Translate

السبت، 28 مايو 2022

مجلد 13.و14.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

 

مجلد 13.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 451 "
8
( سورة الأنفال )
مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاٌّ قْدَامَ إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ( ) ) 2
الأنفال : ( 1 ) يسألونك عن الأنفال . . . . .
النفل : الزيادة على الواجب وسميت الغنيمة به لأنها زيادة على القيام بحماية الحوزة قال لبيد

" صفحة رقم 452 "
إنّ تقوى ربّنا خير نفل
وبإذن الله ريثي وعجل
أي خير غنيمة وقال غيره : إنّا إذا احمرّ الوغى فروي القنا
ونعف عند مقاسم الأنفال
الوجَل الفزع . الشّوكة قال المبرد السلاح وأصله من الشوك النبت النبت الذي له خربشة السلاح به يقال رجل شاكي السلاح إذا كان حديد السّنان والنّصل وأصله شائك وهو اسم فاعل من الشوكة قال : لديّ أسد شاكي السلاح مقذف
له لبد أظفاره لم تقلم
وقال أبو عبيدة : الشاكي والشائك جميعاً ذو الشوكة وانجر في سلاحه ويوصف به السلاح كما يوصف به الرجل قال : وألبس من رضاه في طريقي
سلاحاً يذعر الأبطال شاكا
ويقال : رجل شاكٍ وسلاح شاكٍ وشاك فشاك أصله شوك نحو كبش صاف أي صوف وشاك إما محذوفة أو مقلوب وإيضاح هذا في علم النحو . الاستغاثة طلب الغوث والنصر غوث الرجل قال واغوثاه والاسم الغوث والغواث والغواث . وقيل الاستغاثة طلب سر الخلة وقت الحاجة ، وقيل الاستجارة . ردف وأردف بمعنى واحد تبع ويقال أردفته إياه أي اتبعته . العنق معروف وجعه في القلة على أعناق وفي الكثرة على عنوق . البنان الأصابع وهو اسم جنس واحده بنانة وقالوا فيه البنام بالميم بدل النون قال رؤبة : يا هال ذات المنطق التمتام
وكفك المخضّب البنام
) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( هذه السورة مدنية كلها . قال ابن عباس : إلا سبع آيات أوّلها ) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( إلى آخر الآيات . وقال مقاتل غير آية واحدة وهي ) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الآية نزلت في قصة وقعت بمكّة ويمكن أن تنزل الآية بالمدينة في ذلك ولا خلاف أنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه وقد طول المفسرون الزمخشري وابن عطيّة وغيرهما في تعيين ما كان سبب نزول هذه الآيات وملخّصها : أنّ نفوس أهل بدر

" صفحة رقم 453 "
تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثَرة والاختصاص ، ونحن لا نسمي من أبلي ذلك اليوم فنزلت ورضي المسلمون وسلموا وأصلح الله ذات بينهم واختلف المفسّرون في المراد بالأنفال . فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وعطاء وابن زيد : يعني الغنائم مجملة قال عكرمة ومجاهد : كان هذا الحكم من الله لدفع الشغب ثم نسخ بقوله : ) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء ( الآية . وقال أبو زيد لا نسخ إنما أخبر أنّ الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبيّن لحكم الله والمضارع فيها ليقع التسليم فيها من الناس وحكم القسمة قاتل خلال ذلك ، وقال ابن عباس أيضاً : الأنفال في الآية ما يعطيه الإمام لمن أراد من سيف أو فرس أو نحوه ، وقال علي بن صالح وابن جني والحسن : الأنفال في الآية الخمس ، وقال ابن عباس وعطاء أيضاً : الأنفال في الآية ما شذّ من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس الغائر والعبد الآبق وهو للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) يصنع فيه ما يشاء ، وقال ابن عباس أيضاً : الأنفال في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة . وهذه الأقوال الأربعة مخالفة لما تظافرت عليه أسباب النزول المروية والجيّد هو القول الأول وهو الذي تظاهرت الروايات به ، وقال الشعبي : الأنفال الأسرى وهذا إنما هو منه على جهة المثال وقد طول ابن عطية وغيره في أحكام ما ينقله الإمام وحكم السّلب وموضوع ذلك كتب الفقه وضمير الفاعل في يسألونك ليس عائداً على مذكور قبله إنما يفسّره وقعة بدر ، فهو عائد على من حضرها من الصحابة وكان السائل معلوم معين ذلك اليوم فعاد الضمير عليه والخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) والسؤال قد يكون لاقتضاء معنى في نفس المسؤول فيتعدى إذ ذاك بعن كما قال :
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
وقال تعالى : ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ( ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ( وكذا هنا ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ ( حكمها ولمن تكون ولذلك جاء الجواب ) قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ( وقد يكون السؤال لاقتضاء مال ونحوه فيتعدى إذ ذاك لمفعولين تقول سألت زياداً مالاً وقد جعل بعض المفسرين السؤال هنا بهذا المعنى وادعى زيادة عن ، وأن التقدير يسألونك الأنفال ، وهذا لا ضرورة تدعو إلى ذلك ، وينبغي أن تحمل قراءة من قرأ بإسقاط عن على إرادتها لأن حذف الحرف ، وهو مراد معنى ، أسهل من زيادته لغير معنى غير التوكيد وهي قراءة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وولديه زيد ومحمد الباقر وولده جعفر الصادق وعكرمة وعطاء والضحاك وطلحة بن مصرف . وقيل عن بمعنى من أي يسألونك من الأنفال ولا ضرورة تدعو إلى تضمين الحرف معنى الحرف ، وقرأ ابن محيصن علنفال نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وحذف الهمزة واعتدّ بالحركة المعارضة فأدغم نحو ، وقد تبين لكم ، ومعنى ) قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ( ليس فيها لأحد من المهاجرين ولا من الأنصار ولا فوض إلى أحد بل ذلك مفوض لله على ما يريده وللرسول حيث هو مبلغ عن الله الأحكام وأمرهم بالتقوى ليزول عنهم التخاصم ويصيروا متحابين في الله وأمر بإصلاح ذات البَين وهذا يدلّ على أنه كانت بينهم مباينة ومباعدة ربما خيف أن تفضي بهم إلى فساد ما بينهم من المودة والمعافاة ، وتقدم الكلام على ذات في قوله بذات الصدور ، والبين هنا الفراق والتباعد وذات هنا نعت لمفعول محذوف أي وأصلحوا أحوالاً ذات افتراقكم لما كانت الأحوال ملابسةً للبين أُضيفت صفتها إليه كما تقول

" صفحة رقم 454 "
اسقني ذا إنائك أي ماء صاحب إنائك لما لابس الماء الإناء وصف بذا وأُضيف إلى الإناء والمعنى اسقني ما في الإناء من الماء . قال ابن عطية : وذات في هذا الموضع يُراد بها نفس الشيء وحقيقته والذي يفهم من بينكم هو معنى يعمّ جميع الوصل والالتحامات والمودّات وذات ذلك هو المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه فخضّ الله على إصلاح تلك الأجزاء وإذا حصلت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم ، وقد تُستعمل لفظة الذات على أنها لزيمة ما يضاف إليه وإن لم يكن نفسه وعينه وذلك في قوله ) عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( م و ) ذَاتِ الشَّوْكَةِ ( ويحتمل ذات البين أن تكون هذه وقد يقال الذات أيضاً بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا وهو قولهم فعلت كذا ذات يوم ومنه قول الشاعر : لا ينبح الكلب فيها غير واحدة
ذات العشاء ولا تسري أفاعيها
وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال ذات بينكم الحال التي بينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء ووجهه الطبري ، وهو قول بين الانتقاض انتهى وتلخص أن البين يطلق على الفراق ويطلق على الوصل وهو قول الزجاج هنا قال ومثله لقد تقطّع بينُكم ويكون ظرفاً بمعنى وسط ، ويحتمل ذات أن تضاف لكل واحد من هذه المعاني وإنما اخترنا في أنه بمعنى الفراق لأن استعماله فيه أشهر من استعماله في الوصل ولأن إضافة ذات إليه أكثر من إضافة ذات إلى بين الظرفية لأنها ليست كثيرة التصرف بل تصرّفها كتصرّف أمام وخلف وهو تصرّف متوسط ليس بكثير ، وأمر تعالى أولاً بالتقوى لأنها أصل للطاعات ثم بإصلاح ذات البين لأنّ ذلك أهم نتائج التقوى في ذلك الوقت الذي تشاجروا فيه ، ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله فيما أمركم به من التقوى والإصلاح وغير ذلك ومعنى إن كنت مؤمنين أي كنتم كاملي الإيمان ، وتسنن هنا الزمخشري واضطرب فقال : وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله تعالى والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من لوازم الإيمان وموجباته ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها ومعنى إن كنتم مؤمنين إن كنتم كاملي الإيمان . قال ابن عطية : كما يقول الرجل إن كنت رجلاً فافعل كذا أي إن كنت كاملَ الرجوليّة ، قال : وجواب تلشرط في قوله المتقدم وأطيعوا هذا مذهب سيبويه ومذهب أبي العباس أن الجوابَ محذوف متخر يدلّ عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا ومذهبه في هذا أن لا يتقدّم الجواب على الشرط انتهى . والذي مخالف لكلام النحاة فإنهم يقولون إن مذهب سيبويه أن الجواب محذوف وأن مذهب أبي العباس وأبي زيد الأنصاري والكوفيين جواز تقديم جواب الشرط عليه وهذا النقل هو الصحيح .
الأنفال : ( 2 ) إنما المؤمنون الذين . . . . .
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( قرىء وجلت بفتح الجيم وهي لغة وقرأ ابن مسعود فرقت ، وقرأ أبيّ فزعت وينبغي أن تُحمل هاتان القراءتان على التفسير ولما كان معنى ، إن كنتم مؤمنين ، قال : إنما المؤمنون أي الكاملو الإيمان ، ثم أخبر عنهم بموصول وصل بثلاث مقامات عظيمة مقام الخوف ، ومقام زيادة الإيمان ، ومقام التوكل ، ويحتمل قوله إذا ذكر الله أن يذكر اسمه ويلفظ به تفزع قلوبهم لذكره استعظاماً له وتهيباً وإجلالاً ويكون هذا الذكر مخالفاً للذكر في قوله ) ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( لأنّ ذكرَ الله هناك رأفته ورحمته وثوابه ويحتمل أن يكون ذكر الله على حذف مضاف أي ذكرت عظمة الله وقدرته وما خوف به من عصاه قاله الزجاج ، وقال السدّي : هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر الله فيفزع عنها وفي الحديث في السبع الذين يُظلّهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ورجل دعته امرأة ذات

" صفحة رقم 455 "
جمال ومنصب فقال إني أخاف الله ، ومعنى زادتهم إيماناً أي يقيناً وتثبيتاً لأن تظاهر الأدلة وتظافرها أقوى على الطمأنينة المدلول عليه وأرسخ لقدمه . وقيل المعنى أنه إذا كان لم يسمع حكماً من أحكام القرآن منزّل للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) فآمن به زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به إذ لكلّ حكم تصديق خاص ، ولهذا قال مجاهد عبر بزيادة الإيمان عن زيادة العلم وأحكامه . وقيل زيادة الإيمان كناية عن زيادة العمل ، وعن عمر بن عبد العزيز أن للإيمان سنة وفرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان ، وقيل هذا في الظالم يوعظ فيقال له اتّقِ الله فيقلع فيزيده ذلك إيماناً والظاهر أن قوله ) وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( داخل في صلة الذين كما قلنا قبل ، وقيل هو مستأنف وترتيب هذه المقامات أحسن ترتيب فبدأ بمقام الخوف إما خوف الإجلال والهيبة وإما خوف العقاب ، ثم ثانياً بالإيمان بالتكاليف الواردة ، ثم ثالثاً بالتفويض إلى الله والانقطاع إليه ورخص ما سواه .
الأنفال : ( 3 ) الذين يقيمون الصلاة . . . . .
( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( الأحسن أن يكون ) الَّذِينَ ( صفة للذين السابقة حتى تدخل في حيّز الجزئية فيكون ذلك إخباراً عن المؤمنين بثلاث الصفة القلبية وعنهم بالصفة البدنية والصفة المالية وجمع أفعال القلوب لأنها أشرف وجمع في أفعال الجوارح بين الصلاة والصدقة لأنهما عموداً أفعال وأجاز الحوفي والبريزي أن يكون ) الَّذِينَ ( بدلاً من الذين وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين والظاهر أن قوله و ) مّمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( عام في الزكاة ونوافل الصدقات وصلات الرحم وغير ذلك من المبار المالية ، وقد خصّ ذلك جماعة من المفسرين بالزكاة لاقترانها بالصلاة .
الأنفال : ( 4 ) أولئك هم المؤمنون . . . . .
( أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ( قال ابن عطيّة ) حَقّاً ( مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه وهو المصدر غير المنتقل والعامل فيه أحقّ ذلك حقاً انتهى ، ومعنى ذلك أنه تأكيد لما تضمنته الجملة من الإسناد الخبري وأنه لا مجاز في ذلك الإسناد . وقال الزمخشري حقاً صفة للمصدر المحذوف أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقًّا وهو مصدر مؤكد للجملة التي هي أولئك هم المؤمنون كقوله هو عبد الله حقاً أي حقّ ذلك حقاً . وعن الحسن أنه سأله رجل أمؤمن أنت قال : الإيمان إيمانان فإن كانت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله إنما المؤمنون فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا وأبعد من زعم أن الكلام ثم عند قوله أولئك هم المؤمنون وأنّ حقاً متعلق بما بعده أي حقاً لهم درجات وهذا لأنّ انتصابَ حقاً على هذا التقدير يكون عن تمام جملة الابتداء بمكان التأخير عنها لأنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة فلا يجوز تقديمه وقد أجازه بعضهم وهو ضعيف .
( لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( لما تقدمت ثلاث صفات قلبية وبدنية ومالية ترتّب عليها ثلاثة أشياء فقوبلت الأعمال القلبية بالدرجات ، والبدنية بالغفران ، وفي الحديث أن رجلاً أتى من امرأة أجنبية ما يأتيه الرجل من أهله غير الوطء ، فسأله الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما أخبر بذلك أصلّيت معنا فقال نعم فقال له : غفر الله لك وقوبلت المالية بالرزق بالكريم وهذا النوع من المقابلة من بديع علم البيان . وقال ابن عطية والجمهور : إنّ المراد مراتب الجنة ومنازلها ودرجاتها على قدر أعمالهم ، وحكى الطبري عن مجاهد أنها درجات أعمال الدنيا وقوله ورزق كريم يريد به مآكل الجنة ومشاربها وكريم صفة تقتضي رفع المقام كقوله ثوب كريم وحسب كريم ، وقال الزمخشري درجات شرف وكرامة وعلوّ منزلة ومغفرة وتجاوز لسيئاتهم ورزق كريم ونعيم الجنة منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم وهذا معنى الثواب انتهى . وقال عطاء درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم ، وقال الربيع بن أنس

" صفحة رقم 456 "
سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة وقيل مراتب ومنازل في الجنة بعضها على بعض ، وفي الحديث أنّ أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما يتراءى الكوكب الدرّيّ وثلاثة الأقوال هذه تدل على أنه أريد الدرجات حقيقة وعن مجاهد درجات أعمال رفيعة .
الأنفال : ( 5 - 6 ) كما أخرجك ربك . . . . .
( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقّ بَعْدَمَا مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ( اضطرب المفسرون في قوله ) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ ( واختلفوا على خمسة عشر قولاً . أحدها أن الكاف بمعنى واو القسم وما بمعنى الذي واقعة على ذي العلم وهو الله كما وقعت في قوله وما خلق الذكر والأنثى وجواب القسم يجادلونك ، والتقدير والله الذي أخرجك من بيتك يجادلونك في الحق قاله أبو عبيدة وكان ضعيفاً في علم النحو ، وقال الكرماني هذا سهو ، وقال ابن الأنباري الكاف ليست من حروف القسم انتهى . وفيه أيضاً أن جواب القسم بالمضارع المثبت جاء بغير لام ولا نون توكيد ولا بدّ منهما في مثل هذا على مذهب البصريين أو من معاقبة أحدهما الآخر على مذهب الكوفيين ، أما خلوّه عنهما أو أحدهما فهو قول مخالف لما أجمع عليه الكوفيون والبصريون ، القول الثاني أن الكاف بمعنى إذ وما زائدة تقديره أذكر إذ أخرجك وهذا ضعيف لأنه لم يثبت أن الكاف تكون بمعنى إذ في لسان العرب ولم يثبت أن ما تزاد بعد هذا غير الشرطيّة وكذلك لا تزاد ما ادعى أنه بمعناها ، القول الثالث الكاف بمعنى على وما بمعنى الذي تقديره امض على الذي أخرجك ربك من بيتك وهذا ضعيف لأنه لم يثبت أنّ الكاف تكون بمعنى على ولأنه يحتاج الموصول إلى عائد وهو لا يجوز أن يحذف في مثل هذا التركيب ، القول الرابع قال عكرمة : التقدير وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما أخرجك في الطاعة خير لكم كما كان إخراجك خيراً لهم ، القول الخامس قال الكسائي وغيره كما أخرجك ربك من بيتك على كراهة من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودّون غير ذات الشوكة من بعدما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون ، قال ابن عطية والتقدير على هذا التأويل يجادلونك في الحق مجادلةً لكراهتهم إخراج ربك إياك من بيتك فالمجادلة على هذا التأويل بمثابة الكراهة وكذا وقع التشبيه في المعنى وقائل هذا المقالة يقول إنّ المجادلين هم المشركون ، القول السادس قال الفراء : التقدير امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت إن كرهوا كما أخرجك ربك انتهى . قال ابن عطية : والعبارة بقوله إمضِ لأمرك ونفل من شئت غير محرّرة وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال كأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج الله ذلك عنهم فكانت هذه الخيرة كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بإخراجه الله من بيته فكانت في ذلك الخيرة وتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم ههنا الخروج ، وحكم الله في النفل بأنه لله والرسول فهو بمثابة إخراجه نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) من بيته ثم كانت الخيرة في القصتين مما صنع الله وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله يجادلونك كلاماً مستأنفاً يراد به الكفار أي يجادلونك في شريعة الإسلام من بعدما تبين الحقّ فيها كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان وهذا الذي ذكرت من أن يجادلونك في الكفار منصوص ، قال ابن عطية : فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن وصف اللفظ انتهى . ونعني بالقولين قول الفراء وقول الكسائي وقد كثر الكلام في هاتين المقالتين ولا يظهران ولا يلتئمان من حيث دلالة العاطف ، القول السابع قال الأخفش : الكاف نعت لحقاً والتقدير هم المؤمنون حقًّا كما أخرجك ، قال ابن عطية والمعنى على هذا التأويل كما زاد لا يتناسق ، القول الثامن أن الكاف في موضع رفع والتقدير كما أخرجك ربك فاتقوا الله كأنه ابتداء وخبر . قال ابن عطية : وهذا المعنى وضعه هذا المفسر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر ؛ القول التاسع قال الزجاج الكاف في موضع نصب والتقدير الأنفال ثابتة لله ثباتاً كما أخرجك ربك وهذا الفعل أخذه الزمخشري وحسنه . فقال ينتصب على أنه صفة مصدر للفعل المقدّر في قوله الأنفال لله والرسول أي الأنفال استقرت لله

" صفحة رقم 457 "
والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون انتهى ، وهذا فيه بعد لكثرة الفصل بين المشبّه والمشبّه به ولا يظهر كبير معنى لتشبيه هذا بهذا بل لو كانا متقاربين لم يظهر للتشبيه كبير فائدة ، القول العاشر أن الكاف في موضع رفع والتقدير لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم هذا وعد حقّ كما أخرجك وهذا في حذف مبتدأ وخبر ولو صرّح بذلك لم يلتئم التشبيه ولم يحسن ؛ القول الحادي عشر أنّ الكاف في موضع رفع أيضاً والمعنى وأصلحوا ذات بينكم ذلكم خير لكم كما أخرجك فالكاف نعت لخبر ابتدأ محذوف وهذا أيضاً فيه حذف وطول فصل بين قوله وأصلحوا وبين كما أخرجك ، القول الثاني عشر أنه شبه كراهية أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بخروجه من المدينة حين تحققوا خروج قريش للدفع عن أبي سفيان وحفظ غيره بكراهيتهم نزع الغنائم من أيديهم وجعلها للرسول أو التنفيل منها وهذا القول أخذه الزمخشري وحسّنه فقال : يرتفع محلّ الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحال كحال إخراجك يعني أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل القراءة مثل حالهم في كراهة خروجهم للحرب وهذا النهي قاله هذا القائل وحسّنه الزمخشري هو ما فسر به ابن عطية قول الفراء بقوله هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال إلى آخر كلامه ، القول الثالث عشر أن المعنى قسمتك للغنائم حق كما كان خروجك حقاً ؛ القول الرابع عشر أنّ التشبيه وقع بين إخراجين أي إخراجك ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت كاره لخروجك وكانت عاقبة ذلك الخير والنصر والظفر كإخراج ربك إياك من المدينة وبعض المؤمنين كاره يكون عقيب ذلك الظفر والنصر القول الخامس عشر الكاف للتشبيه على سبيل المجاز كقول القائل لعبده كما وجهتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألت مدداً فأمددتك وقويْتُك وأزحت عللك فخذْهم الآن فعاقبهم بكذا وكم كسوتك وأجريت عليك الرزق فاعمل كذا وكما أحسنت إليك ما شكرتني عليه فتقدير الآية كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق وغشاكم النعاس أمنه منه يعني به إياه ومن معه وأنزل من السماء ماء ليطهركم به وأنزل عليكم من السماء ملائكة مردفين فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان كأنه يقول قد أزحت عللكم وأمددتكم بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع وهو القتل لتبلغوا مراد الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل ، وملخّص هذا القول الطويل أن ) كَمَا أَخْرَجَكَ ( يتعلق بقوله فاضربوا وفيه من الفصل والبعد ما لا خفاء به وقد انتهى ذكر هذه الأقوال الخمسة عشر التي وقفنا عليها .
ومن دفع إلى حوك الكلام وتقلّب في إنشاء أفانينه وزاول الفصاحة والبلاغة لم يستحسن شيئاً من هذه الأقوال وإن كان بعض قائلها له إمامة في علم النحو ورسوخ قدم لكنه لم يحتط بلفظ الكلام ولم يكن في طبعه صوغه أحسن صوغ ولا التصرّف في النظر فيه من حيث الفصاحة وما به يظهر الإعجاز . وقبل تسطير هذه الأقوال هنا وقعت على جملة منها فلم يلق لخاطري منها شيء فرأيت في النوم أنني أمشي في رصيف ومعي رجل أباحثه في قوله ) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ ( فقلت له ما مرّ بي شيء مشكل مثل هذا ولعل ثم محذوفاً يصح به المعنى وما وقفت فيه لأحد من المفسرين على شيء طائل ثم قلت له ظهر لي الساعة تخريجه وإن ذلك المحذوف هو نصرك واستحسنت أنا وذلك الرجل هذا التخريج ثم انتبهت من النوم وأنا أذكره ، والتقدير فكأنه قيل كما أخرجك ربك من بيتك بالحق أي بسبب إظهار دين الله وإعزاز شريعته وقد كرهوا خروجك تهيباً للقتال وخوفاً من الموت إذ كان أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لخروجهم بغتة ولم يكونوا مستعدين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه نصرك الله وأمدّك بملائكته ودلّ على هذا المحذوف الكلام الذي بعده وهو قوله تعالى إذ تستغيثون ربكم

" صفحة رقم 458 "
فاستجاب لكم الآيات ، ويظهر أن الكاف في هذا التخريج المنامي ليست لمحض التشبيه بل فيها معنى التعليل ، ود نص النحويون على أنها قد تحدث فيها معنى التعليل وخرجوا عليه قوله تعالى : ) وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ( وأنشدوا :
لا تشتم الناس كما لا تشتم
أي لانتفاء أن يشتمك الناس لا تشتمهم ومن الكلام الشائع على هذا المعنى كما تطيع الله يدخلك الجنة أي لأجل طاعتك الله يدخلك الجنة فكان المعنى إن خرجت لإعزاز دين الله وقتل أعدائه نصرك الله وأمدّك بالملائكة والواو في وإن فريقاً واو الحال والظاهر أن من بيتك هو مقام سكناه وقيل المدينة لأنها مهاجره ومختصة به ، وقيل مكة وفيه بعد لأن الظاهر أن هذا إخبار عن خروجه إلى بدر فصرفه إلى الخروج من مكة ليس بظاهر ومفعول لكارهون هو الخروج أي لكارهون الخروج معك وكراهتهم ذلك إما لنفرة الطبع أو لأنهم لم يستنفروا أو العدول من العير إلى النفير لما في ذلك من قوّة أخذ الأموال ولما في هذا من القتل والقتال ، أو لترك مكة وديارهم وأموالهم أقوال أربعة ، والظاهر أن ضمير الرفع في يجادلونك عائد على فريق المؤمنين الكارهين وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال والحق هنا نصرة دين الإسلام ، وقيل الضمير يعود على المشركين وجدالهم في الحق هو في شريعة الإسلام . وقرأ عبد الله بعدما بين بضم الباء من غير تاء وفي قوله بعدما تبين إنكار عظيم عليهم لأنّ من جادل في شيء لم يتضح كان أخف عتباً أما من نازع في أمر واضح فهو جدير باللوم والإنكار ثم شبه حالهم في فرط فزعهم وهم يساريهم إلى الظفر والغنيمة بحال من يساق على الصفا إلى الموت وهو مشاهد لأسبابه ناظر إليها لا يشك فيها ، وقيل كان خوفهم لقلة العدد وأنهم كانوا رجالة ، وروي أنه ما كان فيهم إلا فارسان وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر وكان المشركون في نحو ألف رجل وقصة بدر هذه مستوعبة في كتاب السير وقد لخص منها الزمخشري وابن عطية ما يوقف عليه في كتابيهما .
الأنفال : ( 7 - 8 ) وإذ يعدكم الله . . . . .
( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ ( إحدى الطائفتين غير معينة والطائفتان هما كطائفة غير قريش وكانت فيهما تجارة عظيمة لهم ومعها أربعون راكباً فيها أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام وطائفة الذين استنفرهم أبو جهل وكانوا في العدد الذي ذكرناه وغير ذات الشوكة هي العير لأنها ليست ذات قتال وإنما هي غنيمة باردة ومعنى إثبات الحق تثبيته وإعلاؤه وبكلماته بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر وبما ظهر ما أخبر به ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال والمعنى أنكم ترغبون في إبقاء العاجلة وسلامة الأحوال وسفساف الأمور وإعلاء الحق والفوز في الدارين ، وشتان ما بين المرادين ، ولذلك اختار لكم ذات الشوكة وأراكهم عياناً خذلهم ونصركم وأذلهم وأعزّكم وحصل لكم ما أربى على دائرة العير وما أدناه خير منهما ، وقرأ مسلمة بن محارب بعدكم بسكون الدال لتوالي الحركات وابن محيصن الله إحدى بإسقاط همزة إحدى على غير قياس ، وعنه أيضاً أحد على التذكير إذ تأنيث الطائفة مجاز ، وأدغم أبو عمرو الشوكة تكون ، وقرأ مسلم بن محارب بكلمته على التوحيد وحكاها ابن عطية عن شيبة وأبي جعفر ونافع بخلاف عنهم وأطلق المفر مراداً به الجمع للعلم به أو أريد به كلمة تكوين الأشياء وهو كن قيل وكلماته هي ما وعد نبيه في سورة الدخان فقال : ) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا

" صفحة رقم 459 "
مُنتَقِمُونَ ( أي من أبي جهل وأصحابه ، وقيل أوامره ونواهيه ، وقيل مواعيده النصر والظفر والاستيلاء على إحدى الطائفتين ، وقيل كلماته التي سبقت في الأزل ومعنى ليحقّ الحقّ ليظهر ما يجب إظهاره وهو الإسلام ويبطل الباطل فعل ذلك ؛ وقيل الحقّ القرآن والباطل إبليس وتتعلق هذه اللام بمحذوف تقديره ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل فعل ذلك أي ما فعله إلا لهما وهو إثبات الإسلام وإظهاره وإبطال الكفر ومحوه وليس هذا بتكرير لاختلاف المعنيين الأول تبيين بين الإرادتين والثاني بيان لما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك على كثرتهم إلا لهذا المقصد الذي هو أسنى المقاصد وتقدير ما تعلّق به متأخراً أحسن . قال الزمخشري ويجب أن يقدر المحذوف متأخراً حتى يفيد معنى الاختصاص وينطبق عليه المعنى انتهى ، وذلك على مذهبه في أنّ تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص والحصر وذلك عندنا لا يدل على ذلك إنما يدلّ على الاعتناء والاهتمام بما قدّم لا على تخصيص ولا حصر وتقدم الكلام معه في ذلك ؛ وقيل يتعلق ليحق بقوله ويقطع ؛ وقال ابن عطية ولو كره أي وكراهتكم واقعة فهي جملة في موضع الحال انتهى ، وقد تقدم لنا الكلام معه في ذلك وأن التحقيق فيه أن الواو للعطف على محذوف ذلك المحذوف في موضع الحال والمعطوف على الحال حال ومثّلنا ذلك بقوله أعطوا السائل ولو جاء على فرس أي على كل حال ولو على هذه الحالة التي تنافي الصدقة على السائل ، وأن ولو هذه تأتي لاستقصاء ما بطن لأنه لا يندرج في عموم ما قبله لملاقاة التي بين هذه الحال وبين المسند الذي قبلهما ، وقال الحسن هاتان الآيتان متقدمتان في النزول على قوله كما أخرجك ربك وفي القراءة بعدهما لتقابل الحق بالحق والكراهة بالكراهة انتهى ، وهذه دعوى لا دليل عليها ولا حاجة تضطرنا إلى تصحيحها .
الأنفال : ( 9 ) إذ تستغيثون ربكم . . . . .
( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ ). استغاث طلب الغوث لما علموا أنه لا بدّ من القتال شرعوا في طلب الغوث من الله تعالى والدعاء بالنصرة والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله وإذ يعدكم وتودّون وأن الخطاب في قوله كما أخرجك ويجادلونك هو خطاب للرسول ولذلك أفرد فالخطابان مختلفان ، وقيل المستغيث هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وروي عن ابن عباس أنه قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف وإلى المشركين وهم ألف فاستقبل القبلة ومدّ يده وهو يقول : اللهم أنجزني ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصة بة لا تعبد في الأرض ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه فرده أبو بكر رضي الله عنه كفاك يا رسول الله مناشدتك الله فإنه سينجز لك ما وعدك ، قالوا فيكون من خطاب الواحد المعظّم خطاب الجميع ، وروي أن أبا جهل عندما اصطفّ القوم قال : اللهم أولانا بالحق فانصره وإذ بدل من إذ يعدكم قاله الزمخشري وابن عطية وكان قد قدم أن العامل في إذ يعدكم اذكر ، وقال الطبري هي متعلقة بيحق ويبطل وأجاز هو والحوفي أن تكون منصوبة بيعدكم وأجاز الحوفي أن تكون مستأنفة على إضمار واذكروا وأجاز أبو البقاء أن تكون ظرفاً لتودون واستغاث يتعدى بنفسه كما هو في الآية ويتعدى بحرف جر كما جاء في لفظ سيبويه في باب الاستغاثة ، وفي باب ابن مالك في النحو المستغاث ولا يقول المستغاث به وكأنه لما رآه في القرآن تعدّى بنفسه قال المستغاث ولم يعده بالباء كما عداه سيبويه والنحويون وزعم أن كلام العرب بخلاف ذلك وكلامه مسموع من كلام العرب فما جاء معدى بالباء قول الشاعر : حتى استغاث بماء لا رشاء له
من الأباطح في حاجاته البرك

" صفحة رقم 460 "
مكلّل بأصول النبت تنسجه ريح حريق لضاحي مائه حبك كما استغاث بشيء قبر عنطلة خاف العيون ولم ينظر به الحشك
وقرأ الجمهور أني بفتح أي بأني وعيسى بن عمر ورواها عن أبي عمرو وإني بكسرها على إضمار القول على مذهب البصريين أو على الحكاية باستجاب لإجرائه مجرى الفعل إذ سوى في معناه وتقدم الكلام في شرح استجاب . وقرأ الجمهور بألف على التوحيد والجحدري بآلف على وزن أفلس وعنه وعن السدّي بآلف والجمع بين الأفراد والجمع أن يحمل الأفراد على من قاتل منهم أو على الوجوه الذين من سواهم اتباع لهم ؛ وقرأ نافع وجماعة من أهل المدينة وغيرهم مردفين بفتح الدال وباقي السبعة والحسن ومجاهد بكسرها أي متابعاً بعضهم بعضاً ، وروي عن ابن عباس : خلف كلَّ ملك ملك وراءه . وقرأ بعض المكيين فيما روى عنه الخليل بن أحمد وحكاه عن ابن عطية مردفين بفتح الراء وكسر الدال مشددة أصله مرتدفين فأدغم ؛ وقال أبو الفضل الرازي وقد يجوز فتح الراء فراراً إلى أخفّ الحركات أو لثقل حركة التاء إلى الراء عند الإدغام ولا يعرف فيه أثراً انتهى ؛ وروي عن الخليل أنه يضمّ الراء اتباعاً لحركة الميم لقولهم مخضم ؛ وقرىء كذلك إلا أنه بكسر الراء اتباعاً لحركة الدال أو حرّكت بالكسر على أصل التقاء الساكنين ؛ قال ابن عطية : ويحسن مع هذه القراءة كسر الميم ولا أحفظه قراءة كقولهم مخصم ، وتقدّم الكلام في عدد الملائكة وهل قاتلت أم لم تقاتل في آل عمران ولم تتعرض الآية لقتالهم والظاهر أن قراءة من قرأ مردفين بسكون الراء وفتح الدال أنه صفة لقوله بألف أي أردف بعضهم لبعض ؛ قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالمردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة فمردفين على هذا حال من الضمير قال الزمخشري وأردفته إياه إذا اتبعته ويقال أردفته كقولك اتبعته إذا جئت بعده فلا يخلو المسكور الدال أن يكون بمعنى متبعين أو متبعين فإن كان بمعنى متبعين فلا يخلو أن يكون بمعنى متبعين بعضهم بعضاً أو متبعين بعضهم لبعض أو بمعنى متبعين إياهم المؤمنون أي يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم أو متبعين لهم يشيعوهم ويقدمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم ليكونوا على أعينهم وحفظهم أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة آخرين أو متبعين غيرهم من الملائكة ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران ) بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ ( ) بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُسَوّمِينَ ( انتهى . وهذا تكثير في الكلام وملّخصه أنّ اتّبع مشدداً يتعدى إلى واحد واتبع مخففاً يتعدى إلى اثنين وأردف أتى بمعناهما والمفعول ل ( تبع ) محذوف والمفعولان ل ( تبع ) محذوفان فيقدر ما يصح به المعنى وقوله أو متبعين إياهم المؤمنين هذا ليس من مواضع فصل الضمير بل مما يتصل وتحذف له النون لا يقال هؤلاء كاسون إياك ثوباً بل يقال كاسوك فتصحيحه أن يقول أو بمعنى متبعيهم المؤمنين أو يقول أو بمعنى متبعين أنفسهم المؤمنين .
الأنفال : ( 10 ) وما جعله الله . . . . .
( وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( تقدم تفسير نظير هذه الآية والمعنى إلا بشرى لكم واثبت في آل عمران لأنّ القصة فيها مسهبة وهنا موجزة فناسب هنا الحذف وهنا قدم وأخر هناك على سبيل التفنن والاتساع في الكلام وهنا جاء أنّ الله عزيز حكيم مراعاة لأواخر الآي وهناك ليست آخر آية لتعلق يقطع بما

" صفحة رقم 461 "
قبله فناسب أن يأتي العزيز الحكيم على سبيل الصفة وكلاهما مشعر بالعلية كما تقول أكرم زيداً العالم وأكرم زبداً أنه عالم والضمير في وما جعله عائد على الإمداد المنسبك من أني ممدكم أو على المدد أو على الوعد الدال عليه يعدكم إحدى الطائفتين أو على الألف أو على الاستجابة أو على الإرداف أو على الخبر بالإمداد أو على جبريل أقوال محتملة مقولة أظهرها الأول ولم يذكر الزمخشري غيره .
الأنفال : ( 11 ) إذ يغشيكم النعاس . . . . .
( إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ ( قال الزمخشري بدل ثان من إذ يعدكم أو منصوب بالنصر أو بما في عند الله من معنى الفعل أو بما جعله الله أو بإضمار اذكر انتهى . أما كونه بدلاً ثانياً من إذ يعدكم فوافقه عليه ابن عطية فإنّ العامل في إذ هو العامل في قوله وإذ يعدكم بتقدير تكراره لأنّ الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف وإنما القصد أن يعدّد نعمه على المؤمنين في يوم بدر فقال واذكروا إذ فعلنا بكم كذا اذكروا إذ فعلنا كذا وأما كونه منصوباً بالنصر ففيه ضعف من وجوه : أحدها أنه مصدر فيه أل وفي إعماله خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز إعماله ، الثاني أنه موصول وقد فصل بينه وبين معموله بالخبر الذي هو إلا من عند الله وذلك إعمال لا يجوز لا يقال ضرب زيد شديد عمراً ، الثالث أنه يلزم من ذلك إعمال ما قبل إلا في ما بعدها من غير أن يكون ذلك المفعول مستثنى أو مستنثى منه أو صفة له وإذ ليس واحداً من هذه الثلاثة فلا يجوز ما قام إلا زيد يوم الجمعة وقد أجاز ذلك الكسائي والأخفش ، وأما كونه منصوباً بما في عند الله من معنى الفعل فيضعفه المعنى لأنه يصير استقرار النصر مقيداً بالظرف والنصر من عند الله مطلقاً في وقت غشي النعاس وغيره وأما كونه منصوباً بما جعله الله فقد سبقه إليه الحوفيّ وهو ضعيف أيضاً لطول الفصل ولكونه معمول ما قبل إلا وليس أحد تلك الثلاثة ، وقال الطبري العامل في إذ قوله ولتطمئن . قال ابن عطية : وهذا مع احتماله فيه ضعف ، وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون ظرفاً لما دلّ عليه عزيز حكيم وقد سبقه إلى قريب من هذا ابن عطية فقال : ولو جعل العامل في إذا شيئاً فرنها بما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في إذ حكيم لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمة حكمة من الله عز وجل انتهى ، والأجود من هذه الأقوال أن يكون بدلاً وقرأ مجاهد وابن محيصن وأبو عمرو وابن كثير يغشاكم النعاس مضارع غشى والنعاس رفع به ، وقرأ الأعرج وابن نصاح وأبو حفص ونافع يغشيكم مضارع أغشى ، وقرأ عروة بن الزبير ومجاهد والحسن وعكرمة وأبو رجاء وابن عامر والكوفيون يغشيكم مضارع غشى والنعاس في هاتين القراءتين منصوب والفاعل ضمير الله وناسبت قراءة نافع قوله يغشى طائفة منكم وقراءة الباقين وينزل حيث لم يختلف الفاعل ومعنى يغشيكم يعطيكم به وهو استعارة جعل ما غلب عليهم من النعاس غشياناً لهم ، وتقدم شرح النعاس وأمنة في آل عمران والضمير في منه عائد على الله وانتصب أمنة ، قيل على المصدر أي فأمنتم أمنة والأظهر أنه انتصب على أنه مفعول له في قراءة يغشيكم لاتحاد الفاعل لأنّ المغشى والمؤمن هو الله تعالى ، وأما على قراءة يغشاكم فالفاعل مختلف إذ فاعل يغشاكم هو النعاس والمؤمن هو الله وفي جواز مجيء المفعول له مع اختلاف الفاعل خلاف ، وقال الزمخشري ، ( فإن قلت ) : أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً ، قلت بلى ولكن لما كان معنى يغشاكم النعاس تتغشون انتصب أمنة على أن النعاس والأمنة لهم والمعنى إذ تتغشون أمنة بمعنى أمنا أي لأمنكم ومنه صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من الله تعالى ، ( فإن

" صفحة رقم 462 "
قلت ) : هل يجوز أن ينتصب على أن الأمنة للنعاس الذي هو يغشاكم أي يغشاكم النعاس لأمنه على أنّ إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة أو على أنه أمانكم في وقته كان من حق النعاس في ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشياكم وإنما غشاكم أمنة حاصلة من الله تعالى لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل ، ( قلتلله : لا تتعدى فصاحة القرآن عن احتماله وله فيه نظائر ولقد ألمّ به من قال : يهاب النوم أن يغشى عيونا
تهابك فهو نفار شرود
وقرىء أمنة بسكون الميم ونظير أمن أمنة حيي حياة ونحو أمن من أمنة رحم رحمه ، والمعنى أنّ ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم فلما طامن الله تعالى قلوبهم أمنهم وأقروا ، وعن ابن عباس : النعاس في القتال أمنة من الله تعالى وفي الصلاة وسوسة من الشيطان انتهى ، وعن ابن مسعود شبيه هذا الكلام وقال النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من الله تعالى وهو في الصلاة من الشيطان ، قال ابن عطية : وهذا إنما طريقة الوحي فهو لا محالة يسندها انتهى ، والذي قرأ أمنه بسكون الميم هو ابن محيصن ورويت عن النخعي ويحيى بن يعمر وغشيان النوم إياهم قيل حال التقاء الصفين ومضي مثل هذا في يوم أحد في آل عمران ، وقيل : الليلة التي كان القتال في غدها امتنّ عليهم بالنوم مع الأمر المهم الذي يرونه في غد ليستريحوا تلك الليلة وينشطوا في غدها للقتال ويزول رعبُهم ، ويقال : الأمن مُنيم والخوف مُسهر والأولى أن يكون ترتيب هذه الجمل في الزمان كترتيبها في التلاوة فيكون إنزال المطر تأخر عن غشيان النعاس ، وعن ابن نجيح أن المطر كان قبل النعاس واختاره ابن عطية قال ونزول الماء كان قبل تغشية النعاس ولم يترتب كذلك في الآية إذ القصد منها تعديد النعم فقط ، وقرأ طلحة وينزّل بالتشديد ، وقرأ الجمهور ماء بالمد ، وقرأ الشعبي ما بغير همز ، حكاه ابن جنّي ، صاحب اللوامح في شواذ القراءات ، وخرّجاه على أنّ ما بمعنى الذي ، قال صاحب اللوامح : وصلته حرف الجر الذي هو ليطهركم والعائد عليه هو ومعناه الذي هو ليطهركم به انتهى ، وظاهر هذا التخريج فاسد لأنّ لام كي لا تكون صلة ومن حيث جعل الضمائر هو وقال معناه الذي هو ليطهركم ولا تكون لام كي هي الصلة بل الصلة هو ولام الجر والمجرور ، وقال ابن جنّي ما موصولة وصلتها حرف الجر بما جره فكأنه قال ما للطهور انتهى . وهذا فيه ما قلنا من مجيء لام كي صلة ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر وهو أنّ ما ليس موصولاً بمعنى الذي وأنه بمعنى ماء المحدود وذلك أنهم حكوا أن العرب حذفت هذه الهمزة فقالوا ما يا هذا بحذف الهمزة وتنوين الميم فيمكن أن تُحرّج على هذا إلا أنهم أجروا الوصل مجرى الوقف فحذفوا التنوين لأنك إذا وقفت على شربت ما قلت شربت ما بحذف التنوين وإبقاء الألف إما ألف الوصل الذي هي بدل من الواو وهي عين الكلمة وإما الألف التي هي بدل من التنوين حالة النصب ، وقرأ ابن المسيّب ليطهرّكم بسكون الطاء ومعنى ليطهركم من الجنابات وكان المؤمنون لحق أكثرهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء وكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكان المشركون قد سبقوهم إلى ماء بدر ، وقيل بل المؤمنون سبقوا إلى الماء ببدر وكان نزول المطر قبل ذلك ، والمرويّ عن ابن عباس وغيره أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك ، فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم نزعم أنا أولياء الله وفينا رسول الله ، وحالنا هذه ، والمشركون على الماء فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعةَ عشر من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهّروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت

" صفحة رقم 463 "
القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل تلبدت قالوا فهذا معنى قوله ليطهركم به أي من الجنابات ويذهب عنكم رجز الشيطان أي عذابه لكم بوسواسه والرجز العذاب ، وقيل رجزه كيده ووسوته ، وقيل الجنابة من الاحتلام فإنها من الشيطان ، وورد ما احتلم نبي قط إنما الاحتلام يكون من الشيطان ، وقرأ عيسى بنُ عمرو يذهب بجزم الباء ، وقرأ ابن محيصن رجز بضم الراء وأبو العالية رجس بالسين ومعنى الربط على القلب هو اجتماع الرأي والتشجيع على لقاء العدو والصبر على مكافحة العدو والربط الشد هو حقيقة في الأجسام فاستعير منها لما حصل في القلب من الشدة والطمأنينة بعد التزلزل ، ومقتضى ذلك الربط قال ابن عباس الصبر ، وقال مقاتل الإيمان ، وقيل نزول المطر ، وهو الظاهر ، لأن قوله ليطهّركم وما بعده تعليل لإنزال المطر والظاهر أن تثبيت الأقدام هو حقيقة لأن المكان الذي وقع فيه اللقاء كان رملاً تغوص فيه الأرجل فلبده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام والضمير في به عائد على المطر ، وقيل التثبيت للأقدام معنوي والمراد به كونه لا يفر وقت القتال والضمير في به عائد على المصدر الدال عليه وليربط وانظر إلى فصاحة مجيء هذه التعليلات بدأ أولاً منها بالتعليل الظاهر وهو تطهيرهم من الجنابة ، وهو فعل جسماني أعني اغتسالهم من الجنابة ، وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازم التطهير وهو إذهاب رجز الشيطان حيث وسوس إليهم بكونهم يصلون ولم يغتسلوا من الجنابة ثم عطف بلام العلة ما ليس بفعل جسماني ، وهو فعل محله القلب ، وهو التشجيع والاطمئنان والصبر على اللقاء وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازمه وهو كونهم لا يقرّون وقت الحرب فحين ذكر التعليل الظاهر الجسماني والتعليل الباطن القلبيّ ظهر حرف التعليل وحين ذكر لازمها لم يؤكد بلام التعليل وبدأ أولاً بالتطهير لأنه الآكد والأسبق في الفعل ولأنه الذي تؤدي به أفضل العبادات وتحيا به القلوب .
الأنفال : ( 12 ) إذ يوحي ربك . . . . .
( إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ ( هذا أيضاً من تعدد النعم إذ الإيحاء إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي ينصرهم ويعينهم وأمرهم بتثبيت المؤمنين والإخبار بما يأتي بعد من إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم والأمر بالضرب فوق أعناقهم وكلّ بنان منهم من أعظم النعم ، وفي ذلك إعلام بأنّ الغلبة والظفر والعاقبة للمؤمنين ، وقال الزمخشري : إذ يوحى يجوز أن يكون بدلاً ثالثاً من إذ يعدكم وأن ينتصب بثبت ، وقال ابن عطية : العامل في إذ العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها ولو قدّرناه قريباً لكان قوله ويثبت على تأويل عود الضمير على الرّبط وأما عوده على الماء فيمكن أن يعمل ويثبت في إذ انتهى وإنما يمكن ذلك عنده لاختلاف زمان التثبيت عنده وزمان هذا الوحي لأنّ زمان إنزال المطر وما تعلق به من تعاليله متقدم على تغشية النعاس والإيحاء كانا وقت القتال وهذا الوحي إما بإلهام وإما بإعلام ، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه إذ معكم الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين أو على إجراء يوحي مجرى تقول على مذهب الكوفيين والملائكة هم الذين أمدّ المؤمنون بهم ، ولما كان ما تقدم من تعداد النعم على المؤمنين جاء الخطاب لهم بيغشاكم وينزل عليكم ويطهّركم ويذهب رجز وليربط على قلوبكم إذ كان في هذه أشياء لا تناسب منصب الرسالة ولما ذكر الوحي إلى الملائكة أتى بخطاب الرسول وحده فقال إذ يوحى ربك ففي ذلك تشريف بمواجهته بالخطاب وحدَه أي مربيك والناظر في مصلحتك ويثبت الذين آمنوا . قال الحسن بالقتال أي فقاتلوا ، وقال مقاتل بشّروهم بالنصر فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل فيقول أبشروا فإن الله ناصركم وذكر الزجاج أنهم يثبتونهم بأشياء يلقونها في قلوب تقوى بها ، وذكر الثعلبي ونحوه قال : صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد ، وقال ابن عطية نحوه قال : ويحتمل أيضاً أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله

" صفحة رقم 464 "
) سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ ( وأن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد وعلى هذا التأويل يجيء قوله سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب مخاطبة للملائكة ثم يجيء قوله فاضربوا فوق الأعناق لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال كما تقول إذا وصفت لمن تخاطبه لقبنا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك ، أي هذه كانت صفة الحال ويحتمل أن يكون سألقي إلى آخر الآية خبراً يخاطب به المؤمنين عما يفعله بالكفار في المستقبل كما فعله في الماضي ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعاً لهم وحضًّا على نصرة الدين ، وقال الزمخشري والمعني أني معينكم على التثبت فثبتوهم فقوله سألقي فاضربوا يجوز أن يكون تفسيراً لقوله أني معكم فثبتوا ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم واجتماعهما غاية النصرة ويجوز أن يكون غير تفسير وأن يُراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصحّ عزائمهم ونياتهم وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدون بالملائكة ، وقيل كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتي فيقول إني سمعت المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن ويمشي بين الصفّين فيقول ابشروا فإن الله ناصركم لأنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه انتهى ، ثم قال ويجوز أن يكون قوله سألقي إلى قوله كل بنان عقيب قوله فثبتوا الذين آمنوا تلقينا للملائكة وما يثبتونهم به كأنه قال قولوا لهم سألقي والضاربون على هذا هم المؤمنون انتهى ، والذي يظهر أن ما بعد ) يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَةِ ( هو من جملة الموحى به وأن الملائكة هم المخاطبون بتثبيت المؤمنين وبضرب فوق الأعناق وكل بنان ، وقال السائب بن يسار : كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السّواري عن الرّعب الذي ألقاه الله في قلوب المشركين كيف كان يأخذ الحصا ويرمي به الطست فيظن فيقول : كنا نجد في أجوافنا مثل هذا ، وقرأ ابن عامر والكسائي والأعرج الرّعب بضم العين وفوق قال الأخفش : زائدة أي فاضربوا الأعناق وهو قول عطية والضحاك فيكون الأعناق هي المفعول باضربوا هذا ليس بجيد لأن فوق اسم ظرف والأسماء لا تزاد ، وقال أبو عبيدة : فوق بمعنى على تقول ضربته فوق الرأس وعلى الرأس ويكون مفعول فاضربوا على هذا محذوفاً أي فاضربوهم فوق الأعناق وهذا قول حسن لا بقاء فوق على معناها من الظرفية . وقال ابن قتيبة فوق بمعنى دون قال ابن عطية : وهذا خطأ بيّن وإنما دخل عليه اللبس من قوله بعوضة فما فوقها في القلّة والصغر فأشبه المعنى دون انتهى . وعلى قولا بن قتيبة يكون المفعول محذوفاً أي فاضربوهم ، وقال عكرمة : فوق على بابها وأراد الرؤوس إذ هي فوق الأعناق ، قال الزمخشري : يعني ضرب الهام . قال الشاعر :
واضرب هامة البطل المشيح
وقال آخر : غشيته وهو في جأواء باسلة
عضباً أصاب سوء الرأس فانفلقا
انتهى . وقال ابن عطية : وهذا التأويل أنبلها ويحتمل عندي أن يريد بقوله فوق الأعناق بوصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل ، وينظر إلى هذا

" صفحة رقم 465 "
المعنى قول دريد بن الصمّة الجشمي لابن الدّغنة السلمي حين قال له أخذ سيفي وأرفع عن العظم وأخفض عن الدماغ فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال ومنه قول الشاعر : جعل السيف بين الجيد منه
وبين أسيل خديه عذارا
فيجيء على هذا فوق الأعناق متمكّناً انتهى . فإن كان قول عكرمة تفسير معنى فحسن ويكون مفعول فاضربوا محذوفاً وإن كان أراد أنّ فوق هو المضروب فليس بجيّد لأن فوق من الظروف التي لا يتصرف فيها لا تكون مبتدأة ولا مفعولاً بها ولا مضافاً إليها إنما يتصرف فيها بحرف جر كقوله من فوقهم ظلل هذا هو الصحيح في فوق وقد أجاز بعضهم أن يكون فوق في الآية مفعولاً به وأجاز فيها التصرّف قال : تقول فوقك رأسك بالرفع وفوقك قلنسوتك بالنصب ويظهر هذا القول من الزمخشري قال : فوق الأعناق أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل فكان إيقاع الضرب فيها جزّاً وتطييراً للرأس انتهى ، والبنان تقدم الكلام فيها في المفردات ، وقالت فرقة منهم الضحاك البنان هي المفاصل حيث كانت من الأعضاء ، وقالت فرقة البنان الأصابع من اليدين والرّجلين . وقيل الأصابع وغيرها من الأعضاء والمختار أنها الأصابع . وقال عنترة العبسي : وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها
ويضرب عند الكرب كلّ بنان
وقال أيضاً : وأن الموت طرح يدي إذا ما
وصلت بنانها بالهندواني
وضرب الكفار مشروع في كلّ موضع منهم وإنما قصد أبلغ المواضع وأثبت ما يكون المقاتل لأنه إذا عمد إلى الرأس أو الأطراف كانت ثابت الجأش متبصراً فيما يضع فيه آلة قتاله من سيف ورمح وغيرهما مما يقع به اللقاء إذ ضرب الرأس فيه أشغل شاغل عن القتال وكثيراً ما يؤدّي إلى الموت وضرب البنان فيه تعطيل القتال من المضروب بخلاف سائر الأعضاء . قال الفراء : علمهم مواضع الضرب فقال : اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل فكأنه قال فاضربوا الأعالي إن تمكّنتم من الضرب فيها فإن لم تقدروا فاضربوهم في أوساطهم فإن لم تقدروا فاضربوهم في أسافلهم فإنّ الضرب في الأعالي يسرع بهم إلى الموت والضرب في الأوساط يسرع بهم إلى عدم الامتناع والضرب في الأسافل يمنعم من الكرّ والفرّ فيحصل من ذلك إما إهلاكهم بالكلية وإما الاستيلاء عليهم انتهى ، وفي قول الفرّاء هذا تحميل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله ، وقال الزمخشري والمعنى فاضربوا المقاتل والشوى لأنّ الضرب إما

" صفحة رقم 466 "
واقع على مقتل أو غير مقتل فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً انتهى .
2 ( ) ذالِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ( ) ) 2
الأنفال : ( 13 ) ذلك بأنهم شاقوا . . . . .
( ذالِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( الإشارة إلى ما حلّ بهم من إلقاء الرعب في قلوبهم وما أصابهم من الضرب والقتل ، والكاف لخطاب الرسول أو لخطاب كل سامع أو لخطاب الكفار على سبيل الالتفات وذلك مبتدأ وبأنهم هو الخبر والضمير عائد على الكفار وتقدّم الكلام في المشاقّة في قوله فإنما هم في شقاق والمشاقّة هنا مفاعلة فكأنه تعالى لما شرع شرعاً وأمر بأوامر وكذبوا بها وصدّوا تباعد ما بينهم وانفصل وانشق وعبّر المفسرون في قوله شاقّوا الله أي صاروا في شقّ غير شقّه . ) وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( أجمعوا على الفكّ في يشاقق اتباعاً لخط المصحف وهي لغة الحجاز والإدغام لغة تميم كما جاء في الآية الأخرى ومن يشاق الله ، وقيل فيه حذف مضاف تقديره شاقّوا أولياء الله ومن شرطية والجواب فإن وما بعدها والعائد على من محذوف أي شديد العقاب له وتضمن وعيداً وتهديداً وبدأهم بعذاب الدنيا من القتل والأسر والاستيلاء عليهم .
الأنفال : ( 14 ) ذلكم فذوقوه وأن . . . . .
( ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ( جمع بين العذابين عذاب الدنيا وهو المعجّل وعذاب الآخرة وهو المؤجّل والإشارة بذلكم إلى ما حلّ بهم من عذاب الدنيا والخطاب للمشاقّين ولما كان عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة يسيراً سمى ما أصابهم منه ذوقاً لأنّ الذّوق يعرف به الطعم وهو يسير ليعرف به حال الطعم الكثير كما قال تعالى : ) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذّبُونَ لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ( فما حصل لهم من العذاب في الدنيا كالذوق القليل بالنسبة إلى ما أعدّ لهم في الآخرة من العذاب العظيم وذلكم مرفوع إما على ابتداء والخبر محذوف أي ذلكم العقاب أو على الخبر والمبتدأ محذوف أي العقاب ذلكم وهما تقديران للزمخشري . وقال ابن عطية : أي ذلكم الضّرب والقتل وما أوقع الله بهم يوم بدر فكأنه قال الأمرد ذلكم فذوقوه انتهى . وهذا تقدير الزجاج ، وقال الزمخشري ويجوز أن يكون نصباً على عليكم ذلكم فذوقوه كقولك زيداً فاضربه انتهى ، ولا يجوز هذا التقدير لأنّ عليكم من أسماء الأفعال وأسماء الأفعال لا تضمر وتشبيهه له بقولك زيداً فاضربه ليس بجيد لأنهم لم يقدروه بعليك زيداً فاضربه وإنما هذا منصوب على الاشتغال وقد أجاز بعضهم في ذلك أن يكون منصوباً على الاشتغال وقال بعضهم لا يجوز أن يكون ذلكم مبتدأ أو فذوقوه خبراً لأنّ ما بعد الفاء لا يكون خبراً لمبتدأ إلا أن يكون المبتدأ اسماً موصولاً أو نكرة موصوفة نحو الذي يأتيني فله درهم وكل رجل في الدار فمكرم انتهى ، وهذا الذي قاله صحيح ومسألة الاشتغال تنبني على صحة جواز أن يكون ذلكم يصحّ فيه الابتداء إلا أن قولهم زيداً فاضربه وزيد فاضربه ليست الفاء هنا كالفاء في الذي يأتيني فله درهم لأكن هذه الفاء دخلت لتضمن المبتدأ معنى اسم الشرط ولذلك شروط ذكرت في النحو والفاء في زيد فاضربه هي جواب لأمر مقدّر ومؤخرة من تقديم والتقدير تنبه فزيداً ضربه وقالت العرب زيداً فاضربه وقدره النحاة تنبه فاضرب زيداً وابتنى الاشتغال في زيداً فاضربه على هذا التقدير فقد بان الفرق بين الفاءين ولولا هذا التقدير لم يجز زيداً فاضرب بل كان يكون التركيب زيداً اضرب كما هو إذا لم يقدر هناك أمر بالتنبيه محذوف . وقرأ الجمهور وأن بفتح الهمزة . قال الزمخشري عطف على ذلكم في وجهيه أو نصب على أن الواو بمعنى مع ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل

" صفحة رقم 467 "
الذي لكم في الآخرة فوضع الظاهر موضع الضمير أي مكان وأنّ لكم وأنّ للكافرين . وقال ابن عطية إما على تقدير وحتم أن فتقدير ابتداء محذوف يكون خبره . وقال سيبويه التقدير الأمر ذلكم وأما على تقدير واعلموا أن فهي في موضع نصب انتهى . وقرأ الحسن وزيد بن علي وسليمان التيمي وإن بكسر الهمزة على استئناف الأخبار .
2 ( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الاٌّ رْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَآ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُو

" صفحة رقم 468 "
َ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاٌّ وَّلِينِ } )
الأنفال : ( 15 ) يا أيها الذين . . . . .
قال الليث : الجماعة يمشون إلى عدوهم هو الزحف . قال الأعشى : لمن الظعائن سيرهن تزحف
منك السفين إذا تقاعس تجرف
وقال الفرّاء : الزحف الدّنو قليلاً يقال زحف إليه يزحف زحفاً إذا مشى ، وأزحفت القوم دنوت لقتالهم وكذلك تزحف وتزاحف وازحف لنا عدونا ازحافاً صاروا يزحفون لقتالنا فازدجف القوم ازدحافاً مشى بعضهم إلى بعض ، وقال ثعلب ومنه الزّحاف في الشعر وهو أن يسقط من الحرفين حرف ويزحف أحدهما إلى الآخر وسُمّي الجيش العرمرم بالزحف لكثرته كأنه يزحف إليّ يدبّ دبيباً من زحف الصبي إذا دبّ على إليته قليلاً قليلاً وأصله مصدر زحف وقد جمع أزحف على زحوف . وقال الهذليّ يصف منهلاً : كان مزاحف الحيّات فيه
قبيل الصبح آثار السّياط
المتحيّز المنضم إلى جانب ، وقال أبو عبيدة : التحيّز والتحوّز التنحّي ، وقال الليث : ما لك متحوز إذا لم تستقرّ على الأرض وأصله من الحوز وهو الجمع يقال خرته في الطرس فانحار وتحيّز انضمّ واجتمع وتحوّزت الحية انطوت واجتمعت وسمى التنحّي تحيزاً لأن المتنحي عن جانب ينضمّ عنه ويجتمع إلى غيره وتحيز تفيعل أصله تحيوز اجتمعت ياء وواو وسُبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمَتْ فيها الياء وتحوّز تفعل ضعفت عينه . الرمي معروف ويكون بالسهم والحجر والتراب . المكاء الصفير . وقال عنترة : وخليل غانية تركت مجندلا
تمسكوا فريصته كشدق الأعلم

" صفحة رقم 469 "
أي تصوت ومنه مكت است الدابة إذا نفخت بالريح . وقال السدي : المكاء الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء ، قال الشاعر : إذا غرّد المكاء في غير روضة
فويل لأهل السّقاء والحمرات
وقال أبو عبيدة : وغيره مكا يمكو مكاء إذا صفر والكثير في الأصوات أن تكون على فعال كالصّراخ والخوار والدعاء والنباح . التصدية التصفيق صدى يصدي تصدية صفق وهو فعل من الصدى وهو الصوت الركم . قال الليث : جمعك شيئاً فوق شيء حتى تجعله ركاماً مركوماً كركام الرمل والسحاب . مضى تقدم والمصدر المضي .
( النَّارِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أخبر أنه سيلقي الرّعب في قلوب الكفار وأمر من آمن بضرب فوق أعناقهم وبنانهم حرضهم على الصير عند مكافحة العدوّ ونهاهم عن الانهزام وانتصب زحفاً على الحال ، فقيل من المفعول أي لقيتموهم وهم جمع كثير وأنتم قليل فلا تفرّوا فضلاً عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم ، وقيل من الفاعل أي وأنتم زحف من الزحوف وكان ذلك إشعاراً بما سيكون منهم يوم حنين حين انهزاموا وهم اثنا عشر ألفاً بعد أن نهاهم عن الفرار يومئذ ، وقيل حال من الفاعل والمفعول أي متزاحفين ولم يذكر ابن عطية إلا ما يدل على أنه خال منهما قال زحفاً يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص أي يزحف بعضهم إلى بعض . وقيل انتصب زحفاً على المصدر بحال محذوفة أي زاحفين زحفاً وهذا الذي قيل محكم فحرم الفرار عند اللقاء بكلّ حال . وقيل كان هذا في الابتداء الإسلام حيث كان الأمر بالمصابرة أن يواقف مسلم عشرة كفار ثم خفّف فجعل واحد في مقابلة اثنين ويأتي حكم المؤمنة الفارّة من ضعفها في آية التخفيف وعدل عن الظهور إلى لفظ الأدبار تقبيحاً لفعل الفار وتبشيعاً لانهزامه وتضمّن هذا النهي الأمر بالثبات والمصابرة .
( وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ( لما نهى تعالى عن تولي الأدبار توعّد من ولّى دبره وقت لقاء العدوّ وناسب قوله ومن يولهم فقد باء بغضب كان المعنى فقد ولّى مصحوباً بغضب الله وعدل أيضاً عن ذكر الظهر إلى الدبر مبالغة في التقبيح والذمّ إذ تلك الحالة من الصفات القبيحة المذمومة جدًّا ألا ترى إلى قول الشاعر : فلسنا على الأعقاب تجري كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
قال في التحرير : وهذا النوع من علم البيان يُسمى بالتعريض عرض بسوء حالهم وقبح فعالهم وخساسة منزلتهم وبعضهم يسميه الإيماء وبعضهم يسميه الكنانة وهذا ليس بشيء فإنّ الكناية أن تصرّح باللفظ الجميل على المعنى القبيح انتهى ، والظاهر أنّ الجملة المحذوفة بعد إذ وعوض منها التنوين هي قوله إذ لقيتم الكفار فقيل المراد يوم بدر وما وليه في ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فرّ ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف وبقي الفرار من الزحف ليس كبيرة وقد فرّ الناس يوم أحد فعفا الله عنهم وقال الله فيهم ويوم حنين ثم وليتم مدبرين ولم يقع على ذلك تعنيف انتهى ، وهذا القول بأن الإشارة بقوله يومئذ لا يظهر إلى يوم بدر لا يظهر لأنّ ذلك في سياق الشرط وهو مستقبل فإن كانت الآية نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فيوم بدر فرد من أفراد لقاء الكفار فيندرج فيه ولا يكون

" صفحة رقم 470 "
خاصاً به وإن كانت نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم في الاستقبال . قال ابن عطية والجمهور على أنه إشارة إلى يوم اللقاء الذي تضمنه قوله إذا لقيتم وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بسبب الضعف الذي بيّنه الله في آية أخرى وليس في الآية نسخ وأما يوم أحد فإنما فرّ الناس من مراكزهم من ضعفهم ومع ذلك عنفو لكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيهم وفرارهم عنه ، وأما يوم حنين فكذلك من فرّ إنما انكشف أمام الكرة ويحتمل أن عفو الله عن مَن فرّ يوم أحد كان عفواً عن كثرة انتهى ، وقرأ الحسن دبره بسكون الباء وانتصب متحرفاً ومتحيزاً عن الحال من الضمير المستكن في قولهم العائد على من . قال الزمخشري : وإلا لغو أو عن الاستثناء من المولين أي ومن يولهم إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً انتهى ، وقال ابن عطية : وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم من انتهى ولا يريد الزمخشري بقوله ولا لغو إنها زائدة إنما يريد أن العامل الذي هو يولهم وصل إلى العمل فيما بعدها كما قالوا في لا من قولهم جئت بلا زاد أنها لغو وفي الحقيقة هو استثناء من حالة محذوفة والتقدير : ومن يولهم ملتبساً بأية حالة إلا في حال كذا وإن لم يقدّر حال غاية محذوفة لم يصحّ دخول إلا لأن الشرط عندهم واجب وحكم الواجب لا تدخل إلا فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات لأنه يكون استثناء مفرغاً والاستثناء المفرغ لا يكون في الواجب لو قلت ضربت إلا زيداً وقمت إلا ضاحكاً لم يصحّ والاستثناء المفرغ لا يكون إلا مع النفي أو النهي أو المؤول بهما فإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك قدر عموم قبل إلا حتى يصح الاستثناء من ذلك العموم فلا يكون استثناء غير مفرغ ، وقال قوم الاستثناء هو من أنواع التّولي وردّ بأنه لو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفاً أو تحيّزاً والتحرّف للقتال هو الكرّ بعد الفرّ يخيل عدوّه أنه منهزم ثم ينعطف عليه وهو عين باب خِدَع الحرب ومكائدها قاله الزمخشري ، وقال يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدوّ وأعود عليه بالشر ، والفئة هنا قال الجمهور هي الجماعة من الناس الحاضرة للحرب فاقتضى هذا الإطراق أن تكون هذه الفئة من الكفار أي لكونه يرى أنه يُنكي فيها العدوّ ويبلي أكثر من إبلائه فيما قابله من الكفار إما لعدم مقاومته أو لكون غيره يعنى فيمن قاتله منهم فتحيّز إلى فئة أخرى من الكفار ليبلى فيها واقتضى أيضاً أن تكون هذه الفئة من المسلمين أي تحيّز إليها لينصرها ويقويها إذا رأى فيها ضعفاً وأغنى غيره في قتال من قاتله من الكفار وبهذا فسر الزمخشري قال إلى فئة جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها ، وقيل الفئة هنا المدينة والإمام وجماعة المسلمين أينما كانوا ، وروي هذا عن عمر : انهزم رجل من القادسيّة فأتى المدينة إلى عمر رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف ، فقال عمر رضي الله عنه عنه : أنا فئتك . وعن ابن عمر رضي الله عنه : خرجت سرية وأنا فيهم ففرّوا فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون . فقال : بل أنتم العكارون وأنا فئتكم . قال ثعلب العكارون العطّافون ، وقال غيره : يقال للرجل الذي يولّي عن الحرب لم يكن راجعاً عكر واعتكر ، وعن ابن عباس رضي الله عهما : الفرار من الزحف من أكبر الكبائر وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) اتقوا السبع

" صفحة رقم 471 "
الموبقات وعد فيها الفرار من الزحف وفي التحرير التولّي الذي وقع عليه الوعيد هو الفرار مع المصابرة على الثبات فأما إذا جاءه من لا يستطيع معه الثبات فليس ذلك بالفرار انتهى . وما أحسن ما استعذر الحارث بن هشام إذ فرّ فقيل فيه : ترك الأحبة أن يقاتل دونهم
ونجا برأس طمره ولجام
وقال الحرث من أبيات : وعلمت أني إن أقاتل واحدا
أقتل ولم يضرر عدوّي مشهدي
واستدلّ القاضي بهذه الجملة الشرطية على وعيد الفسّاق من أهل الصلاة لأنها دلّت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ومأواه جهنم . قال : وليس للمرجئة أن يحملوا ذلك على الكفار كما فعلوا في آيات الوعيد لأن ذلك مفتتح بأهل الصلاة وهو قوله يا أيها الذين آمنوا انتهى ، ولا حجة في ذلك لأنه عامّ مخصوص والظاهر أنه يجوز التحيّز سواء عظم العسكر أم لا ، وقيل لا يجوز إذا عظم والظاهر أنّ الفرار من الزحف بغير شروطه كبيرة للتوعد ولذلك قال ابن القاسم لا تقبلوا شهادة مَن فرّ مِن الزّحف وإن فر أمامهم ومَنن فرّ فليستغفر الله ففي الترمذي : من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيُّوم غفر له وإن كان قد فرّ من الزحف .
الأنفال : ( 17 ) فلم تقتلوهم ولكن . . . . .
( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ ( لما رجع الصحابة من بدر ذكروا مفاخرهم فيقول القائل قتلت وأسرت فنزلت . قال الزمخشري : والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع انتهى ، وليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعم وإنما هي للربط بين الجمل لأنه لما قال فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان كان امتثال ما أمروا به سبباً للقتل فقيل فلم تقتلوهم أي لستم مستبدين بالقتل لأنّ الأقدار عليه والخالق له إنما هو الله ليس للقاتل فيها شيء لكنه أجرى على يده فنفى عنهم إيجاد القتل وأثبت لله وفي ذلك ردّ على من زعم أن أفعال العباد خلق لهم ، ومجيء لكن هنا أحسن مجيء لكونها بين نفي وإثبات فالمثبت لله هو المنفيّ عنهم وهو حقيقة القتل ومن زعم أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم أوّل الكلام على معنى فلم يتسببوا لقتلكم إياهم ولكنّ الله قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة إلى آخر كلامه ، وعطف الجملة المنفية بما على الجملة المنفيّة يلم لأنّ لم نفي للماضي وإن كان بصورة المضارع لأنّ لنفي الماضي طريقين إحداهما أن تدخل ما على لفظه والأخرى أن تنفيهَ بلم فتأتي بالمضاع والأصل هو الأول لأن النفي ينبغي أن يكون على حسب الإيجاب وفي الجملة مبالغة من وجهين أحدهما أن النفي جاء على حسب الإيجاب لفظاً ؛ الثاني إن نفي ما صرح بإثباته وهو قوله وما رميْت إذ رميت ولم يصرّح في قوله فلم تقتلوهم بقوله إذ قتلتموهم وإنما بولغ في هذا لأن الرمي كان أمراً خارقاً للعادة مُعجزاً آية من آياتِ الله على أي وجه فسر الرمي لأنهم اختلفوا فيه ، فقال ابن عباس قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يوم بدر قبضة من تراب فقال شاهت الوجوه أي قبحت فلم يبقَ مشرك إلا دخل في عينيه وفيه

" صفحة رقم 472 "
ومنخريه منها شيء ، وقال حكيم بن حرام فسمعنا صوتاً من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست فرمى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) تلك الرّمية فانهزموا ، وقال أنس : رمى ثلاث حصيات يوم بدر واحدة في ميمنة القوم واحدة في ميسرتهم وثالثة بين أظهرهم ، وقال : شاهت الوجوه فانهزموا ، وقيل الرمي هنا رمي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بحربة على أبيّ بن خلف يوم أحد ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف لأنّ الآية نزلت عقب بدر وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وبعدها وذلك بعيد ، وقيل المراد السهم الذي رمى به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في حصن خيبر فسار في الهوى حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهذا فاسدو والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحقيق غير هذا وقوله وما رميت نفي وإذ رميت إثبات فاحتيج إلى تأويل وهو أن يغاير بين الرميين فالمنفيّ الإصابة والظفر والمثبت الإرسال ، وقيل المنفيّ إزهاق الروح والمثبت أثر الرّمي وهو الجرح وهذان القولان متقاربان ، وقيل ما استبددت بالرمي إذ أرسلت التراب لأنّ الاستبداد به هو فعل الله حقيقة وإرسال التراب منسوب إليه كسباً كان المعنى ، وما رميت الرمي الكافي إذ رميت ونحوه قول العباس بن مرداس : وقد كنت في الحرب ذا تدرإ
فلم أعط شيئاً ولم أمنع
أي لم أعط شيئاً مرضيًّا . وقيل متعلق المنفي الرّعب ومتعلق المنبت الحصيات أي وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت الحصيات ، وقال الزمخشري يعني أنّ الرمية التي رميتها لم ترمِها أنت على الحقيقة لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم فأثبت الرّمي لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأن صورة الرمي وجدت منه ونفاها عنه لأنّ أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله فكان الله تعالى هو فاعل الرمي حقيقة وكأنها لم توجد من الرسول أصلاً انتهى ، وهو راجع لمعنى القولين أولاً وتقدّم خلاف الفرّاء في لكن وما بعدها عند قوله : ) وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا ). قال السدي ينصرهم وينعم عليهم يقال أبلاه إذا أنعم عليه وبلاه إذا امتحنه والبلاء يستعمل للخير والشر ووصفه بحسن يدل على النصر والعزة ، قال الزمخشري : وليعطيهم عطاء جميلاً كما قال ، فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو . انتهى ، والبلاء الحسن قيل بالنصر والغنيمة ، وقيل بالشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر رجلاً منهم عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ومهجع مولى عمر ومعاذ وعمر وإبنا عفراء أنه قال : لولا أن المفسرين اتفقوا على حمل البلاء هنا على النعمة لكان يحتمل المحنة للتكليف بما بعده من الجهاد حتى يقال إنّ الذي فعله تعالى يوم بدر كان السبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات انتهى . وسياق الكلام ينفي أن يراد بالبلاء المحنة لأنه قال : وليبلى المؤمنين منه بلاء حسناً ، فعل ذلك أي قتل الكفار ورميهم ونسبة ذلك إلى الله وكان ذلك سبب هزيمتهم والنصر عليهم وجعلهم نهبة للمؤمنين وهذا ليس محنة بل منحة إن الله سميع

" صفحة رقم 473 "
عليم لما كاوا قد أقبلوا على المفاخر بقتل من قتلوا وأسر من أسروا وكان ربما قد لا يخلص العمل من بعض المقاتلين إما لقتال حميّة وإما لدفع عن نفس أو ما ختمت بهاتين الصفتين فقيل إن الله سميع عليم لكلامكم وما تفخرون به عليم بما انطوت عليه الضمائر ومن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا .
الأنفال : ( 18 ) ذلكم وأن الله . . . . .
( ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ( قال : ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع وأنّ الله موهن معطوف على وليبلي يعني أنّ الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين انتهى ، وقال ابن عطية ذلكم إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم وموضع ذلك من الإعراب رفع قال سيبويه : التقدير الأمر ذلكم ، وقال بعض النحويين يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير فعل ذلك وأنّ معطوف على ذلكم ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ مقدّر تقديره وحتم وسابق وثابت ونحو هذا انتهى ، وقال الحوفي ذلكم رفع بالابتداء والخبر محذوف والتقدير ذلكم الأمر ويجوز أن يكون ذلكم الخبر والأمر الابتداء ويجوز أن يكون في موضع نصب تقديره فعلنا ذلكم والإشارة إلى القتل و إلى إبلاء المؤمنين بلاء حسناً وفي فتح أن وجهان النصب والرفع عطفاً على ذلكم على حسب التقديرين أو على إضمار فعل تقديره واعلموا أنّ الله موهن انتهى ، وقرأ الحرميان وأبو عمر وموهن من وهن والتعدية بالتضعيف فيما عينه حرف حلق غير الهمزة قليل نحو ضعفت ووهنت وبابه أن يعدى بالهمزة نحو أذهلته وأوهنته وألحمته ، وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو رجاء والأعمش وابن محيصن من أوهن وأضافه حفص .
الأنفال : ( 19 ) إن تستفتحوا فقد . . . . .
( إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ ( تقدّم ذكر المؤمنين والكافرين وسبق الخطاب للمؤمنين بقوله فلم تقتلوهم وبقوله ذلكم فحملة قوم على أنه خطاب للمؤمنين ويؤيده قوله فقد جاءكم الفتح إذ لا يليق هذا الخطاب إلا بالمؤمنين على إرادة النصر بالاستفتاح وأنّ حمله على البيان والحكم ناسب أن يكون خطاباً للكفار والمؤمنين فإذا كان خطاباً للمؤمنين فالمعنى أن تستنصروا فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتموه في الغنائم والأسرى قبل الإذن فهو خير لكم وإن تعودوا إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم كما قال لولا كتاب من الله سبق الآية ثم أعلمهم أنّ الفئة وهي الجماعة لا تغني وإن كثرت إلا بنصر الله ومعونته ثم آنسهم بإخباره أنه تعالى مع المؤمنين ، وقال الأكثرون هي خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم وذلك أنه حين أرادوا أن ينفروا تعلّقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أقرانا للضيف وأوصلنا للرحم وأفكنا للعاني إن كان محمد على حقّ فانصره وإن كنا على حقّ فانصرنا ، ورُوي أنهم قالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين ، ورُوي أن أبا جهل قال صبيحة يوم بدر : اللهم أينا كان أهجر وأقطع للرحم فاحِنه اليوم أي فأهلكه ، وروي عنه دعا شبه هذا ، وقال الحسن ومجاهد وغيرهما : كان هذا القول من قريش وقت خروجهم لنصرة العير ، وقال النضر بن الحرث : اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك الآية وهو ممن قتل يوم بدر ، وعلى هذا القول يكون معنى قوله فقد جاءكم الفتح ولكنه كان للمسلمين عليكم ، وقيل معناه : فقد جاءكم ما بان لكم به الأمر واستقرّ به الحكم وانكشف لكم الحقّ به ، ويكون الاستفتاح على هذا بمعنى الحكم والقضاء وإن انتهوا عن الكفر وإن تعودوا إلى هذا القول وقتال محمد بعد نعد إلى نصر المؤمنين وخذلانكم ، وقالت فرقة : إن تستفتحوا خطاب للمؤمنين وإن تنتهوا خطاب للكافرين أي وإن تنتهوا عن عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فهو خير لكم وإن تعودوا لمحاربته نعد لنصرته عليكم ، وقال الكرماني : وإن تنتهوا عن أمر الأنفال وفداء الأسرى ببدر وإن تعودوا إلى معصية الله نعد إلى الإنكار وقرىء : ولن يغني بالياء لأنّ التأنيث مجاز وحسنه الفصل ، وقرأ الصاحبان وحفص : وأن الله بفتح الهمزة وباقي السبعة بكسرها وابن مسعود والله مع المؤمنين .
الأنفال : ( 20 ) يا أيها الذين . . . . .
( أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ( لما تقدّم قوله وإن تنتهوا

" صفحة رقم 474 "
وكان الضمير ظاهره العود على المؤمنين ناداهم وحرّكهم إلى طاعة الله ورسوله والظاهر أنه نداء وخطاب للمؤمنين الخلّص حثّهم بالأمر على طاعة الله ورسوله ولما كانت الآية قبلها مسوقة في أمر الجهاد . قيل معنى أطيعوه فيما يدعوكم إليه من الجهاد ، وقيل في امتثال الأمر والنهي وأفردهم بالأمر رفعاً لأقدارهم وإن كان غيرهم مأموراً بطاعة الله ورسوله وهذا قول الجمهور ، وأما من قال إنّ قوله وإن تنتهوا خطاب للكفار فيرى أن هذه الآية نزلت بسبب اختلافهم في النفل ومجادلتهم في الحق وتفاخرهم بقتل الكفار والنكاية فيهم وأبعد من ذهب إلى أنه نداء وخطاب للمنافقين أي يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم وهذا لا يناسب لأنّ وصفهم بالإيمان وهو التصديق وليس المنافقون من التصديق في شيء وأبعد من ذهب إلى أنه نداء وخطاب لبني إسرائيل لأنه أيضاً يكون أجنبياً من الآيات وأصل ولا تولوا ولا تتولوا ، وتقدّم الخلاف في حرف التاء في نحو هذا أهي حرف المضارعة أم تاء تفعل والضمير في عنه قال الزمخشري لرسول الله لأنّ المعنى وأطيعوا رسول الله كقوله والله ورسوله أحق أن ترضوه ولأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد من يطع الرسول فقد أطاع الله فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقولك الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان ويجوز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة ولا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله وأنتم تسمعونه أو ولا تتولوا عن رسول الله ولا تخالفوه وأنتم تسمعون أي تصدّقون لأنكم مؤمنون لستم كالصمّ المكذبين من الكفرة انتهى ، وإنما عاد على الرسول لأنّ التولي إنما يصح في حقّ الرسول بأن يعرضوا عنه وهذا على أن يكون التولي حقيقة وإذا عاد على الأمر كان مجازاً ، وقيل هو عائد على الطاعة ، وقيل هو عائد على الله ، وقال الكرماني ما معناه إنه لما لم يطلق لفظ التثنية على الله وحده لم يجمع بينه تعالى وبين غيره في ضميرها بخلاف الجمع فإنه أطلق على لفظة تعظيماً فجمع بينه وبين غيره في ضميره ولهذا نظائر في القرآن منها إذا دعاكم ومنها أن يرضوه ففي الحديث ذمّ من جمع في التثنية بينهما في الضمير وتعليمه أن يقول : ومن عصى الله ورسوله وأنتم تسمعون جملة حالية أي لا يناسب سماعكم التولي ولا يجامعه وفي متعلقه أقوال : أحدها وعظ الله لكم ، الثاني : الأمر والنهي ، الثالث : التعبير بالسماع عن العقل والفهم ، الرابع : التعبير عن التصديق وهو الإيمان .
الأنفال : ( 21 ) ولا تكونوا كالذين . . . . .
( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( نهي عن أن يكونوا كالذين ادّعوا السماع والمشبّه بهم اليهود أو المنافقون أو المشركون أو الذين قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ، أو بنو عبد الدار بن قصيّ ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويد بن حرملة أو النضر بن الحارث ومن تابعه ستة أقوال ، ولما لم يجد سماعهم ولا أثر فيهم نفى عنهم السّماع لانتفاء ثمرته إذ ثمرة سماع الوحي تصديقه والإيمان به والمعنى أنكم تصدّقون بالقرآن والنبوة فإذا صدر منكم تولِّ عن الطاعة كان تصديقكم كلا تصديق فأشبه سماعكم سماع من لا يصدق ، وجاءت الجملة النافية على غير لفظ المثبتة إذ لم تأتِ وهم ما سمعوا لأنّ لفظ المضي لا يدلّ على استمرار الحال ولا ديمومته بخلاف نفي المضارع فكما يدل إثباته على الدّيمومة في قولهم هو يعطي ويمنع كذلك يجيء نفيه وجاء حرف النفي لا لأنها أوسع في نفس المضارع من ما وأدلّ على انتفاء السماع في المستقبل أي هم ممن لا يقبل أن يسمع .
الأنفال : ( 22 ) إن شر الدواب . . . . .
( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ( لما أخبر تعالى إنّ هؤلاء المشبّه بهم لا يسمعون أخبر أنّ شرّ الحيوان الذي يدبّ الصمّ أو أن شرّ البهائم فجمع بين هؤلاء وبين جمع الدواب وأخبر أنهم شرّ الحيوان مطلقاً ومعنى الصم عن ما يلقى إليهم من القرآن البَكم عن الإقرار بالإيمان وما فيه نجاتهم ثم جاء بانتفاء الوصف المنتج لهم الصمم والبكم الناشئين عنه وهو العقل وكان الابتداء بالصمم لأنه ناشىء عنه البكم إذ يلزم أن يكون كلّ أصم خلقه أبكم لأنّ الكلام إنما يتلقنه ويتعلمه من كان سالم حاسة السمع وهذا مطابق لقوله تعالى صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون إلا أنه زاد في هذا وصف العمى وكلّ هذه الأوصاف كناية عن انتفاء قبولهم للإيمان وإعراضهم عما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وظاهر هذه الأخبار

" صفحة رقم 475 "
العموم ، وقيل : نزلت في طائفة من بني عبد الدار كانوا يقولون : نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه فقتلوا جميعاً ببدر وكانوا أصحاب اللواء ، وقال ابن جريج هم المنافقون ، وقال الحسن : هم أهل الكتاب .
الأنفال : ( 23 ) ولو علم الله . . . . .
( وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( قال ابن عطية : أخبر تعالى بأنّ عدم سماعهم وهداهم إنما هو بما علمه الله منهم وسبق من قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمّهم ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم والمراد لأسمعهم إسماع تفهم وهدى ثم ابتدأ عزّ وجل الخبر عنهم بما هو عليه من ختمه عليهم بالكفر فقال : ولو أسمعهم أي ولو فهمهم لتولوا وهم معرضون بالقضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبيّن لهم من الهدي ، وقال الزمخشري : ولو علم الله في هؤلاء الصمّ البكم خيراً أي انتفاعاً باللطف لأسمعهم اللطف بهم حتى سمعوا سماع المصدقين ثم قال ولو أسمعهم لتولّوا يعني ولو لطف بهم لما نفعهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه أي ولو لطف أي ولو لطف بهم فصدّقوا لارتدّوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا ، وقال الزجاج : لأسمعهم جواب كلما سألوا ، وحكى ابن الجوزي : لأسمعهم كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم لأنهم طلبوا إحياء قُصيّ بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقال أبو عبد الله الرازي : التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده وتقدير الكلام لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم مفهم ولو أسمعهم إذ علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا بها وتولوا وهم معرضون ، وقال أيضاً : معلومات الله على أربعة أقسام . أحدها : جملة الموجودات ، الثاني : جملة المعدومات ، الثالث : إن كان كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً فكيف حاله ، الرابع : إن كان كلّ واحد من المعدومات لو كان موجوداً فكيف حاله فالقسمان الأولان علم بالواقع والقسمان الثانيان علم بالمقدور الذي هو غير واقع فقوله ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم من القسم الثاني وهو العلم بالمقدورات وليس من أقسام العلم بالواقعات ، ونظيره قوله تعال حكاية عن المنافقين لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم وإن قوتلتم لننصرنكم فقال تعالى لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولنّ الأدبار ثم لا ينصرون فعلم الله تعالى في المعدوم أنه لو كان موجوداً كيف يكون حاله وأيضاً قوله ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه أخبر عن المعدوم أنه لو كان موجوداً كيف يكون حاله انتهى . وأقول : ظاهر هاتين الملازمتين يحتاج إلى تأويل لأنه أخبر أنه كان يقع إسماع منه لهم على تقدير علمه خيراً فيهم ثم أخبر إنه كان يقع توليهم على تقدير إسماعهم إياهم فأنتج أنه كان يقع توليهم على تقدير علمه تعالى خيراً فيهم وذلك بحرف الواسطة لأن المرتب على شيء يكون مرتّباً على ما رتب عليه ذلك الشيء وهذا لا يكون لأنه لا يقع التولّي على تقدير علمه فيهم خيراً ويصير الكلام في الجملتين في تقدير كلام واحد فيكون التقدير ولو علم الله فيهم خيراً فأسمعهم لتولّوا ومعلوم أنه لو علم فيهم خيراً ما تولّوا .
الأنفال : ( 24 ) يا أيها الذين . . . . .
( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ( تقدم الكلام في استجاب في فليستجيبوا لي وأفرد الضمير في دعاكم كما أفرده في ولا تولوا عنه لأنّ ذكر أحدهما مع الآخر إنما هو على سبيل التوكيد والاستجابة هنا الامتثال والدعاء بمعنى التحريض والبعث على ما فيه حياتهم وظاهر استجيبوا الوجوب ، ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : لأبيّ حين دعاه وهو في الصلاة متلبث : ما منعك عن الاستجابة ألم تخبر فيما أوحي إليّ استجيبوا الله وللرسول ؟ والظاهر تعلق لما بقوله دعاكم ودعا يتعدى باللام . قال :

" صفحة رقم 476 "
دعوت لما نابني مسوراً
وقال آخر :
وإن أدع للحلى أكن من حماتها
وقيل : اللام بمعنى إلى ويتعلّق باستجيبوا فلذلك قدّره بإلى حتى يتغاير مدلول اللام فيتعلق الحرفان بفعل واحد ، قال مجاهد والجمهور : المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي ففيه الحياة الأبدية والنّعمة السرمديّة ، وقيل : ما يحييكم هو مجاهدة الكفار لأنهم لو تركوها لغلبوهم وقتلوهم ولكم في القصاص حيا ، وقيل : الشهادة لقوله : ) بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( قاله ابن إسحاق ، وقيل : لما يحييكم من علوم الديانات والشرائع لأنّ العلم حياة كما أنّ الجهل موت . قال الشاعر : لا تعجبن الجهول حليته
فذاك ميّت وثوبه كفن
وهذا نحو من قول الجمهور ومجاهد ، وقال مجاهد أيضاً : ما يحييكم هو الحقّ ، وقيل : هو إحياء أمورهم وطيب أحوالهم في الدنيا ورفعتهم ، يقال : حييت حاله إذا ارتفعت ، وقيل : ما يحصل لكم من الغنائم في الجهاد ويعيشون منها ، وقيل : الجثة والذي يظهر هو القول الأوّل لأنه في سياق قوله ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم فالذي يحيا به من الجهل هو سماع ما ينفع مما أمر به ونهى عنه فيمتثل المأمور به ويجتنب المنهي عنه فيؤول إلى الحياتين الطيبتين الدنيوية والأخروية .
( وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( المعنى : أنه تعالى هو المتصرّف في جميع الأشياء والقادر على الحيلولة بين الإنسان وبين ما يشتهيه قلبه فهو الذي ينبغي أن يستجاب له إذا دعاه إذ بيده تعالى ملكوت كل شيء وزمامه وفي ذلك حضّ على المراقبة والخوف من الله تعالى والبدار إلى الاستجابة له ، وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك : يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان ، وقال مجاهد : يحول بين المرء وعقله فلا يدري ما يعمل عقوبة على عناده ففي التنزيل إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أي عقل ، وقال السدي : يحول بين كل واحد وقلبه فلا يقدر على إيمان ولا كفر إلا بإذنه ، وقال ابن الأنباري : بينه وبين ما يتمناه ، وقال ابن قتيبة : بينه وبين هواه وهذان راجعان إلى القول الأول ، وقال علي بن عيسى : هو أن يتوفاه ولأنّ الأجل يحول بينه وبين أمل قلبه وهذا حثّ على انتهاز الفرصة قبل الوفاة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومخالجة أدوائه وعلله وردّه سليماً كما يريده الله فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة وعلي بن عيسى هو الرماني وهو معتزلي ، وقال الزمخشري أيضاً . وقيل معناه : أنّ الله قد يملك على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير نيّاته ومقاصده ويبدله بالخوف أمناً وبالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً وبالنسيان ذكراً وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى ، فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر وبينه وبين الكفر إذا آمن تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً انتهى ، وجعل هذا المسكين صدر هذه الأمة ظالمين إذ قائل ذلك هو ابن عباس ترجمان القرآن ومن ذكر معه من سادات التابعين ، وقيل : يبدل الجبن جراءة وهو تحريض على

" صفحة رقم 477 "
القتال بعد الأمر به بقوله استجيبوا ويكشف حقيقته قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف يشاء وتأويله بين أثرين من آثار ربوبيته ) . وقيل : يحول بين المؤمن وبين المعاصي التي يهمّ بها قلبه بالعصمة ، وقيل : معناه أنه يطلع على كل ما يخطر المرء بباله لا يخفى عليه شيء من ضمائره فكأنه بينه وبين قلبه واختار الطبري أن يكون المعنى أنّ الله أخبر أنه أملك لقلوب العباد منهم وأنه يحول بينهم وبينهما إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئته تعالى ، وقرأ ابن أبي إسحاق : بين المرء بكسر الميم اتباعاً لحركة الإعراب إذ في المرء لغتان : فتح الميم مطلقاً واتباعها حركة الإعراب ، وقرأ الحسن والزهري : بين المرّ بتشديد الراء من غير همز ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء وحذف الهمزة ثم شدّدها كما تشدّد في الوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف وكثيراً ما تفعل العرب ذلك تُجري الوصل مجرى الوقف ، وهذا توجيه شذوذ وأنه إليه تحشرون الظاهر أن الضمير في أنه عائد إلى الله ويحتمل أن يكون ضمير الشأن ولما أمرهم بأن يعلموا قدرة الله وحيلولته بين المرء ومقاصد قلبه أعلمهم بأنه تعالى إليه يحشرهم فيثيبهم على أعمالهم فكان في ذلك تذكار لما يؤول إليه أمرهم من البعث والجزاء بالثواب والعقاب .
الأنفال : ( 25 ) واتقوا فتنة لا . . . . .
( وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً ( هذا الخطاب ظاهره العموم باتقاء الفتنة التي لا تختصّ بالظالم بل تعمّ الصالح والطالح وكذلك روي عن ابن عباس قال : أمر المؤمنين أن لا يقرُّوا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم الله بالعذاب ففي البخاري والترمذي أن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده ، وفي مسلم من حديث زينب بنت جحش سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ، وقيل الخطاب للصحابة ، وقيل لأهل بدر ، وقيل لعلي وعمار وطلحة والزبير ، وقيل لرجلين من قريش قاله أبو صالح عن ابن عباس ولم يسمّهما والفتنة هنا القتال في وقعة الجمل أو الضلالة أو عدم إنكار المنكر أو بالأموال والأولاد أو بظهور البدع أو العقوبة أقوال ، وقال الزبير بن العوام يوم الجمل : ما علمت أنا أُردنا بهذه الآية إلا اليوم وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها في ذلك الوقت والجملة من قوله لا تصيبن خبريّة صفة لقوله فتنة أي غير مصيبة الظالم خاصة إلا أن دخول نون التوكيد على المنفى بلا مختلف فيه ، فالجمهور لا يجيزونه ويحملون ما جاء منه على الضرورة أو الندور والذي نختاره الجواز وإليه ذهب بعض النحويين وإذا كان قد جاء لحاقها الفعل مبنياً بلا مع الفصل نحو قوله : فلاذا نعيم يتركن لنعيمه
وإن قال قرظني وخذ رشوة أبي ولا ذا بئيسن يتركن لبؤسه فينفعه شكوى إليه إن اشتكى
فلان يلحقه مع غير الفصل أولى نحو لا تصيبنّ وزعم الزمخشري أنّ الجملة صفة وهي نهي قال وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول كأنه قيل واتقوا فتنة مقولاً فيها لا تصيبنّ ونظيره قوله :

" صفحة رقم 478 "
حتى إذا جنّ الظلام واختلط
جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط
أي بمذق مقول فيه هذا القول لأنّ فيه لون الزّرقة التي هي معنى الذئب انتهى . وتحريره أن الجملة معمولة لصفة محذوفة وزعم الفرّاء أن الجملة جواب للأمر نحو قولك : إنزل عن الدابة لا تطرحنّك أي إن تنزل عنها لا تطرحنكّ ، قال : ومنه لا يحطّكمنّكم سليمان أي إن تدخلوا لا يحطمنّكم فدخلت النون لما فيها من معنى الجزاء انتهى ، وهذا المثال بقوله ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم ليس نظير واتقوا فتنة لأنه ينتظم من المثال والآية شرط وجزاء كما قدر ولا ينتظم ذلك هناك ألا ترى أنه لا يصحّ تقدير إن تتقوا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة لأنه يترتب إذ ذاك على الشرط مقتضاه من جهة المعنى وأخذ الزمخشري قول الفرّاء وزاده فساداً وخبط فيه فقال وقوله لا تصيبن لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر أو نهياً بعد أمر أو صفة لفتنة فإذا كان جواباً فالمعنى إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم انتهى . تقرير هذا القول فانظر كيف قدّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو اتقوا ثم قدّر أداة الشرط داخلة على غير مضارع اتقوا فقال فالمعنى إن أصابتكم يعني الفتنة وانظر كيف قدّر الفراء في أنزل عن الدابة لا تطرحنك وفي قوله ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم فأدخل أداة الشرط على مضارع فعل الأمر وهكذا يقدر ما كان جواباً للأمر وزعم بعضهم أن قوله لا تصيبنّ جواب قسم محذوف ، وقيل لا نافية وشبه النفي بالموجب فدخلت النون كما دخلت في لتضربنّ التقدير : والله لا تصيبن فعلى القول الأوّل بأنها صفة أو جواب أمر أو جواب قسم تكون النون قد دخلت في المنفى بلا وذهب بعض النحويين إلى أنها جواب قسم محذوف والجملة موجبة فدخلت النون في محلها ومطلت اللام فصارت لا والمعنى لتصيبنّ ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود وعلى وزيد ان ثابت والباقر والربيع بن أنس وأبي العالية لتصيبن وفي ذلك وعيد للظالمين فقط وعلى هذا التوجيه خرّج ابن جنّي أيضاً قرا 0 ءة الجماعة لا تصيبن وكون اللام مطلت فحدثت عنها الألف إشباعاً لأن الإشباع بابه الشعر ، وقال ابن جني في قراءة ابن مسعود ومن معه يحتمل أن يراد بهذه القراءة لا تصيبنّ فحذفت الألف تخفيفاً واكتفاء بالحركة كما قالوا أم والله . قال المهدوي كما حذفت من ما وهي أخت لا في قوله أم والله والله لأفعلنّ وشبهه انتهى وليست للنفي ، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه قرأ فتنة أن تصيب ، وعن الزبير : لتصيبنّ وخرّج المبرّد والفراء والزجاج قراءة لا تصيبنّ على أن تكون ناهية وتمّ الكلام عند قوله واتقوا فتنة وهو خطاب عام للمؤمنين تم الكلام عنده ثم ابتدىء نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة خاصة وأخرج النهي على جهة إسناده للفتنة فهو نهي محول كما قالوا لا أرينّك ههنا أي لا تكن هنا فيقع مني رؤيتك والمراد هنا لا يتعرض الظالم للفتنة فتقع إصابتها له خاصة ، وقال الزمخشري في تقدير هذا الوجه وإذا كانت نهياً بعد أمر فكأنه قيل واحذروا ذنباً أو عقاباً ثم قيل لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب من ظلم منكم خاصّة ، وقال الأخفش لا تصيبنّ هو على معنى الدعاء انتهى والذي دعاه إلى هذا والله أعلم استبعاد دخول نون التوكيد في المنفي بلا واعتياض تقريره نهياً فعدل إلى جعله دعاء فيصير المعنى لا أصابت الفتنة الظالمين خاصّة واستلزمت الدعاء على غير الظالمين فصار التقدير لا أصابت ظالماً ولا غير ظالم فكأنه واتقوا فتنة ، لا أوقعها الله بأحد ، فتلخص في تخريج قوله لا تصيبن أقوال الدعاء والنهي على تقديرين

" صفحة رقم 479 "
وجواب أمر على تقديرين وصفة . قال الزمخشري ، ( فإن قلت ) : كيف جاز أن تدخل النون المؤكدة في جواب الأمر ، ( قلت ) : لأن فيه معنى التمني إذا قلت إنزل عن الدابة لا تطرحك فلذلك جاز لا تطرحنك ولا تصيبن ولا يحطمنكم انتهى ، وإذا قلت لا تطرحك وجعلته جواباً لقولك إنزل وليس فيه نهي بل نفي محض جواب الأمر نفي بلا وجزمه على الجواب على الخلاف الذي في جواب الأمر والستة معه هل ثم شرط محذوف دل عليه الأمر وما ذكر معه معنى الشرط وإذا فرعنا على مذهب الجمهور في أن الفعل المنفي بلا لا تدخل عليه النون للتوكيد لم يجز أنزل عن الدابة لا تطرحنّك ، وقال الزمخشري ، ( فإن قلت ) : ما معنى من في قوله الذين ظلموا منكم خاصّة ، ( قلت ) : التبعيض على الوجه الأول فالتبيين على الثاني لأن المعنى لا تصيبكم خاصة على ظلمكم لأن الظلم منكم أقبح من سائر الناس انتهى ، ويعني بالأول أن يكون جواباً بعد أمر وبالثاني أن يكون نهياً بعد أمر وخاصة أصله أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي إصابة خاصة وهي حال من الفاعل المستكن في لا تصيبنّ ويحتمل أن يكون حالاً من الذين ظلموا أي مخصوصين بها بل تعمهم وغيرهم ، وقال ابن عطية ويحتمل أن تكون خاصة حالاً من الضمير في ظلموا ولا أتعقل هذا الوجه .
( وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( هذا وعيد شديد مناسب لقوله لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة إذ فيه حثّ على لزوم الاستقامة خوفاً من عقاب الله لا يقال كيف يوصل الرحيم الكريم الفتنة والعذاب لمن لم يذنب ، ( قلت ) : لأنه تصرّف بحكم الملك كما قد ينزل الفقر والمرض بعبده ابتداءً فيحسن ذلك منه أو لأنه علم اشتمال ذلك على مزيد ثواب لمن أوقع به ذلك .
الأنفال : ( 26 ) واذكروا إذ أنتم . . . . .
( وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الاْرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( نزلت عقب بدر ، فقيل خطاب للمهاجرين خاصة كانوا بمكة قليلي العدد مقهورين فيها يخافون أن يسلبهم المشركون ، قال ابن عباس فآتوا هم بالمدينة وأيدهم بالنصر يوم بدر والطيبات الغنائم وما فتح به عليهم ، وقيل الخطاب للرسول والصحابة وهي حالهم يوم بدر والطيبات الغنائم والناس عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة والتأييد هو الإمداد بالملائكة والتغلب على العدد ، وقال وهب وقتادة الخطاب للعرب قاطبة فإنها كانت أعرى الناس أجساماً وأجوعهم بطوناً وأقلّهم حالاً حسنة والناس فارس والروم والمأوى النبوة والشريعة والتأييد بالنصر فتح البلاد وغلبة الملوك والطيبات تعم المآكل والمشارب والملابس ، قال ابن عطية : هذا التأويل يردّه أن العرب كانت في وقت نزول هذه الآية كافرة إلا القليل ولم تترتب الأحوال التي ذكر هذا المتأول وإنما كان يمكن أن يخاطب العرب بهذه الآية في آخر زمان عمر رضي الله عنه فإن تمثّل أحد بهذه الآية بحال العرب فتمثيله صحيح وإما أن يكون حالة العرب هي سبب نزول الآية فبعيد لما ذكرناه انتهى ، وهذه الآية تعديل لنعمه تعالى عليهم ، قال الزمخشري : إذ أنتم نصب على أنه مفعول به لاذكروا ظرف أي اذكروا وقت كونكم أقِلّة أذِلّة انتهى ، وفيه التصرّف في إذ بنصبها مفعولة وهي من الظروف التي لا تتصرّف إلا بأن أضيف إليها الأزمان ، وقال ابن عطية : وإذ ظرف لمعمول واذكروا تقديره واذكروا حالكم الكائنة أو الثابتة إذ أنتم قليل ولا يجوز أن تكون إذ ظرفاً ل ( ذكروا )

" صفحة رقم 480 "
وإنما تعمل اذكر في إذ لو قدّرناها مفعوله انتهى ، وهو تخريج حسن . وقال الحوفي إذ أنتم ظرف العامل فيه اذكروا انتهى ، وهذا لا يتأتى أصلاً لأنّ اذكر للمستقبل فلا يكون ظرفه إلا مستقبلاً وإذ ظرف ماضٍ يستحيل أن يقع فيه المستقبل ولعلكم تشكرون متعلق بقوله فآواكم وما بعده أي فعل هذا الإحسان لإرادة الشكر .
الأنفال : ( 27 ) يا أيها الذين . . . . .
( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( قال ابن عباس والأكثرون : نزلت في أبي لبابة حين استنصحته قريظة لما أتى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يسيّرهم إلى أذرعات وأريحا كفعله ببني النصير فأشار أبو لبابة إلى حلقه أي ليس عند الرسول إلا الذبح فكانت هذه خيانته في قصّة طويلة ، وقال جابر في رجل من المنافقين كتب إلى أبي سفيان بشيء من إخبار الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقال المغيرة بن شعبة في قتل عثمان . قال ابن عطية ويشبه أن يتمثل بالآية في قتله فقد كان قتله خيانة لله ورسوله والأمانات انتهى ، وقيل في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يعلمهم بخروج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) إليها ، وقيل في قوم كانوا يسمعون الحديث من الرسول فيفشونه حتى يبلغ المشركين وخيانتهم الله في عدم امتثال أوامره وفعل ما نهي عنه في سرّ وخيانة الرسول فيما استحفظ وخيانة الأمانات إسقاطها وعدم الاعتبار بها ، وقيل وتخونوا ذوي أماناتكم وأنتم تعلمون جملة حالية أي وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله فكان ذلك أبعد لكم من الوقوع في الخيانة لأن العالم بما يترتب على الذنب يكون أبعد الناس عنه ، وقيل وأنتم تعلمون أن الخيانة توجد منكم عن تعمّد لا عن سهو ، وقيل وأنتم عالمون تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن وجوّزوا في وتخونوا أن يكون مجزوماً عطفاً على لا تخونوا ومنصوباً على جواب النهي وكونه مجزوماً هو الراجح لأن النصب يقتضي النهي عن الجمع والجزم يقتضي النهي عن كل واحد ، وقرأ مجاهد أمانتكم على التوحيد وروى ذلك عن أبي عمرو .
الأنفال : ( 28 ) واعلموا أنما أموالكم . . . . .
( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( أي سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب أو محنة واختبار لكم وكيف تحافظون على حدوده فيها ففي كون الأجر العظيم عنده إشارة إلى أن لا يُفتن المرء بماله وولده فيؤثر محبته لهما على ما عند الله فيجمع المال ويحب الولد حتى يؤثر ذلك كما فعل أبو لبابة لأجل كون ماله وولده كانوا عند بني قريظة .
الأنفال : ( 29 ) يا أيها الذين . . . . .
( يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( فرقاناً قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك والسدّي وابن قتيبة ومالك فيما روي عن ابن وهب وابن القاسم وأشهب مخرجاً ، وقرأ مالك ومن يتّقِ الله يجعل له مخرجاً والمعنى مخرجاً في الدّين من الضلال ، وقال مزرد بن ضرار : بادر الأفق أن يغيب فلما
أظلم الليل لم يجد فرقانا
وقال الآخر : مالك من طول الأسى فرقان
بعد قطين رحلوا وباتوا
وقال الآخر

" صفحة رقم 481 "
وكيف أرجى الخلد والموت طالبي
وما لي من كأس المنية فرقان
وقال ابن زيد وابن إسحاق فصلاً بين الحق والباطل ، وقال قتادة وغيره : نجاة ، وقال الفرّاء فتحاً ونصراً وهو في الآخرة يدخلكم الجنة والكفار النار ، وقال ابن عطية : فرقاً بين حقّكم وباطل من ينازعكم أي بالنصر والتأييد عليهم والفرقان مصدر من فرق بين الشيئين حال بينهما ، وقال الزمخشري : نصراً لأنه يفرّق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله ومنه قوله تعالى يوم الفرقان أو بياناً وظهوراً يشهد أمركم ويثبت صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض تقول بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أي طلع الفجر أو مخرجاً من الشبهات وتوفيقاً وشرحاً للصدور أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان وفضلاً ومزية في الدنيا والآخرة انتهى ، ولفظ فرقاناً مطلق فيصلح لما يقع به فرق بين المؤمنين والكافرين في أمور الدنيا والآخرة والتقوى هنا إن كانت من اتقاء الكبائر كانت السيئات الصغائر ليتغاير الشرط والجواز وتكفيرها في الدنيا ومغفرتها إزالتها في القيامة وتغاير الظرفان لئلا يلزم التكرار ، وتقدّم تفسير والله ذو الفضل العظيم في البقرة .
الأنفال : ( 30 ) وإذ يمكر بك . . . . .
( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم ذكره ( صلى الله عليه وسلم ) ) نعمه عليه في خاصة نفسه وكانت قريش قد تشاوروا في دار الندوة بما تفعل به فمن قائل : يحبس ويقيّد ويتربّص به ريب المنون ومن قائل : يخرج من مكة تستريحوا منه وتصور إبليس في صورة شيخ نجدي وقيل هذين الرأيين ومن قائل : يجتمع من كل قبيلة رجل ويضربونه ضربة واحدة بأسيافهم فيتفرق دمه في القبائل فلا تقدر بنو هاشم لمحاربة قريش كلها فيرضون بأخذ الدية فصوّب إبليس هذا الرأي فأوحى الله تعالى إلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن له بالخروج إلى المدينة وأمر عليًّا أن يبيت في مضجعه ويتّشح ببردته وباتوا راصدين فبادروا إلى المضجع فأبصروا عليًّا فبُهتوا وخلف عليًّا ليردّ ودائع كانت عنده وخرج إلى المدينة . قال ابن عباس ومجاهد : ليثبتوك أي يقيّدوك ، وقال عطاء والسدّي : ليثخنوك بالجرح والضرب من قولهم ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح ورمي الطائر فأثبته أي أثخنه . قال الشاعر : فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم
قال الخليفة أمسى مثبتاً وجعا
أي مثخناً . وقرأ النخعي ليبيتوك من البيات وهذا المكر هنا هو بإجماع المفسّرين ما اجتمعت عليه قريش في دار الندوة كما أشرنا إليه وهذه الآية مدنيّة كسائر السورة وهو الصواب ، وعن عكرمة ومجاهد إنها مكية وعن ابن زيد نزلت عقيب كفاية الله رسوله المستهزئين ويتأوّل قول عكرمة ومجاهد على أنهما أشارا إلى قصة الآية إلى وقت نزولها وتكرر ويمكرون إخباراً باستمرار مكرهم وكثرته وتقدم شرح مثل باقي الآية في آل عمران .
الأنفال : ( 31 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا ). قائل ذلك هو النضر بن الحارث واتبعه قائلون كثيرون وكان من مردة قريش سافر إلى فارس والحيرة وسمع من قصص الرهبان والأناجيل وأخبار رستم واسفنديار ويرى اليهود والنصارى يركعون ويسجدون ، قتله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) صبراً بالصفراء بالأنيل منها منصرفه من بدر ، وفي هذا التركيب جواز وقوع المضارع بعد إذا وجوابه الماضي جوازاً فصيحاً بخلاف أدوات الشرط فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا في الشعر نحو

" صفحة رقم 482 "
من يكدني بشيء كنت منه
ومعنى قد سمعنا قد سمعنا ولا نطيع أو قد سمعنا منك هذا وقولهم لو نشاء أي لو نشاء القول لقلنا مثل هذا الذي تتلوه وذكر على معنى المتلو وهذا القول منهم على سبيل البهت والمصادمة وليس ذلك في استطاعهم فقد طولبوا بسورة منه فعجزوا وكان أصعب شيء إليهم الغلبة وخصوصاً في باب البيان فقد كانوا يتمالطون ويتعارضون ويحكم بينم في ذلك وكانوا أحرص الناس على قهر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فكيف يحيلون المعارضة على المشيئة ويتعللون بأنهم لو أرادوا لقالوا مثل هذا القول .
( إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ). تقدم شرحه في الأنعام .
الأنفال : ( 32 ) وإذ قالوا اللهم . . . . .
( وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( قائل ذلك النضر ، وقيل أبو جهل رواه البخاريّ ومسلم ، وقال الجمهور : قائل ذلك كفار قريش والإشارة في قوله إن كان هذا إلى القرآن أو ما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من التوحيد وغيره أو نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) من بين سائر قريش أقوال وتقدّم الكلام على اللهم ، وقرأ الجمهور هو الحقّ بالنصب جعلوا هو فصلاً ، وقرأ الأعمش وزيد بن عليّ بالرفع وهي جائزة في العربية فالجملة خبر كان وهي لغة تميم يرفعون بعد هو التي هي فصل في لغة غيرهم كما قال :
وكنت عليها بالملا أنت أقدر
وتقدّم الكلام على الفصل وفائدته في أول البقرة ، وقال ابن عطية ويجوز في العربيّة رفع الحقّ على أنه خبر والجملة خبر كان . قال الزجاج ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز ، وقراءة الناس إنما هي بنصب الحق انتهى ، وقد ذكر من قرأ بالرفع وهذه الجملة الشرطيّة فيها مبالغة في إنكار الحق عظيمة أي إن كان حقًّا فعاقبنا على إنكاره بأمطار الحجارة علينا أم بعذاب آخر ، قال الزمخشري ومراده نفي كونه حقًّا فإذا انتفى كونه حقًّا لم يستوجب منكره عذاباً فكان تعليق العذاب بكونه حقاً مع اعتقاد أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال في قوله إن كان الباطل حقًّا مع اعتقاده أنه ليس بحق وقوله هو الحق تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين هذا هو الحق ويقال أمطرت كأنجمت وأسبلت ومطرت كهتفت وكثر الأمطار في معنى العذاب ، ( فإن قلت ) : فما فائدة قوله من السماء والأمطار لا تكون إلا منها ، ( قلت ) : كأنه أراد أن يقال فأمطر علينا السجّيل وهي الحجارة المسوّمة للعذاب موضع حجارة من السماء موضع السجّيل ، كما يقال صبّ عليه مسرودة من حديد يريد درعاً انتهى ، ومعنى جوابه أن قوله من السماء جاء على سبيل التأكيد كما أن قوله من حديد معناه التأكيد لأنّ المسرودة لا تكون إلا من حديد كما أنّ الأمطار لا تكون إلا من السماء ، وقال ابن عطية : وقولهم من السماء مبالغة وإغراق انتهى . والذي يظهر لي أن حكمة قولهم من السماء هي مقابلتهم مجيء الأمطار من الجهة التي ذكر ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه يأتيه الوحي من جهتها أي إنك تذكر أنه يأتيك الوحي من السماء فأتنا بعذاب من الجهة التي يأتيك منها الوحي إذ كان يحسن أن يعبّر عن إرسال الحجارة عليهم من غير جهة السماء بقولهم : فأمطر علينا حجارة ، وقالوا ذلك على سبيل الاستبعاد والاعتقاد أن ما أتي به ليس بحق ، وقيل على سبيل الحسد والعناد مع علمهم أنه حق واستبعد هذا الثاني ابن فورك قال : ولا يقول هذا على وجه العناد عاقل انتهى ، وكأنه لم يقرأ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم وقصّة أمية بن أبي الصلت

" صفحة رقم 483 "
وأحبار اليهود الذين قال الله تعالى فيهم : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، وقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لهم والله إنكم لتعلمون أني رسول الله أو كلام يقاربه واقتراحهم هذين النوعين هو على ما جرى عليه اقتراح الأمم السالفة ، وسأل يهودي ابن عباس ممن أنت قال من قريش فقال أنت من الذين قالوا إن كان هذا هو الحق من عندك الآية ، فهلا قالوا فاهدنا إليه ، فقال ابن عباس فأنت يا إسرائيلي من الذين لم تجفَّ أرجلهم من بلل البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه ونجا موسى وقومه حتى قالوا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فقال له موسى إنكم قوم تجهلون فأطرق اليهودي مفحماً ، وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة فقال أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين دعاهم إلى الحقّ إن كان هذا هو الحق الآية ، ولم يقولوا : فاهدنا له .
الأنفال : ( 33 ) وما كان الله . . . . .
( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( نزلت هذه إلى يعلمون بمكة ، وقيل بعد وقعة بدر حكاية عما حصل فيها . وقال ابن ابزي : الجملة الأولى بمكة إثر قوله بعذاب أليم ، والثانية عند خروجه من مكة في طريقه إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ، والثالثة بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم ولما علقوا أمطار الحجارة أو الإتيان بعذاب أليم على تقدير كينونة ما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) حقاً أخبر تعالى أنهم مستحقو العذاب لكنه لا يعذبهم وأنت فيهم إكراماً له وجرياً على عادته تعالى مع مكذّبي أنبيائه أن لا يعذبهم وأنبياؤهم مقيمون فيهم عذاباً يستأصلهم فيه ، قال ابن عباس لم تعذّب أمة قط ونبيها فيها وعليه جماعة المتأولين فالمعنى فما كانت لتعذب أمتك وأنت فيهم بل كرامتك عند ربك أعظم وقال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ومن رحمته تعالى أن لا يعذّبهم والرسول فيهما ولما كان الإمطار للحجارة عليهم مندرجاً تحت العذاب كان النفي متسلّطاً على العذاب الذي إمطار الحجارة نوع منه فقال تعالى وما كان الله ليعذبهم ولم يجيء التركيب ، وما كان الله ليمطر أوليائي بعذاب وتقييد نفي العذاب بكينونة الرسول فيهم إعلام بأنه إذا لم يكن فيهم وفارقهم عذّبهم ولكنه لم يعذبهم إكراماً له مع كونهم بصدد من يعذب لتكذيبهم . قال ابن عطية عن أبي زيد : سمعت من العرب من يقول وما كان الله ليعذبهم بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن انتهى ، وبفتح اللام في ليعذبهم قرأ أبو السّمال ، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو بالفتح في لام الأمر في قوله فلينظر الإنسان إلى طعامه ، وروى ابن مجاهد عن أبي زيد أن من العرب من يفتح كلّ لام إلا في نحو : الحمد لله انتهى ، يعني لام الجرّ إذا دخلت على الظاهر أو على ياء المتكلم والظرفية في فيهم مجاز والمعنى : وأنت مقيم بينهم غير راجل عنهم .
( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ). أنظر إلى حُسن مساق هاتين الجملتين لما كانت كينونته فيهم سبباً لانتفاء تعذيبهم أكّد خبر كان باللام على رأي الكوفيين أو جعل خبر كان الإرادة المنفية على رأي البصريين وانتفاء الإرادة للعذاب أبلغ من انتفاء العذاب ولما كان استغفارهم دون تلك الكينونة الشريفة لم يؤكد باللام بل جاء خبر كان قوله معذبهم ، فشتّان ما بين استغفارهم وكينونته ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيهم والظاهر أن هذه الضمائر كلها في الجمل عائدة على الكفار وهو قول قتادة ، وقال ابن عباس وابن أبزي وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه : إن الضمير في قوله معذّبهم عائد على كفار مكة والضمير في قوله وهم عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بمكة أي وما كان الله ليعذب الكفار

" صفحة رقم 484 "
والمؤمنون بينهم يستغفرون ، قال ابن عطية : ويدفع في صدر هذا القول أنّ المؤمنين الذين ردّ الضمير إليهم لم يجر لهم ذكر ، وقال ابن عباس أيضاً ما مقتضاه إنّ الضمير بن عائدان على الكفار وكانوا يقولون في دعائهم غفرانك ويقولون لبّيك لا شريك لك ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا على هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إنّ الله جعل من عذاب الدنيا أمنتين كون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) مع الناس والاستغفار فارتفعت الواحدة وبقي الاستفغار إلى يوم القيامة ، وقال الزّجاج وحكى عن ابن عباس وهم يستغفرون عائد على الكفار والمراد به من سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر فالمعنى وما كان الله ليعذب الكفار ومنهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال ، وقال مجاهد وهم يستغفرون أي وذريتهم يستغفرون ويؤمنون فأسند إليهم إذ ذريتهم منهم والاستغفار طلب الغفران ، وقال الضحّاك ومجاهد : معنى يستغفرون يصلون ، وقال عكرمة ومجاهد أيضاً : يسلمون وظاهر قوله وهم يستغفرون أنهم ملتبسون بالاستغفار أي هم يستغفرون فلا يعذّبون كما أن الرسول فيهم فلا يعذبون فكلا الحالين موجود كون الرسول فيهم واستغفارهم ، وقال الزمخشري وهم يستغفرون في موضع الحال ومعناه نفي الاستغفار عنهم أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم كقوله تعالى ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ( ولكنهم لا يستغفرون ولا يؤمنون ولا يتوقع ذلك منهم انتهى ، وما قاله تقدّمه إليه غيره ، فقال : المعنى وهم بحال توبة واستغفار من كفرهم أن لو وقع ذلك منهم ، واختاره الطبري وهو مرويّ عن قتادة وابن زيد .
الأنفال : ( 34 ) وما لهم ألا . . . . .
( وَمَا لَهُمْ أَن لا يُعَذّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاءهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ). الظاهر أن ما استفهامية أي أيّ شيء لهم في انتفاء العذاب وهو استفهام معناه التقرير أي كيف لا يعذبون وهم متّصفون بهذه الحالة المتقضية للعذاب وهي صدّهم المؤمنين عن المسجد الحرام وليسوا بولاة البيت ولا متأهّلين لولابته ومن صدّهم ما فعلوا بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) عام الحديبية وإخراجه مع المؤمنين داخل في الصدّ كانوا يقولون نحن ولاة البيت نصدّ من نشاء وندخل من نشاء وأنْ مصدرية ، وقال الأخفش : هي زائدة ، قال النّحّاس : لو كان كما قال لرفع تعذيبهم انتهى ، فكان يكون الفعل في موضع الحال كقوله : وما لنا لا نؤمن بالله وموضع إن نصب أو جر على الخلاف إذ حذف منه اني وهي تتعلق بما تعلّق به لهم أي أيّ شيء كائن أو مستقرّ لهم في أن لا يعذبهم الله والمعنى لا حظ لهم في انتفاء العذاب وإذا انتفى ذلك فهم معذبون ولا بدّ وتقدير الطبري وما يمنعهم من أن يعذبوا هو تفسير معنى لا تفسير إعراب وكذلك ينبغي أن يتأوّل كلام ابن عطية أنّ التقدير وما قدرتهم ونحوه من الأفعال موجب أن يكون في موضع نصب والظاهر عود الضمير في أولياءه على المسجد لقربه وصحّة المعنى ، وقيل ما للنفي فيكون إخباراً أي وليس لهم أن لا يعذبهم الله أي ليس ينتفي العذاب عنم مع تلبّسهم بهذه الحال ، وقيل الضمير في أولياءه عائد على الله تعالى ، وروي عن الحسن والظاهر أن قوله وما كانوا أولياءه استئناف إخبار أي وما استحقوا أن يكونوا ولاة أمره إن أولياؤه إلا المتقون أي المتقون للشرك وقال الزمخشري : إلا المتقون من المسلمين ليس كل مسلم أيضاً ممن يصلح أن يلي أمره إنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً فكيف عبدة الأصنام انتهى ؟ ويجوز أن يكون وما كانوا أولياءه معطوفاً على وهم يصدّون فيكون حالاً والمعنى كيف لا يعذبهم الله وهم متّصفون بهذين الوصفين صدّهم عن المسجد الحرام وانتفاء كونهم أولياءه أو أولياءه أي أولياء المسجد أي ليسوا ولاته فلا ينبغي أن يصدّوا عنه أو أولياء الله فهو كفار فيكون قد ارتقى من حال إلى أعظم منها وهو كونهم ليسوا مؤمنين فمن كان صادًّا عن المسجد كافراً بالله فهو

" صفحة رقم 485 "
حقيق بالتعذيب والضمير في أنّ أولياؤه مترتب على ما يعود عليه في قوله : وما كانوا أولياءه واختلفوا في هذا التعذيب فقال قوم : هو الأول إلا أنه كان امتنع بشيئين كون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيهم واستغفار من بينهم من المؤمنين فلما وقع التمييز بالهجرة وقع بالباقين يوم بدر ، وقيل : بل وقع بفتح مكة ، وقال قوم : هذا التعذيب غير ذلك فالأوّل : استئصال كلهم فلم يقع لما علم من إسلام بعضهم وإسلام بعض ذراريهم ، والثاني : قتل بعضهم يوم بدر ، وقال ابن عباس : الأوّل عذاب الدنيا ، والثاني : عذاب الآخرة ، فالمعنى وما كان الله معذب المشركين لاستغفارهم في الدنيا وما لهم أن لا يعذبهم الله في الآخرة ومتعلّق لا يعلمون محذوف تقديره لا يعلمون أنهم ليسوا أولياءه بل يظنون أنهم أولياؤه والظاهر استدراك الأكثر في انتفاء العلم إذ كان بينهم وفي خلالهم من جنح إلى الإيمان فكان يعلم أن أولئك الصادّين ليسوا أولياء البيت أو أولياء الله فكأنه قيل ولكن أكثرهم أي أكثر المقيمين بمكة لا يعلمون لتخرج منهم العباس وأم الفضل وغيرهما ممن وقع له علم أو إذ كان فيهم من يعلمه وهو يعاند طلباً للرياسة أو أريد بالأكثر الجميع على سبيل المجاز فكأنه قيل ولكنهم لا يعلمون كما قيل : قلما رجل يقول ذلك في معنى النفي المحض وإبقاء الأكثر على ظاهره أولى وكونه أريد به الجميع هو تخريج الزمخشري وابن عطية .
الأنفال : ( 35 ) وما كان صلاتهم . . . . .
( وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ). لما نفي عنهم أن يكونوا ولاة البيت ذكر من فعلهم القبيح ما يؤكد ذلك وأنّ من كانت صلاته ما ذكر لا يستأهل أن يكونوا أولياءه فالمعنى والله أعلم أن الذي يقوم مقام صلاتهم هو المكاء والتصدية وضعوا مكان الصلاة والتقرّب إلى الله التصفير والتصفيق كانوا يطوفون غراة ، رجالهم ونساؤهم مشبكين بين أصابعهم يصفرون ويصفّقون يفعلون ذلك إذا قرأ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يخلطون عليه في صلاته ونظير هذا المعنى قولهم كانت عقوبتك عزلتك أي القائم مقام العقوبة هو العزل . وقال الشاعر : وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه
أداهم سوداً أو مدحرجة سمرا
أقام مقام العطاء القيود والسّياط كما أقاموا مقام الصلاة المكاء والتصدية ، وقال ابن عباس : كان ذلك عبادة في ظنهم ، قال ابن عطية لما نفى تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول كيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده فقطع الله هذا الاعتراض ، وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية كما يقال الرجل : أنا أفعل الخير ، فيقال له : ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل أي هذه عادتك وغايتك قال : والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أنّ المكاء والتصدية كانا من فعل العرب قديماً قبل الإسلام على جهة التقرب والتشرع ، وروي عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء وبينهما أربعة أميال وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقيصهم بأن شرعهم وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة إنما كانت مكاء وتصدية من نوع اللعب ، ولكنهم كانوا يتزيّدون فيها وقت قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة ، قال ابن عمر ومجاهد والسدّي : والمكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق ، وعن مجاهد أيضاً المكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم والتصدية الصفير والصفير بالفم وقد يكون بالأصابع والكف في

" صفحة رقم 486 "
الفم قاله مجاهد وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقد يشارك الأنف يريدون أن يشغلوا بذلك الرسول عن الصلاة ، وقال ابن جبير وابن زيد : التصدية صدهم عن البيت ، وقال ابن بحر : إنّ صلاتهم ودعاءهم غير رادّين عليهم ثواباً إلا كما يجيب الصدى الصائح فتلخص في معنى الآية ثلاثة أقوال : أحدها : ما ظاهره أن الكفار كانت لهم صلاة وتعبّد وذلك هو المكاء والتصدية ، والثاني : أنه كانت لهم صلاة ولا جدوى لها ولا ثواب فجعلت كأنها أصوات الصدا حيث لها حقيقة ، والثالث : أنه لا صلاة لهم لكنهم أقاموا مقامها المكاء والتصدية ، وقال بعض شيوخنا : أكثر أهل العلم على أنّ الصلاة هنا هي الطواف وقد سمّاه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) صلاة ، وقرأ إبان بن تغلب وعاصم والأعمش بخلاف عنهما صلاتهم بالنصب الإمكاء وتصدية بالرفع وخطا قوم منهم أبو علي الفارسي هذه القراءة لجعل المعرفة خبراً والنكرة اسماً قالوا : ولا يجوز ذلك إلا في ضرورة كقوله :
يكون مزاجها عسل وماء
وخرّجها أبو الفتح على أنّ المكاء والتصدية اسم جنس واسم الجنس تعريفه وتنكيره واحد انتهى ، وهو نظير قول من جعل نسلخ صفة لليل في قوله ) وَءايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ( ويسبني صفة للئيم في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني
وقرأ أبو عمر وفيما روي عنه إلا مكاباً لقصر منوّناً فمن مدّ فكالثغاء والرغاء ومن قصّر فكالبكا في لغة من قصّر والعذاب في قوله فذوقوا العذاب ، قيل هو في الآخرة ، وقيل هو قتلهم وأخذ غنائمهم ببدر وأسرهم ، قال ابن عطية : فيلزم أن تكون هذه الآية الأخيرة نزلت بعد بدر ولا بدّ ، والأشبه أنّ الكلّ بعد بدر حكاية عن ماض وكون عذابهم بالقتل يوم بدر هو قول الحسن والضحاك وابن جريج .
الأنفال : ( 36 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ( قال مقاتل والكلبي

" صفحة رقم 487 "
ّ نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثنى عشر رجلاً أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا حجّاج وأبو البحتري بن هشام والنضر بن الحرث وحكيم بن حرام وأبيّ بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل والعباس بن عبد المطلب ، وكلهم من قريش وكان يطعم كلّ واحد منهم كل يوم عشر جزائر ، وقال مجاهد والسدّي وابن جبير وابن ابزي : نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش يقاتل بهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) سوى من استجاش من العرب ، وفيهم يقول كعب بن مالك : فجئنا إلى موج من البحر وسطه
أحابيش منهم حاسر ومقنع ثلاثة آلاف ونحن بقيّة ثلاث مئين إن كثرنا وأربع
وقال الحكم بن عيينة : أنفق على الأحابيش وغيرهم أربعين أوقية من ذهب ، وقال الضحّاك وغيره : نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى بدر كانوا ينحرون يوماً عشراً من الإبل ويوماً تسعاً وهذا نحو من القول الأوّل ، وقال ابن إسحاق عن رجاله لما رجع فل قريش إلى مكة من بدر ورجع أبو سفيان بعيره كلم أبناء من أصيب ببدر وغيرهم أبا سفيان وتجّار العِير في الإعانة بالمال الذي سلم لعلّنا ندرك ثاراً لمن أصيب ففعلوا فنزلت ، وروي نحوه عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم بن عمرو بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر من شرح أحوالهم في الطاعات البدنية وهي صلاتهم شرح حالهم في الطاعات المالية وهي إنفاقهم أموالهم للصدّ عن سبيل الله ، والظاهر الإخبار عن الكفار بأنّ إنفاقهم ليس في سبيل الله بل سببه الصدّ عن سبيل الله فيندرج هؤلاء الذين ذكروا في هذا العموم وقد يكون اللفظ عاماً والسبب خاصاً والمعنى أنّ الكفار يقصدون بنفقتهم الصدّ عن سبيل الله وغلبة المؤمنين فلا يقع إلا عكس ما قصدوا وهو تندمهم وتحسّرهم على ذهاب أموالهم ثم غلبتهم والتمكن منهم أسراً وقتلاً وغنماً والعطف بثم يقوّي أنّ الحسرة في الدنيا ، وقيل الحسرة في الآخرة ، وفي الآخرة فسينفقونها إلى آخره من الإخبار بالغيوب لأنه أخبر بما يكون قبل كونه ثم كان أخبروا الإخبار بين الاستقبال يدل على إنفاق متأخر عن وقعة أحد وبدر وأنّ ذلك إخبار عن علو الإسلام وغلبة أهله ، وكذا وقع فتحوا البلاد ودوّخوا العباد وملأ الإسلام معظم أقطار الأرض واتسعت هذه الملة اتساعاً لم يكن لشيء من الملل السابقة .
( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( هذا إخبار بما يؤول إليه حال الكفار

" صفحة رقم 488 "
في الآخرة من حشرهم إلى جهنم إذ أخبر بما آل إليه حالهم في الدنيا من حسرتهم وكونهم مغلوبين ومعنى قوله والذين كفروا من وافى على الكفر وأعاد الظاهر لأنّ من أنفق ماله من الكفار أسلم منهم جماعة
الأنفال : ( 37 ) ليميز الله الخبيث . . . . .
ولام ليميز متعلقة بقوله يحشرون ، والخبيث والطيب وصفان يصلحان للآدميين وللمال وتقدّم ذكرهما في قوله إن الذين كفروا ينفقون أموالهم فمن المفسرين من تأوّل الخبيث والطيب على الآدميين ، فقال ابن عباس : ليميز أهل السعادة من أهل الشقاوة ونحوه ، قال السدّي ومقاتل قالا : أراد المؤمن من الكفار وتحريره ليميز أهل الشقاوة من أهل السعادة والكافر من المؤمن ، وقدّره الزمخشري : الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيّب من المؤمنين ، ومعنى جعل الخبيث بعضه على بعض وركمه ضمّه وجمعه حتى لا يفلت منهم أحد واحتمل الجعل أن يكون من باب التصيير ومن باب الإلقاء ، وقال ابن القشيري : ليميز الله الخبيث من الطيب بتأخير عذاب كفار هذه الأمة إلى يوم القيامة ليستخرج المؤمنين من أصلاب الكفار انتهى ، فعلى ما سبق يكون التمييز في الآخرة وعلى القول الأخير يكون في الدنيا ومن المفسرين من تأوّل الخبيث والطيب على الأموال ، فقال ابن سلام والزجاج : المعنى بالخبيث المال الذي أنفقه المشركون كمال أبي سفيان وأبي جهل وغيرهما المنفَق في عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والإعانة عليه في الصد عن سبيل الله والطيب هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل الله كمال أبي بكر وعمر وعثمان ولام ليميز على هذا متعلقة بقوله يغلبون قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري بقوله ثم تكون عليهم حسرة والمعنى ليميز الله الفرق بين الخبيث والطيب فيخذل أهل الخبث وينصر أهل الطيب ويكون قوله فيجعله في جهنم من جملة ما يعذبون به كقوله فتكوي بها جباههم إلى قوله فذوقوا ما كنتم تكنزون قاله الحسن ، وقيل الخبيث ما أُنفق في المعاصي والطيب ما أنفق في الطاعات ، وقيل المال الحرام من المال الحلال ، وقيل ما لم تؤدّ زكاته من الذي أُدِّيت زكاته ، وقيل هو عامّ في الأعمال السيئة وركمها ختمها وجعلها قلائد في أعناق عمالها في النار ولكثرتها جعل بعضها فوق بعض وإن كان المعنى بالخبيث الأموال التي أنفقوها في حرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقيل : الفائدة في إلقائها في النار أنها لما كانت عزيزة في أنفسها عظيمة بينهم ألقاها الله في النار ليريهم هو أنها كما تلقى الشمس والقمر في النار ليرى من عبدهما ذلهما وصغارهما والذي يظهر من هذه الأقوال هو الأول ، وهو أن يكون المراد بالخبيث الكفار وبالطيب المؤمنون إذ الكفار أولاهم المحدّث عنهم بقوله ينفقون أموالهم ، وقوله فسينفقونها وبقوله ثم إلى جهنم يحشرون وأخراهم المشار إليهم بقوله أولئك هم الخاسرون ولما كان تغلب الإنسان في ماله وتصرفه فيه يرجو بذلك حصول الربح له أخبر تعالى أن هؤلاء هم الذين خسروا في إنفاقهم وأخفقت صفقتهم حيث بذل أعزّ ما عنده في مقابلة عذاب الله ولا خسران أعظم من هذا ، وتقدم ذكر الخلاف في قراءة ليميز في قوله حتى يميز الخبيث من الطيب ويقال ميزته فتميز وميزته فانماز حكاه بعقوب ، وفي الشاذ وانمازوا اليوم وأنشد أبو زيد قول الشاعر : لما ثنى الله عني شرّ عذرته
وانمزت لا مشيا دعراً ولا رجلا
الأنفال : ( 38 ) قل للذين كفروا . . . . .
( قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( لما ذكر ما يحل بهم من حشرهم إلى النار وجعلهم فيها وخسرهم تلطّف بهم وأنهم إذا انتهوا هن الكفر وآمنوا غفرت لهم ذنوبهم السالفة وليس ثم ما يترتب على الانتهاء عنه غفران الذنوب سوى الكفر فلذلك كان المعنى إن ينتهوا عن الكفر واللام في للذين الظاهر أنها

" صفحة رقم 489 "
للتبليغ وأنه أمر أن يقول لهم هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ الجملة المحكية بالقول وسواء قاله بهذه العبارة أم غيرها ، وجعل الزمخشري اللام لام العلة ، فقال : أي قل لأجلهم هذا القول إن ينتهوا ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل إن تنتهوا نغفر لكم ، وهي قراءة ابن مسعود ونحوه ، وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه خاطبوا به غيرهم ليسمعوه انتهى ، وقرىء يغفر مبنياً للفاعل والضمير لله تعالى .
( قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ ). العود يقتضي الرجوع إلى شيء سابق ولا يكون الكفر لأنهم لم ينفصلوا عنه فالمعنى عَوْدهم إلى ما أمكن انفصالهم منه وهو قتال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقيل وإن يعودوا إلى الارتداد بعد الإسلام ، وبه فسّر أبو حنيفة وإن يعودوا واحتج بالآية على أن المرتد إذا أسلم فلا يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردّة وقبلها وأجمعوا على أن الحربي إذا أسلم لم تبقَ عليه تبعة وأما إذا أسلم الذميّ فيلزمه قضاء حقوق الآدميين لا حقوق الله تعالى والظاهر دخول الزنديق في عموم قوله قل للذين كفروا فتقبل توبته وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وقال مالك لا تقبل ، وقال يحيى بن معاذ الرازي : التوحيد لا يعجز عن هدم ما قبله من كفر فلا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب وجواب الشرط قالوا : فقد مضت سنة الأولين ، ولا يصح ذلك على ظاهره بل ذلك دليل على الجواب والتقدير وإن يعودوا انتقمنا منهم وأهلكناهم فقد مضت سنّة الأوّلين في أنا انتقمنا منهم وأهلكناهم بتكذيب أنبيائهم وكفرهم ويحتمل سنة الأولين أن يراد بها سنة الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر وسنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم فدمّروا فليتوقعوا مثل ذلك وتخويفهم بقصة بدر أشدّ إذ هي قريبة معاينة لهم وعليها نص السدّيّ وابن إسحاق ، ويحتمل أن يراد بقوله سنة الأولين مَن تقدّم مِن أهل بدر والأمم السالفة والمعنى فقد عاينتم قصة بدر وسمعتم ما حلّ بهم .
( ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( )
الأنفال : ( 39 ) وقاتلوهم حتى لا . . . . .
( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ ). تقدم تفسير نظير هذه الآية وهنا زيادة كله توكيداً للدّين . وقرأ الأعمش : ويكون برفع النون والجمهور بنصبها .
( فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( أي فإن انتهوا عن الكفر ومعنى بصير بإيمانهم فيجازيهم على ذلك ويثيبهم ، وقرأ الحسن ويعقوب وسلام بن سليمان بما تعملون بالتاء على الخطاب لمن أمروا بالمقاتلة أي بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعاء إلى دينه يصير يُجازيكم عليه أحسن الجزاء .
الأنفال : ( 40 ) وإن تولوا فاعلموا . . . . .
( وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ). أي مواليكم ومعينكم وهذا وعد صريح بالظّفر والنصر والأعرق في الفصاحة أن يكون مولاكم خبر أنّ ويجوز أن يكون عطف بيان والجملة بعده خبر أنّ والمخصوص بالمدح محذوف أي الله أو هو والمعنى فثقوا بموالاته ونصرته واستدلّ بقوله وقاتلوهم على وجوب قتال أصناف أهل الكفر إلا ما خصّه الدليل وهم أهل الكتاب والمجوس فإنهم يقرّون بالجزية وإنه لا يقرّ سائر الكفار على دينهم بالذّمة إلا هؤلاء الثلاثة لقيام الدليل على واز إقرارها بالجزية .
2 ( ) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين

" صفحة رقم 490 "
ِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنْتُم بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الاٌّ مْرِ وَلَاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِىأَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِىأَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِىءٌ مِّنْكُمْ إِنِّيأَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيأَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَاؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ

" صفحة رقم 491 "
عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِىأَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الاٌّ رْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مُّنكُمْ مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ اأانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاٌّ رْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاٌّ خِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } )
الأنفال : ( 41 ) واعلموا أنما غنمتم . . . . .
لقصوّ البعد والقصوى تأنيث الأقصى ومعظم أهل التصريف فصلوا في الفعلى مما لامه واو فقالوا إن كان اسماً أبدلت الواو ياء ثم يمثّلون بما هو صفة نحو الدنيا والعليا والقصيا وإن كان صفة أقرت نحو الحلوى تأنيث الأحلى ، ولهذا قالوا شذّ القصوى بالواو وهي لغة الحجاز والقصيا لغة تميم وذهب بعض النحويين إلى أنه إن كان اسماً أقرت الواو نحو حزوى وإن كان صفة أبدلت نحو الدنيا والعليا وشذّ إقرارها نحو الحلوى ونص على ندور القصوى ابن السكيت ، وقال الزمخشريّ فأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل وقد جاء القصيا إلا أن استعمال القصوى أكثر مما كثر استعمال استصوب مع مجيء استصاب وأغيلت مع أغالت والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو ، البطر قال الهروي : الطغيان عند النعمة ، وقال ابن الأعرابي : سوء احتمال الغي ، وقال الأصمعي : الحيرة عند الحق فلا يراه حقاً ، وقال الزجاج : يتكبر عند الحق فلا يقبله ، وقال الكسائي : مأخوذ من قول العرب ذهب دمه بطراً أي باطلاً ، وقال ابن عطية : البطر الأشر وغمط النعمة والشغل بالمرح فيها عن شكرها ، نكص قال النضر بن شميل : رجع القهقرى هارباً ، وقال غيره : هذا أصله ثم استعمل في الرجوع من حيث جاء . وقال الشاعر : هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا
لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا

" صفحة رقم 492 "
ويقال أراد أمراً ثم نكص عنه . وقال تأبط شرًّا : ليس النكوص على الأدبار مكرمة
إنّ المكارم إقدام على الأسل
ليس هنا قهقرى بل هو فرار ، وقال مؤرج : نكص رجع بلغة سليم . شرّد فرّق وطرّد والمشرّد المفرّق المبعد وأما شرذ بالذال فسيأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر قراءة من قرأ بالذال ، التحريض المبالغة في الحثّ وحركه وحرّسه وحرّضه بمعنى ، وقال الزمخشريّ من الحرض وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفي على الموت أو أن يسميه حرضاً ويقول له ما أزال إلا حرضاً في هذا الأمر وممرضاً فيه ليهيجه ويحرّكه منه ، وقالت فرقة : المعنى حرض على القتال حتى يتبين لك فيمن تركه إنه حارض ، قال النقاش : وهذا قول غير ملتئم ولا لازم من اللفظ ونحا إليه الزّجاج والحارض الذي هو القريب من الهلاك لفظة مباينة لهذه ليست منها في شيء ، أثخنته الجراحات أثبتته حتى تثقل عليه الحركة وأثخنه المرض أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة والإثخان المبالغة في القتل والجراحات .
( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُم بِاللَّهِ ). قال الكلبي : نزلت بدر ، وقال الواقدي : كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوّال على رأس عشرين شهراً من الهجرة ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة اقتضى ذلك وقائع وحروباً فذكر بعض أحكام الغنائم وكان في ذلك تبشير للمؤمنين بغلبتهم للكفار وقسم ما تحصّل منهم من الغنائم ، والخطاب في واعلموا للمؤمنين والغنيمة عرفاً ما يناله المسلمون من العدوّ بسعي وأصله الفوز بالشيء يقال غنم غنماً . قال الشاعر : وقد طوّفت في الآفاق حتى
رضيت من الغنم بالإياب
ويوم الغنم يوم الغنم مطعمه
أني توجه والمحروم محروم
والغنيمة والفيء هل هما مترادفان أو متباينان قولان وسيأتي ذلك عند ذكر الفيء إن شاء الله تعالى . والظاهر أن ما غنم يخمس كائناً ما كان فيكون خمسة لمن ذكر الله فأما قوله فإن لله خمسه فالظاهر أن ما نسب إلى الله يصرف في الطاعات كالصدقة على فقراء المسلمين وعمارة الكعبة ونحوهما ، وقال بذلك فرقة وأنه كان الخمس يُقسم على ستة فما نسب إلى الله قسّم على من ذكرنا ، وقال أبو العالية سهم الله يصرف إلى رتاج الكعبة وعنه كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ بيده قبضة فيجعلها للكعبة وهو سهم الله تعالى

" صفحة رقم 493 "
ثم يقسم ما بقي على خمسه ، وقيل سهم الله لبيت المال ، وقال ابن عباس والحسن والنخعي وقتادة والشافعي قوله فإن لله خمسه استفتاح كلام كما يقول الرجل لعبده : أعتقك الله وأعتقتك على جهة التبرك وتفخيم الأمر والدنيا ، كلها لله وقسم الله وقسم الرسول واحد وكان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقسم الخمس على خمسة أقسام ، وهذا القول هو الذي أورده الزمخشري احتمالاً ، فقال : يحتمل أن يكون معنى لله وللرسول كقوله تعالى والله ورسوله أحقّ أن يرضوه وأن يراد بقوله فإن لله خمسه أي من حقّ الخمس أن يكون متقرّباً به إليه لا غير ثم خصّ من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلاً لها على غيرها كقوله تعالى وجبريل وميكال والظاهر أن للرسول عليه الصلاة والسلام سهماً من الخمس . وقال ابن عباس فيما روى الطبري : ليس لله ولا للرسول شيء وسهمه لقرابته يقسم الخُمس على أربعة أقسام ، وقالت فرقة : هو مردود على الأربعة الأخماس ، وقال علي يلي الإمام سهم الله ورسوله والظاهر أنه ليس له عليه السلام غير سهم واحد من الغنيمة ، وقال ابن عطية : كان مخصوصاً عليه السلام من الغنيمة بثلاثة أشياء ، كان له خمس الخمس ، وكان له سهم رجل في سائر الأربعة الأخماس ، وكان له صفي يأخذه قبل قسم الغنيمة دابة أو سيفاً أو جارية ولا صفي بعده لا حد بالإجماع إلا ما قاله أبو ثور من أن الصفي إلى الإمام ، وهو قول معدود في شواذ الأقوال انتهى ، وقالت فرقة : لم يورث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فسقط سهمه ، وقيل سهمه موقوف على قرابته وقد بعثه إليهم عمر بن عبد العزيز ، وقالت فرقة : هو لقرابة القائم بالأمر بعده ، وقال الحسن وقتادة : كان للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في حياته فلما توفي جعل لولي الأمر من بعده انتهى ، وذوو القربى معناه قربى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والظاهر عموم قرباه ، فقالت فرقة : قريش كلها بأسرها ذوو قربى ، وقال أبو حنيفة والشافعي : هم بنو هاشم وبنو المطلب استحقوه بالنصرة والمظاهرة دون بني عبد شمس وبني نوفل ، وقال علي بن الحسين وعبد الله بن الحسن وابن عباس : هم بنو هاشم فقط ، قال مجاهد : كان آل محمد لا تحل لهم الصدقة فجعل له خمس الخمس ، قال ابن عباس : ولكن أبى ذلك علينا قومنا وقالوا قريش كلها قربى والظاهر بقاء هذا السهم لذوي القربى وأنه لغنيّهم وفقيرهم ، وقال ابن عباس كان على ستة لله وللرسول سهمان وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة ، ولذلك روي عن عمرو من بعده من الخلفاء ، وروي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس وقال إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم وإنما الغنيّ منكم فهو بمنزلة ابن السبيل الغنيّ لا يعطى من الصدقة شيئاً ولا يتيم موسر ، وعن زيد بن علي : ليس لنا أن نبني منه قصوراً ولا أن نركب منه البراذين ، وقال قوم : سهم ذوي القربى لقرابة الخليفة والظاهر أنّ اليتامى والمساكين وابن السبيل عامّ في يتامى المسلمين ومساكينهم وابن السبيل منهم ، وقيل : الخمس كله للقرابة ، وقيل : لعلي إن الله تعالى قال : واليتامى والمساكين فقال : أيتامنا ومساكيننا ، وروي عن علي بن الحسين وعبد الله بن محمد بن علي أنهما قالا : الآية كلها في قريش ومساكينها وظاهر العطف يقتضي التشريك فلا يحرم أحد قاله الشافعي ، قال : وللإمام أن يفضل أهل الحاجة لكن لا يحرم صنفاً منهم ، وقال مالك : للإمام أن يعطي الأحوج ويحرم غيره من الأصناف ، ولم تتعرض الآية لمن يصرف أربعة الأخماس والظاهر أنه لا يقسم لمن لم يغنم فلو لحق مدد للغانمين قبل حوز الغنيمة لدار الإسلام فعند أبي حنيفة هم شركاؤهم فيها ، وقال مالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي ، لا يشاركونهم والظاهر أن من غنم شيئاً خمس ما غنم إذا كان وحده ولم يأذن الإمام ، وبه قال الثوري والشافعي ، وقال أصحاب أبي حنيفة : هو له خاصة ولا يخمس وعن بعضهم فيه تفصيل ، وقال الأوزاعي إن شاء الإمام عاقبه وحرمه وإن شاء خمس والباقي له ، والظاهر أن قوله غنمتم خطاب للمؤمنين فلا يسهم لكافر حضر بإذن الإمام وقاتل ويندرج في الخطاب العبيد المسلمون فما يخصّهم لساداتهم ، وقال الثوري

" صفحة رقم 494 "
والأوزاعي إذا استعين بأهل الذمة يسهم لهم ، وقال أشهب إذا خرج المقيّد والذميّ من الجيش وغنماً فالغنيمة للجيش دونهم والظاهر أن قوله ) أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ( عامّ في كل ما يغنم من حيوان ومتاع ومعدن وأرض وغير ذلك فيخمس جميع ذلك وبه قال الشافعي إلا الرجال البالغين ، فقال الإمام فيهم مخير بين أن يمنّ أو يقتل أو يسبى ومن سبي منهم فسبيله سبيل الغنيمة ، وقال مالك إن رأى الإمام قسمة الأرض كان صواباً أو إن أدّاه الاجتهاد إلى أن لا يقسمها لم يقسمها والظاهر أنه لا يخرج من الغنيمة غير الخمس فسلب المقتول غنيمة لا يختصّ به القاتل إلا أن يجعل له الأمير ذلك على قتله وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري ، وقال الأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري وابن المنذر : السّلب للقاتل ، قال ابن سريج وأجمعوا على أنّ من قتل أسيراً أو امرأة أو شيخاً أو ذفف على جريج أو قتل من قطعت يداه ورجله أو منهزماً لا يمنع في انهزامه كالمكتوف ليس له سلب واحد من هؤلاء والخلاف هل من شرطه أن يكون القاتل مقبلاً على المقتول وفي معركة أم ليس ذلك من شرطه ودلائل هذه المسائل مستوفاة في كتب الفقه وفي كتب مسائل الخلاف وفي كتب أحكام القرآن والظاهر أنّ ما موصولة بمعنى الذي وهي اسم أن وكتبت أن متصلة بما وكان القياس أن تكتب مفصولة كما كتبوا إن ما توعدون لآت مفصولة وخبر إن هو قوله : فإنّ لله خمسة وإن لله في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالحكم إن لله ودخلت الفاء في هذه الجملة الواقعة خبراً لأن ، كما دخلت في خبر أن في قوله ) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ( وقال الزمخشري : فإن لله مبتدأ خبره محذوف تقديره حقّ أو فواجب أمن لله خمسة انتهى ، وهذا التقدير الثاني الذي هو أو فواجب أنّ لله خمسه تكون أن ومعمولاها في موضع مبتدأ خبره محذوف وهو قوله فواجب وأجاز الفرّاء أن تكون ما شرطية منصوبة بغنمتم واسم أن ضمير الشأن محذوف تقديره أنه وحذف هذا الضمير مع أنّ المشددة مخصوص عند سيبويه بالشعر ، وروى الجعفي عن هارون عن أبي عمرو فإن لله بكسر الهمزة ، وحكاها ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم ، ويقوّي هذه القراءة قراءة النخعي فلله خمسه ، وقرأ الحسن وعبد لوارث عن أبي عمرو : خمسه بسكون الميم ، وقرأ النخعي خمسه بكسر الخاء على الاتباع يعني اتباع حركة الخاء لحركة ما قبلها كقراءة من قرأ ) وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ ( بكسر الحاء اتباعاً لحركة التاء ولم يعتد بالساكن لأنه ساكن غير حصين ، وانظر إلى حسن هذا التركيب كيف أفرد كينونة الخمس لله وفصل بين اسمه تعالى وبين المعاطيف بقوله خمسه ليظهر استبداده تعالى بكينونة الخمس له ثم أشرك المعاطيف معه على سيل التبعية له

" صفحة رقم 495 "
ولم يأتِ التركيب فإن لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل خمسه ، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرّب به ولا يراد مجرد العلم بل العلم والعمل بمقتضاه ولذلك قدّر بعضهم إن كنتم آمنتم بالله فاقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وأبعد من ذهب إلى أن الشرط متعلق معناه بقوله فنعم المولى ونعم النصير والتقدير فاعلموا أنّ الله مولاكم وما أنزلنا معطوف على بالله ، ويوم الفرقان يوم بدر بلا خلاف فرق فيه بين الحق والباطل والجمعان جمع المؤمنين وجمع الكافرين قتل فيها صناديد قريش نصّ عليه ابن عباس ومجاهد ومقسم والحسن وقتادة وكانت يوم الجمعة سابع عشر رمضان في السنة الثانية من الهجرة هذا قول الجمهور ، وقال أبو صالح لتسعة عشر يوماً والمنزل : الآيات والملائكة والنصر وختم بصفة القدرة لأنه تعالى أدال المؤمنين على قلتهم على الكافرين على كثرتهم ذلك اليوم ، وقرأ زيد بن علي عبدنا بضمتين كقراءة من قرأ وعبد الطاغوت بضمتين فعلى عبدنا هو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعلى عبدنا هو الرسول ومن معه من المؤمنين وانتصاب يوم الفرقان على أنه ظرف معمول لقوله وما أنزلنا ، وقال الزجاج ويحتمل أن ينتصب بغنمتم أي إنّ ما غنمتم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فإن خمسه لكذا وكذا ، أي كنتم آمنتم بالله أي فانقادوا لذلك وسلّموا ، قال ابن عطية : وهذا تأويل حسن في المعنى ويعترض فيه الفضل بين الظرف وبين ما تعلقه به بهذه الجملة الكثيرة من الكلام انتهى ، ولا يجوز ما قاله الزجاج لأنه إن كانت ما شرطية على تخريج الفرّاء لزم فيه الفصل بين فعل الشرط ومعموله بجملة الجزاء ومتعلقاتها وإن كانت موصولة فلا يجوز الفصل بين فعل الصلة ومعموله بخبر أنّ .
الأنفال : ( 42 ) إذ أنتم بالعدوة . . . . .
( إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ( العدوة شطّ الوادي وتسمي شفيراً وضفّة سميت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء أن يتجاوزه أي منعته . وقال الشاعر : عدتني عن زيارتها العوادي
وقالت دونها حرب زبون
وتسمى الفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالعدوة بكسر العين فيهما وباقي السبعة بالضم والحسن وقتادة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد بالفتح وأنكر أبو عمر والضم ، وقال الأخفش لم يسمع من العرب إلاّ الكسر ، وقال أبو عبيد الضمّ أكثرهما ، وقال اليزيدي الكسر لغة الحجاز انتهى ، فيحتمل أن تكون الثلاث لغى ويحتمل أن يكون الفتح مصدراً سمي به وروي بالكسر والضمّ بيت أوس : وفارس لم يحلّ اليوم عدوته
ولو إسراعاً وما هموا بإقبال
وقرىء بالعدية بقلب الواو لكسرة العين ولم يعتدّوا بالساكن لأنه حاجز غير حصين كما فعلوا ذلك في صبية وقنية ودنيا من قولهم هو ابن عمي دنيا والأصل في هذا التصحيح كالصفوة والذروة والربوة وفي حرف ابن مسعود بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى ووادي بدر آخذين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان ، وقرأ زيد بن علي القصيا وقد ذكرنا أنه القياس وذلك لغة تميم والأحسن أن يكون وهم والركب معطوفان على أنتم فهي مبتدآت تقسيم لحالهم

" صفحة رقم 496 "
وحال أعدائهم ويحتمل أن تكون الواوان فيهما واوي الحال وأسفل ظرف في موضع الخبر ، وقرأ زيد بن علي أسفل بالرفع اتسع في الظرف فجعله نفس المبتدأ مجازاً والركب هم الأربعون الذين كانوا يقودون العِير عير أبي سفيان ، وقيل الإبل التي كانت تحمل أزواد الكفار وأمتعتهم كانت في موضع يأمنون عليها ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين وإن العِير كانت أسفل منهم ( قلت ) : الفائدة فيه الإخبار عن الحالة الدالة على قوّة شأن العدوّ وشوكته وتكامل عدّته وتمهد أسباب الغلبة له وضعف شأن المسلمين وشتات أمرهم وإن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله تعالى ودليل على أن ذلك أمر لم يتيسّر إلا بحوله تعالى وقوته وباهر قدرته ، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضاً لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة وكانت العِير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم وكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم الذبّ عن الحرم والغيرة على الحرم على بذل تجهيداتهم في القتال أن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطئهم ولا يخلو مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم وفيه تصوير ما دبّر سبحانه من أمر وقعة بدر انتهى ، وهو كلام حسن . وقال ابن عطية : كان الرّكب ومدبّر أمره أبو سفيان قد نكب عن بدر حين ندر بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأخذ سيف البحر فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الوادي من حيث يأتي .
( وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَاكِن لّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيُحْىِ مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ). كان الالتقاء على غير ميعاد . قال مجاهد : أقبل أبو سفيان وأصحابه من الشام تجاراً لم يشعروا بأصحاب بدر ولم يشعر أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه حتى التقوا على ماء بدر للسّقي كلهم فاقتتلوا فعليهم أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فأسروهم ، قال الطبريّ وغيره : المعنى لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهم وقال معناه الزمخشري ، قال : ولو تواعدتم أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال لخاف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسببه له ، وقال المهدوي : المعنى لاختلفتم بالقواطع والعوارض القاطعة بالناس ، قال ابن عطية : وهذا أنبل يعني من قول الطبري وأصحّ وإيضاحه أن المقصد من الآية تبين نعمة الله وقدرته في قصة بدر وتيسيره ما تيسر من ذلك فالمعنى إذ هيّأ الله لكم هذه الحال ولو تواعدتم لها لاختلفتم إلا مع تيسير الله الذي تمّم ذلك وهذا كما تقول لصاحبك في أمر شاءه الله دون تعب كثير لو ثبنا على هذا وسعينا فيه لم يتم هكذا انتهى ، وقال الكرماني ولو تواعدتم أنتم والمشركون للقتال لاختلفتم في الميعاد أي كانوا لا يصدّقون مواعدتكم طلباً لغرتكم والجيلة عليكم ، وقيل المعنى ولو تواعدتم من غير قضاء الله أمر الحرب لاختلفتم في الميعاد لأنه تعالى اذا لم يقدر امرا لم يقع انتهى ) وَلَاكِن لّيَقْضِيَ اللَّهُ ( ولكن تلاقيتم على غير ميعاد ليقضي الله أمراً من نصر دينه وإعزاز كلمته وكسر الكفار وإذلالهم كان مفعولاً أي موجوداً متحققاً واقعاً وعبّر بقوله مفعولاً لتحقّق كونه ، قال ابن عطية : ليقضي أمراً قد قدّره في الأزل مفعولاً لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم وذلك كله معلوم عنده ، وقال

" صفحة رقم 497 "
الزمخشري : ليقضي الله متعلق بمحذوف أي ليقضي الله أمراً كان واجباً أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك ، وقيل كان بمعنى صار ليهلك بدل من ليقضي فيتعلق بمثل ما تعلق به ليقضي ، وقيل يتعلق بقوله مفعولاً ، وقيل الأصل وليهلك فحذف حرف العطف والظاهر أن المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم عن بيان من الله وإعذار بالرسالة ويعيش من عاش عن بيان منه وأعذار لا حجة لأحد عليه ، وقال ابن إسحاق وغيره : ليكفر ويؤمن فالمعنى أنّ الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن مَن آمن عن وضوح وبيان ويكفر من كفر عن مثل ذلك ، وقرأ الأعمش وعصمة عن أبي بكر عن عاصم : ليهلك بفتح اللام ، وقرأ نافع والبزي وأبو بكر من حيي بالفكّ وباقي السبعة بالإدغام وقال المتلمس :
فهذا أوان العرض حيّ ذبابه
والفكّ والإدغام لغتان مشهورتان وختم بهاتين الصفتين لأنّ الكفر والإيمان يستلزمان النطق اللساني والاعتقاد الجناني فهو سميع لأقوالكم عليم بنياتكم .
الأنفال : ( 43 ) إذ يريكهم الله . . . . .
( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَلَاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ( الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وتظاهرت الروايات أنها رؤيا منام رأى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيها الكفار قليلاً فأخبر بها أصحابه فقويت نفوسهم وشجعت على أعدائهم ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأصحابه حين انتبه : ( أبشروا لقد نظرت إلى مصارع القوم ) والمراد بالقلّة هنا قلة القدر واليأس والنجدة وأنهم مهزومون مصروعون ولا يحمل على قلة العدد لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) رؤياه حق وقد كان علم أنهم ما بين تسعمائة إلى ألف فلا يمكن حمل ذلك على قلّة العدد وروي عن الحسن أن معنى في منامك في عينك لأنها مكان النوم كما قيل للقطيفة المنامة لأنه ينام فيها فتكون الرؤية في اليقظة وعلى هذا فسّر النقاش وذكره عن المازني وما روي عن الحسن ضعيف ، قال الزمخشري وهذا تفسير فيه تعسّف وما أحسب الرواية فيه صحيحة عن الحسن وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته والمعنى : ولو أراكهم في منامك كثيراً لفشلتم أي لخرتم وجبنتم عن اللقاء ولتنازعتم في الأمر أي تفرّقت آراؤكم في أمر القتال فكان يكون ذلك سبباً لانهزامكم وعدم إقدامكم على قتال أعدائكم لأنه لو رآهم كثيراً أخبركم برؤياه ففشلتم ولما كان الرسول عليه السلام محميًّا من الفشل معصوماً من النقائص أسند الفشل إلى مَن يمكن ذلك في حقّه فقال تعالى لفشلتم وهذا من محاسن القرآن ولكن الله سلم من الفشل والتنازع والاختلاف بإرايته له ( صلى الله عليه وسلم ) ) الكفار قليلاً فأخبرهم بذلك فقويت به نفوسهم إنه عليم بذات الصدور يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع وإذ بدل من إذ وانتصب قليلاً . قال الزمخشري على الحال وما قاله ظاهر لأنّ أرى منقولة بالهمزة من رأى البصرية فتعدت إلى اثنين الأوّل كاف خطاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والثاني ضمير الكفار فقليلاً وكثيراً منصوبان على الحال وزعم بعض النحويين أن أرى الحلمية تتعدى إلى ثلاثة كأعلم وجعل من ذلك قوله تعالى : ) إِذْ يُرِيكُمْ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ

" صفحة رقم 498 "
قَلِيلاً ( فانتصاب قليلاً عنده على أنه مفعول ثالث وجواز حذف هذا المنصوب اقتصاراً يبطل هذا المذهب . تقول رأيت زيداً في النوم وأراني الله زيداً في النوم .
الأنفال : ( 44 ) وإذ يريكموهم إذ . . . . .
( وَإِذَا يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ ). هذه الرؤية هي يقظة لا منام وقلل الكفار في أعين المؤمنين تحقيراً لهم ولئلا يجبنوا عن لقائهم . قال ابن مسعود : لقد قلّلوا في أعيننا حتى قلت لرجل : إلى جنبي أتراهم سبعين ، قال : أراهم مائة وهذا من عبد الله لكونه لم يسمع ما أعلم به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من عددهم وقلّل المؤمنون في أعين الكفار حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور وذلك قبل الالتقاء وذلك ليجترئوا على المؤمنين فتقع الحرب ويلتحم القتال ، إذ لو كثروا قبل اللقاء لا حجموا وتحيّلوا في الخلاص أو استعدوا واستنصروا ولما التحم القتال كثر الله المؤمنين في أعين الكفار فبهتوا وهابوا وفلت شوكتهم ورأوا ما لم يكن في حسابهم كما قال يرونهم مثليهم رأي العين وعظم الاحتجاج عليهم استيضاح الآية البينة من قلتهم أولاً وكثرتهم رخراً ورؤية كل من الطائفتين يكون بأن ستر الله بعضها عن بعض أو بأن أحدث في أعينهم ما يستقلّون به الكثير هذا إذا كانت الرؤية حقيقة وأما إذا كانت بمعنى التّخمين والحذر الذي يستعمله الناس فيمكن ذلك ، وعلى التقديرين لا يندرج الرسول في خطاب وإذ يريكموهم لأنه لا يجوز على أن يرى الكثير قليلاً لا حقيقة ولا تخميناً على أنه يحتمل أن يكون من باب تقليل القدر والمهابة والنجدة لا من باب تقليل العدد ألا ترى قولهم المرء كثيراً بأخيه وإلى قول الشاعر : أروح وأغتدي سفها
أكثر من أقلّ به
فهذا من باب التقليل والتكثير في المنزلة والقدر ، لا من باب تقليل العدد ليقضي أي فعل ذلك ليقضي والمفعول في الآيتين هو القصة بأسرها ، وقيل هما المعنيين من معاني القصة أريد بالأوّل الوعد بالنصرة يوم بدر وبالثاني الاستمرار عليها وتقدم تفسير وإلى الله ترجع الأمور واختلاف القراء في ترجع في سورة البقرة .
الأنفال : ( 45 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( أي فئة كافرة حذف الوصف لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار واللقاء اسم للقتال غالب وأمرهم تعالى بالثبات وهو مقيد بآية الضعف وفي الحديث : ( لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا ليقتموهم فاثبتوا ) . وأمرهم بذكره تعالى كثيراً في هذا الموطن العظيم من مصابرة العدو والتلاحم بالرماح وبالسيوف وهي حالة يقع فيها الذهول عن كل شيء فأمروا بذكر الله إذ هو تعالى الذي يفزع إليه عند الشدائد ويستأنس بذكره ويستنصر بدعائه ومن كان كثير التعلق بالله ذكره في كل موطن حتى في المواضع التي يذهل فيها عن كل شيء ويغيب فيها الحسّ ) إِلا اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ). وحكى لي بعض الشجعان أنه حالة التحام القتال تأخذ الشجاع هزة وتعتريه مثل السكر لهول الملتقى فأمر المؤمنين بذكرالله في هذه الحالة العظيمة وقد نظم الشعراء هذا المعنى فذكروا أنهم في أشقّ الأوقات عليهم وأشدّها لم ينسوا مَحبوبَهم وأكثروا في ذلك فقال بعضهم : ذكرت سليمى وحرّ الوغى
كقلبي ساعة فارقتها
وأبصرت بين القنا قدّها
وقد ملن نحوي فعانقتها

" صفحة رقم 499 "
قال قتادة : افترض الله ذكره أشغل ما يكون العبد عند الضراب والسيوف ، وقال الزمخشري : فيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر الله أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون همًّا وأن يكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزّعة عن غيره ، وذكر أن الثبات وذكر الله سببا الفلاح وهو الظفر بالعدو في الدنيا والفوز في الآخرة بالثواب ، والظاهر أن الذكر المأمور به هو باللسان فأمر بالثبات بالجنان وبالذكر باللسان والظاهر أن لا يعين ذكر ، وقيل هو قول المجاهدين : الله أكبر الله أكبر عند لقاء الكفار ، وقيل الدعاء عليهم : اللهم اخذلهم اللهم دمرهم وشبهه ، وقيل دعاء المؤمنين لأنفسهم بالنصر والظفر والتثبيت كما فعل قوم طالوت فقالوا ) رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( وقيل : هم لا ينصرون وكان هذا شعار المؤمنين عند اللقاء ، وقال محمد بن كعب : لو رخص ترك الذكر لرخص في الحرب ولذكرنا حيث أمر بالصمت ثم قيل له : واذكر ربك كثيراً ، وحكم هذا الذكر أن يكون خفياً إلا إن كان من الجميع وقت الحملة فحسن رفع الصوت به لأنه يفت في أعضاد الكفار وفي سنن أبي داود كان أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يكرهون الصوت عند القتال وعند الجنازة ، وقال ابن عباس : يكره التلثم عند القتال .
الأنفال : ( 46 ) وأطيعوا الله ورسوله . . . . .
( وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ، أمرهم تعالى بالطاعة لله ولرسوله ونهاهم عن التنازع وهو تجاذب الآراء وافتراقها والأظهر أن يكون فتفشلوا جواباً للنهي فهو منصوب ولذلك عطف عليه منصوب لأنه يتسبب عن التنازع الفشل وهو الخور والجبن عن لقاء العدو وذهاب الدولة باستيلاء العدو ويجوز أن يكون فتفشلوا مجزوماً عطفاً على ولا تنازعوا وذلك في قراءة عيسى بن عمر ويذهب بالياء وجزم الباء ، وقرأ أبو حيوة وإبان وعصمة عن عاصم ويذهب بالياء ونصب الباء ، وقرأ الحسن وابراهيم فتفشِلوا بكسر الشين ، قال أبو حاتم : وهذا غير معروف ، وقال غيره : هي لغة . قال مجاهد : الريح والنصرة والقوة وذهبت ريح أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين ناغوه بأحد ، وقال الزمخشري : والريح الدّولة شبهت لنفوذ أمرها وتشبيه بالريح وهبوبها ، فقيل : هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره . ومنه قوله : أتنظر إن قليلاً ريث غفلتهم
أم تعدوان فإنّ الريح للعادي
انتهى وهو قول أبي عبيدة إن الريح هي الدولة ومن استعارة الريح قول الآخر : إذا هبت رياحك فاغتنمها
فإن لكلّ عاصفة سكونا
ورواه أبو عبيدة ركوداً . وقال شاعر الأنصار : قد عودتهم صباهم أن يكون لهم
ريح القتال وأسلاب الذين لقوا
وقال زيد بن علي ويذهب ريحكم معناه الرّعب من قلوب عدوكم ومنه قيل للخائف انتفخ سحره . قال ابن عطية : وهذا حسن بشرط أن يعلم العدوّ بالتنازع فإذا لم يعلم فالذاهب قوة المتنازعين

" صفحة رقم 500 "
فينهزمون انتهى ، وقال ابن زيد وغيره الريح على بابها وروي في ذلك أن النصر لم يكن قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار واستند بعضهم في هذه المقالة إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) نصرت بالصبا ، وقال الحكم وتذهب ريحكم يعني الصّبا إذ بها نصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمته ، وقال مقاتل ريحكم حدتكم ، وقال عطاء جلدكم ، وحكى التبريزي هيبتكم ، ومنه قول الشاعر : كما حميناك يوم النّعف من شطط
والفضل للقوم من ريح ومن عدد
الأنفال : ( 47 ) ولا تكونوا كالذين . . . . .
( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ). نزلت في أبي جهل وأصحابه خرجوا النصرة العِير بالقينات والمعازف ووردوا الجحفة فبعث خفاف الكناني وكان صديقاً له بهدايا مع ابنه وقال : إن شئت أمددناك بالرجال وإن شئت بنفسي مع من خفّ من قومي ، فقال أبو جهل : إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله طاقة وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة والله ، لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدراً فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا القينات فإنّ بدراً مركز من مراكز العرب وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب مخرجنا فتهابنا آخر الأبد فوردوا بدراً فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القينات ، فنهى الله المؤمنين أن يكون مثل هؤلاء بطرين طربين مرائين بأعمالهم صادين عن سبيل الله ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : اللهم إن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها تجادل وتكذب رسولك اللهم خاضها الغداة وفي قوله والله بما يعملون محيط وعيد وتهديد لمن بقي من الكفار .
الأنفال : ( 48 ) وإذ زين لهم . . . . .
( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ ). أعمالهم ما كانوا فيه من الشرك وعبادة الأصنام ومسيرهم إلى بدر وعزمهم على قتال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهذا التزيين والقول والنكوص هل ذلك على سبيل المجاز أو الحقيقة قولان للمفسرين بدأ الزمخشري بالأوّل فقال : وسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون وأوهمهم أنّ اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما تحبرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم ، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم انتهى ، ويكون ذلك من باب مجاز التمثيل ، وقال المهدويّ يضعف هذا القول إنّ قوله : وإنّي جار لكم ليس مما يلقى بالوسوسة انتهى ، ويمكن أن يكون صدور هذا القول على لسان بعض الغواة من الناس قال لهم ذلك بإغواء إبليس له ونسب ذلك إلى إبليس لأنه هو المتسبب في ذلك القول فيكون القول والنكوص صادرين من إنسان حقيقة والجمهور على أنّ إبليس تصور لهم فعن ابن عباس في صورة رجل من بني مدلج في جند من الشياطين معه راية ، وقيل جاءهم في طريقهم إلى بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وقد خافوا من بني بكر وكنانة لدخول كانت بينهم وكان من أشراف كنانة فقال : ما حكى الله عنه ومعنى جار لكم مجيركم من بني كنانة فلما رأى الملائكة تنزل نكص ، وقيل كانت يده في يد الحارث بن هشام فلما نكص قال له الحرث : إلى أن أتخذ لنا في هذه الحال فقال إني أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة بن مالك فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان وفي الموطأ وغيره ما رؤي الشيطان في يوم

" صفحة رقم 501 "
أقل ولا أحقر ولا أصفر في يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر قيل : وما رأى يا رسول الله قال : رأى الملائكة يريحها جبريل ، وقال الحسن : رأى إبليس جبريل يقود فرسه بين يدي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو معتجر ببردة وفي يده اللجام ولكم ليس متعلقاً بقوله : لا غالب لأنه كان يلزم تنوينه لأنه يكون اسم لا مطولاً والمطول يعرب ولا يبنى بل لكم في موضع رفع على الخبر أي كائن لكم وبما تعلق المجرور تعلّق الظرف واليوم عبارة عن يوم بدر ويحتمل أن يكون قوله وإني جار لكم معطوفاً على لا غالب لكم اليوم ويحتمل أن تكون الواو للحال أي لا أحد يغلبكم وأنا جار لكم أعينكم وأنصركم بنفسي وبقومي والفئتان جمعاً المؤمنين والكافرين ، وقيل فئة المؤمنين وفئة الملائكة نكص على عقبيه رجع في ضد إقباله وقال : إني بريء منكم مبالغة في الخذلان والانفصال عنهم لم يكتفِ بالفعل حتى أكد ذلك بالقول ما لا ترون رأي خرق العادة ونزول الملائكة إني أخاف الله ، قال قتادة وابن الكلبي معذرة كاذبة لم يخف الله قط ، وقال الزجاج وغيره : بل خاف مما رأى من الهول إنه يكون اليوم الذي أنظر إليه انتهى وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى ) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ ( ويحتمل أنّ يكون والله شديد العقاب معطوفاً على معمول القول قال : ذلك بسطاً لعذره عندهم وهو متحقق أنّ عذاب الله شديد ويحتمل أن يكون من كلام الله استأنف تهديداً لإبليس ومن تابعه من مشركي قريش .
الأنفال : ( 49 ) إذ يقول المنافقون . . . . .
( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ ( ، العامل في إذ زيّن أو نكص أو سميع عليم أو اذكروا أقوال وظاهر العطف التغاير . فقيل المنافقون هم من الأوس والخزرج لما خرج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال بعضهم : نخرج معه ، وقال بعضهم : لا نخرج غرّ هؤلاء أي المؤمنين دينهم فإنهم يزعمون أنهم على حق وأنهم لا يغلبون هذا معنى قول ابن عباس ، والذين في قلوبهم مرض قوم أسلموا ومنهم أقرباؤهم من الهجرة فأخرجتهم قريش معها كرهاً فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وقالوا غرّ هؤلاء دينهم فقتلوا جميعاً ، منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحرث بن زمعة بن الأسود وعلي بن أمية والعاصي بن منبه بن الحجاج ولم يذكر أنّ منافقاً شهد بدراً مع المسلمين إلا معتب بن قشير فإنه ظهر منه يوم أحد قوله : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ، وقيل والذين في قلوبهم مرض هو من عطف الصّفات وهي لموصوف واحد وصفوا بالنفاق وهو إظهار ما يخفيه من المرض كما قال تعالى في قلوبهم مرض وهم منافقو المدينة ، وعن الحسن هم المشركون ويبعد هذا إذ لا يتّصف المشركون بالنفاق لأنهم مجاهرون بالعداوة لا منافقون ، وقال ابن عطية ، قال المفسّرون : إنّ هؤلاء الموصوفين بالنفاق ومرض القلوب إنما هم من أهل عسكر الكفار لما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلّة عددهم قالوا مشيرين إلى المسلمين غرّ هؤلاء دينهم أي اغترّوا فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به وكنّى بالقلوب عن العقائد والمرض أعمّ من النفاق إذ يطلق مرض القلب على الكفر .
( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( هذا يتضمن الردّ على من قال غرّ هؤلاء دينهم فكأنه قيل هؤلاء في لقاء عدوّهم هم متوكلون على الله فهم الغالبون ، ومن يتوكل على الله ينصره ويعزَّه فإن الله عزيز لا يغالب بقوة ولا بكثرة حكيم يضع الأشياء مواضعها أو حاكم بنصره من يتوكل عليه فيديل القليل على الكثير .
الأنفال : ( 50 - 51 ) ولو ترى إذ . . . . .
( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ). لو التي ليست شرطاً في المستقبل تقلب المضارع للمضي فالمعنى لو رأيت وشاهدت وحذف جواب لو جاز بليغ حذفه في مثل هذا لأنه يدلّ على التعظيم أي لرأيت أمراً عجيباً وشأناً هائلاً كقوله ولو

" صفحة رقم 502 "
ترى إذ وقفوا على النار ، والظاهر أنّ الملائكة فاعل يتوفى ويدلّ عليه قراءة ابن عامر والأعرج تتوفى بالتاء وذكر في قراءة غيرهما لأن تأنيث الملائكة مجاز وحسنه الفضل ، وقيل : الفاعل في هذه القراءة الفاعل ضمير الله والملائكة مبتدأ والجملة حاليّة ، كهي في يضربون ، قال ابن عطية : ويضعفه سقوط واو الحال فإنها في الأغلب تلزم مثل هذا انتهى ، ولا يضعفه إذ جاء بغير واو في كتاب الله وفي كثير من كلام العرب والملائكة ملك الموت وذكر بلفظ الجمع تعظيماً أو هو وأعوانه من الملائكة فيكون التوفي قبض أرواحهم أو الملائكة الممدّ بهم يوم بدر ، والتوفي قتلهم ذلك اليوم أو ملائكة العذاب فالتوفي سوقهم إلى النار أقوال ثلاثة ، والظاهر حقيقة الوجوه والإدبار كناية عن الأستاه . قال مجاهد : وخصا بالضرب لأن الخزي والنكال فيهما أشد ، وقيل : ما أقبل منهم وما أدبر فيكون كناية عن جميع البدن وإذا كان ذلك يوم بدر فالظاهر أن الضّاربين هم الملائكة . وقيل : الضمير عائد على المؤمنين أي يضرب المؤمنون فمن كان أمامهم من المؤمنين ضربوا وجوههم ومن كان وراءهم ضربوا أدبارهم فإن كان ذلك عند الموت ضربتهم الملائكة بسياط من نار ، وقوله ذوقوا هذا على إضمار القول من الملائكة أي ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق ويكون ذلك يوم بدر وكانت لهم أسواط من نار يضربونهم بها فتشتغل جراحاتهم ناراً أو يقال لهم ذلك في الآخرة وهو كلام مستأنف من الله على سبيل التقريع للكافرين أما في الدنيا حالة الموت أي مقدّمة عذاب النار ، وأما في الآخرة ويحتمل ذلك وما يعده أن يكون من كلام الملائكة أو من كلام الله ، ذلك أي ذلك العذاب وهو مبتدأ خبره بما قدّمت أيديكم وأنّ الله عطف على ما أي ذلك العذاب بسبب كفركم وبسبب أنّ الله لا يظلمكم إذ أنتم مستحقّون العذاب فتعذيبكم عدل منه وتقدّم تفسير هذه الجملة في أواخر سورة آل عمران .
الأنفال : ( 52 ) كدأب آل فرعون . . . . .
( كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( تقدّم تفسير نظير هذه الآية في أوائل سورة آل عمران .
الأنفال : ( 53 ) ذلك بأن الله . . . . .
( ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). ذلك مبتدأ وخبره بأن الله لم يكُ أي ذلك العذاب أو الانتقام بسبب كذا وظاهر النعمة أنه يُراد به ما يكونون فيه من سعة الحال والرفاهية والعزّة والأمن والخصب وكثرة الأولاد والتغيير قد يكون بإزالة الذات وقد يكون بإزالة الصفات فقد تكون النعمة أذهبت رأساً وقد تكون قلّلت وأضعفت ، وقال القاضي أنعم الله عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبيل والمقصو أنْ يشتغلوا بالعبادة والشكر ويعدلوا عن الكفر فإذا صرفوا هذه الأمور إلى الكفر والفسق فقد غيّروا أنعم الله على أنفسهم فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن وهذا من أوكد ما يدلّ على أنه تعالى لا يبتدىء أحداً بالعذاب والمضرّة وأنّ الذي يفعله لا يكون إلا جزاءً على معاص سلفت ولو كان تعالى خلقهم وخلق حياتهم وعقولهم ابتداءً للنار كما يقوله القوم لما صحّ ذلك انتهى ، قيل : وظاهر الآية يدلّ على ما قاله القاضي إلا أنه يمكن الحمل على الظاهر لأنه يلزم من ذلك أن يكون صفة الله معلّلة بفعل الإنسان ومتأثرة له وذلك محال في بديهة العقل وقد قام الدليل على أنّ حكمه وقضاءه سابق أوّلاً فلا يمكن أن يكون فعل إلا بقضائه وإرادته . وقيل أشار بالنعمة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعثه رحمة فكذّبوه فبدّل الله ما كانوا فيه من النعمة بالنقمة في الدنيا وبالعقاب في الآخرة قاله السدّي والظاهر من قوله على قوم العموم في كل من أنعم الله عليه من مسلم وكافر وبرّ وفاجر وأنه تعالى متى أنعم على أحد فلم يشكر بدّله عنها بالنقمة ، وقيل القوم هنا قريش أنعم الله تعالى عليهم ليشكروا ويفردوه بالعبادة فجحدوا وأشركوا في ألوهيته وبعث إليهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فكذّبوه فلما غيروا ما اقتضته نعمة وحدّثتهم أنفسهم بأنّ تلك النِّعم من قبل أوثانهم وأصنامهم غير تعالى عليهم بنقمة في الدنيا وأعدّ لهم العذاب في العقبى ، وقال ابن عطية : ومثال هذا نعمة الله على قريش بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) )

" صفحة رقم 503 "
فكفروا وغيّروا ما كان يجب أن يكونوا عليه فغير الله تلك النعمة بأن نقلها إلى غيرهم من الأنصار وأحلّ بهم عقوبته انتهى . وتغيير آل فرعون ومشركي مكة ومن يجري مجراهم بأن كانوا كفاراً ولم تكن لهم حالة مرضية فغيّروا تلك الحالة المسخوطة إلى أسخط منها من تكذيب الرّسل والمعاندة والتخريب وقتل الأنبياء والسعي في إبطال آيات الله فغير الله تعالى ما كان أنعم عليهم به وعاجلهم ولم يمهلهم وفي قول الزمخشري ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله تعالى لم ينبغ له ولم يصحّ في حكمته أن يغير نعمه عند قوم حتى يغيّروا ما بهم من الحال دسيسة الاعتزال وأن الله سميع لأقوال مكذّبي الرسول ، عليم بأفعالهم فهو مجازيهم على ذلك .
الأنفال : ( 54 ) كدأب آل فرعون . . . . .
( كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ ( قال قوم : هذا التكرير للتأكيد ، وقال ابن عطية : هذا التكرير لمعنى ليس للأوّل أو الأوّل أو الأوّل دأب في أنْ هلكوا لما كفروا وهذا الثاني دأب في أن لم يغير نعمتهم حتى يغيّروا ما بأنفسهم انتهى ، وقال قوم : كرّر لوجوه منها أن الثاني جرى مجرى التفصيل للأول لأنّ في ذلك ذكر إجرامهم وفي هذا ذكر إغراقهم وأُريد بالأول ما نزل بهم من العقوبة حال الموت وبالثاني ما نزل بهم من العذاب في الآخرة وفي الأوّل بآيات الله إشارة إلى إنكار دلائل الإلهية وفي الثاني بآيات ربهم إشارة إلى إنكار نعم من ربّاهم ودلائل تربيته وإحسانه علي كثرتها وتواليها وفي الأوّل اللام منه الأخذ ، وفي الثاني اللازم منه الهلاك والإغراق ، وقال الزمخشري في قوله تعالى : بآيات ربهم زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحقّ وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب ، وقال الكرماني يحتمل أن يكون الضمير في الآية الأولى في كفروا عائداً على قريش وفي الأخيرة في كذّبوا عائد على آل فرعون والذين من قبلهم انتهى ، وقيل فأهلكناهم هم الذين أهلكوا يوم بدر فيلزم من هذا القول أن يكون كذّبوا عائداً على كفار قريش ، وقال التبريزي فأهلكناهم قوم نوح بالطّوفان وعادا بالريح وثموداً بالصّيحة وقوم لوط بالخسف ، وفرعون وآله بالغرق ، وقوم شعيب بالظلّة ، وقوم داود بالمسخ وأهلك قريشاً وغيرها بعضهم بالفزغ وبعضهم بالسيف وبعضهم بالعدسة كأبي لهب ، وبعضهم بالغدة كعامر بن الطّفيل ، وبعضهم بالصاعقة كأويد بن قيس انتهى ، فيظهر من هذه الكلام أن الضمير في كذّبوا وأهلكناهم عائد على المشبه والمشبه به في كدأب إذ عمّ الضمير القبيلتين وإنما خصّ آل فرعون بالذكر وذكر الذي أهلكوا به وهو إغراقهم لأنه انضم إلى كفرهم دعوى الإلهية والرّبوبية لغير الله تعالى فكان ذلك أشنع الكفر وأفظعه ومراعاة لفظ كلّ إذا حذف ما أضيف إليه ومعناه جائزة واختير هنا مراعاة المعنى لأجل الفواصل إذ لو كان التركيب وكلّ كان ظالماً لم يقع فاصلة ، وقال الزمخشري وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي انتهى ، ولا يظهر تخصيص الزمخشري كلاًّ بغرقى القبط وقتلى قريش إذ الضمير في كذبوا وفي فأهلكناهم لا يختصّ بهما فالذي يظهر عموم المشبه به وهم آل فرعو والذين من قبلهم أو عموم المشبّه والمشبّه بهم .
الأنفال : ( 55 - 56 ) إن شر الدواب . . . . .
( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ). نزلت في بني قريظة منهم كعب بن الأشرف وأصحابه عاهدهم الرسول أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم فنكثوا مالؤوا معهم يوم الخندق وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم قال البغوي من روى أنه كعب بن الأشرف أخطأ ووهم بل يحتمل أنه كعب بن أسد فإنه كان سيّد قريظة ، وقيل :

" صفحة رقم 504 "
هم بنو قريظة والنضير ، وقيل : نفر من قريش من عبد الدّار حكاه التبريزي في تفسيره فهم لا يؤمنون إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون فلا يمكن أن يقع منهم إيمان ، قال ابن عباس شرّ الناس الكفار وشرّ الكفار المصرّون منهم وشرّ المصرّين الناكثون للعهود فأخبر تعالى أنهم جامعون لأنواع الشرّ الذين عاهدت بدل من الذين كفروا قاله الحوفي والزمخشري وأجاز أبو البقاء أن يكون خبر المبتدأ محذوف وضمير الموصول محذوف أي عاهدتهم منهم أي من الذين كفروا ، قال ابن عطية : يحتمل أن يكون شرّ الدّواب بثلاثة أوصاف : الكفر والموافاة عليه والمعاهدة مع النقض ، والذين على هذا بدل بعض من كلّ ويحتمل أن يكون الذين عاهدت فرقة أو طائفة ثم أخط يصف حال المعاهدين بقوله ثم ينقضون عهدهم في كل مرة انتهى ، فعل هذا الاحتمال يكون الذين مبتدأ ويكون الخبر قوله فإما تثقفنهم ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى اسم الشرط فكأنه قيل من يعاهد منهم أي من الكفار فإن تظفر بهم فاصنع كذا أو من للتّبعيض لأنّ المعادين بعض الكفار وهي في موضع الحال أي كائنين منهم ، وقيل : بمعنى مع ، وقيل : الكلام محمول على المعنى أي أخذت منهم العهد فتكون من على هذا التقدير لابتداء الغاية ، وقيل : من زائدة أي عاهدتهم وهذه الأقوال الثلاثة ضعيفة وأتى ثم ينقضون بالمضارع تنبيهاً على أنّ من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة تقديره وهم لا يتّقون لا يخافون عاقبة العدوّ ولا يبالون بما في نقض العهد من العار واستحقاق النار .
الأنفال : ( 57 ) فإما تثقفنهم في . . . . .
( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( أي فإن تظفر بهم في الحرب وتتمكن منهم فشرّد بهم من خلفهم ، قال ابن عباس فنكّل بهم من خلفهم ، وقال ابن جبير : أنذر من خلفهم عن قتل من ظفر به وتنكيله فكان المعنى فإن تظفر بهم فاقتلهم قتلاً ذريعاً حتى يفرّ عنك من خلفهم ويتفرّق ولما كان التّشريد وهو التّطريد والإبعاد ناشئاً عن قتل من ظفر به في الحرب من المعاهدين الناقضين جعل جواباً للشرط إذ هو يتسبب عن الجواب ، وقالت فرقة فسمع بهم وحكاه الزهراوي عن أبي عبيدة ، وقال الزمخشري : من وراءهم من الكفرة حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم ، وقال الكرماني : قيل التّشريد التخويف الذي لا يبقى معه القرار أي لا ترضَ منهم إلاّ الإيمان أو السيف . وقرأ الأعمش بخلاف عنه فشرّذ بالذال وكذا في مصحف عبد الله قالوا ولم تحفظ هذه المادة في لغة العرب ، فقيل : الذال بدل من الدال كما قالوا لحم خراديل وخزاذيل ، وقال الزمخشري : فشرّذ بالذال المعجمة بمعنى ففرّق وكأنه مقلوب شذر من قولهم ذهبوا شذر ومنه الشّذَر الملتقط من المعدن لتفرّقه انتهى . وقال الشاعر : غرائر في كن وصون ونعمة
تحلين ياقوتاً وشذراً مفقراً
وقال قطرب : بالذال المعجمة التنكيل وبالمهملة التفريق ، وقرأ أبو حيوة والأعمش بخلاف عنه من خلفهم جاراً ومجروراً ومفعول فشرد محذوف أي ناساً من خلفهم والضمير في لعلّهم يظهر أنه عائد على من خلفهم وهم المشرّدون أي لعلّهم يتعظون بما جرى لنا قضي العهد أو يتذكرون بوعدك إياهم وقيل : الضمير عائد إلى المثقوفين وفيه بعد لأن من قُتل لا يتذكر .
الأنفال : ( 58 ) وإما تخافن من . . . . .
( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ). الظاهر أنّ هذا استئناف كلام أخبره الله تعالى بما يصنع في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر . وقال مجاهد هي في بني قريظة ولا يظهر ما قال لأن بني قريظة لم يكونوا في حد من خاف منه خيانة لأن خيانتهم كانت ظاهرة مشهورة ، ولقوله من قوم فلو كانت في بني قريظة وإما تخافنّ منهم ، وقال يحيى بن سلام :

" صفحة رقم 505 "
تخافنّ بمعنى تعلم وحكاه بعضهم أنه قول الجمهور ، وقيل الخوف على بابه فالمعنى أنه يظهر منهم مبادىء الشرّ وينقل عنهم أقوال تدلّ على الغدر فالمبادىء معلومة والخيانة التي هي غاية المبادىء مخوفة لا متيقنة ولفظ الخيانة دالّ على تقدم عهد لأنه من لا عهد بينك وبينه لا تكون محاربته خيانة فأمر الله تعالى نبيه إذا أحسّ من أهل عهد ما ذكرنا وخاف خيانتهم أن يلقي إليهم عهدهم وهو النّبذ ومفعول فانبذ محذوف التقدير فانبذ إليهم عهدهم أي ارمه واطرحه ، وفي قوله فانبذ عدم اكتراث به كقوله فنبذوه وراء ظهورهم فنبذناهم في اليم كما قال ، نبذ الحذاء المرقع ، وكأنه لا ينبذ ولا يرمي إلا الشيء التافه الذي لا يبالي به وقوّة هذا اللفظ تقتضي حربهم ومناجزتهم أن يستقصوا ومعنى على سواء أي على طريق مستو قصد وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخباراً مكشوفاً بيّناً إنك قطعت ما بينك وبينهم ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك إنّ الله لا يحب الخائنين فلا يكن منك إخفاءً للعهد قاله الزمخشري بلفظه وغيره كابن عباس بمعناه ، وقال الوليد بن مسلم : على سواء على مهل كما قال تعالى : ) بَرَاءةٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ ( الآية . وقال الفرّاء المعنى فانبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر أي بيّن لهم على قدر ما ظهر منهم لا تفرط ولا تفجأ بحرب بل افعل بهم مثل ما فعلوا بك يعني موازنة ومقايسة . وقرأ زيد بن علي سواء بكسر السين وظاهر أنّ الله أن يكون تعليلاً لقوله : فانبذ أي فانبذ إليهم على سواء على تبعد من الخيانة إنّ الله لا يحبّ الخائنين ويحتمل أن يكون طعناً على الخائنين الذين عاهدهم الرسول ويحتمل على سواء أن يكون في موضع الحال من الفاعل في فانبذ أي كائناً على طريق قصد أو من الفاعل والمجرور أي كائنين على استواء في العلم أو في العداوة .
الأنفال : ( 59 ) ولا يحسبن الذين . . . . .
( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ( قال الزهري : نزلت فيمن أفلت من الكفار في بدر فالمعنى لا تظنهم ناجين مفلتين فإنهم لا يعجزون طالبهم بل لا بد من أخذهم ، قيل : وذلك في الدّنيا ولا يفوتون بل يظفرك الله بهم ، وقيل : في الآخرة قاله الحسن وقيل : الذين كفروا عام قاله ابن عباس وأعجز غلب وفات ، قال سويد : وأعجزنا أبو ليلى طفيل
صحيح الجلد من أثر السلاح
وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ولا يحسبنّ بالياء أي ولا يحسبن الرسول أو حاسب أو المؤمن أو فيه ضمير يعود على من خلفهم فيكون مفعولاً يحسبنّ الذين كفروا وسبقوا القراءة باقي السبعة بالتاء خطاباً للرسول أو للسامع وجوّزوا أن يكون في قراءة الياء فاعل لا يحسبنّ هو الذين كفروا وخرج ذلك على حذف المفعول الأوّل لدلالة المعنى عليه تقديره أنفسهم سبقوا وعلى إضمار أن قبل سبقوا فحذفت وهي مرادة فسدّت مسدّ مفعولي يحسبنّ ويؤيّده قراءة عبد الله أنهم سبقوا ، وقيل التقدير ولا تحسبنهم الذين كفروا فحذف الضمير لكونه مفهوماً وقد ردّدنا هذا القول في أواخر آل عمران ، وعلى أنّ الفاعل هو الذين كفروا خرّج الزمخشري قراءة الياء وذكر نقل توجيهها على حذف المفعول إما الضمير وإما أنفسهم وإما حذف أن وإما أنّ الفعل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة وسبقوا في موضع الحال يعني سابقين أو مفلتين هاربين وعلى

" صفحة رقم 506 "
ولا تحسبن قتيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا ثم قال وهذه الأقاويل كلّها متمحلة وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة انتهى ، ولم يتفرّد بها حمزة كما ذكر بل قرأ بها ابن عامر وهو من العرب الذين سبقوا اللّحن وقرأ علي وعثمان وحفص عن عاصم وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى والأعمش ، وتقدم ذكر توجيهها على غير ما نقل مما هو جيّد في العربية فلا التفات لقوله وليست بنيرة وتقدّم ذكر في فتح السين وكسرها في قوله يحسبهم الجاهل أغنيا وأما قوله : وقيل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة فهذا لا يتأتى على قراءة حمزة لأنه يقرأ بكسر الهمزة ولو كان واقعاً عليه لفتح أن وإنما فتحها من السبعة ابن عامر وحده واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر ولا استبعاد فيها لأنها تعليل للنهي أي لا تحسبنّهم فائتين لأنهم لا يعجزون أي لا يقع منك حسبان لفوتهم لأنهم لا يعجزون أي لا يفوتون ، وقرأ الأعمش ولا يحسب بفتح السين والياء من تحت وحذف النون وينبغي أن يخرج على حذف النون الخفيفة لملاقاة الساكن فيكون كقوله : لا تهين الفقير علّك أن
تركع يوماً والدهر قد رفعه
وقرأ ابن محيصن لا تعجزوني بكسر النون وياء بعدها ، وقال الزجاج : الاختيار فتح النون ويجوز كسرها على أن المعنى أنهم لا يعجزونني وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين كما قال الشاعر : تراه كالثّغام يعل مسكا
يسوء الغالبات إذا فليني
البيت لعمرو بن معدي كرب ، وقال أبو الحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة : ولقد علمت ولا محالة أنّني
للحادثات فهل تريني أجزع
فهذا يجوز على الاضطرار فقال قوم : حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها في موضع الإعراب ، وقال المبرّد أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية وكذا كان يقول في بيت عمرو ، وقرأ طلحة بكسر النون من غير تشديد ولا ياء ، وعن ابن محيصن تشديد النون وكسرها أدغم نون الإعراب في نون الوقاية وعنه أيضاً بفتح النون وتشديد الجيم وكسر النون ، قال النحاس : وهذا خطأ من وجهين أحدهما إنّ معنى عجزه ضعفه وضعف أمره والآخر أنه كان يجب أن يكون بنونين انتهى ، أما كونه بنون واحدة فهو جائز لا واجب وقد قرىء به في السبعة وأما عجزني مشدّداً فذكر صاحب اللوامح أن معناه بطأ وثبط قال وقد يكون بمعنى نسبني إلى العجز والتشديد في هذه القراءة من هذا المعنى فلا تكون القراءة خطأ كما ذكر النحاس .
الأنفال : ( 60 ) وأعدوا لهم ما . . . . .
( وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ). لما اتفق في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا تكميل آلة ولا عدة وأمره تعالى بالتشريد وبنبذ العهد

" صفحة رقم 507 "
للناقضين كان ذلك سببلاً للأخذ في قتاله والتمالؤ عليه فأمره تعالى للمؤمنين بإعداد ما قدروا عليه من القوة للجهاد والإعداد الارصاد وعلّق ذلك بالاستطاعة لطفاً منه تعالى والمخاطبون هم المؤمنون والضمير في لهم عائد على الكفار المتقدّمي الذكر وهم المأمور بحربهم في ذلك الوقت ويعمّ من بعده . وقيل : يعود على الذين ينبذ إليهم العهد والظاهر العموم في كل ما يتوقى به على حرب العدوّ مما أورده المفسّرون على سبيل الخصوص والمراد به التمثيل كالرّمي وذكور الخيل وقوّة القلوب واتفاق الكلمة والحصون المشيدة وآلات الحرب وعددها والأرواد والملابس الباهية حتى أنّ مجاهداً رؤي يتجهز للجهاد وعنده جوالق فقال هذا من القوة وأما ما ورد في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو على المنبر يقول وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ألا وإنّ القوة الرّمي ألا إن القوة الرمي فمعناه والله أعلم أنّ معظم القوة وأنكاها للعدو الرمي كما جاء الحجّ عرفة وجاء في فضل الرمي أحاديث وعلى ما اخترناه من عموم القوة يكون قوله ومن رباط الخيل تنصيص على فضل رباط الخيل إذا كانت الخيل هي أصل الحروب والخير معقود بنواصيها وهي مراكب الفرسان الشجعان ، وقال أبو زيد الرّباط من الخيل الخمس فما فوقها وجماعة ربط وهي التي ترتبط يقال : منه ربط ربطاً وارتبط انتهى ، قال : تلوم على ربط الجياد وحبسها
وأوصى بها الله النبيّ محمداً
قال ابن عطية : ورباط الخيل جمع ربط ككلب وكلاب ولا يكثر ربطها إلاّ وهي كثيرة ويجوز أن يكون الرّباط مصدراً من ربط كصاح صياحاً لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس وإن جعلناه مصدراً من رابط وكان ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً فإذا ربط كل واحد منهم فرساً لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط وذلك الذي حضّ في الآية عليه وقال قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : من ارتبط فرساً في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها والأحاديث في هذا المعنى كثيرة انتهى ، فجوّز في رباط أن يكون جمعاً لربط وأن يكون مصدراً لربط والرابط وقوله : لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ليس بصحيح بل لها مصادر مُنقاسة ذكرها النحويون ، وقال الزمخشري والرّباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ويجوز أن تسمى بالرّباط الذي هو بمعنى المرابطة ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال ، وقرأ الحسن وأبو حيوة وعمرو بن دينار ومن ربط بضمّ الراء والباء وعن أبي حيوة والحسن أيضاً ربط بضمّ الراء وسكون الباء وذلك نحو كتاب وكتب وكتب ، قال ابن عطية : وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر انتهى ، ولا يتعيّن كونه مصدراً ألا ترى إلى قول أبي زيد إنه من الخيل الخمس فما فوقها وإنّ جماعها ربط وهي التي ترتبط والظاهر عموم الخيل ذكورها وإناثها ، وقال عكرمة : رباط الخيل إناثها وفسّر القوة بذكورها واستحبّ رباطها بعض العلماء لما فيها من النّتاج كما قال : بطونها كنز ، وقيل : رباط الخيل الذكور منها لما فيها من القوة والجلَد على القتال والكفاح والكرّ والفرّ والعدو والضمير في به عائد على ما من قوله ما استطعتم ، وقيل : على الإعداد ، وقيل : على

" صفحة رقم 508 "
القوّة ، وقيل : على رباط وترهبون ، قالوا : حال من ضمير وأعدّوا أو من ضمير لهم ويحصل بهذا الارتباط والإرهاب فوائد منها : إنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام وباشتداد الخوف قد يلتزمون الجزية أو يسلمون أو لا يعينون سائر الكفار ، وقرأ الحسن ويعقوب وابن عقيل لأبي عمرو وترهبون مشدّداً عدي بالتضعيف كما عدى بالهمزة ، قال أبو حاتم وزعم عمرو أن الحسن قرأ يرهبون بالياء من تحت وخفّفها انتهى ، والضمير في يرهبون عائد على ما عاد عليه لهم وهم الكفار والمعنى أنّ الكفار إذا علموا بما أعددتم للحرب من القوة ورباط الخيل خوفوا من يليهم من الكفار وأرهبوهم إذ يعلمونهم ما أنتم عليه من الإعداد للحرب فيخافون منكم وإذا كانوا قد أخافوا من يليهم منكم فهو أشد خوفاً لكم ، وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد : تخزون به مكان ترهبون به وذكرها الطبري على جهة التفسير لا على جهة القراءة وهو الذي ينبغي لأنه مخالف لسواد المصحف ، وقرأ السلمي عدوًّا لله بالتنوين ولام الجر ، قال صاحب اللوامح : فقيل أراد به اسم الجنس ومعناه أعداء الله وإنما جعله نكرة بمعنى العامّة لأنها نكرة أيضاً لم تتعرف بالإضافة إلى المعرفة لأنه اسم الفاعل ومعناه الحال والاستقبال ولا يتعرف ذلك وإن أضيف إلى المعارف وأما عدوّكم فيجوز أن يكون كذلك نكرة ويجوز أن يكون قد تعرّف لإعادة ذكره ومثله رأيت صاحباً لكم فقال لي صاحبكم والله أعلم انتهى ، وذكر أولاً عدوّ الله تعظيماً لما هم عليه من الكفر وتقوية لذمّهم وأنه يجب لأجل عداوتهم لله أن يقاتلوا ويبغضوا ثم قال وعدوّكم على سبيل التحريض على قتالهم إذ في الطبع أن يعادي الإنسان من عاداه وأن يبغي له الغوائل والمراد بهاتين الصفتين من قرب من الكفار من ديار الإسلام من أهل مكة ومشركي العرب ، قيل ويجوز أن يراد جميع الكفار وآخرين من دونهم أصل دون أن تكون ظرف مكان حقيقة أو مجاز . قال ابن عطية : من دونهم بمنزلة قولك دون أن تكون هؤلاء فدون في كلام العرب ومن دون تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي فيها القول ومنه المثل : وأمر دون عبيدة الوزم ، قال مجاهد وآخرين : بنو قريظة ، وقال مقاتل : اليهود ، وقال السدّي : أهل فارس ، وقالت فرقة : كفار الجن ورجّحه الطبري واستند في ذلك إلى ما روي من أنّ صهيل الخيل تنفر الجنّ منه وأنّ الشياطين لا تدخل داراً فيها فرس الجهاد ونحو هذا ، وقالت فرقة : هم كل عدوّ للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يشرّد بهم من خلفهم ، وقال ابن زيد : هم المنافقون وهذا أظهر لأنه قال لا تعلمونهم الله يعلمهم أي لا تعلمون أعيانهم وأشخاصهم إذ هم متسترون عن أن تعلموهم بالإسلام فالعلم هنا كالمعرفة تعدى إلى واحد وهو متعلّق بالذوات وليس متعلقاً بالنسبة ومن جعله متعلقاً بالنسبة فقدّر مفعولاً ثانياً محذوفاً وقدره محاربين فقد أبعد لأنّ حذف مثل هذا دون تقدّم ذكر ممنوع عند بعض النحويين وعزيز جداً عند بعضهم فلا يحمل القرآن عليه مع إمكان حمل اللفظ على غيره وتمكنه من المعنى وقدّره بعضهم لا تعلمونهم فازغين راهِبين الله يعلّمهم بتلك

" صفحة رقم 509 "
الحالة والظاهر أن يكون إشارة إلى المنافقين كما قلنا على جهة الطّعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كلّ من يعلم منها نفاقاً إذا سمع الآية وبفزعهم ورهبتهم غنى كبير في ظهور الإسلام وعلوّه ، وقال القرطبي ما معناه لا ينبغي أن يعين قوله وآخرين لأنه تعالى قال لا تعلمونهم الله يعلمهم فكيف يدّعي أحد علماً بهم إلا أن يصحّ حديث فيه عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) انتهى ، ثم حضّ تعالى على النفقة في سبيل الله من جهاد وغيره وكان الصحابة يحمل واحد الجماعة على الخيل والإبل وجهّز عثمان جيش العسرة بألف دينار يوفّ إليكم جزاؤه وثوابه من غير نقص ، وقيل هذه التوفية في الدنيا على ما أنفقوا مع ما أعدّ لهم في الآخرة من الثواب .
الأنفال : ( 61 ) وإن جنحوا للسلم . . . . .
( وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ). جنح الرّجل إلى الآخر مال إليه وجنحت الإبل مالت أعناقها في السير . قال ذو الرمة : إذا مات فوق الرحل أحييت روحه
بذكراك والعيس المراسيل جنح
وجنح الليل أقبل وأمال أطنابه إلى الأرض . وقال النابغة يصف طيوراً تتبع الجيش : جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله
إذا ما التقى الجيشان أوّل غالب
ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة ومنه الجناح لميله ، وقال النضر بن شميل : جنح الرّجل إلى فلان وجنح له إذا تابعه وخضع له والضمير في جنحوا عائد على الذين نبذ إليهم على سواء وهم بنو قريظة والنضير ، وقيل على مشركي قريش والعرب ، وقيل على قوم سألوا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبول الجزية منهم وجنح يتعدى بإلى وباللام والسّلم يذكر ويؤنّث . فقيل : التأنيث لغة ، وقيل على معنى المسالمة ، وقيل حملاً على النقيض وهو الحرب ، وقال الشاعر : وأفنيت في الحرب آلاتها
وعددت للسلم أوزارها
وتقدّم الخلاف في قراءة السين وكسرها والسّلم الصّلح لغة ، فقال قتادة هي موادعة المشركين ومهادنتهم وهذا راجع إلى رأي الإمام فإن رآه مصلحة فعل وإلا فلا ، وقيل نزلت في قوم معتب سألوا الموادعة فأمر الله نبيه الإجابة إليها ثم نسخت بقوله : قاتلوا الذين لا يؤمنون ، وقيل : أداء الجزية ، وقال الحسن : السلم الإسلام ، وعن ابن عباس نسخت بقوله : قاتلوا الذين لا يؤمنون ، وعن مجاهد بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، قال الزمخشري : والصحيح أنّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً ، وقرأ الأشهب العقيلي فاجنح بضمّ النون وهي لغة قيس والجمهور بفتحها وهي لغة تميم ، وقال ابن جني : القياس في فعل اللازم ضم عين الكلامة في المضارع وهي أقيس من يفعل بالكسر وأمره

" صفحة رقم 510 "
تعالى بالتوكل عليه فلا يبالي بهم وإن أبطنوا الخديعة في جنوحهم إلى السلم فإنّ الله كاف من توكّل عليه وهو السميع لأقوالهم العليم بنياتهم .
الأنفال : ( 62 ) وإن يريدوا أن . . . . .
( وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ ). أي وإن يرد الجانحون للسّلم بأن يظهروا السلم ويبطنوا الخيانة والغدر مخادعة فاجنح لها فما عليك من نياتهم الفاسدة فإنّ حسبك وكافيك هو الله ومن كان الله حسبه لا يبالي بمن ينوي سوءً ثم ذكره بما فعل معه أولاً من تأييده بالنّصر وبائتلاف المؤمنين على إعانته ونصره على أعدائه فكما لطف بك أوّلاً يلطف بك آخراً والمؤمنون هنا الأوس والخزرج وكان بين الطائفتين من العداوة للحروب التي جرت بينهم ما كان لولا الإسلام لينقضي أبداً ولكنه تعالى منّ عليهم بالإسلام فأبدلهم بالعداوة محبة وبالتباعد قرباً ، ومعنى لو أنفقت ما في الأرض جميعاً على تأليف قلوبهم واجتماعها على محبة بعضها بعضاً وكونها في الأوس والخزرج ، تظاهر به أقوال المفسرين ، وقال ابن مسعود : نزلت في المتحابّين في الله ، قال ابن عطية ولو ذهب ذاهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار وجعل التأليف ما كان بين جمعهم فكل يألف في الله . وقال الزمخشري : التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما رأوا من الآيات الباهرة لأنّ العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا لا يكاد يأتلف منهم قلبان ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) واتحدوا وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم وأحدث بينهم من التحابّ والتوادّ وأماط عنهم من التباغض وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله ولا يقدر على ذلك إلاّ من يملك القلوب فهو يقلبها كما يشاء ويصنع فيها ما أراد انتهى ، وكلامه آخراً قريب من كلام أهل السنة لأنهم قالوا في هذه الآية دليل على أنّ العقائد والإرادات والكراهات من خلق الله لأنّ ما حصل من الألف هو بسبب الإيمان ومتابعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فلو كان الإيمان فعلاً للعبد لكانت المحبّة المترتبة عليه فعلاً للعبد وذلك خلاف صريح الآية ، وقال القاضي : لولا ألطاف الله تعالى ساعة ساعة ما حصلت هذه الأحوال فأضيفت إلى الله على هذا التأويل ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه لأجل أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته فكذلك هنا انتهى ، وهذا هو مذهب المعتزلة .
الأنفال : ( 63 ) وألف بين قلوبهم . . . . .
( يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، وقال ابن عباس وابن عمر وأنس : في إسلام عمر ، قال ابن جبير : أسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت ، والظاهر رفع ومن عطفاً على ما قبله وعلى هذا فسّره الحسن وجماعة أي حسبك الله والمؤمنون ، وقال الشعبي وابن زيد معنى الآية : حسبك الله وحسب من اتبعك ، قال ابن عطية : فمن في هذا التأويل في موضع نصب عطفاً على موضع الكاف لأنّ موضعها نصب على المعنى بيكفيك الذي سدّت حسبك مسدّها انتهى ، وهذا ليس بجيّد لأنّ حسبك ليس مما تكون الكاف فيه في موضع نصب بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب وحسبك مبتدأ مضاف إلى الضمير وليس مصدراً ولا اسم فاعل إلا أنّ قيل إنه عطف على التوهم كأنه توهم أنه قيل يكفيك الله أو كفاك الله ، ولكنّ العطف على التوهم لا ينقاس فلا يحمل عليه القرآن ما وجدت مندوحة عنه والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الشعبي وابن زيد هو أن يكون ومن مجرورة على حذف وحسب لدلالة حسبك عليه فيكون كقوله : أكل امرىء تحسبين امرأ
ونار توقد بالليل نارا

" صفحة رقم 511 "
أي وكلّ نار فلا يكون من العطف على الضمير المجرور ، وقال ابن عطية : وهذا الوجه من حذف المضاف مكروه بأنه ضرورة الشعر انتهى ، وليس بمكروه ولا ضرورة وقد أجاز سيبوبه في الكلام وخرج عليه البيت وغيره من الكلام الفصيح ، قال الزمخشري ومن اتبعك الواو بمعنى مع وما بعده منصوب تقول وحسبك وزيداً درهم ولا يجرّ لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع . قال :
فحسبك والضحّاك سيف مهند
والمعنى كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً انتهى ، وهذا الذي قاله الزمخشري مخالف لكلام سيبويه ، قال سيبويه : قالوا حسبك وزيداً درهم لما كان فيه من معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قال حسبك ويحسب أخاك درهم ولذلك كفيك انتهى ، كفيك هو من كفاه يكفيه وكذلك قطّك تقول كفيك وزيداً درهم وقطّك وزيداً درهم وليس هذا من باب المفعول معه وإنما جاء سيبويه به حجة للحمل على الفعل للدلالة فحسبك يدلّ على كفاك ويحسبني مضارع أحسبني فلان إذا أعطاني حتى أقول حسبي فالناصب في هذا فعل يدلّ عليه المعنى وهو في كفيك وزيداً درهم أوضح لأنه مصدر للفعل المضمر أي ويكفي زيداً وفي قطّك وزيداً درهم التقدير فيه أبعد لأنّ قطّك ليس في الفعل المضمر شيء من لفظه إنما هو مفسر من حيث المعنى فقط وفي ذلك الفعل المضمر فاعل يعود على الدرهم والنية بالدرهم التقديم فيصير من عطف الجمل ولا يجوز أن يكون من باب الأعمال لأن طلب المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مجراه ولا عمله فلا يتوهم ذلك ، وقال الزّجاج : حسب اسم فعل والكاف نصب والواو بمعنى مع انتهى ، فعالى هذا يكون الله فاعلاً لحسبك وعلى هذا التقدير يجوز في ومن أن يكون معطوفاً على الكاف لأنها مفعول باسم الفعل لا مجرور لأن اسم الفعل لا يضاف إلا أنّ مذهب الزُّجاج خطأ لدخول العوامل على حسبك تقول بحسبك درهم وقال تعالى : فإنّ حسبك الله ، ولم يثبت كونه اسم فعل في مكان فيعتقد فيه أنه يكون اسم فعل واسماً غير اسم فعل كرويد وأجاز أبو البقاء رفع ومن على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره وحسبك من اتبعك وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره ومن اتبعك من المؤمنين كذلك أي حسبهم الله ، وقرأ الشعبي ومن أتبعك بإسكان النون وأتبع على وزن أكرم .
الأنفال : ( 64 - 66 ) يا أيها النبي . . . . .
( يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ الَّذِينَ ). هاتان الجملتان شرطيّتان في ضمنهما الأمر بصبر عشرين لمائتين وبصبر مائة لألف ولذلك دخلها النسخ إذ لو كان خبراً محضاً لم يكن فيه النسخ لكنّ الشرط إذا كان فيه معنى التكليف جاز فيه النّسخ وهذا من ذلك ولذلك نسخ بقوله الآن خفف الله عنكم والتقييد بالصبر في أول كلّ شرط لفظاً هو محذوف من الثانية لدلالة ذكره في الأولى وتقييد الشرط الثاني بقوله : من الذين كفروا لفظاً هو محذوف من الشرط الأول في قوله : يغلبوا مائتين فانظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيد من الجملة الأولى وحذف نظره من الثانية وأثبت قيد في الثانية وحذف من الأولى ولما

" صفحة رقم 512 "
كان الصبر شديد المطلوبيّة أثبت في أولى جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختمت الآية بقوله والله مع الصابرين مبالغةً في شدّة المطلوبيّة ولم يأتِ في جملتي التخفيف قيد الكفر اكتفاءً بما قبل ذلك وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من الصحابة أنّ ثبات الواحد للعشرة كان فرضاً لما شقّ عليهم انتقل إلى ثبات الواحد للاثنين على سبيل التقرّب أيضاً ، وسواء كان فرضاً أم ندباً هو نسخ وقول من قال : إنه تخفيف لا نسخ كمكي بن طالب ضعيف ، قال مكي : إنما هو كتخفيف الفطر في السفر ولو صام لم يأتم وأجزأه ومناسبة هذه الأعداد أنّ فرضيّة الثبات أو نديبته كان أولاً في ابتداء الإسلام فكان العشرون تمثيلاً للسرية والمائة تمثيلاً للجيش فلما اتسع نطاق الإسلام وذلك بعد زمان كان المائة تمثيلاً للسّرايا والألف تمثيلاً للجيش وليس في أمره تعالى نبيه بتحريض المؤمنين على القتال دليل على ابتداء فرضية القتال بل كان القتال مفترضاً قبل هذه الآية وإنما جاءت هذه حثًّا على أمر كان وجب عليهم ونصّ تعالى على سبب الغلبة بأن الكفار قوم لا يفقهون ، والمعنى أنهم قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم فتفل نياتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته فهو تعالى يخذلهم وذلك بخلاف من يقاتل على بصيرة وهو موعود من الله بالنصر والغلبة ، وعن ابن جريج : كان عليهم أن لا يفرّوا ويثبت الواحد للعشرة ، وكان رسول لله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد بعث حمزة في ثلاثين راكباً فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب ، قيل ثم ثقل عليهم ذلك وضجّوا منه وذلك بعد مدّة طويلة فنسخ وخفّف عنهم بمقاومة الواحد للاثنين ، وقال بعض العلماء الذي استقرّ حكم التكليف عليه بمقتضي هذه الآية إنّ كل مسلم بالغ وقف بإزاء المشركين عبداً كان أو حرًّا فالهزيمة عله محرّمة ما دام معه سلاحه يقاتل به فإن كان ليس معه سلاح فله أن ينهزم وإن قابله ثلاثة حلّت له الهزيمة والصبر أحسن ، وروى البيهقي وغيره : أنّ جيش مؤتة وكانوا ثلاثة آلاف من المسلمين وقفوا لمائتي ألف مائة ألف من الروم ومائة ألف من الأنباط وروي أنهم وقفوا لأربعمائة ألف والأوّل هو الصحيح وفي تاريخ فتح الأندلس أن طارقاً مولى موسى بن نصير سار في ألف رجل وسبعمائة رجل إلى الأندلس وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة فالتقى هو وملك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عنان فزحف إليه طارق وصبر له فهزم الله الطاغية لذريق وكان الفتح انتهى وما زالت جزيرة الأندلس تلتقي الشرذمة القليلة منهم بالعدد الكثير من النصارى فيغلبونهم ، وأخبرنا من حضر الوقعة التي كانت في الديموس الصغير على اثني عشر ميلاً من مدينة غرناطة سنة تسع عشرة وسبعمائة وكان المسلمون ألفاً وسبعمائة فارس من الأندلسيين والبربر وكان النصارى مائة ألف راجل وستين ألف رامٍ وخمسة عشر ألف فارس بين رامٍ ومدرّع فصبروا لهم وأسروا أكابرهم وقتلوا ملك قشتالة دون جوان ونجا أخوه دون بطر مجروحاً وكان ملوك النصارى ملك قشتالة المذكور وملك إفرنسة وملك يوطقال وملك غلسية وملك قلعة رباح قد خرجوا عازمين على استئصال المسلمين من الجزيرة فهزمهم الله ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم كرر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لالأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده ، ( قلت ) : للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة ولا تتفاوت لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين للمائتين والمائة للألف فكذلك بين المائة للمائتين والألف للألفين انتهى ، ومعنى بإذن الله بإرادته وتمكينه وفي قوله والله مع الصابرين ترغيب في الثبات للقاء العدوّ وتبشير بالنصر والغلبة لأنه من كان الله معه هو الغالب ، وقرأ الأعمش حرص بالصاد المهملة وهو من الحرص وهو قريب من قراءة الجمهور بالضّاد ، وقرأ الكوفيون يكن منكم مائة على التذكير فيهما ورواها خارجة عن نافع ، وقرأ الحرميان وابن عامر على التأنيث ، وقرأ أبو عمر وعلى التذكير في الأول ولحظ يغلبوا والتأنيث في الثانية ولحظ صابرة ، وقرأ الأعرج على التأنيث كلها إلا قوله : وإن يكن منكم ألف

" صفحة رقم 513 "
فإنه على التذكير بلا خلاف ، وقرأ المفضل عن عاصم وعلم مبنيًّا للمفعول ، وقرأ الحرميان والعربيّان والكسائي وابن عمر والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق ضعفاً وفي الرّوم بضمّ الضاد وسكون العين وعيسى بن عمر بضمّهما وحمزة وعاصم بفتح الضاد وسكون العين وهي كلها مصادر ، وعن أبي عمرو بن العلاء ضمّ الضاد لغة الحجاز وفتحها لغة تميم ، وقرأ ابن القعقاع ضعفاً جمع ضعيف كظريف وظرفاء وحكاها النّقّاس عن ابن عباس ، فقيل الضّعف في الأبدان ، وقيل في البصيرة والاستقامة في الذين وكانوا متفاوتين في ذلك ، وقال الثعالبي الضّعف بفتح الضّاد في العقل والرأي والضعف في الجسم ، وقال ابن عطية وهذا قول تردّه القراءة انتهى .
الأنفال : ( 67 ) ما كان لنبي . . . . .
( مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ).
2 ( ) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ) ) 2
) لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).
نزلت في أسرى بدر وكان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد استشار أبا بكر وعمر وعليًّا فأشار أبو بكر بالاستحياء وعمر بالقتل في حديث طويل يوقف عليه في صحيح مسلم ، وقرأ أبو الدرداء وأبو حيوة ما كان للنبي معرّفاً والمراد به في التنكير

" صفحة رقم 514 "
والتعريف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولكن في التنكير إبهام في كون النفي لم يتوجه عليه معيناً وتقدّم مثل هذا التركيب وكيفية هذا النفي وهو هنا على حذف مضاف أي ما كان لأصحاب نبي أو لأتباع نبيّ فحذف اختصاراً ولذلك جاء الجمع في قوله تريدون عرض الدنيا ولم يجيء التركيب تريد أو يريد عرض الدنيا لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد عرض الدنيا قط ، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب وقد طول المفسرون في قصّة هؤلاء الأسارى ، وذلك مذكور في السّير وحذفناه نحن لان في بعضه ما لا يناسب ذكره بالنسبة إلى مناصب الرسل ، وقرأ أبو عمرو أن تكون على تأنيث لفظ الجمع وباقي السبعة والجمهور على التذكير على المعنى ، وقرأ الجمهور والسبعة أسرى على وزن فعلى وهو قياس فعيل بمعنى مفعول إذا كان آفة كجريج وجرحى ، وقرأ يزيد بن القعقاع والمفضل عن عاصم أسارى وشبه فعيل بفعلان نحو كسلان وكسالى كما شبهوا كسلان بأسير فقالوا فيه جمعاً كسلى قاله سيبويه وهما شاذّان ، وزعم الزجاج أن أسارى جمع أسرى فهو جمع جمع وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في فعلى أهو جمع أو اسم جمع وأنّ مذهب سيبويه أنه من أبنية الجموع ومدلول أسرى وأسارى واحد ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء الأسرى هم غير الموثوقين عندما يؤخذون والأسارى هم الموثقون ربطاً ، وحكى أبو حاتم أنه سمع ذلك من العرب وقد ذكره أيضاً أبو الحسن الأخفش ، وقال العرب : لا تعرف هذا كلاهما عندهم سواء ، وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب حتى يثخن مشدّداً عدوه بالتضعيف والجمهور بالتخفيف وعدوّه بالهمزة إذ كان قبل التعدية ثخن ومعنى عرض الدنيا ما أخذتم في فداء الأساري وكان فداء كل رجل عشرين أوقية ، وفداء العباس أربعون أوقية وعن ابن سيرين مائة أوقية ، والأوقية أربعون درهماً وستة دنانير ، وكانوا مالوا إلى الفداء ليقووا ما يصيبونه على الجهاد وإيثاراً للقرابة ورجاء الإسلام وكان الإثخان والقتل أهيب للكفار وأرفع لمنار الإسلام وكان ذلك إذ المسلمون قليل فلما اتسع نطاق الإسلام وعزّ أهله نزل فإما منا بعد وإما فداء ، وقرىء يريدون بالياء من تحت وسمى عرضاً لأنه حدث قليل اللبث ، وقرأ الجمهور الآخرة بالنصب ، وقرأ سليمان بن جمار المدنيّ بالجرّ واختلفوا في تقدير المضاف المحذوف فمنهم من قدّره عرض الآخرة ، قال : وحذف لدلالة عرض الدنيا عليه ، قال بعضهم : وقد حذف العرض في قراءة الجمهور وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب فنصب وممن قدّره عرض الآخرة الزمخشري قال على التقابل يعني ثوابها انتهى . ونعني أنه لما أطلق على الفداء عرض الدنيا أطلق على ثواب الآخرة عرضاً على سبيل التقابل لا أن ثواب الآخرة زائل فإن كعرض الدنيا فسُمّي عرضاً على سبيل التقابل وإن كان لولا التقابل لم يسمَّ عرضاً وقدّره بعضهم عمل الآخرة أي المؤدّي إلى الثواب في الآخرة وكلهم جعله كقوله : ونار توقد بالليل ناراً . ويعنون في حذف المضاف فقط وإبقاء المضاف إليه على جرّه لأن جرّ مثل ونار جائز فصيح وذلك إذا لم يفصل بين المجرور وحرف العطف أو فصل بلا نحو ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك وتقدم المحذوف مثله لفظاً

" صفحة رقم 515 "
ومعنى وأما إذا فصل بينهما بغير لا كهذه القراءة فهو شاذّ قليل ، والله عزيز ينصر أولياءه ويجعل الغلبة لهم ويمكّنهم من أعدائهم قتلاً وأسراً حكيم يضع الأشياء مواضعها ،
الأنفال : ( 68 ) لولا كتاب من . . . . .
قال ابن عباس ومقاتل لولا أنّ الله كتب في أمّ الكتاب أنه سيحلّ لكم الغنائم لمسّكم فيما تعجّلتم منها ومن الفداء يوم بدر قبل أن تؤمروا بذلك عذاب عظيم ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد : لو سبق أنه يعذبّ من أتى ذنباً على جهالة لعوقبتم ، وقال علي بن أبي طالب ومحمد بن علي بن الحسين وابن إسحاق : سبق أن لا يعذّب إلا بعد النهي ولم يكن نهاهم ، وقال الحسن وابن جبير وابن زيد وابن أبي نجيح عن مجاهد لولا ما سبق لأهل بدر إنّ الله لا يعذبهم لعذّبهم ، وقال الماورديّ لولا أن القرآن اقتضى غفران الصغائر لعذبهم ، وقال قوم : الكتاب السابق عفوه عنهم في هذا الذنب معيناً ، وقيل : هو أن لا يعذبهم والرسول فيه ، وقيل : ما كتبه على نفسه من الرحمة . وقيل : سبق أنه لا يضلّ قوماً بعد إذ هداهم ، وقيل : سبق أنه سيحلّ لهم الغنائم والفداء ، قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن ، وقيل : سبق أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر لعذّبكم بأخذ الغنائم ، واختاره النحاس ، وقال قوم : الكتاب السابق هو القرآن والمعنى لولا الكتاب الذي سبق فآمنتم به وصدّقتم لمسّكم العذاب لأخذكم هذه المفاداة ، وقال الزمخشري : لولا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح وهو أن لا يعاقب أحداً بخطأ وكان هذا خطأ في الاجتهاد لأنهم نظروا في أنّ استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم وأنّ فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله وخفي عنهم أن قتلهم أعزّ للإسلام وأهْيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم انتهى . وروي لو نزل في هذا الأمر عذاب لنجا منه عمر وفي حديث آخر وسعد بن معاذ وذلك أن رأيهما كان أن تقتل الأسارى . والذي أقوله أنهم كانوا مأمورين أوّلاً بقتل الكفار في غير ما آية كقوله فاقتلوهم حيث وجدتموهم فاقتلوهم حيث ثقفتموهم فلما كانت وقعة بدر وأسروا جماعة من المشركين اختلفوا في أخذ الفداء منهم وفي قتلهم فعوتب من رأى الفداء إذ كان قد تقدّم الأمر بالقتل حيث لم يستصحبوا امتثال الأمر ومالوا إلى الفداء وحرصوا على تحصيل المال ألا ترى إلى قول المقداد حين أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بقتل عقبة بن أبي معيط قال : أسيري يا رسول الله ، وقول مصعب بن عمير لمن أسر أخاه : شدّ يدك عليه فإن له أما مؤسرة ، ثم بعد هذه المعاتبة أمر الرسول بقتل بعض والمنّ بالإطلاق في بعض والفداء في بعض فكان ذلك نسخاً لتحتّم القتل ، ثم قال تعالى : لولا كتاب من الله سبق في تأييدكم ونصركم وقهركم أعداءكم حتى استوليتم عليهم قتلاً وأسراً ونهباً على قلّة عددكم وعددكم لمسكم فيما أخذتم من غنائمهم وفدائهم عذاب عظيم منهم لكونهم كانوا أكثر عدداً منكم وعدداً ولكنه سهل تعالى عليكم ولم يمسّكم منهم عذاب لا بقتل ولا أسر ولا نهب وذلك بالحكم السابق في قضائه أنه يسلّطكم عليهم ولا يسلّطهم عليكم فليس المعنى لمسكم من الله وإنما المعنى لمسكم من أعدائكم كما قال : ) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ ( وقال : ) إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ ( ثم قال تعالى : ) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيّباً ( أي مما عنمتم ومنه ما حصل بالفداء الذي أقره الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقال لا يفلتن منهم رجل إلا بفدية أو ضرب عنق وليس هذا الأمر منشأً لإباحة الغنائم إذ قد سبق تحليلها قبل يوم بدر ولكنه أمر يفيد التوكيد واندراج مال الفداء في عموم ما غنمتم إذ كان قد

" صفحة رقم 516 "
وقع العتاب في الميل للفداء ثم أقرّه الرسول وانتصب حلالاً على الحال من ما إن كانت موصولة أو من ضميره المحذوف أو على أنه نعت لمصدر محذوف أي أكلاً حلالاً وجوّزوا في ما إن تكون مصدرية وروي أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدّوا أيديهم إليها فنزلت ، وجعل الزمخشري قوله فكلوا متسبّباً عن جملة محذوفة هي سبب وأفادت ذلك الفاء وقدّرها قد أبحت لكم الغنائم فكلوا ، وقال الزجاج الفاء للجزاء والمعنى قد أحللت لكم الفداء فلكوا وأمر تعالى بتقواه لأن التقوى حاملة على امتثال أمر الله وعدم الإقدام على ما لم يتقدّم فيه إذن ففيه تحريض على التقوى من مال إلى الفداء ثم جاءت الصفتان مشعرتين بغفران الله ورحمته عن الذين مالوا إلى الفداء قبل الإذن ، وقال الزمخشري : معناه إذا اتقيتموه بعدما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم ، وقال ابن عطية : وجاء قوله واتقوا الله اعتراضاً فصيحاً في أثناء القول لأن قوله إن الله غفور رحيم هو متصل بقوله فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً ، وقيل غفور لما أتيتم رحيم بإحلال ما غنمتم .
2 (
الأنفال : ( 70 ) يا أيها النبي . . . . .
( يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّمَن فِىأَيْدِيكُم مِّنَ الاٌّ سْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ) ) 2
) رَّحِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاْسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ).
نزلت هذه الآية عقيب بدر في أسرى بدر أعلموا أنّ لهم ميلاً إلى الإسلام وأنهم يؤملونه إن فدوا ورجعوا إلى قومهم ، وقيل في عباس وأصحابه قالوا للرسول : آمنا بما جئت ونشهد أنك روسل الله لننصحن لك على قومنا ومعنى في أيديكم أي ملكتكم كان الأيدي قابضة عليهم والصحيح أن الأسارى كانوا سبعين والقتلى سبعين كما ثبت في صحيح مسلم وهو قول ابن عباس وابن المسيب وأبي عمرو بن العلاء ، وكان عليهم حين جيء بهم إلى المدينة شقران مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقال مالك : كانوا مشركين ومنهم العباس بن عبد المطلب أسره أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة وكان قصيراً والعباس ضخم طويل فلما جاء به قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : لقد أعانك عليه ملك وعن العباس كنت مسلماً ولكنهم استكرهوني فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إن يكن ما تقول حقًّا فالله يجريك فأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا وكان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وخرج بالذهب لذلك ، وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال للعباس لهند ابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث ، فقال يا محمد تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت ، فقال له : أين المال الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل ، فقال العباس : وما يدريك قال : أخبرني به ربي ، قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنت عبده ورسوله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب ، قال العباس فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً إنّ أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي ، وروي أنه قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مال البحرين ثمانون ألفاً فتوضّأ لصلاة الظهر وما صل حتى فرّقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة ومعنى إنْ يعلم الله أنْ يتبين للناس علم الله في قلوبكم خيراً أي إسلاماً كما زعمتم بأن تظهروا الإسلام فإنه سيعطيكم أفضل مما أخذ منكم بالفداء وسيغفر لكم ما اجترحتموه فإن الإسلام يحب ما قبله ، وقرأ الجمهور من الأسرى وابن محيصن من أسرى منكراً وقتادة وأبو جعفر وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وأبو عمرو من السبعة من الأسارى واختلف عن الحسن وعن الجحدري ، وقرأ الأعمش يثبكم خيراً من الثواب ، وقرأ الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد مما أخذ مبنياً للفاعل ، وإيتاء هذا الخير ، قيل في الدنيا وقيل في الآخرة ، وقيل فيهما والظاهر أن الضمير في وإن يريدوا على الأسرى لأنه أقرب مذكور ،
الأنفال : ( 71 ) وإن يريدوا خيانتك . . . . .
والخيانة هي كونهم أظهر الإسلام بعضهم ثم ردّوا إلى دينهم فقد خانوا الله

" صفحة رقم 517 "
لخروجهم مع المشركين ، وقال الكرماني : وإن يريدوا يعني الأسرى خيانتك يعني نقض ما عهدوا معك فقد خانوا الله بالكفر والشكر قبل العهد ، وقيل : قبل بدر فأمكن منهم أو فأمكنك منهم وهزمتهم وأسرتهم ، وقال الزمخشري : خيانتك أي ينكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم فقد خانوا الله من قبل في كفرهم ونقض ما أخذ على كلّ عاقل من مشاقّه فأمكن منهم كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة ، وقيل المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء ، وقال ابن عطية : إن أخلصوا فعل بهم كذا وإن أبطنوا خيانة ما رغبوا أن يؤتمنوا عليه من العهد فلا يسرّهم ذلك ولا يسكنون إليه فإن الله بالمرصاد فهم الذين خانوه بكفرهم وتركهم النّظر في آياته وهو قد بيّنها لهم وجعل لهم إدراكاً يحصلونها به فصار ذلك كعهد متقرّر فجعل جزاؤهم على خيانتهم إياه أن مكّن منهم المؤمنين وجعلهم أسرى في أيديهم والله عليم بما يبطنونه من إخلاص أو خيانة حكيم فيما يجازيهم انتهى ، وقيل الضمير في وإن يريدوا عائد على الذين قيل في حقهم : وإن جنحوا للسلم أي وإن يريدوا خيانتك في إظهار الصّلح والجمهور على أن الضمير في وإن يريدوا عائد على الأسرى ، وروي عن قتادة : إن هذه الآية في قصة عبد الله بن أبي سرح فإن كان قال ذلك على سبيل التمثيل فيمكن ، وإن كان على سبيل أنها نزلت في ذلك فلا لأنه إنما بيّن أمره في فتح مكة وهذه نزلت عقيب بدر .
2 (
الأنفال : ( 72 ) إن الذين آمنوا . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَائِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ) ) 2
) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ). قسّم الله المؤمنين إلى المهاجرين والأنصار والذين لم يهاجروا فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصل الإسلام وأول من استجاب الله فهاجر قوم إلى المدينة وقوم إلى الحبشة وقوم إلى ابن ذي يزن ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان وسبب تقوية الدّين من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة وثنّى بالأنصار لأنهم ساووهم في الإيمان وفي الجهاد بالنفس والمال لكنه عادل الهجرة إلا بواء والنصر وانفرد المهاجرون بالسبق وذكر ثالثاً من آمن ولم يهاجر ولم ينصر ففاتهم هاتان الفضيلتان وحرموا الولاية حتى يهاجروا ومعنى أولياء بعض في النصرة والتعاون والموازرة ، كما جاء في غير آية نحو ) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ). وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : ذلك في الميراث آخى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بين المهاجرين والأنصار فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة وليّ مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري . قال ابن زيد : واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بعد لما لم تكن هجرة فمعنى ما لكم من ولايتهم من شيء نفي الموالاة في التوارث وكان قوله : وأولوا الأرحام بعضهم أولى نسخاً لذلك وعلى القول الأوّل يكون المعنى في نفي الولاية على أنها صفة للحال إذ لا يمكن ولايته ونصره لتباعد ما بين المهاجرين وبينهم وفي ذلك حضّ للأعراب على الهجرة ، قيل ولا يجوز أن تكون الموالاة لأنه عطف عليه وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن تكون الولاية المنفية غير النّصرة انتهى . ولما نزل ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا قال الزبير هل نعينهم على أمر إن استعانوا بنا فنزل وإن استنصروكم ومعنى ميثاق عهد لأن نصركم إياهم نقض للعهد فلا تقاتلون لأنّ الميثاق مانع من ذلك وخصّ الاستنصار بالدين لأنه بالحمية والعصبية في غير الدين منهى عنه وعلى تقتضي الوجوب ولذلك قدّره الزمخشري بقوله : فواجب عليكم أن تنصروهم . وقال زهير :

" صفحة رقم 518 "
على مكثريهم رزق من يعتريهم
وعند المقلّين السماحة والبذل
وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة ولايتهم بالكسر وباقي السبعة والجمهور بالفتح وهما لغتان قاله الأخفش ، ولحن الأصمعي الأخفش في قراءته بالكسر وأخطأ في ذلك لأنها قراءة متواترة ، وقال أبو عبيدة بالكسر من ولاية السلطان وبالفتح من المولى يقال مولى بين الولاية بفتح الواو ، وقال الزجاج بالفتح من النصرة والنسب وبالكسر بمنزلة الإمارة قال : ويجوز الكسر لأنّ في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل وكل ما كان من جنس الصناعة مكسور مثل القصارة والخياطة وتبع الزمخشري الزجاج فقال : وقرىء من ولايتهم بالفتح والكسر أي من توليهم في الميراث ووجه الكسر أنّ تولي بعضهم بعضاً شبه بالعمل والصناعة كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملاً ، وقال أبو عبيد والذي عندنا الأخذ بالفتح في هذين الحرفين نعني هنا ، وفي الكهف لأنّ معناهما من الموالاة لأنها في الدين ، وقال الفرّاء : يريد من مواريثهم فكسر الواو وأجب إليّ من فتحها لأنها إنما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائي يذهب بفتحها إلى النصرة وقد ذكر الفتح والكسر في المعنيين جميعاً ، وقرأ السلمي والأعرج بما يعملون بالياء على الغيبة .
2 (
الأنفال : ( 73 ) والذين كفروا بعضهم . . . . .
( وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الاٌّ رْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ( ) ) 2
) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( وقرأت فرقة أولى ببعض . قال ابن عطية : هذا الجمع الموارثة والمعاونة والنصرة ، وقال الزمخشري ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله في المسلمين ومعناه نهي المسلمين عن الموالاة الذين كفروا وموارثيهم وإيجاب مساعدتهم ومصادقتهم وإن كانوا أقارب وإن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضاً . وقال غيره : لما ذكر أقسام المؤمنين الثلاثة وأنهم أولياء ينصر بعضهم بعضاً ويرث بعضهم بعضاً بين أن فريق الكفار كذلك إذ كانوا قبل بعثة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ينادي أهل الكتاب منهم قريشاً ويتربّصون بهم الدوائر فصاروا بعد بعثه يوالي بعضهم بعضاً وإلباً واحداً على الرسول صوناً على رئاساتهم وتحزّباً على المؤمنين .
( أَن لا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الاْرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ). الضمير المنصوب في تفعلوه عائد على الميثاق أي على حفظه أو على النصر أو على الإرث أو على مجموع ما تقدم أقوال أربعة ، وقال الزمخشري : أي إن لا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولي بعضهم بعضاً حتى في التوارث تفضيلاً لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً ، وقال ابن عطية : والفتنة المحنة بالحرب وما انجرّ معها من الغارات والجلاء والأسر والفساد الكبير ظهور الشّرك ، وقال البغوي : الفتنة في الأرض قوّة الكفر والفساد الكبير ضعف الإسلام ، وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي : كثير بالثاء المثلثة وروي أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فرأ وفساد عريض .
( )
الأنفال : ( 74 ) والذين آمنوا وهاجروا . . . . .
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( )
) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ). هذه الآية فيها تعظيم المهاجرين والأنصار وهي مختصرة إذ حذف منها بأموالهم وأنفسهم وليست تكراراً لأن السابقة تضمنت ولاية بعضهم بعضاً وتقسيم المؤمنين إلى الأقسام الثلاثة وبيان حكمهم في ولايتهم ونصرهم وهذه تضمنت الثناء والتشريف والاختصاص وما آل إليه حالهم من المغفرة والرزق الكريم وتقدم تفسير أواخر نظيرة هذه الآية في أوائل هذه السورة .
2 ( ) وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَائِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ ( ) ) 2
الأنفال : ( 75 ) والذين آمنوا من . . . . .
( وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ ). يعني الذين لحقوا بالهجرة من سبق إليها

" صفحة رقم 519 "
فحكم تعالى بأنهم من المؤمنين السابقين في الثواب والأجر وإن كان للسابقين شفوف السّبق وتقدّم الإيمان والهجرة والجهاد ومعنى من بعد من بعد الهجرة الأولى وذلك بعد الحديبية قاله ابن عباس ، وزاد ابن عطية وبيعة الرضوان وذلك أنّ الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة قبل ذلك وكان يقال لها الهجرة الثانية لأن الحرب وضعت أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة . وبه قال عليه السلام : لا هجرة بعد الفتح . وقال الطبري : من بعد ما بينت حكم الولاية فكان الحاجز بين الهجرتين نزول الآية فأخبر تعالى في هذه الآية أنهم من الأولين في الموازرة وسائر أحكام الإسلام ، وقيل : من بعد يوم بدر ، وقال الأصمّ : من بعد الفتح وفي قوله معكم إشعار أنهم تبع لا صدر كما قال فأولئك مع المؤمنين وكذلك فأولئك منكم كما جاء مولى القوم منهم وابن أخت القوم منهم .
( وَأُوْلُو الاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ ). أي وأصحاب القرابات ومن قال : إنّ قوله في المؤمنين المهاجرين والأنصار بعضهم أولياء بعض في المواريث بالأخوة التي كانت بينهم ، قال : هذه في المواريث وهي نسخ للميراث بتلك الأخوة وإيجاب أن يرث الإنسان قريبة المؤمن وإن لم يكن مهاجراً واستدلّ بها أصحاب أبي حنيفة على توريث ذوي الأرحام ، وقالت فرقة منهم : مالك ليست في المواريث وهذا فرار عن توريث الخال والعمّة ونحو ذلك ، وقالت فرقة : هي في المواريث إلا أنها نسختها آية المواريث المبيّنة ، والظاهر أنّ كتاب الله هو القرآن المنزّل وذلك في آية المواريث ، وقيل : في كتاب الله السابق ، اللوح المحفوظ ، وقيل : في كتاب الله في هذه الآية المنزلة ، وقال الزجاج : في حكمه ، وتبعه الزمخشري ، فقال في حكمه وقسمته وختم السورة بقوله إنّ الله بكلّ شيء عليم ، في غاية البراعة إذ قد تضمنت أحكاماً كثيرة في مهمّات الدين وقوامه وتفصيلاً لأحوال ، فصفة العلم تجمع ذلك كله وتحيط بمبادئه وغاياته .

" صفحة رقم 3 "
( سورة التوبة )
2 ( ) بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِى الاٌّ رْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاٌّ كْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَواةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْاْ بِأايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَءااتَوُاْ الزَّكَواةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ

" صفحة رقم 4 "
أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَأَقَامَ الصَّلَواةَ وَءاتَى الزَّكَواةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَائِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذالِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذالِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً

" صفحة رقم 5 "
فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } )
التوبة : ( 1 ) براءة من الله . . . . .
المرصد : مفعل من رصد يرصد رقب ، يكون مصدراً وزماناً ومكاناً . وقال عامر بن الطفيل : ولقد علمت وما إخالك ناسيا
أن المنية للفتى بالمرصد
الآل الحلف والجؤار ، ومنه قول إبي جهل . لآل علينا واجب لا نضيعه
متين قواه غير منتكث الحبل
كانوا إذا تسامحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه من الآل وهو الجؤار ، وله أليل أي أنين يرفع به صوته . وقيل : القرابة . وأنشد أبو عبيدة على القرابة قول الشاعر :
أفسد الناس خلوف خلفوا
قطعوا الآل وأعراق الرحم
وظاهر البيت أنه في العهد . ومن القرابة قول حسان :
لعمرك أن لك من قريش
كل السقب من رأل النعام
وسميت إلاًّ لأنها عقدت ما لا يعقد الميثاق . وقيل : من أل البرق لمع . وقال الأزهري : الأليل البريق ، يقال : أل يؤل صفا ولمع . وقال القرطبي : مأخوذ من الحدة ، ومنه الآلة الحربة . واذن مؤللة محددة ، فإذا قيل للعهد والجؤار والقرابة إلّ فمعناه : أنّ الإذن منصرف إلى تلك الجهة التي يتحدد لها ، والعهد يسمى إلاًّ لصفائه ، ويجمع في القلة الآل ، وفي الكثرة الألّ وأصل جمع القلة أألل ، فسهلت الهمزة الساكنة التي هي فاء الكلمه فأبدلها ألفاً ، وأدغمت اللامفي اللام ، الذمة ؛ العهد . وقال أبو عبيدة : الأمان . وقال الأصمعي : كل ما يجب أن يحفظ ويحمى .
أبى يأبى منع ، قال :

" صفحة رقم 6 "
أبى الضيم والنعمان يخرق نابه
عليه فافضى والسيوف معاقله
وقال : أبى الله إلا عدله ووفاءه
فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
ومجيء مضارعه على فعل بفتح العين شاذ ، ومنه آبى اللحم لرجل من الصحابة .
شفاه : أزال سقمه . العشيرة جماعة بسبب أو عقد أو وداد كعقد العشيرة . اقترف اكتسب . كسد الشيء كساداً وكسوداً بار ولم يكن له نفاق . الموطن : الموقف والمقام ، قال الشاعر : وكم موطن لولاي طحت كما هوى
بإجرامه من قلة النيق منهوي
ومثله الوطن . حنين : وادٍ بين مكة والطائف ، وقيل : واد إلى جنب ذي المجاز .
العيلة : الفقر ، عال يعيل افتقر . قال : وما يدري الفقير متى غناه
وما يدري الغني متى يعيل
الجزية : ما أخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام ، سميت بذلك لأنهم يجزونها أي يقضونها . أو لأنها تجزى بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل .
المضاهاة : المماثلة والمحاكاة ، وثقيف تقول : المضاهأة بالهمز ، وقد ضاهأت فمادتها مخالفة للتي قبلها ، إلا إنْ كان ضاهت يدعى أنّ أصلها الهمز كقولهم في توضأت وقرأت وأخطأت : توضيت ، وقريت ، وأخطيت فيمكن . وأما ضهيأ بالهمز مقصوراً فهمزته زائدة كهمزة عرفىء ، أو ممدوداً فهمزته للتأنيث زائدة ، أو ممدوداً بعده هاء التأنيث . حكاه البحتري عن أبي عمرو الشيباني في النوادر قال : جمع بين علامتي تأنيث . ومدلول هذه اللفظة في ثلاث لغاتها المرأة التي لا تحيض ، أو التي لا ثدي لها شابهت بذلك الرجال . فمن زعم أنّ المضاهاة مأخوذة من ضهياء فقوله خطأ لاختلاف المادتين ، لأصالة همزة المضاهأة ، وزيادة همزة ضهياء في لغاتها الثلاث .
( بَرَاءةٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ ( هذه السورة مدنية كلها ، وقيل : إلا آيتين من آخرها فإنهما نزلتا بمكة ، وهذا قول الجمهور . وذكر المفسرون لها اسماً واختلافاً في سبب ابتدائها بغير بسملة ، وخلافاً عن الصحابة : أهي والأنفال سورة واحدة ، أو سورتان ؟ ولا تعلق لمدلول اللفظ بذلك ، فأخلينا كتابنا منه ، ويطالع ذلك في كتب المفسرين .
ويقال : برئت من فلان أبرأ براءة ، أي انقطعت بيننا العصمة ، ومنه برئت من الدين . وارتفع براءة على الابتداء ، والخبر إلى الذين عاهدتم . ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة ، أو على إضمار مبتدأ أي : هذه براءة . وقرأ عيسى بن عمر براءة بالنصب .

" صفحة رقم 7 "
قال ابن عطية : أي الزموا ، وفيه معنى الاغراء . وقال الزمخشري : اسمعوا براءة . قال : فإن قلت : بم تعلقت البراءة ، بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين ؟ قلت : قد أذن الله تعالى في معاهدة المشركين أولاً ، فاتفق المسلمون مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما تجدّد من ذلك فقيل لهم : إعلموا أنّ الله تعالى ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين . وقال ابن عطية : لما كان عهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لازماً لجميع أمته حسن أن يقول : عاهدتم . وقال ابن إسحاق وغيره : كانت العرب قد أوثقها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عهداً عاماً على أنّ لا يصدّ أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات ، فنقض ذلك بهذه الآية ، وأحل لجميعهم أربعة أشهر ، فمن كان له مع الرسول عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها ، ومن كان أمده أكثر أتمّ له عهده ، وإذا كان ممن يحتبس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر ، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة يسيح في الأرض أي : يذهب فيها مسرحاً آمناً . وظاهر لفظة من المشركين العموم ، فكل من عاهده المسلمون داخل فيه من مشركي مكة وغيرهم .
وروي أنهم نكثوا إلاّ بني ضمرة وكنانة فنبذ العهد إلى الناكثين . وقال مقاتل : المراد بالمشركين هنا ثلاث قبائل من العرب : خزاعة ، وبنو مدلج ، وبنو خزيمة . وقيل : هذه الآية في أهل مكة ، وكان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) صالح قريشاً عام الحديبية على أنْ يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، فدخلت خزاعة في عهد الرسول ، وبنو بكر بن عبد مناة في عهد قريش ، وكان لبني الديل من بني بكر دمٌ عند خزاعة فاغتنموا الفرصة وغفلة خزاعة ، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر وبيتوا خزاعة فاقتتلوا ، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح ، وقوم أعانوهم بأنفسهم ، فهزمت خزاعة إلى الحرم ، فكان ذلك نقضاً لصلح الحديبية ، فخرج من خزاعة بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في ناس من قومهم ، فقدموا على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) مستغيثين ، وأنشده عمرو فقال : يا رب إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
كنت لنا أباً وكنا ولدا
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً عبدا
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
أبيض مثل الشمس ينمو صعدا
إن سيم خسفاً وجهه تريدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالحطيم هجدا
وقتلونا ركعاً وسجدا
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا نصرت إنْ لم أنصركم )

" صفحة رقم 8 "
فتجهز إلى مكة وفتحها سنة ثمان ، ثم خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف ، فجعل المشركون ينقضون عهودهم ، فأمره الله تعالى بإلقاء عهدهم إليهم ، وأذن في الحرب فسيحوا أمر إباحة ، وفي ضمنه تهديد وهو التفات من غيبة إلى خطاب أي : قلْ لهم سيحوا . يقال : ساح سياحة وسوحاً وسيحاناً ، ومنه سيح الماء وهو الجاري المنبسط . وقال طرفة : لو خفت هذا منك ما نلتني
حتى ترى خيلاً أمامي تسيح
قال ابن عباس والزهري : أول الأشهر شوال حتى نزلت الآية ، وانقضاؤها انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين ، فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم النزول ، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان . وقال السدّي وغيره : أولها يوم الأذان ، وآخرها العشر من ربيع الآخر . وقيل : العشر من ذي القعدة إلى عشرين من شهر ربيع الأول ، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة غير معجزي الله لا تفوتونه وإنْ أملهكم وهو مخزيكم أي : مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر والنهب ، وفي الآخرة بالعذاب . وحكى أبو عمرو عن أهل نجران : أنهم يقرأون من الله بكسر النون على أصل التقاء الساكنين ، واتباعاً لكسرة النون . ) وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الاْكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ( قرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل : وإذن بكسر الهمزة وسكون الذال . وقرأ الحسن والأعرج : إن الله بكسر الهمزة فالفتح على تقدير بأنّ ، والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين ، أو لأنّ الأذان في معنى القول فكسرت على مذهب الكوفيين . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر ، وزيد بن علي : ورسوله بالنصب ، عطفاً على لفظ اسم أنْ . وأجاز الزمخشري أنْ ينتصب على أنه مفعول معه . وقرىء بالجر شاذاً ، ورويت عن الحسن . وخرجت على العطف على الجوار كما أنهم نعتوا وأكدوا على الجوار . وقيل : هي واو القسم . وروي أن أعرابياً سمع منم يقرأ بالجر فقال : إنْ كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء ، فلببه القارىء إلى عمر ، فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية . وأما قراءة الجمهور بالرفع فعلى الابتداء ، والخبر محذوف أي : ورسوله بريء منهم ، وحذف لدلالة ما قبله عليه . وجوزوا فيه أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في بريء ، وحسنه كونه فصل بقوله : من المشركين ، بين متحمله ، والمعطوف . ومن أجاز العطف على موضع اسم إنّ المكسورة أجاز ذلك ، مع أنّ المفتوحة . ومنهم من أجاز ذلك مع المكسورة ، ومنع مع المفتوحة .
قال ابن عطية : ومذهب الأستاذ يعني أبا الحسن بن الباذش على مقتضى كلام سيبويه : أنْ لا موضع لما دخلت عليه إنَّ لا موضع لما دخلت عليه هذه انتهى . وهذا كلام فيه تعقب ، لأنّ علة كون إنّ موضع لما دخلت عليه ، ليس ظهور عمل العامل ، بدليل ليس زيد بقائم ، وما في الدار من

" صفحة رقم 9 "
رجل ، فإنه ظهر عمل العامل ، ولهما موضع . وقوله : والإجماع إلى آخره يريد : أنّ ليت لا موضع لها من الإعراب بالإجماع ، وليس كذلك ، لأنّ الفراء خالف وجعل حكم ليت ولعل وكان ولكن ، وأنّ حكم إنّ في كون اسمهن له موضع . وإعراب وأذان كإعراب براءة على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ولا وجه لقول من قال : إنه معطوف على براءة ، كما لا يقال عمرو معطوف على زيد في زيد قام وعمرو قاعد .
والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أنّ الأمان والعطاء يستعملان بمعنى الإيمان والإعطاء ، ويضعف جعله خيراً عن . وأذان إذا أعربناه مبتدأ ، بل الخبر قوله : إلى الناس . وجاز الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بقوله : من الله ورسوله . ويوم منصوب بما يتعلق به إلى الناس ، وقد أجاز بعضهم نصبه بقوله : وأذان ، وهو بعيد من جهة أنّ المصدر إذا وصف قبل أخذه معموله لا يجوز إعماله فيما بعد الصفة ، ومن جهة أن لا يجوز أنْ يخبر عنه إلا بعد أخذه معموله ، وقد أخبر عنه بقوله : إلى الناس .
لما كان سنة تسع أراد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنْ يحج ، فكره أنْ يرى المشركين يطوفون عراة ، فبعث أبا بكر أميراً على الموسم ، ثم أتبعه علياً ليقرأ هذه الآيات على أهل الموسم راكباً ناقته العضباء ، فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال : ( لا يؤدي عني إلا رجل مني ) فلما اجتمعا قال : أبو بكر أمير أو مأمور ، قال : مأمور . فلما كان يوم التروية خطب أبو بكر وقام عليّ يوم النحر بعد جمرة العقبة فقال : ( يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم ) ، فقالوا : بماذا ؟ فقرأ عليهم ثلاثين آية أو أربعين . وعن مجاهد : ثلاث عشرة ثم قال : ( أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، وأنْ لا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأنْ يتم إلى كل ذي عهد عهده ) فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنّا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف . وقيل : عادة العرب في نقض عهودها أنْ يتولى رجل من القبيلة ، فلو تولاه أبو بكر لقالوا هذا خلاف ما يعرف منا في نقض العهود ، فلذلك جعل علياً يتولاه ، وكان أبو هريرة مع علي ، فإذا صحل صوت علي نادى أبو هريرة . والظاهر أنّ يوم الحج الأكبر هو يوم أحد . فقال عمر ، وابن الزبير ، وأبو جحيفة ، وطاووس ، وعطاء ، وابن المسيب : هو يوم عرفة ، وروى مرفوعاً إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال أبو موسى ، وابن أبي أوفى ، والمغيرة بن شعبة ، وابن جبير ، وعكرمة ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، وابن زيد ، والسدي : هو يوم النحر . وقيل : يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها ، قال سفيان بن عيينة . قال ابن عطية : والذي تظاهرت به الأحاديث أنّ علياً أذّن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر ، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر ، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي الله عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره ، ويتبعوا بها أيضاً أسواق العرب كذي المجاز وغيره ، وبهذا يترجح قول سفيان . ويقول : كان هذا يوم صفين ، ويوم الجمل ، يريد جميع أيامه . وقال مجاهد : يوم الحج الأكبر أيام منى كلها ، ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومجنة حتى نودي فيهم : إنْ لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا ، ووصفه بالأكبر . قال الحسن ، وعبد الله بن الحرث بن نوفل : لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون ، وصادف عيد اليهود والنصارى ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم في قلب كل مؤمن وكافر . وضعف هذا القول بأنه تعالى لا يصفه بالأكبر لهذا . وقال الحسن أيضاً : لأنه حج فيه أبو بكر ، ونبذت فيه العهود . قال ابن عطية : وهذا هو القول الذي

" صفحة رقم 10 "
يشبه نظر الحسن ، وبيانه أن ذلك اليوم كان المفتتح بالحق وأمارة الإسلام بتقديم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ونبذت فيه العهود ، وعز فيه الدين ، وذل فيه الشرك ، ولم يكن ذلك في عام ثمان حين ولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عتاب بن أسد كان أمير العرب على أوله ، فكل حج بعد حج أبي بكر فمتركب عليه ، فحقه لهذا أنْ يسمى أكبر انتهى . ومن قال : إنه يوم عرفة ، فسمي الأكبر لأنه معظم واجباته ، فإذا فات فات الحج . ومن قال : إنه يوم منى فلأن فيه معظم الحج ، وتمام أفعاله من الطواف والنحر والحلق والرمي . وقيل : وصف بالأكبر لأنّ العمرة تسمى بالحج الأصغر . وقال منذر بن سعيد وغيره : كان الناس يوم عرفة مفترقين إذا كانت الحمس تقف بالمزدلفة ، وكان الجمع يوم النحر بمنى ، ولذلك كانوا يسمونه يوم الحج الأكبر أي الأكبر من الأصغر الذي هم فيه مفترقون . وقد ذكر المهدوي : أن الحمس ومن اتبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر رضي الله عنه . وحكى القرطبي عن ابن سيرين : أنّ يوم الحج الأكبر أراد به العام الذي حج فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في حجة الوداع ، وحج معه الأمم ، وهذا يحتاج إلى إضمار ، كأنه قال : هذا الأذان حكمه متحقق يوم الحج الأكبر وهو عام حج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) انتهى . وسمي أكبر لأنه فيه ثبتت مناسك الحج . وقال فيه : ( خذوا عني مناسككم ) وجملة براءة من الله ورسوله إخبار بثبوت البراءة ، وجملة وأذان من الله ورسوله إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، فافترقتا وعلقت البراءة بالمعاهدين لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم ، وعلق الأذان بالناس لشموله معاهداً وغيره ناكثاً ، وغيره مسلماً وكافراً ، هذا هو قول الجمهور . قيل : ويجوز أنْ يكون الخطاب للكفار بدليل آخر الآية ، وبدليل مناداة عليّ بالجمل الأربع . فظاهره أنّ المخاطب بتلك الجمل الكفار ، ولما كان المجرور خبراً عن قوله وأذان ، كان بإلى أي مفتد إلى الناس وواصل إليهم . ولو كان المجرور في موضع المفعول لكان باللام ، ومن في من المشركين متعلقة بقوله بريء تعلق المفعول . تقول : برئت منك ، وبرئت من الدين بخلاف مِنْ في قوله : براءة من الله ، فإنها في موضع الصفة ) فَإِن تُبْتُمْ ( أي : من الشرك الموجب لتبرىء الله ورسوله منكم . ) فَهُوَ ( أي التوب ) خَيْرٌ لَّكُمْ ( في الدنيا لعصمة أنفسكم وأولادكم وأموالكم ، وفي الآخرة لدخولكم الجنة وخلاصكم من النار . ) وَإِن تَوَلَّيْتُمْ ( أي عن الإسلام ) فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ ( أي لا تفوتونه عما يحل بكم من نقماته ) وَبَشّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( جعل الإنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم ، والذين كفروا عام يشمل المشركين عبدة الأوثان وغيرهم ، وفي هذا وعيد عظيم بما يحل بهم .
( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ ( قال قوم : هذا استثناء منقطع ، التقدير : لكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد أتموا إليهم عهدهم . وقال قوم منهم الزجاج : هو استثناء متصل من قوله : إلى الذين عاهدتم من المشركين . وقال الزمخشري : وجهه أنْ يكون مستثنى من قوله : ) فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ ( لأنّ الكلام خطاب للمسلمين ومعناه : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، فقولوا لهم : سيحوا ، إلا الذين عاهدتم منهم ، ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم . والاستثناء بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل بعد أنْ أمروا في الناكثين : ولكنّ الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ، ولا تجعلوا الوفيّ كالغادر . وقيل : هو استثناء متصل ، وقبله جملة محذوفة تقديرها : اقتلوا المشركين المعاهدين إلا الذين عاهدتم ، وهذا قول ضعيف جداً ، والأظهر أنْ يكون منقطعاً لطول الفصل بجمل كثيرة بين ما يمكن أن يكون مستثنى منه وبينه . قال مجاهد وغيره : هم قوم كان بينهم وبين الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) عهد لمدة ، فأمر أنْ يفي لهم . وعن ابن عباس لما قرأ عليَّ براءة قال لبني ضمرة وحي من كنانة وحي من سليم : إنّ الله قد استثناكم ثم قرأ هذه الآية . والظاهر أنّ قوله : إلى مدتهم ، يكون في المدة التي كانت بينهم وبين الرسول أمروا بإتمام العهد إلى تمام المدة . وعن ابن عباس : كان بقي لحي من كنانة تسعة أشهر ، فأتم إليهم

" صفحة رقم 11 "
عهدهم . وعنه أيضاً : إلى مدتهم ، إلى الأربعة الأشهر التي في الآية . وهذا بعيد ، لأنه يكون الاستثناء لا يفيد تجديد حكم ، إذ يكون حكم هؤلاء المستثنين حكم باقي المعاهدين الذين لم يتصفوا بما اتصف به هؤلاء من عدم النقص وعدم المظاهرة .
وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة ، وأبو زيد ، وابن السميفع : ينقضوكم بالضاد معجمة وتناسب العهد ، وهي بمعنى قراءة الجمهور ، لأن من نقص من العهد فقد نقص من الأجل المضروب . وهو على حذف مضاف ، أي ولم ينقضوا عهدكم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام عليه . وقال الكرماني : هي بالضاد أقرب إلى معنى العهد ، إلا أنّ القراءة بالصاد أحسن ليقع في مقابلته التمام في قوله : فأتموا إليهم . والتمام ضد النقص . وانتصب شيئاً على المصدر ، أي : لا قليلاً من النقص ولا كثيراً ، ولم يظاهروا عليكم أحداً كما فعلت قريش ببني بكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة . وتعدى أتوا بإلى لتضمنه معنى فأدوا ، أيْ : فأدوه تاماً كاملاً . وقول قتادة : إنّ المستثنين هم قريش عوهدوا زمن الحديبية مردود بإسلام قريش في الفتح قبل الإذن بهذا كله . وقوله : يحب المتقين ، تنبيه على أنّ الوفاء العهد من التقوى ، وأنّ من التقوى أن لا يسوي بين القبيلتين .
( فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ( تقدم الكلام على انسلخ في قوله : فانسلخ . وقال أبو الهيثم : يقال أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه ، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباساً منه ، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءاً حتى نسلخه عن أنفسنا كله ، فينسلخ . وأنشد : إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله
كفيَّ قاتلاً سلخ الشهور وإهلال
والظاهر أن هذه الأشهر هي التي أبيح للناكثين أنْ يسيحوا فيها ، ووصفت بالحرم لأنها محرم فيها القتال ، وتقدم ذكر الخلاف في ابتدائها وانتهائها .
وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه أنْ تذكر بالضمير نحو : لقيت رجلاً فضربته . ويجوز أنْ يعاد اللفظ معرّفاً بل نحو : لقيت رجلاً فضربت الرجل ، ولا يجوز أنْ يوصف بوصف يشعر بالمغايرة لو قلت : لقيت رجلاً فضربت الرجل الأزرق ، وأنت تريد الرجل الذي لقيته ، لم يجز بل ينصرف ذلك إلى غيره ، ويكون المضروب غير الملقى . فإنْ وصفته بوصف لا يشعر بالمغايرة جاز نحو : لقيت رجلاً فضربت الرجل المذكور . وهنا جاء الأشهر الحرم ، لأن هذا الوصف مفهوم من قوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، إذ التقدير أربعة أشهر حرم لا يتعرض إليكم فيها ، فليس الحرم وصفاً مشعراً بالمغايرة . وقيل : الأشهر الحرم هي غير هذه الأربعة ، وهي الأشهر التي حرم الله فيها القتال منذ خلق السموات والأرض ، وهي التي جاء في الحديث فيها ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ) فتكون الأربعة من سنتين . وقيل : أولها المحرم ، فتكون من سنة . وجاء الأمر بالقتل على سبيل التشجيع وتقوية النفس ، وأنهم لا منعة عندهم من أن يقتلوا . وفي إطلاق الأمر بالقتل دليل على قتلهم بأي وجه كان ،

" صفحة رقم 12 "
وقد قتل أبو بكر أصحاب الردّة بالإحراق بالنار ، وبالحجارة ، وبالرمي من رؤوس الجبال ، والتنكيس في الآبار . وتعلق بعموم هذه الآية ، وأحرق عليّ قوماً من أهل الرّدّة ، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن المثلة . ولفظ المشركين عام في كل مشرك ، وجاءت السنة باستثناء الأطفال والرهبان والشيوخ الذين ليسوا ذوي رأي في الحرب ، ومن قاتل من هؤلاء قتل . وقال الزمخشري : يعني الذي نقصوكم وظاهروا عليكم . ولفظ : ( حيث وجدتموهم ) عام في الأماكن من حل وحرم . ( وخذوهم ) عبارة عن الأسر ، والأخيذ الأسير . ويدل على جواز أسرهم : واحصروهم ، قيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد . وقيل : استرقوهم . وقيل : معناه حاصروهم إنْ تحصّنوا . وقرىء : فحاصروهم شاذاً ، وهذا القول يروى عن ابن عباس . وعنه أيضاً : حولوا بينهم وبين المسجد الحرام . وقيل : امنعوهم عن دخول بلاد الإسلام والتصرف فيها إلا بإذن . قال القرطبي في قوله : ( واقعدوا لهم كل مرصد ) دلالة على جواز اغتيالهم قبل الدعوة ، لأنّ المعنى اقعدوا لهم مواضع الغرة ، وهذا تنبيه على أنّ المقصود إيصال الأذى إليهم بكل طريق ، إما بطريق القتال ، وإما بطريق الاغتيال . وقد أجمع المسلمون على جواز السرقة من أموال أهل الحرب ، وإسلال خيلهم ، وإتلاف مواشيهم إذا عجز عن الخروج بها إلى دار الإسلام ، إلا أنْ يصالحوا على مثل ذلك .
قال الزمخشري : ( كل مرصد ) كل ممر ومجتاز ترصدونهم فيه ، وانتصابه على الظرف كقوله : ) لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( انتهى . وهذا الذي قاله الزجاج قال : كل مرصد ظرف ، كقولك : ذهبت مذهباً ورده أبو علي ، لأنّ المرصد المكان الذي يرصد فيه العدوّ ، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعاً كما حكى سيبويه : دخلت البيت ، وكما غسل الطريق الثعلب انتهى . وأقول : يصح انتصابه على الظرف ، لأن قوله : ( واقعدوا لهم ) ليس معناه حقيقة القعود ، بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه ، ولما كان بهذا المعنى جاز قياساً أن يحذف منه في كما قال : وقد قعدوا منها كل مقعد .
فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه ، جاز أن يصل إليه بغير واسطة في ، فيجوز جلست مجلس زيد ، وقعدت مجلس زيد ، تريد في مجلس زيد . فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه ، فكذلك إلى الظرف . وقال الأخفش : معناه على كل مرصد ، فحذف وأعمل الفعل ، وحذف على ، ووصول الفعل إلى مجرورها فتنصبه ، يخصه أصحابنا بالشعر . وأنشدوا : تحنّ فتبدي ما بها من صبابة
وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني
أي لقضي عليّ .
( فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ ( أي عن الكفر والغدر . والتوبة تتضمن الإيمان وترك ما كانوا فيه من المعاصي ، ثم نبه على أعظم الشعائر الإسلامية ، وذلك إقامة الصلاة وهي أفضل الأعمال البدنية ، وإيتاء الزكاة وهي أفضل الأعمال المالية ، وبهما

" صفحة رقم 13 "
تظهر القوة العملية ، كما بالتوبة تظهر القوة العلمية عن الجهل . فخلوا سبيلهم ، كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمين في تصرفاتهم حيث ما شاؤوا ، ولا تتعرضوا لهم كقول الشاعر : خل السبيل لمن يبنى المنار به أو يكون المعنى : فأطلقوهم من الأسر والحصر . والظاهر الأول ، لشمول الحكم لمن كان مأسوراً وغيره .
وقال ابن زيد : افترضت الصلاة والزكاة جميعاً ، وأبى الله أنْ لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة ، وقال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه في قوله : ( لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة ) وناسب ذكر وصف الغفران والرحمة منه تعالى لمن تاب عن الكفر والتزم شرائع الإسلام . قال الحافظ أبو بكر بن العربي : لا خلاف بين المسلمين أنّ من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلاً كفر ، ودفن في مقابر الكفار ، وكان ماله فيئاً . ومنْ ترك السنن فسق ، ومن ترك النوافل لم يحرج إلا أن يجحد فضلها فيكفر ، لأنه يصير راداً على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما جاء به وأخبر عنه انتهى . والظاهر أنّ مفهوم الشرط لا ينتهض أنْ يكون دليلاً على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمداً غير مستحلّ ومع القدرة لأن انتفاء تخلية السبيل تكون بالحبس وغيره ، فلا يتعين القتل . وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال مكحول ، ومالك ، والشافعي ، وحماد بن زيد ، ووكيع ، وأبو ثور : يقتل . وقال ابن شهاب ، وأبو حنيفة ، وداود : يسجن ويضرب ، ولا يقتل . وقال جماعة من الصحابة والتابعين : يقتل كفراً ، وماله مال مرتد ، وبه قال إسحاق . قال إسحاق : وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى زماننا .
( وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ( قال الضحاك والسدّي : هي منسوخة بآية الأمر بقتل المشركين . وقال الحسن ومجاهد : هي محكمة إلى يوم القيامة . وعن ابن جبير : جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال : إنْ أراد الرجل منا أنْ يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل ليسمع كلام الله ، أو يأتيه لحاجة قتل ؟ قال : لا ، لأن الله تعالى قال : وإن أحد من المشركين استجارك الآية انتهى . وقيل : هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلاً ، والظاهر أنها محكمة . ولما أمر تعالى بقتل المشركين حيث وجدوا ، وأخذهم وحصرهم وطلب غرتهم ، ذكر لهم حالة لا يقتلون فيها ولا يؤخذون ويؤسرون ، وتلك إذا جاء واحد منهم مسترشداً طالباً للحجة والدلالة على ما يدعوا إليه من الدين . فالمعنى : وإنْ أحد من المشركين استجارك ، أي طلب منك أن تكون مجيراً له وذلك بعد انسلاخ الأشهر ليسمع كلام الله وما تضمنه من التوحيد ، ويقف على ما بعثت به ، فكن مجيراً له حتى يسمع كلام الله ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، ثم أبلغه داره التي يأمن فيها إنْ لم يسلم ، ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة . وحتى يصح أن تكون للغاية أي : إلى أن يسمع . ويصح أن تكون للتعليل ، وهي متعلقة في الحالين بأجره . ولا يصح أن يكون من باب التنازع ، وإن كان يصح من حيث المعنى أن يكون متعلقاً باستجارك أو بفأجره ، وذلك لمانع لفظي وهو : أنه لو أعمل الأول لأضمر في الثاني ، وحتى لا تجر المضمر ، فلذلك لا يصح أن يكون من باب التنازع . لكن من ذهب من النحويين إلى أنّ حتى تجر المضمر يجوز أن يكون ذلك عنده من باب التنازع ، وكون حتى لا تجر المضمر هو مذهب الجمهور . ولما كان القرآن أعظم المعجزات ، علق السماع به ، وذكر السماع لأنه الطريق إلى الفهم . وقد يراد بالسماع الفهم تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك : أنت لم تسمع ، تريد لم تفهم . وكلام الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ومأمنه مكان أمنه . وقيل : مأمنه مصدر ، أي ثم أبلغه أمنه . وقد استدلت المعتزلة بقوله : ( حتى يسمع كلام الله ) على حدوث كلام الله ، لأنه لا يسمع إلا الحروف والأصوات . ومعلوم بالضرورة حدوث ذلك ، وهذا مذكور في علم الكلام .
وفي هذه الآية دلالة على أنّ النظر في التوحيد أعلى المقامات ، إذ عصم دم الكافر المهدر الدم بطلبه النظر والاستدلال ، وأوجب على الرسول أن يبلغه مأمنه . ومنها دلالة على أنّ التقليد غير كاف في الدين ، إذ كان لا يمهل بل

" صفحة رقم 14 "
يقال له : إما أن تسلم ، وإما أن تقتل . وفيها دلالة على أنه بعد سماع كلام الله لا يقر بأرض الإسلام ، بل يبلغ مأمنه ، وأنه يجب حفظه وحوطته مدة يسمع فيها كلام الله . والخطاب بقوله : استجارك وفأجره ، يدل على أنّ أمان السلطان جائز ، وأما غيره فالحر يمضي أمانه . وقال ابن حبيب : ينظر الإمام فيه والعبد . قال الأوزاعي ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، ومحمد بن الحسن ، وأبو ثور ، وداود : له الأمان ، وهو مشهور مذهب مالك . وقال أبو حنيفة : لا أمان له ، وهو قول في مذهب مالك . والحرة لها الأمان على قول الجمهور . وقال عبد الملك بن الماجشون : لا ، إلا أن يجيره الإمام ، وقوله شاذ . والصبي إذا أطاق القتال جاز أمانه ، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ، أي ذلك الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن ، بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : إشارة إلى هذا اللطف في الإجارة والإسماع وتبليغ المأمن ، لا يعلمون نفي علمهم بمراشدهم في اتباع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ ( هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد . قال التبريزي والكرماني : معناه النفي ، أي لا يكون لهم عهد وهم لكم ضد . ونبه على علة انتفاء العهد بالوصف الذي قام به وهو الإشراك . وقال القرطبي : وفي الآية إضمار ، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث ؟ انتهى . والاستفهام يراد به النفي كثيراً ، ومنه قول الشاعر : فها ذي سيوف يا هدى بن مالك
كثير ولكن ليس بالسيف ضارب
أي ليس بالسيف ضارب . ولما كان الاستفهام معناه النفي ، صلح مجيء الاستثناء وهو متصل . وقيل : منقطع ، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام . قال الحوفي : ويجوز أن يكون الذين في موضع خبر على البدل من المشركين ، لأن معنى ما تقدم النفي ، أي : ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا . قال ابن عباس : هم قريش . وقال السدي : بنو جذيمة بن الديل . وقال ابن إسحاق : قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقريش . وقال الزمخشري : كبني كنانة وبني ضمرة . وقال قوم منهم مجاهد : هم خزاعة ورد بإسلامهم عام الفتح . وقال ابن زيد : هم قريش نزلت فلم يستقيموا ، فنزل تأجيلهم أربعة أشهر بعد ذلك . وضعف هذا القول بأنّ قريشاً بعد الأذان بأربعة أشهر لم يكن فيهم إلا مسلم ، وذلك بعد فتح مكة بسنة ، وكذلك خزاعة قاله الطبري . فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء .
وجوز أبو البقاء أن يكون خبر يكون كيف ، لقوله : كيف كان عاقبة مكرهم ، وأن يكون الخبر للمشركين . وعند على هذين ظرف للعهد ، أو ليكون ، أو للحال ، أو هي وصف للعهد . وأن يكون الخبر عند الله ، وللمشركين تبيين ، أو تعلق بيكون ، وكيف حال من العهد انتهى . والظاهر أنّ ما مصدرية ظرفية ، أي : استقيموا لهم مدة استقامتهم ، وليست شرطية . وقال أبو البقاء : هي شرطية كقوله : ) مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ ( انتهى . فكان التقدير : ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم . وقال الحوفي : ما شرط في موضع رفع بالابتداء ، والخبر استقاموا ، ولكم متعلق باستقاموا ، فاستقيموا لهم الفاء جواب الشرط انتهى . فكان التقدير فأي : وقت استقاموا فيه لكم فاستقيموا لهم . وإنما جوز أن تكون شرطية لوجود الفاء في فاستقيموا ، لأن المصدرية الزمانية لا

" صفحة رقم 15 "
تحتاج إلى الفاء . وقد أجاز ابن مالك في المصدرية الزمانية أن تكون شرطية وتجزم ، وأنشد على ذلك ما يدل ظاهره على صحة دعواه . وقد ذكرنا ذلك في كتاب التكميل ، وتأولنا ما استشهد به . فعلى قوله تكون زمانية شرطية : أنّ الله يحب المتقين ، يعني أن الوفاء بالعهد من أخلاق المتقين ، والتربص بهؤلاء إن استقاموا من أعمال المؤمنين ، والتقوى تتضمن الإيمان والوفاء بالعهد .
( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ( كيف تأكيد لنفي ثباتهم على العهد . والظاهر أن الفعل المحذوف بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها ، وحذف للعلم به في كيف السابقة ، والتقدير : كيف لهم عهد وحالهم هذه ؟ وقد جاء حذف الفعل بعد كيف لدلالة المعنى عليه كقوله تعالى : ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ ). وقال الشعر :
ضع وخبرتماني إنما الموت بالقرى
فكيف وهاتا هضبة وكثيب
أي : فكيف مات وليس في قرية ؟ وقال الحطيئة :
فكيف ولم أعلمهم خذلوكم
على معظم وأن أديمكم قدّوا
أي فكيف تلومونني على مدحهم ؟ واستغنى عن ذلك لأنه جرى في القصيدة ما دل على ما أضمر . وقدر أبو البقاء الفعل المحذوف بعد كيف بقوله : كيف تطمئنون إليهم ؟ وقدره غيره : كيف لا يقتلونهم ؟ والواو في ( وإن يظهروا ) واو الحال . وتقدم الكلام على وقوع جملة الشرط حالاً في قوله : ) وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ( ومعنى الظهور العلو والظفر ، تقول : ظهرت على فلان علوته . والمعنى : وإنْ يقدروا عليكم ويظفروا بكم . وقرأ زيد بن علي : وإنْ يظهروا مبنياً للمفعول . لا يرقبوا : لا يحفظوا ولا يرعوا إلا عهداً أو قرابة أو حلفاً أو سياسة أو الله تعالى ، أو جؤاراً أي : رفع صوت بالتضرع ، أقوال .
قال مجاهد وأبو مجلز : إنْ اسم الله بالسريانية وعرب . ومن ذلك قول أبي بكر حين سمع كلام مسيلمة ، فقال : هذا كلام لم يخرج من إل . وقرأت فرقة : ألا بفتح الهمزة ، وهو مصدر من فعل الأل الذي هو العهد . وقرأ عكرمة : إيلا بكسر الهمزة وياء بعدها ، فقيل : هو اسم الله تعالى . ويجوز أن يراد به إلى أبدل من أحد المضاعفين ياء ، كما قالوا في : إما إيما . قال الشاعر :
يا ليتما أمنا سالت نعامتها
إيما إلى الجنة إيما إلى نار
قال ابن جني : ويجوز أن يكون مأخوذاً من آل يؤول إذا ساس ، أبدل من الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، أي : لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة ، من رأى أنّ الإل هو العهد جعله والذمة لفظين لمعنى واحد أو متقاربين ، ومن رأى أن الإل غير العهد فهما لفظان متباينان . ولما ذكر حالهم مع المؤمنين أنْ ظهروا عليهم ذكر حالهم معهم ذا كانوا غير ظاهرين ، فقال : يرضونكم بأفواههم . واستأنف هذا الكلام أي : حالهم في الظاهر يخالف لباطنهم ، وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد ، وإباء القلب مخالفته لما يجري على اللسان من القول الحسن . وقيل : يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان ، وتأبى قلوبهم إلا الكفر . وقيل : يرضونكم في الطاعة ، وتأبى قلوبهم

" صفحة رقم 16 "
إلا المعصية . والظاهر بقاء الأكثر على حقيقته فقيل : وأكثرهم ، لأن منهم من قضى الله له بالإيمان . وقيل : لأن منهم من له حفظ لمراعاة الحال الحسنة من التعفف عما يثلم العرض ، ويجر أحدوثة السوء ، وأكثرهم خبثاً لأنفس خريجون في الشر لا مروءة تردعهم ، ولا طباع مرضية تزعهم ، لا يحترزون عن كذب ولا مكر ولا خديعة ، ومن كان بهذا الوصف كان مذموماً عند الناس وفي جميع الأديان . ألا ترى إلى أهل الجاهلية وهم كفار كيف يمدحون أنفسهم بالعفاف وبالصدق وبالوفاء بالعهد وبالأخلاق الحسنة . وقيل : معنى وأكثرهم وكلهم فاسقون ، قاله ابن عطية والكرماني .
( اشْتَرَوْاْ بِئَايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الظاهر عود الضمير على من قبله من المشركين المأمور بقتلهم ، ويكون المعنى : اشتروا بالقرآن وما يدعو إليه من الإسلام ثمناً قليلاً ، وهو اتباع الشهوات والأهواء لما تركت دين الله وآثرت الكفر ، كان ذلك كالشراء والبيع . وقال مجاهد : هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه . وقال أبو صالح : هم قوم من اليهود ، وآيات الله التوراة . وقال ابن عباس : هم أهل الطائف كانوا يمدون الناس بالأموال يمنعونهم من الدخول في الإسلام ، فصدوا عن سبيله أي صرفوا أنفسهم عن دين الله وعدلوا عنه . والظاهر أنّ ساء هنا محولة إلى فعل . ومذهب بابها مذهب بئس ، ويجوز إقرارها على وصفها الأول ، فتكون متعدية أي : أنهم ساءهم ما كانوا يعملون ، فحذف المفهوم لفهم المعنى .
( لا يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ( هذا تنبيه على الوصف الموجب للعداوة وهو الإيمان ، ولما كان قوله : ) لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ ( يتوهم أنّ ذلك مخصوص بالمخاطبين ، نبّه على علة ذلك ، وأنّ سبب المنافاة هو الإيمان ، وأولئك أي الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المعتدون المجاوزون الحد في الظلم والشر ونقض العهد .
( فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَواةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ ( أي فإنْ تابوا عن الكفر ونقض العهد والتزموا أحكام الإسلام فإخوانكم ، أي : فهم إخوانكم ، والإخوان ، والإخوة جمع أخ من نسب أو دين . ومن زعم أنّ الإخوة تكون في النسب ، والإخوان في الصداقة ، فقد غلط . قال تعالى : ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ( وقال : أو بيوت إخوانكم ، وعلق حصول الأخوة في الدين على الالتباس بمجموع الثلاثة ، ويظهر أنّ مفهوم الشرط غير مراد .
( وَنُفَصّلُ الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( أي نبيّنها ونوضحها . وهذه الجملة اعتراض بين الشرطين ، بين قوله : فإن تابوا ، وقوله : وإن نكثوا ، بعثاً وتحريضاً على تأمل ما فصل تعالى من الأحكام ، وقال لقوم يعلمون لأنه لا يتأمل تفصيلها إلا من كان من أهل العلم والفهم .
( وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ( أي : وإنْ نقضوا إقسامهم من بعدما تعاهدوا وتحالفوا على أنْ لا ينكثوا . وطعنوا : أي عابوه وثلبوه واستنقصوه . والطعن هنا مجاز ، وأصله الإصابة بالرمح أو العود وشبهه ، وهو هنا بمعنى العيب كما جاء في حديث إمارة أسامة : ( إنْ تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ) أي عبتموها واستنقصتموها . والظاهر أنّ هذا الترديد في الشرطين هو في حق الكفار أصلاً ، لأنّ من أسلم ثم ارتد فيكون قوله : فقاتلوا أئمة الكفر ، أي رؤساء الكفر وزعماءه . والمعنى : فقاتلوا الكفار ، وخص الأئمة بالذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على البقاء على الكفر . وقال الكرماني : كل كافر إما نفسه ، فالمعنى فقاتلوا كل كافر . وقيل : من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين صار رأساً في الكفر ، فهو من أئمة الكفر . وقال ابن عباس : أئمة الكفر زعماء قريش . وقال القرطبي : هو بعيد ، لأن الآية في سورة براءة ، وحين نزلت كان الله قد استأصل شأفة

" صفحة رقم 17 "
قريش ولم يبق منهم إلا مسلم أو مسالم . وقال قتادة : المراد أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة ، وغيرهم ، وهذا ضعيف إن لم يؤخذ على جهة المثال ، لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير . وروي عن حذيفة أنه قال : لم يجىء هؤلاء بعدُ ، يريد لم ينقرضوا فهم يجيئون أبداً ويقاتلون . وقال ابن عطية : أصوب ما في هذا أن يقال : إنه لا يعني بها معين ، وإنما دفع الأمر بقتال أئمة الناكثين العهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين ، واقتضت حال كفار العرب ومحاربي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يكون الإشارة إليهم أولاً بقوله : أئمة الكفر ، وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة ، إذ الذي يتولى قتال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة ، ثم يأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل انتهى . وقيل : المراد بالعهد الإسلام ، فمعناه كفروا بعد إسلامهم . ولذلك قرأ بعضهم : وإنْ نكثوا إيمانهم بالكسر ، وهو قول الزمخشري ، قال : فقاتلوا أئمة الكفر فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم ، إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حالة الشرك تمرداً وطغياناً وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب ، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخواناً للمسلمين في الدين ، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهد ، وقعدوا يطعنون في دين الله تعالى ويقولون ليس دين محمد بشيء ، فهم أئمة الكفر وذوو الرئاسة والتقدم فيه ، لا يشق كافر غبارهم . والمشهور من مذهب مالك أنّ الذمي إذا طعن في الدين ففعل شيئاً مثل تكذيب الشريعة والسب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ونحوه قتل . وقيل : إنْ أعلن بشيء مما هو معهود من معتقده وكفره أدب على الإعلان وترك ، وإنْ كفر بما هو ليس من معتقده كالسب ونحوه قتل . وقال أبو حنيفة : يستتاب ، واختلف إذا سب الذمي ثم أسلم تقية القتل . فالمشهور من مذهب مالك أنه يترك ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، وفي العتبية أنه يقتل ، ولا يكون أحسن حالاً من المسلم .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بإبدال الهمزة الثانية ياء . وروي عن نافع مد الهمزة . وقرأ باقي السبعة وابن أبي أويس عن نافع : بهمزتين ، وأدخل هشام بينهما ألفاً وأصله أأممة على وزن أفعلة جمع إمام ، أدغموا الميم في الميم فنقلت حركتها إلى الهمزة قبلها . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف لفظ أئمة ؟ قلت : همزة بعدها همزة بين بين ، أي بين مخرج الهمزة والياء . وتحقيق الهمز هي قراءة مشهورة ، وإن لم تكن مقبولة عند البصريين ، وأما التصريح بالياء فليس بقراءة ، ولا يجوز أن تكون . ومن صرح بها فهو لاحن محرف انتهى . وذلك دأبه في تلحين المقرئين . وكيف يكون ذلك لحناً وقد قرأ به رأس البصريين النحاة أبو عمرو بن العلاء ، وقارىء مكة ابن كثير ، وقارىء مدينة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) نافع ، ونفى إيمانهم لما لم يثبتوا عليها ولا وفوا بها جعلوا لا أيمان لهم ، أو يكون على حذف الوصف أي : لا أيمان لهم يوفون بها . وقرأ الجمهور : بفتح الهمزة . وقرأ الحسن ، وعطاء ، وزيد بن علي ، وابن عامر : لا إيمان لهم أي لا إسلام ولا تصديق . قال أبو علي : وهذا غير قوي ، لأنه تكرار وذلك لأنه وصف أئمة الكفر بأنهم لا إيمان لهم ، فالوجه في كسر الألف أنه مصدر أمنه إيماناً ، ومنه قوله تعالى : ) الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن ( فالمعنى أنهم لا يؤمنون أهل الذمة ، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف . قال أبو حاتم : فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم انتهى . وكذا تبعه الزمخشري ، فقال : وقرىء لا إيمان لهم ، أي لا إسلام لهم ، ولا يعطون الأمان بعد الردة والنكث ، ولا سبيل إليه . وبقراءة الفتح استشهد أبو حنيفة على أن يمين الكافر لا يكون يميناً وعند الشافعي يمينهم يمين ، وقال : معناه أنهم لا يوفون بها بدليل الله تعالى وصفهم بالنكث لعلهم ينتهون متعلق بقوله : فقاتلوا أئمة الكفر ، أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم من العظائم ما وجد انتهاءهم عما هم فيه ، وهذا من كرمه سبحانه وفضله وعوده على المسيء

" صفحة رقم 18 "
بالرحمة .
( أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ( ألا حرف عرض ، ومعناه هنا الحض على قتالهم . وزعموا أنها مركبة من همزة الاستفهام ، ولا النافية ، فصار فيها معنى التخصيص . وقال الزمخشري : دخلت الهمزة على تقرير على انتفاء المقاتلة ، ومعناها : الحض عليها على سبيل المبالغة . ولما أمر تعالى بقتل أهل الكفر أتبع ذلك بالسبب الذي يبعث على مقاتلتهم وهو ثلاثة أشياء جمعوها ، وكل واحد منها على انفراده كاف في الحض على مقاتلتهم . ومعنى نكثوا أيمانهم : نقض العهد . قال السدي ، وابن إسحاق ، والكلبي : نزلت في كفار مكة ، نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية ، وأعانوا بني بكر على خزاعة انتهى . وهمهم هو همّ قريش بإخراج الرسول من مكة حين تشاوروا بدار الندوة ، فأذن الله في الهجرة ، فخرج بنفسه ، أو بنو بكر بإخراجه من المدينة لما أقدموا عليه من المشاورة والاجتماع ، أو اليهود ، هموا بغدر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ونقضوا عهده وأعانوا المنافقين على إخراجه من المدينة ، ثلاثة أقوال أولها للسدي . وقال الحسن : من المدينة . قال ابن عطية : وهذا مستقيم لغزوة أحد والأحزاب وغيرهما ، وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة لأنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) جاءهم أولاً بالكتاب المبين وتحدّاهم به ، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال ، فهم البادئون ، والبادىء أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله تصدمونهم بالشر كما صدموكم ؟ وبخهم بترك مقاتلتهم ، وحضهم عليها ، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها . وتقرر أنّ من كان في مثل صفاتهم من نكث العهود وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب حقيق بأنْ لا تترك مصادمته ، وأن يوبخ من فرط فيها ، قاله : الزمخشري وهو تكثير . وقال ابن عطية : أول مرة . قيل : يريد أفعالهم بمكة بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وبالمؤمنين . وقال مجاهد : ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فكان هذا بدء النقض . وقال الطبري : يعني فعلهم يوم بدر انتهى .
وقرأ زيد بن علي : بدوكم بغير همز ، ووجهه أنه سهل الهمزة من بدأت بإبدالها ياء ، كما قالوا في قرأت : قريت ، فصار كرميت . فلما أسند الفعل إلى واو الضمير سقطت ، فصار بدوكم كما تقول : رموكم . أتخشونهم تقرير للخشية منهم ، وتوبيخ عليها . فالله أحق أن تخشوه فتقتلوا أعداءه . ولفظ الجلالة مبتدأ وخبره أحق ، وأن تخشوه بدل من الله أي : وخشية الله أحق من خشيتهم وأن تخشوه في موضع رفع ، ويجوز أن تكون في موضع نصب أو جر على الخلاف إذا حذف حرف الجر ، وتقديره : بأن تخشوه أي أحق من غيره بأن تخشوه . وجوز أبو البقاء أن يكون أن تخشوه مبتدأ ، وأحق خبره قدم عليه . وأجاز ابن عطية أن يكون أحق مبتدأ وخبره أن تخشوه ، والجملة خبر عن الأول . وحسن الابتداء بالنكرة لأنها أفعل التفضيل ، وقد أجاز سيبويه أنْ تكون المعرفة خبراً للنكرة في نحو : اقصد رجلاً خير منه أبوه . إن كنتم مؤمنين أي كاملي الإيمان ، لأنهم كانوا مؤمنين . وقال الزمخشري : يعني أنّ قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى : ) وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ ).
) قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( قررت الآيات قبل هذا أفعال الكفرة المقتضية لقتالهم ، والحض على القتال ، وحرم الأمر بالقتال في هذه ، وتعذيبهم بأيدي المؤمنين هو في الدنيا بالقتل والأسر والنهب ، وهذه وعود ثبتت قلوبهم وصححت نياتهم ، وخزيهم هو إهانتهم وذلهم ، وينصركم يظفركم بهم ، وشفاه الصدور بإعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم .
وقرأ زيد بن علي : ونشف بالنون على الالتفات ، وجاء التركيب صدور قوم مؤمنين ليشمل المخاطبين وكل مؤمن ، لأن ما يصيب أهل الكفر من العذاب والخزي هو شفاء لصدر كل مؤمن . وقيل : المراد قوم معينون . قال ابن عباس : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا ، فلقوا من أهلها أذى شديداً ، فبعثوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يشكون إليه فقال : ( أبشروا فإن الفرج قريب ) وقال مجاهد والسدي : هم خزاعة . ووجه تخصيصهم أنهم هم الذين نقض فيهم

" صفحة رقم 19 "
العهد ونالتهم الحرب ، وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير . ألا ترى إلى قول الخزاعي المستنصر بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ثمت أسلمنا قلم ننزع يداً وفي آخر الرجز :
وقتلونا ركعا وسجداً وإذهاب الغيظ بما نال الكفار من المكروه ، وهذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها ، لأنّ شفاء الصدر من آلة الغيظ هو إذهاب الغيظ . وقرأ فرقة : ويذهب فعلاً لازماً غيظ فاعل به . وقرأ زيد بن علي : كذلك إلا أنه رفع الباء . وهذه المواعيد كلها وجدت ، فكان ذلك دليلاً على صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وصحة نبوته وبدىء أولاً فيها بما تسبب عن النصر وهو تعذيب الله الكفار وبأيدي المؤمنين وإخزاؤهم ، إذا كانت البداءة بما ينال الكفار من الشر هي التي يسر بها المؤمنون ، ثم ذكر ما السبب وهو نصر الله المؤمنين على الكافرين ، ثم ذكر ما تسبب أيضاً عن النصر من شفاء صدور المؤمنين وإذهاب غيظهم تتميماً للنعم ، فذكر ما تسبب عن النصر بالنسبة للكفار ، وذكر ما تسبب للمسلمين من الفرح والسرور بإدراك الثأر ، ولم يذكر ما نالوه من المغانم والمطاعم ، إذ العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة ، فرغبتهم في إدراك الثأر وقتل الأعداء هي اللائقة بطباعهم .
إن الأسود أسود الغاب همتها
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وقرأ الجمهور : ويتوبُ الله رفعاً ، وهو استئناف إخبار بأنّ بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره ، وكان ذلك عالم كثيرون وحسن إسلامهم . قال الفراء والزجاج وأبو الفتح : وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا ، فلا وجه لإدخال اليوم في جواب الشرط الذي في قاتلوهم انتهى . وقرأ زيد بن علي ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى الثقفي ، وعمرو بن عبيد ، وعمر بن قائد ، وأبو عمرو ، ويعقوب فيما روي عنهما : ويتوبَ الله بنصب الباء ، جعله داخلاً في جواب الأمر من طريق المعنى . قيل : ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء . قال ابن عطية : ويتوجه ذلك عندي إذا ذهب إلى أنّ التوبة يراد بها أنّ قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم ، فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال . وقال غيره : لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على بعضهم ، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة من تلك الكراهة . وقيل : حصول الكفر وكثرة الأموال لذة تطلب بطريق حرام ، فلما حصلت لهم طريق حلال كان ذلك داعياً لهم إلى التوبة مما تقدم ، فصارت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة انتهى . وهذا الذي قرروه من كون التوبة تدخل تحت جواب الأمر هو بالنسبة للمؤمنين الذين أمروا بقتال الكفار ، والذي يظهر أنّ ذلك بالنسبة إلى الكفار ، فالمعنى على من يشاء من الكفار ، وذلك أنّ قتال الكفار وغلبة المسلمين إياهم قد ينشأ عنها إسلام كثير من الناس ، وإن لم يكن لهم رغبة في الإسلام ، ولا داعية قبل القتال . ألا ترى إلى قتال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أهل مكة كيف كان سبباً لإسلامهم ، لأن الداخل في الإسلام قد يدخل فيه على بصيرة ، وقد يدخل على كره واضطرار ، ثم قد تحسن حاله في الإسلام . ألا ترى إلى عبد الله بن أبي سرح كيف كان حاله أولاً في الإسلام ، ثم صار أمره إلى احسن حال ومات أحسن ميتة في السجود في صلاته ، وكان

" صفحة رقم 20 "
من خيار الصحابة ؟ والله عليم يعلم ما سيكون مثل ما يعلم ما قد كان ، وفي ذلك تقرير لما رتب من تلك الموعيد ، وأنها كائنة لا محالة حكيم في تصريف عباده من حال إلى حال على ما تقتضيه حكمته تعالى .
( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ( تقدّم تفسير نظير هذه الجملة ، والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلَّص منكم وهم المجاهدون في سبيل الله الذين لم يتخذوا بطانة من دون الله من غيرهم .
( وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ( ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا . غير متخذين وليجة ، والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل ، وهي البطانة . والمدخل يدخل فيه على سبيل الاستسرار ، شبه النفاق به . وقال قتادة : الوليجة الخيانة . وقال الضحاك : الخديعة . وقال عطاء : الأودّاء . وقال الحسن : الكفر والنفاق . وقال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة ، والرجل يكون في القوم وليس منهم ، وليجة يكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد . وليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره من الناس ، وجمعها ولائج وولج ، كصحيفة وصحائف وصحف . وقال عبادة بن صفوان الغنوي : ولائجهم في كل مبدي ومحضر
إلى كل من يرجى ومن يتخوف
وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عند فرض القتال ، والمعنى : لا بد من اختباركم أيها المؤمنون كقوله : ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ( ولما كان الرجل قد يجاهد وهو منافق نفى هذا الوصف عنه ، فبين أنه لا بد للجهاد من الإخلاص خالياً عن النفاق والرياء والتودّد إلى الكفار .
( وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( قرأ الجمهور بالتاء على الخطاب مناسبة لقوله : أم حسبتم . وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الغيبة التفاتاً .
( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ( قرأ ابن السميفع : أنْ يُعمِروا بضم الياء وكسر الميم ، أن يعينوا على عمارته . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والجحدري : مسجد بالإفراد ، وباقي السبعة ومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشبية بالجمع .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين وأنواعاً من قبائحهم توجب البراءة منهم ، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب انتفاء البراءة منها كونهم عامري المسجد الحرام . روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك ، وطفق عليّ يوبخ العباس ، فقال الرسول : واقطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول . فقال العباس : تظهرون مساوينا ، وتكتمون محاسننا ؟ فقال : أو لكم محاسن ؟ قالوا : نعم ، ونحن أفضل منكم أجراً ، إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ، فأنزل الله هذه الآية رداً عليهم . ومعنى ما كان للمشركين : أي بالحق الواجب ، وإلا فقد عمروه قديماً وحديثاً على سبيل التغلب . وقال الزمخشري : أي ما صح وما استقام انتهى . وعمارته وحوله والقعود فيه والمكث من قولهم : فلان يعمر المسجد أي يكثر غشيانه ، أو رفع بنائه ، وإصلاح ما تهدّم منه ، أو التعبد فيه ، والطواف به . والصلاة ثلاثة أقوال . ومن قرأ بالإفراد فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام لقوله : ) وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( أو الجنس فيدخل تحته المسجد الحرام ، إذ هو صدر ذلك الجنس مقدّمته . ومن قرأ بالجمع فيحتمل أنْ يراد به المسجد الحرام ، وأطلق عليه الجمع إما باعتبار أنّ كل مكان منه مسجد ، وإما لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فكان عامره عامر المساجد . ويحتمل أن يراد الجمع ، فيدخل تحته المسجد الحرام وهو آكد ، لأن طريقته طريقة الكناية كما لو

" صفحة رقم 21 "
قلت : فلان لا يقرأ كتب الله ، كنت أنفي لقراءة القرآن من تصريحك بذلك . وانتصب شاهدين على الحال ، والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر به وبعبادته .
وقرأ زيد بن علي : شاهدون على إضمارهم شاهدون ، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر قولهم في الطواف : لبيك لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك . أو قولهم إذا سئلوا عن دينهم : نعبد اللات والعزى ، أو تكذيبهم الرسول ، أو قول المشرك : أنا مشرك كما يقول اليهودي : هو يهودي ، والنصراني هو نصراني ، والمجوسي هو مجوسي ، والصابىء هو صابىء ، أو ظهور أفعال الكفرة من نصب أصنامهم وطوافهم بالبيت عراة ، وغير ذلك أقوال خمسة ، هذا إذا حمل على أنفسهم على ظاهره ، وقيل : معناه شاهدين على رسولهم ، وأطلق عليه أنفسهم لأنه ما من بطن من بطون العرب إلا وله فيهم ولادة ، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ على أنفسهم بفتح الفاء ، أي أشرفهم وأجلهم قدراً .
( أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ( التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة وغيرها مما ذُكر أنه من الأعمال الحميدة . قال الزمخشري : وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها ، فما ظنك بالمقارن ؟ وإلى ذلك أشار تعالى بقوله : ) شَاهِدِينَ ( حيث جعله حالاً عنهم ، ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة ، وذلك محال غير مستقيم انتهى . وقوله : أو الكبيرة ، دسيسة اعتزال لأن الكبيرة عندهم من المعاصي تحبط الأعمال .
( وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ذكر مآل المشركين وهو النار خالدين فيها . وقرأ زيد بن علي : بالياء نصباً على الحال ، وفي النار هو الخبر . كما تقول : في الدار زيد قاعداً . وقال الواحدي : دلت الآية على أنّ الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين ، ولو أوصى لم تقبل وصيته ، ويمنع من دخول المساجد ، فإنْ دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظم المساجد ومنعها منهم . وقد أنزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وفد ثقيف وهم كفار المسجد ، وربط ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد وهو كافر .
( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَواةَ وَءاتَى الزَّكَواةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ ( قرأ الجحدري ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير : مسجداً لله بالتوحيد . وقرأ السبعة وجماعة : بالجمع ، والمعنى إنما يعمرها بالحق والواجب ، ويستقيم ذلك فيمن اتصف بهذه الأوصاف . وفي ضمن هذا الخبر أمر المؤمنين بعمارة المساجد ، ويتناول عمارتها رمّ ما تهدّم منها ، وتنظيفها ، وتنويرها ، وتعظيمها ، واعتيادها للعبادة والذكر . ومن الذكر درس العلم بل هو أجله ، وصونها عما لم تبن له من الخوض في أحوال الدنيا . وفي الحديث : ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ) ولم يذكر الإيمان بالرسول ، لأن الإيمان باليوم الآخر إنما هو متلقف من أخبار الرسول ، فيتضمن الإيمان بالرسول . أو لم يذكر لما علم وشهر من أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول ، لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين ، كأنهما شيء واحد لا ينفك أحدهما عن صاحبه ، فانطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : دل عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، إذ لا يتلقى ذلك إلا منه . والمقصود من بناء المساجد وعمارتها هو كونها مجتمعاً لإقامة الصلوات فيها والتعبدات من الذكر والاعتكاف وغيرهما ، وناسب ذكر إيتاء الزكاة مع عمارة المساجد أنها لما كانت مجمعاً للناس بأنّ فيها أمر الغني والفقير ، وعرفت أحوال من يؤدي الزكاة ومن يستحقها ، ولم يخش إلا الله . قال ابن عطية : يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ، ويخشى المحاذير الدنيوية ، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه . وقال الزمخشري : هي الخشية والتقوى في أبواب الدنيا ، وأنْ لا يختار على رضا الله رضا غيره ، وإذا اعترضه أمر أن أحدهما حق الله تعالى ، والآخر حق نفسه ، خاف الله وآثر حق الله على حق نفسه . وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها ، فأريد نفي تلك الخشية عنهم انتهى . وعسى من الله تعالى واجب حيثما وقعت في القرآن ، وفي ذلك قطع أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين إذ مَن جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من ترجى له الهداية ، فكيف بمن هو عار منها : وفي ذلك ترجيح الخشية على الرجاء ، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة ، فربما دخلها بعض المفسدات وصاحبها لا

" صفحة رقم 22 "
يشعر بها . وقال تعالى : أن يكونوا من المهتدين ، أي : من الذين سبقت لهم الهداية ولم يأت التركيب أن يكونوا مهتدين ، بل جعلوا بعضاً من المهتدين ، وكونهم منهم أقل في التعظيم من أن يجرد لهم الحكم بالهداية .
( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ( في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال رجل : ما أبالي أنْ لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحاج . وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمرَ المسجد الحرام . وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو يوم الجمعة ، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيما اختلفتم فيه ، فنزلت هذه الآية . وذكر ابن عطية وقوله أقوالاً آخر في سبب النزول كلها تدل على الافتخار بالسقاية والعمارة .
وقرأ الجمهور : سقاية وعمارة وهما مصدران نحو الصيانة والوقاية وقوبلا بالذوات ، فاحتيج إلى حذف من الأول أي : أهل سقاية ، أو حذف من الثاني أي : كعمل من آمن . وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو حيوة : سقاة الحاج ، وعمرة المسجد ، جمع ساق وجمع عامر كرام ورماة وصانع وصنعة . وقرأ ابن جبير كذلك ، إلا أنه نصب المسجد على إرادة التنوين في عمرة . وقرأ الضحاك : سقاية بضم السين ، وعمرة بني الجمع على فعال كرخل ورخال ، وظئر وظؤار ، وكان المناسب أن يكون بغير هاء ، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة . وكانت السقاية في بني هاشم وكان العباس يتولاها ، ولما نزلت هذه الآية قال العباس : ما أراني إلا أترك السقاية ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أقيموا عليها فهي لكم خير ) وعمارة المسجد هي السدانة ، وكان في بني عبد الدار ، وشيبة وعثمان بن طلحة هما اللذان دفع إليهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مفتاح الكعبة في ثامن يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعليّ ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) لعثمان وشيبة : ( خذوها خالدة تالدة لا ينازعكما عليها إلا ظالم ) يعني السدانة . ومعنى الآية : إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة . ولما نفى المساواة بينهما أوضح بقوله : والله لا يهدي القوم الظالمين ، من الراجح منهما وأنّ الكافرين بالله هم الظالمون ظلموا أنفسهم بترك الإيمان بالله ، وبما جاء به الرسول ، وظلموا المسجد الحرام إذ جعله الله متعبداً له فجعلوه متعبداً لأوثانهم . وذكر في المؤمنين إثبات الهداية لهم بقوله : ) فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( وفي المشركين هنا نفى الهداية بقوله : والله يهدي القوم الظالمين .
( الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( زادت هذه الآية وضوحاً في الترجيح للمؤمنين المتصفين بهذه الأوصاف على المشركين المفتخرين بالسقاية والعمارة ، فطهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإيمان ، وطهروا أبدانهم بالهجرة إلى موطن الرسول وترك ديارهم التي نشأوا عليها ، ثم بالغوا بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس ، المعرضين بالجهاد للتلف . فهذه الخصال أعظم درجات البشرية ، وأعظم هنا يسوغ أن تبقى على بابها من التفضيل ، ويكون ذلك على تقدير اعتقاد المشركين بأن في سقايتهم وعمارتهم فضيلة ، فخوطبوا على اعتقادهم . أو يكون التقدير أعظم درجة من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا . وقيل : أعظم ليست على بابها ، بل

" صفحة رقم 23 "
هي كقوله : ) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ). وقول حسان : فشركما لخيركما الفداء وكأنه قيل : عظيمون درجة . وعند الله بالمكانة لا بالمكان كقوله : ) وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( قال أبو عبد الله الرازي : الأرواح المقدسة البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية أشرقت بأنوار الجلال وغلا فيها أضواء عالم الجمال ، وترقت من العبدية إلى العندية ، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا بمشاهدة الحقيقة العندية ، ولذلك قال تعالى : ) سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( انتهى ، وهو شبيه بكلام الصوفية ، ثم ذكر تعالى أنّ من اتصف بهذه الأوصاف هو الفائز الظافر بأمنيته ، الناجي من النار .
( يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( قال ابن عباس : هي في المهاجرين خاصة انتهى ، وأسند التبشير إلى قوله : ربهم ، لما في ذلك من الإحسان إليهم بأن مالك أمرهم والناظر في مصالحهم هو الذي يبشرهم ، فذلك على تحقيق عبوديتهم لربهم . ولما كانت الأوصاف التي تحلوا بها وصاروا بها عبيدة حقيقة هي ثلاثة : الإيمان ، والهجرة ، والجهاد بالمال والنفس ، قوبلوا ي التبشير بثلاثة : الرحمة ، والرضوان ، والجنات . فبدأ بالرحمة لأنها الوصف الأعم الناشىء عنها تيسير الإيمان لهم ، وثنى بالرضوان لأنه الغاية من إحسان الرب لعبده وهو مقابل الجهاد ، إذ هو بذل النفس والمال ، وقد على الجنات لأن رضا الله عن العبد أفضل من إسكانهم الجنة . وفي الحديث الصحيح : ( إن الله تعالى يقول : يا أهل الجنة هل رضيتم ؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك ، فيقول : لكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها ) وأتى ثالثاً بقوله : وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، أي دائم لا ينقطع . وهذا مقابل لقوله ( وهاجروا ) لأنهم تركوا أوطانهم التي نشأوا فيها وكانوا فيها منعمين ، فآثروا الهجرة على دار الكفر إلى مستقر الإيمان والرسالة ، فقوبلوا على ذلك بالجنات ذوات النعيم الدائم ، فجاء الترتيب في أوصافهم على حسب الواقع : الإيمان ، ثم الهجرة ، ثم الجهاد . وجاء الترتيب في المقابل على حسب الأعم ، ثم الأشرف ، ثم التكميل . قال التبريزي : ونكر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم . برحمة أي : رحمة لا يبلغها وصف واصف .
وقرأ الأعمش ، وطلحة بن مصرف ، وحميد بن هلال : يَبشُرهم بفتح الياء وضم الشين خفيفة . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : ورُضوان بضم الراء ، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران . وقرأ الأعمش : بضم الراء والضاد معاً . قال أبو حاتم : لا يجوز هذا انتهى . وينبغي أن يجوز ، فقد قالت العرب : سلُطان بضم اللام ، وأورده التصريفيون في أبنية الأسماء .
( عَظِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصادم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إنْ نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا ، وذهبت كادتنا وهلكت أموالنا ، وخرجت ديارنا ، ويقينا ضائعين ، فنزلت . فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ، ثم رخص لهم بعد ذلك . فعلى هذا الخطاب للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب خوطبوا أن لا يوالوا الآباء والإخوة ، فيكونوا لهم تبعاً في سكنى بلاد الكفر . وقيل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة ، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم . وذكر الآباء والإخوان لأنهم أهل الرأي والمشورة ، ولم يذكر الأبناء لأنهم في الغالب تبع لآبائهم .
وقرأ عيسى بن عمران : استحبوا بفتح الهمزة جعله تعليلاً ، وغيره بكسر الهمزة جعله شرطاً . ومعنى استحبوا : آثروا وفضلوا ، استفعل من المحبة أي طلبوا محبة الكفر . وقيل : بمعنى أحب . وضمن معنى اختار وآثر ، ولذلك عديَ بعلى . ولما نهاهم عن اتخاذهم أولياء أخبر أن من تولاهم فهو ظالم ، فقال ابن عباس : هو مشرك

" صفحة رقم 24 "
مثلهم ، لأنّ من رضي بالشرك فهو مشرك . قال مجاهد : وهذا كله كان قبل فتح مكة . وقال ابن عطية : وهذا ظلم المعصية لا ظلم الكفر .
( قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللَّهِ ( هذه الآية تقتضي الحض على الهجرة وذكر الأبناء لأنه ذكر المحبة ، وهم أعلق بالنفس ، بخلاف الآية قبلها فلم يذكروا ، لأن المقصود منها الرأي والمشورة . وقدّم الآباء لأنهم الذي يجب برهم وإكرامهم وحبهم ، وثنى بالأبناء لكونهم أعلق بالقلوب . ولما ذكر الأصل والفرع ذكر الحاشية وهي الإخوان ، ثم ذكر الأزواج وهن في المحبة والإيثار كالأبناء ، ثم الأبعد بعد الأقرب في القرابة فقال : وعشيرتكم .
وقرأ الجمهور : بغير ألف . وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وأبو رجاء ، وأبو عبد الرحمن : بألف على الجمع . وزعم الأخفش أنّ العرب تجمع عشيرة على عشائر ، ولا تكاد تقول عشيرات بالجمع بالألف والتاء ، ثم ذكر وأموال اقترفتموها أي اكتسبتموها ، لأن الأموال يعادل حبها حب القرابة ، بل حبها أشد ، كانت الأموال في ذلك الوقت عزيزة ، وأكثر الناس كانوا فقراء . ثم ذكر : وتجارة تخشون كسادها ، والتجارة لا تتهيأ إلا بالأموال ، وجعل تعالى التجارة سبباً لزيادة الأموال ونمائها . وتفسير ابن المبارك بأن ذلك إشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لقلة خطابهن ، تفسير غريب ينبو عنه اللفظ . وقال الشاعر : كسدن من الفقر في قومهن
وقد زادهن مقامي كسودا
ثم ذكر : ومساكن ترضونها ، وهي القصور والدور . ومعنى : ترضونها ، تختارون الإقامة بها . وهذه الدواعي الأربعة سبب لمخالطة الكفار حب الأقارب ، والأموال ، والتجارة ، والمساكن . فذكر تعالى أن مراعاة الدين خير من مراعاة هذه الأمور . وفي الكلام حذف أي : أحب إليكم من امتثال أمر الله تعالى ورسوله في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام . والقراء على نصب أحب لأنه خبر كان . وكان الحجاج بن يوسف يقرأ : أحب بالرفع ، ولحنه يحيى بن يعمر ، وتلحينه إياه ليس من جهة العربية ، وإنما هو لمخالفة إجماع القراء النقلة ، وإلا فهو جائز في علم العربية على أن يضمر في كان ضمير الشأن ، ويلزم ما بعدها بالابتداء والخبر ، وتكون الجملة في موضع نصب على أنها خبر كان . وتضمن الأمر بالتربص التهديد والوعيد حتى يأتي الله بأمره . قال ابن عباس ومجاهد : الإشارة إلى فتح مكة . وقال الحسن : الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله ، والفاسقين عموم يراد به الخصوص فيمن توافى على فسقه ، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق ، وفي التحرير الفسق هنا الكفر ، ويدل عليه ما قابله من الهداية . والكفر ضلال ، والضلال ضد الهداية ، وإنْ كان ذلك في المؤمنين الذين لم يهاجروا ، فيكون الفسق الخروج عن الطاعة ، فإنهم لم يمتثلوا أمر الله ولا أمر رسوله في الهجرة .
( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا ( لما تقدم قوله : ) قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ( واستطرد بعد ذلك بما استطرد ذكرهم تعالى نصره إياهم في مواطن كثيرة ، والمواطن مقامات الحرب وموافقها . وقيل : مشاهد الحرب توطنون أنفسكم فيها على لقاء العدو ، وهي جمع موطن بكسر الطاء قال : وكم موطن لولاي طحت كما هوى
بإجرامه من قلة النيق منهوى

" صفحة رقم 25 "
وهذه المواطن : وقعات بدر ، وقريظة والنضير ، والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكة . ووصفت بالكثرة لأن أئمة التاريخ والعلماء والمغازي نقلوا أنها كانت ثمانين موطناً . وحنين واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز . وصرف مذ هو بابه مذهب المكان ، ولو ذهب به مذهب البقعة لم يصرف كما قال : نصروا نبيهم وشدّوا أزره
بحنين يوم تواكل الأبطال
وعطف الزمان على المكان . قال الزمخشري : وموطن يوم حنين أوفى أيام مواطن كثيرة ، ويوم حنين . وقال ابن عطية : ويوم عطف على موضع قوله : في مواطن ، أو على لفظه بتقدير : وفي يوم ، فحذف حرف الخفض انتهى . وإذ بدل من يوم وأضاف الإعجاب إلى جميعهم ، وإن كان صادراً من واحد لما رأى الجمع الكثير أعجبه ذلك وقال : لن نغلب اليوم من قلة . والقائل قال ابن المسيب : هو أبو بكر ، أو سلمة بن سلامة بن قريش ، أو ابن عباس ، أو رجل من بني بكر . ونقل أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ساءه كلام هذا القائل ، ووكلوا إلى كلام الرجل .
والكثرة بفتح الكاف ، ويجمع على كثرات . وتميم تكسر الكاف ، وتجمع على كثر كشذوة وشذر ، وكسرة وكسر ، وهذه الكثرة عن ابن عباس ستة عشر ألفاً ، وعن النحاس أربعة عشر ألفاً ، وعن قتادة وابن زيد وابن إسحاق والواقدي : اثنا عشر ألفاً ، وعن مقاتل عن ابن عباس : أحد عشر ألفاً وخمسمائة . والباء في بما رحبت للحال ، وما مصدرية أي : ضاقت بكم الأرض مع كونها رحباً واسعة لشدة الحال عليهم وصعوبتها كأنهم لا يجدون مكاناً يستصلحونه للهرب والنجاة لفرط ما لحقهم من الرعب ، فكانها ضاقت عليهم . والرحب : السعة ، وبفتح الراء الواسع . يقال : فلان رحب الصدر ، وبلد رحب ، وأرض رحبة ، وقد رحبت رحباً ورحابة . وقرأ زيد بن علي : بما رحبت في الموضعين بسكون الحاء وهي لغة تميم ، يسكنون ضمة فعل فيقولون في ظرف ظرْف . ثم وليتم مدبرين أي : وليتم فارين على أدباركم منهزمين تاركين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وأسند التولي إلى جميعهم وهو واقع من أكثرهم ، إذ ثبت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ناس من الأبطال على ما يأتي ذكره إن شاء الله ، فيقول لما افتتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مكة كان في عشرة آلاف من أصحابه ، وانضاف إليه الفان من الطلقاء فصاروا اثني عشر ألفاً إلى ما انضاف إليهم من الأعراب من سليم ، وبني كلاب ، وعبس ، وذبيان ، وسمع بذلك كفار العرب فشق عليهم ، فجمعت له هوزان وألفافها وعليهم مالك بن عوف النضري ، وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو ، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفاً ، فخرج إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعد استعماله عتاب بن أسيد على مكة ، حتى اجتمعوا بحنين ، فلما تصاف الناس حمل المشركون من مجاني الوادي وكان قد كمنوا بها ، فانهزم المسلمون . قال قتادة : ويقال إنّ الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين ، وبلغ فلهم مكة ، وثبت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في مركزه على بغلة شهباء تسمى دلدل لا يتخلخل ، والعباس قد اكتنفه آخذاً بلجامها ، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وابنه جعفر ، وعلي بن أبي طالب ، وربيعة بن الحرث ، والفضل بن العباس ، وأسامة بن زيد ، وأيمن بن عبيد وهو أيمن ابن أم أيمن ، وقتل بين يدي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) هؤلاء من أهل بيته ، وثبت معه أبو بكر وعمر فكانوا عشرة رجال ، ولهذا قال العباس

" صفحة رقم 26 "
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة
وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه
بما مسه في الله لا يتوجع
وثبتت أم سليم في جملة من ثبت ممسكة بعيراً لأبي طلحة وفي يدها خنجر ، ونزل ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن بغلته إلى الأرض واستنصر الله ، وأخذ قبضة من تراب وحصا فرمى بها في وجوه الكفار وقال : ( شاهت الوجوه ) قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا : لم يبق منا أحد إلى دخل عينية من ذلك التراب ، وقال للعباس وكان صيتاً : نادِ أصحاب السمرة ، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً ، ثم نادى يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، فكروا عنقاً واحداً وهم يقولون : لبيك لبيك ، وانهزم المشركون فنظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى قتال المسلمين فقال : ( هذا حين حمي الوطيس ) وركض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خلفهم على بغلته . وفي صحيح مسلم من حديث البراء : أنّ هوازن كانوا رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا ، فأقبل القوم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأبو سفيان يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر ، وهو يقول :
( أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
اللهم أنزل نصرك )
قال البراء : كنا والله إذا حمي البأس نتقي به ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأنّ الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وفي أول هذا الحديث : ( أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة ؟ ) فقال : اشهد عليّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما ولى .
( ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( السكينة : النصر الذي سكنت إليه النفوس ، قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : رحمته التي سكنوا بها . وقيل : الوقاء والثبات بعد الاضطراب والقلق ، ويخرج من هذا القول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإنه لم يزل ثابت الجأش ساكنه ، وعلى المؤمنين ظاهره شمول مَنْ فرَّ ومَنْ ثبت . وقيل : هم الأنصار إذ هم الذين كروا وردّوا الهزيمة . وقيل : من ثبت مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) حالة فرّ الناس . وقرأ زيد بن علي : سِكينته بكسر السين وتشديد الكاف مبالغة في السكينة . نحو شرّيب وطبيخ .
( وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ( هم الملائكة بلا خلاف ، ولم تتعرض الآية لعددهم . فقال الحسن : ستة عشر ألفاً . وقال مجاهد : ثمانية آلاف . وقال ابن جبير : خمسة آلاف . وهذا تناقض في الأخبار ، والجمهور على أنها لم تقاتل يوم حنين . وعن ابن المسيب : حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم ، فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسانها فقالوا : شاهت الوجوه ، ارجعوا فرجعنا ، فركبوا أكتافنا . والظاهر انتفاء الرؤية عن المؤمنين ، لأن الخطاب هو لهم . وقد روي أنّ رجلاً من بني النضير قال للمؤمنين بعد القتال : أين الخيل البلق والرجال الذين

" صفحة رقم 27 "
كانوا عليها بيض ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة ، وما كان قتلنا إلا بأيديهم ؟ فأخبروا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : ( تلك الملائكة ) . وقيل : لم تروها ، نفى عن الجميع ، ومن رأى بعضهم لم ير كلهم . وقيل : لم يرها أحد من المسلمين ولا الكفار ، وإنما أنزلهم يلقون التثبيت في قلوب المؤمنين والرعب والجبن في قلوب الكفار . وقال يزيد بن عامر : كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب .
( وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذالِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ( أي بالقتل الذي استحر فيهم ، والأسر لذراريهم ونسائهم ، والنهب لأموالهم ، وكان السبي أربعة آلاف رأس . وقيل : سنة آلاف ، ومن الإبل اثنا عشر ألفاً سوى ما لا يعلم من الغنم ، وقسمها الرسول بالجعرانة ، وفيها قصة عباس بن مرداس وشعره . وكان مالك بن عوف قد أخرج الناس للقتال والذراري ليقاتلوا عليها ، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة قال : هو يرد المنهزم شيء ؟ وفي ذلك اليوم قتل دريد القتلة المشهورة ، قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان السلمي ويقال له : ابن الدغنة .
( ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذالِكَ عَلَى مَا يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( إخبار بأن الله يتوب على من يشاء فيهدي من يشاء ممن بقي من الكفار للإسلام ، ووعد بالمغفرة والرحمة كمالك بن عوف النضري رئيس هوازن ومن أسلم معه من قومه . وروي أنّ ناساً منهم جاؤوا فبايعوا على الإسلام وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّ الناس ، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا ، وكان سبي يومئذ ستة آلاف نفس ، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى ، فقال : ( إن خير القول أصدقه ، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإمّا أموالكم ) فقالوا : ما نعدل بالأحساب شيئاً . وتمام الحديث أنهم أخذوا نساءهم زذراريهم إلا امرأة وقع عليها صفوان بن أمية فحملت منه فلم يردها .
أخبرنا القاضي العالم أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي قراءة مني عليه بمدينة مالقة . قال : أخبرنا أبو الحسن بن محمد بن بيقي بن حبلة الخزرجي باوو بولة ، قال : أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني باسكندرية ( ح ) وأخبرنا أستاذنا الإمام العلامة الحافظ أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير قراءة مني عليه بغرناطة عن القاضي أبي الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني عن أبي طاهر السلفي وهو آخر من حدث عنه بالغرب ، ( ح ) وأخبرنا عالياً القاضي السعيد صفي الدين أبو محمد عبد الوهاب بن حسن بن الفرات قراءة عليه مرتين بثغر الاسكندرية ، عن أبي الطاهر اسماعيل بن صالح بن ياسين الجبلي وهو آخر من حدث عنه قالا : أعني السلفي والجبلي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي ، قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن بقاء بن محمد الوراق بمصر أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين بن عمر اليمني التنوخي بانتفاء خلف الواسطي الحافظ ( ح ) وأخبرنا المحدث العدل نجيب الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني عرف بابن العجمي قراءة مني عليه بالقاهرة قلت له : أخبرك أبو الفخر أسعد بن أبي الفتوح بن روح وعفيفة بنت أحمد بن عبد الله في كتابيهما قالا : أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن أحمد بن عقيل الجوزدانية . قالت : أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريذة الضبي ، قال : أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني الحافظ قالا : أعني التنوخي والطبراني أخبرنا عبيد الله بن رماحس زاد التنوخي بن محمد بن خالد بن حبيب بن قيس بن رمادة من الرملة على بريدين في ربيع الآخر من سنة ثمانين ومائتين ، وقال الطبراني ابن رماحس الجشمي القيسي برمادة الرملة سنة سبع وسبعين ومائتين ، قال : حدثنا أبو عمرو زياد بن طارق زاد التنوخي الجشمي . وقال الطبراني وكان قد أتت عليه عشرون ومائة سنة قال التنوخي عن زياد أنبأنا زهير أبو جندل وكان سيد قومه وكان يكنى أبا صرد . قال : لما كان يوم حنين أسرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فبينا هو يميز بين الرجال والنساء ، وثبت حتى قعدت بين يديه أذكره حيث شب ونشأ في هوازن ، وحيث أرضعوه فأنشأت أقول : وقال الطبراني عن زياد قال : سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول : لما أسرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يوم حنين قوم هوازن ، وذهب يفرق السبي

" صفحة رقم 28 "
والشاء ، فأتيته فأنشأت أقوال هذا الشعر : امنن علينا رسول الله في كرم
فإنك المرء نرجوه وننتظر
امنن على بيضة قد عاقها قدر
مفرق شملها في دهرها غير
أبقت لنا الحرب هتافاً على حرن
على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها
يل أرجح الناس حلماً حين يختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها
إذ فوك يملأوها من محضها الدرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
يا خير من مرحت كمت الجياد به
عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته
واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا نؤمل عفواً منك نلبسه
هذى البرية أن تعفو وتنتصر
إنا لنشكر للنعمى وقد كفرت
وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه
من أمهاتك أن العفو مشتهر
واعف عفا الله عما أنت راهبه
يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر
وفي رواية الطبراني تقديم وتأخير في بعض الأبيات ، وتغيير لبعض ألفاظ ، فترتيب الأبيات بعد قوله : إذ أنت طفل قوله : لا تجعلنا ، ثم إنا لنشكر ، ثم فالبس العفو ، ثم تأخير من مرحت ، ثم إنا نؤمل ، ثم فاعف . وتغيير الألفاظ قوله : وإذ يربيك بالراء والباء مكان الزاي والنون . وقوله للنعماء : إذ كفرت . وقوله : إذ تعفو . وفي رواية الطبراني قال : فلما سمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) هذا الشعر قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ) وقالت قريش : ما كان لنا فهو لله ولرسوله . وقالت الأنصار : ما كان لنا فهو لله ولرسوله . وفي رواية التنوخي ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فللَّه ولكم ) وقالت الأنصار : ما كان لنا فللَّه ولرسوله ، ردّت الأنصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال .
( رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن ( لما أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) علياً أنْ يقرأ على مشركي مكة أول براءة ، وينبذ إليهم عهدهم ، وأنّ الله بريء من المشركين ورسوله قال أناس : يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدّة وانقطاع السبل وفقد الحمولات فنزلت . وقيل : لما نزل إنما المشركون نجس ، شق على المسلمين وقالوا : من يأتينا بطعامنا ، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارة ، فنزلت : وإن خفتم عيلة الآية . والجمهور على أنّ المشرك من اتخذ مع الله إلهاً آخر ، وعلى أنّ أهل الكتاب ليسوا بمشركين . ومن العلماء من أطلق عليهم اسم الاشراك لقوله : ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ( أي يكفر به . وقرأ الجمهور : نجس بفتح النون والجيم ، وهو مصدر نجس نجساً أي قذر قذراً ، والظاهر الحكم عليهم بأنهم نجس أي ذوو نجس . قال ابن عباس ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز ،

" صفحة رقم 29 "
وغيره : الشرك هو الذي نجسهم ، فأعيانهم نجسة كالخمر والكلاب والخنازير . وقال الحسن : من صافح مشركاً فليتوضأ . وفي التحرير وبالغ الحسن حتى قال : إن الوضوء يجب من مسِّ المشرك ، ولم يأخذ أحد بقول الحسن إلا الهادي من الزيدية . وقال قتادة ، ومعمر بن راشد وغيرهما : وصف المشرك بالنجاسة لأنه جنب ، إذ غسله من الجنابة ليس بغسل ، وعلى هذا القول يجب الغسل على من أسلم من المشركين ، وهو مذهب مالك . وقال ابن عبد الحكم : لا يجب ، ولا شك أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات ، فجعلوا نجساً مبالغة في وصفهم بالنجاسة .
وقرأ أبو حيوة : نِجْس بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف ، أي : جنس نجس ، أو ضرب نجس ، وهو اسم فاعل من نجس ، فخففوه بعد الاتباع كما قالوا في كبد كبد وكرش كرش . وقرأ ابن السميفع : أنجاس ، فاحتمل أن يكون جمع نجس المصدر كما قالوا أصناف ، واحتمل أن يكون جمع نجس اسم فاعل . وفي النهي عن القربان منعهم عن دخوله والطواف به بحج أو عمرة أو غير ذلك كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، وهذا النهي من حيث المعنى هو متعلق بالمسلمين ، أي لا يتركونهم يقربون المسجد الحرام . والظاهر أنّ النهي مختص بالمشركين وبالمسجد الحرام ، وهذا مذهب أبي حنيفة . وأباح دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره ، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد . وقال الزمخشري : إنّ معنى قوله : ( فلا يقربوا المسجد الحرام ) فلا يحجوا ولا يعتمروا ، ويدل على قول عليّ حين نادى ببراءة : لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، قال : ولا يمنعون من دخول الحرم ، والمسجد الحرام ، وسائر المساجد عند أبي حنيفة انتهى . وقال الشافعي : هي عامة في الكفار ، خاصة في المسجد الحرام ، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد . وقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين ، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد . وقال عطاء : المراد بالمسجد الحرام الحرم ، وأنّ على المسلمين أنْ لا يمكنوهم من دخوله . وقيل : المراد من القربان أنْ يمنعوا من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه ، ويعزلوا عن ذلك . وقال جابر بن عبد الله وقتادة : لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب حرية ، أو عبد المسلم ، والمعنى بقوله بعد عامهم هذا : هو عام تسع من الهجرة ، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر أميراً على الموسم وأتبع بعلي ونودي فيها ببراءة . وقال قتادة : هو العام العاشر الذي حج فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والعيلة الفقر . وقرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه : عائلة وهو مصدر كالعاقبة ، أو نعت لمحذوف أي : حالاً عائلة ، وإنّ هنا على بابها من الشرط . وقال عمرو بن قائد : المعنى وإذ خفتم كقولهم : إنْ كنت ابني فأطعني ، أي : إذ كنت . وكون إنْ بمعنى إذ قول مرغوب عنه . وتقدّم سبب نزول هذه الآية وفضله تعالى . قال الضحاك : ما فتح عليهم من أخذ الجزية من أهل الذمة . وقال عكرمة : أغناهم بادرار المطر عليهم ، وأسلمت العرب فتمادى حجهم ونحرهم ، وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم ، وعلق الاغناء بالمشيئة لأنه يقع في حق بعض دون بعض وفي وقت دون وقت . وقيل : لإجراء الحكم على الحكمة ، فإنْ اقتضت الحكمة والمصلحة إغناءكم أغناكم . وقال القرطبي : إعلاماً بأنّ الرزق لا يأتي بحيلة ولا اجتهاد ، وإنما هو فضل الله . ويروي للشافعي : لو كان بالحيل الغنى لوجدتني
بنجوم أقطار السماء تعلقي
لكن من رزق الحجا حرم الغنى
ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

" صفحة رقم 30 "
إن الله بأحوالكم حكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة . وقال ابن عباس : عليم بما يصلحكم ، حكيم فيما حكم في المشركين .
( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ ( نزلت حين أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بغزو الروم ، وغزا بعد نزولها تبوك . وقيل : نزلت في قريظة والنضير فصالحهم ، وكانت أول جزية أصابها المسلمون ، وأول ذلك أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين نفي الإيمان بالله عنهم ، لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله ، آذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به قاله الكرماني . وقال الزجاج : لأنهم جعلوا له ولداً وبدلوا كتابهم ، وحرموا ما لم يحرم ، وحللوا ما لم يحلل . وقال ابن عطية : لأنهم تركوا شرائع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه ، فصار جميع مالهم في البعث وفي الله من تخيلات واعتقادات لا معنى لها ، إذْ يلقونها من غير طريقها . وأيضاً فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة ، لأنهم شبهوا وقالوا : عزير ابن الله وثالث ثلاثة ، وغير ذلك . ولهم أيضاً في البعث آراء كثيرة في منازل الجنة من الرهبان . وقول اليهود في النار يكون فيها أياماً انتهى . وفي الغيبان نفي عنهم الإيمان لأنهم مجسمة ، والمؤمن لا يجسم انتهى . والمنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني ، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني ما حرم الله في كتابه ورسوله في السنة . وقيل : في التوراة والإنجيل ، لأنهم أباحوا أشياء حرمتها التوراة والإنجيل ، والرسول على هذا موسى وعيسى ، وعلى القول الأول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : ولا يحرمون الخمر والخنزير . وقيل : ولا يحرمون الكذب على الله ، قالوا : ) نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( ، ( وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( وقيل : ما حرم الله من الربا وأموال الأميين ، والظاهر عموم ما حرم الله ورسوله في التوراة والإنجيل والقرآن . ولا يدينون دين الحق أي : لا يعتقدون دين الإسلام الذي هو دين الحق ، وما سواه باطل . وقيل : دين الحق دين الله ، والحق هو الله قاله : قتادة . يقال : فلان يدين بكذا أي يتخذه ديناً ويعتقده . وقال أبو عبيدة : معناه ولا يطيعون طاعة أهل الإسلام ، وكل من كان في سلطان ملك فهو على دينه وقد دان له وخضع . قال زهير : لئن حللت بجوفي بني أسد
في دين عمرو وحلت بيننا فدك
) مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( بيان لقوله : الذين . والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصاً . وأجمع الناس على ذلك . وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافاً في أنّ الجزية تؤخذ منهم انتهى . وروي أنه كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت ، واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب . وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبيحتهم . وقالت فرقة : لا تؤخذ منهم جزية ، ولا تؤكل ذبائحهم . وقيل : تؤخذ منهم الجزية ، ولا تؤكل ذبائحهم . وقال الأوزاعي : تؤخذ من كل عابد وثن أو نارٍ أو جامدٍ مكذب . وقال أبو حنيفة : لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف ، وتقبل من أهل الكتاب ومن سائر كفار العجم الجزية . وقال مالك : تؤخذ من عابد النار والوثن وغير ذلك كائناً من كان من عربي تغلبي أو قرشي أو عجمي إلا المرتد . وقال الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط . والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية . وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء ، ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين . وقال مالك في الواضحة : إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا لم تسقط ، وتضرب على رهبان الكنائس . واختلف في الشيخ الفاني ، ولم تتعرض الآية لمقدار ما على كل رأس ولا لوقت إعطائها . فأما مقدارها فذهب مالك وكثير من أهل العلم إلى ما فرضه عمر : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون

" صفحة رقم 31 "
درهماً على أهل الفضة ، وفرض عمر ضيافة وأرزاقاً وكسوة . وقال الثوري : رويت عن عمر ضرائب مختلفة ، وأظن ذلك بحسب اجتهاده في عسرهم ويسرهم . وقال الشافعي وغيره : على كل رأس دينار . وقال أبو حنيفة : على الفقير المكتسب اثنا عشر درهماً ، وعلى المتوسط في المعنى ضعفها ، وعلى المكثر ضعف الضعف ثمانية وأربعون درهماً ، ولا يؤخذ عنده من فقير لا كسب له . قال ابن عطية : وهذا كله في الفترة . وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير . وأما وقتها فعند أبي حنيفة أول كل سنة ، وعند الشافعي آخر السنة . وسميت جزية من جزى يجزي إذ كافأ عما أسدي عليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالعقدة والجلسة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : نجزيك أو نثني عليك وأن من
أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
وقيل : لأنها طائفة مما على أهل الذمة أنْ يجزوه أي يقضوه عن يد . قال ابن عباس : يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها . وقال عثمان : يعطونها نقداً لا نسيئة . وقال قتادة : يعطونها وأيديهم تحت يد الآخذ ، فالمعنى أنهم مستعلى عليهم . وقيل : عن اعتراف . وقيل : عن قوة منكم وقهر وذل ونفاذ أمر فيهم ، كما تقول : اليد في هذا لفلان أي الأمر له . وقيل : عن إنعام عليهم بذلك ، لأن قبولها منهم عوضاً عن أرواحهم إنعام عليهم من قولهم له : عليَّ يد أيْ : نعمة . وقال القتبي : يقال أعطاه عن يدٍ وعن ظهر يد ، إذا أعطاه مبتدئاً غير مكافىء . وقيل : عن يد عن جماعة أي : لا يعفى عن ذي فضل منهم لفضله . واليد جماعة القوم ، يقال القوم على يد واحدة أي : هم مجتمعون . وقيل : عن يد أي عن غنى ، وقدرة فلا تؤخذ من الفقير . ولخص الزمخشري في ذلك فقال : أما أن يريد يد الآخذ فمعناه حتى يعلوها عن يد قاهرة مستولية وعن إنعام عليهم ، لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم . وإما أن يريد المعطى فالمعنى عن يدٍ مواتية غير ممتنعة ، لأنّ من أبي وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده إذا انقاد واحتجب . ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، أو عن يد إلى يد أي نقداً غير نسيئة ، أولاً مبعوثاً على يد آخر ولكن عن يد المعطى البريد الآخذ . وهم صاغرون جملة حالية أي : ذليلون حقيرون . وذكروا كيفيات في أخذها منهم وفي صغارهم لم تتعرض لتعيين شيء منها الآية . قال ابن عباس : يمشون بها ملببين . وقال سليمان الفارسي : لا يحمدون على إعطائهم . وقال عكرمة : يكون قائماً والآخذ جالساً . وقال الكلبي : يقال له عند دفعها أدّ الجزية ويصك في قفاه . وحكى البغوي : يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمته .
( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ ( بين تعالى لحاق اليهود والنصارى بأهل الشرك وإن اختلفت طرق الشرك في فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره ، لأنّ الشرك هو أنْ يتّخذ مع الله معبوداً ، بل عابد الوثن أخف كفراً من النصراني ، لأنه لا يعتقد أنّ الوثن خالق العالم ، والنصراني يقول بالحلول والاتحاد ، وقائل ذلك قوم من اليهود كانوا بالمدينة . قال ابن عباس : قالها أربعة من أحبارهم : سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف . وقيل : قاله فنحاص . وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا ، وتذم الطائفة أو تمدح بصدور ما يناسب ذلك من بعضهم . قيل : والدليل على أن هذا القول كان فيهم أنّ الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب ، وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى ، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم ، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض ، فأتاه

" صفحة رقم 32 "
جبريل فقال له : إلى أين تذهب ؟ قال : أطلب العلم ، فحفظه التوراة ، فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفاً فقالوا : ما جمع الله تعالى التوراة في صدره وهو غلام إلا أنه ابنه ، ونقلوا حكايات في ذلك . وظاهر قول النصارى المسيح ابن الله نبوّة النسل كما قالت العرب في الملائكة ، وكذا يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما عنهم : أنّ المسيح إله ، وأنه ابن الإله . ويقال : إن بعضهم يعتقدها بنوّة حنوّ ورحمة ، وهذا القول لم يظهر إلا بعد النبوّة المحمدية وظهور دلائل صدقها ، وبعد أن خالطوا المسلمين وناظروهم ، فرجعوا عما كانوا يعتقدونه في عيسى .
وقرأ عاصم ، والكسائي عزير منوناً على أنه عربي ، وباقي السبعة بغير تنوين ممنوع الصرف للعجمة والعلمية ، كعاذر وغيذار وعزرائيل ، وعلى كلتا القرائتين فابن خبر . وقال أبو عبيد : هو أعجمي خفيف فانصرف كنوح ولوط وهود . قيل : وليس قوله بمستقيم ، لأنه على أربعة أحرف وليس بمصغر ، إنما هو اسم أعجمي جاء على هيئة المصغر ، كسليمان جاء على هيئة عثمان وليس بمصغر . ومن زعم أنّ التنوين حذف من عزير لالتقاء الساكنين كقراءة : ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ( وقول الشاعر : إذا غطيف السلمى فرّا أو لأنّ ابناً صفة لعزير وقع بين علمين فحذف تنوينه ، والخبر محذوف أي : إلاا هنا ومعبودنا . فقوله متمحل ، لأنّ الذي أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوّة إلى الله تعالى . ومعنى بأفواههم : أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان ، وذلك أن القول الدال على معنى لفظة مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب ، وما لا معنى له يقال بالفم لا غير . وقيل : معنى بأفواهم إلزامهم المقالة والتأكيد ، كما قال : ) يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ( ) وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( ولا بد من حذف مضاف في قوله : يضاهون أي يضاهي قولهم والذين كفروا قدماؤهم فهو كفر قديم فيهم أو المشركون القائلون الملائكة بنات الله ، وهو قول الضحاك . أو الضمير عائد على النصارى والذين كفروا اليهود أي : يضاهي قول النصارى في دعواهم بنوّة عيسى قول اليهود في دعواهم بنوّة عزير ، واليهود أقدم من النصارى ، وهو قول قتادة . وقرأ عاصم وابن مصرف : يضاهئون بالهمز ، وباقي السبعة بغير همز . قاتلهم الله أنى يؤفكون : دعاء عليهم عام لأنواع الشر ، ومن قاتله الله فهو المقتول . وقال ابن عباس : معناه لعنهم الله . وقال ابان بن تغلب :
قاتلها الله تلحاني وقد علمت
إني لنفسي إفسادي وإصلاحي
وقال قتادة : قتلهم ، وذكر ابن الأنباري عاداهم . وقال النقاش : أصل قاتل الدعاء ، ثم كثر استعمالهم حتى قالوه على جهة التعجب في الخير والشر ، وهم لا يريدون الدعاء . وأنشد الأصمعي :
يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني
وأخبر الناس أني لا أباليها
وليس من باب المفاعلة بل من باب طارقت النعل وعاقبت اللص . أنّى يؤفكون : كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل على سبيل التعجبا .
2 ( ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَاهاً وَاحِداً لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِيأَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( ) ) 2
) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ( تعدت اتخذ هنا المفعولين ، والضمير عائد على اليهود والنصارى . قال حذيفة : لم يعبدوهم ولكنْ أحلوا لهم الحرام فأحلوه ، وحرموا عليهم الحلال فحرموه ، وقد جاء هذا مرفوعاً في الترمذي إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من حديث عدي بن حاتم . وقيل : كانوا يسجدون لهم كما يسجدون لله ، والسجود لا يكون إلا لله ، فأطلق عليهم ذلك مجازاً . وقيل : علم سبحانه أنهم يعتقدون الحلول ، وأنه سبحانه تجلى في بواطنهم فيسجدون له معتقدين أنه لله الذي حل فيهم وتجلى في سرائرهم ، فهؤلاء اتخذوهم أرباباً حقيقة . ومذهب الحلول فشا في هذه الأمة كثيراً ، وقالوا بالاتحاد . وأكثر ما فشا في مشائخ الصوفية والفقراء في وقتنا هذا ، وقد رأيت منهم جماعة يزعمون أنهم أكابر . وحكى أبو عبد الله الرازي أنه كان فاشياً في زمانه ، حكاه في تفسيره عن بعض المروزيين كان يقول لأصحابه : أنتم عبيدي ، وإذا خلا ببعض الحمقا من أتباعه ادعى الآلهية . وإذا كان هذا مشاهداً في هذه الأمة ، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السابقة انتهى وهو منقول من كتاب التحرير والتحبير ، وقد صنف شيخنا المحدث المتصوّف قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني كتاباً في هذه الطائفة ، فذكر فيهم الحسين بن منصور الحلاج ، وأبا عبد الله الشوذي كان بتلمسان ، وابراهيم بن يوسف بن محمد بن دهان عرف بابن المرأة ، وأبا عبد الله بن أحلى المتأمر بلورقة ، وأبا عبد الله بن العربي الطائي ، وعمر بن علي بن الفارض ، وعبد الحق بن سبعين ، وأبا الحسن الششتري من أصحابه ، وابن مطرف الأعمى من أصحاب ابن أحلى ، والصفيفير من أصحابه أيضاً ، والعفيف التلمساني . وذكر في كتابه من أحوالهم وكلامهم وأشعارهم ما يدل على هذا المذهب . وقتل السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ملك الأندلس الصفيفير بغرناطة وأنابها ، وقد رأيت العفيف الكوفي وأنشدني من شعره ، وكان يتكتم هذا المذهب . وكان بو عبد الله الأيكي شيخ خانكاه سعيد السعداء مخالطاً له خلطة كثيرة ، وكان متهماً بهذا المذهب ، وخرج التلمساني من القاهرة هارباً إلى الشام من القتل على الزندقة . وأما ملوك العبيدتين بالمغرب ومصر فإن أتباعهم يعتقدون فيهم الإلهية ، وأولهم عبيد الله المتلقب بالمهدي ، وأخرهم سليمان المتلقب بالعاضد . والأحبار علماء اليهود ، والرهبان عباد النصارى الذين زهدوا في الدنيا وانقطعوا عن الخلق في الصوامع . أخبر عن المجموع ، وعاد كل ما يناسبه . أي : اتخذ اليهود أحبارهم ، والنصارى رهبانهم . والمسيح ابن مريم عطف على رهبانهم .

" صفحة رقم 33 "
) وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَاهاً واحِداً لاَّ إِلَاهَ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا ، أي : أمروا في التوراة والإنجيل على ألسنة أنبيائهم . وقيل : في القرآن على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : في الكتب الثلاثة . وقيل : في الكتب المنزلة ، وعلى لسان جميع الأنبياء . وقال الزمخشري : أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام ، أنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة . وقيل : الضمير عائد على الأحبار والرهبان المتخذين أرباباً أي : وما أمر هؤلاء إلا ليعبدوا الله ويوحدوه ، فكيف يصح أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبدون ؟ وفي قوله : عما يشركون ، دلالة على إطلاق اسم الشرك على اليهود والنصارى

" صفحة رقم 34 "
) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( مثلهم ومثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ، ونور الله هداه الصادر عن القرآن والشرع المنبث ، فمن حيث سماه نوراً سمى محاولة إفساده إطفاء . وقالت فرقة : النور القرآن وكنى بالأفواه عن قلة حيلتهم وضعفها . أخبر أنهم يحاولون أمراً جسيماً بسعيٍ ضعيف ، فكان الإطفاء بنفخ الأفواه . ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها ، فهي لا تتجاوز الأفواه إلى فهم سامعٍ ، وناسب ذكر الإطفاء الأفواه . وقيل : إن الله لم يذكر قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلا وهو زور ، ومجيء إلا بعد ويأبى يدل على مستثنى منه محذوف ، لأنه فعل موجب ، والموجب لا تدخل معه إلا ، لا تقول كرهت إلا زيداً . وتقدير المستثنى منه : ويأبى الله كل شيء إلا أنْ يتم قاله الزجاج . وقال علي بن سليمان : جاز هذا في أبي ، لأنه منع وامتناع ، فضارعت النفي . وقال الكرماني : معنى أبى هنا لا يرضى إلا أن يتم نوره بدوام دينه إلى أن تقوم الساعة . وقال الفراء : دخلت إلا لأنّ في الكلام طرفاً من الجحد . وقال الزمخشري : أجرى أبى مجرى لم يرد . ألا ترى كيف قوبل يريدون أن يطفئوا بقوله : ويأبى الله ، وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره ؟
) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والهدى التوحيد ، أو القرآن ، أو بيان الفرائض أقوال ثلاثة . ودين الحق : الإسلام ) إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( والظاهر أن الضمير في ليظهره عائد على الرسول لأنه المحدّث عنه ، والدين هنا جنس أي : ليعليه على أهل الأديان كلهم ، فهو على حذف مضاف . فهو ( صلى الله عليه وسلم ) ) غلبت أمته اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب ، وغلبوا النصارى على بلاد الشام إلى ناحية الروم والمغرب ، وغلبوا المجوس على ملكهم ، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند ، وكذلك سائر الأديان . وقيل : المعنى يطلعه على شرائع الدين حتى لا يخفى عليه شيء منه ، فالدين هنا شرعه الذي جاء به . وقال الشافعي : قد أظهر الله رسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على الأديان بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق ، وما خالفه من الأديان باطل . وقيل : الضمير يعود على الدين ، فقال أبو هريرة ، والباقر ، وجابر بن عبد الله : إظهار الدِّين عند نزول عيسى ابن مريم ورجوع الأديان كلها إلى دين الإسلام ، كأنها ذهبت هذه الفرقة إلى إظهاره على أتم وجوهه حتى لا يبقى معه دين آخر . وقالت فرقة : ليجعله أعلاها وأظهرها ، وإن كان معه غيره كان دونه ، وهذا القول لا يحتاج معه إلى نزول عيسى ، بل كان هذا في صدر الأمة ، وهو كذلك باق إن شاء الله تعالى . وقال السدي : ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام وأدّى الخراج . وقيل : مخصوص بجزيرة العرب ، وقد حصل ذلك ما أبقى فيها أحداً من الكفار . وقيل : مخصوص بقرب الساعة ، فإنه إذ ذاك يرجع الناس إلى دين آبائهم . وقيل : ليظهره بالحجة والبيان . وضعف هذا القول لأنّ ذلك كان حاصلاً أول الأمر .
وقيل : نزلت على سبب وهو أنه كان لقريش رحلتان : رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام والعراقين ، فلما أسلموا انقطعت الرحلتان لمباينة الدين والدار ، فذكروا ذلك للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فنزلت هذه الآية . فالمعنى : ليظهره على الدين كله في بلاد الرحلتين ، وقد حصل هذا أسلم أهل اليمن وأهل الشام والعراقين . وفي الحديث : ( رويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ) قال بعض العلماء : ولذلك اتسع

" صفحة رقم 35 "
مجال الإسلام بالمشرق والمغرب ولم يتسع في الجنوب انتهى . ولا يسما اتساع الإسلام بالمشرق في زماننا ، فقلّ ما بقي فيه كافر ، بل أسلم معظم الترك التتار والخطا ، وكل من كان يناوىء الإسلام ، ودخلوا في دين الله أفواجاً والحمد لله . وخص المشركون هنا بالذكر لما كانت كراهة مختصة بظهور دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وخص الكافرون قبل لأنها كراهة إتمام نور الله في قديم الدهر ، وباقيه يعم الكفرة من لدن خلق الدنيا إلى انقراضها ، ووقعت الكراهة والإتمام مراراً كثيرة .
( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الاٌّ حْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالاٌّ رْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاٌّ رْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا مِنَ الاٌّ خِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الاٌّ خِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُم

" صفحة رقم 36 "
ْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاّوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَواةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ

" صفحة رقم 37 "
وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } )
التوبة : ( 34 ) يا أيها الذين . . . . .
أصل الكنز في اللغة الضم والجمع ، ولا يختص بالذهب والفضة . قال : لا درّ درّي إنْ أطعمت ضائعهم
قرف الجثى وعندي البر مكنوز
وقالوا : رجل مكتنز الخلق أي مجتمعه . وقال الراجز : على شديد لحمه كناز
بات ينزيني على أوفاز
ثم غلب استعماله في العرف على المدفون من الذهب والفضة . الكي : معروف وهو إلزاق الحار بعضو من البدن حتى يتمزق الجلد . والجبهة : معروفة وهي صفحة أعلى الوجه . والغاز : معروف وهو نقر في الجبل يمكن الاستخفاء فيه ، وقال ابن فارس : الغار الكهف ، والغار نبت طيب الريح ، والغار الجماعة ، والغاران البطن والفرج . ثبطه عن الأمر أبطأ به عنه ، وناقة ثبطة أي بطيئة السير . وأصل التثبيط التعويق ، وهو أن يحول بين الإنسان وبين أمر يريده بالتزهيد فيه . الزهق : الخروج بصعوبة ، قال الزجاج : بالكسر خروج الروح ، وقال الكسائي والمبرد : زهقت نفسه وزهقت لغتان ، والزهق الهلاك ، وزهق الحجر من تحت حافر الدابة إذا ندر ، والزهوق البعد ، والزهوق البئر البعيدة المهواة . الملجأ : مفعل من لجأ إلى كذا انحاز والتجأ وألجأته إلى كذا اضطررته . جمح نفر بإسراع من قولهم فرس جموح أي لا يرده اللجام إذا حمل . قال : سبوحاً جموحاً وإحضارها
كمعمعة السعف الموقد
وقال مهلهل : وقد جمحت جماحاً في دمائهم
حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا
وقال آخر :

" صفحة رقم 38 "
إذا جمحت نساؤكم إليه
اشظ كأنه مسد مغار
حمز قفر ، وقيل : بمعنى جمح . قال رؤبة : قاربت بين عنقي وجمزي اللمز قال الليث : هو كالغمز في الوجه . وقال الجوهري : العيب ، وأصله الإشارة بالعين ونحوها . وقال الأزهري : أصل اللمز الدفع ، لمزتُه دفعته . الغرم : أصله لزوم ما يشق ، والغرام العذاب الشاق ، وسمي العشق غراماً لكونه شاقاً ولازماً .
( الْمُشْرِكُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مّنَ الاْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ( لمّا ذكر أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، ذكر ما هو كثير منهم تنقيصاً من شأنهم وتحقيراً لهم ، وأنّ مثل هؤلاء لا ينبغي تعظيمهم ، فضلاً عن اتخاذهم أرباباً لما اشتملوا عليه من أكل المال بالباطل ، وصدهم عن سبيل الله . واندرجوا في عموم الذين يكنزون الذهب والفضة ، فجمعوا بين الخصلتين المذمومتين : أكل المال بالباطل ، وكنز المال إن ضنوا أنْ ينفقوها في سبيل الله ، وأكلهم المال بالباطل هو أخذهم من أموال اتباعهم ضرائب باسم الكنائس والبيع ، وغير ذلك مما يوهمونهم به أنّ النفقه فيه من الشرع والتقرب إلى الله ، وهم يحجبون تلك الأموال كالراهب الذي استخرج سلمان كنزه . وكما يأخذونه من الرشا في الأحكام ، كإيهام حماية دينهم ، وصدهم عن سبيل الله هو دين الإسلام واتباع الرسول . وقيل : الجور في الحكم ، ويحتمل أن يكون يصدون متعدياً وهو أبلغ في الذم ، ويحتمل أن يكون قاصراً .
وقرأ الجمهور : والذين بالواو ، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين . وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في خبره في قوله : فبشرهم . وقيل : والذين يكنزون من أوصاف الكثير من الأحبار والرهبان . وروي هذا القول عن عثمان ومعاوية . وقيل : كلام مبتدأ أراد به مانعي الزكاة من المسلمين ، وروي هذا القول عن السدي ، والظاهر العموم كما قلناه ، فيقرن بين الكانزين من المسلمين ، وبين المرتشين من الأحبار والرهبان تغليظاً ودلالة على أنهم سواء في التبشير بالعذاب . وروي العموم عن أبي ذر وغيره . وقرأ ابن مصرّف : الذين بغير واو ، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم ، ويحتمل الاستئناف والعموم . والظاهر ذمّ من يكنز ولا ينفق في سبيل الله . وما جاء في ذم من ترك صفراء وبيضاء ، وأنه يكوى بها إلى غير ذلك من أحاديث هو قبل أن تفرض الزكاة ، والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه ، فلذلك قال كثير من العلماء : الكنز هو المال الذي لا تؤدّى زكاته وإن كان على وجه الأرض ، فأما المال المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز ) وعن عمر أنه قال لرجل باع أرضاً أحرز مالك الذي أخذت أحفر له تحت فراش امرأتك فقال : أليس بكنز ، فقال : ( ما أدّى زكاته فليس بكنز ) . وعن ابن عمر وعكرمة والشعبي والسدّي ومالك وجمهور أهل العلم مثل ذلك . وقال علي : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما زاد عليها فهو كنز وإن أدّيت زكاته . وقال أبو ذر وجماعة معه : ما فضل من مال الرجل على حاجة نفسه فهو كنز . وهذان القولان يقتضيان أنّ الذم في جنس المال ، لا في منع الزكاة فقط . وقال عمر بن عبد العزيز : هي منسوخة بقوله : ( خذ من أموالهم صدقة ) فأتى فرض الزكاة على هذا كله ، كأنّ الآية تضمنت : لا تجمعوا مالاً فتعذبوا ، فنسخه التقرير الذي في قوله : خذ من أموالهم صدقة ، والله تعالى أكرم من أن يجمع على عبده مالاً من جهة أذن له فيها ويؤدّى عنه ما أوجبه عليه فيه ثم يعاقبه

" صفحة رقم 39 "
وكان كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة بن عبيد الله ، يقتنون الأموال ويتصرّفون فيها ، وما عابهم أحد ممن أعرض عن الفتنة ، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا ، والإقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه ، وما روي عن عليّ كلام في الأفضل .
وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر : يكنزون بضم الياء ، وخص بالذكر الذهب والفضة من بين سائر الأموال لأنهما قيم الأموال وأثمانها ، وهما لا يكنزان إلا عن فضلة وعن كثرة ، وممن كنزهما لم يعدم سائر أجناس الأموال ، وكنزهما يدل على ما سواهما . والضمير في : ولا ينفقونها ، عائد على الذهب ، لأن تأنيثه أشهر ، أو على الفضة . وحذف المعطوف في هذين القولين أو عليهما باعتبار أن تحتهما أنواعاً ، فروعي المعنى كقوله : ) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( أو لأنهما محتويان على جمع دنانير ودراهم ، أو على المكنوزات ، لدلالة يكنزون . أو على الأموال ، أو على النفقة وهي المصدر الدال عليه . ولا ينفقونها ، أو على الزكاة أي : ولا ينفقون زكاة الأموال أقوال . وقال كثير من المفسرين : عاد على أحدهما كقوله : ) وَإِذْ رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ( وليس مثله ، لأن هذا عطف بأو ، فحكمهما أنّ الضمير يعود على أحد المتعاطفين بخلاف الواو ، إلا أن ادّعى أنّ الواو في والفضة بمعنى أو ليمكن ، وهو خلاف الظاهر .
( يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ( يقال : حميت الحديدة في النار أي أوقدت عليها لتحمى ، وتقول : أحميتها أدخلتها لكي تحمي أيضاً فحميت . وقرأ الجمهور : يوم يحمى عليها بالياء ، أصله يحمى النار عليها ، فلما حذف المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأسند الفعل إلى الجملة والمجرور ، لم تلحق التاء كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير . وإذا حذفت القصة وقام الجار والمجرور مقامها قلت : رفع إلى الأمير ، ويدل على أنّ ذلك في الأصل مسند إلى النار ، قراءة الحسن وابن عامر في رواية تحمى بالتاء . وقيل : من قرأ بالياء ، فالمعنى : يحمى الوقود . ومن قرأ بالتاء فالمعنى : تحمى النار . والناصب ليوم أليم أو مضمر يفسره عذاب أي : يعذبون يوم يحمى . وقرأ أبو حيوة : فيكوى بالياء ، لما كان ما أسند إليه تأنيثه حقيقياً ، ووقع الفصل أيضاً ذكر ، وأدغم قوم جباههم وهي مروية عن أبي عمر وذلك في الإدغام الكبير ، كما أدغم مناسككم وما سلككم ، وخصت هذه المواضع بالكي . قيل : لأنه في الجهة أشنع ، وفي الجنب والظهر أوجع . وقيل : لأنها مجوفة فيصل إلى أجوافها الحر ، بخلاف اليد والرجل . وقيل : معناه يكوون على الجهات الثلاثة مقاديمهم ومآخرهم وجنوبهم . وقيل : لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم ، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت ظهورهم . وقال الزمخشري : لأنهم لم يطلبوا بأموالهم حيث لم ينفقوها في سبيل الله تعالى إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس وتقدّم ، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم يتلقون بالجميل ، ويحيون بالإكرام ، ويحتشمون ، ومن أكل طيبات يتضلعون منها ، وينفخون جنوبهم ، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم . لا يخطرون ببالهم قول

" صفحة رقم 40 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ذهب أهل الدثور بالأجور ) وقيل : لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه ، وتولوا بأركانهم ، وولوا ظهورهم . وأضمر القول في هذا ما كنزتم أي : يقال لهم وقت الكي والإشارة بهذا إلى المال المكنوز ، أو إشارة إلى الكي على حذف مضاف من ما كنزتم ، أي : هذا الكي نتيجة ما كنزتم ، أو ثمرة ما كنزتم . ومعنى لأنفسكم : لتنتفع به أنفسكم وتلتذ ، فصار عذاباً لكم ، وهذا القول توبيخ لهم . فذوقوا ما كنتم أي : وبال المال الذي كنتم تكنزون . ويجوز أن تكون ما مصدرية أي : وبال كونكم كانزين . وقرىء يكنزون بضم النون . وفي حديث أبي ذر : ( بشر الكانزين برصد يحمى عليها في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدييه وتزلزله وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم ) وفي حصحي البخاري وصحيح مسلم : ( الوعيد الشديد لمانع الزكاة ) .
( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ ( كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها ، فكانت إذا توالت عليهم الأربعة الحرم صعب عليها وأملقوا ، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام ، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم فنسأ الشهور للعرب ، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ، ثم ابنه قلع ، ثم ابنه أمية ، ثم ابنه عوف ، ثم ابنه جنادة بن عوف ، وعليه قام الإسلام . وكانت العرب إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا : أنسئنا شهراً أي : أخِّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر ، فيحل لهم المحرم ، فيغيرون فيه ويعيشون . ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدّة الأشهر الأربعة ، ويسمون ذلك الصفر المحرم ، ويسمون ربيعاً الأول صفراً ، وربيعاً الآخر ربيعاً الأول ، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون نسيئهم في المحرم الموضع لهم ، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم ، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم المحلل ، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر ، ثم استقبال السنة كما ذكرنا .
قال مجاهد : ثم كانوا يحجون في كل عام شهرين ولاء ، وبعد ذلك يبدلون فيحجون عامين ولاء ، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة ، وهم يسمونه ذا الحجة ثم حج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) سنة عشر في ذي الحجة حقيقة ، فذلك قوله : ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ) .
ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر أنواعاً من قبائح أهل الشرك وأهل الكتاب ، ذكر أيضاً نوعاً منه وهو تغيير العرب أحكام الله تعالى ، لأنه حكم في وقت بحكم خاص ، فإذا غيَّروا ذلك الوقت فقد غيروا حكم الله . والشهور : جمع كثرة لما كانت أزيد من عشرة ، بخلاف قوله : ( الحج أشهر معلومات ) فجاء بلفظ جمع القلة ، والمعنى : شهور السنة القمرية ، لأنهم كانوا يؤرخون بالسنة القمرية لا شمسية ، توارثوه عن اسماعيل وابراهيم . ومعنى عند الله : أي ، في حكمه وتقديره كما تقول : هذا عند أبي حنيفة . وقيل : التقدير عدة الشهور التي تسمى سنة واثنا عشر ، لأنهم جعلوا أشهر العام ثلاثة عشر . وقرأ ابن القعقاع وهبيرة عن حفص : بإسكان العين مع إثبات الألف ، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة ، كما

" صفحة رقم 41 "
روي : التقت حلقتا البطان بإثبات ألف حلقتا . وقرأ طلحة : بإسكان الشين ، وانتصب شهراً على التمييز المؤكد كقولك : عندي من الرجال عشرون رجلاً . ومعنى في كتاب الله قال بان عباس : هو اللوح المحفوظ . وقيل : في إيجاب الله . وقيل : في حكمه . وقيل : في القرآن ، لأن السنة المعتبرة في هذه الشريعة هي السنة القمرية ، وهذا الحكم في القرآن . قال تعالى : ) وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ ( وقال : ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( قال ابن عطية : أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ وغيره ، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه ، وليس بمعنى قضائه وتقديره ، لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض انتهى . وعند الله متعلق بعدة . وقال الحوفي : في كتاب الله متعلق بعدة ، يوم خلق السموات والأرض متعلق أيضاً بعدّة . وقال أبو علي : لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب الله بعدة ، لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو اثنا عشر شهراً ، ولأنه لا يجوز انتهى . وهو كلام صحيح . وقال أبو البقاء : عدة مصدر مثل العدد ، وفي كتاب الله صفة لاثنا عشر ، ويوم معمول لكتاب على أن يكون مصدراً لا جثة ، ويجوز أن يكون جثة ، ويكون العامل في يوم معنى الاستقرار انتهى . وقيل : انتصب يوم بفعل محذوف أي : كتب ذلك يوم خلق السموات ، ولما كانت أشياء توصف بكونها عند الله ولا يقال فيها أنها مكتوبة في كتاب الله كقوله : ) إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ( جمع هنا بينهما ، إذ لا تعارض والضمير في منها عائد على اثنا عشر لأنه أقرب ، لا على الشهور وهي في موضع الصفة لاثنا عشر ، وفي موضع الحال من ضمير في مستقر .
وأربعة حرم سميت حرماً لتحريم القتال فيها ، أو لتعظيم انتهاك المحارم فيها . وتسكين الراء لغة . وذكر ابن قتيبة عن بعضهم أنها الأشهر التي أجل المشركون فيها أن يسيحوا ، والصحيح : أنها رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم . وأولها عند كثير من العلماء رجب ، فيكون من سنتين . وقال قوم : أولها المحرم ، فيكون من سنة واحدة . ذلك الدين القيم أي : القضاء المستقيم ، قاله ابن عباس . وقيل : العدد الصحيح . وقيل : الشرع القويم ، إذ هو دين إبراهيم . فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، الضمير في فيهن عائد على الاثنا عشر شهراً ، قاله ابن عباس : والمعنى : لا تجعلوا حلالاً حراماً ، ولا حراماً حلالاً كفعل النسيء . ويؤيده كون الظلم منهياً عنه في كل وقت لا يختص بالأربع الحرم . وقال قتادة والفراء : هو عائد على الأربعة الحرم ، نهى عن المظالم فيها تشريفاً لها وتعظيماً بالتخصيص بالذكر ، وإن كانت المظالم منهياً عنها في كل زمان . وقال الزمخشري : فلا تظلموا فيهن أي : في الأشهر الحرم ، أي : تجعلوا حرامها حلالاً . وعن عطاء الخراساني : أحلت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله . وقيل : معناه لا تأثموا فيهن بياناً لعظم حرمتهن ، كما عظم أشهر الحج بقوله تعالى : ) فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ ( وإن كان ذلك محرماً في سائر الشهور انتهى . ويؤيد عوده على الأربعة الحرم كونها أقرب مذكور ، وكون الضمير جاء بلفظ فيهن ، ولم يجىء بلفظ فيها كما جاء منها أربعة حرم ، لأنه قد تقرر في علم العربية أن الهاء تكون لما زاد على العشرة تعامل في الضمير معاملة الواحدة المؤنثة فتقول : الجذوع انكسرت ، وأنّ النون والهاء والنون للعشرة فما دونها إلى الثلاثة تقول : الأجذاع انكسرن ، هذا هو الصحيح . وقد يعكس قليلاً فتقول : الجذوع انكسرن ، والاجذاع انكسرت ، والظلم بالمعاصي أو بالنسيء في تحليل شهر محرم وتحريم شهر حلال ، أو بالبداءة بالقتال ، أو بترك المحارم لعددكم أقوال . وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو من المفعول ، ومعناه جميعاً . ولا يثنى ، ولا يجمع ، ولا تدخله أل ، ولا يتصرف فيها بغير الحال . وتقدم بسط الكلام فيها في قوله : ) ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّةً ( فأغنى عن إعادته . والمعية بالنصر والتأييد ، وفي ضمنه الأمر بالتقوى والحث عليها .
( إِنَّمَا النَّسِىء زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ (

" صفحة رقم 42 "
( سقط : زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ) يقال : نسأه وأنسأه إذا أخَّره ، حكاه الكسائي . قال الجوهري وأبو حاتم : النسيء فعيل بمعنى مفعول ، من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته ، ثم حول إلى نسيء كما حول مقتول إلى قتيل . ورجل ناسىء ، وقوم نسأة ، مثل فاسق وفسقة انتهى . وقيل : النسيء مصدر من أنسأ ، كالنذير من أنذر ، والنكير من أنكر ، وهو ظاهر قول الزمخشري لأنه قال : النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر . وقال الطبري : النسيء بالهمز معناه الزيادة انتهى . فإذا قلت : أنسأ الله ؛ الله أجله بمعنى أخَّر ، لزم من ذلك الزيادة في الأجل ، فليس النسيء مرادفاً للزيادة ، بل قد يكون منفرداً عنها في بعض المواضع . وإذا كان النسيء مصدراً كان الإخبار عنه بمصدر واضحاً ، وإذا كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمار إما في النسيء أي : إن نسأ النسيء ، أو في زيادة أي : ذو زيادة . وبتقدير هذا الإضمار يرد على ما يرد على قوله . ولا يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول ، لأنه يكون المعنى : إنما المؤخر زيادة ، والمؤخر الشهر ، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر .
وقرأ الجمهور : النسيء مهموز على وزن فعيل . وقرأ الزهري وحميد وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني : النسيّ بتشديد الياء من غير همز ، وروى ذلك عن ابن كثير سهل الهمزة بإبدالها ياء ، وأدغم الياء فيها ، كما فعلوا في نبىء وخطيئة فقالوا : نبي وخطية بالإبدال والإدغام . وفي كتاب اللوامح قرأ جعفر بن محمد والزهري بإسكان السين . وقرأ مجاهد : النسوء على وزن فعول بفتح الفاء ، وهو التأخير . ورويت هذه عن طلحة والسلمي . وقول أبي وائل : إنّ النسيء رجل من بني كنانة قول ضعيف . وقول الشاعر : أنسنا الناسئين على معد
شهور الحل نجعلها حراما
وقال آخر : نسؤ الشهور بها وكانوا أهلها
من قبلكم والعز لم يتحول
وأخبر أنّ النسيء زيادة في الكفر أي : جاءت مع كفرهم بالله ، لأن الكافر إذا أحدث معصية ازداد كفراً . قال تعالى : ) فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( كما أنّ المؤمن إذا أحدث طاعة ازداد إيماناً . قال تعالى : ) فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( وأعاد الضمير في به على النسيء ، لا على لفظ زيادة . وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص : يضل مبنياً للمفعول ، وهو مناسب لقوله : زين ، وباقي السبعة مبنياً للفاعل . وابن مسعود في رواية ، والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون ويعقوب : يضل أي الله ، أي : يضل به الذين كفروا اتباعهم . ورويت هذه القراءة عن : الحسن ، والأعمش ، وأبي عمرو ، وأبي رجاء . وقرأ أبو رجاء : يضل بفتحتين من ضللت بكسر اللام ، أضلَّ بفتح الضاد منقولاً ، فتحها من فتحة اللام إذ الأصل أضلل . وقرأ النخعي ومحبوب عن الحسن : نُضل بالنون المضمومة وكسر الضاد ، أي : نضل نحن . ومعنى تحريمهم عاماً وتحليلهم عاماً : لا يرادان ذلك ، كان مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام . وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم صفراً بدلاً من المحرم ، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة ، فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقيقته وأحل صفر ومشت الشهور مستقيمة ، وإنَّ هذه كانت حال القوم .
وتقدم لنا أنّ الذي انتدب أولاً للنسيء القلمس . وقال ابن عباس

" صفحة رقم 43 "
وقتادة والضحاك : الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة وكانوا ثلاثة . وعن ابن عباس : إنّ أول من فعل ذلك عمرو بن لحيّ ، وهو أول من سيب السوائب ، وغيَّر دين إبراهيم . وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له : نعيم بن ثعلبة . والمواطأة : الموافقة ، أي ليوافقوا العدة التي حرم الله وهي الأربعة ولا يخالفونها ، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أصل الواجبين . والواجبان هما العدد الذي هو أربعة في أشخاص أشهر معلومة وهي : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم كما تقدم . ويقال : تواطؤا على كذا إذا اجتمعوا عليه ، كان كل واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه . ومنه الإيطاء في الشعر ، وهو أن يأتي في الشعر بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد ، وهو عيب إنْ تقارب . واللام في ليواطئوا متعلقة بقوله : ويحرمونه ، وذلك على طريق الأعمال . ومَنن قال : إنه متعلق بيحلونه ويحرمونه معاً ، فإنه يريد من حيث المعنى ، لا من حيث الإعراب . قال ابن عطية : ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد ، فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها ، بمثابة أن يفطر رمضان ، ويصوم شهراً من السنة بغير مرض أو سفر انتهى . وقرأ الأعمش وأبو جعفر : ليواطيوا بالياء المضمومة لما أبدل من الهمزة ياء عامل البدل معاملة المبدل منه ، والأصح ضم الطاء وحذف الياء لأنه أخلص الهمزة ياء خالصة عند التخفيف ، فكنت لاستثقال الضمة عليها ، وذهبت لالتقاء الساكنين ، وبدلت كسرة الطاء ضمة لأجل الواو التي هي ضمير الجماعة كما قيل في رضيوا رضوا . وجاء عن الزهري : ليواطيوا بتشديد الياء ، هكذا الترجمة عنه . قال صاحب اللوامح : فإن لم يرد به شدة بيان الياء وتخليصها من الهمز دون التضعيف ، فلا أعرف وجهه انتهى . فيحلوا ما حرم الله أي بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله تعالى من القتال ، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها . وقرأ الجمهور : زين لهم سوء أعمالهم مبنياً للمفعول . والأولى أن يكون المنسوب إليه التزيين الشيطان ، لأن ما أخبر به عنهم سيق في المبالغة في معرض الذم . وقرأ زيد بن علي : زيِّن لهم سوء بفتح الزاي والياء والهمزة ، والأولى أن يكون زين لهم ذلك الفعل سوء أعمالهم . قال الزمخشري : خذلهم الله تعالى فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة . والله لا يهدي أي : لا يلطف بهم ، بل يخذلهم انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال . وقال أبو علي : لا يهديهم إلى طريق الجنة والثواب . وقال الأصم : لا يحكم لهم بالهداية . وقيل : لا يفعل بهم خيراً ، والعرب تسمي كل خير هدى ، وكل شر ضلالة انتهى . وهذا إخبار عمن سبق في علمه أنهم لا يهتدون .
( الْكَافِرِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا مِنَ الاْخِرَةِ ( : لما أمر الله رسوله بغزاة تبوك ، وكان زمان جدب وحر شديد وقد طابت الثمار ، عظم ذك على الناس وأحبوا المقام ، نزلت عتاباً على من تخلف عن هذه الغزوة ، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام ، غزا فيها الروم في عشرين ألفاً من راكب وراجل ، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون . وخص الثلاثة بالعتاب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة ، إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم ، وكان تخلفهم لغير علة حسبما يأتي إن شاء الله تعالى . ولما شرح معاتب الكفار رغب في مقابلتهم . وما لكم استفهام معناه الإنكار والتقريع ، وبني قيل للمفعول ، والقائل هو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يذكر إغلاظاً ومخاشنة لهم وصوناً لذكره . إذ أخلد إلى الهوينا والدعة : من أخلد وخالف أمره ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقرأ الأعمش : تثاقلتم وهو أصل قراءة الجمهور اثاقلتم ، وهو ماض بمعنى المضارع ، وهو في موضع الحال ، وهو عامل في إذ أي : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا . وقال أبو البقاء : الماضي هنا بمعنى

" صفحة رقم 44 "
المضارع أي : ما لكم تتثاقلون ، وموضعه نصب . أي : أيُّ شيء لكم في التثاقل ، أو في موضع جر على مذهب الخليل انتهى . وهذا ليس بجيد ، لأنه يلزم منه حذف أنْ ، لأنه لا ينسبك مصدر إلا من حرف مصدري والفعل ، وحذف أنْ في نحو هذا قليل جداً أو ضرورة . وإذا كان التقدير في التثاقل فلا يمكن عمله في إذا ، لأن معمول المصدر الموصول لا يتقدم عليه فيكون الناصب لإذا ، والمتعلق به في التثاقل ما هو معلوم لكم الواقع خبراً لما . وقرىء : اثاقلتم على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ ، ولا يمكن أن يعمل في إذ ما بعد حرف الاستفهام . فقال الزمخشري : يعمل فيه ما دل عليه ، أو ما في ما لكم من معنى الفعل ، كأنه قال : ما تصنعون إذا قيل لكم ، كما تعمله في الحال إذا قلت : ما لك قائماً . والأظهر أن يكون التقدير : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا ، وحذف لدلالة اثاقلتم عليه . ومعنى اثاقلتم إلى الأرض : ملتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمارها قاله مجاهد وكرهتم مشاق السفر . وقيل ملتم إلى الإقامة بأرضكم قاله : الزجاج . ولما ضمن معنى الميل والإخلاد عدى بإلى . وفي قوله : أرضيتم ، نوع من الإنكار والتعجب أي : أرضيتم بالنعيم العاجل في الدنيا الزائل بدل النعيم الباقي . ومِن تظافرت أقوال المفسرين على أنها بمعنى بدل أي : بدل الآخرة كقوله : ) لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً ( أي بدلاً ، ومنه قول الشاعر : فليت لنا من ماء زمزم شربة
مبردة باتت على طهيان
أي بدلاً من ماء زمزم ، والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء تعلق فيه أوعية الماء حتى تبرد . وأصحابنا لا يثبتون أن تكون هنُّ للبدل . ويتعلق في الآخرة بمحذوف التقدير : فما متاع الحياة الدنيا محسوباً في نعيم الآخرة . وقال الحوفي : في الآخر متعلق بقليل ، وقليل خبر الابتداء . وصلح أن يعمل في الظرف مقدماً ، لأنّ رائحة الفعل تعمل في الظرف . ولو قلت : ما زيد عمراً إلا يضرب ، لم يجز .
( إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ( : هذا سخط على المتثاقلين عظيم ، حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين ، وأنه يهلكهم ويستبدل قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع ، وأنه غني عنهم في نصرة دينه ، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً . وقيل : يعذبكم بإمساك المطر عنكم . وروي عن ابن عباس أنه قال : استنفر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قبيلة فقعدت ، فأمسك الله عنها المطر وعذبها بها به . والمستبدل الموعود بهم ، قال : جماعة أهل اليمن . وقال ابن جبير : أبناء فارس . وقال ابن عباس : هم التابعون ، والظاهر مستغن عن التخصيص . وقال الأصم : معناه أنه تعالى يخرج رسوله من بين أظهرهم إلى المدينة . قال القاضي : وهذا ضعيف ، لأنّ اللفظ لا دلالة فيه على أنه ينتقل من المدينة إلى غيرها ، ولا يمتنع أن يظهر في المدينة أقواماً يعينونه على الغزو ، ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضاً حال كونه هناك . والضمير في : ولا تضروه شيئاً ، عائد على الله تعالى أي : ولا تضروا دينه شيئاً . وقيل : على الرسول ، لأنه تعالى قد عصمه ووعده بالنصر ، ووعده كائن لا محالة . ولما رتب على انتفاء نفرهم التعذيب والاستبدال وانتفاء الضرر ، أخبر تعالى أنه على كل شيء تتعلق إرادته به قدير من التعذيب والتغيير وغير ذلك .
( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ ( : ألا تنصروه فيه انتفاء النصر بأيّ طريق كان من نفر أو

" صفحة رقم 45 "
غيره . وجواب الشرط محذوف تفسيره : فسينصره ، ويدل عليه فقد نصره الله أي : ينصره في المستقبل كما نصره في الماضي . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف يكون قوله تعالى : فقد نصره الله جواباً للشرط ؟ ( قلت ) : فيه وجهان : أحدهما : فسينصره ، وذكر معنى ما قدمناه . والثاني : أنه تعالى أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت فلم يخذل من بعده انتهى . وهذا لا يظهر منه جواب الشرط ، لأنّ إيجاب النصرة له أمر سبق ، والماضي لا يترتب على المستقبل ، فالذي يظهر الوجه الأول . ومعنى إخراج الذين كفروا إياه : فعلهم به ما يؤدي إلى الخروج ، والإشارة إلى خروج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من مكة إلى المدينة . ونسب الإخراج إليهم مجازاً ، كما نسب في قوله : ) الَّتِى أَخْرَجَتْكَ ( وقصة خروج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأبي بكر مذكورة في السير . وانتصب ثاني اثنين على الحال أي : أحد اثنين وهما : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأبو بكر رضي الله عنه .
وروي أنه لما أمر بالخروج قال لجبريل عليه السلام : ( من يخرج معي ؟ ) قال : أبو بكر . وقال الليث : ما صحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أبي بكر . وقال سفيان بن عيينة : خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : ألا تنصروه . قال ابن عطية : بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط ، وهذه الآية منوهة بقدر أبي بكر وتقدمه وسابقته في الإسلام . وفي هذه الآية ترغيبهم في الجهاد ونصرة دين الله ، إذ بين فيها أنّ الله ينصره كما نصره ، إذ كان في الغار وليس معه فيه أحد سوى أبي بكر . وقرأت فرقة : ثاني اثنين بسكون ياء ثاني . قال ابن جني : حكاها أبو عمرو ، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف . والغار : نقب في أعلى ثور ، وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة ، مكث فيه ثلاثاً . هذ هما : بدل . وإذ يقول : بدل ثان . وقال العلماء : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله تعالى ، وليس ذلك لسائر الصاحبة . وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فنهاه الرسول تسكيناً لقلبه ، وأخبره بقوله : إن الله معنا ، يعني : بالمعونة والنصر . وقال أبو بكر : يا رسول الله إنْ قتلتُ فأنا رجل واحد ، وإنْ قتلْتَ هلكت الأمة وذهب دين الله ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ ) وقال أبو بكر رضي الله عنه : قال النبي ولم يجزع يوقرني
ونحن في سدف من ظلمة الغار
لا تخش شيئاً فإن الله ثالثنا
وقد تكفل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوارده
كيد الشياطين قد كادت لكفار
والله مهلكهم طراً بما صنعوا
وجاعل المنتهى منهم إلى النار
) فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ ( قال ابن عباس : السكينة الرحمة . وقال قتادة في آخرين : الوقار . وقال ابن قتيبة : الطمأنينة . وهذه الأقوال متقاربة . والضمير في عليه عائد على صاحبه ، قاله حبيب بن أبي ثابت ، أو على الرسول قاله الجمهور ، أو عليهما . وأفرده لتلازمهما ، ويؤيده أنّ في مصحف حفصة : فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما . والجنود : الملائكة يوم بدر ، والأحزاب

" صفحة رقم 46 "
وحنين . وقيل : ذلك الوقت يلقون البشارة في قلبه ، ويصرفون وجوه الكفار عنه . والظاهر أن الضمير عليه عائد على أبي بكر ، لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان ثابت الجأش ، ولذلك قال : لا تحزن إن الله معنا . وأنّ الضمير في وأيده عائد على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) كما جاء : ) لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ ( يعني الرسول ، وتسبحوه : يعني الله تعالى . وقال ابن عطية : والسكينة عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم ، والخصائص التي لا تصلح إلا لهم كقوله : ) فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ ( ويحتمل أن يكون قوله : فأنزل الله سكينته إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح ، لا أن يكون هذا يختص بقصة الغار . وكلمة الذين كفروا هي الشرك ، وهي مقهورة . وكلمة الله : هي التوحيد ، وهي ظاهرة . هذا قول الأكثرين . وعن ابن عباس : كلمة الكافرين ما قرروا بينهم من الكيد به ليقتلوه ، وكلمة الله : أنه ناصره . وقيل : كلمة الله لا إله إلا الله ، وكلمة الكفارقولهم في الحرب : يا لبني فلان ، ويا لفلان . وقيل : كلمة الله قوله تعالى : ) لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( وكلمة الذين كفروا قولهم في الحرب : أعل هبل ، يعنون صنمهم الأكبر . وقرأ مجاهد وأيده والجمهور وأيده بتشديد الياء . وقرىء : وكلمة الله بالنصب أي : وجعل . وقراءة الجمهور بالرفع أثبت في الإخبار . وعن أنس رأيت في مصحف أبيّ : وجعل كلمته هي العلياء ، وناسب الوصف بالعزة الدالة على القهر والغلبة ، والحكمة الدالة على ما يصنع مع أنبيائه وأوليائه ، ومن عاداهم من إعزاز دينه وإخماد الكفر .
( انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( : لما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وضرب له من الأمثال ما ضرب ، أتبعه بهذا الأمر الجزم . والمعنى : انفروا على الوصف الذي يحف عليكم فيه الجهاد ، أو على الوصف الذي يثقل . والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ، ومن يمكنه بصعوة ب ، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا . وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : أعليّ أنْ أنفر ؟ قال : نعم ، حتى نزلت : ) لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( وذكر المفسرون من معاني الخفة والثقل أشياء لا على وجه التخصيص بعضها دون بعض ، وإنما يحمل ذلك على التمثيل لا على الحصر . قال الحسن وعكرمة ومجاهد : شباباً وشيوخاً . وقال أبو صالح : أغنياء وفقراء في اليسر والعسر . وقال الأوزاعي : ركباناً ومشاة . وقيل : عكسه . وقال زيد بن أسلم : عزباناً ومتزوجين . وقال جويبر : أصحاء ومرضى . وقال جماعة : خفافاً من السلاح أي مقلين فيه ، وثقالاً أي مستكثرين منه . وقال الحكم بن عيينة وزيد بن علي : خفافاً من الإشغال وثقالاً بها . وقال ابن عباس : خفافاً من العيال ، وثقالاً بهم . وحكى التبريزي : خفافاً من الأتباع والحاشية ، ثقالاً بهم . وقال علي بن عيسى : هو من خفة اليقين وثقله عند الكراهة . وحكى الماوردي : خفافاً إلى الطاعة ، وثقالاً عن المخالفة . وحكى صاحب الفتيان : خفافاً إلى المبارزة ، وثقالاً في المصابرة . وحكى أيضاً : خفافاً بالمسارعة والمبادرة ، وثقالاً بعد التروي والتفكر . وقال ابن زيد : وقال ابن زيد : ذوي صنعة وهو الثقيل ، وغير ذوي صنعة وهو الخفيف . وحكى النقاش : شجعاناً وجبناً . وقيل : مهازيل وسماتاً . وقيل : سباقاً إلى الحرب كالطليعة وهو مقدم الجيش ، والثقال الجيش بأسره . وقال ابن عباس وقتادة : النشيط والكسلان . والجمهور على أن الأمر موقوف على فرض الكفاية ، ولم يقصد به فرض الأعيان . وقال الحسن وعكرمة : هو فرض على المؤمنين عنى به فرض الأعيان في تلك المدة ، ثم نسخ بقوله : ) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً ( وانتصب خفافاً وثقالاً على الحال . وذكر بأموالكم وأنفسكم إذ ذلك وصف لأكمل ما يكون من

" صفحة رقم 47 "
الجهاد وأنفعه عند الله ، فحض على كمال الأوصاف وقدِّمت الأموال إذ هي أول مصرف وقت التجهيز ، وذكر ما المجاهد فيه وهو سبيل الله . والخيرية هي في الدنيا بغلبة العدو ، ووراثة الأرض ، وفي الآخرة بالثواب ورضوان الله . وقد غزا أبو طلحة حتى غزا في البحر ومات فيه ، وغزا المقداد على ضخامته وسمنه ، وسعيد بن المسيب وقد ذهبت إحدى عينيه ، وابن أم مكتوم مع كونه أعمى .
( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ ( : أي لو كان ما دعوا إليه غنماً قريباً سهل المنال ، وسفراً قاصداً وسطاً مقارباً . وهذه الآية في قصة تبوك حين استنفر المؤمنين فنفروا ، واعتذر منهم فريق لأصحابه ، لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة . وليس قوله : ) الْكَافِرِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ ( خطاباً للمنافقين خاصة ، بل هو عام . واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة ، فابتدأ تعالى بذكر المنافقين وكشف ضمائرهم . لاتبعوك : لبادروا إليه ، لا لوجه الله ، ولا لظهور كلمته ، ولكن بعدت عليهم الشقة أي : المسافة الطويلة في غزو الرّوم . والشّقة بالضم من الثياب ، والشقة أيضاً السفر البعيد ، وربما قالوه بالكسر قاله : الجوهري . وقال الزجاج : الشقة الغاية التي تقصد . وقال ابن عيسى : الشقة القطعة من الأرض يشق ركوبها . وقال ابن فارس : الشقة المسير إلى أرض بعيدة ، واشتقاقها منه الشق ، أو من المشقة . وقرأ عيسى بن عمر : بعدت عليهم الشِّقِة بكسر العين والشين ، وافقه الأعرج في بعدت . وقال أبو حاتم : إنها لغة بني تميم في اللفظين انتهى . وحكى الكسائي : شقة وشقة . وسيحلفون : أي المنافقون ، وهذا إخبار بغيب . قال الزمخشري في قوله : وسيحلفون بالله ، ما نصه بالله متعلق بسيحلفون ، أو هو من كلامهم . والقول مراد في الوجهين أي : سيحلفون متخلصين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين ، يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ، أو وسيحلفون بالله يقولون لو استطعنا . وقوله : لخرجنا سدَّ مسدَّ جواب القسم . ولو جميعاً والإخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم ، وقد كان من جملة المعجزات . ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة ، واستطاعة الأبدان ، كأنهم تمارضوا انتهى . وما ذهب إليه من أنّ قوله : لخرجنا ، سدَّ مسدَّ جواب القسم . ولو جميعاً ليس بجيد ، بل للنحويين في هذا مذهبان : أحدهما : إن لخرجنا هو جواب القسم ، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم على الشرط ، وهذا اختيار أبي الحسن بن عصفور . والآخران لخرجنا هو جواب لو ، وجواب القسم هو لو وجوابها ، وهذا اختيار ابن مالك . إنْ لخرجنا يسد مسدهما ، فلا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك . ويحتمل أن يتأوّل كلامه على أنه لما حذف جواب لو ، ودل عليه جواب القسم جعل ، كأنه سدَّ مسدَّ جواب القسم وجواب لو جميعاً .
وقرأ الأعمش وزيد بن علي : لوُ استطعنا بضم الواو ، وفرّ من ثقل الكسرة على الواو وشبهها بواو الجمع عند تحريكها لالتقاء الساكنين . وقرأ الحسن : بفتحها كمتا جاء : ) اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ ( بالأوجه الثلاثة يهلكون أنفسهم بالحلف الكاذب ، أي : يوقعونها في الهلاك به . والظاهر أنها جملة استئناف إخبار منه تعالى . وقال الزمخشري : يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلاً من سيحلفون ، أو حالاً بمعنى مهلكين . والمعنى : أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب ، وما يخلفون عليه من التخلف . ويحتمل أن يكون حالاً من قوله : لخرجنا أي ، لخرجنا معكم وإنْ أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما يحملها من المسير في تلك الشقة ، وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم . ألا ترى أنه لو قيل : سيلحفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً ؟ يقال : حلف بالله ليفعلن ولأفعلن ، فالغيبة على حكم الإخبار ، والتكلم على الحكام انتهى . أما كون يهلكون بدلاً من سيحلفون فبعيد ، لأن الإهلاك ليس مرادفاً للحلف ، ولا هو نوع من الحلف ، ولا يجوز أنْ يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعاً منه . وأما

" صفحة رقم 48 "
كونه حالاً من قوله : لخرجنا ، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز ، لأن قوله لخرجنا فيه ضمير التكلم ، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم . فلو كان حالاً من ضمير لخرجنا لكان التركيب : نهلكُ أنفسنا أي : مهلكي أنفسنا . وأما قياسه ذلك على حلف بالله ليفعلنَّ ولأفعلنَّ فليس بصحيح ، لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منهم إلى ضمير المتكلم ، لو قلت : حلف زيد ليفعلن وأنا قائم ، على أن يكون وأنا قائم حالاً من ضمير ليفعلن لم يجز ، وكذا عكسه نحو : حلف زيد لأفعلن يقوم ، تريد قائماً لم يجز . وأما قوله : وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فهي مغالطة ليس مخبراً عنهم بقوله : لو استطعنا لخرجنا معكم ، بل هو حاك لفظ قولهم . ثم قال : ألا ترى لو قيل : لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً إلى آخره كلام صحيح ، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم ، بل حكاية . والحال من جملة كلامهم المحكي ، فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل . لو قلت : قال زيد : خرجت يضرب خالداً ، تريد اضرب خالداً ، لم يجز . ولو قلت : قالت هند : خرج زيد أضرب خالداً ، تريد خرج زيد ضارباً خالداً ، لم يجز .
( عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( : قال ابن عطية : هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق . واستأذنوا دون اعتذار منهم : عبد الله بن أبيّ ، والجد بن قيس ، ورفاعة بن التابوت ، ومن اتبعهم . فقال بعضهم : ائذن لي ولا تفتني . وقال بعضهم : ائذن لنا في الإقامة ، فأذن لهم استبقاءً منه عليهم ، وأخذا بالأسهل من الأمور ، وتوكلا على الله . قال مجاهد : قال بعضهم : نستأذنه ، فإن أذن في القعود قعدنا ، وإن لم يأذن فعدنا ، فنزلت الآية في ذلك انتهى . وقال أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة النجوي الداودي المنبوذ بنفطويه : ذهب ناس إلى أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) معاتب بهذه الآية ، وحاشاه من ذلك ، بل كان له أن يفعل وأن لا يفعل حتى ينزل عليه الوحي كما قال : ) لَوْ ( لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل . وقد قال الله تعالى : ) تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء ( لأنه كان له أن يفعل ما يشاء مما لم ينزل عليه فيه وحي . واستأذنه المخلفون في التخلف واعتذروا ، اختار أيسر الأمرين تكرماً وتفضلاً منه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فأبان الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا للنفاق الذي في قلوبهم ، وأنهم كاذبون في إظهار الطاعة والمشاورة ، فعفا الله عنك عنده افتتاح كلام أعلمه الله به ، أنه لا حرج عليه فيما فعله من الإذن ، وليس هو عفواً عن ذنب ، إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه ترك الإذن لهم كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق ) وما وجبتا قط ومعناه : ترك أن يلزمكم ذلك انتهى . ووافقه عليه قوم فقالوا : ذكر العفو هنا لم يكن عن تقدم ذنب ، وإنما هو استفتاح كلام جرت عادة العربان تخاطب بمثله لمن تعظمه وترفع من قدره ، يقصدون بذلك الدعاء له فيقولون : أصلح الله الأمير كان كذا وكذا ، فعلى هذا صيغته صيغة الخبر ، ومعناه الدعاء انتهى .
ولم ولهم متعلقان بأذنت ، لكنه اختلف مدلول اللامين ، إذ لام لم للتعليل ، ولام لهم للتبليغ ، فجاز ذلك لاختلاف معنييهما . ومتعلق الإذن غير مذكور ، فما قدمناه يدل على أنه القعود أي : لم أذنت لهم في القعود والتخلف عن الغزو حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له . وقيل : متعلق الإذن هو الخروج معه للغزو ، لما ترتب على خروجهم من المفاسد ، لأنهم كانوا عيناً للكفار على المسلمين . ويدل عليه قوله : ) وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ( وكانوا يخذلون المؤمنين ويتمنون أن تكون الدائرة عليهم فقيل : لم أذنت لهم في إخراجهم وهم على هذه الحالة السيئة ؟ وبيّن أنّ خروجهم معه ليس مصلحة بقوله : ) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ). وحتى غاية لما تضمنه الاستفهام أي : ما كان أن تأذن لهم حتى يتبين من له العذر ، هكذا قدره الحوفي . وقال أبو البقاء : حتى يتبين متعلق

" صفحة رقم 49 "
بمحذوف دل عليه الكلام تقديره : هلاّ أخرتهم إلى أن يتبين أو ليتبين . وقوله : لم أذنت لهم يدل على المحذوف . ولا يجوز أن تتعلق حتى بأذنت ، لأن ذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية ، أو لأجل التبيين ، وهذا لا يعاتب عليه انتهى . وكلام الزمخشري في تفسير قوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم ، مما يجب اطراحه ، فضلاً عن أن يذكر فيردّ عليه . وقوله : الذين صدقوا أي : في استئذانك . وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك . وتعلم الكاذبين : تريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهم كذبة ، وقد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن . وقال الطبري : حتى نعلم الصادقين في أنّ لهم عذراً ، ونعلم الكاذبين في أنْ الأعذار لهم . وقال قتادة : نزلت بعد هذه الآية آية النور ، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذنْ لمن شئت منهم . وهذا غلط ، لأنّ النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين الرسول في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات ، فأباح الله أن يأذن ، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى .
( لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( : قال ابن عباس : لا يستأذنك أي بعد غزوة تبوك . وقال الجمهور : ليس كذلك ، لأنّ ما قبل هذه الآية وما بعدها ورد في قصة تبوك ، والظاهر أن متعلق الاستئذان هو أن يجاهدوا أي : ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار لا يستأذنون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أبداً ، ويقولون : لنجاهدن معه بأموالنا وأنفسنا . وقيل : التقدير لا يستأذنك المؤمنون في الخروج ولا القعود كراهة أن يجاهدوا ، بل إذا أمرت بشيء ابتدروا إليه ، وكان الاستئذان في ذلك الوقت علامة على النفاق . وقوله : والله عليم بالمتقين ، شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين ، وعدة لهم بأجزل الثواب .
( إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( : هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً . ومعنى ارتابت : شكت . ويتردّدون : يتحيرون ، لا يتجه لهم هدى فتارة يخطر لهم صحة أمر الرسول ، وتارة يخطر لهم خلاف ذلك .
( وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( قال ابن عباس : عدّة من الزاد والماء والراحلة ، لأنّ سفرهم بعيد في زمان حر شديد . وفي تركهم العدّة دليل على أنهم أرادوا التخلف . وقال قوم : كانوا قادرين على تحصيل العدّة والإهبة . وروى الضحاك عن ابن عباس : العدّة النية الخالصة في الجهاد . وحكى الطبري : كل ما يعد للقتال من الزاد والسلاح . وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية : عُدَّ بضم العين من غير تاء ، والفراء يقول : تسقط التاء للإضافة ، وجعل من ذلك وإقام الصلاة أي وإقامة الصلاة . وورد ذلك في عدة أبيات من لسان العرب ، ولكن لا يقيس ذلك ، إنما نقف فيه مع مورد السماع . قال صاحب اللوامح : لما أضاف جعل الكناية تائبة عن التاء فأسقطها ، وذلك لأنّ العد بغير تاء ، ولا تقديرها هو البثر الذي يخرج في الوجه . وقال أبو حاتم : هو جمع عدة كبرة وبر ودرة ودر ، الوجه فيه عدد ، ولكن لا يوافق خط المصحف . وقرأ ذر بن حبيش وإبان عن عاصم : عده بكسر العين ، وهاء إضمار . قال ابن عطية : وهو عندي اسم لما يعد كالذبح والقتل للعد ، وسمي قتلاً إذ حقه أن يقتل . وقرىء أيضاً : عبة بكسر العين ، وبالتاء دون إضافة أي : عدة من الزاد والسلاح ، أو مما لهم مأخوذ من العدد . ولما تضمنت الجملة انتفاء الخروج والاستعداد ، وجاء بعدها ولكن ، وكانت لا تقع إلا بين نقيضين أو ضدين أو خلافين على خلاف فيه ، لا بين متفقين ، وكان ظاهر ما بعد لكن موافقاً لما قبلها .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف موقع حرف الاستدراك

" صفحة رقم 50 "
( قلت ) : لما كان قوله : ولو أرادوا الخروج معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو . قيل : ولكن كره الله انبعاثهم ، كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ، كما تقول : ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ انتهى . وليست اة ية نظير هذا المثال ، لأنّ المثال واقع فيه لكن بين ضدين ، والآية واقع فيها لكن بين متفقين من جهة المعنى ، والانبعاث الانطلاق والنهوض . قال ابن عباس : فثبطهم كسلهم وفتر نياتهم . وبنى وقيل للمفعول ، فاحتمل أن يكون القول : أذن الرسول لهم في القعود ، أو قول بعضهم لبعض إما لفظاً وإما معنى ، أو حكاية عن قول الله في سابق قضائه . وقال الزمخشري : جعل القاء الله تعالى في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود . وقيل : هو من قول الشيطان بالوسوسة . قال : ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة ، وتعالى الله عن إلهام القبيح . ( قلت ) : خروجهم كان مفسدة لقوله تعالى : ) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة انتهى . وهذا السؤال والجواب على طريقة الاعتزال في المفسدة والمصلحة ، وهذا القول هو ذمٌّ لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزني الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخلفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى : ) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوالِفِ ( والقعود هنا عبارة عن التخلف والتراخي كما قال : دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( : لما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ضرب عسكره على ثنية الوداع ، وضرب عبد الله بن أبيّ عسكره أسفل منها ، ولم يكن بأقل العسكرين ، فلما سار تخلف عنه عبد الله فيمن تخلف فنزلت بعرى الله ورسوله إلى قوله : وهم كارهون . وفيكم أي : في جيشكم أو في جملتكم . وقيل : في بمعنى مع . قال ابن عباس : الخبال الفساد ومراعاة إخماد الكلمة . وقال الضحاك : المكر والغدر . وقال ابن عيسى : الاضطراب . وقال الكلبي : الشر ، وقاله : ابن قتيبة . وقيل : إيقاع الاختلاف والأراجيف ، وتقدّم شرح الخبال في آل عمران . وهذا الاستثناء متصل وهو مفرغ ، إذ المفعول الثاني لزاد لم يذكر ، وقد كان في هذه الغزوة منافقون كثير ، ولهم لا شك خبال ، فلو خرج هؤلاء لتألبوا فزاد الخبال . وقال الزمخشري : المستثنى منه غير مذكور ، فالاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء ، فكان هو استثناء متصلاً لأنّ بعض أعم العام ، كأنه قيل : ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً . وقيل : هو استثناء منقطع ، وهذا قولمن قال : إنه لم يكن في عسكر الرسول خبال . فالمعنى : ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالاً . وقرأ ابن أبي عبلة : ما زادوكم بغير واو ، ويعني : ما زادكم خروجهم إلا خبالاً . والإيضاع الإسراع قال : أرانا موضعين لأمر غيب
ونسحر بالطعام وبالشراب

" صفحة رقم 51 "
ويقال : وضعت الناقة تضع وضعاً ووضوعاً قال : يا ليتني فيها جذع
أخب فيها وأضع
قال الحسن : معناه لأسرعوا بالنميمة . وقرأ محمد بن القاسم : لأسرعوا بالفرار . ومفعول أوضعوا محذوف تقديره : ولا وضعوا ركائبكم بينكم ، لأن الراكب أسرع من الماشي . وقرأ مجاهد ومحمد بن زيد : ولا وفضوا أي أسرعوا كقوله : ) إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ( وقرأ ابن الزبير : ولا رفضوا بالراء من رفض أسرع في مشيه رفضاً ورفضاناً قال حسان : بزجاجة رفضت بما في جوفها
رفض القلوص براكب مستعجل
وقال غيره :
والرافضات إلى منى فالقبقب
والخلاف جمع الخلل ، وهو الفرجة بين الشيئين . وقال الأصمعي : تخللت القوم دخلت بين خللهم وخلالهم ، وجلسنا خلال البيوت وخلال الدور أي : بينها ، ويبغون حال أي : باغين . قال الفراء : يبغونها لكم . والفتنة هنا الكفر قاله : مقاتل ، وابن قتيبة ، والضحاك . أو العيب والشر قاله : الكلبي . أو تفريق الجماعة أو المحنة باختلاف الكلمة أو النميمة . وقال الزمخشري : يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ، ويفسدوا نياتكم في مغزاكم . وفيكم سماسعون لهم أي : ضامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم ، أو فيكم قوم يستمعون للمنافقين ويطيعونهم انتهى . فاللام في القول الأول للعليل ، وفي الثاني لتقوية التعدية كقوله : ) فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ ( والقول الأول قاله : سفيان بن عيينة ، والحسن ، ومجاهد ، وابن زيد ، قالوا : معناه جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم ، ورجحه الطبري . والقول الثاني قول الجمهور قالوا : معناه وفيكم مطيعون سماعون لهم . ومعنى وفيكم في خلالكم منهم ، أو منكم ممن قرب عهده بالإسلام . والله عليم بالظالمين يعم كل ظالم . ومعنى ذلك : أنه يجازيه على ظلمه . واندرج فيه من يقبل كلام المنافقين ، ومن يؤدي إليهم أخبار المؤمنين ، ومن تخلف عن هذه الغزاة من المنافقين .
( لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الامُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ( تقدّم ذكر السبب في نزول هذه الآية والتي قبلها من قصة رجوع عبد الله بن أبي وأصحابه في هذه الغزاة ، حقّر شأنهم في هذه الآية ، وأخبر أنهم قديماً سعوا على الإسلام فأبطل الله سعيهم ، وفي الأمور المقلبة أقوال . قال ابن عباس : بغوا لك الغوائل . وقال ابن جريج : وقف اثنا عشر من المنافقين على التثنية ليلة العقبة كي يفتكوا به . وقال أبو سليمان الدمشقي : احتالوا في تشتيت أمرك وإبطال دينك . قال ابن جريج : كانصراف ابن أبيّ يوم أحد بأصحابه . ومعنى من قبل أي : منن قبل هذه الغزاة ، وذلك ما كان من حالهم

" صفحة رقم 52 "
وقت هجرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ورجوعهم عنه في أحد وغيرها . وتقليب الأمور : هو تدبيرها ظهر البطن ، والنظر في نواحيها وأقسامها ، والسعي بكل حيلة . وقيل : طلب المكيدة من قولهم : هو حول قلب . وقرأ مسلمة بن محارب : وقلبوا بتخفيف اللام . حتى جاء الحق أي : القرآن وشريعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ولفظة جاء مشعرة بأنه كان قد ذهب . وظهر أمر الله وصفه بالظهور لأنه كان كالمستور أي : غلب وعلا دين الله . وهم كارهون لمجيء الحق وظهور دين الله . وفي ذلك تنبيه على أنه لا تأثير لمكرهم وكيدهم ، ومبالغتهم في إثارة الشر فإنهم مذ راموا ذلك رده الله في نحرهم ، وقلب مرادهم ، وأتى بضد مقصودهم ، فكما كان ذلك في الماضي كذا يكون في المستقبل .
( وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( : نزلت في الجد بن قيس ، وذكر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس : ( هل لك العام في جلاد بني الأصفر ) وقال له وللناس : ( اغزوا تغنموا بنات الأصفر ) . فقال الجد : ائذن لي في التخلف ولا تفتني بذكربنات الأصفر ، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهم وتفتنني ، ولا تفتني بالنساء . هو قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد . وقيل : ولا تفتني أي ولا تصعب عليّ حتى احتاج إلى مواقعة معصيتك فسهِّل عليّ ، ودعني غير مختلج . وقال قريباً منه الحسن وقتادة والزجاج قالوا : لا تكسبني الإثم بأمرك إياي بالخروج وهو غير متيسر لي ، فآثم بمخالفتك . وقال الضحاك : لا تكفرني بإلزامك الخروج معك . وقال ابن بحر : لا تصرفني عن شغلي معك هلك مالي وعيالي . وقيل : إنه قال : ولكنْ أعينك بمالي . ومتعلق الإذن محذوف تقديره : في القعود وفي مجاورته الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على نفاقه . وقرأ ورش : بتخفيف همزة إئذن لي بإبدالها واواً لضمة ما قبلها . وقال النحاس ما معناه : إذا دخلت الواو أو الفاء على أأئذن ، فهجاؤها في الخط ألف وذال ونون بغير ياء ، أو ثم فالهجاء ألف وياء وذال ونون ، والفرق أنَّ ثم يوقف عليها وتنفصل بخلافهما . وقرأ عيسى بن عمرو : لا تفتني بضم التاء الأولى من أفتن . قال أبو حاتم هي لغة تميم ، وهي أيضاً قراءة ابن السميقع ، ونسبها ابن مجاهد إلى إسماعيل المكي . وجمع الشاعر بين اللغتين فقال : لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت
سعيداً فأمسى قد قلا كل مسلم
والفتنة التي سقطوا فيها هي فتنة التخلف ، وظهور كفرهم ، ونفاقهم . ولفظة سقطوا تنبىء عن تمكن وقوعهم فيها . وقال قتادة : الإثم بخلافهم الرسول في أمره ، وإحاطة جهنم بهم إما يوم القيامة ، أو الآن على سبيل المجاز . لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها ، أو لأنّ مصيرهم إليها .
( إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ( : قال ابن عباس : الحسنة في يوم بدر ، والمصيبة يوم أحد . وينبغي أن يحمل قوله على التمثيل ، واللفظ عام في كل محبوب ومكروه ، وسياق الحمل يقتضي أن يكون ذلك في الغزو ، ولذلك قالوا : الحسنة الظفر والغنيمة ، والمصيبة الخيبة والهزيمة ، مثل ما جرى في أول غزوة أحد . ومعنى أمرنا الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم في التخلف عن الغزو ، من قبل ما وقع من المصيبة . ويحتمل أن يكون التولي حقيقة أي : ويتولوا عن مقام التحديث بذلك ، والاجتماع له إلى أهليهم وهم مسرورون . وقيل : أعرضوا عن الإيمان . وقيل :

" صفحة رقم 53 "
عن الرسول ، فيكون التولي مجازاً .
( قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( : قرأ ابن مسعود وابن مصرف : هل يصيبنا مكان لن يصيبنا . وقرأ ابن مصرف أيضاً وأعين قاضي الرّي : هل يصيبنا بتشديد الياء ، وهو مضارع فيعل نحو : بيطر ، لا مضارع فعل ، إذ لو كان كذلك لكان صوّب مضاعف العين . قالوا : صوب رأيه لما بناه على فعل ، لأنه من ذوات الواو . وقالوا : صاب يصوب ومصاوب جمع مصيبة ، وبعض العرب يقول : صاب السهم يصيب ، جعله من ذوات الياء ، فعلى هذا يجوز أن يكون يصيبنا مضارع صيب على وزن فعل ، والصيب يحتمل أن يكون كسيدوكلين . وقال عمرو بن شقيق : سمعت أعين قاضي الري يقول : قل لن يصيبنا بتشديد النون . قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك ، لأن النون لا تدخل مع لن ، ولو كانت لطلحة بن مصرف الحارث ، لأنها مع هل . قال تعالى : ) هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ( انتهى . ووجه هذه القراءة تشبيه لن بلا وبلم ، وقد سمع لحاق هذه النون بلا وبلم ، فلما شاركتهما لن في النفي لحقت معها نون التوكيد ، وهذا توجيه شذوذ . أي : ما أصابنا فليس منكم ولا بكم ، بل الله هو الذي أصابنا وكتب أي : في اللوح المحفوظ أو في القرآن من الوعد بالنصر ، ومضاعفة الأجر على المصيبة ، أو ما قضى وحكم ثلاثة أقوال : هو مولانا ، أي ناصرنا وحافظنا قاله الجمهور . وقال الكلبي : أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة . وقيل : مالكنا وسيدنا ، فلهذا يتصرف كيف شاء . فيجب الرضا بما يصدر من جهته . وقال ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا ، وأن الكافرين لا مولى لهم ، فهو مولانا الذي يتولانا ونتولاه .
( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ ( : أي ما ينتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين ، كل واحدة منهما هي الحسنى من العواقب : إما النصرة ، وإما الشهادة . فالنصرة مآلها إلى الغلبة والاستيلاء ، والشهادة مآلها إلى الجنة . وقال ابن عباس : إنّ الحسينيين الغنيمة والشهادة . وقيل : الأجر والغنيمة . وقيل : الشهادة والمغفرة . وفي الحديث : ( تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته أن يدخل الجنة ، أو رجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة ، والعذاب من عند الله ) قال ابن عباس : هو هنا الصواعق . وقال ابن جريج : الموت . وقيل : قارعة من السماء تهلكهم كما نزلت على عاد وثمود . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون توعداً بعذاب الآخرة ، أو بأيدينا بالقتل على الكفر . فتربصوا مواعيد الشيطان إنا معكم متربصون إظهار دينه واستئصال من خالفه ، قاله الحسن . وقال الزمخشري : فتربصوا بنا ما ذكرنا من عواقبنا أنا معكم متربصون ما هو عاقبتكم ، فلا بد أنْ نلقى كلنا ما نتربصه لا نتجاوزه انتهى . وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد . وقرأ ابن محيصن الأحدي : بإسقاط الهمزة . قال ابن عطية : فوصل ألف إحدى وهذه لغة وليست بالقياس ، وهذا نحو قول الشاعر :
يابا المغيرة رب أمر معضل
ونحو قول الآخر :

" صفحة رقم 54 "
إن لم أقاتل فالبسني برقعا
انتهى .
( قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ( : قرأ الأعمش وابن وثاب : كرهاً بضم الكاف ، ويعني : في سبيل الله ووجوه البر . قيل : وهو أمر ومعناه التهديد والتوبيخ . وقال الزمخشري : هو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى : ) قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً ( ومعناه لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً . ونحوه قوله تعالى : ) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ( وقوله : أسيىء بنا أو أحسنى لا ملومة . أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم ، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت انتهى . وعن بعضهم غير هذا بأن معناه الجزاء والشرط أي : إنْ تتفقوا طوعاً أو كرهاً لم يتقبل منك ، وذكر الآية وبيت كثير على هذا المعنى . قال ابن عطية : أنفقوا أمر في ضمنه جزاء ، وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء ، والتقدير : إنْ تنفقوا لن نتقبل منكم . وأما إذا عرى الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط انتهى . ويقدح في هذا التخريج أنّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب كجواب الشرط ، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب فلن يتقبل بالفاء ، لأنّ لن لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء ، فكذلك ما ضمن معناه . ألا ترى جزمه الجواب في مثل اقصد زيداً يحسن إليك ، وانتصب طوعاً أو كرهاً على الحال ، والطوع أن يكون من غير إلزام الله ورسوله ، والكره إلزام ذلك . وسمَّى الإلزام كراهاً لأنهم منافقون ، فصار الإلزام شاقاً عليهم كالإكراه . أو يكون من غير إلزام من رؤسائكم ، أو إلزام منهم لأنهم كانوا يحملونهم على الإنفاق لما يرون فيه من المصلحة .
والجمهور على أنّ هذه نزلت بسبب الجد بن قيس حين استأذن في القعود وقال : هذا مالي أعينك به . وقال ابن عباس : فيكون من إطلاق الجمع على الواحد أوله ولمن فعل فعله . فقد نقل البيهقي وغيره من الأئمة أنهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلاً ، استثنى منهم الثلاثة الذين خلفوا وأهلك الباقون ، ونفى التقبل إما كون الرسول لم يقبله منهم ورده ، وإما كون الله لا يثيب عليه ، وعلل انتفاء التقبل بالفسق . قال الزمخشري : وهو التمرد والعتو ، والأولى أن يحمل على الكفر . قال أبو عبد الله الرازي : هذه إشارة إلى أنّ عدم القبول معلل بكونهم فاسقين ، فدلَّ على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى . وأكد الجبائي ذلك بدليله المشهور في هذه المسألة ، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين ، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين ، والجمع بينهما محال . فكان الجمعُ بين استحقاقهما محالاً ، وقد أزال الله هذه الشبهة بقوله : ) وَمَا مَنَعَهُمْ ( الآية وأن تصريح هذا اللفظ لا يؤثر في القول إلا الكفر . ودل ذلك على أن مطلق الفسق لا يحبط الطاعات ، فنفى تعالى أنّ عدم القبول ليس معللاً بعموم كونه فسقاً ، بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفراً ، فثبت أنّ استدلال الجبائي باطل انتهى . وفيه بعض تلخيص .
( وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَواةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ ).
ذكر السبب الذي هو بمفرده

" صفحة رقم 55 "
مانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر ، وأتبعه بما هو ناشىء عن الكفر ومستلزم له وهو دليل عليه . وذلك هو إتيان الصلاة وهم كسالى ، وإيتاء النفقة وهم كارهون . فالكسل في الصلاة وترك النشاط إليها وأخذها بالإقبال من ثمرات الكفر ، فإيقاعها عندهم لا يرجون به ثواباً ، ولا يخافون بالتفريط فيها عقاباً . وكذلك الإنفاق للأموال لا يكرهون ذلك إلا وهم لا يرجون به ثواباً . وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما الصلاة والنفقة ، واكتفى بهما وإن كانوا أفسد حالاً في سائر أعمال البر ، لأنّ الصلاة أشرف الأعمال البدنية ، والنفقة في سبيل الله أشرف الأعمال المالية ، وهما وصفان المطلوب إظهارهما في الإسلام ، ويستدل بهما على الإيمان ، وتعداد القبائح يزيد الموصوف بها ذماً وتقبيحاً . وقرأ الأخوان وزيد بن علي : أن يقبل بالياء ، وباقي السبعة بالتاء ، ونفقاتهم بالجميع ، وزيد بن علي بالإفراد . وقرأ الأعرج بخلاف عنه : أن تقبل بالتاء من فوق نفقتهم بالإفراد . وفي هذه القراءات الفعل مبني للمفعول . وقرأت فرقة : أن نقبل منهم نفقتهم بالنون ونصب النفقة . قال الزمخشري : وقراءة السلمي أن نقبل منهم نفقاتهم على أنّ الفعل لله تعالى انتهى . والأولى أن يكون فاعل منع قوله : ألا أنهم أي كفرهم ، ويحتمل أن يكون لفظ الجلالة أي : وما منعهم الله ، ويكون إلا أنهم تقديره : إلا لأنهم كفروا . وأن تقبل مفعول ثان إما لوصول منع إليه بنفسه ، وإما على تقدير حذف حرف الجر ، فوصل الفعل إليه .
( فَلا كَارِهُونَ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ ( : لما قطع رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة ، بيّن أن الأشياء التي يظنونها من باب منافع الدنيا جعلها الله تعالى أسباباً ليعذبهم بها في الدنيا أي : ولا يعجبك أيها السامع بمعنى لا يستحسن ولا يفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا كقوله : ) وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ( وفي هذا تحقير لشأن المنافقين . قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن قتيبة : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة انتهى . ويكون إنما يريد الله ليعذبهم بها جملة اعتراض فيها تشديد للكلام وتقوية لانتفاء الإعجاب ، لأنّ من كان مآل إتيانه المال والولد للتعذيب لا ينبغي أن تستحسن حاله ولا يفتتن بها ، إلا أنّ تقييد الإيجاب المنهى عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا ، فنفى ذلك ، كأنه زيادة تأكيد بخلاف التعذيب ، فإنه قد يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة ، ومع أن التقديم والتأخير لخصه أصحابنا بالضرورة . وقال الحسن : الوجه في التعذيب إنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل الله ، فالضمير في قوله : بها ، عائد في هذا القول على الأموال فقط . وقال ابن زيد وغيره : التعذيب هو مصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب ، إذ لا يؤجرون عليها انتهى . ويتقوى هذا القول بأنّ تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا ، وذلك لاقتران الذلة والغلبة وأمر الشريعة لهم قاله : ابن عطية ، وقد جمع الزمخشري هذا كله فقال : إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب بأن عرضهم للمغنم والسبي ، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب ، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له على رغم أنوفهم ، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم . وقيل : أموالهم التي ينفقونها فإنها لا تقبل منهم ولا أولادهم المسلمون ، مثل عبد الله بن عبد الله بن أبي وغيره ، فإنهم لا ينفعون آباءهم المنافقين حكاه القشيري . وقيل : يتمكن حب المال من قلوبهم ، والتعب في جمعه ، والوصل في حفظه ، والحسرة على تخلفته عند من لا يحمده ، ثم يقدم على ملك لا يعذره . وقدم الأموال على الأولاد لأنها كانت أعلق بقلوبهم ، ونفوسهم أميل إليها ، فإنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية ذهاب أموالهم . قال تعالى : ) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ).
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : إن صح تعليق العذاب بإرادة الله تعالى ، فما بال زهوق أنفسهم وهم كافرون ؟ ( قلت ) : المراد الاستدراج بالنعم كقوله تعالى : ) إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً (

" صفحة رقم 56 "
كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة انتهى . وهو بسط كلام ابن عيسى وهو الرماني ، وهما كلاهما معتزليان . قال ابن عيسى : المعنى إنما يريد الله أن يملي لهم ويستدرجهم ليعذبهم انتهى . وهي نزغة اعتزالية . والذي يظهر من حيث عطف وتزهق على ليعذب أن المعنى ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ونبه على عذاب الآخرة بعلته وهو زهوق أنفسهم على الكفر ، لأنّ من مات كافراً عذب في الآخرة لا محالة . والظاهر أن زهوق النفس هنا كناية عن الموت . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد وتزهق أنفسهم من شدة التعذيب الذي يننالهم .
( وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ( : أي لمن جملة المسلمين . وأكذبهم الله بقوله : وما هم منكم . ومعنى يفرقون : يخافون القتل . وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية ، وهم يبطنون النفاق ، أو يخافون اطلاع الله المؤمنين على بواطنهم فيحل بهم ما يحل بالكفار . ولما حقر تعالى شأن المنافقين وأموالهم وأولادهم عاد إلى ذكر مصالحهم وما هم عليه من خبث السريرة فقال : ويحلفون بالله على الجملة لا على التعيين ، وهي عادة الله في ستر أشخاص العصاة .
( لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ( : لما ذكر فرق المنافقين من المؤمنين أخبر بما هم عليه معهم مما يوجبه الفرق وهو أنهم لو أمكنهم الهروب منهم لهربوا ، ولكنْ صحبتهم لهم صحبة اضطرار لا اختيار . قال ابن عباس : الملجأ الحرز . وقال قتادة : الحصن . وقال السدي : المهرب . وقال الأصمعي : المكان الذي يتحصن فيه . وقال ابن كيسان : القوم يأمنون منهم . والمغارات جمع مغارة وهي الغار ، ويجمع على غيران بني من غار يغور إذا دخل مفعلة للمكان كقولهم : مزرعة . وقيل : المغارة السرب تحت الأرض كنفق اليربوع .
وقرأ سعد بن عبد الرحمن بن عوف : مغارات بضم الميم ، فيكون من أغار . قيل : وتقول العرب : غار الرجل وأغار بمعنى دخل ، فعلى هذا يكون مغارات من أغار اللازم . ويجوز أن يكون من أغار المنقول بالهمزة من غار ، أي أماكن في الجبال يغيرون فيها أنفسهم . وقال الزجاج : ويصح أن يكون من قولهم : جبل مغار أي مفتول . ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم ، فيجيء التأويل على هذا لو يجدون نصرة أو أموراً مرتبطة مشدّدة تعصمهم منكم أو مدّخلاً لولوا إليه . وقال الزمخشري ويجوز أن يكون من أغار الثعلب إذا أسرع ، بمعنى مهارب ومغارّ انتهى . والمدّخل قال مجاهد : المعقل يمنعهم من المؤمنين . وقال قتادة : السرب يسيرون فيه على خفاء . وقال الكلبي : نفقاً كنفق اليربوع . وقال الحسن : وجهاً يدخلون فيه على خلاف الرسول . وقيل : قبيلة يدخلون فيها تحميهم من الرسول ومن المؤمنين . وقال الجمهور : مدّخلاً وأصله مدتخل ، مفتعل من ادّخل ، وهو بناء تأكيد ومبالغة ، ومعناه السرب والنفق في الأرض قاله : ابن عباس . بدىء أولاً بالأعم وهو الملجأ ، إذ ينطلق على كل ما يلجأ إليه الإنسان ، ثم ثنى بالمغارات وهي الغيران في الجبال ، ثم أتى ثالثاً بالمدّخل وهو النفق باطن الأرض . وقال الزجاج : المدّخل قوم يدخلونهم في جملتهم . وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، ومسلمة بن محارب ، وابن محيصن ، ويعقوب ، وابن كثير بخلاف عنه : مدخلاً بفتح الميم من دخل . وقرأ محبوب عن الحسن : مدخلاً بضم الميم من أدخل . وروى ذلك عن الأعمش وعيسى ابن عمر . وقرأ قتادة ، وعيسى بن عمر ، والأعمش : مدخلاً بتشديد الدال والخاء معاً أصله متدخل ، فأدغمت التاء في الدال . وقرأ أبي مندخلاً بالنون من اندخل . قال :
ولا يدي في حميت السمن تندخل

" صفحة رقم 57 "
وقال أبو حاتم : قراءة أبي متدخلاً بالتاء . وقرأ الأشهب العقيلي : لوالوا إليه لتابعوا إليه وسارعوا . وروي ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل ، عن أبيه ، عن جده وكانت له صحبة أنه قرأ لوالوا إليه من الموالاة ، وأنكرها سعيد بن مسلم وقال : أظنها لو ألوا بمعنى للجأوا . وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي : وهذا مما جاء فيه فاعل وفعل بمعنى واحد ، ومثله ضاعف وضعف انتهى . وقال الزمخشر : وقرأ أبي بن كعب متدخلاً لوالوا إليه لا لتجأوا إليه انتهى . وعن أبيّ لولوا وجوههم إليه . ولما كان العطف بأو عاد الضمير إليه مفرداً على قاعدة النحو في أو ، فاحتمل من حيث الصناعة أن يعود على الملجأ ، أو على المدخل ، فلا يحتمل على أن يعود في الظاهر على المغارات لتذكيره ، وأما بالتأويل فيجوز أن يعود عليها . وهم يجمحون يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء . وقرأ أنس بن مالك والأعمش : وهم يجمزون . قيل : يجمحون ، ويجمزون ، ويشتدون واحد . وقال ابن عطية : يجمزون يهرولون ، ومنه قولهم في حديث الرجم : فلما إذ لقته الحجارة جمز .
( وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( : اللامز حرقوص بن زهير التميمي ، وهو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ، كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقسم غنائم حنين فقال : إعدل يا رسول الله الحديث . وقيل : هو ابن الجواظ المنافق قال : ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم . وقيل : ثعلبة بن حاطب كان يقول : إنما يعطى محمد قريشاً . وقيل : رجل من الأنصار أتى الرسول بصدقة يقسمها ، فقال : ما هذا بالعدل ؟ وهذه نزغة منافق .
والمعنى : من يعيبك في قسم الصدقات . وضمير ومنهم للمنافقين ، والكاف للرسول . وهذا الترديدين الشرطين يدل على دناءة طباعهم ونجاسة أخلاقهم ، وإن لمزهم الرسول إنما هو لشرههم في تحصيل الدنيا ومحبة المال ، وأنّ رضاهم وسخطهم إنما متعلة العطاء . والظاهر حصول مطلق الإعطاء أو نفيه . وقيل : التقدير فإن أعطوا منها كثيراً يرضوا ، وإن لم يعطوا منها كثيراً بل قليلاً ، وما أحسن مجيء جواب هذين الشرطين ، لأنّ الأول لا يلزم أن يقارنه ولا أن يعتقبه ، بل قد يجوز أن يتأخر نحو : إن أسلمت دخلت الجنة ، فإنما يقتضي مطلق الترتب . وأما جواب الشرط الثاني فجاء إذا الفجائية ، وأنه إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم ، ولم يمكن تأخره لما جبلوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها . ومفعول رضوا محذوف أي : رضوا ما أعطوه . وليس المعنى رضوا عن الرسول لأنهم منافقون ، ولأنّ رضاهم وسخطهم لم يكن لأجل الدين ، بل للدنيا . وقرأ الجمهور : يلمزك بكسر الميم . وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو رجاء وغيرهم : بضمها ، وهي قراءة المكيين ، ورويت عن أبي عمرو . وقرأ الأعمش : يلمزك . وروى أيضاً حماد بن سلمة عن ابن كثير : يلامزك ، وهي مفاعلة من واحد . وقيل : وفرق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) قسم أهل مكة في الغنائم استعطافاً لقلوبهم ، فضج المنافقون .
( وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ ( : ( هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم ، أي رضوا قسمة الله ورسوله وقالوا : كفانا فضل الله ، وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه الله إياهم ، وكانت رغبتهم إلى الله لا إلى غيره . وجواب لو محذوف تقديره : لكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم . وكان ذلك الفعل دليلاً على انتقالهم من النفاق إلى محض الإيمان ، لأنّ ذلك تضمن الرضا بقسم الله ، والإقرار بالله وبالرسول إذ كانوا يقولون : سيؤتينا الله من فضله ورسوله . وقيل : جواب لو هو قوله : وقالوا على زيادة الواو ، وهو قول كوفي . قال الزمخشري : والمعنى : ولو أنهم رضوا ما

" صفحة رقم 58 "
أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم ، وقالوا : كفانا فضل الله تعالى وصنعه ، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى ، فسيؤتينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أكثر مما آتانا اليوم ، إنا إلى الله في أنْ يغنمنا ويخولنا فضله راغبون انتهى . وقال ابن عباس : راغبون فيما يمنحنا من الثواب ويصرف عنا من العقاب . وقال التبريزي : راغبون في أن يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصدقة وغيرها مما في أيدي الناس . وقيل : ما آتاهم الله بالتقدير ، ورسوله بالقسم انتهى . وأتى أولاً بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عن العتب والخطأ عليم بالعواقب ، فكل قضائه صواب وحق ، لا اعتراض عليه . ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان ، فحسبنا ما رضي به . ثم أتى ثالثاً بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا مادّ لهم بنعمه وإحسانه ، فهو إخبار حسن إذ ما من مؤمن إلا ونعمُ الله مترادفة عليه حالاً ومآلاً ، إما في الدنيا ، وإما في الآخرة . ثم أتى رابعاً بالجملة المقتضية الالتجاء إلى الله لا إلى غيره ، والرغبة إليه ، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ولما كانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب ، وما تضمن الإقرار باللسان ، تعاطفتا . ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم : حسبنا الله لم تتعاطفا ، إذ هما كالشرح لقولهم : حسبنا الله ، فلا تغاير بينهما .
( ( هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم ، أي رضوا قسمة الله ورسوله وقالوا : كفانا فضل الله ، وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه الله إياهم ، وكانت رغبتهم إلى الله لا إلى غيره . وجواب لو محذوف تقديره : لكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم . وكان ذلك الفعل دليلاً على انتقالهم من النفاق إلى محض الإيمان ، لأنّ ذلك تضمن الرضا بقسم الله ، والإقرار بالله وبالرسول إذ كانوا يقولون : سيؤتينا الله من فضله ورسوله . وقيل : جواب لو هو قوله : وقالوا على زيادة الواو ، وهو قول كوفي . قال الزمخشري : والمعنى : ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم ، وقالوا : كفانا فضل الله تعالى وصنعه ، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى ، فسيؤتينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أكثر مما آتانا اليوم ، إنا إلى الله في أنْ يغنمنا ويخولنا فضله راغبون انتهى . وقال ابن عباس : راغبون فيما يمنحنا من الثواب ويصرف عنا من العقاب . وقال التبريزي : راغبون في أن يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصدقة وغيرها مما في أيدي الناس . وقيل : ما آتاهم الله بالتقدير ، ورسوله بالقسم انتهى . وأتى أولاً بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عن العتب والخطأ عليم بالعواقب ، فكل قضائه صواب وحق ، لا اعتراض عليه . ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان ، فحسبنا ما رضي به . ثم أتى ثالثاً بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا مادّ لهم بنعمه وإحسانه ، فهو إخبار حسن إذ ما من مؤمن إلا ونعمُ الله مترادفة عليه حالاً ومآلاً ، إما في الدنيا ، وإما في الآخرة . ثم أتى رابعاً بالجملة المقتضية الالتجاء إلى الله لا إلى غيره ، والرغبة إليه ، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ولما كانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب ، وما تضمن الإقرار باللسان ، تعاطفتا . ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم : حسبنا الله لم تتعاطفا ، إذ هما كالشرح لقولهم : حسبنا الله ، فلا تغاير بينهما .
( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ ( : لما ذكر تعالى من يعيب الرسول في قسم الصدقات بأنه يعطي من يشاء ويحرم من يشاء ، أو يخص أقاربه ، أو يأخذ لنفسه ما بقي . وكانوا يسألون فوق ما يستحقون ، بيّن تعالى مصرف الصدقات ، وأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) إنما قسم على ما فرضه الله تعالى . ولفظه إنما إنْ كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها ، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف ، إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به ، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه . والظاهر أنّ مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف . والظاهر أن العطف مشعر بالتغاير ، فتكون الفقراء عين المساكين . والظاهر بقاء هذا الحكم للأصناف الثمانية دائماً ، إذ لم يرد نص في نسخ شيء منها . والظاهر أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجوداً ، والخلاف في كل شيء من هذه الظواهر . فأما أنّ مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف ، فذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أنه يجوز أن يقتصر على بعض هؤلاء الأصناف ، ويجوز أن يصرف إلى جميعها . فمن الصحابة : عمر ، وعليّ ، ومعاذ ، وحذيفة ، وابن عباس ، ومن التابعين النخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو العالية ، وابن جبير ، قالوا : في أيّ صنف منها وضعتها أجزأتك . قال ابن جبير : لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فخيرتهم بها كان أحب إليّ . قال الزمخشري : وعليه مذهب أبي حنيفة قال غيره : وأبي يوسف ، ومحمد ، وزفر ، ومالك . وقال جماعة من التابعين : لا يجوز الاقتصار على أحد هذه الأصناف منهم : زين العابدين علي بن الحسين ، وعكرمة ، والزهري ، بل يصرف إلى الأصناف الثمانية . وقد كتب الزهري لعمر بن عبد العزيز : يفرّقها على الأصناف الثمانية ، وهو مذهب الشافعي قال : إلا المؤلفة ، فإنهم انقطعوا . وأما أنّ الفقراء غير المساكين ، فذهب جماعة من السلف إلى أنّ الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما في المعنى ، وإن افترقا في الاسم ، وهما صنف واحد سمي باسمين ليعطي سهمين نظراً لهم ورحمة . قال في التحرير : وهذا هو أحد قولي الشافعي . وذهب الجمهور إلى أنهما صنفان يجمعهما الإقلال والفاقة ، واختلفوا فيما به الفرق . فقال الأصمعي وغيره منهم أحمد بن حنبل وأحمد بن عبيد الفقير : أبلغ فاقة . وقال غيره منهم أبو حنيفة ، ويونس بن حبيب ، وابن السكيت ، وابن قتيبة المسكين : أبلغ فاقة ، لأنه لا شيء له . والفقير من له بلغة من الشيء . وقال الضحاك : الفقراء هم من المهاجرين ، والمساكين من لم يهاجر . وقال النخعي نحوه . وقال عكرمة : الفقراء من المسلمين ، والمساكين من أهل الذمة . لا نقول لفقراء المسلمين مساكين . وروى عنه بالعكس حكاه مكي . وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر : الفقير من لا مال له ولا حرفة ، سائلاً كان أو متعففاً . والمسكين الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلاً كان أو غير سائل . وقال قتادة : الفقير الزمن المحتاج ، والمسكين الصحيح المحتاج . وقال ابن عباس : والحسن ، ومجاهد ، والزهري ، وابن

" صفحة رقم 59 "
زيد ، وجابر بن زيد ، والحكم ، ومقاتل ، ومحمد بن مسلمة : المساكين الذين يسعون ويسألون ، والفقراء هم الذين يتعاونون .
وأما بقاء الحكم للأصناف الثمانية فذهب عمر بن الخطاب والحسن والشعبي وجماعة : إلى أنه انقطع صنف المؤلفة بعزة الإسلام وظهوره ، وهذا مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة ، قال بعض الحنفيين : أجمعت الصحابة على سقوط سهمهم في خلافة أبي بكر لما أعز الله الإسلام وقطع دابر الكافرين . وقال القاضي عبد الوهاب : إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقات . وقال كثير من أهل العلم : المؤلفة قلوبهم موجودون إلى يوم القيامة . قال ابن عطية : وإذا تأملت الثغور وجدت فيها الحاجة إلى الائتلاف انتهى . وقال يونس : سألت الزهري عنهم فقال : لا أعلم نسخاً في ذلك . قال أبو جعفر النحاس : فعل هذا الحكم فيهم ثابت ، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة أو يرجى حسن إسلامه بعدُ دفع إليه . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا ، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم ، كما كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يعطيهم . فإن في الصحيح : ( بدا الإسلام غريباً وسيعود كما بدا ) وفي كتاب التحرير قال الشافعي : العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان في هذا الزمان ، بقيت الأصناف الستة ، فالأولى صرفها إلى الستة . وأما أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجوداً فهو مذهب الشافعي ، ذهب إلى أنه لا بد في كل صنف من ثلاثة ، لأن أقلّ الجمع ثلاثة ، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم . وقال أصحاب أبي حنيفة : يجوز أن يعطي جميع زكاته مسكيناً واحداً . وقال مالك : لا بأس أن يعطي الرجل زكاة الفطر عن نفسه وعياله واحداً ، واللام في للفقراء . قيل : للملك . وقيل : للاختصاص .
والظاهر عموم الفقراء والمساكين ، فيدخل فيه الأقارب والأجانب وكل من اتصف بالفقر والمسكنة فأما ذو وقربى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال أصحاب أبي حنيفة : تحرم عليهم الصدقة منهم : آل العباس ، وآل علي ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل الحرث بن عبد المطلب . وروى عن أبي حنيفة وليس بالمشهور أنّ فقراء بني هاشم يدخلون في آية الصدقة . وقال أبو يوسف : لا يدخلون . قال أبو بكر الرازي : المشهور عن أصحابنا أنهم من تقدم من آل العباس ومن ذكر معهم ، ويخص التحريم الفرض لا صدقة التطوع . وقال مالك : لا تحل الزكاة لآل محمد ، ويحلّ التطوع . وقال الثوري : لا تحل لبني هاشم ، ولم يذكر فرقاً بين النفل والفرض . وقال الشافعي : تحرم صدقة الفرض على بني هاشم وبني المطلب ، وتجوز صدقة التطوع على كل أحدٍ إلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإنه كان لا يأخذها . وقال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ : وابن حبيب : لا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ، ولا من التطوع . وقال مالك في الواضحة : لا يعطى آل محمد من التطوع .
وأما أقارب المزكي فقال أصحاب أبي حنيفة : لا يعطى منها والد وإن علا ، ولا ابن وإن سفل ، ولا زوجة . وقال مالك والثوري والحسن بن صالح والليث : لا يعطى من تلزمه نفقته . وقال ابن شبرمة : لا يعطى قرابته الذين يرثونه ، وإنما يعطى من لا يرثه وليس في عياله . وقال الأوزاعي : لا يتخطى بزكاة ماله فقراء أقاربه إذا لم يكونوا من عياله ، ويتصدق على مواليه من غير زكاة ماله . وقال مالك والثوري وابن شبرمة والشافعي وأصحاب أبي حنيفة : لا يعطى الفرض من الزكاة . وقال عبيد الله بن الحسن : إذا لم يجد مسلماً أعطى الذمي ، فكأنه يعني الذمي الذي هو بين ظهرانيهم . وقال مالك وأبو حنيفة : لا تعطى الزوجة زوجها من الزكاة . وقال الثوري والشافعي وأبو يوسف ومحمد : تعطيه ، واختلفوا في المقدار الذي إذا ملكه الإنسان دخل به في حد الغنى وخرج عن حد الفقر وحرمت عليه الصدقة . فقال قوم : إذا كان عند أهله ما يغديهم ويعشيهم حرمت عليه الصدقة ، ومن كان عنده دون ذلك حلت له . وقال قوم : حتى يملك أربعين درهماً ، أوعد لها من الذهب . وقال قوم : حتى تملك خمسين درهماً أو عد لها من الذهب ، وهذا مروي عن علي وعبد الله والشعبي . قال مالك : حتى تملك مائتي درهم أو عد لها من عرض أو غره فاضلاً عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وأثاث وفرش ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة . فلو دفعها إلى من ظن أنه فقير فتبين أنه غنى ، أو تبين أن المدفوع إليه أبوه أو ذمي ولم يعلم بذلك وقت الدفع . فقال أبو حنيفة ومحمد : يجزئه . وقال أبو يوسف : لا يجزئه .
والعامل هو الذي يستنيبه الإمام في السعي في جميع الصدقات ، وكل من يصرف ممن لا

" صفحة رقم 60 "
يستغنى عنه فيها فهو من العاملين ، ويسمى جابي الصدقة والساعي قال : إن السعاة عصوك حين بعثتهم
لم يفعلوا مما أمرت فتيلا
وقال : سعى عقالاً فلم يترك لنا سبدا
فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
أراد بالعقال هنا زكاة السنة ، وتعدى بعلى ولم يقل فيها ، لأنّ على للاستعلاء . المشعر بالولاية . والجمهور على أن للعامل قدر سعيه ، ومؤنته من مال الصدقة . وبه قال مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر ، وأبو حنيفة وأصحابه ، فلو تجاوز ذلك من الصدقة ، فقيل : يتم له من سائر الأنصباء . وقيل : من خمس الغنيمة . وقال مجاهد والضحاك والشافعي : هو الثمن على قسم القرآن . وقال مالك من رواية ابن أبي أويس وداود بن سعيد عنه : يعطون من بيت المال .
واختلف في الإمام ، هل له حق في الصدقات ؟ فهمنهم من قال : هو العامل في الحقيقة ، ومنهم من قال : لا حق له فيها . والجمهور على أنّ أخذها مفوض للإمام ومن استنابه ، فلو فرقها المزكي بنفسه دون إذن الإمام أخذها منه ثانياً . وقال أبو حنيفة : لا يجوز أن يعمل على الصدقة أحد من بني هاشم ويأخذ عمالته منها ، فإن تبرع فلا خلاف بين أهل العلم في جوازه . وقال آخرون : لا بأس لهم بالعمالة من الصدقة . وقيل : إنْ عمل أعطيها من الخمس .
والمؤلفة قلوبهم أشراف العرب مسلمون لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ، أعطاهم ليتمكن الإيمان من قلوبهم ، أو كفار لهم اتباع أعطاهم ليتألفهم واتباعهم على الإسلام . قال الزهري : المؤلفة من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنياً فمن المؤلفة : أبو سفيان بن حرب ، وسهيل بن عمرو ، والحرث بن هشام ، وحويطب بن عبد العزى ، وصفوان بن أمية ، ومالك بن عوف النضري ، والعلاء بن حارثة الثقفي ، فهؤلاء أعطاهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) مائة بعير مائة بعير . ومخرمة بن نوفل الزهري ، وعمير بن وهب الجمحي ، وهشام بن عمرو العابدي ، أعطاهم دون المائة . ومن

" صفحة رقم 61 "
المؤلفة : سعيد بن يربوع ، والعباس بن مرداس ، وزيد الخيل ، وعلقمة بن علانة ، وأبو سفيان الحرث بن عبد المطلب ، وحكيم بن حزام ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسعيد بن عمرو ، وعيينة بن حصن . وحسن إسلام المؤلفة حاشا عيينة فلم يزل مغموصاً عليه .
وأما قوله وفي الرقاب فالتقدير : وفي فك الرقاب فيعطي ما حصل به فك الرقاب من ابتداء عتق يشتري منه العبد فيعتق ، أو تخليص مكاتب أو أسير . وقال النخعي ، والشعبي ، وابن جبير ، وابن سيرين : لا يجزىء أن يعتق من الزكاة رقبة كاملة ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة والليث والشافعي . وقال ابن عباس وابن عمر : أعتق من زكاتك . وقال ابن عمر والحسن وأحمد وإسحاق : يعتق من الزكاة ، وولاؤه لجماعة المسلمين لا للمعتق . وعن مالك والأوزاعي : لا يعطي المكاتب من الزكاة شيئاً ، ولا عبد كان مولاه موسراً أو معسراً . وعن ابن عباس والحسن ومالك : هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته . والجمهور على أنّ المكاتبين يعانون في فك رقابهم من الزكاة . ومذهب أبي حنيفة وابن حبيب : أنّ فك رقاب الأساري يدخل في قوله : وفي الرقاب ، فيصرف في فكاكها من الزكاة . وقال الزهري : سهم الرقاب نصفان : نصف للمكاتبين ، ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى .
والغارم من عليه دين قاله : ابن عباس ، وزاد مجاهد وقتادة : في غير معصية ولا إسراف . والجمهور على أنه يقضي منها دين الميت إذ هو غارم . وقال أبو حنيفة وابن المواز : لا يقضى منها . وقال أبو حنيفة : ولا يقضي منها كفارة ونحوها من صنوف الله تعالى ، وإنما الغارم من عليه دين يحبس فيه . وقيل : يدخل في الغارمين من تحمل حمالات في إصلاح وبر وإن كان غنياً إذا كان ذلك يجحف بماله ، وهو قول الشافعي وأصحابه وأحمد .
وفي سبيل الله هو المجاهد يعطي منها إذا كان فقيراً . والجمهور على أنه يعطي منها وإن كان غنياً ما ينفق في غزوته . وقال الشافعي ، وأحمد ، وعيسى بن دينار ، وجماعة : لا يعطي الغني إلا إن احتاج في غزوته ، وغاب عنه وفره . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يعطي إلا إذا كان فقيراً أو منقطعاً به ، وإذا أعطي ملك ، وإن لم يصرفه في غزوته . وقال ابن عبد الحكم : ويجعل من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة ، لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته . والجمهور على أنه يجوز الصرف منها إلى الحجاج والمعتمرين وإن كانوا أغنياء . وقال الزمخشري : وفي سبيل الله فقراء الغزاة ، والحجيج المنقطع بهم انتهى .
والذي يقتضيه تعداد هذه الأوصاف أنها لا تتداخل ، واشتراط الفقر في بعضها يقضي بالتداخل . فإن كان الغازي أو الحاج شرط إعطائه الفقر ، فلا حاجة لذكره لأنه مندرج في عموم الفقراء ، بل كل من كان بوصف من هذه الأوصاف جاز الصرف

" صفحة رقم 62 "
إليه على أي حال كان من فقر أو غنى ، لأنه قام به الوصف الذي اقتضى الصرف إليه . قال ابن عطية : ولا يعطى منها في بناء مسجد ، ولا قنطرة ، ولا شراء مصحف انتتهى .
وابن السبيل قال ابن عباس : هو عابر السبيل . وقال قتادة في آخرين : هو الضيف . وقال جماعة : هو المسافر المنقطع به وإن كان له مال في بلده . وقالت جماعة : هو إلحاج المنقطع . وقال الزجاج : هو الذي قطع عليه الطريق . وفي كتاب سحنون قال مالك : إذا وجد المسافر المنقطع به من يسلفه لم يجز له أن يأخذ من الصدقة ، والظاهر الصرف إليه . وإن كان له ما يغنيه في طريقه لأنه ابن سبيل ، والمشهور أنه إذا كان بهذا الوصف لا يعطى .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم عدل عن اللام إلى في في الأربعة الأخيرة ؟ ( قلت ) : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأنّ في للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصباً ، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر ، وفي فك الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال . وتكرير في في قوله تعالى : وفي سبيل الله وابن السبيل ، فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين . ( فإن قلت ) : فكيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكائدهم ؟ ( قلت ) : ذل بكون هذه الأوصاف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم ، على أنهم ليسوا منهم حسماً لا طعاممهم وإشعاراً باستيجابهم الحرمان ، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم ولها ، وما سلطهم على الكلام لها ولمن قاسمها . وانتصب فريضة لأنه في معنى المصدر المؤكد ، لأن قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء ، معناه فرض من الله الصدقات لهم . وقرىء فريضة بالرفع على تلك فريضة انتهى . وقال الكرماني وأبو البقاء : فريضة حال من الضمير في الفقر ، أي مفروضة . قال الكرماني : كما تقول هي لك طلقاً انتهى . وذكر عن سيبويه أنها مصدر ، والتقدير : فرض الله الصدقات فريضة . وقال الفراء : هي منصوبة على القطع . والله عليم حكيم ، لأن ما صدر عنه هو عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة ، أو عليم بمقادرير المصالح ، حكيم لا يشرع إلا ما هو الأصلح .
2 ( ) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذالِكَ الْخِزْىُ الْعَظِيمُ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِين

" صفحة رقم 63 "
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } )
التوبة : ( 61 ) ومنهم الذين يؤذون . . . . .
الاعتذار التنصل من الذنب ، فقيل : أصله المحو ، من قولهم : اعتذرت المنازل ودرست ، فالمعتذر يحاول إزالة ذنبه . قال ابن أحمر : قد كنت تعرف آيات فقد جعلت
إطلال إلفك بالوعساء تعتذر
وعن ابن الأعرابي : إنّ الاعتذار هو القطع ، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع ، واعتذرت المياه انقطعت ، والعذر سبب لقطع الذم . عدن بالمكان يعدن عدونا أقام ، قاله : أبو زيد وابن الأعرابي . قال الأعشى : وإن يستضيفوا إلى حلمه
يضافوا إلى راجح قد عدن
وتقول العرب : تركت إبل فلان عوادن بمكان كذا ، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه . وسمي المعدن معدناً لا نبات الله الجوهر فيه وإثباته إياه في الأرض حتى عدن فيها أي ثبت . وعدن مدينة باليمن لأنها أكثر مدائن

" صفحة رقم 64 "
اليمن قطاناً ودوراً .
( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ ( : كان قدام بن خالد وعبيد بن هلال والجلاس بن سويد في آخين يؤذون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال بعضهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه فيوقع بنا . فقال الجلاس : بل نقول بما شئنا ، فإنّ محمداً أذن سامعة ، ثم نأتيه فيصدقنا فنزلت . وقيل : نزلت في نبتل بن الحرث كان ينم حديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى المنافقين ، فقيل له : لا تفعل ، فقال ذلك القول . وقيل : نزلت في الجلاس وزمعة بن ثابت في آخرين أرادوا أن يقعوا في الرسول وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس فحقروه ، فقالوا : لئن كان ما يقول محمّد حقاً لنحن شر من الحمير ، فغضب الغلام فقال : والله إنّ ما يقول محمد حق ، وأنتم لشر من الحمير ، ثم أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فأخبره فدعاهم ، فسألهم ، فحلفوا أنّ عامراً كاذب ، وحلف عامر أنهم كذبة وقال : اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب ، ونزلت هذه الآية يحلفون بالله لكم ليرضوكم ، فقال رجل : أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد ، يستوي فيه الواحد والجمع قاله الجوهري . وقال الزمخشري : الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ، ويقبل قول كل أحد ، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع ، كان جملته أذن سامعة ونظيره قولهم للرئية : عين . وقال الشاعر : قد صرت أذناً للوشاة سميعة
ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا
وهذا منهم تنقيص للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ وصفوه بقلة الحزامة والانخداع . وقيل : المعنى ذو أذن ، فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس . وقيل : أذن حديد السمع ، ربما سمع مقالتنا . وقيل : أذن وصف بنى على فعل من أذن يأذن أذناً إذا استمع ، نحو أنف وشلل وارتفع . أذن على إضمار مبتدأ أي : قل هو أذن خير لكم . وهذه الإضافة نظيرها قولهم : رجل صدق ، تريد الجودة والصلاح . كأنه قيل : نعم هو أذن ، ولكن نعم الإذن . ويجوز أن يراد هو أذن في الخير والحق وما يجب سماعه وقبوله ، وليس بإذن في غير ذلك . ويدل عليه خير ورحمة في قراءة من جرها عطفاً على خير أي : هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله ، قاله الزمخشري . وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن علي وأبو بكر عن عاصم في رواية قل : أذن بالتنوين خير بالرفع . وجوزوا في أذن أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، وخير خبر ثان لذلك المحذوف أي : هو أذن هو خير لكم ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقبل معاذيركم ولا يكافئكم على سوء خلتكم . وأن يكون خير صفة لأذن أي : أذن ذو خير لكم . أو على أنّ خيراً أفعل تفضيل أي : أكثر خيراً لكم ، وأن يكون أذن مبتدأ خبره خبر . وجاز أن يخبر بالنكرة عن النكرة مع حصول الفائدة فيه قاله صاحب اللوامح ، وهو جائز على تقدير حذف وصف أي : أذن لا يؤاخذكم خير لكم ، ثم وصفه تعالى بأنه يؤمن بالله ، ومن آمن بالله كان خائفاً منه لا يقدم على الإيذاء بالباطل . ويؤمن للمؤمنين أي : يسمع من المؤمنين ويسلم لهم ما يقولون ويصدقهم لكونهم مؤمنين ، فهم صادقون . ورحمة للذين آمنوا منكم ، وخص المؤمنين وإن كان رحمة للعالمين ، لأن ما حصل لهم بالإيمان بسبب الرسول لم يحصل لغيرهم ، وخصوا هنا بالذكر وإن كانوا قد دخلوا في العالمين لحصول مزيتهم . وهذه الأوصاف الثلاثة مبينة جهة الخيرية ، ومظهرة كونه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أذن خير . وتعدية يؤمن أولاً بالباء ، وثانياً باللام . قال ابن قتيبة : هما زائدان ، والمعنى : يصدق الله ، ويصدق المؤمنين .
وقال الزمخشري : قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر ، فعدى بالباء ، وقصد الاستماع للمؤمنين ، وإن يسلم لهم ما يقولون فعدى باللام . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ( ما أنباه عن الباء ونحوه ) فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ ( ) أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ (

" صفحة رقم 65 "
) قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ ( انتهى . وقال ابن عطية : يؤمن بالله يصدق بالله ، ويؤمن للمؤمنين . قيل : معناه ويصدق المؤمنين ، واللام زائدة كما هي في ) رَدِفَ لَكُم ( وقال المبرد : هي متعلقة بمصدر مقدر من الفعل ، كأنه قال : وإيمانه للمؤمنين أي : وتصديقه . وقيل : يقال آمنت لك بمعنى صدقتك ، ومنه قوله : ) وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ( وعندي أنّ هذه التي معها اللام في ضمنها باء فالمعنى : ويصدق للمؤمنين فيما يخبرونه به ، وكذلك وما أنت بمؤمن لنا بما نقوله لك انتهى . وقرأ أبي ، وعبد الله ، والأعمش ، وحمزة : ورحمة بالجر عطفاً على خبر ، فالجملة من يؤمن اعتراض بين المتعاطفين ، وباقي السبعة بالرفع عطفاً على يؤمن ، ويؤمن صفة لأذن خير . وابن أبي عبلة : بالنصب مفعولاً من أجله حذف متعلقه التقدير : ورحمة يأذن لكم ، فحذف لدلالة أذن خير لكم عليه . وأبرز اسم الرسول ولم يأت به ضميراً على نسق يؤمن بلفظ الرسول تعظيماً لشأنه ، وجمعاً له في الآية بين الرتبتين العظيمتين من النبوّة والرسالة ، وإضافته إليه زيادة في تشريفه ، وحتم على من أذاه بالعذاب الأليم ، وحق لهم ذلك والذين يؤذون عام يندرج فيه هؤلاء الذين أذوا هذا الإيذاء الخاص وغيرهم .
( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ( : الظاهر أنّ الضمير في يحلفون عائد على الذين يقولون : هو أذن أنكره وحلفوا أنهم ما قالوه . وقيل : عائد على الذين قالوا : إن كان ما يقول محمد حقاً ، فنحن شر من الحمير ، وتقدم ذكر ذلك . وقيل : عائد على الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فلما رجع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمؤمنون اعتذروا وحلفوا واعتلوا ، قاله : ابن السائب ، واختاره البيهقي . وكانوا ثلاثة وثمانين حلف منهم ثمانون ، فقبل الرسول أعذارهم واعترف منهم بالحق ثلاثة ، فأطلع الله رسوله على كذبهم ونفاقهم ، وهلكوا جميعاً بآفات ، ونجا الذين صدقوا . وقيل : عائد على عبد الله بن أبي ومن معه حلفوا أن لا يتخلفوا عن رسول الله وليكونوا معه على عدوه . وقال ابن عطية المراد جميع المنافقين الذين يحلفون للرسول والمؤمنين أنهم معهم في الدين وفي كل أمر وحرب ، وهم يبطنون النفاق ، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر ، وهذا قول جماعة من أهل التأويل . واللام في ليرضوكم لام كي ، وأخطأ من ذهب إلى أنها جواب القسم ، وأفرد الضمير في أن يرضوه لأنهما في حكم مرضي واحد ، إذ رضا الله هو ضا الرسول ، أو يكون في الكلام حذف . قال ابن عطية : مذهب سيبويه أنهما جملتان ، حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها ، والتقدير عنده : والله أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه . وهذا كقول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف ومذهب المبرد : أنّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وتقديره : والله أحق أن يرضوه ورسوله . وقيل : الضمير عائد على المذكور كما قال رؤبة : فيها خطوط من سواد وبلق
كأنه في الجلد توليع البهق
انتهى . فقوله : مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الأولى لدلالة الثانية عليها أنْ كان الضمير في أنهما عائداً على كل واحدة من الجملتين ، فكيف تقول حذفت الأولى ولم تحذف الأولى إنما حذف خبرها ؟ ، وإن كان الضمير عائداً على الخبر وهو أحق أن يرضوه ، فلا يكون جملة إلا باعتقاد كون أنْ يرضوه مبتدأ وأحق المتقدم خبره ، لكن لا يتعين هذا

" صفحة رقم 66 "
القول : إذ يجوز أن يكون الخبر مفرداً بأن يكون التقدير : أحق بأن يرضوه . وعلى التقدير الأول يكون التقدير : والله إرضاؤه أحق . وقدره الزمخشري : والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك . إن كانوا مؤمنين كما يزعمون ، فأحق من يرضونه الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالطاعة والوفاق .
( أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذالِكَ الْخِزْىُ الْعَظِيمُ ( أي ألم يعلم المنافقون ؟ وهو استفهام معناه التوبيخ والإنكار . وقرأ الحسن والأعرج : بالتاء على الخطاب ، فالظاهر أنه التفات ، فهو خطاب للمنافقين . قيل : ويحتمل أن يكون خطاباً للمؤمنين ، فيكون معنى الاستفهام التقرير . وإن كان خطاباً للرسول فهو خطاب تعظيم ، والاستفهام فيه للتعجب ، والتقدير : ألا تعجب من جهلهم في محادّة الله تعالى : وفي مصحف أبيّ ألم يعلم . قال ابن عطية : على خطاب النبي عليه السلام انتهى . والأولى أن يكون خطاباً للسامع ، قال أهل المعاني : ألم تعلم ، الخطاب لمن حاول تعليم إنسان شيئاً مدة وبالغ في ذلك التعليم فلم يعلم فقال له : ألم تعلم بعد المباحث الظاهرة والمدة المديدة ، وحسن ذلك لأنه طال مكث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) معه ، وكثر منه التحذير عن معصية الله والترغيب في طاعة الله . قال بعضهم : المحادّة المخالفة ، حاددته خالفته ، واشتقاقه من الحد أي كان على حد غير حادة كقولك : شاقة ، كان في شق غير شقه . وقال أبو مسلم : المحادة مأخوذة من الحديد ، حديد السلاح . والمحادة هنا ، قال ابن عباس : المخالفة . وقيل : المحاربة . وقيل : المعاندة . وقيل : المعادة . وقيل : مجاوزة الحد في المخالفة . وهذه أقوال متقاربة . وقرأ الجمهور فإنّ له بالفتح ، والفاء جواب الشرط . فتقتضي جملة وإنّ له مفرد في موضع رفع على الابتداء ، وخبره محذوف قدره الزمخشري : مقدماً نكرة أي : فحق أن يكون وقدره غيره : متأخراً أي فإن له نار جهنم واجب ، قاله : الأخفش ، ورد عليه بأن أنْ لا يبتدأ بها متقدمة على الخبر ، وهذا مذهب سيبويه والجمهور . وأجاز الأخفش والفراء وأبو حاتم الابتداء بها متقدمة على الخبر ، فالأخفش خرج ذلك على أصله . أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب أنّ له النار . قال علي بن سليمان : وقال الجرمي والمبرد : إن الثانية مكررة للتوكيد ، كان التقدير : فله نار جهنم ، وكرر أنّ توكيداً . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون فإن له معطوفاً على أنه ، على أن جواب من محذوف تقديره : ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فإن له نار جهنم انتهى ، فيكون فإنّ له نار جهنم في موضع نصب . وهذا الذي قدره لا يصح ، لأنهم نصوا على أنه إذا حذف الجواب لدلالة الكلام عليه كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ ، أو مضارعاً مجزوماً بلم ، فمن كلامهم : أنت ظالم إن فعلت ، ولا يجوز أن تفعل ، وهنا حذف جواب الشرط ، وفعل الشرط ليس ماضي اللفظ ولا مضارعاً مقروناً بلم ، وذلك إنْ جاء في كلامهم فمخصوص بالضرورة . وأيضاً فتجد الكلام تاماً دون تقدير هذا الجواب . ونقلوا عن سيبويه أنّ أنّ بدل من أنه . قال ابن عطية : وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى . والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد أن لم يتم جواب الشرط ، وتلك الجملة هي الخبر . وأيضاً فإنّ الفاء مانع البدل وأيضاً ، فهي معنى آخر غير الأول ، فيقلق البدل . وإذا تلطف للبدل فهو بدل اشتمال انتهى . وقال أبو البقاء : وهذا يعني البدل ضعيف لوجهين : أحدهما : أن الفاء التي معها تمنع من ذلك ، والحكم بزيادتها ضعيف . والثاني : أن جعلها بدلاً يوجب سقوط جواب الكلام انتهى . وقيل : هو على إسقاط اللام أي : فلأن له نار جهنم ، فالفاء جواب الشرط ، ويحتاج إلى إضمار ما يتم به جواب الشرط جملة أي : فمحادته لأن له نار جهنم . وقرأ ابن أبي عبلة : فإن له بالكسر في الهمزة حكاها عنه أبو عمرو الداني ، وهي قراءة محبوب عن الحسن ، ورواية أبي عبيدة عن أبي عمرو ، ووجهه في العربية قوي لأنّ الفاء تقتضي الاستئناف ، والكسر مختار لأنه لا يحتاج إلى إضمار ، بخلاف الفتح . وقال الشاعر : فمن يك سائلاً عني فإني
وجروة لا ترود ولا تعار
وعلى هذا يجوز في أنّ بعد فاء الجزاء وجهان : الفتح ، والكسر . ذلك لأن كينونة النار له خالداً فيها هو الهوان

" صفحة رقم 67 "
العظيم كما قال : ) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ).
) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( : كان المنافقون يعيبون الرسول ويقولون : عسى الله أن لا يفشي سرنا فنزلت ، قاله مجاهد . وقال السدي : قال بعضهم : وددت أني جلدت مائة ولا ينزل فيناشىء يفضحنا ، فنزلت . وقال ابن كيسان : وقف جماعة منهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به فأخبره جبريل عليه السلام فنزلت . وقيل قالوا في غزوة تبوك : أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها : هيهات هيهات فأنزل الله قل استهزؤوا . والظاهر أنّ يحذر خبر ، ويدل عليه أن الله مخرج ما تحذرون . فقيل : هو واقع منهم حقيقة لما شاهدوا الرسوليخبرهم بما يكتمونه ، وقع الحذر والخوف في قلوبهم . وقال الأصم : كانوا يعرفونه رسولاً من عند الله فكفروا حسداً ، واستبعد القاضي في العالم بالله ورسوله وصحة دينه أن يكون محاداً لهما وليس ببعيد ، فإنه إذا استحكم الحسد نازع الحاسد في المحسوسات . وقيل : هو حذر أظهروه على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول يذكر أشياء وأنها عن الوحي وكانوا يكذبون بذلك ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأعلم أنه مظهر سرهم ، ويدل عليه قوله : قل استهزؤوا . وقال الزجاج وغيره ممن ذهب إلى التحرز من أن يكون كفرهم عناداً : هو مضارع في معنى الأمر أي : ليحذر المنافقون ، ويبعده مخرج ما تحذرون ، وأن تنزل مفعول يحذر ، وهو متعد . قال الشاعر : حذر أموراً لا تضرّ وآمن
ما ليس ينجيه من الأقدار
وقال تعالى : ) وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ( لما كان قبل التضعيف متعدياً إلى واحد ، عداه بالتضعيف إلى اثنين . وقال المبرد : حذر إنما هي من هيئات الأنفس التي لا تتعدى مثل فزع ، والتقدير : يحذر المنافقون من أن تنزل ، ولا يلزم ذلك : ألا ترى أنّ خاف من هيئات النفس وتتعدى ؟ والظاهر أن قوله عليهم : وتنبئهم ، الضمير أنّ فيهما عائدان على المنافقين ، وجاء عليهم لأنّ السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة علهم قاله : الكرماني ، والزمخشري . قال الكرماني : ويحتمل أنه من قولك : هذا عليك لا لك .
ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم : تذيع أسرارهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة ، فكأنها تخبرهم بها . وقال الزمخشري : والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين ، وفي قلوبهم للمنافقين ، وصح ذلك لأنّ المعنى يعود إليه انتهى . والأمر بالاستهزاء أمر تهديد ووعيد كقوله : ) اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ( ومعنى مخرج ما تحذرون مبرز إلى حيز الوجود ، ما تحذرونه من إنزال السورة ، أو مظهر ما كنتم تحذرونه من إظهار نفاقكم . وفعل ذلك تعالى في هذه السورة فهي تسمى الفاضحة ، لأنها فضحت المنافقين . قيل : كانوا سبعين رجلاً أنزل الله أسماءهم وأسماء آبائهم في القرآن ، ثم رفع ذلك ونسخ رحمة ورأفة منه على خلقه ، لأن أبناءهم كانوا مسلمين .
( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ ( : أي : ولئن سألتهم عما قالوا من القبيح في حقك وحق أصحابك من قول بعضهم : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام ، وقول بعضهم : كأنكم غداً في الجبال أسرى لبني الأصفر ، وقول بعضهم : ما رأيت كهؤلاء لا أرغب بطوناً ولا أكثر كذباً ولا أجبن عند اللقاء ، فأطلع الله نبيه على ذلك فعنفهم ، فقالوا : يا نبي الله ما كنا في شيء من أمرك ولا أمر أصحابك ، إنما كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ، كنا في غير جدّ . قل : أبالله تقرير على استهزائهم ، وضمنه الوعيد ، ولم يعبأ باعتذارهم

" صفحة رقم 68 "
لأنهم كانوا كاذبين فيه ، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم وبأنه موجود منهم ، حتى وبخوا بأخطائهم موضع الاستهزاء ، حيث جعل المستهزأ به على حرف التقرير . وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته قاله : الزمخشري ، وهو حسن . وتقديم بالله وهو معمول خبر كان عليها ، يدل على جواز تقديمه عليها . وعن ابن عمر : رأيت قائل هذه المقالة يعني : إنما كنا نخوض ونلعب وديعة بن ثابت متعلقاً بحقب ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب ، والنبي يقول : ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ؟ ) وذكر أنّ هذا المتعلق عبد الله بن أبي بن سلول ، وذلك خطأ لأنه لم يشهد تبوك .
( تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ( : نهوا عن الاعتذار ، لأنها اعتذارات كاذبة فهي لا تنفع . قد كفرتم أظهرتم الكفر بعد إيمانكم أي : بعد إظهار إيمانكم ، لأنهم كانوا يسرُّون الكفر فأظهروه باستهزائهم ، وجاء التقسيم بالعفو عن طائفة ، والتعذيب لطائفة . وكان المنافقون صنفين : صنف أمر بجهادهم : ( جاهد الكفار والمنافقين ) وهم رؤساؤهم المعلنون بالأراجيف ، فعذبوا بإخراجهم من المسجد ، وانكشاف معظم أحوالهم . وصنف ضعفه مظهرون الإيمان وإن أبطنوا الكفر ، لم يؤذوا الرسول فعفى عنهم ، وهذا العذاب والعفو في الدنيا . وقيل : المعفو عنها من علم الله أنهم سيخلصون من النفاق ويخلصون الإيمان ، والمعذبون من مات منهم على نفاقه . وقيل : المعفو عنه رجل واحد اسمه مخشى بن حمير بضم الحاء وفتح الميم وسكون الياء ، كان مع الذين قالوا : ( إنما كنا نخوض ونلعب ) وقيل : كان منافقاً ثم تاب توبة صحيحة . وقيل : إنه كان مسلماً مخلصاً ، إلا أنه سمع كلام المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم ، فعفا الله عنه ، واستشهد باليمامة وقد كان تاب ، ويسمى عبد الرحمن ، فدعا الله أن يستشهدوا ويجهل أمره ، فكان ذلك باليمامة ولم يوجد جسده .
وقرأ زيد بن ثابت ، وأبو عبد الرحمن ، وزيد بن علي ، وعاصم من السبعة : إن نعف بالنون ، نعذب بالنون طائفة . ولقيني شيخنا الأديب الحامل أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي بغرناطة فسألني قراءة من تقرأ اليوم على الشيخ أبي جعفر بن الطباغ ؟ فقلت : قراءة عاصم ، فأنشدني : لعاصم قراءة
لغيرها مخالفة
إن نعف عن طائفة
منكم نعذب طائفة
وقرأ باقي السبعة : إن تعف تعذب طائفة ، مبنياً للمفعول . وقرأ الجحدري : أن يعف بعذب مبنياً للفاعل فيهما ، أي : أن يعف الله . وقرأ مجاهد : أن تعف بالتاء مبنياً للمفعول ، تعذب مبنياً للمفعول بالتاء أيضاً . قال ابن عطية : على تقدير إن تعف هذه الذنوب . وقال الزمخشري : الوجه التذكير لأنّ المسند إليه الظرف كما تقول : سير بالدابة ، ولا تقول سيرت بالدابة ، ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل : إن ترحم طائفة فأنث لذلك ، وهو غريب . والجيد قراءة العامة إن تعف عن طائفة بالتذكير ، وتعذب طائفة بالتأنيث انتهى . مجرمين : مصرين على النفاق غير تائبين .
( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( : بيّن تعالى أن ذكورهم وأناثهم ليسوا من المؤمنين كما قال تعالى : ) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ ( بل بعضهم من بعض في الحكم والمنزلة والنفاق ، فهم على دين واحد . وليس المعنى على التبعيض حقيقة لأن ذلك معلوم ووصفهم بخلاف ما عليه المؤمنون من أنهم يأمرون بالمنكر وهو الكفر وعبادة غير الله والمعاصي ، وينهون عن المعروف

" صفحة رقم 69 "
لأن الذين نزلت فيهم لم يكونوا أهل قدرة ولا أفعال ظاهرة ، وذلك بظهور الإسلام وعزته . وقبض الأيدي عبارة عن عدم الإنفاق في سبيل الله قاله الحسن . وقال قتادة : عن كل خير . وقال ابن زيد : عن الجهاد وحمل السلاح في قتال أعداء الدين . وقال سفيان : عن الرفع في الدعاء . وقيل ذلك كناية عن الشح في النفقات في المبار والواجبات ، والنسيان هنا الترك . قال قتادة : تركوا طاعة الله وطاعة رسوله فنسيهم ، أي : تركهم من الخير ، أما من الشر فلم ينسهم . وقال الزمخشري : أغفلوا ذكره فنسيهم تركهم من رحمته وفضله ، ويغبر بالنسيان عن الترك مبالغة في أنه لا يخطر ذلك ببال . هم الفاسقون أي : هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ من كل خير ، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسب هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين .
( وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( : الكفار هنا المعلنون بالكفر ، وخالدين فيها حال مقدرة ، لأن الخلود لم يقارن الوعد . وحسبهم كافيهم ، وذلك مبالغة في عذابهم ، إذ عذابهم شيء لا يزاد عليه ، ولعنهم أهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المقربين . مقيم : مؤبّد لا نقلة فيه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يريد ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه ، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق . والظاهر المخالف للباطن خوفاً من المسلمين ، وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم .
( كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( : هذا التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب . قال الفراء : التشبيه من جهة الفعل أي : فعلتم كأفعال الذين من قبلكم فتكون الكاف في موضع نصب . وقال الزجاج : المعنى وعد كما وعد الذين من قبلكم ، فهو متعلق بوعد . وقال ابن عطية : وفي هذا قلق . وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون متعلقة بيستهزؤون ، وهذا فيه بعد . وقيل : في موضع رفع التقدير أنتم كالذين . والتشبيه وقع في الاستمتاع والخوض . وقوله : كانوا أشد ، تفسير لشبههم بهم ، وتمثيل لفعلهم بفعلهم . والخلاق : النصيب أي : ما قدر لهم .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : أي فائدة في قوله : فاستمتعوا بخلاقهم ، وقوله : كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم مغن عنه ، كما أغنى كالذي خاضوا ؟ ( قلت ) : فائدته أنْ قدم الأولين بالاستمتاع ما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائهم ، فشبهوا بهم الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الراضي به ، ثم شبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم كما يريد أن ينبه بعض الظلمة على سماجة فعله فيقول : أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف ، وأنت تفعل مثل فعله . وأما وخضتم كالذي خاضوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك المقدمة انتهى . يعني : استغنى عن أن يكون التركيب ، وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا . قال ابن عطية : كانوا أشد منكم وأعظم فعصوا فهلكوا ، فأنتم أحرى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم والمعنى : عجلوا حظهم في دنياهم ، وتركوا باب الآخرة ، فاتبعتموهم أنتم انتهى . ولما ذكر تشبيههم بمن قبلهم وذكر ما كانوا فيه من شدة القوة وكثرة الأولاد ، واستمتاعهم بما قدّر لهم من الأنصباء ، شبه استمتاع المنافقين باستمتاع الذين من قبلهم ، وأبرزهم بالاسم الظاهر فقال : كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ، ولم يكن التركيب كما استمتعوا بخلاقهم ليدل بذلك على التحقير ، لأنه كما يدل بإعادة الظاهر مكان المضمر على التفخيم والتعظيم ، كذلك بدل بإعادته على التحقير والتصغير لشأن المذكور كقوله تعالى : ) سَوِيّاً ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً ( وكقوله : ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ولم يأت التركيب أنه كان ، ولا أنهم هم . وخضتم : أي دخلتم في اللهو والباطل ، وهو مستعار من الخوض في الماء ، ولا يستعمل إلا في الباطل ، لأنّ التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام ، وأمور الباطل إنما هي خوض . ومنه : رب متخوض في

" صفحة رقم 70 "
مال الله له النار يوم القيامة . كالذي خاضوا : أي كالخوض الذي خاضوا قاله الفراء . وقيل : كالخوض الذين خاضوا . وقيل : النون محذوفة أي : كالذين خاضوا ، أي كخوض الذين . وقيل : الذي مع ما بعدها يسبك منهما مصدر أي : كخوضهم . والظاهر أنّ أولئك إشارة إلى الذين وصفهم بالشدّة وكثرة الأموال والأولاد ، والمعنى : وأنتم كذلك يحبط أعمالكم . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بأولئك المنافقين المعاصرين لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويكون الخطاب لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي ذلك خروج من خطاب إلى خطاب غير الأول . وقوله : في الدنيا ما يصيبهم في الدنيا من التعب وفساد أعمالهم ، وفي الآخرة نار لا تنفع ولا يقع عليها جزاء . ويقوي الإشارة بأولئك إلى المنافقين قوله في الآية المستقبلة ) أَلَمْ يَأْتِهِمْ ( فتأمله انتهى . وقال الزمخشر : حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ، نقيض قوله تعالى : ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ).
) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا ( : لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وتكذيب الأنبياء ، وكان لفظ الذين من قبلكم فيه إبهام ، نصّ على طوائف بأعيانها ستة ، لأنهم كان عندهم شيء من أنبائهم ، وكانت بلادهم قريبة من بلاد العرب ، وكانوا أكثر الأمم عدداً ، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء : نوح أول الرسل ، وابراهيم الأب الأقرب للعرب وما يليها من الأمم مقاربون لهم في الشدّة وكثرة المال والولد . فقوم نوح أهلكوا بالغرق ، وعاد بالريح ، وثمود بالصيحة ، وقوم إبراهيم بسلب النعمة عنهم ، حتى سلطت البعوضة على نمرود ملكهم ، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظلة ، والمؤتفكات بجعل أعالي أرضها أسافل ، وأمطار الحجارة عليهم .
قال الواحدي : معنى الائتفاك الانقلاب ، فأفكته فائتفك أي قلبته فانقلب . والمؤتفكات صفة للقرى التي ائتفكت بأهلها ، فجعل أعلاها أسفلها . والمؤتفكات مدائن قوم لوط . وقيل : قريات قوم لوط وهود وصالح . وائتفاكهن : انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر . قال ابن عطية : والمؤتفكات أهل القرى الأربعة . وقيل : التسعة التي بعث إليهم لوط عليه السلام ، وقد جاءت في القرآن مفردة تدل على الجمع ، ومن هذه اللفظة قول عمران بن حطان : لمنطق مستبين غير ملتبس
به اللسان ورأي غير مؤتفك
أي غير منقلب متصرّف مضطرب . ومنه يقال للريح : مؤتفكة لتصرفها ، ومنه ) أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( والإفك صرف القول من الحق إلى الكذب انتهى .
وفي قوله : ألم يأتهم ، تذكير بأنباء الماضين وتخويف أنْ يصيبهم مثل ما أصابهم ، وكان أكثرهم عالمين بأحوال هذه الأمم ، وقد ذكر شيء منها في أشعار جاهليتهم كالأفوه الأزدي ، وعلقمة بن عبدة ، وغيرهما . ويحتمل أن يكون قوله : ألم يأتهم تذكيراً بما قص الله عليهم في القرآن من أحوال هؤلاء وتفاصيلها . والظاهر أنّ الضمير في أتتهم رسلهم بالبينات عائد على الأمم الستة المذكورة ، والجملة شرح للنبأ . وقيل : يعود على المؤتفكات خاصة ، وأتى بلفظ رسل وإن كان نبيهم واحداً ، لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولاً داعياً ، فهم رسول رسول الله ، ذكره الطبري . وقال الكرماني : قيل : يعود على المؤتفكات أي : أتاهم رسول بعد رسول . والبينات المعجزات ، وهي وأصحاب بالنسبة إلى الحق ، لا بالنسبة إلى المكذبين . قال ابن عباس : ليظلمهم ليهلكهم حتى يبعث فيهم نبياً ينذرهم . والمعنى : أنهم أهلكوا باستحقاقهم . وقال مكي : فما كان الله ليضع عقوبته في غير مستحقها ، إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون إذ عصوا الله وكذبوا رسله حتى أسخطوا ربهم واستوجبوا العقوبة ، فظلموا بذلك أنفسهم . وقال الكرماني : ليظلمهم بإهلاكهم ، يظلمون بالكفر والتكذيب . وقال

" صفحة رقم 71 "
الزمخشري : فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح ، وأن يعاقبهم بغير جرم ، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه انتهى . وذلك على طريقة الاعتزال . ويظهر أن بين قوله بالبينات . وقوله : فما كان كلاماً محذوفاً تقديره والله أعلم فكذبوا فأهلكهم الله ، فما كان الله ليظلمهم .
( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ مِنْ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( : لما ذكر المنافقين والمنافقات وما هم عليه من الأوصاف القبيحة والأعمال الفاسدة ، ذكر المؤمنين والمؤمنات وقال في أولئك بعضهم من بعض ، وفي هؤلاء بعضهم أولياء بعض . قال ابن عطية : إذ . لا ولاية بين المنافقين ولا شفاعة لهم ، ولا يدعو بعضهم لبعض ، فكان المراد هنا الولاية في الله خاصة . وقال أبو عبد الله الرازي : بعضهم من بعض يدل على أنّ نفاق الاتباع وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر ، وسبب مقتضى الطبيعة والعادة . أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل والعادة ، بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية ، والولاية ضد العداوة . ولما وصف المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض ذكر بعده ما يجري كالتفسير والشرح له ، وهي الخمسة التي يميز بها المؤمن على المنافق . فالمنافق يأمر بالمنكر ، وينهى عن المعروف ولا يقوم إلى الصلاة إلا وهو كسلان ، ويبخل بالزكاة ، ويتخلف بنفسه عن الجهاد ، وإذا أمره الله تثبط وثبط غيره . والمؤمن بضد ذلك كله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والجهاد . وهو المراد في هذه الآية بقوله : ويطيعون الله ورسوله انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وقال أبو تلخيص . وقال أبو العالية : كل ما ذكره الله في القرآن من الأمر بالمعروف فهو دعاء من الشرك إلى الإسلام ، وما ذكر من النهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأصنام والشياطين . وقال ابن عباس : ويقيمون الصلاة هي الصلوات المس . قال ابن عطية : وبحسب هذا تكون الزكاة المفروضة والمدح عندي بالنوافل أبلغ ، إذ من يقيم النوافل أجدى بإقامة الفروض ، ويطيعون الله ورسوله جامع للمندوبات انتهى ، سيرحمهم الله . قال ابن عطية : السين مدخلة في الوعد مهلة ، لتكون النفوس تتنعم برجائه وفضله تعالى . وقال الزمخشري : السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة ، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في قولك : سأنتقم منك يوماً يعني : إنك لا تفوتني وإن تبطأ ذلك . ونحوه : ) سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ( ) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ ( ) سَوْفَ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ ( انتهى . وفيه دفينة خفية من الاعتزال بقوله : السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة ، يشير إلى أنه يجب على الله تعالى إثابة الطائع ، كما تجب عقوبة العاصي . وليس مدلول السين توكيد ما دخلت عليه ، إنما تدل على تخليص المضارع للاستقبال فقط . ولما كانت الرحمة هنا عبارة عما يترتب على تلك الأعمال الصالحة من الثواب والعقاب في الآخرة ، أتى بالسين التي تدل على استقبال الفعل أنّ الله عزيز غالب على كل شيء ، قادر عليه ، حكيم واضع كلاًّ موضعه .
( وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( : لمّا أعقب المنافقين بذكر ما وعدهم به من نار جهنم ، أعقب المؤمنين بذكر ما وعدهم به من نعيم الجنان . ولما كان قوله : ) سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ( وعداً إجمالياً فصله هنا تنبيهاً على أنّ تلك الرحمة هي هذه الأشياء ، ومساكن طيبة . قال ابن عباس : هي دور المقربين . وقيل : دور في جنات عدن مختلفة في الصفات باختلاف حال الحالين بها . وقيل : قصور زبرجد ودر وياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام في أماكن إقامتهم . وفي الحديث : ( قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوته حمراء ، وفي كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريراً ) وذكر في آخر هذا الحديث أشياء ، وإن صحّ هذا النقل عن الرسول وجب المصير إليه . في جنات عدن أي : إقامة . وقال كعب الأحبار : هي بالفارسية الكروم والأعناب .

" صفحة رقم 72 "
قال ابن عطية : وأظن هذا ما اختلط بالفردوس . وقال ابن مسعود : عدن بطنان الجنة وشرقها ، وعنه : وسط الجنة . وقال عطاء : نهر في الجنة ، جنانه على حافيته . وقال الضحاك وأبو عبيدة : مدينة الجنة ، وعظمها فيها الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمة العدل والناس حولهم بعد ، والجنات حولها . وقال الحسن : قصر في الجن لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل ، ومدتها صوته . وعنه : قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد . وروى أبو الدرداء عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ، ولا يسكنها غير ثلاثة : النبيون ، والصديقون ، والشهداء يقول الله تعالى : طوبى لمن دخلك ) وإن صحّ هذا عن الرسول وجب المصير إليه . وقال مقاتل : هي أعلى درجة في الجنة . وقال عبد الله بن عمرو : قصر حوله البروج والمروج ، له خمسة آلاف باب ، على كل باب خيرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد . وقي : قصته الجنة فيها نهر على حافتيه بساتين . وقيل : التسنيم ، وفيه قصور الدر والياقوت والذهب ، والأرائك عليها الخيرات الحسان ، سقفها عرش الرحمن لا ينزلها إلا الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ، يفوح ريحها من مسيرة خمسمائة عام . وهذه أقوال عن السلف كثيرة الاختلاف والاضطراب ، وبعضها يدل على التخصيص وهو مخالف لظاهر الآية ، إذ وعد الله بها المؤمنين والمؤمنات . وقال الزمخشري : وعدن علمٌ لقوله تعالى : ) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ ( ويدل عليه ما روى أبو الدرداء ، وساق الحديث المتقدم الذكر عن أبي الدرداء ، وإنما استدل بالآية على أنّ عدناً علم ، لأن المضاف إليها وصف بالتي وهي معرفة ، فلو لم تكن جنات مضافة لمعرفة لم توصف بالمعرفة ولا يتعين ذلك ، إذ يجوز أن تكون التي خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوباً بإضمار أعني : أو أمدح ، أو بدلاً من جنات . ويبعد أن تكون صفة لقوله : الجنة للفصل بالبدل الذي هو جنات ، والحكم أنه إذا اجتمع النعت والبدل قدم النعت ، وجيء بعده بالبدل .
وقرأ الأعمش ورضوان : بضمتين . قال صاحب اللوامح : وهي لغة ، ورضوان مبتدأ . وجاز الابتداء به لأنه موصوف بقوله : من الله ، وأتى به نكرة ليدل على مطلق أي : وشيء من رضوانه أكبر من كل ما ذكر . والعبد إذا علم برضا مولاه عنه كان أكبر في نفسه مما وراءه من النعيم ، وإنما يتهيأ له النعيم بعامه برضاه عنه . كما أنه إذا علم بسخطه تنغصت حاله ، ولم يجد لها لذة . ومعنى هذه الجملة موافق لما روي في الحديث : ( أن الله تعالى يقول لعباده إذا استقروا في الجنة : هل رضيتم ؟ فيقولون : وكيف لا نرضى يا ربنا ؟ فيقول : إني سأعطيكم أفضل من هذا كله رضواني ، أرضى عنكم فلا أسخط عليكم أبداً ) وقال الحسن : وصل إلى قلوبهم برضوان الله من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة . قال ابن عطية : ويظهر أن يكون قوله تعالى : ورضوان من الله أكبر ، إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تشنيم ، والذين يرون كما يرى النجم الغائر في الأفق ، وجميع من في الجنة راض ، والمنازل مختلفة ، وفضل الله تعالى متسع انتهى . وقال الزمخشري : رضاه تعالى هو سبب كل فوز وسعادة انتهى . والإشارة بذلك إلى جميع ما سبق ، أو إلى الرضوان قولان ، والأظهر الأول .
( ) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الاٌّ رْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّآ ءَاتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِىَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ لَاكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَائِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاٌّ عْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ ( )
) الْعَظِيمُ ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( : لما ذكر وعيد غير المؤمنين وكانت السورة قد نزلت في المنافقين بدأبهم في ذلك بقوله : وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار

" صفحة رقم 73 "
نار جهنم ( ولما ذكر أمر الجهاد ، وكان الكفار غير المنافقين أشد شكيمة وأقوى أسباباً في القتال وإنكاء بتصديهم للقتال ، قال : جاهد الكفار والمنافقين فبدأ بهم . قال ابن عباس وغيره : جاهد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان . وقال الحسن وقتادة : والمنافقين بإقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها . وقال ابن مسعود : جاهدهم باليد ، فإن لم تستطع فباللسان ، فإن لم تستطع فبالقلب ، وإلا كفرار في وجوههم ، وأغلظ عليهم في الجهادين . والغلظ ضد الرقة ، والمراد خشونة الكلام وتعجيل الانتقام على خلاف ما أمر به في حق المؤمنين . واخف جناحك للمؤمنين وكل من وقف منه على فساد في العقائد ، فهذا حكمه يجاهد بالحجة ، ويستعمل معه الغلظ ما أمكن .
( ( ولما ذكر أمر الجهاد ، وكان الكفار غير المنافقين أشد شكيمة وأقوى أسباباً في القتال وإنكاء بتصديهم للقتال ، قال : جاهد الكفار والمنافقين فبدأ بهم . قال ابن عباس وغيره : جاهد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان . وقال الحسن وقتادة : والمنافقين بإقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها . وقال ابن مسعود : جاهدهم باليد ، فإن لم تستطع فباللسان ، فإن لم تستطع فبالقلب ، وإلا كفرار في وجوههم ، وأغلظ عليهم في الجهادين . والغلظ ضد الرقة ، والمراد خشونة الكلام وتعجيل الانتقام على خلاف ما أمر به في حق المؤمنين . واخف جناحك للمؤمنين وكل من وقف منه على فساد في العقائد ، فهذا حكمه يجاهد بالحجة ، ويستعمل معه الغلظ ما أمكن .
( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ ( : الضمير عائد على المنافقين . فقيل : هو حلف الجلاس ، وتقدمت قصته مع عامر بن قيس . وقيل : حلف عبد الله بن أبي أنه ما قال ) لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ( الآية . وقال الضحاك : حلفهم حين نقل حذيفة إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أصحابه وإياه في خلوتهم ، وأما وهموا بما لم ينالوا فنزلت قيل : في ابن أبي في قوله : ليخرجن ، قاله قنادة ، وروي عن ابن عباس . وقيل : بقتل الرسول ، والذي همّ به رجل يقال له : الأسود من قريش ، رواه مجاهد عن ابن عباس . وقال مجاهد : نزلت في خمسة عشر هموا بقتله وتوافقوا على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ اتسم العقبة ، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها ، وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة يوقع إخفاف الإبل وقعقعة السلاح ، فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال : إليكم يا أعداء الله فهربوا ، وكان منهم عبد الله بن أبي ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعيمة بن أبيرق ، والجلاس بن سويد ، وأبو عامر بن نعمان ، وأبو الأحوص . وقيل : همهم بما لم ينالوا ، هو أن يتوجوا عبد الله بن أبي إذا رجعوا من غزوة تبوك يباهون به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فلم ينالوا ما هموا به ، فنزلت . وعن ابن عباس : كان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) جالساً في ظل شجرة فقال : إنه سيأتلكم إنسان فينظر إليكم شيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه ، فلم يلبثوا أنْ طلع رجل أزرق فدعاه فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ فانطلق لرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، فأنزل الله هذه الآية .
وكلمة الكفر قول ابن أبي لما شاور الجهجاه الغفاري وسنان بن وبرة الجهني ، وقد كسع أحدهما رجل الآخر في غزوة المريسيع ، فصاح الجهجاه : يا للأنصار ، وصاح سنان : يا للمهاجرين ، فثار الناس ، وهدأهم الرسول فقال ابن أبي : ما أرى هؤلاء إلا قد تداعوا علينا ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ، أو الاستهزاء ، أو قول الجلاس المتقدم ، أو قولهم : نعقد التاج ، أو قولهم : ليس بنبي ، أو القول : لئن رجعنا إلى المدينة أقوال . وكفروا : أي أظهروا الكفر بعد إسلامهم أي إظهار إسلامهم . ولم يأت التركيب بعد إيمانهم لأنّ ذلك لم يتجاوز ألسنتهم . والهم دون العزم ، وتقدم الخلاف في الهام والمهموم به . وقيل : هو همّ المنافقين أو الجلاس بقتل ناقل حديث الجلاس إلى

" صفحة رقم 74 "
الرسول ، وفي تعيين اسم الناقل خلاف ، فقيل : عاصم بن عدي . وقيل : حذيفة . وقيل : ابن امرأة الجلاس عمير بن سعد . وقيل : اسمه مصعب . وقيل : هموا بالرسول والمؤمنين أشياء لم ينالوها ( وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) هذا مثل قوله : ) هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا ( ) وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ ( وكان حق الغني من الله ورسوله أن يشكر لا أين ينقم ، جعلوا الغنى سبباً ينتقم به ، فهو كقوله : ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
وكان الرسول قد أعطى لعبد الله بن أبي دية كانت قد تغلظت له ، قال عكرمة : اثنا عشر ألفاً . وقيل : بل كانت للجلاس . وكانت الأنصار حين قدم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل . ولا يجوزون الغنيمة ، فأثروا وقال الرسول للأنصار : ) وَكُنتُمْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ( وقيل : كان على الجلاس دين كثير فقضاه الرسول ، وحصل له من الغنائم مال كثير . وقوله : وما نقموا الجملة كلام أجرى مجرى التهكم به ، كما تقول : ما لي عندك ذنب إلا إني أحسنت إليك ، فإن فعلهم يدل على أنهم كانوا لئاماً . وقال الشاعر : ما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون إن غضبوا
وأنهم سادة الملوك ولا
يصلح إلا عليهم العرب
وقال الآخر وهو نظير البيت السابق : ولا عيب فينا غير عرق لمعشر
كرام وإنا لا نحط على النمل
فإن يتوبوا هذا إحسان منه تعالى ورفق ولطف بهم ، حيث فتح لهم باب التوبة بعد ارتكاب تلك الجرائم العظيمة . وكان الجلاس بعد حلفه وإنكاره أن قال ما نقل عنه قد اعترف ، وصدق الناقل عنه وتاب وحسنت توبته ، ولم يرد أنّ أحداً قبلت توبته منهم غير الجلاس . قيل : وفي هذا دليل على قبول توبة الزنديق المس الكفر المظهر للإيمان ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي . وقال مالك : لا تقبل فإن جاء تائبتاً من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته بلا خلاف ، وإن يتولوا أي : عن التوبة ، أو الإيمان ، أو الإخلاص ، أو الرسول . والمعنى : وإنْ يديموا التولي إذ هم متولون في الدنيا بإلحاقهم بالحربيين إذ أظهروا الكفر ، فيحل قتالهم وقتلهم ، وسبي أولادهم وأزواجهم ، وغنم أموالهم . وقيل : ما يصيبهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب . وقيل : عذاب القبر . وقيل : التعب والخوف والهجنة عند المؤمنين ، وفي الآخرة بالنار .
( وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (

" صفحة رقم 75 "
قال الضحاك : هم نبتل بن الحرث ، وجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وثعلبة بن حاطب ، وفيهم نزلت الآية . وقال الحسن ومجاهد : في معتب وثعلبة خرجا على ملأ فقالا ذلك . وقال ابن السائب : في رجل من بني عمرو بن عوف كان له مال بالشام فأبطأ عنه ، فجهد لذلك جهداً شديداً ، فحلف بالله لئن آتانا من فضله أي من ذلك المال لأصدقن منه ولأصلن ، فآتاه فلم يفعل . والأكثر على أنها نزلت في ثعلبة ، وذكروا له حديثاً طويلاً وقد لخصت منه : أنه سأل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يدعو الله أن يرزقه مالاً فقيل له : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، فألح عليه ، فدعا الله ، فاتخذ غنماً كثرت حتى ضاقت عنها المدينة ، فنزل وادياً وما زالت تنمو ، واشتغل بها حتى ترك الصلوات ، وبعث إليه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) المصدق فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، فنزلت هذه الآية . فأخبره قريب له بها ، فجاء بصدقته إلى الرسول فلم يقبلها ، فلما قبض الرسول أتى أبا بكر فلم يقبلها ، ثم عمر فلم يقبلها ، ثم عثمان فلم يقبلها ، وهلك في أيام عثمان .
وقرأ الأعمش : لنصدقنّ ولنكوننّ بالنون الخفيفة فيهما ، والظاهر والمستفيض من أسباب النزول أنهم نطقوا بذلك ولفظوا به . وقال معبد بن ثابت وفرقة : لم يتلفظوا به ، وإنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به ، ألم تسمع إلى قوله : ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ( من الصالحين . أي من أهل الصلاح في أموالهم بصلة الرحم والإنفاق في الخير والحج وأعمال البر . وقيل : من المؤمنين في طلب الآخرة . بخلوا به أي : بإخراج حقه منه ، وكلُّ بخل أعقب بوعيد فهو عبارة عن منع الحق الواجب . والظاهر أنّ الضمير في فأعقبهم هو عائد على الله ، عاقبهم على الذنب بما هو أشد منه . قال الزمخشري : خذلهم حين نافقوا ، وتمكن من قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أنْ يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين ، ومنه خلف الموعد ثلث النفاق انتهى . وقوله : خذلهم هو لفظ المعتزلة . وقال الحسن وقتادة : الضمير في فاعقبهم للبخل ، أي فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم . وقال أبو مسلم : فأعقبهم أي البخل والتولي والإعراض . قال ابن عطية : يحتمل أن يكون نفاق كفر ، ويكون تقرير ثعلبة بعد هذا النص والإبقاء عليه لمكان إظهاره الإسلام ، وتعلقه بما فيه احتمال . ويحتمل أن يكون نفاق معصية وقلة استقامة ، فيكون تقريره صحيحاً ، ويكون ترك قبول الزكاة منه عقاباً له ونكالاً . وهذا نحو ما روي أنّ عاملاً كتب إلى عمر بن عبد العزيز أنّ فلاناً يمنع الزكاة ، فكتب إليه : أن دَعه ، واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين ، يريد لما يلحقه من المقت في ذلك . والظاهر عود الضمير في : يلقونه ، على الله تعالى . وقيل : يلقون الجزاء . فقيل : جزاء بخلهم . وقيل : جزاء أفعالهم .
وقرأ أبو رجاء : يكذبون بالتشديد . ولفظه : فأعقبهم ، نفاقاً لا تدل ولا تشعر بأنه كان مسلماً ، ثم لما بخل ولم يف بالعهد صار منافقاً كما قال أبو عبد الله الرازي ، لأن المعقب نفاق متصل إلى وقت الموافاة ، فهو نفاق مقيد بغاية ، ولا يدل المقيد على انتفاء المطلق قبله . وإذا كان الضمير عائداً على الله فلا يكون اللقاء متضمناً رؤية الله لإجماع العلماء على أنّ الكفار لا يرون الله ، فالاستدلال باللقاء على الرؤية من قوله تعالى : ) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ( ليس بظاهر ، ولقوله : ) مِنْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ ( وأجمعوا على أنّ المراد هنا لقي ما عند الله من العقاب . ألم يعلموا هذا استفهام تضمن التوبيخ والتقريع .
وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن : تعلموا بالتاء ، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير . وأنه تعالى فاضح المنافقين ، ومعلم المؤمنين أحوالهم التي يكتمونها شيئاً فشيئاً سرهم ونجواهم . هذا التقسيم عبارة عن إحاطة علم الله بهم . والظاهر أنّ

" صفحة رقم 76 "
الآية في جميع المنافقين من عاهد وأخلف وغيرهم ، وخصتها فرقة بمن عاهد وأخلف . فقال الزمخشري : ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه ، وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين ، وتسمية الصدقة جزية ، وتدبير منعها . وقيل : أشار بسرهم إلى ما يخفونه من النفاق ، وبنجواهم إلى ما يفيضون به بينهم من تنقيص الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتعييب المؤمنين . وقيل : سرهم ما يسار به بعضهم بعضاً ، ونجواهم ما تحدثوا به جهراً بينهم ، وهذه أقوال متقاربة متفقة في المعنى .
( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ( : نزلت فيمن عاب المتصدقين . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حث على الصدقة ، فتصدّق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف وأمسك مثلها ، فبارك له الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيما أمسك وفيما أعطى . وتصدق عمر بنصف ماله ، وعاصم بن عدي بمائة وسق ، وعثمان بصدقة عظيمة ، وأبو عقيل الأرلشي بصاع تمر ، وترك لعياله صاعاً ، وكان آجر نفسه لسقي نخيل بهما ، ورجل بناقة عظيمة قال : هي وذو بطنها صدقة يا رسول الله ، وألقى إلى الرسول خطامها فقال المنافقون ما تصدق هؤلاء إلا رياء وسمعة ، وما تصدّق أبو عقيل إلا ليذكر مع الأكابر ، أو ليذكر بنفسه فيعطي من الصدقات ، والله غني عن صاعه . وقال بعضهم : تصدق بالناقة وهي خير منه . وكان الرجل أقصر الناس قامة وأشدهم سواداً ، فنظر إليه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقال : قل هو خير منك ، ومنها يقولها ثلاثاً . وأصل المطوعين المتطوعين ، فأدغمت التاء في الطاء ، وهم المتبركون كعبد الرحمن وغيره . والذين لا يجدون إلا جهدهم هم مندرجون في المطوعين ، ذكروا تشريفاً لهم ، حيث ما فاتتهم الصدقة بل تصدقوا بالشيء ، وإن كانوا أشد الناس حاجة إليه ، وأتعبهم في تحصيل ما تصدقوا به كأبي عقيل ، وأبي خيثمة ، وكان قد لمز في التصدق بالقليل ونظر أيهما . وكان أبو علي الفارسي يذهب إلى أنّ المعطوف في هذا وشبهه لم يندرج فيما عطف عليه قال : لأنه لا يسوغ عطف الشيء على مثله . وكذلك كان يقول في وملائكته ورسله وجبريل وميكال ، وفي قوله : ) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( وإلى هذا كان يذهب تلميذه ابن جني ، وأكثر الناس على خلافهما . وتسمية بعضهم التجريد ، جردوا بالذكر على سبيل التشريف ، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله : ) وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ). وقرأ ابن هرمز وجماعة : جهدهم بالفتح . فقيل : هما لغتان بمعنى واحد . وقال القتبي بالضم الطاقة ، وبالفتح المشقة . وقال الشعبي : بالضم القوت ، وبالفتح في العمل . وقيل : بالضم شيء قليل يعاش به . والأحسن في الإعراب أن يكون الذين يلمزون مبتدأ ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون ، والذين لا يجدون معطوف على المطوعين ، كأنه قيل : يلمزون الأغنياء وغيرهم . وفيسخرون معطوف على يلمزون ، وسخر الله منهم وما بعده خبر عن الذين يلمزون . وذكر أبو البقاء أن قوله : والذين لا يجدون ، معطوف على

" صفحة رقم 77 "
الذين يلمزون ، وهذا غير ممكن ، لأن المعطوف على المبتدأ مشارك له في الخبر ، ولا يمكن مشاركة الذين لا يجدون إلا جهدهم مع الذين يلمزون إلا إن كانوا مثلهم نافقين . قال : وقيل : والذين لا يجدون معطوف على المؤمنين ، وهذا بعيد جداً . قال : وخبر الأول على هذه الوجوه فيه وجهان : أحدهما فيسخرون . ودخلت الفاء لما في الذين من التشبيه بالشرط انتهى هذا الوجه . وهذا بعيد ، لأنه إذ ذاك يكون الخبر كأنه مفهوم من المبتدأ ، لأنّ من عاب وغمز أحداً هو ساخر منه ، فقرب أن يكون مثل سيد الجارية مالكها ، وهو لا يجوز . قال : والثاني : أن الخبر سخر الله منهم ، قال : وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون الذين يلمزون في موضع نصب بفعل محذوف يفسره سخر ، تقديره عاب الذين يلمزون . وقيل : الخبر محذوف تقديره : منهم الذين يلمزون . وقال أبو البقاء أيضاً : من المؤمنين حال من الضمير في المطوعين ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون ، ولا يتعلق بالمطوعين لئلا يفصل بينهما بأجنبي انتهى . وليس بأجنبي لأنه حال كما قرر ، وإذا كان حالاً جاز الفصل بها بين العامل فيها ، وبين المعمول أخر ، لذلك العامل نحو : جاءني الذي يمر راكباً بزيد . والسخرية : الاستهزاء . والظاهر أن قوله : سخر الله منهم خبر لفظاً ومعنى ، ويرجحه عطف الخبر عليه . وقيل : صيغته خبر ، ومعناه الدعاء . ولما قال : فيسخرون منهم قال : سخر الله منهم على سبيل المقابلة ، ومعناه : أمهلهم حتى ظنوا أنه أهملهم . قال ابن عباس : وكان هذا في الخروج إلى غزوة تبوك . وقيل : معنى سخر الله منهم جازاهم على سخريتهم ، وجزاء الشيء قد يسمى باسم الشيء كقوله : ) وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ( قال ابن عطية : تسمية للعقوبة باسم الذنب ، وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم انتهى . وهو قريب من القول الذي قبله . وقال الأصم : أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يقبل معاذيرهم الكاذبة في الظاهر ، ووبال فعلهم عليهم كما هو ، فكأنه سخر منهم ولهذا قال : ولهم عذاب أليم ، وهو عذاب الآخرة المقيم انتهى . وفي هذه الآية دلالة على أن لمز المؤمن والسخرية منه من الكبائر ، لما يعقبهما من الوعيد .
( وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَانٍ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( : سأل عبد الله بن عبد الله بن أبي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكان رجلاً صالحاً أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل ، فنزلت ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( قد رخص لي فأزيد على السبعين ) فنزلت سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم . وقيل : لما نزل سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ، سألوا الرسول أن يستغفر لهم فنزلت . وعلى هذا فالضمائر عائدة على الذين سبق ذكرهم ، أو على جميع المنافقين قولان . والخطاب بالأمر للرسول ، والظاهر أنّ المراد بهذا الكلام التخيير ، وهو الذي روى عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقد قال له عمر : كيف تستغفروا لعدو الله وقد نهاك الله عن الاستغفار لهم ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما نهاني ولكنه خيرني ) فكأنه قال له عليه السلام : إن شئت فاستغفر ، وإن شئت فلا تستغفر ، ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر سبعين مرة . وقيل : لفظه أمر ومعناه الشرط ، بمعنى إنْ استغفرت أو لم تستغفر لن يغفر الله ، فيكون مثل قوله : ) قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ( وبمنزلة قول الشاعر

" صفحة رقم 78 "
أسيء بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
ومر الكلام في هذا في قوله : ) قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ( وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره ، وهو اختيار الزمخشري قال : وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت أم لم تستغفر ، وإن فيه معنى الشرط ، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر انتهى . يعني في تفسير قوله تعالى : ) قُلْ أَنفِقُواْ ( وكان قال هناك . ( فإن قلت ) : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : لن يتقبل ؟ ( قلت ) : هو أمر في معنى الخبر كقوله : ) قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً ( ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً ، ونحوه قوله : أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، وقوله :
أسيء بنا أو أحسنيي لا ملومة
أي : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم ، ولا نلومك أحسنت إلينا أو أسأت . فإن قيل : متى يجوز نحو هذا ؟ قلت : إذا دل الكلام عليه كما كان في قولك : غفر الله لزيد ورحمة . ( فإن قلت ) : لم فعل ذلك ؟ ( قلت ) : لنكتة وهي أنّ كثيراً كأنه يقول لعزة : امتحني لطف محلك عندي ، وقوة محبتي لك ، وعامليني بالإساءة والإحْسان ، وانظري هل تتفاوت خالي معك مسيئة كنت أو محسنة . وفي معناه قول القائل : أحول الذي إن قمت بالسيف عامدا
لتضربه لم يستغشك في الودّ
وكذلك المعنى أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم ، واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم . وانظر هل ترى خلافاً بين حالي الاستغفار وتركه ؟ انتهى . وقيل : هو أمر مبالغة في الإياس ومعناه : إنك لو طلبت الاستغفار لهم طلب المأمور ، أو تركته ترك المنهى عنه ، لم يغفر لهم . وقيل : معناه الاستزاء أي : استغفارك لهم وترك الاستغفار سواء . ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يستغفر لهم وقد أخبر أنهم كفروا ؟ فالجواب قالوا من وجوه : أحدها : أن ذلك كان على سبيل التأليف ليخلص إيمان كثير منهم . وقد روي أنه لما استغفر لابن سلول وكساه ثوبه ، وصلى عليه ، أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب الرسول ، وكان رأس المنافقين وسيدهم . وقيل : فعل ذلك تطييباً لقلب ولده ومن أسلم منهم ، وهذا قريب مما قبله . وقيل : كان المؤمنون يسألون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يستغفر لقومهم المنافقين في حياتهم رجاء أن يخلصوا في إيمانهم ، وبعد مماتهم رجاء الغفران ، فنهاه الله عن ذلك وأيأسهم منه ، وقد سأل عبد الله بن عبد الله الرسول أن يستغفر لأبيه رجاء أن يخفف عنه . وقيل : إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير أن يحقق خروجهم عن الإسلام ، ورد هذا القول بأنه تعالى أخبر بأنهم كفروا فلا يصح أن يقال إنه غير عالم بكفرهم . وقال أبو عبد الله الرازي : الأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس : أنّ الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار ، ولا يجوز أن يكون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) اشتغل بالاستغفار فنهاه عنه لوجوه : الأول : أن المنافق كافر ، وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز ، فلهذا السبب أمره الله تعالى بالاقتداء بإبراهيم عليهما السلام إلا في قوله : ) لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( وإذا كان هذا مشهوراً في الشرع ، فكيف يجوز الإقدام عليه ؟ الثاني : أنّ استغفار

" صفحة رقم 79 "
الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصراً على القبيح والمعصية . الثالث : أن إقدامه على الاستغفار لمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب . الرابع : أنه إذا كان لا يجيبه بقي دعاء الرسول مردوداً عند الله ، وذلك يوجب نقصان منصبه ( صلى الله عليه وسلم ) ) . الخامس : أن هذا الدعاء لو كان مقبولاً من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة ، فثبت أنّ المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه الله منه ، وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع ، بل هو كما يقول القائل : إنْ سأله حاجة لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك لا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها ، فكذا ههنا . والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية : ذلك بأنهم كفروا . فبيّن أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول لهم ، وإن بلغ سبعين مرة ، هي كفرهم وفسقهم . وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين ، فصار هذا القليل شاهداً بأن المراد إزالة الطمع أن ينفعهم استغفار الرسول مع إصرارهم على كفرهم ، ويؤكد : والله لا يهدي القوم الفاسقين . والمعنى : أنّن فسقهم مانع من الهداية ، فثبت أنّ الحق ما ذكرناه . وقال الأزهري في جماعة من أهل اللغة : السبعون هنا جمع السبعة المستعملة للكثرة ، لا السبعة التي فوق الستة انتهى . والعرب تستكثر في الآحار بالسبعة ، وفي العشرات بالسبعين ، وفي المئين بسبعمائة . قال الزمخشري : والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير . قال عليّ رضي الله تعالى عنه : لأصبحن العاص وابن العاصي
سبعين ألفاً عاقدي النواصي
قال ابن عطية : وأما تمثيله بالسبعين دون غيرها من الإعداد فلأنه عدد كثيراً ما يجيء غاية ومقنعاً في الكثرة . ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى ، وإلى أصحاب العقبة ؟ وقد قال بعض اللغويين : إنّ التصريف الذي يكون من السين والباء والعين شديد الأمر من ذلك السبعة ، فإنها عدد مقنع هي في السموات وفي الأرض ، وفي خلق الإنسان ، وفي بدنه ، وفي أعضائه التي بها يطيع الله ، وبها يعصيه ، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس ، وهي : عيناه ، وأذناه ، وأسنانه ، وبطنه ، وفرجه ، ويداه ، ورجلاه . وفي سهام الميسر ، وفي الأقاليم ، وغير ذلك ومن ذلك السبع العبوس ، والعنبس ، ونحو هذا من القول انتهى ى واستدل القائلون بدليل الخطاب وأنّ التخصيص بالعدد يدل على أنّ الحكم فيما وراء ذلك بخلافه بما روى أنه قال : ) وَاللَّهُ ( ولم ينصرف حتى نزل : ) يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ( فكف عنه . قيل : ولقائل أن يقول هذا الاستدلال بالعكس أولى ، لأنه تعالى لمّا بين أنه لا يغفر لهم البتة ثبت أنّ الحال فيما وراء العدد مساوٍ للحال في العدد ، وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما رآه بخلافه .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف خفي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستفغار كيف ؟ وقد تلاه بقوله تعالى ذلك بأنهم كفروا الآية ، فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال : ) رخص لي ربي فأزيد على السبعين ( ؟ ( قلت ) : لم يخف عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ذلك ، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه كما قال إبراهيم عليه السلام : ) مّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( وفي إظهار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) الرأفة والرحمة لطف لأمته ، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض انتهى . وفي هذا السؤال والجواب . غض من منصب النبوة ، وسوء أدب على الأنبياء ، ونسبته إلهم ما لا يليق بهم . وإذا كان ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقول : ( لم

" صفحة رقم 80 "
يكن لنبي خائنة الأعين ) أو كما قال : وهي الإشارة ، فكيف يكون له النطق بشيء على سبيل التحييل ؟ حاشا منصب الأنبياء عن ذلك ، ولكن هذا الرجل مسرح الألفاظ في حق الأنبياء بما لا يليق بحالهم ، ولقد تكلم عند تفسير قوله : ) عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( بكلام في حق الرسول نزهت كتابي هذا أنْ أنقله فيه ، والله تعالى يعصمنا من الزلل في القول والعمل ، ذلك إشارة إلى انتفاء الغفران وتبيين العلة الموجبة لذلك ، وانتفاء هداية الله الفاسقين هو للذين حتم لهم بذلك ، فهو عام مخصوص .
( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرّ ( : لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين ، ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه وتخلفوا عن الجهاد ، واعتذروا بأعذار وعلل كاذبة ، حتى أذن لهم ، فكشف الله للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن أحوالهم وأعلمه بسوء فعالهم ، فأنزل الله عليه : فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله الآية : أي : عن غزوة تبوك . وكان الرسول قد خلفهم بالمدينة لما اعتذروا ، فأذن لهم . وهذه الآية تقتضي التوبيخ والوعيد . ولفظة المخلفون تقتضي الذم والتحقير ، ولذلك جاء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، وهي أمكن من لفظة المتخلفين ، إذ هم مفعول بهم ذلك ، ولم يفرح إلا منافق فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب العذر . ولفظ المقعد يكون للزمان والمكان ، والمصدر وهو هنا للمصدر أي : بقعودهم ، وهو عبارة عن الإقامة بالمدينة . وانتصب خلاف على الظرف ، أي بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقال : فلان أقام خلاف الحي ، أي بعدهم . إذا ظعنوا ولم يظعن معهم . قاله أبو عبيدة ، والأخفش ، وعيسى بن عمرو . قال الشاعر : عقب الربيع خلافهم فكأنما
بسط السواطب بينهنّ حصيرا
ومنه قول الشاعر : فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
تأهب لأخرى مثلها وكأن قد
ويؤيد هذا التأويل : قراءة ابن عباس ، وأبي حيوة ، وعمرو بن ميمون خلف رسول الله . وقال قطرب ، ومؤرج ،

" صفحة رقم 81 "
والزجاج ، والطبري : انتصب خلاف على أنه مفعول لأجله أي : لمخالفة رسول الله ، لأنهم خالفوه حيث نهض للجهاد وقعدوا . ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ خُلف بضم الخاء ، وما تظاهرت به الروايات من أنه أمرهم بالنفر فغضبوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين وغير مستأذنين ، وكراهتهم للجهاد هي لكونهم لا يرجون به ثواباً ، ولا يدفعون بزعمهم عنهم عقاباً . وفي قوله : فرح وكرهوا مقابلة معنوية ، لأن الفرح من ثمرات المحبة . وفي قوله : أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم تعريض بالمؤمنين ويتحملهم المشاق العظيمة أي : كالمؤمنين الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في الجهاد في سبيل الله ، وآثروا ذلك على الدعة والخفض ، وكره ذلك المنافقون ، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان . والفرح بالقعود يتضمن الكراهة للخروج ، وكأن الفرج بالقعود هو لمثل الإقامة ببلده لأجل الألفة والإيناس بالأهل والولد ، وكراهة الخروج إلى الغزو لأنه تعريض بالنفس والمال للقتل والتلف . واستعذروا بشدّة الحر ، فأجاب الله تعالى عما ذكروا أنه سبب لترك النفر ، وقالوا : إنه قال بعضهم لبعض وكانوا أربعة وثمانين رجلاً . وقيل : قالوا للمؤمنين لم يكفهم ما هم عليه من النفاق والكسل حتى أرادوا أن يكسبوا غيرهم وينبهوهم على العلة الموجبة لترك النفر . قال ابن عباس ، وأبو رزثن والربيع : قال رجل : يا رسول الله ، الحر شديد ، فلا ننفر في الحر . وقال محمد بن كعب هو رجل من بني سلمة انتهى . أي : قال ذلك عن لسانهم ، فلذلك جاء وقالوا بلفظ الجمع . وكانت غزوة تبوك في وقت شدّة الحر وطيب الثمار والظلال ، فأمر الله نبيه أن يقول لهم : قل نار جهنم أشد حراً ، أقام الحجة عليهم بأنه قيل لهم : إذا كنتم تجزعون من حر القيظ ، فنار جهنم التي هي أشدّ أحرى أن تجزعوا منها لو فقهتم . قال الزمخشري : قل نار جهنم أشدّ حراً استجهال لهم ، لأنّ من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بذلك التصوّن في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل . ولبعضهم : مسرّة أحقاد تلقيت بعدها
مساءة يوم اربها شبه الصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة
وراء تقضيها مساءة أحقاب
انتهى . وقرأ عبيد الله : يعلمون مكان يفقهون ، وينبغي أن يحمل ذلك على معنى التفسير ، لأنه مخالف لسواد ما أجمع المسلمون عليه ، ولما روي عنه الأئمة . والأمر بالضحك والبكاء في معنى الخبر ، والمعنى : فسيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً ، إلا أنه أخرج على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره . روي أنّ أهل النفاق يكونون في النار عمرالدنيا ، لا يرقأ لهم دمع ، ولا يكتحلون بنوم . والظاهر أنّ قوله : فليضحكوا قليلاً إشارة إلى مدّة العمر في الدنيا ، وليبكوا كثيراً إشارة إلى تأييد الخلود ، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم . قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون صفة حالهم أي : هم لما هم عليه من الحظر مع الله وسوء الحال ، بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلاً وبكاؤهم كثيراً من أجل ذلك ، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا نحو قوله عليه السلام لأمته : ( لو يعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً ) وانتصب قليلاً وكثيراً على المصدر ، لأنهما نعت للمصدر أي : ضحكاً قليلاً

" صفحة رقم 82 "
وبكاء كثيراً . وهذا من المواضع التي يحذف فيها المنعوت ، ويقوم نعته مقامه ، وذلك لدلالة الفعل عليه . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكونا نعتاً لظرف محذوف أي : زماناً قليلاً ، وزماناً كثيراً انتهى . والأول أجود ، لأن دلالة الفعل على المصدر بحروفه ودلالته على الزمان بهيئته ، فدلالته على المصدر أقوى . وانتصب جزاء على أنه مفعول لأجله ، وهو متعلق بقوله : وليبكوا كثيراً .
( فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِىَ عَدُوّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ ( : الخطاب للرسول والمعنى : فإن رجعك الله من سفرك هذا وهو غزوة تبوك . قيل : ودخول إنْ هنا وهي للمكن وقوعه غالباً إشارة إلى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وغيره ، إلا أن يعلمه الله ، وقد صرح بذلك في قوله تعالى : ) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا فِعْلَ بِى وَلاَ بِكُمْ وَلاَ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوء ( قال نحوه ابن عطية وغيره ، إلى طائفة منهم لأنّ منهم من مات ، ومنهم من تاب وندم ، ومنهم من تخلف لعذر صحيح . فالطائفة هنا الذين خلصوا في النفاق وثبتوا عليه هكذا قيل . وإذا كان الضمير في منهم عائداً على المخلفين الذين خرجوا وكرهوا أن يجاهدوا ، فالذي يظهر أنّ ذكر الطائفة هو لأجل أنّ منهم من مات . قال ابن عطية : ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق ، وعينوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإلا فكيف يترتب على أن يصلي على موتاهم إنْ لم يعينهم . وقوله : وما تواوهم فاسقون ، نص في موافاتهم . ومما يؤيد هذا أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) عينهم لحذيفة بن اليمان ، وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها . وروي عن حذيفة أنه قال يوماً : بقي من المنافقين كذا وكذا . وقال له عمرو بن الخطاب : أنشدك الله أنا منهم ؟ فقال : لا والله ، لا أمنت منها أحداً بعدك . وأمر الله نبيه أن يقول لهم : لن تخرجوا معي هو عقوبة لهم وإظهار لدنائة منزلتهم وسوء حالهم ، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته ، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قدر فضه الشرع ورده كالجمل الأجرب .
قال الزمخشري : فاستأذنوك للخروج يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك ، وكان إسقاطهم من ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله تعالى أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق ، بخلاف غيرهم من المحلفين انتهى . وانتقل بالنفي من الشاق عليهم وهو الخروج إلى الغزاة ، إلى الأشق وهو قتال العدو ، لأنه عظم الجهاد وثمرة الخروج وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة ، ثم علل انتفاء الخروج والقتال بكونهم رضوا بالقعود أول مرة ، ورضاهم ناشىء عن نفاقهم وكفرهم وخداعهم وعصيانهم أمر الله في قوله : ) انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً ( وقالوا هم : لا تنفروا في الحر ، فعلل بالمسبب وهو الرضا الناشىء عن السبب وهو النفاق . وأولمرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك ، ومرة مصدر كأنه قيل : أو خرجة دعيتم إليها ، لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول للغزاة ، فلا بد من تقييدها ، إذ الأولية تقتضي السبق . وقيل : التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه . وقيل : أول مرة قبل الاستئذان . وقال أبو البقاء : أول مرة ظرف ، ونعني ظرف زمان ، وهو بعيد .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : مرة نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل ، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها

" صفحة رقم 83 "
وهو دال على واحدة من المرات ؟ ( قلت ) : أكثر اللغتين هند . أكبر النساء ، وهي أكبرهن . ثم إنّ قولك هي كبرى امرأة لا تكاد تعثر عليه ، ولكن هي أكبر امرأة ، وأول مرة ، وآخر مرة انتهى . فاقعدوا مع الخالفين أي : أقيموا ، وليس أمراً بالقعود الذي هو نظير الجلوس ، وإنما المراد منعهم من الخروج معه . قال أبو عبيدة : الخالف الذي خلف بعد خارج فقعد في رحله ، وهو الذي يتخلف عن القوم . وقيل : الخالفين المخالفين من قولهم : عبد خالف أي : مخالف لمولاه . وقيل : الإخساء الأدنياء من قولهم : فلان خالفة قومه لا خسهم وأرذلهم . ودلت هذه الآية على توقي صحبة من يظهر منه مكر وخداع وكيد ، وقطع العلقة بينهما ، والاحتراز منه . وعن قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلاً . قال ابن عطية : والخالفون جميع من تخلف من نسائ وصبيان وأهل عذر . غلب المذكر ، فجمع بالواو والنون ، وإن كان ثمّ نساء وهو جمع خالف . وقال قتادة : الخالفون النساء ، وهذا مردود . وقال ابن عباس : هم الرجال . وقال الطبري : يحتمل قوله في الحالتين أن يريد الفاسدين ، فيكون ذلك مأخوذاً من خلف الشيء إذا فسد ، ومنه خلوف فم الصائم . وقرأ مالك بن دينار وعكرمة : مع الخلفين ، وهو مقصور من الخالفين كما قال : عدداً وبدداً يريد عاددا وباددا ، وكما قال الآخر :
مثل النقي لبده ضرب الظلل
يريد الظلال .
( وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ( : النهي عن الصلاة على المنافقين إذا ماتوا عقوبة ثانية وخزي متأبد عليهم . وكان فيما روي يصلي على المنافقين إذا ماتوا ، ويقوم على قبورهم بسبب ما يظهرونه من الإسلام ، فإنهم كانوا يتلفظون بكلمتي الشهادة ، ويصلون ، ويصومون ، فبنى الأمر على ما ظهر من أقوالهم وأفعالهم ، ووكل سرائرهم إلى الله ، ولم يزل على ذلك حتى وقعت واقعة عبد الله بن أبي . وطول الزمخشري وغيره في قصته ، فتظافرت الروايات أنه صلى عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فنزلت هذه الآية بعد ذلك . وروى أنس أنه لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجذبه بثوبه وتلا عليه : ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ، فانصرف ولم يصل . وذكروا محاورة عمر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين جاء ليصلي عليه . ومات صفة لا حد ، فقدم الوصف بالمجرور ثم بالجملة ، وهو ماض بمعنى المستقبل ، لأن الموت غير موجود لا محالة . نهاه الله عن الصلاة عليه ، والقيام على قبره وهو الوقوف عند قبره حتى يفرغ من دفنه . وقيل : المعنى ولا تتولوا دفنه وقبره ، فالقبر مصدره . كان ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له ، فنهي عن ذلك في حق المنافقين ، فلم يصل بعد على منافق ، ولا قام على قبره . إنهم كفروا تعليل للمنع من الصلاة والقيام بما يقتضي الامتناع من ذلك ، وهو الكفر والموافاة عليه .
( وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (

" صفحة رقم 84 "
تقدّم نظير هذه الآية وأعيد ذلك لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده ، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه ، وأن يعتقد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين . فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ، ويتخلص إليه . وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه قاله : الزمخشري . وقال ابن عطية : ووجه تكريرها توكيد هذا المعنى . وقال أبو علي : ظاهره أنه تكرير وليس بتكرير ، لأن الآيتين في فريقين من المنافقين ، ولو كان تكريراً لكان مع تباعد الآيتين لفائدة التأكيد والتذكير . وقيل : أراد بالأولى لا تعظمهم في حال حياتهم بسبب كثرة المال والولد ، وبالثانية لا تعظمهم بعد وفاتهم لمانع الكفر والنفاق . وقد تغايرت الآيتان في ألفاظ هنا ، ولا ، وهناك ، فلا ومناسبة الفاء أنه عقب قوله : ولا ينفقون إلا وهم كارهون أي : للإنفاق ، فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد ، فنهاه عن الإعجاب بفاء التعقيب . ومناسبة الواو أنه نهي عطف على نهي قبله . ولا تصل ، ولا تقم ، ولا تعجبك ، فناسبت الواو وهنا وأولادهم وهناك ، ولا أولادهم ، فذكر لا مشعر بالنهي عن الإعجاب بكل واحد واحد على انفراد . ويتضمن ذلك النهي عن المجموع ، وهنا سقطت ، فكان نهياً عن إعجاب المجموع . ويتضمن ذلك النهي عن الإعجاب بكل واحد واحد . فدلت الآيتان بمنطوقهما ومفهومهما على النهي عن الإعجاب بالأموال والأولاد مجتمعين ومنفردين . وهنا أن يعذبهم ، وهناك ليعذبهم ، فأتى باللام مشعرة بالتعليل . ومفعول يريد محذوف أي : إنما يريد الله ابتلاءهم بالأموال والأولاد لتعذيبهم . وأتى بأن لأنّ مصب الإرادة هو التعذيب أي : إنما يريد الله تعذيبهم . فقد اختلف متعلق الفعل في الآيتين هذا الظاهر ، وإن كان يحتمل زيادة اللام . والتعليل بأنّ وهناك الدنيا ، وهنا في الحياة الدنيا ، فأثبت في الحياة على الأصل ، وحذفت هنا تنبيهاً على خسة الدنيا ، وأنها لا تستحق أن تسمى حياة ، ولا سيما حين تقدمها ذكر موت المنافقين ، فناسب أنْ لا تسمى حياة .
( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ رَضُواْ ( الجمهور على أنّ السورة هنا كل سورة كان فيها الأمر بالإيمان والجهاد . وقيل : براءة لأنّ فيها الأمر بهما . وقيل : بعض سورة ، فأطلق عليه سورة ، كما يطلق على بعض القرآن قرآن وكتاب . وهذه الآية وإن تقدم أنهم كانوا استأذنوا الرسول في القعود ، فيها تنبيه على أنهم كانوا متى تنزل سورة فيها الأمر بالإيمان والجهاد استأذنوا ، وليست هنا إذاً تفيد التعليق فقط ، بل انجرَّ معها معنى التكرار سواء كان ذلك فيها بحكم الوضع أنه بحكم غالب الاستعمال ، لا الوضع . وهي مسألة خلاف في النحو ، ومما وجد معها التكرار قول الشاعر : إذا وجدت أوار النار في كبدي
أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
ألا ترى أنّ المعنى متى وجدت وإن آمنوا يحتمل أنْ أنْ تكون تفسيرية ، لأن قبلها شرط ذلك ؟ ويحتمل أن

" صفحة رقم 85 "
تكون مصدرية أي : بأن آمنوا أي : بالإيمان . والظاهر أنّ الخطاب للمنافقين أي : آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم . قيل : ويحتمل أن يكون خطاباً للمؤمنين ومعناه : الاستدامة والطول . قال ابن عباس والحسن : الغنى . وقيل : القوة والقدرة . وقال الأصم : أولو الطول الكبراء والرؤساء . وأولو الأمر منهم أي : من المنافقين كعبد الله بن أبي ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وإضرابهم . وأخص أولو الطول لأنهم القادرون على التنفير والجهاد ، ومن لا مال له ، ولا قدرة لا يحتاج إلى الاستئذان ، والاستئذان مع القدرة على الحركة أقبح وأفحش . والمعنى : استأذنك أولو الطول منهم في القعود ، وفي استأذنك التفات ، إذ هو خروج من لفظ الغيبة وهو قوله : ورسوله ، إلى ضمير الخطاب . وقالوا : درنا نكن مع القاعدين الزمني وأهل العذر ، ومن ترك لحراسة المدينة ، لأن ذلك عذر . وفي قوله : رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، تهيجن لهم ، ومبالغة في الذم . والخوالف : النساء قاله : الجمهور كابن عباس ، ومجاهد وقتادة ، وشمر بن عطية ، وابن زيد ، والفراء ، وذلك أبلغ في الذم كما قال : وما أدري وسوف إخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء
فإن تكن النساء مخبآت
فحق لكل محصنة هداء
وقال آخر : كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول
فكونهم رضوا بأنْ يكونوا قاعدين مع النساء في المدينة أبلغ ذم لهم وتهجين ، لأنهم نزلوا أنفسهم منزلة النساء العجزة اللواتي لا مدافعة عندهنّ ولا غنى . وقال النضر بن شميل : الخوالف من لا خير فيه . وقال النحاس : يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة ، وهذا جمعه بحسب اللفظ ، والمراد أخساء الناس وأخلافهم . وقالت فرقة : الخوالف جمع خالف ، فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك ، والظاهر أن قوله : وطبع خبر من الله بما فعل بهم . وقيل : هو استفهام أي : أو طبع على قلوبهم ، فلأجل الطبع لا يفقهون ولا يتدبرون ولا يتفهمون ما في الجهاد من الفوز والسعادة ، وما في التخلف من الشقاء والضلال .
( وَلَاكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذالِكَ

" صفحة رقم 86 "
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( : لما ذكر أنّ أولئك المنافقين اختاروا الدعة وكرهوا الجهاد ، وفروا من القتال ، وذكر ما أثر ذلك فيهم من الطبع على قلوبهم ، ذكر حال الرسول والمؤمنين في المثابرة على الجهاد ، وذلك ما لهم من الثواب . ولكن وضعها أنْ تقع بين متنافيين . ولما تضمن قول المنافقين ذرنا ، واستئذانهم في القعود ، كان ذلك تصريحاً بانتفاء الجهاد . فكأنه قيل : رضوا بكذا ولم يجاهدوا ، ولكنّ الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا . والمعنى : إنْ تخلف هؤلاء المنافقون فقد توجه إلى الجهاد من هو خير منهم وأخلص نية . كقوله تعالى : ) فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ) فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( والخيرات : جمع خيرة وهو المستحسن من كل شيء ، فيتناول محاسن الدنيا والآخرة لعموم اللفظ ، وكثرة استعماله في النساء ومنه فيهن خيرات حسان . وقال الشاعر : ولقد طعنت مجامع الربلات
ربلات هند خيرة الملكات
وقيل : المراد بالخيرات هنا الحور العين . وقيل : المراد بها الغنائم من الأموال والذراري . وقيل : أعدّ الله لهم جنات ، تفسير للخيرات إذ هو لفظ مبهم .
( وَجَاء الْمُعَذّرُونَ مِنَ الاْعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( : ولما ذكر أحوال المنافقين الذين بالمدينة شرح أحوال المنافقين من الإعراب . قرأ الجمهور : المعذبون بفتح العين وتشديد الذال ، فاحتمل وزنين : أحدهما : أن يكون فعل بتضعيف العين ومعناه : تكلف العذر ولا عذر له ، ويقال عذر في الأمر قصر فيه وتوانى ، وحقيقته أن يوهم أنّ له عذراً فيما يفعل ولا عذر له . والثاني : أن يكون وزنه افتعل ، وأصله اعتذر كاختصم ، فأدغمت التاء في الذال . ونقلت حركتها إلى العين ، فذهبت ألف الوصل . ويؤيده قراءة سعيد بن جبير : المعتذرون بالتاء من اعتذر . وممن ذهب إلى أن وزنه افتعل . الأخفش ، والفراء ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم ، والزجاج ، وابن الأنباري . وقرأ ابن عباس ، وزيد بن علي ، والضحاك ، والأعرج ، وأبو صالح ، وعيسى بن هلال ، ويعقوب ، والكسائي ، في رواية المعذرون من أعذر . وقرأ مسلمة : المعذرون بتشديد العين والذال ، من تعذر بمعنى اعتذر . قال أبو حاتم : أراد المتعذرين ، والتاء لا تدغم في العين لبعد المخارج ، وهي غلط منه أو عليه . واختلف في هؤلاء المعذرين أهم مؤمنون أم كافرون ؟ فقال ابن عباس ومجاهد وجماعة : هو مؤمنون ، وأعذارهم صادقة . وقال قتادة وفرقة : هم كافرون وأعذارهم كذب . وكان ابن عباس يقول : رحم الله المعذرين ولعن المعذرين . قيل : هم أسد وغطفان قالوا إن لنا عيالاً وأن بنا جهداً ، فأذن لهم في

" صفحة رقم 87 "
التخلف . وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إنْ غزونا معك غارات إعراب طي على أهالينا ومواشينا ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( سيعني الله عنكم ) وعن مجاهد : نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى . قال ابن إسحاق : نفر من غفار منهم خفاف بن إيماء ، وهذا يقتضي أنهم مؤمنون ، والظاهر أن هؤلاء الجائين كانوا مؤمنين كما قال ابن عباس ، لأن التقسيم يقتضي ذلك . ألا ترى إلى قوله : ) وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( فلو كان الجميع كفاراً لم يكن لوصف الذين قعدوا بالكذب اختصاص ، وكان يكون التركيب سيصيبهم عذاب أليم . ويحتمل أن يكونوا كفاراً كما قال قتادة ، فانقسموا إلى جاء معتذر وإلى قاعد ، واستؤنف إخبار بما يصيب الكافرين . ويكون الضمير في منهم عائداً على الإعراب ، أو يكون المعنى : سيصيب الذين يوافون على الكفر من هؤلاء عذاب أليم في الدنيا بالقتل والسبي ، وفي الآخرة بالنار . وقرأ الجمهور : كذبوا بالتخفيف أي : في إيمانهم فاظهروا ضد ما أخفوه . وقرأ أبيّ والحسن في المشهور عنه : ونوح وإسماعيل كذبوا بالتشديد أي لم يصدقوه تعالى ولا رسوله ، وردوا عليه أمره والتشديد أبلغ في الذم .
( لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً ( : لما ذكر حال من تخلف عن الجهاد مع القدرة عليه ، ذكر حال من له عذر في تركه . والضعفاء جمع ضعيف وهو الهرم ، ومن خلق في أصل البنية شديد المخافة والضؤلة ، بحيث لا يمكنه الجهاد . والمريض من عرض له المرض ، أو كان زمناً ويدخل فيه العمى والعرج . والذين لا يجدون ما ينفقون هم الفقراء . قيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة ، ونفى الحرج عنهم في التخلف عن الغزو ، ونفي الحرج لا يتضمن المنع من الخروج إلى الغزو ، فلو خرج أحد هؤلاء ليعين المجاهدين بما يقدر عليه من حفظ متاعهم أو تكثير سوادهم ولا يكون كلاًّ عليهم ، كان له في ذلك ثواب جزيل . فقد كان عمرو بنِ الجموح أعرج وهو من أتقياء الأنصار ، وهو في أول الجيش ، وقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن الله قد عذرك ) فقال : والله لأحقرن بعرجتي هذه في الجنة . وكان ابن أم مكتوم أعمى ، فخرج إلى أحد وطلب أن يعطي اللواء فأخذه ، فأصيبت يده التي فيها اللواء فأمسكه باليد الأخرى ، فضربت فأمسكه بصدره . وقرأ : ) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ( وشرط في انتفاء الحرج النصح لله ورسوله ، وهو أن يكون نياتهم وأقوالهم سراً وجهراً خالصة لله من الغش ، ساعية في إيصال الخير للمؤمنين ، داعية لهم بالنصر والتمكين . ففي سنن أبي داود ( لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا هم معكم فيه ) قالوا : يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال : ( حبسهم العذر ) . وقرأ أبو حيوة : إذا نصحوا الله ورسوله بنصب الجلالة ، والمعطوف ما على المحسنين من سبيل أي : من لائمة تناط بهم أو عقوبة . ولفظ المحسنين عام يندرج فيه هؤلاء المعذورون الناصحون غيرهم ، وقيل : المحسنين هنا المعذورون الناصحون ، ويبعد الاستدلال بهذه الجملة على نفي القياس . وإن المحسن هو المسلم ، لانتفاء جميع السبيل ، فلا يتوجه عليه شيء من التكاليف إلا بدليل منفصل ، فيكون يخص هذا العام الدال على براءة الذمة . وقال الكرماني : المحسنين هم الذين أطاعوا الله ورسوله في أقوالهم ، ثم أكد الرجاء

" صفحة رقم 88 "
فقال : والله عفو رحيم ، وقراءة ابن عباس : والله لأهل الإساءة غفور رحيم على سبيل التفسير ، لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف . قيل : وقوله : ما على المحسنين من سبيل ، فيه نوع من أنواع البديع يسمى : التمليح ، وهو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثل سائر ، أو شعرٍ نادر ، أو قصةٍ مشهورة ، أو ما يجري مجرى المثل . ومنه قول يسار بن عدي حين بلغه قتل أخيه ، وهو يشرب الخمر : اليوم خمر ويبدو في غد خبر
والدهر من بين إنعام وإيئاس
) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ مَاذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ( ، معطوف على ما قبله ، وهم مندرجون في قوله : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم ، وأنهم بالغوا في تحصيل ما يخرجون به إلى الجهاد حتى أقضي بهم الحال إلى المسألة ، والحاجة لبذل ماء وجوههم في طلب ما يحملهم إلى الجهاد ، والاستعانة به حتى يجاهدوا مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولا يفوتهم أجر الجهاد . ويحتمل أنْ لا يندرجوا في قوله : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، بأن يكون هؤلاء هم الذين وجدوا ما ينفقون ، إلا أنهم لم يجدوا المركوب ، وتكون النفقة عبارة عن الزارد لا عبارة عما يحتاج إليه المجاهد من زاد ومركوب وسلاح وغير ذلك مما يحتاج إليه . وهذه نزلت في العرباض بن سارية . وقيل : في عبد الله بن مغفل . وقيل : في عائذ بن عمرو . وقيل : في أبي موسى الأشعري ورهطه . وقيل : في تسعة نفر من بطون شتى فهم البكاؤون وهم : سالم بن عمير من بني عوف ، وحرمي بن عمرو من بني واقف ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار ، وسلمان بن صخر من بني المعلى وأبو رعيلة عبد الرحمن بن زيد بن بني حارثة ، وعمرو بن غنمة من بني سلمة ، وعائذ بن عمرو المزني . وقيل : عبد الله بن عمرو المزني . وقال مجاهد : البكاؤن هم بنو بكر من مزينة . وقال الجمهور : نزلت في بني مقرن ، وكانوا ستة أخوة صحبوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وليس في الصحابة ستة أخوة غيرهم . ومعنى لتحملهم أي : على ظهر مركب ، ويحمل عليه أثاب المجاهد . قال معناه : ابن عباس . وقال أنس بن مالك : لتحملهم بالزاد . وقال الحسن بن صالح : بالبغال . وروي أنّ سبعة من قبائل شتى قالوا : يا رسول الله قد ندبتنا إلى الخروج معك ، فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغر معك فقال : ) لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ( فتولوا وهم يبكون .
وقرأ معقل بن هارون : لنحملهم بنون الجماعة ، وإذا تقتضي جواباً . والأولى أن يكون ما يقرب منها وهو قلب ، ويكون قوله : تولوا جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل : فما كان حالهم إذ أجابهم الرسول ؟ قيل : تولوا وأعينهم تفيض . وقيل : جواب إذا تولوا ، وقلب جملة في موضع الحال من الكاف ، أي : إذا ما آتوك قائلاً لا أجد ، وقد قبله مقدر كما قيل في قوله : حصرت صاورهم قاله الزمخشري . أو على حذف حرف العطف أي : وقلت ، قاله الجرجاني وقاله ابن عطية وقدره : فقلت بالفاء وأعينهم تفيض جملة حالية . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فهل يجوز أن يكون قوله : قلت لا أجد استئنافاً مثله يعني : مثل رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ؟ كأنه قيل : إذا

" صفحة رقم 89 "
ما أتوك لنحملهم تولوا ، فقيل : ما لهم تولوا باكين ؟ قلت : لا أجد ما أحملهم عليه ، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض ( قلت ) : نعم ، ويحسن انتهى . ولا يجوز ولا يحسن في كلام العرب ، فيكف في كلام الله وهو فهم أعجمي ؟ وتقدّم الكلام على نحو وأعينهم تفيض من الدمع في أوائل حزب ) لَتَجِدَنَّ ( من سورة المائدة . وقال الزمخشري : هنا وأعينهم تفيض من الدمع كقولك : تفيض دمعاً ، وهو أبلغ من يفيض دمعها ، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض . ومن للبيان كقولك : أفديك من رجل ، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز انتهى . ولا يجوز ذلك لأنّ التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن ، وأيضاً فإنه معرفة ، ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييز معرفة . وانتصب حزناً على المفعول له ، والعامل فيه تفيض . وقال أبو البقاء : أو مصدر في موضع الحال . وأن لا يجدوا مفعول له أيضاً ، والناصب له حزناً قال أبو البقاء : ويجوز أن يتعلق بتفيض انتهى . ولا يجوز ذلك على إعرابه حزناً مفعولاً له والعامل فيه تفيض ، لأنّ العامل لا يقض اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل . 2 ( ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ الاٌّ عْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ الاٌّ عْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَمِنَ الاٌّ عْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاإِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَالسَّابِقُونَ الاٌّ وَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم

" صفحة رقم 90 "
مِّنَ الاٌّ عْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاٌّ مْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَاكِعُونَ السَّاجِدونَ الاٌّ مِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لاًّبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

" صفحة رقم 91 "
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاٌّ نصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الاٌّ عْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } )
التوبة : ( 93 ) إنما السبيل على . . . . .
الإعراب صيغة جمع ، وفرق بينه وبن العرب . فالعربي من له نسب في العرب ، والأعرابي البدوي منتجع الغيث والكلأ ، كان من العرب أو من مواليهم . وللفرق نسب إليه على لفظه فقيل : الأعرابي ، وجمع الأعراب على الأعارب جمع الجمع .
أجدر أحق وأحرى ، قال الليث : جدر جدارة فهو جدير وأجدر ، به يؤنث ويثني ويجمع . قال الشاعر : نخيل عليها جنة عبقرية
جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا
أسس على وزن فعل مضعف العين ، وآسس على وزن فاعل وضع الأساس وهو معروف ، ويقال فيه : أس . والجرف : البئر التي لم تطوه ، وقال أبو عبيدة : الهوة وما يجرفه السيل من الأودية . هار : منهال ساقط يتداعى بعضه في إثر بعض ، وفعله هار يهور ويهار ويهير ، فعين هار يحتمل أن تكون واواً أو ياءً ، فاصله هاير أو هاور فقلبت ، وصنع به ما صنع بقاضٍ وغازٍ ، وصار منقوصاً مثل شاكي السلاح ولاث قال : لاث به الآشاء والعبريّ .

" صفحة رقم 92 "
وقيل : هار محذوف العين لفرعله فتجري الراء بوجوه الإعراب . وحكى الكسائي : تهور وتهير . أواه كثير قول أوّه ، وهي اسم فعل بمعنى أتوجع ، ووزنه فعال للمبالغة . فقياس الفعل أن يكون ثلاثياً ، وقد حكاه قطرب : حكى آه يؤوه أوهاً كقال يقول قولاً ونقل عن النحويين أنهم أنكروا ذلك وقالوا : ليس من لفظ أوه فعل ثلاثي ، إنما يقال : أوّه تأويها وتأوّه تأوهاً . قال الراجز : فأوه الداعي وضوضأ أكلبه .
وقال المثقب العبدي : إذا ما قمت أرحلها بليل
تأوه آهة الرجل الحزين
وفي أوه اسم الفعل لغات ذكرت في علم لنحو . الظمأ : العطش الشديد ، وهو مصدر ظمىء يظمأ فهو ظمآن وهي ظمآن ، ويمد فيقال ظماء . الوادي : ما انخفض من الأصل مستطيلاً كمحاري السيول ونحوها ، وجمعته العرب على أودية وليس بقياسه ، قال تعالى : ) فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ( وقياسه فواعل ، لكنهم استثقلوه لجمع الواوين . قال النحاس : ولا أعرف فاعلاً أفعلة سواه ، وذكر غيره ناد وأندية قال الشاعر : وفيهم مقامات حسان وجوههم
وأندية ينتابها القول والفعل
والنادي : المجلس ، وحكى الفراء في جمعه أو داء ، كصاحب وأصحاب قال جرير : عرفت ببرقة الأوداء رسما
مجيلاً طال عهدك من رسوم
وقال الزمخشري : الوادي كل منعرج من جبال وآكام يكون منفذاً للسيل ، وهو في الأصل فاعل من ودي إذا سال ، ومنه الودى . وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض تقول : لا تصل في وادي غيرك .
( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( : أثبت في حق المنافقين ما نفاه في حق المحسنين ، فدل لأجل المقابلة أنّ هؤلاء مسيؤن ، وأي إساءة أعظم من النفاق والتخلف عن الجهاد والرغبة بأنفسهم عن رسول الله ، وليست إنما للحصر ، إنما هي للمبالغة في التوكيد ، والمعنى : إنما السبيل في اللائمة والعقوبة والإثم على الذين يستأذنونك في التخلف عن الجهاد وهم قادرون عليه لغناهم ، وكان خبر السبيل على وإن كان قد فصل بإلى كما قالت : هل من سبيل إلى خمر فاشربها
أم من سبيل إلى نصر بن حجاج

" صفحة رقم 93 "
لأنّ على تدل على الاستعلاء وقلة منعة من دخلت عليه ، ففرق بين لا سبيل لي على زيد ، ولا سبيل لي إل زيد . وهذه الآية في المنافقين المتقدم ذكرهم : عبد الله بن أبي ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وغيرهم . ورضوا : استئناف كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا في القعود بالمدينة وهم قادرون على الجهاد ، فقيل : رضوا بالدناءة وانتظامهم في سلك الخوالف . وعطف وطبع تنبيهاً على أنّ السبب في تخلفهم رضاهم بالدناءة ، وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون ما يترتب على الجهاد من منافع الدين والدنيا .
( يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ( : لن نؤمن لكم علة للنهي عن الاعتذار ، لأنّ عرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به ، فإذا علم أنه مكذب في اعتذاره كفَّ عنه . قد نبأنا الله من أخباركم علة لانتفاء التصديق ، لأنه تعالى إذا أخبر الرسول والمؤمنين بما انطوت عليه سرائرهم من الشر والفساد ، لم يمكن تصديقهم في معاذيرهم . قال ابن عطية : والإشارة بقوله : قد نبأ الله من أخباركم إلى قوله : ما زادوكم إلا خبالاً ولا وضعوا خلالكم ، ونحو هذا . ونبأ هنا تعدّت إلى مفعولين كعرف ، نحو قوله : من أنبأك هذا ؟ والثاني هو من أخباركم أي : جملة من أخباركم ، وعلى رأى أبي الحسن الأخفش تكون من زائدة أي أخباركم . وقيل : نبأ بمعنى أعلم المتعدية إلى ثلاثة ، والثالث محذوف اختصاراً لدلالة الكلام عليه أي : من أخباركم كذباً أو نحوه . وسيرى الله توعد أي : سيراه في حال وجوده ، فيقع الجزاء منه عليه إنْ خيراً فخير وإن شراً فشر . وقال الزمخشري : وسيرى الله عملكم أتنيبون أم تثبتون على الكفر ، ثم تردون إشارة إلى البعث من القبور والتنبؤ بأعمالهم عبارة عن جزائهم عليها . قال ابن عيسى : وسيرى لجعله من الظهور بمنزلة ما يرى ، ثم يجازى عليه . وقيل : كانوا يظهرون للرسول عند تقريرهم معاذيرهم حباً وشفقة فقيل : وسيرى الله عملكم هل يبقون على ذلك أو لا يبقون ؟ والغيب والشهادة هما جامعان لأعمال العبد لا يخلو منهما . وفي ذلك دلالة على أنه مطلع على ضمائرهم كاطلاعه على ظواهرهم ، لا تفاوت عنده في ذلك .
( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( : لما ذكر أنهم يصدر منهم الاعتذار أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف ، وأنّ سبب الحلف هو طلبتهم أنْ يعرضوا عنهم فلا يلوموهم ولا يوبخوهم ، فاعرضوا عنهم أي : فأجيبو إلى طلبتهم . وعلل الإعراض عنهم بأنهم رجس ، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق ، فتجب مباعدتهم واجتنابهم كما قال : ) رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ( فمن كان رجساً لاة تنفع فيه المعاتبة ، ولا يمكن تطهير الرجس . ويحتمل أن يكون سبب الحلف مخافتهم أنْ يعرضوا عنهم فلا يقبلوا عليهم ولا يوادوهم ، فأمر تعالى بالإعراض عنهم وعدم توليهم ، وبيَّن العلة في ذلك برجسيتهم ، وبأنّ مآل أمرهم إلى النار . قال ابن عباس : فاعرضوا عنهم لا تكلموهم . وفي الخبر أنه عليه السلام لما قدم من تبوك قال : لا تجالسوهم ولا تكلموهم .
قيل : إنّ هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك ، وكان قد اعتذر بعض المنافقين واستأذنوه في القعود قبل مسيره ، فأذن فخرجوا وقال أحدهم : ما هو إلا شحمة لأول آكل ، فلما خرج الرسول نزل فيهم القرآن ، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم : نزل فيكم قرآن فقالوا له : وما ذلك ؟ قال : لا أحفظ ، إلا إني سمعت وصفكم فيه بالرجس ، فقال لهم مخشي : لوددت أنْ أجلد مائة ولا أكون معكم ، فخرج حتى لحق بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال له : ( ما جاء بك ) ؟ فقال له : وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) تسفعه الريح ، وأنا في لكن . فروي أنه ممن تاب . قال ابن عطية : فاعرضوا عنهم أمر بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق ، وهذا مع إجمال لا مع تعيين

" صفحة رقم 94 "
مصرح من الله ولا من رسوله ، بل كان لكل واحد منهم ميدان المقالة مبسوطاً . وقوله : رجس أي نتن وقذر . وناهيك بهذا الوصف محطة دنيوية ، ثم عطف لمحطة الآخرة . ومن حديث كعب بن مالك : أنهم جاءوا يعتذرون ويحلفون لما قدم المدينة ، وكانوا بضعة وثمانين ، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله .
( يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( : قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي حلف بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها ، وحلف بن أبي سرح لنكونن معه على عدوه ، وطلب من الرسول أن يرضى عنه ، فنزلت ، وهنا حذف المحلوف به ، وفي قوله : ) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ( أثبت كقوله : ) إِذَا أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا ( وقوله : ) وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ ( فلا فرق بين حذفه وإثباته في انعقاد ذلك يميناً . وغرضهم في الحلف رضا الرسول والمؤمنين لنفعهم في دنياهم ، لا أنّ مقصدهم وجه الله تعالى . والمراد : هي أيمان كاذبة ، وأعذار مختلقة لا حقيقة لها . وفي الآية قبلها لما ذكر حلفهم لأجل الإعراض ، جاء الأمر بالإعراض نصاً ، لأنّ الإعراض من الأمور التي تظهر للناس ، وهنا ذكر الحلف لأجل الرضا فأبرز النهي عن الرضا في صورة شرطية ، لأن الرضا من الأمور القلبية التي تخفى ، وخرج مخرج المتردّد فيه ، وجعل جوابه انتفاء رضا الله عنهم ، فصار رضا المؤمنين عنهم أبعد شيء في الوقوع ، لأنه معلوم منهم أنهم لا يرضون عمن لا يرضى الله عنهم . ونص على الوصف الموجب لانتفاء الرضا وهو الفسق ، وجاء اللفظ عامًّا ، فيحتمل أن يراد به لخصوص كأنه قيل : فإنّ الله لا يرضى عنهم ، ويحتمل بقاؤه على العموم فيندرجون فيه ويكونون أولى بالدخول ، إذ العام إذا نزل على سبب مخصوص لا يمكن إخراج ذلك السبب من العموم بتخصيص ولا غيره .
( الاْعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَن لا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( : نزلت في أعراب من أسد ، وتميم ، وغطفان . ومن أعراب حاضري المدينة أي : أشد كفراً من أهل الحضر . وإذا كان الكفر متعلقاً بالقلب فقط ، فالتقدير أشد أسباب كفر ، وإذا دخلت فيه أعمال الجوارح تحققت فيه الشدة . وكانوا أشد كفراً ونفاقاً لتوحشهم واستيلاء الهواء الحار عليهم ، فيزيد في تيههم ونخوتهم وفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب ولا ضابط ، فنشأوا كما شاؤا لبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسول الله ، ولبعدهم عن مهبط الوحي . كانوا أطلق لساناً بالكفر والنفاق من منافقي المدينة ، إذ كان هؤلاء يستولي عليهم الخوف من المؤمنين ، فكان كفرهم سراً ولا يتظاهرون به إلا تعريضاً . وأجدر أي : أحق أنْ لا يعلموا أي بأن لا يعلموا . والحدود : هنا الفرائض . وقيل : الوعيد عل مخالفة لرسول ، والتأخر عن الجهاد . وقيل : مقادير التكاليف والأحكام . وقال قتادة : أقل علماً بالسنن . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن الجفاء والقسوة في الفدادين ) والله عليم يعلم كل أحد من أهل الوبر والمدر ، حكيم فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم من ثواب وعقاب .
( وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( : نزلت في أعراب أسد ، وغطفان ، وتميم ، كانوا يتخذون ما يؤخذ منهم من الصدقات . وقيل : من الزكاة ، ولذلك قال بعضهم : ما هي إلا جزية أو قريبة من الجزية . وقيل : كل نفقة لا تهواها أنفسهم وهي مطلوبة شرعاً ، وهو ما ينفقه الرجل وليس يلزمه ، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله تعالى وابتغاء المثوبة عنده . فعل هذا المغرم إلزام ما لا يلزم . وقيل : المغرم الغرم والخسر ، وهو قول : ابن قتيبة ، وقريب من الذي قبله . وقال ابن فارس : المغرم ما لزم أصحابه والغرام اللازم ، ومنه الغريم للزومه وإلحاحه . والتربص : الانتظار . والدوائر : هي المصائب التي لا مخلص منها ، تحيط به كما تحيط الدائرة . وقيل : تربص الدوائر هنا موت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وظهور الشرك . وقال الشاعر :

" صفحة رقم 95 "
تربص بها ريب المنون لعلها
تطلق يوماً أو يموت حليلها
وتربص الدوائر ليخلصوا من إعياء النفقة ، وقوله : عليهم دائرة السوء ، دعا معترض ، دعاء عليهم بنسبة ما أخبر به عنهم كقوله : ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ( والدعاء من الله هو بمعنى إنجاب الشيء ، لأنه تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته . وقال الكرماني : عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعونها على المسلمين ، وهنا وعد للمسلمين وإخبار . وقيل : دعاء أي : قولوا عليهم دائرة السوء أي المكروه ، وحقيقة الدائرة ما تدور به الأيام . وقيل : يدور به الفلك في سيره ، والدوائر انقلاب النعمة إلى ضدها . وفي الحجة يجوز أن تكون الدائرة مصدراً كالعاقبة ، ويجوز أن تكون صفة . وقرأ ابن كثير وأبو عمر : والسوء هنا . وفي سورة الفتح ثانية بالضم ، وباقي السبعة بالفتح ، فالفتح مصدر . قال الفراء : سوأته سوأ ومساءة وسوائية ، والضم الاسم وهو الشر والعذاب ، والفتح ذم الدائرة وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته ، وصفت الدائرة بالمصدر كما قالوا : رجل سوء في نقيض رجل صدق ، يعنون في هذا الصلاح لا صدق اللسان ، وفي ذلك الفساد . ومنه ) مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء ( أي أمرأً فاسداً . وقال المبرد : لسوء بالفتح الرداءة ، ولا يجوز ضم السين في رجل سوء ، قاله أكثرهم . وقد حكي بالضم وقال الشاعر : وكنت كذيب السوء لما رأى دما
بصاحبه يوماً أحال على الدم
والله سميع لأقوالهم عليم بنياتهم .
( وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ ( : نزلت في بني مقرن من مزينة قاله مجاهد . وقال عبد الرحمن بن مغفل بن مقرن : كنا عشرة ولد مقرن فنزلت : ومن الأعراب من يؤمن الآية يريد : الستة والسبعة الإخوة على الخلاف في عددهم وبنيهم . وقال الضحاك : في عبد الله ذي النجادين ورهطه . وقال الكلبي : في أسلم وغفار وجهينة . ولما ذكر تعالى من يتخذ ما ينفق مغرماً ذكر مقابله وهو من يتخذ ما ينفق مغنماً ، وذكر هنا الأصل الذي يترتب عليه إنفاق المال في القربات وهو الإيمان بالله واليوم الآخر ، إذ جزاء ما ينفق إنما يظهر ثوابه الدائم في الآخرة . وفي قصة أولئك اكتفى بذكر نتيجة الكفر وعدم الإيمان ، وهو اتخاذه ما ينفق مغرماً وتربصه بالمؤمنين الدوائر . والأجود تعميم القربات من جهاد وصدقة ، والمعنى : يتخذه سبب وصل عند الله وأدعية الرسول ، وكان يدعو للمصدقين بالخير والبركة ، ويستغفر لهم كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) وقال تعالى : ) وَصَلّ عَلَيْهِمْ ( والظاهر عطف وصلوات على قربات . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون وصلوات الرسول عطفاً على ما ينفق ، أي : ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة . قال ابن عباس : صلوات الرسول هي استغفاره لهم . وقال قتادة : أدعيته بالخير والبركة سماها صلوات جرياً على الحقيقة اللغوية ، أو لأنّ الدعاء فيها ، وحين جاء ابن أبي أوفى بصدقته قال : ( آجرك الله فيما أعطيت ، وجعله لك طهوراً ) والضمير في أنها قيل : عائد على الصلوات . وقيل : عائد على النفقات . وتحرير هذا القول أنه عائد على ما على معناها ، والمعنى : قربة لهم عند الله . وهذه شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق رجائه على طريق الاستئناف مع حرف التنبيه ، وهو ألا وحرف التوكيد هو أنّ . قال الزمخشري : وما في السين

" صفحة رقم 96 "
من تحقيق الوعد ، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين ، وأنّ الصدقة منه تعالى بمكان إذا خلصت النية من صاحبها انتهى . وتقدم الكلام معه في دعواه أنّ السين تفيد تحقيق الوعد . وقرأ ورش : قربة بضم الراء ، وباقي السبعة بالسكون ، وهما لغتان . ولم يختلفوا في قربات أنه بالضم ، فإن كان جمع قربة فجاء الضم على الأصل في الوضع ، وإن كان جمع قربة بالسكون فجاء الضم اتباعاً لما قبله ، كما قالوا : ظلمات في جمع ظلمة .
( وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ ( : قال أبو موسى الأشعري ، وابن المسيب ، وابن سيرين ، وقتادة : السابقون الأولون من صلى إلى القبلتين . وقال عطاء : من شهد بدراً قال : وحوّلت القبلة قبل بدر بشهرين . وقال الشعبي : من أدرك بيعة الرضوان ، بيعة الحديبية ما بين الهجرتين . ومن فسر السابقين بواحد كأبي بكر أو عليّ ، أو زيد بن حارثة ، أو خديجة بنت خويلد ، فقوله بعيد من لفظ الجمع ، وإنما يناسب ذلك في أول من أسلم . والظاهر أنّ السبق هو إلى الإسلام والإيمان . وقال ابن بحر : هم السابقون بالموت أو بالشهادة من المهاجرين والأنصار ، سبقوا إلى ثواب الله وحسن جزائه ، ومن المهاجرين والأنصار أي : ومن الأنصار وهم أهل بيعة العقبة أولاً وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن . قال ابن عطية : ولو قال قائل : إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقضت الهجرة ، لكان قولاً يقتضيه اللفظ ، وتكون من لبيان الجنس . والذين اتبعوهم بإحسان هم سائر الصحابة ، ويدخل في هذا اللفظ التابعون ، وسائر الأمة لكن بشرط الإحسان . وقد لزم هذا الاسم الذي هو التابعون من رأى من رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال أبو عبد الله الرازي : الصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة والنصر ، لأن في لفظ السابقين إجمالاً ، ووصفهم بالمهاجرين والأنصار يوجب صرف ذلك إلى ما اتصف به وهي الهجرة والنصرة ، والسبق إلى الهجرة صفة عظيمة من حيث كونها شاقة على النفس ومخالفة للطبع ، فمن أقدم أولاً صار قدوة لغيره فيها ، وكذلك السبق في النصرة فازوا بمنصب عظيم انتهى ملخصاً .
ولما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين المتصدقين ، وما أعد لهم من النعيم ، بين حال هؤلاء السابقين وما أعد لهم ، وشتان ما بين الإعدادين والثناءين ، هناك قال : ) أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ ( وهنا ) رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( ، وهناك ) سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ ( وهنا ) وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي ( ، وهناك ختم : ) إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( وهنا ) ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ). وقرأ عمر بن الخطاب ، والحسن ، وقتادة ، وعيسى الكوفي ، وسلام ، وسعيد بن أبي سعيد ، وطلحة ، ويعقوب ، والأنصار : برفع الراء عطفاً على والسابقون ، فيكون الأنصار جميعهم مندرجين في هذا اللفظ . وعلى قراءة الجمهور وهي الجر ، يكونون قسمين : سابق أول ، وغير أول . ويكون المخبر عنهم بالرضا سابقوهم ، والذين اتبعوهم الضمير في القراءتين عائد على المهاجرين والأنصار . والظاهر أن السابقون مبتدأ ورضي الله الخبر ، وجوّزوا في الخبر أنْ يكون الأولون أي : هم الأولون من المهاجرين . وجوّزوا في قوله : والسابقون ، أن يكون معطوفاً على قوله : من يؤمن أي : ومنهم السابقون . وجوزوا في والأنصار أنْ يكون مبتدأ ، وفي قراءة الرفع خبره رضي الله عنهم ، وذلك على وجهين . والسابقون وجه العطف ، ووجه أنْ لا يكون الخبر رضي الله ، وهو أعاريب متكلفة لا تناسب إعراب القرآن . وقرأ ابن كثير : من تحتها بإثبات من الجارة ، وهي ثابتة في مصاحف مكة . وباقي السباعة بإسقاطها على ما رسم في مصاحفهم . وعن عمر أنه كان يرى : والذين اتبعوهم بإحسان ، بغير واو صفة للأنصار ، حتى قال له زيد بن ثابت : إنها بالواو فقال : ائتوني بأبيّ فقال : تصديق ذلك في كتاب الله في أول الجمعة ) وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ( وأوسط الحشر : ) وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ ( وآخر الأنفال : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ ). وروي أنه سمع رجلاً يقرؤه بالواو فقال : من أقرأك ؟ فقال : أُبيّ فدعاه فقال : أقرأنيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ومن ثم قال عمر : لقد كنت أرانا

" صفحة رقم 97 "
وقعنا وقعة لا يبلغها أحد بعدنا .
( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاْعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ ( : لما شرح أحوال منافقي المدينة ، ثم أحوال منافقي الأعراب ، ثم بين أنّ في الأعراب ، من هو مخلص صالح ، ثم بين رؤساء المؤمنين من هم ذكر في هذه الآية أن منافقين حولكم من الإعراب ، وفي المدينة لا تعلمونهم أي : لا تعلمون أعيانهم ، أو لا تعلمونهم منافقين . ومعنى حولكم : حول بلدتكم وهي المدينة . والذين كانوا حول المدينة جهينة ، وأسلم ، وأشجع ، وغفار ، ومزينة ، وعصية ، ولحيان ، وغيرهم ممن جاوز المدينة . ومن أهل المدينة يجوز أن يكون من عطف المفردات ، فيكون معطوفاً على من في قوله : وممن ، فيكون المجرور أن يشتركان في المبتدأ الذي هو منافقون ، ويكون مردوا استئنافاً ، أخبر عنهم أنهم خريجون في النفاق . ويبعد أن يكون مردوا صفة للمبتدأ الذي هو منافقون ، لأجل الفصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف على وممن حولكم ، فيصير نظير في الدار زيد وفي القصر العاقل ، وقد أجازه الزمخشري تابعاً للزجاج . ويجوز أن يكون من عطف الجمل ، ويقدر موصوف محذوف هو المبتدأ أي : ومن أهل المدينة قوم مردوا ، أو منافقون مردوا . قال الزمخشري : كقوله : أنا ابن جلا . انتهى . فإن كان شبهه في مطلق حذف الموصوف ، وإن كان شبهه في خصوصيته فليس بحسن ، لأن حذف الموصوف مع من وإقامة صفته مقامه ، وهي في تقدير الاسم ، ولا سيما في التفصيل منقاس كقولهم : منا ظعن ومنا أقام . وأما أنا ابن جلا فضرورة شعر كقوله : يرمي بكفي كان من أرمى البشر
أي بكفي رجل . وكذلك أنا ابن جلا تقديره : أنا ابن رجل جلا أي كشف الأمور . وبينها وعلى الوجه الأول يكون مردوا شاملاً للنوعين ، وعلى الوجه الثاني يكون مختصاً بأهل المدينة . وتقدم شرح مردوا في قوله : ) شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ ( وقال هنا ابن عباس : مردوا ، مرنوا وثبتوا ، وقال أبو عبيدة : عتوا من قولهم تمرد . وقال ابن زيد : أقاموا عليه لم يتوبوا لا تعلمهم أي : حتى نعلمك بهم ، أو لا تعلم عواقب أمرهم ، حكاه ابن الجوزي . أو لا تعلمهم منافقين ، لأن النفاق مختص بالقلب . وتقدم لفظ منافقين فدل على المحذوف ، فتعدت إلى اثنين قاله : الكرماني . وقال الزمخشري : يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك لفرط توقيهم ما يشكك في أمرهم . وأسند الطبري عن قتادة في قوله : لا تعلمهم نحن نعلمهم قال : فما بال أقوام يتكلفون علم الناس ؟ فلان في الجنة ، فلان في النار ، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري أنت لعمري بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ، ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الرسل . قال نبي الله نوح : ) وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( وقال نبي الله شعيب : ) بَقِيَّتُ اللَّه

" صفحة رقم 98 "
ِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( وقال الله تعالى لنبيه : ) لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ( انتهى . فلو عاش قتادة إلى هذا العصر الذي هو قرن ثمانمائة وسمع ما أحدث هؤلاء المنسوبون إلى الصوف من الدعاوى والكلام المبهرج الذي لا يرجع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والتجري على الإخبار الكاذب عن المغيبات ، لقضى من ذلك العجب . وما كنت أظن أنّ مثل ما حكى قتادة يقع في ذلك الزمان لقربه من الصحابة وكثرة الخير ، لكن شياطين الإنس يبعد أن يخلو منهم زمان . نحن نعلمهم . قال الزمخشري : نطلع على سرهم ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم إبطاناً ، ويبرزون لك ظاهراٌ كظاهر المخلصين من المؤمنين ، لا تشك معه في إيمانهم ، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروبه ، ولهم فيه اليد الطولى انتهى . وفي قوله : نحن نعلمهم تهديد وترتب عليه بقوله : سنعذبهم مرتين . والظاهر إرادة التثنية ويحتمل أن يكون لا يراد بها شفع الواحد ، بل يكون المعنى على التكثير كقوله : ) ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ( أي كرة بعد كرة . كذلك يكون معنى هذا سنعذبهم مرة بعد مرة . وإذا كانت التثنية مرادة فأكثر الناس على أنّ العذاب الثاني هو عذاب القبر ، وأما المرة الأولى فقال ابن عباس في الأشهر عنه : هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق . وروي في هذا التأويل أنه عليه السلام خطب يوم جمعة بدر فندر بالمنافقين وصرح وقال : ( اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق ، واخرج أنت يا فلان ، واخرج أنت يا فلان ) حتى أخرج جماعة منهم ، فرآهم عمر يخرجون من المسجد وهو مقبل إلى الجمعة فظن أن الناس انتشروا ، وأن الجمعة فاتته ، فاختفى منهم حياء ، ثم وصل المسجد فرأى أنّ الصلاة لم تقض وفهم الأمر . قال ابن عطية : وفعله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على جهة التأديب اجتهاد منه فيهم ، ولم يسلخهم ذلك من الإسلام ، وإنما هو كما يخرج العصاة والمتهمون ، ولا عذاب أعظم من هذا . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) كثيراً ما يتكلم فيهم على الإجمال دون تعيين ، فهذا أيضاً من العذاب انتهى . ويبعد ما قال ابن عطية لأنه نص على نفاق من أخرج بعينه ، فليس من باب إخراج العصاة . بل هؤلاء كفار عنده وإنْ أظهروا الإسلام . وقال قتادة وغيره : العذاب الأول علل وأدواء أخبر الله نبيه أنه سيصيبهم بها ، وروي أنه أسرّ إلى حذيفة باثني عشر منهم وقال : ( سنة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم تأخذ في كتف أحدهم حتى تفضي إلى صدره ، وستة يموتون موتاً ) وقال مجاهد : هو عذابهم بالقتل والجوع . قيل : وهذا بعيد ، لأن منهم من لم يصبه هذا . وقال ابن عباس أيضاً : هو هو أنهم بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهم فيه . وقال ابن إسحاق : هو همهم بظهور الإسلام وعلو كلمته . وقيل : ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم . وقال الحسن : الأول ما يؤخذ من أموالهم قهراً ، والثاني الجهاد الذي يؤمرون به قسراً لأنهم يرون ذلك عذاباً . وقال ابن زيد : مرتين هما عذاب الدنيا بالأموال والأولاد كل صنف عذاب فهو مرتان ، وقرأ ) فَلاَ تُعْجِبْكَ ). وقيل : إحراق مسجد الضرار ، والآخر إحراقهم بنار جهنم . ولا خلاف أن قوله : إن عذاب عظيم هو عذاب الآخرة وفي مصحف أنس سيعذبهم بالياء ، وسكن عياش عن أبي عمر والياء .
( وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( : نزلت في عشرة رهط تخلفوا عن غزوة تبوك فلما دنا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من المدينة أوثق سبعة منهم . وقيل : كانوا ثمانية منهم : كردم ، ومرداس ، وأبو قيس ، وأبو لبابة . وقيل : سبعة . وقيل : ستة أوثق ثلاثة منهم أنفسهم بسواري المسجد ، فيهم أبو لبابة . وقيل : كانوا خمسة . وقيل : ثلاثة أبو لبابة بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن خذام الأنصاري . وقيل : نزلت في أبي لبابة وحده . ويبعد ذلك من لفظ وآخرون ، لأنه جمع ، فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) المسجد حين قدم فصلى فيه ركعتين ، وكانت عادته

" صفحة رقم 99 "
كلما قدم من سفر ، فرآهم موثقين فسأل عنهم : فذكروا أنهم أقسموا لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو الذي يحلهم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم ، رغبوا عني ، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين ) فنزلت ، فأطلقهم وعذرهم . وقال مجاهد : نزلت في أبي لبابة في شأنه مع بني قريظة حين استشاروه في النزول على حكم الله ورسوله ، فأشار هو لهم إلى حلقه يريد أنّ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) يذبحهم إن نزلوا ، فلما افتضح تاب وندم ، وربط نفسه في سارية في المسجد ، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت ، فمكث كذلك حتى عفا الله عنه . والاعتراف : الإقرار بالذنب عملاً صالحاً توبة وندماً ، وآخر سيئاً . أي تخلفاً عن هذه الغزاة قاله : الطبري ، أو خروجاً إلى الجهاد قبل . وتخلفاً عن هذه قاله : الحسن وغيره . أو توبة وإثماً قاله : الكلبي . وعطف أحدهما على الآخر دليل على أنّ كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به ، كقولك : خلطت الماء واللبن ، وهو بخلاف خلطت الماء باللبن ، فليس فيه إلا أنّ الماء خلط باللبن ، قال معناه الزمخشري : ومتى خلطت شيئاً بشيء صدق على كل واحد منهما أنه مخلوط ومخلوط به ، من حيث مدلولية الخلط ، لأنها أمر نسبي . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون من قولهم : بعت الشاء شاة ودرهماً ، بمعنى شاة بدرهم .
والاعتراف بالذنب دليل على التوبة ، فلذلك قيل : عسى الله أن يتوب عليهم . قال ابن عباس : عسى من الله واجب انتهى . وجاء بلفظ عسى ليكون المؤمن على وجل ، إذ لفظة عسى طمع وإشفاق ، فأبرزت التوبة في صورته ، ثم ختم ذلك بما دل على قبول التوبة وذلك ، صفة الغفران والرحمة . وهذه الآية وإن نزلت في ناس . مخصوصين فهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة . وقال أبو عثمان : ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله : وآخرون عترافوا بذنوبهم . وفي حديث الإسراء والمعراج من تخريج البيهقي : أنّ الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر شيئا وتابوا رآهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) حول إبراهيم ، وفي ألوانهم شيء ، وأنهم خلطت ألوانهم بعد اغتسالهم في أنهر ثلاثة ، وجلسوا إلى أصحابهم البيض الوجوه .
( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( : الخطاب للرسول ، والضمير عائد على الذين خلطوا قالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا ، فقال : ( ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً ) فنزلت . فيروى أنه أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله : خذ من أموالهم . والذي تظاهرت به أقوال المتأولين ابن عباس وغيره : أنها في هؤلاء المتخلفين ، وقال جماعة من الفقهاء : المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة . فقوله : على هذا من أموالهم هو لجميع الأموال ، والناس عام يراد به الخصوص في الأموال ، إذ يخرج عنه الأموال التي لا زكاة فيها كالرباع والثياب . وفي المأخوذ منهم كالعبيد ، وصدقة مطلق ، فتصدق بأدنى شيء . وإطلاق ابن عطية على أنه مجمل فيحتاج إلى تفسير ليس بجيد . وفي قوله : خذ ، دليل على أنّ الإمام هو الذي يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها . ومن أموالهم : متعلق بخذ وتطهرهم ، وتزكيهم حال من ضمير خذ ، فالفاعل ضمير خذ . وأجازوا أن يكون من أموالهم في موضع الحال ، لأنه لو تأخر لكان صفة ، فلما تقدم كان حالاً ، وأجازوا أن يكون تطهرهم صفة ، وأن يكون استئنافاً ، وأن يكون ضمير تطهرهم عائداً على صدقة ، ويبعد هذا العطف ، وتزكيهم فيختلف الضميران ، فأما ما حكى مكي من أنّ تطهرهم صفة للصدقة وتزكيهم حال من فاعل خذ ، فقدر ردّ بأنّ الواو للعطف ، فيكون التقدير : صدقة مطهرة ومزكياً بها ، وهذا فاسد المعنى ، ولو كان بغير واو جاز انتهى . ويصح على تقدير مبتدأ محذوف ، والواو للحال أي : وأنت تزكيهم ، لكن هذا التخريج ضعيف لقلة نظيره في كلام العرب . والتزكية مبالغة في التطهر وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال . وقرأ الحسن : تطهرهم من أطهر وأطهر وطهر للتعدية من طهر . وصلِّ عليهم أي ادع لهم ، أو استغفر لهم ، أو صل عليهم إذا ماتوا ، أقوال .

" صفحة رقم 100 "
ومعنى سكن : طمأنينة لهم ، إنّ الله قبل صدقتهم مقاله : ابن عباس . أو رحمة لهم قاله أيضاً ، أو قربة قاله أيضاً ، أو زيادة وقار لهم قاله : قتادة ، أو تثبيت لقلوبهم قاله : أبو عبيدة ، أو أمن لهم . قال : يا جارة الحي إن لا كنت لي سكنا
إذ ليس بعض من الجيران أسكنني
وهذه أقوال متقاربة . وقال أبو عبد الله الرازي : إنما كانت سكناً لهم لأنّ روحه ( صلى الله عليه وسلم ) ) كانت روحاً قوية مشرقة صافية ، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير ثارت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم ، وصفت سرائرهم ، وانقلبوا من الظلمة إلى النور ، ومن الجسمانية إلى الروحانية . قال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان عرف بابن النقيب في كتابه التحرير والتحبير : كلام الرازي كلام فلسفي يشير فيه إلى أنَّ قوى الأنفس مؤثرة فعاله ، وذلك غير جائز على طريقة أهل التفسير انتهى . وقال الحسن وقتادة : في هؤلاء المعترفين المأخوذ منهم الصدقة هم سوى الثلاثة الذين خلفوا . وقرأ الأخوان وحفص : إن صلاتك هنا ، وفي هود صلاتك بالتوحيد ، وباقي السبعة بالجمع . والله سميع باعترافهم ، عليم بندامتهم وتوبتهم .
( أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( : قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون ، فنزلت . وفي مصحف أبي وقراءة الحسن بخلاف عنه : ألم تعلموا بالتاء على الخطاب ، فاحتمل أن يكون خطاباً للمتخلفين الذين قالوا : ما هذه الخاصة التي يخص بها هؤلاء ؟ واحتمل أن يكون على معنى : قل لهم يا محمد ، وأن يكون خطاباً على سبيل الالتفات من غير إضمار للقول ، ويكون المراد به التائبين كقراءة الجمهور بالياء . وهو تخصيص وتأكيد أنّ الله من شأنه قبول توبة من تاب ، فكأنه قيل : أما علموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أنه تعالى يقبل التوبة الصحيحة ، ويقبل الصدقات الخالصة النية لله ؟ وقيل : وجه التخصيص بهو ، هو أن قبول التوبة وأخذ الصدقات إنما هو لله لا لغيره ، فاقصدوه ووجهوها إليه . قال الزجاج : وأخذ الصدقات معناه قبولها ، وقد وردت أحاديث كنى فيها عن القبول بأن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل ، وأن الصدقة تكون قدر اللقمة ، فيأخذها الله بيمينه فيربيها حتى تكون مثل الجبل . وقال ابن عطية : المعنى يأمر بها ويشرعها كما تقول : أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه . وعن بمعنى مِن ، وكثيراً ما يتوصل في موضع واحد بهذه ، وهذه تقول : لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى ، وفعل ذلك فلان من أسره ونظره ، وعن أسره ونظره انتهى . وقيل : كلمة مِن وكلمة عَن متقاربتان ، إلا أنّ عن تفيد البعد . فإذا قيل : جلس عن يمين الأمير أفاد أن جلس في ذلك الجانب ، ولكن مع ضرب من البعد فيفيدها أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه بعيد عن قبول الله توبته بسبب ذلك الذنب ، فيحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عن حضرته . فلفظه عن كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب انتهى . والذي يظهر من موضوع عن أنها للمجاوزة . فإن قلت : أخذت العلم عن زيد فمعناه أنه جاوز إليك ، وإذا قلت : من زيد دل على ابتداء الغاية ، وأنه ابتداء أخذك إياه من زيد . وعن أبلغ لظهور الانتقال معه ، ولا يظهر مع من . وكأنهم لما جاوزت توبتهم عنهم إلى الله ، اتصف هو تعالى بالتوبة عليهم . ألا ترى إلى قوله : وأن الله هو التواب الرحيم ، فكل منهما متصف بالتوبة وإن اختلفت جهتا النسبة . ألا ترى إلى ما روي : ( ومَن تقرب إليّ شبراً تقربت منه ذراعاً ، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) .
( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( : صيغة أمر ضمنها الوعيد ، والمعتذرون التائبون من المتخلفين ، هم المخاطبون . وقيل : هم المعتذرون الذين لم يتوبوا . وقيل : المؤمنون والمنافقون . فسيرى الله إلى

" صفحة رقم 101 "
آخرها تقدم شرح نظيره . وإذا كان الضمير للمعتذرين الخالطين التائبين وهو الظاهر ، فقد أبرزوا بقوله : فسيرى الله عملكم ، إبراز المنافقين الذين قيل لهم : ) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ ( وسيرى الآية تنقيصاً من حالهم وتنفيراً عما وقعوا فيه من التخلف عن الرسول ، وأنهم وإن تابوا ليسوا كالذين جاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم لا يرغبون بأنفسهم عن نفسه .
( تَعْمَلُونَ وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( : قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن إسحاق : نزلت في الثلاثة الذين خلفوا قبل التوبة عليهم هلال بن أمية الواقفي ، ومرارة بن الربيع العامري ، وكعب بن مالك . وقيل : نزلت في المنافقين المعرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار . وقرأ الحسن ، وطلحة ، وأبو جعفر ، وابن نصاح ، والأعرج ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : مرجون وترجى بغير همز . وقرأ باقي السبعة : بالهمز ، وهما لغتان ، لأمر الله أي لحكمة ، إما يعذبهم إن أصروا ولم يتوبوا ، وإما يتوب عليهم إن تابوا . وقال الحسن : هم قوم من المنافقين أرجأهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن حضرته . وقال الأصم : يعني المنافقين أرجأهم الله فلم يخبر عنهم بما علم منهم ، وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا . وإما معناها الموضوعة له هو أحد الشيئين أو الأشياء ، فينجر مع ذلك أن تكون للشك أو لغيره ، فهي هنا على أصل موضوعها وهو القدر المشترك الذي هو موجود في سائر ما زعموا أنها وضعت له وضع الاشتراك . والله عليم بما يؤول إليه أمرهم ، حكيم فيما يفعله بهم .
( وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا كُفْراً وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( لما ذكر طرائق ذميمة لأصناف المنافقين أقوالاً وأفعالاً لأذكر أنّ منهم من بالغ في الشر حتى ابتنى مجمعاً للمنافقين يدبرون فيه ما شاءوا من الشر ، وسموه مسجداً . ولما بنى عمرو بن عوف مسجد قباء ، وبعثوا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) فجاء وصلى فيه ودعا لهم ، حسدهم بنو عمهم بنو غنم بن عوف ، وبنو سالم بن عوف ، وحرضهم أبو عمر والفاسق على بنائه حين نزل الشام هارباً من وقعة حنين فراسلهم في بنائه وقال : ابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر آتى بجند من الروم فأخرج محمداً وأصحابه ، فبنوه إلى مسجد قباء ، وكانوا اثنى عشر رجلاً من المنافقين : خذام بن خالد . ومن داره أخرج المسجد ، وثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، وحارثة بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ، ونبتل بن الحرث ، وعباد بن حنيف ، ونجاد بن عثمان ، ووديعة بن ثابت ، وأبو حنيفة الأزهر ، وبخرج بن عمرو ، ورجل من بني ضبيعة ، وقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : بنينا مسجد الذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه ، وتدعوا لنا بالبركة فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إني على جناح سفر وحال شغل ، وذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه ) وكان إمامهم مجمع بن جارية وكان غلاماً قارئاً للقرآن حسن الصوت ، وهو ممن حسن إسلامه ، وولاه عمر إمامة مسجد قباء بعد مراجعة ، ثم بعثه إلى الكوفة يعلمهم القرآن ، فلما قفل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من غزوة تبوك نزل بذي أوانٍ بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، ونزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار ، فدعا مالك بن الدخشم ومعنا وعاصماً ابني عدي . وقيل : بعث عمار بن ياسر ووحشياً قاتل حمزة بهدمه وتحريقه ، فهدم وحرق بنار في سعف ، واتخذ كناسة ترمى فيها الجيف والقمامة . وقال ابن جريج : صلوا فيه الجمعة والسبت والأحد وانهار يوم الاثنين ولم يحرق . وقرأ أهل المدينة : نافع ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وغيرهم ، وابن عامر : الذين بغير واو ، كذا هي في مصاحف المدينة والشام ، فاحتمل أن يكون بدلاً من قوله : وآخرون مرجون ، وأن يكون خبر ابتداء تقديره : هم الذين ، وأن يكون مبتدأ . وقال الكسائي : الخبر لا تقم فيه أبد . قال ابن عطية : ويتجه بإضمار إما في أول الآية ، وإما في آخرها بتقدير لا تقم في مسجدهم . وقال

" صفحة رقم 102 "
النحاس والحوفي : الخبر لا يزال بنيانهم . وقال المهدوي : الخبر محذوف تقديره معذبون أو نحوه .
وقرأ جمهور القراء : والذين بالواو وعطفاً على وآخرون أي : ومنهم الذين اتخذوا ، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره كخبر بغير الواو إذا أعرب مبتدأ . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : والذين اتخذوا ما محله من الإعراب ؟ ( قلت ) : محله النصب على الاختصاص كقوله تعالى : ) وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواةَ ( وقيل : هو مبتدأ وخبره محذوف ، معناه فيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله تعالى : ) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ( وانتصب ضراراً على أنه مفعول من أجله أي : مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ، ومعازّة وكفراً وتقوية للنفاق ، وتفريقاً بين المؤمنين ، لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم ، فأرادوا أنْ يفترقوا عنه وتختلفم كلمتهم ، إذ كان من يجاوز مسجدهم يصرفونه إليه ، وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان . ويجوز أن ينتصب على أنه مصدر في موع الحال . وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ثانياً لاتخذوا ، وإرصاداً أي : إعداداً لأجل من حارب الله ورسوله وهو أبو عامر الراهب أعدوه له ليصلي فيه ، ويظهر علي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكان قد تعبد في الجاهلية فسمى الراهب ، وسماه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) الفاسق ، وكان سيداً في قومه نظيراً وقريباً من عبد الله بن أبي بن سلول ، فلما جاء الله بالإسلام نافق ولم يزل مجاهراً بذلك ، وقال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعد محاورة : ( لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ) فلم يزل يقاتله وحزب على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الأحزاب ، فلما ردهم الله بغيظهم أقام بمكة مظهراً للعداوة ، فلما كان الفتح هرب إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام يريد قيصر مستنصراً على الرسول ، فمات وحيداً طريداً غريباً بقنسرين ، وكان قد دعا بذلك على الكافرين وأمّن الرسول ، فكان كما دعا ، وفيه يقول كعب بن مالك : معاذ الله من فعل خبيث
كسعيك في العشيرة عبد عمرو
وقلت بأن لي شرفاً وذكرا
فقد تابعت إيماناً بكفر
وقرأ الأعمش : وإرصاداً للذين حاربوا الله ورسوله ، والظاهر أنّ من قبل متعلقاً بحارب ، يريد في غزوة الأحزاب وغيرها ، أي : من قبل اتخاذ هذا المسجد . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم يتصل قوله تعالى : من قبل ؟ ( قلت ) : باتخذوا أي : اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف انتهى . وليس بظاهر ، والخالف هو الذي لايخرج أي للغزو : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الحسنى والتوسعة علينا وعلى من ضعف أو عجز عن المسير إلى مسجد قباء . قال الزمخشري : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى ، أو لإرادة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسع على المصلين انتهى . كأنه في قوله : إلا الخصلة الحسنى جعله مفعولاً ، وفي قوله : أو لإرادة الحسنى جعله عله ، وكأنه ضمن أراد معنى قصد أي : ما قصدنا ببنائه لشيء من الأشياء إلا لإرادة الحسنى وهي الصلاة ، وهذا وجه متكلف ، فأكذبهم الله في قولهم ، ونهاه أن يقوم فيه فقال : لا تقم فيه أبداً نهاه لأن بناته كانوا خادعوا الرسول ، فهمَّ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالمشي معهم ، واستدعى قميصه لينهض فنزلت : لا تقم فيه أبداً ، وعبَّر بالقيام عن الصلاة فيه .
قال ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين : المؤسس على التقوى مسجد قباء ، أسسه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وصلى فيه أيام مقامه بقباء ، وهي : يوم الاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخيمس ، وخرج يوم الجمعة ، وهو أولى لأنّ الموازنة بين مسجد قباء ومسجد الضرار أوقع منها بين مسجد الرسول ومسجد الضرار ، وذلك لائق بالقصة . وعن زيد بن ثابت ، وأبي سعيد ، وابن عمر : أنه مسجد الرسول . وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( هو مسجدي هذا ) لم اسئل عن المسجد الذي أسس على التقوى . وإذا صحّ هذا النقل لم يمكن خلافه ، ومن هنا دخلت على الزمان ، واستدل بذلك الكوفيون على أنّ من تكون لابتداء الغاية في الزمان ، وتأوله

" صفحة رقم 103 "
البصريون على حذف مضاف أي : من تأسيس أول يوم ، لأنّ من مذهبهم أنها لا تجر الأزمان ، وتحقيق ذلك في علم النحو . قال ابن عطية : ويحسن عندي أن يستغني عن تقدير ، وأن تكون من تجر لفظة أول لأنها بمعنى البداءة ، كأنه قال : من مبتدأ الأيام ، وقد حكى لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو انتهى . وأحق بمعنى حقيق ، وليست أفعل تفضيل ، إذ لا اشتراك بين المسجدين في الحق ، والتاء في أن تقوم تاء خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقرأ عبد الله بن يزيد : فيه بكسر الهاء فيه الثانية بضم الهاء جمع بين اللغتين ، والأصل الضم ، وفيه رفع توهم التوكيد ، ورفع رجال فيقوم إذ فيه الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع . وجوزوا في فيه رجال أن يكون صفة لمسجد ، ولحال ، والاستئناف . وفي الحديث قال لهم : ( يا معشر الأنصار رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون ) ؟ قالوا : يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء بالماء ففعلنا ذلك ، فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال : ( فلا تدعوه إذاً ) وفي بعض ألفاظ هذا الحديث زيادة واختلاف .
وقد اختلف أهل العلم في الاستنجاء بالحجارة أو بالماء أيهما أفضل ؟ ورأت فرقة الجمع بينهما ، وشذ ابن حبيب فقال : لا يستنجى بالحجارة حيث يوجد الماء ، فعلى ما روي في هذا الحديث يكون التطهير عبارة عن استعمال الماء في إزالة النجاسة في الاستنجاء . وقيل : هو عام في النجاسات كلها . وقال الحسن : من التطهير من الذنوب بالتوبة . وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة للذنوب ، فحموا عن آخرهم . وفي دلائل النبوة للبيهقي . أن أهل قباء شكوا الحمى فقال ( إن شئتم دعوت الله فأزالها عنكم ، وإن شئتم جعلتها لكم طهرة ) فقالوا : بل اجعلها لنا طهرة . ومعنى محبتهم التطهير أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب الشيء المشتهى له على أشياء ، ومحبة الله إياهم أنه يحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه . وقرأ ابن مصرف والأعمش : يطهروا بالإدغام ، وقرأ ابن أبي طالب المتطهرين .
( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ ( : قرأ نافع وابن عامر : أسس بنيانه مبنياً للمفعول في الموضعين . وقرأ باقي السبعة وجماعة ذلك مبنياً للفاعل ، وبنصب بنيان . وقرأ عمارة بن عائذ الأولى على بناء الفعل للمفعول ، والثانية على بنائه للفاعل . وقرأ نصر بن علي ، ورويت عن نصر بن عاصم أسس بنيانه ، وعن نصر بن علي وأبي حيوة ونصر بن عاصم أيضاً ، أساس جمع أسّ . وعن نصر بن عاصم آسس بهمزة مفتوحة وسين مضمومة . وقرىء إساس بالكسر ، وهي جموع أضيفت إلى البنيان . وقرىء أساس بفتح الهمزة ، وأُس بضم الهمزة وتشديد السين ، وهما مفردان أضيفاً إلى البنيان ، فهذه تسع قراءات . وفي كتاب اللوامح نصر بن عاصم : أفمن أسس بالتخفيف والرفع ، بنيانه بالجرّ على الإضافة ، فأسس مصدر أس : الحائط يؤسة أساً وأسساً . وعن نصر أيضاً أساس بنيانه كذلك ، إلا أنه بالألف ، وأسّ وأس وأساس كلّ مصادر انتهى . والبنيان مصدر كالغفران ، أطلق على المبنى كالخلق بمعنى المخلوق . وقيل : هو جمع واحده بنيانه قال الشاعر : كبنيانة القاريّ موضع رحلها
وآثار نسعيها من الدفّ أبلق
وقرأ عيسى بن عمر على تقوى بالتنوين ، وحكى هذه القراءة سيبويه ، وردها الناس . قال ابن جني : قياسها

" صفحة رقم 104 "
أن تكون ألفها للإلحاق كارطي . وقرأ جماعة منهم : حمزة ، وابن عامر ، وأبو بكر ، جرف بإسكان الراء ، وباقي السبعة وجماعة بضمها ، وهما لغتان . وقيل : الأصل الضم . وفي مصحف أبي فانهارت به قواعده في نار جهنم ، والظاهر أنّ هذا الكلام فيه تبيين حالي المسجدين : مسجد قباء ، أو مسجد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومسجد الضرار ، وانتفاء تساويهما والتفريق بينهما ، وكذلك قال كثير من المفسرين . وقال جابر بن عبد الله : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار وانهار يوم الاثنين . وروى سعيد بن جبير : أنه إذ أرسل الرسول بهدمه رؤي منه الدخان يخرج ، وروي أنه كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة ، وكان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان . وقيل : هذا ضرب مثل أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق ، وبين أنّ بناء الكافر كبناء على شفا جرف هار يتهور أهله في جهنم . قال ابن عطية : قيل : بل ذلك حقيقة ، وأنّ ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم قاله : قتادة ، وابن جريج . وخير لا شركة بين الأمرين في خير إلا على معتقد باني مسجد الضرار ، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل .
وقال الزمخشري : والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله تعالى ورسوله خيرٌ ، أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأوهاها وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك ؟ وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى ، لا جعل مجازاً عن ما ينافي التقوى . ( فإن قلت ) : فما معنى قوله : تعالى فانهار به في نار جهنم ؟ ( قلت ) : لما جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل قيل : فانهار به على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، ولتصور أنّ الباطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها ، ولا نرى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل . وكنه أمره والفاعل فانهار أي : البنيان أو الشفا أو الجرف به ، أي : المؤسس الباني ، أو أنهار الشفا أو الجرف به أي : بالبنيان . ويستلزم انهيار الشفا والبنيان ، ولا يستلزم انهيار أحدهما انهياره . والله لا يهدي القوم الظالمين ، إشارة إلى تعديهم ووضع الشيء في غير موضعه حيث بنوا مسجد الضرار ، إذ المساجد بيوت الله يجب أن يخلص فيها القصد والنية لوجه الله وعبادته ، فبنوه ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين ، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله .
( لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( : يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدراً أي : لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان ، ويحتمل أن يراد به المبني ، فيكون على حذف مضاف أي : لا يزال بناء المبنى . قال ابن عباس : لا يزالون شاكين . وقال حبيب بن أبي ثابت : غيظاً في قلوبهم ، أي سبب غيظ . وقيل : كفراً في قلوبهم . وقال عطاء : نفاقاً في قلوبهم . وقال ابن جبير : أسفاً وندامة . وقال ابن السائب ومقاتل : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنيانه . وقال قتادة : في الكلام حذف تقديره : لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة أي : حزازة وغيظاً في قلوبهم . وقال ابن عطية : الذي بنوا تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع الإشكال ، والريبة الشك ، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه ، والإعراض في الشيء والتخبيط فيه . والحزازة من أجله ، وإن لم يكن شكا فقد يرتاب من لا يشك ، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك . ومعنى الريبة في هذه الآية تعم الحيق ، واعتقاد صواب فعلهم ، ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام . فمقصد الكلام : لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء . وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا ، وفسرها السدي بالكفر . وقيل له : أفكفر مجمع بن جارية ؟ قال : لا ، ولكنها حزازة . قال ابن عطية : ومجمع رحمه الله ، قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم ، ولا قصد سوء . والآية إنما عنت من أبطن سوأ . وليس مجمع

" صفحة رقم 105 "
منهم . ويحتمل أن يكون المعنى لا يزالون مريبين بسبب بنيانهم الذي اتضح فيه نفاقهم . وجملة هذا أنّ الريبة في الآية تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق . وقال أبو عبد الله الرازي : جعل نفس البنيان ريبة لكونه سبباً لها ، وكونه سبباً لها أنه لما أمر بتخريب ما فرحوا ببنائه ثقل ذلك عليهم ، وازداد بعضهم له ، وارتيابهم في نبوته ، أو اعتقدوا هدمه من أجل الحسد ، فارتفع إيمانهم وخافوا الإيقاع بهم قتلاً ونهباً ، أو بقوا شاكين : أيغفر الله لهم تلك المعصية ؟ انتهى ، وفيه تلخيص .
وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص : إلا أن تقطع قلوبهم بفتح التاء أي : يتقطع ، وباقي السبعة بالضم ، مضارع قطع مبنياً للمفعول . وقرىء يقطع بالتخفيف . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، ويعقوب : إلى أن نقطع ، وأبو حيوة إلى أن تُقطع بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة ، ونصب قلوبهم خطاباً للرسول أي : تقتلهم ، أو فيه ضمير الريبة . وفي مصحف عبد الله : ولو قطعت قلوبهم ، وكذلك قرأها أصحابه . وحكى أبو عمرو هذه القراءة : إن قطعت بتخفيف الطاء . وقرأ طلحة : ولو قطعت قلوبهم خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو كل مخاطب . وفي مصحف أبي : حتى الممات ، وفيه حتى تقطع . فمن قرأ بضم التاء وكسر الطاء ونصب القلوب فالمعنى : بالقتل . وأما على من قرأه مبنياً للمفعول ، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم : بالموت أي : إلى أن يموتوا . وقال عكرمة : إلى أن يبعث من في القبور . وقال سفيان : إلى أن يتوبوا عما فعلوا ، فيكونون بمنزلة من قطع قلبه . قال ابن عطية : وليس هذا بظاهر ، إلا أن يتأول أن يتوبوا توبة نصوحاً يكون معها من الندم والحسرة ما يقطع القلوب هماً . وقال الزمخشري : لا يزال يبديه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزال وسمه في قلوبهم ولا يضمحل أمره إلا أن تقطع قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء ، فحينئذ يسألون عنه ، وأما ما دامت سليمة مجتمعة قائمة فيها متمكنة . ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم ، أو في القبور ، أو في النار . وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم . والله عليم بأحوالهم ، حكيم فيما يجري عليهم من الأحكام ، أو عليم بنياتهم ، حكيم في عقوباتهم .
( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا ( :
نزلت في البيعة الثانية وهي بيعة العقبة الكبرى ، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين ، وكان أصغرهم سناً عقبة بن عمرو . وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عند العقبة فقالوا : اشترط لك ولربك ، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة ، فاشترط ( صلى الله عليه وسلم ) ) حمايته مما يحمون منه أنفسهم ، واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة فقالوا : ما لنا على ذلك ؟ قال : الجنة ، فقالوا : نعم ربح البيع ، لا تقيل ولا نقال . وفي بعض الروايات : ولا نستقيل ، فنزلت .
والآية عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى يوم القيامة ، وعن جابر بن عبد الله : نزلت ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في المسجد فكبر الناس ، فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرف ركابه على أحد عاتقيه فقال : يا رسول الله أنزلت هذه الآية ؟ قال : ( نعم ) فقال : بيع ربح لا تقيل ولا نستقيل . وفي بعض الروايات : فخرج إلى الغزو فاستشهد . وقال الحسن : لا والله إن في الأرض مؤمن إلا وقد أحدث بيعته . وقرأ عمر بن الخطاب والأعمش : وأموالهم بالجنة ، مثّل تعالى إثابتهم بالجنة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء ، وقدم الأنفس على الأموال ابتداء بالأشرف وبما لا عوض له إذا فقد . وفي لفظة اشترى لطيفة وهي : رغبة المشتري فيما اشتراه واغتباطه به ، ولم يأت التركيب أن المؤمنين باعوا ، والظاهر أنّ هذا الشراء هو مع المجاهدين . وقال ابن عيينة : اشترى منهم أنفسهم أن لا يعملوها إلا في طاعة ، وأموالهم أن لا ينفقوها إلا في سبيل الله ، فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل الله . وعلى هذا القول يكون

" صفحة رقم 106 "
يقاتلون مستأنفاً ، ذكر أعظم أحوالهم ، ونبه على أشرف مقامهم . وعلى الظاهر وقول الجمهور يكون يقاتلون ، في موضع الحال . وقرأ الحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والعربيان ، والحرميان ، وعاصم : أولاً على البناء للفاعل ، وثانياً على البناء للمفعول . وقرأ النخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش والإخوان بعكس ذلك ، والمعنى واحد ، إذ الغرض أنّ المؤمنين يقاتلون ويؤخذ منهم من يقتل ، وفيهم من يقتل ، وفيهم من يجتمع له الأمران ، وفيهم من لا يقع له واحد منهما ، بل تحصل منهم المقاتلة . وقال الزمخشري : يقاتلون فيه معنى الأمر لقوله تعالى : ) وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ( انتهى . فعلى هذا لا تكون الجملة في موضع الحال ، لأن ما فيه معنى الأمر لا يقع حالاً . وانتصب وعداً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، لأنّ معنى اشترى بأن لهم الجنة وعدهم الله الجنة على الجهاد في سبيله ، والظاهر من قوله : في التوراة والإنجيل والقرآن ، أنّ كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه بالجنة ، فيكون في التوراة متعلقاً بقوله : اشترى . ويحتمل أن يكون متعلقاً بتقدير قوله مذكوراً ، وهو صفة فالعامل فيه محذوف أي : وعداً عليه حقاً مذكوراً في التوراة ، فيكون هذا الوعد بالجنة إنما هدى هذه الأمة قد ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن . وقيل : الأمر بالجهاد والقتال موجود في جميع الشرائع ، ومن أوفى استفهام على جهة التقرير أي : لا أحد ، ولما أكد الوعد بقوله عليه حقاً أبرزه هنا في صورة العهد الذي هو آكد وأوثق من الوعد ، إذ الوعد في غير حق الله تعالى جائز إخلافه ، والعهد لا يجوز إلا الوفاء به ، إذ هو آكد من الوعد . قال الزمخشري : ومن أوفى بعهده من الله ، لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم ، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه قبيح قط ؟ ولا ترى تر غيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال ، واستعمال قط في غير موضوعة ، لأنه أتى به مع قوله : لا يجوز عليه قبيح قط . وقط ظرف ماض فلا يعمل فيه إلا الماضي . ثم قال : فاستبشروا ، خاطبهم على سبيل الالتفات لأنّ في مواجهته تعالى لهم بالخطاب تشريف لهم ، وهي حكمة الالتفات هنا . وليست استفعل هنا للطلب ، بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد . والذي بايعتم به وصف على سبيل التوكيد ، ومحيل على البيع السابق . ثم قال : وذلك هو الفوز العظيم أي : الظفر للحصول على الربح التام ، والغبطة في البيع لحط الذنب ودخول الجنة .
( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الركِعُونَ السَّاجِدونَ الاْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( : قال ابن عباس : لما نزل أنّ الله اشترى من المؤمنين الآية قال رجل : يا رسول الله وإن زنا ، وإن سرق ، وإن شرب الخمر : فنزلت التائبون الآية . وهذه أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إلى التحلي بها عباده ، وليكونوا على أوفى درجات الكمال . وآية أنّ الله اشترى مستقلة بنفسها ، لم يشترط فيها شيء سوى الإيمان ، فيندرج فيها كل مؤمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، وإن لم تكن فيه هذه الصفات . والشهادة ماحية لكل ذنب ، حتى روي أنه تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه . وقالت فرقة : هذه الصفات شرط في المجاهد . والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الصفات شرط في المجاهد . والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ، ويبذلون أنفسهم في سبيل الله . وسأل الضحاك رجل عن قوله تعالى : ) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى ( الآية وقال : لأحملن على المشركين فأقاتل حتى أقتل ، فقال الضحاك : ويلك أين الشرط التائبون العابدون الآية ؟ وهذا القول فيه حرج وتضييق ، وعلى هذين القولين نرتب إعراب التائبون ، فقيل : هو مبتدأ خبره مذكور وهو العابدون ، وما بعده خبر بعد خبر أي : التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الخصال . وقيل : خبره الآمرون . وقيل : خبره محذوف بعد تمام الأوصاف ، وتقديره : من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهد قاله الزجاج كما قال تعالى : ) وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ( ولذلك جاء : ) وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( وعلى هذه الأعاريب تكون الآية معناها منفصل من معنى التي قبلها . وقيل : التائبون خبر مبتدأ محذوف تقديره هم التائبون ، أي الذين بايعوا الله هم التائبون ، فيكون صفة مقطوعة للمدح ، ويؤيده قراءة أبي وعبد الله والأعمش : التايبين بالياء إلى

" صفحة رقم 107 "
والحافظين نصباً على المدح . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون صفة للمؤمنين ، وقاله أيضاً : ابن عطية . وقيل : يجوز أن يكون التائبون بدلاً من الضمير في يقاتلون . قال ابن عباس : التائبون من الشرك . وقال الحسن : من الشرك والنفاق . وقيل : عن كل معصية . وعن ابن عباس : العابدون بالصلاة . وعنه أيضاً المطيعون بالعبادة ، وعن الحسن : هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء . وعن ابن جبير : الموحدونن لسائحون . قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما : الصائمون شبهوا بالسائحين في الأرض ، لامتناعهم من شهواتهم . وعن عائشة : سياحة هذه الأمة الصيام ، ورواه أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال الأزهري : قيل : للصائم سائح ، لأن الذي يسيح في الأرض متعبد لا زاد معه ، كان ممسكاً عن الأكل والصائم ، ممسك عن الأكل . وقال عطاء : السائحون المجاهدون . وعن أبي أمامة : أنّ رجلاً استأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في السياحة فقال : ( إنّ سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ) صححه أبو محمد عبد الحق . وقيل : المراد السياحة في الأرض . فقيل : هم المهاجرون من مكة إلى المدينة . وقيل : المسافرون لطلب الحديث والعلم . وقيل : المسافرون في الأرض لينظروا ما فيها من آيات الله ، وغرائب ملكه نظر اعتبار . وقيل : الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته . والصفات إذا تكررت وكانت للمدح أو الذم أو الترحم جاز فيها الاتباع للمنعوت والقطع في كلها أو بعضها ، وإذا تباين ما بين الوصفين جاز العطف . ولما كان الأمر مبايناً للنهي ، إذ الأمر طلب فعل والنهي ترك فعل ، حسن العطف في قوله : والناهون ودعوى الزيادة ، أو واو الثمانية ضعيف . وترتيب هذه الصفات في غاية من الحسن ، إذا بدأ أولاً بما يخص الإنسان مرتبة على ما سعى ، ثم بما يتعدى من هذه الأوصاف من الإنسان لغيره وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بما شمل ما يخصه في نفسه وما يتعدى إلى غيره وهو الحفظ لحدود الله . ولما ذكر تعالى مجموع هذه الأوصاف أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بأن يبشر المؤمنين . وفي الآية قبلها فاستبشروا أمرهم بالاستبشار ، فحصلت لهم المزية التامة بأن الله أمرهم بالاستبشار ، وأمر رسوله أن يبشرهم .
( مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ( : قال الجمهور : ومداره على ابن المسيب ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، نزلت في شأن أبي طالب حين احتضر فوعظه وقال : ( أي عمّ قل لا إله إلا لله كلمة أحاج لك بها عند الله ) وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقالا له : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال أبو طالب : يا محمد لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لا قررت بها عينك ، ثم قال : أنا على ملة عبد المطلب ، ومات فنزلت : ) إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ( فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية ، فترك الاستغفار لأبي طالب . وروي أن المؤمنين لما رأوه يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم ، فلذلك ذكروا في قوله : ما كان للنبي والذين

" صفحة رقم 108 "
آمنوا .
وقال فضيل بن عطية وغيره : لما فتح مكة أتى قبر أمه ووقف عليه حتى سخنت عليه الشمس ، وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار فلم يؤذن له ، فأخبر أنه أذن له في زيارة قبرها ومنع أن يستغفر لها ، ونزلت الآية وقالت فرقة : نزلت بسبب قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) وَاللَّهُ ( وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما : بسبب جماعة من المؤمنين قالوا : نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه . وتضمن قوله ما كان للنبي الآية النهي عن الاستغفار لهم على أي حال كانوا ، ولو في حال كونهم أولى قربى . فقوله : ولو كانوا جملة معطوفة على حال مقدرة ، وتقدم لنا الكلام على مثل هذا التركيب أنّ ولو تأتي لاستقصاء ما لولاها لم يكن ليدخل فيما قبلها ما بعدها . ودلت الآية على المبالغة في إظهار البراءة عن المشركين والمنافقين والمنع من مواصلتهم ولو كانوا في غاية القرب ، ونبه على الوصف الشريف من النبوة والإيمان ، وأنه مناف للاستغفار لمن مات على ضده وهو الشرك بالله . ومعنى من بعد ما تبين أي : وضح لهم أنهم أصحاب الجحيم لموافاتهم على الشرك ، والتبين هو بإخبار الله تعالى ) أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ( والظاهر أنّ الاستغفار هنا هو طلب المغفرة ، وبه تظافرت أسباب النزول . وقال عطاء بن أبي رباح : الآية في النهي عن الصلاة على المشركين ، والاستغفار هنا يراد به الصلاة . قالوا : والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه ، ومن هذا قول أبي هريرة : رحم الله رجلاً استغفر لأبي هريرة ولأمه ، قيل له : ولأبيه ؟ قال : لا لأنْ أبي مات كافراً ، فإن ورد نص من الله على أحد إنه من أهل النار وهو حي كأبي لهب امتنع الاستغفار له ، فتبين كينونة المشرك أنه من أصحاب الجحيم تمويه على الشرك وبنص الله عليه وهي حي ، أنه من أهل النار . ويدخل على جواز الاستغفار للكفار إذا كانوا أحياء ، لأنه يرجى إسلامهم ما حكى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : عن نبي قبله شجه قومه ، فجعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) يخبر عنه بأنه قال : ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) .
ولما كان استغفار إبراهيم لأبيه بصدد أن يقتدى به ، ولذلك قال جماعة من المؤمنين : نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه ، بين العلة في استغفار إبراهيم لأبيه ، وذكر أنه حين اتضحت له عداوته لله تبرأ منه إبراهيم . والموعدة التي وعدها إبراهيم أباه هي قوله : ) سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( وقوله : ) لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ). والضمير الفاعل في وعدها عائد على إبراهيم ، وكان أبوه بقيد الحياة ، فكان يرجو إيمانه ، فلما تبين له من جهة الوحي من الله أنه عدوّ لله وأنه يموت كافراً وانقطع رجاؤه منه ، تبرأ منه وقطع استغفاره . ويدل على أن الفاعل في وعد ضمير يعود على إبراهيم : قراءة الحسن ، وحماد الراوية ، وابن السميقع ، وأبي نهيك ، ومعاذ القارىء ، وعدها أباه . وقيل : لفاعل ضمير والد إبراهيم ، وإياه ضمير إبراهيم ، وعده أبوه أنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه ، فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه .
وقرأ طلحة : وما استغفر إبراهيم ، وعنه وما يستغفر إبراهيم على حكاية الحال . والذي يظهر أنّ استغفار إبراهيم لأبيه كان في حالة الدنيا . ألا ترى إلى قوله : ) وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ ( وقوله : ) رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِوالِدَىَّ ( ويضعف ما قاله ابن جبير : من أن هذا كله يوم القيامة ، وذلك أنّ إبراهيم يلقى أباه فيعرفه ويتذكر قوله : سأستغفر لك ربي ، فقول له : إلزم حقوى فلن أدعك اليوم لشيء ، فيدعه حتى يأتي الصراط ، فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعاناً ، فيتبرأ منه حينئذ انتهى ما قاله ابن جير ، ولا يظهر ربطه بالآخرة .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : خفي على إبراهيم عليه السلام أنّ الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده . ( قلت ) : يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى له الإيمان جاز الاستغفار له على أنّ امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي ، لأن العقل يجوز أن يغفر الله للكافر . ألا ترى إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) وعن الحسن قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إنّ فلاناً يستغفر لآبائه المشركين فقال : ( ونحن نستغفر لهم ) وعن علي رضي الله عنه : رأيت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له : فقال : أليس قد استغفر إبراهيم انتهى ؟ وقوله : لأنّ العقل يجوز أن يغفر الله للكافر رجوع إلى قول أهل السنة .
والأوّاه : الدعاء ، أو

" صفحة رقم 109 "
المؤمن ، أو الفقيه ، أو الرحيم ، أو المؤمن التواب ، أو المسيح ، أو الكثير الذكر له ، أو التلاء لكتاب الله ، أو القائل من خوف الله ، أواه المكثر ذلك ، أو الجامع المتضرع ، أو المؤمن بالحبشية ، أو المعلم للخير ، أو الموفى ، أو المستغفر عند ذكر الخطايا ، أو الشفيق ، أو الراجع عن كل ما يكرهه الله ، أقوال للسلف ، وقد ذكرنا مدلوله في اللغة في المفردات . وقال الزمخشري : أوّاه فقال : من أوّه كلأل من اللؤلؤ ، وهو الذي يكثر التأوه ، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه . وقوله : لأرجمنك انتهى . وتشبيه أوّاه من أوّه بلال من اللؤلؤ ليس بجيد ، لأنّ مادة أوّه موجودة في صورة أوّاه ، ومادة لؤلؤة مفقودة في لأل لاختلاف التركيب ، إذ لال ثلاثي ، ولؤلؤ رباعي ، وشرط الاشتقاق التوفق في الحروف الأصلية . وفسروا الحليم هنا بالصافح عن الذنب الصابر على الأذى ، وبالصبور ، وبالعاقل ، وبالسيد ، وبالرقيق القلب الشديد العطف .
( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ إِنَّ ( : مات قوم كان عملهم على الأمر الأول : كاستقبال بيت المقدس ، وشرب الخمر ، فسأل قوم الرسول بعد مجيء النسخ ونزول الفرائض عن ذلك فنزلت . وقال الكرماني : أسلم قوم من الأعراب فعملوا بما شاهدوا الرسول يفعله من الصلاة إلى بيت المقدس ، وصيام لأيام البيض ، ثم قدموا عليه فوجوده يصلي إلى الكعبة ويصوم رمضان ، فقالوا : يا رسول الله دنا بعدك بالضلال ، إنك على أمرٍ وأنا على غيره فنزلت . وقيل : خاف بعض المؤمنين من الاستغفار للمشركين دون إذن من الله فنزلت الآية مؤنسة أي : ما كان الله بعد أن هدى للإسلام وأنقذ من النار ليحبط ذلك ويضل أهله لمقارفتهم ذنباً لم يتقدم منه نهى عنه . فأما إذ بين لهم ما يتقون من الأمر ، ويتجنبون من الأشياء ، فحينئذ من واقع بعد النهي استوجب العقوبة . وقال الزمخشري : يعني ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه ، وبين أنه محظور ، ولا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ، ولا يسميهم ضلالاً ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم ، وعلمه بأنه واجب الاتقاء والاجتناب ، وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم ، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم . وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي في هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها ، وهي أنّ المهدي للإسلام إذا أقبل على بعض محظورات الله داخل في حكم الضلال ، والمراد بما بتقون ما يجب اتقاؤه للنهي . فأما ما يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ورد الوديعة فغير موقوف على التوقيف انتهى . وفي هذا الأخير من كلامه وفي قوله : قبل في تفسير ليضل ولا يسميهم ضلالاً ولا يخذلهم دسيسة الاعتزال ، وفي كلامه إسهاب ، وهو بسط ما قال مجاهد ، قال : ما كان ليضلكم بالاستغفار للمشركين بعد إذ هداكم للإيمان حتى يتقدم بالنهي عن ذلك ، وبينه لكم فتتقوه انتهى . وتقدم في أسباب النزول ما يشرح به الآية من سؤالهم عمن مات ، وقد صلى إلى بيت المقدس ، وشرب الخمر ، ومن قصة الأعراب .
والذي يظهر في مناسبة هذه الآية لما قبلها وفي شرحها : أنه تعالى لما بين أنه لا يستغفر للمشركين ولو كانوا أولي قربى ، كان في هذه الآية وفي التي بعدها تباين ما بين القرابة حتى منعوا من الاستغفار لهم ، فمنع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الاستغفار لعمه أبي طالب وهو الذي تولى تربيته ونصره وحفظه إلى أن مات ، ومنع إبراهيم من الاستغفار لأبيه وهو أصل نشأته ومربيه ، وكذلك منع المسلمون من الاستغفار للمشركين أقرباء وغير أقرباء

" صفحة رقم 110 "
فكأنه قيل : لا تعجب لتباين هؤلاء ، هذا خليل الله ، وهذا حبيب الله ، والأقرباء المختصون بهم المشركون أعداء الله ، فإضلال هؤلاء لم يكن إلا بعد أن أرشدهم الله إلى طريق الحق بما ركز فيهم من حجج العقول التي أغفلوها ، وتبيين ما يتقون بطريق الوحي ، فتظافرت عليهم الحجج العقلية والسمعية ، ومع ذلك لم يؤمنوا ولم يتبعوا ما جاءت الرسل به عن الله تعالى ، ولذلك ختمها بقوله : إن الله بكل شيء عليم ، فيضل من يشاء ويختص بالهداية من يشاء . فالمعنى : وما كان الله ليديم إضلال قوم أرشدهم إلى الهدى حتى يبين لهم ما يتقونه أي : يجتنبونه فلا يجدي ذلك فيهم ، فحنيئذ يدوم إضلالهم . ولما ذكر تعالى علمه بكل شيء ، فهو يعلم ما يصلح لكل أحد ، وما هيىء له في سابق الأزل ، ذكر ما دل على القدرة الباهرة من أنه له ملك السموات والأرض ، فيتصرف في عباده بما شاء ، ثم ذكر من أعظم تصرفاته الأحياء والإماتة أي : الإيجاد والإعدام . وتفسير الطبري هنا قوله : يحيي ويميت ، بأنه إشارة إلى أنه يجب للمؤمنين أن لا يجزعوا من عدو وإن كثر ، ولا يهابوا أحداً فإنّ الموت المخوف ، والحياة المحتومة إنما هي بيد الله ، غير مناسب هنا وإن كان في نفسه قولاً صحيحاً . وتقدم شرح قوله : ) وَمَا لَكُم مّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ ( في البقرة .
( لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ ( : لما تقدم الكلام في أحوال المنافقين من تخلفهم عن غزوة تبوك ، واستطرد إلى تقسيم المنافقين إلى أعراب وغيرهم ، وذكر ما فعلوا من مسجد الضرار ، وذكر مبايعة المؤمنين الله في الجهاد وأثنى عليهم ، وأنه ينبغي أن يباينوا المشركين حتى الذين ماتوا منهم بترك الاستغفار لهم ، عاد إلى ذكر ما بقي من أحوال غزوة تبوك ، وهذه شنشنة كلام العرب يشرعون في شيء ثم يذكرون بعده أشياء مناسبة ويطيلون فيها ، ثم يعودون إلى ذلك الشيء الذي كانوا شرعوا فيه .
قال ابن عطية : التوبة من الله رجوعه لعبده من حالة إلى حالة أرفع منه ، وقد يكون في الأكثر رجوعاً عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة ، وقد يكون رجوعاً من حالة طاعة إلى أكمل منها . وهذه توبته في هذه الآية على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأنه رجع به من حالة قبل تحصيل الغزوة وتحمل مشاقها ، إلى حاله بعد ذلك أكمل منها . وأما توبته على المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأنْ تكون من نقصان إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين ، وأما توبته على الفريق فرجوع من حالة محطوطة إلى حالة غفران ورضا . وقال الزمخشري : تاب الله على النبي كقوله تعالى : ) لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ( ) وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبي والمهاجرون والأنصار ، وإبانة الفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى ، وأنّ صفة الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين لتظهر فضيلة الصلاح . وقيل : معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه لقوله تعالى : ) عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( انتهى . وقيل : لا يبعد إن صدر عن المهاجرين والأنصار أنواع من المخالفات ، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر ، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى ذكرهم تنبيهاً على عظم مراتبهم في قبول التوبة . اتبعوه : أي اتبعوا أمره ، فهو من مجاز الحذف . ويجوز أن يكون هو ابتدأ بالخروج ، وخرجوا بعده فيكون الاتباع حقيقة ساعة العسرة أي : في وقت العسرة ، والتباعة مستعارة للزمان المطلق ، كما استعاروا الغداة والعشية واليوم . قال : غداة طفت علماء بكر بن وائل
سقط : وقال آخر )=

14. تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 111 "
عشية قارعنا جذام وحميرا
وآخر :
إذا جاء يوماً وارثي يبتغي الغنى
وهي غزوة تبوك كانت تسمى غزوة العسرة ، ويجوز أن يريد بساعة العسرة الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة ، إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة ، وبها وفيها يقع الأجر على الله وترتبط النية ، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد أنفع في ساعة عسرة ، ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرهم لما اختل كونهم متبعين في ساعة العسرة . والعسرة : الضيق والشدة والعدم ، وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من جهز جيش العسرة فله الجنة ) فجهزه عثمان بن عفان بألف جمل وألف دينار . وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قلب الدنانير بيده وقال : ( وما على عثمان ما عمل بعد هذا ) وجاء أنصاري بسبعمائة وسق من بر . وقال مجاهد ، وقتادة ، والحسن : بلغت العسرة بهم إلى أن كان العشرة منهم يعتقبون على بعير واحد من قلة الظهر ، وإلى أن قسموا التمرة بين الرجلين ، وكان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمصها أحدهم ويشرب عليها الماء ، ثم يفعل بها كلهم ذلك . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ، ويعصرون الفرث حتى استسقى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فرفع يديه يدعو ، فما رجعها حتى انسكبت سحابة ، فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا ، فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر . وفي هذه الغزوة هموا من المجاعة بنحر الإبل ، فأمر بجمع فضل أزوادهم حتى اجتمع منه على النطع شيء يسير ، فدعا فيه بالبركة ثم قال : ( خذوا في أوعيتكم فملأوها حتى لم يبق وعاء ) وأكل القوم كلهم حتى شبعوا ، وفضلت فضلة . وكان الجيش ثلاثين ألفاً وزيادة ، وهي آخر مغازيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفيها خلف علياً بالمدينة . وقال المنافقون خلفه بغضاً له ، فأخبره بقولهم فقال : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ) ؟ ووصل ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى أوائل بلاد العدو ، وبث السرايا ، فصالحه أهل أذرح وأيلة وغيرهما على الجزية وانصرف .
( يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ ( قال الحسن : همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة . وقيل : زيغها كان بظنون لها ساءت في معنى عزم الرسول على تلك الغزوة ، لما رأته من شدّة العسرة وقلة الوفر ، وبعد الشقة ، وقوة العدو المقصود . وقال ابن عباس : تزيغ ، تعدل عن الحق في المبايعة . وكاد تدل على القرب ، لا على التلبس بالزيغ . وقرأ حمزة وحفص : يزيغ بالياء ، فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن ، وارتفاع قلوب بتزيغ لامتناع أن يكون قلوب اسم كاد وتزيغ في موضع الخبر ، لأنّ النية به التأخير . ولا يجوز من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء . وقرأ باقي السبعة : بالتاء ، فاحتمل أن يكون قلوب اسم كاد ، وتزيغ الخبر وسط بينهما ، كما فعل ذلك بكان . قال أبو علي : ولا يجوز ذلك في عسى ، واحتمل أن يكون فاعل كاد ضمير يعود على الجمع الذي يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار ، أي من بعد ما كاد هو أي : الجمع . وقد قدر المرفوع بكاد باسم ظاهر

" صفحة رقم 112 "
وهو القوم ابن عطية وأبو البقاء ، كأنه قال : من بعد ما كاد القوم . وعلى كل واحد من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرّر في علم النحو : من أنّ خبر أفعال المقاربة لا يكون إلا مضارعاً رافعاً ضمير اسمها . فبعضهم أطلق ، وبعضهم قيد بغير عسى من أفعال المقاربة ، ولا يكون سبباً ، وذلك بخلاف كان . فإنّ خبرها يرفع الضمير ، والسبي لاسم كاد ، فإذا قدّرنا فيها ضمير الشأن كانت الجملة في موضع نصب على الخبر ، والمرفوع ليس ضميراً يعود على اسم كادبل ولا سبباً له ، وهذا يلزم في قراءة الياء أيضاً . وأما توسيط الخبر فهو مبني على جواز مثل هذا التركيب في مثل كان : يقوم زيد ، وفيه خلاف ، والصحيح المنع . وأما توجيه الآخر فضعيف جداً من حيث أضمر في كاد ضمير ليس له على من يعود إلا بتوهم ، ومن حيث يكون خبر كاد واقعاً سببياً ، ويخلص من هذه الإشكالات اعتقاد كون كاد زائدة ، ومعناها مراد ، لا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر ، فتكون مثل كان إذا زيدت ، يراد معناها ولا عمل لها . ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود : من بعد ما زاغت ، بإسقاط كاد . وقد ذهب الكوفيون إلا زيادتها في قوله تعالى : ) لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ( مع تأثيرها للعامل ، وعملها هي . فأحرى أن يدعي زيادتها ، وهي ليست عاملة ولا معمولة .
وقرأ الأعمش والجحدري : تزيغ برفع التاء . وقرأ أبي : من بعد ما كادت تزيغ ثم تاب عليهم ، الضمير في عليهم عائد على الأولين ، أو على الفريق فالجملة كرّرت تأكيداً . أو يراد بالأول إنشاء التوبة ، وبالثاني استدامتها . أو لأنه لما ذكر أنّ فريقاً منهم كادت قلوبهم تزيغ نص على التوبة ثانياً رفعاً لتوهم أنهم مسكوت عنهم في التوبة ، ثم ذكر سبب التوبة وهو رأفته بهم ورحمته لهم . والثلاثة الذين خلفوا تقدمت أسماؤهم ، ومعنى خلفوا عن الغزو غزو تبوك قاله : قتادة . أو خلفوا عن أبي لبابة وأصحابه ، حيث تيب عليهم بعد التوبة على أبي لبابة وأصحابه إرجاء أمرهم خمسين يوماً ثم قبل توبتهم . وقد ردّ تأويل قتادة كعب بن مالك بنفسه فقال : معنى خلفوا تركوا عن قبول العذر ، وليس بتخلفنا عن الغزو . وقرأ الجمهور : خلفوا بتشديد اللام مبنياً للمفعول . وقرأ أبو مالك كذلك وخفف اللام . وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي ، وذر ابن حبيش ، وعمرو بن عبيد ، ومعاذ القاري ، وحميد : بتخفيف اللام مبنياً للفاعل ، ورويت عن أبي عمرو أي : خلفوا الغازين بالمدينة ، أو فسدوا من الخالفة . وقرأ أبو العالية أبو الجوزاء كذلك مشدَّد اللام . وقرأ أبو زيد ، وأبو مجلز ، والشعبي ، وابن يعمر ، وعلي بن الحسين ، وابناه زيد ، ومحمد الباقر ، وابنه جعفر الصادق : خالفوا بألف أي : لم يوافقوا على الغزو . وقال الباقر : ولو خلفوا لم يكن لهم . وقرأ الأعمش وعلى الثلاثة المخلفين ، ولعله قرأ كذلك على سبيل التفسير ، لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف . حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت تقدم تفسير نظيرها في هذه السورة في قصة حنين . وضاقت عليهم أنفسهم استعارة ، لأن الهم والغم ملأها بحيث لا يسعها أنس ولا سرور ، وخرجت عن فرط الوحشة والغم ، وظنوا أي : علموا . قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : أيقنوا ، كما قالوا في قول الشاعر : فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج
سراتهم في الفارسي المسرّد
وقال قوم : الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين ، لأنه وقف أمرهم على الوحي ولم يكونوا قاطعين بأنه ينزل في شأنهم قرآن ، أو كانوا قاطعين لكنهم يجوزون تطويل المدة في بقائهم في الشدة ، فالظن عاد إلى تجويز تلك المدة قصيرة . وجاءت هذه الجمل في كنف إذاً في غاية الحسن والترتيب ، فذكر أولاً ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم ، ونبوة الناس عن كلامهم . وثانياً وضاقت عليهم أنفسهم وهو كناية عن تواتر الهم ، والغم على قلوبهم ، حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع ، فذكر أولاً ضيق المحل ، ثم ثانياً ضيق الحال فيه ، لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة .

" صفحة رقم 113 "
سم الخياط مع المحبوب ميدان . ثم ثالثاً لما يئسوا من الخللق عذقوا أمورهم بالله وانقطعوا إليه ، وعلموا أنه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى ) ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ( وإذاً إنْ كانت شرطية فجوابها محذوف تقديره : تاب عليهم ، ويكون قوله : ثم تاب عليهم ، نظير قوله : ثم تاب عليهم ، بعد قوله ) لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىّ ( الآية . ودعوى أنّ ثم زائدة وجواب إذا ما بعد ثم بعيد جداً ، وغير ثابت من لسان العرب زيادة ثم . ومن زعم أنّ إذا بعد حتى قد تجرد من الشرط وتبقى لمجرد الوقت فلا تحتاج إلى جواب بل تكون غاية للفعل الذي قبلها وهو قوله : خلفوا أي : خلفوا إلى هذا الوقت ، ثم تاب عليهم ليتوبوا ، ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم وينيبوا ، أو ليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة علماً منهم أنّ الله ثواب على من تاب ، ولو عاد في اليوم مائة مرة . وقيل : معنى ليتوبوا ليدوموا على التوبة ولا يراجعوا ما يبطلها . وقيل : ليتوبوا ، ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم من الاختلاط بالمؤمنين ، وتستكن نفوسهم عند ذلك . قال ابن عطية : وقوله : ثم تاب عليهم ليتوبوا ، لمّا كان هذا القول في تعديد نعمه بدأ في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله تعالى ليكون ذلك منبّهاً على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره ، ولو كان القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال تعالى : ) فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ( ليكون هذا أشد تقريراً للذنب عليهم ، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه . وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها أنها تكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا ، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير ، فلذلك اختصرت سوقه . وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأنّ الشرع يطالبهم من الحد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه ، إذ هو أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين ، إذ كان كعب من أهل العقبة ، وصاحباه من أهل بدر ، وفي هذا ما يقتضي أنّ الرجل العالم والمقتدي به أقل عذراً في السقوط من سواه . وكتب الأوزاعي إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة : واعلم أنّ قرابتك من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لن تزيد حق الله عليك إلا عظماً ، ولا ظاعته إلا وجوباً ، ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكاراً والسلام . ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله :
والعيب يعلق بالكبير كبير
وروي أن أناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومنهم من بدا له فيلحق بهم كأبي خيثمة ، ومنهم من بقي لم يلحق بهم منهم الثلاثة . وسئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح فقال : إن تضيق إلى التائب الأرض بما رحبت ، وتضيق عليه نفسه كتوبه كعب بن مالك وصاحبيه .
( الرَّحِيمُ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ( : هو خطاب للمؤمنين ، أمروا بكونهم مع أهل الصدق بعد ذكر قصة الثلاثة الذين نفعهم صدقهم وأزاحهم عن ربقة النفاق . واعترضت هذه الجملة تنبيهاً على رتبة الصدق ، وكفى بها أنها ثانية لرتبة النبوة في قوله : ) فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ ( قال ابن جريج وغيره : الصدق هنا صدق الحديث . وقال الضحاك ونافع : ما معناه اللفظ أعم من صدق الحديث ، وهو بمعنى الصحة في الدين ، والتمكن في الخير ، كما تقول العرب : رجل صدق . وقالت هذه الفرقة : كونوا مع محمد وأبي بكر وعمر وخيار المهاجرين الذين صدقوا الله في

" صفحة رقم 114 "
الإسلام . وقيل : هم الثلاثة أي : كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم . وقال الزمخشري : هم الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله ورسوله من قوله : ) رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ ( وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً انتهى . وقيل : الخطاب بالذين آمنوا لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك . وعن ابن عباس : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي : كونوا مع المهاجرين والأنصار ، ومع تقتضي الصحبة في الحال والمشاركة في الوصف المقتضي للمدح . وقرأ ابن مسعود وابن عباس : من الصادقين ، ورويت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وكان ابن مسعود يتأوله في صدق الحديث وقال : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، ولا إن يعد منكم أحد صببه ثم لا ينجزه ، اقرؤوا إن شئتم : وكونوا مع الصادقين . وقال صاحب اللوامح : ومن أعم من مع ، لأنّ كل ن كان من قوم فهو معهم في المعنى المأمور به ، ولا ينعكس ذلك . وقرأ زيد بن علي ، وابن السميقع ، وأبو المتوكل ، ومعاذ القاري : مع الصادقين بفتح القاف وكسر النون على التثنية ، ويظهر أنهما الله ورسوله لقوله تعالى : ) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الاْحْزَابَ قَالُواْ هَاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( ولما تقدم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، أمروا بأنْ يكونوا مع الله ورسوله بامتثال الأمر واجتناب المنهى عنه كما يقال : كن مع الله يكن معك .
( مَا كَانَ لاهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الاْعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذالِكَ ( : نزلت فيمن تخلف من أهل المدينة عن غزوة تبوك ، وفيمن تخلف ممن حولهم من الأعراب من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار . ومناسبتها لما قبلها : أنه لما أمر المؤمنين بتقوى الله ، وأمر بكينونتهم مع الصادقين ، وأفضل الصادقين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثم المهاجرون والأنصار ، اقتضى ذلك موافقة الرسول وصحبته أنّى توجه من الغزوات والمشاهد ، فعوتب العتاب الشديد من تخلف عن الرسول في غزوة ، واقتضى ذلك الأمر لصحبته وبذل النفوس دونه . قال الزمخشري : بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأمروا أن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما يلقاه نفسه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، علماً بأنها أعزُّ نفس عند الله تعالى وأكرمها عليه ، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهون وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ، ولا يقيموا لها وزناً ، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه ، فضلاً أن يربؤوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه ، وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية . قال الكرماني : هذا نفي معناه النهي ، وخصَّ هؤلاء بالذكر وكل الناس في ذلك سواء لقربهم منه ، وأنه لا يخفى عليهم خروجه . قال قتادة : كان هذا الإلزام خاصاً مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وجواب النفر إلى الغزو إذا خرج هو بنفسه ، ولم يبق هذا الحكم مع غيره من الخلفاء . وقال زيد بن أسلم : كان هذا الأمر والإلزام في قلة الإسلام ، واحتياج إلى اتصال الأيدي ، ثم نسخ عند قوة الإسلام بقوله : ) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً ( قال : وهذا كله في الانبعاث إلى غزو العدو على الدخول في الإسلام ، وأما إذا ألم العدوّ بجهة فيتعين على كل أحد القيام بذنبه ومكافحته ، والإشارة بذلك إلى ما تضمنه انتفاء التخلف من وجوب الخروج معه وبذل الفس دونه ، كأنه قيل : ذلك الوجوب للخروج وبذل النفس هو بسبب ما أعد الله لهم من

" صفحة رقم 115 "
الثواب الجسيم على المشاق التي تنالهم ، وما يتسنى على أيديهم من إيذاء أعداء الإسلام . والظمأ العطش .
وقرأ عبيد بتن عمير ظماء بالمد مثل : سفه سفاهاً ، ولما كان العطش أشق الأشياء المؤدية للمسافر بكثرة الحركة وإزعاج النفس وخصوصاً في شدة الحر كغزوة تبوك بدىء به أولاً ، وثنى بالنصب وهو التعب لأنه الكلال الذي يلحق المسافر والإعياء الناشىء عن العطش والسير ، وأتى ثالثاً بالجوع لأنه حاله يمكن الصبر عليها الأوقات العديدة ، بخلاف العطش والنصب المفضيين إلى الخلود والانقطاع عن السفر . فكان الإخبار بما يعرض للمسافر أولاً فثانياً فثالثاً . وموطئاً مفعل من وطىء ، فاحتمل أنْ يكون مكاناً ، واحتمل مصدراً . والفاعل في يغيظ عائد على المصدر ، إما على موطىء إن كان مصدراً ، وإما على ما يفهم من موطىء إن كان مكاناً ، أي يغيظ وطؤهم إياه الكفار . وأطلق موطئاً إذا كان مكاناً ليعم كل موطىء يغيظ وطؤه الكفار ، سواء كان من أمكنة الكفار ، أم من أمكنة المسلمين إذا كان في سلوكه غيظهم . والوطء يدخل فيه بالحوافر والإخفاف والأرجل . وقرأ زيد بن علي : يغيظ بضم الياء . والنيل مصدر ، فاحتمل أن يبقى على موضوعه ، واحتمل أن يراد به المنيل . وأطلق نيلاً ليعمّ القليل والكثير مما يسوءهم قتلاً وأسراً وغنيمة وهزيمة ، وليست الياء في نيل بدلاً من واو خلافاً لزاعم ذلك ، بل نال مادتان : إحداهما من ذوات الواو نلته أنولة نولاً ونوالاً من العطية ، ومنه التناول . والأخرى : هذه من ذوات الياء ، نلته ناله نيلاً إذا أصابه وأدركه . وبدىء في هاتين الجملتين بالأسبق أيضاً وهو الوطء ، ثم ثنى بالنيل من العدو . جاء العموم في الكفار بالألف واللام ، وفي من عدو لكونه في سياق النفي ، وبدىء أولاً بما يحض المسافر في الجهاد في نفسه ، ثم ثانياً بما يترتب على تحمل تلك المشاق من غيظ الكفار والنيل من العدو . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة ، لا الوطء بالأقدام والحوافر كقوله عليه السلام : ) ءاخَرَ ).
والكتب هنا يحتمل أن يكون حقيقة أي : كتب في الصحائف ، أو في اللوح المحفوظ ، ليجازي عليه يوم القيامة . ويحتمل أن يكون استعارة ، عبر عن الثبوت بالكتابة لأنّ من أراد أن يثبت شيئاً كتبه . والجملة من كتب في موضع الحال ، وبه أفرد الضمير إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل : إلا كتب لهم بذلك عمل صالح أي : بإصابة الظمأ والنصب والمخمصة والوطء والنيل . وفي الحديث : ( من أغرث قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ) وقال ابن عباس : بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة . والنفقة الصغيرة قال ابن عباس : كالثمرة ونحوها ، والكبيرة ما فوقها . وقال الزمخشري : صغيرة ولو تمرة ، ولو علاقة سوط ، . ولا كبيرة مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة انتهى . وقدم صغيرة على سبيل الاهتمام كقوله : ) ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً ( ) وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ ( وإذا كتب أجر الصغيرة فأحرى أجر الكبيرة . ومفعول كتب مضمر يعود على المصدر المفهوم من ينفقون ويقطعون ، كأنه قيل : كتب لهم هو أي الإنفاق والقطع ، ويجوز أن يعود على قوله : عمل صالح المتقدم الذكر . وتأخرت هاتان الجملتان وقدّمت تلك الجمل السابقة لأنها أشق على النفس وأنكى في العدو ، وهاتان أهون لأنهما في الأموال وقطع الأرض إلى العدو ، سواء حصل غيظ الكفار والنيل من العدو أم لم يحصلا ، فهذا أعم وتلك أخص . وكان تعليل تلك آكد ، إذ جاء بالجملة الإسمية المؤكدة بأنّ ، وذكر فيه الأجر . ولفظ المحسنين تنبيهاً على أنهم حازوا رتب الإحسان التي هي أعلى رتب المؤمنين . وفي هاتين الجملتين أتى بلام العلة وهي متعلقة بكتب والتقدير : أحسن جزاء الذي كانوا يعملون ، لأنّ عملهم له جزاء حسن ، وله جزاء أحسن ، وهنا الجزاء أحسن جزاء . وقال أبو عبد الله الرازي : أحسن ما كانوا يعملون فيه وجهان : الأول : أن أحسن من صفة فعلهم ، وفيها الواجب والمندوب دون المباح اننتهى . هذا الوجه

" صفحة رقم 116 "
فاحتمل أن يكون أحسن بدلاً من ضمير ليجزيهم بدل اشتمال ، كأنه قيل : ليجزي الله أحسن أفعالهم بالأحسن من الجزاء ، أو بما شاء من الجزاء . ويحتمل أن يكون ذلك على حذف مضاف فيكون التقدير : ليجزيهم جزاءاً أحسن أفعالهم . والثاني : أن الأحسن صفة للجزاء أي : يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل ، وهو الثواب انتهى ، هذا الوجه ، وإذا كان الأحسن من صفة الجزاء فكيف أضيف إلى الأعمال وليس بعضها منها ؟ وكيف يقع التفضيل إذ ذاك بين الجزاء وبين الأعمال ، ولم يصرح فيه بمن ؟ .
2 ( ) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ) ) 2
) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ ( : لما سمعوا ما كان لأهل المدينة الآية أهمهم ذلك ، فنفروا إلى المدينة إلى الرسول فنزلت . وقيل : قال المنافقون حين نزلت : ما كان لأهل المدينة الآية هكذا أهل البوادي فنزلت . وقيل : لما دعا الرسول على مضر بالسنن أصابتهم مجاعة ، فنفروا إلى المدينة للمعاش وكادوا يفسدونها ، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان ، وإنما أقدمه الجوع فنزلت الآية فقال : وما كان من ضعفة الإيمان لينفروا مثل هذا النفير أي : ليس هؤلاء بمؤمنين . وعلى هذه الأقوال لا يكون النفير إلى الغزو ، والضمير الذي في ليتفقهوا عائد على الطائفة النافرة ، وهذا هو الظاهر . وقال ابن عباس : الآية في البعوث والسرايا . والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج الرسول في الغزو ، وهذه ثابتة الحكم إذا لم يخرج أي : يجب إذا لم يخرج أن لا ينفر الناس كافة ، فيبقى هو مفرداً . وإنما ينبغي أن ينفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الطائفة في الدين ، وتنذر النافرين إذا رجعوا إليهم . وقالت فرقة : هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الناس كافة النفير والقتال ، فعلى هذا وعلى قول ابن عباس يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على الطائفة المقيمة مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويكون معنى ولينذروا قومهم أي : الطائفة النافرة إلى الغزو يعلمونهم بما تجدّد من أحكام الشريعة وتكاليفها ، وكان ثم جملة محذوفة دل عليها تقسيمها أي : فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة مقعدت أخرى ليتفقهوا . وقيل : على أن يكون النفير إلى الغزو يصح أن يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على النافرين ، ويكون تفقههم في الغزو بما يرون من نصرة الله لدينه ، وإظهاره الفئة القليلة من المؤمنين على الكثيرة من الكافرين ، وذلك دليل على صحة الإسلام ، وإخبار الرسول بظهور هذا الدين . والذي يظهر أنّ هذه الآية إنما جاءت للحض على طلب العلم والتفقه في دين الله ، وأنه لا يمكن أن يرحل المؤمنون كلهم في ذلك فتعرى بلادهم منهم ويستولي عليها وعلى ذراريهم أعداؤهم ، فهلا رحل طائفة منهم للتفقه في الدين ولإنذار قومهم ، فذكر العلة للنفير وهي التفقه أولاً ، ثم الإعلام لقومهم بما علموه من أمر الشريعة أي : فهلا نفر من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم فكفوهم النفير ، وقام كل بمصلحة هذه بحفظ بلادهم ، وقتال أعدائهم ، وهذه لتعلم العلم وإفادتها المقيمين إذا رجعوا إليهم .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ كلا النفيرين هو في سبيل الله وإحياء دينه هذا بالعلم ، وهذا بالقتال . قال الزمخشري : ليتفقهوا في الدين ، ليتكلفوا الفقاهة فيه ، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها ، ولينذروا قومهم ، وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لعلهم يحذرون

" صفحة رقم 117 "
إرادة أن يحذروا الله تعالى ، فيعملوا عملاً صالحاً . ووجه آخر : وهو أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان إذا بعث بعثاً بعد غزوة تبوك وبعد ما نزل في المتخلفين من الآيات الشدائد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير ، وانقطعوا جميعاً عن الوحي والتفقه في الدين ، فأمروا بأن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ، وتبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأنّ الجهاد بالحجة أعظم أمراً من الجهاد بالسيف . وقوله تعالى : ليتفقهوا ، الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة ، ولينذروا قومهم ، ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم ما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم ، وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه .
( قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( : لما خص تعالى على التفقه في الدين ، وحرض على رحلة طائفة من المؤمنين فيه ، أمر تعالى المؤمنين كافة بقتال من يليهم من الكفار ، فجمع من الجهاد جهاد الحجة وجهاد السيف . وقال بعض الشعراء في ذلك : من لا يعدله القرآن كان له
من الصغار وبيض الهند تعديل
قيل : نزلت قبل الأمر بقتل الكفار كافة ، فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام . وضعف هذا القول بأنّ هذه الآية ما نزل . وقالت فرقة : إنما كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ربما تجاوز قوماً من الكفار غازياً لقوم آخرين أبعد منهم ، فأمر الله بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة . وقالت فرقة : الآية مبينة صورة القتال كافة ، فهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة ، ومعناها أنّ الله تعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجيش الذي يضايقه من الكفرة ، وهذا هو القتال لكملة الله ورد البأس إلى الإسلام . وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المؤمنين كفاية عدوّ ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد . وقال : قاتلوا هذه المقالة نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام ، لأنهم كانوا يومئذ العدوّ الذي يلي ويقرب ، إذ كانت العرب قد عمها الإسلام ، وكانت العراق بعيدة ، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم وغيرهما من الأمم ، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال : عليك بالروم . وقال علي بن الحسين والحسن : هم الروم والديلم ، يعني في زمنه . وقال ابن زيد : المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب ، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم : ) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ ( إلى آخرها . وقيل : هم قريظة والنضير وفدك وخيبر . وقال قوم : تحرجوا أن يقاتلوا أقرباءهم وجيرانهم ، فأمروا بقتالهم . ويلونكم : ظاهره القرب في المكان . وقيل : هو عام في القرب في المكان ، والنسب والبداءة بقتال من يلي لأنه متعذر قتال كلهم دفعة واحدة ، وقد أمرنا بقتال كلهم ، فوجب الترجيح بالقرب كما في سائر المهمات كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولأن النفقات فيه ، والحاجة إلى الدواب والأدوات أقل ، ولأن قتال الأبعد تعريض لتدارك المسلمين إلى الفتنة ، ولأن الدين يكون إن كانوا ضعفاء كان الاستيلاء عليهم أسهل ، وحصول غير الإسلام أيسر . وإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد ، ولأن المعرفة بمن يلي آكد منها بمن بعد للوقوف على كيفية أحوالهم وعددهم وعددهم ، فترجحت البداءة بقتال من يلي على قتال من بعد . وأمر تعالى المؤمنين بالغلظة على الكفار والشدّة عليهم كما قال تعالى : ) جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( وذلك ليكون ذلك أهيب وأوقع للفزع في قلوبهم . وقال تعالى : ) أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( وفي الحديث : ) أَلْقَوْاْ الْكُفَّارِ ( وقال تعالى ) وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ( وقال : ) فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّه

" صفحة رقم 118 "
ِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ ( والغلظة : تجمع الجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة ، والغلظة حقيقة في الأجسام ، واستعيرت هنا للشدة في الحرب . وقرأ الجمهور : غلظة بكسر الغين وهي لغة أسد ، والأعمش وابان بن ثعلب والمفضل كلاهما عن عاصم بفتحها وهي لغة الحجاز ، وأبو حيوة والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وابن أيضاً بضمها وهي لغة تميم ، وعن أبي عمر وثلاثة اللغات ثم قال : واعلموا أنّ الله مع المتقين لينبه على أن يكون الحامل على القتال ووجود الغلظة إنما هو تقوى الله تعالى ، ومن اتقى الله كان الله معه بالنصر والتأييد ، ولا يقصد بقتاله الغنيمة ، ولا الفخر ، ولا إظهار البسالة .
( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا ( : قال ابن عباس : نزلت هذه والثانية في المنافقين ، كانوا إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين خطبهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعرض بهم في خطبته ، فينظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب ويقولون : هل يراكم من أحد إن قمتم ؟ فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد . ولما استطرد من سفر الغزو وتأنيب المتخلفين عن الرسول إلى سفر التفقه في الدين ، ثم أمر بقتال من يلي من الكفار والغلظة عليهم ، عاد إلى ذكر مخازي المنافقين إذ هم الذين نزل معظم السورة فيهم . وكان في الآية قبلها إشارة إلى الغلظة على الكفار وهم منهم ، وقولهم : أيكم زادته هذه إيماناً ، يحتمل أن يكون خطاب بعض المنافقين لبعض على سبيل الإنكار والاستهزاء بالمؤمنين ، ويحتمل أن يقولوا : ذلك لقراباتهم المؤمنين يستقيمون إليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق . ومعنى قولهم ذلك : هو على سبيل التحقير للسورة والاستخفاف بها ، كما تقول : أي غريب في هذا وأي دليل في هذا ، وفي الفتيان قيل : هو قول المؤمنين للبحث والتنبيه . وقرأ الجمهور : أيكم بالرفع . وقرأ زيد بن علي ، وعبيد بن عمير : أيكم بالنصب على الاشتغال ، والنصب فيه عند الأخفش أفصح كهو بعد أداة الاستفهام نحو : أريد اضربته . والتقسيم يقتضي أنّ الخطاب من أولئك المنافقين المستهزئين عام للمنافقين والمؤمنين ، وزيادة الإيمان عبارة عن حدوث تصديق خاص لم يكن قبل نزول السورة من قصص وتجديد حكم من الله تعالى ، أو عبارة عن تنبيه على دليل تضمنته السورة ويكون قد حصلت له معرفة الله بأدلة ، فنبهته هذه السورة على دليل راد في أدلته ، أو عبارة عن إزالة شك يسير ، أو شبهة عارضة غير مستحكمة ، فيزول ذلك الشك وترتفع الشبهة بتلك السورة . وأما على قول من يسمى الطاعة إيماناً ، وذلك مجاز عند أهل السنة ، فتترتب الزيادة بالسورة إذ يتضمن أحكاماً . وقال الربيع : فزادتهم إيماناً أي خشية أطلق اسم الشيء على بعض ثمراته . وقال الزمخشري : فزادتهم إيماناً لأنها أزيد للمتقين على الثبات ، وأثلج للصدور . أو فزادتهم عملاً ، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان ، لأن الإيمان يقع على الإعتقاد والعمل

" صفحة رقم 119 "
انتهى . وهي نزعة اعتزالية ، وهم يستبشرون بما تضمنته من رحمة الله ورضوانه . وأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون ، والصحة والمرض في الأجسام ، فنقل إلى الإعتقاد مجازاً والرجس القذر ، والرجس العذاب ، وزيادته عبارة عن تعمقهم في الكفر وخبطهم في الضلال . وإذا كفروا بسورة . فقد زاد كفرهم واستحكم وتزايد عقابهم . قال قطرب والزجاج : أراد كفراً إلى كفرهم . وقال مقاتل : إثماً إلى إثمهم . وقال السدي والكلبي : شكاً إلى شكهم . وقال ابن عباس : أراد ما أعد لهم من الخزي والعذاب المتجدد عليهم في كل وقت في الدنيا والآخرة ، وأنتج نزول السورة للمؤمنين شيئين : زيادة الإيمان ، والاستبشار بما لهم عند الله . وللذين في قلوبهم مرض زيادة رجس ، والموافاة على الكفر أذاهم كفرهم الأصلي ، والزيادة إلى أنْ ماتوا على الكفر .
( أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ( : لما ذكر أنهم بموتهم على الكفر رائحون إلى عذاب الآخرة ، ذكر أنهم أيضاً في الدنيا لا يخلصون من عذابها . والضمير في يرون عائد على الذين في قلوبهم مرض ، وذلك على قراءة الجمهور بالياء . وقرأ حمزة : بالتاء خطاباً للمؤمنين . والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب ، ومن رؤية البصر . وقرأ أبي وابن مسعود ، والأعمش : أو لا ترى أي أنت يا محمد ؟ وعن الأعمش أيضاً : أو لم تروا ؟ وقال أبو حاتم عنه : أو لم يروا ؟ قال مجاهد : يفتنون ، يختبرون بالسنة والجوع . وقال النقاش عنه : مرضه أو مرضتين . وقال الحسن وقتادة : يحتبرون بالأمر بالجهاد . قال ابن عطية : والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله أسرارهم وإفشائه عقائدهم ، فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة . وأما الجهاد أو الجوع فلا يترتب معهما ما ذكرناه ، فمعنى الآية على هذا : أفلا يزدرج هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد واحد ، ويعلمون أن ذلك من عند الله فيتوبون ، ويذكرون وعد الله ووعيده انتهى . وقاله مختصراً مقاتل قال : يفضحون بإظهار نفاقهم ، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين ، وقد كان الحسن ينشد : أفي كل عام مرضة ثم نقهة
فحتى متى حتى متى وإلى متى
وقالت فرقة : معنى يفتنون بما يشبعه المشركون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الأكاذيب والأراجيف ، وأنّ ملوك الروم قاصدون بجيوشهم وجموعهم إليهم ، وإليه الإشارة بقوله : ) لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( فكان الذين في قلوبهم مرض يفتنون في ذلك . وحكى الطبري هذا القول عن حذيفة ، وهو غريب من المعنى . وقال الزمخشري : يفتنون يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله تعالى ، ثم لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم ، ولا يذكرون ولا يعتبرون ولا ينظرون في أمرهم ، أو يبتلون بالجهاد مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويعاينون أمره وما ينزل الله تعالى عليه من النصر وتأييده ، أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيقتلهم وينكل بهم ، ثم لا ينزجرون . وقرأ ابن مسعود : ولا هم يتذكرون

" صفحة رقم 120 "
) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ ). ذكر أولاً ما يحدث عنهم من القول على سبيل الاستهزاء ، ثم ذكر ثانياً ما يصدر منهم من الفعل على سبيل الاستهزاء وهو الإيماء والتغامز بالعيون إنكاراً للوحي ، وسخرية قائلين : هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نقدر على استماعه ويغلبنا الضحك ، فنخاف الافتضاح بينهم ، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لو إذا يقولون : هل يراكم من أحد ؟ والظاهر إطلاق السورة أية سورة كانت . وقيل : ثم صفة محذوفة أي : سورة تفضحهم ويذكر فيها مخازيهم ، نظر بعضهم إلى بعض على جهة التقرير ، يفهم من تلك النظرة التقرير : هل يراكم من ينقل عنكم ؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم ؟ ثم انصرفوا أي : عن طريق الاهتداء ، وذلك أنهم حين ما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر ، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة النظر الصحيح والاهتداء . قال الضحاك : هل اطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل ثم انصرفوا إن كان حقيقة فالمعنى : قاموا من المكان الذي تتلى فيه السورة أو مجازاً ، فالمعنى : انصرفوا عن الإيمان ، وذلك وقت رجوعهم إليه وإقبالهم عليه ، قاله الكلبي ، أو رجعوا إلى الاستهزاء أو إلى الطعن في القرآن والتكذيب له ولمن جاء به ، أو عن العمل بما كانوا يسمعونه ، أو عن طريق الاهتداء بعد أن بين لهم ومهد وأقيم دليله ، وهذا القول راجع لقول الكلبي .
صرف الله قلوبهم صيغته خبر ، وهو دعاء عليهم بصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان ، قاله الفراء . والظاهر أنه خير لما كان الكلام في معرض ذكر التكذيب ، بدأ بالفعل المنسوب إليهم وهو قوله : ثم انصرفوا ، ثم ذكر فعله تعالى بهم على سبيل المجازاة لهم على فعلهم كقوله : ) فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ). قال الزجاج : أضلهم . وقيل : عن فهم القرآن والإيمان به . وقال ابن عباس : عن كل رشد وخير وهدى . وقال الحسن : طبع عليها بكفرهم . قال الزمخشري : صرف الله قلوبهم دعاء عليهم بالخذلان ، ويصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراخ بأنهم قوم لا يفقهون يحتمل أن يكون متعلقاً بانصرفوا ، أو بصرف ، فيكون من باب الإعمال أي : بسبب انصرافهم ، أو صرف الله قلوبهم هو بسبب أنهم لا يتدبرون القرآن فيفقهون ما احتوى عليه مما يوجب إيمانهم والوقوف عنده .
( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ ( : لما بدرأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين ، وقص فيها أحوال المنافقين شيئاً فشيئاً ، خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم ، أو من نسبهم عربياً قرشياً يبلغهم عن الله متصف بالأوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب ، ويحرص على هداهم ، ويرأف بهم ، ويرحمهم . قال ابن عباس : ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فكأنه قال : يا معشر العرب لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل ، ويحتمل أن يكون الخطاب لمن بحضرته من أهل الملل والنحل ، ويحتمل أن يكون حطاباً لبني آدم ، والمعنى : أنه لم يكن من غير جنس بني آدم ، لما في ذلك من التنافر بين الأجناس كقوله : ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( ولما كان المخاطبون عاماً ، إما عامة العرب ، وإما عامة بني آدم ، جاء الخطاب عاماً بقوله : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم أي : على هدايتكم حتى لا يخرج أحد عن اتباعه فيهلك . ولما كانت الرأفة والرحمة خاصة جاء متعلقها خاصاً وهو قوله : بالمؤمنين رؤوف رحيم . ألا ترى إلى قوله : ) جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ

" صفحة رقم 121 "
وقال : ) أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( وقال في زناة المؤمنين : ) ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) . قال ابن عطية : وقوله من أنفسكم ، يقتضي مدحاً لنسب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأنه من صميم العرب وأشرفها ، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام : ) إن الله اصطفى كناية من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم ( ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إني من نكاح ولست من سفاح ) معناه أن نسبه ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنا انتهى . وصف الله نبيه عليه السلام بستة : أوصاف الرسالة وهي صفة كمال الإنسان لما احتوت عليه من كمال ذات الرسول وطهارة نفسه الزكية ، وكونه من الخيار بحيث أهل أنْ يكون واسطة بين الله وبين خلقه ، ولما كانت هذه الصفة أشرف بدىء بذكرها . وكونه من أنفسهم وهي صفة مؤثرة في التبليغ والفهم عنه والتآنس به ، فإن كان خطاباً للعرب ففي هذه الصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه ، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيه التنويه بهم واللطف في إيصال الخبر إليهم ، وأنه معروف بينهم بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة . وكونه يعز عليه ما يشق عليكم ، فهذا الوصف من نتائج الرسالة . ومن كونه من أنفسهم ، لأنّ من كان منك وادّلك الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك وكونه حريصاً على هدايتهم ، وهو أيضاً من نتائج الرسالة ، لأنه بعث ليعبد الله ويفرد بالألوهية . وكونه رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين ، وهما وصفان من نتائج التبعية له ، والدخول في دين الله . ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ( ) الْمُؤْمِنُ ).
وقرأ ابن عباس ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن محيصن ، ومحبوب ، عن أبي عمرو وعبد الله بن قسيط المكي ، ويعقوب من بعض طرقه : من أنفسكم بفتح الفاء . ورويت هذه القراءة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعن فاطمة ، وعائشة رضي الله عنهما ، والمعنى : من أشرفكم وأعزكم ، وذلك من النفاسة ، وهو راجع لمعنى النفس ، فإنها أعز الأشياء . والظاهر أنّ ما مصدرية في موضع الفاعل بعزيز أي : يعز عليه مشقتكم كما قال : يسر المرء ما ذهب الليالي
وكان ذهابهن له ذهابا
أي يسر المرء ذهاب الليالي . ويجوز أن يكون ما عنتم مبتدأ أي : عنتكم عزيز عليه ، وقدم خبره ، والأول أعرب . وأجاز الحوفي أن يكون عزيز مبتدأ ، وما عنتم الخبر ، وأن تكون ما بمعنى لذي ، وأن تكون مصدرية ، وهو إعراب دوب الإعرابين السابقين . وقال ابن القشيري : عزيز صفة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإنما وصف بالعزة لتوسطه في قومه وعراقة نسبه وطيب جرثومته ، ثم استأنف فقال : عليه ما عنتم أي : يهمه أمركم انتهى . والعنت : تقدم شرحه في البقرة في قوله ) خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ). وقال ابن عباس : هنا مشقتكم . وقال الضحاك : إثمكم . وقال

" صفحة رقم 122 "
سعيد بن أبي عروبة : ضلالكم . وقال العتبي : ما ضركم . وقال ابن الأنباري : ما أهلككم . وقيل : ما عمكم . والأولى أن يضمر في عليكم أي : على هداكم وإيمانكم كقوله : ك ) إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ ( وقوله : ) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ). وقيل : حريص على إيصال الخيرات لكم في الدنيا والآخرة . وقال الفراء : الحريص هو الشحيح ، والمعنى : أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار . وقيل : حريص على دخولكم الجنة . وإنما احتيج إلى الإضمار ، لأنّ الحرص لا يتعلق بالذوات . ويحتمل بالمؤمنين أن يتعلق برؤوف ، ويحتمل أن يتعلق برحيم ، فيكون من باب التنازع . وفي جواز تقدم معمول المتنازعين نظر ، فالأكثرون لا يذكرون فيه تقدمة عليهما ، وأجاز بعض النحويين التقديم فتقول : زيداً ضربت وشتمت على التنازع ، والظاهر تعلق الصفتين بجميع المؤمنين . وقال قوم : بالتوزيع ، رؤوف بالمطيعين ، رحيم بالمذنبين . وقيل : رؤوف بمن رآه ، رحيم بمن لم يره . وقيل : رؤوف بأقربائه ، رحيم بغيرهم . وقال الحسن بن الفضل : لم يجمع الله لنبي بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإنه قال : بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وقال تعالى : ) إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ).
) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( : أي فإنْ أعرضوا عن الإيمان بعد هذه الحالة التي منّ الله عليهم بها من إرسالك إليهم واتصافك بهذه الأوصاف الجميلة فقل : حسبي الله أي : كافيّ من كل شيء ، عليه توكلت أي : فوضت أمري إليه لا إلى غيره ، وقد كفاه الله شرهم ونصره عليهم ، إذ لا إله غيره . وهي آية مباركة لأنها من آخر ما نزل ، وخص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات . وقال ابن عباس : العرش لا يقدر أحد قدره انتهى . وذكر في معرض شرح قدرة الله وعظمته ، وكان الكفار يسمعون حديث وجود العرش وعظمته من اليهود والنصارى ، ولا يبعد أنهم كانوا سمعوا ذلك من أسلافهم . وقرأ ابن محيصن : العظيم برفع الميم صفة للرب ، ورويت عن ابن كثير . قال أبو بكر الأصم : وهذه القراءة أعجب إليّ ، لأنّ جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش ، وعظم العرش يكبر جثته واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار ، وعظم الرب بتقديسه عن الحجمية والأجزاء والإبعاض ، وبكمال العلم والقدرة ، وتنزيهه عن أن يتمثل في الأوهام ، أو تصل إليه الأفهام . وعن ابن عباس : آخر ما نزل لقد جاءكم إلى آخرها . وعن أبيّ أقرب القرآن عهداً بالله لقد جاءكم الآيتان ، وهاتان الآيتان لم توجدا حين جمع المصحف إلا في حفظ خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، فلما جاء بها تذكرها كثير من الصحابة ، وقد كان زيد يعرفها ، ولذلك قال : فقدت آيتين من آخر سورة التوبة ، ولو لم يعرفها لم ندر هل فقد شيئاً أولاً ، فإنما ثبتت الآية بالإجماع لا بخزيمة وحده . وقال عمر بن الخطاب : ما فرغ من تنزل براءة حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا سينزل فيه شيء . وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء قال : من قال : ( إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله تعالى ما أهمه ) .

" صفحة رقم 123 "
( سورة يونس )
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاٌّ مْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيواةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاٌّ نْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْم

" صفحة رقم 124 "
َ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الاٌّ رْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِىأَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِىإِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىإِلَىَّ إِنِّىأَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَاؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاٌّ رْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِىءايَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الاٌّ رْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } )
يونس : ( 1 ) الر تلك آيات . . . . .
القدم : قال الليث وأبو الهيثم : القدم السابقة . قال ذو الرمة : وأنت امرؤ من أهل بيت دؤابة
لهم قدم معروفة ومفاخر
وقال أبو عبيدة والكسائي : كل سابق في خير أو شر فهو قدم . وقال الأخفش : سابقة إخلاص كما في قول حسان : لنا القدم العليا إليك وخلفنا
لا ولنا في طاعة الله تابع

" صفحة رقم 125 "
وقال أحمد بن يحيى : كل ما قدمت من خير . وقال ابن الأنباري : العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء .
المرور : مجاوزة الشيء والعبور عليه ، تقول : مررت بزيد جاوزته . والمرة : القوة ، ومنه ذو مرة . ومرر الحبل قواه ، ومنه : ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ) العاصف الشديد يقال : عصفت الريح . قال الشاعر : حتى إذا عصفت ريح مزعزعة
فيها قطار ورعد صوته زجل
وأعصف الريح . قال الشاعر : ولهت عليه كل معصفة
هو جاء ليس للبهارير
وقال أبو تمام : إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت
عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم
الموح : ما ارتفع من المساء عند هبوب الهواء ، سمى موجاً لاضطرابه .
( الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ ( : هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات ، فإنها نزلت بالمدينة ، وهي فإن كنت في شك إلى آخرهن ، قاله ابن عباس . وقال الكلبي : إلا قوله ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به فإنها نزلت في اليهود بالمدينة . وقال قوم : نزل من أولها نحو من أربعية آية بمكة ، ونزل باقيها بالمدينة . وقال الحسن وعطاء وجابر : هي مكية وسبب نزولها : أنّ أهل مكة قالوا : لم يجد الله رسولاً إلا يتيم أبي طالب فنزلت . وقال ابن جريج : عجبت قريش أن يبعث رجل منهم فنزلت . وقيل : لما حدثهم عن البعث والمعاد والنشور تعجبوا .
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أنزل ) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ ( وذكر تكذيب المنافقين ثم قال : ) لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ ( وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل ، والنبي الذي أرسل ، وأن ديدن الضالين وأحد متابعيهم ومشركيهم في التكذيب بالكتب الإلهية وبمن جاء بها ، ولما كان ذكر القرآن مقدّماً على ذكر الرسول في آخر السورة ، جاء في أول هذه السورة كذلك فتقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول ، وتقدم ما قاله المفسرون في أوائل هذه السورة المفتتحة بحروف المعجم ، وذكروا هنا أقوالاً عن المفسرين منها : أنا الله أرى ، ومنها أنا الله الرحمن ، ومنها أنه يتركب منها ومن رحم ومن نون الرحمن . فالراء بعض حروف الرحمن مفرقة ، ومنها أنا الرب وغير ذلك . والظاهر أن تلك باقية على موضوعها من استعمالها البعد المشار إليه . فقال مجاهد وقتادة : أشار بتلك إلى الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل

" صفحة رقم 126 "
والزبور ، فيكون الآيات القصص التي وصفت في تلك الكتب . وقال الزجاج : إشارة إلى آيات القرآن التي جرى ذكرها . وقيل : إشارة إلى الكتاب المحكم الذي هو محزون مكتوب عند الله ، ومنه نسخ كل كتاب كما قال : ) بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( وقال : ) وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ ( وقيل : إشارة إلى الرائ وأخواتها من حروف المعجم ، أي تلك الحروف المفتتح بها السور وإن قربت ألفاظها فمعانيها بعيدة المنال . وهي آيات الكتاب أي الكتاب بها يتلى ، وألفاظه إليها ترجع ذكره ابن الأنباري . وقيل : استعمل تلك بمعنى هذه ، والمشار إليه حاضر قريب قاله ابن عباس ، واختاره أبو عبيدة . فقيل : آيات القرآن . وقيل : آيات السور التي تقدمّ ذكرها في قوله : ) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ ( وقيل : المشار إليه هو الراء ، فإنها كنوز القرآن ، وبها العلوم التي استأثر الله بها . وقيل : إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة .
والحكيم : الحاكم ، أو ذو الحكمة لاشتماله عليها . وتعلقه بها ، أو المحكم ، أو المحكوم به ، أو المحكم أقوال . والهمزة في أكان للاستفهام على سبيل الإنكار لوقوع العجب من الإيحاء إلى بشر منهم بالإنذار والتبشير ، أي : لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة ، أوحي إلى رسلهم الكتب بالتبشير والإنذار على أيدي من اصطفاه منهم . واسم كان إن أوحينا ، وعجباً الخبر ، وللناس فقيل : هو في موضع الحال من عجباً لأنه لو تأخر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم معموله عليه كاسم المفعول . وقيل : هو تبيين أي أعنى للناس . وقيل : يتعلق بكان وإن كانت ناقصة ، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت دالة على الحدث فإنها إنْ تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح تعلق بها . وقرأ عبد الله : عجب ، فقيل : عجب اسم كان ، وأن أوحينا هو الخبر ، فيكون نظير : يكون مزاجها عسل وماء ، وهذا محمول على الشذوذ ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية . وقيل : كان تامة ، وعجب فاعل بها ، والمعنى : أحدث للناس عجب لأن أوحينا ، وهذا التوجيه حسن . ومعنى للناس عجباً : أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ، ونصبوه علماً لم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم . وقرأ رؤبة : إلى رجل بسكون الجيم وهي لغة تميمية يسكنون فعلاً نحو سبع وعضد في سبع وعضد . ولما كان الإنذار عاماً كان متعلقه وهو الناس عامًّا ، والبشارة خاصة ، فكان متعلقها خاصاً وهو الذين آمنوا . وأن أنذر : أن تفسيرية أو مصدرية مخففة من الثقيلة ، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس ، قالهما الزمخشري : ويجوز أن تكون أنْ المصدرية الثنائية الوضع ، لا المخففة من الثقيلة لأنها توصل بالماضي والمضارع والأمر ، فوصلت هنا بالأمر ، وينسبك منها معه مصدر تقديره : بإنذار

" صفحة رقم 127 "
الناس . وهذا الوجه أولى من التفسيريه ، لأنّ الكوفيين لا يثبتون لأنّ أن تكون تفسيرية . ومن المصدرية المخففة من الثقيلة لتقدير حذف اسمها وإضمار خبرها ، وهو القول فيجتمع فيها حذف الاسم والخبر ، ولأنّ التأصيل خبر من دعوى الحذف بالتحفيف . وبشر الذين آمنوا أن لهم أي : بأن لهم ، وحذفت الباء . وقدم صدق قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات . وقال الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن عباس وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ . وقال مقاتل : سابقة خير عند الله قدموها . وإلى هذا المعنى أشار وضاح اليمن في قوله : ما لك وضاح دائم الغزل
ألست تخشى تقارب الأجل
صل لذي العرش واتخذ قدما
ينجيك يوم العثار والزلل
وقال قتادة أيضاً : سلف صدق . وقال عطاء : مقام صدق . وقال يمان : إيمان صدق . وقال الحسن أيضاً : ولد صالح قدموه . وقيل : تقديم الله في البعث لهذه الأمة وفي إدخالهم الجنة ، كما قال : ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ) وقيل : تقدم شرف ، ومنه قول العجاج : ذل بني العوام من آل الحكم
وتركوا الملك لملك ذي قدم
وقال الزجاج : درجة عالية وعنه منزلة رفيعة . ومنه قول ذي الرمة : لكم قدم لا ينكر الناس أنها
مع الحسب العادي طمت على البحر
وقال الزمخشري : قدم صدق عند ربهم سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة ، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً ، كما سميت النعمة يداً ، لأنها تعطى باليد وباعاً لأن صاحبها يبوع بها فقيل لفلان : قدم في الخير ، وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة . وقال ابن عطية : والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول : رجل صدق . وعن الأوزاعي : قِدم بكسر القاف تسمية بالمدر ، قال : الكافرون . ذهب الطبري إلى أنّ في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره : فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا . قال ابن عطية : قال الكافرون : يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله : أكان للناس وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا .
وقرأ الجمهور والعربيان ونافع : لسحر إشارة إلى الوحي ، وباقي السبعة ، وابن مسعود ، وأبو رزين ، ومسروق ، وابن جبير ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وابن محيصن ، وابن كثير ، وعيسى بن عمرو بخلاف عنهما لساحر إشارة إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي مصحف أبي ما هذا إلا سحر . وقرأ الأعمش أيضاً : ما هذا إلا ساحر . قال ابن عطية : وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق كلمتهم ، وحال بين القريب وقريبه ، فأشبه ذلك ما يفعله الساحر ، وظنوه من ذلك الباب . وقال الزمخشري : وهذا دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً . ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحراً ظاهر الفساد ، لم يحتج قولهم إلى جواب ، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة وخلطتهم له وما كانت قلة علم ، ثم أتى به من الوحي المتضمن ما لم يتضمنه كتاب إلهي من قصص الأولين والأخبار بالغيوب والاشتمال على مصالح الدنيا والآخرة ، مع الفصاحة والبراعة التي أعجزتهم إلى غير ذلك من المعاني التي تشمنها يقضي بفساد مقالتهم ، وقولهم ذلك هو

" صفحة رقم 128 "
ديدن الكفرة مع أنبيائهم إذ أتوهم بالمعجزات كما قال : فرعون وقومه في موسى عليه السلام : ) إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ) قَالُواْ ( وقوم عيسى عليه السلام : ) كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد .
( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ( تقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة الأعراف وجاءتا عقب ذكر القرآن والتنبيه على المعاد . ففي الأعراف : ) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ ( وقوله : ) يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ ( وهنا تلك آيات الكتاب . وذكر الإنذار والتبشير وثمرتهما لا تظهر إلا في المعاد . ومناسبة هذه لما قبلها أنّ من كان قادراً على إيجاد هذا الخلق العلوي والسفلي العظيمين وهو ربكم الناظر ف مصالحكم ، فلا يتعجب أن يبعث إلى خلقه من يحذر من مخالفته ويبشر على طاعته ، إذ ليس خلقهم عبثاً بل على ما اقتضته حكمته وسبقت به إرادته ، هذ القادر العظيم قادر على ما دونه بطريق الأولى .
( يُدَبّرُ الاْمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ( : قال مجاهد : أي يقضيه وحده . والتدبير تنزيل الأمور في مراتبها والنظر في أدبارها وعواقبها ، والأمر قيل : الخلق كله علويه وسفليه . وقيل : يبعث بالأمر ملائكة ، فجبريل للوحي ، وميكائيل للقطر ، وعزرائيل للقبض ، وإسرافيل للصور . وهذه الجملة بيان لعظيم شأنه وملكه . ولما ذكر الإيجاد ذكر ما يكون فيه من الأمور ، وأنه لمنفرد به إيجاداً وتدبيراً لا يشركه أحد في ذلك ، وأنه لا يجترىء أحد على الشفاعة عنده إلا بإذنه ، إذ هو تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب . وفي هذه دليل على عظم عزته وكبريائه كما قال : ) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً ( الآية . ولما كان الخطاب عاماً وكان الكفار يقولون عن أصنامهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ردّ ذلك تعالى عليهم ، وناسب ذكر الشفاعة التي تكون في القيامة بعد ذكر المبدأ ليجمع بين الطرفين : الابتداء والانتهاء . وقال أبو مسلم الأصبهاني : الشفيع هنا من الشفع الذي يخالف الوتر ، فمعنى الآية : أنه أوجد العالم وحده لا شريك يعينه ، ولم يحدث شيء في الوجود إلا من بعد أن قال له : كن . وقال أبو البقاء : يدبر الأمر ، يجوز أن يكون مستأنفاً وخبراً ثانياً وحالاً .
( ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ( : أي المتصف بالإيجاد والتدبير والكبرياء هو ربكم الناظر في مصالحكم ، فهو المستحق للعبادة ، إذ لا يصلح لأن يعبد إلا هو تعالى ، فلا تشركوا به بعض خلقه .
( أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ( : حض على التدبير والتفكر في الدلائل الدالة على ربوبيته وإمحاض العبادة له .
( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( : ذكر ما يقتضي التذكير وهو كون مرجع الجميع إليه ، وأكد هذا الإخبار بأنه وعد الله الذي لا شك في صدقه ثم استأنف الإخبار وفيه معنى التعليل بابتداء الخلق وإعادته وأن مقتضى الحكمة بذلك هو جزاء المكلفين على أعمالهم . وانتصب وعد الله وحقاً على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة والتقدير : وعد الله وعداً ، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل وذلك كقوله : ) صِبْغَةَ اللَّهِ ( ) عَبْدُ اللَّهِ ( والتقدير : في حقاً حق ذلك حقاً . وقيل : انتصب حقاً بوعد على تقدير في أي وعد الله في حق . وقال علي بن سليمان التقدير : وقت حق وأنشد : أحقاً عباد الله أن لست خارجا
ولا والجاً إلا عليّ رقيب

" صفحة رقم 129 "
وقرأ عبد الله ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وسهل بن شعيب : أنه يبدأ بفتح الهمزة . قال الزمخشري : هو منصوب بالفعل ، أي : وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته ، والمعنى : إعادة الخلق بعد بدنة . وعد الله على لفظ الفعل ، ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقاً أي : حق حقاً بدء الخلق كقوله : أحقاً عباد الله أن لست جائيا
ولا ذاهباً إلا عليّ رقيت
انتهى . وقال ابن عطية : وموضعها النصب على تقدير أحق أنه . وقال الفراء : موضعها رفع على تقدير لحق أنه . قال ابن عطية : ويجوز عندي أن يكون أنه بدلاً من قوله : وعد الله . قال أبو الفتح : إن شئت قدرت لأنه يبدأ ، فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد ، وإن شئت قدرت وعد الله حقاً أنه يبدأ ولا يعمل فيه المصدر الذي هو وعد الله ، لأنه قد وصف ذلك بتمامه وقطع عمله . وقرأ ابن أبي عبلة : حق بالرفع ، فهذا ابتداء وخبره أنه انتهى . وكون حق خبر مبتدأ ، وأنه هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب كما تقول : صحيح إنك تخرج ، لأنّ اسم أنّ معرفة ، والذي تقدمها في نحو هذا المثال نكرة . والظاهر أنّ بدء الخلق هو النشأة الأولى ، وإعادته هو البعث من القبور ، وليجزي متعلق بيعيده أي : ليقع الجزاء على الأعمال . وقيل : البدء من التراب ، ثم يعيده إلى التراب ، ثم يعيده إلى البعث . وقيل : البدء نشأته من الماء ، ثم يعيده من حال إلى حال . وقيل : يبدؤه من العدم ، ثم يعيده إليه ، ثم يوجده . وقيل : يبدؤه في زمرة الأشقياء ، ثم يعيده عند الموت إلى زمرة الأولياء ، وبعكس ذلك . وقرأ طلحة : يبدىء من أبدأ رباعياً ، وبدأ وأبدأ بمعنى ، وبالقسط معناه بالعدل ، وهو متعلق بقوله : ليجزي أي : ليثيب المؤمنين بالعدل والإنصاف في جزائهم ، فيوصل كلاًّ إلى جزائه وثوابه على حسب تفاضلهم في الأعمال ، فينصف بينهم ويعدل ، إذ ليسوا كلهم مساوين في مقادير الثواب ، وعلى هذا يكون بالقسط منه تعالى . قال الزمخشري : أو يقسطهم بما أقسطوا أو عدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا الصالحات ، لأنّ الشرك ظلم قال الله تعالى : ) إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( والعصاة ظلام لأنفسهم ، وهذا أوجه لمقابلة قوله : بما كانوا يكفرون انتهى ، فجعل القسط من فعل الذين آمنوا وهو على طريقة الاعتزال ، والظاهر أنّ والذين كفروا مبتدأ ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله : الذين آمنوا ، فيكون الجزاء بالعدل قد شمل الفريقين . ولما كان الحديث مع الكفارة مفتتح السورة معهم ، ذكر شيئاً من أنواع عذابهم فقال : ) لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ( وتقدم شرح هذا في سورة الأنعام .
( هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ ( : لما ذكرتعالى الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي ، ذكر ما أودع في العالم العلوي من هذين الجوهرين النيرين المشرقين ، فجعل الشمس ضياءً أي : ذات ضياء أو مضيئة ، أو نفس الضياء مبالغة وجعل يحتمل أن تكون بمعنى صير ، فيكون ضياء مفعولاً ثانياً . ويحتمل أن تكون بمعنى خلق فيكون حالاً ، والقمر نوراً أي : ذا نور ، أو منور أو نفس النور مبالغة ، أو هما مصدران . وقيل : يجوز أن يكون ضياء جمع كحوض وحياض ، وهذا فيه بعد . ولما كانت الشمس أعظم جرماً خصت بالضياء لأنه هو الذي له سطوع ولمعان ، وهو أعظم من النور . قال أرباب علم الهيئة : الشمس قدر الأرض مائة مرة وأربعاً وستين مرة ، والقمر ليس

" صفحة رقم 130 "
كذلك ، فخص الأعظم بالأعظم . وقد تقدم الفرق بين الضياء والنور في قوله : ) فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ( وقوله تعالى : ) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( يقتضي أنّ النور أعظم وأبلغ في الشروق ، وإلا فلم عدل إلى الأقل الذي هو النور . فقال ابن عطية : لفظة النور أحكم أبلغ ، وذلك أنه شبه هداه ولطفه الذي يصيبه لقوم يهتدون ، وآخرين يضلون معه بالنور الذي هو أبداً موجود في الليل وأثناء الظلام . ولو شبهه بالضياء لوجب أنْ لا يضل أحداً ، إذ كان الهدى يكون كالشمس التي لا تبقى معها ظلمة . فمعنى الآية ؛ أنه تعالى جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام ، فيهتدي قوم ويضل قوم آخرون . ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد ، وبقي الضياء على هذا أبلغ في الشروق كما اقضت هذه الآية .
وقرأ قنبل : ضياء هنا ، وفي الأنبياء والقصص بهمزة قبل الألف بدل الياء . ووجهت على أنه من المقلوب جعلت لأمه عيناً ، فكانت همزة . وتطرفت الواو التي كانت عيناً بعد ألف زائدة فانقلبت همزة ، وضعف ذلك بأنّ القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما ، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما ولم يكونا في الأصل ، والظاهر عود الضمير على القمير أي : مسيره منازل ، أو قدره ذا منازل ، أو قدر له منازل ، فحذف وأوصل الفعل ، فانتصب بحسب هذه التقادير على الظرف أو الحال أو المفعول كقوله : ) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ( وعاد الضمير عليه وحده لأنه هو المراعى في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما مصرفان في معرفة عدد السنين والحساب ، لكنه اجتزىء بذكر أحدهما كما قال : ) وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ( وكما قال الشاعر : رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريئاً ومن أجل الطوى رماني
والمنازل هي البروج ، وكانت العرب تنسب إليها الأنواء ، وهي ثمانية وعشرون منزلة : الشرطين ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والدبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزبانان ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلغ ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، والفرع المؤخر ، والرشاء وهو الحوت . واللام متعلقة بقوله : وقدره منازل . قال الأصمعي : سئل أبو عمرو عن الحساب ، أفبنصبه أو بجره ؟ فقال : ومن يدري ما عدد الحساب ؟ انتهى . يريد أنّ الجر إنما يكون مقتضياً أنّ الحساب يكون يعلم عدده ، والحساب لا يمكن أن يعلم منتهى عدده والحساب حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي مما ينتفع به في المعاش والإجارات وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ . وقيل : اكتفى بذكر عدد السنين من عدد الشهور ، وكنى بالحساب عن المعاملات ، والإشارة بذلك إلى مخلوقه . وذلك يشار بها إلى الواحد ، وقد يشار بها إلى الجمع . ومعنى بالحق متلبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة ، ولم يخلقه عبثاً كما جاء ) رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( ) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( وقال ابن جرير : الحق هنا هو الله تعالى ، والمعنى : ما خلق الله ذلك إلا بالله وحده لا شريك معه انتهى . وما قاله تركيب قلق ، إذ يصير ما ضرب زيد عمراً إلا بزيد . وقيل : الباء بمعنى اللام ، أي للحق ، وهو إظهار صنعته وبيان قدرته ودلالة على وحدانيته . وقرأ ابن مصرف : والحساب بفتح الحاء ، ورواه أبو توبة عن العرب . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو وحفص : يفصل بالياء جرياً على لفظة الله ، وباقي السبعة بالنون على سبيل الالتفات والإخبار بنون العظمة ، وخص من يعلم بتفصيل الآيات لهم ،

" صفحة رقم 131 "
لأنهم الذين ينتفعون بتفصيل الآيات ، ويتدبرون بها في الاستدلال والنظر الصحيح . والآيات العلامات الدالة أو آيات القرآن .
( إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ( والاختلاف تعاقب الليل والنهار ، وكون أحدهما يخلف الآخر . وما خلق الله في السموات من الأجرام النيرة التي فيها ، والملائكة المقيمين بها وغير ذلك مما يعلمه الله تعالى . والأرض من الجوامد والمعادن والنبات والحيوان ، وخص المتقين لأنهم الذين يخافون العواقب فيحملهم الخوف على تدبرهم ونظرهم .
( إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَيواةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءايَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( : الظاهر أن الرجاء هو التأيل والطمع أي : لا يؤملون لقاء ثوابنا وعقابنا . وقيل : معناه لا يخافون . قال ابن زيد : وهذه الآية في الكفار ، والمعنى أنّ المكذب بالبعث ليس يرجو رحمة في الآخرة ، ولا يحسن ظناً بأنه يلقى الله . وفي الكلام محذوف أي : ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة كقوله : ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ ( والمعنى أنّ منتهى غرضهم وقصارى آمالهم إنما هو مقصور على ما يصلون إليه في الدنيا . واطمأنوا أي سكنوا إليها ، وقتعوا بها ، ورفضوا ما سواها . والظاهر أنّ قوله : والذين هم ، هو قسم من الكفار غير القسم الأول ، وذلك التكرير الموصول ، فيدل على المغايرة ، ويكون معطوفاً على اسم إنّ ويكون أولئك إشارة إلى صنفي الكفار ذي الدنيا المتوسع فيها الناظر في الآيات ، فلم يؤثر عنده رجاء لقاء الله ، بل رضي بالحياة الدنيا لتكذيبه بالبعث والجزاء ، والعادم التوسع الغافل عن آيات الله الدالة على الهداية . ويحتمل أن يكون من عطف الصفات ، فيكون الذين هم عن آياتنا غافلون ، هم الذين لا يرجون لقاء الله . والظاهر أنّ واطمأنوا بها عطف على الصلة ، ويحتمل أن يكون واو الحال أي : وقد اطمأنوا بها . والآيات قيل : آيات القرآن . وقيل : العلامات الدالة على الوحدانية والقدرة . وقال ابن زيد : ما أنزلناه من حلال وحرام وفرض من حدود وشرائع أحكام ، وبما كانوا يكسبون إشعاراً بأنّ الأعمال السابقة يكون عنها العذاب ، وفي ذلك ردّ على الجبرية ، ونص على تعلق العقاب بالكسب . ومجيئه بالمضارع دليل على أنهم لم يزالوا مستمرين على ذلك ماضي زمانهم ومستقبله .
( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( : أي يزيد في هواهم بسبب إيمانهم السابق وتثبتهم ، فأما الذين آمنوا فزادتهم أو يهديهم إلى طريق الجنة بنور إيمانهم كما قال : ) يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ( قال مجاهد : يكون لهم إيمانهم نوراً يمشون به . وفي الحديث : ( إذا قام من قبره يمثل له رجل جميل الوجه طيب الرائحة فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقوده إلى الجنة ) وبعكس هذا في الكافر . وقال ابن الأنباري : إيمانهم يهديهم إلى خصائص المعرفة ، ومزايا في الألطاف تسر بها قلوبهم وتزول بها الشكوك والشبهات عنهم كقوله : ) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( وهذه الزوائد والفوائد يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت ، ويجوز حصولها بعد الموت . قال القفال : وإذا حملنا الآية على هذا كان المعنى يديهم ربهم بإيمانهم ، وتجري من تحتهم الأنهار ، إلا أنه حذف الواو . وقيل : معناه تقدّمهم إلى الثواب من قول العرب : القدم تهدي الساق . وقال الحسن : يرحمهم . وقال الكلبي : يدعوهم . والظاهر أنّ تجري مستأنفاً فيكون قد أخبر عنهم بخبرين عظيمين : أحدهما هداية الله لهم وذلك في الدنيا والآخر بجريان الأنهار ، وذلك في الآخرة . كما تضمنت الآية في الكفار شيئين : أحدهما : اتصافهم بانتفاء رجاء لقاء الله وما عطف عليه ، والثاني : مقرهم ومأواهم وذلك النار ، فصار تقسيماً للفريقين في المعنى . وتقدّم قول القفال : أن يكون تجري معطوفاً حذف منه الحرف ، وأن يكون حالاً ومعنى من تحتهم أي : من تحت منازلهم . وقيل : من بين أيديهم ، وليس التحت الذي هو بالمسافة ، بل يكون إلى ناحية من الإنسان . ومنه : ) قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً (

" صفحة رقم 132 "
وقال : وهذه الأنهار تجري من تحتي .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : دلت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة هو الإيمان المقيد ، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح ، والإيمان الذي لم يقترن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور . ( قلت ) : الأمر كذلك ، ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعاً فيها بين الإيمان والعمل كأنه قال : إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ثم قال : بإيمانهم ، أي بإيمانهم المضموم إليه هذا العمل الصالح ، وهو بين واضح لا شبهة فيه انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . وجوزوا في جنات النعيم أن يتعلق بتجري ، وأن يكون حالاً من الأنهار ، وأن يكون خبراً بعد خبر ، لأنّ ومعنى دعواهم : دعاؤهم ونداؤهم ، لأنّ اللهم نداء الله ، والمعنى : اللهم إنا نسبحك كقول القانت في دعاء القنوت : اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد . وقيل : عبادتهم كقوله : ) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( ولا تكليف في الجنة ، فيكون ذلك على سبيل الابتهاج والالتذاذ ، وأطلق عليه العبادة مجازاً . وقال أبو مسلم : فعلهم وإقرارهم . وقال القاضي : طريقهم في تقديس الله وتحميده . وتحيتهم أي ما يحيي به بعضهم بعضاً ، فيكون مصدراً مضافاً للمجموع لا على سبيل العمل ، بل يكون كقوله : ) وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ( وقيل : يكون مضافاً إلى المفعول ، والفاعل الله تعالى أو الملائكة أي : تحية الله إياهم ، أو تحية الملائكة إياهم . وآخر دعواهم أي : خاتمة دعائهم وذكرهم . قال الزجاج : أعلم تعالى أنهم يبتدئون بتنزيهه وتعظيمه ، ويختمونن بشكره والثناء عليه . وقال ابن كيسان : يفتتحون بالتوحيد ، ويختمون بالتحميد . وعن الحسن البصري : يعزوه إلى الرسول أنّ أهل الجنة يلهمون التحميد والتسبيح . وأن المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن لازم الحذف ، والجملة بعدها خبر إنْ ، وأن وصلتها خبر قوله : وآخر . وقرأ عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن يعمر ، وبلال بن أبي بردة ، وأبو مجلز ، وأبو حيوة ، وابن محيصن ، ويعقوب : أن الحمد بالتشديد ونصب الحمد . قال ابن جني : ودلت على أنّ قراءة الجمهور بالتخفيف ، ورفع الحمد هي على أنْ هي المخففة كقول الأعشى : في فتية كسيوف الهند قد علموا
أن هالك كل من يحفى وينتعل يريد أنه هالك إذا خففت لم تعمل في غير ضمير أمر محذوف . وأجاز المبرد إعمالها كحالها مشددة ، وزعم صاحب النظم أنّ أنْ هنا زائدة ، والحمد لله خبر ، وآخر دعواهم . وهو مخالف لنص سيبويه والنحويين ، وليس هذا من محال زيادتها .
( وَلَوْ يُعَجّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( : قال مجاهد : نزلت في دعاء الرجل على نفسه وماله أو ولده ونحو هذا . فأخبر تعالى لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله منهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم ، ثم حذف بعد ذلك من القول جملة يتضمنها الظاهر تقديره : فلا يفعل ذلك ، ولكن نذر الذين لا يرجون فاقتضب القول ، ووصل إلى هذا المعنى بقوله : فنذر

" صفحة رقم 133 "
الذين لا يرجون ، فتأمل هذا التقدير تجده صحيحاً قاله ابن عطية . وقيل : نزلت في قولهم : إئتنا بما تعدنا ، وما جرى مجراه . وقال الزمخشري : والمراد أهل مكة . وقولهم : ) فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً ( يعني : ولو عجلنا لهم الشر الذي عوا به كما نعجل لهم الخير لأميتوا وأهلكوا . قال : ( فإن قلت ) : كيف اتصل به فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ، وما معناه ؟ ( قلت ) : قوله : ولو يعجل الله متضمن معنى نفي التعجيل كأنه قال : ولا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم ، فنذرهم في طغيانهم ، أو فنمهلهم ، ونقيض عليهم النعمة مع طغيانهم إلزاماً للحجة عليهم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر عجب الناس من إيحاء الله إلى رجل منهم ، وكان فيما أوحي إليه الإنذار والتبشير ، وكانوا يستهزؤون بذلك ولا يعتقدون حلول ما أنذروه بهم فقالوا : ( فأمطر علينا حجارة ) وقال إخباراً عنهم : ) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ( وقالوا : ) فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( ثم استطرد من ذلك إلى وحدانيته تعالى ، وذكر إيجاده العالم ، ثم إلى تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر ، وذكر منازل الفريقين ثم رجع إلى أن ذلك المنذر به الذي طلبوا وقوعه عجلاً لو وقع لهلكوا ، فلم يكن في إهلاكهم رجاء إيمان بعضهم ، وإخراج مؤمن من صلهم بل اقتضت حكمته أنْ لا يعجل لهم ما طلبوه ، لما ترتب على ذلك . وانتصب استعجالهم على أنه مصدر مشبه به . فقال الزمخشري : أصله ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير ، فوضع استعجاله لهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم ، كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم . وقال الحوفي وابن عطية : التقدير مثل استعجالهم ، وكذا قدره أبو البقاء . ومدلول عجل غير مدلول استعجل ، لأنّ عجل يدل على الوقوع ، واستعجل يدل على طلب التعجيل ، وذاك واقع من الله ، وهذا مضاف إليهم فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري ، فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون التقدير تعجيلاً مثل استعجالهم بالخير ، فشبه التعجيل بالاستعجال ، لأنّ طلبهم للخير ووقوع تعجيله مقدم عندهم على كل شيء . والثاني : أن يكون ثم محذوف يدل عليه المصدر تقديره : ولو يعجل الله للناس الشر إذا استعجلوا به استعجالهم بالخير ، لأنّهم كانوا يستعجلون بالشر ووقوعه على سبيل التهكم ، كما كانوا يستعجلون بالخير . وقرأ ابن عامر : لقضى مبنياً للفاعل أجلهم بالنصب ، والأعمش لقضينا ، وباقي السبعة مبنياً للمفعول ، وأجلهم بالرفع . وقضى أكمل ، والفاء في فنذر جواب ما أخبر به عنهم على طريق الاستئناف تقديره : فنحن نذر قاله الحوفي . وقال أبو البقاء : فنذر معطوف على فعل محذوف تقديره : ولكن نمهلهم فنذر .
( وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ( : ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما استدعوا حلول الشر بهم ، وأنه تعالى لا يفعل ذلك بطلبهم بل يترك من يرجو لقاءه يعم في طغيانه ، بيِّن شدة افتقار الناس إليه واضطرارهم إلى استمطار إحسانه مسيئهم ومحسنهم ، وأنّ من لا يرجو لقاءه مضطر إليه حاله مس الضر له ، فكل يلجأ إليه حينئذ ويفرده بأنه القادر على كشف الضر . والظاهر أنه لا يراد بالإنسان هنا شخص معين كما قيل : إنه أبو حذيفة هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي قاله : ابن عباس ومقاتل . وقيل : عقبة بن ربيعة . وقيل : الوليد بن المغيرة . وقيل : هما قاله عطاء . وقيل : النضر بن الحرث ، وأنه لا يراد به الكافر ، بل ، المراد الإنسان من حيث هو ، سواء كان كافراً أم عاصياً بغير الكفر . واحتملت هذه الأقوال الثلاثة أن تكون لشخص واحد ، واحتملت أن تكون لأشخاص ، إذ الإنسان جنس . والمعنى : أنّ الذي أصابه الضر لا يزال داعياً ملتجئاً راغباً إلى الله في جميع حالاته كلها . وابتدأ بالحالة الشاقة وهي اضطجاعه وعجزه عن النهوض ، وهي أعظم في الدعاء وآكد ثم بما يليها ، وهي حالة القعود ، وهي حالة العجز عن القيام ، ثم بما يليها

" صفحة رقم 134 "
وهي حالة القيام وهي حالة العجز عن المشي ، فتراه يضطرب ولا ينهض للمشي كحالة الشيخ الهرم . ولجنبه حال أي : مضطجعاً ، ولذلك عطف عليه الحالان ، واللام على بابها عند البصريين والتقدير : ملقياً لجنبه ، لا بمعنى على خلافاً لزاعمه . وذو الحال الضمير في دعانا ، والعامل فيه دعانا أي : دعانا ملتبساً بأحد هذه الأحوال . وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان ، والعامل فيه مس . ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل في دعانا ، والعامل فيه دعا وهما معنيان متباينان . والضر : لفظ عام لجميع الأمراض . والرزايا في النفس والمال والأحبة ، هذا قول اللغويين . وقيل : هو مختص برزايا البدن الهزال والمرض انتهى . والقول الأول قول الزجاج . وضعف أبو البقاء أن يكون لجنبه فما بعده أحوالاً من الإنسان والعامل فيها مس ، قال : لأمرين : أحدهما : أنّ الحال على هذا واقع بعد جواب إذا وليس بالوجه . والثاني : أنّ المعنى كثرة دعائه في كل أحواله ، لا على الضر يصيبه في كل أحواله ، وعليه آيات كثيرة في القرآن انتهى . وهذه الثاني يلزم فيه من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه في هذه الأحوال ، لأنه جواب ما ذكرت فيه هذه الأحوال ، فالقيد في حيز الشرط قيد في الجواب كما تقول : إذا جاءنا زيد فقيراً أحسنا إليه ، فالمعنى : أحسنا إليه في حال فقره ، فالقيد في الشرط قيد في الجزاء . ومعنى كشف الضر : رفعه وإزالته ، كأنه كان غطاء على الإنسان ساتراً له . وقال صاحب النظم : وإذا مس الإنسان وصفه للمستقبل ، وفلما كشف للماضي فهذا النظم يدل على أن معنى الآية : أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل ، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل ، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي انتهى . والمرور هنا مجاز عن المضي على طريقته الأول من غير ذكر لما كان عليه من البلاء والضر . وقال مقاتل : أعرض عن الدعاء . وقيل : مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه ، كأنه لا عهد له به ، وهذا قريب من القول الذي قبله . والجملة من قوله : كان لم يدعنا إلى ضر مسه في موضع الحال ، أي إلى كشف ضر مسه . قال ابن عطية : وقوله مر ، يقتضي أنّ نزولها في الكفار ، ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر وعاص يعني الآية مر في إشراكه بالله وقلة توكله عليه انتهى . والكاف من كذلك في موضع نصب أي : مثل ذلك . وذلك إشارة إلى تزيين الإعراض عن الابتهال إلى الله تعالى عند كشف الضر وعدم شكره وذكره على ذلك ، وزين مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون الفاعل الله إمّا على سبيل الخلق ذلك واختراعه في قلوبهم كما يقول أهل السنة ، وإما بتخليته وخذلانه كما تقول المعتزلة ، أو الشيطان بوسوسته ومخادعته . قيل : أو النفس . وفسر المسرفون بالكافرين والكافر مسرف لتضييعه السعادة الأبدية بالشهوة الخسيسة المنقضية ، كما يضيع المنفق ماله متجاوزاً فيه الحدَّ ما كانوا يعملون من الإعراض عن جناب الله وعن اتباع الشهوات .
( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الاْرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( : هذا إخبار لمعاصري الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وخطاب لهم بإهلاك من سلف قبلهم من الأمم بسبب ظلمهم وهو الكفر ، على سبيل الردع لهم والتذكير بحال من سبق من الكفار ، والوعيد لهم ، وضرب الأمثال ، فكما فعل بهؤلاء ، يفعل بكم . ولفظة لما مشعرة بالعلية ، وهي حرف تعليق في الماضي . ومن ذهب إلى أنها ظرف معمول لأهلكنا كالزمخشري متبعاً لغيره ، فإنما يدل إذْ ذاك على وقوع الفعل في حين الظلم ، فلا يكون لها إشعار إذ ذاك بالعلية . لو قلت : جئت حين قام زيد ، لم يكن مجيئك متسبباً عن قيام زيد ، وأنت ترى حيثما جاءت لما كان جوابها أو ما قام مقامه متسبباً عما بعدها ، فدل ذلك على صحة مذهب سيبويه من أنها حرف وجوب لوجوب . وجاءتهم ظاهرة أنه

" صفحة رقم 135 "
معطوف على ظلموا أي : لما حصل هذان الأمران : مجيء الرسل بالبينات ، وظلمهم أهلكوا .
وقال الزمخشري : والواو في وجاءتهم للحال أي : ظلموا بالتكذيب ، وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات انتهى . وقال مقاتل : البينات مخوفات العذاب ، والظاهر أنّ الضمير في قوله وما كانوا عائداً على القرون ، وأنه معطوف على قوله : ظلموا . وجوّز الزمخشري أن يكون اعتراضاً لا معطوفاً قال : واللام لتأكيد النفي بمعنى : وما كانوا يؤمنون حقاً تأكيداً لنفي إيمانهم ، وأن الله تعالى قد علم أنهم مصرون على كفرهم ، وأنّ الإيمان مستبعد منهم والمعنى : أنّ السبب في إهلاكهم تعذيبهم الرسل ، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل انتهى . وقال مقاتل : الضمير في قوله : وما كانوا ليؤمنوا ، عائد على أهل مكة ، فعلى قوله يكون التفاتاً ، لأنه خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ، ويكون متسقاً مع قوله : وإذا تتلى عليهم . والكاف في كذلك في موضع نصب أي : مثل ذلك الجزاء ، وهو الإهلاك . نجزي القوم المجرمين فهذا وعيد شديد لمن أجرم ، يدخل فيه أهل مكة وغيرهم . وقرأت فرقة : يجزى بالياء ، أي يجزى الله ، وهو التفات . والخطاب في جعلناكم لمن بعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : خطاب لمشركي مكة ، والمعنى : استخلفناكم في الأرض بعد القرون المهلكة للنظر أتعملون خيراً أم شراً فنعاملكم على حسب عملكم . ومعنى لننظر : لنتبين في الوجود ما عملناه أولاً ، فالنظر مجاز عن هذا .
قال الزمخشري : فإنْ قلت : كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة ؟ ( قلت ) : هو مستعار للعلم المحقق الذي هو علم بالشيء موجود ، أشبه بنظر الناظر وعيان المعاين في حقيقته انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال ، وأنه يلزم من النظر المقابلة ، وفيه إنكار وصفه تعالى بالبصير ورده إلى معنى العلم . وقيل : لننظر ، هو على حذف مضاف أي : لينظر رسلنا وأولياؤنا . وأسند النظر إلى الله مجازاً ، وهو لغيره . وقرأ يحيى بن الحرث الزماري : لنظر ، بنون واحدة وتشديد الظاء وقال : هكذا رأيته في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ويعني : أنه رآها بنون واحدة ، لأن النقط والشكل بالحركات والتشديدات إنما حدث بعد عثمان ، ولا يدل كتبه بنون واحدة على حذف النون من اللفظ ، ولا على إدغامها في الظاء ، لأن أدغام النون في الظاء لا يجوز ، ومسوغ حذفها أنه لا أثر لها في الأنف ، فينبغي أن تحمل قراءة يحيى على أنه بالغ في إخفاء الغنة ، فتوهم السامع أنه إدغام ، فنسب ذلك إليه . وكيف معموله لتعملون ، والجملة في موضع نصب لننظر ، لأنها معلقة . وجاز التعليق في نظر وإن لم يكن من أفعال القلوب ، لأنها وصلة فعل القلب الذي هو العلم .
( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْءانٍ غَيْرِ هَاذَا أَوْ بَدّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ ( : قال ابن عباس والكلبي : نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قالوا : يا محمد ائت بقرآن غير هذا فيه ، ما نسألك . وقال مجاهد وقتادة : نزلت في جماعة من مشركي مكة . وقال مقاتل : في خمسة نفر : عبد الله بن أمية المخزومي ، والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن

" صفحة رقم 136 "
أبي قيس العامري ، والعاص بن وائل . وقيل : الخمسة الوليد ، والعاصي ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحرث بن حنظلة ، وروي هذا عن ابن عباس .
قال الزمخشري : غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين فقالوا : ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك . وقال ابن عطية : نزلت في قريش لأن بعض كفار قريش قال هذه المقالة على معنى : ساهلنا يا محمد ، واجعل هذا الكلام الذي من قبلك هو باختيارنا ، وأحل ما حرمته ، وحرم ما أحللته ، ليكون أمرنا حينئذ واحداً وكلمتنا متصلة انتهى . ونبه تعالى على الوصف الحامل لهم على هذه المقالة ، وهو كونهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء على ما اقترفوه ، والمعنى : وإذا تسرد عليهم آيات القرآن واضحات نيرات لا لبس فيها قالوا كيت وكيت ، وأضيفت الآيات إليه تعالى لأنها كلامه جل وعز ، والتبديل يكون في الذات بأن يجعل بدل ذات ذات أخرى ، ويكون في الصفة . والتبديل هنا هو في الصفة ، وهو أن يزال بعض نظمه بأن يجعل مكان آية العذاب آية الرحمة ، ولا يراد بالتبديل هنا أن يكون في الذات ، لأنه يلزم جعل الشيء المقتضي للتغابر هو الشيء بعينه ، لأن التبديل في الذات هو الإتيان بقرآن غير هذا . ولما كان الآيتان بقرآن غير هذا غير مقدور للإنسان لم يحتج إلى نفيه ونفي ما هو مقدور للإنسان ، وإن كان مستحيلاً ذلك في حقه ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقيل له : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي . وانتفاء الكون هنا هو كقوله تعالى : ) مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ( أي يستحيل ذلك . ويحتمل أن يكون التبديل في الذات عل أن يلحظ في قوله : ائت بقرآن غير هذا ، بقاء هذا القرآن ويؤتى بقرآن غيره ، فيكون أو بدله بمعنى أزله بالكلية وائت ببدله ، فيكون المطلوب أحد أمرين : إما إزالته بالكلية وهو التبديل في الذات ، أو الإتيان بغيره مع بقائه فيحصل التغاير بين المطلوبين . وتلقاء مصدر التبيان ، ولم يجيء مصدر على تفعال غيرهما ، ويستعمل ظرفاً للمقابلة تقول : زيد تلقاءك . وقرىء بفتح التاء ، وهو قياس المصادر التي للمبالغة كالتطواف والتجوال والترداد والمعنى : من قبل نفسي أن أتبع فيما آمركم به وما أنهاكم عنه من غير زيادة ولا نقصان ، ولا تبديل إلا ما يجيئني خبره من السماء . واستدل بقوله : إنْ أتبع إلا ما يوحى إليّ على نفي الحكم بالاجتهاد ، وعلى نفي القياس ، وإنما قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، لأنهم كانوا لا يعترفون بأنّ القرآن معجز ، أو إن كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله . ألا ترى إلى قولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا وقولهم : ) افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ( ولا يمكن أن يريدوا إئت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي لقوله : إني أخاف .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأنكرهم في هذا الاقتراح ؟ ( قلت ) : المكر والكيد . أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه إنه من عندك ، وإنك لقادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر . وأما اقتراح التبديل والتغيير فللظمع ولاختبار الحال ، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فننجو منه ، أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله تعالى انتهى . وإن عصيت بالتبديل من تلقاء نفسي ، وتقدم اتباع الوحي ، وتركي العمل به ، وهو شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبله . واليوم العظيم : هو يوم القيامة ، ووصف بالعظم لطوله ، أو لكثرة شدائده ، أو للمجموع . وانظر إلى حسن هذا الجواب

" صفحة رقم 137 "
لما كان أحد المطلوبين التبديل بدأ به في الجواب ، ثم أتبع بأمر عام يشمل انتفاء التبديل وغيره ، ثم أتى بالسبب الحامل على ذلك وهو الخوف ، وعلقه بمطلق العصيان ، فبأدنى عصيان ترتب الخوف .
( قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( : هذه مبالغة في التبرئة مما طلبوا منه أي : إنّ تلاوته عليهم هذا القرآن إنما هو بمشيئة الله تعالى وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره ، ولا نشأ في بلدة فيها علماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يبهر كلام كل فصيح ، ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع ، وإخبار ما كان وما يكون ، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى ، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ولا يخفي عليكم شيء من أسراره ، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك ، ولا عرّفه به أحد من أقرب الناس إليه وألصقتم به . ومفعول شاء محذوف أي : قل لو شاء الله أن لا أتلوه ، وجاء جواب ) لَوْ ( على الفصيح من عدم إتيان اللام ، لكونه منفياً بما ، ويقال : دريت به ، وأدريت زيداً به ، والمعنى : ولا أعلمكم به على لساني . وقرأ قنبل والبزي من طريق النقاش عن أبي ربيعة عنه : ولأدراكم بلام دخلت على فعل مثبت معطوف على منفي ، والمعنى : ولأعلمكم به من غير طريقي وعل لسان غيري ، ولكنه يمن على من يشاء من عباده ، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلاً دون الناس .
وقراءة الجمهور : ولا أدراكم به فلا مؤكدة ، وموضحة أنّ الفعل منفي لكونه معطوفاً على منفي ، وليست لا هي التي نفي الفعل بها ، لأنه لا يصح نفي الفعل بلا إذا وقع جواباً ، والمعطوف على الجواب جواب . وأنت لا تقول : لو كان كذا لا كان كذا ، إنما يكون ما كان كذا . وقرأ ابن عباس ، وابن سيرين ، والحسن ، وأبو رجاء : ولا ادرأتكم به بهمزة ساكنة ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما : أن الأصل أدريتكم بالياء فقلبها همزة عل لغة من قال : لبأت بالحج ، ورثأت زوجي بأبيات ، يريد : لبيت ورثيت . وجاز هذا البدل لأنّ الألف والهمزة من واد واحد ، ولذلك إذا حركت الألف انقلبت همزة كما قالوا في العالم العألم ، وفي المشتاق المشتأق . والوجه الثاني : أن الهمزة أصل وهو من الدرء ، وهو الدفع يقال : درأته دفعته ، كما قال : ) وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ ( ودرأته جعلته دارئاً ، والمعنى : ولأجعلنكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني . وزعم أبو الفتح إنما هي أدريتكم ، فقلب الياء ألفاً لا نفتاح ما قبلها ، وهي لغة لعقيل حكاها قطرب يقولون في أعطيتك : أعطأتك . وقال أبو حاتم : قلب الحسن الياء ألفاً كما في لغة بني الحرث بن كعب السلام علاك ، قيل : ثم همز على لغة من قال في العالم العألم . وقرأ شهر بن حوشب والأعمش ، ولا أندرتكم به بالنون والذال من الإنذار ، وكذا هي في حرف ابن مسعود ، ونبّه على أنّ ذلك وحي من الله تعالى بإقامته فيهم عمراً وهو أربعون سنة من قبل ظهور القرآن على لساني يافعاً وكهلاً ، لم تجربوني في كذب ، ولا تعاطيت شيئاً من هذا ، ولا عانيت اشتغالاً ، فكيف أتهم باختلاقه ؟ أفلا تعقلون أنّ من كان بهذه الطريقة من مكثه الأزمان الطويلة من غير تعلم ، ولا تلمذ ، ولا مطالعة كتاب ، ولا مراس جدال ، ثم أتى بما ليس يمكن أن يأتي به أحد ، ولا يكون إلا محقاً فيما أتى به مبلغاً عن ربه ما أوحى إليه وما اختصه به ؟ كما جاء في حديث هرقل : هل جربتم عليه كذباً ؟ قال : لا فقال : لم يكن ليدع الكذب على الخلق ويكذب على الله . وأدغم ثاء لبثت أبو عمرو ، وأظهرها باقي السبعة . وقرأ الأعمش : عمراً بإسكان الميم ، والظاهر وعود الضمير في من قبله على القرآن . وأجاز الكرماني أنْ يعود على التلاوة ، وعلى النزول ، وعلى الوقت يعني : وقت نزوله .
( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ( : تقدم تفسير مثل هذا الكلام ، ومساقه هنا باعتبارين : أحدهما : أنه لما قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، كان في ضمنه أنهم ينسبونه إلى أنه ليس من عند الله وإنما هو اختلاق ، فبولغ في ظلم من افترى على الله كذباً كما قال : فمن

" صفحة رقم 138 "
أظلم ممن افترى على الله كذباً ، أو قال : أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ، ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله وقد قام الدليل القاطع على أنّ هذا القرآن هو من عند الله ، وقد كذبتم بآياته ، فلا أحد أظلم منكم . والاعتبار الثاني : أنّ ذلك توطئة لما يأتي بعده من عبادة الأوثان أي : لا أحد أظلم منكم في افترائكم على الله أنّ له شريكاً ، وأن له ولداً ، وفيما نسبتم إليه من التحليل والتحريم .
( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ ( : الضمير في ويعبدون عائد على كفار قريش الذين تقدمت محاورتهم . وما لا يضرهم ولا ينفعهم هو الأصنام ، جماد لا تقدر على نفع ولا ضر . قيل : إنْ عبدوها لم تنفعهم ، وإن تركوا عبادتها لم تضرهم . ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية ، وكان أهل الطائف يعبدون اللات ، وأهل مكة العزى ومناة وأسافاً ونائلة وهبل ، والأخبار بهذا عن الكفار هو على سبيل التجهيل والتحقير لهم ولمعبوداتهم ، والتنبيه على أنهم عبدوا من لا يستحق العبادة . وفي قوله : من دون الله ، دلالة على أنهم كانوا يعبدون الأصنام ولا يعبدون الله . قال ابن إسحاق : يعنون في الآخرة . وقال النضر بن الحرث : إذا كان يوم القيامة شفعت في اللات والعزى . وقال الحسن : شفعاؤنا في إصلاح معايشنا في الدنيا لأنهم لا يقرون بالبعث . وأتنبئون استفهام على سبيل التهكم بما ادّعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأنّ الذي أنبأوا به باطل غير منطو تحت الصحة ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه ، وما موصولة بمعنى الذي .
قال الزمخشري : بكونهم شفعاء عنده ، وهو إنباء ما ليس بمعلوم لله تعالى ، وإذا لم يكن معلوماً له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات لم يكن شيئاً لأنّ الشيء ما يعلم ويخبر عنه فكان خبراً ليس له مخبر عنه انتهى . فتكون ما واقعة على الشفاعة ، والفاعل بيعلم هو الله ، والمفعول الضمير المحذوف العائد على ما . وقوله : في السموات ولا في الأرض تأكيد لنفيه ، لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم قاله الزمخشري . وفي التحرير : أتنبئون ، معناه التهكم والتقريع والتوبيخ والإنكار ، والمعنى على هذا : أتخبرون الله بما يعلم خلافه في السموات والأرض ، فإن صفات الذات لا يجري فيها النفي . وقيل : أتخبرون الله بما لا يعلمه موجوداً في السموات والأرض ، فكيف يصح وجود ما لا يعلمه الله ، وهو كما يقال للرجل : قد قلت كذا ، فيقول : ما علم الله هذا مني ، أي ما كان هذا قط ، إذ لو كان لعلمه الله انتهى .
والذي يظهر أنّ ما موصول يراد به الأصنام لا الشفاعة التي ادعوها ، والفاعل بيعلم ضمير يعود على ما لا على الله ، وذلك على حذف مضاف والمعنى : قل أتعلمون الله بشفاعة الأصنام التي انتفي علمها في السموات والأرض أي : ليست متصفة بعلم البتة ، فيكون ذلك رداً عليهم في دعواهم أنها تشفع عند الله ، لأنّ من كان منتفياً عنه العلم فكيف يشفع وهو لا يعلم من يشفع فيه ، ولا ما يشفع فيه ، ولا من تشفع عنده ؟ كما رد عليهم في العبادة بقوله : ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، فانتفاء الضر والنفع قادح في العبادة ، وانتفاء العلم قادح في الشفاعة ، فتبطل العبادة ودعوى الشفاعة ، ويكون قوله : في السموات والأرض على هذا تنبيهاً على محال المعبودات المدعي شفاعتهم ، إذ من المعبودات السماوية الكواكب كالشمس والشعرى . وقرىء : أتنبئون بالتخفيف من أنبأ . ولما ذكر تعالى عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع ، وكان ذلك إشراكاً ، استأنف تنزيهاً بقوله سبحانه وتعال . وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ومصدرية أي : شركاهم الذين يشركونهم به ، أو عن إشراكهم . وقرأ العربيان والحرميان وعاصم : يشركون بالياء على الغيبة هنا ، وفي حرفي النحل ، وحرفي في الروم . وذكر أبو حاتم أنه قرأها كذلك الحسن والأعرج وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش . وقرأ ابن كثير ونافع ، وابن عامر ، في النمل فقط بالياء على الخطاب ، وعاصم وأبو عمرو بالياء على الغيبة . وقرأ حمزة والكسائي الخمسة بالتاء على الخطاب ، وأتى بالمضارع ولم

" صفحة رقم 139 "
يأت عن ما أشركوا للدلالة على استمرار حالهم ، كما جاءوا يعبدون وأنهم على الشرك في المستقبل ، كما كانوا عليه في الماضي .
( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( : لما ذكر تعالى الدلالة على فساد عبادة الأصنام ، ذكر الحامل على ذلك وهو الاختلاف الحادث بين الناس ، والظاهر عموم الناس . ويتصور في آدم وبينه إلى أنْ وقع الاختلاف بعد قتل أحد ابنيه الآخر ، وقاله : أبي بن كعب . وقال الضحاك : المراد أصحاب سفينة نوح ، اتفقوا على الحنيفية ودين الإسلام . وعن ابن عباس : من كان من ولد آدم إلى زمان إبراهيم ورد بأنه عبد في زمان نوح عليه السلام الأصنام كود ، وسواغ . وحكى ابن القشيري أنّ الناس قوم إبراهيم إلى أنْ غيّر الدين عمرو بن لحي . وقال ابن زيد : هم الذين أخذ عليهم الميثاق يوم : ) أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ ( لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم . وقال الأصم : هم الأطفال المولودون كانوا على الفطرة فاختلفوا بعد البلوغ ، وأبعد من ذهب إلى أنّ المراد بالناس هنا آدم وحده ، وهو مروي عن : مجاهد ، والسدّي ، وعبر عنه بالأمة لأنه جامع لأنواع الخير . وهذه الأقوال هي على أنّ المراد بأمة واحدة في الإسلام والإيمان . وقيل : في الشرك . وأريد قوم إبراهيم كانوا مجتمعين على الكفر ، فآمن بعضهم ، واستمر بعضهم على الكفر . أو من كان قبل البعث من العرب وأهل الكتاب كانوا على الكفر والتبديل والتحريف ، حتى بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فآمن بعضهم ، أو العرب خاصة ، أقوال ثالثها للزجاج . والظاهر أنّ المراد بقوله : أمة واحدة في الإسلام ، لأنّ هذا الكلام جاء عقيب إبطال عبادة الأصنام ، فلا يناسب أنْ يقوي عباد الأصنام . فإنّ الناس كانوا على ملة الكفر ، إنما المناسب أن يقال : إنهم كانوا على الإسلام حتى تحصل النفرة من اتباع غير ما كان الناس عليه . وأيضاً فقوله : ولولا كلمة ، هو وعيد ، فصرفه إلى أقرب مذكور وهو الاختلاف ، هو الوجه والاختلاف بسبب الكفر ، هو المقتضي للوعيد ، لا الاختلاف الذي هو بسبب الإيمان ، إذ لا يصلح أن يكون سبباً للوعيد ، وقد تقدم الكلام على نحو هذا في البقرة في قوله : ) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ( ولكنْ أعدنا الكلام فيه لبعده .
والكلمة هنا هو القضاء ، والتقدير : لبني آدم بالآجال المؤقتة . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد الكلمة في أمر القيامة ، وأنّ العقاب والثواب إنما يكون حينئذ . وقال الزمخشري : هو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة يقضي بينهم عاجلاً فيما اختلفوا فيه ، وتمييز المحق من المبطل . وسبقت كلمة الله بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف ، وتلك دار ثواب وعقاب . وقال الكلبي : الكلمة أنّ الله أخبر هذه الأمة لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة ، فلولا هذا التأخير لقضى بينهم بنزول العذاب ، أو بإقامة الساعة . وقيل : الكلمة السابقة أنْ لا يأخذ أحداً إلا بحجة وهو إرسال الرسل . وقيل : الكلمة قوله : ) سَبَقَتْ رَّحْمَتِى غَضَبِى ( ولولا ذلك ما أخر العصاة إلى التوبة .
( وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُنتَظِرِينَ ( : هذا من اقتراحهم . قال الزمخشري : وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم تنزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات ، دقيقة المسلك من بين المعجزات . وجعلوا نزولها كلا نزول ، فكأنه لم ينزل عليه قط حتى قالوا : لولا أنزل عليه آية واحدة من ربه ، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وإنهماكهم في الغي فقل : إنما الغيب لله أي : هو المختص بعلم الغيب المستأثر به ، لا علم لي ولا لا حد به . يعني : أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو سبحانه ، فانتظروا نزول ما اقترحتموه إني معكم من المنتظرين بما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحدكم الآيات . وقال ابن عطية : آية من ربه ، آية تضطر الناس إلى الإيمان ، وهذا النوع من الآيات لم يأت بها نبي قط ، ولا من المعجزات اضطرارية ، وإنما هي معرضة النظر ليهتدي قوم ويضل آخرون ، فقل : إنما الغيب لله إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ، لا يطلع على غيبه في ذلك أحد . وقوله : فانتظروا ، ووعيد وقد صدقه الله تعالى بنصرته محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : الآية التي اقترحوا أن ينزل ما تضمنه قوله تعالى : ) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا الاْيَةَ ( وقيل : آية كآية موسى وعيسى كالعصا واليد البيضاء ، وإحياء الموتى ، طلبوا ذلك على سبيل

" صفحة رقم 140 "
التعنت .
( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِىءايَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا ( : لما ذكر تعالى قوله : ) وَإِذْ تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ ). الآية ثم ذكر قوله : ) وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةً ( وذلك على سبيل التعنت أخبر أنّ هؤلاء إنما يصيرون لهذه المقالات عندما يكونون في رخاء من العيش وخلو بال ، وأنّ إحسان الله تعالى قابلوه بما لا يجوز من ابتغاء المكر لآياته ، وكان خليقاً بهم أن يكونوا أول من صدق بآياته . وإعراضهم عن الآيات نظير قوله : ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَّسَّهُ ). وسبب نزولها أنه لما دعا على أهل مكة الرسول بالجدب قحطوا سبع سنين ، فأتاه أبو سفيان فقال : إدع لنا بالخصب ، فإنْ أخصبنا صدقنا ، فسأل الله لهم فسقوا ولم يؤمنوا ، وهذه وإن كانت في الكفار فهي تتناول من العاصين من لا يؤدّي شكر الله عند زوال المكروه عنه ، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه ، وذلك في الناس كثير . تجد الإنسان يعقد عند مس الضر التوبة والتنصل من سائر المعاصي ، فإذا زال عنه رجع إلى أقبح عاداته . والرحمة هنا الغيث بعد القحط ، والأمن بعد الخوف ، والصحة بعد المرض ، والغنى بعد الفقر ، وما أشبه ذلك . ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم ، ومعنى مكر في آياتنا التكذيب بالقرآن ، والشك فيه قاله الجماعة . وقال مجاهد ومقاتل : الاستهزاء والتكذيب . وقال أبو عبيدة : الرد والجحود . وحكى الماوردي النفاق لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وهو شبيه بما قال الزمخشري : إنّ المكر أخفى الكيد . وقال ابن عطية : والمكر الاستهزاء والطعن عليها من الكفار ، واطراح الشكر والخوف من العصاة انتهى . والإذاقة والمس هنا مجازان ، وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب ابن آدم من حالة الخير إلى حالة الشر ، وذلك بلفظ أذقنا ، كأنه قيل : أول ذوقه الرحمة قبل أن يدوام استطعامها مكروه بلفظ من المشعرة بابتداء الغاية أي : ينشىء المكر إثر كشف الضراء لا يمهل ذلك . وبلفظ إذا الفجائية الواقعة جواباً لإذا الشرطية ، أي في وقت إذاقة الرحمة فاجاؤا بالمكر . ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم قيل : قل الله أسرع مكراً فجاءت أفعل التفضيل . ومعنى وصف المكر بالأسرعية : أنه تعالى قبل أن يدبروا مكائدهم قضى بعقابكم ، وهو موقعه بكم ، واستدرجكم بإمهاله . قال ابن عطية : أسرع من سرع ، ولا يكون من أسرع يسرع ، حكى ذلك أبو علي . ولو كان من أسرع لكان شاذاً وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( في نار جهنم لهي أسود من القار ) وما حفظ من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فليس بشاذ انتهى . وقيل : أسرع هنا ليست للتفضيل ، وحكاية ذلك عن أبيّ على هو مذهب . وفي بناء التعجب وأفعل التفضيل من أفعل ثلاثة مذاهب : المنع مطلقاً وما ورد من ذلك فهو شاذ ، والجواز مطلقاً ، والتفصيل بين أن تكون الهمزة فيه للنقل فيمنع ، أو لغير النقل فيجوز ، نحو : أشكل الأمر وأظلم الليل ، وتقرير الصحيح من ذلك هو في علم النحو وأما تنظير أسود من القار بأسرع ففاسد ، لأن أسود ليس فعله على وزن أفعل ، وإنما هو على وزن فعل نحو سود فهو أسود ، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو : سود وحمر وأدم إلاّ لكونه لوناً ، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقاً ، وبعضهم في السواد والبياض فقط .
والرسل هنا الحفظة بلا خلاف . والمعنى : أن ما تظنونه خافياً مطوياً عن الله لا يخفى عليه ، وهو منتقم منكم . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ، وأبو عمر : ورسلنا بالتخفيف . وقرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والأعرج ، ورويت عن نافع : يمكرون على الغيبة جرياً على ما سبق . وقرأ أبو رجاء ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، وطلحة ، والأعمش ، والجحدري ، وأيوب بن المتوكل ، وابن محيصن ، وشبل ، وأهل مكة ، والسبعة : بالتاء على الخطاب مبالغة لهم في الإعلام بحال مكرهم ، والتفاتاً لقوله : قل الله أي : قل لهم ، فناسب الخطاب . وفي قوله : إنّ رسلنا التفات أيضاً ، إذ لم يأت أنّ رسله . وقال أيوب بن المتوكل في مصحف أبي : يا أيها الناس إنّ الله أسرع مكراً ،

" صفحة رقم 141 "
وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون ، وينبغي أن يحمل هذا على التفسير ، لأنه مخالف لما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف ، والمحفوظ عن أبي القراءة والإقراء بسواد المصحف .
( وَهُوَ الَّذِى يُسَيّرُكُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ ( : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى أنّ الناس إذا أصابهم الضر لجأوا إلى الله تعالى فإذا أذاقهم الرحمة ، عادوا إلى عادتهم من إهمال جانب الله والمكر في آياته . وكان قبل ذلك قد ذكر نحواً من هذا في قوله : ) وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ ( الآية . وكان المذكور في الآيتين أمراً كلياً ، أوضح تعالى ذلك الأمر الكلي بمثال جلي كاشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي ينقطع فيه رجاء الإنسان عن كل متعلق به إلا الله تعالى ، فيخلص له الدعاء وحده في كشف هذه النازلة التي لا يكشفها إلا هو تعالى ، ويتبين بطلان عبادته ما لا يضر ولا ينفع ، ودعواه أنه شفيعه عند الله ، ثم بعد كشف هذه النازلة عاد إلى عادته من بغيه في الأرض ، فإنجاؤه تعالى إياهم هو مثال من أذاقه الرحمة وما كانوا فيه قبل من إشافهم على الهلاك هو مثال من الضر الذي مسهم . وقرأ زيد بن ثابت ، والحسن ، وأبو العالية ، وزيد بن علي ، وأبو جعفر ، وعبد الله بن جبير ، وأبو عبد الرحمن ، وشيبة ، وابن عامر : ينشركم من النشر والبث . وقرأ الحس أيضاً : ينشركم من الإنشار وهو الإحياء ، وهي قراءة عبد الله . وقرأ بعض الشاميين ينشركم بالتشديد للتكثير من النشر الذي هو مطاوعة الانتشار . وقرأ باقي السبعة والجمهور : يسيركم من التيسير . قال أبو علي : هو تضعيف مبالغة ، لا تضعيف تعدية ، لأن العرب تقول : سرت الرجل وسيرته ، ومنه قول الهذلي : فلا تجز عن من سنة أنت سرتها
فأول راض سنه من يسيرها
قال ابن عطية : وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكونن شاهداً في هذا ، وهو أن يكون الضمير كالظرف كما تقول : سرت الطريق انتهى . وما ذكره أبو علي لا يتعين ، بل الظاهر أنّ التضعيف فيه للتعدية ، لأنّ سار الرجل لازماً ما أكثر من سرت الرجل متعدياً فجعله ناشأ عن الأكثر أحسن من جعله ناشئاً عن الأقل . وأما جعل ابن عطية الضمير كالظرف قال كما تقول : سرت الطريق ، فهذا لا يجوز عند الجمهور ، لأن الطريق عندهم ظرف مختص كالدار والمسجد ، فلا يصل إليه الفعل غيره . دخلت عند سيبويه ، وانطلقت ، وذهبت عند الفراء إلا بوساطة في إلا في ضرورة ، وإذا كان كذلك فضميره أحرى أنْ لا يتعدى إليه الفعل . وإذا كان ضمير الظرف الذي يصل إليه الفعل بنفسه يصل إليه بوساطة في إلا إن اتسع فيه فلأن يكون الضمير الذي يصل الفعل إلى ظاهره بفي أولى أن يصل إليه الفعل بوساطة في . وزعم أبن الطراوة أن الطريق ظرف غير مختص ، فيصل إليه الفعل يغر وساطة في ، وهو زعم مردود في النحو .
ومعنى يسيركم : يجعلكم تسيرون ، والسير معروف ، وفي قوله : والبحر دلالة على جواز ركوب البحر . ولما كان الخوف في البحر أغلب على الإنسان منه في البر وقع المثال به لذلك المعنى الكلي به من التجاء العبد لربه تعالى حالة الشدة والإهمال لجانبه

" صفحة رقم 142 "
حالة الرخاء . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر ، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك ؟ ( قلت ) : لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير ، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في خبرها كأنه قال : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة فكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف ، وتراكم الأمواج ، والظن للهلاك ، والدعاء للانجاء انتهى . وهو حسن ، وقرأ أبو الدرداء وأم الدرداء : في الفلكي بزيادة ياء النسب ، وخرج ذلك على زيادتها ، كما زادوها في الصفة في نحو : أحمرّيّ وزواريّ ، وفي العلم كقول الصلتان : أنا الصلتاني الذي قد علمتم . وعلى إرادة النسب مراد به اللج كأنه قيل في اللج الفلكي وهو الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه ، والضمير في وجرين عائد على الفلك على معنى الجمع ، إذ الفلك كما تقدم في سورة البقرة يكون مفرداً وجمعاً ، والضمير في بهم عائد على الكائنين في الفلك . وهو التفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة . وفائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قال الزمخشري : المبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح انتهى . والذي يظهر والله أعلم أنّ حكمة الالتفات هنا هي أنّ قوله : هو الذي يسيركم في البر والبحر ، خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين ، والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار ، والخطاب شامل ، فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر . ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع ، فلما ذكرت حالة آل الأمر في آخرها إلى أنْ الملتبس بها هو باغ في الأرض بغير الحق ، عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لايكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالة التي آخرها البغي . وقال ابن عطية : بهم خروج من الحضور إلى الغيبة ، وحسن ذلك لأن قوله : كنتم في الفلك ، هو بالمعنى المعقول ، حتى إذا حصل بعضكم في السفن انتهى ، فكأنه قدر مفرداً غائباً يعاد الضمير عليه فيصير كقوله تعالى : ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَاهُ ( أي ، أو كذي ظلمات ، فعاد الضمير غائباً على اسم غائب ، فلا يكون ذلك من باب الالتفات . والباء في بهم وبريح قال العكبري : تتعلق الباآن بجرين انتهى . والذي يظهر أنّ الباء في بهم متعلقة بجرين تعلقها بالمفعول نحو : مررت بزيد . وأنّ الباء في بريح يجوز أن تكون للمسبب ، فاختلف المدلول في البائين ، فجاز أن يتعلقا بفعل واحد ، ويجوز أن تكون الباء للحال أي : وجرين بهم ملتبسة بريح طيبة ، فتتعلق بمحذوف كما تقول : جاء زيد بثيابه أي ملتبساً بها . وفرحوا بها يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله : وجرين بهم ، ويحتمل أن يكون حالاً أي : وقد فرحوا بها . كما احتمل قوله : وجرين أن يكون معطوفاً على كنتم ، وأن يكون حالاً . والظاهر أنّ قوله : جاءتها ريح عاصف ، هو جواب إذا . والظاهر عود الضمير في جاءتها على الفلك ، لأنه هو المحدث عنه في قوله : وجرين بهم ، وقاله مقاتل . وجوزوا أن يعود على الريح الطيبة وقاله الفراء ، وبدأ به الزمخشري . ومعنى طيب الريح لين هبوبها وكونها موافقة .
وقرأ ابن أبي عبلة : جاءتهم ، ومعنى من كل من أمكنة الموج . والظن هنا على بابه الأصلي من ترجيح أحد الجائزين . وقيل : معناها التيقن ، ومعنى أحيط بهم أي للهلاك ، كما يحيط العدو بمن يريد إهلاكه ، وهي كناية عن استيلاء أسباب الهلاك . وقرأ زيد بن علي : حيط بهم ثلاثياً والجملة من قوله : دعوا الله قال أبو البقاء : هي جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط تقديره : لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى ، وهو كلام لا يتحصل منه شيء . وقال الطبري : جواب حتى إذا كنتم في الفلك جاءتها ريح عاصف ، وجواب قوله : وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى . وهو مخالف للظاهر ، لأنّ قوله : وظنوا ظاهره العطف على جواب إذا ، لأنه معطوف على كنتم ، لكنه محتمل . كما تقول : إذا زارك فلان

" صفحة رقم 143 "
فأكرمه ، وجاءك خالد فأحسن إليه ، وكأن أداة الشرط مذكورة . وقال الزمخشري : هي بدل من ظنوا لادعائهم من لوازم ظنهم الهلاك ، فهو ملتبس به انتهى . وكان أستاذنا أبو جعفر بن الزبير يخرّج هذه الآية على غير ما ذكروا ويقول : هو جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فما كان حالهم إذ ذاك ؟ فقيل : دعوا الله مخلصين له الدين انتهى . ومعنى الإخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام ولا غيرها ، قال معناه : ابن عباس وابن زيد . وقال الحسن : مخلصين لا إخلاص إيمان ، لكنْ لأجعل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله ، فيكون ذلك جارياً مجرى الإيمان الاضطراري انتهى . والاعتراف بالله مركوز في طبائع العالم ، وهم مجبولون على أنه المتصرف في الأشياء ، ولذلك إذا حقت الحقائق رجعوا إليه كلهم مؤمنهم وكافرهم ، لئن أنجيتنا ثم قسم محذوف ، وذلك القسم وما بعده محكيّ بقول أي : قائلين . أو أجرى دعوا مجرى قالوا ، لأنه نوع من القول ، والإشارة بهذه إلى الشدائد التي هم فيها . وقال الكلبي : إلى الريح العاصف .
( فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ ياأَيُّهَا أَيُّهَا النَّاسُ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى ( : قال ابن عباس : يبغون بالدعاء إلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى قوله بغير الحق ، والبغي لا يكون بحق ؟ ( قلت ) : بلى وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة ، وهدم دورهم ، وإحراق زروعهم ، وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ببني قريظة انتهى . وكأنه قد شرح قوله : يبغون بأنهم يفسدون ، ويبعثون مترقين في ذلك ممعنين فيه من بغي الجرح إذا ترقى للفساد انتهى . قال الزجاج : البغي الترقي في الفساد . وقال الأصمعي : بغي الجرح ترقي إلى الفساد ، وبغت المرأة فجرت انتهى . ولا يصح أن يقال في المسلمين إنهم باغون على الكفرة ، إلا إن ذكر أنّ أصل البغي هو الطلب مطلقاً ولا يتضمن الفساد ، فحينئذ ينقسم إلى طلب بحق ، وطلب بغير حق . ولما حمل ابن عطية البغي هنا على الفساد قال : أكد ذلك بقوله بغير الحق . وجواب لما إذا الفجائية وما بعدها ، ومجيء إذا وما بعدها جواباً لها دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبله من الفعل الذي بعد لمّا ، وأنها تفيد الترتب والتعليق في المضي ، وأنها كما قال سيبويه : حرف . ومذهب غيره أنها ظرف ، وقد أوضحنا ذلك فيما كتبناه في علم النحو . والجواب بإذا الفجائية دليل على أنه لم يتأخر بغيهم عن إنجائهم ، بل بنفس ما وقع الإنجاء وقع البغي ، والخطاب بيا أيها الناس ، قال الجمهور : لأهل مكة . والذي يظهر أنه خطاب لأولئك الذين أنجاهم الله وبغوا ، ويحتمل كما قالوا : العموم ، فيندرج أولئك فيهم ، وهذا ذمّ للبغي في أوجز لفظ . ومعنى على أنفسكم . وبال البغي عليكم ، ولا يجني ثمرته لا أنتم . فقوله : على أنفسكم ، خبر للمبتدأ الذي هو بغيكم ، فيتعلق بمحذوف . وعلى هذا التوجيه انتصب متاع في قراءة زيد بن علي وحفص ، وابن أبي إسحاق ، وهارون ، عن ابن كثير : على أنه مصدر في موضع الحال أي : متمتعين ، أو باقياً على المصدرية أي : يتمتعون به متاع ، أو نصباً على الظرف نحو : مقدم الحاج أي وقت متاع الحياة الدنيا . وكل هذه التوجيهات منقولة . والعامل في متاع إذا كان حالاً أو ظرفاً ما تعلق به خبر بعيكم أي : كائن على أنفسكم ، ولا ينتصبان ببغيكم ، لأنه مصدر قد فصل بينه وبين معموله بالخبر ، وهو غير جائز . وارتفع متاع في قراءة الجمهور على أنه خبر مبتدأ محذوف . وأجاز النحاس ، وتبعه الزمخشري ، أن يكون على أنفسكم متعلقاً بقوله : بغيكم ، كما تعلق في قوله ، فبغى عليهم ، ويكون الخبر متاع إذا رفعته . ومعنى على أنفسكم : على أمثالكم . والذين جنسكم جنسهم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا . وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً : متاعاً الحياة الدنيا بنصب متاع وتنوينه ، ونصب الحياة . وقال سفيان بن عيينة : في هذه الجملة تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا . وقرأ فرقة : فينبئكم بالياء على

" صفحة رقم 144 "
الغيبة ، والمراد لله تعالى .
2 ( ) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاٌّ رْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالاٌّ نْعَامُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الاٌّ رْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالاٌّ مْسِ كَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللَّهُ يَدْعُوإِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ) ) 2
) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالاْنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ ( مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما قال : ) الْحَقّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( ضرب مثلاً عجيباً غريباً للحياة الدنيا تذكر من يبغي فيها على سرعة زوالها وانقضائها ، وأنها بحال ما تعز وتسر ، تضمحل ويؤول أمرها إلى الفناء . وقال الزمخشري : هذا من التشبيه المركب ، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطافاً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه انتهى . وإنما هنا ليست للحصر لا وضعاً ولا استعمااً لا ، لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالاً غير هذا ، والمثل هنا يحتمل أن يراد به الصفة ، وأن يراد به القول السائر المشبه به حال الثاني بالأول . والظاهر تشبيه صفة الحياة الدنيا بماء فيما يكون به ، ويترتب عليه من الانتفاع ثم الانقطاع . وقيل : شبهت الحياة الدنيا بالنبات على تلك الأوصاف ، فيكون التقدير : كنبات ماء ، فحذف المضاف . وقيل : شبهت الحياة بحياة مقدرة على هذه الأوصاف ، فيكون التقدير : كحياة قوم بماء أنزلناه من السماء . قيل : ويقوي هذا قوله : وظن أهلها أنهم قادرون عليها . والسماء إما أن يراد من السحاب ، وإما أن يراد من جهة السماء ، والظاهر أن النبات اختلط بالماء . ومعنى الاختلاط : تشبثه به ، وتلقفه إياه ، وقبوله له ، لأنه يجري له مجرى الغذاء ، فتكون الباء للمصاحبة . وكل مخلطين يصح في كل منهما أن يقال : اختلط بصاحبه ، فلذلك فسره بعضهم بقوله : خالطه الماء وداخله ، فغذّى كل جزء منه . وقال الكرماني : فاختلط به اختلاط مجاورة ، لأنّ الاختلاط تداخل الأشيائ بعضها في بعض انتهى . ولا يمنع اختلاط النبات بالماء على سبيل التداخل ، فلا تقول : إنه اختلاط مجاورة . وقيل : اختلط اختلف وتنوع بالماء ، وينبو لفظ اختلط عن هذا التفسير . وقيل : معنى اختلط تركب . وقيل : امتد وطال . وقال الزمخشري : فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً . وقال ابن عطية : وصلت فرقة النبات بقوله فاختلظ أي : اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء انتهى . وعلى هذه الأقوال الباء في بماء للسببية ، وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل في قوله : فاختلط ، هو ضمير يعود على الماء أي : فاختلط الماء بالأرض . ويقف هذا المذهب على قوله : فاختلط ، ويستأنلف به نبات على الابتداء ، والخبر المقدم . قال ابن عطية : يحتمل على هذا أن يعود الضمير في به على الماء وعلى الاختلاط الذي تضمنه الفعل انتهى . والوقف على قوله : فاختلط ، لا يجوز وخاصة في القرآن لأنه تفكيك للكلام المتصل الصحيح المعنى ، الفصيح اللفظ ، وذهاب إلى اللغز والتعقيد ، والمعنى الضعيف . ألا ترى أنه لو صرح بإظهار الاسم الذي الضمير في كناية عنه فقيل بالاختلاط نبات الأرض ، أو بالماء نبات الأرض ، لم يكد ينعقد كلاماً من مبتدأ وخبر لضعف هذا الإسناد وقربه من عدم الإفادة ، ولولا أنّ ابن عطية ذكره وخرّجه على ما ذكرناه عنه لم نذكره في كتابنا . ولما كان النبات ينقسم إلى مأكول وغيره ، بيّن أنّ المراد أحد القسمين بمن فقال : مما يأكل الناس ، كالحبوب والثمار والبقول والأنعام ، كالحشيش وسائر ما يرعى . قال الحوفي : مِن متعلقه باختلط . وقال أبو البقاء : مما

" صفحة رقم 145 "
يأكل حال من النبات ، فاقتضى قول أبي البقاء أن يكون العامل في الحال محذوفاً لأنّ المجرور والظرف إذا وقعا حالين كان العامل محذوفاً . وقول أبي البقاء : هو الظاهر ، وتقديره : كائناً مما يأكل ، وحتى غاية ، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولاً حتى تصحّ الغاية . فأما أن يقدر قبلها محذوف أي : فما زال ينمو حتى إذا ، أو يتجوز في فاختلط ، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا .
وقوله : أخذت الأرض زخرفها وازينت ، جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة ، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون ، فاكتست وتزينت بأنواع الحلى ، فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وأثواب مختلفة ، واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظة الزخرف وهو الذهب ، لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس . وازينت أي : بنباتها وما أودع فيه من الحبوب والثمار والأزهار ، ويحتمل أن يكون قوله : وازينت تأكيداً لقوله : أخذت الأرض زخرفها . واحتمل أن لا يكون تأكيداً ، إذ قد يكون أخذ الزخرف لا لقصد التزيين ، فقيل : وازينت ليفيد أنها قصدت التزيين . ونسبة الأخذ إلى الأرض والتزيين من بديع الاستعارة . وقرأ الجمهور : وازينت وأصله وتزينت ، فأدغمت التاء في الزاي فاجتلبت همزة الوصل لضرورة تسكين الزاي عند الإدغام . وقرأ أبي وعبد الله ، وزيد بن علي ، والأعمش : وتزينت على وزن تفعلت . وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وأبو عبد الرحمن ، وابن يعمر ، والحسن ، والشعبي ، وأبو العالية ، وقتادة ، ونصر بن عاصم ، وابن هرمز ، وعيسى الثقفي : وأزينت على وزن أفعلت ، كأحصد الزرع أي حضرت زينتها وحانت . وصحت الياء فيه على جهة الندور ، كأعبلت المرأة . والقياس : وأزانت ، كقولك وأبانت . وقرأ أبو عثمان النهدي بهمزة مفتوحة بوزن افعألت ، قاله عنه صاحب اللواح قال : كأنه كانت في الوزن بوزن احكارّت ، لكنهم كرهوا الجمع بين ساكنين ، فحركت الألف فانقلبت همزة مفتوحة . ونسب ابن عطية هذه القراءة لفرقة فقال : وقرأت فرقة وازيأنت وهي لغة منها قال الشاعر :
إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرَّت
وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة : وازيانت بنون مشدّدة وألف ساكنة قبلها . قال ابن عطية : وهي قراءة أبي عثمان النهدي . وقرأت فرقة : وازّاينت ، والأصل وتزاينت فأدغم ، والظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين . وقيل : بمعنى أيقنوا وليس بسديد ، ومعنى القدرة عليها التمكن من تحصيلها ومنفعتها ورفع غلتها ، وذلك لحسن نموها وسلامتها من العاهات . والضمير في أهلها عائد على الأرض ، وهو على حذف مضاف أي : أهل نباتها . وقيل : الضمير عائد على الغلة . وقيل : على الزينة ، وهو ضعيف . وجواب إذا قوله : أتاها أمرنا كالريح والصر والسموم وغير ذلك من الآفات كالفار والجراد . وقيل : أتاها أمرنا بإهلاكها ، وأبهم في قوله : ليلاً أو نهاراً ، وقد علم تعالى متى يأتيها أمره ، أو تكون أو للتنويع ، لأنّ بعض الأرض يأتيها أمره تعالى ليلاً وبعضها نهاراً ، ولا يخرج كائن عن وقوعه فيهما . والحصيد : فعيل بمعنى مفعول أي : المحصود ، ولم يؤنث كما لم تؤنث امرأة جريج . وقال أبو عبيدة : الحصيد المستأصل انتهى . وعبر بحصيد عن التألف استعارة ، جعل ما هلك من الزرع بالآفة قبل أوانه حصيداً العلامة ما بينهما من الطرح على الأرض . وقيل : يجوز أن تكون تشبيهاً بغير الأداة والتقدير : فجعلناها كالحصيد . وقوله : كأن لم تغن بالأمس ، مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل ، ولم يقم بالأرض بهجة خضرة

" صفحة رقم 146 "
نضرة تسر أهلها .
وقرأ الحسن وقتادة : كأن لم يغن بالياء على التذكير . فقيل : عائد على المضاف المحذوف الذي هو الزرع ، حذف وقامت هاء التأنيث مقامه في قوله : عليها ، وفي قوله : أتاها فجعلناها . وقيل : عائد على الزخرف ، والأولى عوده على الحصيد أي : كأن لم يغن الحصيد . وكان مروان بن الحكم يقرأ على المنبر : كأن لم تتغن بتائين مثل تتفعل . وقال الأعشى : طويل الثواء طويل التغني ، وهو من غنى بكذا أقام به . قال الزمخشري : والأمس مثل في الوقت . كأنه قيل : كأن لم تغن آنفاً انتهى . وليس الأمس عبارة عن مطلق الوقت ، ولا هو مرادف كقوله : آنفاً ، لأنّ آنفاً معناه الساعة ، والمعنى : كأن لم يكن لها وجود فيما مضى من الزمان . ولولا أنّ قائلاً قال في غير القرآن كأن لم يكن لها وجود الساعة لم يصح هذا المعنى ، لأنه لا وجود لها الساعة ، فكيف تشبه وهي لا وجود لها حقيقة بما لا وجود لها حقيقة ؟ إنما يشبه ما انتفى وجوده الآن بما قدر انتفاء وجوده في الزمان الماضي ، لسرعة انتقاله من حالة الوجود إلى جالة العدم ، فكان حالة الوجود ما سبقت له . وفي مصحف أبي : كأن لم تغن بالأمس ، وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها . وفي التحرير نفصل الآيات ، رواه عنه ابن عباس . وقيل في مصحفه : وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها . وفي التحرير : وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن يقرأ في قراءة أبيّ كأن لم تغن بالأمس ، وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها ، ولا يحسن أن يقرأ حد بهذه القراءة لأنها مخالفة لخط المصحف الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون انتهى . كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون أي : مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي ، نفصل في المستقبل . وقرأ أبو الدرداء : لقوم يتذكرون بالذال بدل الفاء .
( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( : لما ذكّر مثل الحياة الدنيا وما يؤول إليه من الفناء والاضمحلال ، وما تضمنه من الآفات والعاهات ، ذكر تعالى أنه داع إلى دار السلامة والصحة والأمن ، وهي الجنة ، إذ أهلها سالمون من كل مكروه . ويجوز أن يكون تعالى أضافها إلى اسمه الشريف على سبيل التعظيم لها والتشريف كما قيل : بيت الله ، وناقة الله ، ويجوز أن تكون مضافة إلى السلامة بمعنى التسليم لفشوّ ذلك بينهم ، ولتسليم الملائكة عليهم كما قال : ) لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ). قال الحسن : إن السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم كما قال تعالى : ) تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ( وقد وردت في دعوة الله عباده أحاديث . وقال قتادة : ذكر لنا أنّ في التوراة مكتوباً يا باغي الخير هلم ، ويا باغي الشرّ انته . ولما كان الدعاء عامًّاً لم تتقيد بالمشيئة ، ولما كانت الهداية خاصة تقيدت بالمشيئة فقال : ويهدي من يشاء . وقال الزمخشري : ويهدي يوفق من يشاء ، وهم الذين علم أنّ اللطف يجدي عليهم ، لأن مشيئته تابعة لحكمته .
2 ( ) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم

" صفحة رقم 147 "
ْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالاٌّ رْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والاٌّ بْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الاٌّ مْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِىإِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِىإِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّىإِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنْتُمْ بِهِ ءَآأنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ

" صفحة رقم 148 "
أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الاٌّ رْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَلاإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الاٌّ رْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلاأَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } )
يونس : ( 26 ) للذين أحسنوا الحسنى . . . . .
رهقه غشيه ، وقيل : لحقه ومنه . ولا ترهقني من أمري عسراً ، ورجل مرهق يغشاه الأضياف . وقال الأزهري : الرهق اسم من الإرهاق ، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيق . يقال : أرهقته أن يصلي إذا أعجلته عن الصلاة . وقيل : أصل الرهق المقاربة ، يقال : غلام مراهق أي قارب الحلم . وفي الحديث : ( أرهقوا القبلة ) أي ادنوا منها . ويقال : رهقت الكلاب الصيد إذا لحقته ، وأرهقنا الصلاة أخرناها حتى تدنو من الأخرى .
القتر والقترة الغبار الذي معه سواد ، وقال ابن عرفة : الغبار . وقال الفرزدق : متوج برداء الملك يتبعه
موج ترى فوقه الرايات والقترا
أي غبار العسكر . وقال ابن بحر : أصل القتر دخان النار ، ومنه قتار القدر انتهى . ويقال : القتر بسكون التاء الشأن والأمر ، وجمعه شؤون . وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده . عزب يعزب ويعزب بكسر الزاي وضمها غاب حتى خفي ، ومنه الروض العازب . وقال أبو تمام : وقلقل نأى من خراسان جأشها
فقلت اطمئني أنضر الروض عازبه

" صفحة رقم 149 "
وقيل للغائب عن أهله عازب ، حتى قالوه لمن لا زوجة له .
( لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( : أحسنوا قال ابن عباس : ذكروا كلمة لا إله إلا الله . وقال الأصم : أحسنوا في كل ما تعبدوا به أي : أتوا بالمأمور به كما ينبغي ، واجتنبوا المنهى . وقيل : أحسنوا معاملة الناس . وروي أنس عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أحسنوا العمل في الدنيا ) وفي الصحيح : ( ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك ) وعن عيسى عليه السلام : ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة ، ولكنّ الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ) .
والحسنى قال الأكثرون : هي الجنة ، وروي ذلك عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولو صح وجب المصير إليه . وقال الطبري : الحسنى عام في كل حسن ، فهو يعم جميع ما قبل ووعد الله في جميعها بالزيادة ، ويؤيد ذلك أيضاً قوله : أولئك أصحاب الجنة . ولو كان معنى الحسنى الجنة لكان في القول تكرير في المعنى . وقال عبد الرحمن بن سابط : هي النضرة . وقال ابن زيد : الجزاء في الآخرة . وقيل : الأمنية ذكره ابن الأنباري . وقال الزمخشري : المثوبة الحسنى وزيادة ، وما يزيد على المثوبة وهو التفضل ، ويدل عليه قوله تعالى : ) وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ ( وعن علي : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة . وعن ابن عباس : الحسنى الحسنة والزيادة عشرة أمثالها . وعن الحسن : عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف . وعن مجاهد : الزيادة مغفرة من الله ورضوان . وعن زياد بن شجرة : الزيادة أنّ تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم ؟ فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم . وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى ، وجاءت بحديث موضوع : ) إِذَا دَخَلُواْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةِ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ( انتهى . أما تفسيره أولا ونقله عمن ذكر تفسير الزيادة فهو نص الجبائي ونقله ، وأما قوله : وجاءت بحديث موضوع فليس بموضوع ، بل خرجه مسلم في صحيحه عن صهيب ، والنسائي عنه عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وخرجه ابن المبارك في دقائقه موقوفاً على أبي موسى وقال : بأن الزيادة هي النظر إلى الله تعالى أبو بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، في رواية وحذيفة ، وعبادة بن الصامت ، وكعب بن عجرة ، وأبو موسى ، وصهيب ، وابن عباس في رواية ، وهو قول جماعة من التابعين . ومسألة الرؤية يبحث فيها في أصول الدين . قال مجاهد : أراد ولا يلحقها خزي ، والخزي يتغير به الوجه ويسود . قال ابن ابن عباس : والذلة الكآبة . وقال غيره : الهوان . وقيل : الخيبة نفي عن المحسنين ما أثبت للكفار من قوله : ) وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ( وقوله : ) عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ( وكنى بالوجه عن الجملة لكونه أشرفها ، ولظهور أثر السرور والحزن فيه . وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وعيسى بن عمر ، والأعمش : قتر بسكون التاء ، وهي لغة كالقدر ، والقدر وجعلوا أصحاب الجنة لتصرفهم فيها كما يتصرف الملاك على حسب اختيارهم .
( وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ ( : لما ذكر ما أعد للذين أحسنوا وحالهم يوم القيامة ومآلهم إلى الجنة ، ذكر ما أعد لأضدادهم وحالهم ومآلهم ، وجاءت صلة المؤمنين أحسنوا ، وصلة الكافرين كسبوا السيئات ، تنبيهاً على أنّ المؤمن لما خلق على الفطرة وأصلها بالإحسان ، وعلى أن الكافر لما خلق على الفطرة انتقل عنها وكسب السيئات ، فجعل ذلك محسناً ، وهذا كاسباً للسيئات ، ليدل على أنّ المؤمن سلك ما ينبغي ، وهذا سلك ما لا ينبغي . والظاهر أنّ والذين مبتدأ ، وجوزوا في الخبر وجوهاً أحدها : أنه الجملة التي بعده وهي جزاء سيئة بمثلها

" صفحة رقم 150 "
وجزاء مبتدأ فقيل : خبره مثبت وهو بمثلها . واختلفوا في الباء فقيل : زائدة قاله ابن كيسان أي جزاء سيئة مثلها ، كما قال : وجزاء سيئة سيئة مثلها ، كما زيدت في الخبر في قوله :
فمنعكها بشييء يستطاع
أي شيء يستطاع . وقيل : ليست بزائدة ، والتقدير : مقدر بمثلها أو مستقر بمثلها . وقيل : محذوف ، فقدّره الحوفي : لهم جزاء سيئة قال : ودل على تقدير لهم قوله : ) لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( حتى تشاكل هذه بهذه . وقدره أبو البقاء جزاء سيئة بمثلها واقع ، والباء في قولهما متعلقة بقوله : جزاء ، والعائد من هذه الجملة الواقعة خبراً عن الذين محذوف تقديره : جزاء سيئة منهم ، كما حذف في قولهم : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه بدرهم . وعلى تقدير الحوفي : لهم جزاء يكون الرابط لهم . الثاني : أنّ الخبر قوله : ما لهم من الله من عاصم ، ويكون قد فصل بين المبتدأ والخبر بجملتين على سبيل الاعتراض ، ولا يجوز ذلك عند أبي علي الفارسي ، والصحيح جوازه . الثالث : أن يكون الخبر كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً . الرابع : أن يكون الخبر أولئ وما بعده ، فيكون في هذا القول فصل بين المبتدأ والخبر بأربع جمل معترضة ، وفي القول الثالث بثلاث جمل ، والصحيح منع الاعتراض بثلاث الجمل وبأربع الجمل ، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين في موضع جر عطفاً على قوله : للذين أحسنوا ، ويكون جزاء مبتدأ خبره قوله : والذين على إسقاط حرف الجر أي : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، فيتعادل التقسيم ، كما تقول : في الدار زيد ، والقصر عمرٌ ، وأي : وفي القصر عمرو . وهذا التركيب مسموع من لسان العرب ، فخرجه الأخفش على أنه من العطف على عاملين . وخرجه الجمهور على أنه مما حذف منه حرف الجر ، وجره بذلك الحرف المحذوف لا بالعطف على المجرور ، وهي مسألة خلاف وتفصيل يتكلم فيها في علم النحو .
والظاهر أنّ السيئات هنا هي سيئات الكفر ، ويدل عليه ذكر أوصافهم بعد . وقيل : السيئات المعاصي ، فيندرج فيها الكفر وغيره . ولهذا قال ابن عطية : وتعم السيئات هاهنا الكفر والمعاصي ، فمثل سيئة الكفر التخليد في النار ، ومثل سيئات المعاصي مصروف إلى مشيئة الله تعالى ، ومعنى بمثلها أي : لا يزاد عليها . قال الزمخشري : وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل ، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله ، ودل بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله انتهى . وقيل : معنى بمثلها أي : بما يليق بها من العقوبات ، فالعقوبات تترتب على قدر السيئات ، ولهذا كانت جهنم دركات ، وكان المنافقون في الدرك الأسفل لقبح معصيتهم . وقرىء : ويرهقهم بالياً ، لأنّ تأنيث الذلة مجاز ، وفي وصف المنافقين نفي القتر والذلة عن وجوههم ، وهنا غشيتهم الذلة ، وبولغ فيما يقابل القتر فقيل : كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً ، وهذه مبالغة في سواد الوجوه . وقد جاء مصرحاً في قوله : ) وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ( من الله أي من سخطه وعذابه ، أو من جهته تعالى ، ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين وأغشيت : كسبت ، ومنه الغشاء . وكون وجوههم مسودة هي حقيقة لا مجاز ، فتكون ألوانهم مسودة . قال أبو عبد الله الرازي : واعلم أن حكماء الإسلام قالوا : المراد من هذا السواد ههنا سواد الجهل وظلمة الضلال ، فإن الجهل طبعه طبع الظلمة . فقوله : وجوه يومئذ سفرة ضاحكة مستبشرة ،

" صفحة رقم 151 "
المراد نور العلم وروحه وبشره وبشارته ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة ، المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة انتهى . وكثيراً ما ينقل هذا الرجل عن حكماء الإسلام في التفسير ، وينقل كلامهم تارة منسوباً إليهم ، وتارة مستنداً به ويعني : بحكماء الفلاسفة الذين خلقوا في مدة الملة الإسلامية ، وهم أحق بأنْ يسمّوا سفهاء جهلاء من أن يسموا حكماء ، إذ هم أعداء الأنبياء والمحرفون للشريعة الإسلامية ، وهم أضر على المسلمين من اليهود والنصارى . وإذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن قراءة التوراة مع كونها كتاباً إلهياً ، فلأنْ ينهى عن قراءة كلام الفلاسفة أحق . وقد غلب في هذا الزمان وقبله بقليل الاشتغال بجهالات الفلاسفة على أكثر الناس ، ويسمونها الحكمة ، ويستجهلون من عرى عنها ، ويعتقدون أنهم الكملة من الناس ، ويعكفون على دراستها ، ولا تكاد تلقى أحداً منهم يحفط قرآناً ولا حديثاً عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ولقد غضضت مرة من ابن سينا ونسبته للجهل فقال لي بعضهم وأظهر التعجب من كون أحد يغض من ابن سينا : كيف يكون أعلم الناس بالله ينسب للجهل ؟ ولما ظهر من قاضي الجماعة أبي الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن أبي الوليد بن رشد الاعتناء بمقالات الفلاسفة والتعظيم لهم ، أغرى به علمائ الإسلام بالأندلس المنصور منصور الموحدين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس حتى أوقع به ما هو مشهور من ضربه ولعنه وإهانته وإهانة جماعة منهم على رؤوس الإشهاد ، وكان مما خوطب به المنصور في حقهم قول بعض العلماء الشعراء : خليفتنا جزاك الله خيرا
عن الإسلام والسعي الكريم
فحق جهاده جاهدت فيه
إلى أن فزت بالفتح العظيم
وصيرت الأنام بحسن هدى
على نهج الصراط المستقيم
فجاهد في أناس قد أضلوا
طريق الشرع بالعلم القديم
وحرق كتبهم شرقاً وغربا
ففيها كامناً شر العلوم
يدب إلى العقائد من أذاها
سموم والعقائد كالجسوم
وفي أمثالها إذ لا دواء
يكون السيف ترياق السموم
وقال : يا وحشة الإسلام من فرقة
شاغلة أنفسها بالسفه
قد نبذت دين الهدى خلفها
وادعت الحكمة والفلسفه
وقال : قد ظهرت في عصرنا فرقة
ظهورها شؤم على العصر
لا تقتدي في الدين إلا بما
سن ابن سينا أو أبو نصر
ولما حللت بديار مصر ورأيت كثيراً من أهلها يشتغلون بجهالات الفلاسفة ظاهراً من غير أن ينكر ذلك أحد

" صفحة رقم 152 "
تعجبت من ذلك ، إذ كنا نشأنا في جزيرة الأندلس على التبرؤ من ذلك والإنكار له ، وأنه إذا بيع كتاب في المنطق إنما يباع خفية ، وأنه لا يتجاسر أن ينطق بلفظ المنطق ، إنما يسمونه المفعل ، حتى أنّ صاحبنا وزير الملك ابن الأحمر أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الحكيم كتب إلينا كتاباً من الأندلس يسألني أن أشتري أو أستنسخ كتاباً لبعض شيوخنا في المنطق ، فلم يتجاسر أن ينطق بالمنطق وهو وزير ، فسماه في كتابه لي بالمفعل . ولما ألبست وجوههم السواد قال : كأنما أغشيت وجوههم ، ولما كانت ظلمة الليل نهاية في السواد شبه سواد وجوههم بقطع من الليل حال اشتداد ظلمته .
وقرأ ابن كثير والكسائي قطعاً بسكون الطاء ، وهو مفرد اسم للشيء المقطوع . وقال الأخفش في قوله : بقطع من الليل ، بسواد من الليل . وأهل اللغة يقولون : القطع ظلمة آخر الليل . وقال بعضهم : طائفة من الليل . وعلى هذه القراءة يكون قوله : مظلماً صفة لقوله : قطعاً ، كما جاء ذلك في قراءة أبي : كأنما تغشى وجوههم قطع من الليل مظلم . وقرأ ابن أبي عبلة كذلك إلا أنه فتح الطاء . وقيل : قطع جمع قطعة ، نحو سدر وسدرة ، فيجوز إذ ذاك أن يوصف بالمذكر نحو : نخل منقعر ، وبالمؤنث نحو نخل خاوية ، ويجوز على هذا أن يكون مظلماً حالاً من الليل كما أعربوه في قراءة باقي السبعة ، كأنما أغشيت وجوههم قطعاً بتحريك الطاء بالفتح من الليل : مظلماً بالنصب .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : إذا جعلت مظلماً حالاً من الليل ، فما العامل فيه ؟ ( قلت ) : لا يخلو إما أن يكون أغشيت ، من قبل أنّ من الليل صفة لقوله : قطعاً ، فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة . وإما أن يكون معنى الفعل في من الليل انتهى . أما الوجه الأوّل فهو بعيد ، لأنّ الأصل أن يكون العامل في الحال هو العامل في ذي الحال ، والعامل في الليل هو مستقر الواصل إليه بمن ، وأغشيت عامل في قوله : قطعاً الموصوف بقوله : من الليل ، فاختلفا فلذلك كان الوجه الأخير أولى أي : قطعاً مستقرة من الليل ، أو كائنة من الليل في حال إظلامه . وقيل : مظلماً حال من قوله : قطعاً ، أو صفة . وذكر في هذين التوجيهين لأنّ قطعاً في معنى كثير ، فلوحظ فيه الإفراد والتذكير . وجوزوا أيضاً في قراءة من سكن الطاء أن يكون مظلماً حالاً من قطع ، وحالاً من الضمير في من . قال ابن عطية : فإذا كان نعتاً يعني : مظلماً نعتاً لقطع ، فكان حقه أن يكون قبل الجملة ، ولكن قد يجيء بعد هذا ، وتقدير الجملة ، قطعاً استقر من الليل مظلماً على نحو قوله : ) وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ( انتهى . ولا يتعين تقدير العامل في المجرور بالفعل فيكون جملة ، بل الظاهر أن يقدر باسم الفاعل ، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد والتقدير : كائناً من الليل مظلماً .
( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى ( : الضمير في نحشرهم عائد على من تقدم ذكرهم من ) الَّذِينَ أَحْسَنُواْ ( ) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ ( وقرأ الحسن وشيبة والقراء السبعة : نحشرهم بالنون ، وقرأت فرقة بالياء .

" صفحة رقم 153 "
وقيل : يعود الضمير على الذين كسبوا السيئات ، ومنهم عابد غير الله ، ومن لا يعبد شيئاً . وانتصب يوم على فعل محذوف أي : ذكرهم أو خوفهم ونحوه . وجميعاً حال ، والشركاء الشياطين أو الملائكة أو الأصنام أو من عبد من دون الله كائناً من كان أربعة أقوال . ومن قال : الأصنام ، قال : ينفخ فيها الروح فينطقها الله بذلك مكان الشفاعة التي علقوا بها أطماعهم . وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أن الكفار إذا رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم : اتبعوا ما كنتم تعبدون ، فيقولون والله لإياكم كنا نعبد ، فتقول الآلهة : فكفى بالله شهيداً ) الآية . قال ابن عطية : فظاهر هذه الآية أنّ محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى ابن مريم ، بدليل القول لهم : مكانكم أنتم وشركاؤكم ، ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم : إن كنا عن عبادتكم لغافلين . وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم . ومكانكم عده النحويون في أسماء الأفعال ، وقد ربا ثبتوا كما قال : وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
أي اثبتي . ولكونها بمعنى اثبتي جزم تحمدي ، وتحملت ضميراً فأكد وعطف عليه في قوله : أنتم وشركاؤكم . والحركة التي في مكانك ودونك ، أهي حركة إعراب ، أو حركة بناء تبتني على الخلاف الذي بين النحويين في أسماء الأفعال ؟ ألها موضع من الإعراب أم لا ؟ فمن قال : هي في موضع نصب جعل الحركة إعراباً ، ومن قال : لا موضع لها من الإعراب جعلها حركة بناء . وعلى الأول عول الزمخشري فقال : مكانكم الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم . واختلفوا في أنتم ، فالظاهر ما ذكرناه من أنه تأكيد للضمير المستكن في مكانكم ، وشركاؤكم عطف على ذلك الضمير المستكن وهو قول الزمخشري قال : وأنتم أكّد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله : الزموا وشركاؤكم عطف عليه انتهى . يعني عطفاً على الضمير المستكن ، وتقديره : الزموا ، وأنّ مكانكم قام مقامه ، فيحمل الضمير الذي في الزموا ليس بجيد ، إذ لو كان كذلك لكان مكانك الذي هو اسم فعل يتعدى كما يتعدى الزموا . ألا ترى أن اسم الفعل إذا كان الفعل لازماً كان اسم الفعل لازماً ، وإذا كان متعدياً كان متعدياً مثال ذلك : عليك زيداً لما ناب مناب ، الزم تعدى . وإليك لما ناب مناب تنح ، لم يتعد . ولكون مكانك لا يتعدى ، قدره النحويون اثبت ، واثبت لا يتعدى . قال الحوفي : مكانكم نصب بإضمار فعل أي : الزموا مكانكم أو اثبتوا . وقال أبو البقاء : مكانكم ظرف مبني لوقوعه موقع الأمر ، أي الزموا انتهى . وقد بينا أن تقدير الزموا ليس بجيد ، إذ لم تقل العرب مكانك زيداً فتعديه ، كما تعدى الزم . وقال ابن عطية : أنتم رفع بالابتداء ، والخبر مخزيون أو مهانون ونحوه انتهى . فيكون مكانكم قد تم ، ثم أخبر أنهم كذا ، وهذا ضعيف لفك الكلام الظاهر اتصال بعض أجزائه ببعض ، ولتقدير إضمارلا ضرورة تدعو إليه ، ولقوله : فزيلنا بينهم ، إذ يدل على أنهم ثبتوا هم وشركاؤكم في مكان واحد حتى وقع التزييل بينهم وهو التفريق . ولقراءة من قرأ أنتم وشركاءكم بالنصب على أنه مفعول معه ، والعامل فيه اسم الفعل . ولو كان أنتم مبتدأ وقد حذف خبره ، لما جاز أن يأتي بعده مفعول معه تقول : كل رجل

" صفحة رقم 154 "
وضيعته بالرفع ، ولا يجوز فيه النصب . وقال ابن عطية أيضاً : ويجوز أن يكون أنتم تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه انتهى . وهذا ليس بجيد ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمه على الظرف ، إذ الظرف لم يتحمل ضميراً على هذا القول فيلزم تأخيره عنه ، وهو غير جائز لا تقول : أنت مكانك ، ولا يحفظ من كلامهم . والأصح أنْ لا يجوز حذف المؤكد في التأكيد المعنوي ، فكذلك هذا ، لأن التأكيد ينافي الحذف . وليس من كلامهم : أنت زيداً لمن رأيته قد شهر سيفاً ، وأنت تريد ضرب أنت زيد ، إنما كلام العرب زيداً تريد اضرب زيداً .
يقال زلت الشيء عن مكانه أزيله . قال الفراء : تقول العرب : زلت الضأن من المعز فلم تزل . وقال الواحدي : التزييل والتزيل والمزايلة التمييز والتفرق انتهى . وزيل مضاعف للتكثير ، وهو لمفارقة الخبث وهن من ذوات الياء ، بخلاف زال يزول فمادتهما مختلفة . وزعم ابن قتيبة أن زيلنا من مادة زال يزول ، وتبعه أبو البقاء . وقال أبو البقاء : فزيلنا عين الكلمة وأو لأنه من زال يزول ، وإنما قلبت لأنّ وزن الكلمة فيعل أي : زيولنا مثل بيطر وبيقر ، فلما اجتعمت الواو والياء على الشرط المعروف قلبت ياء انتهى . وليس بجيد ، لأنّ فعل أكثر من فيعل ، ولأنّ مصدره تزييل . ولو كان فيعل لكان مصدره فيعله ، فكان يكون زيلة كبيطرة ، لأنّ فيعل ملحق بفعلل ، ولقولهم في قريب من معناه : زايل ، ولم يقولوا زاول بمعنى فارق ، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط وشرح ، فزيلنا ففرقنا بينهم وقطعنا أقرانهم ، والوصل التي كانت بينهم في الدنيا ، أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف وبين شركائهم كقوله تعالى : ) أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا ( وقرأت فرقة : فزايلنا حكاه الفراء . قال الزمخشري : كقولك صاعر خده ، ووصعر ، وكالمته وكلمته انتهى . يعني أن فاعلبمعنى فعل ، وزايل في لسان العرب بمعنى فارق . قال : وقال العذارى إنما أنت عمنا
وكان الشباب كالخليط يزايله
وقال آخر : لعمري لموت لا عقوبة بعده
لذي البث أشفى من هوى لا يزايله
والظاهر أن التزييل أو المزايلة هو بمفارقة الأجسام وتباعده . وقيل : فرقنا بينهم في الحجة والمذهب قاله ابن عطية ، وفزيلنا . وقال : هنا ماضيان لفظاً ، والمعنى : فنزيل بينهم ونقول : لأنهما معطوفان على مستقبل ، ونفي الشركاء عبادة المشركين هو رد لقولهم : إياكم كنا نعبد ، والمعنى : إنكم كنتم تعبدون من أمركم أن تتخذوا لله تعالى أنداداً فأطعتموهم ، ولما تنازعوا استشهد الشركاء بالله تعالى . وانتصب شهيداً ، قيل : على الحال ، والأصح على التمييز لقبوله مِن . وتقدم الكلام في كفى وفي الياء ، وأنْ هي الخفيفة من الثقيلة . وعند القراء هي النافية ، واللام بمعنى إلا ، وقد تقدم الكلام في ذلك . واكتفاؤهم بشهادة الله هو على انتفاء أنهم عبدوهم . ثم استأنفوا جملة خبرية أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم أي : لا شعور لنا بذلك . وهذا يرجح أن الشركاء هي الأصنام كما قال ابن عطية ، لأنه لو كان الشركاء ممن يعقل من إنسي أو جني أو ملك لكان له شعور بعبادتهم ، ولا شيء أعظم سبباً للغفلة من الجمادية ، إذ لا تحس ولا تشعر بشيء البتة .
( هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( : هنالك ظرف مكان أي : في ذلك الموقف والمقام المقتضي للحيرة والدهش . وقيل : هو إشارة إلى

" صفحة رقم 155 "
الوقت ، استعير ظرف المكان للزمان أي : في ذلك الوقت . وقرأ الإخوان وزيد بن علي : تتلوا بتاءين أي : تتبع وتطلب ما أسلفت من أعمالها ، قاله السدي . ومنه قول الشاعر : إن المريب يتبع المريبا
كما رأيت الذيب يتلو الذيبا
قيل : ويصح أن يكون من التلاوة وهي القراءة أي : تقرأ كتبها التي تدفع إليها . وقرأ باقي السبعة : تبلوا بالتاء والبائ أي : تختبر ما أسلفت من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن ، أنافع أم ضار ، أمقبول أم مردود ؟ كما يتعرف الرجل الشيء باختباره . وروي عن عاصم : نبلوا بنون وباء أي : نختبر . وكل نفس بالنصب ، وما أسلفت بدل من كل نفس ، أو منصوب على إسقاط الخافض أي : ما أسلفت . أو يكون نبلوا من البلاء وهو العذاب أي : نصيب كل نفس عاصية بالبلاء بسبب ما أسلفت من العمل المسيء . وعن الحسن تبلو تتسم . وعن الكلبي : تعلم . وقيل : تذوف . وقرأ يحيى بن وثاب : وردوا بكسر الراء ، لما سكن للإدغام نقل حركة الدال إلى حركة الراء بعد حذف حركتها . ومعنى إلى الله إلى عقابه . وقيل : إلى موضع جزائه مولاهم الحق ، لا ما زعموه من أصنامهم ، إذ هو المتولي حسابهم . فهو مولاهم في الملك والإحاطة ، لا في النصر والرحمة . وقرىء الحق بالنصب على المدح نحو : الحمد لله أهل الحمد . وقال الزمخشري : كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل ، على تأكيد قوله : ردوا إلى الله انتهى . وقال أبو عبد الله الرازي : وردوا إلى الله ، جعلوا ملجين إلى الإقرار بالإلهية بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير الله ، ولذلك قال : مولاهم الحق . وضل عنهم أي : بطل وذهب ما كانوا يفترونه من الكذب ، أو من دعواهم أنّ أصنامهم شركاء لله سافعون لهم عنده .
( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والاْبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَىّ ( : لما بين فضائح عبدة الأوثان ، أتبعها بذكر الدلائل على فساد مذهبهم بما يوبخهم ، ويحجهم بما لا يمكن إلا الاعتراف به من حال رزقهم وحواسهم ، وإظهار القدرة الباهرة في الموت والحياة . فبدأ بما فيه قوام حياتهم وهو الرزق الذي لا بد منه ، فمن السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات . فمن لابتداء الغاية وهيىء الرزق بالعالم العلوي والعالم السفلي معالم يقتصر على جهة واحدة ، تعالى توسعة منه وإحساناً . ومن ذهب إلى أنّ التقدير من أهل السماء والأرض فتكون من للتبعيض أو للبيان . ثم ذكر ملكه لهاتين الحاستين الشريفتين : السمع الذي هو سبب مدارك الأشياء ، والبصر الذي يرى ملكوت السموات والأرض . ومعنى ملكهما أنه متصرف فيهما بما يشاء تعالى من إبقاء وحفظ وإذهاب . وقال الزمخشري : من يملك السمع والأبصار من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة ، أو من يحميهما ويعصمهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال ، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه انتهى . ولا يظهر هذان الوجهان اللذان ذكرهما من لفظ أم من يملك السمع والأبصار . وعن عليّ كرم الله وجهه : سبحان من بصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم . وأم هنا تقتضي تتدير بل دون همزة الاستفهام لقوله تعالى : ) أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( فلا تتقدّر ببل ، فالهمزة لأنها دخلت على اسم الاستفهام ، وليس إضراب إبطال به هو لانتقال من شيء إلى شيء . ونبه تعالى بالسمع والبصر على الحواس لأنهما أشرفها ، ولما ذكر تعالى سبب إدامة الحياة وسبب انتفاع الحي بالحواس ، ذكر إنشاءه تعالى واختراعه للحي من الميت ، والميت من الحي ، وذلك من باهر قدرته ، وهو إخراج الضد من ضده . وتقدم تفسير ذلك ومن يدبر الأمر شامل لما تقدم من الأشياء الأربعة المذكورة ولغيرها ، والأمور التي يدبرها

" صفحة رقم 156 "
تعالى لا نهاية لها ، فلذلك جاء بالأمر الكلي بعد تفصيل بعض الأمور . واعترافهم بأنّ الرازق والمالك والمخرج والمدبر هو الله أي : لا يمكنهم إنكاره ولا المنافسة فيه . ومعنى أفلا تتقون : أفلا تخافون عقوبة الله في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة ؟ وقيل : أفلا تتعظون فتنتهون عن ما حذرت عنه تلك الموعظة .
( فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( : فذلك إشارة إلى من اختص بالأوصاف السابقة ، الحق الثابت الربوبية المستوجبة للعبادة ، واعتقاد اختصاصه بالألوهية أصنامكم المربوطة الباطلة . وماذا استفهام معناه النفي ، ولذلك دخلت إلا ، وصحبه التقرير والتوبيخ ، كأنه قيل : ما بعد الحق إلا الضلال ، فالحق والضلال لا واسطة بينهما ، إذ هما نقيضان ، فمن يخطىء الحق وقع في الضلال . وماذا مبتدأ تركبت ذا مع ما فصار مجموعهما استفهاماً ، كأنه قيل : أي شيء . والخبر بعد الحق ، ويجوز أن يكون ذا موصولة ويكون خبر ما ، كأنه قيل : الذي بعد الحق ؟ وبعد صلة كذا . ولما ذكر تعالى تلك الصفات ، وأشار إلى أنّ المتصف بها هو الله ، وأنه مالكهم وأنه هو الحق ، ثم وبخهم على اتباع الضلال بعد وضوح الحق قال تعالى : فأنى تصرفون ، أي كيف يقع صرفكم بعد وضوح الحق وقيام حججه عن عبادة من يستحق العبادة ، وكيف تشركون معه غيره وهو لا يشاركه في شيء من تلك الأوصاف . واستنباط كون الشطرنج ضلالاً من قوله : فماذا بعد الحق إلا الضلال ، لا يكاد يظهر ، لأنّ الآية إنما مساقها في الكفر والإيمان وعبادة الأصنام وعبادة الله ، وليس مساقها في الأمور الفرعية التي تختلف فيها الشرائع ، وتختلف فيها أقوال علماء ملتنا . وقد تعلق الجبائي بهذه الآية في الرد على المجبرة إذ يقولون : إنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان . قال : لو كان كذلك ما قال : أنى تصرفون . كما لو أعمى بصر أحدهم لا يقول : إني عميت . كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب ، والإشارة بذلك قيل : إلى المصدر المفهوم من تصرفون ، مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به في قوله : فسيقولون الله حق العذاب عليهم أي : جازاهم مثل أفعالهم . وقيل : إشارة إلى الحق . قال الزمخشري : كذلك مثل ذلك الحق حقت كلمة ربك ، أي كما حق وثبت أنّ الحق بعد الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق ، فكذلك حقت كلمة ربك . وقال ابن عطية : كذلك أي كما كانت صفات الله كما وصف ، وعبادته واجبة كما تقرر ، وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم ، واكتسبوا كذلك حقت . ومعنى فسقوا : تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه ، وأنهم لا يؤمنون بدل من كلمة ربك أي : حق عليهم انتفاء الإيمان . ويجوز أن يراد بالكلمة عدة العذاب ، ويكون أنهم لا يؤمنون تعليلاً أي : لأنهم لا يؤمنون . ويوضح هذا الوجه قراءة ابن أبي عبلة : أنهم لا يؤمنون بالكسر ، وهذا إخبار منه تعالى أنّ في الكفار من حتم الله بكفره وقضى بتخليده . وقرأ أبو جعفر وشيبة والصاحبان : كلمات على الجمع هنا وفي آخر السورة . وقرأ باقي السبعة على الافراد .
( قُلْ هَلْ

" صفحة رقم 157 "
مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( : لما استفهمهم عن أشياء من صفات الله تعالى واعترفوا بها ، ثم أنكر عليهم صرفهم عن الحق وعبادة الله ، استفهم عن شيء هو سبب العبادة : وهو إبداء الخلق ، وهم يسلمون ذلك . ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( ثم أعاد الخلق وهم منكرون ذلك ، لكنه عطفه على يسلمونه ليعلم أيهما سواء بالنسبة إلى قدرة الله ، وأنّ ذلك لوضوحه وقيام برهانه ، قرن بما يسلمونه إذ لا يدفعه إلا مكابر ، إذ هو من الواضحات التي لا يختلف في إمكانها العقلاء . وجاء الشرع بوجوبه ، فوجب اعتقاده . ولما كانوا لمكابرتهم لا يقرون بذلك أمر تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يجيب فقال : قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده ، وأبرز الجواب في جملة مبتدأة مصرح بخبرها ، فعاد الخبر فيها مطابقاً لخبر اسم الاستفهام ، وذلك تأكيد وتثبيت . ولما كان الاستفهام قبل هذا لا مندوحة لهم عن الاعتراف به ، جاءت الجملة محذوفاً منها أحد جزءيها في قوله : فسيقولون الله ، ولم يحتج إلى التأكيد بتصريح خبرها . ومعنى تؤفكون تصرفون وتقلبون عن اتباع الحق .
( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ ( : لما بين تعالى عجز أصنامهم عن الإبداء والإعادة اللذين هما من أقوى أسباب القدرة وأعظم دلائل الألوهية ، بين عجزهم عن هذا النوع من صفات الإله وهو الهداية إلى الحق وإلى مناهج الصواب ، وقد أعقب الخلق بالهداية في القرآن في مواضع قال تعالى حكاية عن الكليم : ) قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( وقال : ) الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ( فاستدل بالخلق والهداية على وجود الصانع ، وهما حالان للجسد والروح . ولما كانت العقول يلحقها الاضطراب والغلط ، بيّن تعالى أنه لا يهديهما إلا هو بخلاف أصنامهم ومعبوداتهم ، فإنه ما كان منها لا روح فيه جماد لا تأثير له ، وما فيه روح فليس قادراً على الهداية ، بل الله تعالى هو الذي يهديه . وهدى تتعدّى بنفسها إلى اثنين ، وإلى الثاني بإلى وباللام . ويهدي إلى الحق حذف مفعوله الأول ، ولا يصح أن يكون لازماً بمعنى يهتدي ، لأن مقابله إنما هو متعد ، وهو قوله قل : الله يهدي للحق أي يهدي من يشاء إلى الحق . وقد أنكر المبرد ما قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري من أن يكون هدى بمعنى اهتدى ، وقال : لا نعرف هذا ، وأحق ليست أفعل تفضيل ، بل المعنى حقيق بأن يتبع . ولما كانوا معتقدين أنّ شركاءهم تهدي إلى الحق ، ولا يسلمون حصر الهداية لله تعالى أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) بأن يبادر بالجواب فقال : قل الله يهدي للحق ، ثم عادل في السؤال بالهمزة وأم بين من هو حقيق بالاتباع ، ومن هو غير حقيق ، وجاء على الأفصح الأكثر من فصل أم مما عطفت عليه بالخبر كقوله : ) أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ( بخلاف قوله : ) أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ( وسيأتي القول في ترجيح الوصل هنا في موضعه إن شاء الله تعالى .
وقرأ أهل المدينة : إلا ورشا أمن لا يهدي بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدال ، فجمعوا بين ساكنين . قال النحاس : لا يقدر أحد أن ينطق به . وقال المبرد : من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة ، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة . وقرأ أبو عمرو وقالون في رواية كذلك : إلا أنه اختلس الحركة . وقرأ ابن عامر ، وابن كثير ، وورش ، وابن محيصن : كذلك إلا أنهم فتحوا الهاء وأصله يهتدي ، فقلب حركة التاء إلى الهاء ، وأدغمت التاء في الدال . وقرأ حفص ، ويعقوب ، والأعمش عن أبي بكر كذلك ، إلا أنهم كسروا الهاء لما اضطر إلى الحركة حرّك بالكسر . قال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر . وقرأ أبو بكر في رواية يحيى بن آدم كذلك ، إلا أنه كسر الياء . ونقل عن سيبويه أنه لا يجيز يهدي ، ويجيز تهدي ونهذي وأهدى قال : لأن الكسرة في الياء تثقل . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش : يهدي مضارع هدى . قال الزمخشري : هذه الهداية أحق بالاتباع أم الذي لا يهدي ، أي لا يهتدي بنفسه أو لا يهدي غيره ، إلا أنْ يهديه الله . وقيل : معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه ، إلا أن يهدي ، إلا أن ينقل أولاً يهتدي ، ولا يصح منه الاهتداء إلا بنقلة الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيواناً مطلقاً فيهديه انتهى . وتقدم إنكار المبرد ما قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري : من أنّ هدى بمعنى اهتدى . وقال أبو علي الفارسي : وصف الأصنام بأنها لا تهتدي إلا أن تهدى ، ونحن نجدها لا نهتدي وإن هديت . فوجه ذلك أنه عامل في العبادة عنها معاملتهم في وصفها بأوصاف من يعقل ، وذلك مجاز وموجود في كثير من القرآن . وقال ابن عطية : والذي أقول إنّ قراءة حمزة والكسائي يحتمل أن يكون المعنى أم من لا يهدي أحداً إلا أن يهدي ذلك الأحد بهداية من عند الله ، وأما على غيرها من القراءات التي مقتضاها أم مَن لا يهتدي إلا أن يهدي فيتجه المعنى على ما تقدم لأبي علي الفارسي ، وفيه تجوز كثير . ويحتمل أن يكون ما ذكر الله من تسبيح الجمادات هو اهتداؤها . وقيل : ثم الكلام عند قوله : أم من لا يهدي أي لا يهدي غيره ، ثم قال : إلا أن

" صفحة رقم 158 "
يهدي استثناء منقطع ، أي لكنه يحتاج إلى أن يهدي كما تقول : فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع ، أي لكنه يحتاج إلى أن يسمع . وقيل : أم من لا يهدي في الرؤساء المضلين انتهى . ويكون استثناء متصلاً لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابلية الهداية ، بخلاف الأصنام . فما لكم استفهام معناه التعجب والإنكار أي : أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء الشركاء إذ كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم ، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم ؟ كيف تحكمون استفهام آخر أي : كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أنداداً وشركاء ؟ وهاتان جملتان أنكر في الأولى ، وتعجب من اتباعهم من لا يهدي ولا يهتدي ، وأنكر في الثاني حكمهم بالباطل وتسوية الأصنام برب العالمين .
( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( : الظاهر أن أكثرهم على بابه ، لأن منهم من تبصر في الأصنام ورفضها كما قال : أربّ يبول الثعلبان برأسه
لقد هان من بالت عليه الثعالب
وقيل : المراد بأكثرهم جميعهم ، والمعنى : ما يتبع أكثرهم في اعتقادهم في الله وفي صفاته إلا ظناً ، ليسوا متبصرين ولا مستندين إلى برهان ، إنما ذلك شيء تلقفوه من آبائهم . والظن في معرفة الله لا يغني من الحق شيئاً أي : من إدراك الحق ومعرفته على ما هو عليه ، لأنه تجويز لا قطع . وقيل : وما يتبع أكثرهم في جعلهم الأصنام آلهة ، واعتقادهم أنها تشفع عند الله وتقرب إليه . وقرأ عبد الله : تفعلون بالتاء على الخطاب التفاتاً والجملة تضمنت التهديد والوعيد على اتباع الظن ، وتقليد الآباء . وقيل : نزلت في رؤساء اليهود قريش .
( وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْءانُ أَن يَفْتَرِى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ ( : لما تقدم قولهم : ) ائْتِ بِقُرْءانٍ غَيْرِ هَاذَا أَوْ بَدّلْهُ ( وكان من قولهم : إنه افتراه قال تعالى : وما كان هذا القرآن أن يفتري أي : ما صح ، ولا استقام أن يكون هذا القرآن المعجزة مفترى . والإشارة بهذا فيها تفخيم المشار إليه وتعظيمه ، وكونه جامعاً للأوصاف التي يستحيل وجودها فيه أن يكون مفترى . والظاهر أنّ أنْ يفتري هو خبر كان أي : افتراء ، أي : ذا افتراء ، أو مفترى . ويزعم بعض النحويين أنّ أنْ هذه هي المضمرة بعد لام الجحود في قولك : ما كان زيد ليفعل ، وأنه لما حذفت اللام أظهرت أنْ وأنّ اللام وأن يتعاقبان ، فحيث جيء باللام لم تأت بأن بل تقدرها ، وحيث حذفت اللام ظهرت أنْ . والصحيح أنهما لا يتعاقبان ، وأنه لا يجوز حذف اللام وإظهار أن إذ لم يقم دليل على ذلك . وعلى زعم هذا الزاعم لا يكون أنْ يفتري خبراً لكان ، بل الخبر محذوف . وأن يفتري معمول لذلك الخبر بعد إسقاط اللام ، ووقعت لكنْ هنا أحسن موقع إذ كانت بين نقيضين وهما : الكذب والتصديق المتضمن الصدق ، والذي بين يديه الكتب الإلهية المتقدمة قاله ابن عباس كما جاء مصدّقاً لما معكم . وعم الزجاج الذي بين يديه أشراط الساعة ، ولا يقوم البرهان على قريش إلا بتصديق القرآن ما في التوراة والإنجيل ، مع أن الآتي به يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا غيرها ، ولا هي في بلده ولا قومه ، لا بتصديق الإشراط ، لأنهم لم يشاهدوا شيئاً منها . وتفصيل الكتاب تبيين ما فرض وكتب فيه من الأحكام والشرائع . وقرأ الجمهور : تصديق وتفصيل بالنصب ، فخرجه الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان والزجاج على أنه خبر كان مضمرة أي : ولكن كان تصديق أي مصدقاً ومفصلاً . وقيل : انتصب مفعولاً من أجله ، والعامل

" صفحة رقم 159 "
محذوف ، والتقدير : ولكن أنزل للتصديق . وقيل : انتصب على المصدر ، والعامل فيه فعل محذوف . وقرأ عيسى بن عمر : تفصيل وتصديق بالرفع ، وفي يوسف خبر مبتدأ محذوف أي : ولكن هو تصديق . كما قال الشاعر : ولست الشاعر السفساف فيهم
ولكن مده الحرب العوالي
أي ولكن أنا . وزعم الفراء ومن تابعه أنّ العرب إذا قالت ولكن بالواو آثرت تشديد النون ، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيف . وقد جاء في السبعة مع الواو التشديد والتخفيف ، ولا ريب فيه داخل في حيز الاستدراك كأنه قيل : ولكن تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب ، كائناً من رب العالمين . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه في ذلك ، فيكون من رب العالمين متعلقاً بتصديق وتفصيل ، ويكون لا ريب فيه اعتراضاً كما تقول : زيد لا شك فيه كريم انتهى . فقوله : فيكون من رب العالمين متعلقاً بتصديق وتفصيل ، إنما يعني من جهة المعنى ، وأما من جهة في البقرة في قوله : ) ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( وجمع بينه وبين قوله : ) وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا ).
) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( : لما نفى تعالى أن يكون القرآن مفترى ، بل جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتب وبياناً لما فيها ، ذكر أعظم دليل على أنه من عند الله وهو الإعجاز الذي اشتمل عليه ، فأبطل بذلك دعواهم افتراءه ، وتقدم الكلام على ذلك مشبعاً في البقرة في قوله : ) وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ ( الآية . وأم متضمنة معنى بل ، والهمزة على مذهب سيبويه أي : أيقولون اختلقه . والهمزة تقرير لالتزام الحجة عليهم ، أو إنكار لقولهم واستبعاد . وقالت فرقة : أم هذه بمنزلة همزة استفهام . وقال أبو عبيدة : أم بمعنى الواو ومجازه ، ويقولون افتراه . وقيل : الميم صلة ، والتقدير أيقولون . وقيل : أم هي المعادلة للهمزة ، وحذفت الجملة قبلها والتقدير : أيقرون به أم يقولون افتراه . وجعل الزمخشري قل فأتوا جملة شرط محذوفة فقال : قل إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله ، فأنتم مثله في العربية والفصاحة والألمعية ، فأتوا بسورة مثله شبيهة به في البلاغة وحسن النظم انتهى . والضمير في مثله عائد على القرآن أي : بسورة مماثلة للقرآن ، وتقدم الكلام لنا فيما وقع به الإعجاز .
وقرأ عمرو بن قائد بسورة مثله على الإضافة أي : بسورة كتاب أو كلام مثله أي : مثل القرآن . وقال صاحب اللوامح : هذا مما حذف الموصوف منه وأقيمت الصفة مقامه أي : بصورة بشر مثله ، فالهاء في ذلك واقعة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي العامة إلى القرآن . وادعوا من استطعتم أن تدعوه من خلق الله إلى الاستعانة على الإتيان بمثله من دونن الله أي : من غير الله ، لأنه لا يقدر على أن يأتي بمثله أحد إلا الله ، فلا تستعينوه وحده ، واستعينوا بكل من دونه إن كنتم صادقين في أنه افتراه . وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن قالوا : لأنه تحدّى به وطلب الإتيان بمثله وعجزوا ، ولا يمكن هذا إلا إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ، ولو كان قديماً لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر ، فوجب أن لا يصح التحدي به . وقال أبو عبد الله الرازي : مراتب التحدي بالقرآن ست تحدّ بكل القرآن في : ) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ ( الآية ، وتحد بعشر سور ، وتحدّ بسورة واحدة ، وتحد بحديث مثله في قوله : ) فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( وفي هذه الأربع طلب أن يعارض رجل يساوي الرسول في عدم التتلمذ والتعليم ، وتحد طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إسنان كان تعلم العلوم أو لم يتعلمها ، وفي هذه المراتب الخمس تحدى كل واحد من الخلق ، وتحد طلب من المجموع واستعانة بعض ببعض انتهى ملخصاً

" صفحة رقم 160 "
) بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ( : قال الزمخشري : بل كذبوا ، بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن ، وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفهموه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ويفقهوا تأويله ومعانيه ، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم ، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم . وقال ابن عطية : هذا اللفظ يحتمل معنيين : أحدهما : أن يريد بما الوعيد الذي توعدهم الله على الكفر ، وتأويله على هذا يريد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله : ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ( والآية محملها على هذا التأويل يتضمن وعيداً ، والمعنى الثاني : أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبىء بالغيوب الذي لم يتقدّم لهم به معرفة ، ولا أحاطوا بمعرفة غيوبه وحسن نظمه ، ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه . وقال أبو عبد الله الرازي : يحتمل وجوهاً ، الأول : كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ) أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس نفس الحكاية ، بل قدرته تعالى على التصرف في هذا العالم ، ونقله أهله من عز إلى ذل ، ومن ذل إلى عز ، وبفناء الدنيا ، فيعتبر بذلك . وأن ذلك القصص بوحي من الله ، إذ أعلم بذلك على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من غير تحريف مع كونه لم يتعلم ولم يتتلمذ . الثاني : كلما سمعوا خروف التهجّي ولم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم ، وقد أجاب الله بقوله : ) مِنْهُ آيَاتٌ بَيّنَاتٍ ( الآية . الثالث : ظهور القرآن شيئاً فشيئاً ، فساء ظنهم وقالوا : ) لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءانُ جُمْلَةً واحِدَةً ( وقد أجاب تعالى وشرح في مكانه . الرابع : القرآن مملوء من الحشر ، وكانوا ألفوا المحسوسات ، فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت ، فبين الله صحة المعاد بالدلائل الكثيرة . الخامس : أنه مملوء من الأمر بالعبادات ، وكانوا يقولون : إله العالم غني عن طاعتنا ، وهو أجل أن يأمرنا بما لا فائدة له فيه . وأجاب تعالى بقوله : ) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ ( الآية وبالجملة فشبه الكفار كثيرة ، فلما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها ولا اطلعوا على وجه الحكمة فيها كذبوا بالقرآن فقوله : بما لم يحيطوا بعلمه ، إشارة إلى عدم علمهم هذه الأشياء وقوله : ولما يأتهم تأويله ، إشارة إلى عدم جهدهم واجتهادهم في طلب أسرار ما تضمنه القرآن انتهى ملخصاً .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى التوقع في قوله تعالى : ولم ايأتهم تأويله ؟ ( قلت ) : معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ، ومعرفة التأويل تقليداً للآباء ، وكذبوه بعد التدبر تمرداً وعناداً فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به ، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علوّ شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي ورازوا قواهم في المعارضة ، واستيقنوا عجزهم عن مثله ، فكذبوا به بغياً وحسداً انتهى . ويحتاج كلامه هذا إلى نظر . وقال أيضاً : ويجوز أن يكون المعنى : ولما يأتهم تأويله ، ولما يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته ، حتى يتبين لهم أكذب هو أم صدق ؟ يعني : أنه كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه ، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب . فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز ، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه انتهى . وبقيت جملة الإحاطة بلم ، وجملة إتيان التأويل بلما ، ويحتاج في ذلك إلى فرق دقيق . والكاف في موضع نصب أي : مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم ، يعني : قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم ، ولكن قلدوا الآباء عاندوا . قال ابن عطية : قال الزجاج : كيف ، في موضع نصب على خبر كان ، لا يجوز أن يعمل فيه انظر ، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه ، هذا قانون النحويين لأنهم عاملوا كيف في كل مكان معاملة الاستفهام المحض . في قولك : كيف زيد ؟ ولكيف تصرفات غير هذا تحل محل المصدر الذي هو كيفية ، وينخلع معنى الاستفهام ، ويحتمل هذا الموضع أنْ يكون منها ومن تصرفاتها قولهم : كن كيف شئت ، وانظر قول البخاري : كيف كان بدء الوحي ، فإنه لم يستقيم انتهى . وقول الزجاج : لا يجوز أن يعمل فيه انظر ، وتعليله : يريد لا يجوز أن تعمل فيه انظر لفظاً ، لكنّ الجملة في موضع نصب لا نظر معلقة ، وهي من نظر القلب . وقولابن عطية : هذا قانون النحويين إلى آخر تعليله ، ليس كما

" صفحة رقم 161 "
ذكر ، بل لكيف كعنيان : أحدهما : الاستفهام المحض ، وهو سؤال عن الهيئة ، إلا أن تعلق عنها العامل فمعناها معنى الأسماء التي يستفهم بها إذا علق عنها العامل . والثاني : الشرط . لقول العرب : كيف تكون أكون وقوله : ولكيف تصرفات إلى آخره ، ليس كيف تحل محل المصدر ، ولا لفظ كيفية هو مصدر ، إنما ذلك نسبة إلى كيف . وقوله : ويحتمل أن يكون هذا الموضع منها ومن تصرفاتها قولهم : كن كيف شئت ، لا يحتمل أن يكون منها ، لأنه لم يثبت لها المعنى الذي ذكر من كون كيف بمعنى كيفية وادعاء مصدر كيفية . وأما كن كيف شئت ، فكيف ليست بمعنى كيفية ، وإنما هي شرطية وهو المعنى الثاني الذي لها . وجوابها محذوف التقدير : كيف شئت فكن ، كما تقول : قم متى شئت ، فمتى اسم شرط ظرف لا يعمل فيه قم ، والجواب محذوف تقديره : متى شئت فقم ، وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه كقولهم : إضرب زيداً إنْ أساء إليك ، التقدير : إن أساء إليك فاضربه ، وحذف فاضربه لدلالة اضرب المتقدم عليه . وأما قول البخاري : كيف كان بدء الوحي ؟ فهو استفهام محض ، إما على سبيل الحكاية كأنّ قائلاً سأله فقال : كيف كان بدء الوحي ؟ فأجاب بالحديث الذي فيه كيفية ذلك . والظالمين : الظاهر أنه أريد به الذين من قبلهم ، ويحتمل أن يراد به من عاد عليه ضمير بل كذبوا .
( وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ( : الظاهر أنه إخبار بأنّ من كفار قريش من سيؤمن به وهو من سبقت له السعادة ، ومنهم من لا يؤمن به فيوافى على الكفر . وقيل : هو تقسيم في الكفار الباقين على كفرهم ، فمنهم من يؤمن به باطناً ويعلم أنه حق ولكنه كذب عناد ، ومنهم من لا يؤمن به لا باطناً ولا ظاهراً ، إما لسرعة تكذيبه وكونه لم يتدبره ، وإما لكونه نظر فيه فعارضته الشبهات وليس عنده من الفهم ما يدفعها . وفيه تفريق كلمة الكفار ، وأنهم ليسوا مستوين في اعتقاداتهم ، بل هم مضطربون وإن شملهم التكذيب والكفر . وقيل : الضمير في ومنهم عائد على أهل الكتاب ، والظاهر وعوده على من عاد عليه ضمير أم يقولون ، وتعلق العلم بالمفسدين وحدهم تهديد عظيم لهم .
( وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ ( : أي وإن تمادوا على تكذيبك فتبرأ منهم قد أعذرت وبلغت كقوله : ) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ ( ومعنى لي عملي أي : جزاء عملي ولكم جزاء عملكم . ومعنى عملي الصالح المشتمل على الإيمان والطاعة ، ولكم عملكم المشتمل على الشرك والعصيان . والظاهر أنها آية منابذة لهم وموادعة ، وضمنها الوعيد كقوله : ) قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( السورة . وقيل : المقصود بذلك استمالتهم وتأليف قلوبهم . وقال قوم منهم ابن زيد : هي منسوخة بالقتال لأنها مكية ، وهو قول : مجاهد ، والكلبي ، ومقاتل . وقال المحققون : ليست بمنسوخة ، ومدلولها اختصاص كل واحد بأفعاله ، وثمراتها من الثواب والعقاب ، ولم ترفع آية السيف شيئاً من هذا . وبدأ في المأمور بقوله : لي عملي لأنه آكد في الانتفاء منهم وفي البراءة بقوله : أنتم بريئون مما أعمل ، لأنّ هذه الجملة جاءت كالتوكيد والتتميم لما قبلها ، فناسب أنْ تلي قوله : ولكم عملكم . ولمراعاة الفواصل ، إذ لو تقدم ذكر براءة كما تقدم ذكر لي عملي لم تقع الجملة فاصلة ، إذ كان يكون التركيب وأنتم بريئون مما أعمل .
( وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( : قال ابن عباس : نزلت الآيتان في النضر بن الحرث وغيره من المستهزئين . وقال ابن الأنباري : في قوم من اليهود انتهى . وهذه الآية فيها تقسيم من لا يؤمن من الكفار إلى هذين القسمين بعد تقسيم المكذبين إلى من يؤمن ومن لا يؤمن ، والضمير في يستمعون عائد على معنى مَن ، والعود على المعنى دون العود على اللفظ في الكثرة وهو كقوله : ) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ ( والمعنى : من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ، ثم نفى جدوى ذلك الاستماع بقوله : أفأنت تسمع الصم أي هم ، وإن استعموا إليك صم عن إدراك ما تلقيه إليهم ليس لهم وعي ولا قبول ، ولا سيما قد انضاف إلى الصمم

" صفحة رقم 162 "
انتفاء العقل ، فجرى بمن عدم السمع والعقل أن لا يكون له إدراك لشيء البتة ، بخلاف أنْ لو كان الأصم عاقلاً فإنه بعقله يهتدي إلى أشياء . وأعاد في قوله : ومنهم من ينظر إليك الضمير مفرداً مذكراً على لفظ من ، وهو الأكثر في لسان العرب . والمعنى : أنهم عمي فلا تقدر على هدايتهم ، لأن السبب الذي يهتدي به إلى رؤية الدلائل فقد فقدوه ، هذا وهم مع فقد البصر قد فقدوا البصيرة ، إذ مَن كان أعمى فإنه مهديه نور بصيرته إلى أشياء بالحدس ، وهذه قد جمع بين فقدان البصر والبصيرة ، وهذا مبالغة عظيمة في انتفاء قبول ما يلقى إلى هؤلاء ، إذ جمعوا بين الصمم وانتفاء العقل ، وبين العمى وفقد البصيرة . وقوله : أفأنت : تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأن لا يكترث بعدم قبولهم ، فإنّ الهداية إنما هي لله . قال ابن عطية : جاء ينظر على لفظ من ، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى ، وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن يعطف عليه بآخر على اللفظ ، لأن الكلام يلبس حينئذ انتهى . وليس كما قال ، بل يجوز أن تراعى المعنى أولاً فتعيد الضمير على حسب ما تريد من المعنى من تأنيث وتثنية وجمع ، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً ، وفي ذلك تفصيل ذكر في علم النحو . والمقصود من الآيتين : إعلامه عليه السلام بأن هؤلاء الكفار قد انتهوا في النفرة والعداوة والبغض الشديد في رتبة من لا ينفع فيه علاج البتة ، لأنّ من كان أصم أحمق وأعمى فاقد البصيرة لا يمكن ذلك أن يقف على محاسن الكلام وما انطوى عليه من الإعجاز ، ولا يمكن هذا أن يرى ما أجرى الله على يدي رسوله من الخوارق ، فقد أيس من هداية هؤلاء . وقال الشاعر : وإذا خفيت على المعني فعاذر
أن لا تراءى مقلة عمياء
ولما ذكر تعالى هؤلاء الأشقياء ، ذكر تعالى أنه لا يظلمهم شيئاً ، إذ قد أزاح عللهم ببعثة الرسل وتحذيرهم من عقابه ، ولكن هم ظالمو أنفسهم بالكفر والتكذيب . واحتمل هذا النفي للظلم أنْ يكون في الدنيا أي : لا يظلمهم شيئاً من مصالحهم ، واحتمل أن يكون في الآخرة وأن ما يلحقهم من العقاب هو عدل منه ، لأنهم هم الذين تسببوا فيه باكتساب ذنوبهم كما قدّر تعالى عليهم لا يسأل عما يفعل . وتقدم خلاف القراء في ، ولكنّ الناس من تشديد النون ونصب الناس وتخفيفها والرفع .
( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ وَمَا كَانُواْ ( : قرأ الأعمش وحفص : يحشرهم بالياء راجعاً الضمير غائباً عائداً على الله ، إذ تقدّم ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ( ولما ذكر أولئك الأشقياء أتبعه بالوعيد ، ووصف حالهم يوم القيامة والمعنى : كأن لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور يعني : فقليل لبثهم ، وذلك لهول ما يعاينون من شدائد القيامة ، أو لطول يوم القيامة ووقوفهم للحساب . قال ابن عباس : رأوا أنّ طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة . قال ابن عطية : ويوم ظرف ، ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره : واذكر . ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله : كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار ، ويصح نصبه بيتعارفون ، والكاف من

" صفحة رقم 163 "
قوله : كأن ، يصح أنْ تكون في موضع الصفة لليوم ، ويصح أن تكون في موضع نعت للمصدر كأنه قال : ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا ، ويصح أن يكون قوله : كأن لم يلبثوا في موضع الحال من الضمير في نحشرهم انتهى . أما قوله : ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا فإنه كلام مجمل لم يبين الفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا ، ولعله أراد ما قاله الحوفي : من أن الكاف في موضع نصب بما تضمنت من معنى الكلام وهو السرعة انتهى . فيكون التقدير : ويوم نحشرهم يسرعون كأن لم يلبثوا ، وأما قوله : والكاف من قوله كأن ، يصح أن تكون في موضع الصفة لليوم ، فلا يصح لأنّ يوم نحشرهم معرفة ، والجمل نكرات ، ولا تنعت المعرفة بالنكرة . لا يقال : إنّ الجمل الذي يضاف إليها أسماء الزمان نكرة على الإطلاق ، لأنها إن كانت في التقدير تنحل إلى معرفة ، فهن ما أضيف إليها يتعرف وإن كانت تنحل إلى نكرة كان ما أضيف إليها نكرة ، تقول : مررت في يوم قدم زيد الماضي ، فتصف يوم بالمعرفة ، وجئت ليلة قدم زيد المباركة علينا . وأيضاً فكأن لم يلبثوا لا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى ، لأنّ ذلك من وصف المحشورين لا من وصف يوم حشرهم . وقد تكلف بعضهم تقدير محذوف بربط فقدره : كأن لم يلبثوا قبله ، فحذف قبله أي قبل اليوم ، وحذف مثل هذا الرابط لا يجوز . فالظاهر أنها جملة حالية من مفعول نحشرهم كما قاله ابن عطية آخراً ، وكذا أعربه الزمخشري وأبو البقاء .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كأن لم يلبثوا ويتعارفون كيف موقعهما ؟ ( قلت ) : أما الأولى فحال منهم أي : نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة . وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف يعني : فتكون حالاً ، وإما أن تكون مبينة لقوله : كأن لم يلبثوا إلا ساعة ، لأنّ التعارف يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً انتهى . وقال الحوفي : يتعارفون فعل مستقبل في موضع الحال من الضمير في يلبثوا وهو العامل ، كأنه قال : متعارفين ، المعنى : اجتمعوا متعارفين . ويجوز أن يكون حالاً من الهاء والميم في نحشرهم وهو العامل انتهى . وأما قول ابن عطية : ويصح أن يكون في موضع نصب للمصدر ، كأنه قال : ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا ، فقد حكاه أبو البقاء فقال : وقيل هو نعت لمصدر محذوف أي حشراً كأن لم يلبثوا قبله انتهى . وقد ذكرنا أن حذف مثل هذا الرابط لا يجوز . وجوزوا في يتعارفون أن يكون حالاً على ما تقدم ذكره من الخلاف في ذي الحال والعامل فيها ، وأن يكون جملة مستأنفة ، أخبر تعالى أنه يقع التعارف بينهم . وقال الكلبي : يعرف بعضهم بعضاً كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم ، وهو تعارف توبيخ وافتضاح ، يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني ، وليس تعارف شفقة وعطف ، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة ، كما قال تعالى : ) وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ ). وقيل : يعرف بعضهم بعضاً ما كانوا عليه من الخطأ والكفر . وقال الضحاك : تعارف تعاطف المؤمنين ، والكافرون لا أنساب بينهم . وقيل : القيامة مواطن ، ففي موطن يتعارفون وفي موطن لا يتعارفون ، والظاهر أن قوله : قد خسر الذين إلى آخره جملة مستأنفة ، أخبر تعالى بخسران المكذبين بلقائه . قال الزمخشري : هو استئناف فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أخسرهم . وقال أيضاً : وابتدأ به قد خسر على إرادة القول أي : يتعارفون بينهم قائلين ذلك . قال ابن عطية : وقيل إنه إخبار المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم انتهى . وهذا يحتمل أن يكون كقول الزمخشري : يتعارفون بينهم قائلين ذلك ، وأن يكون كقول غيره : نحشرهم قائلين قد خسر ، فاحتمل هذا المقدر أن يكون معمولاً ليتعارفون ، وأن يكون معمولاً لنحشرهم ، ونبه على العلة الموجبة للخسران وهو التكذيب بلقاء الله . وما كانوا مهتدين : الظاهر أنه معطوف على قوله : قد خسر ، فيكون من كلام المحشورين إذا قلنا : إنّ قوله قد خسر من كلامهم ، أخبروا عن أنفسهم بخسرانهم في الآخرة وبانتفاء هدايتهم في الدنيا . ويحتمل أن يكون معطوفاً على صلة الذين أي : كذبوا بلقاء الله ، وانتفت هدايتهم في الدنيا . ويحتمل أن تكون الجملة كالتوحيد بجملة الصلة ، لأن من كذب بلقاء الله هو غير مهتد . وقيل : وما كانوا مهتدين إلى غاية مصالح التجارة . وقيل : للإيمان . وقيل : في علم الله ، بل هم ممن حتم ضلالهم وقضى به .
( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ( : إما هي إن

" صفحة رقم 164 "
الشرطية زيد عليها ما قال ابن عطية ، ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة . ولو كانت أن وحدها لم يجز انتهى . يعني أنّ دخول النون للتأكيد إنما يكون مع زيادة ما بعد إن ، وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر كلام سيبويه . قال ابن خروف : أجاز سيبويه الإتيان بما ، وأن لا يؤتى بها ، والإتيان بالنون مع ما وإن لا يؤتى بها ، والإراءة هنا بصرية ، ولذلك تعدى الفعل إلى اثنين ، والكاف خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وبعض الذي نعدهم يعني : من العذاب في الدنيا . وقد أراه الله تعالى أنواعاً من عذاب الكفار في الدنيا قتلاً وأسراً ونهباً للأموال وسبياً للذراري ، وضرب جزية ، وتشتيت شمل بالجلاء إلى غير بلادهم ، وما يحصل لهم في الآخرة أعظم ، لأنه العذاب الدائم الذي لا ينقطع . والظاهر أنّ جواب الشرط هو قوله : فإلينا مرجعهم ، وكذا قاله الحوفي وابن عطية . قال ابن عطية : ومعنى هذه الآية الوعيد بالرجوع إلى الله تبارك وتعالى أي : إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب ، ثم مع ذلك الله شهيد من أول تكليمهم على جميع أعمالهم . فثم هاهنا لترتيب الأخبار ، لا لترتيب القصص في أنفسها . وقال الزمخشري : فإلينا مرجعهم جواب نتوفينك ، وجواب نرينك محذوف ، كأنه قيل : وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاك ، أو نتوفينك قبل أن نريكه ، فنحن نريك في الآخرة انتهى . فجعل الزمخشري الكلام شرطين لهما جوابان ، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف ، لأن قوله : فإلينا مرجعهم صالح أنْ يكون جواباً للشرط والمعطوف عليه . وأيضاً فقول الزمخشري : فذاك هو اسم مفرد لا ينعقد منه جواب شرط ، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يتضح منها جواب الشرط ، إذ لا يفهم من قوله فذاك الجزء الذي حذف المتحصل به فائدة الإسناد . وقرأ ابن أبي عبلة : ثم الله بفتح الثاء أي : هنالك . ومعنى شهادة الله على ما يفعلون مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب ، كأنه قال : ثم الله معاقبهم ، وإلا فهو تعالى شهيد على أفعالهم في الدنيا والآخرة . ويجوز أن يكون المعنى أنه تعالى مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة حتى تنطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم .
( وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( : لما بين حال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في قومه بين حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم ، تسلية له وتظميناً لقلبه . ودلت الآية على أنه تعالى ما أهمل أمة ، بل بعث إليها رسولاً كما قال تعالى : ) وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ( وقوله : فإذا جاء رسولهم ، إما أن كون إخباراً عن حالة ماضية فيكون ذلك في الدنيا ، ويكون المعنى : أنه بعث إلى كل أمة رسولاً يدعوهم إلى دين الله وينبئهم على توحيده ، فلما جاءهم بالبينات كذبوه ، فقضى بينهم أي : بين الرسول وأمته ، فأنجى الرسول وعذب المكذبون . وإما أن يكون على حالة مستقبلة أي : فإذا جاءهم رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم قضى بينهم ، أي : بين الأمة بالعدل ، فصار قوم إلى الجنة وقوم إلى النار ، فهذا هو القضاء بينهم قاله : مجاهد وغيره . ويكون كقوله تعالى : ) وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ ).
) وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( : الضمير في ويقولون ، عائد على مشركي قريش ومن تابعهم من منكري الشحر ، استعجلوا بما وعدوا به من العذاب على سبيل الاستبعاد ، أو على سبيل الاستخفاف ، ولذلك قالوا : إن كنتم صادقين أي : لستم صادقين فيما وعدتم به فلا يقع شيء منه . وقولهم : هذا ليشهد للقول الأول في الآية قبلها ، وأنها حكاية حال ماضية . وأنّ معنى ذلك : فإذا جاءهم الرسول وكذبوه قضى بينهم في الدنيا ، وأنّ كل رسول وعد أمته بالعذاب في الدنيا وإن هي كذبت .
( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ ( : لما التمسوا تعجيل العذاب أو تعجيل الساعة ، أمره عليه السلام أن يقول لهم : ليس ذلك إليّ ، بل ذلك إلى الله تعالى . وإذا كنت لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً فكيف أملكه لغيري ؟ أو كيف أطلع على ما لم يطلعني عليه الله ؟ ولكن لكل أمة أجل انفرد بعلمه تعالى . وتقدم الكلام على نظير قوله لكل أمة

" صفحة رقم 165 "
أجل إلى آخر الآية في الأعراف . وقرأ ابن سيرين : آجالهم على الجمع . وإلا ما شاء الله ظاهره أنه استثناء متصل ، إلا ما شاء الله أنْ أملكه وأقدر عليه . وقال الزمخشري : هو استثناء منقطع أي : ولكن ما شاء الله من ذلك كائن ، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب . ولكل أمة أجل أي : إنّ عذابكم له أجل مضروب عند الله .
( قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ ءآلنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( : تقدّم الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام وقررنا هناك أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني ، وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، وأن المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام ينعقد منها ما قبلها مبتدأ وخبر كقول العرب : أرأيت زيداً ما صنع ؟ المعنى : أخبرني عن زيد ما صنع . وقبل دخول أرأيت كان الكلام : زيد ما صنع ؟ وإذا تقرر هذا فأرأيتم هنا المفعول الأول لها محذوف ، والمسألة من باب الإعمال تنازع . أرأيت وإن أتاكم على قوله : عذابه ، فأعمل الثاني إذ هو المختار على مذهب البصريين ، وهو الذي ورد به السماع أكثر من إعمال الأول . فلما أعمل الثاني حذف من الأول ولم يضمر ، لأنّ إضماره مختص بالشعر ، أو قليل في الكلام على اختلاف النحويين في ذلك . والمعنى : قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم أي شيء تستعجلون منه ، وليس شيء من العذاب يستعجله عاقل ، إذ العذاب كله مرّ المذاق موجب لنفار الطبع منه ، فتكون جملة الاستفهام جاءت على سبيل التلطف بهم ، والتنبيه لهم أن العذاب لا ينبغي أن يستعجل . ويجوز أن تكون الجملة جاءت على سبيل التعجب والتهويل للعذاب أي : أي شيء شديد تستعجلون منه ، أي : ما أشدّ وأهول ما تستعجلون من العذاب . وقال الحوفي : الرؤية من رؤية القلب التي بمعنى العلم ، لأنها داخلة على الجملة من الاستفهام ومعناها التقرير . وجواب الشرط محذوف ، وتقدير الكلام : أرأيتم ما تستعجل من العذاب المجرمون إن أتاكم عذابه انتهى . فظاهر كلام الحوفي : أن أرأيتم باقية على موضوعها الأول لم تضمن معنى أخبروني ، وأنها بمعنى أعلمتم ، وأن جملة الاستفهام سدت مسد
المفعولين ، وأنه استفهام معناه التقرير ، ولم يبين الحوفي ما يفيد جواب الشرط المحذوف .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم يتعلق الاستفهام ؟ وأين جواب الشرط ؟ ( قلت ) : تعلق بأريأتم ، لأن المعنى أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون ، وجواب الشرط محذوف : وهو تندموا على الاستعجال وتعرفوا الخطأ فيه انتهى . وما قدره الزمخشري غير سائغ ، لأنه لا يقدر الجواب إلا مما تقدمه لفظاً أو تقديراً تقول : أنت ظالم إن فعلت ، فالتقدير إن فعلت فأنت ظالم . وكذلك وإنا إن شاء الله لمهتدون التقدير : إن شاء الله نهتد . فالذي يسوغ أن يقدر إنْ أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضاً والمعنى : إن أتاكم عذابه أأمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ؟ انتهى . أما تجويزه أن يكون ماذا جواباً للشرط فلا يصح ، لأنّ جواب الشرط إذا كان استفهاماً فلا بد فيه من الفاء ، تقول : إنْ زارنا فلان فأي رجل هو ، وإن زارنا فلان فأي يدله بذلك ، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة ، والمثال الذي ذكره وهو : إن أتيتك ماذا تطعمني ؟ هو من تمثيله ، لا من كلام العرب . وأما قوله : ثم تتعلق الجملة بأرأيتم ، إن عني بالجملة ماذا يستعجل فلا يصح ذلك لأنه قد جعلها جواباً للشرط ، وإن عني بالجملة جملة الشرط فقد فسر هو أرأيتم بمعنى أخبرني ، وأخبرني تطلب متعلقاً مفعولاً ، ولا تقع جملة الشرط موقع مفعول أخبرني . وأما تجويزه أن يكون أثم إذا ما وقع آمنتم به جواب الشرط ، وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضاً فلا يصح أيضاً ، لما ذكرناه من أنّ جملة الاستفهام لا تقع جواباً للشرط إلا ومعها فاء الجواب . وأيضاً فثم هنا وهي حرف عطف ، تعطف الجملة التي بعدها على ما قبلها ، فالجملة الاستفهامية معطوفة ، وإذا كانت معطوفة لم يصح أن تقع جواب شرط . وأيضاً فأرأيتم بمعنى أخبرني تحتاج

" صفحة رقم 166 "
إلى مفعول ، ولا تقع جملة الشرط موقعه .
وتقدم الكلام في قوله : ) بَيَاتًا ( في الأعراف مدلولاً وإعراباً . والمعنى إن أتاكم عذابه وأنتم ساهون غافلون ، مما بنوم وإما باشتغال بالمعاش والكسب ، وهو نظير قوله : ) بَغْتَةً ( لأن العذاب إذا فاجأ من غير شعور به كان أشد وأصعب ، بخلاف أن يكون قد استعد له وتهيىء لحلوله ، وهذا كقوله تعالى : بياتاً وهم نائمون ضحى وهم يلعبون . ويجوز في ماذا أن يكون ما مبتدأ وذا خبره ، وهو بمعنى الذي ، ويستعجل صلته ، وحذف الضمير العائد على الموصول التقدير أي : شيء يستعجله من العذاب المجرمون . ويجوز في ماذا أن يكون كله مفعولاً كأنه قيل : أي شيء يستعجله من العذاب المجرمون . وقد جوز بعضهم أن يكون ماذا كله مبتدأ ، وخبره الجملة بعده . وضعفه أبو عليّ لخلوّ الجملة من ضمير يعود على المبتدأ . والظاهر عود الضمير في منه على العذاب ، وبه يحصل الربط لجملة الاستفهام بمفعول أرأيتم المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل . وقيل : يعود على الله تعالى . والمجرمون هم المخاطبون في قوله : أرأيتم إن أتاكم . ونبه على الوصف الموجب لترك الاستعجال وهو الإجرام ، لأنّ من حق المجرم أنْ يخاف التعذيب على إجرامه ، ويهلك فزعاً من مجيئه وإن أبطأ ، فكيف يستعجله ؟ وثم حرف عطف وتقدمت همزة الاستفهام عليها كما تقدمت على الواو والفاء في : ) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ( وفي ) أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ ( وتقدم الكلام على ذلك . وخلاف الزمخشري للجماعا في دعواه أنّ بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة عطفت عليها الجملة التي بعد حرف العطف . وقال الطبري في قوله : أثم بضم الثاء ، أنّ معناه أهنالك قال : وليست ثم هذه التي تأتي بمعنى العطف انتهى . وما قاله الطبري من أنّ ثم هنا ليست للعطف دعوى ، وأما قوله : إن المعنى أهنالك ، فالذي يبنغي أن يكون ذلك تفسير معنى ، لا أنْ ثم المضمومة الثاء معناها معنى هنالك .
وقرأ طلحة بن مصرّف : أثم بفتح الثاء ، وهذا يناسبه تفسير الطبري أهنالك . وقرأ الجمهور آلآن على الاستفهام بالمد ، وكذا آلآن وقد عصيت . وقرأ طلحة والأعرج : بهمزة الاستفهام بغير مد ، وهو على إضمار القول أي : قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به ، فالناصب لقوله : الآن هو آمنتم به ، وهو محذوف . قيل : تقول لهم ذلك الملائكة . وقيل : الله ، والاستفهام على طريق التوبيخ . وفي كتاب اللوامح عيسى البصري وطلحة : آمنتم به الآن بوصل الهمزة من غير استفهام ، بل على الخبر ، فيكون نصبه على الظرف من آمنتم به المذكور . وأما في العامة فنصبه بفعل مضمر يدل عليه آمنتم به المذكور ، لأن الاستفهام قد أخذ صدر الكلام ، فيمنع ما قبله أن يعمل فيما بعده انتهى . وقد كنتم جملة حالية . قال الزمخشري : وقد كنتم به تستعجلون يعني تكذبون ، لأن استعجالكم كان على جهة التكذيب والإنكار . وقال ابن عطية : تستعجلون مكذبين به .
( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ( : أي تقول لهم خزنة جهنم هذا الكلام . والظلم ظلم الكفر لا ظلم المعصية ، لأنّ من دخل النار من عصاة المؤمنين لا يخلد فيها . وثم قيل عطف على المضمر قبل الآن . ومن قرأ بوصل ألف الآن فهو استئناف إخبار عما يقال لهم يوم القيامة ، وهل تجزون توبيخ لهم وتوضيح أنّ الجزاء هو على كسب العبد .
( وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( : أي يستخبرونك . وأحق هو الضمير عائد على العذاب . وقيل : على الشرع والقرآن . وقيل : على الوعيد ، وقيل : على أمر الساعة ، والجملة في موضع نصب فقال الزمخشري : بيقولون أحق هو فجعل يستنبئونك تتعدى إلى واحد . وقال ابن عطية : معناه يستخبرونك ، وهي على هذا تتعدّى إلى مفعولين : أحدهما الكاف ، والآخر في الابتداء ، والخبر فعلى ما قال : يكون يستنبئونك معلقة . وأصل استنبأ أن يتعدّى إلى مفعولين : أحدهما بعن ، تقول : استنبأت زيداً عن عمرو أي طلبت منه أن ينبئني عن عمرو ، والظاهر أنها معلقة

" صفحة رقم 167 "
عن المفعول الثاني . قال ابن عطية : وقيل هي بمعنى يستعلمونك . قال : فهي على هذا تحتاج إلى مفاعيل ثلاثة : أحدها : الكاف ، والابتداء ، والخبر سد مسد المفعولين انتهى . وليس كما ذكر ، لأنّ استعلم لا يحفظ كونها متعدية إلى مفاعيل ثلاثة ، لا يحفظ استعلمت زيداً عمراً قائماً فتكون جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين ، ولا يلزم من كونها بمعنى يستعلمونك أنْ تتعدى إلى ثلاثة ، لأنّ استعلم لا يتعدّى إلى ثلاثة كما ذكرنا . وارتفع هو على أنه مبتدأ ، وحق خبره . وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون حق مبتدأ وهو فاعلى به سد مسد الخبر ، وحق ليس اسم فاعلى ولا مفعول ، وإنما هو مصدر في الأصل ، ولا يبعد أن يرفع لأنه بمعنى ثابت . وهذا الاستفهام منهم على جهة الاستهزاء والإنكار . وقرأ الأعمش : الحق . قال الزمخشري : وهو أدخل في الاستهزاء لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل ، وذلك أن اللام للجنس ، فكأنه قيل : أهو الحق لا الباطل ، أو أهو الذي سميتموه الحق ؟ انتهى . وأمر تعالى نبيه أن يقول مجيباً لهم : قل إي وربي ، أي نعم وربي . وإي تستعمل في القسم خاصة ، كما تستعمل هل بمعنى قد فيه خاصة . قال معناه الزمخشري قال : وسمعتهم يقولون في التصديق أي ، وفيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده انتهى . ولا حجة فيما سمعه الزمخشري من ذلك لعدم الحجية في كلامه لفساد كلام العرب إذ ذاك وقبله بأزمان كثيرة . وقال ابن عطية : هي لفظة تتقدّم القسم ، وهي بمعنى نعم ، ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء ، تقول : أي ربي أي وربي انتهى . وقد كان يكتفي في الجواب بقوله : أي وربي ، إلا أنه أوكد بإظهار الجملة التي كانت تضمر بعد قوله : ) أَيُّ ( ، مسوقة مؤكدة بأنّ . واللام مبايعة في التوكيد في الجواب ، ولما تضمن قولهم أحق هو السؤال عن العذاب ، وكان سؤالاً عن العذاب اللاحق بهم لا عن مطلق عذاب يقع بمن يقع . قيل : وما أنتم بمعجزين أي فائتين العذاب المسؤول عنه ، بل هو لاحق بكم . واحتملت هذه الجملة أن تكون داخلة في جواب القسم ، فتكون معطوفة على الجواب قبلها . واحتمل أن تكون إخباراً ، معطوفاً على الجملة المقولة لا على جواب القسم . وأعجز الهمزة فيه للتعدية كما قال : ولن نعجزه هرباً ، لكنه كثر فيه حذف المفعول حتى قالت العرب : أعجز فلان إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه ، وقال الزجاج : أي ما أنتم ممن يعجز من يعذبكم .
( وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الاْرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( : ( ولما ذكر العذاب وأقسم على حقيقته ، وأنهم لا يفلتون منه ، ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة . وظلمت صفة لنفس . والظلم الشرك والكفر ، وافتدى يأتي مطاوعاً لفدى ، فلا يتعدى تقول : فديته فافتدى ، وبمعنى فدى فيتعدى ، وهنا يحتمل الوجهين . وما في الأرض أي : ما كان لها في الدنيا من الخزائن والأموال والمنافع ، وأسروا من الأضداد تأتي بمعنى أظهر . قال الفرزدق : ولما رأى الحجاج جرد سيفه
أسر الحروري الذي كان أطهرا
وقال آخر : فأسررت الندامة يوم نادى
برد جمال غاضرة المنادي
وتأتي بمعنى أخفى وهو المشهور فيها كقوله : ) ( ولما ذكر العذاب وأقسم على حقيقته ، وأنهم لا يفلتون منه ، ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة . وظلمت صفة لنفس . والظلم الشرك والكفر ، وافتدى يأتي مطاوعاً لفدى ، فلا يتعدى تقول : فديته فافتدى ، وبمعنى فدى فيتعدى ، وهنا يحتمل الوجهين . وما في الأرض أي : ما كان لها في الدنيا من الخزائن والأموال والمنافع ، وأسروا من الأضداد تأتي بمعنى أظهر . قال الفرزدق : ولما رأى الحجاج جرد سيفه
أسر الحروري الذي كان أطهرا
وقال آخر : فأسررت الندامة يوم نادى
برد جمال غاضرة المنادي
وتأتي بمعنى أخفى وهو المشهور فيها كقوله : ) يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ( ويتمل هنا الوجهين . أما الإظهار فإنه ليس بيوم تصبر ولا تجلد ولا يقدر فيه الكافر على كتمان ما تاله ، ولأنّ حالة رؤية العذاب يتحسر الإنسان على اقترافه ما أوجبه ، ويظهر الندامة على ما فاته من الفوز ومن الخلاص من العذاب ، وقد قالوا : ربنا

" صفحة رقم 168 "
غلبت علينا شقوتنا وأما إخفاء الندامة فقيل : أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم ، وهذا فيه بعد ، لأنّ من عاين العذاب هو مشغول بما يقاسيه منه فكيف له فكر في الحياء وفي التوبيخ الوارد من السفلة . وأيضاً وأسروا عائد على كل نفس ظلمت على المعنى ، وهو عام في الرؤساء والسفقلة . وقيل : إخفاء الندامة هو من كونهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحسبوه ولا خطر ببالهم ، ومعاينتهم ما أوهى قواهم فلم يطيقوا عند ذلك بكاء ولا صراخاً . ولا ما يفعله الجازع سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب ، كما يعرض لمن يقدم للصلب لا يكاد ينبس بكملة ، ويبقى مبهوتاً جامداً . وأما من قال : إن معنى قوله : وأسروا الندامة ، أخلصوا لله في تلك الندامة ، أو بدت بالندامة أسرة وجوههم أي : تكاسير جباههم ففيه بعد عن سياق الآية . والظاهر أنّ قوله : وقضى بينهم بالقسط ، جملة أخبار مستأنفة ، وليست معطوفة على ما في حيز لما ، وأن الضمير في بينهم عائد على كل نفس ظلمت . وقال الزمشري : بين الظالمين والمظلومين دل على ذلك ذكر الظلم انتهى . وقيل : يعود على المؤمن والكافر . وقيل : على الرؤساء والأتباع .
( أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَهُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( : قيل : تعلق هذه الآية بما قبلها من جهة أنه فرض أنّ النفس الظالمة لو كان لها ما في الأرض لافتدت به ، وهي لاشيء لها البتة ، لأنّ جميع الأشياء إنما هي بأسرها ملك لله تعالى ، وهو المتصرف فيها ، إذ له الملك والملك . ويظهر أنّ مناسبتها لما قبلها أنه لما سألوا عما وعدوا به من العذاب أحق هو ؟ وأجيبوا بأنه حق لا محالة ، وكان ذلك جواباً كافياً لمن وفقه الله تعالى للإيمان ، كما كان جواباً للأعرابي حين سأل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) : آلله أرسلك ؟ قوله عليه السلام : ( اللهم نعم ) فقنع منه بإخباره ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذ علم أنه لا يقول إلا الحق والصدق ، كما قال هرقل : لم يكن ليدع الكذب على الناس . ويكذب على الله انتقل من هذا الجواب إلى ذكر البرهان القاطع على حجته . وتقريره بأن القول بالنبوة والمعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم ، وأنّ ما سواه فهو ملكه وملكته ؟ وعن هذا بهذه الآية ، وكان قد استقصى الدلائل على ذلك في هذه السورة في قوله : ) إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( الآية وقوله : ) هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء ( فاكتفى هنا عن ذكرها . وإذا كان جميع ما في العالم ملكه ، وملكه كان قادراً على كل الممكنات ، عالماً بكل المعلومات ، غنياً عن جميع الحاجات ، منزهاً عن النقائص والآفات ، وبكونه قادراً على الممكنات كان قادراً على إنزال العذاب على الكفار في الدنيا والآخرة ، وقادراً على تأييد رسوله بالدلائل وإعلاء دينه ، فبطل الاستهزاء والتعجيز . وبتنزيهه عن النقائص كان منزهاً عن الخلف والكذب ، فثبت أن قوله : إلا أن لله ما في السموات والأرض مقدمة توجب الجزم بصحة قوله . ألا إن وعد الله حق . وألا كلمة تنبيه دخلت على الجملتين تنبيهاً للغافل ، إذ كانوا مشغولين بالنظر إلى الأسباب الظاهرة من نسبة أشياء إلى أنها مملوكة لمن جعل له بعض تصرف فيها واستخلاف ، ولذلك قال تعالى : ولكن أكثرهم لا يعلمون يعني : لغفلتهم عن هذه الدئل ، ثم أتبع ذلك بذكر قدرته على الإحياء والإماتة . فيجب أن يكون قادراً على إحيائه مرة ثانية ، ولذلك قال : وإليه ترجعون ، فترون ما وعد به . وقرأ الحسن بخلاف عنه ، وعيسى ابن عمر : يرجعون بالياء على الغيبة . وقرأ الجمهور : بالتاء على الخطاب .
( تُرْجَعُونَ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ( : قيل : نزلت في قريش الذين سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أحق ؟ هو فالناس هم كفار قريش . وقال ابن عطية : هو خطاب لجميع العالم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ، ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدّي

" صفحة رقم 169 "
إليها وهو القرآن ، والمتصف بهذه الأوصاف الشريفة هو القرآن . قال الزمخشري : أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد ، هو شفاء أي : دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة ، ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم انتهى . ومن ربكم يحتمل أن يتعلق بجاءتكم ، فمن لابتداء الغاية . ويحتمل أن يكون في موضع الصفة أي : من مواعظ ربكم ، فتتعلق بمحذوف ، فمن للتبعيض . وفي قوله : من ربكم تنبيه على أنه من عند الله ليس من عند أحد . قال ابن عطية : وجعله موعظة بحسب الناس أجمع ، وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين ، وهذا تقسيم صحيح المعنى إذا تؤوّل بأن وجهه انتهى . وذكر أبو عبد الله الرازي هنا كلاماً كثيراً ممزوجاً بما يسمونه حكمة ، نعلم قطعاً أنّ العرب لا تفهم ذلك الذي قرره من ألفاظ القرآن ، وطوّل في ذلك ، وضرب أمثلة حسية يوقف عليها من تفسيره ، ثم قال آخر كلامه : فالحاصل أنّ الموعظة إشارة إل تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة ، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الريقة ، والهدى إشارة إل ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة ، والرحمة إشارة إل كونها بالغة في الكمال ، والإشراق إل حيث تصير تكمل الناقصين وهي النبوّة . فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية ، لا يمكن تأخر ما تقدّم ذكره ، ولا تقدم ما تأخر ذكره .
( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ ( : قال الزمخشري عن أبيّ بن كعب : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قرأ : قل بفضل الله وبرحمته فقال : ) بِكِتَابٍ اللَّهِ ( فضله الإسلام ، ورحمته ما وعد عليه انتهى . ولو صح هذا الحديث لم يمكن خلافه . قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وهلال بن يساف : فضل الله الإسلام ، ورحمته القرآن . وقال الضحاك وزيد بن أسلم عكس هذا ، وقال أبو سعيد الخدري : الفضل القرآن ، والرحمة أن جعلهم من أهله . وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه : الفضل العلم والرحمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن عمر : الفضل الإسلام ، والرحمة تزيينه في القلوب . وقال مجاهد : الفضل والرحمة القرآن ، واختاره الزجاج . وقال خالد بن معدان : الفضل القرآن ، والرحمة السنة . وعنه أيضاً أنّ الفضل الإسلام ، والرحمة الستر . وقال عمرو بن عثمان : فضل الله كشف الغطاء ، ورحمته الرؤية واللقاء . وقال الحسين بن فضل : الفضل الإيمان ، والرحمة الجنة . وقيل : الفضل التوفيق ، والرحمة العصمة . وقيل : الفضل نعمه الظاهرة ، والرحمة نعمه الباطنة . وقال الصادق : الفضل المغفرة ، والرحمة التوفيق . وقال ذون النون : الفضل الجنان ، ورحمته النجاة من النيران . وهذه تخصيصات تحتاج إلى دلائل ، وينبغي أن يعتقد أنها تمثيلات ، لأن الفضل والرحمة أريد بهما تعيين ما ذكر وحصرهما فيه .
وقال ابن عطية : وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه أنّ الفضل هو هداية الله إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع ، والرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على اتباع الإسلام والإيمان . ومعنى الآية : قل يا محمد لجميع الناس بفضل الله وبرحمته فليقع الفرح منكم ، لا بأمور الدنيا وما يجمع من حطامها ، فالمؤمنون يقال لهم : فليفرحوا وهم ملتبسون بعلة الفرح وسببه ، ومخلصون لفضل الله منتظرون لرحمته ، والكافرون يقال لهم : بفضل الله ورحمته فليفرحوا على معنى أنْ لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك انتهى . والظاهر أن قوله : قل بفضل الله وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا جملتان ، وحذف ما تتعلق به الباء والتقدير : قل بفضل الله وبرحمته ليفرحوا ، ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى على سبيل التوكيد . قال الزمخشري : والتكرير للتقرير والتأكيد ، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه ، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح ، فإنه لا مفروح به أحق منهما . ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا بذلك ، فليفرحوا . ويجوز أنْ يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي : فمجيئهما فليفرحوا انتهى . أما إضمار

" صفحة رقم 170 "
فليعنتوا فلا دليل عليه ، وأما تعليقه بقوله : قد جاءتكم ، فينبغي أن يقدر ذلك محذوفاً بعد قل ، ولا يكون متعلقاً بجاءتكم الأولى للفصل بينهما بقل . وقال الحوفي : الباء متعلقة بما دل على المعنى أي : قد جاءتكم الموعظة بفضل الله . وقيل : الفاء الأولى زائدة ، ويكون بذلك بدلاً قبله ، وأشير به إلى الاثنين الفضل والرحمة . وقيل : كررت الفاء الثانية للتوكيد ، فعلى هذا لا تكون الأولى زائدة ، ويكون أصل التركيب فبذلك ليفرحوا ، وفي القول قبله يكون أصل التركيب بذلك فليفرحوا ، ولا تنافي بين الأمر بالفرح هنا وبين النهي عنه في قوله : ) قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( لاختلاف المتعلق ، فالمأمور به هنا الفرح بفضل الله وبرحمته ، والمنهى هناك الفرح بجمع الأموال لرئاسة الدنيا وإرادة العلو بها والفساد والأشر ، ولذلك جاء بعده : ) وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ( وقبله : ) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ( وقوله : ) لَفَرِحٌ فَخُورٌ ( جاء ذلك على سبيل الذم لفرحه بإذاقة النعماء بعد الضراء ، وبأسه وكفرانه للنعماء إذا نزعت منه ، وهذه صفة مذمومة ، وليس ذلك من أفعال الآخرة . وقول من قال : إذا أطلق الفرح كان مذموماً ، وإذا قيد لم يكن مذموماً كما قال : ) فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( ليس بمطرد ، إذ جاء مقيداً في الذم في قوله تعالى : ) حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ( وإنما يمدح الفرح ويذم بحسب متعلقه ، فإذا كان بنيل ثواب الآخرة وإعمال البر كان محموداً ، وإذا كان بنيل لذات الدنيا وحطامها كان مذموماً .
وقرأ عثمان بن عفان ، وأبيّ ، وأنس ، والحسن ، وأبو رجاء ، وابن هرمز ، وابن سيرين ، وأبو جعفر المدني ، والسلمي ، وقتادة ، والجحدري ، وهلال بن يساف ، والأعمش ، وعمرو بن قائد ، والعباس بن الفضل الأنصاري : فلتفرحوا بالتاء على الخطاب ، ورويت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال صاحب اللوامح : وقال وقد جاء عن يعقوب كذلك ، انتهى . وقال ابن عطية : وقرأ أبي وابن القعقاع ، وابن عامر ، والحسن : على ما زعم هارون . ورويت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فلتفرحوا وتجمعون بالتاء فيهما على المخاطبة ، وهي قراءة جماعة من السلف كثيرة ، وعن أكثرهم خلاف انتهى . والجمهور بالياء على أمر الغائب . وما نقله ابن عطية أن ابن عامر قرأ فلتفرحوا بالتاء ليس هو المشهور عنه ، إنما قراءته في مشهور السبعة بالياء أمراً للغائب ، لكنه قرأ تجمعون بالتاء على الخطاب ، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب . وفي مصحف أبي : فبذلك فافرحوا ، وهذه هي اللغة الكثيرة الشهيرة في أمر المخاطب . وأما فليفرحوا بالياء فهي لغة قليلة . وفي الحديث : ) لتأخذوا مصافكم ( وقرأ أبو التياح والحسن : فليفرحوا بكسر اللام ، ويدل على أنّ ذلك أشير به إلى واحد عود الضمير عليه موحداً في قوله : هو خير مما يجمعون ، فالذي ينبغي أنّ قوله تعالى : بفضل الله وبرحمته ، على أنهما شيء واحد عبر عنه باسمين على سبيل التأكيد ، ولذلك أشير إليه بذلك ، وعاد الضمير عليه مفرداً . وقوله : مما يجمعون يعني من حطام الدنيا ومتاعها .
( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ اللَّهِ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ( : مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر تعالى : ) تُرْجَعُونَ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ ( وكان المراد بذلك كتاب الله المشتمل على التحليل والتحريم ، بيّن فساد شرائعهم وأحكامهم من الحلال والحرام من غير مستند في ذلك إلى وحْي . وأرأيتم هنا بمعنى أخبروني . وجوزوا في ما أنزل أن تكون موصولة مفعولاً أولا لأرأيتم ، والعائد عليها محذوف ، والمفعول الثاني قوله : آلله أذن لكم ، والعائد على المبتدأ من الخبر محذوف تقديره : آلله أذن لكم فيه ، وكرر قلْ قبل الخبر على سبيل التوكيد . وأن تكون ما استفهامية منصوبة بأنزل قاله : الحوفي والزمخشري . وقيل : ما استفهامية مبتدأة ، والضمير من الخبر محذوف تقديره : آلله أذن لكم

" صفحة رقم 171 "
فيه أو به ، وهذا ضعيف لحذف هذا العائد . وجعل ما موصولة هو الوجه ، لأن فيه إبقاء . أرأيت على بابها من كونها تتعدى إلى الأول فتؤثر فيه ، بخلاف جعلها استفهامية ، فإنْ أرأيت إذ ذاك تكون معلقة ، ويكون ما قد سدّت مسد المفعولين ، والظاهر أنّ أم متصلة والمعنى : أخبروني آلله إذن لكم في التحليل والتحريم ، فأنتم تفعلون ذلك بأذنه أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه ؟ فنبه بتوقيفهم على أحد القسمين ، وهم لا يمكنهم ادعاء إذن الله في ذلك فثبت افتراؤهم . وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار ، وأم منقطعة بمعنى بل ، أتفترون على الله تقريراً للافتراء انتهى ، وأنزل هنا قيل معناه : خلق كقوله : ) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( ) وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ ). وقيل : أنزل على بابها وهو على حذف مضاف أي : من سبب رزق وهو المطر . وقال ابن عطية : أنزل لفظة فيها تجوز ، وإنزال الرزق إما أن يكون في ضمن إنزال المطر بالمآل ، ونزول الأمر به الذي هو ظهور الأثر في المخلوق منه المخترع والمجعول حراماً وحلالاً . قال مجاهد : هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وقال الضحاك : هو إشارة إلى قوله : ) وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاْنْعَامِ نَصِيباً ).
) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ ( : ما استفهامية مبتدأة خبرها ظن ، والمعنى : أي شي ظن المفترين يوم القيامة ، أبهم الأمر على سبيل التهديد ، والإبعاد يوم يكون الجزاء بالإحسان والإساءة . ويوم منصوب بظن ، ومعمول الظن قيل : تقدير ما ظنهم أّن الله فاعل بهم ، أينجيهم أم يعذبهم . وقرأ عيسى بن عمرو : ما ظن جعله فعلاً ماضياً أي أي ظن الذين يفترون ، فما في موضع نصب على المصدر ، وما الاستفهامية قد تنوب عن المصدر تقول : ما تضرب زيداً تريد أي : رب تضرب زيداً .
وقال الشاعر : ماذا يغير ابنتي ريع عويلهما
لا يرقدان ولا بؤسي لمن رقدا
وجيء بلفظ ظنّ ماضياً لأنه كائن لا محالة فكأن قد كان ، والأولى أن يكون ظن في معنى يظن ، لكونه عاملاً في يوم القيامة . وهو ظرف مستقبل ، وفضله تعالى على الناس حيث أنعم عليهم ورحمهم ، فأرسل إليهم الرسل ، وفصل لهم الحلال والحرام ، وأثرهم لا يشكر هذه النعمة .
( وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ ( : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم والرد عليهم ، ومحاورة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لهم ، وذكر فضله تعالى على الناس وأن أكثرهم لا يشكره على فضله ، ذكر تعالى اطلاعه على أحوالهم وحال الرسول معهم في مجاهدته لهم ، وتلاوة القرآن عليهم ، وأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم ، واستطرد من ذلك إلى ذكر أولياء الله تعالى ، ليظهر التفاوت بين الفريقين فريق الشيطان وفريق الرحمن . والخطاب في قوله تعالى : وما تكون في شأن ، وما تتلوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو عام بجميع شؤونه عليه السلام . وما تتلوا مندرج تحت عموم شأن ، واندرج من حيث المعنى في الخطاب كل ذي شأن . وما في الجملتين نافية ، والضمير في منه عائد على شأن ، ومن قرآن تفسير للضمير ، وخص من العموم لأنّ القرآن هو أعظم شؤونه عليه السلام . وقيل : يعود على التنزيل ، وفسر بالقرآن لأنّ كل جزء منه قرآن ، وأضمر قبل الذكر على سبيل التفخيم له . وقيل : يعود على الله تعالى أي : وما تتلوا من عند الله من قرآن . والخطاب في قوله : ولا تعملون عام ، وكذا إلا كنا عليكم شهوداً . وولى إلا هنا الفعل غير مصحوب بقد ، لأنه قد تقدم الأفعل . والجملة بعد إلا حال وشهوداً رقباء نحصي عليكم ، وإذ معمولة لقوله : شهوداً . ولما كانت الأفعال السابقة المراد بها الحالة الدائمة وتنسحب على الأفعال الماضية كان الظرف ماضياً ، وكان المعنى : وما كنت في شأن وما تلوت من قرآن

" صفحة رقم 172 "
ولا عملتم من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ أفضتم فيه . وإذ تخلص المضارع لمعنى الماضي ، ولما كان قوله : إلا كنا عليكم شهوداً فيه تحذير وتنبيه عدل عن خطابه ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى خطاب أمته بقوله : ولا تعملون من عمل ، وإن كان الله شهيداً على أعمال الخلق كلهم . وتفيضون : تخوضون ، أو تنشرون ، أو تدفعون ، أو تنهضون ، أو تأخذون ، أو تنقلون ، أو تتكلمون ، أو تسعون ، أقوال متقاربة ثم واجهه تعالى بالخطاب وحده في قوله : وما يعزب عن ربك ، تشريفاً له وتعظيماً . ولما ذكر شهادته تعالى على أعمال الخلق ناسب تقديم الأرض الذي هي محل المخاطبين على السماء ، بخلاف ما في سورة سبأ ، وإن كان الأكثر تقديمها على الأرض .
وقرأ ابن وثاب ، والأعمش ، وابن مصرف ، والكسائي ، يعزب بكسر الزاي ، وكذا في سبأ . والمثقال اسم لا صفة ، ومعناه هنا وزن ذرة . والذر صغار النمل ، ولما كانت الذرة أصغر الحيوان المتناسل المشهور النوع عندنا جعلها الله مثالاً لأقل الأشياء وأحقرها ، إذ هي أحقر ما نشاهد . ثم قال : ولا أصغر من ذلك أي : من مثقال ذرة . ولما ذكر تعالى أنه لا يغيب عن علمه أدق الأشياء التي نشاهدها ، ناسب تقديم ولا أصغر من ذلك ، ثم أتى بقوله : ولا أكبر ، على سبيل إحاطة علمه بجميع الأشياء . ومعلوم أنّ من علم أدق الأشياء وأخفاها كان علمه متعلقاً بأكبر الأشياء وأظهرها . وقرأ الجمهور : لا أصغر من ذلك ولا أكبر بفتح الراء فيهما ، ووجه على أنه عطف على ذرة أو على مثقال على اللفظ . وقرأ حمزة وحده : برفع الراء فيهما ، ووجه على أنه عطف على موضع مثقال لأن من زائدة فهو مرفوع بيعزب ، هكذا وجهه الحوفي وابن عطية وأبو البقاء . وقال الزمخشري نابعاً لاختيار الزجاج : والوجه النصب على نفي الجنس ، والرفع على الابتداء ، يكون كلاماً مبتدأ . وفي العطف عل محل مثقال ذرة أو لفظه فتحاً في موضع الجر أشكال ، لأنّ قولك : لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب مشكل انتهى . وإنما أشكل عنده ، لأنّ التقدير يصير إلا في كتاب فيعزب ، وهذا كلام لا يصح . وخرجه أبو البقاء على أنه استثناء منقطع تقديره : لكن هو في كتاب مبين ، ويزول بهذا التقدير الإشكال . وقال أبو عبد الله الرازي : أجاب بعض المحققين من وجهين : أحدهما : أنّ الاستثناء منقطع ، والآخر أنّ العزوب عبارة عن مطلق البعد ، والمخلوقات قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسموات والأرض ، وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد ، وهذا قد يتباعد في سلسلة العلية والمملوكية عن مرتبة وجود واجب الوجود ، فالمعنى : لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين ، كتبه الله ، وأثبت صور تلك المعلومات فيها انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وقال الجرجاني صاحب النظم : إلا بمعنى الواو أي : وهو في كتاب مبين . والعرب تضع إلاّ موضع واو النسق كقوله : ) إَلاَّ مَن ظَلَمَ ( إلا الذين ظلموا منهم ( انتهى . وهذا قول ضعيف لم يثبت من لسان العرب وضع إلا موضع الواو ، وتقدم الكلام على قوله : ) ( انتهى . وهذا قول ضعيف لم يثبت من لسان العرب وضع إلا موضع الواو ، وتقدم الكلام على قوله : ) إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ( وسيأتي على قوله : إلا من ظلم إن شاء الله تعالى .
( ) أَلاإِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاٌّ خِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلاإِنَّ للَّهِ مَن فِى السَّمَاوَات وَمَنْ فِى الاٌّ رْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَات وَمَا فِى الاٌّ رْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَاذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ ( )
) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (

" صفحة رقم 173 "
أولياء الله هم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة . وقد فسر ذلك في قوله : ) الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ( وعن سعيد بن جبير : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) سئل عن أولياء الله فقال : ) هُمُ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ ( يعني السمت والهيئة . وعن ابن عباس : الإخبات والسكينة . وقيل : هم المتحابون في الله . قال ابن عطية : وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى فهو داخل في أولياء الله ، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي ، وإنما نبهنا هذا التنبيه حذراً من مذهب الصوفية وبعض الملحدين في الولي انتهى . وإنما قال : حذراً من مذهب الصوفية ، لأن بعضهم نقل عنه أنّ الولي أفضل من النبي ، وهذا لا يكاد يخطر في قلب مسلم . ولابن العربي الطائي كلام في الولي وفي غيره نعوذ بالله منه . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( إنّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله ) قالوا : يا رسول الله ومن هم ؟ قال : ( قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إنّ وجوههم لتنور ، وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ، ثم قرأ : ألا إن أولياء الله ) الآية وتقدم تفسير لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين يحتمل أن يكون منصوباً على الصفة قاله الزمخشري ، أو على البدل قاله ابن عطية ، أو بإضمار أمدح ، ومرفوعاً على إضمارهم ، أو على الابتداء ، والخبر لهم البشرى . وأجاز الكوفيون رفعه على موضع أولياء نعتاً ، أو بدلاً ، وأجيز فيه الخبر بدلاً من ضمير عليهم . وفي قوله : وكانوا يتقون ، إشعار بمصاحبتهم للتقوى مدة حياتهم ، فحالهم في المستقبل كحالهم في الماضي . وبشراهم في الحياة الدنيا تظاهرت الروايات عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( أنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن ) أو ( ترى له ) فسرها بذلك وقد سئل . وعنه في صحيح مسلم : ( لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة ) وقال قتادة والضحاك : هي ما يبشر به المؤمن عند موته وهو حي عند المعاينة . وقيل : هي محبة الناس له ، والذكر الحسن . وسئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس : فقال : ( تلك عاجل بشرى المؤمن ) وعن عطاء : لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة . قال تعالى : ) اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةُ ( الآية قال ابن عطية : ويصح أن تكون بشرى الدنيا في القرآن من الآيات المبشرات ، ويقوي ذلك قوله في هذه الآية : لا تبديل لكلمات الله ، وإن كان ذلك كله يعارضه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( هي الرؤيا ) إلا إن قلنا : إنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أعطى مثالاً من البشرى وهي تعم جميع البشر . وبشراهم في الآخرة تلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالنور والكرامة ، وما يرون من بياض وجوههم ، وإعطاء الصحف بأيمانهم ، وما يقرؤون منها ، وغير ذلك من البشارات . لا تبديل لكلمات الله ، لا تغيير لأقواله ، ولا خلف في مواعيده كقوله : ) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ ( والظاهر أنّ ذلك إشارة إلى التبشير والبشرى في معناه . قال الزمخشري : وذلك إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين . وقال ابن عطية : إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى .
( وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الاْرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ( :

" صفحة رقم 174 "
إما أن يكون قولهم أريد به بعض أفراده وهو التكذيب والتهديد وما يتشاورون به في أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فيكون من إطلاق العام وأريد به الخاص . وإما أن يكون مما حذفت منه الصفة المخصصة أي : قولهم الدال على تكذيبك ومعاندتك ، ثم استأنف بقوله : إنّ العزة لله جميعاً أي : لا عزة لهم ولا منعة ، فهم لا يقدرون لك على شيء ولا يؤذونك ، إن الغلبة والقهر لله ، وهو القادر على الانتقام منهم ، فلا يعازه شيء ولا يغالبه . وكأنّ قائلاً قال : لم لا يحزنه قولهم وهو مما يحزن ؟ فقيل : إنّ العزة لله جميعاً ، ليس لهم منها شيء . وقرأ أبو حيوة : أنّ العزة بفتح الهمزة وليس معمولاً لقولهم : لأن ذلك لا يحزن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ هو قول حق . وخرجت هذه القراءة على التعليل أي : لا يقع منك حزن لما يقولون ، لأجل أنّ العزة لله جميعاً . ووجهت أيضاً على أن يكون إنّ العزة بدل من قولهم ولا يظهر هذا التوجيه .
قال الزمخشري : ومن جعله بدلاً من قولهم ثم أنكره ، فالمنكر هو تخريجه لا ما أنكره من القرآن . وقال القاضي : فتحها شاذ يقارب الكفر ، وإذا كسرت كان استئنافاً ، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب . وقال ابن قتيبة : لا يجوز فتح إن في هذا الموضع وهو كفر وغلو ، وإنما قال القاضي وابن قتيبة بناء منهما على أن أن معمولة لقولهم ، وقد ذكرنا توجيه ذلك على التعليل وهو توجيه صحيح . هو السميع لما يقولون ، العليم لما يريدون .
وفي هذه الآية تأمين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من إضرار الكفار ، وأن الله تعالى يديه عليهم وينصره . ) كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( ) إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ( وقال الأصم : كانوا يتعززون بكثرة خدمهم وأموالهم ، فأخبر أنه قادر على أن يسلب منهم ملك الأشياء ، وأن ينصرك وينقل إليك أموالهم وديارهم انتهى . ولا تضاد بين قوله : إن العزة لله جميعاً ، وقوله : ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( لأكن عزتهم إنما هي بالله ، فهي كلها لله . ) أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ( وما يبتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ).
المناسبة ظاهرة في هذه الآية لما ذكرأن العزة له تعالى وهي القهر والغلبة ، ذكر ما يناسب القهر وهو كون المخلوقات ملكاً له تعالى ، ومن الأصل فيها أن تكون للعقلاء ، وهنا هي شاملة لهم ولغيرهم على حكم التغليب ، وحيث جيء بما كان تغليباً للكثرة إذ أكثر المخلوقات لا تعقل . وقال الزمخشري : يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان ، وإنما خصهم ليؤذن أنّ هؤلاء إذا كانوا له في ملكه فهم عبيد كلهم ، لا يصلح أحد منهم للربوبية ، ولا أن يكون شريكاً فيها ، فما دونهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون نداً وشريكاً . ويدل على أنّ من اتخذ غيره رباً من ملك أو إنسي فضلاً عن صنم أو غير ذلك ، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر . والظاهر أنّ ما نافية ، وشركاء مفعول يتبع ، ومفعول يدعون محذوف لفهم المعنى تقديره : آلهة أو شركاء أي : أنّ الذين جعلوهم آلهة وأشركوهم مع الله في الربوبية ليسوا شركاء حقيقة ، إذ الشركة في الألوهية مستحيلة ، وإن كانوا قد أطلقوا عليهم اسم الشركاء . وجوزوا أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بيتبع ، وشركاء منصوب بيدعون أي : وأي شيء يتبع على تحقير المتبع ، كأنه قيل : من يدعو شريكاً لله لا يتبع شيئاً . وأجاز الزمخشري أن تكون ما موصولة عطفاً على من ، والعائد محذوف أي : والذي يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي : وله شركاؤهم . وأجاز غيره أن تكون ما موصولة في موضع رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والذي يتبعه المشركون باطل . وقرأ السلمي : تدعون بالتاء على الخطاب . قال ابن عطية : وهي قراءة غير متجهة . وقال الزمخشري : وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه تدعون بالتاء ، ووجهه أن يحمل وما يتبع على الاستفهام أي : وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، يعني : أنهم يبتعون الله تعالى ويطيعونه ، فما لكم لا تفعلون مثل كقوله تعالى : ) ).
المناسبة ظاهرة في هذه الآية لما ذكرأن العزة له تعالى وهي القهر والغلبة ، ذكر ما يناسب القهر وهو كون المخلوقات ملكاً له تعالى ، ومن الأصل فيها أن تكون للعقلاء ، وهنا هي شاملة لهم ولغيرهم على حكم التغليب ، وحيث جيء بما كان تغليباً للكثرة إذ أكثر المخلوقات لا تعقل . وقال الزمخشري : يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان ، وإنما خصهم ليؤذن أنّ هؤلاء إذا كانوا له في ملكه فهم عبيد كلهم ، لا يصلح أحد منهم للربوبية ، ولا أن يكون شريكاً فيها ، فما دونهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون نداً وشريكاً . ويدل على أنّ من اتخذ غيره رباً من ملك أو إنسي فضلاً عن صنم أو غير ذلك ، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر . والظاهر أنّ ما نافية ، وشركاء مفعول يتبع ، ومفعول يدعون محذوف لفهم المعنى تقديره : آلهة أو شركاء أي : أنّ الذين جعلوهم آلهة وأشركوهم مع الله في الربوبية ليسوا شركاء حقيقة ، إذ الشركة في الألوهية مستحيلة ، وإن كانوا قد أطلقوا عليهم اسم الشركاء . وجوزوا أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بيتبع ، وشركاء منصوب بيدعون أي : وأي شيء يتبع على تحقير المتبع ، كأنه قيل : من يدعو شريكاً لله لا يتبع شيئاً . وأجاز الزمخشري أن تكون ما موصولة عطفاً على من ، والعائد محذوف أي : والذي يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي : وله شركاؤهم . وأجاز غيره أن تكون ما موصولة في موضع رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والذي يتبعه المشركون باطل . وقرأ السلمي : تدعون بالتاء على الخطاب . قال ابن عطية : وهي قراءة غير متجهة . وقال الزمخشري : وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه تدعون بالتاء ، ووجهه أن يحمل وما يتبع على الاستفهام أي : وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، يعني : أنهم يبتعون الله تعالى ويطيعونه ، فما لكم لا تفعلون مثل كقوله تعالى : ) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ ( انتهى . وأنّ نافية أي : ما يتبعون إلا ظنهم أنهم شركاء . ويخرصون : يقدرون . ومن قرأ تدعون بالتاء كان

" صفحة رقم 175 "
قوله : إن يتبعون التفاتاً ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة .
( هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( : هذا تنبيه منه تعالى على عظيم قدرته وشمول نعمته لعباده ، فهو المستحق لأنْ يفرد بالعبادة لتسكنوا فيه مما تقاسون من الحركة والتردّد في طلب المعاش وغيره بالنهار ، وأضاف الأبصار إلى النهار مجازاً ، لأن الأبصار تقع فيه كما قال :
ونمت وما ليل المطيّ بنائم
أي : يبصرون فيه مطالب معايشهم . وقال قطرب : يقال أظلم الليل صار ذا ظلمة ، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر انتهى . وذكر علة خلق الليل وهي قوله : لتسكنوا فيه ، وحذفها من النهار ، وذكر وصف النهار وحذفه من الليل ، وكل من المحذوف يدل على مقابله ، والتقدير : جعل الليل مظلماً لتسكنوا فيه ، والنهار مبصراً لتحركوا فيه في مكاسبكم وما تحتاجون إليه بالحركة ، ومعنى تسمعون : سماع معتبر .
قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون . قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون . متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ( : الضمير في قالوا عائد على من نسب إلى الله الولد ، ممن قال الملائكة بنات الله ، أو عزير ابن الله ، أو المسيح ابن الله ، وسبحانه : تنزيه من اتخاذ الولد وتعجب ممن يقول ذلك ، هو الغني علة لنفي الولد ، لأنّ اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه ، والله تعالى غير محتاج إلى شيء ، فالولد منتف عنه ، وكل ما في السموات والأرض ملكه فهو غني عن اتخاذ الولد . وأنْ نافية ، والسلطان الحجة أي : ما عندكم من حجة بهذا القول . قال الحوفي : وبهذا متعلق بمعنى الاستقرار يعني : الذي تعلق به الظرف . وتبعه الزمخشري فقال : الباء حقها أن تتعلق بقوله : إن عندكم على أن يجعل القول مكاناً للسلطان كقولك : ما عندكم بأرضكم نور ، كأنه قيل : إنّ عندكم فيما تقولون سلطان . وقال أبو البقاء : وبهذا متعلق بسلطان أو نعت له ، وأتقولون استفهام إنكار وتوبيخ لمن اتبع ما لا يعلم ، ويحتج بذلك في إبطال التقليد في أصول الدين ، واستدل بها نفاة القياس وإخبار الآحاد . ولما نفى البرهان عنهم جعلهم غير عالمين ، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله فذلك جهل وليس بعلم . والذين يفترون على الله الكذب عام يشمل من نسب إلى الله الولد ، ومن قال في الله وفي صفاته قولاً بغير علم وهو داخل في الوعيد بانتفاء الإفلاح ، ولما نفى عنهم الفلاح وكان لهم حظ من إفلاحهم في الدنيا لحظوظ فيها من مال وجاه وغير ذلك قيل : متاع قليل جواب على تقدير سؤال ، كان قائلاً قال : كيف لا يفلحون وهم في الدنيا مفلحون بأنواع مما يتلذذون به ، فقيل : ذلك متاع في الدنيا ، أو لهم متاع في الدنيا زائل لا بقاء له ، ثم يلقون الشقاء المؤبد في الآخرة .
2 ( ) ( : الضمير في قالوا عائد على من نسب إلى الله الولد ، ممن قال الملائكة بنات الله ، أو عزير ابن الله ، أو المسيح ابن الله ، وسبحانه : تنزيه من اتخاذ الولد وتعجب ممن يقول ذلك ، هو الغني علة لنفي الولد ، لأنّ اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه ، والله تعالى غير محتاج إلى شيء ، فالولد منتف عنه ، وكل ما في السموات والأرض ملكه فهو غني عن اتخاذ الولد . وأنْ نافية ، والسلطان الحجة أي : ما عندكم من حجة بهذا القول . قال الحوفي : وبهذا متعلق بمعنى الاستقرار يعني : الذي تعلق به الظرف . وتبعه الزمخشري فقال : الباء حقها أن تتعلق بقوله : إن عندكم على أن يجعل القول مكاناً للسلطان كقولك : ما عندكم بأرضكم نور ، كأنه قيل : إنّ عندكم فيما تقولون سلطان . وقال أبو البقاء : وبهذا متعلق بسلطان أو نعت له ، وأتقولون استفهام إنكار وتوبيخ لمن اتبع ما لا يعلم ، ويحتج بذلك في إبطال التقليد في أصول الدين ، واستدل بها نفاة القياس وإخبار الآحاد . ولما نفى البرهان عنهم جعلهم غير عالمين ، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله فذلك جهل وليس بعلم . والذين يفترون على الله الكذب عام يشمل من نسب إلى الله الولد ، ومن قال في الله وفي صفاته قولاً بغير علم وهو داخل في الوعيد بانتفاء الإفلاح ، ولما نفى عنهم الفلاح وكان لهم حظ من إفلاحهم في الدنيا لحظوظ فيها من مال وجاه وغير ذلك قيل : متاع قليل جواب على تقدير سؤال ، كان قائلاً قال : كيف لا يفلحون وهم في الدنيا مفلحون بأنواع مما يتلذذون به ، فقيل : ذلك متاع في الدنيا ، أو لهم متاع في الدنيا زائل لا بقاء له ، ثم يلقون الشقاء المؤبد في الآخرة .
( ) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَاذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الاٌّ رْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِى بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فَمَآ ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الاٌّ رْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( )

" صفحة رقم 176 "
يونس : ( 75 ) ثم بعثنا من . . . . .
176
لفت عنقه لوها وصرفها . وقال الأزهري : لفت الشيء وقتله لواه ، وهذا من المقلوب انتهى . ومطاوع لفت التفت ، وقيل : انفتل .
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ قَوْمٍ أَن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ( : لما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته ، وذكر ما جرى بين الرسول وبين الكفار ، ذكر قصصاً من قصص الأنبياء وما جرى هم مع قومهم من الخلاف وذلك تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وليتأسى بمن قبله من الأنبياء فيخف عليه ما يلقى منهم من التكذيب وقلة الاتباع ، وليعلم المتلوّ عليهم هذا القصص عاقبة من كذب الأنبياء ، وما منح الله نبيه من العلم بهذا القصص وهو لم يطالع كتاباً ولا صحب عالماً ، وأنها طبق ما أخبر به . فدل ذلك على أن الله أوحاه إليه وأعلمه به ، وأنه نبي لا شك فيه . والضمير في عليهم عائد على أهل مكة الذين تقدم ذكرهم . وكبر معناه عظم مقامي أي : طول مقامي فيكم ، أو قيامي للوعظ . كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً ليروه وهم قعود ، وكقيام الخطيب ليسمع الناس وليروه ، أو نسب ذلك إلى مقامه والمراد نفسه كما تقول : فعلت كذا لمكان فلان ، وفلان ثقيل الظل تريد لأجل فلان وفلان ثقيل . قال ابن عطية : ولم يقرأ هنا بضم الميم انتهى . وليس كما ذكر ، بل قرأ مقامي بضم الميم أبو مجلز وأبو رجاء وأبو الجوزاء . والمقام الإقامة بالمكان ، والمقام مكان القيام . والتذكير وعظه إياهم وزجرهم عن المعاصي ، وجواب الشرط محذوف تقديره : فافعلوا ما شئتم . وقيل : الجواب فعلى الله توكلت . وفأجمعوا معطوف على الجواب ، وهو لا يظهر لأنه متوكل على الله دائماً . وقال الأكثرون

" صفحة رقم 177 "
الجواب فأجمعوا ، وفعلى الله توكلت جملة اعتراض بين الشرط وجزائه كقوله : أما تريني قد نحلت ومن يكن
غرضاً لأطراف الأسنة ينحل فلرب أبلج مثل ثقلك بادن ضخم على ظهر الجواد مهبل
وقرأ الجمهور : فأجمعوا من أجمع الرجل الشيء عزم عليه ونواه . قال الشاعر : أجمعوا أمرهم بليل فلما
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
وقال آخر : يا ليت شعري والمنى لا تنفع
هل أعذرت يوماً وأمري مجمع
وقال أبو قيد السدوسي : أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه . وقال أبو الهيثم : أجمع أمره جعله مجموعاً بعدما كان متفرقاً ، قال : وتفرقته أنه يقول مرة أفعل كذا ، ومرة أفعل كذا ، فإذا عزم على أمر واحد قد جعله أي : جعله جميعاً ، فهذا هو الأصل في الإجماع ، ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى ، فقيل : أجمعت على الأمر أي عزمت عليه ، والأصل أجمعت الأمر انتهى . وعلى هذا القراءة يكون وشركاءكم عطفاً على أمركم على حذف مضاف أي : ك وأمر شركائكم ، أو على أمركم من غير مراعاة محذوف . لأنه يقال أيضاً : أجمعت شركائي ، أو منصوباً بإضمار فعل أي : وادعوا شركاءكم ، وذلك بناء على أنه لا يقال أجمعت شركائي يعني في الأكثر ، فيكون نظير قوله : فعلفتها تبناً وماء باردا
حتى شتت همالة عيناها
في أحد المذهبين أي : وسقيتها ماء بارداً ، وكذا هي في مصحف أبي . وادعوا شركاءكم ، وقال أبو علي : وقد تنصب الشركاء بواو مع كما قالوا : جاء البرد والطيالسة . ولم يذكر الزمخشري في نصب ، وشركاءكم غير قول أبي على أنه منصوب بواو مع ، وينبغي أن يكون هذا التخريج عل أنه مفعول معه من الفاعل وهو الضمير في فاجمعوا لا من المفعول الذي هو أمركم ، وذلك على أشهر الاستعمالين . لأنه يقال : أجمع الشركاء ، ولا يقال جمع الشركاء أمرهم إلا

" صفحة رقم 178 "
قليلاً ، ولا أجمعت الشركاء إلا قليلاً . وفي اشتراط صحة جواز العطف فيما يكون مفعولاً معه خلاف ، فإذا جعلناه من الفاعل كان أولى . وقرأ الزهري ، والأعمش ، والجحدري ، وأبو رجاء ، والأعرج ، والأصمعي عن نافع ، ويعقوب : بخلاف عنه فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم من جمع ، وشركاءكم عطف على أمركم لأنه يقال : شركائي ، أو على أنه مفعول معه ، أو على حذف مضاف أي : ذوي الأمر منكم ، فجرى على المضاف إليه ما جرى على المضاف ، لو ثبت قاله أبو علي . وفي كتاب اللوامح : أجمعت الأمر أي جعلته جميعاً ، وجمعت الأموال جميعاً ، فكان الإجماع في الإحداث والجمع في الإعيان ، وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر . وفي التنزيل : ) فَجَمَعَ كَيْدَهُ ( انتهى .
وقرأ أبو عبد الرحمن ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر ، وسلام ، ويعقوب فيما روي عنه : وشركاؤكم بالرفع ، ووجه بأنه عطف على الضمير في فأجمعوا ، وقد وقع الفصل بالمفعول فحسن ، وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه أي : وشركاؤكم فليجمعوا أمرهم . وقرأت فرقة : وشركائكم بالخفض عطفاً على الضمير في أمركم أي : وأمر شركائكم فحذف كقول الآخر : أكل امرىء تحسبين أمرءا
وتار توقد بالليل ناراً
أي وكل نار ، فحذف كل لدلالة ما قبله عليه . والمراد بالشركاء الأنداد من دون الله ، أضافهم إليهم إذ هم يجعلونهم شركاء بزعمهم ، وأسند الإجماع إلى الشركاء على وجه التهكم كقوله تعالى : ) قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ( أو يراد بالشركاء من كان على دينهم وطريقتهم . قال ابن الأنباري : المراد من الأمر هنا وجود كيدهم ومكرهم ، فالتقدير : لا تتركوا من أمركم شيئاً إلا أحضرتموه انتهى . وأمره إياهم بإجماع أمرهم دليل على عدم مبالاته بهم ثقة بما وعده ربه من كلاءته وعصمته ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة أي حالكم معي وصحبتكم لي غماً ، وهما أي : ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة ، وحالكم عليكم غمة . والغم والغمة كالكرب ، والكربة قال أبو الهيثم : هو من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم إذا التمس فلم ير . وقال طرفة : لعمرك ما أمري عليّ بغمة
نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد
وقال الليث : يقال : إنه لفي غمة من أمره إذا لم يتبين له . وقال الزجاج : أمركم ظاهراً مكشوفاً ، وحسنه الزمخشري فقال : وقد ذكر القول الأول الذي يراد بالأمر فقال : والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأول . والغمة السترة ، من عمه إذا ستره . ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ولا غمة في فرائض الله تعالى ) أي لا تستر ولكن يجاهر بها ، يعني : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم ، بل مكشوفاً مشهوراً تجاهرون به انتهى . ومعنى اقضوا : إلى أنفذوا قضاءكم

" صفحة رقم 179 "
نحوي ، ومفعول اقضوا محذوف أي : اقضوا إليّ ذلك الأمر وامضوا في أنفسكم ، واقطعوا ما بيني وبينكم . وقرأ السري بن ينعم : ثم أفضوا بالفاء وقطع الألف ، أي : انتهوا إليّ بشركم من أقضى بكذا انتهى إليه . وقيل : معناه أسرعوا . وقيل : من أفضى إذا خرج إلى الفضاء أي : فاصحروا به إليّ وأبرزوه . ومنه قول الشاعر : أبى الضيم والنعمان تحرق نابه
عليه فأفضى والسيوف معاقله
) فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ( : أي : فإن دام توليكم عما جئت به إليكم من توحيد الله ورفض آلهتكم فلست أبالي بكم ، لأنّ توليكم لا يضرني في خاصتي ، ولا قطع عني صلة منكم ، إذ ما دعوتكم إليه وذكرتكم به ووعظتكم ، لم أسألكم عليه أجراً ، إنما يثيبني عليه الله تعالى أي : ما نصحتكم إلا لوجه الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا ، ثم أخبر أنه أمره أن يكون من المسلمين من المنقادين لأمر الله الطائعين له ، فكذبوه ، فتموا على تكذيبه ، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان . وفي الفلك متعلق بالاستقرار الذي تعلق به معه ، أو بفنجيناه . وجعلناهم جمع ضمير المفعول على معنى من ، وخلائف يخلفون الفارقين المهلكين . ثم أمر بالنظر في عاقبة المنذرين بالعذاب ، وإلى ما صار إليه حالهم . وفي هذا الإخبار توعد للكفار بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وضرب مثال لهم في أنهم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكون حالهم كحالهم في التعذيب . والخطاب في فانظر للسامع لهذه القصة ، وفي ذلك تعظيم لما جرى عليهم ، وتحذير لمن أنذرهم الرسول ، وتسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ ( : من بعده أي : من بعد نوح رسلاً إلى قومهم ، يعني هوداً وصالحاً ولوطاً وإبراهيم وشعيباً . والبينات : المعجزات ، والبراهين الواضحة المثبتة لما جاؤوا به . وجاء النفي مصحوباً بلام الجحود ليدل على أنّ إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع ، والضمير في كذبوا عائد على من عاد عليه ضمير كانوا وهم قوم الرسل . والمعنى : أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية وتكذيب للحق ، فتساوت حالتهم قبل البعثة وبعدها ، كأن لم يبعث إليهم أحد . ومن قبل متعلق بكذبوا أي : من قبل بعثة الرسل . وقيل : المعنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول ، ثم لحوا في الكفر وتمادوا ، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لحهم في الكفر وتماديهم . وقال يحيى بن سلام : من قبل معناه من قبل العذاب ، وهذا القول فيه بعد . وقيل : الضمير في كذبوا عائد على قوم نوح أي : فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح ، يعني : أن شنشنتهم واحدة في التكذيب . قال ابن عطية ، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو : أن تكون ما مصدرية ، والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي : من سببه ومن جرائه ، ويؤيد هذا التأويل كذلك نطبع انتهى . والظاهر أنّ ما موصولة ، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله : بما كذبوا به . ولو كانت مصدرية بقي الضمير غير عائد على مذكور ، فتحتاج أن يتكلف ما يعود عليه الضمير . وقرأ الجمهور : نطبع بالنون ، والعباس بن الفضل بالياء ، والكاف للتشبيه أي : مثل ذلك الطبع المحكم الذي يمتنع زواله نطبع على قلوب المعتدين المجاوزين طورهم والمبالغين في الكفر .
( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقّ

" صفحة رقم 180 "
ُ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَاذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ( أي : من بعد أولئك الرسل بآياتنا وهي المعجزات التي ظهرت على يديه ، ولا يخص قوله : وملائه بالإشراف ، بل هي عامّة لقوم فرعون شريفهم ومسروفهم . فاستكبروا تعاظموا عن قبولها ، وأعظم الكبر أن يتعاظم العبيد عن قبول رسالة ربهم بعد تبينها واستيضاحها ، وباجترامهم الآثام العظيمة استكبروا واجترؤوا على ردّها . والحق هو العصا واليد قالوا لحبهم الشهوات : إن هذا لسحر مبين ، وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويهاً وباطلاً ، ولم يقولوا إنّ هذا لسحر مبين إلا عند معاينة العصا وانقلابها ، واليد وخروجها بيضاء ، ولم يتعاطوا إلا مقاومة العصا وهي معجزة موسى الذي وقع فيها عجز المعارض . وقرأ مجاهد ، وابن جبير ، والأعمش : لساحر مبين ، جعل خبر إنّ اسم فاعل لا مصدراً كقراءة الجماعة . ولما كابروا موسى فيما جاء به من الحق أخبروا على جهة الجزم بأنّ ما جاء به سحر مبين فقال لهم موسى : أتقولون ؟ مستفهماً على جهة الإنكار والتوبيخ ، حيث جعلوا الحق سحراً ، أسحر هذا أي : مثل هذا الحق لا يدعى أنه سحر . وأخبر أنه لا يفلح من كان ساحراً لقوله تعالى : ) وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ ثُمَّ أَتَى ( والظاهر أنّ معمول أتقولون محذوف تقديره : ما تقدم ذكره وهو أنّ هذا لسحر ، ويجوز أن يحذف معمول القول للدلالة عليه نحو قول الشاعر : لنحن الألى قلتم فإني ملتئم
برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا
ومسألة الكتاب متى رأيت ، أو قلت زيداً منطلقاً . وقيل : معمول أتقولون هو أسحر هذا إلى آخره ، كأنهم قالوا : أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ، ولا يفلح الساحرون . كما قال موسى للسحرة : ما جئتم به السحر إن الله سيبطله . والذين قالوا : بأن الجملة وأن الاستفهام هي محكية لقول اختلفوا فقال بعضهم : قالوا ذلك على سبيل التعظيم للسحر الذي رأوه بزعمهم ، كما تقول لفرس تراه يجيد الجري : أفرس هذا على سبيل التعجيب والاستغراب ، وأنت قد علمت أنه فرس ، فهو استفهام معناه التعجيب والتعظيم . وقال بعضهم : قال ذلك منهم كل جاهل بالأمر ، فهو يسأل أهو سحر ؟ لقول بعضهم : إن هذا لسحر ، وأجاز الزمخشري أن يكون معنى قوله : أتقولون للحق ، أتعيبونه وتطعنون فيه ، فكان عليكم أن تدعنوا له وتعظموه ، قال : من قولهم فلان يخاف القالة ، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوء ، ونحو القول الذكر في قوله : سمعنا فتى يذكرهم ثم قال أسحر هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه .
وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم . فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون . فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين . ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون ( : أجئتنا خطاب لموسى وحده ، لأنه هو الذي ظهرت على يديه معجزة العصا واليد . لتصرفنا وتلوينا عن ما وجدنا عليه آباءنا كامن عبادة غير الله ، واتخاذ إله دونه . والكبرياء مصدر . قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وأكثر

" صفحة رقم 181 "
المتأولين : المراد به هنا الملك ، إذ الملوك موصوفون بالكبر ، ولذلك قيل للملك الجبار ، ووصف بالصد والشرس . وقال ابن الرقيات في مصعب بن الزبير : ملكه ملك رأفة ليس فيه
جبروت منه ولا كبرياء
يعني ما عليه الملوك من ذلك . وقال ابن الرقاع : سؤدد غير فاحش لا يداني
ه تحبارة ولا كبرياء
وقال الأعمش : الكبرياء العظمة . وقال ابن زيد : العلو . وقال الضحاك أيضاً : الطاعة ، والأرض هنا أرض مصر . وقرأ ابن مسعود ، وإسماعيل ، والحسن فيما زعم خارجة ، وأبو عمرو ، وعاصم : بخلاف عنهما ، وتكون بالتاء لمجاز تأنيث الكبرياء ، والجمهور بالياء لمراعاة اللفظ ، والمعنى : أنهم قالوا مقصودك في مجيئك إلينا بما جئت ، هو أنْ ننتقل من دين آبائنا إلى ما تأمر به ونطيعك ، ويكون لكما العلو والملك علينا بطاعتنا لك ، فنصير أتباعاً لك تاركين دين آبائنا ، وهذا مقصود لا نراه ، فلا نصدقك فيما جئت به إذ غرضك إنما هو موافقتك على ما أنت عليه ، واستعلاؤك علينا . فالسبب الأول هو التقليد ، والثاني الجد في الرئاسة حتى لا تكونوا تبعاً . واقتضى هذان السببان اللذان توهموا هما مقصوداً التصريح بانتفاء الإيمان الذي هو سبب لحصول السببين . ويجوز أن يقصدوا الذم بأنهما إنْ ملكا أرض مصر تكبروا وتجبرا كما قال القبطي : إن تريد إلاأن تكون جباراً في الأرض . ولما ادعوا أنّ ما جاء به موسى هو سحر ، أخذوا في معارضته بأنواع من السحر ، ليظهر لسائر الناس أنّ ما أتى به موسى من باب السحر . والمخاطب بقوله : ائتوني ، خدمة فرعون والمتصرفون بين يديه . وقرأ ابن مصرف ، وابن وثاب ، وعيسى ، وحمزة ، والكسائي : بكل سحار على المبالغة . وفي قوله : ألقوا ما أنتم ملقون ، استطالة عليهم وعدم مبالاة بهم . وفي إيهام ما أنتم ملقون ، تخسيس له وتقليل ، وإعلام أنه لا شيء يلتفت إليه . قال أبو عبد الله الرازي : كيف أمرهم ، فالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر ، قلنا : إنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصى ليظهر للخلق أن ما ألقوا عمل فاسد وسعى باطل ، لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر انتهى . وقرأ أبو عمرو ، ومجاهد وأصحابه ، وابن القعقاع : بهمزة الاستفهام في قوله : آلسحر ممدودة ، وباقي السبعة والجمهور بهمزة الوصل ، فعلى الاستفهام قالوا : يجوز أن تكون ما استفهامية مبتدأ ، والسحر بدل منها ، . وأن تكون منصوبة بمضمر تفسيره جئتم به ، والسحر خبر مبتدأ محذوف . ويجوز عندي في هذا الوجه أن تكون ما موصولة مبتدأة ، وجملة الاستفهام خبر ، إذ التقدير : أهو السحر ، أو آلسحر هو ، فهو الرباط كما تقول : الذي جاءك أزيد هو ؟ وعلى همزة الوصل جاز أن نكون ما موصولة مبتدأة ، والخبر السحر ، ويدل عليه قراءة عبد الله والأعمش : سحر . وقراءة أبيّ ما أتيتم به سحر . ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، أو في موضع نصب على الاشتغال ، وهو استفهام على سبيل التحقير والتعليل لما جاؤوا به ، والسحر خير مبتدأ محذوف أي : هو السحر . قال ابن عطية : والتعريف هنا في السحر ارتب ، لأنه قد تقدم منكراً في قولهم : إن هذا لسحر ، فجاء هنا بلام العهد كما يقال : أول الرسالة سلام عليك ، وفي آخرها والسلام عليك

" صفحة رقم 182 "
انتهى . وهذا أخذه من الفراء . قال الفراء : وإنما قال السحر بالألف واللام ، لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت بالألف واللام ، ولو قال له من رجل لم يقع في وهمه أنه يسأله عن الرجل الذي ذكر له انتهى . وما ذكراه هنا في السحر ليس هو من باب تقدم النكرة ، ثم أخبر عنها بعد ذلك ، لأن شرط هذا أن يكون المعرّف بالألف واللام هو النكرة المتقدم ، ولا يكون غيره كما قال تعالى : ) كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ( وتقول : زارني رجل فأكرمت الرجل ، ولما كان إياه جاز أن يأتي بالضمير بدله فتقول : فأكرمته . والسحر هنا ليس هو السحر الذي هو في قوله : أنّ هذا لسحر ، لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحر هو ما ظهر على يدي موسى عليه السلام من معجزة العصا ، والسحر الذي في قول موسى إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به ، فقد اختلف المدلولان وقالوا هم عن معجزة موسى وقال موسى عما جاؤوا به ، ولذلك لا يجوز أن يأتي هنا بالضمير بدل السحر ، فيكون عائداً على قولهم السحر . والظاهر أنّ الجمل بعده من كلام موسى عليه السلام . وسيبطله يمحقه ، بحيث يذهب أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة . وقيل : هذه الجمل من كلام الله تعالى . ومعنى بكلماته ، بقضاياه السابقة في وعده . وقال ابن سلام : بكلماته بقوله : ) لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى ( وقيل بكلماته بحججه وبراهينه وقرىء بكلمته على التوحيد أي بأمره ومشيئته .
( فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الاْرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( : الظاهر في الفاء من حيث أنّ مدلولها التعقيب أن هذا الإيمان الصادر من الذرية لم يتأخر عن قصة الإلقاء . والظاهر أن الضمير في قومه عائد على موسى ، وأنه لا يعود على فرعون ، لأنّ موسى هو المحدث عنه في هذه الآية ، وهو أقرب مذكور . ولأنه لو كان عائداً على فرعون لم يظهر لفظ فرعون ، وكان التركيب على خوف منه . ومن ملاتهم أن يفتنهم ، وهذا الإيمان من الذرية كان أول مبعثه إذ قد آمن به بنو إسرائيل قومه كلهم ، كان أولاً دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون ، وإجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف . وقال مجاهد والأعمش : معنى الآية أنّ قوماً أدركهم موسى ولم يؤمنوا ، وإنما آمن ذراريهم بعد هلاكهم لطول الزمن . قال ابن عطية : وهذا قول غير صحيح ، إذا آمن قوم بعد موت آبائهم ، فلا معنى لتخصيصهم باسم الذرية . وأيضاً فما روي من أخبار بني إسرائيل لا يعطي هذا ، ويفيه قوله : فما آمن ، لأنه يعطي تقليل المؤمنين به ، لأنه نفي الإيمان ثم أوجبه لبعضه ، ولو كان الأكثر مؤمناً لأوجب الإيمان أولاً ثم نفاه عن الأقل ، وعلى هذا الوجه يتخرج قول ابن عباس في الذرية : إنه القليل ، إلا أنه أراد أنّ لفظ الذرية بمعنى القليل كما ظن مكي

" صفحة رقم 183 "
ّ وغيره . وقالت فرقة : إنما سماهم ذرة لأنّ أمهاتهم كانت من بني إسرائيل ، وإماؤهم من القبط . رواه عكرمة عن ابن عباس : فكان يقال لهم الذرية كما قيل لفرس اليمن الأبناء ، وهم الفرس المنتقلون مع وهوز بسعاية سيف بن ذي يزن . وممن ذهب إلى أن الضمير في قومه على موسى : ابن عباس قال : وكانوا ستماة ألف ، وذلك أن يعقوب عليه السلام دخل مصرفي اثنين وسبعين نفساً ، فتوالدوا بمصر حتى صاروا ستمائة ألف . وقيل : الضمير في قومه يعود على فرعون ، روي أنه آمنت زوجة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وشباب من قومه . قال ابن عباس أيضاً : والسحرة أيضاً ، فإنهم معدودون في قوم فرعون . وقال السدي : كانوا سبعين أهل بيت من قوم فرعون . قال ابن عطية : ومما يضعف عود الضمير على موسى عليه السلام أنّ المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قوماً قد فشت فيهم السوآت ، وكانوا في مدة فرعون قد نالهم ذل مفرط ، وقد رجوا كشفه على يد مولود يخرج فيهم يكون نبياً ، فلما جاءهم موسى عليه السلام أصفقوا عليه وبايعوه ، ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به ، فكيف تعطى هذه الآية أنّ الأقل منهم كان الذي آمن ، فالذي يترجح بحسب هذا أنّ الضمير عائد على فرعون . ويؤيد ذلك أيضاً ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم ، وتوبيخهم على قولهم هذا سحر ، فذكر الله ذلك عنهم ثم قال : فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون الذي هذه أقوالهم . وتكون القصة على هذا التأويل بعد ظهور الآية والتعجيز بالعصا ، وتكون الفاء مرتبة للمعاني التي عطفت انتهى . ويمكن أن يكون معنى فما آمن أي : ما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من قوم موسى ، فلا يدل ذلك على أنّ طائفة من بني إسرائيل كفرت به . والظاهر عود الضمير في قوله : وملاهم ، على الذرية وقاله الأخفش ، واختاره الطبري أي : أخوف بني إسرائيل الذرية وهم أشراف بني إسرائيل إن كان الضمير في قومه عائداً على موسى ، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون على أنفسهم . ويدل عليه قوله تعالى : أن يفتنهم أي يعذبهم . وقال ابن عباس : أن يقتلهم . وقيل : يعود على قومه أي : وملا قوم موسى ، أو قوم فرعون . وقيل : يعود على المضاف المحذوف تقديره : على خوف من آل فرعون ، قاله الفراء . كما حذف في ، ( وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ ( ورد عليه بأنّ الخوف يمكن من فرعون ، ولا يمكن سؤال القرية ، فلا يحذف إلا ما دل عليه الدليل . وقد يقال : ويدل على هذا المحذوف جمع الضمير في وملاهم . وقيل : ثم معطوف محذوف يدل عليه كون الملك لا يكون وحده ، بل له حاشية وأجناد ، وكأنه قيل : على خوف من فرعون وقومه وملاهم أي : ملا فرعون وقومه ، وقاله الفراء أيضاً : وقيل : لما كان ملكاً جباراً أخبر عنه بفعل الجميع . وقيل : سميت الجماعة بفرعون مثل هود . وأن يفتنهم بدل من فرعون بدل اشتمال أي : فتنته ، فكون في موضع جر ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بخوف إما على التعليل ، وإما على أنه في موضع المفعول به ، أي : على خوف لأجل فتنته ، أو على خوف فتنته . وقرأ الحسن وجراح ونبيج : يفتنهم بضم الياء من أفتن ، ولعال متجر أو باع ظالم ، أو متعال أو قاهر كما قال : فاعمد لما تعلو فما لك بالذي
لا تستطيع من الأمور يدان أي لما تقهر أقوال متقاربة ، وإسرافه كونه كثير القتل والتعذيب . وقيل : كونه من أخس العبيد فادعى الإلهية ، وهذا الإخبار مبين سبب خوف أولئك المؤمنين منه .
وفي الآية مسلاة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بقلة من آمن لموسى ومن استجاب له مع ظهور ذلك المعجز الباهر ، ولم يؤمن له إلا ذرية من قومه ، وخطاب موسى عليه السلام لمن آمن بقوله : يا قوم ، دليل على أن المؤمنين الذرية كانوا من قومه ، وخاطبهم بذلك حين اشتد خوفهم مما توعدهم به فرعون من

" صفحة رقم 184 "
قتل الآباء وذبح الذرية . وقيل : قال لهم ذلك حين قالوا إنا لمدركون . وقيل : حين قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، قيل : والأول هو الصواب ، لأنّ جواب كل من القولين مذكور بعده وهو : ) كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ ( وقوله : ) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ( الآية وعلق توكلهم على شرطين : متقدم ، ومتأخر . ومتى كان الشرطان لا يترتبان في الوجود فالشرط الثاني شرط في الأول ، فمن حيث هو شرط فيه يجب أن يكون متقدماً عليه . فالإسلام هو الانقياد للتكاليف الصادرة من الله ، وإظهار الخضوع وترك التمرّد ، والإيمان عرفان القلب بالله تعالى ووحدانيته وسائر صفاته ، وأنّ ما سواه محدث تحت قهره وتدبيره . وإذا حصل هذان الشرطان فو العبد جميع أموره إلى الله تعالى ، واعتمد عليه في كل الأحوال . وأدخل أنْ على فعلي الشرط وإن كانت في الأغلب إنما تدخل على غير المحقق مع علمه بإيمانهم على وجه إقامة الحجة وتنبيه الأنفس وإثارة الأنفة ، كما تقول : إن كنت رجلاً فقاتل ، تخاطب بذلك رجلاً تريد إقامة البينة . وطول ابن عطية هنا في مسألة التوكل بما يوقف عليه في كتابه ، وأجابوا موسى عليه السلام بما أمرهم به من التوكل على الله لأنهم كانوا مخلصين في إيمانهم وإسلامهم ، ثم سألوا الله تعالى شيئين : أحدهما : أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين . قال الزمخشري : أي موضع فتنة لهم ، أي عذاب تعذبوننا أو تفتنوننا عن ديننا ، أو فتنة لهم يفتنون بها ويقولون : لو كان هؤلاء على الحق ما أصيبوا . وقال مجاهد وأبو مجلز وأبو الضحى وغيرهم : معنى القول الآخر قال : المعنى لا ينزل بنا ملأنا بأيديهم أو بغير ذلك مدة محاربتنا لهم فيفتنون ويعتقدون أنْ هلا كنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق . وقالت فرقة : المعنى لا نفتنهم ونبتليهم بقتلنا وإذايتنا فنعذبهم على ذلك في الآخرة . قال ابن عطية : وفي هذا التأويل قلق . وقال ابن الكلبي : لا تجعلنا فتنة بتقتير الرزق علينا وبسطه لهم . والآخر : ينجيهم من الكافرين أي : من تسخيرهم واستعبادهم . والذي يظهر أنهم سألوا الله تعالى أنْ لا يفتنوا عن دينهم ، وأن يخلصوا من الكفار ، فقدموا ما كان عندهم أهم وهو سلامة دينهم لهم ، وأخروا سلامة أنفسهم ، إذ الاهتمام بمصالح الدين آكد من الاهتمام بمصالح الأبدان .
( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( : لم يصرح باسم أخيه لأنه قد تقدّم أولاً في قوله : ) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَارُونَ ( وتبوآ اتخذا مباءة أي مرجعاً للعبادة والصلاة كما تقول : توطن اتخذ موطناً ، والظاهر اتخاذ البيوت بمصر . قال الضحاك : وهي مصر المحروسة ، ومصر من البحر إلى أسوان ، والاسكندرية من أرض مصر . وقال مجاهد : هي الاسكندرية ، وكان فرعون قد استولى على بني إسرائيل خرب مساجدهم ومواضع عباداتهم ، ومنعهم من الصلوات ، وكلفهم الأعمال الشاقة . وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأنْ يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم ، فيردوهم ويفتنوهم عن دينهم ، كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام . وقرأ حفص في رواية هبيرة : تبويا بالياء ، وهذا تسهيل غير قياسي ، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف ، والظاهر أنّ المأمور بأنْ يجعل قبلة هي المأمور بتبوئها . ومعنى قبلة مساجد : أمروا بأن يتخذوا بيوتهم مساجد قاله : النخعي ، وابن زيد ، وروي عن ابن عباس . وعن

" صفحة رقم 185 "
ابن عباس أيضاً : واجعلوا بيوتكم قبل القبلة ، وعنه أيضاً : قبل مكة . وقال مجاهد وقتادة ومقاتل والفراء : أمروا بأن يجعلوها مستقبلة الكعبة . وعن ابن عباس أيضاً وابن جبير : قبلة يقابل بعضها بعضاً . وأقيموا الصلاة وهذا قبل نزول التوراة ، لأنها لم تنزل إلا بعد إجارة البحر . وبشر المؤمنين يعني : بالنصر في الدنيا وبالجنة في الآخرة ، وهو أمر لموسى عليه السلام أن يتبوآ لقومهما ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء . ثم نسق الخطاب عاماً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأن ذلك واجب على الجمهور ، ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير الذي هو الغرض تعظيماً له وللمبشر به .
2 ( )
يونس : ( 88 ) وقال موسى ربنا . . . . .
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاّهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ وَجَاوَزْنَا بِبَنِىإِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لاإِلِاهَ إِلاَّ الَّذِىءَامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَاءِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ءَاأنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ ءايَاتِنَا لَغَافِلُونَ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِىإِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاٌّ رْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُواْ إِنَّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( ) ) 2
) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى ( : لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وهم مصرون على العناد واشتد أذاهم عليه وعلى من آمن معه ، وهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً ، وعلى الإنذار إلا استكباراً . أو علم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال ، أو علم ذلك بوحي من الله تعالى ، دعا الله تعالى عيهم بما علم أنه لا يكون غيره كما تقول : لعن الله إبليس وأخزى الكفرة . كما دعا نوح على قومه حين أوحى إليه ) وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ ( وقدم بين يدي الدعاء ما آتاهم الله من النعمة في الدنيا وكان ذلك سبباً للإيمان به ولشكر نعمه ، فجعوا ذلك سبباً لجحوده ولكفر نعمه . والزينة عبارة عما يتزين به ويتحسن من الملبوس والمركوب والأثاث والمال ، ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق . قال المؤرخون والمفسرون : كان لهم فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والياقوت . وفي تكرار ربنا توكيد للدعاء والاستغاثة ، واللام في ليضلوا الظاهر أنها لام كي على معنى : آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج ، فكان الإتيان لكي يضلوا . ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة كقوله : ) فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( وكما قال الشاعر : وللمنايا تربي كل مرضعة
وللخراب يجد الناس عمراناً
وقال الحسن : هو دعاء عليهم ، وبهذا بدأ الزمخشري قال : كأنه قال ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال ، وليكونوا ضلالاً ، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا . ويبعد أن يكون دعاء قراءة من قرأ ليضلوا بضم الياء ، إذ يبعد أن يدعو بأن يكونوا مضلين غيرهم ، وهي قراءة الكوفيين ، وقتادة والأعمش ، وعيسى ، والحسن ، والأعرج بخلاف عنهما . وقرأ الحرميان ، والعربيان ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وأهل مكة : بفتحها . وقرأ الشعبي بكسرها ، ولى بين الكسرات الثلاث . وقيل : لا محذوفة ، التقدير لئلا يضلوا عن سبيلك قاله : أبو علي الجبائي . وقرأ أبو الفضل الرقاشي : أإنك آتيت على الاستفهام . ولما تقدم ذكر الأموال وهي أعز ما ادخر دعا بالطموس عليها

" صفحة رقم 186 "
وهي التعفية والتغيير أو الإهلاك . قال ابن عباس ، ومحمد بن كعب : صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحاً وأثلاثاً وأنصافاً ، ولم يبق لهم معدن إلاطمس الله عليه فلم ينتفع بها أحد بعد . وقال قتادة : بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة . وقال مجاهد وعطية : أهلكها حتى لا ترى . وقال ابن زيد : صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرضهم وكل شيء لهم حجارة . قال محمد بن كعب : سألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك له ، فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير ، وأنها الحجارة . وقال قتادة ، والضحاك ، وأبو صالح ، والقرطبي : جعل سكرهم حجارة . وقال السدي : مسخ الله الثمار والنخل والأطعمة حجارة . وقال شيخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان المقدسي عرف بابن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير في هذا الكتاب : أخبرني جماعة من الصالحين كان شغلهم السياحة أنهم عاينوا بجبال مصر وبراريها حجارة على هيئة الدنانير والدراهم ، وفيها آثار النفس ، وعلى هيئة الفلوس ، وعلى هيئة البطيخ العبد لاويّ ، وهيئة البطيخ الأخضر ، وعلى هيئة الخيار ، وعلى هيئة القثاء ، وحجارة مطولة رقيقة معوجة على هيئة النقوش ، وربما رأوا على صورة الشجر . واشدد على قلوبهم : وقال ابن عباس ومقاتل والفراء والزجاج اطبع عليها وامنعها من الإيمان . وقال ابن عباس أيضاً والضحاك : أهلكهم كفاراً . وقال مجاهد : اشدد عليها بالضلالة . وقال ابن قتيبة : قس قلوبهم . وقال ابن بحر : اشدد عليها بالموت . وقال الكرماني : أي لا تجذوا سلواً عن أموالهم ، ولا صبراً على ذهابها . وقرأ الشعبي وفرقة : اطمُس بضم الميم ، وهي لغة مشهورة . فلا يؤمنوا مجزوم على أنه دعاء عند الكسائي والفراء ، كما قال الأعشى : فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى
ولا تُلْفَينّ إلا وأنفك راغم ومنصوب على أنه جواب اشدد بدأ به الزمخشري ، ومعطوف على ليضلوا على أنه منصوب قاله : الأخفش وغيره . وما بينهما اعتراض ، أو على أنه مجزوم عل قول من قال : إن لام ليضلوا لام الدعاء ، وكان رؤية العذاب غاية ونهاية ، لأن الإيمان إذ ذاك لا ينفع ولا تخرج من الكفر ، وكان العذاب الأليم غرقهم . وقال ابن عباس : قال محمد بن كعب : كان موسى يدعو وهارون يؤمن ، فنسبت الدعوة إليهما . ويمكن أن يكونا دعوا ، ويبعد قول من قال : كنى عن الواحد بلفظ التثنية ، لأن الآية تضمنت بعد مخاطبتهما في غير شيء . وروي عن ابن جريج ، ومحمد بن علي ، والضحاك : أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة ، وأعلما أن دعاء هما صادف مقدوراً ، وهذا معنى إجابة الدعاء . وقيل لهما : لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون أي في أن تستعجلا قضائي ، فإن وعدي لا خلف له . وقرأ السلمي والضحاك : دعواتكما على الجمع . وقرأ ابن السميقع : قد أجبت دعوتكما خبراً عن الله تعالى ، ونصب دعوة والربيع دعوتيكما ، وهذا يؤكد قول من قال : إن هارون دعا مع موسى . وقراءة دعوتيكما تدل على أنه قرأ قد أجبت على أنه فعل وفاعل ، ثم أمرا بالاستقامة ، والمعنى : الديمومة عليها وعلى ما أمرتما به من الدعوة إلى الله تعالى ، وإلزام حجة الله . وقرأ الجمهور : تتبعان بتشديد التاء والنون ، وابن عباس وابن ذكوان بتخفيف التاء وشد النون ، وابن ذكوان أيضاً بتشديد التاء وتخفيف النون ، وفرقة بتخفيف التاء وسكون النون ، وروى ذلك الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر ، فأما شد النون فعلى أنها نون التوكيد الشديدة لحقت فعل النهي المتصل به ضمير الاثنين ، وأما تخفيفها مكسورة فقيل : هي نون التوكيد الخفيفة ، وكسرت كما كسرت الشديدة . وقد حكى النحويون كسر النون الخفيفة

" صفحة رقم 187 "
في مثل هذا عن العرب ، ومذهب سيبويه والكسائي أنها لا تدخل هنا الخفيفة ، ويونس والفراء يريان ذلك . وقيل : النون المكسورة الخفيفة هي علامة الرفع ، والفعل منفي ، والمراد منه النهي ، أو هو خبر في موضع الحال أي : غير متبعين قاله الفارسي . والذين لا يعلمون فرعون وقومه قاله : ابن عباس . أو الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه ، ذكره أبو سليمان .
( وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ ( : قرأ الحسن وجوَّزنا بتشديد الواو ، وتقدّم الكلام في الباء في ببني إسرائيل ، وكم كان الذين جازوا مع موسى عليه السلام في سورة الأعراف . وقرأ الحسن وقتادة فاتبعهم بتشديد التاء . وقرأ الجمهور : وجاوزنا فاتبعهم رباعياً ، قال الزمخشري : وليس من جوز الذي في بيت الأعشى :
وإذا تجوزها جبال قبيلة
لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال : وجوزنا ببني إسرائيل في البحر كما قال :
كما جوز السبكي في الباب فينق
انتهى
وقال الحوفي : تبع واتبع بمعنى واحد . وقال الزمخشري : فاتبعهم لحقهم ، يقال : تبعه حتى اتبعه . وفي اللوامح : تبعه إذا مشى خلفه ، واتبعه كذلك ، إلا أنه حاذاه في المشي واتبعه لحقه ، ومنه العامة يعني : ومنه قراءة العامة فاتبعهم وجنود فرعون قيل : ألف ألف وستمائة ألف . وقيل : غير ذلك . وقرأ الحسن : وعدوا على وزن علو ، وتقدمت في الإنهام . وعدوا وعدوّا من العدوان ، واتباع فرعون هو في مجاوزة البحر . روي أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومضى فيه بنو إسرائيل قال لقومه : إنما انلفق بأمري ، وكان على فرس ذكر فبعث الله إليه جبريل عليه السلام على فرس أنثى ، ودنوا فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه ونب الجيوش خلفه ، فلما رأى أنّ الانفراق ثبت له

" صفحة رقم 188 "
استمر ، وبعث الله ميكائيل عليه السلام يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر فانطبق عليهم . وقرأ الجمهور : أنه بفتح الهمزة على حذف الباء . وقرأ الكسائي وحمزة : بكسرها على الاستئناف ابتداء كلام ، أو بدلاً من آمنت ، أو على إضمار القول أي : قائلاً أنه . ولما حلقه من الدهش ما لحقه كرر المعنى بثلاث عبارات ، إما على سبيل التلعثم إذ ذلك مقام تحار فيه القلوب ، أو حرصاً على القبول ولم يقبل الله منه إذ فاته وقت القبول وهو حالة الاختيار وبقاء التكليف ، والتوبة بعد المعاينة تنفع . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتُ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ ( وتقدم الخلاف في قراءة آلآن في قوله : ) وَقَدْ كُنتُم بِهِ ( والمعنى : أتؤمن الساعة في حال الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك ؟ قيل : قال ذلك حين ألجمه الغرق . وقيل : بعد أنْ غرق في نفسه . قال الزمخشري : والذي يحكى أنه حين قال : آمنت ، أخذ جبريل من حال البحر فدسه في فيه ، فللغضب في الله تعالى على حال الكافر في وقت قد علم أن إيمانه لا ينفعه . وأما ما يضم إليه من قولهم خشيت أن تدركه رحمة الله تعالى فمن زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته ، وفيه جهالتان : إحداهما : أنّ الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس ، فحال البحر لا يمنعه . والآخر : أن من كره الإيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر ، لأنّ الرضا بالكفر كفر . والظاهر أن قوله : آلآن إلى آخره من كلام الله له على لسان ملك . فقيل : هو جبريل . وقيل : ميكائيل . وقيل : غيرهما ، لخطابه فاليوم ننجيك . وقيل : من قول فرعون في نفسه وإفساده ولضلالة الناس ، ودعواه الربوبية . ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ( فاليوم ننجيك الظاهر أنه خبر . وقيل : هو استفهام فيه تهديد أي : أفاليوم ننجيك ؟ فهلا كان الإيمان قبل الإشراف على الهلاك ، وهذا بعيد لحذف همزة الاستفهام ولقوله : لتكون لمن خلفك لآية ، لأنّ التعليل لا يناسب هنا الاستفهام . قال ابن عباس : ننجيك نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع ، ببدنك بدرعك ، وكان من لؤلؤ منظوم لا مثال له . وقيل : من ذهب . وقيل : من حديد وفيها سلاسل من ذهب . والبدن بدن الإنسان ، والبدن الدرع القصيرة . قال : ترى الأبدان فيها مسبغات
على الأبطال والكلب الحصينا
يعني : الدروع . وقال عمرو بن معدي كرب : أعاذل شكتي بدني وسيفي
وكل مقلص سلس القياد
وكانت له درع من ذهب يعرف بها ، وقيل : نلقيك ببدنك عرياناً ليس عليك ثياب ولا سلاح ، وذلك أبلغ في إهانته . وقيل : نخرجك صحيحاً لم يأكلك شيء من الدواب . وقيل : يدنا بلا روح قاله مجاهد . وقيل : نخرجك من ملكك وحيداً فريداً . وقيل : نلقيك في البحر من النجاء ، وهو ما سلخته عن الشاة أو ألقيته عن نفسك من ثياب أو

" صفحة رقم 189 "
سلاح . وقيل : نتركك حتى تغرق ، والنجاء الترك . وقيل : نجعلك علامة ، والنجاء العلامة . وقيل : نغرقك من قولهم : نجى البحر أقواماً إذا أغرقهم . وقال الكرماني : يحتمل أن يكون من النجاة وهو الإسراع أي : نسرع بهلاكك . وقيل : معنى ببدنك بصورتك التي تعرف بهما ، وكان قصيراً أشقر أزرق قريب اللحية من القامة ، ولم يكن في بني إسرائيل شبيه لع يعرفونه بصورته ، وببدنك إذا غنى به الجثة تأكيد كما تقول : قال فلان بلسانه وجاء بنفسه .
وقرأ يعقوب : ننجيك مخففاً مضارع أنجى . وقرأ أبيّ وابن السميقع ، ويزيد البربري : ننحيك بالحاء المهملة من التنحية . ورويت عن ابن مسعود أي : نلقيك بناحية مما يلي البحر . قال كعب : رماه البحر إلى الساحل كأنه نور . وقرأ أبو حنيفة : بأبدانك أي بدروعك ، أو جعل كل جزء من البدن بدناً كقولهم : شابت مفارقه . وقرأ ابن مسعود ، وابن السميقع : بندائك مكان ببدنك ، أي : بدعائك ، أي بقولك آمنت إلى آخره . لنجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع ، أو بما ناديت به في قومك . ونادى فرعون في قومه فحشر فنادى فقال : أنا ربكم الأعلى ، ويا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري . ولما كذبت بنو إسرائيل بغرق فرعون رمى به البحر على ساحله حتى رأوه قصيراً أحمر كأنه ثور . لمن خلفك لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل ، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق ، وكان مطرحه على ممر بني إسرائيل حتى قيل لمن خلفك آية . وقيل : لمن يأتي بعدك من القرون ، وقيل : لمن بقي من قبط مصر وغيرهم . وقرىء : لمن خلفك بفتح اللام أي : من الجبابرة والفراعنة ليتعظوا بذلك ، ويحذروا أن يصيبهم ما أصابك إذا فعلوا فعلك . ومعنى كونه آية : أن يظهر للناس عبوديته ومهانته ، أو ليكون عبرة يعتبر بها الأمم . وقرأت فرقة : لمن خلقك من الخلق وهو الله تعالى أي : ليجعلك الله آية له في عباده . وقيل : المعنى ليكون طرحك على الساحل وحدك ، وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك ، ولئلا يقولوا لادعائك العظمة : إنّ مثله لا يغرق ولا يموت ، آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره ، وإن كثيراً من الناس ظاهره الناس كافة ، قاله الحسن . وقال مقاتل : من أهل مكة عن آياتنا أي : العلامات الدالة على الوحدانية وغيرها من صفنات العلى ، لغافلون لا يتدبرون ، وهذا خبر في ضمنه توعد .
( وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ ( : لما ذكر تعالى ما جرى لفرعون وأتباعه من الهلاك ، ذكر ما أحسن به لبني إسرائيل وما امتن به عليهم ، إذ كان بنو إسرائيل قد أخرجوا من مساكنهم خائفين من فرعون ، فذكر تعالى أنه اختار لهم من الأماكن أحسنها . والظاهر أنّ بني إسرائيل هم الذين كانوا آمنوا بموسى ونجوا من الغرق ، وسياق الآيات يشهد لهم . وقيل : هم الذين كانوا بحضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من بني إسرائيل قريظة والنضير وبني قينقاع ، وانتصب مبوأ صدق على أنه مفعول ثان لبوأنا كقوله : ) لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً ( وقيل : يجوز أن يكون مصدراً . ومعنى صدق أي : فضل وكرامة ومنة ) فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ). وقيل : مكان صدق الوعد ، وكان وعدهم فصدقهم وعده . وقيل : صدق تصدّق به عليهم ، لأن الصدقة والبر من الصدق . وقيل : صدق فيه ظن قاصده وساكنه . وقيل : منزلاً صالحاً مرضياً ، وعن ابن عباس : هو الأردن وفلسطين . وقال الضحاك وابن زيد ، وقتادة : الشام وبيت المقدس . وقال مقاتل : بيت المقدس . وعن الضحاك أيضاً : مصر ، وعنه أيضاً : مصر والشام . قال ابن عطية : والأصح أنه الشام وبيت المقدس

" صفحة رقم 190 "
بحسب ما حفظ من أنهم لم يعودوا إلى مصر ، على أنه في القرآن كذلك . ) وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ ( يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك . وقد يحتمل أن يكون وأورثناها معناها الحالة من النعمة وإن لم تكن في قطر واحد انتهى . وقيل : ما بين المدينة والشام من أرض يثرب ذكره علي بن أحمد النيسابوري ، وهذا على قول من قال : إن بني إسرائيل هم الذين بحضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ولما ذكر أنه بوّأهم مبوّأ صدق ذكر امتنانه عليهم بما رزقهم من الطيبات وهي : المآكل المستلذات ، أو الحلال ، فما اختلفوا أي : كانوا على ملة واحدة وطريقة واحدة مع موسى عليه السلام في أول حاله ، حتى جاءهم العلم أي : علم التوراة فاختلفوا ، وهذا ذم لهم . أي أن سبب الإيقاف هو العلم ، فصار عندهم سبب الاختلاف ، فتشعبوا شعباً بعدما قرؤوا التوراة . وقيل : العلم بمعنى المعلوم ، وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لأن رسالته كانت معلومة عندهم مكتوبة في التوراة ، وكانوا يستفتحون به أي : يستنصرون ، وكانوا قبل مجيئه إلى المدينة مجمعين على نبوّته يستنصرون به في الحروب يقولون : اللهم بحرمة النبي المبعوث في آخر الزمان انصرنا فينصرون ، فلما جاء قالوا : النبي الموعود به من ولد يعقوب ، وهذا من ولد إسماعيل ، فليس هو ذاك ، فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه . وقيل : العلم القرآن ، واختلافهم قول بعضهم هو من كلام محمد ، وقول بعضهم من كلام الله وليس لنا إنما هو للعرب . وصدق به قوم فآمنوا ، وهذا الاختلاف لا يمكن زواله في الدنيا ، وأنه تعالى يقضي فيه في الآخرة فيميز المحق من المبطل .
( فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( : الظاهر أنّ إنْ شرطية . وروي عن الحسن والحسين بن الفضل أنّ إنْ نافية . قال الزمخشري : أي مما كنت في شك فسئل ، يعني : لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ، ولكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى انتهى . وإذا كانت إن شرطية فذكروا أنها تدخل على الممكن وجوده ، أو المحقق وجوده ، المنبهم زمان وقوعه ، كقوله تعالى : ) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن ( والذي أقوله : إنّ إنْ الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء ، ولا تستلزم تحتم وقوعه ولا إمكانه ، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى : ) قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ( ومستحيل أن يكون له ولد ، فكذلك هذا مستحيل أن يكون في شك ، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى : ) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الاْرْضِ أَوْ ( أي فافعل . لكنّ وقوع إن للتعليق على المستحيل قليل ، وهذه الآية من ذلك . ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج إن للتعليق على المستحيل قليل ، وهذه الآية من ذلك . ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية ، فقال ابن عطية : الصواب أنها مخاطبة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض انتهى . ولذلك جاء : ) قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى ( وقال قوم : الكلام بمنزلة قولك : إن كنت ابني فبرني ، وليس هذا المثال بجيد ، وإنما مثال هذه قوله تعالى لعيسى عليه السلام : ) قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى ( انتهى . وهذا القول مروي عن الفراء . قال الكرماني : واختاره جماعة ، وضعف بأنه يُصير تقدير الآية : أأنت

" صفحة رقم 191 "
في شك ؟ إذ ليس في الآية ما يدل على نفي الشك . وقيل : كنى هنا بالشك عن الضيق أي : فإن كنت في ضيق من اختلافهم فيما أنزل إليك وتعنتهم عليك . وقيل : كنى بالشاك عن العجب أي : فإن كنت في تعجب من عناد فرعون . ومناسبة المجاز أنّ التعجب فيه تردد ، كما أن الشك تردد بين أمرين . وقال الكسائي : معناه إن كنت في شك أنّ هذا عادتهم مع الأنبياء فسلهم كيف كان صبر موسى عليه السلام حين اختلفوا عليه ؟ وقال الزمخشري : فإن كنت في شك بمعنى العرض والتمثيل ، كأنه قيل : فإن وقع لك شك مثلاً وخيل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً فسئل الذين يقرؤون الكتاب ، والمعنى : أن الله تعالى قدم ذكر بني إسرائيل وهم قرأة الكتاب ، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم ، لأنّ أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فأراد أن يؤكد عليهم بصحة القرآن وصحة نبكوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويبالغ في ذلك فقال تعالى : فإن وقع لك شك فرضاً وتقديراً وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حلها وإماطتها ، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته ، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحق انتهى . وقيل أقوال غير هذه ، وقرأ يحيى وابراهيم : يقرؤون الكتب على الجمع . والحق هنا : الإسلام ، أو القرآن ، أو النبوة ، أو الآيات ، والبراهين القاطعة ، أقوال : فاثبت ودم على ما أنت فيه من انتفاء المرية والتكذيب ، والخطاب للسامع غير الرسول . وكثيراً ما يأتي الخطاب في ظاهره لشخص ، والمراد غيره ، وروي أنه عليه السلام قال : ) لا وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ( وعن ابن عباس : والله ما شك طرفة عين ، ولا سأل أحداً منهم . والامتراء التوقف في الشيء والشك فيه ، وأمره أسهل من أمر المكذب فبدىء به أولاً . فنهى عنه ، واتبع بذكر المكذب ونهى أن يكون منهم .
( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( : ذكر تعالى عباداً قضى عليهم بالشقاوة فلا تتغير ، والكلمة التي حقت عليهم قال قتادة : هي اللعنة والغضب . وقيل : وعيده أنهم يصيرون إلى العذاب . وقال الزمخشري : قول الله تعالى الذي كتب في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً فلا يكون غيره ، وتلك كتابه معلوم لا كتابة مقدر ومراد الله تعالى عن ذلك انتهى . وكلامه أخيراً على طريقة الاعتزال . وقال أبو عبد الله الرازي : المراد من هذه الكلمة كلم الله بذلك ، وإخباره عنه ، وخلقه في العبد مجموع القدرة ، والداعية وهو موجب لحصول ذلك الأمر . وقال ابن عطية : المعنى أنّ الله أوجب لهم سخطه من الأزل وخلقهم لعذابه ، فلا يؤمنون ولو جاءهم كل بيان وكل وضوح إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإيمان ، كما صنع فرعون وأشباهه ، وذلك وقت المعاينة . وفي ضمن الألفاظ التحذير من هذه الحال ، وبعث كل على المبادرة إلى الإيمان والفرار من سخط الله . ويجوز أن يكون العذاب الأليم عند تقطع أسبابهم يوم القيامة ، وتقدم الخلاف في قراءة كلمة بالإفراد وبالجمع .

" صفحة رقم 192 "
) فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ ( : لولا هنا هي التحضيضية التي صحبها التوبيخ ، وكثيراً ما جاءت في القرآن للتحضيض ، فهي بمعنى هلا . وقرأ أبي وعبد الله فهلا ، وكذا هو في مصحفيها ، والتحضيض أن يريد الإنسان فعل الشيء الذي يحض عليه ، وإذا كانت للتوبيخ فلا يريد المتكلم الحض على ذلك الشيء ، كقول الشاعر : تعدون عقر النيب أفضل مجدكم
بني ضوطري لولا الكمى المقنعا
لم يقصد حضهم على عقر الكمى المقنع ، وهنا وبخهم على ترك الإيمان النافع . والمعنى : فهلا آمن أهل القرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم ، فيكون الإيمان نافعاً لهم في هذه الحال . وقوم منصوب على الاستثناء المنقطع ، وهو قول سيبويه والكسائي والفراء والأخفش ، إذ ليسوا مندرجين تحت لفظ قرية . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون متصلاً ، والجملة في معنى النفي كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس . وقال ابن عطية : هو بحسب اللفظ استثناء منقطع ، وكذلك رسمه النحويون ، وهو بحسب المعنى متصل ، لأنّ تقديره ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس ، والنصب هو الوجه ، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب ، وذلك مع انقطاع الاستثناء . وقالت فرقة : يجوز فيه الرفع ، وهذا مع اتصال الاستثناء . وقال المهدوي : والرفع على البدل من قرية ، وقال الزمخشري : وقرىء بالرفع على البدل عن الحرمي والكسائي ، وتقدم الخلاف في قراءة يونس بضم النون وكسرها ، وذكر جواز فتحها .
وقوم يونس : هم أهل نينوي من بلاد الموصل ، كانوا يعبدون الأصنام ، فبعث الله إليهم يونس فأقاموا على تكذيبه سبع سنين ، وتوعدهم العذاب بعد ثلاثة أيام . وقيل : بعد أربعين يوماً . وذكر المفسرون قصة قوم يونس وتفاصيل فيها ، وفي كيفية عذابهم الله أعلم بصحة ذلك ، ويوقف على ذلك في كتبهم . وقال الطبري : وذكره عن جماعة أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن تنب عليهم بعد معاينة العذاب . وقال الزجاج : هؤلاء دنا منهم العذاب ولم يباشرهم كما باشر فرعون ، فكانوا كالمريض الذي يخاف الموت ويرجو العافية ، فأما الذي يباشره العذاب فلا توبة له . وقال ابن الأنباري : علم منهم صدق النيات بخلاف من تقدمهم من الهالكين . قال السدي : إلى حين ، إلى وقت انقضاء آجالهم . وقيل : إلى يوم القيامة ، وروي عن ابن عباس . ولعله لا يصح ، فعلى هذا يكونون باقين أحياء ، وسترهم الله عن الناس .
( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ( : قيل : نزلت في أبي طالب ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أسف بموته على ملة عبد المطلب وكان حريصاً على إيمانه . ولما كان أخرص الناس على هدايتهم وأسعى في وصول الخير إليهم والفوز بالإيمان منهم وأكثر اجتهاداً في نجاة العالمين من العذاب ، أخبره

" صفحة رقم 193 "
تعالى أنه خلق أهلاً للسعادة وأهلاً للشقاوة ، وأنه لو أراد إيمانهم كلهم لفعل ، وأنه لا قدرة لأحد على التصرف في أحد . والمقصود بيان أنّ القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا له تعالى . وتقديم الاسم في الاستفهام على الفعل يدل على إمكان حصول الفعل ، لكن من غير ذلك الإسم فلله تعالى أن يكره الناس على الإيمان لو شاء ، وليس ذلك لغيره .
وقال الزمخشري : ولو شاء ربك مشيئة القسر وإلا لجاء لآمن من في الأرض كلهم على وجه الإحاطة والشمول جميعاً ، مجتمعين على الإيمان ، مطبقين عليه ، لا يختلفون فيه . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ ( يعني إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم على الإيمان هؤلاء أنت . وإتلاء الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأنّ الإكراه ممكن مقدور عليه ، وإنما الشان في المكره من هو ، وما هو إلا هو وحده ولا يشارك فيه ، لأنه تعالى هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان ، وذلك غير مستطاع للبشير انتهى . وقوله : مشيئة القسر والإلجاء هو مذهب المعتزلة . وقال ابن عطية : المعنى أنّ هذا الذي تقدم ذكره إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئته فيهم ، ولو شاء الله لكان الجميع مؤمناً ، فلا تتأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك ، وادع ولا عليك ، فالأمر محتوم . أتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم ، وتضطرهم إلى ذلك والله عز وجل قد شاء غيره ؟ فهذا التأويل الآية عليه محكمة أي : ادع وقاتل من خالفك ، وإيمان من آمن مصروف إلى المشيئة . وقالت فرقة : المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يدخلوا في الإيمان ؟ وزعمت أن هذه الآية في صدر الإسلام ، وأنها منسوخة بآية السيف ، والآية على كلا التأويلين رادة على المعتزلة انتهى . ولذلك ذهب الزمخشري إلى تفسير المشيئة بمشيئة القسر والإلجاء ، وهو تفسير الجبائي والقاضي . ومعنى إلا بإذن الله . أي بإرادته وتقديره لذلك والتمكن منه . وقال الزمخشري : بتسهيله وهو منح الإلطاف . ويجعل الرجس : وهو الخذلان على الذين لا يعقلون ، وهم المصرون على الكفر . وسمى الخذلان رجساً وهو العذاب ، لأنه سببه انتهى . وهو على طريق الاعتزال . وقال ابن عباس : الرجس السحط ، وعنه الإثم والعذوان . وقال مجاهد : ما لا خير فيه . وقال الحسن ، وأبو عبيدة ، والزجاج : العذاب . وقال الفراء : العذاب والغضب . وقال الحسن أيضاً : الكفر . وقال قتادة : الشيطان ، وقد تقدّم تفسيره ، ولكن نقلنا ما قاله العلماء هنا . وقرأ أبو بكر ، وزيد بن علي : ونجعل
بالنون ، وقرأ الأعمش : ويجعل الله الرجز بالزاي .
( قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُواْ إِنَّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( : أمر تعالى بالفكر فيما أودعه تعالى في السموات والأرض ، إذ السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته ، ففي العالم العلوي في حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها والكواكب ، وما يختص بذلك من المنافع والفوائد ، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان ، وخصوصاً حال الإنسان . وكثيراً ما ذكر الله تعالى في كتابه الحض على الفكر في مخلوقاته تعالى وقال : ماذا في السموات والأرض تنبيهاً على القاعدة الكلية ، والعاقل يتنبه لتفاصيلها وأقسامها . ثم لما أمر بالنظر أخبر أنه من لا يؤمن لا تغنيه الآيات .
والنذر جمع نذير ، إما مصدر فمعناه الإنذارات ، وإما بمعنى منذر فمعناه المنذرون والرسل . وما الظاهر أنها للنفي ، ويجوز أن تكون استفهاماً أي : وأي شيء تغني الآيات وهي الدلائل ؟ وهو استفهام على جهة التقرير . وفي اة ية توبيخ لحاضري رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من المشركين . وقرأ الحرميان

" صفحة رقم 194 "
والعربيان ، والكسائي : قل انظروا بضم اللام ، وقرىء : وما تغني بالتاء ، وهي قراءة الجمهور وبالياء . وماذا يحتمل أن يكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في السموات . ويحتمل أن يكون الخبر ذا بمعنى الذي ، وصلته في السموات . وانظروا معلقة ، فالجملة الابتدائية في موضع نصب ، ويبعد أن تكون ماذا كله موصولاً بمعنى الذي ، ويكون مفعولاً لقوله : انظروا ، لأنه إن كانت بصرية تعدت بإلى ، وإن كانت قلبية تعدت بفي . وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون ما في قوله : وما تغني ، مفعولة لقوله : انظروا ، معطوفة على قوله : ماذا أي : تأملوا نذر غنى الآيات . والنذر عن الكفار إذا قبلوا ذلك ، كفعل قوم يونس ، فإنه يرفع العذاب في الدنيا والآخرة وينجي من الهلكات . والآية على هذا تحريض على الإيمان ، وتجوز اللفظ على هذا التأويل ، إنما هو في قوله : لا يؤمنون انتهى . وهذا احتمال فيه ضعف . وفي قوله : مفعولة معطوفة على قوله ماذا ، تجوز يعني أنّ الجملة الاستفهامية التي هي ماذا في السموات والأرض في موضع المفعول ، لأنّ ماذا منصوب وحده بانظروا ، فيكون ماذا موصولة . وانظروا بصرية لما تقدم ، والأيام هنا وقائع الله فيم ، كما يقال أيام العرب لوقائعها . وفي الاستفهام تقرير وتوعد ، وحض على الإيمان ، والمعنى : إذا لجوا في الكفر حل بهم العذاب ، وإذا آمنوا نجوا ، هذه سنة الله في الأمم الخالية . قل فانتظروا أمر تهديد أي : انتظروا ما يحل بكم كما خل بمن قبلكم من مكذبي الرسل .
( ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ ( : لما تقدم قوله : فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ، وكان ذلك مشعراً بما حل بالأمم الماضية المكذبة ومصرحاً بهلاكهم في غير ما آية ، أخبر تعالى عن حكاية حالهم الماضية فقال : ثم ننجي رسلنا ، والمعنى : إن الذين خلوا أهلكناهم لما كذبوا الرسل ، ثم نجينا الرسل والمؤمنين . ولذلك قال الزمخشري : ثم ننجي معطوف على كلام محذوف يدل عليه إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ، كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا على مثل الحكايات الماضية . والظاهر أن كذلك في موضع نصب تقديره : مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم ، ننجي من آمن بك يا محمد ، ويكون حقاً على تقدير : حق ذلك حقاً . وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون حقاً بدلاً من المحذوف النائب عنه الكاف تقديره : إنجاء مثل ذلك حقاً . وأجاز أن يكون كذلك ، وحقاً منصوبين بننجي التي بعدهما ، وأن يكون كذلك منصوباً بننجي الأولى ، وحقاً بننجي الثانية ، وأجاز هو تابعاً لابن عطية أن تكون الكاف في موضع رفع ، وقدره الأمر كذلك : وحقاً منصوب بما بعدها . وقال الزمخشري مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين ، وحقاً علينا اعتراض يعني حق ذلك علينا حقاً . قال القاضي : حقاً علينا المراد به الوجوب ، لأن تخليص الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمؤمنين من العذاب إلى الثواب واجب ، ولولاه ما حسن من الله أن يلزمهم : الأفعال الشاقة . وإذا ثبت لهذا السبب جرى مجرى قضاء الدين للسبب المتقدّم ، وأجيب بأنه حق . بحسب الوعد والحكم لا بحسب الاستحقاق ، لما ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئاً . وقرأ الكسائي ، وحفص : ننجي المؤمنين بالتخفيف مضارع أنجى ، وخط المصحف ننج بغير ياء .
( قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّه

" صفحة رقم 195 "
الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ ( ( سقط : وأمرت أن أكون من المؤمنين ، وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ، ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك لإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ، وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يرد بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ) خطاب لأهل مكة يقول : إن كنتم لا تعرفون ما أنا عليه فأنا أبينه لكم ، فبدأ أولاً بالانتفاء من عبادة ما يعبدون من الأصنام تسفيهاً لآرائهم ، وأثبت ثانياً من الذي يعبده وهو الله الذي يتوفاكم . وفي ذكر هذا الوصف الوسط الدال على التوفي . دلالة على البدء وهو الخلق ، وعلى الإعادة ، فكأنه أشار إلى أنه يعبد الله الذي خلقكم ويتوفاكم ويعيدكم ، وكثيراً ما صرح في القرآن بهذه الأطوار الثلاثة ، وكان التصريح بهذا الوصف لما فيه من التذكير بالموت وإرهاب النفوس به ، وصيرورتهم إلى الله بعده ، فهو الجدير بأنْ يخاف ويتقي ويعبد لا الحجارة التي تعبدونها . وأمرت أن أكون من المؤمنين لما ذكر أنه يعبد الله ، وكانت العبادة أغلب ما عليها عمل الجوارح ، أخبر أنه أمر بأن يكون من المصدقين بالله الموحدين له ، المفرد له بالعبادة ، وانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة ، وطابق الباطن الظاهر . قال الزمخشري : يعني أن الله تعالى أمرني بما ركب فيّ من العقل ، وبما أوحي إليّ في كتابه . وقيل معناه إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه ، أأثبت أم أتركه وأوافقكم ، فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال ، ولا تشكوا في أمري ، واقطعوا عني أطماعكم ، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله : ) قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( وأمرت أن أكون أصله : بأن أكون ، فحذف الجار وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارة ، مع أنّ وإن يكون من الحذف غير المطرد وهو قوله : أمرتك الخير ) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ( انتهى يعني بالحذف غير المطرد وهو قوله : أمرتك الخير ، إنه لا يحذف حرف الجر من المفعول الثاني إلا في أفعال محصورة سماعاً لا قياساً وهي : اختار ، واستغفر ، وأمر ، وسمى ، ولبى ، ودعا بمعنى سمى ، وزوّج ، وصدّق ، خلافاً لمن قاس الحذف بحرف الجر من المفعول الثاني ، حيث يعني الحرف ووموضع الحذف نحو : بريت القلم بالسكين ، فيجيز السكين بالنصب . وجواب إن كنتم في شك قوله : فلا أعبد ، والتقدير : فأنا لا أعبد ، لأنّ الفعل المنفي بلا إذا وقع جواباً انجزم ، فإذا دخلت عليه الفاء علم أنه على إضمار المبتدأ . وكذلك لو ارتفع دون لا لقوله .
ومن عاد فينتقم الله منه أي : فهو ينتقم الله منه . وتضمن قوله : فلا أعبد ، معنى فأنا مخالفكم . وأن أقم يحتمل أنْ تكون معمولة لقوله : وأمرت ، مراعى فيها المعنى . لأن معنى قوله أنْ أكون كن من المؤمنين ، فتكون أن مصدرية صلتها الأمر . وقد أجاز ذلك النحويون ، فلم يلتزموا في صلتها ما التزم في صلات الأسماء الموصولة من كونها لا تكون إلا خبرية بشروطها المذكورة في النحو . ويحتمل أن تكون على إضمار فعل أي : وأوحي إليّ أن أقم ، فاحتمل أن تكون مصدرية ، واحتمل أن تكون حرف تفسير ، لأن الجملة المقدرة فيها معنى القول وإضمار الفعل أولى ، ليزول قلق العطف لوجود الكاف ، إذ لو كان وأنّ أقم عطفاً على أن أكون ، لكان التركيب وجهي بياء المتكلم ومراعاة المعنى فيه ضعف ، وإضمار الفعل أكثر من مراعاة العطف على المعنى . والوجه هنا المنحى ، والمقصد أي : استقم للدين ولا تحد عنه ، وكنى بذلك عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين . وحنيفاً : حال من الضمير في أقم ، أو من المفعول . وأجاز الزمخشري أن تكون حالاً من الدين ، ولا تدع يحتمل أن يكون استئناف

" صفحة رقم 196 "
نهي ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على أقم ، فيكون في حيز أن على قسميها من كونها مصدرية ، وكونها حرف تفسير . وإذا كان دعاء الأصنام منهياً عنه فأحرى أن ينهي عن عبادتها ، فإن فعلت كنى بالفعل عن الدعاء إيجازاً أي : فإن دعوت ما لا ينفعك ولا يضرك . وجواب الشرط فإنك وخبرها ، وتوسطت إذاً بين اسم إنّ والخبر ، ورتبتها بعد الخبر ، لكنْ روعي في ذلك الفاصلة . قال الحوفي : الفاء جواب الشرط ، وإذا متوسطة لا عمل لها يراد بها في هذا إذا كان ذلك هذا تفسير ، المعنى لا يجيء على معنى الجواب انتهى . وقال الزمخشري : إذا جواب الشرط ، وجواب لجواب مقدر كان سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان ، وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك ، ( إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( انتهى . وكلامه في إذا يحتاج إلى تأمل ، وقد تقدم لنا الكلام فيها مشبعاً في سورة البقرة . ولما وقع النهي عن دعاء الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع ، ذكر أن الحول والقوة والنفع والضر ليس ذلك إلا لله ، وأنه تعالى هو المنفرد بذلك ، وأتى في الضر بلفظ المس ، وفي الخير بلفظ الإرادة ، وطابق بين الضر والخير مطابقة معنوية لا لفظية ، لأنّ مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر ، فجاءت لفظة الضر ألطف وأخص من لفظة الشر ، وجاءت لفظة الخير أتم من لفظة النفع ، ولفظة المس أوجز من لفظ الإرادة وأنص على الإصابة وأنسب لقوله : فلا كاشف له إلا هو ، ولفظ الإرادة أدل على الحصول في وقت الخطاب وفي غيره وأنسب للفظ الخير ، وإن كان المس والإرادة معناهما الإصابة . وجاء جواب : وإن يمسسك بنفي عام وإيجاب ، وجاء جواب : وإن يردك بنفي عام ، لأنّ ما أراده لا يرده رادّ لا هو ولا غيره ، لأن إرادته قديمة لا تتغير ، فلذلك لم يجيء التركيب فلا رادّ له إلا هو . والمس من حيث هو فعل صفة فعل يوقعه ويرفعه بخلاف الإرادة ، فإنها صفة ذات ، وجاء فلا رادّ لفضله سمى الخير فضلاً إشعاراً بأنّ الخيور من الله تعالى ، هي صادرة على سبيل الفضل والإحسان والتفضل . ثم اتسع في الإخبار عن الفضل والخير فقال : يصيب به من يشاء من عباده ، ثم أخبر بالصفتين الدالتين على عدم المؤاخذة وهما : الغفور الذي يستر ويصفح عن الذنوب ، والرحيم الذي رحمته سبقت غضبه . ولما تقدم قوله : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ، فأخر الضر ، ناسب أن تكون البداءة بجملة الشرط المتعلقة بالضر . وأيضاً فإنه لما كان الكفار يتوقع منهم الضر للمؤمنين والنفع لا يرجى منهم ، كان تقديم جملة الضر آكد في الإخبار فبدىء بها . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم ذكر المس في أحدهما ، والإرادة في الثاني ؟ ( قلت ) : كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً : الإرادة ، والإصابة في كل واحد من الضر والخير ، وأنه لا رادّ لما يريد منهما ، ولا مزيل لما يصيب به منهما ، فأوجز الكلام بأنّ ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما ، والإرادة في الإنجاز ، ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد كرر الإصابة في الخير في قوله : يصيب به من يشاء من عباده ، والمراد بالمشيئة المصلحة .
( قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( الحق : القرآن ، أو الرسول ، أو دين الإسلام ، ثلاثة أقوال والمعنى : فإنما ثواب هدايته حاصل له ، ووبال ضلاله عليه ، والهداية والضلال واقعان بإرادة الله تعالى من العبد ، هذا مذهب أهل السنة . وأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع ذلك ، وإن من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في ذلك . وقال القاضي : إنه تعالى بيّن أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم

" صفحة رقم 197 "
بوكيل ، فلا يجب عليّ من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم ، وفي تخليصكم من العذاب الأليم ، أزيد مما فعلت . وقال الزمخشري : لم يبق لكم عذر ولا على الله تعالى حجة ، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه ، ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه . واللام وعلى على معنى النفع والضر ، وكل إليهم الأمر بعد إزاحة العلل وإبانة الحق . وفيه حث على إتيان الهدى واطراح الضلال مع ذلك ، وما أنا عليكم بوكيل بحفيظ موكول إليّ أمركم وحملكم على ما أريد ، إنما أنا بشير ونذير انتهى . وكلامه تذييل كلام القاضي ، وهو جار على مذهب المعتزلة . وأمره تعالى نبيه باتباع ما يوحى إليه أمر بالديمومة وبالصبر على ما ينالك في الله من أذى الكفار وإعراضهم ، وغيا الأمر بالصبر بقوله : حتى يحكم الله وهو وعد منه تعالى بإعلاء كلمته ونصره على أعدائه كما وقع . وذهب ابن عباس وجماعة إلى أنّ قوله : وما أنا عليكم بوكيل واصبر ، منسوخ بآية السيف . وذهب جماعة إلى أنه محكم ، وحملوا وما أنا عليكم بوكيل على أنه ليس بحفيظ على أعمالهم ليجازيهم عليها ، بل ذلك لله . وقوله : واصبر على ، الصبر على طاعة الله وحمل أثقال النوبة وأداء الرسالة ، وعلى هذا لا تعارض بين هاتين الآيتين وبين آية السيف ، وإلى هذا مال المحققون . وروي أنه لما نزلت : واصبر ، جمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الأنصار فقال : ( إنكم ستجدون بعدي إثرة فاصبروا حتى تلقوني ) قال الزمخشري : يعني أنّي أمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامني الكفرة ، فصبرت واصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة . قال أنس : فلم نصبر ، ثم ذكر حكاية جرت بين أبي قتادة ومعاوية رضي الله عنهما يوقف عليها من كتابه .

" صفحة رقم 198 "
( سورة هود )
بسم الله الرحمن الرحيم 2 ( ) الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الاٌّ رْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّيإِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّه

" صفحة رقم 199 "
وَأَن لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاٌّ حْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَائِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الاٌّ شْهَادُ هَاؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالاٌّ خِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ أُولَائِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاٌّ رْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ هُمُ الاٌّ خْسَرُونَ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالاٌّ عْمَى وَالاٌّ صَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّىأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّىوَءاتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَياقَوْمِ لاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَاكِنِّىأَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِىأَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إِنِّىإِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى
e

" صفحة رقم 200 "
1764 إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى وَأَنَاْ بَرِىءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ( )
هود : ( 1 ) الر كتاب أحكمت . . . . .
ثنى الشيء ثنياً طواه ، يقال : ثنى عطفه ، وثنى صدره ، وطوى كشحه . الحزب : جماعة من الناس يجتمعون على أمر يتعصبون فيه . رذل الرجل رذالة فهو رذل إذا كان سفلة لا خلاق له ، ولا يبالي بما يقول ما يفعل . الإخبات : التواضع والتذلل ، مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض . وقيل : البراح القفر المستوي ، ويقال : أخبت دخل في الخبت ، مأنجد دخل نجداً وأنهم دخل تهامة ، ثم توسع فيه فقيل : خبت ذكره خمد . ويتعدى أخبت بإلى وباللام ، ويقال للشيء الدنيء : الخبيث . قال الشاعر : ينفع الطيب الخبيث من الرز
ق ولا ينفع الكثير الخبيث
لزم الشيء واظب عليه لا يفارقه ، ومنه اللزام . زرى يزري حقر ، وأزرى عليه عابه ، وازدرى افتعل من زرى أي : احتقر . التنور مستوقد النار ، ووزنه فعول عند أبي علي ، وهو أعجمي وليس بمشتق . وقال ثعلب : وزنه تفعول من النور ، وأصله تنوور فهمزت الواو ثم خففت ، وشدّد الحرف الذي قبله كما قال : رأيت عرابة اللوسي يسمو
إلى الغايات منقطع القرين
يريد عرابة الأوسى . وللمفسرين أقوال في التنور ستأتي إن شاء الله تعالى .
( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ ( : قال ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وجابر بن زيد : هذه السورة مكية كلها ، وعن ابن عباس : مكية كلها إلا قوله : ) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ( الآية .

" صفحة رقم 201 "
وقال مقاتل : مكية إلا قوله : فلعلك تارك الآية . وقوله : ) أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ( نزلت في ابن سلام وأصحابه . وقوله : ) إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ( نزلت في نبهان التمار .
وكتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله : الم ذلك الكتاب ، وأحكمت صفة له . ومعنى الأحكام : نظمه نظماً رضياً لا نقص فيه ولا خلل ، كالبناء المحكم . وهو الموثق في الترصيف ، وعلى هذا فالهمزة في أحكمت ليست للنقل ، ويجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف إذا صار حكيماً ، فالمعنى : جعلت حكيمة كقولك : تلك آيات الكتاب الحكيم على أحد التأويلين في قوله : ) الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( وقيل : من أحكمت الدابة إذا منعها من الجماح بوضع الحكمة عليها ، فالمعنى : منعت من النساء كما قال جرير : أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم
إني أخاف عليكم أن أغضبا
وعن قتادة : أحكمت من الباطل . قال ابن قتيبة : أحكمت أتقنت شبه ما يحكم من الأمور المتقنة الكاملة ، وبهذه الصفة كان القرآن في الأول ، ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكامه وأوامره عل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فثم على بابها ، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل . إذ الإحكام صفة ذاتية ، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له ، والكتاب أجمعه محكم مفصل ، والإحكام الذي هو ضد النسخ ، والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال ، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك . وحكى الطبري عن بعض المتأولين : أحكمت بالأمر والنهي ، وفصلت بالثواب والعقاب . وعن بعضهم : أحكمت من الباطل ، وفصلت بالحلال والحرام ، ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى ، ولكن لا يقتضيه اللفظ . وقيل : فصلت معناه فسرت ، وقال الزمخشري : ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية آية ، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة ، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد أي بيّن ولخص . وقرأ عكرمة ، والضحاك ، والجحدري ، وزيد بن علي ، وابن كثير في رواية : ثم فصلت بفتحتين ، خفيفة على لزوم الفعل للآيات . قال صاحب اللوامح : يعني انفصلت وصدرت . وقال ابن عطية : فصلت بين المحق والمبطل من الناس ، أو نزلت إلى الناس كما تقول : فصل فلان بسفره .
قال الزمخشري : وقرىء أحكمت آياته ثم فصلت أي : أحكمتها أنا نائم ، فصلتها . ( فإن قلت ) : ما معنى ؟ ثم ( قلت ) : ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال ، كما تقول : هي محكمة أحسن الأحكام ، ثم مفصلة أحسن التفصيل ، وفلان كريم الأصل ، ثم كريم الفعل انتهى . يعني أنّ ثم جاءت لترتيب الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان ، واحتمل من لدن أن يكون في موضع الصفة . ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد أجاز أن يكون خبراً بعد خبر . قال الزمخشري : أن يكون صلة أحكمت وفصلت أي : من عنده أحكامها وتفصيلها . وفيه طباق حسن ، لأنّ المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي : بينها وشرحها خبير بكيفيات الأمور انتهى . ولا يريد أن من لدن متعلق بالفعلين معاً من حيث صناعة الإعراب ، بل يريد أن ذلك من باب الاعمال ، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى . وأن لا تعبدوا يحتمل أن يكون أن حرف تفسير ، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر ، لأنه لا يحتاج إلى إضمار . وقيل : التقدير لأنْ لا تعبدوا أو بأنْ لا تعبدوا ، فيكون مفعولاً من أجله ، ووصلت أنْ بالنهي . وقيل

" صفحة رقم 202 "
أنْ نصبت لا تعبدوا ، فالفعل خبر منفي . وقيل : أنْ هي المخففة من الثقيلة ، وجملة النهي في موضع الخبر ، وفي هذه الأقوال العامل فصلت . وأما من أعربه أنه بدل من لفظ آيات أو من موضعها ، أو التقدير : من النظر أنْ لا تعبدوا إلا الله ، أو في الكتاب ألا تعبدوا ، أو هي أنْ لا تعبدوا ، أو ضمن أنْ لا تعبدوا ، أو تفصله أنْ لا تعبدوا ، فهو بمعزل عن علم الإعراب . والظاهر عود الضمير في منه إلى الله أي : إني لكم نذير من جهته وبشير ، فيكون في موضع الصفة ، فتعلق بمحذوف أي : كائن من جهته . أو تعلق بنذير أي : أنذركم من عذابه إنْ كفرتم ، وأبشركم بثوابه إن آمنتم . وقيل : يعود على الكتابة أي : نذير لكم من مخالفته ، وبشير منه لمن آمن وعمل به . وقدم النذير لأن التخويف هو الأهم . وأنْ استغفروا معطوف على أنْ لا تعبدوا ، نهي أو نفي أي : لا يعبد إلا الله . وأمر بالاستغفار من الذنوب ، ثم بالتوبة ، وهما معنيان متباينان ، لأنّ الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر ، والمعنى : أنه لا يبقى لها تبعة . والتوبة الانسلاخ من المعاصي ، والندم على ما سلف منها ، والعزم على عدم العود إليها . ومن قال : الاستغفار توبة ، جعل قوله : ثم توبوا ، بمعنى أخلصوا التوبة واستقيموا عليها . قال ابن عطية : وثم مرتبة ، لأن الكافر أول ما ينيب ، فإنه في طلب مغفرة ربه ، فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى ثمّ في قوله : ثم توبوا إليه ؟ ( قلت ) : معناه استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطاعة . وقرأ الحسن ، وابن هرمز ، وزيد بن علي ، وابن محيصن : يمتعكم بالتخفيف من أمتع ، وانتصب متاعاً على أنه مصدر جاز على غير الفعل ، أو على أنه فمعول به . لأنك تقول : متعت زيداً ثوباً ، والمتاع الحسن الرضا بالميسور والصبر على المقدور ، أو حسن العمل وقطع الأمل ، أو النعمة الكافية مع الصحة والعافية ، أو الحلال الذي لا طلب فيه ولا تعب ، أو لزوم القناعة وتوفيق الطاعة أقوال . وقال الزمخشري : يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية ، وعيشة واسعة ، ونعمة متتابعة . قال ابن عطية : وقيل هو فوائد الدنيا وزينتها ، وهذا ضعيف . لأنّ الكفار يشاركون في ذلك أعظم مشاركة ، وربما زادوا على المسلمين في ذلك . قال : ووصف المتاع بالحسن إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل ، وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفروضاته ، والسرور بمواعيده ، والكافر ليس في شيء من هذا ، والأجل المسمى هو أجل الموت قاله : ابن عباس والحسن . وقال ابن جبير : يوم القيامة ، والضمير في فضله يحتمل أن يعود على الله تعالى أي : يعطي في الآخرة كل من كان له فضل في عمل الخير ، وزيادة ما تفضل به تعالى وزاده . ويحتمل أن يعود على كل أي : جزاء ذلك الفضل الذي عمله في الدنيا لا يبخس منه شيء ، كما قال : ) نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ( أي جزاءها . والدرجات تتفاضل في الجنة بتفاضل الطاعات ، وتقدم أمران بينهما تراخ ، ورتب عليهما جوابان بينهما تراخ ، ترتب على الاستغفار التمتيع المتاع الحسن في الدنيا ، كما قال : فقلت ) اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً ( الآية وترتب على التوبة إيتاء الفضل في الآخرة ، وناسب كل جواب لما وقع جواباً له ، لأنّ الاستغفار من الذنب أول حال الراجع إلى الله ، فناسب أن يرتب عليه حال الدنيا . والتوبة هي المنجية من النار ، والتي تدخل الجنة ، فناسب أن يرتب عليها حال الآخرة . والظاهر أنّ تولوا مضارع حذف منه التاء أي : وإنْ تتولوا . وقيل : هو ماض للغائبين ، والتقدير قيل لهم : إني أخاف عليكم . وقرأ اليماني ، وعيسى بن عمر : وإن تولوا بضم التاء واللام ، وفتح الواو ، مضارع وليّ ، والأولى مضارع تولى . وفي كتاب اللوامح اليماني وعيسى البصرة : وإن تولوا بثلاث ضمات مرتباً للمفعول به ، وهو ضد التبري . وقرأ الأعرج : تولوا بضم التاء واللام . وسكون الواو ، مضارع أولى ، ووصف يوم بكبير وهو يوم القيامة لما يقع فيه من الأهوال . وقيل : هو يوم بدر وغيره من الأيام التي رموا فيها بالخذلان والقتل والسبي والنهب وأبعد من ذهب إلى أنّ كبير صفة لعذاب ، وخفض على الجوار . وباقي الآية تضمنت تهديداً عظيماً وصرحت بالبعث ، وذكر أنّ قدرته عامة لجميع ما يشاء ، ومن ذلك البعث ،

" صفحة رقم 203 "
فهو لا يعجزه ما شاء من عذابهم .
( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( : نزلت في الأخنس بن شريق ، كان يجالس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويحلف أنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر قاله ابن عباس . وعنه أيضاً : في ناس كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء . وقيل : في بعض المنافقين ، كان إذا مر بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يرى الرسول قاله : عبد الله بن شدّاد . وقيل : في طائفة قالوا إذا أغلقنا أبوابنا ، وأرخينا ستورنا ، واستغشينا ثيابنا ، وثنينا صدورنا ، على عداوته كيف يعلم بنا ؟ ذكره الزجاج . وقيل : فعلوا ذلك ليبعد عليهم صوت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولا يدخل أسماعهم القرآن ذكره ابن الأنباري . ويثنون مضارع ثنى قراءة الجمهور . وقرأ سعيد بن جبير : يثنون بضم الياء مضارع أثنى صدورهم بالنصب . قال صاحب اللوامح : ولا يعرف الاثناء في هذا الباب إلا أن يراد به وجدتها مثنية مثل أحمدته وأمجدته ، ولعله فتح النون وهذا مما فعل بهم ، فيكون نصب صدورهم بنزع الجار ، ويجوز على ذلك أن يكون صدورهم رفعاً على البدل بدل البعض من الكل . وقال أبو البقاء : ماضية أثنى ، ولا يعرف في اللغة إلا أن يقال معناه : عرضوها للاثناء ، كما يقال : أبعت الفرس إذا عرضته للبيع . وقرأ ابن عباس ، وعلي بن الحسين ، وابناه زيد ومحمد ، وابنه جعفر ، ومجاهد ، وابن يعمر ، ونصر بن عاصم ، وعبد الرحمن بن ابزي ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق ، وأبو الأسود الدؤلي ، وأبو رزين ، والضحاك : تثنوني بالتاء مضارع اثنوني على وزن افعوعل نحو اعشوشب المكان صدورهم بالرفع ، بمعنى تنطوي صدورهم . وقرأ أيضاً ابن عباس ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وابن أبي إسحاق : يثنوني بالياء صدورهم بالرفع ، ذكر على معنى الجمع دون الجماعة . وقرأ ابن عباس أيضاً ليثنون بلام التأكيد في خبر إنْ ، وحذف الياء تخفيفاً وصدورهم رفع . وقرأ ابن عباس أيضاً ، وعروة ، وابن أبي أبزي ، والأعشى : يثنون ووزنه يفعوعل من الثن ، بنى منه افعوعل وهو ما هش وضعف من الكلأ ، وأصله يثنونن يريد مطاوعة نفوسهم للشيء ، كما ينثني الهش من النبات . أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم وصدورهم بالرفع . وقرأ عروة ومجاهد أيضاً : كذلك إلا أنه همز فقرأ يثنئن مثل يطمئن ، وصدورهم رفع ، وهذه مما استثقل فيه الكسر على الواو كما قيل : أشاح . وقد قيل أن يثنئن يفعئل من الثن . المتقدّم ، مثل تحمارّ وتصفارّ ، فحركت الألف لالتقائهما بالكسر ، فانقلبت همزة . وقرأ الأعشى : يثنؤون مثل يفعلون مهموز اللام ، صدورهم بالنصب . قال صاحب اللوامح : ولا أعرف وجهه لأنه يقال : ثنيت ، ولم أسمع ثنأت . ويجوز أنه قلب الياء ألفاً على لغة من يقول : أعطأت في أعطيت ، ثم همز على لغة من يقول : ) وَلاَ الضَّالّينَ ( وقرأ ابن عباس : يثنوي بتقديم الثاء على النون ، وبغير نون بعد الواو على وزن ترعوي . قال أبو حاتم : وهذه القراءة غلط لا تتجه انتهى . وإنما قال ذلك لأنه لاحط الواو في هذا الفعل لا يقال : ثنوته فانثوى كما يقال : رعوته أي كففته فارعوى فانكف ، ووزنه أفعل . وقرأ نضير بن عاصم ، وابن يعمر ، وابن أبي إسحاق : يثنون بتقديم النون على الثاء ، فهذه عشر قراءات في هذه الكلمة . والضمير في أنهم عائد على بعض من بحضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الكفار أي : يطوون صدورهم على عدوانه . قال الزمخشري : يثنون صدورهم يزوّرون عن الحق وينحرفون عنه ، لأنّ من أقبل على الشيء استقبله بصدره ، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه ليستخفوا منه ، يعني : ويريدون ليستخفوا من الله ، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم . ونظير إضمار يريدون ، لعود المعنى إلى إضماره الإضمار في قوله تعالى : ) أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ( معناه : فضرب فانفلق . ومعنى ألا حين : يستغشون ثيابهم ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام الله كقول نوح عليه السلام : ) جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ ( انتهى . فالضمير في منه على قوله عائد على الله ، قال

" صفحة رقم 204 "
ابن عطية : وهذا هو الأفصح الأجزل في المعنى انتهى . ويظهر من بعض أسباب النزول أنه عائد على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) كما قال ابن عطية . قال : قيل : إنّ هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) تطامنوا وثنوا صدورهم كالمتستر ، وردّوا إليه ظهورهم ، وغشوا وجوههم بثيابهم تباعداً منهم وكراهية للقائه ، وهم يظنون أنّ ذلك يخفى عليه أو عن الله تعالى فنزلت الآية انتهى . فعلى هذا يكون ليستخفوا متعلقاً بقوله يثنون ، وكذا قال الحوفي . وقيل : هي استعارة للغل ، والحقد الذي كانوا ينطون عليه كما تقول : فلان يطوي كشحه على عداوته ، ويثني صدره عليها ، فمعنى الآية : ألا أنهم يسرون العداوة ويتكتمون لها ، ليخفي في ظنهم عن الله عز وجل ، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون انتهى . فعلى هذا يكون حين معمولاً لقوله : يعلم ، وكذا قاله الحوفي لا للمضمر الذي قدره الزمخشري وهو قوله : ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم . وقال أبو البقاء : ألا حين العامل في الظرف محذوف أي : ألا حين يستغشون ثيابهم يستخفون ، ويجوز أن يكون ظرفاً ليعلم . وقيل : كان بعضهم ينحني على بعض ليساره في الطعن على المسلمين ، وبلغ من جهلهم أنّ ذلك يخفى على الله تعالى . قال قتادة : أخفى ما يكون إذا حتى ظهره واستغشى ثوبه ، وأضمر في نفسه همته . وقال مجاهد : يطوونها على الكفر . وقال ابن عباس : يخفون ما في صدورهم من الشحناء . وقال قتادة : يخفون ليسمعوا كلام الله . وقال ابن زيد : يكتمونها إذا ناجى بعضاً في أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : يثنونها حياءً من الله تعالى ، ومعنى يستغشون : يجعلونها أغشية . ومنه قول الخنساء : أرعى النجوم وما كلفت رعيتها
وتارة أتغشى فضل أطماري
وقيل : المراد بالثياب الليل ، واستعيرت له لما بينهما من العلاقة بالستر ، لأن الليل يستر كما تستر الثياب ومنه قولهم : الليل أخفى للويل ، وقرأ ابن عباس : على حين يستغشون . قال ابن عطية : ومن هذا الاستعمال قول النابغة : على حين عاتبت المشيب على الصبا
وقلت ألما أصح والشيب وازع
انتهى .
وقال ابن عباس : ما يسرون بقلوبهم ، وما يعلنون بأفواههم . وقيل : ما يسرون بالليل وما يعلنون بالنهار . وقال ابن الأنباري : معناه أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهرانهم . وقال الزمخشري : يعني أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم ، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء والله مطلع على ثنيهم صدورهم ، واستغشائهم بثيابهم ، ونفاقهم غير نافق عنده . وقال صاحب التحرير : الذي يقتضيه سياق الآية أنه أراد بما يسرون ما انطوت عليه صدورهم من الشرك والنفاق والغل والحسد والبغض للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه ، لأنّ ذلك كله من أعمال

" صفحة رقم 205 "
القلوب ، وأعمال القلوب خفيه جدًّا ، وأراد بما يعلنون ما يظهرونه من استدبارهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وتغشيه ثيابهم ، وسدّ آذانهم وهذه كلها أعمال ظاهرة لا تخفى .
( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( : الدابة هنا عام في كل حيوان يحتاج إلى رزق ، وعلى الله ظاهر في الوجوب ، وإنما هو تفضل ، ولكنه لما ضمن تعالى أن يتفضل به عليهم أبرزه في حيز الوجوب . قال ابن عباس : مستقرها حيث تأوى إليه من الأرض ، ومستودعها الموضع الذي تموت فيه فتدفن . وعنه أيضاً : مستقرها في الرحم ، ومستودعها في الصلب . وقال الربيع بن أنس : مستقرها في أيام حياتها ، ومستودعها حين تموت وحين تبعث . وقيل : مستقرها في الجنة أو في النار ، ومستودعها في القبر ، ويدل عليه : ) حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً ( ) وَسَاءتْ مُسْتَقِرّاً ( وقيل : ما يستقر عليه عملها ، ومستودعها ما تصير إليه . وقيل : المستقر ما حصل موجوداً من الحيوان ، والمستودع ما سيوجد بعد المستقر . وقال الزمخشري : المستقر مكانه من الأرض ومسكنه ، والمستودع حيث كان موجوداً قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة انتهى . ومستقر ومستودع يحتمل أن يكونا مصدرين ، ويحتمل أن يكونا اسمي مكان ، ويحتمل مستودع أن يكون اسم مفعول لتعدّي الفعل منه ، ولا يحتمله مستقر للزوم فعله كل أي : كل من الرزق والمستقر والمستودع في اللوح يعني : وذكرها مكتوب فيه مبين . وقيل : الكتاب هنا مجاز ، وهو إشارة إلى علم الله ، وحمله على الظاهر أولى .
( وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ ( : لما ذكر تعالى ما يدل على كونه تعالى عالماً ، ذكر ما يدل على كونه قادراً ، وتقدّم تفسير الجملة الأولى في سورة يونس . والظاهر أنّ قوله : وكان عرشه على الماء ، تقديره قبل خلق السموات والأرض ، وفي هذا دليل على أنّ الماء والعرش كانا مخلوقين قبل . قال كعب : خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ، ثم وضع العرش على الماء . وروي عن ابن عباس أنه وقد قيل له : على أي شيء كان الماء ؟ قال : كان على متن الريح ، والظاهر تعليق ليبلوكم بخلق . قال الزمخشري : أي خلقهن لحكمة بالغة ، وهي أنْ يجعلها مساكن لعباده ، وينعم عليهم فيها بفنون النعم ، ويكلهم فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، فمن شكر وأطاع أثابه ، ومن كفر وعصى عاقبه . ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال : ليبلوكم ، يريد ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون . ( فإن قلت ) : كيف جاز تعليق فعل البلوى ؟ ( قلت ) : لما في الاختبار من معنى العلم ، لأنه طريق الله ، فهو ملابس له كما تقول : انظر أيهم أحسن وجهاً ، واستمع أيهم أحسن صوتاً ، لأنّ النظر والاستماع من طرق العلم انتهى . وفي قوله : ومن كفر وعصى عاقبه ، دسيسة الاعتزال . وأما قوله : واستمع أيهم أحسن صوتاً ، فلا أعلم أحداً ذكر أن استمع تعلق ، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب سل وانظر ، وفي جواز تعليق رأي البصرية خلاف . وقيل : ليبلوكم متعلق بفعل محذوف تقديره أعلم بذلك ليبلوكم ، ومقصد هذا التأوي أنّ هذه المخلوقات لم تكن بسبب البشر . وقيل : تقدير الفعل ، وخلقكم ليبلوكم . وقيل : في الكلام جمل محذوفة ، التقدير : وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الأخرى ، وفعل ذلك ليبلوكم . ومعنى أيكم أحسن عملاً : أهذا أحسن أم هذا . قال ابن بحر : روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( أيكم أحسن عقلاً ، وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله ) ولو صح هذا التفسير عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يعدل عنه . وقال الحسن : أزهد في الله . وقال مقاتل : أتقى لله . وقال الضحاك : أكثركم شكراً .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فكيف قيل : أيكم

" صفحة رقم 206 "
أحسن عملاً وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن ، فأما أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتهما إلى حسن وقبيح ؟ ( قلت ) : الذين هم أحسن عملاً هم المتقون ، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله منن عباده ، فخصهم بالذكر ، واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم ، وليكون ذلك تيقظاً للسامعين وترغيباً في حيازة فضلهم انتهى . ولئن قلت ، خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ عيسى الثقفي : ولئن قلت بضم التاء إخباراً عنه تعالى ، والمعنى : ولئن قلت مستدلاً على البعث من بعد الموت ، إذ في قوله تعالى : وهو الذي خلق ، دلالة على القدرة : العظيمة ، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة ، وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه . وقرىء : أيكم بفتح الهمزة . قال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قولهم : ائت السوق إنك تشتري لحماً ، بمعنى علك أي : ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون بمعنى توقعوا بعثكم وظنوه ، لأثبتوا القول بإنكاره لقالوا : ويجوز أن يضمن . قلت معنى ذكرت انتهى يعني : فبفتح الهمزة لأنها في موضع مفعول ذكرت ، والظاهر الإشارة بهذا إلى القول أي : إن قولك إنكم مبعوثون إلا سحر أي بطلان هذا القول كبطلان السحر ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما دلت عليه الجملة من البعث . أي : إن البعث . وقيل : أشاروا بهذا إلى القرآن ، وهو الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره . قال ابن عطية : كذبوا وقالوا : هذا سحر ، فهذا تناقض منهم إن كان مفطوراً بقربات الله فاطر السموات والأرض فهو من جملة المقرب بهذا ، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور ، إذ البداءة أعسر من الإعادة ، وإذ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس انتهى . وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وفرقة من السبعة : سحر . وقرأت فرقة : ساحر ، يريدون والساحر كاذب مبطل ، ولئن أخرنا حكى تعالى نوعاً آخر من أباطيلهم واستهزائهم ، والعذاب هنا عذاب القيامة . وقيل : عذاب يوم بدر . وعن ابن عباس : قتل جبريل المستهزئين ، والظاهر العذاب الموعود به ، والأمّة هنا المدة من الزمان قاله : ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والجمهور ، ومعناه : إلى حين . ووقت معلوم ما يحبسه استفهام ، قالوه وهو على سبيل التكذيب والاستهزاء . قال الطبري : سميت المدة أمة ، لأنها يقضي فيها أمة من الناس وتحدث أخرى ، فهي على هذا المدة الطويلة ، ثم استفتح الأخبار بأنه يوم لا يردّه شيء ولا يصرفه . والظاهر أنّ يوم منصوب بقوله : مصروفاً ، فهو معمول لخبر ليس . وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها قالوا : لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل ، ونسب هذا المذهب لسيبويه ، وعليه أكثر البصريين . وذهب الكوفيون والمبرد : إلى أنه لا يجوز ذلك ، وقالوا : لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل . وأيضاً فإنّ الظرف المجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما ، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو : إن اليوم زيداً مسافر ، وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خبر ليس عليها ، ولا بمعموله ، إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية ، وقول الشاعر : فيأبى فما يزداد إلا لجاجه
وكنت أبياً في الخفا لست أقدم
وتقدم تفسير جملة وحاق بهم .
( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيّئَاتُ عَنّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( : لما ذكر تعالى عذاب الكفار وإنْ تأخر لا بد أن يحيق بهم ، ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله ، وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من فخرهم على عباد الله . والظاهر أنّ الإنسان هنا هو جنس ، والمعنى إن هذا الخلق في سجايا الناس ، ثم استثنى منهم الذين ردّتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح ، ولذلك جاء الاستثناء منه في قوله : إلا الذين صبروا متصلاً . وقيل : المراد هنا بالإنسان الكافر

" صفحة رقم 207 "
وقيل : المراد به إنسان معين ، فقال ابن عباس : هو الوليد بن المغيرة ، وفيه نزلت . وقيل : عبد الله بن أمية المخزومي ، وذكره الواحدي ، وعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعاً ومعنى رحمة : نعمة من صحة ، وأمن وجدة ، ثم نزعناها أي سلبناها منه . ويؤوس كفور ، صفتا مبالغة والمعنى : إنه شديد اليأس كثيرة ، ييأس أنْ يعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة ، ويقطع رجاءه من فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه . كفور كثير الكفر ، إن لما سلف لله عليه من نعمة ذكر حالة الإنسان إذ بدىء بالنعمة ولم يسبقه الضر ، ثم ذكر حاله إذا جاءته النعمة بعد الضر . ومعنى ذهب السيئات أي : المصائب التي تسوءني . وقوله هذا يقتضي نظراً وجهلاً ، لأن ذلك بإنعام من الله ، وهو يعتقد أنّ ذلك اتفاق أو يسعد ، وهو اعتقاد فاسد . إنه لفرح أشر بطر ، وهذا الفرح مطلق ، فلذلك ذم المتصف به ، ولم يأت في القرآن للمدح إلا مقيداً بما فيه خير كقوله : ) فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( وقرأ الجمهور : لفرح بكسر الراء ، وهي قياس اسم الفاعل من فعل اللازم . وقرأت فرقة : لفرح بضم الراء ، وهي كما تقول : ندس ، ونطس . وفخره هو تعاظمه على الناس بما أصابه من النعماء ، واستثنى تعالى الصابرين يعني على الضراء وعاملي الصالحات . ومنها الشكر على النعماء . أولئك لهم مغفرة لذنوبهم يقتضي زوال العقاب والخلاص منه ، وأجر كبير هو الجنة ، فيقتضي الفوز بالثواب . ووصف الأجر بقوله : كبير ، لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف ، وإلا من العذاب ، ورضا الله عنهم ، والنظر إلى وجهه الكريم .
( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحِى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ ( : قال الزمخشري : كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاد ، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم . ومن اقتراحاتهم : لولا أنزل عليه كنز ، أو جاء معه ملك ، وكانوا لا يعتدون بالقرآن ، ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات ، فكان يضيق صدر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فحرك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله : فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك أي : لعلك تترك أن تلقيه إليهم ، وتبلغه إياهم مخافة ردهم وتهاونهم به ، وضائق به صدرك بأنْ تتلو عليهم أن يقولوا مخافة أن يقولوا : لولا أنزل عليه كنز ، هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ، ولم ينزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه . ثم قال : إنما أنت نذير أي : ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك ، وتبلغهم ما أمرت بتبليغه ، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا ، والله على كل شيء وكيل يحفظ ما يقولون ، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل ، فتوكل عليه ، وكل أمرك إليه .
وقال ابن عطية : سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا : يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك ، وقالوا : إئت بقرآن غير هذا أو بدله ، ونحو هذا من الأقوال ، فخاطب الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) على هذه الصورة من المخاطبة ، وقفه بها توقيفاً رادّاً على أقوالهم ، ومبطلاً لها . وليس المعنى أنه عليه السلام هم بشيء من ذلك ثم خرج عنه ، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه ، ولا ضاق صدره به ، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم

" صفحة رقم 208 "
وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان . ولعلك ههنا بمعنى التوقيف والتقرير ، وما يوحي إليه هو القرآن والدعاء إلى الله كان في ذلك سب آلهتهم ، وتسفيه آبائهم أو غيره . ويحتمل أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد عظم عليه ما يلقى من الشدة ، فمال إلى أن يكون من الله إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ، ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به ( صلى الله عليه وسلم ) ) كما جاءت آيات الموادعة . وعبر بضائق دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع تارك ، وإن كان ضيق أكثر استعمالاً ، لأنه وصف لازم ، وضائق وصف عارض . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم عدل عن ضيق إلى ضائق ؟ ( قلت ) : ليدل على أن ضيق عار غير ثابت ، لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان أفسح الناس صداً . ومثله قولك : سيد وجواد ، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين ، فإذا أردت الحدوث قلت : سائد وجائد انتهى . وليس هذا الحكم مختصاً بهذه الألفاظ ، بل كل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل رد إليه إذا أريد معنى الحدوث ، فنقول : حاسن من حسن ، وثاقل من ثقل ، وفارح من فرح ، وسامن من سمن ، وقال بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه : بمنزلة أما اللئيم فسامن بها
وكرام الناس باد شحوبها
والظاهر عود الضمير في به على بعض . وقيل : على ما ، وقيل : عل التبليغ ، وقيل : على التكذيب ، قيل ولعل هنا للاستفهام بمعنى هل ، والمعنى : هل أنت تارك ما فيه تسفيه أحلامهم وسب آلهتهم كما سألوك ؟ وقدروا كراهته أن يقولوا ، ولئلا يقولوا ، وبأن يقولوا ، ثلاثة أقوال . والكنز المال الكثير . وقالوا : أنزل ، ولم يقولوا أعطى ، لأن مرادهم التعجيز ، وأنهم التمسوا أن ينزل عليه من السماء كنز على خلاف العادة ، فإنّ الكنوز إنما تكون في الأرض . وطلبهم آية تضطر إلى الإيمان ، والله عز وجل لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار ، إنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال ، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمة التي أراد تعذيبها لكفرها بعد آية الاستدلال ، كالناقة لثمود ، وآنسه تعالى بقوله ؛ إنما أنت نذير ، أي : الذي فوض إليك هو النذارة لا تحصيل هدايتهم ، فإن ذلك إنما هو لله تعالى . وقال مقاتل : وقيل : كافل بالمصالح قادر عليها . وقال ابن عطية : المحصي لإيمان من شاء ، وكفر من شاء . قيل : وهذه الآية منسوخة ، وقيل : محكمة .
( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ ( : الظاهر أنّ أم منقطعة تتقدر ببل ، والهمزة أي : أيقولون افتراه . وقال ابن القشيري : أم استفهام توسط الكلام على معنى : أيكتفون بما أوحيت إليك من القرآن ، أم يقولون إنه ليس من عند الله ، فإن قالوا : إنه ليس من عند الله فليأتوا بمثله انتهى . فجعل أم متصلة ، والظاهر الانقطاع كما قلنا ، والضمير في افتراه عائد على قوله : ما يوحى إليك ، وهو القرآن .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنها لا تتعلق أطماعهم بأن يترك بعض ما يوحى إليه إلا لدعواهم ، أنه ليس من عند الله ، وأنه هو الذي افتراه ، وإنما تحداهم أولاً بعشر سور مفتريات قبل تحديهم بسورة ، إذ كانت هذه السورة مكية ، والبقرة مدنية ، وسورة يونس أيضاً مكية ، ومقتضى التحدي بعشر أن يكون قبل طلب المعارضة بسورة ، فلما نسبوه إلى الافتراء طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات إرخاء لعنانهم ، وكأنه يقول : هبوا إني اختلقته ولم يوح إليّ فأتوا أنتم بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم ، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام ، وإنما عين بقوله : مثله ، في حسن النظم والبيان وإن كان مفتري وشأن من يريد تعجيز شخص أن يطالبه أولاً بأنْ يفعل أمثالاً مما فعل هو ، ثم إذا تبين عجزه قال له : افعل مثلاً واحداً ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع كما قال تعالى : ) أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ( وتجوز المطابقة في التثنية والجمع كقوله : ) ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم ( ) وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤ

" صفحة رقم 209 "
ِ الْمَكْنُونِ ( وإذا أفرد وهو تابع لمثنى أو مجموع فهو بتقدير المثنى ، والمجموع أي : مثلين وأمثال . والمعنى هنا بعشر سور أمثاله ذهاباً إلى مماثلة كل سورة منها له . وقال ابن عطية : وقع التحدي في هذه الآية بعشر لأنه قيدها بالافتراء ، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام ، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بسورة مثله دون تقييد ، فهي مماثلة تامة في غيوب القرآن ونظمه ووعده ووعيده ، وعجزوا في هذه الآية بأن قيل لهم : عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير ، والغرض واحد ، واجعلوه مفتري لا يبقى لكم إلا نظمه ، فهذه غاية التوسعة . وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر ، لأكن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ، ولا يبالي عن تقديم نزول هذه على هذه ، ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب ، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة . وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم افتراه وكلفوا نحو ما قالوا : ولا يطرد هذا في آية يونس . وقال بعض الناس : هذه مقدمة في النزول على تلك ، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة ، وآية سورة يونس في تكليف سورة مرتبة على قولهم افتراه ، وكذلك آية البقرة إنما رمتهم بأن القرآن مفتري . وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين في كمال المماثلة مرة ، ووقوفها على النظم مرة انتهى . والظاهر أن قوله : مثله ، لا يراد به الثلية في كون المعارض عشر سور ، بل مثله يدل على مماثلة في مقدار ما من القرآن . وروي عن ابن عباس : أنّ السور التي وقع بها طلب المعارضة لها هي معينة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود . فقوله : مثله ، أي مثل هذه عشر السور ، وهذه السور أكثرها مدني ، فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد ؟ ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس . والضمير في فإن لم يستجيبوا لكم ، عائد على ن طلب مهم المعارضة ، ولكم الضمير جمع يشمل الرسول والمؤمنين . وجوز أن يكون خطاباً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) على سبيل التعظيم ، كما جاء ( فإن لم يستجيبوا لك ) قاله : مجاهد . وقيل : ضمير يستجيبوا عائد على المدعوين ، ولكم خطاب للمأمورين بدعاء من استطاعوا قاله الضحاك أي فإنْ لم يستجب من تدعونه إلى المعارضة فأذعنوا حينئذ ، واعلموا أنه من عند الله وأنه أنزل ملتبساً بما لا يعلمه لا الله من نظم معجز للخلق ، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه . واعلموا عند ذلك أنه لا إله إلا هو ، وأن توحيده واجب ، فهل أنتم مسلمون ؟ أي تابعون للإسلام بعد ظهور هذه الحجة القاطعة ؟ وعلى أن الخطاب للمؤمنين معنى فاعلموا أي : دوموا على العلم وازدادوا يقيناً وثبات قدم أنه من عند الله . ومعنى فهل أنتم مسلمون : أي مخلصو الإسلام ، وقال مقاتل : بعلم الله ، بإذن الله . وقال الكلبي : بأمره . وقال القتبي : من عند الله ، والذي يظهر أن الضمير في فإن لم يستجيبوا عائد على من استطعتم ، وفي لكم عائد على الكفار ، لعود الضمير على أقرب مذكور ، ولكون الخطاب يكون لواحد . ولترتب الجواب على الشرط ترتباً حقيقياً من الأمر بالعلم ، ولا يتحرر بأنه أراد به فدوموا على العلم ، ودوموا على العلم بأنه لا إله إلا هو ، ولأن يكون قوله : فهل أنتم مسلمون تحريضاً على تحصيل الإسلام ، لا أنه يراد به الإخلاص . ولما طولبوا بالمعارضة وأمروا بأن يدعوا من يساعدهم على تمكن المعارضة ، ولا استجاب أصنامهم ولا آلهتهم لهم ، أمروا بأن يعلموا أنه من عند الله وليس مفتري فتمكن معارضته ، وأنه تعالى هو المختص بالألوهية لا يشركه في شيء منها آلهتهم وأصنامهم ، فلا يمكن أن يجيبوا لظهور عجزهم ، وأنها لا تنفع ولا تضر في شيء من المطالب . وقرأ زيد بن علي : إنما نزل بفتح النون والزاي وتشديدها ، واحتمل أن تكون ما مصدرية أي : أنّ التنزيل ، واحتمل أن تكون بمعنى الذي أي : إن الذي نزله ، وحذف الضمير المنصوب لوجود جواز الحذف .
( مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( : مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تعالى لما ذكر شيئاً من أحوال الكفار المناقضين في القرآن ، ذكر شيئاً من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة . وظاهر من العموم في كل من يريد زينة الحياة الدنيا ، والجزاء مقرون بمشيئته تعالى كما بين ذلك في قوله تعالى : ) مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا

" صفحة رقم 210 "
لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء ( الآية . وقال مجاهد : في في الكفرة ، وفي أهل الرياء من المؤمنين . وإلى هذا ذهب معونة حين حدث بقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في المرائين ، فتلا هذه الآية . وقال أنس : هي في اليهود والنصارى . قال ابن عطية : ومعنى هذا أنهم يدخلون في هذه الآية لا أنها ليست لغيرهم . وقيل : في المنافقين الذين جاهدوا مع الرسول فأسهم لهم ، ومعنى يريد الحياة الدنيا أي يقصد بأعماله التي يظهر أنها صالحة الدنيا فقط ، ولا يعتقد آخره . فإنّ الله يجازيه على حسن أعماله كما جاء ، وأما الكافر فيطعمه في الدنيا بحسناته . وإن اندرج في العموم المراؤون من أهل القبلة كما ترى أحدهم إذا صلى إماماً يتنغم بألفاظ القرآن ، ويرتله أحسن ترتيل ، ويطيل ركوعه وسجوده ، ويتباكى في قراءته ، وإذا صل وحده اختلسها اختلاساً ، وإذا تصق أظهر صدقته أمام من يثني عليه ، ودفعها لمن لا يستحقها حتى يثني عليه الناس ، وأهل الرباط المتصدق عليهم . وأين هذا من رجل يتصدق خفية وعلى من لا يعرفه ، كما جاء في : ( السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ) وهذه مبالغة في إخفاء الصدقة جداً ، وإذا تعلم علماً راءى به وتبجح ، وطلب بمعظمه يسير حطام من عرض الدنيا . وقد فشا الرياء في هذه الآية فشواً كثيراً حتى لا تكاد ترى مخلصاً لله لا في قول ، ولا في فعل ، فهؤلاء من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة . وقرأ الجمهور : نوفّ بنون العظمة ، وطلحة بن ميمون : يوف بالياء على الغيبة . وقرأ زيد بن علي : يوف بالياء مخففاً مضارع أوفى . وقرىء توف بالتاء مبنياً للمفعول ، وأعمالهم بالرفع ، وهو على هذه القراءات مجزوم جواب الشرط ، كما انجزم في قوله : ) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ ( وحكي عن الفراء أنّ كان زائدة ، ولهذا جزم الجواب . ولعله لا يصح ، إذ لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يريد ، وكان يكون مجزوماً ، وهذا التركيب من مجيء فعل الشرط ماضياً والجواب مضارعاً ليس مخصوصاً بكان ، بل هو جائز في غيرها . كما روي في بيت زهير : ومن أهاب أسباب المنايا ينلنه
ولو رام أن يرقى السماء بسلم
وقرأ الحسن : توفي بالتخفيف وإثبات الياء ، فاحتمل أن يكون مجزوماً بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال : ألم يأتيك وهي لغة لبعض العرب ، واحتمل أن يكون مرفوعاً كما ارتفع في قول الشاعر : وإن شل ريعان الجميع مخافة
يقول جهاراً ويلكم لا تنفروا
والحصر في كينونة النار لهم ظاهر في أنّ الآية في الكفار ، فإنْ اندرج أهل الرياء فيها فيكون المعنى في حقهم : ليس يجب لهم أو لا يحق لهم إلا النار كقوله : ) فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ( وجائز أن يتغمدهم الله برحمته وهو ظاهر قول ابن عباس وابن جبير . والضمير في قوله : ما صنعوا فيها ، الظاهر أنه عائد على الآخرة ، والمحرور متعلق بحبط ، والمعنى : وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة . ويجوز أن تتعلق بقوله : صنعوا ، فيكون عائداً على الحياة الدنيا ، كما عاد عليها في فيها قبل . وما في ماصنعوا بمعنى الذي . أو مصدرية ، وباطل وما بعده توكيداً لقوله : وحبط ما صنعوا

" صفحة رقم 211 "
وباطل خبر مقدم إن كان من عطف الجمل ، وما كانوا هو المبتدأ ، وإن كان خبراً بعد خبرٍ ارتفع ما بباطل على الفاعلية . وقرأ زيد بن علي : وبطل جعله فعلاً ماضياً . وقرأ أبي ، وابن مسعود : وباطلاً بالنصب ، وخرجه صاحب اللوامح على أنه مفعول ليعملون ، فهو معمول خبر كان متقدماً . وما زائدة أي : وكانوا يعملون باطلاً ، وفي جواز هذا التركيب خلاف بين النحويين . وهو أن يتقدم معمول الخبر على الجملة بأسرها من كان اسمها وخبرها ، ويشهد للجواب قوله تعالى : ) أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( ومن منع تأول . وأجاز الزمخشري أن ينتصب باطلاً على معنى المصدر على بطل بطلانا ما كانوا يعملون ، فتكون ما فاعلة ، وتكون من إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر ، وحق أن يبطل أعمالهم لأنها لم تعمل لوجه صحيح ، والعمل الباطل لا ثواب له .
( أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن ( : لمّا ذكر حال من يريد الحياة الدنيا ذكر حال من يريد وجه الله تعالى بأعماله الصالحة ، وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة والتقدير : كمن يريد الحياة الدنيا . وكثيراً ما حذف في القرآن كقوله : ) أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً ( وقوله : ) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ ( وهذا استفهام معناه اتقرير . قال الزمخشري : أي ، لا تعقبونهم في المنزلة ولا تفارقونهم ، يريد أنّ بين الفريقين تفاوتاً بعيداً وتبايناً بيناً ، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره ، كان على بينة من ربه أي : على برهان من الله تعالى وبيان أن دين الإسلام حق وهو دليل العقل ، ويتلوه ويتبع ذلك البرهان شاهد منه أي : شاهد يشهد بصحته وهو القرآن منه من الله ، أو شاهد من القرآن ومن قبله . ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة أي : ويتلو ذلك أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى . وقرىء كتاب موسى بالنصب ، ومعناه كان على بينة من ربه وهو الدليل على أنّ القرآن حق ، ويتلوه ويقرأ القرآن شاهد منه ، شاهد ممن كان على بينة كقوله : ) وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى مِثْلِهِ ( قل : ) كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( ) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى ( ويتلوه ومن قبل التوراة إماماً كتاباً مؤتماً في الدين قدوة فيه انتهى . وقيل في أفمن كان : المؤمنون بالرسول ، وقيل : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) خاصة . وقال علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك : محمد والمؤمنون جميعاً ، والبينة القرآن أو الرسول ، والهاء للمبالغة والشاهد . قال ابن عباس ، والنخعي ، ومجاهد ، والضحاك ، وأبو صالح ، وعكرمة : هو جبريل . وقال الحسن بن علي : هو الرسول . وقال أيضاً مجاهد : هو ملك وكله الله بحفظ القرآن . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل ، وقيل : هو علي بن أبي طالب . وروى المنهال عن عبادة بن عبد الله ، قال علي كرم الله وجهه : ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية قيل : فما نزل فيك ؟ قال : ويتلوه شاهد منه ، وبه قال محمد بن علي وزيد بن علي . وقيل : هو الإنجيل قاله : الفراء . وقيل : هو القرآن ، وقيل : هو إعجاز القرآن قاله الحسين بن الفضل ، وقيل : صورة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ووجهه ومخايله ، لأنّ كل عاقل نظر إليه علم أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، والضمير في منه يعود إلى الدين أو إلى الرسول ، أو إلى القرآن . ويتلوه بمعنى يتعه ، أو يقرؤه ، والضمير المرفوع في يتلوه والمنصوب والمجرور في منه يترتب على ما يناسبه كل قوم من هذه .
وقرأ محمد بن السائب الكلبي وغيره : كتاب موسى بالنصب عطفاً على مفعول يتلوه ، أو بإضمار فعل . وإذا لم يعن بالشاهد الإنجيل فإنما خص التوراة بالذكر ، لأنّ الملتين مجتمعتان على أنها من عند الله ، والإنجيل يخالف فيه اليهود ، فكان الاستشهاد بما تقوم

" صفحة رقم 212 "
به الحجة على الفريقين أولى . وهذا يجري مع قول الجن : ) إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى ( ومع قول النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . وانتصب إماماً على الحال ، والذي يظهر في تفسير هذه الآية أنه تعالى لما ذكر الكفار وأنهم ليس لهم إلا النار ، أعقب بضدهم وهم المؤمنون ، وهم الذين على بينة من ربهم ، والشاهد القرآن ، ومنه عائد على ربه . ويدل على أنّ الشاهد القرآن ذكر قوله : ومن قبله ، أي : ومن قبل القرآن كتاب موسى ، فمعناه : أنه تظافر على هدايته شيئان : كونه على أمر واضح من برهان العقل ، وكونه يوافق ذلك البرهان هذين الكتابين الإلهيين القرآن والتوراة ، فاجتمع له العقل والنقل . والإشارة بأولئك إلى من كان على بينة راعي معنى مع ، فجمع والضمير في به يعود إلى التوراة ، أو إلى القرآن ، أو إلى الرسول ، ثلاثة أقوال . والأحزاب جميع الملل قاله : ابن جبير ، أو اليهود ، والنصارى ، قاله قتادة . أو قريش قاله : السدي ، أو بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي ، وآل أبي طلحة بن عبيد الله ، قاله مقاتل . وقال الزمخشري : يعني أهل مكة ومن ضامّهم من المتحزبين على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) انتهى . فالنار موعده أي : مكان وعده الذي يصيرون إليه . وقال حسان : أوردتمونا حياض الموت ضاحية
فالنار موعدها والموت لاقيها
والضمير في منه عائد على القرآن ، وقيل : على الخبر ، بأن الكفار موعدهم النار . وقرأ الجمهور : في مرية بكسر الميم ، وهي لغة الحجاز . وقرأ السلمي ، وأبو رجاء ، وأبو الخطاب السدوسي ، والحسن : بضمها وهي لغة أسد وتميم والناس أهل مكة قاله : ابن عباس ، أو جميع الكفار من شاك وجاهل ومعاند قاله : صاحب العيتان .
( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبّهِمْ وَيَقُولُ الاْشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبّهِمْ أَلاَ ( : لما سبق قولهم : أم يقولون افتراه ، ذكر أنه لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً ، وهم المفترون الذين نسبوا إلى الله الولد ، واتخذوا معه آلهة ، وحرموا وحللوا من غير شرع الله ، وعرضهم على الله بمعنى التشهير لخزيهم والإشارة بكذبهم ، وإلا فالطائع والعاصي يعرضون على الله ) وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا ( والاشهاد : جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، أو جمع شهيد كشريف وأشراف ، والأشهاد الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالهم في الدنيا ، أو الأنبياء ، أو هما المؤمنون ، أو ما يشهد عليهم من أعضائهم أقوال . وفي قوله : هؤلاء إشارة إلى تحقيرهم وإصغارهم بسوء مرتكبهم . وفي قوله : على ربهم أي : على من يحسن إليهم ويملك نواصيهم ، وكانوا جديرين أن لا يكذبوا عليه ، وهذا كما تقول إذا رأيت مجرماً : هذا الذي فعل كذا وكذا . وتقدم تفسير الجملة بعد هذا . وهم تأكيد لقوله : وهم ، وقوله : معجزين ، أي كانوا لا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم ، وما كان لهم من ينصرهم ويمنعهم من العقاب ، ولكنه أراد انظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم . قال الزمخشري : وهو كلام الاشهاد يعني : أن كلامهم من قولهم هؤلاء إلى آخر هذه الجملة التي هي وما كان لهم من دون الله من أولياء . وقد يظهر أن قوله تعالى : ألا لعنة الله على الظالمين من كلام الله تعالى لا على سبيل الحكاية ، ويدل لقول الزمخشري قوله : ) فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( الآية فكما أنه من كلام المخلوقين في تلك الآية ، فكذلك هنا يضاعف لهم العذاب يشدد ويكثر ، وهذا استئناف إخبار عن حالهم في الآخرة ، لأنهم جمعوا إلى الكفر بالبعث الكذب على الله ، وصدّ عباده عن سبيل الله ، وبغي العوج لها

" صفحة رقم 213 "
وهي الطريقة المستقيمة . ما كانوا يستطيعون السمع أخبار عن حالهم في الدنيا على سبيل المبالغة يعني : السمع للقرآن ، ولما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وما كانوا يبصرون أي : ينظرون إليه لبغضهم فيه . ألا ترى إلى حشو الطفيل بن عمرو أذنيه من الكرسف ، وإباية قريش أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام الرسول حتى تردّهم عن ذلك مشيختهم ؟ أو أخبار عن حالهم إذا ضعف لهم العذاب أي : أنه تعالى حتم عليهم بذلك ، فهم لا يسمعون لذلك سماعاً ينتفعون به ، ولا يبصرون لذلك . وقيل : الضمير في كانوا عائد على أولياؤهم آلهتهم أي : فما كان لهم في الحقيقة من أولياء وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياء . ويعني أنه من لا يستطيع أن يسمع ولا يبصر فكيف يصلح للولاية ؟ ويكون يضاعف لهم العذاب اعتراضاً ، وما على هذه الأقوال نفي . وقيل : ما مصدرية أي : يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وأبصارهم ، والمعنى : أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد . وأجاز الفراء أن تكون ما مصدرية ، وحذف حرف الجر منها كما يحذف مع إنْ وأن أختيها ، وهذا فيه بعد في اللفظ وفي المعنى . وقال الزمخشري : أراد أنهم لفرط تصامّهم عن اتباع الحق وكراهتهم له كأنهم لا يستطيعون السمع ، ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع به على أهل العدل ، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان هذا الكلام لا أستطيع أسمعه ، وهذا مما يمجه سمعي انتهى . يعني : أنه يمكن أن يستدل به على أنّ العبد لا قدرة له ، لأن الله تعالى قد نفى عنه استطاعة السمع ، وإذا انتفت الاستطاعة منه انتفت قدرته . والزمخشري على عادته في السفه على أهل السنة وخسرانهم أنفسهم ، كونهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى ، فخسروا في تجارتهم خسراناً لا خسران أعظم منه . وهو على حذف مضاف أي : راحة أو سعادة أنفسهم ، وإلا فأنفسهم باقية معذبة . وبطل عنهم ما افتروه من عبادة الآلهة ، وكونهم يعتقدون شفاعتها إذا رأوا أنها لا تشفع ولا تنفع . لا جرم مذهب الخليل وسيبويه أنهما ركبا من لا وجرم ، وبنيا ، والمعنى : حق ، وما بعده رفع به على الفاعلية . وقال الحوفي : جرم منفي بلا بمعنى حق ، وهو مبني مع لا في موضع رفع بالابتداء ، وأنهم في موضع رفع على خبر جرم . وقال قوم : إنّ جرم مبنية مع لا على الفتح نحو قولك : لا رجل ، ومعناها لا بد ولا محالة . وقال الكسائي : معناها لا ضد ولا منع ، فتكون اسم لا وهي مبنية على الفتح كالقول الذي قبله ، وتكون جرم هنا من معنى القطع ، نقول : جرمت أي قطعت . وقال الزجاج : لا تركيب بينهما ولا ردّ عليهم . ولما تقدّم من كل ما قبلها مما قالوا : إن الأصنام تنفعهم . وجرم فعل ماض معناه كسب ، والفاعل مضمر أي كسب ، هو أي : فعلهم ، وأن وما بعدها في موضع نصب على المفعول به ، وجرم القوم كاسبهم . وقال الشاعر : نصبنا رأسه في جذع نخل
بما جرمت يداه وما اعتدينا
وقال آخر : جريمة ناهض في رأس نيق
ترى لعظام ما جمعت صليبا
ويقال : لا جرم بالكسر ، ولا جر يحذف الميم . قال النحاس : وزعم الكسائي أنّ فيها أربع لغات : لا جرم ، ولا عن ذا جرم ، ولا أن ذا جرم ، قال : وناس من فزارة يقولون : لا جرم . وحكى الفراء فيه لغتين أخريين ، قال : بنو عامر يقولون : لا ذا جرم ، وناس من العرب يقولون : لا جرم بضم الجمي . وقال الجبائي في نوادره : حكى عن فزارة لا جرّ والله لا أفعل ذاك ، قال : ويقال لا ذا جرم ، ولا ذو جرم ، ولا عن ذا جرم ، ولا أن ذا جرم ، ولا أن

" صفحة رقم 214 "
جرم ، ولا عن جرم ، ولا ذا جر ، والله بغير ميم لا أفعل ذاك . وحكى بعضهم بغير لا جرم : أنك أنك فعلت ذاك ، وعن أبي عمرو : لأجرم أنّ لهم النار على وزن لا كرم ، ولا جر حذفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا : سو ترى يريدون سوف ترى . ولما كان خسران النفس أعظم الخسران ، حكم عليهم بأنهم هم الزائدون في الخسران على كل خاسر من سواهم من العصاة مآله إلى الراحة ، وإلى انقطاع خسرانه بخلاف هؤلاء ، فإنّ خسرانهم لا انقطاع له .
( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبّهِمْ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالاْعْمَى وَالاْصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ( : لما ذكر ما يؤول إليه الكفار من النار ، ذكر ما يؤول إليه المؤمنون من الجنة ، والفريقان هنا الكافر والمؤمن . ولما كان تقدم ذكر الكفار وأعقب بذكر المؤمنين ، جاء التمثيلم هنا مبتدأ بالكافر فقال : كالأعمى والأصم . ويمكن أن يكون من باب تشبيه اثنين باثنين ، فقوبل الأعمى بالبصير وهو طباق ، وقوبل الأصم بالسميع وهو طباق أيضاً ، والعمى والصمم آفتان تمنعان من البصر والسمع ، وليستا بضدّين ، لأنه لا تعاقب بينهما . ويحتمل أن يكون من تشبيه واحد بوصفيه بواحد بوصفيه ، فيكون من عطف الصفات كما قال الشاعر : إلى الملك القرن وابن الهمام
وليث الكريهة في المزدحم
ولم يجيء التركيب كالأعمى والبصير والأصم والسميع فيكون مقابلة في لفظ الأعمى وضده ، وفي لفظة الأصم وضده ، لأنه تعالى لما ذكرانسداد العين أتبعه بانسداد السمع ، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع ، وذلك هو الأسلوب في المقابلة ، والأتم في الإعجاز . ويأتي إن شاء الله تعالى نظير هذه المقابلة في قوله في طه : ) إِنَّ لَكَ أَن لا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ( واحتمل أنْ تكون الكاف نفسها هي خبر المبتدأ ، فيكون معناها معنى المثل ، فكأنه قيل : مثل الفريقين مثل الأعمى . واحتمل أن يراد بالمثل الصفة ، وبالكاف مثل ، فيكون على حذف مضاف أي : كمثل الأعمى ، وهذا التشبيه تشبيه معقول بمحسوس ، فأعمى البصيرة أصمها ، شبه بأعمى البصر أصم السمع ، ذلك في ظلمات الضلالات متردد تائه ، وهذا في الطرقات محير لا يهتدي إليها . وجاء أفلا تذكرون لينبه على أنه يمكن زوال هذا العمى وهذا الصمم المعقول ، فيجب على العاقل أن يتذكر ما هو فيه ، ويسعى في هداية نفسه . وانتصب مثلاً على التمييز ، قال ابن عطية : ويجوز أن يكون حالاً انتهى . وفيه بعد ، والظاهر التمييز وأنه منقول من الفاعل أصله : هل يستوي مثلاهما .
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَادَ لَنَا بَادِىَ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ( : هذه السورة في قصصها شبيهة بسورة الأعراف بدىء فيها بنوح ، ثم يهود ، ثم بصالح ، ثم بلوط ، مقدّماً عليه إبراهيم بسبب قوم لوط ، ثم بشعيب ، ثم بموسى وهارون ، صلى الله على نبينا وعليهم أجمعين . وذكروا وجوه حكم وفوائد لتكرار هذه القصص في القرآن .
وقرأ النحويان وابن كثير : أني بفتح الهمزة أي : بأبي ، وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول . وقال أبو علي في قراءة الفتح : خروج من الغيبة إلى المخاطبة ، قال ابن عطية : وفي هذا نظر ، وإنما هي حكاية مخاطبة لقومه وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة ، ولو كان الكلام أنْ أنذرهم أو نحوه لصح ذلك انتهى . وأنْ لا تعبدوا إلا الله ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان كما جاء مصرّحاً في غير هذه السورة ، وأن بدل من أي لكم في قراءة من فتح ، ويحتمل أن تكون أنْ المفسرة . وأما في قراءة من كسر فيحتمل أن تكون المفسرة ، والمراعى قبلها : أما

" صفحة رقم 215 "
أرسلنا وإما نذير مبين ، ويحتمل أن تكون معمولة لأرسلنا أي : بأن لا تعبدوا إلا الله ، وإسناد الألم إلى اليوم مجاز لوقوع الألم فينه لا به .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فإذا وصف به العذاب ؟ ( قلت ) : مجازى مثله ، لأن الأليم في الحقيقة هو المعذب ، ونظيرهما قولك : نهاره صائم انتهى . وهذا على أن يكون أليم صفة مبالغة من آلم ، وهو من كثر ألمه . فإنْ كان أليم بمعنى مؤلم ، فنسبته لليوم مجاز ، وللعذاب حقيقة . لما أنذرهم من عذاب الله وأمرهم بإفراده بالعبادة ، وأخبر أنه رسول من عند الله ، ذكروا أنه مماثلهم في البشرية ، واستبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر ، وكأنهم ذهبوا إلى مذهب البراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق ، ثم عيروه بأنه لم يتبعه إلا الأراذل أي : فنحن لا نساويهم ، ثم نفوا أن يكون له عليهم فضل . أي : أنت مساوينا في البشرية ولا فضل لك علينا ، فكيف امتزت بأنك رسول الله ؟ وفي قوله : إلا الذين هم أراذلنا ، مبالغة في الأخبار ، وكأنه مؤذن بتأكيد حصر من اتبعه ، وأنهم هم الأراذل لم يشركهم شريف في ذلك . وفي الحديث ( إنهم كانوا حاكة وحجامين ) وقال النحاس : هم الفقراء والذين لا حسب لهم ، والخسيسوا الصناعات . وفي حديث هرقل : ( أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، فقال : هم أتباع الرسل قبل ) وإنما كان كذلك لاستيلاء الرئاسة على الأشراف وصعوبة الانفكاك عنها ، والأنفة من الانقياد لغيرهم ، والفقير خلى عن تلك الموانع فهو سريع إلى الإجابة والانقياد . ونراك يحتمل أن تكون بصرية ، وأن تكون علمية . قالوا : وأراذل جمع الجمع ، فقيل : جمع أرذل ككلب وأكلب وأكالب . وقيل : جمع أرذلنا ، وقياسه أزاذيل . والظاهر أنه جمع أرذل التي هي أفعل التفضيل وجاء جمعاً ، كما جاء أكابر مجرميها وأحاسنكم أخلاقاً . وقال الزمخشري : ما نراك إلا بشراً مثلنا ، تعريض بأنهم أحق منه بالنبوّة ، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم ، فقالوا : هب أنك واحد من الملأ وموازيهم في المنزلة ، فما جعلك أحق منهم ؟ ألا ترى إلى قولهم : وما نرى لكم علينا من فضل ، أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكاً لا بشراً ، ولا يظهر ما قاله الزمخشري من الآية .
وقرأ أبو عمرو ، وعيسى الثقفي : بادىء الرأي من بدأ يبدأ ومعناه : أول الرأي . وقرأ باقي السبعة : بادي بالياء من بدا يبدو ، ومعناه ظاهر الرأي . وقيل : بادي بالياء معناه بادىء بالهمز ، فسهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسر ما قبلها . وذكروا أنه منصوب على الظرف ، والعامل فيه نراك أو اتبعك أو أراذلنا أي : وما نراك فيما يظهر لنا من الرأي ، أو في أول رأينا ، أو وما نراك اتبعك أول رأيهم ، أو ظاهر رأيهم . واحتمل هذا الوجه معنيين : أحدهما : أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم ، وعسى أن تكون بواطنهم ليست معك . والمعنى الثاني : أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادىء دون تعقب ، ولو تثبتوا لم يتبعوك ، وفي هذا الوجه ذم الرأي غير المروي . وقال الزمخشري : اتبعوك أول الرأي ، أو ظاهر الرأي ، وانتصابه على الظرف أصله وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم ، فحذف ذلك ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، أرادوا أنّ اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر انتهى . وكونه منصوباً على الظرف هو قول أبيّ على في الحجة ، وإنما حمله على الظرف وليس بزمان ولا مكان ، لأنّ في مقدرة فيه أي : في ظاهر الأمر ، أو في أول الأمر . وعلى هذين التقديرين أعني أنْ يكون العامل فيه نراك ، أو اتبعك يقتضي أن لا يجوز ذلك ، لأنّ ما بعد إلا لا يكون معمولاً لما قبلها إلا إن كان مستثنى منه نحو : قام إلا زيداً القوم ، أو مستثنى نحو : جاء القوم إلا زيداً ، أو تابعاً للمستثنى منه نحو : ما جاءني أحد إلا زيد أخبرني عمرو ، وبادىء الرأي ليس واحداً من هذه الثلاثة . وأجيب بأنه ظرف ، أو كالظرف مثل جهد رأي أنك ذاهب ، أي أنك ذاهب في جهد رأي ، والظروف يتسع فيها . وإذا كان العامل أراذل فمعناه الذين هم أراذلنا بأدل نظر فيهم ، وببادىء الرأي يعلم ذلك منهم . وقيل : بادي الرأي نعت لقوله : بشراً . وقيل : انتصب حالاً من ضمير نوح في اتبعك ، أي : وأنت

" صفحة رقم 216 "
مكشوف الرأي لا حصافة لك . وقيل : انتصب على النداء لنوح أي : يا بادي الرأي ، أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد ، قالوا : ذلك تعجيزاً له . وقيل : انتصب على المصدر ، وجاء الظرف والمصدر على فاعل ، وليس بالقياس . فالرأي هنا إما من رؤية العين ، وإما من الفكر . قال الزمخشري : وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية ، لأنهم كانوا جهالاً ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال انتهى . وظاهر الخطاب في لكم شامل لنوح ومن اتبعه ، والمعنى : ليس لكم علينا زيادة في مال ، ولا نسب ، ولا دين . وقال ابن عباس : في الخلق والخلق ، وقيل : بكثرة الملك والملك ، وقيل : بمتابعتكم نوحاً ومخالفتكم لنا ، وقيل : من شرف يؤهلكم للنبوّة ، وقال الكلبي : نظنكم نتيقنكم ، وقال مقاتل : نحسبكم أي في دعوى نوح وتصديقكم ، وقال صاحب العتيان : بل نظنكم كاذبين توسلاً إلى الرئاسة والشهرة .
( قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَءاتَانِى رَحْمَةً مّنْ عِندِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ ( : لما حكى شبههم في إنكار نبوّة نوح عليه السلام وهي قولهم : ) مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا ( ذكر أنّ المساواة في البشرية لا تمنع من حصول المفارقة في صفة النبوّة والرسالة ، ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه على جهة التعليق والإمكان ، وهو متيقن أنه على بينة من معرفة الله وتوحيده ، وما يجب له وما يمتنع ، ولكنه أبرزه على سبيل العرض لهم والاستدراج للإقرار بالحق ، وقيام الحجة على الخصم ، ولو قال : على إني على حق من ربي لقالوا له كذبت ، كقوله : ) أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ اللَّهُ ( الآية فقال فيها : وإن يك كاذباً فعليه كذبه . والبينة البرهان ، والشاهد بصحة دعواه ابن عباس الرحمة والنبوّة مقاتل الهداية غيرهما التوفيق والنبوّة والحكمة . والظاهر أن البينة غير الرحمة ، فيجوز أن يراد بالبينة المعجزة ، وبالرحمة النبوّة . ويجوز أن تكون البينة هي الرحمة ، ومن عنده تأكيد وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة ، فعميت عليكم . الظاهر أنّ الضمير عائد على البينة ، وبذلك يحصل الذم لهم من أنه أتى بالمعجزة الجلية الواضحة ، وأنها على وضوحها واستنارتها خفيت عليهم ، وذلك بأنه تعالى سلبهم علمها ومنعهم معرفتها . فإن كانت الرحمة هي البينة فعود الضمير مفرداً ظاهر ، وإن كانت غيرها كما اخترناه . فقوله : وآتاني رحمة من عنده ، اعتراض بين المتعاطفين . قال الزمخشري : حقه أن يقال : فعميتا . ( قلت ) : الوجه أن يقدر فعميت بعد البينة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره ، فتلخص أن الضمير يعود إما على البينة ، وإما على الرحمة ، وإما عليهما باعتبار أنهما واحد . ويقول للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه ، كما يقال له الغمام لأنه يغمه . وقيل : هذا من المقلوب ، فعميتم أنتم عنها كما تقول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، ومنه قول الشاعر :
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه
قال أبو علي : وهذا مما يقلب ، هذ ليس فيه إشكال ، وفي القرآن : ) فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ( انتهى . والقلب عند أصحابنا مطلقاً لا يجوز إلا في الضرورة ، وأما قول الشاعر : فليس من باب القلب بل من باب الاتساع في الظرف . وأما الآية فأخلف يتعدّى إلى مفعولين ، ولكان يضيف إلى أيهما شئت فليس من باب القلب ، ولو كان فعميت عليكم من باب القلب لكان التعدي بعن دون على . ألا ترى أنك تقول : عميت عن كذا ،

" صفحة رقم 217 "
ولا تقول عميت على كذا ؟ وقرأ الإخوان وحفص : فعميت بضم العين وتشديد الميم مبنياً للمفعول ، أي أبهمت عليكم وأخفيت ، وباقي السبعة فعميت بفتح العين وتخفيف الميم مبنياً للفاعل . وقرأ أبيّ ، وعليّ ، والسلميّ ، والحسن ، والأعمش : فعماها عليكم . وروى الأعمش عن أبي وثاب : وعميت بالواو خفيفة . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما حقيقته ؟ ( قلت ) : حقيقته أنّ الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء ، لأنّ الأعمى لا يهتدي ، ولا يهدي غيره ، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم ، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد . ( فإن قلت ) : فما معنى قراءة أبيّ ؟ ( قلت ) : المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم ، فجعلت تلك التخلية تعمية منه ، والدليل عليه : أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ يعني : أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها ، ولا إكراه في الدين انتهى . وتوجيهه قراءة أبيّ هو على طريقة المعتزلة ، وتقدّم في سورة الأنعام الكلام على ) أَرَءيْتُمْ ( مشبعاً ، وذكرنا أن العرب تعديها إلى مفعولين : أحدهما منصوب ، والثاني أغلب ما يكون جملة استفهامية . تقول : أرأيتك زيداً ما صنع ، وليس استفهاماً حقيقياً عن الجملة . وأنّ العرب ضمنت هذه الجملة معنى أخبرني ، وقررنا هناك أن قوله : ) أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ ( أنه من باب الأعمال تنازع على عذاب الله . أرأيتكم يطلبه منصوباً ، وفعل الشرط يطلبه مرفوعاً ، فأعمل الثاني ، وهذا البحث يتقرر هنا أيضاً ، فمفعول أرأيتكم محذوف والتقدير : أرأيتكم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها ؟ فهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لقوله : أرأيتم ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه أرأيتم ، وجيء بالضميرين متصلين في أنلزمكموها ، لتقدّم ضمير الخطاب على ضمير الغيبة ، ولو انعكس لانفصل ضمير الخطاب خلافاً لمن أجاز الاتصال . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك : أنلزمكم إياها ونحوه ، فسيكفيكهم الله ، ويجوز فسيكفيك إياهم ، وهذا الذي قاله الزمخشري من جواز انفصال الضمير في نحو أنلزمكموها ، هو نحو قول ابن مالك في التسهيل . قال : وتختار اتصال نحوها ءأعطيتكه . وقال ابن أبي الربيع : إذا قدمت ما له الرتبة اتصل لا غير ، تقول : أعطيتكه . قال تعالى : أنلزمكموها ؟ وفي كتاب سيبويه ما يشهد له ، قال سيبويه : فإذا كان المفعولان اللذان تعدّى إليهما فعل الفاعل مخاطباً وغائباً ، فبدأت بالمخاطب قبل الغائب ، فإنّ علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك قولك : أعطيتكه وقد أعطاكه . قال الله تعالى : أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ، فهذا كهذا ، إذا بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى . فهذا نص من سيبويه على ما قاله ابن أبي الربيع خلافاً للزمخشري وابن مالك ومن سبقهما إلى القول بذلك . وقال الزمخشري : وحكى عن أبي عمرو إسكان الميم ، ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة ، فظنها الراوي سكوناً . والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين ، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر انتهى . وأخذه الزمخشري من الزجاج ، قال الزجاج : أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر ، فأما ما روي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء ، وروى عنه سيبويه أنه كان يخف الحركة ويختلسها ، وهذا هو الحق . وإنما يجوز الإسكان في الشعر نحو قول امرىء القيس :
فاليوم أشرب غير مستحقب

" صفحة رقم 218 "
والزمخشري على عادته في تجهيل القراء وهم أجل من أن يلتبس عليهم الاختلاس بالسكون ، وقد حكى الكسائي والفراء أنلزمكموها بإسكان الميم الأولى تخفيفاً . قال النحاس : ويجوز على قول يونس أنلزمكمها ، كما تقول : أنلزمكم ذلك ويريد إلزام جبر بالقتل ونحوه ، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل ، وقال النحاس : أنوحيها عليكم ، وقوله في ذلك خطأ . قال ابن عطية : وفي قراءة أبيّ بن كعب أنلزمكموها من شطر أنفسنا ، ومعناه من تلقاء أنفسنا . وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك من شطر قلوبنا انتهى . ومعنى شطر نحو ، وهذا على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف .
( لَهَا كَارِهُونَ وَياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبّهِمْ وَلَاكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن ( : تلطف نوح عليه السلام بندائه بقوله : ويا قوم ، استدراجاً لهم في قبول كلامه ، كما تلطف إبراهيم عليه السلام بقوله ) يا أبت يا أبت ( وكما تلطف مؤمن آل فرعون بقوله ) افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ( والضمير في عليه عائد إلى الإنذار . وإفراد الله بالعبادة المفهوم من قوله لهم : ) إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ ( ، وقيل : على الدين ، وقيل : على الدعاء إلى التوحيد ، وقيل : على تبليغ الرسالة . وكلها أقوال متقاربة ، والمعنى : إنكم وهؤلاء الذين اتبعونا سواء في أنّ أدعوكم إلى الله ، وإني لا أبتغي عما ألقيه إليكم من شرائع الله مالاً ، فلا يتفاوت حالكم وحالهم . وأيضاً فلعلهم ظنوا أنه يريد الاسترفاد منهم ، فنفاه بقوله : لا أسألكم عليه مالاً إنْ أجري على الله ، فلا تحرموا أنفسكم السعادة الأبدية بتوهم فاسد . ثم ذكر أنه قام بهؤلاء وصف يجب العكوف عليهم به والانضواء معهم ، وهو الإيمان فلا يمكن طردهم ، وكانوا سألوا منه طرد هؤلاء المؤمنين رفعاً لأنفسهم من مساواة أولئك الفقراء . ونظير هذا ما اقترحت قريش على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من طرد أتباعه الذين لم يكونوا من قريش .
وقرىء : بطارد بالتنوين ، قال الزمخشري : على الأصل يعني : أنّ اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال أصله أن يعمل ولا يضاف ، وهذا ظاهر كلام سيبويه . ويمكن أن يقال : إن الأصل الإضافة لا العمل ، لأنه قد اعتوره شبهان أحدهما شبه بالمضارع وهو شبهه بغير جنسه . والآخر شبه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة ، فكان إلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه . إنهم ملاقوا ربهم : ظاهره التعليل لانتفاء طردهم ، أي : إنهم يلاقون الله ، أي : جزاءه ، فيوصلهم إلى حقهم عندي إن ظلمتهم بالطرد . وقال الزمخشري : معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم ، أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لي منهم ، وما أعرف غيره منهم ، أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء إيمانهم على بادىء الرأي من غير نظر ولا تفكر ، وما عليّ أنْ أشق على قلوبهم وأتعرف ذلك منهم حتى أطردهم ونحوه ) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ( الآية أو هم مصدّقون بلقاء ربهم ، موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة انتهى . ووصفهم بالجهل لكونهم بنوا أمرهم على الجهل بالعواقب ، والاغترار بالظواهر . أو لأنهم

" صفحة رقم 219 "
يتسافلون على المؤمنين ويدعونهم أراذل من قوله : ألا لا يجهلن أحد علينا . أو تجهلون لقاء ربكم ، أو تجهلون أنهم خير منكم ، أو وصفهم بالجهل في هذا الاقتراح ، وهو طرد المؤمنين ونحوه : من ينصرني ، استفهام معناه لا ناصر لي من عقاب الله إن طردتهم عن الخير الذي قد قبلوه ، أو لأجل إيمانهم قاله : الفراء ، وكانوا يسألونه أنْ يطردهم ليؤمنوا به أنفة منهم أن يكونوا معهم على سواء ، ثم وقفهم بقوله : أفلا تذكرون ، على النظر المؤدّي إلى صحة هذا الاحتجاج . وتقدم تفسير الجمل الثلاث في الأنعام . وتزدري تفتعل ، والدال بدل من التاء قال : ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسد هصور
وأنشد الفراء : يباعده الصديق وتزدريه
حليلته وينهره الصغير
والعائد على الموصول محذوف أي : تزدرونهم ، أي : تستحقرهم أعينكم . ولن يؤتيهم معمول لقوله : ولا أقول ، وللذين معناه لأجل الذين . ولو كانت اللام للتبليغ لكان القياس لن يؤتيكم بكاف الخطاب ، أي : ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله ولا يبطل أجورهم ، الله أعلم بما في أنفسهم ، تسليم لله أي : لست أحكم عليهم بشيء من هذا ، وإنما الحكم بذلك لله تعالى الذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه . وقيل : هو رد على قولهم : اتبعك أراذلنا ، أي لست أحكم عليهم بأنْ لا يكونن لهم خير لظنكم بهم ، إن بواطنهم ليست كظواهرهم ، الله عز وجل أعلم بما في نفوسهم ، إني لو فعلت ذلك لمن الظالمين ، وهم الذين يضعون الشيء في غير مواضعه ، قد جادلتنا الظاهر المبالغة في الخصومة والمناظرة . وقال الكلبي : دعوتنا . وقيل : وعظتنا ، وقيل : أتيت بأنواع الجدال وفنونه فما صح دعواك .
وقرأ ابن عباس : فأكثرت جدلنا كقوله : ) وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً ( فأتنا بما تعدنا من العذاب المعجل وما بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي بما تعدناه ، أو مصدرية ، وإنما كثرت مجادته لهم لأنه أقام فيهم ما أخبر الله به ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وهو كل وقت يدعوهم إلى الله وهم يجيبونه بعبادتهم أصنامهم . قال : إنما يأتيكم به الله ، أي ليس ذلك إليّ إنما هو للإله الذي يعاقبكم على عصيانكم إن شاء أي : إن اقتضت حكمته أن يعجل عذابكم وأنتم في قبضته لا يمكن أن تفلتوا منه ، ولا أن تمتنعوا . ولما قالوا : قد جادلتنا ، وطلبوا تعجيل العذاب ، وكان مجادلته لهم إنما هو على سبيل النصح والإنقاذ من عذاب الله قال : ولا ينفعكم نصحي .
وقرأ عيسى بن عمر الثقفي : نصحي بفتح النون ، وهو مصدر . وقراءة الجماعة بضمها ، فاحتمل أن يكون مصدراً كالشكر ، واحتمل أن يكون اسماً . وهذان الشرطان اعتقب الأول منهما قوله : ولا ينفعكم نصحي ، وهو دليل على جواب الشرط تقديره : إنْ أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي ، والشرط الثاني : اعتقب الشرط الأول وجوابه أيضاً ما دل عليه قوله : ولا ينفعكم نصحي ، تقديره : إن كان

" صفحة رقم 220 "
الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي . وصار الشرط الثاني شرطاً في الأول ، وصار المتقدم متأخراً والمتأخر متقدّماً ، وكأن التركيب إن أردت أن أنصح لكم أن كان الله يريد أن يغويكم ، فلا ينفعكم نصحي ، وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو : إنْ كان الله يريد أن يغويكم . فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي . ونظيره : ) وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا ( وقال الزمخشري : قوله إن كان الله يريد أن يغويكم جزاؤه ما دل عليه قوله : لا ينفعكم نصحي ، وهذا الدليل في حكم ما دل عليه ، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قوله : إن أحسنت إليّ أحسنت إليك إن أمكنني . وقال ابن عطية : وليس نصحي لكم بنافع ، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك . والشرط الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغة من اقتران الإرادتين ، وأنّ إرادة البشر غير مغنية ، وتعلق هذا الشرط هو بنصحي ، وتعلق الآخر هو بلا ينفع انتهى . وكذا قال أبو الفرج بن الجوزي قال : جواب الأول النصح ، وجواب الثاني النفع .
والظاهر أنّ معنى يغويكم يضلكم من قوله : غوى الرجل يغوي وهو الضلال . وفيه إسناد الإغواء إلى الله ، فهو حجة على المعتزلة إذ يقولون : إن الضلال هو من العبد . وقال الزمخشري : إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه سمى ذلك إغواء وإملاء ، كما إنه إذا عرف منه أن يتوب ويرعوي فلطف به سمى إرشاداً وهداية انتهى . وهو على طريقة الاعتزال ، ونصوا على أنه لا يوصف الله بأنه عارف ، فلا ينبغي أن يقال : إذا عرف الله كما قال الزمخشري ، وللمعتزلي أن يقول : لا يتعين أن تكون إن شرطية ، بل هي نافية والمعنى : ما كان الله يريد أن يغويكم ، ففي ذلك دليل على نفي الإضلال عن الله تعالى ، ويكون قوله : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح ، إخبار منه لهم وتعزية لنفسه عنهم ، لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر . وقيل : معنى يغويكم يهلككم ، والغوي المرض والهلاك . وفي لغة طيء : أصبح فلان غاوياً أي مريضاً ، والغوي بضم الفصيل وقاله : يعقوب في الإسلاح . وقيل : فقده اللبن حتى يموت جوعاً قاله : الفراء ، وحكاه الطبري يقال منه : غوى يغوي . وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك ، أو لما يهلك بعد . قال ابن الأنباري : وكون معنى يغويكم يهلككم قول مرغوب عنه ، وأنكر مكي أن يكون الغوي بمعنى الهلاك موجوداً في لسان العرب ، وهو محجوج بنقل الفراء وغيره . وإذا كان معنى يغويكم يهلككم ، فلا حجة فيه لا لمعتزلي ولا لسني ، بل الحجة من غير هذا ، ومعناه : أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر فالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه ، كيف ينفعكم نصحي ؟ وفي قوله : هو ربكم ، تنبيه على المعرفة بالخالق ، وأنه الناظر في مصالحكم ، إن شاء أن يغويكم ، وإن شاء أن يهديكم . وفي قوله : وإليه ترجعون ، وعيد وتخويف .
( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ ( : قيل : هذه الآية اعترضت في قصة نوح ، والأخبار فيها عن قريش . يقولون ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أي : افترى القرآن ، وافترى هذا الحديث عن نوح وقومه ، ولو صح ذلك بسند صحيح لوقف عنده ، ولكن الظاهر أن الضمير في يقولون عائد على قوم نوح ، أي : بل أيقولون افترى ما أخبرهم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه ، فقال عليه السلام قل : إن افتريته فعليّ إثم إجرامي ، والإجرام مصدر أجرم ، ويقال : أجرم وهو الكثير ، وجرم بمعنى . ومنه قول الشاعر : طريد عشيرة ورهين ذنب
بما جرمت يدي وجنى لساني
وقرىء أجرامي بفتح الهمزة جمع جرم ، ذكره النحاس ، وفسر بآثامي . ومعنى مما تجرمون من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ ، وقيل : مما تجرمون من الكفر والتكذيب .
( وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ ( : قرأ الجمهور وأوحي

" صفحة رقم 221 "
مبنياً للمفعول ، أنه بفتح الهمزة . وقرأ أبو البر هشيم : وأوحي مبنياً للفاعل ، إنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين ، وعلى إجراء أوحى مجرى قال : على مذهب الكوفيين ، أيأسه الله من إيمانهم ، وأنه صار كالمستحيل عقلاً بأخباره تعالى عنهم . ومعنى إلا من قد آمن أي : من وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه ، ونهاه تعالى عن ابتآسه بما كانوا يفعلون ، وهو حزنه عليهم في استكانة . وابتأس افتعل من البؤس ، ويقال : ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه ، وقال الشاعر : وكم من خليل أو حميم رزئته
فلم نبتئس والرزء فيه جليل
وقال آخر : ما يقسم الله أقبل غير مبتئس
منه واقعد كريماً ناعم البال
وقال آخر : فارس الخيل إذا ما ولولت
ربة الخدر بصوت مبتئس
وقال آخر : في مأتم كنعاج صا
رة يبتئسن بما لقينا
صارة موضع بما كانوا يفعلون من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك ، فقد حان وقت الانتقام منهم . واصنع عطف على فلا تبتئس ، بأعيننا بمرأى منا ، وكلاءة وحفظ فلا تزيغ صنعته عن الصواب فيها ، ولا يحول بين العمل وبينه أحد . والجمع هنا كالمفرد في قوله : ولتصنع على عيني ، وجمعت هنا لتكثير الكلاءة والحفظ وديمومتها . وقرأ طلحة بن مصرف : باعينا مدغمة . ووحينا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع . وعن ابن عباس : لم يعلم كيف صنعة الفلك ، فأوحى الله أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر . قيل : ويحتمل قوله بأعيننا أي بملائكتنا الذي نجعلناهم عيوناً على مواضع حفظك ومعونتك ، فيكون اللفظ هنا للجمع حقيقة . وقول من قال : معنى ووحينا بأمرنا لك أو بعلمنا ضعيف ، لأن قوله : واصنع الفلك ، مغن عن ذلك . وفي الحديث : ( كان زان سفينة نوح جبريل ) والزان القيم بعمل السفينة . والذين ظلموا قوم نوح ، تقدم إلى نوح أن لا يشفع فيهم فيطلب إمهالهم ، وعلل منع مخاطبته بأنه حكم عليهم بالغرق ، ونهاه عن سؤال الإيجاب إليه كقوله : ) مُّنِيبٌ يإِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ( وقيل الذين ظلموا واعلة زوجته وكنعان ابنه .
ف ) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ( ويصنع الفلك حكاية حال ماضية ، والفلك السفينة . ولما أمره تعالى بأن يصنع الفلك قال : يا رب ما أنا بنجار ، قال : بلى ، ذلك بعيني . فأخذ القدوم ، وجعلت

" صفحة رقم 222 "
يده لا تخطىء ، فكانوا يمرون به ويقولون : هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجاراً ؟ وقيل : كانت الملائكة تعلمه ، واستأجر أجراء كانوا ينحتون معه ، وأوحى الله إليه أن عجل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على من عصاني ، وكان سام وحام ويافث ينحتون معه ، والخشب من الساج قاله : قتادة ، وعكرمة ، والكلبي . قيل : وغرسه عشرين سنة . وقيل : ثلاثمائة سنة يغرس ويقطع وييبس . وقال عمرو بن الحرث : لم يغرسها بل قطعها من جبل لبنان . وقال ابن عباس : من خشب الشمشار ، وهو البقص قطعة من جبل لبنان . واختلفوا في هيئتها من التربيع والطول ، وفي مقدار مدة عملها ، وفي المكان الذي عملت فيه ، ومقدار طولها وعرضها ، على أقوال متعارضة لم يصح منها شيء . وسخريتهم منه لكونهم رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت ، قالوا : يا نوح ما تصنع ؟ قال : ابني بيتاً يمشي على الماء ، فعجبوا من قوله وسخروا منه قاله : مقاتل . وقيل : لكونه يبني في قرية لا قرب لها من البحر ، فكانوا يتضاحكون ويقولون : يا نوح صرت نجاراً بعدما كنت نبياً . وكلما ظرف العامل فيه سخروا منه ، وقال : مستأنف على تقدير سؤال سائل . وجوزوا أن يكون العامل قال : وسخروا صفة لملا ، أو بدل من مرّ ، ويبعد البدل لأنّ سخر ليس في معنى مرّ لا يراد ذا ولا نوعاً منه . قال ابن عطية : وسخروا منه استجهلوه ، فإن كان الأمر كما روي أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط ، ولا كانت ، فوجه الاستجهال واضح ، وبذلك تظاهرت التفاسير ، وإن كانت السفائن جينئذ معروفة فاستجهلوه في أنّ صنعها في قرية لا قرب لها من البحر انتهى ، فأنا نسخر منكم في المتقبل كما تسخرون منا الآن أي : مثل سخريتكم إذا أغرقتم في الدنيا ، وأحرقتم في الآخرة ، أو إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعريض لسخط الله وعذابه ، فأنتم أولى بالاستجهال منا قال : قريباً من معناه الزجاج . أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم ، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر ، وبناء على ظاهر الحال ، كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق . وقال ابن جريج : إن يسخروا منا في الدنيا فإنا نسخر منكم في الآخرة . والسخرية استجهال مع استهزاء . وفي قوله : فسوف تعلمون ، تهديد بالغ ، والعذاب المخزي الغرق ، والعذاب المقيم عذاب الآخرة ، لأنه دائم عليهم سرمد . ومن يأتيه مفعول بتعلمون ، وما موصولة ، وتعدى تعلمون إلى واحد استعمالاً لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد . وقال ابن عطية : وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين ، واقتصر على الواحد انتهى . ولا يجوز حذف الثاني اقتصاراً ، لأنّ أصله خبر مبتدأ ، ولا اختصاراً هنا ، لأنه لا دليل على حذفه وتعنتهم بقوله : من يأتيه . وقيل : مَن استفهام في موضع رفع على الابتداء ، ويأتيه الخبر ، والجملة في موضع نصب ، وتعلمون معلق سدت الجملة مسد المفعولين . وحكى الزهراوي أنه يقرأ ويحل بضم الحاء ، ويحل بكسرها بمعنى ويجب . قال الزمخشري : حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه ، ومعنى يخزيه : يفضحه ، أو يهلكه ، أو يذله ، وهو الغرق . أقوال متقاربة حتى إذا جاء أمرنا تقدم الكلام على دخول حتى على إذا في أوائل سورة الأنعام ، وهي هنا غاية لقوله : ويصنع الفلك . ويصنع كما قلنا حكاية حال أي : وكان يصنع الفلك إلى أن جاء وقت الوعد الموعود . والجملة من قوله : وكلما مرّ عليه حال ، كأنه قيل : وينصعها ، والحال أنه كلما مر ، وأمرنا واحد الأمور ، أو مصدر أي : أمرنا بالفوران أو للسحاب بالإرسال ، وللملائكة بالتصرف في ذلك ، ونحو هذا مما يقدر في النازلة . وفار : معناه انبعث بقوة ، والتنور وجه الأرض ، والعرب تسميه تنوراً قاله : ابن عباس ، وعكرمة ، والزهري ، وابن عيينة ، أو التنور الذي يخبز فيه ، وكان من حجارة ، وكان لحواء حتى صار لنوح قاله : الحسن ، ومجاهد ، وروي أيضاً عن ابن عباس . وقيل : كان لآدم ، وقيل : كان تنور ، نوح ، أو أعلى الأرض والمواضع المرتفعة قاله : قتادة ، أو العين التي بالجزيرة عين الوردة رواه عكرمة ، أو من أقصى دار نوح قاله : مقاتل ، أو موضع اجتماع الماء في السفينة ، روي عن الحسن ، أو طلوع الشمس وروي عن علي ، أو نور الصبح من قولهم :

" صفحة رقم 223 "
نور الفجر تنويراً قاله : علي ومجاهد ، أو هو مجاز والمراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) لشدة الحرب : ) حمي الوطيس ( والوطيس أيضاً مستوقد النار ، فلا فرق بين حمى وفار ، إذ يستعملان في النار . قال الله تعالى : ) أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ ( ولا فرق بين الوطيس والتنور . والظاهر من هذه الأقوال حمله على التنور الذي هو مستوقد النار ، ويحتمل أن تكون أل فيه للعهد لتنور مخصوص ، ويحتمل أن تكون للجنس . ففار النار من التنانير ، وكان ذلك من أعجب الأشياء أن يفور الماء من مستوقد النيران . ولا تنافي بين هذا وبين قوله : ) وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً ( إذ يمكن أن يراد بالأرض أماكن التنانير ، والتفجير غير الفوران ، فحصل الفوران للتنور ، والتفجير للأرض . والضمير في فيها عائد على الفلك ، وهو مذكر أنث على معنى السفينة ، وكذلك قوله : وقال اركبوا فيها .
وقرأ حفص : من كل زوجين بتنوين ، كل أي من كل حيوان وزوجين مفعول ، واثنين نعت توكيد ، وباقي السبعة بالإضافة ، واثنين مفعول احمل ، وزوجين بمعنى العموم أي : من كل ما له ازدواج ، هذا معنى من كل زوجين قاله أبو علي وغيره . قال ابن عطية : ولو كان المعنى احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين ، لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة ، والزوج في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج ، فيقال : هذا زوج ، هذا وهما زوجان ، وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى : ) ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ ( ثم فسرها وفي قوله ) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( وقال الأخفش : وق يقال في كلام العرب للاثنين زووج ، هكذا تأخذه العدديون . والزوج أيضاً في كلام العرب النوع كقوله تعالى : ) وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( وقال تعالى : ) سُبْحَانَ الَّذِى خَلَق الاْزْواجَ كُلَّهَا ( انتهى .
ولما جعل المطر ينزل كأفواه القرب جعلت الوحوش تطلب وسط الأرض هرباً من الماء ، حتى اجتمعن عند السفينة فأمره الله أن يحمل من الزوجين اثنين ، يعني : ذكراً وأنثى ليبقى أصل النسل بعد الطوفان . فروي أنه كان يأتيه أنواع الحيوان فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى ، وكانت السفينة ثلاث طبقات : السفلى للوحوش ، والوسطى للطعام والشراب ، والعليا له ولمن آمن . وأهلك معطوف على زوجين إن نوِّن كل ، وعلى اثنين إن أضيف ، واستثنى من أهله من سبق عليه القول بالهلاك وأنه من أهل النار . قال الزمخشري : سبق عليه القول أنه يختار الكفر لا لتقديره عليه وإرادته تعالى غير ذلك انتهى . وهو على طريقة الاعتزال ، والذي سبق عليه القول امرأته واعلة بالعين المهملة ، وابنه كنعان . ومن آمن عطف على وأهلك ، قيل : كانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة ، وقيل : كانوا ثلاثة وثمانين . وقال ابن عباس : آمن معه ثمانون رجلاً ، وعنه ثمانون إنساناً ، ثلاثة من بنيه سام وحام ويافث ، وثلاث كنائن له ، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية تدعى اليوم قرية الثمانين بناحية الموصل . وقيل : كانوا ثمانية وسبعين ، نصفهم رجال ، ونصفهم نساء . وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم : نوح ، وبنوه سام وحام ويافث ، وستة ناس من كان آمن به وأزواجهم جميعاً . وعن ابن إسحاق : كانوا عشرة : خمسة رجال ، وخمس نسوة . وقيل : كانوا تسعة ونوح ، وثمانية أبناء له وزوجته . وقيل : كانوا ثمانية ونوح وزوجته غير التي عوقبت ، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم ، وهو قول : قتادة ، والحكم ، وابن عيينة ، وابن جريج ، ومحمد بن كعب . وقال الأعمش : كانوا سبعة : نوح ، وثلاث كنائن ، وثلاث بنين . وهذه أقوال متعارضة ، والذي أخبر الله تعالى به أنه ما آمن معه إلا قليل ، ولا يمكن التنصيص على عدد هذا النفر القليل الذي أبهم الله عددهم إلا بنص عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
2 ( ) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يابُنَىَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ

" صفحة رقم 224 "
قَالَ سَآوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ وَياسَمَآءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِىَ الاٌّ مْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّىأَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّىأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِىأَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ياقَوْمِ لاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِىأَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ قَالُواْ ياهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِىءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّىأُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاإِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } )
هود : ( 41 ) وقال اركبوا فيها . . . . .
رسا الشيء يرسو ، ثبت واستقر . قال : فصبرت نفسنا عند ذلك حرة
ترسو إذا نفس الجبان تطلع

" صفحة رقم 225 "
البلع : معروف ، والفعل منه بلع بكسر اللام وبفتحها لغتان حكاهما الكسائي والفراء ، يبلع بلعاً ، والبالوعة الموضع الذي يشرب الماء . الإقلاع : الإمساك ، يقال : أقلع المطر ، وأقلعت الحمى ، أي أمسكت عن المحموم . وقيل : أقلع عن الشيء 0 تركه ، وهو قريب من الإمساك . غاض الماء نقص في نفسه ، وغضته نقصته ، جاء لازماً ومتعدياً . الجودي : علم لجبل بالموصل ، ومن قال بالجزيرة أو بآمد ، فلأنهما قريبان من الموصل . وقيل الجودي : اسم لكل جبل ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل : سبحانه ثم سبحانا نعوذ له
وقبلنا سبح الجودي والجمد
اعتراه بكذا : أصابه به ، وقيل افتعل من عراه يعروه . الناصية : منبت الشعر في مقدم الرأس ، ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته . ونصوت الرجل انصوه نصواً ، مددت ناصيته . الجبار : المتكبر . العنيد : الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يصغي إليه ، من عند يعند حاد عن الحق إلى جانب ، وقيل : ومنه عندي كذا أي : في جانبي . وقال أبو عبيدة : العنيد والعنود والمعاند والعاند المعارض بالخلاف ، ومنه قيل للعرق الذي ينفجر بالدم : عاند .
( وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يابُنَىَّ بَنِى ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ( : الضمير في : وقال ، عائد على نوح أي : وقال نوح حين أمر بالجمل في السفينة لمن آمن معه ومن أمر بحمله : اركبوا فيها . وقيل : الضمير عائد على الله ، والتقدير : وقال الله لنوح ومن معه ، ويبعد ذلك قوله : إن ربي لغفور رحيم . قيل : وغلب من يعقل في قوله : اركبوا ، وإنْ كانوا قليلاً بالنسبة لما لا يعقل ممن حمل فيها ، والظاهر أنه خطاب لمن يعقل خاصة ، لأنه لا يليق بما لا يعقل . وعدي اركبوا بفي لتضمينه معنى صيروا فيها ، أو معنى ادخلوا فيها . وقيل : التقدير اركبوا الماء فيها . وقيل : في زائدة للتوكيد أي : اركبوها . والباء في بسم الله في موضع الحال ، أو متبركين بسم الله . مجراها ومرساها منصوبان إما على أنهما ظرفا زمان أو مكان ، لأنهما يجيئان لذلك . أو ظرفا زمان على جهة الحذف ، كما حذف من جئتك مقدّم إلحاح ، أي : وقت قدوم الحاج ، فيكون مجراها ومرساها مصدران في الأصل حذف منهما المضاف ، وانتصبا بما في بسم الله من معنى الفعل . ويجوز أن يكون باسم الله حالاً من ضمير فيها ، ومجراها ومرساها مصدران مرفوعان على الفاعلية ، أي : اركبوا فيها ملتبساً باسم الله إجراؤها وإرساؤها أي : ببركة اسم الله . أو يكون مجراها ومرساها مرفوعين على الابتداء ، وباسم الله الخبر ، والجملة حال من الضمير في فيها . وعلى هذه التوجيهات الثلاثة فالكلام جملة واحدة ، والحال مقدرة . ولا يجوز مع رفع مجراها ومرساها على الفاعلية أو الابتداء أن يكون حالاً من ضمير اركبوا ، لأنه لا عائد عليه فيما وقع حالاً . ويجوز أن يكون باسم الله مجراها ومرساها جملة ثانية من مبتدإ وخبر ، لا تعلق لها بالجملة الأولى من حيث الإعراب أمرهم أولاً بالركوب ، ثم أخبر أنّ مجراها ومرساها بذكر الله أو بأمره وقدرته ، فالجملتان كلامان محكيان . يقال : كما أن الجملة الثانية محكية أيضاً بقال . وقال الضحاك : إذا أراد جري السفينة قال بسم الله مجراها فتجري ، وإذا أراد وقوفها قال بسم الله مرساها فتقف .
وقرأ مجاهد ، والحسن ، وأبو رجاء ، والأعرج ، وشيبة ، والجمهور من السبعة الحرميان ، والعربيان ، وأبو بكر : مجراها بضم الميم . وقرأ الأخوان ، وحفص : بفتحها ، وكلهم ضم ميم مرساها . وقرأ ابن مسعود ، وعيسى الثقفي ، وزيد بن عليّ ، والأعمش ، ومجراها

" صفحة رقم 226 "
ومرساها بفتح الميمين ، ظرفي زمان أو مكان ، أو مصدرين على التقارير السابقة . وقرأ الضحاك ، والنخعي ، وابن وثاب ، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وابن جند ، والكلبي ، والجحدري ، مجريها ومرسيها اسمي فاعل من أجرى وأرسى على البدل من اسم الله ، فهما في موضع خبر ، ولا يكونان صفتين لكونهما نكرتين . وقال ابن عطية : وهما على هذه القراءة صفتان عائدتان على ذكره في قولهم بسم الله انتهى . ولا يكونان صفتين إلا على تقدير أنْ يكونا معرفتين . وقد ذهب الخليل إلى أن ما كانت إضافته غير محضة قد يصح أن تجعل محضة ، فتعرّف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرّف . إن ربي لغفور ستور عليكم ذنوبكم بتوبتكم وإيمانكم ، رحيم لكم إذا نجاكم من الغرق . وروي في الحديث : ( أن نوحاً ركب في السفينة أول يوم من رجب ، وصام الشهر أجمع ) وعن عكرمة : لعشر خلون من رجب . وهي تجري بهم إخبار من الله تعالى بما جرى للسفينة ، وبهم حال أي : ملتبسة بهم ، والمعنى : تجري وهم فيها في موج كالجبال ، أي في موج الطوفان شبه كل موجة منه بجبل في تراكمها وارتفاعها . روي أن السماء أمطرت جميعها حتى لم يكن في الهواء جانب إلا أمطر ، وتفجرت الأرض كلها بالنبع ، وهذا معنى التقاء الماء . وروي أن الماء علا على الجبال وأعالي الأرض أربعين ذراعاً ، وقيل : خمسة عشر . وكون السفينة تجري في موج دليل على أنه كان في الماء موج ، وأنه لم يطبق الماء ما بين السماء والأرض ، وأنّ السفينة لم تكن تجري في جوف الماء والماء أعلاها وأسفلها ، فكانت تسبح في الماء كما تسبح السمكة ، كما أشار إليه الزجاج والزمخشري وغيرهما . وقد استبعد ابن عطية هذا قال : وأين كان الموج كالجبال على هذا ؟ ثم كيف استقامت حياة من في السفينة ؟ وأجاب الزمخشري : بأن الجريان في الموج كان قبل التطبيق ، وقيل أنْ يعم الماء الجبال . ألا ترى إلى قول ابنه : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء . ونادى نوح ابنه ، الواو لا ترتب . وهذا النداء كان قبل جري السفينة في قوله : وهي تجري بهم في موج ، وفي إضافته إليه هنا وفي قوله : إن ابني من أهلي ، وندائه دليل على أنه ابنه لصلبه ، وهو قول : ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك ، وابن جبير ، وميمون بن مهران ، والجمهور ، واسمه كنعان . وقيل : يام ، وقيل : كان ابن قريب له ودعاه بالبنوّة حناناً منه وتلطفاً . وقرأ الجمهور : بكسر تنوين نوح ، وقرأ وكيع بن الجراح : بضمه ، أتبع حركته حركة الإعراب في الحاء . قال أبو حاتم : هي لغة سوء لا تعرف . وقرأ الجمهور : بوصل هاء الكناية بواو ، وقرأ ابن عباس : أنه بسكون الهاء ، قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي : وهذا على لغة الازد الشراة ، يسكنون هاء الكناية من المذكر ، ومنه قول الشاعر :
ونضواي مشتاقان له أرقان
وذكر غيره أنها لغة لبني كلاب وعقيل ، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشدون : وأشرب الماء ما بي نحوه عطش
إلا لأن عيونه سيل واديها
وقرأ السدّيّ ابناه بألف وهاء السكت . قال أبو الفتح : ذلك على النداء . وذهبت فرقة إلى أنه على الندبة والرثاء . وقرأ عليّ ، وعروة ، وعليّ بن الحسين ، وابنه أبو جعفر ، وابنه جعفر : ابنه بفتح الهاء من غير ألف أي : ابنها مضافاً لضمير امرأته ، فاكتفى بالفتحة عن الألف . قال ابن عطية : وهي لغة ، ومنه قول الشاعر : إما تقود بها شاة فتأكلها
أو أن تبيعه في بعض الأراكيب

" صفحة رقم 227 "
وأنشد ابن الأعرابي على هذا : فلست بمدرك ما فات مني
بلهف ولا بليت ولا لواني
انتهى . يريد تبيعها وتلهفاً ، وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف ، قال ابن عطية : وليس كما قال انتهى . وهذا أعنى مثل تلهف بحذف الألف عند أصحابنا ضرورة ، ولذلك لا يجيزون يا غلام بحذف الألف ، والاجتزاء بالفتحة عنها كما اجتزؤوا بالكسرة في يا غلام عن الياء ، وأجاز ذلك الأخفش . وقرأ أيضاً عليّ وعروة ابنها بفتح الهاء وألف أي : ابن امرأته . وكونه ليس ابنه لصلبه ، وإنما كان ابن امرأته قول : علي ، والحسن ، وابن سيرين ، وعبيد بن عمير . وكان الحسن يحلف أنه ليس ابنه لصلبه ، قال قتادة : فقلت له : إن الله حكى عنه أن ابني من أهلي ، وأنت تقول : لم يكن ابنه ، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه فقال : ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب ؟ واستدل بقوله من أهلي ولم يقل مني ، فعلى هذا يكون ربيباً . وكان عكرمة ، والضحاك ، يحلفان على أنه ابنه ، ولا يتوهم أنه كان لغير رشدة ، لأن ذلك غضاضة عصمت منه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وروي ذلك عن الحسن وابن جريج ، ولعله لا يصح عنها . وقال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه ابنه ، وأما قراءة من قرأ ابنه أو ابنها فشاذة ، ويمكن أن نسب إلى أمه وأضيف إليها ، ولم يضف إلى أبيه لأنه كان كافراً مثلها ، يلحظ فيه هذا المعنى ولم يضف إليه استبعاداً له ، ورعياً أن لا يضاف إليه كافر ، وإنما ناداه ظناً منه أنه مؤمن ، ولولا ذلك ما أحب نجاته . أو ظناً منه أنه يؤمن إنْ كان كافراً لما شاهد من الأهوال العظيمة ، وأنه يقبل الإيمان . ويكون قوله : اركب معنا كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان ، وتأكد بقوله : ولا تكن مع الكافرين ، أي اركب مع المؤمنين ، إذ لا يركب معهم إلا مؤمن لقوله : ومن آمن .
وفي معزل أي : في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين . وقيل : في معزل عن دين أبيه ، ونداؤه بالتصغير خطاب تحنن ورأفة ، والمعنى : اركب معنا في السفينة فتنجو ولا تكن مع الكافرين فتهلك . وقرأ عاصم يا بني بفتح الياء ، ووجه على أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف ، وأصله يا بنيا كقولك : يا غلاماً ، كما اجتزأ باقي السبعة بالكسرة عن الياء في قراءتهم يا بني بكسر الياء ، أو أن الألف انحذفت لالتقائها مع راء اركب . وظن ابن نوح أن ذلك المطر والتفجير على العادة ، فلذلك قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء أي : من وصول الماء إليّ فلا أغرق ، وهذا يدل على عادته في الكفر ، وعدم وثوقه بأبيه فيما أخبر به .
قيل : والجبل الذي عناه طور زيتا فلم يمنعه ، والظاهر إبقاء عاصم على حقيقته وأنه نفي كل عاصم من أمر الله في ذلك الوقت ، وأنّ من رحم يقع فيه من على المعصوم . والضمير الفاعل يعود على الله تعالى ، وضمير الموصول محذوف ، ويكون الاستثناء منقطعاً أي : لكنْ من رحمة الله معصوم ، وجوزوا أن يكون من الله تعالى أي لا عاصم إلا الراحم ، وأن يكون عاصم بمعنى ذي عصمة ، كما قالوا لاين أي : ذو لبن ، وذو عصمة ، مطلق على عاصم وعلى معصوم ، والمراد به هنا المعصوم . أو فاعل بمعنى مفعول ، فيكون عاصم بمعنى معصوم ، كماء دافق بمعنى مدفوق . وقال الشاعر : بطيء الكلام رخيم الكلام
أمسى فؤادي به فاتنا
أي مفتوناً . ومن للمعصوم أي : لا ذا عصمة ، أو لا معصوم إلا المرحوم . وعلى هذين التجويزين يكون استثناء

" صفحة رقم 228 "
متصلاً ، وجعله الزمخشري متصلاً بطريق أخرى : وهو حذف مضاف وقدره : لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد ، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم ، يعني في السفينة انتهى . والظاهر أن خبر لا عاصم محذوف ، لأنه إذا علم كهذا الموضع التزم حذفه بنو تميم ، وكثر حذفه عند أهل الحجاز ، لأنه لما قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال له نوح : لا عاصم ، أي لا عاصم موجود . ويكون اليوم منصوباً على إضمار فعل يدل عليه عاصم ، أي : لا عاصم يعصم اليوم من أمر الله ، ومن أمر متعلق بذلك الفعل المحذوف . ولا يجوز أن يكون اليوم منصوباً بقوله : لا عاصم ، ولا أن يكون من أمر الله متعلقاً به ، لأن اسم لا إذ ذاك كان يكون مطولاً ، وإذا كان مطولاً لزم تنوينه وإعرابه ، ولا يبنى وهو مبنى ، فبطل ذلك . وأجاز الحوفي وابن عطية أن يكون اليوم خبراً لقوله : لا عاصم . قال الحوفي : ويجوز أن يكون اليوم خبراً ويتعلق بمعنى الاستقرار ، وتكون من متعلقة بما تعلق به اليوم . وقال ابن عطية : واليوم ظرف وهو متعلق بقوله : من أمر الله ، أو بالخبر الذي تقديره : كائن اليوم انتهى . وردّ ذلك أبو البقاء فقال : فأما خبر لا فلا يجوز أن يكون اليوم ، لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجنة ، بل الخبر من أمر الله ، واليوم معمول من أمر الله . وقال الحوفي : ويجوز أن يكون اليوم نعتاً لعاصم ومن الخبر انتهى . ويردّ بما ردّ به أبو البقاء من أن ظرف الزمان لا يكون نعتاً للجثث ، كما لا يكون خبراً . وقرىء إلا من رحم بضم الراء مبنياً للمفعول ، وهذا يدل على أنّ المراد بمن في قراءة الجمهور الذين فتحوا الراء هو المرحوم لا الراحم ، وحال بينهما أي بين نوح وابنه . قيل : كانا يتراجعان الكلام ، فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة ، وكان راكباً على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه ، وحيل بينه وبين نوح فغرق . وقال الفراء : بينهما أي بين ابن نوح والجبل الذي ظن أنه يعصمه .
( وَقِيلَ ياأَرْضُ أَرْضُ ابْلَعِى مَاءكِ وَياسَمَاء سَمَاء أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِىَ الاْمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىّ وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَاءادَمُ نُوحٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ ( : قال الزمخشري : نادى الأرض والسماء بما ينادي به الإنسان المميز على لفظ التخصيص ، والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله : يا أرض ويا سماء ، ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله : ابلعي ماءك وأقلعي ، من الدلالة على الاقتدار العظيم ، وأنّ السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء ، غير ممتنعة عليه كأنها عقلاء مميزون ، قد عرفوا عظمته وجلاله وثوابه وعقابه ، وقدرته على كل مقدور ، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له ، وهم يهابونه ويفرعون من التوقف دون الامتثال له والنزول عن مشيئته على الفور من غير ريب . فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولاً لا حبس ولا بطء . وبسط الزمخشري وذيل في هذا الكلام الحسن ، قال الحسن : يدل على عظمة هذه الأجسام ، والحق تعال مستول عليها متصرف فيها كيف يشاء ، وأراد فصار ذلك سبباً لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلوّ قدرته وهيبته انتهى . وبناء الفعل في وقيل وما بعدها للمفعول أبلغ في التعظيم والجبروت وأخصر . قال الزمخشري : ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء ، وأن تلك الأمور العظام لا يكون إلا بفعل فاعل قادر ، وتكوين مكون قاهر ، وأن فاعل هذه الأفعال فاعل واحد لا يشارك في أفعاله ، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره ، ولا أت تستوي السفينة عل الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره . ولما ذكرناه من المعاني والنكت واستفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم ، لا لتجانس الكلمتين وهما قوله : ابلعي واقلعي ، وذلك وأن كان الكلام لا يخلو من حسن ، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب ، وما عداها قشور انتهى . وأكثره خطابة ،

" صفحة رقم 229 "
وهذا النداء والخطاب بالأمر هو استعارة مجازية ، وعلى هذا جمهور الحذاق . وقيل : إن الله تعالى أحدث فيهما إدراكاً وفهماً لمعاني الخطاب . وروي أن أعرابياً سمع هذه الآية فقال : هذا كلام القادرين ، وعارض ابن المقفع القرآن فلما وصل إلى هذه الآية أمسك عن المعارضة وقال : هذا كلام لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله . وقال ابن عباس في قوله : وقضي الأمر ، غرق من غرق ، ونجا من نجا . وقال مجاهد : قضي الأمر بهلاكهم ، وقال ابن قتيبة ، قضي الأمر فرغ منه ، وقال ابن الأنباري : أحكمت هلكة قوم نوح ، وقال الزمخشري : أنجز ما وعد الله نوحاً من هلاك قومه . واستوت أي استقرت السفينة على الجودي ، واستقرارها يوم عاشوراء من المحرّم قاله : ابن عباس ، والضحاك . وقيل : يوم الجمعة ، وقيل : في ذي الحجة . وأقامت على الجوي شهراً ، وهبط بهم يوم عاشوراء . وذكروا أن الجبال تطاولت وتخاشع الجودي . وحديث بعث نوح عليه السلام الغراب والحمامة ليأتياه بخبر كمال الغرق الله أعلم بما كان من ذلك .
وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة على الجودي بسكون الياء مخففة . قال ابن عطية : وهما لغتان ، وقال صاحب اللوامح : هو تخفيف ياءي النسب ، وهذا التخفيف بابه الشعر لشذوذه ، والظاهر أن قوله : وقيل بعداً من قول الله تعالى كالأفعال السابقة ، وبنى الجميع للمفعول للعلم بالفاعل ، وقيل : من قول نوح والمؤمنين ، قيل : ويحتمل أن يكون من قول الملائكة ، قيل : ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عن بلوغ الأمر ذلك المبلغ وإن لم يكن ، ثم قول محسوس . ومعنى بعد إهلاكاً يقال : بعد يبعد بعداً وبعداً إذا هلك ، واللام في للقوم من صلة المصدر . وقيل : تتعلق بقوله : وقيل ، والتقدير وقيل لأجل الظالمين ، إذ لا يمكن أن يخاطب الهالك إلا على سبيل المجاز . ومعنى ونادى نوح ربه أي : أراد أن يناديه ، ولذلك أدخل الفاء ، إذ لو كان أراد حقيقة النداء والأخبار عن وقوعه منه لم تدخل الفاء في فقال : ولسقطت كما لم تدخل في قوله : ) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً قَالَ رَبّ ( والواو في هذه الجملة لا ترتب أيضاً ، وذلك أن هذه القصة كانت أول ما ركب نوح السفينة ، ويظهر من كلام الطبري أن ذلك من بعد غرق الابن . وفي قوله : إن ابني من أهلي ، ظهور أنه ولده لصلبه . ومعنى من أهلي أي : الذي أمرت أن أحملهم في السفينة لقوله : ) احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ( ولم يظن أنه داخل فيمن استثناه الله بقوله : إلا من سبق عليه القول منهم لظنه أنه مؤمن وعموم قوله : ومن آمن يشمل من آمن من أهله ومن غير أهله ، وحسن الخطاب بقوله : وإن وعدك الحق ، أي الوعد الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به ، وقد وعدتني أن تنجي أهلي ، وأنت أعلم الحكام وأعدلهم .
قال الزمخشري : ويجوز أن تكون من الحكمة حاكم بمعنى النسبة ، كما يقال : دارع من الدرع ، وحائض وطالق على مذهب الخليل انتهى . ومعنى ليس من أهلك على قول من قال : إنه ابنه لصلبه أي الناجين ، أو الذين عمهم الوعد . ومن زعم أنه ربيبه فهو ليس من أهله حقيقة ، إذ لا نسبة بينه وبينه بولادة ، فعلى هذا نفي ما قدّر أنه داخل في قوله : وأهلك ، ثم علل انتفاء كونه ليس من أهله بأنه عمل غير صالح . والظاهر أنّ الضمير في أنه عائد على ابن نوح لا على النداء المفهوم من قوله : ونادى المتضمن سؤال ربه ، وجعله نفس العمل مبالغة في ذمه كما قال : فإنما هي إقبال وإدبار ، هذا على قراءة جمهور السبعة . وقرأ الكسائي : عمل غير صالح جعله فعلاً ناصباً غير صالح ، وهي قراءة : علي ، وأنس ، وابن عباس ، وعائشة ، وروتها عائشة وأم سلمة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهذا يرجح أن الضمير يعود على ابن نوح . قيل : ويرجح كون الضمير في أنه عائد على نداء نوح المتضمن السؤال أنّ في مصحف ابن مسعود أنه عمل غير صالح إن تسألني ما ليس لك به علم . وقيل : يعود على الضمير في هذه القراءة على ركوب ولد نوح معهم الذي تضمنه سؤال نوح المعنى : أن كونه مع الكافرين وتركه الركوب مع المؤمنين عمل غير صالح ، وكون الضمير في أنه عائداً على غير ابن نوح عليه السلام تكلف وتعسف لا يليق بالقرآن . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فهلا قيل إنه عمل فاسد ؟ ( قلت ) : لما نفاه من

" صفحة رقم 230 "
أهله نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستنفي معها لفظ المنفي وأذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله بصلاحهم ، لا لأنهم أهلك وأقاربك ، وإن هذا لما انتفي عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك . وقرأ الصاحبان : تسألنّ بتشديد النون مكسورة ، وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي كذلك ، إلا أنهم أثبتوا الباء بعد النون ، وابن كثر بتشديدها مفتوحة وهي قراءة ابن عباس . وقرأ الحسن وابن أبي مليكة : تسألني من غير همز ، من سال يسال ، وهما يتساولان ، وهي لغة سائرة . وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها ، وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو ، وحذفها الباقون . قال الزمخشري : فلا تلتمس ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب حتى تقف على كنهه ، وذكر المسألة دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه . ( فإن قلت ) : لم سمي نداءه سؤالاً ولا سؤال فيه ؟ ( قلت ) : قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به ، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة الغرق فقد استنجز ، وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلاً وغباوة ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين . ( فإن قلت ) قد وعد الله أن ينجيَ أهله ، وما كان عنده أنّ ابنه ليس منهم ديناً ، فلما أشفي على الغرق تشابه عليه الأمر ، لأنّ العدة قد سبقت له ، وقد عرف الله حكيماً لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد ، فطلب إماطة الشبهة وطلب إماطة الشبهة واجب ، فلم زجر وجعل سؤاله جهلاً ؟ ( قلت ) : أن في جملة أهله من هو مستوجب العذاب لكونه غير صالح ، وأنّ كلهم ليسوا بناجين ، وأنْ لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم ، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب بما يجب أن لا يشتبه . وقال ابن عطية : معنى قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، أي إذ وعدتك فاعلم يقيناً أنه لا خلف في الوعد ، فإذا رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أنّ ذلك لحق واجب عند الله ، ولكنّ نوحاً عليه السلام حملته شفقة البنوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير ، وعلى هذا القدر وقع عقابه ، ولذلك جاء بتلطف وترج في قوله : إني أعظك أن تكون من الجاهلين . ويحتمل قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، أي : لا تطلب مني أمراً لا تعلم المصلحة فيه علم يقين ، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي وقال : إن به يجوز أن يتعلق بلفظ عام كما قال الشاعر :
كأن جزائي بالعصا أن أجلدا
ويجوز أن يكون به بمنزلة فيه ، فتتعلق الباء بالمستقر . واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي ، والمعنى في الآية واحدة . وذكر الطبري عن ابن زيد تأويلاً في قوله : إني أعظك أن تكون من الجاهلين لا يناسب النبوة تركناه ، ويوقف عليه في تفسير ابن عطية . وقيل : سأل نوح ربه حين صار عنه ابنه بمعزل ، وقيل : قبل أن عرف هلاكه ، وقيل : بعد أن عرف هلاكه سأل الله له المغفرة أنْ أسألك من أن أطلب في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأديباً بأدبك ، واتعاظاً بموعظتك ، وهذه إنابة من نوح عليه السلام وتسليم لأمر الله . قال ابن عطية : والسؤال الذي وقع النهي عنه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة ، وطلبه ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه . وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا ، وظاهر قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، يعم النحوين من السؤال ، ولذلك نبهت على أنّ المراد أحدهما دون الآخر ، والخاسرون هم المغبونون حظوظهم من الخير انتهى ، ونسب نوح النقص والذنب إلى نفسه تأدباً مع ربه فقال : وألا تغفر لي ، أي ما فرط من سؤالي وترحمني بفضلك ، وهذا كما قال آدم عليه السلام .

" صفحة رقم 231 "
) قِيلَ يانُوحُ نُوحٌ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ( : بني الفعل للمفعول ، فقيل : القائل هو الله تعالى ، وقيل : الملائكة تبليغاً عن الله تعالى . والظاهر الأول لقوله : منا . وسنمتعهم أمر عند نزوله بالهبوط من السفينة ومن الجبل مع أصحابه للانتشار في الأرض ، والباء للحال أي : مصحوباً بسلامة وأمن وبركات ، وهي الخيرات النامية في كل الجهات . ويجوز أن تكون اللام بمعنى التسليم أي : اهبط مسلماً عليك مكرماً . وقرىء اهبط بضم الباء ، وحكى عبد العزيز بن يحيى وبركة على التوحيد عن الكسائي وبشر بالسلامة إيذاناً له بمغفرة ربه له ورحمته إياه ، وبإقامته في الأرض آمناً من الآفات الدنيوية ، إذ كانت الأرض قد خلت مما ينتفع به من النبات والحيوان ، فكان ذلك تبشيراً له بعود الأرض إلى أحسن حالها ، ولذلك قال : وبركات عليك أي دائمة باقية عليك . والظاهر أنّ من لابتداء الغاية أي : ناشئة من الذين معك ، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر . قال الزمخشري : ويحتمل أن تكون من للبيان فتراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات . وقيل لهم : أمم ، لأنّ الأمم تشعبت منهم انتهى . وهذا فيه بعد تكلف ، إذ يصير التقدير : وعلى أمم هم من معك ، ولو أريد هذا المعنى لا غنى عنه ، وعلى أمم معك أو على من معك ، فكان يكون أخضر وأقرب إلى الفهم ، وأبعد عن اللبس . وارتفع أمم على الابتداء . قال الزمخشري : وسنمتعهم صفة ، والخبر محذوف تقديره وممن معك أمم سنمتعهم ، وإنما حذف لأن قوله : ممن معك ، والمعنى : أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك ، وأمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار انتهى . ويجوز أن يكون أمم مبتدأ ، ومحذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة ، والتقدير : وأمم منهم أي ممن معك ، أي ناشئة ممن معك ، وسنمتعهم هو الخبر كما قالوا : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه ، فحذف منه وهو صفة لمنوان ، ولذلك جاز الابتداء بمنوان وهو نكرة . ويجوز أن يقدر مبتدأ ولا يقدر صفة الخبر سنمتعهم ، ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل ، فكان مثل قول الشاعر : إذا ما بكى من خلفها انحرفت له
بشق وشق عندنا لم يحول
وقال القرطبي : ارتفعت وأمم على معنى : ويكون أمم انتهى . فإنْ كان أراد تفسير معنى فحسن ، وإن أراد الإعراب ليس بجيد ، لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون ، وقال الأخفش : هذا كما تقول كلمت : زيداً وعمر وجالس انتهى . فاحتمل أن يكون من باب عطف الجمل ، واحتمل أنْ تكون الواو للحال ، وتكون حالاً مقدرة لأنه وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة . وقال أبو البقاء : وأمم معطوف على الضمير في اهبط تقديره : اهبط أنت وأمم ، وكان الفصل بينهما مغنياً عن التأكيد ، وسنمتعهم نعت لأمم انتهى . وهذا التقدير والمعنى لا يصلحان ، لأنّ الذين كانوا مع نوح في السفينة إنما كانوا مؤمنين لقوله : ومن آمن ، ولم يكونوا قسمين كفاراً ومؤمنين ، فتكون الكفار مأمورين بالهبوط مع نوح ، إلا إن قدر أن من أولئك المؤمنين من يكفر بعد الهبوط ، وأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها فيمكن على بعد ، والذي ينبغي أن يفهم من الآية أنّ من معه ينشأ منهم مؤمنون وكافرون ، ونبه على الإيمان بأن المتصفين به من الله عليهم سلام وبركة ، وعلى الكفر بأن المتصفين به يمتعون في الدنيا ثم يعذبون في الآخرة ، وذلك من باب الكناية كقولهم : فلان طويل

" صفحة رقم 232 "
النجاد كثير الرماد . وظاهر قوله : ممن معك يدل على أنّ المؤمنين والكافرين نشأوا ممن معه ، والذين كانوا معه في السفينة إن كانوا أولاده الثلاثة فقط ، أو معهم نساؤهم ، انتظم قول المفسرين أنّ نوحاً عليه السلام هو أبو الخلق كلهم ، وسمي آدم الأصغر لذلك وإن كانوا أولاده وغيرهم على الاختلاف في العدد ، فإن كان غير أولاده مات ولم ينسل صح أنه أبو البشر بعد آدم ، ولم يصح أنه نشأ ممن معه مؤمن وكافر ، إلا إن أريد بالذين معه أولاده ، فيكون من إطلاق العام ويراد به الخاص . وإن كانوا نسلوا كما عليه أكثر المفسرين فلا ينتظم أنه أبو البشر بعد آدم بل الخلق بعد الطوفان منه ، وممن كان معه في السفينة والأمم الممتعة ليسوا معينين ، بل هم عبارة عن الكفار . وقيل : هم قوم هود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، عليهم الصلاة والسلام .
تلك إشارة إلى قصة نوح ، وتقدمت أعاريب في مثل هذا التركيب في قوله : ) ذالِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ( في آل عمران ، وتلك إشارة للبعيد ، لأنّ بين هذه القصة والرسول مدداً لا تحصى . وقيل : الإشارة بتلك إلى آيات القرآن ، ومن أنباء الغيب وهو الذي تقادم عهده ولم يبق علمه إلا عند الله ، ونوحيها إليك ليكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء ، ولم يكن علمها عندك ولا عند قومك ، وأعلمناهم بها ليكون مثالاً لهم وتحذيراً أن يصيبهم إذا كذبوك ما أصاب أولئك ، وللحظ هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله : فاصبر على أذاهم مجتهداً في التبليغ عن الله ، فالعاقبة لك كما كانت لنوح في هذا القصة . ومعنى ما كنت تعلمها : أي مفصلة كما سردناها عليك ، وعلم الطوفان كان معلوماً عند العالم على سبيل الإجمال ، والمجوس الآن ينكرونه . والجملة من قوله : ما كنت في موضع الحال من مفعول نوحيها ، أو من مجرور إليك ، وقدرها الزمخشري تقدير معنى فقال : أي مجهولة عندك وعند قومك ويحتمل أن يكون خبراً بعد خبر ، والإشارة بقوله : من قبل هذا إلى الوقت أو إلى الإيحاء أو إلى العلم الذي اكتسبه بالوحي احتمالات ، وفي مصحف ابن مسعود من قبل هذا القرآن . وقال الزمخشري : ولا قومك معناه : أن قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم ، ولا سمعوه ولا عرفوه ، فكيف برجل منهم كما تقول : لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده ؟ .
( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ( : وإلى عاد أخاهم معطوف على قوله : أرسلنا نوحاً إلى قومه ، عطف الواو على المجرور ، والمنصوب على المنصوب ، كما يعطف المرفوع والمنصوب على المرفوع والمنصوب نحو : ضرب زيد عمراً ، وبكر خالداً ، وليس من باب الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف والمعطوف نحو : ضربت زيداً ، وفي البيت عمراً ، فيجيء منه الخلاف الذي بين النحويين : هل يجوز في الكلام ، أو يختص بالشعر ؟ وتقدير الكلام في هود وعاد وأخوته منهم في الأعراف ، وقراءة الكسائي غيره بالخفض ، وقيل : ثم فعل محذوف أي : وأرسلنا إلى عاد أخاهم ، فيكون إذ ذاك من عطف الجمل ، والأول من عطف المفردات ، وهذا أقرب لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المتعاطفين . وهوداً بدل أو عطف بيان . وقرأ محيصن : يا قوم بضم الميم كقراءة حفص : قل رب احكم بالحق بالضم ، وهي لغة في المنادي المضاف حكاها سيبويه وغيره ، وافتراؤهم قال الحسن : في جعلهم الألوهية لغير الله تعالى . وقال الزمخشري : باتخاذكم الأوثان له شركاء . والضمير في عليه عائد على الدعاء إلى الله ، ونبه بقوله : الذي فطرني ، على الرد عليهم في عبادتهم الأصنام ، واعتقادهم أنها تفعل ، وكونه تعالى هو الفاطر للموجودات يستحق إفراده بالعبادة . وأفلا تعقلون توقيف على استحالة الألوهية لغير الفاطر ، ويحتمل أن يكون أفلا تعقلون راجعاً إلى أنه إذا لم أطلب عرضاً منكم ، وإنما أريد نفعكم فيجب انقيادكم لما فيه نجاتكم ، كأنه قيل : أفلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من الله تعالى ، وهو ثواب الآخرة ، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك . وتقدّم الكلام في ) اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ( أول هذه السورة قصد هود استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوة ، لأنهم كانوا أصحاب زورع وبساتين

" صفحة رقم 233 "
وعمارات حراصاً عليها أشد الحرص ، فكانوا أحوج شيء إلى الماء ، وكانوا مدلين بما أوتوا من هذه القوة والبطش والبأس مهيئين في كل ناحية . وقيل : أراد القوة في المال ، وقيل : في النكاح . قيل : وحبس عنهم المطر ثلاث سنين ، وعقمت أرحام نسائهم . وقد انتزع الحسن بن علي رضي الله عنه من هذا ومن قوله : ويمددكم بأموال وبنين ، أن كثرة الاستغفار قد يجعله الله سبباً لكثرة الولد . وأجاب من سأله وأخبره أنه ذو مال ولا يولد له بالاستغفار ، فأكثر من ذلك فولد له عشر سنين . وروى أبو صالح عن ابن عباس في قوله : ويزدكم قوة إلى قوتكم ، أنه الولد وولد الولد . وقال مجاهد وابن زيد : في الجسم والبأس ، وقال الضحاك : خصباً إلى خصبكم ، وقيل : نعمة إلى نعمته الأولى عليكم ، وقيل : قوة في إيمانكم إلى قوة في أبدانكم .
( قَالُواْ يأَبَانَا هُودٍ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِىءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء قَالَ إِنِى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ فَإِن ( : ببينة أو بحجة واضحة تدل على صدقك ، وقد كذبوا في ذلك وبهتوه كما كذبت قريش في قولهم : ) لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ ( وقد جاءهم بآيات كثيرة ، أو لعمائهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات اعتقدوا ما هو آية ليس بآية فقالوا : ما جئتنا ببينة تلجئنا إلى الإيمان ، وإلا فهود وغيره من الأنبياء لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها . ألا ترى إلى قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ) مَّا مِن نَّبِىٍّ إِلا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الاْيَاتِ مَا مّثْلِهِ مِن عَلَيْهِ الْبَشَرِ ( وعن في عن قولك حال من الضمير في تاركي آلهتنا ، كأنه قيل : صادرين عن قولك ، قاله الزمخشري . وقيل : عن للتعليل كقوله تعالى : ) إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ( فتتعلق بتاركي ، كأنه قيل لقولك ، وقد أشار إلى التعليل والسبب فيها ابن عطية ، فقال : أي لا يكون قولك سبباً لتركنا ، إذ هو مجرد عن آية ، والجملة بعدها تأكيد وتقنيط له من دخولهم في دينه ، ثم نسبوا ما صدر منه من دعائهم إلى الله وإفراده بالألوهية إلى الخبل والجنون ، وأن ذلك مما اعتراه به بعض آلهتهم لكونه سبها وحرض على تركها ودعا إلى ترك عبادتها ، فجعلته يتكلم مكافأة بما يتكلم به المجانين ، كما قالت قريش : معلم مجنون ) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ( واعتراك جملة محكية بنقول ، فهي في موضع المفعول ، ودلت على بله شديد وجهل مفرط ، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم . وقول هود لهم في جواب ذلك : إني أشهد الله إلى آخره ، حيث تبرأ من آلهتهم ، وحرضهم كلهم مع انفراده وحده على كيده بما يشاؤون ، وعدم تأخره من أعظم الآيات على صدقه وثقته بموعود ربه من النصر له ، والتأييد والعصمة من أن ينالوه بمكروه ، هذا وهم حريصون على قتله يرمونه عن قوس واحدة . ومثله قول نوح لقومه : ) ثُمَّ اقْضُواْ إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ ( وأكد براءته من آلهتهم وشركهم ، ووفقها بما جرت عليه عادة الناس من توثيقهم الأمر بشهادة الله وشهادة العباد .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هلا قيل : إني أشهد الله وأشهدكم ( قلت ) : لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد ، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب ، فعدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما ، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة انتهى . وإني بريء تنازع فيه أشهد واشهدوا ، وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحاً ، لأن يعملا فيه تقول أعطيت زيداً ووهبت لعمرو ديناراً ، كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو : قام وضربت زيداً . وما في ما تشركون موصولة ، إما مصدرية ، وإما بمعنى الذي أي : بريء من إشراككم آلهة من دونه ، أو

" صفحة رقم 234 "
من الذين تشركون ، وجميعاً حال من ضمير كيدوني الفاعل ، والخطاب إنما هو لقومه . وقال الزمخشري : أنتم وآلهتكم انتهى . قيل : ومجاهرة هود عليه السلام لهم بالبراءة من أديانهم ، وحضه إياهم على كيده هم وأصنامهم معجزة لهود ، أو حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكثرتهم ، فلم يقدروا على نيله بسوء ، ثم ذكر توكله عل الله معلماً أنه ربه وربهم ، ومنبهاً على أنه من حيث هو ربكم يجب عليكم أن لا تعبدوا إلا إياه ، ومفوضاً أمره إليه تعالى ثقة بحفظه وانجاز موعوده ، ثم وصف قدرة الله تعالى وعظيم ملكه من كون كل دابة في قبضته وملكه وتحت قهره وسلطانه ، فأنتم من جملة أولئك المقهورين . وقوله : آخذ بناصيتها تمثيل ، إذ كان القادر المالك يقود المقدور عليه بناصيته ، كما يقاد الأسير والفرس بناصيته ، حتى صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة على الحيوان ، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه علامة أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته . قال ابن جريج : وخص الناصية لأن العرب إذا وصفت إنساناً بالذلة والخضوع قالت : ما ناصية فلان إلا بيد فلان ، أي أنه مطيع له يصرفه كيف يشاء ثم أخبر أنّ أفعاله تعالى في غاية الإحكام ، وعلى طريق الحق والعدل في ملكه ، لا يفوته ظالم ولا يضيع عنده من توكل عليه ، قوله الصدق ، ووعده الحق .
وقرأ الجمهور : فإن تولوا أي تتولوا مضارع تولى . وقرأ الأعرج وعيسى الثقفي : تولوا بضم التاء ، واللام مضارع وليّ ، وقيل : تولوا ماض ويحتاج في الجواب إلى إضمار قول ، أي : فقل لهم فقد أبلغتكم ، ولا حاجة تدعو إلى جعله ماضياً وإضمار القول . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون تولوا فعلاً ماضياً ، ويكون في الكلام رجوع من غيبة إلى خطاب أي : فقد أبلغتكم انتهى . فلا يحتاج إلى إضمار ، والظاهر أنّ الضمير في تولوا عائد على قوم هود ، وخطاب لهم من تمام الجمل المقولة قبل . وقال التبريزي : هو عائد على كفار قريش ، وهو من تلوين الخطاب ، انتقل من خطاب قوم هود إلى الإخبار عمن بحضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وكأنه قيل : أخبرهم عن قصة قوم هود ، وادعهم إلى الإيمان بالله لئلا يصيبهم كما أصاب قوم هود ، فإن تولوا فقل لهم : قد أبلغتكم . وجواب الشرط هو قوله : فق أبلغتكم ، وصح أن يكون جواباً ، لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل ، فكأنه قيل : فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب . ويدل على ذلك الجملة الخبرية وهي قوله : ويستخلف ربي قوماً غيركم .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الإبلاغ كان قبل التولي ، فكيف وقع جزاء للشرط ؟ ( قلت ) : معناه فإن تولوا لم أعاقب على تفريط في الإبلاغ ، فإنّ ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول . وقال ابن عطية : المعنى أنه ما عليّ كبيرهم منكم إن توليتم فقد برئت ساحتي بالتبليغ ، وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان . وقرأ الجمهور : ويستخلف بضم الفاء على معنى الخبر المستأنف أي : يهلككم ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم . وقرأ حفص في رواية هبيرة : بجزمها عطفاً على موضع الجزاء ، وقرأ عبد الله كذلك ، وبجزم ولا تضروه ، وقرأ الجمهور : ولا تضرونه أي شيئاً من الضرر بتوليتكم ، لأنه تعالى لا تجوز عليه المضار والمنافع . قال ابن عطية : يحتمل من المعنى وجهين : أحدهما : ولا تضرونه بذهابكم وهلاككم شيئاً أي : لا ينقص ملكه ، ولا يختل أمره ، وعلى هذا المعنى قرأ عبد الله بن مسعود ولا تنقصونه شيئاً . والمعنى الآخر : ولا تضرونه أي : ولا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء ، ولا على انتصار منه ، ولا تقابلون فعله بشيء يضره انتهى . وهذا فعل منفي ومدلوله نكرة ، فينتفي جميع وجوه الضرر ، ولا يتعين واحد منها . ومعنى حفيظ رقيب محيط بالأشياء علماً لا يخفى عليه أعمالكم ، ولا يغفل عن مؤاخذتكم ، وهو يحفظني مما تكيدونني به .
( وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُواْ وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ( : الأمر واحد الأمور ، فيكون كناية عن العذاب ، أو عن القضاء بهلاكهم . أو مصدر أمر أي أمرنا للريح أو

" صفحة رقم 235 "
لخزنتها . والذين آمنوا معه قيل : كانوا أربعة آلاف ، قيل : ثلاثة آلاف . والظاهر تعلق برحمة منا بقوله : نجينا أي ، نجيناهم بمجرد رحمة من الله لحقتهم ، لا بأعمالهم الصالحة . أو كنى بالرحمة عن أعمالهم الصالحة ، إذ توفيقهم لها إنما هو بسبب رحمته تعالى إياهم . ويحتمل أن يكون متعلقاً بآمنوا أي : أنّ إيمانهم بالله وبتصديق رسوله إنما هو برحمة الله تعالى إياهم ، إذ وفقهم لذلك . وتكررت التنجية على سبيل التوكيد ، ولفلق من لو لاصقت منا فأعيدت التنجية وهي الأولى ، أو تكون هذه النتيجة هي من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه ، فأعيدت لأجل اختلاف متعلقيها .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما معنى تكرير التنجية ؟ ( قلت ) : ذكر أولاً أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال ونجيناهم من عذاب غليظ على معنى ، وكانت التنجية من عذاب غليظ قال : وذلك أن الله عز وعلا بعث عليهم السموم ، فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم وتقطعم عضواً عضواً انتهى . وهذا قاله الزجاج . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد ، وكانت النجاة المتقدمة من عذاب غليظ يريد الريح ، فيكون المقصود على هذا تعديد النعمة ، والمشهور في عذابهم بالريح أنها كانت تحملهم وتهدم مساكنهم وتنسفها ، وتحمل الظعينة كما هي ، ونحو هذا . وتلك عاد إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال : ) فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ ( فانظروا إليها واعتبروا ، ثم استأنف الأخبار عنهم فقال : جحدوا بآيات ربهم أي : أنكروها . وأضاف الآيات إلى ربهم تنبيهاً على أنه مالكهم ومربيهم ، فأنكروا آياته ، والواجب إقرارهم بها . وأصل جحد أن يتعدى بنفسه ، لكنه أجرى مجرى كفر فعدى بالباء ، كما عدى كفر بنفسه في قوله : إلا أن عادا كفروا ربهم ، إجراء له مجرى جحد . وقيل : كفر كشكر يتعدى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جر . وعصوا رسله ، قيل : عصوا هوداً والرسل الذين كانوا من قبله ، وقيل : ينزل تكذب الرسول الواحد منزلة تكذيب الرسل ، لأنهم كلهم مجمعون على الإيمان بالله والإقرار بربوبيته كقوله : ) لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( وأتبعوا أي : اتبع سقاطهم أمر رؤسائهم وكبرائهم ، والمعنى : أنهم أطاعوهم فيما أمروهم به . قال الكلبي : الجبار هو الذي يقتل على الغضب ، ويعاقب على المعصية ، وقال الزجاج : هو الذي يجبر الناس على ما يريد . وذكر ابن الأنباري : أنه العظيم في نفسه ، المتكبر على العباد . والظاهر أن قوله : واتبعوا عام في جميع عاد . وقال الزمخشري : لما كانوا تابعين له دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله انتهى . فظاهر كلامه يدل على أن اللعنة مختصة بالتابعين للرؤساء ، ونبه على علة اتباع اللعنة لهم في الدارين بأنهم كفروا ربهم ، فالكفر هو الموجب للعنة . ثم كرر التنبيه بقوله : ألا في الدعاء عليهم تهويلاً لأمرهم ، وتفظيعاً له ، وبعثاً على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم . وفائدة قوله : قوم هود مزيد التأكيد للمبالغة في التنصيص ، أو تعيين عاد هذه من عاد ارم ، لأنّ عاد إثنان ولذلك قال تعالى : وأنه أهلك ، عاد الأولى فتحقق أن الدعاء على عاد هذه ، ولم تلتبس بغيرها .
2 ( ) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الاٌّ رْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَاذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَ ياقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّى وَءَاتَانِى مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِى

" صفحة رقم 236 "
غَيْرَ تَخْسِيرٍ وَياقَوْمِ هَاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِىأَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ ياوَيْلَتَا ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَاذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ ياقَوْمِ هَاؤُلاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِىإِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُواْ يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } )
هود : ( 61 ) وإلى ثمود أخاهم . . . . .
الصيحة : فعلة للمرة الواحدة من الصياح ، يقال : صاح يصبح إذا صوت بقوة . حنذت الشاة أحنذها حنذا شويتها ،

" صفحة رقم 237 "
وجعلت فوقها حارة لتنضجها فهي حنيذ ، وحنذت الفرس أحضرته شوطاً أو شوطين ثم ظاهرت عليه الجلال في الشمس ليعرق . أوجس الرجل قال الأخفش : خامر قلبه ، وقال الفراء : اتشعر ، وقيل : أحسن . والوجيس ما يعتري النفس عند أوائل الفزع ، ووجس في نفسه كذا خطر بها يجس وجسا ووجوساً وتوجس تسمع وتحسن . قال : وصادقتا سمع التوجس للسرى
لهجس خفي أو لصوت مندد
الضحك معروف ، وكان ينبغي أن يذكر في سورة التوبة في قوله : ) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً ( ويقال : ضحك بفتح الحاء ، والضحكة الكثير الضحك ، والضحكة المضحوك منه ، ويقال : ضحكت الأرنب أي حاضت ، وأنكر أبو عبيدة والفراء وأبو عبيد : ضحك بمعنى حاض ، وعرف ذلك غيرهم . وقال الشاعر أنشده اللغويون : وضحك الأرانب فوق الصفا
كمثل دم الجوف يوم اللقا
وقال الآخر : وعهدي بسلمى ضاحكاً في لبانة
ولم يعد حقاً ثديها أن يحلما
أي حائضاً في لبانة ، واللبانة والعلاقة والشوذر واحد . ومنه ضحكت الكافورة إذا انشقت ، وضحكت الشجرة سال منا صمغها وهو شبه الدم ، وضحك الحوض امتلأ وفاض .
الشيح : معروف ، والفعل شاخ يشيخ ، وقد يقال للأنثى : شيخة . قال :
وتضحك مني شيخة عبشمية
ويجمع على أشياخ وشيوخ وشيخان ، ومن أسماء الجموع مشيخة ومشيوخاً . المجيد قال ابن الأعرابي : الرفيع . يقال : مجد يمجد مجداً ومجادة ومجد ، لغتان أي كرم وشرف ، وأصله من قولهم : مجدت الإبل تمجد مجداً شبعت . وقال : أمجدت الدابة أكثرت علفها ، وقال أبو حية النميري : تزيد على صواحبها وليست
بماجدة الطعام ولا الشراب

" صفحة رقم 238 "
أي : ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب . وقال الليث : أمجد فلان عطاء ومجده إذا كثره ، ومن أمثالهم ( في كل شجر نار ) واستمجد المرخ والعفار أي استكثر من النار . وقال ابن عطية : مجد الشيء إذا حسنت أوصافه . الروع : الفزع قال الشاعر : إذا أخذتها هزة الروع أمسكت
بمنكب مقدام على الهول أروعا
والفعل راع يروع قال : ما راعني إلا حمولة أهلها
وسط الديار نسف حب الخمخم
وقال النابغة : فارتاع من صوت كلاب فبات له
طوع الشوامت من خوف ومن صرد
والروع بضم الراء النفس ، لأنها موضع الروع . الذرع مصدر ذرع البعير بيديه في سيره إذا سار على قدر خطوه ، مأخوذ من الذراع ، ثم وضع موضع الطاقة فقيل : ضاق به ذرعاً . وقد يجعلون الذراع موضع الذراع قال :
إليك إليك ضاق بها ذرعاً
وقيل : كنى بذلك عن ضيق الصدر . العصيب والعصبصب والعصوصب الشديد اللازم ، الشر الملتف بعضه ببعض قال : وكنت لزاز خصمك لم أعدد
وقد سلكوك في يوم عصيب
قال أبو عبيدة : سمى عصيباً لأنه يعصب الناس بالشر ، والعصبة والعصابة الجماعة المجتمعة كلمتهم ، أو المجتمعون في النسب . وتعصبت لفلان وفلان معصوب أي : مجتمع الخلق . الإهراغ : قال شمر مشي بين الهرولة والجمز . وقال الهروي : هرع الرجل وأهرع استحث . الضيف : مصدر ، وإذا أخبر به أو وصف لم يطابق في تثنية ولا جمع ، هذا المشهور . وسمع فيه ضيوف وأضياف وضيفان . الركن : معروف وهو الناحية من البيت ، أو الجبل . ويقال : ركن بضم الكاف ، ويجمع على أركان وأركن . وركنت إلى فلان انضويت إليه . سرى وأسرى بمعنى واحد قاله أبو عبيدة والأهري ، وعن الليث أسرى سار أو الليل ، وسرى سار آخره ، ولا يقال في النهار إلا سار . السجيل والسجين الشديد من الخجر قاله أبو عبيدة . وقال الفراء : طين طبخ حتى صار بمنزلة الآجر . وقيل : هو فارسي ، وسنك

" صفحة رقم 239 "
الحجر ، وكل الطين يعرب فقيل : سجين . المنضود : المجمعول بعضه فوق بعض .
( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى ( : قرأ ابن وثاب والأعمش : وإلى ثمود بالصرف على إرادة الحي ، والجمهور على منع الصرف ذهاباً إلى القبيلة . أنشأكم اخترعكم وأوجدكم ، وذلك باختراع آدم أصلهم ، فكان إنشاء الأصل إنشاء للفرع . وقيل : من الأرض باعتبار الأصل المتولد منه النبات ، المتولد منه الغذاء ، المتولد منه المني ودم الطمث ، المتولد منهما الإنسان . وقيل : من بمعنى في واستعمركم جعلكم عماراً . وقيل : استعمركم من العمر أي : استبقاكم فيها قاله الضحاك أي ، أطال أعماركم . وقيل : من العمرى ، قاله مجاهد : فيكون استعمر في معنى أعمر ، كاستهلكه في معنى أهلكه . والمعنى : أعمركم فيها دياركم ، ثم هو وارثها منكم . أو بمعنى : جعلكم معمرين دياركم فيها ، لأنّ من ورث داره من بعده فإنه أعمره إياها ، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره . وقال زيد بن أسلم : استعمركم أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وغرس أشجار . وقيل : ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها ، إن ربي قريب أي : داني الرحمة ، مجيب لمن دعاه . قد كنت فينا مرجواً . قال كعب : كانوا يرجوه للملكة بعد ملكهم ، لأنه كان ذا حسب وثروة . وعن ابن عباس : فاضلاً خيراً نقدمك على جميعنا . وقال مقاتل : كانوا يرجعون رجوعه إلى دينهم ، إذ كان يبغض أصنامهم ، ويعدل عن دينهم ، فلما أظهر إنذارهم انقطع رجاؤهم منه . وذكر الماوردي يرجون خيره ، فلما أنذرهم انقطع رجاؤه خيره . وبسط الزمخشري هذا القول فقال : فينا فيما بيننا مرجواً كانت تلوح فيك مخايل الخير وجمارات الرشد ، فكنا نرجوك لننتفع بك ، وتكون مشاوراً في الأمور مسترشداً في التدابير ، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك ، وعلمنا أنْ لا خير فيك انتهى . وقيل : لما كان قوى الخاطر ، وكان من قبيلتهم ، قوي رجاؤهم في أنْ ينصر دينهم ويقوي مذهبهم . وقال ابن عطية : والظاهر الذي حكاه الجمهور أن قوله : مرجواً مشوراً ، نؤمل فيك أن تكون سيداً سادًّا مسدّ الأكابر ، ثم قرروه على التوبيخ في زعمهم بقولهم : أتنهانا . وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال : معناه حقيراً ، فإما أن يكون لفظ مرجو بمعنى حقير ، فليس ذلك في كلام العرب ، وإنما يتجه ذلك على جهة التفسير للمعنى ، وذلك أنّ القصد بقولهم : مرجواً بقول : لقد كنت فينا سهلاً مرامك ، قريباً رد أمرك ممن لا يظن أنْ يستعجل من أمره مثل هذا . فمعنى مرجواً أي : مؤخراً اطراحه وغلبته . ونحو هذا فيكون ذلك على جهة الاحتقار ، ولذلك فسر بحقير ، ثم يجيء قولهم : أتنهانا ، على جهة التوعد والاستبشاع لهذه المقالة منه انتهى . وما يعبد آباؤنا حكاية حال ماضية ، وأنا وإننا لغتان لقريش . قال الفراء : من قال إننا أخرج الحرف على أصله ، لأن كناية المتكلمين نا ، فاجتمعت ثلاث نونات . ومن قال : أنا استثقل ، اجتماعها ، فأسقط الثالثة وأبقى الأولتين انتهى . والذي أختاره أن نا ضمير المتكلمين لا تكون المحذوفة ، لأن في حذفها حذف بعض اسم وبقي منه حرف ساكن ، وإنما المحذوفة النون الثانية أنّ فحذفت لاجتماع الأمثال ، وبقي من الحرف الهمزة والنون الساكنة ، وهذا أولى من حذف ما بقي منه حرف . وأيضاً فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمين ، ولم يعهد حذف نون نا ، فكان حذفها من أن أولى . ومريب اسم فاعل من متعد ، أرابه أوقعه في الريبة ، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة . أو من لازم أراب الرجل إذا كان ذا ريبة ، وأسند ذلك إلى الشك إسناداً مجازياً ، ووجود مثل هذا الشك كوجود التصميم على الكفر .
( قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ قَالَ ياقَوْمِ أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَةً مّن رَّبّى وَءاتَانِى مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا ( : تقدم الكلام في أرأيتم في قصة نوح ، والمفعول الثاني هنا لا رأيتم محذوف يدل عليه قوله : فمن ينصرني من الله إن عصيته ،

" صفحة رقم 240 "
والتقدير : أعصيه في ترك ما أنا عليه من البينة . وقال ابن عطية : أرأيتم هو من رؤية القلب ، والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد مفعولي علمت وأخواتها ، وإدخال أداة الشرط التي هي إن على جملة محققة ، وهي كان على بينة من ربه ، لكنه خاطب الجاحدين للبينة فكأنه قال : قدروا أني على بينة من ربي وانظروا إنْ تابعتكم وعصيت ربي في أو أمره ، فمن يمنعني من عذابه ؟ قال ابن عطية : وفي الكلام محذوف تقديره : أيضرني شككم ، أو أيمكنني طاعتكم ، ونحو هذا مما يليق بمعنى الآية انتهى . وهذا التقدير الذي قدره استشعار منه بالمفعول الثاني الذي يقتضيه أرأيتم ، وأن الشرط وجوابه لا يقعان ولا يسدان مسد مفعولي أرأيتم ، والذي قدرناه نحن هو الظاهر لدلالة قوله : فمن ينصرني من الله إن عصيته ، فما تزيدونني غير تخسير . قال الزمخشري : غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران ، وأقول أنكم خاسرون انتهى . يفعل هذا للنسبة كفسقته وفجرته أي : نسبته أي الفق والفجور . قال ابن عباس : معناه ما تزيدونني بعبادتكم إلا بصارة في خسرانكم انتهى . فهو على حذف مضاف أي : غير بصاوة تخسيركم . وقال مجاهد : ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خساراً ، وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان سألهم الإيمان . وقال ابن عطية : فما تعطوني فيما اقتضيته منكم من الإيمان غير تخسير لأنفسكم ، وهو من الخسارة وليس التخسير إلا لهم ، وفي حيزهم ، وأضاف الزيادة إليه من حيث هو مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم كما تقول لمن توصيه : أنا أريدك خيراً وأنت تريدني سوأ ، وكان الوجه البين أن يقول : وأنت تريد شراً ، لكن من حيث كنت مريد خير ، ومقتضى ذلك حسن أن يضيف الزيادة إلى نفسك انتهى . وقيل : التقدير فما تحملونني عليه ، غير أني أخسركم أي : أرى منكم الخسران . وقيل : التقدير تخسروني أعمالكم وتبطلونها . قيل وهذا أقرب ، لأن قوله : فمن ينصرني من الله إن عصيته كالدلالة على أنه أراد إن اتبعتكم فيما أنتم عليه ودعوتموني إليه لم أزدد إلا خسراناً في الدين ، فأصبر من الهالكين الخاسرين . وانتصب آية على الحال ، والخلاف في الناصب في نحو هذا زيد منطلقاً ، أهو حرف التنبيه ؟ أو اسم الإشارة ؟ أو فعل محذوف ؟ جاز في نصب آية ولكم في موضع الحال ، لأنه لو تأخر لكان نعتاً لآية ، فلما تقدم على النكرة كان حالاً ، والعامل فيها محذوف .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فبم يتعلق لكم ؟ ( قلت ) : بآية حالاً منها متقدمة ، لأنها لو تأخرت لكان صفة لها ، فلما تقدمت انتصب على الحال انتهى . وهذا متناقض ، لأنه من حيث تعلق لكم بآية كان لكم معمولاً لآية ، وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها ، لأنّ الحال تتعلق بمحذوف ، فتناقض هذا الكلام ، لأنه من حيث كونه معمولاً لها كانت هي العاملة ، ومن حيث كونه حالاً منها كان العامل غيرها ، وتقدم الكلام على الجمل التي بعد آية . وقرأت فرقة : تأكل بالرفع على الاستئناف ، أو على الحال . وقريب عاجل لا يستأخر عن مسكموها بسوء إلا يسيراً ، وذلك ثلاثة أيام ، ثم يقع عليكم ، وهذا الإخبار بوحي من الله تعالى فعقروها نسب إلى جميعهم وإن كان العاقر واحداً لأنه كان برضا منهم ، وتمالؤا . ومعنى تمتعوا استمتعوا بالعيش في داركم في بلدكم ، وتسمي البلاد الديار لأنها يدار فيها أي : يتصرف ، يقال : ديار بكر لبلادهم قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : في داركم جمع دارة ، كساحة وساح وسوح ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت : له داع بمكة مشمعل
وآخر فوق دارته ينادي
ويمكن أن يسمي جميع مسكن الحي داراً انتهى . ذلك أي : الوعد بالعذاب غير مكذوب ، أي صدق حق . والأصل غيره مكذوب فيه ، فاتسع فحذف الحرف وأجرى الضمير مجرى المفعول به ، أو جعل غير مكذوب لأنه وفى به فقد صدق ، أو على أنّ المكذوب هنا مصدر عند من يثبت أنّ المصدر يجيء على زنة مفعول .
( فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ ( سقط : الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم (

" صفحة رقم 241 "
( سقط : جائمين كأن ، لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ) والكلام في جاء أمرنا كالكلام السابق في قصة قوم هود . قيل : الواو زائدة في ومن أي من خزي يومئذ فيتعلق من بنجينا ، وهذا لا يجوز عند البصريين ، لأن الواو لا تزاد عندهم بل تتعلق من بمحذوف أي : ونجيناهم من خزي ، أي وكانت التنجية من خزي يومئذ . وقرأ طلحة وأبان بن تغلب : ومن خزي بالتنوين ، ونصب يومئذ على الظرف معمولاً لخزي . وقرأ الجمهور بالإضافة ، وفتح الميم نافع والكسائي ، وهي فتحة بناء لإضافته إلى إذ ، وهو غير متمكن . وقرأ باقي السبعة بكسر الميم وهي حركة إعراب ، والتنوين في إذ تنوين عوض من الجملة المحذوفة المتقدمة الذكر أي : ومن فضيحة يوم إذ جاء الأمر وحل بهم . وقال الزمخشري : ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة ، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة انتهى . وهذا ليس مجيد ، لأن التنوين في إذ تنوين العوض ولم يتقدم إلا قوله ، فلما جاء أمرنا ولم تتقدم جملة فيها ذكر يوم القيامة ولا ما يكون فيها ، فيكون هذا التنوين عوضاً من الجملة التي تكون في يوم القيامة . وناسب مجيء الأمر وصفه تعالى بالقوي العزيز ، فإنهما من صفات الغلبة والقهر والانتقام ، والجملة التي بعد هذا تقدم الكلام عليها في الأعراف ألا إن ثمود ، منع حمزة وحفص صرفه ، وصرفه الباقون ، لثمود صرفه الكسائي ، ومنعه باقي السبعة .
( وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّنَا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ ياأَيُّهَا ياوَيْلَتَا ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَاذَا لَشَىْء عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ( : تقدم أن ترتيب قصص هذه السورة كترتيب قصص الأعراف ، وإنما أدرج شيئاً من أخبار إبراهيم عليه السلام بين قصة صالح ولوط ، لأنّ له مدخلاً في قصة لوط ، وكان إبراهيم بن خالة لوط . والرسل هنا الملائكة ، بشرت إبراهيم بثلاث بشائر : بالولد ، وبالخلة ، وبإنجاء لوط ومن آمن معه . قيل : كانوا اثنى عشر ملكاً ، روى ذلك عن ابن عباس . وقال السدي : أحد عشر ، وحكى صاحب الغنيان عشرة منهم جبريل . وقال الضحاك : تسعة ، وقال محمد بن كعب : ثمانية ، وحكى الماوردي : أربعة ، وقال ابن عباس وابن جبير : ثلاثة جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل . وقال مقاتل : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت . وروي : أن جبريل عليه السلام كان مختصاً بإهلاك قوم لوط ، وميكائيل ببشرى إبراهيم بإسحاق عليهما السلام ، وإسرافيل بإنجاء لوط ومن آمن معه . قيل : وكانت الملائكة جرداً مرداً على غاية من الحسن والجمال والبهجة ، ولهذا يضرب بهم المثل في الحسن كما قال تعال حكاية عما قيل في يوسف : ) مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( وقال الغزي : قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة
حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
وانتصب سلاماً على إضمار الفعل أي : سلمنا عليك سلاماً ، فسلاماً قطعه معمولاً للفعل المضمر المحكى بقالوا ، قال ابن عطية : ويصح أن يكون سلاماً حكاية لمعنى ما قالوا ، لا حكاية للفظهم ، قاله : مجاهد ، والسدي . ولذلك عمل فيه القول ، كما تقول لرجل قال : لا إله إلا الله قلت : حقاً وإخلاصاً ، ولو حكيت لفظهم لم يصح أن يعمل فيه القول انتهى . ويعني لم يصح أن يعمل في لفظهم القول ، يعني في اللفظ ، وإن كان ما لفظوا به في موضع المفعول للقول . وسلام خبر مبتدأ محذوف أي : أمري أو أمركم سلام ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي : عليكم سلام ، والجملة محمية وإن كان حذف منها أحد جزءيها كما قال :

" صفحة رقم 242 "
إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة
أي طعمه طعم مدامة .
وقرأ الإخوان قال : سلم ، والسلم السلام كحرم وحرام ، ومنه قول الشاعر : مررنا فقلنا ايه سلم فسلمت
كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح
اكتل اتخذ إكليلاً . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالسلم ضد الحرب تقول : نحن سلم لكم انتهى . ونصب سلاماً يدل على التجدد ، ورفع سلام يدل على الثبوت والاستقرار ، والأقرب في إعراب فما لبث أن تكون ما نافية ، ولبث معناه تأخر وأبطأ ، وأن جاء فاعل بلبث التقدير فما تأخر مجيئه قاله : الفراء . وجوزوا أن يكون في لبث ضمير إبراهيم فهو فاعل ، وأن جاء على إسقاط الحرف فقدر بأن وبعن ، وبفي ، وجعل بعضهم أن بمعنى حتى حكاه ابن العربي . وأن تكون ما مصدرية ، وذلك المصدر في موضع رفع بالابتداء ، وأن تكون بمعنى الذي أي : فلبثه ، أو الذي لبثه ، أو الذي لبثه ، والخبر أن جاء على حذف أي : قدر مجيئه ، وهذا من أدب الضيافة ، وهو تعجيل القرى . وكان مال إبراهيم البقر ، فقدم أحسن ما فيه وهو العجل . قال مجاهد : حنيذ مطبوخ ، وقال الحسن : نضج مشوي سمين يقطر ودكا . وقال السدي : سمين ، وقيل : سميط لا يصل إليه ، أي إلى العجل . والمعنى : لا يمدون أيديهم إلى أكله ، فلم ينف الوصول الناشىء عن المدبل ، جعل عدم الوصول استعارة عن امتناعهم من الأكل . نكرهم أي أنكرهم قال الشاعر : وأنكرتني وما كان الذي نكرت
من الحوادث إلا الشيب والصلعا . وقيل : نكر فيما يرى ، وأنكر فيما لا يرى من المعاني ، فكأنّ الشاعر قال : وأنكرت مودتي ثم جاءت بنكر الشيب والصلع مما يرى بالبصر . ومنه قول أبي ذؤيب :
فنكرنه فنفرن وامترست به
هو جاء هادية وهاد جرشع
وروي أنهم كانوا ينكثون بقداح كانت بأيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه ، وينبغي أن ينظر من الضيف هل يأكل أولاً ويكون بتلفت ومسارعة ، لا بتحديد النظر ، لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصراً في الأكل . قيل : كان إبراهيم عليه السلام ينزل في طرف من الأرض مخافة أن يريدوا به مكروهاً . وقيل : كانت عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوا وإلا خافوه . قال الزمخشري : ويظهر أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم ، لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه ، أو لتعذيب قومه . ألا ترى إلى قولهم : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيما أرسلوا . قال مقاتل : فأوجس وقع في قلبه . وقال الحسن : حدث به نفسه ، قيل : وأصل الوجوس الدخول ، فكان الخوف دخل عليه . والظاهر أنه لم يعرف أنهم ملائكة لمجيئهم في صورة البشر ، وكان مشغوفاً بإكرام الأضياف ، فلذلك جاؤوا في صورهم ، ولمسارعته إلى إحضار الطعام إليهم ، ولأنّ امتناع الملائكة من الأكل لا يدل على حصول الشر ، وإنما عرف أنهم ملائكة بقولهم : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، فنهوه عن شيء وقع في نفسه ، وعرفوا خيفته بكون الله جعل لهم من الاطلاع ما لم يجعل لغيرهم كقوله تعالى : ) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( وفي الحديث

" صفحة رقم 243 "
الصحيح : ) قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ رَبّى رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ ( الحديث ، أو بما يلوح في صفحات وجه الخائف . وامرأته قائمة جملة من ابتداء وخبر قال الحوفي وأبو البقاء : في موضع الحال ، قال أبو البقاء : من ضمير الفاعل في أرسلنا ، يعني المفعول الذي لم يسم فاعله ، والزمخشري يسميه فاعلاً لقيامه مقام الفاعل . وقال الحوفي : والتقدير أرسلنا إلى قوم لوط في حال قيام امرأته ، يعني امرأة إبراهيم . والظاهر أنه حال من ضمير قالوا أي : قالوا لا إبراهيم لا تخف في حال قيام امرأته وهي سارة بنت هاران بن ناخور وهي ابنة عمه ، قائمة أي : لخدمة الأضياف ، وكانت نساؤهم لا تحتجب كعادة الأعراب ، ونازلة البوادي والصحراء ، ولم يكن التبرج مكروهاً ، وكانت عجوزاً ، وخدمة الضيفان مما يعد من مكارم الأخلاق قاله : مجاهد . وجاء في شريعنا مثل هذا من حديث أبي أسيد الساعدي : وكانت امرأته عروساً ، فكانت خادمة الرسول ومن حضر معه من أصحابه . وقال وهب : كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم . وقال ابن إسحاق : قائمة تصلي . وقال المبرد : قائمة عن الولد . قال الزمخشري : وفي مصحف عبد الله وامرأته قائمة وهو قاعد . وقال ابن عطية : وفي قراءة ابن مسعود : وهي قائمة وهو جالس . ولم يتقدّم ذكر امرأة إبراهيم فيضمر ، لكنه يفسره سياق الكلام .
قال مجاهد وعكرمة : فضحكت حاضت . قال الجمهور : هو الضحك المعروف . فقيل : هو مجاز معبر به عن طلاقة الوجه وسروره بنجاة أخيها وهلاك قومه ، يقال : أتيت على روضة تضحك أي مشرقة . وقيل : هو حقيقة . فقال مقاتل : وروي عن ابن عباس ضحكت من شدّة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه . والذين جاؤه ثلاثة ، وهي تعهده يغلب الأربعين ، وقيل : المائة . وقال قتادة : ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم . وقال السدي : ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت : عجباً لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا ، وهم لا يأكلون طعامنا . وقال وهب بن منبه : وروي عن ابن عباس : ضحكت من البشارة بإسحاق ، وقال : هذا مقدم بمعنى التأخير . وذكر ابن الأنباري أنّ ضحكها كان سروراً بصدق ظنها ، لأنها كانت تقول لابراهيم : اضمم إليك ابن أخيك لوطاً وكان أخاها ، فإنه سينزل العذاب بقومه . وقيل : ضحكت لما رأت من المعجز ، وهو أنّ الملائكة مسحت العجل الحنيذ فقام حياً يطفر ، والذي يظهر والله أعلم أنهم لما لم يأكلوا ، وأوجس في نفسه خيفة بعدما نكر حالهم ، لحق المرأة من ذلك أعظم ما لحق الرجل . فلما قالوا : لا تخف ، وذكروا سبب مجيئهم زال عنه الخوف وسرّ ، فلحقها هي من السرور إن ضحكت ، إذ النساء في باب الفرح والسرور أطرب من الرجال وغالب عليهن ذلك . وقد أشار الزمخشري إلى طرف من هذا فقال : ضحكت سروراً بزوال الخيفة . وذكر محمد بن قيس سبباً لضحكها تركنا ذكره لفظاعته ، يوقف عليه في تفسير ابن عطية : وقرأ محمد بن زياد الأعرابي رجل من قراء مكة : فضحكت بفتح الحاء . قال المهدوي : وفتح الحاء غير معروف ، فبشرناها هذا موافق لقوله تعالى : ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ، والمعنى : فبشرناها على لسان رسلنا بشرتها الملائكة بإسحاق ، وبأن إسحاق سيلد يعقوب . قال ابن عطية : أضاف فعل الملائكة إلى ضمير اسم الله تعالى ، إذ كان ذلك بأمره ووحيه . وقال غيره : لما ولد لابراهيم اسماعيل عليهما السلام من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن ، وأيست لكبر سنها ، فبشرت بولد يكون نبياً وبلد نبياً ، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها . وإنما بشروها دونه ، لأنّ المرأة أعجل فرحاً بالولد ، ولأن إبراهيم قد بشروه وأمنوه من خوفه ، فأتبعوا بشارته ببشارتها . وقيل : خصت بالبشارة حيث لم يكن لها ولد ، وكان لإبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل .
والظاهر أن وراء هنا ظرف استعمل اسماً غير ظرف بدخول من عليه كأنه قيل : ومن بعد إسحاق ، أو من خلف إسحاق ، وبمعنى بعد ، روي عن ابن عباس واختاره مقاتل وابن قتيبة ، وعن ابن عباس أيضاً : أن الوراء ولد الولد ، وبه قال الشعبي : واختاره أبو عبيدة . وتسميته وراء هي قريبة من معنى وراء الظرف ، إذ هو ما يكون خلف الشيء وبعده . فإن قيل : كيف يكون يعقوب وراء لإسحاق وهو ولده لصلبه ، وإنما الوراء ولد الولد ؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال :

" صفحة رقم 244 "
المعنى ومن الوراء المنسوب إلى إسحاق يعقوب ، لأنه قد كان الوراء لإبراهيم من جهة إسحاق ، فلو قال : ومن الوراء يعقوب ، لم يعلم أهذا الوراء منسوب إلى إسحاق أم إلى إسماعيل ، فأضيف إلى إسحاق لينكشف المعنى ويزول اللبس انتهى . وبشرت من بين أولاد إسحاق بيعقوب ، لأنها رأته ولم تر غيره ، وهذه البشارة لسارة كانت وهي بنت تسع وتسعين سنة ، وابراهيم ابن مائة سنة . وقيل : كان بينهما غير ذلك ، وهي أقوال متناقضة .
وهذه الآية تدل على أنّ إسماعيل هو الذبيح ، لأن سارة حين أخدمها الملك الجبار هاجر أم إسماعيل كانت شابة جميلة ، فاتخذ إبراهيم هاجر سرية ، فغارت منها سارة ، فخرج بها وبابنها إسماعيل من الشام على البراق ، وجاء من يومه مكة ، وانصرف إلى الشام من يومه ، ثم كانت البشارة بإسحاق وسارة عجوز محالة ، وسيأتي الدليل على ذلك أيضاً من سورة والصافات . ويجوز أن يكون الله سماها حالة البشارة بهذين الاسمين ، ويجوز أن يكون الإسمان حدثا لها وقت الولادة ، وتكون البشارة بولد ذكر بعده ولد ذكر ، وحالة الإخبار عن البشارة ذكراً باسمها كما يقول المخبر : إذا بشر في النوم بولد ذكر فولد له ولد ذكر فسماه مثلاً عبد الله : بشرت بعبد الله . وقرأ الحرميان ، والنحويان ، وأبو بكر يعقوب : بالرفع على الابتداء ومن وراء الخبر كأنه قيل : ومن وراء إسحاق يعقوب كائن ، وقدره الزمخشري مولود أو موجود . قال النحاس : والجملة حال داخلة في البشارة أي : فبشرناها بإسحاق متصلاً به يعقوب . وأجاز أبو علي أنْ يرتفع بالجار والمجرور ، كما أجازه الأخفش أي : واستقرّ لها من وراء إسحاق يعقوب . وقالت فرقة : رفعه على القطع بمعنى ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب . وقال النحاس : ويجوز أن يكون فاعلاً بإضمار فعل تقديره : ويحدث من وراء إسحاق يعقوب . قال ابن عطية : وعلى هذا لا تدخل البشارة انتهى . ولا حاجة إلى تكلف القطع والعدول عن الظاهر المقتضى للدخول في البشارة .
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص ، وزيد بن علي : يعقوب بالنصب . قال الزمخشري : كأنه قيل ووهبنا له إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله : ليسوا مصلحين عشيرة ، ولا ناعب ، انتهى . يعني أنه عطف على التوهم ، والعطف على التوهم لا ينقاس ، والأظهر أن ينتصب يعقوب بإضمار فعل تقديره : ومن وراء إسحاق وهبنا يعقوب ، ودل عليه قوله : فبشرناها لأن البشارة في معنى الهبة ، ورجح هذا الوجه أبو علي ومن ذهب إلى أنه مجرور معطوف على لفظ بإسحاق ، أو على موضعه . فقوله ضعيف ، لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور ، لا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو ، فإن جاء ففي شعر . فإنْ كان المعطوف منصوباً أو مرفوعاً ، ففي جواز ذلك خلاف نحو : قام زيد واليوم عمرو ، وضربت زيداً واليوم عمراً والظهر أن الألف في يا ويلتا بدل من ياء الإضافة نحو : يا لهفا ويا عجباً ، وأمال الألف من يا ويلتا عاصم وأبو عمرو والأعشى ، إذ هي بدل من الياء . وقرأ الحسن : يا ويلتي بالياء على الأصل . وقيل : الألف ألف الندبة ، ويوقف عليها بالهاء . وأصل الدعاء بالويل ونحوه في التفجع لشدة مكروه يدهم النفس ، ثم استعمل بعد في عجب يدهم النفس . ويا ويلتا كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه ، واستفهمت بقولها أألد استفهام إنكار وتعجب ، وأنا عجوز وما بعده جملتا حال ، وانتصب شيخاً على الحال عند البصريين ، وخبر التقريب عند الكوفيين . ولا يستغنى عن هذه الحال إذا كان الخبر عروفاً عند المخاطب ، لأنّ الفائدة إنما تقع بهذه الحال ، أما إذا كان مجهولاً عنده فأردت أن تفيد المخاطب ما كان يجهله ، فتجيء الحال على بابها مستغنى عنها .
وقرأ ابن مسعود وهو في مصحفه والأعمش ، شيخ بالرفع . وجوزوا فيه . وفي بعلي أن يكونا خيرين كقولهم : هذا حلو حامض ، وأن يكون بعلى الخبر ، وشيخ خبر محذوف ، أو بدل من بعلي ، وأن يكون بعلي بدلاً أو عطف بيان ، وشيخ الخبر . والإشارة بهذا إلى الولادة أو البشارة بها تعجبت من حدوث ولد بين شيخين هرمين ، واستغربت ذلك من حيث العادة ، لا إنكاراً لقدرة الله تعالى . قالوا : أي الملائكة أتعجبين ؟ استفهام إنكار لعجبها . قال الزمخشري : لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادة ، فكان عليها أن تتوفر ولا يزدهيها ما

" صفحة رقم 245 "
يزدهي سائر النساء في غير بيت النبوة ، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب . وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولهم : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ، أرادوا أنّ هذه وأمثالها مما يكرمكم رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة ؟ فليست بمكان عجيب ، وأمر الله قدرته وحكمته . وقوله : رحمة الله وبركاته عليكم كلام مستأنف علل به إنكار التعجب ، كأنه قيل : إياك والتعجب ، فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم . وقيل : الرحمة النبوة ، والبركات الأسباط من بني إسرائيل ، لأن الأنبياء منهم ، وكلهم من ولد إبراهيم انتهى . وقيل : رحمته تحيته ، وبركاته فواضل خيره بالخلة والإمامة . وروي أن سارة قالت لجبريل عليه السلام : ما آية ذلك ؟ فأخذ عوداً بابساً فلواه بين أصابعه ، فاهتز أخضر ، فسكن روعها وزال عجبها . وهذه الجملة المستأنفة يحتمل أن تكون خبراً وهو الأظهر ، لأنه يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم ، ويحتمل أن يكون دعاء وهو مرجوح ، لأن الدعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل بعد . وأهل منصوب على النداء ، أو على الاختصاص ، وبين النصب على المدح والنصب على الاختصاص فرق ، ولذلك جعلهما سيبويه في بابين وهو أنّ المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح ، كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم ، والمنصوب على الاختصاص لا يكون إلا لمدح أو ذم ، لكن لفظه لا يتضمن بوضعه المدح ولا الذم كقوله : بنا تميماً يكشف الضباب . وقوله : ولا الحجاج عيني بنت ماء . وخطاب الملائكة أياهاً بقولهم : أهل البيت ، دليل على اندراج الزوجة في أهل البيت ، وقد دل على ذلك أيضاً في سورة الأحزاب خلافاً للشيعة إذ لا يعدون الزوجة من أهل بيت زوجها ، والبيت يراد به بيت السكنى . إنه حميد : وقال أبو الهيثم تحمد أفعاله وهو بمعنى المحمود . وقال الزمخشري : فاعل ما يستوجب من عباده ، مجيد كريم كثير الإحسان إليهم .
( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ مُّنِيبٌ يإِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ( الروع الخيفة التي كان أو جسها في نفسها حين نكر أضيافه ، والمعنى : اطمأن قلبه بعلمه أنّهم ملائكة . والبشرى تبشيره بالولد ، أو بأنَّ المراد بمجيئهم غيره . وجواب لما محذوف كما حذف في قوله : ) فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ ( وتقديره : اجترأ على الخطاب اذ فطن للمجادلة ، أو قال : كيت وكيت . ودل على ذلك الجملة المستأنفة وهي يجادلنا ، قال معناه الزمخشري . وقيل : الجواب يجادلنا وضع المضارع موضع الماضي ، أي جادلنا . وجاز ذلك لوضوح المعنى ، وهذا أقرب الأقوال . وقيل : يجادلنا حال من إبراهيم ، وجاءته حال أيضاً ، أو من ضمير في جاءته . وجواب لما محذوف تقديره : قلنا يا إبراهيم أعرض عن هذا ، واختار هذا التوجيه أبو علي . وقيل : الجواب محذوف تقديره : ظل أو أخذ يجادلنا ، فحذف اختصاراً لدلالة ظاهر الكلام عليه . والمجادلة قيل : هي سؤاله العذاب واقع بهم لا محالة ، أم على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الطاعة . وقيل : تكلماً على سبيل الشفاعة ، والمعنى : تجادل رسلنا . وعن حذيفة انهم لما قالوا له : إنا مهلكوا أهل هذه القرية قال : أرأيتم ان كان فيها خمسون من المسلمين ، أتهكلونها ؟ قالوا : لا ، قال : فأربعون ؟ قالوا : لا . قال : فثلاثون ؟ قالوا : لا ، قال : فعشرون ؟ قالوا : لا . قال : فإن كان فيهم عشرة أو خمسة شك الراوي ؟ قالوا : لا . قال : أرأيتم

" صفحة رقم 246 "
إن كان فيها رجل . واحد من المسلمين أتهلكونها ؟ قالوا : لا ، فعند ذلك قال : إنَّ فيها لوطا ، قالوا : نحن أعلم بمن فيها ، لننجينه وأهله . وكان ذلك من إبراهيم حرصاً على إيمان قوم لوط ونجاتهم ، وكان في القرية أربعة آلاف ألف انسان وتقدم تفسير حليم وأواه ومنيب . يا إبراهيم أي : قالت الملائكة ، والاشارة بهذا إلى الجدال والمحاورة في شيء مفروغ منه ، والأمر ما قضاه وحكم به من عذابه الواقع بهم لا محالة . ولا مرد له بجدال ، ولا دعاء ، ولا غير ذلك . وقرأ عمرو بن هرم : وإنهم أتاهم بلفظ الماضي ، وعذاب فاعل به عبر بالماضي عن المضارع لتحقق وقوعه كقوله ) أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ).
) وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ قَالَ ياقَوْمِ قَوْمٌ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ( خرجت الملائكة من قرية إبراهيم إلى قرية لوط وبنيهما قيل : ثمانية أميال . وقيل : أربعة فراسخ ، فأتوها عشاء . وقيل : نصف النهار ، ووجدوا لوطا في حرث له . وقيل : وجدوا ابنته تستقي ماء في نهر سدوم ، وهي أكبر حواضر قوم لوط ، فسألوها الدلالة على من يضيفهم ، ورأت هيئتهم فخافت عليهم منقوم لوط وقالت لهم : مكانكم ، وذهبت إلى أبيها فأخبرته ، فخرج إليهم فقالوا : إنّا نريد أنْ تضيفنا الليلة فقال لهم : أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم ؟ فقالوا : وما عملهم ؟ فقال : أشهد بالله انهم شر قوم في الأرض . وقد كان الله قال للملائكة : لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فلما قال هذه قال جبريل : هذه واحدة ، وتردد القول منهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات ، ثم دخل لوط المدينة فحينئذ سيء بهم أي : لحقه سوء بسببهم ، وضاق ذرعه بهم ، وقال : هذا يوم عصيب أي شديد ، لما كان يتخوفه من تعدى قومه على أضيافه . وجاءه قومه يهرعون إليه ، لما جاء لوط بضيفه لم يعلم بذلك أحداً لا أهل بيته ، فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت : إن لوطاً قد أضاف الليلة فتية ما رؤي مثلهم جمالاً وكذا وكذا ، فحينئذ جاؤا يهرعون أي : يسرعون ، كما يدفعون دفعاً فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه . وقرأ الجمهور : يهرعون مبنياً للمفعول من أهرع أي يهرعهم الطمع . وقرأت فرقة : يهرعون بفتح الياء من هرع . وقال مهلهل : فجاؤا يهرعون وهم أسارى
يقودهم على رغم الانوف
ومن قبل كانوا يعملون السيئة أي : كان ذلك ديدنهم وعادتهم ، أصروا على ذلك ومرنوا عليه ، فليس ذلك بأول انشاء هذه المعصية ، جاؤا يهرعون لا يكفهم حياء لضراوتهم عليها ، والتقدير في ومن قبل أي : من قبل مجيئهم . إلى هؤلاء الاضياف وطلبهم إياهم . وقيل : ومن قبل بعث لوط رسولاً إليهم . وجمعت السيآت وإن كان المراد بها معصية اتيان الذكور ، إما باعتبار فاعليها ، أو باعتبار تكررها . وقيل : كانت سيآت كثيرة باختلاف أنواعها ، منها اتيان الذكور ، واتيان النساء في غير المأتي ، وحذف الحصا ، والحيق في المجالس والاسواق ، والمكاء ، والصفير ، واللعب بالحمام ، والقمار ، والاستهزاء بالناس في الطرقات ، ووضع درهم على الأرض وهم بعيدون منه فمن أخذه صاحوا عليه وخجلوه ، وإنْ أخذه صبي تابعوه وراودوه . هؤلاء بناتي : الاحسن أنْ تكون الإضافة مجازية ، أي : بنات قومي ، أي البنات أطهر لكم ، إذا لنبي يتنزل منزلة الاب لقومه . وفي قراءة ابن مسعود : ) النَّبِىُّ أَوْلَى

" صفحة رقم 247 "
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( وهو أب لهم ويدل عليه أنَّه فيما قيل : لم يكن له الابنتان ، وهذا بلفظ الجمع . وأيضاً فلا يمكن أنْ يزوج ابنتيه من جميع قومه . وقيل : أشار إلى بنات نفسه وندبهم إلى النكاح ، إذْ كان من سنتهم تزويج المؤمنة بالكافر . أو على أنَّ في ضمن كلامه أنْ يؤمنوا . وقيل : كان لهم سيدان مطاعان فاراد أنْ يزوجهما ابنتيه زغورا وزيتا . وقيل : كنّ ثلاثاً .
ومعنى أطهر : أنظف فعلاً . وقيل : أحل وأطهر بيتاً ليس أفعل التفضيل ، إذ لا طهارة في اتيان الذكور . وقرأ الجمهور : أطهر بالرفع والأحسن في الإعراب أنّ يكون جملتان كل منهما مبتدأ وخبر . وجوز في بناتي أنْ يكون بدلاً ، أو عطف بيان ، وهن فصل وأطهر الخبر . وقرأ الحسن ، وزيد بن علي ، وعيسى بن عمر ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن مروان السدي : أطهر بالنصب . وقال سيبويه : هو لحن . وقال أبو عمرو بن العلاء : احتبي فيه ابن مروان في لحنه يعني : تربع . ورويت هذه القراءة عن مروان بن الحكم ، وخرجت هذه القراءة على أنَّ نصب أطهر على الحال . فقيل : هؤلاء مبتدا ، وبناتي هنّ مبتدأ وخبر في موضع خبر هؤلاء ، وروي هذا عن المبرد . وقيل : هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر ، وهن مبتدأ ولكم خبره ، والعامل قيل : المضمر . وقيل : لكم بما فيه من معنى الاستقرار . وقيل : هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر ، وهن فصل ، وأطهر حال . ورد بأنَّ الفصل لا يقع إلا بين جزءي الجملة ، ولا يقع بين الحال وذي الحال . وقد أجاز ذلك بعضهم وادعى السماع فيه عن العرب ، لكنه قليل . ثم أمرهم بتقوى الله في أنْ يؤثروا البنات على الاضياف . ولا تخزون : يحتمل أنْ يكون من الخزي وهو الفضيحة ، أو من الخزاية وهو الاستحياء ، لأنّه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي هو ، وذلك من عراقة الكرم وأصل المروءة أليس منكم رجل يهتدي إلى سبيل الحق وفعل الجميل ، والكف عن السوء ؟ وفي ذلك توبيخ عظيم لهم ، حيث لم يكن منهم رشيد البتة . قال ابن عباس : رشيد مؤمن . وقال أبو مالك : ناه عن المنكر . ورشيد ذو رشد ، أو مرشد كالحكيم بمعنى المحكم ، والظاهر أنَّ معنى من حق من نصيب ، ولا من غرض ولا من شهوة ، قالوا له ذلك على وجه الخلاعة . وقيل : من حق ، لأنك لا ترى منا كحتنا ، لأنّهم كانوا خطبوا بناته فردهم ، وكانت سنتهم إنَّ من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبداً . وقيل : لما اتخذوا اتيان الذكران مذهباً كان عندهم أنّه هو الحق ، وإن نكاح الاناث من الباطل . وقيل : لأنّ عادتهم كانت أنْ لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة ، وكانوا كلهم متزوجين . وإنك لتعلم ما نريد يعني : من اتيان الذكور ، ومالهم فيه من الشهوة . قال : لو أنّ لي بكم قوة ، قال ذلك على سبيل التفجع . وجواب لو محذوف كما حذف في : ) وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( وتقديره : لفعلت بكم وصنعت والمعنى في إلى ركن شديد : من يستند إليه ويمتنع به من عشيرته ، شبه الذي يمتنع به بالركن من الجبل في شدته ومنعته ، وكأنه امتنع عليه أن ينتصر ويمتنع بنفسه أو بغيره مما يمكن أن يستند إليه . وقال الحوفي ، وأبو البقاء : أو آوي عطف على المعنى تقديره : أو أني آوي . والظاهر أن أو عطف جملة فعلية ، على جملة فعلية إن قدرت إني في موضع رفع على الفاعلية على ما ذهب إليه المبرد أي : لو ثبت أن لي بكم قوة ، أو آوي . ويكون المضارع المقدر وآوى هذا وقعاً موقع الماضي ، ولو التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره نقلت المضارع إلى الماضي ، وإن قدرت أن وما بعدها جملة اسمية على مذهب سيبويه فهي عطف عليها من حيث أنّ لو تأتي بعدها الجملة المقدرة اسمية إذا كان الذي ينسبك إليها أنّ ومعمولاها . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون أو آوي مستأنفاً انتهى . ويجوز على رأي الكوفيين أن تكون أو بمعنى بل ، ويكون قد أضرب عن الجملة السابقة وقال : بل آوى في حالي معكم إلى ركن شديد ، وكنى به عن جناب الله تعالى . وقرأ شيبة ، وأبو جعفر : أو آوي بنصب الياء بإضمار أن بعد ، أو فتتقدر بالمصدر عطفاً على قوله : قوة . ونظيره من النصب بإضمار أنْ بعد أو قول الشاعر :

" صفحة رقم 248 "
ولولا رجال من رزام أعزة
وآل سبيع أو يسوؤك علقما
أي أو ومساءتك علقماً .
( قَالُواْ يأَبَانَا لُوطٍ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ الَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا ( : روي أن لوطاً عليه السلام غلبوه ، وهموا بكسر الباب وهو يمسكه قال له الرسل : تنح عن الباب فتنحى ، وانفتح الباب فضربهم جبريل عليه السلام بجناحه ، فطمس أعينهم وعموا ، وانصرفوا على أعقابهم يقولون : النجاة النجاة ، فعند لوط قوم سحرة وتوعدوا لوطاً ، فحينئذ قالوا له : إنا رسل ربك . وروي أن جبريل نقب من خصاص الباب ، ورمى في أعينهم فعموا . وقيل : أخذ قبضة من تراب وأذراها في وجوههم ، فأوصل إلى عين من بعد ومن قرب من ذلك التراب ، فطمست أعينهم فلم يعرفوا طريقاً ولم يهتدوا إلى بيوتهم . وقيل : كسروا بابه وتهجموا عليه ، ففعل بهم جبريل ما فعل . والجملة من قوله : لن يصلوا إليك ، موضحة للذي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لن يصلوا إليه ، ولم يقدروا على ضرره ، ثم أمروه بأنْ يسري بأهله . وقرأ الحرميان : فاسر ، وإن أسر بوصل الألف من سرى ، وباقي السبعة بقطعها ، وأهله ابنتاه ، وطائفة يسيرة من المؤمنين بقطع من الليل . قال ابن عباس : بطائفة من الليل ، وقال الضحاك : ببقية من آخره ، وقال قتادة : بعد مضي صدر منه ، وقال ابن الأعرابي : أي ساعة من الليل ، وقيل : بظلمة ، وقيل : إنه نصف ، وقيل : إنه نصف الليل مأخوذ من قطعه نصفين . وقال الشاعر : ونائحة تنوح بقطع ليل
على رجل بقارعة الصعيد
وقال محمد بن زياد : السحر ، لقوله : نجيناهم بسحر . قال ابن عطية : ويحتمل أنه أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوز البلد المقتلع ، ووقعت نجاته بسحر . فتجتمع هذه الآية مع قوله ) إِلاَّ الَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ( انتهى .
وقال ابن الأنباري : القطع بمعنى القطعة ، مختص بالليل ، ولا يقال عندي قطع من الثوب . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : إلا امرأتك بالرفع ، وباقي السبعة بالنصب ، فوجه النصب على أنه استثناء من قوله بأهلك ، إذ قبله أمر ، والأمر عندهم كالواجب . ويتعين النصب على الاستثناء من أهلك في قراءة عبد الله ، إذ سقط في قراءته وفي مصحفه : ولا يلتفت منكم أحد . وجوزوا أن يكون منصوباً على الاستثناء من أحد وإن كان قبله نهى ، والنهي كالنفي على أصل الاستثناء ، كقراءة ابن عامر : ما فعلوه إلا قليلاً منهم بالنصب ، وإن كان قبله نفي . ووجه الرفع على أنه بدل من أحد ، وهو استثناء متصل . وقال أبو عبيد : لو كان الكلام ولا يلتفت برفع الفعل ، ولكنه نهى . فإذا استثنيت المرأة من أحد وجب أن تكون المرأة أبيح لها الالتفات ، فيفيد معنى الآية يعني أنّ التقدير يصير إلا امرأتك ، فإنها لم تنه عن الالتفات . قال ابن عطية : وهذا الاعتراض حسن يلزم أنّ الاستثناء من أحد رفعت التاء أو نصبت ، والانفصال عنه يترتب بكلام محكي عن المبرد وهو أنّ النهي إنما قصد به لوط وحده ، والالتفات منفي عنهم ، فالمعنى : أن لا تدع أحداً منهم يلتفت . وهذا كما تقول لرجل : لا يقم من هؤلاء أحد ، وأولئك لم يسمعوك ، فالمعنى : لا تدع من هؤلاء يقوم ، والقيام في المعنى منفى عن المشار إليهم .
وقال

" صفحة رقم 249 "
الزمخشري : وفي إخراجها مع أهله روايتان : روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي ، فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت : واقوماه ، فأدركها حجر فقتلها . وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها ، وأن هواها إليهم ، ولم يسر بها . واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين انتهى . وهذا وهم فاحش إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنه سري بها ، أو أنه لم يسر بها ، وهذا تكاذب في الأخبار يستحيل أن تكون الفراءتان وهما من كلام الله تترتبان على التكاذب . وقيل في الاستثناء من الأهل إشكال من جهة المعنى ، إذ يلزم أن لا يكون سري بها ، ولما التفتت كانت قد سرت معهم قطعاً ، وزال هذا الإشكال أن يكون لم يسر بها ، ولكنها لما تبعتهم التفتت . وقيل : الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع ، لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيين عن الالتفات ، ولكن استؤنف الأخبار عنها ، فالمعنى : لكن امرأتك يجري لها كذا وكذا . ويؤيد هذا المعنى أن مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجر ، وليس فيها استثناء ألبتة قال تعالى : فاسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون ، فم تقع العناية في ذلك إلا بذكر من أنجاهم الله تعالى . فجاء شرح حال امرأته في سورة هود تبعاً لا مقصوداً بالإخراج مما تقدم ، وإذا اتضح هذا المعنى علم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع ، ففيه النصب والرفع . فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر ، والرفع لبني تميم وعليه اثنان من القرّاء انتهى . وهذا الذي طول به لا تحقيق فيه ، فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهييين عن الالتفات ، وجعل استثناء منقطعاً كان الاستثناء المنقطع الذي لم يتوجه عليه العامل بحال ، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع من العرب ، وليس فيه النصب والرفع باعتبار اللغتين ، وإنما هذا في الاستثناء المنقطع ، وهو الذي يمكن توجه العامل عليه . وفي كلا النوعين يكون ما بعد إلا من غير الجنس المستثنى منه ، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنه مما يمكن أن يتوجه عليه العامل ، وهو قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها عن المأمور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيين عن الالتفات ، فكان يجب فيه إذذاك النصب قولاً واحداً . والظاهر أن قوله ولا يلتفت ، من التفات البصر . وقالت فرقة : من لفت الشيء يلفته إذا ثناه ولواه ، فمعناه : ولا يتثبط . وفي كتاب الزهراوي أنّ المعنى : ولا يلتفت أحد إلى ما خلف بل يخرج مسرعاً . والضمير في أنه ضميرالشأن ، ومصيبها مبتدأ ، وما أصابهم الخبر . ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون مصيبها خبر إن ، وما أصابهم فاعل به ، لأنهم يجيزون أنه قائم أخواك . ومذهب البصريين أنّ ضمير الشان لا يكون خبره إلا جملة مصرحاً بجزءيها ، فلا يجوز هذا الإعراب عندهم .
وقرأ عيسى بن عمر : الصيح بضم الباء . قيل : وهي لغة ، فلا يكون ذلك اتباعاً وهو على حذف مضاف أي : إنّ موعد هلاكهم الصبح . ويروى أن لوطاً عليه السلام قال : أريد أسرع من ذلك ، فقالت له الملائكة : أليس الصبح بقريب ؟ وجعل الصبح ميقاتاً لهلاكهم ، لأنّ النفوس فيه أودع ، والراحة فيه أجمع . ويروى أن لوطاً خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر ، وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ، ووصل إلى إبراهيم عليهما السلام . والضمير في عاليها عائد على مدائن قوم لوط ، جعل جبريل جناحه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء ، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ، ثم قلبها عليهم ، وأتبعوا الحجارة من فوقهم وهي المؤتفكات سبع مدائن . وقيل : خمس عدّها المفسرون ، وفي ضبطها إشكال ، فأهملت ذكرها . وسدوم في القرية العظمى ، وأمطرنا عليها أي على أهلها . وروي أن الحجارة أصابت منهم من كان خارج مدنهم حتى قتلتهم أجمعين ، وأنّ رجلاً كان في الحرم فبقي الحجر معلقاً في الهواء حتى خرج من الحرم فقتله الحجر . قال أبو العالية ، وابن زيد : السجيل اسم لسماء الدنيا ، وهذا ضعيف لوصفه بمنضود ، وتقدم شرحه في المفردات . وقيل : من أسجله إذا

" صفحة رقم 250 "
أرسله ، وقيل : مما كتب الله أن يعذب به من السجل ، وسجل لفلان . ومعنى هذه اللفظة : ماء وطين ، هذا قول : ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وعكرمة ، والسدّي ، وغيرهم . وذهبوا إلى أنّ الحجارة التي رموا بها كانت كالآجر المطبوخ . وقيل : حجر مخلوط بطين أي حجر وطين ، ويمكن أن يعود هذا إلى الآجر . وقال أبو عبيدة : الشديد من الحجارة الصلب ، مسومة عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض قاله : ابن جريج . وقال عكرمة وقتادة : إنه كان فيها بياض . وقيل : مكتوب على كل حجر اسم من رمى به ، قاله الربيع . وعن ابن عباس ، والحسن : بياض في حمرة . وعن ابن عباس أيضاً : الحجر أبيض فيه نقطة سوداء ، وأسود فيه نقطة بيضاء . وعن عكرمة وقتادة أيضاً : فيها خطوط حمر على هيئة الجزع . وقيل : وكانت مثل رؤوس الإبل ، ومثل مبارك الإبل . وقيل : قبضة الرجل . قال ابن عباس ومقاتل : معنى من عند ربك ، جاءت من عند ربك . وقيل : معدة عند ربك قاله : أبو بكر الهذلي . قال ابن الأنباري : المعنى لزم هذا التسويم الحجارة عند الله إيذاناً بنفاذ قدرته وشدة عذابه . والظاهر أن ضمير هي عائد على القرى التي جعل الله أعاليها أسافلها ، والمعنى : أنّ ذوات هذه المدن كانت بين المدينة والشام ، يمرّ عليها قريش في مسيرهم ، فالنظر إليه وفيها فيه اعتبار واتعاظ . وقيل : هي عائدة على الحجارة ، وهي أقرب مذكور . وقال ابن عباس : وما عقوبتهم ممن يعمل عملهم ببعيد ، والظاهر عموم الظالمين . وقيل : عنى به قريش . وفي الحديث : ( إنه سيكون في أمتي خسف ومسخ وقذف بالحجارة ) وقيل : مشركو العرب . وقيل : قوم لوط أي : لم تكن الحجارة تخطئهم . وفي الحديث : ( سيكون في أواخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال والنساء بالنساء فإذا كان كذلك فارتقبوا عذاب قوم لوط أن يرسل الله عليهم حجارة من سجيل ثم تلا وما هي من الظالمين ببعيد ) وإذا كان الضمير في قوله : وما هي ، عائد على الحجارة ، فيحتمل أن يراد بشيء بعيد ، ويحتمل أن يراد بمكان بعيد ، لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد إلا أنها إذا هويت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بالمرمى ، فكأنها بمكان قريب منه .
2 ( ) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّىأَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّىأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاٌّ رْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِىأَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاّنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قَالَ ياقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِىإِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِىأَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ قَالَ ياقَوْمِ أَرَهْطِىأَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ذَالِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاٌّ خِرَةِ ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لاًّجَلٍ مَّعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالاٌّ رْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالاٌّ رْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( )

" صفحة رقم 251 "
هود : ( 84 ) وإلى مدين أخاهم . . . . .
251
الرهط : قال ابن عطية جماعة الرجل ، وقيل : الرهط والراهط اسم لما دون العشرة من الرجال ، ولا يقع الرهط والعصبة والنفر إلا على الرجال . وقال الزمخشري : من الثلاثة إلى العشرة . وقيل : إلى التسعة ، ويجمع على أرهط ، ويجمع أرهط على أراهط ، فهو جمع جمع . قال الرماني : وأصل الرهط الشد ، ومنه الرهيط شدة الأكل ، والراهط اسم لجحر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده .
الورد قال ابن السكيت : هو ورود القوم الماء ، والورد الإبل الواردة انتهى . فيكون مصدراً بمعنى الورود ، واسم مفعول في المعنى كالطحن بمعنى المطحون .
رفد الرجل يرفده رفاً ورفداً أعطاه وأعانه ، من رفد الحائط دعمه ، وعن الأصمعي الرفد بالفتح القدح ، والرفد بالكسر ما في القدح من

" صفحة رقم 252 "
الشراب . وقال الليث : أصل الرفد العطاء والمعونة ، ومنه رفادة قريش يقال رفده يرفده رفداً ورفداً بكسر الراء وفتحها ، ويقال بالكسر الاسم وبالفتح المصدر . التتبيب التخسير ، تب خسر ، وتبه خسره . وقال لبيد : ولقد بليت وكل صاحب جدة
يبلى بعود وذاكم التتبيب
الزفير والشهيق : زعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أنّ الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار ، والشهيق بمنزلة آخر نهيقه . وقال رؤبة : حشرج في الصدر صهيلاً وشهق
حتى يقال ناهق وما نهق
وقال ابن فارس : الشهيق ضد الزفير ، لأن الشهيق رد النفس ، والزفير إخراج النفس من شدة الجري ، مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته . وقال الشماخ : بعيد مدى التطريب أول صوته
زفير ويتلوه شهيق محشرج
والشهيق النفس الطويل الممتد ، مأخوذ من قولهم : جبل شاهق أي طويل . وقال الليث : الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ويخرجه ، والشهيق أن يخرج ذلك النفس بشدّة يقال : إنه عظيم الزفرة .
الشقاء نكد العيش . وسوؤه . يقال منه : شقي يشقى شقاء وشقوة وشقاوة والسعادة ضده ، يقال منه : سعد يسعد ، ويعديان بالهمزة فيقال : أشقاه الله ، وأسعده الله . وقد قرىء شقوا وسعدوا بضم الشين والسين ، فدل على أنهما قد يتعدّيان . ومنه قولهم مسعود ، وذكر أنّ الفراء حكى أن هذيلاً تقول : سعده الله بمعنى أسعده . وقال الجوهري : سعد بالكسر فهو سعيد ، مثل سلم فهو سليم ، وسعد فهو مسعود . وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري : ورد سعده الله فهو مسعود ، وأسعده الله فهو مسعد .
الجذ القطع بالمعجمة والمهملة . قال ابن قتيبة : جذذت وجددت ، وهو بالذال أكثر . قال النابغة : تجذ السلوقي المضاعف يسجه
وتوقد بالصفاح نار الحباحب
) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ ( : كان قوم شعيب عبدة أوثان ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده . وبالكفر استوجبوا العذاب ، ولم يعذب الله أمة عذاب استئصال إلا بالكفر ، وإن انضافت إلى ذلك معصية كانت تابعة . قال ابن عباس : بخير أي : في رخص الأسعار وعذاب اليوم المحيط ، هو حلول الغلاء المهلك . وينظر هذا التأويل إلى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما نقص قوم المكيال والميزان إلا ارتفع عنهم الرزق ) ونبه بقوله بخير على العلة المقتضية للوفاء لا للنقص . وقال غيره : بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف ، أو بنعمة من الله حقها

" صفحة رقم 253 "
أن تقابل بغير ما تفعلون ، أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه . يوم محيط أي : مهلك من قوله : ) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ( وأصله من إحاطة العدو ، وهو العذاب الذي حل بهم في آخره . ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب به ، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث ، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه ، كما إذا أحاط بنعيمه . ونهوا أولاً : عن القبيح الذي كانوا يتعاطونه وهو نقص المكيال والميزان ، وفي التصريح بالنهي نعي على المنهى وتعيير له . وأمروا ثانياً : بإيفائهما مصرحاً بلفظهما ترغيباً في الإيفاء ، وبعثا عليه . وجيء بالقسط ليكون الإيفاء على جهة العدل والتسوية وهو الواجب ، لأنّ ما جاوز العدل فضل وأمر منذوب إليه . ونهوا ثالثاً : عن نقص الناس أشياءهم ، وهو عام في الناس ، وفيما بأيديهم من الأشياء كانت مما تكال وتوزن أو غير ذلك . ونهوا رابعاً : عن الفساد في الأرض وهو أعم من أن يكون نقصاً أو غيره ، فبدأهم أولاً بالمعصية الشنيعة التي كانوا عليها بعد الأمر بعبادة الله ، ثم ارتقى إلى عام ، ثم إلى أعم منه وذلك مبالغة في النصح لهم ولطف في استدراجهم إلى طاعة الله . وتفسير معاني هذه الجمل سبق في الأعراف . بقية الله قال ابن عباس : ما أبقى الله لكم من الحلال بعد الإيفاء خير من البخس ، وعنه رزق الله . وقال مجاهد والزجاج : طاعة الله . وقال قتادة : حظكم من الله . وقال ابن زيد : رحمة الله . وقال قتادة : ذخيرة الله . وقال الربيع : وصية الله . وقال مقاتل : ثواب الله في الآخرة ، وذكر الفراء : مراقبة الله . وقال الحسن : فرائض الله . وقيل : ما أبقاه الله حلالاً لكم ولم يحرمه عليكم . قال ابن عطية : وهذا كله لا يعطيه لفظ الآية ، وإنما المعنى عندي إبقاء الله عليكم إن أطعتم . وقوله : إن كنتم مؤمنين ، شرط في أن يكون البقية خيراً لهم ، وأما من الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال . وجواب هذا الشرط متقدم . والحفيظ المراقب الذي يحفظ أحوال من يرقب ، والمعنى : إنما أنا مبلغ ، والحفيظ المحاسب هو الذي يجازيكم بالأعمال انتهى . وليس جواب الشرط متقدماً كما ذكر ، وإنما الجواب محذوف لدلالة ما تقدم عليه على مذهب جمهور البصريين . وقال الزمخشري : وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان ، ويجوز أن يريد ما يبقى لهم عند الله من الطاعات كقوله : ) وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا ( وإضافة البقية إلى الله من حيث أنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه ، وأما الحرام فلا يجوز أن يضاف إلى الله ، ولا يسمى رزقاً انتهى ، على طريق المعتزلة في الرزق ، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة : بقية بتخفيف الياء . قال ابن عطية : هي لغة انتهى . وذلك أن قياس فعل اللازم أن يكون على وزن فعل نحو : سجيت المرأة فهي سجية ، فإذا شددت الياء كان على وزن فعيل للمبالغة . وقرأ الحسن : تقية بالتاء ، وهي تقواه ومراقبته الصارفة عن المعاصي .
( قَالُواْ يأَبَانَا شُعَيْبٌ بِحَفِيظٍ قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قَالَ ياقَوْمِ أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا ( : لما أمرهم شعيب بعبادة الله عبادة أوثانهم ، وبإيفاء المكيال والميزان ، ردّوا عليه على سبيل الاستهزاء والهزء بقولهم : أصلاتك ، وكان كثير الصلاة ، وكان إذا صلى تغامزوا وتضاحكوا أن نترك ما يعبد آباؤنا مقابل لقوله : ) اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ( أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء مقابل لقوله : ) وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ( وكون الصلاة آمرة هو على وجه المجاز ، كما كانت ناهية في قوله : ) اتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( أو يقال : إنها تأمر بالجميل والمعروف أي : تدعو إليه وتبعث عليه . إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز ، وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته . والمعنى : فأمرك بتكليفنا أن نترك ، فحذف

" صفحة رقم 254 "
المضاف لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره . والظاهر أنه أريد بالصلاة الصلاة المعهودة في تلك الشريعة . وقال الحسن : لم يبعث الله نبياً إلى فرض عليه الصلاة والزكاة . وقيل : أريد قراءتك . وقيل : مساجدك . وقيل : دعواتك . وقرأ ابن وثاب والأخوان وحفص : أصلاتك على التوحيد . وقرأ الجمهور : أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء بالنون فيهما . وقرأ الضحاك بن قيس ، وابن أبي عبلة ، وزيد بن علي : بالتاء فيهما على الخطاب ، ورويت عن أبي عبد الرحمن . وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة : نفعل بالنون ، ما نشاء بالتاء على الخطاب ، ورويت عن ابن عباس . فمن قرأ بالنون فيهما فقوله : أو أن نفعل معطوف على قوله : ما يعبد أي : أن نترك ما يعبد آباؤنا وفعلنا في أموالنا ما نشاء . ومن قرأ بالتاء فيهما أو بالنون فيهما فمعطوف على أن نترك أي : تأمرك بترك ما يعبد آباؤنا ، وفعلك في أموالنا ما تشاء ، أو وفعلنا في أموالنا ما تشاء . وأو للتنويع أي : تأمرك مرة بهذا ، ومرة بهذا . وقيل : بمعنى الواو . والظاهر أنّ الذي كانوا يفعلونه في أموالهم هو بخس الكيل والوزن المقدّم ذكره . وقال محمد بن كعب : قرضهم الدينار والدرهم ، وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس ، وعن ابن المسيب : قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض . وقيل : تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس . ومن قرأ بالتاء فيهما أو في نشاء ، والظاهر أنه إيفاء المكيال والميزان . وقال سفيان الثوري : كان يأمرهم بالزكاة . وقوله : إنك لأنت الحليم الرشيد ظاهره أنه إخبار منهم عنه بهذين الوصفين الجميلين ، فيحتمل أن يريدوا بذلك الحقيقة أي : أنك للمتصف بهذين الوصفين ، فكيف وقعت في هذا الأمر من مخالفتك دين آبائنا وما كانوا عليه ، ومثلك من يمنعه حلمه ورشده عن ذلك . أو يحتمل أن يريدوا بذلك إنك لأنت الحليم الرشيد بزعمك إذ تأمرنا بما تأمر به . أو يحتمل أن قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والتهكم ، قاله قتادة . والمراد : نسبته إلى الطيش والعي كما تقول للشحيح : لو رآك حاتم لسجد لك ، وقالوا للحبشي : أبو البيضاء . قال : يا قوم أرأيتم إن كنت هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن ، واستدعاء رقيق ، ولذلك قال فيه رسول لله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ذلك خطيب الأنبياء ) وهذا النوع يسمى استدراج المخاطب عند أرباب علم البيان ، وهو نوع لطيف غريب المغزى يتوصل به إلى بلوغ الغرض ، وقد ورد منه في قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه ، وفي قصة نوح وهود وصالح ، وفي قصة مؤمن آل فرعون مع قومه .
قال الزمخشري : فإن قلت : أين جواب أرأيتم ، وما له لم يثبت كما ثبت في قصة نوح وصالح ؟ قلت : جوابه محذوف ، وإنما لم يثبت لأنّ إثباته في الصفتين دل على مكانه ، ومعنى الكلام يناوي عليه ، والمعنى أخبروني إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي ، وكنت نبياً على الحقيقة ، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي ، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك انتهى . وتسمية هذا جواباً لأرأيتم ليس بالمصطلح ، بل هذه الجملة التي قدرها هي في موضع المفعول الثاني لأرأيتم ، لأنّ أرأيتم إذا ضمنت معنى أخبرني تعدت إلى مفعولين ، والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية تنعقد منها ومن المفعول الأول في الأصل جملة ابتدائية كقول العرب : أرأيتك زيداً ما صنع . وقال الحوفي : وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : فاعدل عن ما أنا عليه من عبادته على هذه الحال . وقال ابن عطية : وجواب الشرط الذي في قوله : إن كنت على بينة من ربي محذوف تقديره : أضل كما ضللتم ، أو أترك تبليغ الرسالة ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة انتهى . وليس قوله : أضل جواباً للشرط ، لأنه إن كان مثبتاً فلا يمكن أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشرط وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة ، فهو في موضع المفعول الثاني لأرأيتم ، وجواب الشرط محذوف تدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها . والظاهر في قوله : رزقاً حسناً أنه الحلال الطيب من غير بخس ولا تطفيف أدخلتموه أموالكم . قال ابن عباس : الحلال ، وكان شعيب عليه السلام كثير المال . وقيل : النبوة . وقيل : العلم . وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه المعنى : لست أريد أن أفعل الشيء الذي نهيتكم عنه من نقص الكيل والوزن واستأثر بالمال قاله : ابن عطية . وقال قتادة : لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه . وقال صاحب الغنيان : ما أريد أنْ أخالفكم في السرّ إلى ما أنهاكم عنه في العلانية . ويقال : خالفني فلان إلى كذا إذا

" صفحة رقم 255 "
قصده وأنت مولّ عنه ، وخالفني عنه إذا ولّي عنه وأنت قاصده ، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فتقول : خالفني إلى الماء ، تريد أنه قد ذهب إليه وارداً ، وأنا ذاهب عنه صادراً . والمعنى أنّ أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لاستبد بها دونكم ، فعلى هذا الظاهر أن قوله : أن أخالفكم في موضع المفعول لا ريد ، أي وما أريد مخالفتكم ، ويكون خالف بمعنى خلف نحو : جاوز وجاز أي : وما أريد أن أخلفكم أي : أكون خلفاً منكم . وتتعلق إلى باخالفكم ، أو بمحذوف أي : مائلاً إلى ما أنهاكم عنه ، ولذلك قال بعضهم : فيه حذف يقتضيه إلى تقديره : وأميل إلى ، أو يبقى أن أخالفكم على ظاهر ما يفهم من المخالفة ، ويكون في موضع المفعول به بأريد ، وتقدر : مائلاً إلى ، أو يكون أن أخالفكم مفعولاً من أجله ، وتتعلق إلى بقوله وما أريد بمعنى ، وما أقصد أي : وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه ، ولذلك قال الزجاج : وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه . والظاهر أن ما مصدرية ظرفية أي مدة استطاعتي للإصلاح ، وما دمت متمكناً منه لا آلوا فيه جهداً . وأجاز الزمخشري في ما وجوهاً أحدها : أن يكون بدلاً من الإصلاح أي : المقدر الذي استطعته ، أو على حذف مضاف تقديره : إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت ، فهذان وجهان في البدل . والثالث : أن يكون مفعولاً كقوله :
ضعيف النكاتة أعداءه . أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم ، وهذا الثالث ضعيف ، لأن المصدر المعرّف بأل لا يجوز إعماله في المفعول به عند الكوفيين ، وأما البصريون فإعماله عندهم فيه قليل .
وما توفيقي أي لدعائكم إلى عبادة الله وحده ، وترك ما نهاكم عنه إلا بموعونة الله . أو وما توفيقي لأنْ تكون أفعالي مسددة موافقة لرضا الله لا بمعونته ، عليه توكلت لا على غيره ، وإليه أنيب أرجع في جميع أقوالي وأفعالي . وفي هذا طلب التأييد من الله تعالى ، وتهديد للكفار وحسم لأطماعهم أن ينالوه بشر . ومعنى لا يجرمنكم : لا يكسبنكم شقاقي ، أي خلافي وعداوتي . قال السدي : كأنه في شق وهم في شق . وقال الحسن : ضراري جعله من المشقة . وقيل : فراقي . وقرأ ابن وثاب والأعمش : بضم الياء من أجرم ، ونسبها الزمخشري إلى ابن كثير ، وجرم في التعدية مثل كسب يتعدى إلى واحد . جرم فلان الذنب ، وكسب زيد المال ، ويتعدى إلى اثنين جرمت زيداً الذنب ، وكسبت زيداً المال . وبالألف يتعدى إلى اثنين أيضاً ، أجرم زيد عمراً الذنب ، وأكسبت زيداً المال ، وتقدم الكلام في جرم في العقود . وقرأ مجاهد ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق ، ورويت عن نافع : مثل بفتح اللام ، وخرج على وجهين : أحدهما : أن تكون الفتحة فتحة بناء ، وهو فاعل كحاله حين كان مرفوعاً ، ولما أضيف إلى غير متمكن جاز فيه البناء ، كقراءة من قرأ أنه لحق مثل ما أنكم تنطقون . والثاني : أن تكون الفتحة فتحة إعراب ، وانتصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي : إصابة مثل إصابة قوم نوح . والفاعل مضمر يفسره سياق الكلام أي : إن يصيبكم هو أي العذاب . وما قوم لوط منكم ببعيد ، إما في الزمان لقرب عهد هلاكهم من عهدكم ، إذ هم أقرب الهالكين ، وإما في الكفر والمعاصي وما يستحق به الهلاك . وأجرى بعيداً على قوم إما باعتبار الزمان أو المكان ، أي : بزمان بعيد ، أو بمكان بعيد . أو باعتبار موصوف غيرهما أي : بشيء بعيد ، أو باعتبار مضاف إلى قوم أي : وما إهلاك قوم لوط . ويجوز أن يسوي في قريب وبعيد وكثير وقليل بين المفرد والجمع ، وبين المذكر والمؤنث ، كما قالوا : هو صديق ، وهم صديق ، وهي صديق ، وهن صديق . وودود بناء مبالغة من ودّ الشيء أحبه وآثره ، وهو على فعل . وسمع الكسائي : وددت بفتح العين ، والمصدر ودود بناء مبالغة ودّ الشيء أحبه وآثره ، وهو على فعل . وسمع الكسائي . وددت بفتح العين ، والمصدر ود وداد وودادة . وقال بعض أهل اللغة : يجوز أن يكون ودود فعول بمعنى مفعول . وقال المفسرون : ودود متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم . وقيل : محبوب المؤمنين ورحمته لعباده ، ومحبته لخم سبب في استغفارهم وتوبتهم ، ولولا ذلك ما وفقهم إلى استغفاره والرجوع إليه ، فهو يفعل بهم فعل الوادّ بمن يودّه من الإحسان إليه .

" صفحة رقم 256 "
كانوا لا يلقون إليه أذهانهم ، ولا يصغون لكلامه رغبة عنه وكراهة له كقوله تعالى : ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ( أو كانوا يفهمونه ولكنهم لم يقبلوه ، فكأنهم لم يفقهوه ، أو قالوا ذلك على وجه الاستهانة به كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول ، أو جعلوا كلامه هذياناً وتخليطاً لا يتفهم كثير منه ، وكيف لا يتفهم كلامه وهو خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . ثم الذي جاورهم به من الكلام وخاطبهم به هو من أفصح الكلام وأجله وأدله على معانيه بحيث يفقهه من كان بعيداً لفهم ، فضلاً عن الأذكياء العقلاء ، ولكن الله تعالى أراد خذلانهم . ومعنى ضعيفاً : لا قوة لك ولا عز فيما بيننا ، فلا تقدر على الامتناع منه إن أردناك بمكروه ، وعن الحسن : ضعيفاً مهيناً . وقيل : كان ناحل البدن زمنه لا يقع في القلب منه هيبة ولا في العين منه امتلاء ، والعرب تعظم بكبر الأجسام ، وتذم بدمامتها . وقال الباقر : مهجوراً لا تجالس ولا تعاشر . وقال مقاتل : ضعيفاً أي لم يؤمن بك رهطك . وقال السدي : وحيداً في مذهبك واعتقادك . وقال ابن جبير وشريك القاضي : ضعيفاً ضرير البصر أعمى . وحكى الزهراوي والزمخشري : أنّ حمير تسمي الأعمى ضعيفاً ، ويبعده تفسيره هنا بأعمى أو بناحل البدن أو بضعيف البصر كما قاله الثوري . وزعم أبو وق : أن الله لم يبعث نبياً أعمى ، ولا نباً به زماتة ، بل الظاهر أنه ضعيف الانتصار والقدرة . ولولا رهطك احترموه لرهطه إذ كانوا كفاراً مثلهم ، أو كان في عزة ومنعة منهم لرجمناك . ظاهره القتل بالحجارة ، وهي من شر القتلات ، وبه قال ابن زيد ، وقال الطبري : رجمناك بالسب ، وهذا أيضاً تستعمله العرب ومنه : ) لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً ( وقيل : لأبعدناك وأخرجناك من أرضنا . وما أنت علينا بعزيز أي : لا تعز ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ، ونرفعك عن الرجم . وإنما يعز علينا رهطك لأنهم من أهل ديننا لم يحتاجوك علينا . وقيل : بعزيز بذي منعة ، وعزة منزلة في نفوسنا . وقيل : بذي غلبة . وقيل : بملك ، وكانوا يسمون الملك عزيزاً . قال الزمخشري : وقد دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام واقع في الفاعل ، لا في الفعل ، كأنه قيل : وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا ، ولذلك قال في جوابهم : أرهطي أعز عليكم من الله ؟ ولو قيل : وما عززمت علينا لم يصح هذا الجواب . ( فإن قلت ) : فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه ، فكيف صح قوله : أرهطي أعز عليكم من الله ؟ ( قلت ) : تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله فحين عز عليهم رهطه دونه ، كان رهطه أعز عليهم من الله . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ( انتهى . والظاهر في قوله : واتخذتموه ، أن الضمير عائد على الله تعالى أي : ونسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به . والظهري بكسر الظاء منسوب إلى الظهر من تغييرات النسب ، ونظيره قولهم في النسب إلى الأمس أمسى بكسر الهمزة ، ولما خاطبوه خطاب الإهانة والجفاء جرياً على عادة الكفار مع أنبيائهم ، خاطبهم خطاب الاستعطاف والتلطف جرياً على عادته في إلا أنه القول لهم ، والمعنى : أعز عليكم من الله حتى جعلتم مراعاتي من أجلهم ولم يسندوها إلى الله ، وأنا أولى وأحق أن أراعي من أجله ، فالمراعاة لأجل الخالق أعظم من المراعاة لأجل المخلوق ، والظهري المنسي المتروك الذي جعل كأنه خلف الظهر . وقيل :

" صفحة رقم 257 "
الضمير في واتخذتموه به عائد على الشرع الذي جاء شعيب عليه السلام . وقيل : الظهري العون وما يتقوى به . قال المبرد : فالمعنى واتخذتم العصيان عنده لدفعي انتهى . فيكون على حذف مضاف أي : واتخذتموه أي عصيانه . قال ابن عطية : وقالت فرقة : واتخذتموه أي وأنتم متخذون الله سند ظهوركم وعماد آمالكم . فقول الجمهور : على أن كفر قوم شعيب كان جحداً بالله وجهلاً به ، وهذا القول الثاني على أنهم كانوا يقرون بالخالق الرازق ويعتقدون الأصنام وسائط ووسائل ، ومن اللفظة الاستظهار بالبينة . وقال ابن زيد : الظهري الفضل ، مثل الحمل يخرج معه بابل ظهارية يعدها إن احتاج إليها ، وإلا فهي فضلة . محيط أحاط بأعمالكم فلا يخفى عليه شيء منها ، وفي ضمنه توعد وتهديد ، وتقدم تفسير نظير قوله : ) لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ ( وخلاف القراء في مكانتكم . وجوز الفراء ، والزمخشري : في من يأتيه أن تكون موصولة مفعولة بقوله : تعلمون أي : تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب ، واستفهامية في موضع رفع على الابتداء ، وتعلمون معلق كأنه قيل : أين يأتيه عذاب يخزيه ، وأينا هو كاذب . قال ابن عطية : والأول أحسن ، يعني كونها مفعولة قال : لأنها موصولة ، ولا يوصل في الاستفهام ، ويقضي بصلتها إن المعطوفة عليها موصولة لا محالة انتهى . وقوله : ويقضي بصلتها الخ لا يقضي بصلتها ، إذ لا يتعين أن تكون موصولة لا محالة كما قال ، بل تكون استفهامية إذا قدرتها معطوفة على من الاستفهامية ، كما قدّرناه وأينا هو كاذب .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في سوف تعلمون ؟ ( قلت ) : أدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل ، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا : فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا ، وعملت أنت ؟ فقال : سوف تعلمون ، يوصل تارة بالفاء ، وتارة بالاستئناف ، كما هو عادة البلغاء من العرب . وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف ، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : قد ذكر عملهم على مكانتهم ، وعمله على مكانته ، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم ، فكان القياس أن يقول من يأتيه عذاب يجزيه ، ومن هو صادق حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين ، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم . ( قلت ) : القياس ما ذكرت ، ولكنهم لما كانوا يعدونه كاذباً قال : ومن هو كاذب يعني في زعمكم ودعواكم تجهيلاً لهم انتهى . وفي ألفاظ هذا الرجل سوء أدب ، والذي قاله ليس بقياس ، لأن التهديد الذي وقع ليس بالنسبة إليه ، ولا هو داخل في التهديد المراد بقوله : سوف تعلمون ، إذ لم يأت التركيب اعملوا على مكانتكم ، وأعمل على مكانتي ، ولا سوف تعلمون . واعلم أن التهديد مختص بهم . واستسلف الزمخشري قوله : قد ذكر عملهم على مكانتهم ، وعمله على مكانته ، فبنى على ذلك سؤالاً فاسداً ، لأن المترتب على ما ليس مذكوراً لا يصح البتة ، وجميع الآية والتي قبلها إنما هي بالنسبة إليهم على سبيل التهديد ، ونظيره في سورة تنزيل : ) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( ، فهذا جاء بالنبة للمخاطبين في قوله : قل يا قوم اعملوا على مكانتكم كما جاء هنا ، وارتقبوا : انتظروا العاقبة ، وما أقول لكم . والرقيب بمعنى الراقب فعيل للمبالغة ، أو بمعنى المراقب كالعشير والجليس ، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع ، ويحسن هذا مقابلة فارتقبوا .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما بال ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو والساقتان الوسطيان بالفاء ؟ ( قلت ) : قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد وذلك قوله : ) إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ( ) ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ( فجيء بالفاء التي للتسبب كما تقول : وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت ، وأما الأخريان فلم يقعا بتلك المنزلة ، وإنما وقعتا مبتدأتين ، فكان حقهما أن يعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما ؟ كما تعطف قصة على قصة انتهى . وتقدم تفسير مثل ولما جاء أمرنا إلى قوله كان لم يغنوا فيها . وقرأ السلمي وأبو حيوة : كما بعدت بضم العين من البعد الذي هو ضد القرب ، والجمهور بكسرها ، أرادت العرب التفرقة بين البعد من جهة الهلاك ، وبين غيره ، فغيروا البناء وقراءة السلمي جاءت على الأصل اعتبار المعنى البعد من غير تخصيص كما يقال : ذهب فلان ، ومضى في معنى القرب .

" صفحة رقم 258 "
وقيل : معناه بعدا لهم من رحمة الله كما بعدت ثمود منها . وقال ابن قتيبة : بعد يبعد إذا كان بعده هلكة ، وبعد يبعد إذ أتاني . وقال النحاس : المعروف في اللغة بعد يبعد بعداً وبعداً إذا هلك . وقال المهدوي : بعد يستعمل في الخير والشر ، وبعد في الشر خاصة . وقال ابن الأنباري : من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب ، فيقول فيهما بعد يبعد ، وبعد يبعد . وقال مالك بن الريب : في بعد بمعنى هلك ؛ يقولون لا تبعدوهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا
وبعد الفلان دعاء عليه ، ولا يدعى به إلا على مبغض كقولك : سحقاً للكافرين . وقال أهل علم البيان : لم يرد في القرآن استطراد إلا هذا الموضع ، والاستطراد قالوا : هو أن تمدح شيئاً أو تذمه ، ثم تأتي في آخر الكلام بشيء هو غرضك في أوله . قال حسان : إن كنت كاذبة الذي حدثتني
فنجوت منجى الحرث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم
ونجا برأس طمرة ولجام
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرّفْدُ الْمَرْفُودُ ( : الآيات المعجزات التسع : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ، ومنهم من أبدل النقص بإظلال الجبل . وقيل : الآيات التوراة ، وهذا ليس بسديد ، لأنه قال إلى فرعون وملائه ، والتوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وملائه . والسلطان المبين هو الحجج الواضحة ، ويحتمل أن يريد بقوله : وسلطان مبين فيها أي في الآيات ، وهي دالة على صدق موسى عليه السلام . ويحتمل أن يريد بها العصا لأنها أبهر تلك الآيات ، فنص عليها كما نص على جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة على سبيل التشريف بالذكر . والظاهر أن يراد بقوله : أمر فرعون أمره إياهم بالكفر وجحد معجزات موسى ، ويحتمل أن يريد الطريق والشان . وما أمر فرعون برشيد : نفى عنه الرشد ، وذلك تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره ، وهو ضل مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل . وذلك أنه ادعى الإلهية وهو بشر مثلهم . عاينوا الآيات والسلطان المبين في أمر موسى عليه السلام ، وعلموا أن معه الرشد والحق ، ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في اتباعه رشد . ويحتمل أن يكون رشيد بمعنى راشد ، ويكون رشيد بمعنى مرشد أي بمرشد إلى خير . وكان فرعون دهرياً نافياً للصانع والمعاد ، وكان يقول : لا إله للعالم ، وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم ، فلذلك كان أمره خالياً عن الرشد بالكلية . والرشد يستعمل في كل ما يحمد ويرتضى ، والغي ضده . ويقال : قدم زيد القوم يقدم قدماً ، وقدوماً تقدمهم والمعنى : أنه يقدم قومه المغزقين إلى النار ، وكما كان قدوة في الضلال متبعاً كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه ، ويحتمل أن يكون قوله : برشيد بحميد ، العاقبة ، ويكون قوله : يقدم قومه ، تفسيراً لذلك وإيضاحاً أي : كيف يرشد أمر من هذه عاقبته ؟ وعدل عن قبوردهم إلى فأوردهم لتحقق وقوعه لا محالة ، فكأنه قد وقع ، ولما في ذلك من الإرهاب والتخويف . أو هو ماض حقيقة أي : فأوردهم في الدنيا النار أي : موجبه وهو الكفر . ويبعد هذا التأويل الفاء والورود في هذه الآية . ورود الخلود وليس بورود الإشراف على الشيء والإشفاء كقوله : ) وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ ( ويحتمل أن تكون النار تصيبه على إعمال الثاني لأنه تنازعه يقدم

" صفحة رقم 259 "
أي : إلى النار وفأوردهم ، فأعمل الثاني وحذف معمول الأول . والهمزة في فأوردهم للتعدية ، ورد يتعدى إلى واحد ، فلما أدخلت الهمزة تعدى إلى اثنين ، فتضمن وارداً وموروداً . ويطلق الورد على الوارد ، فالورد لا يكون المورود ، فاحتيج إلى حذف ليطابق فاعل بئس المخصوص بالذم ، فالتقدير : وبئس مكان الورد المورود ويعني به النار . فالورد فاعل ببئس ، والمخصوص بالذم المورود وهي النار . ويجوز في إعراب المورود ما يجوز في زيد من قولك : بئس الرجل زيد ، وجوز ابن عطية وأبو البقاء أن يكون المورود صفة للورد أي : بئس مكان الورد المورود النار ، ويكون المخصوص محذوفاً لفهم المعنى ، كما حذف في قوله : ) فَبِئْسَ الْمِهَادُ ( وهذا التخريج يبتني على جواز وصف فاعل نعم وبئس ، وفيه خلاف . ذهب ابن السراج والفارسي إلى أن ذلك لا يجوز ، وقال الزمخشري : والورد المورود الذي وردوه شبهه بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء ، وشبه اتباعه بالواردة ، ثم قيل : بئس الورد الذي يردونه النار ، لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد ، والنار ضده انتهى . وقوله : والورد المورود إطلاق الورد على المورود مجاز ، إذ نقلوا أنه يكون صدراً بمعنى الورود ، أو بمعنى الواردة من الإبل وتقديره : بئس الورد الذي يردونه النار ، يدل على أنّ المورود صفة للورد ، وأن المخصوص بالذم محذوف ، ولذلك قدّره النار . وقد ذكرنا أن ذلك يبتني على جواز وصف فاعل بئس ونعم . وقيل : التقدير بئس القوم المورود بهم هم ، فيكون الورد عنى به الجمع الوارد ، والمورود صفة لهم ، والمخصوص بالذم الضمير المحذوف وهو هم ، فيكون ذلك ذماً للواردين ، لإذ ما لموضع الورود . والإشارة بقوله : في هذه إلى الدنيا وقد جاء مصرحاً بها في قصة هود ، ودل عليها قوله : ويوم القيامة ، لأنه الآخرة . فيوم معطوف على موضع في هذه ، والمعنى : أنهم ألحقوا لعنة في الدنيا وفي الآخرة . قال الكلبي : في هذه لعنة من المؤمنين أو بالغرق ، ويوم القيامة من الملائكة أو بالنار . وقال مجاهد : فلهم لعنتان ، وذهب قوم إلى أنّ التقسيم هو أنّ لهم في الدنيا لعنة ، ويوم القيامة يرفدون به فهي لعنة واحدة أولاً ، وقبح ارفاد آخر انتهى . وهذا لا يصح لأنّ هذا التأويل يدل على أنّ يوم القيامة معمول لبئس ، وبئس لا يتصرف ، فلا يتقدم معمولها عليها ، فلو تأخر يوم القيامة صح كما قال الشاعر : ولنعم حشو الدرع أنت إذا
دعيت نزال ولج في الذعر
. وقال الزمخشري : بئس الرفد المرفود رفدهم ، أي : بئس العون المعان ، وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له ، وقد رفدت باللعنة في الآخرة . وقيل : بئس العطاء المعطى انتهى . ويظهر من كلامه أنّ المرفود صفة للرفد ، وأنّ المخصوص بالذم محذوف تقديره : رفدهم ، وما ذكر من تفسيره أي بئس العون المعان هو قول أبي عبيدة ، وسمى العذاب رفداً على نحو قولهم : تحية بينهم ضرب وجيع . وقال الكلبي : الرفد الرفادة أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار .
( ذالِكَ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَىْء لَّمَّا جَاء أَمْرُ ( : الإشارة بذلك إلى ما تقدم من ذكر الأنبياء وقومهم ، وما حل بهم من العفو ، بات أي ذلك النباء بعض أنباء القرى . ويحتمل أن يعني بالقرى قرى أولئك المهلكين المتقدم ذكرهم ، وأن يعني القرى عموماً أي :

" صفحة رقم 260 "
هذا النبأ المقصوص عليك هو ديدن المدن إذ كفرت ، فدخل المدن المعاصرة . والضمير في منها عائد على القرى . قال ابن عباس : قائم وحصيد عامر كزغر وداثر ، وهذا على تأويل عموم القرى . وقال قتادة وابن جريج : قائم الجدران ومنهدم ، وهذا على تأويل خصوص القرى ، وأنها قرى أولئك الأمم المهلكين ، وقال الزمخشري : بعضها باق وبعضها عافى الأثر كالزرع القائم على ساقه ، والذي حصد انتهى . وهذا معنى قول قتادة ، قال قتادة : قائم الأثر ودارسه ، جعل حصد الزرع كناية عن الفناء قال الشاعر : والناس في قسم المنية بينهم
كالزرع منه قائم وحصيد
. وقال الضحاك : قائم لم يخسف ، وحصيد قد خسف . وقال ابن إسحاق : قائم لم يهلك بعد ، وحصيد قد أهلك . وقيل : قائم أي باق نسله ، وحصيد أي منقطع نسله . وهذا يتمشى على أن يكون التقدير ذلك من أنباء أهل القرى . وقد قيل : هو على حذف مضاف أي : من أنباء أهل القرى ، ويؤيده قوله : وما ظلمناهم ، فعاد الضمير على ذلك المحذوف . وقال الأخفش : حصيد أي محصود ، وجمعه حصدى وحصاد ، مثل : مرضى ومراض ، وباب فعلى جمعاً لفعيل بمعن مفعول ، أن يكون فيمن يعقل نحو : قتيل وقتلى . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما محل هذه الجملة ؟ قلت : هي مستأنفة لا محل لها انتهى . وقال أبو البقاء : منها قائم ابتداء ، وخبر في موضع الحال من الهاء في نقصه ، وحصيد مبتدأ خبره محذوف أي : ومنها حصيد انتهى . وما ذكره تجوز أي : نقصه عليك وحال القرى ذلك ، والحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين أي : نقص عليك بعض أنباء القرى وهي على هذه الحال يشاهدون فعل الله بها . وما ظلمناهم أي : بإهلاكنا إياههم ، بل وضعنا عليهم من العذاب ما يستحقونه ، ولكن ظلموا أنفسهم بوضع الكفر موضع الإيمان ، وارتكاب ما به أهلكوا . والظاهر أنّ قوله : فما أغنت ، نفي أي ، لم ترد عنهم من بأس الله شيئاً ولا أجدت . يدعون حكاية حال أي : التي كانوا يدعون ، أي يعبدون ، أو يدعونها اللات والعزى وهبل . قال الزمخشري : ولما منصوب بما أغنت انتهى . وهذا بناء على أنّ لما ظرف ، وهو خلاف مذهب سيبويه ، لأنّ مذهبه أنها حرف وجوب لوجوب . وأمر ربك هو عذابه ونقمته . وما زادوهم عومل معاملة العقلاء في الإسناد إلى واو الضمير الذي هو لمن يعقل ، لأنهم نزلوهم منزلة العقلاء في اعتقادهم أنها تنفع ، وعبادتهم إياهم . والتتبيب التخسير . قال ابن زيد : الشر ، وقال قتادة : الخسران والهلاك ، وقال مجاهد : التخسير ، وقيل : التدمير . وهذه كلها أقوال متقاربة . قال ابن عطية : وصورة زيادة الأصنام التتبيب ، إنما هو يتصور بأنّ تأميلها والثقة بها والتعب في عبادتها شغلت نفوسهم عن النظر في الشرع وعاقبته ، فلحق من ذلك عقاب وخسران . وأما بأن عذابهم على الكفر يزاد به عذاب على مجرد عبادة الأوثان .
( وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاْخِرَةِ ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ ( : أي ومثل ذلك الأخذ أخذ الله الأمم السابقة أخذ ربك . والقرى عام في القرى الظالمة ، والظلم يشمل ظلم الكفر وغيره . وقد يمهل الله تعالى بعض الكفرة . وأما الظلمة في الغالب فمعاجلون ، وفي الحديث : ( إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ثم قرأ : وكذلك أخذ ربك إذاً . وقرأ أبو رجاء والجحدري : وكذلك أخذ ربك ، إذ أخذ على أنّ أخذ ربك فعل وفاعل ، وإذ ظرف لما مضى ، وهو إخبار عما جرب به عادة الله في

" صفحة رقم 261 "
إهلاك من تقدم من الأمم . وقرأ طلحة بن مصرف : وكذلك أحذ ربك هذا أخذ . قال ابن عطية : وهي قراءة متمكنة المعنى ، ولكن قراءة الجماعة تعطي الوعيد واستمراره في الزمان ، وهو الباب في وضع المستقبل موضع الماضي ، والقرى مفعول بأخذ على الإعمال إذ تنازعه المصدر وهو : أخذ ربك ، وأخذ ، فاعمل الثاني وهي ظالمة جملة حالية إن أخذه أليم موجع صعب على المأخوذ . والأخذ هنا أخذ الإهلاك .
إنّ في ذلك أي : فيما قص الله من أخبار الأمم الماضية وإهلاكهم لآية لعلامة لمن خاف عذاب الآخرة ، أي : إنهم إذا عذبوا في الدنيا لأجل تكذيبهم الأنبياء وإشراكهم بالله ، وهي دار العمل فلأن يعذبوا على ذلك في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى ، وذلك أنّ الأنبياء أخبروا باستئصال من كذبهم ، وأشركوا بالله . ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم ، فدل على أنّ ما أخبروا به من البعث والجزاء صدق لا شك فيه . قال الزمخشري : لآية لمن خاف لعبرة له ، لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا ، وما هو إلا أنموذج مما أعد لهم في الآخرة ، فإذا رأى عظمته وشدته اعتبر به من عظيم العذاب الموعود فيكون له عظة وعبرة ولطفاً في زيادة التقوى والخشية من الله ونحوه : ) إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَى ( ذلك إشارة إلى يوم القيامة الدال عليه قوله : عذاب الآخرة ، والناس مفعول لم يسم فاعله رافعه مموع ، وأجاز ابن عطية أن يكون الناس مبتدأ ، ومجموع خبر مقدم ، وهو بعيد لإفراد الضمير في مجموع ، وقياسه على إعرابه مجموعون ، ومجموع له الناس عبارة عن الحشر ، ومشهود عام يشهده الأولون والآخرون من الإنس والجن والملائكة والحيوان في قول الجمهور .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : أي فائدة في أن أوثر اسم المفعول على فعله ؟ ( قلت ) : لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم ، وأنه لا بد أن يكون ميعاد مضروباً لجمع الناس له ، وأنه هو الموصوف بذلك صفة لازمة ، وهو أثبت أيضاً لإسناد الجمع إلى الناس وأنهم لا ينفكون منه ، وفيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل . ومعنى مشهود ، مشهود فيه ، فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراء له مجرى المفعول به على السعة لقوله :
ويوماً شهدناه سليماً وعامراً
والمعنى : يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد ، ومنه قولهم لفلان : مجلس مشهود ، وطعام محضور . وإنما لم يجعل اليوم مشهوداً في نفسه كما قال : ) فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ ( لأن الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وغيره من بين الأيام ، وكونه مشهوداً في نفسه لا يميزه ، إذ هو موافق لسائر الأيام في كونها مشهودة . وما نؤخره أي : ذلك اليوم . وقيل : يعود على الجزاء قاله الحوفي ، إلا لأجل معدود أي لقضاء سابق قد نفذ فيه بأجل محدود لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه . وقرأ الأعمش : وما يؤخره بالياء ، وقرأ النحويان ونافع : يأتي بإثبات الياء وصلاً ، وحذفها وقفاً ، وابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً ، وهي ثابتة في مصحف أبيّ . وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلاً ووقفاً ، وسقطت في مصحف الإمام عثمان . وقرأ الأعمش يأتون ، وكذا في مصحف عبد الله ، وإثباتها وصلاً ووقفاً هو الوجه ، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل ، وقفاً ووصلاً التخفيف كما قالوا : لا أدرِ ولا أبالِ . وذكر الزمخشري أنّ الاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل . وأنشد الطبري :

" صفحة رقم 262 "
كفاك كف ما يليق درهما
جود وأخرى تعط بالسيف الدما
والظاهر أنّ الفاعل بيأتي ضمير يعود على ما عاد عليه الضمير في نؤخره وهو قوله : ذلك يوم ، والناصب له لا تكلم ، والمعنى : لا تكلم نفس يوم يأتي ذلك اليوم إلا بإذن الله ، وذلك من عظم المهابة والهول في ذلك اليوم . وهو نظير : ) لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ( هو ناصب كقوله : ) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً ( والمراد بإتيان اليوم إتيان أهواله وشدائده ، إذ اليوم لا يكون وقتاً لإتيان اليوم .
وأجاز الزمخشري أن يكون فاعل يأتي ضميراً عائداً على الله قال : كقوله : ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ( ) أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ ( وجاء ربك ، ويعضده قراءة وما يؤخره بالياء ، وقوله : ) بِإِذْنِهِ ( وأجاز أيضاً أن ينتصب يوم يأتي باذكر أو بالانتهاء المحذوف في قوله : إلا لأجل معدود ، أي ينتهي الأجل يوم يأتي . وأجاز الحوفي أن يكون لا تكلم حالاً من ضمير اليوم المتقدم في مشهود ، أو نعتاً لأنه نكره ، والتقدير : لا تكلم نفس فيه يوم يأتي إلا بإذنه . وقال ابن عطية : لا تكلم نفس ، يصح أن يكون جملة في موضع الحال من الضمير الذي في يأتي ، وهو العائد على قوله ذلك يوم ، ويكون على هذا عائد محذوف تقديره : لا تكلم نفس فيه إلا بإذنه . ويصح أن يكون قوله : لا تكلم نفس ، صفة لقوله : يوم يأتي ، أو يوم يأتي يراد به الحين والوقت لا النهار بعينه . وما ورد في القرآن من ذكر كلام أهل الموقف في التلازم والتساؤل والتجادل ، فإما أن يكون بإذن الله ، وإما أن يكون هذه مختصة هنا في تكلم شفاعة أو إقامة حجة انتهى . وكلامه في إعراب لا تكلم كأنه منقول من كلام الحوفي . وقيل : يوم القيامة يوم طويل له مواقف ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم ، وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم ، والضمير في منهم عائد على الناس في قوله : مجموع له الناس . وقال الزمخشري : الضمير لأهل الموقف ، ولم يذكروا إلا أن ذلك معلوم ، ولأنّ قوله : لا تكلم نفس ، يدل عليه ، وقد مرّ ذكر الناس في قوله : مجموع له الناس . وقال ابن عطية فمنهم عائد على الجميع الذي تضمنه قوله : نفس ، إذ هو اسم جنس يراد به الجميع انتهى . قال ابن عباس : الشقي من كتبت عليه الشقاوة ، والسعيد الذي كتبت له السعادة . وقيل : معذب ومنعم ، وقيل : محروم ومرزوق ، وقيل : الضمي في منهم عائد على أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ذكره ابن الأنباري .
( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( قال الضحاك ومقاتل والفراء : الزفير أول نهيق الحمار ، والشهيق آخره ، وروي عن ابن عباس ، وقال أبو العالية والربيع بن أنس : الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر ، وروي عن ابن عباس أيضاً . وقال ابن السائب : الزفير زفير الحمار ، والشهيق شهيق البغال . وانتصاب خالدين على أنها حال مقدرة ، وما مصدرية ظرفية أي : مدة دوام السموات والأرض ، والمراد بهذا التوقيت التأييد كقول العرب : ما أقام ثبير وما لاح كوكب ، وضعت العرب ذلك للتأييد من غير نظر لفناء ثبير أو الكوكب ، أو عدم فنائهما . وقيل : سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة لا بد ، يدل على ذلك ) يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( وقوله : ) وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء ( ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلمهم ، إما سماء يخلقها الله ، أو يظلهم العرش وكلما أظلك فهو سماء . وعن ابن عباس : إن السموات والأرض في الآخرة يردان إلى النور الذي أخذتا منه

" صفحة رقم 263 "
فهما دائمتان أبداً في نور العرش . والظاهر أنّ قوله : إلا ما شاء ربك استثناء من الزمان الدال عليه قوله : خالدين فيهما ما دامت السموات والأرض . والمعنى : إلا الزمان الذي شاءه الله تعالى ، فلا يكون في النار ، ولا في الجنة ، ويمكن أن يكون هذا الزمان المستثنى هو الزمان الذي يفصل الله بين الخلق يوم القيامة ، إذا كان الاستثناء من الكون في النار والجنة ، لأنه زمان يخلو فيه الشقي والسعيد من دخول النار أو الجنة . وأما إن كان الاستثناء من الخلود فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار ، ويكون الزمان المستثنى ، هو الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة ، فليسوا خالدين في النار إذ قد أخرجوا منها وصاروا في الجنة ، وهذا روى معناه عن قتادة والضحاك وغيرهما ، ويكون الذين شقوا شاملاً للكفار وعصارة المسلمين . وأما بالنسبة إلى أهل الجنة فلا يتأتى منهم ما تأتى في أهل النار ، إذ ليس منهم من يدخل الجنة ثم لا يخلد فيها ، لكن يمكن ذلك باعتبار أن يكون أريد الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين ، أو الذي فات أصحاب الأعراف ، فإنهم بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخلدوا فيها صدق على العصاة المؤمنين وأصحاب الأعراف أنهم ما خلدوا في الجنة تخليد من دخلها لأول وهلة ، ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستكن في الجار والمجرور ، أو في خالدين ، وتكون ما واقعة على نوع من يعقل ، كما وقعت في قوله : ) فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( أو تكون واقعة على من يعقل على مذهب من يرى وقوعها على من يعقل مطلقاً ، ويكون المستثنى في قصة النار عصاة المؤمنين ، وفي قصة الجنة هم ، أو أصحاب الأعراف لأنهم لم يدخلوا الجنة لأول وهلة ، ولا خلدوا فيها خلود من دخلها أول وهلة .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى الاستثناء في قوله : إلا ما شاء ربك ، وقد ثبت خلود أهل الجنة والنار في الآية من غير استثناء ؟ ( قلت ) : هو استثناء من الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة ، وذلك أنّ أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده ، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب يساوي عذاب النار ، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم . وهكذا أهل الجنة لهم مع تبوّء الجنة ما هو أكبر منها وأحل موقعاً منهم ، وهو رضوان الله تعالى . كما قال : ) وَعَدَ اللَّهُ ( الآية إلى قوله : ) وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ( ولهم ما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة ما لا يعرف كنهه إلا هو ، فهو المراد بالاستثناء ، والدليل عليه قوله : عطاء غير مجذوذ . ومعنى قوله في مقابلته : إن ربك فعال لما يريد ، أنه يفعل بأهل النار ، ما يريد من العذاب ، كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له ، فتأمله فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ولا يخدعنك عنه قول المجبرة : المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة ، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم . وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم لما روي لهم بعض الثوابت عن عبد الله بن عمرو بن العاص : ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك عندما يلبثون فيها أحقاباً . وقد بلغني أن من الضلال من اعتبر هذا الحديث ، فاعتقد أنّ الكفار لا يخلدون في النار ، وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه ، وتنبيهاً عن أن نغفل عنه . ولئن صح هذا عن أبي العاص فمعناه يخرجون من النار إلى برد الزمهرير ، فذلك خلو جهنم وصفق أبوابها انتهى . وهو على طريق الاعتزال في تخليد أهل الكبائر غير التائبين من المؤمنين في النار ، وأما ما ذكره من الاستثناء في أهل النار من كونهم لا يخدلون في عذاب النار ، إذ ينتقلون إلى الزمهرير فلا يضيق عليهم أنهم خالدون في عذاب النار ، فقد يتمشى . وأما ما ذكره من الاستثناء في أهل الجنة من قوله : خالدين ، فلا يتمشى لأنهم مع ما أعطاهم الله من رضوانه ، وما تفضل عليهم به منسوى ثواب الجنة ، لا يخرجهم ذلك عن كونهم خالدين في الجنة ، فلا يصح الاستثناء على هذا ، بخلاف أهل النار فإنه لخروجهم من عذابها إلى الزمهرير يصح الاستثناء .
وقال ابن عطية : وأما قوله إلا ما شاء ربك ، فقيل فيه :

" صفحة رقم 264 "
إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام ، فهو على نحو قوله : ) لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ( استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط كأنه قال : إن شاء الله ، فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع . وقيل : هو استثناء من طول المدة ، وذلك على ما روي أن جهنم تخرب ويعدم أهلها ، وتخفق أبوابها ، فهم على هذا يخدلون حتى يصير أمرهم إلى هذا ، وهذا قول محيل . والذي روى ونقل عن ابن مسعود وغيره : أنها تخلو من النار إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين ، وهو الذي يسمى جهنم ، وسمى الكل به تجوزاً . وقيل : إلا بمعنى الواو ، وفمعنى الآية : وما شاء الله زائداً على ذلك . وقيل : في هذه الآية بمعنى سوى ، والاستثناء منقطع كما تقول : لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك ، بمعنى سوى تلك الألف . فكأنه قال : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ، سوى ما شاء الله زائداً على ذلك ، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا : عطاء غير مجذوذ ، وهذا قول الفرّاء . وقيل : سوى ما أعد لهم من أنواع العذاب مما لا يعرف كالزمهرير . وقيل : استثناء من مدة السموات والأرض التي فرطت لهم في الحياة الدنيا . وقيل : في البرزخ بين الدنيا والآخرة . وقيل : في المسافات التي بينهم في دخول النار إذ دخولهم إنما هو زمراً بعد زمر . وقيل : الاستثناء من قوله ففي النار ، كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك ، وهذا قول رواه أبو نصرة عن جابر ، أو عن أبي سعيد الخدري ، ثم أخبر منبهاً على قدرة الله تعالى فقال : إن ربك فعال لما يريد انتهى . وقال أبو مجلز : إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنه بعذاب يكون جزاؤه الخلود في النار ، فلا يدخله النار . وقيل : معنى إلا ما شاء ربك كما شاء ربك قيل : كقوله : ) وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ( أي كما قد سلف . وقرأ الحسن : شقوا بضم الشين ، والجمهور بفتحها . وقرأ ابن مسعود ، وطلحة بن مصرّف ، وابن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص سعدوا بضم السين ، وباقي السبعة والجمهور بفتحها . وكان علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي سعدوا مع علمه بالعربية ، ولا يتعجب من ذلك إذ هي قراءة منقولة عن ابن مسعود ومن ذكرنا معه . وقد احتج الكسائي بقولهم : مسعود ، قيل : ولا حجة فيه لأنه يقال : مكان مسعود فيه ، ثم حذف فيه وسمى به ، وقال المهدوي : من قرأ سعدوا فهو محمول على مسعود ، وهو شاذ قليل لأنه لا يقال سعده الله ، إنما يقال : أسعده الله . وقال الثعلبي : سعد وأسعد بمعنى واحد ، وانتصب عطاء على المصدر أي : أعطوا عطاء بمعنى إعطاء كقوله : ) وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( أي إنباتاً . ومعنى غير مجذوذ : غير مقطوع ، بل هو ممتد إلى غير نهاية .
2 ( ) فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَاؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءَابَاؤهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذَاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْن

" صفحة رقم 265 "
عَنِ الْفَسَادِ فِى الاٌّ رْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ( )
هود : ( 109 ) فلا تك في . . . . .
الزلفة قال الليث : طائفة من أول الليل ، والجمع الزلف ، وقال ثعلب : الزلف أول ساعات الليل ، واحدها زلفة . وقال أبو عبيدة ، والأخفش ، وابن قتيبة ، الزلف ساعات الليل وآناؤه ، وكل ساعة زلفة . وقال العجاج : ناح طواه الأين مما وجَفَا
طيَّ الليالي زلفاً فزلفا
سماؤه الهلال حتى احقوقنا
وأصل الكلمة من الزلفى وهي القربة ، ويقال : أزلفه فازدلف أي قربه فاقترب ، وأزلفني أدناني . الترف : النعمة ، صبي مترف منعم البدن ، ومترف أبطرته النعمة وسعة العيش . وقال الفراء : أترف عود الترفة وهي النعمة .
( فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ ( : لما ذكر تعالى قصص عبدة الأوثان من الأمم السالفة ، واتبع ذلك بذكر أحوال الأشقياء والسعداء ، شرح للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أحوال الكفار من قومه ، وإنهم متبعو آبائهم كحال من تقدم من الأمم في اتباع آبائهم في الضلال . وهؤلاء إشارة إلى مشركي العرب باتفاق ، وأنَّ ديدنهم كديدن الأمم الماضية في التقليد والعمى عن النظر في الدلائل والحجج . وهذه تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعدة بالانتقام منهم ، إذ حالهم في ذلك حال الأمم السالفة ، والأمم السالفة قد قصصنا عليك ما جرى لهم من سوء العاقبة . والتشبيه في قوله : كما يعبد ، معناه أنّ حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت ، وقد بلغك ما نزل بأسلافهم ، فسينزل بهم مثله . وما يعبد استئناف جرى مجرى التعليل للنهي عن المرية ، وما في مما وفي كما يحتمل أن تكون مصدرية وبمعنى الذي . وقرأ الجمهور : لموفوهم مشدداً من وفى ، وابن محيصن مخففاً من أوفى ، والنصيب هنا قال ابن عباس : ما قدر لهم من خير ومن شر . وقال أبو العالية : من الرزق . وقال ابن زيد : من العذاب ، وكذا قال الزمخشري قال : كما وفينا آباءهم أنصباءهم ، وغير منقوص حال من نصيبهم ، وهو عندي حال مؤكدة ، لأنّ التوفية تقتضي التكميل .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف نصب غير منقوص حالاً من النصيب الموفى ؟ ( قلت ) : يجوز أن يوفى وهو ناقص ، ويوفى وهو كامل . ألا تراك تقول : وفيته شطر حقه ، وثلث حقه ، وحقه كاملاً وناقصاً ؟ انتهى وهذه مغلطة إذا قال : وفيته شطر حقه ، فالتوفية وقعت في الشطر ، وكذا ثلث حقه ، والمعنى أعطيته الشطر أو الثث كاملاً لم أنقصه منه شيئاً . وأما قوله : وحقه كاملاً وناقصاً ، أما كاملاً فصحيح ، وهي حال مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال ، وأما وناقصاً فلا يقال لمنافاته التوفية . والخطاب في فلا تك متوجه إلى من داخله الشك ، لا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمعنى : والله أعلم قل يا محمد لكل من شك لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ، فإنّ الله لم يأمرهم بذلك ، وإنما اتبعوا في ذلك آباءهم تقليداً لهم وإعراضاً عن حجج العقول .
( وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب

" صفحة رقم 266 "
فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مُرِيبٍ ( : لما بين تعالى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد ونبوّة الرسول والقرآن الذي أتى به ، بيّن أنّ الكفار من الأمم السابقة كانوا على هذه السيرة الفاخرة مع أنبيائهم ، فليس ذلك ببدع مِن مَن عاصر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وضرب لذلك مثلاً وهو : إنزال التوراة على موسى فاختلفوا فيها . والكتاب هنا التوراة ، فقبله بعض ، وأنكره بعض ، كما اختلف هؤلاء في القرآن . والظاهر عود الضمير فيه على الكتاب لقربه ، ويجوز أن يعود على موسى عليه السلام . ويلزم من الاختلاف في أحدهما الاختلاف في الآخر . وجوز أن تكون في بمعنى على ، أي : فاختلف عليه ، وكان بنو إسرائيل أشدّ تعنتاً على موسى وأكثر اختلافاً عليه . وقد تقدم شرح : ) وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ ( والظاهر عود الضمير في بينهم على قوم موسى عليه السلام ، إذ هم المختلفون فيه ، أو في الكتاب . وقيل : يعود على المختلفين في الرسول من معاصريه . قال ابن عطية : وأنْ يعمهم اللفظ أحسن عندي ، وهذه الجملة من جملة تسليته أيضاً .
( وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( : الظاهر عموم كل وشموله للمؤمن والكافر . وقال الزمخشري : التنوين عوض من المضاف إليه يعني : وإن كلهم ، وإن جميع المختلفين فيه . وقال مقاتل : يعني به كفار هذه الأمة . وقرأ الحرميان وأبو بكر : وإن كلا بتخفيف النون ساكنة . وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة : لما بالتشديد هنا وفي ) يس ( و ) الطَّارِقُ ( وأجمعت السبعة على نصب كلا ، فتصور في قراءتهم أربع قراآت : إحداها : تخفيف أن ولما ، وهي قراءة الحرميين . والثانية : تشديدهما ، وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص . والثالثة : تخفيف إنْ وتشديد لما وهي قراءة أبي بكر . والرابعة : تشديد أنْ وتخفيف لمّا ، وهي قراءة الكسائي وأبي عمرو . وقرأ أبيّ والحسن بخلاف عه ، وإبان بن ثعلب وإنْ بالتخفيف كل بالرفع لمّا مشدداً . وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم : وإن كلا لمّا بتشديد الميم وتنوينها ، ولم يتعرضوا لتخفيف إنْ ولا تشديدها . وقال أبو حاتم : الذي في مصحف أبيّ وإن من كل إلا ليوفينهم . وقرأ الأعمش : وإن كل إلا ، وهو حرف ابن مسعود ، فهذه أربعة وجوه في الشاذ . فأما القراءة الأولى فأعمال أنْ مخففة كأعمالها مشددة ، وهذا المسألة فيها خلاف : ذهب الكوفيون إلى أنّ تخفيف أن يبطل عملها ، ولا يجوز أن تعمل . وذهب البصريون إلى أنّ إعمالها جائز ، لكنه قليل إلا مع المضمر ، فلا يجوز إلا أن ورد في شعر ، وهذا هو الصحيح لثبوت ذلك في لسان العرب . حكى سيبويه أن الثقة أخبره أنه سمع بعض العرب أنّ عمر المنطلق ، ولثبوت هذه القراءة المتواترة وقد تأولها الكوفيون . وأما لما فقال الفراء : فاللام فيها هي اللام الداخلة على خبر إنّ ، وما موصولة بمعن الذي كما جاء : ) فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ ( والجملة من القسم المحذوف وجوابه الذي هو ليوفينهم صلة ، لما نحو قوله تعالى : ) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ ( وهذا وجه حسن ، ومن إيقاع ما على من يعقل قولهم : لا سيما زيد بالرفع ، أي لاسي الذي هو زيد . وقيل : ما نكرة موصوفة وهي لمن يعقل ، والجملة القسمية وجوابها قامت مقام الصفة ، لأن المعنى : وإنْ كلا لخلق موفى عمله ، ورجح الطبري هذا القول واختاره . وقال أبو عليّ : العرف أن تدخل لام الابتداء على الخير ، والخبر هنا هو القسم وفيه لام تدخل على جوابه ، فلما اجتمع اللامان والقسم محذوف ، واتفقا في اللفظ ، وفي تلقي القسم فصل بينهما بما كما فصلوا بين أن واللام انتهى . ويظهر من كلامه أنّ اللام في لما هي اللام التي تدخل في الخبر ، ونص الحوفي على أنها لام إنْ ، إلا أنّ المنقول عن أبي علي أنّ الخبر هو ليوفينهم ، وتحريره ما ذكرنا وهو القسم وجوابه . وقيل : اللام في لما موطئة للقسم ، وما مزيدة ، والخبر الجملة القسمية وجوابها ، وإلى هذا القول في التحقيق يؤول قول أبي علي . وأما القراءة الثانية فتشديد إنّ وإعمالها في كل واضح . وأما تشديد لمّا فقال المبرد : هذا لحن ، لا تقول العرب إنّ زيداً لما خارج ، وهذه جسارة من المبرد على عادته . وكيف تكون قراءة متواترة لحناً وليس تركيب الآية كتركيب المثال الذي قال : وهو أنّ زيداً لما خارج هذا المثال لحن ، وأما في الآية فليس لحناً ، ولو سكت وقال كما قال

" صفحة رقم 267 "
الكسائي : ما أدري ما وجه هذه القراءة لكن قد وفق ، وأما غير هذين من النحويين فاختلفوا في تخريجها . فقال أبو عبيد : أصله لما منونا وقد قرىء كذلك ، ثم بني منه فعلى ، فصار كتتري نون إذ جعلت ألفه للإلحاق كارطي ، ومنع الصرف إذ جعلت ألف تأنيث ، وهو مأخوذ من لممته أي جمعته ، والتقدير : وإنْ كلاًّ جميعاً ليوفينهم ، ويكون جميعاً فيه معنى التوكيد ككل ، ولا يقال لما هذه هي لما المنونة وقف عليها بالألف ، لأنها بدل من التنوين ، وأجرى الأصل مجرى الوقف ، لأنّ ذلك إنما يكون في الشعر . وما قاله أبو عبيد بعيد ، إذ لا يعرف بناء فعلى من اللم ، ولما يلزم لمن أمال ، فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع ، ومن كتابتها بالياء ولم تكتب بها ، وقيل : لما المشدّدة هي لما المخففة ، وشدّدها في الوقف كقولك : رأيت فرّحاً يريد فرحاً ، وأجرى الوصل مجرى الوقف ، وهذا بعيد جداً ، وروي عن المازني . وقال ابن جني وغيره : تقع إلا زائدة ، فلا يبعد أن تقع لما بمعناها زائدة انتهى . وهذا وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا . وقال المازني : إنْ هي المخفف ثقلت ، وهي نافية بمعنى ما ، كما خففت إنْ ومعناها المثقلة ، ولما بمعنى إلا ، وهذا باطل لأنه لم يعهد تثقيل إن النافية ، ولنصب كل وإن النافية لا تنصب . وقيل : لما بمعنى إلا كقولك : نشدتك بالله لما فعلت ، تريد إلا فعلت ، وقاله الحوفي ، وضعفه أبو علي قال : لأن لما هذه لا تفارق القسم انتهى . وليس كما ذكر ، قد تفارق القسم . وإنما يبطل هذا الوجه ، لأنه ليس موضع دخول إلا ، لو قلت : إنْ زيداً إلا ضربته لم يكن تركيباً عربياً . وقيل : لما أصلها لمن ما ، ومن هي الموصولة ، وما بعدها زائدة ، واللام في لما هي داخلة في خبر إن ، والصلة الجملة القسمية ، فلما أدغمت من في الزائدة اجتمعت ثلاث ميمات ، فحذفت الوسطى منهن وهي المبدلة من النون ، فاجتمع المثلان ، فأدغمت ميم من في ميم ما ، فصار لمّا وقاله المهدوي . وقال الفراء ، وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي : أصل لمّا لمن ما دخلت من الجارة على ما ، كما في قول الشاعر : وإنا لمن ما يضرب الكبش ضربة
على رأسه تلقى اللسان من الفم
فعمل بها ما عمل في الوجه الذي قبله . وهذان الوجهان ضعيفان جداً لم يعهد حذف نون من ، ولا حذف نون من إلا في الشعر ، إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم : ملمال يريدون من المال .
وهذه كلها تخريجات ضعيفة جداً ينزه القرآن عنها . وكنت قد ظهر لي فيها وجه جار على قواعد العربية ، وهو أنّ لمّا هذه هي لما الجارمة حذف فعلها المجزوم لدلة المعنى عليه ، كما حذفوه في قولهم قاربت المدينة ، ولما يريدون ولما أدخله . وكذلك هنا التقدير وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله ، ويدل عليه قوله تعالى : ليوفينهم ربك أعمالهم ، لما أخبر بانتفاء نقص جزاء أعمالهم أكده بالقسم فقال : ليوفينهم ربك أعمالهم ، وكنت اعتقدت إني سبقت إلى هذا التخريج السائغ العاري من التكلف وذكرت ذلك لبعض من يقرأ عليّ فقال : قد ذكر ذلك أبو عمرو وابن الحاجب ، ولتركي النظر في كلام هذا الرجل لم أقف عليه ، ثم رأيت في كتاب التحرير نقل هذا التخريج عن ابن الحاجب قال : لما هذه هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه لما ثبت من جواز حذف فعلها في قولهم : خرجت ولما سافرت ، ولما ونحوه ، وهو سائغ فصيح ، فيكون التقدير : لما يتركوا ، لما تقدم من الدلالة عليه من تفصيل المجموعين في قوله : ) فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ ( ثم ذكر الأشقياء والسعداء ومجازاتهم ، ثم بين ذلك بقوله : ليوفينهم ربك أعمالهم ، قال : وما أعرف وجهاً أشبه من هذا ، وإن كان النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن .
وأما القراءة الثالثة والرابعة

" صفحة رقم 268 "
فتخريجهما مفهوم من تخريج القراءتين قبلهما ، وأما قراءة أبي ومن ذكر معه فإنْ نافية ، ولمّا بمعنى إلا ، والتقدير : ما كل إلا والله ليوفينهم . وكل مبتدأ الخبر الجملة القسمية وجوابها التي بعد لما كقراءة من قرأ ) وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ ( ) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ( ولا التفات إلى قول أبي عبيد والفراء من إنكارهما أن لما تكون بمعنى إلا . قال أبو عبيد : لم نجد هذا في كلام العرب ، ومن قال هذا لزمه أن يقول : رأيت القوم لما أخاك يريد إلا أخاك ، وهذا غيره موجود . وقال الفراء : أما من جعل لما بمعنى إلا ، فإنه وحجه لا نعرفه ، وقد قالت العرب مع اليمين بالله : لما قمت عنا ، وإلا قمت عنا ، فأما في الاستثناء فلم ننقله في شعر . ألا ترى أنّ ذلك لو جاز لسمع في الكلام : ذهب الناس لما زيدا ؟ والقراءة المتواترة في قوله : وإنْ كل لما ، وإن كل نفس لما ، حجة عليهما . وكون لما بمعنى إلا نقله الخليل وسيبويه والكسائي ، وكون العرب خصصت مجيئها ببعض التراكيب لا يقدح ولا يلزم اطرادها في باب الاستثناء ، فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه . وأما قراءة الزهري ، وابن أرقم : لما بالتنوين والتشديد ، فلما مصدر من قولهم : لممت الشيء جمعته ، وخرج نصبه على وجهين : أحدهما : أن يكون صفة لكلا وصف بالمصدر وقدر كل مضافاً إلى نكرة حتى يصح الوصف بالنكرة ، كما وصف به في قوله : ) أَكْلاً لَّمّاً ( وهذا تخريج أبي علي . والوجه الثاني : أن يكون منصوباً بقوله : ليوفينهم ، على حد قولهم : قياماً لأقومن ، وقعوداً لا قعدن ، فالتقدير توفية جامعة لأعمالهم ليوفينهم . وهذا تخريج ابن جني وخبر إنّ على هذين الوجهين هو جملة القسم وجوابه . وأما ما في مصحف أبي فإنْ نافية ، ومن زائدة . وأما قراءة الأعمش فواضحة ، والمعنى : جميع ما لهم . قيل : وهذه الجملة تضمنت توكيدات بأن وبكل وباللام في الخبر وبالقسم ، وبما إذا كانت زائدة ، وبنون التوكيد وباللام قبلها وذلك مبالغة في وعد الطائع ووعيد العاصي ، وأردف ذلك بالجملة المؤكدة وهي : أنه بما يعملون خبير . وهذا الوصف يقتضي علم ما خفي . وقرأ ابن هرمز : بما تعملون على الخطاب .
( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( : قال ابن عيينة وجماعة : معناه استقم على القرآن ، وقال الضحاك : استقم بالجهاد ، وقال مقاتل : امض على التوحيد ، وقال جماعة : استقم على أمر ربك بالدعاء إليه ، وقال جعفر الصادق : استقم في الأخبار عن الله بصحة العزم ، وقال الزمخشري : فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادة الحق غير عادل عنها . وقال ابن عطية : أمر بالاستقامة وهو عليها ، وهو أمر بالدوام والثبوت . والخطاب للرسول وأصحابه الذين تابوا من الكفر ولسائر الأمة ، فالمعنى : وأمرت مخاطبة تعظيم انتهى . وقيل : استفعل هنا للطلب أي : اطلب الإقامة على الدين ، كما تقول : استغفر أي اطلب الغفران . ومن تاب معطوف على الضمير المستكن في فاستقم ، وأغنى الفاصل عن التوكيد . ولا تطغوا قال ابن عباس : في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم آمركم به . وقال ابن زيد : لا تعصوا ربكم . وقال مقاتل : لا تخلطوا التوحيد بالشك . وقال الزمخشري : لا تخرجوا عن حدود الله . وقرأ الحسن والأعمش : بما يعملون بالياء على الغيبة ، ورويت عن عيسى الثقفي بصير مطلع على أعمالهم يراها ويجازى عليهتا .
( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ( : قال ابن عباس : معنى الركون الميل . وقال السدي ، وابن زيد : لا تداهنوا الظلمة . وقال قتادة : لا تلحقوا بهم . وقال سفيان : لا تدنوا إلى الذين ظلموا . وقال أبو العالية : لا ترضوا أعمالهم ، وقيل : لا تجالسوهم ، وقال جعفر الصادق : إلى الذين ظلموا إلى أنفسكم فإنها ظالمة ، وهذا شبيه بتفسير الباطنية . وقيل : لا تتشبهوا بهم . وقرأ الجمهور : تركنوا بفتح الكاف ، والماضي ركن بكسرها ، وهي لغة قريش . وقال الأزهري : هي اللغة الفصحى . وعن أبي عمرو : بكسر التاء على لغة تميم في مضارع علم غير الياء . وقرأ قتادة ، وطلحة ، والأشهب ، ورويت عن أبي عمر : وتركنوا بضم الكاف ماضي ركن بفتحها ، وهي لغة قيس وتميم ، وقال الكسائي : وأهل نجد . وشد يركن بفتح الكاف ، مضارع ركن بفتحها . وقرأ ابن أبي عبلة : ولا تركنوا مبنياً للمفعول من أركنه إذا أماله ، والنهي متناول لانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ، ومصاحبتهم ،

" صفحة رقم 269 "
ومجالستهم ، وزيارتهم ، ومداهتنهم ، والرضا بأعمالهم ، والتشبه بهم ، والتزيي بزيهم ، ومدالعين إلى زهرتهم ، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم . وتأمّل قوله : ولا تركنوا ، فإن الركون هو الميل اليسير . وقوله : إلى الذين ظلموا ، أي الذين وجد منهم الظلم ، ولم يقل الظالمين ، قاله : الزمخشري . وقال ابن عطية : ومعناه السكون إلى الشيء والرضا به . قال أبو العالية : الركون الرضا . وقال ابن زيد : الركون الإدهان ، والركون يقع في قليل هذا وكثيره . والنهي هنا يترتب من معنى الركون عن الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب ، من ترك التعبير عليهم مع القدرة ، والذين ظلموا هنا هم الكفرة ، وهو النص للمتأولين ، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي انتهى . وقال سفيان الثوري : في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون الملوك . وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء ؟ فقال : لا . فقيل له : يموت ، فقال : دعه يموت . وفي الحديث : ( من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه ) وكتب إلى الزهري حين خالط السلاطين أخ له في الدين كتاباً طويلاً قرّعه فيه أشد التقريع ، يوقف عليه في تفسير الزمخشري . وقرأ ابن وثاب ، وعلقمة ، والأعمش ، وابن مصرف ، وحمزة فيما روي عنه : فتمسكم بكسر التاء على لغة تميم ، والمس كناية عن الإصابة . وانتصب الفعل في جواب النهي ، والجملة بعدها حال . ومعنى من أولياء ، من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه . ثم لا تنصرون قال الزمخشري : ثم لا ينصركم هو لأنه وجب في حكمته تعذيبكم ، وترك الإبقاء عليكم . ( فإن قلت ) : ما معنى ؟ ثم قلت : معناها الاستبعاد ، لأنّ النصرة من الله مستبعدة مع استيجابهم العذاب وقضاء حكمته له انتهى ، وهي ألفاظ المعتزلة . وقرأ زيد بن علي : ثم لا تنصروا بحذف النون ، والفعل منصوب عطفاً على قوله : فتمسكم ، والجملة حال ، أو اعتراض بين المتعاطفين .
( وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( : سبب نزولها ما في صحيح مسلم من حديث الرجل الذي عالج امرأة أجنبية منه ، فأصاب منها ما سوى إتيانها فنزلت . وقيل : نزلت قبل ذلك ، واستعملها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) في قصة هذا الرجل فقال رجل : أله خاصة ؟ قال : ( لا ، بل للناس عامة ) وانظر إلى الأمر والنهي في هذه الآيات ، حيث جاء الخطاب في الأمر ، ( وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ( ، وأقم الصلاة ، موحداً في الظاهر ، وإن كان المأمور به من حيث المعنى عاماً ، وجاء الخطاب في النهي : ) وَلاَ تَرْكَنُواْ ( موجهاً إلى غير الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، مخاطباً به أمته ، فحيث كان بأفعال الخير توجه الخطاب إليه ، وحيث كان النهي عن المحظورات عدل عن الخطاب عنه إلى غيره من أمته ، وهذا من جليل الفصاحة . ولا خلاف أنّ المأمور بإقامتها هي الصلوات المكتوبة ، وإقامتها دوامها ، وقيل : أداؤها على تمامها ، وقيل : فعلها في أفضل أوقاتها ، وهي ثلاثة الأقوال التي في قوله تعالى : وأقيموا الصلاة .
وانتصب طرفي النهار على الظرف . وطرف الشيء يقتضي أن يكون من الشيء ، فالذي يظهر أنهما الصبح والعصر ، لأنهما طرفا النهار ، ولذلك وقع الإجماع ، إلا من شذ على أنّ من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمداً أنّ يومه يوم فطر وعليه القضاء والكفارة ، وما بعد طلوع الفجر من النهار . وقد ادعى الطبري والماوردي : الإجماع على أنّ أحد الطرفين الصبح ، والخلاف في ذلك على ما نذكره . وممن قال : هما الصبح والعصر الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وقال : الزلف المغرب والعشاء ، وليست الظاهر في هذه الآية على هذا القول ، بل هي في غيرها . وقال مجاهد ومحمد بن كعب : الطرف الأول الصبح ، والثاني الظهر والعصر ، والزلف المغرب والعشاء ،

" صفحة رقم 270 "
وليست الصبح في هذه الآية . وقال ابن عباس والحسن أيضاً : هما الصبح والمغرب ، والزلف العشاء ، وليست الظهر والعصر في الآية . وقيل : هما الظهر والعصر ، والزلف المغرب والعشاء والصبح ، وكان هذا القائل راعي الجهر بالقراءة والإخفاء . واختار ابن عطية قول مجاهد ، وجعل الظهر من الطرف الثاني ليس بواضح ، إنما الظهر نصف النهار ، والنصف لا يسمى طرفاً إلا بمجاز بعيد ، ورجح الطبري قول ابن عباس : وهو أنّ الطرفين هما الصبح والمغرب ، ولا تجعل المغرب طرفاً للنهار إلا بمجاز ، إنما هو طرف الليل . وقال الزمخشري : غدوة وعشية قال : وصلاة الغدوة الصبح ، وصلاة العشية الظهر والعصر ، لأنّ ما بعد الزوال عشي ، وصلاة الزلف المغرب والعشاء انتهى . ولا يلزم من إطلاق العشي على ما بعد الزوال أن يكون الظهر طرفاً للنهار ، لأن الأمر إنما جاء بالإقامة للصلاة في طرفي النهار ، لا في الغداة والعشي .
وقرأ الجمهور : وزلفاً بفتح اللام ، وطلحة وعيسى البصرة وابن أبي إسحاق وأبو جعفر : بضمها كأنه اسم مفرد . وقرأ ابن محيصن ومجاهد : بإسكانها وروي عنهما : وزلفى على وزن فعلى على صفة الواحد من المؤنث لما كانت بمعنى المنزلة . وأما القرءات الأخر من الجموع فمنزلة بعد منزلة ، فزلف جمع كظلم ، وزلف كبسر في بسر ، وزلف كبسر في بسرة ، فهما اسما جنس ، وزلفى بمنزلة الزلفة . والظاهر عطف وزلفاً من الليل على طرفي النهار ، عطف طرفاً على طرف . وقال الزمخشري : وقد ذكر هذه القراآت وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل . وقيل : زلفاً من الليل ، وقرباً من الليل ، وحقها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة أي : أقم الصلاة في النهار ، وأقم زلفى من الليل على معنى صلوات يتقرب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل . والظاهر عموم الحسنات من الصلوات المفروضة ، وصيام رمضان ، وما أشبههما من فرائض الإسلام . وخصوص السيئات وهي الصغائر ، ويدل عليه الحديث الصحيح : ( ما اجتنبت الكبائر ) وذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين : إلى أنّ الحسنات يراد بها الصلوات الخمس ، وإليه ذهب عثمان عند وضوءه على المقاعد ، وهو تأويل مالك . وقال مجاهد : الحسنات قول الرجل : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وينبغي أن يحمل هذا كله على جهة المثال في الحساب ، ومن أجل أنّ الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال . والصغائر التي تذهب هي بشرط التوبة منها وعدم الإصرار عليها ، وهذا نص حذاق الأصوليين . ومعنى إذهابها : تكفير الصغائر ، والصغائر قد وجدت وأذهبت الحسنات ما كان يترتب عليها ، لا أنها تذهب حقائقها ، إذ هي قد وجدت . وقيل : المعنى إنّ فعل الحسنات يكون لطفاً في ترك السيئات ، لا أنها واقعة كقوله : ) اتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( والظاهر أنّ الإشارة قوله ذلك ، إلى أقرب مذكور وهو قوله : أقم الصلاة أي إقامتها في هذه الأوقات . ذكرى أي : سبب عظة وتذكرة للذاكرين أي المتعظين . وقيل : إشارة إلى الإخبار بأنّ الحسنات يذهبن السيئات ، فيكون في هذه الذكرى حضًّا على فعل الحسنات . وقيل : إشارة إلى ما تقدم من الوصية بالاستقامة وإقامة الصلاة ، والنهي عن الطغيان ، والركون إلى الظالمين ، وهو قول الزمخشري . وقال الطبري : إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة ، وقيل : إشارة إلى القرآن ، وقيل : ذكرى معناها توبة ، ثم أمر تعالى بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله بعدما تقدم من الأوامر والنواهي ، ومنبهاً على محل الصبر ، إذ لا يتم شيء مما وقع الأمر به والنهي عنه إلا به ، وأتى بعام وهو قوله : أجر المحسنين ، ليندرج فيه كل من أحسن بسائر خصال الإحسان مما يحتاج إلى الصبر فيه ، وما قد لا يحتاج كطبع من خلق كربما ، فلا يتكلف الإحسان إذ هو مركوز في طبعه . وقال ابن عباس : المحسنون هم المصلون ، كأنه نظر إلى سياق الكلام . وقال مقاتل : هم المخلصون ، وقال أبو سليمان : المحسنون في أعمالهم .
( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الاْرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ ( : لولا هنا للتحضيض ، صحبها معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم

" صفحة رقم 271 "
تهتد ، وهذا نحو قوله : ) خَامِدُونَ ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ( والقرون : قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، ومن تقدم ذكره . والبقية هنا يراد بها الخير والنظر والجزم في الدين ، وسمي الفضل والجود بقية ، لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله ، فصار مثلاً في الجودة والفضل . فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، وبه فسر بيت الحماسة : إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم . ومنه قولهم : في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا . وإنما قيل : بقية لأنّ الشرائع والدول ونحوها قوتها في أولها ، ثم لا تزال تضعف ، فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول . وبقية فعيلة اسم فاعل للمبالغة . وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوي ، كالتقية بمعنى التقوى أي : فلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه . وقرأت فرقة : بقية بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي ، نحو : شجيت فهي شجية . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة : بقية بضم الباء وسكون القاف ، وزن فعله . وقرىء : بقية على وزن فعله للمرة من بقاه يبقيه إذا رقبه وانتظره ، والمعنى : فلولا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله ، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم . والفساد هنا الكفر وما اقترن به من المعاصي ، وفي ذلك تنبيه لهذه الأمة وحض لها على تغيير المنكر . إلا قليلاً استثناء منقطع أي : لكن قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم ، ولا يصح أن يكون استثناء متصلاً مع بقاء التحضيض على ظاهره لفساد المعنى ، وصيرورته إلى أنّ الناجين لم يحرضوا على النهي عن الفساد . والكلام عند سيبويه بالتحضيض واجب ، وغيره يراه منفياً من حيث معناه : أنه لم يكن فيهم أولو بقية ، ولهذا قال الزمخشري بعد أن منع أن يكون متصلاً : ( فإن قلت ) : في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم ، فكأنه قيل : ما كان من القرون أولوا بقية إلا قليلاً ، كان استثناء متصلاً ، ومعنى صحيحاً ، وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرجع على البدل انتهى . وقرأ زيد بن علي : إلا قليل بالرفع ، لحظ أنّ التحضيض تضمن النفي ، فأبدل كما يبدل في صريح النفي . وقال الفراء : المعنى فلم يكن ، لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد ، وأبي الأخفش كون الاستثناء منقطعاً ، والظاهر أنّ الذين ظلموا هم تاركو النهي عن الفساد . وما أترفوا فيه أي : ما نعموا فيه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهني ، ورفضوا ما فيه صلاح دينهم . واتبع استئناف أخبار عن حال هؤلاء الذين ظلموا ، وأخبار عنهم أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا مجرمين أي : ذوي جرائم غير ذلك . وقال الزمخشري : إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفاً على مضمر ، لأنّ المعنى إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد في الأرض ، واتبع الذين ظلموا شهواتهم ، فهو عطف على نهوا ، وإن كان معناه : واتبعوا جزاء الإتراف . قالوا وللحال ، كأنه قيل : أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم . وقال : وكانوا مجرمين ، عطف على أترفوا ، أي اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين ، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام انتهى . فجعل ما في قوله : ما أترفوا ، فيه مصدرية ، ولهذا قدره : اتبعوا الإتراف ، والظاهر أنها بمعنى الذي لعود الضمير في فيه عليها . وأجاز أيضاً أنْ يكون معطوفاً على اتبعوا أي : اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك . قال : ويجوز أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قوم مجرمون انتهى . ولا يسمى هذا اعتراضاً في اصطلاح النحو ، لأنه آخر آية ، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر . وقرأ جعفر بن محمد ، والعلاء بن سيابة كذا في كتاب اللوامح ،

" صفحة رقم 272 "
وأبو عمر في رواية الجعفي : واتبعوا ساكنة التاء مبنية للمفعول على حذف مضاف ، لأنه مما يتعدى إلى مفعولين ، أي جزاء ما أترفوا فيه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة أنهم اتبعوا جزاء إترافهم ، وهذا معنى قوي لتقدم الإنجاء كأنه قيل : إلا قليلاً ممن أنجينا منهم وهلك السائر .
2 ( ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاٌّ مْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ) ) 2
) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ( : تقدم تفسير شبيه هذه الآية في الأنعام ، إلا أن هنا ليهلك وهي آكد في النفي ، لأنه على مذهب الكوفيين زيدت اللام في خبر كان على سبيل التوكيد ، وعلى مذهب البصريين نوجه النفي إلى الخبر المحذوف المتعلق به اللام ، وهنا وأهلها مصلحون . قال الطبري : بشرك منهم وهم مصلحون أي : مصلحون في أعمالهم وسيرهم ، وعدل بعضهم في بعض أي : أنه لا بد من معصيتة تقترن بكفرهم ، قاله الطبري ناقلاً . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قال : إن الله يمهل الدول على الكفر ولا يمهلها على الظلم والجور ، ولو عكس لكان ذلك متجهاً أي : ما كان الله ليعذب أمة بظلمهم في معاصيهم وهم مصلحون في الإيمان . والذي رجح ابن عطية أن يكون التأويل بظلم منه تعالى عن ذلك . وقال الزمخشري : وأهلها مصلحون تنزيهاً لذاته عن الظلم ، وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين من الظلم انتهى . وهو مصادم للحديث : ( أنهلك وفينا الصالحون ) قال : نعم ، ( إذا كثر الخبث ) وللآية : ) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً ).
) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( : قال الزمخشري : يعني لاضطرارهم إلى أن يكونوا أهل ملة واحدة وهي مبلة الإسلام كقوله : ) وَأَنَّ هَاذَا أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ( وهذا كلام يتضمن نفي الاضطرار ، وأنه لم يقهرهم على الاتفاق على دين الحق ، ولكنه مكنهم من الاختبار الذي هو أساس التكليف ، فاختار بعضهم الحق ، وبعضهم الباطل ، فاختلفوا ولا يزالون مختلفين ، إلا من رحم ربك الا ناساً هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . وقال ابن عباس وقتادة : أمة واحدة مؤمنة حتى لا يقع منهم كفر ، لكنه تعالى لم يشأ ذلك . وقال الضحاك : لو شاء لجعلهم على هدى أو ضلالة ، والظاهر أن قوله : ولا يزالون مختلفين ، هو من الاختلاف الذي هو ضد الاتفاق ، وأنّ المعنى في الحق والباطل قاله : ابن عباس ، وقال مجاهد : في الأديان ، وقال الحسن : في الأرزاق والأحوال من تسخير بعضهم لبعض ، وقال عكرمة : في الأهواء ، وقال ابن بحر : المراد أنْ بعضهم يخلف بعضاً ، فيكون الآتي خلفاً للماضي . قال : ومنه قولهم : ما اختلف الجديدان ، أي خلف أحدهما صاحبه . وإلاّ من رحم استثناء متصل من قوله : ولا يزالون مختلفين ، ولا ضرورة تدعو إلى أنه بمعنى لكن ، فيكون استثناء منقطعاً كما ذهب إليه الحوفي ، والإشارة بقوله : ولذلك خلقهم ، إلى المصدر المفهوم من قوله : مختلفين ، كما قال : إذا نهى السفيه جرى إليه . فعاد الضمير إلى المصدر المفهوم من اسم الفاعل ، كأنه قيل : وللاختلاف خلقهم ، ويكون على حذف مضاف أي

" صفحة رقم 273 "
لثمرة الاختلاف من الشقاوة والسعادة خلقهم . ودل على هذا المحذوف أنه قد تقرر من قاعدة الشريعة أن الله تعالى خلق خلقاً للسعادة ، وخلقا للشقاوة ، ثم يسر كلا لما خلق له ، وهذا نص في الحديث الصحيح .
وهذه اللام في التحقيق هي لام الصيرورة في ذلك المحذوف ، أو تكون لام الصيرورة بغير ذلك المحذوف ، أي : خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف . ولا يتعارض هذا مع قوله : ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( لأنّ معنى هذا الأمر بالعبادة . وقال مجاهد وقتادة : ذلك إشارة إلى الرحمة التي تضمنها قوله : إلا من رحم ربك ، والضمير في خلقهم عائد على المرحومين . وقال ابن عباس ، واختاره الطبري : الإشارة بذلك إلى الاختلاف والرحمة معاً ، فيكون على هذا أشير بالمفرد إلى اثنين كقوله : ) عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ ( أي بين الفارض والبكر ، والضمير في خلقهم عائد على الصنفين : المستثني ، والمستثنى منه ، وليس في هذه الجملة ما يمكن أن يعود عليه الضمير إلا الاختلاف كما قال الحسن وعطاء ، أو الرحمة كما قال مجاهد ، وقتادة ، أو كلاهما كما قال ابن عباس . وقد أبعد المتأولون في تقدير غير هذه الثلاث ، فروي أنه إشارة إلى ما عده . وفيه تقديم وتأخير أي : ونمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ، ولذلك خلقهم أي لملء جهنم منهم ، وهذا بعيد جداً من تراكيب كلام العرب . وقيل : إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود ، وقيل : إلى قوله : ) فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ ( وقيل : إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير ، وقيل : إشارة إلى قوله : ) يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الاْرْضِ ( وقيل : إشارة إلى العبادة ، وقيل : إلى الجنة والنار ، وقيل : للسعادة والشقاوة . وقال الزمخشري : ولذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام ، أولاً من التمكين والاختيار الذي عنه الاختلاف ، خلقهم ليثيب مختار الحق بحسن اختياره ، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . ولولا أن هذه الأقوال سطرت في كتب التفسير لضربت عن ذكرها صفحاً .
وتمت كلمة ربك أي : نفذ قضاؤه وحق أمره . واللام في لأملأن ، هي التي يتلقى بها القسم ، أو الجملة قبلها ضمنت معنى القسم كقوله ) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ ( ثم قال : ) لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ( والجنة والجن بمعنى واحد . قال ابن عطية : والهاء فيه للمبالغة ، وإن كان الجن يقع على الواحد ، فالجنة جمعه انتهى . فيكون مما يكون فيه الواحد بغير هاء ، وجمعه بالهاء لقول بعض العرب : كمء للواحد ، وكمأة للجمع .
( وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( : الظهر أن كلاً مفعول به ، والعامل فيه نقص ، والتنوين عوض من المحذوف ، والتقدير : وكل نبأ نقص عليك . ومن أنباء الرسل في موضع الصفة لقوله : وكلاً إذ هي مضافة في التقدير إلى نكرة ، وما صلة كما هي في قوله : ) قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ( قيل : أو بدل ، أو خبر مبتدأ محذوف أي : هو ما نثبت ، فتكون ما بمعنى الذي ، أو مصدرية . وأجازوا أن ينتصب كلاً على المصدر ، وما نثبت مفعول به بقولك نقص ، كأنه قيل : ونقص علك الشيء الذي نثبت به فؤادك كل قص . وأجازوا أن يكون كلاً نكرة بمعنى جميعاً ، وينتصب على الحال من المفعول الذي هو ما ، أو من المجرور الذي هو الضمير في به على مذهب من يجوز تقديم حال المجرور

" صفحة رقم 274 "
بالحرف عليه ، التقدير : ونقص عليك من أنباء الرسل الأشياء الت نثبت بها فئادك جميعاً أي : المثبتة فؤادك جميعاً . قال ابن عباس : نثبت نسكن ، وقال الضحاك : نشد ، وقال ابن جريج : نقوي . وتثبيت الفؤاد هو بما جرى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولاتباعهم المؤمنين ، وما لقوا من مكذبيهم من الأذى ، ففي هذا كله أسوة بهم ، إذ المشاركة في الأمور الصعبة تهون ما يلقى الإنسان من الأذى ، ثم الإعلام بما جرى على مكذبيهم من العقوبات المستأصلة بأنواع من العذاب من غرق وريح ورجفة وخسف ، وغير ذلك فيه طمأنينة للنفس ، وتأنيس بأنْ يصب الله من كذب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالعذاب ، كما جرى لمكذبي الرسل . وإنباء له عليه الصلاة والسلام بحسن العاقبة له ولأتباعه ، كما اتفق للرسل وأتباعهم . والإشارة بقوله : في هذه ، إلى أنباء الرسل التي قصها الله تعالى عليه ، أي النبأ الصدق الحق الذي هو مطابق بما جرى ليس فيه تغيير ولا تحريف ، كما ينقل شيئاً من ذلك المؤرخون . وموعظة أي : اتعاظ وازدجار لسامعه ، وذكرى لمن آمن ، إذ الموعظة والذكرى لا ينتفع بها إلا المؤمن كقوله ) وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( وقوله : ) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الاْشْقَى ( وقال ابن عباس : الإشارة إلى السورة والآيات التي فيها تذكر قصص الأمم ، وهذا قول الجمهور . ووجه تخصيص هذه اسورة بوصفها بالحق ، والقرآن كله حق ، أنّ ذلك يتضمن معنى الوعيد للكفرة والتنبيه للناظر ، أي : جاءك في هذه السورة الحق الذي أصاب الأمم الظالمة . وهذا كما يقال عند الشدائد : جاء الحق ، وإن كان الحق يأتي في غير شديدة وغير ما وجه ، ولا تستعمل في ذلك جاء الحق . وقال الحسن وقتادة : الإشارة إلى دار الدنيا . قال قتادة : والحق النبوة . وقيل : إشارة إلى السورة مع نظائرها .
( وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ( : اعملوا صيغة أمر ومعناه : التهديد والوعيد ، والخطاب لأهل مكة وغيرها . على مكانتكم أي : جهتكم وحالكم التي أنتم عليها . وقيل : اعملوا في هلاكي على إمكانكم ، وانتظروا بناء الدوائر ، إنا منتظرون أن ينزل بكم نحو ما اقتصّ الله من النقم النازلة بأشباهكم . ويشبه أن يكون إيتاء موادعة ، فلذلك قيل : إنهما منسوختان ، وقيل : محكمتان ، وهما للتهديد والوعيد والحرب قائمة .
( وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ الاْمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( : لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، ولا حظ لمخلوق في علم الغيب . وقرأ نافع وحفص : يرجع مبنياً للمفعول ، الأمر كله أمرهم وأمرك ، فينتقم لك منهم . وقال أبو علي الفارسي : علم ما غاب في السموات والأرض ، أضاف الغيب إليهما توسعا انتهى . والجملة الأولى دلت على أن علمه محيط بجميع الكائنات كليها وجزئيها حاضرها وغائبها ، لأنه إذا أحاط علمه بما غاب فهو بما حضر محيط ، إذ علمه تعالى لا يتفاوت . والجملة الثانية دلت على القدرة النافذة والمشيئة . والجملة الثالثة دلت على الأمر بإفراد من هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية ، والعبادة أولى الرتب التي يتحلى بها العبد . والجملة الرابعة دلت على الأمر بالتوكل ، وهي آخرة الرتب ، لأنه بنور العبادة أبصر أنّ جميع الكائنات معذوقة بالله تعالى

" صفحة رقم 275 "
وأنه هو المتصرف وحده في جميعها ، لا يشركه في شيء منها أحد من خلقه ، فوكل نفسه إليه تعالى ، ورفض سائر ما يتوهم أنه سبب في شيء منها . والجملة الخامسة تضمنت التنبيه على المجازاة ، فلا يضيع طاعة مطيع ولا يهمل حال متمرد . وقرأ الصاحبان ، وحفص ، وقتادة ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، والجحدري : تعملون بتاء الخطاب ، لأنّ قبله اعملوا على مكانتكم . وقرأ باقي السبعة : بالياء على الغيبة ، واختلف عن الحسن وعيسى بن عمر .

" صفحة رقم 276 "
( سورة يوسف )
مائة وإحدى عشرة آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاًّبِيهِ ياأَبتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ قَالَ يابُنَىَّ لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاٌّ حَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىءالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لِّلسَّآئِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قَالُواْ يَاأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ إِنِّى لَيَحْزُنُنِىأَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَا لَّخَاسِرُونَ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ قَالُواْ يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا

" صفحة رقم 277 "
تَصِفُونَ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يابُشْرَى هَاذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَاهِدِينَ وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاٌّ رْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاٌّ حَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاٌّ بْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّىأَحْسَنَ مَثْوَاىَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاأَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } )
يوسف : ( 1 ) الر تلك آيات . . . . .
الطرح للشيء رميه وإلقاؤه ، وطرح عليه الثوب ألقاه ، وطرحت الشيء أبعدته ومنه قول عروة بن الورد : ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا
من المال يطرح نفسه كل مطرح والنوى : الطروح البعيدة . الجب : الركية التي لم تطو ، فإذا طويت فهي بئر . قال الأعشى :
لئن كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
ويجمع على جبب وجباب وأجباب ، وسمى جباً لأنه قطع في الأرض ، من جببت أي قطعت . الالتقاط : تناول الشيء من الطريق ، يقال : لقطه والتقطه . وقال : ومنهل لقطته التقاطاً . ومنه : اللقطة واللقيط .
ارتعى افتعل من الرعي بمعنى المراعاة وهي الحفظ للشيء ، أو من الرعي وهو أكل الحشيش والنبات ، يقال : رعت الماشية الكلأ ترعاه رعياً أكلته ، والرعي بالكسر الكلأ ، ومثله ارتعى . قال الأعشى : ترتعي السفح فالكثيب فذاقا
رفروض القطا فذات الرمال
رتع أقام في خصب وتنعم ، ومنه قول الغضبان بن القبعثري : القيد ، والمتعة ، وقلة الرتعة . وقول الشاعر : أكفراً بعد رد الموت عني
وبعد عطائك المائة الرتاعا

" صفحة رقم 278 "
الذئب : سبع معروف ، وليس في صقعنا الأندلسي ، ويجمع على أذؤب وذئاب وذؤبان قال : وأزور يمطوفي بلاد بعيدة
تعاوى به ذؤبانه وثعالبه
وأرض مذأبة كثيرة الذئاب ، وتذاءبت الريح جاءت من هنا ومن هنا ، فعل الذئب ومنه الذؤابة من الشعر لكونها تنوس إلى هنا وإلى هنا . الكدب بالدال المهملة الكدر ، وقيل : الطري . سول من السول ، ومعناه سهل ، وقيل : زين . أدلى الدلو أرسلها ليملأها ، ولادها يدلوها جذبها وأخرجها من البئر . قال : لا تعقلواها وادلواها دلواً . والدهر معروف ، وهي مؤنثة فتصغر على دليته ، وتجمع على أدل ودلاء ودلى . البضاعة : القطعة من المال تجعل للتجارة ، من بضعته إذا قطعته ، ومنه المبضع . المراودة الطلب برفق ولين القول ، والرود التأني يقال : أرودني أمهلني ، والريادة طلب النكاح . ومشى رويداً أي برفق أغلق الباب وأصفده وأقفله بمعنى . وقال الفرزدق : ما زالت أغلق أبواباً وأفتحها
حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
هيت اسم فعل بمعنى أسرع . قد الثوب : شقه . السيد فيعل من ساد يسود ، يطلق على المالك ، وعلى رئيس القوم . وفيعل بناء مختص بالمعتل ، وشذ بيئس وصيقل اسم امرأة . السجن : الحبس .
( الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( : هذه السورة مكية كلها . وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات من أولها . وسبب نزولها أن كفار مكة أمرتهم اليهود أن يسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فنزلت . وقيل : سببه تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) عما كان يفعل به قومه بما فعل أخوة يوسف به . وقيل : سألت اليهود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يحدثهم أمر يعقوب وولده ، وشأن يوسف . وقال سعد بن أبي وقاص : أنزل القرآن فتلاه عليهم زماناً فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا ، فنزلت .
ووجه مناسبتها لما قبلها وارتباطها أن في آخر السورة التي قبلها : ) وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ( وكان في تلك الأنباء المقصوصة فيها ما لاقى الأنبياء من قومهم ، فاتبع ذلك بقصة يوسف ، وما لاقاه من أخوته ، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة ، ليحصل للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب . وجاءت هذه القصة مطولة مستوفاة ، فلذلك لم يتكرر في القرآن إلا ما أخبر به مؤمن آل فرعون في سورة غافر . والإشارة بتلك آيات إلى الر وسائر حروف المعجم التي تركبت منها آيات القرآن ، أو إلى التوراة والإنجيل ، أو الآيات التي ذكرت في سورة هود ، أو إلى آيات السورة . والكتاب المبن السورة أي : تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة أقوال . والظاهر أنّ المراد بالكتاب القرآن . والمبين إما البين في نفسه الظاهر أمره في إعجاز العرب وتبكيتهم ، وإما المبين الحلال والحرام والحدود والأحكام وما يحتاج إليه من

" صفحة رقم 279 "
أمر الدين ، قاله : ابن عباس ومجاهد ، أو المبين الهدى والرشد والبركة قاله قتادة ، أو المبين ما سألت عنه اليهود ، أو ما أمرت أن يسأل من حال انتقال يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف ، أو المبين من جهة بيان اللسان العربي وجودته ، إذ فيه ستة أحرف لم تجمع في لسان ، روي هذا عن معاذ بن جبل . قال المفسرون : وهي الطاء ، والظاء ، والضاد ، والصاد ، والعين ، والخاء انتهى . والضمير في إنا أنزلناه ، عائد على الكتاب الذي فيه قصة يوسف ، وقيل : على القرآن ، وقيل : على نبأ يوسف ، قاله الزجاج وابن الأنباري . وقيل : هو ضمير الإنزال . وقرآناً هو المطعوف به ، وهذان ضعيفان . وانتصب قرآناً ، قيل : على البدل من الضمير ، وقيل على الحال الموطئة . وسمي القرآن قرآناً لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير ، وعربياً منسوب إلى العرب . والعرب جمع عربي ، كروم ورومي ، وعربة ناحية دار إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام . قال الشاعر : وعربة أرض ما يحل حرامها
من الناس إلا اللوذعي الحلاحل
ويعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أحلت له مكة . وسكن راء عربة الشاعر ضرورة . قيل : وإن شئت نسبت القرآن إليها ابتداء أي : على لغة أهل هذه الناحية . لعلكم تعقلون ما تضمن من المعاني ، واحتوى عليه من البلاغة والإعجاز فتؤمنون ، إذ لو كان بغير العربية لقيل : ) لَوْلاَ فُصّلَتْ ءايَاتُهُ ).
) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاِبِيهِ ياأَبتِ لاِبِيهِ ياأَبتِ إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ قَالَ يابُنَىَّ لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىءالِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ ( : القصص : مصدر قص ، واسم مفعول إما لتسميته بالمصدر ، وأما لكون الفعل يكون للمفعول ، كالقبض والنقص . والقصص هنا يحتمل الأوجه الثلاثة . فإن كان المصدر فالمراد بكونه أحسن أنه اقتص على أبدع طريقة ، وأحسن أسلوب . ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتص في كتب الأولين ، وفي كتب التواريخ ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارباً لاقتصاصه في القرآن ، وإن كان المفعول فكان أحسنه لما يتضمن من العبر والحكم والنكت والعجائب التي ليستفي غيره . والظاهر أنه أحسن ما يقص في بابه كما يقال للرجل : هو أعلم الناس وأفضلهم ، يراد في فنه .
وقيل : كانت هذه السورة أحسن القصص لانفرادها عن سائرها بما فيها من ذكر الأنبياء ، والصالحين ، والملائكة ، والشياطين ، والجن ، والإنس ، والأنعام ، والطير ، وسير الملوك ، والممالك ، والتجار ، والعلماء ، والرجال ، والنساء وكيدهن ومكرهن ، مع ما فيها من ذكر التوحيد ، والفقه ، والسير ، والسياسة ، وحسن الملكة ، والعفو عند المقدرة ، وحسن المعاشرة ، والحيل ، وتدبير المعاش ، والمعاد ، وحسن العاقبة ، في العفة ، والجهاد ، والخلاص من المرهوب إلى المرغوب ، وذكر الحبيب والمحبوب ، ومرأى السنين وتعبير الرؤيا ، والعجائب التي تصلح للدين والدنيا . وقيل : كانت أحسن القصص لأنّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة . انظر إلى يوسف وأبيه وأخوته وامرأة العزيز والملك أسلم بيوسف وحسن إسلامه . ومعبر الرؤيا الساقي ، والشاهد فما يقال . وقيل : أحسن هنا ليست أفعل التفضيل ، بل هي بمعنى حسن ، كأنه قيل : حسن القصص ، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي : القصص الحسن . وما في بما أوحينا مصدرية أي : بإيحائنا . وإذا كان القصص مصدراً فمفعول نقص من حيث المعنى هو هذا القرآن ، إلا أنه من باب الإعمال ، إذ تنازعه نقص . وأوحينا فاعمل الثاني على الأكثر ، والضمير في من قبله يعود على الإيحاء . وتقدمت مذاهب النحاة في أن المخففة ومجيء اللام في ثاني الجزءين . ومعنى من الغافلين : لم يكن لك شعور

" صفحة رقم 280 "
بهذه القصة ، ولا سبق لك علم فيها ، ولا طرق سمعك طرف منها . والعامل في إذ قال الزمخشري وابن عطية : اذكر . وأجاز الزمخشري أن تكون بدلاً من أحسن القصص قال : وهو بدل اشتمال ، لأن الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص ، فإذا قص وقته فقد قص . وقال ابن عطية : ويجوز أن يعمل فيه نقص كان المعنى : نقص عليك الحال ، إذ وهذه التقديرات لا تتجه حتى تخلع إذ من دلالتها على الوقت الماضي ، وتجرد للوقت المطلق الصالح للأزمان كلها على جهة البدلية .
وحكى مكي أنّ العامل في إذ الغافلين ، والذي يظهر أن العامل فيه قال : يا بني ، كما تقول : إذ قام زيد قام عمر ، وتبقى إذ على وضعها الأصلي من كونها ظرفاً لما مضى . ويوسف اسم عبراني ، وتقدمت ست لغات فيه . ومنعه الصرف دليل على بطلان قول من ذهب إلى أنه عربي مشتق من الأسف ، وإن كان في بعض لغاته يكون فيه الوزن الغالب ، لامتناع أن يكون أعجمياً غير أعجمي . وقرأ طلحة بن مصرف بالهمز وفتح السين . وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر ، والأعرج : يا أبت بفتح التاء ، وباقي السبعة والجمهور بكسرها ، ووقف الابنان عليها بالهاء ، وهذه التاء عوض من ياء الإضافة فلا يجتمعان ، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء قال : يا أبتا علك أو عساكا . ووجه الاقتصار على التاء مفتوحة أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف ، أو رخم بحذف التاء ، ثم أقحمت قاله أبو علي . أو الألف في أبتا للندبة ، فحذفها قاله : الفراء ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم ، وقطرب . ورد بأنه ليس موضع ندبة أو الأصل يا أبة بالتنوين ، فحذف والنداء ناد حقف قاله قطرب ، ورد بأنّ التنوين لا يحذف من المنادي المنصوب نحو : يا ضارباً رجلاً ، وفتح أبو جعفر ياء إني .
وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وطلحة بن سليمان : أحد عشر بسكون العين لتوالي الحركات ، وليظهر جعل الاسمين اسماً واحداً ورأيت هي حلمية لدلالة متعلقها على أنه منام ، والظاهر أنه رأى في منامه كواكب الشمس والقمر . وقيل : رأى إخوته وأبويه ، فعبر عنهم بذلك ، وعبر عن الشمس عن أمه . وقيل : عن خالته راحيل ، لأنّ أمه كانت ماتت . ومن حديث جابر بن عبد الله : أن يهودياً جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : يا محمد أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف ، فسكت عنه ، ونزل جبريل فأخبره بأسمائها ، فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) اليهودي فقال : هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك ؟ فقال : نعم . قال : جريان ، والطارق ، والذيال ، وذو الكتفين ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والضروح ، والفرغ ، والضياء ، والنور . فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها . وذكر السهيلي مسنداً إلى الحرث بن أبي أسامة فذكر الحديث ، وفيه بعض اختلاف ، وذكر النطح عوضاً عن المصبح . وعن وهب أن يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة ، وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها ، فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك ، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب سجوداً له

" صفحة رقم 281 "
فقصها على أبيه فقال له : لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل ، وكان بين رؤيا يوسف ومسير أخوته إليه أربعون سنة ، وقيل : ثمانون . وروي أن رؤيا يوسف كانت ليلة القدر ليلة جمعة . والظاهر أنّ الشمس والقمر ليسا مندرجين في الأحد عشر كوكباً ، ولذلك حين عدهما الرسول لليهودي ذكر أحد عشر كوكباً غير الشمس والقمر ، ويظهر من كلام الزمخشري أنهما مندرجان في الأحد عشر .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم أخر الشمس والقمر ؟ ( قلت ) : أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص إثباتاً لفضلهما ، واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع ، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة ثم عطفهما عليهما . لذلك ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ، أي : رأيت الكواكب مع الشمس والقمر انتهى . والذي يظهر أن التأخير إنما هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، ولم يقع الترقي في الشمس والقمر جرياً على ما استقر في القرآن من أنه إذا اجتمعا قدمت عليه . قال تعالى : ) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( وقال : وجمع الشمس والقمر ) هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ( وقدمت عليه لسطوع نورها وكبر جرمها وغرابة سيرها ، واستمداده منها ، وعلو مكانها . والظاهر أنّ رأيتهم كرر على سبيل التوكيد للطول بالمفاعيل ، كما كرر إنكم في قوله ) أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ( لطول الفصل بالظرف وما تعلق به .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى تكرار رأيتهم ؟ ( قلت ) : ليس بتكرار ، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له ، كان يعقوب عليه السلام قال له عند قوله : إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ، كيف رأيتها سائلاً عن حال رؤيتها ؟ فقال : رأيتهم لي ساجدين انتهى . وجمعهم جمع من يعقل ، لصدور السجود له ، وهو صفة من يعقل ، وهذا سائغ في كلام العرب ، وهو أنْ يعطي الشيء حكم الشيء للاشتراك في وصف ما ، وإن كان ذلك الوصف أصله أن يخص أحدهما . والسجود : سجود كرامة ، كما سجدت الملائكة لآدم . وقيل : كان في ذلك الوقت السجود تحية بعضهم لبعض . ولما خاطب يوسف أباه بقوله : يا أبت ، وفيه إظهار الطواعية والبر والتنبيه على محل الشفقة بطبع الأبوة خاطبه أبوه بقوله : يا بني ، تصغير التحبيب والتقريب والشفقة . وقرأ حفص هنا وفي لقمان ، والصافات : يا بني بفتح الياء . وابن كثير في لقمان ) يَعِظُهُ يابُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ ( وقنبل يا بنيْ أقمْ بإسكانها ، وباقي السبعة بالكسر . وقرأ زيد بن علي : لا تقص مدغماً ، وهي لغة تميم ، والجمهور بالفك وهي لغة الحجاز . والرؤيا مصدر كالبقيا . وقال الزمخشري : الرؤيا بمعنى الرؤية ، إلا أنها مختصة بما كان في النوم دون اليقظة ، فرق بينهما بحر في التأنيث كما قيل : القربة والقربى انتهى . وقرأ الجمهور : رؤياك والرؤيا حيث وقعت بالهمز من غير إمالة . وقرأ الكسائي : بالإمالة وبغير الهمز ، وهي لغة أهل الحجاز .
وإخوة يوسف : هم كاذ ، وبنيامين ، ويهوذا ، ونفتالي ، وزبولون ، وشمعون ، وروبين ، ويقال باللام كجبريل ، وجبرين ، ويساخا ، ولاوي ، وذان ، وياشير ، فيكيدوا لك : منصوب بإضمار أنْ على جواب النهي ، وعدي فيكيدوا باللام ، وفي ( فكيدون ) بنفسه ، فاحتمل أن يكون من باب شكرت زيداً وشكرت لزيد ، واحتمل أن يكون من باب التضمين ، ضمّن فيكيدوا معنى ما يتعدى باللام ، فكأنه قال : فيحتالوا لك بالكيد ، والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين ، وللمبالغة أكد بالمصدر . ونبه يعقوب على سبب الكيد وهو : ما يزينه الشيطان للإنسان ويسوله له ، وذلك للعداوة التي بينهما ، فهو يجتهد دائماً أنْ يوقعه في المعاصي ويدخله فيها ويحضه عليها ، وكان يعقوب دلته رؤيا يوسف عليهما السلام على أنّ الله تعالى يبلغه مبلغاً من الحكمة ، ويصطفه للنبوة ، وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه ، فخاف عليه من حسد إخوته ، فنهاه من أن يقص رؤياه لهم . وفي خطاب يعقوب ليوسف تنهيه عن أن يقص على إخوته مخافة كيدهم ، دلالة على تحذير المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه ، والتنبيه على بعض ما لا يليق ، ولا يكون ذلك داخلاً في باب الغيبة . وكذلك يجتبيك ربك أي :

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدليل البديل

مجلد1 ومجلد 2. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغز... مجلد3.و 4. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغزالي أ... مجلد 5.و6. إحياء علوم الدين محمد...