أو ضممت ، وممدود إن فتحتها ثلاث لغات ويكون فيها جميعاً بمعنى غير وبمعنى عدل ، ووسط بين الفريقين . وقال الشاعر : وإن أبانا كان حل بأهله سوى
بين قيس قيس غيلان والفزر

" صفحة رقم 237 "
قال : وتقول مررت برجل سواك وسواك وسواك أي غيرك ، ويكون للجميع وأعلى هذه اللغات الكسر قاله النحاس . وقالت فرقة : معنى ) مَكَاناً سُوًى ( مستوياً من الأرض أي لا وَعر فيه ، ولا جبل ، ولا أكمة ، ولا مطمئن من الأرض بحيث يسير ناظر أحد فلا يرى مكان موسى والسحرة وما يصدر عنهما ، قال ذلك واثقاً من غلبة السحرة لموسى فإذا شاهدوا غلبهم إياه رجعوا عما كانوا اعتقدوا فيه . وقالت فرقة : معناه مكاناً سوى : مكاننا هذا وليس بشيء لأن سوى إذا كانت بمعنى غير لا تستعمل إلا مضافة لفظاً ولا تقطع عن الإضافة .
وقرأ الحسن والأعمش وعاصم في رواية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري وهبيرة والزعفراني يوم الزينة بنصب الميم وتقدم تخريج هذه القراءة في كلام الزمخشري وروي أن ) يَوْمُ الزّينَةِ ( كان عيداً لهم ويوماً مشهوداً وصادف يوم عاشوراء ، وكان يوم سبت . وقيل : هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم . وقيل : يوم النيروز وكان رأس سنتهم . وقيل : يوم السبت فإنه يوم راحة ودعة . وقيل : يوم سوق لهم . وقيل : يوم عاشوراء .
وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو عمران الجوني وأبو نهيك وعمرو بن فايد وأن تحشر بتاء الخطاب أي يا فرعون وروي عنهم بالياء على الغيبة ، والناس نصب في كلتا القراءتين . قالصاحب اللوامح ) وَأَن يُحْشَرَ ( الحاشر ) النَّاسُ ضُحًى ( فحذف الفاعل للعلم به انتهى . وحذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين . وقال غيره ) وَأَن يُحْشَرَ ( القوم قال ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة ، إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم لقوله ) مَوْعِدُكُمْ ( وجعل ) يُحْشَرُ ( لفرعون ويجوز أن يكون ) وَأَن يُحْشَرَ ( في موضع رفع عطفاً على ) يَوْمُ الزّينَةِ ( وأن يكون في موضع جر عطفاً على ) الزّينَةِ ( وانتصب ) ضُحًى ( على الظرف وهو ارتفاع النهار ، ويؤنث ويذكر والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر وهو عند ارتباع النهار الأعلى ، وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد ، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق ، ويكل حد المبطلين وأشياعهم ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر ، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر . والظاهر أن قوله ) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ ( من كلام موسى عليه السلام لأنه جواب لقول فرعون ) فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً ( ولأن تعيين اليوم إنما يليق بالمحق الذي يعرف اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس . ولقوله ) مَوْعِدُكُمْ ( وهو خطاب للجميع ، وأبعد من ذهب إلى أنه من كلام فرعون .
طه : ( 60 ) فتولى فرعون فجمع . . . . .
( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ ( أي معرضاً عن قبول الحق أو ) تَوَلَّى ( ذلك الأمر بنفسه أو فرجع إلى أهله لاستعداد مكايده ، أو أدبر على عادة المتواعدين أن يولي كل واحد منهما صاحبه ظهره إذا افترقا . أقوال ) فَجَمَعَ كَيْدَهُ ( أي ذوي كيده وهم السحرة . وكانوا عصابة لم يخلق الله أسحر منها ) ثُمَّ أَتَى ( للموعد الذي كانوا تواعدوه . وأتى موسى أيضاً بمن معه من بني إسرائيل
طه : ( 61 ) قال لهم موسى . . . . .
قال لهم موسى ) وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً ( وتقدم تفسير ويل في سورة البقرة ، خاطبتهم خطاب محذر وندبهم إلى قول الحق إذ رأوه وأن لا يباهتوا بكذب . وعن وهب لما قال للسحرة ) وَيْلَكُمْ ( قالوا ما هذا بقول ساحر ) فَيُسْحِتَكُم ( يهلككم ويستأصلكم ، وفيه دلالة على عظم الافتراء وأنه يترتب عليه هلاك الاستئصال ، ثم ذكر أنه لا يظفر بالبغية ولا ينجح طلبه ) مَنِ افْتَرَى ( على الله الكذب .
طه : ( 62 ) فتنازعوا أمرهم بينهم . . . . .
ولما سمع السحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعت في نفوسهم مهابته ) فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ ( أي تجاذبوه والتنازع يقتضي الاختلاف . وقرأ حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن جرير ) فَيُسْحِتَكُم ( بضم الياء وكسر الحاء من أسحت رباعياً . وقرأ باقي السبعة ورويس وابن عباعي بفتحهما من سحت ثلاثياً . وإسرارهم النجوى خيفة من فرعون أن يتبين فيهم ضعفاً لأنهم لم يكونوا مصممين على غلبة موسى بل كان ظناً من بعضهم . وعن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه ، وعن قتادة إن كان ساحراً فسنغلبه ، وإن كان من السماء فله أمر .
وقال الزمخشري : والظاهر أنهم تشاوروا في السر وتجاذبوا أهداب

" صفحة رقم 238 "
القول ، ثم ) قَالُواْ إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ ( فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبتهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما انتهى .
طه : ( 63 ) قالوا إن هذان . . . . .
وحكى ابن عطية قريباً من هذا القولعن فرقة قالوا : إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا ) إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ ( والأظهر أن تلك قيلت علانية ، ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع . وقرأ أبو جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وأبو حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوان والصاحبان من السبعة إنّ بتشديد النون ) هَاذَانِ ( بألف ونون خفيفة ) لَسَاحِرانِ ( واختلف في تخريج هذه القراءة . فقال القدماء من النحاة إنه على حذف ضمير الشأن والتقدير إنه هذان لساحران ، وخبر ) ءانٍ ( الجملة من قوله ) هَاذانِ لَسَاحِرانِ ( واللام في ) لَسَاحِرانِ ( داخلة على خبر المبتدأ ، وضعف هذا القول بأن حذف هذا الضمير لا يجيء إلا في الشعر وبأن دخول اللام في الخبر شاذ .
وقال الزجاج : اللام لم تدخل على الخبر بل التقدير لهما ساحران فدخلت على المبتدأ المحذوف ، واستحسن هذا القول شيخه أبو العباس المبرد والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد . وقيل : ها ضمير القصة وليس محذوفاً ، وكان يناسب على هذا أن تكون متص