Translate

السبت، 28 مايو 2022

مجلد 3 و4..تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان

 

مجلد 3.تفسير البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 492 "
الفراء أن ينصب في نحو من هذا الاستثناء ، فأجاز : ما قام إلا زيداً ، على مراعاة ذلك المحذوف ، إذ لو كان لم يحذف ، لجاز النصب ، ولا يجيز ذلك البصريون .
البقرة : ( 100 ) أو كلما عاهدوا . . . . .
( ( : المراد بالفاسقين هنا : الكافرون ، لأن كفر آيات الله تعالى هو من باب فسق العقائد ، فليس من باب فسق الأفعال . وقال الحسن : إذا استعمل الفسق في شيء من المعاصي ، وقع على أعظمه من كفر أو غيره . انتهى . وناسب قوله : بينات لفظ الكفر ، وهو التغطية ، لأن البين لا يقع فيه إلباس ، فعدم الإيمان به ليس لشبهة لأنه بين ، وإنما هو تغطية وستر لما هو واضح بين . وستر الواضح لا يقع إلا من متمرد في فسقه ، والألف واللام في الفاسقون ، إما للجنس ، وإما للعهد ، لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود . وكنى بالفسق هنا عن الكفر ، لأن الفسق : خروج الإنسان عما حدّ له . وقد تقدّم قول الحسن أنه يدل على أعظم ما يطلق عليه ، فكأنه قيل : وما يكفر بها إلا المبالغ في كفره ، المنتهي فيه إلى أقصى غاية . وإلا الفاسقون : استثناء مفرغ ، إذ تقديره : وما يكفر بها أحد ، فنفى أن يكفر بالآيات الواضحات أحد . ثم استثنى الفساق من أحد ، وأنهم يكفرون بها . ويجوز في مذهب الفراء أن ينصب في نحو من هذا الاستثناء ، فأجاز : ما قام إلا زيداً ، على مراعاة ذلك المحذوف ، إذ لو كان لم يحذف ، لجاز النصب ، ولا يجيز ذلك البصريون .
( أَوْ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا ( : نزلت في مالك بن الصيف ، قال : والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولا ميثاق . وقيل في اليهود : عاهدوا على أنه إن خرج لنؤمنن به ولنكوننّ معه على مشركي العرب ، فلما بعث كفروا به . وقال عطاء : هي العهود بينه وبين اليهود نقضوها ، كفعل قريظة والنضير . قال تعالى : ) الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ ). وقرأ الجمهور : أو كلما ، بفتح الواو . واختلف في هذه الواو فقيل : هي زائدة ، قاله الأخفش . وقيل : هي أو الساكنة الواو ، وحركت بالفتح ، وهي بمعنى بل ، قاله الكسائي . وكلا القولين ضعيف . وقيل : واو العطف ، وهو الصحيح . وقد تقدّم أن مذهب سيبويه والنحويين : أن الأصل تقديم هذه الواو ، والفاء ، وثم ، على همزة الاستفهام ، وإنما قدّمت الهمزة لأن لها صدر الكلام . وإن الزمخشري يذهب إلى أن ثم محذوفاً معطوفاً عليه ، مقدّراً بين الهمزة وحرف العطف ، ولذلك قدّره هنا أكفروا بالآيات البينات ؟ ) وَكُلَّمَا عَاهَدُواْ ). وقد رجع الزمخشري عن اختياره إلى قول الجماعة . وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتابنا المسمى ( بالتكميل لشرح التسهيل ) . والمراد بهذا الاستفهام : الإنكار ، وإعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها ، فصار ذلك عادة لهم وسجية . فينبغي أن لا يكترث بأمرهم ، وأن لا يصعب ذلك ، فهي تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ كفروا بما أنزل عليه ، لأن ما كان ديدناً للشخص وخلقاً ، لا ينبغي أن يحتفل بأمره . وقرأ أبو السمال العدوي وغيره : أو كلما بسكون الواو ، وخرّج ذلك الزمخشري على أن يكون للعطف على الفاسقين ، وقدّره : وما يكفر بها إلا الذين فسقوا ، أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة . وخرجه المهدوي وغيره على أن أو للخروج من كلام إلى غيره ، بمنزلة أم المنقطعة ، فكأنه قال : بل كلما عاهدوا عهداً ، كقول الرجل للرجل ، لأعاقبنك ، فيقول له : أو يحسن الله رأيك ، أي بل يحسن رأيك ، وهذا التخريج هو على رأي الكوفيين ، إذ يكون أو عندهم بمنزلة بل . وأنشدوا شاهداً على هذه الدعوى قول الشاعر : بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
وصورتها أو أنت في العين أملح
وقد جاء أو بمعنى الواو في قوله :
من بين ملجم مهره أو سافع
وقوله :
صدور رماح أشرعت أو سلاسل
يريد : وشافع وسلاسل .
وقد قيل في ذلك : في قوله خطيئة ، أو إثماً ، أن المعنى : وإنما فيحتمل أن تخرّج هذه القراءة الشاذة على أن تكون أو بمعنى الواو ، كأنه قيل : وكلما عاهدوا عهداً . وقرأ الحسن وأبو رجاء : أو كلما عوهدوا على البناء للمفعول ، وهي قراءة تخالف رسم المصحف . وانتصاب عهداً على أنه مصدر على غيرالصدر ، أي معاهدة ، أو على أنه مفعول على تضمين

" صفحة رقم 493 "
عاهد معنى : أعطى ، أي أعطوا عهداً . وقرىء : عهدوا ، فيكون عهداً مصدراً ، وقد تقدم . ما المراد بالعهد في سبب النزول ، فأغنى عن إعادته . ) نَّبَذَهُ ( : طرحه ، أو نقضه ، أو ترك العمل به ، أو اعتزله ، أو رماه . أقوال خمسة ، وهي متقاربة المعنى . ونسبة النبذ إلى العهد مجاز ، لأن العهد معنى ، والنبذ حقيقة ، إنما هو في المتجسدات : ) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ ( ، ( إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ( ، فنبذ خاتمه ، فنبذ الناس خواتيمهم ، ( لَنُبِذَ بِالْعَرَاء ).
) فَرِيقٌ مّنْهُمُ ( : الفريق اسم جنس لا واحد له ، يقع على القليل والكثير . وقرأ عبد الله : نقضه فريق منهم ، وهي قراءة تخالف سواد المصحف ، فالأولى حملها على التفسير .
( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( : يحتمل أن يكون من باب عطف الجمل ، وهو الظاهر ، فيكون أكثرهم مبتدأ ، ولا يؤمنون خبر عنه ، والضمير في أكثرهم عائد على من عاد عليه الضمير في عاهدوا ، وهم اليهود . ومعنى هذا الإضراب هو : انتقال من خبر إلى خبر ، ويكون الأكثر على هذا واقعاً على ما يقع عليه الفريق ، كأنه أعم ، لأن من نبذ العهد مندرج تحت من لم يؤمن ، فكأنه قال : بل الفريق الذي نبذ العهد ، وغير ذلك الفريق ، محكوم عليه بأنه لا يؤمن . وقيل : يحتمل أن يكون من باب عطف المفردات ، ويكون أكثرهم معطوفاً على فريق ، أي نبذه فريق منهم ، بل أكثرهم ، يكون قوله : لا يؤمنون ، جملة حالية ، العامل فيها نبذه ، وصاحب الحال هو أكثرهم . ولما كان الفريق ينطلق على القليل والكثير ، وأسند النبذ إليه ، كان فيما يتبادر إليه الذهن أنه يحتمل أن يكون النابذون قليلاً ، فبين أن النابذين هم الأكثر ، وصار ذكر الأكثر دليلاً على أن الفريق هنا لا يراد به اليسير منهم ، فكان هذا إضراباً عما يحتمله لفظ الفريق من دلالته على القليل . والضمير في أكثرهم عائد على الفريق ، أو على جميع بني إسرائيل . وعلى كلا الاحتمالين ، ذكر الأكثر محكوماً عليه بالنبذ ، أو بعدم الإيمان ، لأن بعضهم آمن ، ومن آمن فما نبذ العهد . وأجمع المسلمون على أن من كفر بآية من كتاب الله ، أو نقض عهد الله الذي أخذه على عباده في كتبه ، فهو كافر .
البقرة : ( 101 ) ولما جاءهم رسول . . . . .
( وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ ( : الضمير في جاءهم عائد على بني إسرائيل ، أو على علمائهم ، والرسول ، محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، أو معناه الرسالة ، فيكون مصدراً ، كما فسروا بذلك قوله : لقد كذب الواشون ما بحت عنده
بليلي ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة ، أقوال ثلاثة . والظاهر الأول ، لأن الكلام مع اليهود إنما سيق بالنسبة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ألا ترى إلى قوله : ) قُلْ ( قل ، و ) فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ( ، ( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ( ، فصار ذلك كالالتفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى اسم غائب ، ووصف بقوله : ) مّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ ( : تفخيماً لشأنه ، إذ الرسول على قدر المرسل . ثم وصف أيضاً بكونه مصدّقاً لما معهم ، قالوا : وتصديقه أنه خلق على الوصف الذي ذكر في التوراة ، أو تصديقه على قواعد التوحيد وأصول الدين وأخبار الأمم والمواعظ والحكم ، أو تصديقه : إخباره بأن الذي معهم هو كلام الله ، وأنه المنزل على موسى ، أو تصديقه : إظهار ما سألوا عنه من غوامض التوراة ، أقوال أربعة . وإذا فسر بعيسى ، فتصديقه هو بالتوراة ، وإذا فسر بالرسالة ، فنسبة المجيء والتصديق إلى الرسالة على سبيل التوسع والمجاز . وقرأ ابن أبي عبلة : مصدّقاً بالنصب على الحال ، وحسن مجيئها من النكرة كونها قد وصفت بقوله : ) مِنْ عِندِ اللَّهِ ). ) لّمَا مَعَهُمْ ( : هو التوراة . وقيل : جميع ما أنزل إليهم من الكتب ، كزبور داود ، وصحف الأنبياء التي يؤمنون بها .
( نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( : الكتاب الذي أوتوه هو التوراة ، وهو مفعول ثانٍ لأتوا ، على مذهب الجمهور ، ومفعول أول على مذهب السهيلي . وقد تقدّم القول في ذلك . ) كِتَابِ اللَّهِ ( : هو مفعول بنبذ . فقيل : كتاب الله هو التوراة . ومعنى نبذهم له : اطراح أحكامه ، أو اطراح ما فيه من صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ الكفر ببعض ، كفر بالجميع . وقيل : الإنجيل ، ونبذهم له : اطراحه بالكلية . وقيل : القرآن ، وهذا أظهر ، إذ الكلام مع الرسول . فصار المعنى : أنه يصدّق ما بين أيديهم من التوراة ، وهم بالعكس ، يكذبون ما جاء به من القرآن ويطرحونه . وأضاف الكتاب إلى الله تعظيماً له ، كما أضاف الرسول إليه بالوصف السابق ، فصار ذلك غاية في ذمهم

" صفحة رقم 494 "
إذ جاءهم من عند الله بكتابه المصدّق لكتابهم ، وهو شاهد بالرسول والكتاب ، فنبذوه ) وَرَاء ظُهُورِهِمْ ( ، وهذا مثل يضرب لمن أعرض عن الشيء جملة . تقول العرب : جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه ، وقال الفرزدق : تميم بن مرّ لا تكونن حاجتي
بظهر ولا يعيا عليك جوابها
وقالت العرب ذلك ، لأن ما جعل وراء الظهر فلا يمكن النظر إليه ، ومنه : ) وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً ). وقال في المنتخب : النبذ والطرح والإلقاء متقاربة ، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما يئس ، والطرح أكثر ما يقال في المبسوط وما يجري مجراه ، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين .
( كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( : جملة حالية ، وصاحب الحال فريق ، والعامل في الحال نبذ ، وهو تشبيه لمن يعلم بمن يجهل ، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يعتد به ، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة . ومتعلق العلم محذوف ، أي كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله ، لا يداخلهم فيه شك لثبوت ذلك عندهم وتحققه ، وإنما نبذوه على سبيل المكابرة والعناد . وقال الشعبي : هو بين أيديهم يقرأونه ، ولكنهم نبذوا العمل به . وعن سفيان أدرجوه في الديباج والحرير ، وحلوه بالذهب ، ولم يحلوا حلاله ، ولم يحرموا حرامه . انتهى كلامه . وقول الشعبي وسفيان يدل على أن كتاب الله هو التوراة . وقال الماوردي : كأنهم لا يعلمون ما أمروا به من اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : معناه كأنهم لا يعلمون أنه نبي صادق . وقيل : معناه كأنهم لا يعلمون أن القرآن والتوراة والإنجيل كتب الله ، وأن كل واحد منها حق ، والعمل به واجب .
البقرة : ( 102 ) واتبعوا ما تتلوا . . . . .
( وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ( ، معنى تبعوا : أي اقتدوا به إماماً ، أو فضلوا ، لأن من اتبع شيئاً فضله ، أو قصد واو الضمير في واتبعوا لليهود ، فقال ابن زيد والسدّي : يعود على من كان في عهد سليمان . وقال ابن عباس : في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : يعود على جميع اليهود . والجملة من قوله : واتبعوا ، معطوفة على جميع الجملة السابقة من قوله : ولما جاءهم إلى آخرها ، وهو إخبار عن حالهم في اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبع ، وهذا هو الظاهر ، لا أنها معطوفة على قوله : نبذه فريق منهم ، لأن الاتباع ليس مترتباً على مجيء الرسول ، لأنهم كانوا متبعين ذلك قبل مجيء الرسول ، بخلاف نبذ كتاب الله ، فإنه مترتب على مجيء الرسول . وتتلو : تتبع ، قاله ابن عباس ، أو تدعي ، أو تقرأ ، أو تحدث ، قاله عطاء ، أو تروي ، قاله يمان ، أو تعمل ، أو تكذب ، قاله أبو مسلم . وهي أقوال متقاربة . وما موصولة ، صلتها تتلو ، وهو مضارع في معنى الماضي ، أي ما تلت . وقال الكوفيون : المعنى : ما كانت تتلو ، لا يريدون أن صلة ما محذوفة ، وهي كانت وتتلو ، في موضع الخبر ، وإنما يريدون أن المضارع وقع موقع الماضي ، كما أنك إذا قلت : كان زيد يقوم ، هو إخبار بقيام زيد ، وهو ماض لدلالة كان عليه . والشياطين : ظاهره أنهم شياطين الجن ، لأنه إذا أطلق الشيطان ، تبادر الذهن إلى أنه من الجان . وقيل : المراد شياطين الإنس . وقرأ الحسن والضحاك : الشياطون ، بالرفع بالواو ، هو شاذ ، فاسه على قول العرب : بستان فلان حوله بساتون ، رواه الأصمعي . قالوا : والصحيح أن هذا الجن فاحش . وقال أبو البقاء : شبه فيه الياء قبل النون بياء جمع الصحيح ، وهو قريب من الغلط . وقال السجاوندي : خطأه الخازربجي .
على ملك : متعلق بتتلو ، وتلا يتعدى بعلى إذا كان متعلقها يتلى عليه لقوله : يتلى على زيد القرآن ، وليس الملك هنا بهذا المعنى ، لأنه ليس شخصاً يتلى عليه ، فلذلك زعم بعض النحويين أن على تكون بمعن في ، أي تتلو في ملك سليمان . وقال أصحابنا : لا تكون على في معنى في ، بل هذا من التضمين في الفعل ضمن تتقول ، فعديت بعلى لأن تقول : تعدى بها ، قال تعالى : ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا ( ومعنى : ) عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ( ، أي شرعه ونبوّته وحاله . وقيل : على عهده ، وفي زمانه ، وهو قريب . وقيل : على كرسي سليمان بعد وفاته ، لأنه كان من آلات ملكه . وفسروا ما يتلو الشياطين بالسحر ، قالوا : وهو الأشهر والأظهر على ما نقل في أسباب النزول ، من أن الشياطين كتبت السحر واختلقته ونسبته إلى سليمان وآصف . وقيل : الذي تلته هو الكذب الذي تضيفه إلى ما تسترق من أخبار السماء ، وأضافوا ذلك إلى سليمان تفخيماً لشأن ما يتلونه ، لأن

" صفحة رقم 495 "
الذي كان معه : من المعجزات ، وإظهار الخوارق ، وتسخير الجن والإِنس ، وتقريب المتباعدات ، وتأليف الخواطر ، وتكليم العجماوات ، كان أمراً عظيماً . والساحر يدّعي أشياء من هذا النوع : من تسخير الجن ، وبلوغ الآمال ، والتأثير في الخواطر ، بل ويدّعي قلب الأعيان على ما يأتي في الكلام على السحر في قوله تعالى : ) يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ ( ، أو لأنهم كانوا يزعمون أن ملك سليمان إنما حصل بالسحر . وقد ذكر المفسرون في كيفيات ما رتبوه من هذا الذي تلوه قصصاً كثيرة ، الله أعلم به ، ولم تتعرض الآية الكريمة ، ولا الحديث المسند الصحيح لشيء منه ، فلذلك لم نذكره .
( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ( : تنزيه لسليمان عن الكفر ، أي ليس ما اختلقته الجن من نسبة ما تدعيه إلى سليمان تعاطاه سليمان ، لأنه كفر ، ومن نبأه الله تعالى منزه عن المعاصي الكبائر والصغائر ، فضلاً عن الكفر . وفي ذلك دليل على صحة نفي الشيء عمن لا يمكن أن يقع منه ، لأنّ النبي لا يمكن أن يقع منه الكفر ، ولا يدل هذا على أن ما نسبوه إلى سليمان من السحر يكون كفراً ، إذ يحتمل أنهم نسبوا إليه الكفر مع السحر . وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود : انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء ، وما كان إلا ساحراً . ولم يتقدّم في الآيات أن أحداً نسب سليمان إلى الكفر ، ولكنها آية نزلت في السبب المتقدّم أن اليهود نسبته إلى السحر والعمل به .
( وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ ( : كفرهم ، إما بتعليم السحر ، وإما تعلمهم به ، وإما بتكفيرهم سليمان به ، ويحتمل أن يكون كفرهم بغير ذلك . واستعمال لكن هنا حسن ، لأنها بين نفي وإثبات . وقرىء : ولكنّ بالتشديد ، فيجب إعمالها ، وهي قراءة نافع وعاصم وابن كثير وأبي عمرو . وقرىء : بتخفيف النون ورفع ما بعدها بالابتداء والخبر ، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي . وإذا خففت ، فهل يجوز إعمالها ؟ مسألة خلاف الجمهور على المنع ونقل أبو القاسم بن الرماك عن يونس جواز إعمالها ، ونقل ذلك غيره عن الأخفش ، والصحيح المنع . وقال الكسائي والفراء : الاختيار ، التشديد إذا كان قبلها واو ، والتخفيف إذا لم يكن معها واو ، وذلك لأنها مخففة تكون عاطفة ولا تحتاج إلى واو معها . كبل : فإذا كانت قبلها واو لم تشبه بل ، لأن بل لا تدخل عليها الواو ، فإذا كانت لكن مشدّدة عملت عمل إن ، ولم تكن عاطفة . انتهى الكلام . وهذا كله على تسليم أن لكن تكون عاطفة ، وهي مسألة خلاف الجمهور على أن لكنّ تكون عاطفة . وذهب يونس إلى أنها لبيست من حروف العطف ، وهو الصحيح لأنه لا يحفظ ذلك من لسان العرب ، بل إذا جاء بعدها ما يوهم العطف ، كانت مقرونة بالواو كقوله تعالى : ) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ ). وأما إذا جاءت بعدها الجملة ، فتارة تكون بالواو ، وتارة لا يكون معها الواو ، كما قال زهير : إن ابن ورقاء لا تخشى بوادره
لكن وقائعه في الحرب تنتظر
وأما ما يوجد في كتب النحويين من قولهم : ما قام زيد لكن عمرو ، وما ضربت زيداً لكن عمراً ، وما مررت بزيد لكن عمرو ، فهو من تمثيلهم ، لا أنه مسموع منا لعرب . ومن غريب ما قيل في لكن : إنها مركبة من كلم ثلاث : لا للنفي ، والكاف للخطاب ، وأن التي للإثبات والتحقيق ، وأن الهمزة حذفت للاستثقال ، وهذا قول فاسد ، والصحيح أنها بسيطة .
( يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ ( : الضمير في يعلمون اختلف في من يعود عليه ، فالظاهر أنه يعود على الشياطين ، يقصدون به إغواءهم وإضلالهم ، وهو اختيار الزمخشري . وعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال من الضمير في

" صفحة رقم 496 "
كفروا . قالوا : أو خبراً ثانياً . وقيل : حال من الشياطين . ورد بأن لكن لا تعمل في الحال ، وقيل : بدل من كفروا ، بدل الفعل من الفعل ، لأن تعليم الشياطين السحر كفر في المعنى . والظاهر أنه استئناف إخبار عنهم . وقيل : الضمير عائد على الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين . على اختلاف المفسرين فيمن يعود عليه ضمير اتبعوا ، فيكون المعنى : يعلم المتبعون ما تتلو الشياطين الناس ، فالناس معلمون للمتبعين . وعلى القول الأول يكونون معلمين للشياطين .
واختلف في حقيقة السحر على أقوال : الأول : أنه قلب الأعيان واختراعها وتغيير صور الناس مما يشبه المعجزات والكرامات ، كالطيران وقطع المسافات في ليلة . الثاني : أنه خدع ومخاريق وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها ، ويدل عليه ، ( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ). وفي الحديث ، حين سحر لبيد بن الأعصم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله ) . وهو قول المعتزلة : يرون أن السحر ليست له حقيقة ، ووافقهم أبو إسحاق الاسترأباذي من الشافعية . الثالث : أنه أمر يأخذ بالعين على جهة الحيلة ، ومنه : ) سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ( ، كما روي أن حبالهم وعصيهم كانت مملوءة زئبقاً ، فسجروا تحتها ناراً ، فحميت الحبال والعصي ، فتحركت وسعت . ولأرباب الحيل والدك والشعوذة من هذا أشياء ، يبين كثير منها في الكتاب المسمى ( بكشف الدّك والشعوذة وإيضاح الشك ) ، وفي كتاب ( إرخاء الستور والكلل في الشعوذة والحيل ) . وفي الحديث ، حين انشق القمر نصفين بمكة ، قال أبو جهل : اصبروا حتى يأتي أهل البوادي ، فإن لم يخبروا بذلك ، كان محمد قد سحر أعيننا ، فأتوا فأخبروا بذلك ، فقال : ما هذا إلا سحر عظيم . الرابع : أنه نوع من خدمة الجن ، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف أجسامهم وهيآتها ، فلطف ودق وخفي . الخامس : أنه مركب من أجسام تجمع وتحرق ، وتتخذ منها أرمدة ومداد ، ويتلى عليها أسماء وعزائم ، ثم تستعمل فيما يحتاج إليها م السحر . السادس : أن أصله طلسمات وقلفطريات ، تبنى على تأثير خصائص الكواكب ، كتأثير الشمس في زئبق عصى فرعون ، أو استخدام الشياطين لتسهيل ما عسر . السابع : أنه مركب من كلمات ممزوجة بكفر . قال بعض معاصرينا : هذه الأقوال كلها التي قالوها في حقيقة السحر أنواع من أنواع السحر ، وقد ضم إليها أنواع أخر من الشعبذة والدّك والنارنجيات والأوفاق والعزائم وضروب المنادل والصرع ، وما يجري مجرى ذلك . انتهى كلامه . ولا يشك في أن السحر كان موجوداً ، لنطق القرآن والحديث الصحيح به . وأما في زماننا الآن ، فكلما وقفنا عليه في الكتب ، فهو كذب وافتراء ، لا يترت بعليه شيء ، ولا يصح منه شيء ألبتة . وكذلك العزائم وضرب المندل ، والناس الذين يعتقد فيهم أنهم عقلاء ، يصدّقون بهذه الأشياء ، ويصغون إلى سماعها . وقد رأيت بعض من ينتمي إلى العلم ، إذا أفلس ، وضع كتباً وذكر فيها أشياء من رأسه ، وباعها في الأسواق بالدراهم الجيدة . وقد أطلق اسم السحر بعض العلماء على الوشي بين الناس بالنميمة ، لأن فيه قلب الصديق عدواً ، والحبيب بغيضاً . كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذب ، لما فيه من الاستمالة ، وسمي : سحراً حلالاً . وقد روي أن من البيان لسحراً ، وقال

" صفحة رقم 497 "
وحديثها السحر الحلال لو أنه
لم يجن قتل المسلم المنحرز
وظاهر قوله : ) يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ ( : أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم . وقيل : المعنى يدلونهم على تلك الكتب ، فأطلق على الدلالة تعليماً ، تسمية للمسبب بالسبب . وقيل : المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق ، تضر وتنفع ، وأن سليمان إنما تم له ما تم بذلك ، وهذا أيضاً تسمية للمسبب بالسبب . وقيل : يعلمون معناه يعلمون ، أي يعلمونهم بما يتعلمون به السحر ، أو بمن يتعلمون منه ولم يعلموهم ، فهو من باب الإعلام لا من باب التعليم . وأما حكم السحر ، فما كان منه يعظم به غير الله من الكواكب والشياطين ، وإضافة ما يحدثه الله إليها ، فهو كفر إجماعاً ، لا يحل تعلمه ولا العمل به . وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء ، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء . وأما إذا كان لا يعلم منه شيء من ذلك ، بل يحتمل ، فالظاهر أنه لا يحل تعلمه ولا العمل به . وما كان من نوع التحيل والتخييل والدّك والشعبذة ، فإن قصد بتعليمه العمل به والتمويه على الناس ، فلا ينبغي تعلمه ، لأنه من باب الباطل . وإن قصد بذلك معرفته لئلا تتم عليه مخايل السحرة وخدعهم ، فلا بأس بتعلمه ، أو اللهو واللعب ، وتفريج الناس على خفة صنعته فيكره . روي : لست من دد ولا دد مني . وأما سحر البيان ، فما أريد به تأليف القلوب على الخير ، فهو السحر الحلال ، أو ستر الحق ، فلا يجوز تعلمه ولا العمل به . وأما حكم الساحر حدًّا وتوبة ، فقد تعرض المفسرون لذلك ، ولم تتعرض إليه الآية ، وهي مسألة موضوعها علم الفقه ، فتذكر فيه .
( وَمَا أَنَزلَ ( : ظاهره أن ما موصول اسمي منصوب ، وأنه معطوف على قوله : السخر ، وظاهر العطف التغاير ، فلا يكون ما أنزل على الملكين سحراً . وقيل : هو معطوف على ما تتلو الشياطين ، أي ) وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّياطِينِ ( ، و ) الَّذِى أَنزَلَ ( ، وظاهره أن ما علموه الناس ، أو ما اتبعوه هو منزل . واختلف في هذا المنزل الذي علم ، أو الذي اتبع فقيل : علم السحر أنزل على الملكين ابتلاء من الله للناس ، من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً ، ومن تجنبه أو تعلمه لا يعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمناً ، كما ابتلى قوم طالوت بالنهر ، وهذا اختيار الزمخشري . وقال مجاهد وغيره : المنزل هو الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه ، وهو دون السحر . وقيل : السحر ليعلم على جهة التحذير منه ، والنهي عنه ، والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه . وقيل : ما في موضع جر عطفاً على ملك سليمان ، والمعنى : افتراء على ملك سليمان ، وافتراء على ما أنزل على الملكين ، وهو اختيار أبي مسلم ، وأنكر أن يكون الملكان نازلاً عليهما السحر ، قال : لأنه كفر ، والملائكة معصومون ، ولأنه لا يليق بالله إنزاله ، ولا يضاف إليه ، لأن الله يبطله ، وإنما المنزل على الملكين الشرع ، وإنهما كانا يعلمان الناس ذلك . وقيل : ما حرف نفي ، والجملة معطوفة على ) وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ( ، وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكال بالسحر ، فنفى الله ذلك .
( عَلَى الْمَلَكَيْنِ ( : قراءة الجمهور بفتح اللام ، وظاهره أنهما ملكان من الملائكة ، وقد تقدّم الكلام على الملك في قوله تعالى : ) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ ( ، فقيل : هما جبريل وميكال ، كما ذكرناه في هذا القول الأخير . وقيل : ملكان غيرهما وهما : هاروت وماروت . وقيل : ملكان غيرهما ، وسيأتي إعراب هاروت وماروت على تقدير هذه الأقوال ، إن شاء الله . وقرأ ابن عباس والحسن وأبو الأسود الدؤلي والضحاك وابن ابزي : الملكين ، بكسر اللام ، فقال ابن عباس : هما رجلان ساحران كانا ببابل ، لأن الملائكة لا تعلم الناس السحر . وقال الحسن : هما علجان ببابل العراق . وقال أبو الأسود : هما هاروت وماروت ، وهذا موافق لقول الحسن . وقال ابن أبزي : هما داود وسليمان ، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام . وقيل : هما شيطانان . فعلى قول ابن أبزي تكون ما نافية ، وعلى سائر الأقوال ، في هذه القراءة ، تكون ما موصولة . ومعنى الإنزال : القذف في قلوبهما .
وقد ذكر المفسرون ، في قراءة من قرأ : الملكين بفتح اللام ،

" صفحة رقم 498 "
قصصاً كثيراً ، تتضمن : أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر الله به ، وأن الله تعالى بكتهم ، بأن قال لهم : اختاروا ملكين للهبوط إلى الأرض ، فاختاروا هاروت وماروت ، وركب فيهما الشهوة ، فحكما بين الناس ، وافتتنا بامرأة ، تسمى بالعربية الزهرة ، وبالفارسية ميذخت ، فطلباها وامتنعت ، إلا أن يعبدا صنماً ، ويشربا الخمر ويقتلا . فخافا على مرهما ، فعلماها ما تصعد به إلى السماء وما تنزل به ، فصعدت ونسيت ما تنزل به ، فمسخت . وأنهما تشفعا بإدريس إلى الله تعالى ، فخيرهما في عذاب الدنيا والآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فهما ببابل يعذبان . وذكروا في كيفية عذابهما اختلافاً . وهذا كله لا يصح منه شيء . والملائكة معصومون ، ( لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( ، ( لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ( ، ( يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ). ولا يصح أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان يلعن الزهرة ولا ابن عمر . وقيل : سبب إنزال الملكين : أن السحرة كثروا في ذلك الزمان ، وادعوا النبوّة ، وتحدّوا الناس بالسخر . فجاء ليعلما الناس السحر ، فيتمكنوا من معاوضة السحر ، فيتبين كذبهم في دعواهم النبوّة ، أو لأن المعجزة والسحر ماهيتان متباينتان ، ويعرض بينهما الالتباس . فجاء الإيضاح الماهيتين ، أو لأن السحر الذي يوقع التفرقة بين أعداء الله وأوليائه كان مباحاً ، أو مندوباً ، فبعثا لذلك ، ثم استعمله القوم في التفرقة بين أولياء الله . أو لأن الجن كان عندهم من أنواع السحر ما لم تقدر البشر على مثله ، فأنزلا بذلك لأجل المعارضة . وقيل : أنزلا على إدريس ، لأن الملائكة لا يكونون رسلاً لكافة الناس ، ولا بد من رسول من البشر .
( بِبَابِلَ ( : قال ابن مسعود : هي في سواد الكوفة . وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين . وقيل : هي جبل دماوند . وقيل : هي بالمغرب . وقيل : في أرض غير معلومة ، فيها هاروت وماروت ، وسميت ببابل ، قال الخليل : لتبلبل الألسنة حين أراد الله أن يخالف بينها ، أتت ريح فحشرت الناس إلى بابل ، فلم يدر أحد ما يقول الآخر ، ثم فرّقتهم الريح في البلاد . وقيل : لتبلبل الألسنة بها عند سقوط قصر نمروذ . ) هَارُوتَ وَمَارُوتَ ( : قرأ الجمهور : بفتح التاء ، وهما بدل من الملكين ، وتكون الفتحة علامة للجرّ لأنهما لا ينصرفان ، وذلك إذا قلنا إنهما إسمان لهما . وقيل : بدل من الناس ، فتكون الفتحة علامة للنصب ، ولا يكون هاروت وماروت اسمين للملكين . وقيل : هما قبيلتان من الشياطين ، فعلى هذا يكونان بدلاً من الشياطين ، وتك ن الفتحة علامة للنصب ، على قراءة من نصب الشياطين . وأما من رفع الشياطين ، فانتصابهما على الذم ، كأنه قال : أذم هاروت وماروت ، أي هاتين القبيلتين ، كما قال الشاعر : أقارع عوف لا أحاول غيرها
وجوه قرود تبتغي من تخادع
وهذا على قراءة الملكين ، بفتح اللام . وأما من قرأ بكسرها ، فيكونان بدلاً من الملكين ، إلا إذا فسرا بداود وسليمان عليهما السلام ، فلا يكون هاروت وماروت بدلاً منهما ، ولكن يتعلقان بالشياطين على الوجهين اللذين ذكرنا في رفع الشياطين ونصبه . وقرأ الحسن والزهري : هاروت وماروت بالرفع ، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوف ، أي هما هاروت وماروت ، إن كانا ملكين . وجاز أن يكونا بدلاً من الشياطين ، الأول أو الثاني ، على قراءة من رفعه ، إن كانا شيطانين . وتقدّم لنا القول في هاروت وماروت ، وأنهما أعجميان . وزعم بعضهم أنهما مشتقان من الهرت والمرت ، وهو الكسر ، وقوله خطأ ، بدليل منعهم الصرف لهما ، ولو كانا ، كما زعم ، لانصرفا ، كما انصرف جاموس إذا سميت به . واختصت بابل بالإنزال لأنها كانت أكثر البلاد سحراً .
( وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ( : قرأ الجمهور : بالتشديد ، من علم على بابها من التعليم . وقالت طائفة : هو هنا بمعنى يعلمان التضعيف ، والهمزة بمعنى واحد ، فهو من باب الإعلام ، ويؤيده قراءة طلحة بن مصرّف . وما يعلمان : من أعلم قال : لأن الملكين إنما نزلا

" صفحة رقم 499 "
يعلمان السحر وينهيان عنه . والضمير في يعلمان عائد على الملكين ، أي وما يعلم الملكان . وكذلك قراءة أبي ، أي بإظهار الفاعل لا إضماره . وقيل : عائد على هاروت وماروت ، ففي القول الأول يكون عائداً على المبدل منه ، وفي الثاني على البدل ، ومن زائدة لتأكيد استغراق الجنس ، لأن أحداً من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام ، فزيدت هنا لتأكيد ذلك ، بخلاف قولك : ما قام من رجل ، فإنها زيدت لاستغراق الجنس ، وشرط زيادتها هنا موجود عند جمهور البصريين ، لأنهم شرطوا أن يكون بعدها نكرة ، وأن يكون قبلها غير واجب . وقد أمعنا الكلام على زيادة من في ( كتاب منهج السالك ) من تأليفنا ، وأجاز أبو البقاء أن يكون أحد هنا بمعنى واحد ، والأول أظهر . ) حَتَّى يَقُولاَ حَتَّى يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ). وقال أبو البقاء : حتى هنا بمعنى إلا أن ، وهذا معنى لحتى لا أعلم أحداً من المتقدّمين ذكره . وقد ذكره ابن مالك في ( التسهيل ) وأنشد عليه في غيره : ليس العطاء من الفضول سماحة
حتى تجود وما لديك قليل
قال : يريد إلا أن تجود ، وما في ) إِنَّمَا ( كافة ، لإن عن العمل ، فيصير من حروف الابتداء . وقد أجاز بعض النحويين عمل إن مع وجود ما ، نحو : إنما زيداً قائم . ) نَحْنُ فِتْنَةٌ ( : أي ابتلاء واختبار .
( فَلاَ تَكْفُرْ ( : قال علي رضي الله عنه : كانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء إليه ، كأنهما يقولان : لا تفعل كذا ، كما لو سأل سائل عن صفة الزنا ، أو القتل ، فأخبر بصفته ليجتنبه . فكان المعنى في يعلمان : يعلمان . وقال الزمخشري : فلا تكفر : فلا تتعلم ، معتقداً أنه حق فتكفر . وحكى المهدوي : أن قولهما ) إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ( ، فلا تكفر استهزاء ، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله . وقال في ( المنتخب ) قوله : ) إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ( توكيد لقبول الشرع والتمسك به ، فكانت طائفة تمثيل وأخرى تخالف . وقيل : فلا تكفر ، أي لا تستعمله فيما نهيت عنه ، ولكن إذا وقفت عليه فتحرز من أن ينفذ لساحر عليك تمويه . وقيل : فلا تفعله لتعمل به . وهذا على قول من قال : تعلمه جائز والعمل به كفر . وقيل : فلا تكفر بتعليم السحر ، وهذا على قول من قال : إن تعلمه كفر . وقيل : فلا تكفر بنا ، وهذا على قول : إن الملكين نزلا من السماء بالسحر ، وإن من تعلمه في ذلك الوقت كان كافراً ، ومن تركه كان مؤمناً ، كما جاء في نهر طالوت ، وقد تقدم ما حكاه المهدوي إن قولهما : فلا تكفر ، على سبيل الاستهزاء ، لا على سبيل النصيحة . وقوله : حتى يقولا مطلقاً في القول ، وأقل ما يتحقق بالمرة الواحدة ، فقيل مرة ، وقيل سبع مرات ، وقيل تسع مرات ، وقيل ثلاث . ويحتاج ذلك إلى صحة نقل ، وإن لم يوجد ، فيكون محتملاً ، والمتحقق المرة الواحدة . واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما ، فقال مجاهد : هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ، ويختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافه واحدة ، فيتعلمان منهما ما يفرّقان به بين المرء وزوجه . والظاهر أن هاروت وماروت هما اللذان يباشران التعليم لقوله : ) وَمَا يُعَلّمَانِ ). وقد ذكر المفسرون قصصاً فيما يعرض من المحاورة بين الملكين وبين من جاء ليتعلم منهما ، وفي كل من ذلك القصص أنهما يأمرانه بأن يبول في تنور . فاختلفوا في الإيمان الذي يخرج منه ، أيرى فارساً مقنعاً بحديد يخرج منه حتى يغيب في السماء ؟ أو نوراً خرج من رماد يسطع حتى يدخل السماء ؟ أو طائراً خرج من بين ثيابه وطار نحو السماء ؟ وفسروا ذلك الخارج بأنه الإيمان . وهذا كله شيء لا يصح البتة ، فلذلك لخصنا منه شيئاً ، وإن كان لا يصح ، حتى لا نخلي كتابنا مما ذكروه .
( فَيَتَعَلَّمُونَ ( : قاله الفراء ،

" صفحة رقم 500 "
واختاره الزجاج ، وهو معطوف على شيء دل عليه أول الكلام ، كأنه قال : فيأبون فيتعلمون . وقال الفرّاء أيضاً : هو عطف على ) يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ ( ، ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ). وأنكره الزجاج بسبب لفظ الجمع في يعلمون ، وقد قال منهما . وأجازه أبو علي وغيره ، إذ لا يمتنع عطف فيتعلمون على يعلمون ، وإن كان التعليم من الملكين خاصة ، والضمير في منهما راجع إليهما ، لأن قوله : فيتعلمون منهما ، إنما جاء بعد ذكر الملكين . وقال سيبويه : هو معطوف على كفروا ، قال : وارتفعت فيتعلمون ، لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا : لا تكفر ، فيتعلموا ليجعلا كفره سبباً لتعلم غيره ، ولكنه على كفروا فيتعلمون . يريد سيبويه : أنّ فيتعلمون ليس بجواب لقوله : فلا تكفر ، فينصب كما نصب ) لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ( ، لأن كفر من نهي أن يكفر في الآية ، ليس سبباً لتعلم من يتعلم . وكفروا : في موضع فعل مرفوع ، فعطف عليه مرفوع ، ولا وجه لاعتراض من اعترض في العطف على كفروا ، أو على يعلمون ، بأن فيه إضمار الملكين . قيل : ذكرهما من أجل أن التقدير : ) وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ( ، لأن قوله : ) فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ( إنما جاء بعد ذكر الملكين ، كما تقدّم . وقد نقل عن سيبويه أن قوله : فيتعلمون ، هو على إضمارهم ، أي فهم يتعلمون ، فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها عطف الجمل ، والضمير على هذه الأقوال في فيتعلمون عائد على الناس ، ويجوز أن يكون فيتعلمون معطوفاً على يعلمان ، والضمير الذي في فيتعلمون لأحد ، وجمع حملاً على منفى ، فذلك المنفي هو موجب في المعنى ، لأن معناه : إنهما يعلمان كل واحد ، إذا قالا له : إنما نحن فتنة فلا تكفر . وذكر الزجاج هذا الوجه . وقال الزجاج أيضاً : الأجود أن يكون عطفاً على يعلمان فيتعلمون ، واستغنى عن ذكر يعلمان ، بما في الكلام من الدليل عليه . وقال أبو علي : لا وجه لقول الزجاج استغنى عن ذكر يعلمان ، لأنه موجود في النص . انتهى كلام أبي علي ، وهو كلام فيه مغالطة ، لأن الزجاج لم يرد أن فيتعلمون معطوف على يعلمان ، الداخل عليها ما النافية في قوله : ولا ما يعلمان ، فيكون يعلمان موجوداً في النص ، وإنما يريد أن يعلمان مضمرة مثبتة لا منفية . وهذا الذي قدّره الزجاج ليس موجوداً في النص . وحمل أبا عليّ على هذه المغالطة حب ردّه على الزجاج وتخطئته ، لأنه كان مولعاً بذلك . وللشنآن الجاري بينهما سبب ذكره الناس . انتهى ما وقفنا عليه للناس في هذا العطف ، وأكثره كلام المهدوي ، لأنه هو الذي أشبع الكلام في ذلك . وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف تقدير : فيأبون فيتعلمون ، أو يعلمان فيتعلمون ، أي على مثبت ، أو يتعلمون خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يتعلمون عطف جملة اسمية على فعلية ، أو معطوفاً على يعلمون الناس ، أو معطوفاً على كفروا ، أو على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى . فتلك أقوال ستة ، أقر بها إلى اللفظ هذا القول الأخير .
( مِنْهُمَا ( : الضمير في الظاهر عائد على الملكين ، أي فيتعلمون من الملكين ، سواء قرىء بفتح اللام ، أو كسرها . وقيل : يعود على السحر ، وعلى الذي أنزل على الملكين ، وقيل : عائد على الفتنة والكفر ، الذي هو مصدر مفهوم من قوله : ) فَلاَ تَكْفُرْ ( ، وهذا قول أبي مسلم ، والتقدير عنده : فيتعلمون من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه . ) مَا يُفَرّقُونَ بِهِ ( : ما موصولة ، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لأجل عود الضمير عليها . والمصدرية لا يعود عليها ضمير ، لأنها حرف في قول الجمهور ، والذي يفرق به هو السحر . وعني بالتفريق : تفريق الألفة والمحبة ، بحيث تقع الشحناء والبغضاء فيفترقان ، أو تفريق الدين ، بحيث إذا تعلم فقد كفر وصار مرتداً ، فيكون ذلك مفرقاً بينهما .
( بَيْنَ الْمَرْء ( : قراءة الجمهور بفتح الميم وسكون الراء والهمز . وقرأ الحسن والزهري وقتادة : المر بغير همز مخففاً . وقرأ ابن أبي إسحاق : المرء بضم الميم والهمزة . وقرأ الأشهب العقيلي : المرء بكسر الميم والهمز ، ورويت عن الحسن . وقرأ الزهري أيضاً : المر بفتح الميم وإسقاط الهمز وتشديد الراء فأمّا فتح

" صفحة رقم 501 "
الميم وكسرها وضمها فلغات ، وأما المر بكسر الراء فوجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء ، وحذف الهمزة ، وأما تشديدها بعد الحذف ، فوجهه أنه نوى الوقف فشدد ، كما روي عن عاصم : مستطرّ بتشديد الراء في الوقف ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، فأقرها على تشديدها فيه . ) وَزَوْجِهِ ( : ظاهره أنه يريد به امرأة الرجل . وقيل الزوج هنا : الأقارب والإخوان ، وهم الصنف الملائم للإنسان ، ومنه من كل زوج بهيج ، ( احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ ).
) وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ ( : الضمير الذي هو : هم عائد على السحرة الذين عاد عليهم ضمير فيتعلمون . وقيل : على اليهود الذين عاد عليهم ضمير واتبعوا . وقيل : على الشياطين . وبضارين : في موضع نصب على أن ما حجازية ، أو في موضع رفع على أن ما تميمية . والضمير في به عائد على ما في قوله : ) مَا يُفَرّقُونَ ). وقرأ الجمهور : بإثبات النون في بضارين . وقرأ الأعمش : بحذفها ، وخرّج ذلك على وجهين : أحدهما : أنها حذفت تخفيفاً ، وإن كان اسم الفاعل في صلة الألف واللام . والثاني : أن حذفها لأجل الإضافة إلى أحد ، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو به ، كما قال :
هما أخوا في الحرب من لا أخا له
وكما قال :
كما خط الكتاب بكف يوماً يهودي
وهذا اختيار الزمخشري ، ثم استشكل ذلك ، لأن أحداً مجرور بمن ، فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالإضافة ؟ فقال : فإن قلت : كيف يضاف إلى أحد ، وهو مجرور بمن ؟ قلت : جعل الجار جزءاً من المجرور . انتهى . وهذا التخريج ليس بجيد ، لأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف ، والجار والمجرور من ضرائر الشعر ، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثم مضاف إليه ، لأنه مشغول بعامل جر ، فهو المؤثر فيه لا الإضافة . وأما جعل حرف الجر جزءاً من المجرور ، فهذا ليس بشيء ، لأنه مؤثر فيه . وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء ، والأجود التخريج الأول ، لأن له نظيراً في نظم العرب ونثرها . فمن النثر قول العرب ، قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا ، يريدون : ثنتان ومائتان .
( مّنْ أَحَدٍ ( ، من زائدة ، واحد : مفعول بضارين . ومن تزاد في المعفول ، إلا أن المعهود زيادتها في المفعول الذي يكون معمولاً للفاعل الذي يباشره حرف النفي نحو : ما ضربت من رجل ، وما ضرب زيد من رجل . وهنا حملت الجملة من غير الفعل والفاعل على الجملة من الفعل والفاعل ، لأن المعنى : وما يضرون من أحد . ) إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( : مستثنى مفرغ من الأحوال ، فيحتمل أن يكون حالاً من الضمير الفاعل في قوله : ) بِضَارّينَ ( ، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول الذي هو : ) مّنْ أَحَدٍ ( ، ويحتمل أن يكون حالاً من به ، أي السحر المفرق به ، ويحتمل أن يكون حالاً من الضرر المصدر المعرف

" صفحة رقم 502 "
المحذوف . والإذن هنا فسر الوجوه التي ذكرناها عند الكلام على المفردات . فقال الحسن : الإذن هنا : هو التخلية بين المسحور وضرر السحر . وقال الأصم : العلم . وقال غيره : الخلق ، ويضاف إلى إذنه كقوله : ) كُنْ فَيَكُونُ ( وقيل : الأمر ، قيل : والإذن حقيقة فيه ، واستبعد ذلك ، لأن الله لا يأمر بالسحر ، ولأنه ذمّهم على ذلك . وأوّل معنى الأمر فيه بأن يفسر التفريق بالصيرورة . كافراً فإن هذا حكم شرعي ، وذلك لا يكون إلا بأمر الله . وفي هذه الجملة دليل على أن ما يتعلمون له تأثير وضرر ، لكن ذلك لا يضر إلا بإذن الله ، لأنه ربما أحدث الله عنده شيئاً ، وربما لم يحدث .
( وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ( : لما ذكر أنه يحصل به الضرر لمن يفرق بينهما ، ذكر أيضاً أن ضرره لا يقتصر على من يفعل به ذلك ، بل هو أيضاً يضر من تعلمه . ولما كان إثبات الضرر بشيء لا ينفي النفع ، لأنه قد يوجد الشيء فيحصل به الضرر ويحصل به النفع ، نفى النفع عنه بالكلية ، وأتى بلفظ لا ، لأنها ينفي بها الحال والمستقبل . والظاهر أن ) وَلاَ يَنفَعُهُمْ ( معطوف على ) يَضُرُّهُمْ ( ، وكلا الفعلين صلة لما ، فلا يكون لها موضع من الإعراب . وجوز بعضهم أن يكون لا ينفعهم على إضمار هو ، أي وهو لا ينفعهم ، فيكون في موضع رفع ، وتكون الواو للحال ، فتكون جملة حالية ، وهذا ضعيف . وقد قيل : الضرر وعدم النفع مختص بالآخرة . وقيل : هو في الدنيا والآخرة ، فإن تعلمه ، إن كان غير مباح ، فهو يجر إلى العمل به ، وإلى التنكيل به ، إذا عثر عليه ، وإلى أن ما يأخذه عليه حرام هذا في الدنيا . وأما في الآخرة فلما يترتب عليه من العقاب . ) وَلَقَدْ عَلِمُواْ ( : الضمير عائد قيل : على اليهود الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام ، وكانوا حاضرين استخراج الشياطين السحر ودفنه ، أو أخذ سليمان السحر ودفنه تحت كرسيه ، ولما أخرجوه بعد موته قالوا : والله ما هذا من عمل سليمان ولا من دخائزه . وقيل : عائد على من بحضرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من اليهود . وقيل : عائد على اليهود قاطبة ، أي علموا ذلك في التوراة . وقيل : عائد على علماء اليهود . وقيل : عائد على الشياطين . وقيل : على الملكين ، لأنهما كانا يقولان لمن يتعلم الحسر : فلا تكفر ، فقد علموا أنه لا خلاق له في الآخرة . وأتى بضمير الجمع على قول من يرى ذلك . وعلم : هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين ، وعلقت عن الجملة ، ويحتمل أن يكون المتعدية لمفعول واحد ، وعلقت أيضاً كما علقت عرفت . والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها . واللام في : ) لَمَنِ اشْتَرَاهُ ( هي لام الابتداء ، وهي المانعة من عمل علم ، وهي أحد الأسباب الموجبة للتعليق ، وأجازوا حذفها ، وهي باقية على منع العمل ، وخرجوا على ذلك .
إني وجدت ملاك الشيمة الأدب
يريد لملاك الشيمة . ومن هنا موصولة ، وهي مرفوعة بالابتداء . والجملة من قوله : ) مَا لَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ( في موضع الخبر . واللام في لقد للقسم . هذا مذهب سيبويه وأكثر النحويين . وجملة ) وَلَقَدْ عَلِمُواْ ( مقسم عليها التقدير : والله لقد علموا . والجملة الثانية عنده غير مقسم عليها . وأجاز الفراء أن تكون الجملتان مقسماً عليهما ، وتكون من للشرط ، وتبعه في ذلك الحوفي وأبو البقاء . قال أبو البقاء : اللام في ) لَمَنِ اشْتَرَاهُ ( هي التي يوطأ بها القسم مثل : ) لَئِن لَّمْ تَنتَهِ ( ، ومن في موضع رفع بالابتداء ، وهي شرط وجواب القسم ماله في الآخرة من خلاق . انتهى كلامه . فاشتراه في القول الأول صلة ، وفي هذا القول خبر عن من ، ويكون إذ ذاك جواب الشرط محذوفاً يدل عليه جواب القسم ، لأنه اجتمع قسم وشرط ، ولم يتقدّمهما ذو خبر ، فكان الجواب للسابق ، وهو القسم ، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ . هذا هو تقرير هذا القول وتوضيحه . وفي كلا القولين يكون : لمن اشتراه ، في موضع نصب

" صفحة رقم 503 "
بيعلموا . وقد نقل عن الزجاج ردّ قول من قال من شرط ، وقال هذا ليس موضع شرط ، ولم ينقل عنه توجيه ، كونه ليس موضع شرط . وأرى المانع من ذلك أن الفعل الذي يلي من هو ماض لفظاً ومعنى ، لأن الاشتراء قد وقع ، وجعله شرطاً لا يصح ، لأن فعل الشرط إذا كان ماضياً لفظاً ، فلا بد أن يكون مستقبلاً في المعنى . فلما كان كذلك ، كان ليس موضع شرط . والضمير المنصوب في اشتراه عائد على السحر ، أو الكفر ، أو كتابهم الذي باعوه بالسحر ، أو القرآن ، لأنه تعوضوا عنه بكتب السحر ، أقوال أربعة . والخلاق : النصيب ، قاله مجاهد ، أو الدين ، قاله الحسن ؛ أو القوام ، قاله ابن عباس ، أو الخلاص ، أو القدر ، قاله قتادة ؛ أقوال خمسة .
( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ( : تقدّم القول في بئس ، وفي ما الواقعة بعدها ، ومعناه : ذمّ ما باعوا به أنفسهم . والضمير في به عائد على السحر ، أو الكفر . والمخصوص بالذمّ محذوف تقديره : على أحسن الوجوه التي تقدّمت في بئسما السحر ، أو الكفر . والضمير في : شروا ، ويعلمون ، باتفاق لليهود . فمتى فسر الضمير في ولقد علموا بأنه عائد على الشياطين ، أو اليهود الذين كانوا بحضرة سليمان ، وفي زمانه ، أو الملكين بفتح اللام ، أو بكسرها ، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم . وإن اتحد المسند إليه ، أوّل العلم الثاني بالعقل ، لأن العلم من ثمرته ، فلما انتفى الأصل ، نفى ثمرته . أو بالعمل ، لأنه من ثمرة العلم ، فلما انتفت الثمرة ، جعل ما ينشأ عنه منفياً ، أو أوّل متعلق العلم ، وهو المحذوف ، أي علموا ضرره في الآخرة ، ولم يعلموا نفعه في الدنيا . أو علموا نفي الثواب ، ولم يعلموا استحقاق العذاب . وجواب لو محذوف تقديره : ) لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ). ذمّ ذلك لما باعوا أنفسهم .
البقرة : ( 103 ) ولو أنهم آمنوا . . . . .
( وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ واتَّقَوْا ( : قد تقدّم الكلام في لو وأقسامها ، وهي هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، ويأتي الكلام على جوابها إن شاء الله . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون قوله : ) وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ ( تمنياً لإيمانهم ، على سبيل المجاز ، عن إرادة الله ، إيمانهم واختيارهم له ، كأنه قيل : وليتهم آمنوا ، ثم ابتدىء : ) لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ ( ، انتهى . فعلى هذا لا يكون للجواب لازم ، لأنها قد تجاب إذا كانت للتمني بالفاء ، كما يجاب ليت . إلا أن الزمخشري دس في كلامه هذا ، ويحرجه مذهبه الاعتزالي ، حيث جعل التمني كناية عن إرادة الله ، فيكون المعنى : إن الله أراد إيمانهم ، فلم يقع مراده ، وهذا هو عين مذهب الاعتزال ، والطائفة الذين سموا أنفسهم عدلية : قالوا يريد ولا يكون مراده
عدلوا ولكن عن طريق المعرفه
وأنهم آمنوا ، يتقدّر بمصدر كأنه قيل : ولو إيمانهم ، وهو مرفوع . فقال سيبويه : هو مرفوع بالابتداء ، أي ولو إيمانهم ثابت . وقال المبرد : هو مرفوع على الفاعلية ، أي ولو ثبت إيمانهم . ففي كل من المذهبين حذف للمسند ، وإبقاء المسند إليه . والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو ، والضمير في أنهم لليهود ، أو الذين يعلمون السحر ، قولان . والإيمان والتقوى : الإيمان التام ، والتقوى الجامعة لضروبها ، أو الإيمان بمحمد وبما جاء به ، وتقوى الكفر والسحر ، قولان متقاربان .
( لَمَثُوبَةٌ ( : اللام لام الابتداء ، لا الواقعة في جواب لو ، وجواب لو محذوف لفهم المعنى ، أي لا ثيبوا ، ثم ابتدأ على طريق الإخبار الاستئنافي ، لا على طريق تعليقه بإيمانهم وتقواهم ، وترتبه عليهما ، هذا قول الأخفش ، أعني أن الجواب محذوف . وقيل : اللام هي الواقعة في جواب لو ، والجواب : هو قوله : ) لَمَثُوبَةٌ ( ، أي الجملة الإسمية . والأول اختيار الراغب ، والثاني اختيار الزمخشري . قال : أوثرت الجملة الإسمية على الفعلية في

" صفحة رقم 504 "
جواب لو لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها ، كما عدل عن النصب إلى الرفع في : سلام عليكم لذلك ، انتهى كلامه . ومختاره غير مختار ، لأنه لم يعهد في لسان العرب وقوع الجملة الابتدائية جواباً للو ، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه . ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل ، وليس مثل سلام عليكم ، لثبوت رفع سلام عليكم من لسان العرب . ووجه من أجاز ذلك قوله : بأن مثوبة مصدر يقع للماضي والاستقبال ، فصلح لذلك من حيث وقوعه للمضي . وقد تكلمنا على هذه المسألة في ( كتاب التكميل ) من تأليفنا ، بأشبع من هذا . وقرأ الجمهور : لمثوبة بضم الثاء ، كالمشورة . وقرأ قتادة وأبو السمال وعبد الله بن بريدة : بسكون الثاء ، كمشورة . ومعنى قوله : لمثوبة ، أي لثواب ، وهو الجزاء والأجر على الإيمان والتقوى بأنواع الإحسان . وقيل : لمثوبة : لرجعة إلى الله خير .
( مِنْ عِندِ اللَّهِ ( : هذا الجار والمجرور في موضع الصفة ، أي كائنة من عند الله . وهذا الوصف هو المسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة . وفي وصف المثوبة بكونها من عندالله ، تفخيم وتعظيم لها ، ولمناسبة الإيمان والتقوى . لذلك ، كان المعنى : أن الذي آمنتم به واتقيتم محارمه ، هو الذي ثوابكم منه على ذلك ، فهو المتكفل بذلك لكم . واكتفى بالتنكير في ذلك ، إذ المعنى لشيء من الثواب .
قليلك لا يقال له قليل
) خَيْرٌ ( خبر لقوله : لمثوبة ، وليس خير هنا أفعل تفضيل ، بل هي للتفضيل ، لا للأفضلية . فهي كقوله : ) أفمن يلقى في النار خير وخير مستقرّا .
فشركما لخيركما الفداء
) لو كانوا يعلمون ( : جواب لو محذوف : التقدير : لو كانوا يعلمون لكان تحصيل المثوبة خيراً ، ويعني سبب المثوبة ، وهو الإيمان والتقوى . ولذلك قدّره بعضهم لآمنوا ، لأن من كان ذا علم وبصيرة ، لم يخف عليه الحق ، فهو يسارع إلى اتباعه ، ولا الباطل ، فهو يبالغ في اجتنابه . ومفعول يعلمون محذوف اقتصاراً ، فالمعنى : لو كانوا من ذوي العلم ، أو اختصاراً ، فقدره بعضهم : لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك ، وقدره بعضهم : لو كانوا يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى . وقيل : العلم هنا كناية عن العمل ، أي لو بعلمهم ، ولما انتقت ثمرة العلم الذي هو العمل ، جعل العلم هنا كناية عن العمل ، أي لو كانوا يعلمون بعلمهم ، ولما انتفت ثمرة العلم الذي هو العمل ، جعل العلم منتفياً .
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة ما كان عليه اليهود من خبث السريرة ، وعدم التوفيق والطواعية لأنبياء الله ، ونصب المعاداة لهم ، حتى انتهى ذلك إلى عداوتهم من لا يلحقه ضرر عداوتهم ، وهو من لا ينبغي أن يعادى ، لأنه السفير بين الله وبين خلقه ، وهو جبريل . أتى بالقرآن المصدّق لكتابهم ، والمشتمل على الهدى والبشارة لمن آمن به ، فكان ينبغي المبادرة إلى ولائه ومحبته . ثم أعقب ذلك بأن من كان عدوًّا لله ، أي مخالفاً لأمره وملائكته ورسله ، أي مبغضاً لهم ، فالله عدوّه ، أي معامله بما يناسب فعله القبيح . ثم التفت إلى رسوله بالخطاب ، فأخبره بأنه أنزل عليه آيات واضحات ، وأنها لوضوحها ، لا يكفر بها إلا متمرد في فسقه . ثم أخذ يسليه بأن عادة هؤلاء نكث عهودهم ، فلا تبال بمن طريقته هذه ، وأنهم سلكوا هذه الطريقة معك ، إذ أتيتهم من عند الله تعالى بالرسالة ، فنبذوا كتابه تعالى وراء ظهورهم ، بحيث صاروا لا ينظرون فيه ، ولا يلتفتون لما انطوى عليه من التبشير بك ، وإلزامهم اتباعك ، حتى كأنهم لم يطلعوا على الكتاب ، ولا سبق لهم بك علم منه . ثم ذكر من مخازيهم أنهم تركوا كتاب الله واتبعوا ما ألقت إليهم الشياطين من كتب السحر على عهد

" صفحة رقم 505 "
سليمان . ثم نزه نبيه سليمان عن الكفر ، وأن الشياطين هم الذين كفروا . ثم استطرد في أخبار هاروت وماروت ، وأنهما لا يعلمان أحداً حتى ينصحاه بأنهما جعلا ابتلاءً واختباراً ، وأنهما لمبالغتهما في النصيحة ينهيان عن الكفر . ثم ذكر أن قصارى ما يتعلمون منهما هو تفريق بين المرء وزوجه . ثم ذكر أن ضرر ذلك لا يكون إلا بإذن من الله تعالى ، لأنه تعالى هو الضار النافع . ثم أثبت أن ما يتعلمون هو ضرر لملابسة ومتعلمه . ثم أخبر أنهم قد علموا بحقيقة الضرر ، وإن متعاطي ذلك لا نصيب له في الآخرة . ثم بالغ في ذم ما باعوا به أنفسهم ، إذ ما تعوضوه مآله إلى الخسران .
ثم ختم ذلك بما لو سلكوه ، وهو الإيمان والتقوى ، لحصل لهم من الله الثواب الجزيل على ذلك ، وأن جميع ما اجترموه من المآتم ، واكتسبوه من الجرائم ، يعفي على آثاره جرّ ذيل الإيمان ، ويبدّل بالإساءة جميل الإحسان . ولما كانت الآيات السابقة فيها ما يتضمن الوعيد من قوله : ) فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ( ، وقوله : ) وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ( ، وذكر نبذ العهود ، ونبذ كتاب الله ، واتباع الشياطين ، وتعلم ما يضر ولا ينفع ، والإخبار عنهم بأنهم علموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة ، أتبع ذلك بآية تتضمن الوعد الجميل لمن آمن واتقى . فجمعت هذه الآيات بين الوعيد والوعد ، والترغيب والترهيب ، والإنذار والتبشير ، وصار فيها استطراد من شيء إلى شيء ، وإخبار بمغيب بعد مغيب ، متناسقاً تناسق اللآلىء في عقودها ، متضحة اتضاح الدراري في مطالع سعودها ، معلمة صدق من أتى بها ، وهو ما قرأ الكتب ، ولا دارس ، ولا رحل ، ولا عاشر الأحبار ، ولا مارس ) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( صلى الله عليه وأوصل أزكى تحية إليه .
2 ( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْألُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَالِكَ قَالَ الَّذِين

" صفحة رقم 506 "
لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ) 7
البقرة : ( 104 ) يا أيها الذين . . . . .
الرعاية والمراعاة : النظر في مصالح الإنسان وتدبير أموره . والرعونة والرعن : الجهل والهوج . ذو : يكون بمعنى صاحب ، وتثنى ، وتجمع ، وتؤنث ، وتلزم الإضافة لاسم جنس ظاهر . وفي إضافتها إلى ضمير الجنس خلاف ، المشهور : المنع ، ولا خلاف أنه مسموع ، لكن من منع ذلك خصه بالضرورة . وإضافته إلى العلم المقرون به في الوضع ، أو الذي لا يقرن به في أول الوضع مسموع . فمن الأول قولهم : ذو يزن ، وذو جدن ، وذو رعين ، وذو الكلاع . فتجب الإضافة إذ ذاك . ومن الثاني قولهم : في تبوك ، وعمرو ، وقطرى : ذو تبوك ، وذو عمرو ، وذو قطرى . والأكثر أن لا يعتد بلفظ ذو ، بل ينطق بالاسم عارياً من ذو . وما جاء من إضافته لضمير العلم ، أو لضمير مخاطب لا ينقاس ، كقولهم : اللهم صل على محمد وعلى ذويه ، وقول الشاعر : وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما
رجوناه قدماً من ذويك الأفاضل
ومذهب سيبويه : أن وزنه فعل ، بفتح العين ، ومذهب الخليل : أن وزنه فعل ، بسكونها . واتفقوا على أنه يجمع في التكسير على أفعال . قالوا : أذواء وذو من الأسماء الستة التي تكون في الرفع بالواو ، وفي النصب بالألف ، وفي الجر بالياء . وإعراب ذو كذا لازم بخلاف غيرها من تلك الأسماء ، فذلك على جهة الجواز . وفيما أعربت به هذه الأسماء عشرة مذاهب ذكرت في النحو ، وقد جاءت ذو أيضاً موصولة ، وذلك في لغة طيء ، ولها أحكام ، ولم تقع في القرآن . النسخ : إزالة الشيء بغير بدل يعقبه ، نحو : نسخت الشمس الظل ، ونسخت الريح الأثر . أو نقل الشيء من غير إزالة نحو : نسخت الكتاب ، إذا نقلت ما فيه إلى مكان آخر . النسيئة : التأخير ، نسأ ينسأ ، ويأتي نسأ : بمعنى أمضى الشيء ، قال الشاعر : لمؤن كألواح الإران نسأتها
على لاحب كأنه ظهر برجد
الولي : فعيل للمبالغة ، من ولي الشيء : جاوره ولصق به . الحسد : تمني زوال النعمة عن الإنسان ، حسد يحسد حسداً وحسادة . الصفح : قريب معناه من العفو ، وهو الإعراض عن المؤاخذة على الذنب ، مأخوذ من تولية صفحة الوجه إعراضاً . وقيل : هو التجاوز من قولك ، تصفحت الورقة ، أي تجاوزت عما فيها . والصفوح ، قيل : من أسماء الله ، والصفوح : المرأة تستر بعض وجهها إعراضاً ، قال : صفوح فما تلقاك إلا بخيلة
فمن ملّ منها ذلك الوصل ملت
تلك : من أسماء الإشارة ، يطلق على المؤنثة في حالة البعد ، ويقال : تلك وتيلك وتالك ، بفتح التاء وسكون

" صفحة رقم 507 "
اللام ، وبكسرها وياء بعدها ، وكسر اللام وبفتحها ، وألف بعدها وكسر اللام ، قال : إلى الجودي حتى صار حجرا
وحان لتالك الغمر انحسارا
هاتوا : معناه أحضروا ، والهاء أصلية لا بدل من همزة أتى ، لتعديها إلى واحد لا يحفظ هاتي الجواب ، وللزوم الألف ، إذ لو كانت همزة لظهرت ، إذ زال موجب إبدالها ، وهو الهمزة قبلها ، فليس وزنها أفعل ، خلافاً لمن زعم ذلك ، بل وزنها فاعل كرام . وهي فعل ، خلافاً لمن زعم أنها اسم فعل ، والدليل على فعليتها اتصال الضمائر بها . ولمن زعم أنها صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر ، وهو الزمخشري ، وهو أمر وفعله متصرف . تقول : هاتي بهاتي مهاتاة ، وليس من الأفعال التي أميت تصريف لفظه إلا الأمر منه ، خلافاً لمن زعم ذلك . وليست ها للتنبيه دخلت على أتى فألزمت همزة أتى الحذف ، لأن الأصل أن لا حذف ، ولأن معنى هات ومعنى ائت مختلفان . فمعنى هات أحضر ، ومعنى ائت أحضر . وتقول : هات هاتي هاتيا هاتوا هاتين ، تصرفها كرامي . البرهان : الدليل على صحة الدعوى ، قيل : هو مأخوذ من البره ، وهو القطع ، فتكون النون زائدة . وقيل : من البرهنة ، وهي البيان ، قالوا : برهن إذا بين ، فتكون النون زائدة لفقدان فعلن ووجود فعلل ، فينبني على هذا الاشتقاق . التسمية ببرهان ، هل ينصرف أو لا ينصرف ؟ الوجه : معروف ، ويجمع قلة على أوجه ، وكثرة على وجوه ، فينقاس أفعل في فعل الاسم الصحيح العين ، وينقاس فعول في فعل الاسم ليس عينه واواً . اليهود : ملة معروفة ، والياء أصلية ، فليست مادة الكملة مادة هود من قوله : ) هُودًا أَوْ نَصَارَى ( ، لثبوتها في التصريف يهده . وأما هوّده فمن مادة هود . قال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين ، وهو الإمام الذي انتهى إليه علم اللسان في زمانه : يهود فيها وجهان ، أحدهما : أن تكون جمع يهودي ، فتكون نكرة مصروفة . والثاني : أن تكون علماً لهذه القبيلة ، فتكون ممنوعة الصرف . انتهى كلامه . وعلى الوجه الأول دخلته الألف واللام فقالوا : اليهود ، إذ لو كان علماً لما دخلته ، وعلى الثاني قال الشاعر : أولئك أولى من يهود بمدحة
إذا أنت يوماً قلتها لم تؤنب
ليس : فعل ماض ، خلافاً لأبي بكر بن شقير ، وللفارسي في أحد قوليه ، إذ زعما أنها حرف نفي مثل ما ، ووزنها فعل بكسر العين . ومن قال : لست بضم اللام ، فوزنها عنده فعل بضم العين ، وهو بناء نادر في الثلاثي اليائي العين ، لم يسمع منه إلا قولهم : هيؤ الرجل ، فهو هيىء ، إذا حسنت هيئته . وأحكام ليس كثيرة مشروحة في كتب النحو . الحكم : الفصل ، ومنه سمي القاضي : الحاكم ، لأنه يفصل بين الخصمين . الاختلاف : ضد الاتفاق .
( ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( : هذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة ، بالنداء الدال على الإقبال عليهم ، وذلك أن أول نداء جاء أتى عامًّا : ) قَدِيرٌ

" صفحة رقم 508 "
يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ( ، وثاني نداء أتى خاصاً : ) خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ ( ، وهي الطائفة العظيمة التي اشتملت على الملتين : اليهودية والنصرانية ، وثالث نداء لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) المؤمنين . فكان أول نداء عامًّا ، أمروا فيه بأصل الإسلام ، وهو عبادة الله . وثاني نداء ، ذكروا فيه بالنعم الجزيلة ، وتعبدوا بالتكاليف الجليلة ، وخوّفوا من حلول النقم الوبيلة وثالث نداء : علموا فيه أدباً من آداب الشريعة مع نبيهم ، إذ قد حصلت لهم عبادة الله ، والتذكير بالنعم ، والتخويف من النقم ، والاتعاظ بمن سبق من الأمم ، فلم يبق إلا ما أمروا به على سبيل التكميل ، من تعظيم من كانت هدايتهم على يديه . والتبجيل والخطاب بيا أيها الذين آمنوا متوجه إلى من بالمدينة من المؤمنين ، قيل : ويحتمل أن يكون إلى كل مؤمن في عصره . وروي عن ابن عباس : أنه حيث جاء هذا الخطاب ، فالمراد به أهل المدينة ، وحيث ورد يا أيها الناس ، فالمراد أهل مكة .
( لاَ تَقُولُواْ راعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا ( : بدىء بالنهي ، لأنه من باب التروك ، فهو أسهل . ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس ، قبل بالنهي . ثم لم يكن نهياً عن شيء سبق تحريمه ، ولكن لما كانت لفظة المفاعلة تقتضي الاشتراك غالباً ، فصار المعنى : ليقع منك رعي لنا ومنا رعي لك ، وهذا فيه ما لا يخفى مع من يعظم نهوا عن هذه اللفظة لهذه العلة ، وأمروا بأن يقولوا : انظرنا ، إذ هو فعل من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لا مشاركة لهم فيه معه . وقراءة الجمهور : راعنا . وفي مصحف عبد الله وقراءته ، وقراءة أبي : راعونا ، على إسناد الفعل لضمير الجمع . وذكر أيضاً أن في مصحف عبد الله : ارعونا . خاطبوه بذلك إكباراً وتعظيماً ، إذ أقاموه مقام الجمع . وتضمن هذا النهي ، النهي عن كل ما يكون فيه استواء مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ الحسن ، وابن أبي ليلى ، وأبو حياة ، وابن محيصن : راعنا بالتنوين ، جعله صفة لمصدر محذوف ، أي قولاً راعناً ، وهو على طريق النسب كلابن وتامر . لما كان القول سبباً في السبب ، اتصف بالرعن ، فنهوا في هذه القراءة عن أن يخاطبوا الرسول بلفظ يكون فيه ، أو يوهم شيئاً من الغض ، مما يستحقه ( صلى الله عليه وسلم ) ) من التعظيم وتلطيف القول وأدبه .
وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية أن اليهود كانت تقصد بذلك ، إذ خاطبوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الرعونة ، وكذا قيل في راعونا ، إنه فاعولاً من الرعونة ، كعاشورا . وقيل : كانت لليهود كلمة عبرانية ، أو سريانية يتسابون بها وهي : راعينا ، فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا ، اقترضوه وخاطبوا بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهم يعنون تلك المسبة ، فنهي المؤمنون عنها ، وأمروا بما هو في معناها . ومن زعم أن راعنا لغة مختصة بالأنصار ، فليس قوله بشيء ، لأن ذلك محفوظ في جميع لغة العرب . وكذلك قول من قال : إن هذه الآية ناسخة لفعل قد كان مباحاً ، لأن الأول لم يكن شرعاً متقرراً قبل . وقيل في سبب نزولها غير ذلك . وبالجملة ، فهي كما قال محمد بن جرير : كلمة كرهها الله أن يخاطب بها نبيه ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا تقولوا عبدي وأمتي وقولوا فتاي وفتاتي ولا تسموا العنب الكرم ) . وذكر في النهي وجوه : إن معناها اسمع لا سمعت ، أو إن أهل الحجاز كانوا يقولونها عند المفر ، قاله قطرب ، أو أن اليهود كانوا يقولون : راعينا أي راعي غنمنا ، أو أنه مفاعلة فيوهم مساواة ، أو معناه راع كلامنا ولا تغفل عنه ، أو لأنه يتوهم أنه من الرعونة . وقوله : انظرنا ، قراءة الجمهور ، موصول الهمزة ، مضموم الظاء ، من النظرة ، وهي التأخير ، أي انتظرنا وتأنّ علينا ، نحو قوله : فإنكما إن تنظراني ساعة
من الدهر تنفعني لدى أم جندب

" صفحة رقم 509 "
أو من النظر ، واتسع في الفعل فعدى بنفسه ، وأصله أن يتعدى بإلى ، كما قال الشاعر : ظاهرات الجمال والحسن ينظر
ن كما ينظر الأراك الظباء
يريد : إلى الأراك ، ومعناه : تفقدنا بنظرك . وقال مجاهد : معناه فهمنا وبين لنا ، فسر باللازم في الأصل ، وهو انظر ، لأنه يلزم من الرفق والإمهال على السائل ، والتأني به أن يفهم بذلك . وقيل : هو من نظر البصيرة بالتفكر والتدبر فيما يصلح للمنظور فيه ، فاتسع في الفعل أيضاً ، إذ أصله أن يتعدى بفي ، ويكون أيضاً على حذف مضاف ، أي انظر في أمرنا . قال ابن عطية : وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال ، وهذا هو معنى : راعنا ، فبدلت للمؤمنين اللفظة ، ليزول تعلق اليهود . انتهى . وقرأ أبي والأعمش : أنظرنا ، بقطع الهمزة وكسر الظاء ، من الإنظار ، ومعناه : أخرنا وأمهلنا حتى نتلقى عنك . وهذه القراءة تشهد للقول الأول في قراءة الجمهور .
( وَاسْمَعُواْ ( : أي سماع قبول وطاعة . وقيل : معناه اقبلوا . وقيل : فرغوا أسماعكم حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة . وقيل : اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا تعودون إليه . أكد عليهم ترك تلك الكلمة . وروي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله ، فوالذي نفسي بيده ، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأضربن عنقه . ) وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( : ظاهره العموم ، فيدخل فيه اليهود . وقيل : المراد به اليهود ، أي ولليهود الذين تهاونوا بالرسول وسبوه . ولما نهى أوّلاً ، وأمر ثانياً ، وأمر بالسمع وحض عليه ، إذ في ضمنه الطاعة ، أخذ يذكر لمن خالف أمره وكفر ، ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).
البقرة : ( 105 ) ما يود الذين . . . . .
( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ ( : ذكر المفسرون أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقالوا : وددنا لو كان خيراً مما نحن عليه فنتبعه ، فأكذبهم الله بقوله : ) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب : الذين بحضرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والظاهر ، العموم في أهل الكتاب : وهم اليهود والنصارى ، وفي المشركين : وهم مشركو العرب وغيرهم ، ونفى بما ، ونها لنفي الحال ، فهم ملتبسون بالبغض والكراهة أن ينزل عليكم . ومن ، في قوله : من أهل الكتاب ، تبعيضية ، فتتعلق بمحذوف ، أي كائنين من أهل الكتاب . ومن أثبت أن من تكون لبيان الجنس قال ذلك هنا ، وبه قال الزمخشري ، وأصحابنا لا يثبتون كونها للبيان . ) وَلاَ الْمُشْرِكِينَ ( ، معطوف على : ) مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ). ورأيت في كتاب لأبي إسحاق الشيرازي ، صاحب ( التنبيه ) ، كلاماً يرد فيه على الشيعة ، ومن قال بمقالتهم : في أن مشروعية الرجلين في الوضوء هي المسح ، للعطف في قوله : ) وَأَرْجُلَكُمْ ( ، على قوله : ) بِرُؤُوسِكُمْ ( ، خرج فيه أبو إسحاق قوله : وأرجلكم بالجر ، على أنه من الخفض على الجوار ، وأن أصله النصب فخفض عطفاً على الجوار . وأشار في ذلك الكتاب إلى أن القرآن ولسان العرب يشهدان بجواز ذلك ، وجعل منه قوله : ولا المشركين ، في هذه الآية ، وقوله : ) لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ ( ، وأن الأصل هو الرفع ، أي ولا المشركون ، عطفاً على الذين كفروا ، وهذا حديث من قصر في العربية ، وتطاول إلى الكلام فيها بغير معرفة ، وعدل عن حمل اللفظ على معناه الصحيح وتركيبه الفصيح . ودخلت لا في قوله : ولا المشركين ، للتأكيد ، ولو كان في غير

" صفحة رقم 510 "
القرآن لجاز حذفها . ولم تأت في قوله : ) لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ ( لمعنى يذكر هناك ، إن شاء الله تعالى .
( أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم ( : في موضع المفعول بيود ، وبناؤه للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وللتصريح به في قوله : ) مّن رَّبّكُمْ ). ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله : ) مّن رَّبّكُمْ ). ) مّنْ خَيْرٍ ( ، من : زائدة ، والتقدير : خير من ربكم ، وحسن زيادتها هنا ، وإن كان ينزل لم يباشره حرف النفي ، فليس نظير : ما يكرم من رجل ، لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى ، لأنه إذا نفيت الودادة ، كان كأنه نفى متعلقها ، وهو الإنزال ، وله نظائر في لسان العرب ، من ذلك قوله تعالى : ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ ). فلما تقدّم النفي حسن دخول الباء ، وكذلك قول العرب : ما ظننت أحداً يقول ذلك إلا زيد ، بالرفع على البدل من الضمير المستكن في يقول ، وإن لم يباشره حرف النفي ، لأن المعنى : ما يقول ذلك أحد إلا زيد ، فيما أظن . وهذا التخريج هو على قول سيبويه والخليل . وأما على مذهب الأخفش والكوفيين في هذا المكان ، فيجوز زيادتها ، لأنهم لا يشترطون انتفاء الحكم عما تدخل عليه ، بل يجيزون زيادتها في الواجب وغيره . ويزيد الأخفش : أنه يجيز زيادتها في المعرفة . وذهب قوم إلى أن من للتبعيض ، ويكون على هذا المفعول الذي لم يسم فاعله هو عليكم ، ويكون المعنى : أن ينزل عليكم بخير من الخير من ربكم .
( مّن رَّبّكُمْ ( : من : لابتداء الغاية ، كما تقول : هذا الخير من زيد . ويجوز أن تكون للتبعيض . المعنى من خير كائن من خيور ربكم ، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلقت بقوله : ينزل ، وإذا كانت للتبعيض تعلقت بمحذوف ، وكان ذلك على حذف مضاف ، كما قدّرناه . والخير هنا : القرآن ، أو الوحي ، إذ يجمع القرآن وغيره ، أو ما خص به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من التعظيم ؛ أو الحكمة والقرآن والظفر ؛ أو النبوة الإسلام ، أو العلم والفقه والحكمة ؛ أو هنا عام في جميع أنواع الخير ، فهم يودون انتفاء ذلك عن المؤمنين ، سبعة أقوال ، أظهرها الآخر . وسبب عدم ودهم ذلك : أما في اليهود ، فلكون النبوّة كانت في بني إسماعيل ، ولخوفهم على رئاستهم ، وأما النصارى ، فلتكذيبهم في إدعائهم ألوهية عيسى ، وأنه ابن الله ، ولخوفهم على رئاستهم ، وأما المشركون ، فلسبّ آلهتهم وتسفيه أحلامهم ، ولحسدهم أن يكون رجل منهم يختص بالرسالة ، واتباع الناس له .
( وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ( : أي يفرد بها ، وضد الاختصاص : الاشتراك . ويحتمل أن يكون يختصّ هنا لازماً ، أي ينفرد ، أو متعدّياً ، أي يفرد ، إذ الفعل يأتي كذلك . يقال : اختصّ زيد بكذا ، واختصصته به ، ولا يتعين هنا تعديه ، كما ذكر بعضهم ، إذ يصح ، والله يفرد برحمته من يشاء ، فيكون من فاعلة ، وهو افتعل من : خصصت زيداً بكذا . فإذا كان لازماً ، كان لفعل الفاعل بنفسه نحو : اضطررت ، وإذا كان متعدياً ، كان موافقاً لفعل المجرّد نحو : كسب زيد مالاً ، واكتسب زيد مالاً . والرحمة هنا عامة بجميع أنواعها ؛ أو النبوّة والحكمة والنصرة ، اختص بها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قاله عليّ والباقر ومجاهد والزجاج ؛ أو الإسلام ، قاله ابن عباس ؛ أو القرآن ، أو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ ( ، هو نبي الرحمة ، أقوال خمسة ، أظهرها الأول .
( وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( : قد تقدّم أن ذو بمعنى صاحب . وذكر جملة من أحكام ذو ، والوصف بذو ، أشرف عندهم من الوصف بصاحب ، لأنهم ذكروا أن ذو أبداً لا تكون إلا مضافة لاسم ، فمدلولها أشرف . ولذلك جاء ذو رعين ، وذو يزن ، وذو الكلاع ، ولم يسمعوا بصاحب رعين ، ولا صاحب يزن ونحوها . وامتنع أن يقول في صحابي أبي سعيد أو جابر : ذو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وجاز أن يقول : صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ولذلك وصف الله تعالى نفسه بقوله : ) ذُو الْجَلْالِ ( ، ( ذُو الْفَضْلِ ( ، وسيأتي الفرق بين قوله تعالى : ) وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً ( ، وقوله تعالى : ) وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( ، إن شاء الله تعالى . وتقدّم تفسير ) الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ، ويجوز أن يراد به هنا : جميع أنواع التفضلات ، فتكون أل للاستغراق ، وعظمه من جهة سعته وكثرته ، أو فضل النبوّة . وقد وصف تعالى ذلك بالعظم في قوله : ) وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( ، أو الشريعة ، فعظمها من جهة بيان أحكامها ، من حلال ، وحرام ، ومندوب ، ومكروه ، ومباح ؛ أو الثواب والجزاء ، فعظمه من جهة السعة والكثرة

" صفحة رقم 511 "
) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ( ، أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . وعلى هذه التأويلات تكون أل للعهد ، والأظهر القول الأول .
البقرة : ( 106 ) ما ننسخ من . . . . .
( مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ ( : سبب نزولها ، فيما ذكروا ، أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة ، وطعنوا في الإسلام قالوا : إن محمداً يأمر أصحابه بأمر اليوم ، وينهاهم عنه غداً ، ويقول اليوم قولاً ، ويرجع عنه غداً ، ما هذا القرآن إلا من عند محمد ، وأنه يناقض بعضه بعضاً ، فنزلت .
وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه ، وما اتفق عليه منه ، وما اختلف فيه ، وفي جوازه عقلاً ، ووقوعه شرعاً ، وبماذا ينسخ ، وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام ، وطوّلوا في ذلك . وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه ، فيبحث في ذلك كله فيه . وهكذا جرت عادتنا : أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم ، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم ، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير ، فنخرج عن طريقة التفسير ، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، المعروف بابن خطيب الري ، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة ، لا حاجة بها في علم التفسير . ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال : فيه كل شيء إلا التفسير .
وقد ذكرنا في الخطبة ما يحتاج إليه علم التفسير . فمن زاد على ذلك ، فهو فضول في هذا العلم ، ونظير ما ذكره الرازي وغيره ، إن النحوي مثلاً يكون قد شرع في وضع كتاب في النحو ، فشرع يتكلم في الألف المنقلبة ، فذكر أن الألف في الله ، أهي منقلبة من ياء أو واو ؟ ثم استطرد من ذلك إلى الكلام في الله تعالى ، فيما يجب له ويجوز عليه ويستحيل . ثم استطرد إلى جواز إرسال الرسل منه تعالى إلى الناس . ثم استطرد إلى أوصاف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ثم استطرد من ذلك إلى إعجاز ما جاء به القرآن وصدق ما تضمنه ، ثم استطرد إلى أن من مضمونه البعث والجزاء بالثواب والعقاب . ثم المثابون في الجنة لا ينقطع نعيمهم ، والمعاقبون في النار لا ينقطع عذابهم . فبينا هو في علمه يبحث في الألف المنقلبة ، إذا هو يتكلم في الجنة والنار ، ومن هذا سبيله في العلم ، فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة ، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي ، قدّس الله تربته ، يقول ما معناه : متى رأيت الرجل ينتقل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف ، فاعلم أن ذلك ، إما لقصور علمه بذلك الفن ، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه ، حيث يظنّ أن المتغايرات متماثلات .
وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به من يقف عليه ، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير ، بل إنما تركنا ذلك عمداً ، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير . وأسأل الله التوفيق

" صفحة رقم 512 "
للصواب .
وما من قوله : ما ننسخ ، شرطية ، وهي مفعول مقدّم ، وفي ننسخ التفات ، إذ هو خروج من غائب إلى متكلم . ألا ترى إلى قوله : ) وَاللَّهُ يَخْتَصُّ ( ؟ ) وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ ( ؟ وقرأ الجمهور : ننسخ من نسخ ، بمعنى أزال ، فهو عام في إزالة اللفظ والحكم معاً ، أو إزالة اللفظ فقط ، أو الحكم فقط . وقرأت طائفة وابن عامر من السبعة : ما ننسخ من الإنساخ ، وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي فقال : ليست لغة ، لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى ، ولا هي للتعدية ، لأن المعنى يجيء : ما يكتب من آية ، أي ما ينزل من آية ، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً . وليس الأمركذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى : ما نجده منسوخاً ، كما يقال : أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً ، وأبخلته إذا وجدته بخيلاً . قال أبو عليّ : وليس نجده منسوخاً إلا بأن ينسخه ، فتتفق القراءات في المعنى ، وإن اختلفا في اللفظ . انتهى كلامه . فجعل الهمزة في النسخ ليست للتعدية ، وإنما أفعل لوجود الشيء بمعنى ما صيغ منه ، وهذا أحد معاني أفعل المذكورة فيه فاتحة الكتاب . وجعل الزمخشري الهزة فيه للتعدية قال : وإنساخها الأمر بنسخها ، وهو أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يجعلها منسوخة ، بالإعلام بنسخها ، وهذا تثبيج في العبارة عن معنى كون الهمزة للتعدية . وإيضاحه أن نسخ يتعدى لواحد ، فلما دخلت همزة النقل تعدى لاثنين . تقول : نسخ زيد الشيء ، أي أزاله ، وأنسخه إياه عمرو : أي جعل عمرو زيداً ينسخ الشيء ، أي يزيله . وقال ابن عطية : التقدير ما ننسخك من آية ، أي ما نبيح لك نسخة ، كأنه لما نسخه الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً . وهذا الذي ذكر ابن عطية أيضاً هو جعل الهمزة للتعدية ، لكنه والزمخشري اختلفا في المفعول الأول المحذوف ، أهو جبريل أم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؟ وجعل الزمخشري الإنساخ هو الأمر بالنسخ . وجعل ابن عطية الإنساخ إباحة الترك بالنسخ . وخرّج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر وهو : أن تكون الهمزة فيه للتعدية أيضاً ، وهو من نسخ الكتاب ، وهو نقله من غير إزالة له ، قال : ويكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله ، أي ذلك فعلنا ، فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك ، أو بمثله ، فتجيء الضميرات في منها وبمثلها عائدين على الضمير في ننسأها . انتهى كلامه . وذهل عن القاعدة النحوية ، وهي أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه . وما في قوله : ما ننسخ شرطية ، وقوله : أو ننساها ، عائد على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها نفسها من حيث اللفظ والمعنى ، إنما يعود عليها لفظاً لا معنى ، فهو نظير قولهم : عندي درهم ونصفه ، فهو في الحقيقة على إضمار ما الشرطية . التقدير : أو ما ننسأ من آية ، ضرورة أن المنسوخ هو غير المنسوء ، لكن يبقى قوله : ) مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ ( مفلتاً من الجواب ، إذ لا رابط فيه منه له ، وذلك لا يجوز ، فبطل هذا المعنى .
من آية ، من : هنا للتبعيض ، وآية مفرد وقع موقع الجمع ، ونظيره فارس في قولك : هذا أول فارس ، التقدير : أول الفوارس . والمعنى : أي شيء من الآيات . وكذلك ما جاء من هذا النحو في القرآن ، وفي كلام العرب تخريجه هكذا ، نحو قوله : ) مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ ( ، ( وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ ( ، وقولهم : من يضرب من رجل اضربه . ويتضح بهذا المجرور ما كان معمولاً لفعل الشرط ، لأنه مخصص له ، إذ في اسم الشرط عموم ، إذ لو لم يأت بالمجرور لحمل على العموم . لو قلت : من يضرب أضرب ، كان عاماً في مدلول من . فإذا قلت : من رجل ، اختص جنس الرجال بذلك ، ولم يدخل فيه النساء ، وإن كان مدلول من عامًّا للنوعين . ولهذا المعنى جعل بعضهم من آية ، وما أشبهه في موضع نصب على التمييز . قال : والمميز ما

" صفحة رقم 513 "
قال ، والتقدير : أي شيء نسخ من آية . قال : ولا يحسن أن يقدر أي آية ننسخ ، لأنك لا تجمع بين آية وبين المميز بآية . لا تقول : أي آية ننسخ من آية ، ولا أي رجل يضرب من رجل أضربه . وجوّزوا أيضاً أن تكون من زائدة ، وآية حالاً . والمعنى : أي شيء ننسخ قليلاً أو كثيراً . قالوا : وقد جاءت الآية حالاً في قوله تعالى هذه : ) نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءايَةً ( ، وهذا فاسد لأن ، الحال لا يجرّ بمن وجوّزوا أيضاً أن تكون ما مصدراً ، وآية مفعولاً به ، التقدير : أي نسخ ننسخ آية ، ومجيء ما الشرطية مصدراً جائز ، تقول : ما تضرب زيداً أضرب مثله ، التقدير : أي ضرب تضرب زيداً أضرب مثله ، وقال الشاعر : نعب الغراب فقلت بين عاجل
ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب
وهذا فاسد ، لأن ما إذا جعلتها للنسخ ، عرى الجواب من ضمير يعود عليها ، ولا بد من ضمير يعود على اسم الشرط . ألا ترى أنك لو قلت : أي ضرب يضرب هنداً أضرب أحسن منها ، لم يجز لعرو جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط ، لأن الضمير في منها عائد على المفعول الذي هو هند ، لا على أي ضرب الذي هو اسم الشرط ، ولأن المفعول به لا تدخل عليه من الزائدة إلا بشرط أن يتقدّمه غير موجب ، وأن يكون ما دخلت عليه نكرة ، وهذا على الجادة من مشهور مذهب البصريين . والشرط ليس من قبيل غير الموجب ، فلا يجوز : إن قام من رجل أقم معه ، وفي هذا خلاف ضعيف لبعض البصريين .
( أَوْ ( : قرأ عمر ، وابن عباس ، والنخعي ، وعطاء ، ومجاهد ، وعبيد بن عمير ، ومن السبعة ابن كثير ، وأبو عمرو : أو ننسأها ، بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة . وقرأت طائفة كذلك ، إلا أنه بغير همز . وذكر أبو عبيد البكري في ( كتاب اللآلىء ) ذلك عن سعد بن أبي وقاص ، وأراه وهم ، وكذا قال ابن عطية ، قال : وقرأ سعد بن أبي وقاص تنساها بالتاء المفتوحة وسكون النون وفتح السين من غير همز ، وهي قراءة الحسن وابن يعمر . وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنهم همزو . وقرأ أبو حياة كذلك ، إلا أنه ضم التاء . وقرأ سعيد كذلك ، إلا أنه بغير همز . وقرأ باقي السبعة ، ننسها ، بضم النون وكسر السين من غير همز . وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنها همزت بعد السين . وقرأ الشحاك وأبو رجاء : بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين وبلا همز . وقرأ أبي : أو ننسك ، بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين من غير همز ، وبكاف للخطاب بدل ضمير الغيبة . وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة كذلك ، إلا أنه جمع بين الضميرين ، وهي قراءة أبي حذيفة . وقرأ الأعمش : ما ننسك من آية أو ننسخها نجيء بمثلها . وهكذا ثبت في مصحف عبد الله ، فتحصل في هذه اللفظة ، دون قراءة الأعمش ، إحدى عشرة قراءة : فمع الهمزة : ننسأها وننسئها وننسأها وتنسأها ، وبلا همز : ننسها وننسها وتنسها وتنسها ونسك وننسكها . وفسر النسخ هنا بالتبديل ، قاله ابن عباس والزجاج ، أو تبديل الحكم مع ثبوت الخط ، قاله عبد الله وابن عباس أيضاً ، أو الرفع ، قاله السدّي . وأما قوله : أو ننسها بغير همز ، فإن كان من النسيان ضد الذكر ، فالمعنى : ننسكها إذا كان من أفعل ، أو ننسها إذا كان من فعل ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وإن كان من الترك ، فالمعنى : أو نترك إنزالها ، قاله

" صفحة رقم 514 "
الضحاك ، أو نمحها ، فلا نترك لها لفظاً يتلى ولا حكماً يلزم ، قاله ابن زيد ، أو نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء : أي أمرت بتركه ، ونسيته : تركته ، قال : إن عليّ عقبة أقضيها
لست بناسيها ولا منسيها
أي لا آمر بتركها . وقال الزجاج : قراءة ننسها ، بضم النون وسكون النون الثانية وكسر السين ، لا يتوجه فيها معنى الترك ، لأنه لا يقال : أنسى بمعنى ترك . وقال أبو علي الفارسي وغيره : ذلك متجه ، لأنه بمعنى نجعلك تتركها . وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولا نسي قرآناً . وقال أبو عليّ وغيره : ذلك جائز ، وقد وقع ، ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بنسئه . واحتج الزجاج بقوله تعالى : ) قَلِيلاً وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( ، أي لم نفعل . قال أبو علي : معناه لم نذهب بالجميع ، وحكى الطبري قول الزجاج عن أقدم منه . قال ابن عطية : والصحيح في هذا أن نسيان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لما أراد الله أن ينساه ، ولم يرد أن يثبته قرآناً جائزاً . وأما النسيان الذي هو آفة في البشر ، فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) معصوم منه ، قبل التبليغ ، وبعد التبليغ ، ما لم يحفظه أحد من الصحابة ، وأما بعد أن يحفظ ، فجائز عليه ما يجوز على البشر ، لأنه قد بلغ وأدى الأمانة ، ومنه الحديث ، حين أسقط آية ، فلما فرغ من الصلاة قال : ( أفي القوم أبي ؟ ) قال : نعم يا رسول الله ، قال : ( فلم لم تذكرني ؟ ) قال : خشيت أنها رفعت ) . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لم ترفع ولكني نسيتها ) . انتهى كلام ابن عطية . وأما من قرأ بالهمز فهو من التأخير ، تقول العرب : نسأت الإبل عن الحوض ، وأنسأ الإبل عن ظمئها يوماً أو يومين ، أو أكثر أخرها عن الورد . وأما في الآية فالمعنى : نؤخر نسخها أو نزولها ، قاله عطاء وابن أبي نجيح ، أو نمحها لفظاً وحكماً ، قاله ابن زيد ، أونمضها فلا ننسخها ، قاله أبو عبيدة ، وهذا يضعفه قوله : ) نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا ( ، لأن ما أمضى وأقر ، لا يقال فيه نأت بخير منها . وحكي عن ابن عباس أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره : ما نبدل من حكم آية نأت بخير منها ، أي أنفع منها لكم ، أو مثلها . ثم قال : أو ننساها ، أي نؤخرها ، فلا ننسخها ولا نبدلها . وهذه الحكاية لا تصح عن ذلك الحبر ابن عباس ، إذ هي محيلة لنظم القرآن .
( نَأْتِ ( : هو جواب الشرط ، واسم الشرط هنا جاء بعده الشرط والجزاء مضارعين ، وهذا أحسن التراكيب في فعلي الشرط والجزاء ، وهو أن يكونا مضارعين . ) بِخَيْرٍ مّنْهَا ( : الظاهر أن خيراً هنا أفعل التفضيل ، والخيرية ظاهرة ، لأن المأتي به ، إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء ، فخيريته بالنسبة لسقوط أعباء التكليف ، وإن كان أثقل ، فخيريته بالنسبة لزيادة الثواب . ) أَوْ مِثْلِهَا ( : أو مساو لها في التكليف والثواب ، وذلك كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة . وذهب قوم إلى أن خيراً هنا ليس بأفعل التفضيل ، وإنما هو خير من الخيور ، كخير في قوله : ) أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ ( ، فهو عندهم مصدر ، ومن لابتداء الغاية . ويصير المعنى : أنه ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، نأت بخير من الخيور من جهة المنسوخ أو المنسوء ، لكن يبعد هذا المعنى قوله : ) أَوْ مِثْلِهَا ( ، فإنه لا يصح عطفه على قوله : ) بِخَيْرٍ ( على هذا المعنى ، إلا إن أطلق الخير على عدم التكليف ، فيكون المعنى : نأت بخير من الخيور ، وهو عدم التكليف ، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء ، فكأنه يقول : ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، فإلى غير بدل ، أو إلى بدل مماثل ، والذي إلى غيره بدل ، هو خير أتاكم من جهة الآية المنسوخة أو المنسوءة ، إذ هو راحتكم من التكاليف . وأما عطف مثلها على الضمير المجرور في منها فيضعف لعدم إعادة الجار .
( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ( ؟ قال ابن عطية : ظاهره الاستفهام المحض ، فالمعادل هنا على

" صفحة رقم 515 "
قول جماعة : أم تريدون . وقال قوم : أم هنا منقطعة ، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره : أم علمتم ، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) مخاطبة أمته ، وأما إن كان هو المخاطب وحده ، فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي . انتهى كلامه ونقله . وما قالوه ليس بجيد ، بل هذا استفهام معناه التقرير ، فلا يحتاج إلى معادل ألبتة ، والأولى أن يكون المخاطب السامع ، والاستفهام بمعنى التقرير كثير في كلامهم جداً ، خصوصاً إذا دخل على النفي : ) أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ ( ؟ ) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ( ؟ ) أَلَمْ نُرَبّكَ بِكَ فِينَا وَلِيداً ( ؟ ) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى ( ؟ ) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( ؟ فهذا كله استفهام لا يحتاج فيه إلى معادل ، لأنه إنما يراد به التقرير . والمعنى : قد علمت أيها المخاطب أن الله قادر على كل شيء ، فله التصرف في تكاليف عباده ، بمحو وإثبات وإبدال حكم بحكم ، وبأن يأتي بالأخير لكم وبالمماثل . وحكمة إفراد المخاطب : أنه ما من شخص إلا يتوهم أنه المخاطب بذلك ، والمنبه به ، والمقرر على شيء ثابت عنده ، وهو أن قدرة الله تعالى متعلقة بالأشياء ، فلن يعجزه شيء ، فإذا كان كذلك لم ينكر النسخ ، لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه . وفي قوله : ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ ( ، فيه خروج من ضمير جمع مخاطب وهو : ) مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ ( ، إلى ضمير مخاطب مفرد للحكمة التي بيناها ، وخروج من ضمير متكلم معظم نفسه ، إلى اسم ظاهر غائب وهو الله ، إذ هو الإسم العلم الجامع لسائر الصفات ، ففي ضمنه صفة القدرة ، فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم ، فلذلك عدل عن قوله : ) أَلَمْ تَعْلَمْ إِنَّنَا ( إلى قوله : ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ ( ، وقد تقدم تفسيره قوله : ) إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ( في أوائل هذه السورة ، فأغنى ذلك عن إعادته .
البقرة : ( 107 ) ألم تعلم أن . . . . .
( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ؟ هذا أيضاً استفهام دخل على النفي فهو تقرير ، فليس له معادل ، لأن التقرير معناه : الإيجاب ، أي قد علمت أيها المخاطب أن الله له سلطان السموات والأرض والاستيلاء عليهما ، فهو يملك أموركم ويدبرها ، ويجريها على ما يختاره لكم من نسخ وغيره ، وخص السموات والأرض بالملك ، لأنهما من أعظم المخلوقات ، ولأنهما قد اشتملا على جميع المخلوقات . وإذا كان استيلاؤه على الطرفين ، كان مستولياً على ما اشتملا عليه ، أو لأنه يعبر عن مخلوقاته العلوية بالسموات ، والسفلية بالأرض .
وتضمنت هاتان الجملتان التقرير على الوصفين اللذين بهما كمال التصرف ، وهما : القدرة والاستيلاء ، لأن الشخص قد يكون قادراً ، بمعنى أن له استطاعة على فعل شيء ، لكنه ليس له استيلاء على ذلك الشيء ، فينفذ فيه ما يستطيع أن يفعل . فإذا اجتمعت الاستطاعة وعدم المانعية ، كمل بذلك التصرف مع الإرادة . وبدأ بالتقرير على وصف القدرة ، لأنه آكد من وصف الاستيلاء والسلطان . ) وَمَا لَكُم مّن دُونِ اللَّهِ ( : انتقل من ضمير الإفراد في الخطاب إلى ضمير الجماعة ، وناسب الجمع هنا ، لأن المنفي بدخول من عليه صار نصاً في العموم ، فناسب كون المنفي عنه يكون عاماً أيضاً ، كان المعنى : وما لكل فرد منكم فرد فرد . ) مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ ( : وأتى بصيغة ولي ، وهو فعيل ، للمبالغة ، ولأنه أكثر في الاستعمال ، ولذلك لم يجيء في القرآن وال إلا في سورة الرعد ، لمواخاة الفواصل ، وأتى بنصير على وزن فعيل ، لمناسبة وليّ في كونهما على فعيل ، ولمناسبة أواخر الآي ، ولأنه أبلغ من فاعل . ومن زائدة في قوله : ) مِن وَلِىّ ( ، فلا تتعلق بشيء . ومن : في ) مِن دُونِ اللَّهِ ( متعلقة بما يتعلق به المجرور الذي هو لكم ، وهو يتعلق بمحذوف ، إذ هو في موضع الخبر ، ويجوز في ما هذه أن تكون تميمية ، ويجوز أن تكون حجازية على ذهب من يجيز تقدم خبرها ، إذا كان ظرفاً أو مجروراً . أما من منع ذلك فلا يجوز في ما أن تكون حجازية ، ومعنى من الأولى ابتداء الغاية . وتكرر اسم الله ظاهراً في هذه الجمل الثلاث ، ولم يضمر للدلالة على استقلال كل جملة منها ، وأنها لم تجعل مرتبطة بعضها ببعض ارتباط ما يحتاج فيه إلى إضمار .
ولما كانت الجملتان الأوليان للتقرير ، وهو إيجاب من حيث المعنى ، ناسب أن تكون الجملة الثالثة نفياً للولي والناصر ، أي أن الأشياء التي هي تحت قدرة الله وسلطانه واستيلائه ، فالله تعالى لا يحجزه عما يريد بها شيء ، ولا مغالب له تعالى فيما يريد .
البقرة : ( 108 ) أم تريدون أن . . . . .
( أَمْ تُرِيدُون

" صفحة رقم 516 "
أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ ( : اختلف في سبب نزول هذه الآية ، فقيل عن ابن عباس : نزلت في عبد الله بن أمية ورهط من قريش ، قالوا : يا محمد اجعل الصفا ذهباً ، ووسع لنا أرض مكة ، وفجر الأنهار خلالها تفجيراً ، ونؤمن لك . وقيل : تمنى اليهود وغيرهم من المشركين ، فمن قائل : ائتنا بكتاب من السماء جملة ، كما أتى موسى بالتوراة . ومن قائل : ائتني بكتاب من السماء فيه : من رب العالمين إلى عبد الله بن أمية ، إني قد أرسلت محمداً إلى الناس . ومن قائل : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً . وقيل : إن رافع بن خزيمة ، ووهب بن زيد قالا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ائتنا كتاب من السماء ، وفجر لنا أنهاراً ، نتبعك . وقيل : إن جماعة من الصحابة قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل في تعجيل العقوبة في الدنيا ، فقال : ( كانت بنو إسرائيل إذا أصابتهم خطيئة وجدوها مكتوبة على باب الخاطىء ، فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة ) . وقيل : اليهود وكفار قريش سألوا ردّ الصفا ذهباً ، وقيل لهم : خذوه كالمائدة لبني إسرائيل ، فأبوا ونكصوا . وقيل : سأل قوم أن يجعل لهم ذات أنواط ، كما كانت للمشركين ، وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها الثمرة وغيرها من المأكولات وأسلحتهم . كما سأل بنو إسرائيل موسى فقالوا : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة . ويحتمل أن تكون هذه كلها أسباباً في نزول هذه الآية ، وقد طولنا بذكر هذه الأسباب ، وذلك بخلاف مقصدنا في هذا الكتاب .
وأم : هنا منقطعة ، وتتقدر المنقطعة ببل والهمزة ، فالمعنى : بل أتريدون ، فبل تفيد الإضراب عما قبله ، ومعنى الإضراب هنا : هو الانتقال من جملة إلى جملة ، لا على سبيل إبطال الأولى . وقد تقدّم قول من جعل أم هنا معادلة للاستفهام الأول . وقد بينا ضعف ذلك . وقالت فرقة : أم استفهام مقطوع من الأول ، كأنه قال : أتريدون . وهذان القولان ضعيفان . والذي تقرر أن أم تكون متصلة ومنفصلة . فالمتصلة : شرطها أن يتقدّمها لفظ همزة الاستفهام ، وأن يكون بعدها مفرد ، أو في تقدير المفرد . والمنفصلة : ما انخرم الشرطان فيها أو أحدهما ، ويتقدر إذ ذاك ببل والهمزة معاً ، وأما مجيئها مرادفة للهمزة فقط ، أو مرادفة لبل فقط ، أو زائدة ، فأقوال : ضعيفة . وعلى الخلاف في المخاطبين ، يجيء الكلام في قوله : ) رَسُولَكُمُ ). فإن كان الخطاب للمؤمنين ، وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم ، فيكون رسولكم جاء على ما في نفس الأمر ، وعلى ما أقروا به من رسالته . وإن كان الخطاب للكفار ، كانت إضافة الرسول إليهم على حسب الأمر في نفسه ، لا على إقرارهم به . ورجح كون الخطاب للمؤمنين بقوله : ) وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ( ، وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمن ، وبأنه معطوف على قوله : ) لاَ تَقُولُواْ راعِنَا ( ، أي هل تفعلون ما أمرتم ، أم تريدون ؟ ورجح أنهم اليهود ، لأنه سبق الكلام في الحكايات عنهم ما قالوا ، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله ما يكون كفراً .
كما سئل : الكاف في موضع نصب ، فعلى رأي سيبويه : على الحال ، وعلى المشهور من مذاهب المعربين : نعت لمصدر محذوف ، فيقدر على قولهم : سؤالاً كما سئل ، ويقدر على رأي سيبويه : أن تسألوه ، أي السؤال كما سئل ، وما مصدرية التقدير كسؤال . وأجاز الحوفي أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، التقدير : الذي سئله موسى . وقرأ الجمهور : وسيل . وقرأ الحسن وأبو السمال : بكسر السين وياء . وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري : بإشمام السين وياء . وقرأ بعض القراء : بتسهيل الهمزة بين بين وضم السين . وهذه القراءات مبنية على اللغتين في سأل ، وهو أن تكون الهمزة مقرة مفتوحة ، فتقول سأل . فعلى هذه اللغة تكون قراءة الجمهور ، وقراءة من سهل الهمز بين بين . واللغة الثانية أن تكون عين الكلمة واواً ، وتكون على فعل بكسر العين فتقول : سلت أسال ، كخفت أخاف ، أصله : سولت . وعلى هذه اللغة تكون قراءة الحسن ، وقراءة من أشم . وتخريج هاتين القراءتين على هذه اللغة أولى من التخريج على أن أصل الألف الهمز ، فأبدلت الهمزة ألفاً ، فصار مثل : قال وباع ، فقيل فيه : سيل بالكسر المحض ، أو الإشمام ، لأن هذا الإبدال شاذ ولا ينقاس . وتلك لغة ثانية ، فكان الحمل على ما كان لغة أولى من الحمل على الشاذ غير المطرد . وحذف الفاعل هنا للعلم به ، التقدير : كما سأل قوم موسى موسى من قبل .
( مُوسَى مِن قَبْلُ ( : يتعلق هذا الجار بقوله : سئل ، وقبل مقطوعة عن الإضافة لفظاً ، وذلك أن

" صفحة رقم 517 "
المضاف إليه معرفة محذوف . فلذلك بنيت قبل على الضم ، والتقدير : من قبل سؤالكم ، وهذا توكيد ، لأنه قد علم أن سؤال بني إسرائيل موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، متقدّم على سؤال هؤلاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وسؤال قوم موسى عليه السلام هو قولهم : ) أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً ( ، ( اجْعَلْ لَّنَا إِلَاهًا ). فأراد تعالى أن يوبخهم على تعلق إرادتهم بسؤال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأن يقترحوا عليه ، إذ هم يكفيهم ما أنزل إليهم . وشبه سؤالهم بسؤال ما اقترحه آباء اليهود من الأشياء التي مصيرها إلى الوبال . وظاهر الآية يدل على أن السؤال لم يقع منهم . ألا ترى أنه قال : ) أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ ( ؟ فوبخهم على تعلق إرادتهم بالسؤال ، إذ لو كان السؤال قد وقع ، لكان التوبيخ عليه ، لا على إرادته ، وكان يكون اللفظ : أتسألون رسولكم ؟ أو ما أشبه ذلك مما يؤدّي معنى وقوع السؤال ، لكن تظافرت نقولهم في سبب نزول هذه الآية ، وإن اختلفوا في التعيين على أن السؤال قد وقع .
( وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ( ؟ تقدّم الكلام في التبديل ، أي : من يأخذ الكفر بدل الإيمان ؟ وهذه كناية عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر ، كما جاء في قوله : ) اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ). وفسر الزمخشري هذا بأن قال : ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها . وقال أبو العالية : الكفر هنا : الشدة ، والإيمان : الرخاء . وهذا فيه ضعف ، إلا أن يريد أنهما مستعاران في الشدة على نفسه والرخاء لها عن العذاب والنعيم . وأما المعروف من شدة أمور الدنيا ورخائها ، فلا تفسر الآية بذلك ، والظاهر حمل الكفر والإيمان على حقيقتهما الشرعية ، لأن من سأل الرسول ما سأل مع ظهور المعجزات ووضوح الدلائل على صدقه ، كان سؤاله تعنتاً وإنكاراً ، وذلك كفر . .
( فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ( : هذا جواب الشرط ، وقد تقدم الكلام على الضلال في قوله : ) وَلاَ الضَّالّينَ ( ، وعلى سواء في قوله : ) سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ ( ، وأن سواء يكون بمعنى مستو . ولذلك يتحمل الضمير في قولهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، ويوصف به : ) تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ( ، ويفسر بمعنى العدل والنصفة ، لأن ذلك مستو ، وقال زهير : أرونا خطة لا عيب فيها
يسوى بيننا فيها السواء
ويفسر بمعنى الوسط . قال تعالى : ) فَاطَّلَعَ فَرَءاهُ فِى سَوَاء ( ، أي في وسطها . وقال عيسى بن عمر : كتبت حتى انقطع سواي ، وقال حسان : يا ويح أنصار النبي ورهطه
بعد المغيب في سواء الملحد
وبذلك فسر السواء في الآية أبو عبيدة ، وفسره الفراء بالقصد . ولما كانت الشريعة توصل سالكها إلى رضوان الله تعالى ، كنى عنها بالسبيل ، وجعل من حاد عنها : كالضال عن الطريق ، وكنى عن سؤالهم نبيهم ما ليس لهم أن يسألوه بتبدل الكفر بالإيمان ، وأخرج ذلك في صورة شرطية ، وصورة الشرط لم تقع بعد تنفيراً عن ذلك ، وتبعيداً منه . فوبخهم أولاً على تعلق إرادتهم بسؤال ما ليس لهم سؤاله ، وخاطبهم بذلك ، ثم أدرجهم في عموم الجملة الشرطية . وإن مثل هذا ينبغي أن لا يقع ، لأنه ضلال عن المنهج القويم ، فصار صدر الآية إنكاراً وتوبيخاً ، وعجزها تكفيراً وضلالاً . وما أدى إلى هذا فينبغي أن لا يتعلق به غرض ولا طلب ولا إرادة . وإدغام الدال في الضاد من الإدغام الجائز . وقد قرىء : ) فَقَدْ ضَلَّ ( ، بالإدغام وبالإظهار في السبعة .
البقرة : ( 109 ) ود كثير من . . . . .
( وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( : المعنبّ بكثير : كعب بن الأشرف ، أو حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر ، أو نفر من اليهود حاولوا المسلمين بعد وقعة أحد أن يرجعوا إلى دينهم ، أو فنحاص بن

" صفحة رقم 518 "
عاذوراء وزيد بن قيس ونفر من اليهود حاولوا حذيفة وعماراً في رجوعهما إلى دينهم ، أقوال . والقرآن لم يعين أحداً ، إنما أخبر بودادة كثير من أهل الكتاب . والخلاف في سبب النزول مبني على الخلاف في تفسير كثير من أهل الكتاب ، وتخصصت الصفة بقوله : ) مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( ، فلذلك حسن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه . والكتاب هنا : التوراة .
( لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ( : الكلام في لو هنا ، كالكلام عليها في قوله : ) يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ). فمن قال : إنها مصدرية ، قال : لو ، والفعل في تأويل المصدر ، وهو مفعول . ودّ : أي ودّ ردكم ، ومن جعلها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، جعل الجواب محذوفاً ، وجعل مفعول ودّ محذوفاً التقدير : ودرّكم كفاراً ، لو يردونكم كفاراً لسرّوا بذلك . وقال بعض الناس تقديره : لو يردونكم كفاراً لودوا ذلك . فودّ دالة على الجواب ، ولا يجوز لودّ الأولى أن تكون هي الجواب ، لأن شرط لو أن تكون متقدّمة على الجواب . انتهى . وهذا الذي قدره ليس بشيء ، لأنك إذا جعلت جواب لو قوله : لودوا ذلك ، كان ذلك دالاً على أن الودادة لم تقع ، لأنه جواب للو ، وهو لما كان سيقع لوقوع غيره ، فامتنع وقوع الودادة ، لامتناع وقوع الرد . والغرض أن الودادة قد وقعت . ألا ترى إلى أقوال المفسرين في سبب نزول هذه الآية ؟ وهي وإن اختلفت فاتفقوا على وقوع الودادة ، وإن اختلفت أقوالهم بمن وقعت ، وتقدير جواب لو لودوا ذلك ، يدل على أن الودادة لم تقع ، فلذلك كان تقديره لسروا أو لفرحوا بذلك هو المتعين ، إذا جعلت لو تقتضي جواباً . ويرد هنا بمعنى يصير ، فيتعدّى إلى مفعولين : الأول هو ضمير الخطاب ، والثاني كفاراً ، وقد أعربه بعضهم حالاً ، وهو ضعيف ، لأن الحال مستغنى عنها في أكثر مواردها ، وهذا لا بد منه في هذا المكان . ومن متعلقة بيرد ، وهي لابتداء الغاية ، وظاهر الواو في يردونكم أنها للجمع ، ومن فسر كثيراً بواحد أو باثنين ، فجعل الواو له أو لهما ، ليس على الأصل .
( حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ( : انتصاب حسداً على أنه مفعول من أجله ، والعامل فيه ودّ ، أي الحامل لهم على ودادة ردكم كفاراً هو الحسد ، وجوزوا فيه أن يكون مصدراً منصوباً على الحال ، أي حاسدين ، ولم يجمع لأنه مصدر ، وهذا ضعيف ، لأن جعل المصدر حالاً لا ينقاس . وجوزوا أيضاً أن يكون نصبه على المصدر ، والعامل فيه فعل محذوف يدل عليه المعنى ، التقدير : حسدوكم حسداً . والأظهر القول الأول ، لأنه اجتمعت فيه شرائط المفعول من أجله . ويتعلق المجرور الذي هو : ) مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ( ، إما بملفوظ به وهو ود ، أي ودوا ذلك من قبل شهوتهم ، لا أن ودادتهم ذلك هي من جهة التدين واتباع الحق . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ( ؟ وإما بمقدر ، فيكون في موضع الصفة ، التقدير : حسداً كائناً من عند أنفسهم . وعلى كلا التقديرين يكون توكيداً ، أي ودادتهم أو حسدهم من تلقائهم . ألا ترى أن ودادة الكفر والحسد على الإيمان لا يكون إلا من عند أنفسهم ؟ فهو نظير ، ولا طائر يطير بجناحيه . وقيل : يتعلق الجار والمجرور بقوله : يردونكم ، ومن سببية ، أي يكون الرد من تلقائهم وبإغوائهم وتزيينهم . ) مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ( : تتعلق من هذه بقوله : ود ، أي ودادتهم كفركم للحسد المنعبث من عند أنفسهم . وتلك الودادة ابتدأت من زمان وضوح الحق وتبينه لهم ، فليسوا من أهل الغباوة الذين قد يغرب عليهم وضوح الحق ، بل ذلك على سبيل الحسد والعناد . وهذا يدل على أن الكفر يكون عناداً . ألا ترى إلى ظاهر قوله : ) مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ( ؟ قال ابن عطية : واختلف أهل السنة في جواز ذلك . والصحيح عندي جوازه عقلاً ، وبعده وقوعاً ، ويترتب في كل رية تقتضيه أن المعرفة تسلب من ثاني حال من العناد . انتهى كلامه ، والألف واللام في الحق ، إما للعهد ، ويراد به الإيمان ، ويدل عليه جريانه قبل هذا ، أو الألف واللام للاستغراق ، أي من بعد ما اتضحت لهم وجوه الحق وأنواعه . .
( فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ ( ، قال ابن عباس : هي منسوخة بقوله : ) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ). وقيل : بقوله : ) اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ( ، وقال قوم : ليس هذا حد المنسوخ ، لأن هذا في نفس الأمر كان للتوقيف على مدته . ) حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ( : غيا العفو والصفح بهذه الغاية ، وهذه موادعة إلى أن أتى أمر الله بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلالهم بالجزية ، وغير ذلك مما أتى من أحكام الشرع فيهم وترك العفو والصفح . وقال الكلبي : هو إسلام بعض واصطلام

" صفحة رقم 519 "
بعض . وقيل : آجال بني آدم . وقيل : القيامة ، وقيل : المجازاة يوم القيامة . وقيل : قوة الرسالة وكثرة الأمة ، والجمهور على أنه الأمر بالقتال . وعن الباقر : أنه لم يؤمر بقتال حتى نزل أذن للذين يقاتلون ، والأمر بالعفو والصفح هو أن لا يقاتلوا وأن يعرض عن جوابهم فيكون أدعى لتسكين الثائرة وإطفاء الفتنة وإسلام بعضهم ، لا أنه يكون ذلك على وجه الرضا ، لأن ذلك كفر . ) إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ( : مر تفسير هذه الآية ، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ، ووعد للمؤمنين بالنصر والتمكين . ألا ترى أنه أمر بالموادعة بالعفو والصفح ، وغيا ذلك إلى أن يأتي الله بأمره ، ثم أخبر بأنه قادر على كل شيء ؟
البقرة : ( 110 ) وأقيموا الصلاة وآتوا . . . . .
.
( وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة ( : لما أمر بالعفو والصفح ، أمر بالمواظبة على عمودي الإسلام : العبادة البدنية ، والعبادة المالية ، إذ الصلاة فيها مناجاة الله تعالى والتلذذ بالوقوف بين يديه ، والزكاة فيها الإحسان إلى الخلق بالإيثار على النفس ، فأمروا بالوقوف بين يدي الحق وبالإحسان إلى الخلق . قال الطبري : إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة ليحط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود : راعنا ، لأن ذلك نهي عن نوعه ، ثم أمر المؤمنون بما يحطه . انتهى كلامه . وليس له ذلك الظهور .
( وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ( : لما قدم الأمر بالصلاة والزكاة أتى بهذه الجملة الشرطية عامة لجميع أنواع الخير ، فيندرج فيها الصلاة والزكاة وغيرهما . والقول في إعراب ما ومن خير ، كالقول في إعراب : ما ننسخ من آية ، من أنهم قالوا : يجوز أن تكون ما مفعولة ، ومن خير : حال أو مصدر ، ومن خير : مفعول ، أو مفعولة ، ومن خير : تمييز أو مفعولة ، ومن خير ، تبعيضية متعلقة بمحذوف وهو الذي اخترناه . لأنفسكم : متعلق بتقدموا ، وهو على حذف مضاف ، أي لنجاة أنفسكم وحياتها ، قال تعالى : ) يَقُولُ يالَيْتَنِى لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى ). وقد فسر الخير هنا بالزكاة والصدقة ، والأظهر العموم تجدوه جواب الشرط ، والهاء عائدة على ما ، والخيور المتقدمة هي أفعال منقضية . ونفس ذلك المنقضي لا يوجد ، فإنما ذلك على حذف مضاف ، أي تجدوا ثوابه . فجعل وجوب ما ترتب على وجوداً له ، وتجدوه متعد إلى واحد ، لأنه بمعنى الإصابة . والعامل في قوله : ) عَندَ اللَّهِ ( ، إما نفس الفعل ، أو محذوف ، فيكون في معنى الحال من الضمير ، أي تجدوه مدّخراً ومعدًّا عند الله . والظرفية هنا المكاتبة ممتنعة ، وإنما هي مجاز بمعنى القبل ، كما تقول لك : عندي يد ، أي في قبلي ، أو بمعنى في علم الله نحو : ) وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ ( ، أي في علمه وقضائه ، أو بمعنى الاختصاص بالإضافة إلى الله تعالى تعظيماً كقوله : ) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ).
) إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( : المجيء بالإسم الظاهر يدل على استقلال الجمل ، فلذلك جاء إن الله ، ولم يجيء إنه ، مع إمكان ذلك في الكلام . وهذه جملة خبرية ظاهرة التناسب في ختم ما قبلها بها ، تتضمن الوعد والوعيد . وكنى بقوله : بصير عن علم المشاهد ، أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيعه ، ومن كان مبصراً لفعلك ، لم يخف عليه ، هل هو خير أو شر ، وأتى بلفظ بصير دون مبصر ، إما لأنه من بصر ، فهو يدل على التمكن والسجية في حق الإنسان ، أو لأنه فعل للمبالغة بمعنى مفعل ، الذي هو للتكثير . ويحتمل أن يكون فعيل بمعنى مفعل ، كالسميع بمعنى المسمع ، قال بعض الصوفية : على المريد إقامة المواصلات وإدامة التوسل بفنون القربات ، واثقاً بأن ما تقدمه من صدق المجاهدات ستزكو ثمرته في آخر الحالات ، وأنشدوا : سابق إلى الخير وبادر به
فإنما خلفك ما تعلم
وقدم الخير فكل امرىء
على الذي قدمه يقدم
البقرة : ( 111 ) وقالوا لن يدخل . . . . .
( وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( : سبب نزولها اختصام نصارى نجران ويهود المدينة ، وتناظرهم بين يدي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فقالت اليهود : ) لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَىْء ( ، وقالت النصارى : ) لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْء (

" صفحة رقم 520 "
وكفروا بالتوراة وموسى ، قاله ابن عباس . والضمير في وقالوا عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولهم في القول ، لن يدخل الجنة ، لأن القول صدر من الجميع ، باعتبار أن كل فريق منهما قال ذلك ، لا أن كل فرد فرد قال ذلك حاكماً على أن حصر دخول الجنة على كل فرد فرد من اليهود والنصارى ، ولذلك جاء في العطف بأو التي هي للتفصيل والتنويع ، وأوضح ذلك العلم بمعاداة الفريقين ، وتضليل بعضهم بعضاً ، فامتنع أن يحكم كل فريق على الآخر بدخول الجنة ، ونظيره في لف الضمير ، وفي كون أو للتفصيل قوله : ) وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( ، تهتدوا ، إذ معلوم أن اليهودي لا يأمر بالنصرانية ، ولا النصراني يأمر باليهودية ، ولما كان دخول الجنة متأخراً ، جاء النفي بلن المخلصة للاستقبال ، ومن فاعلة بيدخل ، وهو من الاستثناء المفرّغ ، والمعنى : لن يدخل الجنة أحد إلا من . ويجوز أن تكون على ذهب الفراء بدلاً ، أو يكون منصوباً على الاستثناء ، إذ يجيز أن يراعى ذلك المحذوف ، ويجعله هو الفاعل ، ويحذفه ، وهو لو كان ملفوظاً به لجاز البدل والنصب على الاستثناء ، فكذلك إذا كان محذوفاً وحمل أولاً على لفظ من ، فأفرد الضمير في كان ، ثم حمل على المعنى ، فجمع في خبر كان فقال : ) هُودًا أَوْ نَصَارَى ). وهود : جمع هائد ، كعائد وعود . وتقدم مفرد النصارى ما هو أنصران أم نصرى . وفي جواز مثل هذين الحملين خلاف ، أعني أن يكون الخبر غير فعل ، بل صفة يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء نحو : من كان قائمين الزيدون ، ومن كان قائمين الزيدان . فمذهب الكوفيين وكثير من البصريين جواز ذلك . وذهب قوم إلى المنع ، وإليه ذهب أبو العباس ، وهم محجوجون بثبوت ذلك في كلام العرب كهذه الآية ، فإن هوداً في الأظهر جمع هائد ، وهو من الصفات التي يفصل بينها وبن مؤنثها بالتاء ، وكقول الشاعر :
وأيقظ من كان منكم نياماً
فنيام : جمع نائم ، وهو من الصفات التي يفصل بين مذكرها ومؤمثها بالتاء ، وقدم هوداً على نصارى لتقدمها في الزمان . وقرأ أبي : إلا من كان يهودياً أو نصرانياً ، فحمل الإسم والخبر معاً على اللفظ ، وهو الإفراد والتذكير .
( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ( : جملة من مبتدأ وخبر معترضة بين قولهم ذلك وطلب الدليل على صحة دعواهم . وتلك يشار بها إلى الواحدة المفردة ، وإلى الجمع غير المسلم من المذكر والمؤنث ، فحمله الزمخشري على الجمع قال : أشير بها إلى الأماني المذكورة ، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردّوهم كفاراً ، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم ، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم . انتهى كلامه . وما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر ، لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء ، فقد انفصلت وكملت واستقلت في النزول ، فيبعد أن يشار إليها . وأما ما ذهب إليه في الوجه الثاني ففيه مجاز الحذف ، وفيه قلب الوضع ، إذ الأصل أن يكون تلك مبتدأ ، وأمانيهم خبر . فقلب هو الوضع ، إذ قال : أن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه . وفيه أنه متى كان الخبر مشبهاً به المبتدأ ، فلا يجوز تقديمه ، مثل : زيد زهير ، نص على ذلك النحويون . فإن تقدم ما هو أصل في أن يشبه به ، كان من عكس التشبيه ومن باب المبالغة ، إذ جعل الفرع أصلاً والأصل فرعاً كقولك : الأسد زيد شجاعة ، والأظهر أن تلك إشارة إلى مقالتهم : ) لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ( ، أي تلك المقالة أمانيهم ، أي ليس ذلك عن تحقيق ولا دليل على من كتاب الله ولا من أخبار من رسول ، وإنما ذلك على سبيل التمني . وإن كانوا هم جازمين بمقالتهم ، لكنها لما لم تكن عن برهان ، كانت أماني ، والتمني يقع بالجائز والممتنع . فهذا من الممتنع ، ولذلك أتى بلفظ الأماني ، ولم يأت بلفظ مرجوّاتهم ، لأن الرجاء يتعلق بالجائز ، تقول : ليتني طائر ، ولا

" صفحة رقم 521 "
يجوز ، لعلني طائر ، وإنما أفرد المبتدأ لفظاً ، لأنه كناية عن المقالة ، والمقالة مصدر يصلح للقليل والكثير ، فأريد بها هنا الكثير باعتبار القائلين ، ولذلك جمع الخير ، فطابق من حيث المعنى في الجمعية . وقد تقدّم شرح الأماني في قوله : ) لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِىَّ ( ، فيحتمل أن يكون المعنى : تلك أكاذيبهم وأباطيلهم ، أو تلك مختاراتهم وشهواتهم ، أو تلك تلاواتهم .
( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( : لما تقدم منهم الدعوى بأنه لن يدخل الجنة إلا من ذكروا ، طولبوا بالدليل على صحة دعواهم . وفي هذا دليل على أن من ادعى نفياً أو إثباتاً ، فلا بد له من الدليل . وتدل الآية على بطلان التقليد ، وهو قبول الشيء بغير دليل . قال الزمخشري : وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين ، وإن كل قول لا دليل عليه ، فهو باطل . إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم ، أي أوضحوا دعوتكم . وظاهر الآية أن متعلق الصدق هو دعواهم أنهم مختصون بدخول الجنة . وقيل : صادقين في إيمانكم . وقيل : في أمانيكم . وقيل معنى صادقين : صالحين كما زعمتم ، وكل ما أضف إلى الصلاح والخير أضيف إلى الصدق . تقول : رجل صدق ، وصديق صدق ، ودالة صدق ، ومنه : ) هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ). وقيل : معناه إن كنتم موقنين بما أخذ الله ميثاقه وعهوده ، ومنه : ) رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ ).
البقرة : ( 112 ) بلى من أسلم . . . . .
( بَلَى ( : رد لقولهم : ) لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ( ، والكلام فيها كالكلام الذي تقدّم في قوله : ) بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَةً ( ، وقبل ذلك : ) لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ( ، وكلاهما فيه نفي وإيجاب ، إلا أن ذلك استثناء مفرّغ من الأزمان ، وهذا استثناء مفرّغ من الفاعلين . وأبعد من ذهب إلى أن بلى رد لما تضمن قوله : ) قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ( من النفي ، لأن معناه لا برهان لكم على صدق دعواكم ، فأثبت ببلى أن لمن أسلم وجهه برهاناً ، وهذا ينبو عنه اللفظ .
( مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ( : الكلام في : من ، كالكلام في : من ، من قوله : ) مَن كَسَبَ سَيّئَةً ( ، والأظهر أنها مبتدأة ، وجوّزوا أن تكون فاعلة ، أي يدخلها من أسلم ، وإذا كانت مبتدأة ، فلا يتعين أن تكون شرطية . فالجملة بعدها هي الخبر ، وجواب الشرط ) فَلَهُ أَجْرُهُ ). وإذا كانت موصولة ، فالجملة بعدها صلة لا موضع لها من الإعراب ، والخبر هو ما دخلت عليه الفاء من الجملة الابتدائية ، وإذا كانت من فاعلة فقوله : ) فَلَهُ أَجْرُهُ ( جملة اسمية معطوفة على ذلك الفعل الرافع لمن . والوجه هنا يحتمل أن يراد به الجارحة خص بالذكر ، لأنه أشرف الأعضاء ، أو لأنه فيه أكثر الحواس ، أو لأنه عبر به عن الذات ومنه : ) كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( ، ويحتمل أن يراد به الجهة ، والمعنى : أخلص طريقته في الدين لله . وقال مقاتل : أخلص دينه . وقال ابن عباس : أخلص عمله لله . وقيل : قصده . وقيل : فوّض أمره إلى الله تعالى . وقيل : خضع وتواضع . وهذه أقوال متقاربة في المعنى ، وإنما يقولها السلف على ضرب المثال ، لا على أنها متعينة يخالف بعضها بعضاً . وهذا نظير ما يقوله النحوي : الفاعل زيد من قولك ، قام زيد ، وآخر يقول : جعفر من خرج جعفر ، وآخر يقول : عمرو من انطلق عمرو ، وهذا أحسن ما يظن بالسلف رحمهم الله ، فيما جاء عنهم من هذا النوع .
( وَهُوَ مُحْسِنٌ ( : جملة حالية ، وهي مؤكدة من حيث المعنى ، لأن من أسلم وجهه لله فهو محسن . وقد قيد الزمخشري الإحسان بالعمل ؛ وجعل معنى قوله : ) مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ( : من أخلص نفسه له ، لا يشرك به غيره ، وهو محسن في عمله ، فصارت الحال هنا مبينة ، إذ من لا يشرك قسمان : محسن في عمله ، وغير محسن ، وذلك منه جنوح إلى مذهبه الاعتزالي من أن العمل لا بد منه ، وأنه بهما يستوجب دخول الجنة ، ولذلك فسر قوله : ) فَلَهُ أَجْرُهُ ( الذي يستوجبه ، وقد فسر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حقيقة الإحسان الشرعي حين سئل عن ماهيته فقال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) . وقد فسر هنا الإحسان بالإخلاص ، وفسر بالإيمان ، وفسر بالقيام بالأوامر ، والانتهاء عن المناهي .
( فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ ( : العامل في

" صفحة رقم 522 "
عند هو العامل في له ، أي فأجره مستقر له عند ربه ، ولما أحال أجره على الله أضاف الظرف إلى لفظه ربه ، أي الناظر في مصالحة ومربيه ومدبر أحواله ، ليكون ذلك أطمع له ، فلذلك أتى بصفة الرب ، ولم يأت بالضمير العائد على الله في الجملة قبله ، ولا بالظاهر بلفظ الله . فلم يأت فله أجره عنده ، لما ذكرناه ، ولقلق الإتيان بهذه الضمائر ، ولم يأت فله أجره عند الله ، لما ذكرنا من المعنى الذي دل عليه لفظ الرب . ) وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( : جمع الضمير في قوله : ) عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( حملاً على معنى من ، وحمل أوّلاً على اللفظ في قوله : ) مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ ( ، وهذا هو الأفصح ، وهو أن يبدأ أولاً بالحمل على اللفظ ، ثم بالحمل على المعنى . وقد تقدم تفسير هذه الجملة . وقراءة ابن محيصن : فلا خوف ، برفع الفاء من غير تنوين ، باختلاف عنه . وقراءة الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب وغيرهم : فلا خوف ، بالفتح من غير تنوين ، وتوجيه ذلك ، فأغنى عن إعادته هنا .
البقرة : ( 113 ) وقالت اليهود ليست . . . . .
( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَىْء وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْء ( ، قيل : المراد عامة اليهود وعامة النصارى ، فهذا من الإخبار عن الأمم السالفة ، وتكون أل للجنس ، ويكون في ذلك تقريع لمن بحضرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الفريقين ، وتسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ كذبوا بالرسل وبالكتب قبله . وقيل : المراد يهود المدينة ونصارى نجران ، حيث تماروا عند الرسول وتسابوا ، وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوّة عيسى ، وأنكرت النصارى التوراة ونبوّة موسى . فتكون حكاية حال ، وأل للعهد ، أو المراد بذلك رجلان : رجل من اليهود ، يقال له نافع بن حرملة ، قال لنصارى نجران : لستم على شيء ، وقال رجل من نصارى نجران لليهود : لستم على شيء ، فيكون قد نسب ذلك للجميع ، حيث وقع من بعضهم ، كما يقال : قتل بنو تميم فلاناً ، وإنما قتله واحد منهم ، وذلك على سبيل المجاز والتوسع ، ونسبة الحكم الصادر من الواحد إلى الجمع . وهو طريق معروف عند العرب في كلامها ، نثرها ونظمها . ولما جمعهم في المقالة الأولى ، وهي : ) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( ، فصلهم في هذه الآية ، وبين قولكل فريق في الآخر . وعلى شيء : في موضع خبر ليس ، ويحتمل أن يكون المعنى : على شيء يعتد به في الدين ، فيكون من باب حذف الصفة ، نظير قوله :
لقد وقعت على لحم
أي لحم منيع ، وأنه ليس من أهلك ، أي من أهلك الناجين ، لأنه معلوم أن كلاً منهم على شيء ، أو يكون ذلك نفياً على سبيل المبالغة العظيمة ، إذ جعل ما هما عليه ، وإن كان شيا كلا شيء . هذا والشيء يطلق عند بعضهم على المعدوم والمستحيل ، فإذا نفى إطلاق اسم الشيء على ما هم عليه ، كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد به ، وصار كقولهم أقل من لا شيء .
( وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ( : جملة حالية ، أي وهم عالمون بما في كتبهم ، تالون له . وهذا نعي عليهم في مقالتهم تلك ، إذ الكتاب ناطق بخلاف ما يقولونه ، شاهدة توراتهم ببشارة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وصحة نبوّتهما . وإنجيلهم شاهد بصحة نبوة موسى ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ كتب الله يصدق بعضها بعضاً . وفي هذا تنبيه لأمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) في أن من كان عالماً بالقرآن ، يكون واقفاً عنده ، عاملاً بما فيه ، قائلاً بما تضمنه ، لا أن يخالف قوله ما هو شاهد على مخالفته منه ، فيكون في ذلك كاليهود والنصارى . والكتاب هنا قيل : هو التوراة والإنجيل . وقيل : التوراة ، لأن النصارى تمتثلها .
( كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ( : الذين لا يعلمون : هم مشركو العرب في قول الجمهور . وقيل : مشركو قريش . وقال عطاء : هم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى . وقال قوم : المراد اليهود ، وكأنه أعيد قولهم : أي قال اليهود مثل قول النصارى ، ونفى عنهم العلم حيث لم ينتفعوا به فجعلوا لا يعلمون . والظاهر القول

" صفحة رقم 523 "
الأول . وقال الزمخشري : أي مثل ذلك الذي سمعت على ذلك المنهاج . قال : الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب ، كعبدة الأصنام ، والمعطلة ونحوهم قالوا : لكل أهل دين ليسوا على شيء ، وهو توبيخ عظيم لهم ، حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم . والظاهر أن الكاف من كذلك في محل نصب ، إما على أنها نعت لمصدر محذوف تقديره : قولاً مثل ذلك القول ، ( قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( ، أو على أنه منصوب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه قال ، التقدير : مثل ذلك القول قاله ، أي قال القول الذين لا يعلمون ، وهذا على رأي سيبويه . وعلى الوجهين تنتصب الكاف بقال ، وانتصب على هذين التقديرين مثل قولهم على البدل من موضع الكاف . وقيل : ينتصب مثل قولهم على أنه مفعول بيعلمون ، أي الذين لا يعلمون مثل مقالة اليهود والنصارى ، قالوا : مثل : مقالتهم ، أي توافق الذين لا يعلمون مقالات النصارى ، واليهود مع اليهود والنصارى في ذلك ، أن من جهل قول اليهود والنصارى وافقهم في مثل ذلك القول . وجوّزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء ، والجملة بعده خبر ، والعائد محذوف تقديره : مثل ذلك قاله الذين . ولا يجوز لقال أن ينصب مثل قولهم نصب المفعول ، لأن قال قد أخذ مفعوله ، وهو الضمير المحذوف العائد على المبتدأ ، فينتصب إذ ذاك مثل قولهم على أنه صفة لمصدر محذوف ، أو على أنه مفعول ليعلمون ، أي مثل قولهم يعني اليهود والنصارى . قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى . انتهى ما قالوه في هذا الوجه ، وهو ضعيف لاستعمال الكاف اسماً ، وذلك عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ، مع أنه قد تؤوّل ما ورد من ذلك وأجاز ذلك ، أعني أن تكون اسماً في الكلام ، ويحذف الضمير العائد على المبتدأ المنصوب بالفعل ، الذي لو قدر خلوه من ذلك الضمير لتسلط على الظاهر قبله فنصبه ، وذلك نحو : زيد ضربته . نص أصحابنا على أن هذا الضمير لا يجوز حذفه إلا في الشعر ، وأنشدوا : وخالد يحمد ساداتنا
بالحق لا يحمد بالباطل
أي : يحمده ساداتنا . وعن بعض الكوفيين في جواز حذف نحو : هذا الضمير تفصيل مذكور في النحو .
( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( : أي يفصل ، والفصل : الحكم ، أو يريهم من يدخل الجنة عياناً ، ومن يدخل النار عياناً ، قاله الزجاج ، أو يكذبهم جميعاً ويدخلهم النار ، أو يثيب من كان على حق ، ويعذب من كان على باطل . وكلها أقوال متقاربة . والظرفان والجار الأول معمولان ليحكم ، وفيه متعلق بيختلفون .
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة أشياء منها : افتتاحها بحسن النداء ، وإثبات وصف الإيمان لهم ، وتنبيههم على تعلم أدب من آداب الشريعة ، بأن نهوا عن قول لفظ لإيهام مّا إلى لفظ أنص في المقصود ، وأصرح في المطلوب . ثم ذكر ما للمخالف من العذاب الذي يذله ويهينه . ثم نبه على أن هذا الذي أمرتم به هو خير ، وأن الكفار لا يودّون أن ينزل عليكم شيء من الخير . ثم ذكر أن ذلك ليس راجعاً لشهواتهم ، ولا لتمنيهم ، بل ذلك أمر إلهي يختص به من يشاء ، وأنه تعالى هو صاحب الفضل الواسع . ولما كان صدر الآية فيه انتقال من لفظ إلى لفظ ، وأن الثاني صار أنص في المقصود بين أن ما يفعله الله تعالى من النسخ ، فإنما ذلك لحكمة منه ، فيأتي بأفضل مما نسخ أو بما ماثله . وإن من كان قادراً على كل شيء ، فله التصرّف بما يريد من نسخ وغيره . ونبه المخاطب على علمه بقدرة الله تعالى ، وبملكه الشامل لسائر

" صفحة رقم 524 "
المخلوقات ، وإنما نحن ما لنا من دونه من مانع يمنعنا منه . فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ، ثم أنكر على من تعلقت إرادته بأن يسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) سؤالاً غير جائز ، كسؤالات قوم موسى له . ثم ذكر أن من آثر الكفر على الإيمان ، فقد خرج عن قصد المنهج . ثم ذكر أن الكثير من أهل الكتاب يودون ارتدادكم ، وأن الحامل لهم على ذلك الحسد . ثم أمروا بالموادعة والصفح ، وغيا ذلك بأمر الله ، فإذا أتى أمر الله ارتفع الأمر بالعفو والصفح .
ثم اختتم الآية بذكر قدره الله تعالى على كل شيء ، لأن قبله وعداً بتغيير حال ، فناسب ذلك ذكر القدرة . ثم أمرهم بما يقطع عنهم تلفت أقوال الكفار ، وهي الصلاة والزكاة ، وأخبر أن ما قدمتموه من الخير فإنه لا يضيع عند الله ، بل تجدوه مذخوراً لكم . ثم اختتم ذلك حيث نبه على أن ما عمل من الخير هو عند الله ، بذكر صفة البصر التي تدل على مشاهدة الأشياء ومعاينتها . ثم نعى على اليهود والنصارى من دعواهم أنهم مختصون بدخول الجنة ، وأن ذلك أكذوبة من أكاذيبهم المعروفة ، وأنهم طولبوا بإقامة البرهان على دعوى الاختصاص . ثم ذكر أن من انقاد ظاهراً وباطناً لله تعالى فله أجره وهو آمن ، فلا يخاف مما يأتي ولا يحزن على ما مضى . ثم أخذ يذكر مقالات النصارى واليهود بعضهم في بعض ، وأنها مقالة من أظهر التبرّؤ مما جاءت به الرسل وأفصحت عنه الكتب المنزلة ، وذلك كله على جهة العناد ، لأنهم تالون للكتب عالمون بما انطوت عليه ، فصاروا في الحياة الدنيا على مثل حالهم في الآخرة . كما أخبر تعالى عنهم بقوله : ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ). ثم ذكر أن مقالتهم تلك ، وإن كانوا عالمين ، فهي مماثلة لمقالة من لا يعلم ، ثم ختم ذلك بالوعيد الذي يتضمن الحكم وفصل الباطل من الحق ، وأنه تعالى هو المتولي ذلك ليجازيهم على كفرهم .
( ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَآ أُوْلَائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْألُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يَابَنِىإِسْرَاءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ الَّتِىأَنْعَمْتُ عَلَيْكُم وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( )
7 )
البقرة : ( 114 ) ومن أظلم ممن . . . . .
المنع : الحيلولة بين المريد ومراده . ولما كان الشيء قد يمنع صيانة ، صار المنع متعارفاً في المتنافس فيه ؛ قاله الراغب . وفعله : منع يمنع ، بفتح النون ، وهو القياس ، لأن لام الفعل أحد حروف الحلق . المساجد : معروفة ، وسيأتي الكلام على المفرد أول ما يذكر في القرآن ، إن شاء الله . السعي : المشي بسرعة ، وهو دون العدو ، ثم يطلق على الطلب ، كما قال امرؤ القيس :

" صفحة رقم 525 "
فلولا أن ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فسره الشراح بالطلب .
الخراب : ضد العمارة ، وهو مصدر خرب الشيء يخرب خراباً ، ويوصف به فيقال : منزل خراب ، واسم الفاعل : خرب ، كما قال أبو تمام : ما ربع مية معموراً يطيف به
غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب
والخرب : ذكر الحبارى ، يجمع على خربان . المشرق والمغرب : مكان الشروق والغروب ، وهما من الألفاظ التي جاءت على مفعل ، بكسر العين شذوذاً ، والقياس الفتح ، لأن كل فعل ثلاثي لم تكسر عين مضارعة ، فقياس صوغ المصدر منه ، والزمان والمكان مفعل ، بفتح العين . أين : من ظروف المكان ، وهو مبني لتضمنه في الاستفهام معنى حرفه ، وفي الشرط معنى حرفه ، وإذا كان للشرط جاز أن تزيد بعده ما ، ومما جاء فيه شرطاً بغير ما قوله :
أين تضرب بنا العداة تجدنا
وزعم بعضهم أن أصل أين : السؤال عن الأمكنة . ثم : ظرف مكان يشار به للبعيد ، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة ، وهو لازم للظرفية ، لم يتصرف فيه بغير من يقول : من ثم كان كذا . وقد وهم من أعرهبا مفعولاً به في قوله : ) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ). بل : مفعول رأيت محذوف . واسع : اسم فاعل من وسع يسع سعة ووسعاً ، ومقابلة ضاق ، إلا أن وسع يأتي متعدّياً : ) وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ، ( وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء ). الولد : معروف ، وهو فعل بمعنى مفعول ، كالقبض والنقض ، ولا ينقاس فعل بمعنى مفعول ، وفعله : ولد يلد ولادة ووليدية ، وهذا المصدر الثاني غريب . القنوت : القيام ، ومنه أفضل الصلاة طول القنوت ، أي القيام والطاعة والعبادة والدعاء . قنت شهراً : دعا . البديع : النادر الغريب الشكل . بدع يبدع بداعة فهو بديع ، إذا كان نادراً ، غريب الصورة في الحسن ، وهو راجع لمعنى الابتداع ، وهو الاختراع والإنشاء . قضى : قدّر ، ويجيء بمعنى أمضى . قضى يقضي قضاء . قال : سأغسل عني العار بالسيف جالبا
عليّ قضاء الله ما كان جالبا
قال الأزهري : قضى على وجوه ، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه ، قال أبو ذؤيب : وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع

" صفحة رقم 526 "
وقال الشماخ في عمر : قضيت أموراً ثم غادرت بعدها
بوائق في أكمامها لم تفتق
فيكون بمعنى خلق : ) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( ، وأعلم : ) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ ( ، وأمر : ) وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( ، وألزم ، منه قضى القاضي ، ووفى : ) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ ( ، وأراد : ) إِذَا قَضَى أَمْرًا ). لولا : حرف تحضيض ، وجاء ذلك في القرآن كثيراً ، وحكمها حكم هلا ، وتأتي أيضاً حرف امتناع لوجود ، وأحكامها بمعنييها مذكورة في كتب النحو ، ومنها أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمراً ، وتلك لا يليها إلا الاسم ، على خلاف في إعرابه . الجحيم : إحدى طبقات النار ، أعاذنا الله منها . وقال الفراء : الجحيم : النار على النار . وقال أبو عبيد : النار المستحكمة المتلظية . وقال الزجاج : النار الشديدة الوقود ، يقال جحمت النار تحجم : اشتدّ وقودها . وهذه كلها أقوال يقرب بعضها من بعض . وقال ابن فارس : الجاحم : المكان الشديد الحر ، ويقال لعين الأسد : جحمة ، لشدة توقدها ، ويقال لشدة الحر : جاحم ، قال : والحرب لا يبقى لجا
حمها التخيل والمراح
الرضا : معروف ، ويقابله الغضب ، وفعله رضي يرضى رضاً بالقصر ، ورضاء بالمد ، ورضواناً ، فياؤه منقلبة عن واو يدل على ذلك الرضوان ، والأكثر تعديته بعن وقد جاء تعديته بعلى ، قال :
إذا رضيت عليّ بنو قشير
وخرج على أن يكون على بمعنى عن ، أو على تضمين رضي معنى عطف ، فعدي بعلى كما تعدى عطف . الملة : الطريقة ، وكثر استعمالها بمعنى الشريعة ، فقيل : الاشتقاق من أمللت ، لأن الشريعة تبتني على متلو ومسموع . وقيل : من قولهم طريق ممل ، أي قد أثر المشي فيه . الخسران والخسارة : هو النقص من رأس المال في التجارة ، هذا أصله ، ثم يستعمل في النقص مطلقاً ، وفعله متعد ، كما أن مقابله متعد ، وهو الربح . تقول : خسر درهماً ، كما تقول : ربح درهماً . وقال : ) خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ ).
) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ( : نزلت في نطوس بن اسبيسيانوس الرومي ، الذي خرب بيت المقدس ، ولم يزل خراباً إلى أن عمر في زمان عمر بن الخطاب . وقيل في مشركي العرب : منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام ، قاله عطاء ، عن ابن عباس ، أو في النصارى ، كانوا يودون خراب بيت المقدس ، ويطرحون به الأقذار . وروي عن ابن عباس ، وقال قتادة والسدي ، في الروم الذين أعانوا بختنصر على تخريب بيت المقدس : حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكريا ، على نبينا وعليه السلام ، قال أبو بكر الرازي : لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل . وقيل في بختنصر ، قاله قتادة ، وقال ابن زيد وأبو مسلم : المراد كفار قريش حين صدوا : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن المسجد الحرام . وعلى اختلاف هذه الأقوال يجيء الاختلاف في تفسير المانع والمساجد .
وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل

" صفحة رقم 527 "
مسجد ، والعموم وإن كان سبب نزوله خاصاً ، فالعبرة به لا بخصوص السبب .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه جرى ذكر النصارى في قوله : ) وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْء ( ، وجرى ذكر المشركين في قوله : ) كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ( ، وفي أي نزلت منهم كان ذلك مناسباً لذكرها تلي ما قبلها . ومن : استفهام ، وهو مرفوع بالابتداء . وأظلم : أفعل تفضيل ، وهو خبر عن من . ولا يراد بالاستفهام هنا حقيقته ، وإنما هو بمعنى النفي ، كما قال : ) فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( ؟ أي ما يهلك . ومعنى هذا : لا أحد أظلم ممن منع . وقد تكرر هذا اللفظ في القرآن ، وهذا أول موارده ، وقال تعالى : ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ). وقال : ) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ ( ؟ ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ( ؟ إلى غير ذلك من الآيات . ولما كان هذا الاستفهام معناه النفي كان خبراً ، ولما كان خبراً توهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها سبق إلى ذهنه التناقض فيها ، لأنه قال المتأول في هذا : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، وقال في أخرى : لا أحد أظلم ممن افترى ، وفي أخرى : لا ؛ أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها . فتأول ذلك على أن خص كل واحد بمعنى صلته ، فكأنه قال : لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله ، وكذلك باقيها . فإذا تخصصت بالصلات زال عنده التناقض . وقال غيره : التخصيص يكون بالنسبة إلى السبق ، لما لم يسبق أحد إلى مثله ، حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم ، سالكاً طريقتهم في ذلك ، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية ، أو الافترائية . وهذا كله بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي ، وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى . وإنما هذا نفي للأظلمية ، ونفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية ، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق . لو قلت : ما في الدار رجل ظريف ، لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل ، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يكن تناقضاً ، لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية . وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ، لأنهم يتساوون في الأظلمية . وصار المعنى : لا أحد أظلم ممن منع ، وممن افترى ، وممن ذكر . ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية . ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر . كما أنك إذا قلت : لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد ، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر ، بل نفي أن يكون أحد أفقه منهم . لا يقال : إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، وسعى في خرابها ، ولم يفتر على الله الكذب ، أقلّ ظلماً ممن جمع بينهما ، فلا يكون مساوياً في الأظلمية ، لأن هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار ، فهم متساوون في الأظلمية ، وإن اختلفت طرق الأظلمية . فكلها صائرة إلى الكفر ، فهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به ، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم ، وللعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة ، فنقول : الكافر أظلم من المؤمن ، ونقول : لا أحد أظلم من الكافر . ومعناه : أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره . ومن في قوله : ممن منع ، موصولة بمعنى الذي . وجوّز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة . أن يذكر : يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً لمنع ، أو مفعولاً من أجله ، فيتعين حذف مضاف ، أي دخول مساجد الله ، أو ما أشبه ذلك ، أو بدلاً من مساجد بدل اشتمال ، أي ذكر اسم الله فيها ، أو مفعولاً على إسقاط حرف الجر ، أي من أن يذكر . فلما حذفت من انتصب على رأي ، أو بقي مجروراً على رأي . وكنى بذكر اسم الله عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقرّبات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية ، من تلاوة كتبه ، وحركات الجسم من القيام

" صفحة رقم 528 "
والركوع والسجود والقعود الذي تعبد به ، أو إنما ذكر تعلق المنع بذكر اسم الله تنبيهاً على أنهم منعوا من أيسر الأشياء ، وهو التلفظ باسم الله . فمنعهم لما سواه أولى . وحذف الفاعل هنا اختصاراً ، لأنهم عالم لا يحصون . وجاء تقديم المجرور على المفعول الذي لم يسم فاعله ، لأن المحدث عنه قبل هي مساجد الله ، وهي في اللفظ مذكورة قبل اسم الله ، فناسب تقديم المجرور لذلك . وأضيفت المساجد لله على سبيل التشريف ، كما قال تعالى : ) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ( ، وخصّ بلفظ المسجد ، وإن كان الذي يوقع فيه أفعالاً كثيرة من القيام والركوع والقعود والعكوف . وكل هذا متعبد به ، ولم يقل مقام ولا مركع ولا مقعد ولا معكف ، لأن السجود أعظم الهيئات الدالة على الخضوع والخشوع والطواعية التامة . ألا ترى إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) ؟ وهي حالة يلقي فيها الإنسان نفسه للانقياد التام ، ويباشر بأفضل ما فيه وأعلاه ، وهو الوجه ، التراب الذي هو موطىء قدميه .
قال ابن عطية : وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة ، أو خرّب مدينة إسلام ، لأنها مساجد ، وإن لم تكن موقوفة ، إذ الأرض كلها مسجد . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف قيل مساجد الله ؟ وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس ، أو المسجد الحرام ؟ قلت : لا بأس أن يجيء الحكم عامًّا ، وإن كان السبب خاصاً ، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً ، ومن أظلم ممن آذى الصالحين ؟ وكما قال الله عز وجل : ) وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ( ، والمنزول فيه الأخنس بن شريق . انتهى كلامه . وقال غيره : جمعت لأنها قبلة المساجد كلها ، يعني الكعبة للمسلمين ، وبيت المقدس لغيره . ) وَسَعَى فِى خَرَابِهَا ( : إما حقيقة ، كتخريب بيت المقدس ، أو مجازاً بانقطاع الذكر فيها ومنع قاصديها منها ، إذ ذلك يؤول بها إلى الخراب . فجعل المنع خراباً ، كما جعل التعاهد بالذكر والصلاة عمارة ، وذلك مجار . وقال المروزي : قال ومن أظلم ليعلم أن قبح الإعتقاد يورث تخريب المساجد ، كما أن حسن الإعتقاد يورث عمارة المساجد .
( أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ ( : هذه جملة خبرية قالوا تدلّ على ما يقع في المستقبل ، وذلك من معجز القرآن ، إذ هو من الإخبار بالغيب . وفيها بشارة للمؤمنين بعلوّ كلمة الإسلام وقهر من عاداه . إلا خائفين : نصب على الحال ، وهو استثناء مفرّغ من الأحوال . وقرأ أبي : إلا خيفاً ، وهو جمع خائف ، كنائم ونوّم ، ولم يجعلها فاصلة ، فلذلك جمعت جمع التكسير . وإبدال الواو ياء ، إذ الأصل خوّف ، وذلك جائز كقولهم ، في صوم صيم ، وخوفهم : هو ما يلحقهم من الصغار والذل والجزية ، أو من أن يبطش بهم المؤمنون ، أو في المحاكمة ، وهي تتضمن الخوف ، أو ضرباً موجعاً ، لأن النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلا خائفين من الضرب ، أقوال . والظاهر أن المعنى : أولئك ما ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا وهم خائفون من الله وجلون من عقابه . فكيف لهم أن يلتبسوا بمنعها من ذكر الله والسعي في تخريبها ، إذ هي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ) يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ ( ؟ وما هذه سبيله ينبغي أن يعظم بذكر الله فيه ، ويسعى في عمارته ، ولا يدخله الإنسان إلا وجلاً خائفاً ، إذ هو بيت الله أمر بالمثول فيه بين يديه للعبادة . ونظير الآية أن يقول : ومن أظلم ممن قتل ولياً لله تعالى ؟ ما كان له أن يلقاه إلا معظماً له مكرّماً أي هذه حالة من يلقى ولياً لله ، لا أن يباشره بالقتل . ففي ذلك تقبيح عظيم على ما وقع منه ، إذ كان ينبغي أن يقع ضده ، وهو التبجيل والتعظيم . ولما لم يقع هذا المعنى الذي ذكرناه للمفسرين ، اختلفوا في الآية على تلك الأقوال التي ذكرناها عنهم . ولو أريد ما ذكروه ، لكان اللفظ : أولئك ما يدخلونها إلا خائفين ، ولم يأت بلفظ : ما كان لهم ، الدالة على نفي الابتغاء . وقيل المعنى : ما كان لهم في حكم الله ، يعني أن الله قد حكم وكتب في اللوح المحفوظ أنه ينصر المؤمنين ويقوّيهم حتى لا يدخل المساجد الكفار إلا خائفين . قال بعض الناس : وفيها دلالة على جواز دخول الكفار المساجد على صفة الخوف ، وليس كما قال ، إذ قد ذكرنا ما دلّ عليه ظاهر الآية . وقيل في قوله : ) أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا ( : أن لفظه لفظ الخبر ، ومعناه الأمر لنا بأن نخيفهم ، وإنما ذهب إلى ذلك لأن الله تعالى قد أخبر أنهم سيدخلون بيت المقدس على سبيل القهر والغلبة بقوله

" صفحة رقم 529 "
) فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَةِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ( ، ولأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أخبر أن ذا السويقتين من الحبشة يهدم الكعبة حجراً حجراً . فلما رأى أن هذا يعارض الآية ، إذا جعلناها خبراً لفظاً ، ومعنى حملها على الأمر ودلالتها على الأمر لنا بالإخافة لهم بعيدة جداً ، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه ، بطلت هذه الأقوال . وأما قوله تعالى : ) فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَةِ ( ، فليس ذلك كناية عن يوم القيامة ، وسيأتي الكلام عليه في موضعه ، إن شاء الله تعالى . وقوله : ) أُوْلَائِكَ ( ، حمل على معنى من في قوله : ) وَمَنْ أَظْلَمُ ( ، ولا يختص الحمل فيها على اللفظ وعلى المعنى بكونها موصولة ، بل هي كذلك في سائر معانيها من الوصل والشرط والاستفهام ، وكلاهما موجود فيها في سائر معانيها في كلام العرب . أما إذا كانت موصوفة نحو : مررت بمن محسن لك ، فليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى فيها . وقد تكلمنا قبل على كونها موصوفة . وقال بعض الناس في قوله تعالى : ) وَمَنْ أَظْلَمُ ( : الآية ، دليل على منع دخول الكافر المسجد ، ثم ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك ، وهي مسألة تذكر في علم الفقه ، وليس في الآية ما يدل على ما ذكره على ما فهمنا نحن من الآية .
( لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( : هذا الجزاء مناسب لما صدر منهم . أما الخزي في الدنيا فهو الهوان والإذلال ، وهو مناسب للوصف الأول ، لأن فيه إخمال المساجد بعدم ذكر الله وتعطيلها من ذلك ، فجوزوا على ذلك بالإذلال والهوان . وأما العذاب العظيم في الآخرة ، فهو العذاب بالنار ، وهو إتلاف لهياكلهم وصورهم ، وتخريب لها بعد تخريب ) كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ ). وهو مناسب للوصف الثاني ، وهو سعيهم في تخريب المساجد ، فجوزوا على ذلك بتخريب صورهم وتمزيقها بالعذاب . ولما كان الخزي الذي يلحقهم في الدنيا لا يتفاوتون فيه حكماً ، سواء فسرته بقتل أو سبي للحربي ، أو جزية للذمي ، لم يحتج إلى وصف . ولما كان العذاب متفاوتاً ، أعني عذاب الكافر وعذاب المؤمن ، وصف عذاب الكافر بالعظم ليتميز من عذاب المؤمن . وقيل : الخزي هو الفتح الإسلامي ، كالقسطنطينية وعمورية ورومية ، وقيل : جزية الذمي ، قاله ابن عباس ، وقيل : طردهم عن المسجد الحرام ، وقيل : قتل المهدي إياهم إذا خرج ، قاله المروزي ، وقيل : منعهم من المساجد . قال بعض معاصرينا : إن على كل طائفة من الكفار في الدنيا خزياً . أما اليهود والنصارى ، فقتل قريظة ، وإجلاء بني النضير ، وقتل النصارى وفتح حصونهم وبلادهم ، وإجراء الجزية عليهم ، والسيما التي التزموها ، وما شرطه عمر عليهم . وأما مشركو العرب ، فقتل أبطالهم وأقيالهم ، وكسر أصنامهم ، وتسفيه أحلامهم ، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم ومسقط رؤوسهم ، وإلزامهم خطة الهلاك من القتل إلا أن يسلموا . وقال الفرّاء : معناه في آخر الدنيا ، وهو ما وعد الله به المسلمين من فتح الروم ، ولم يكن بعد . قال القشيري : في قوله تعالى : ) وَمَنْ أَظْلَمُ ( الآية ، إشارة إلى ظلم من خرّب أوطان المعرفة بالمنى والعلاقات ، وهي قلوب العارفين وأوطان العبادة بالشهوات ، وهي نفوس العباد وأوطان المحبة بالحظوظ والمساكنات ، وهي أرواح الواجدين وأوطان المشاهدات بالالتفات إلى القربات ، وهي أسرار الموحدين . ) لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ ( : ذل الحجاب ، وفي الآخرة عذاب لاقتناعهم بالدرجات . انتهى ، وبعضه ملخص . وهذا تفسير عجيب ينبو عنه لفظ القرآن ، وكذا أكثر ما يقوله هؤلاء القوم .
البقرة : ( 115 ) ولله المشرق والمغرب . . . . .
( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( : قال الحسن وقتادة : أباح لهم في الابتداء أن يصلوا حيث شاؤا ، فنسخ ذلك . وقال مجاهد والضحاك : معناها إشارة إلى الكعبة ، أي حيثما كنتم من المشرق والمغرب ، فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة . فعلى هذا هي ناسخة لبيت المقدس . وقال أبو العالية وابن زيد : نزلت جواباً لمن عير من اليهود بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة . وقال ابن عمر : نزلت في صلاة المسافر ، حيث توجهت به دابته . وقيل : جواب لمن قال : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ قاله سعيد بن جبير . وقيل : في الصلاة على النجاشي ، حيث قالوا : لم يكن يصلي إلى قبلتنا . وقيل : فيمن اشتبهت

" صفحة رقم 530 "
عليه القبلة في ليلة متغيمة ، فصلوا بالتحري إلى جهات مختلفة . وقد روي ذلك في حديث عن جابر ، أن ذلك وقع لسرية ، وعن عامر بن ربيعة ، أن ذلك جرى مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في السفر ، ولو صح ذلك ، لم يعدل إلى سواه من هذه الأقوال المختلفة المضطربة . وقال النخعي : الآية عامّة ، أينما تولوا في متصرّفاتكم ومساعيكم . وقيل : نزلت حين صدر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن البيت .
وهذه أقوال كثيرة في سبب نزول هذه الآية ، وظاهرها التعارض ، ولا ينبغي أن يقبل منها إلا ما صح ، وقد شحن المفسرون كتبهم بنقلها . وقد صنف الواحدي في ذلك كتاباً قلما يصح فيه شيء ، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح . والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو : أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر الله والسعي في تخريبها ، نبه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات ، ولا من ذكر الله ، إذ المشرق والمغرب لله تعالى ، فأي جهة أدّيتم فيها العبادة ، فهي لله يثيب على ذلك ، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد . والمعنى : ولله بلاد المشرق والمغرب وما بينهما . فيكون على حذف مضاف ، أو يكون المعنى : ولله المشرق والمغرب وما بينهما ، فيكون على حذف معطوف ، أو اقتصر على ذكرهما تشريفاً لهما ، حيث أضيفا لله ، وإن كانت الأشياء كلها لله ، كما شرف البيت الحرام وغيره من الأماكن بالإضافة إليه تعالى . وهذا كله على تقدير أن يكون المشرق والمغرب أسمى مكان .
وذهب بعض المفسرين إلى أنهما اسما مصدر ، والمعنى أن لله تولى إشراق الشمس من مشرقها وإغرابها من مغربها ، فيكونان ، إذ ذاك ، بمعنى الشروق والغروب . ويبعد هذا القول قوله بعد : ) فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ). وأفرد المشرق والمغرب باعتبار الناحية ، أو باعتبار المصدر الواقع في الناحية . وأما الجمع فباعتبار اختلاف المغارب والمطالع كل يوم . وأما التثنية فباعتبار مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما . ومعنى التولية : الاستقبال بالوجوه . وقيل : معناها الاستدبار من قولك : وليت عن فلان إذا استدبرته ، فيكون التقدير : فأي جهة وليتم عنها واستقبلتم غيرها فثم وجه الله . وقيل : ليست في الصلاة ، بل هو خطاب للذين يخرّبون المساجد ، أي أينما تولوا هاربين عني فإني ألحظهم . ويقويه قراءة الحسن : فأينما تولوا ، جعله للغائب ، فجرى على قوله : ) لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ ( ، وعلى قوله : ) وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ( ، فجرت الضمائر على نسق واحد . قال الزمخشري : ففي أي مكان فعلتم التولية ، يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى : ) فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ( ، انتهى . فقيد التولية التي هي مطلقة بالتولية التي هي شطر القبلة ، وهو قول حسن . وقد ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى : ) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ( مسائل موضوعها علم الفقه منها : من صلى في ظلمة مجتهداً إلى جهة ، ثم تبين أنه صلى لغير القبلة ، ومسألة من صلى على ظهر الدابة فرضاً لمرض أو نفلاً ، ومسألة الصلاة على الميت الغائب ، إذا قلنا نزلت في النجاشي ، وشحن كتابه بذكر هذه المسائل ، وذكر الخلاف فيها ، وبعض دلائلها وموضوعها ، كما ذكرناه هو علم الفقه . ) فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( ، هذا جواب الشرط ، وهي جملة ابتدائية ، فقيل : معناه فثمّ قبلة الله ، فيكون الوجه بمعنى الجهة ، وأضيف ذلك إلى الله حيث أمر باستقبالها ، فهي الجهة التي فيها رضا الله تعالى ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل . وقيل : الوجه هنا صلة ، والمعنى فثمّ الله أي علمه وحكمه . وروي عن ابن عباس ومقاتل : أو عبر عن الذات بالوجه ، كقوله تعالى : ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ( ، ( كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( ، وقيل : المعنى العمل لله ، قاله الفراء ، قال : أستغفر الله ذنباً لست محصيه
رب العباد إليه الوجه والعمل
وقيل : يحتمل أن يراد بالوجه هنا : الجاه ، كما يقال : فلان وجه القوم ، أي موضع شرفهم ، ولفلان وجه عند الناس :

" صفحة رقم 531 "
أي جاه وشرف . والتقدير : فثمّ جلال الله وعظمته ، قاله أبو منصور في المقنع . وحيث جاء الوجه مضافاً إلى الله تعالى ، فله محمل في لسان العرب ، إذ هو لفظ يطلق على معان ، ويستحيل أن يحمل على العضو ، وإن كان ذلك أشهر فيه . وقد ذهب بعض الناس إلى أن تلك صفة ثابتة لله بالسمع ، زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى . وضعف أبو العالية وغيره هذا القول ، لأن فيه الجزم بإثبات صفة لله تعالى بلفظ محتمل ، وهي صفة لا يدرى ما هي ، ولا يعقل معناها في اللسان العربي ، فوجب إطراح هذا القول والإعتماد على ما له محمل في لسان العرب . إذا كان للفظ دلالة على التجسيم فنحمله ، إمّا على ما يسوغ فيه من الحقيقة التي يصح نسبتها إلى الله تعالى إن كان اللفظ مشتركاً ، أو من المجاز إن كان اللفظ غير مشترك . والمجاز في كلام العرب أكثر من رمل يبرين ونهر فلسطين .
فالوقوف مع ظاهر اللفظ الدال على التجسيم غباوة وجهل بلسان العرب وأنحائها ومتصرّفاتها في كلامها ، وحجج العقول التي مرجع حمل الألفاظ المشكلة إليها . ونعوذ بالله أن نكون كالكرامية ، ومن سلك مسلكهم في إثبات التجسيم ونسبة الأعضاء لله ، تعالى الله عما يقول المفترون علواً كبيراً . وفي قوله : ) فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( ردّ على من يقول : إنه في حيز وجهة ، لأنه لما خير في استقبال جميع الجهات دل على أنه ليس في جهة ولا حيز ، ولو كان في حيز لكان استقباله والتوجه إليه أحق من جميع الأماكن . فحيث لم يخصص مكاناً ، علمنا أنه لا في جهة ولا حيز ، بل جميع الجهات في ملكه وتحت ملكه ، فأي جهة توجهنا إليه فيها على وجه الخضوع كنا معظمين له ممتثلين لأمره .
( إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ ( : وصف تعالى نفسه بصفة الواسع ، فقيل ذلك لسعة مغفرته . وجاء : ) إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ( ، وهو معنى قول الكلبي : لا يتعاظمه ذنب . وقيل : واسع العطاء ، وهو معنى قول أبي عبيدة : غني ، ومعنى قول الفراء : جواد . وقيل : معناه عالم ، من قوله : ) وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ، على أحد التفاسير ، وجمع بينه وبين عليم على سبيل التأكيد . وقيل : واسع القدرة . وقيل : معناه يوسع على عباده في الحكم دينه يسر . عليم : أي بمصالحهم أو بنيات القلوب التي هي ملاك العمل ، وإن اختلفت ظواهرها في قبلة وغيرها . وهذه التفاسير على قول من قال : إن الآية نزلت في أمر القبلة . وقال القفال : ليس فيها ذكر القبلة والصلاة ، وإنما أخبرهم تعالى عن علمه بهم ، وطوق سلطانه إياهم حيث كانوا ، كقوله تعالى : ) إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ( ، الآية ، وقوله : ) مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ( الآية ، ويكون في هذا تهديد لمن منع مساجد الله من الذكر ، وسعى في خرابها ، أنه لا مهرب له من الله ولا مفر ، كما قال تعالى : ) أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( ، وكما قال : فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقال : ولم يكن المغتر بالله إذ سرى
ليعجز والمغتر بالله طالبه
وقال : أين المفر ولا مفر لهارب
وله البسيطان الثرى والماء
وعلى هذا المعنى يكون الخطاب عاماً مندرج فيه من منع المساجد من الذكر وغيره . وجاءت هذه الجملة مؤكدة بأن مصرحاً باسم الله فيها دالة على الاستقلال . وقد قدّمنا ذلك في قوله : ) تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ( ، وكقوله : ) وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ، وذلك أفخم وأجزل من الضمير ، لأن الضمير يشعر بقوة التعلق والظاهر يشعر بالاستقلال . ألا ترى أنه يصح الابتداء به ، وإن لم يلحظ ما قبله ؟ بخلاف الضمير ، فإنه رابط

" صفحة رقم 532 "
للجملة التي هو فيها بالجملة التي قبلها . ألا ترى إلى أن أكثر ما ورد في القرآن من ذلك إنما جاء بالظاهر ؟ كما مثلناه ، وكقوله : ) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ ( ، ( وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ ( ، وقال : ليت شعري وأين مني ليت
إن ليتا وإن لوّا عناء
البقرة : ( 116 ) وقالوا اتخذ الله . . . . .
( وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ ( : نزلت في اليهود ، إذ قالوا : ) عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ( ، أو في النصارى ، إذ قالوا : ) الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ( ، أو في المشركين ، إذ قالوا : الملائكة بنات الله ، أو في النصارى والمشركين ، أقوال أربعة ، والأخير قاله الزجاج . ولاختلافهم في سبب النزول ، اختلفوا في الضمير في وقالوا ، على من يعود ؟ فقيل : هو عائد على الجميع من غير تخصيص . فإن كلاً منهم قد جعل لله ولداً ، قاله ابن إسحاق ، والجمهور على قراءة : وقالوا بالواو ، وهو آكد في الربط ، فيكون عطف جملة خبرية على جملة مثلها . وقيل : هو عطف على قوله : ) وَسَعَى فِى خَرَابِهَا ( ، فيكون معطوفاً على معطوف على الصلة ، وفصل بينهما بالجمل الكثيرة ، وهذا بعيد جداً ، ينزه القرآن عن مثله . وقرأ ابن عباس وابن عامر وغيرهما : قالوا بغي واو ، ويكون على استئناف الكلام ، أو ملحوظاً فيه معنى العطف ، واكتفى بالضمير والربط به عن الربط بالواو . وقال الفارسي : وبغير واو هي في مصاحف أهل الشام . تقدم أن اتخذ : افتعل من الأخذ ، وأنها تارة تتعدى إلى واحد نحو قوله : ) اتَّخَذَتْ بَيْتاً ( ، قالوا : معناه صنعت وعملت ، وإلى اثنين فتكون بمعنى : صير . وكلا الوجهين يحتمل هنا . وكل من الوجهين يقتضي تصوره باستحالة الولد ، لأن الولد يكون من جنس الوالد . فإن جعلت اتخذ بمعنى عمل وصنع ، استحال ذلك ، لأن الباري تعالى منزه عن الحدوث ، قديم ، لا أولية لقدمه ، وما عمله محدث ، فاستحال أن يكون ولد له . وإن جعلت اتخذ بمعنى صير ، استحال أيضاً ، لأن التصيير هو نقل من حال إلى حال ، وهذا لا يكون إلا فيما يقبل التغيير ، وفرضية الولد به تقتضي أن يكون من جنس الوالد لا تقتضي التغيير ، فقد استحال ذلك . وإذا جعلت اتخذ بمعنى صير ، كان أحد المفعولين محذوفاً ، التقدير : وقالوا اتخذ بعض الموجودات ولداً . والذي جاء في القرآن إنما ظاهره التعدي إلى واحد ، قال تعالى : ) وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ( ، ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ ( ، ( وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ). وقال القشيري : أتى بالولد ، وهو إحدى الذات ، لا جزاء لذاته ، ولا تجوز الشهوة في صفاته . انتهى .
ولما كانت هذه المقالة من أفسد الأشياء وأوضحها في الاستحالة ، أتى باللفظ الذي يقتضي التنزيه والبراءة من الأشياء التي لا تجوز على الله تعالى ، قبل أن يضرب عن مقالتهم ويستدل على بطلان دعواهم . وكان ذكر التنزيه أسبق ، لأن فيه ردعاً لمدعي ذلك ، وأنهم ادعوا أمراً تنزه الله عنه وتقدس ، ثم أخذ في إبطال تلك المقالة فقال : ) بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : أي جميع ذلك مملوك له ، ومن جملتهم من ادعوا أنه ولداً لله . والولادة تنافي الملكية ، لأن الوالد لا يملك ولده . وقد ذكر بعض المفسرين هنا مسألة من اشترى والد أو ولده أو أحداً من ذوي رحمة ، وموضوعها علم الفقه . ولما ذكر أن الكل مملوك لله تعالى ، ذكر أنهم كلهم قانتون له ، أي مطيعون خاضعون له . وهذه عادة المملوك ، أن يكون طائعاً لمالكه ، ممتثلاً لما يريده منه . واستدل بنتيجة الطواعية على ثبوت الملكية . ومن كان بهذه الصفة لم يجانس الوالد ، إذ الولد يكون من جنس الوالد . وأتى بلفظ ما في قوله : ) بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ، وإن كانت لما لا يعقل ، لأن ما لا يعقل إذا اختلط بمن يعقل جاز أن يعبر عن الجميع بما . ولذلك قال سيبويه : وأما ما ، فإنها مبهمة تقع على كل شيء ، ويدل على اندراج من يعقل تحت مدلول ما جمع الخبر بالواو والنون ، التي هي حقيقة فيما

" صفحة رقم 533 "
يعقل ، واندرج فيه ما لا يعقل على حكم تغليب من يعقل . فحين ذكر الملك ، أتى بلفظة ما ، وحين ذكر القنوت ، أتى بجمع ما يعقل ، فدل على أن ذلك شامل لمن يعقل وما لا يعقل . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاء بما الذي لغير أولي العلم مع قوله قانتون ؟ قلت : هو كقوله : سبحان ما سخركن لنا ، وكأنه جاء بما دون من ، تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم ، كقوله : ) وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ). انتهى كلامه ، وهو جنوح منه إلى أن ما وقعت على من يعلم ، ولذلك جعله كقوله : ) مَا وَقَالُواْ لَنَا ). يريد أن المعنى : سبحان من سخركن لنا ، لأنها يراد بها الله تعالى . وما عندنا لا يقع إلا لما لا يعقل ، إلا إذا اختلط بمن يعقل ، فيقع عليهما ، كما ذكرناه ، أو كان واقعاً على صفات من يعقل ، فيعبر عنها بما . وأما أن يقع لمن يعقل ، خاصة حالة إفراده أو غير إفراده ، فلا . وقد أجاز ذلك بعض النحويين ، وهو مذهب لا يقوم عليه دليل ، إذ جميع ما احتج به لهذا المذهب محتمل ، وقد يؤول ، فيؤول قوله : ) سُبْحَانَ مَا ( ، على أن سبحان غير مضاف ، وأنه علم لمعنى التسبيح ، فهو كقوله :
سبحان من علقمة الفاخر
وما : ظرفية مصدرية أي مدة تسخيركن لنا . والفاعل يسخر مضمر يفسره المعنى وسياق الكلام ، إذ معلوم أن مسخرهن هو الله تعالى . وقول الزمخشري : وكأنه جاء بما دون من ، تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم ، ليست ما هنا مختصة بمن يعقل ، فتقول عبر عنهم بما التي لما لا يعقل تحقيراً لهم ، وإنما هي عامة لمن يعقل ولما لا يعقل . ومعنى قانتون : قائمون بالشهادة ، قاله الحسن ، أو في القيامة للعرض ، قاله الربيع ، أو مطيعون ، قاله قتادة ؛ أو مقرّون بالعبودية ، قاله عكرمة . وقيل : قائمون بالله . وأورد على من يقول القنوت : القيام لله بالشهادة والعبودية ، أنه : كيف عم بهذا القول وكثير ليس بمطيع ؟ وأجيب : أن ظاهره العموم ، والمعنى الخصوص ، أي أهل كل طاعة له قانتون ، وبأن الكفار يسجد ضلالهم ، وبظهور أثر الصنعة فيه ، وجرى أحكام الله عليه ، وذلك دليل على تذلله لله تعالى ، ذكره ابن الأنباري .
( وَكُلٌّ لَهُ ( : مرفوع بالابتداء ، والمضاف إليه محذوف ، وهو عبارة عن من في السموات والأرض ، أي كل من في السموات والأرض ، وهو المحكوم عليهم بالملكية . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولداً ، وهذا بعيد جداً ، لأن المجعول لله ولداً لم يجر ذكره ، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولداً وغيره . و ) قَانِتُونَ ( : خبر عن كل ، وجمع حملاً على المعنى . وكلّ ، إذا حذف ما تضاف إليه ، جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع ، ومراعاة اللفظ فتفرد . وإنما حسنت مراعاة الجمع هنا ، لأنها فاصلة رأس آية ، ولأن الأكثر في لسانهم أنه إذا قطعت عن الإضافة كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن . قال تعالى : ) وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ ( ، ( وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ( ، و ) كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ). وقد جاء إفراد الخبر كقوله : ) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ( ، وسيأتي إن شاء الله تعالى هناك ذكر محسن إفراد الخبر .
البقرة : ( 117 ) بديع السماوات والأرض . . . . .
( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : لما ذكر أنه مالك لجميع من في السموات والأرض ، وأنهم كلّ قانتون له ، وهم المظروف للسموات والأرض ، ذكر الظرفين وخصهما بالبداعة ، لأنهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات . وارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل . فالمجرور مشبه بالمفعول ، وأصله الأول بديع سمواته ، ثم شبه الوصف فأضمر فيه ، فنصب السموات ، ثم جر من نصب . وفيه أيضاً ضمير يعود على الله تعالى ، ويكون المعنى في الأصل أنه تعالى بدعت

" صفحة رقم 534 "
سمواته ، أي جاءت في الخلق على شكل مبتدع لم يسبق نظيره . وهذا الوجه ابتدأ به الزمخشري ، إلا أنه قال : وبديع السموات من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، وهذا ليس عندنا . كذلك بل من إضافة الصفة المشبهة إلى منصوبها . والصفة عندنا لا تكون مشبهة حتى تنصب أو تخفض ، وأما إذا رفعت ما بعدها فليس عندنا صفة مشبهة ، لأن عمل الرفع في الفاعل يستوي فيه الصفات المتعدية وغير المتعدية . فإذا قلنا : زيد قائم أبوه ، فقائم رافع للأب على حدّ رفع ضارب له . إذا قلت : زيد ضارب أبوه عمراً ، لا تقول : إن قائماً هنا من حيث عمل الرفع شبه بضارب ، وإذا كان كذلك ، فإضافة اسم الفاعل إلى مرفوعه لا يجوز لما تقرّر في علم العربية ، إلا إن أخذنا كلام الزمخشري على التجوّز فيمكن ، ويكون المعنى من إضافة الصفة المشبهة إلى ما كان فاعلاً بها قبل أن يشبه . وحكى الزمخشري وجهاً ثانياً قال : وقيل البديع بمعنى المبدع ، كما أن السميع في قول عمرو :
أمن ريحانة الداعي السميع
بمعنى : المسمع ، وفيه نظر . انتهى كلامه . وهذا الوجه لم يذكر ابن عطية غيره ، قال : وبديع مصروف من مبدع ، كبصير من مبصر ، ومنه قول عمرو بن معدى كرب : أمن ريحانة الداعي السمي
ع يؤرّقني وأصحابي هجوع
يريد : المسمع والمبدع والمنشىء ، ومنه أصحاب البدع ، ومنه قول عمر بن الخطاب في صلاة رمضان : نعمت البدعة هذه ، انتهى . والنظر الذي ذكره الزمخشري ، والله أعلم ، أن فعيلاً بمعنى مفعل لا ينقاس مع أن بيت عمرو محتمل للتأويل . وعلى هذا الوجه يكون من باب إضافة اسم الفاعل لمفعوله . وقرأ المنصور : بديع بالنصب على المدح ، وقرىء بالجرّ على أنه بدل من الضمير في له .
( وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( : لما ذكر ما دل على الاختراع ، ذكر ما يدل على طواعية المخترع وسرعة تكوينه . ومعنى قضى هنا : أراد ، أي إذا أراد إنشاء أمر واختراعه . قال ابن عطية : وقضى : معناه قدر ، وقد يجيء بمعنى : أمضى . ويتجه في هذه الآية المعنيان . فعلى مذهب أهل السنة : قدر في الأزل وأمضى فيه ، وعلى مذهب المعتزلة : أمضى عند الخلق والإيجاد . والأمر : واحد الأمور ، وليس هنا مصدر أمر يأمر . والمعتقد في هذه الآية أن الله لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودها ، قادراً مع تأخر المقدورات ، عالماً مع تأخر وقوع المعلومات . وكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات ، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن ، وكلّ ما استند إلى الله من قدرة وعلم فهو قديم لم يزل . انتهى ما نقلناه هنا من كلامه . وقال المهدوي : ) وَإِذَا قَضَى أَمْرًا ( ، أي أتقنه وأحكمه وفرغ منه . ومعنى : فإنما يقول له كن فيكون ، يقول من أجله . وقيل : قال له كن ، وهو معدوم ، لأنه بمنزلة الموجود ، إذ هو عنده معلوم . قال الطبري : أمره للشيء بكن لا يتقدّم الوجود ولا يتأخر عنه ، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلا وهو موجود

" صفحة رقم 535 "
بالأمر ، ولا موجوداً بالأمر إلا وهو مأمور بالوجود . قال : ونظيره قيام الأموات من قبورهم لا يتقدّم دعاء الله ولا يتأخر عنه ، كما قال : ) ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الاْرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ). فالهاء في له تعود على الأمر ، أو على القضاء الذي دلّ عليه قضى ، أو على المراد الذي دلّ عليه الكلام . انتهى ما نقلناه من كتابه . وقال مكي : معنى الآية أنه عالم بما سيكون وما هو كائن ، فقوله : كن ، إنما هو للموجود في علمه ليخرجه إلى العيان لنا . انتهى كلامه . وقال الزمخشري : كن فيكون ، من كان التامة ، أي أحدث فيحدث ، وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ، ثم كما لا قول في قوله :
إذ قالت الأنساع للبطن ألحق
وإنما المعنى : ما قضاه من الأمور وأراد كونه ، فإنما يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف . كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ، لا يتوقف ولا يمتنع ، ولا يكون منه الإباء . أكد بهذا استبعاد الولادة ، لأن من كان بهذه الصفة من القدرة ، كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها . انتهى كلامه . وقال السجاوندي : كن على التمثيل لنفاذ الأمر ، قال : فقالت له العينان سمعاً وطاعة
وإلا فالمعدوم كيف يخاطب أو علامة للملائكة بحدوث الموجود ، أو على تقدير ما تصوّر كونه في علمه ، أو مخصوص في تحويل الموجود من حال إلى حال ، ولو كان كن مخلوقاً ، لاحتاج إلى أخرى ولا يتناهي ، فدكل على أن القرآن غير مخلوق . انتهى كلامه . قال المهدوي : وفي هذه الآية دليل على أن كلام الله غير مخلوق ، لأنه لو كان مخلوقاً لكان قائلاً له : كن ، ولكان قائلاً : لكن كن ، حتى ينتهي ذلك إلى ما لا يتناهى ، وذلك مستحيل مع ما يؤدّي إليه ذلك من أنه لا يوجد من الله فعل ألبتة ، إذ لا بد أن يوجد قبله أفعال ، هي أقاويل لا غاية لها ، وذلك مستحيل . ولا يجوز أن يحمل على المجاز ، إذ ذلك إنما يكون في الجمادات ، ولا يكون فيمن يصح منه القول إلا بدليل . ويقوي ذلك أن المصدر فيه الذي هو قولنا من قوله : ) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( ، وكد بمصدر آخر ، وهو أن نقول ، وأهل العربية مجمعون ، على أنهم إذا أكدوا الفعل بالمصدر كان حقيقة ، ولذلك جاء قوله : ) وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( ، إذ كان الله تعالى متولي تكليمه . وقد قيل : إن معنى فإنما يقول له كن فيكون بكونه . انتهى كلام المهدوي . وقال في المنتخب : كن فيكون ليس المراد أنه تعالى يقول كن ، فحينئد يكون ذلك الشيء ، فإن ذلك فاسد من وجوه ، فلا بد من تأويله ، وفيه وجوه : الأول : وهو الأقوى ، أن المراد نفاذ سرعة قدرة الله في تكوين الأشياء ، وإنما يخلقها لا لفكرة ، ونظيرة ) قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ). الثاني : أنها علامة يعقلها الملائكة ، إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً ، قاله أبو الهذيل . الثالث : أنه جاء للموجودين الذين قال لهم : ) كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( ، ومن جرى مجراهم ، وهو قول الأصم . الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت ، وللموتى بالحياة ، والكل ضعيف ، والقوي هو الأول . انتهى كلامه .
هذا ما نقلناه من كلام أهل التفسير في الآية . وظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له : كن ،

" صفحة رقم 536 "
تبينه الآية الأخرى : ) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( ، وقوله : ) وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ). لكن دليل العقل صد عن اعتقاد مخاطبة المعدوم ، وصد عن أن يكون الله تعالى محلاً للحوادث ، لأن لفظة كن محدثة ، ومن يعقل مدلول اللفظ . وكونه يسبق بعض حروفه بعضاً ، لم يدخله شك في حدوثه ، وإذا كان كذلك ، فلا خطاب ولا قول لفظياً ، وإنما ذلك عبارة عن سرعة الإيجاد وعدم اعتياصه ، فهو من مجاز التمثيل ، وكأنه قدر أن المعدوم موجود يقبل الأمر ويمتثله بسرعة ، بحيث لا يتأخر عن امتثال ما أمر به . وقرأ الجمهور : فيكون بالرفع ، ووجه على أنه على الاستئناف ، أي فهو يكون ، وعزى إلى سيبويه . وقال غيره : فيكون عطف على يقول ، واختاره الطبري وقرّره . وقال ابن عطية : وهو خطأ من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين حادث ، وقد انتهى ما رده به ابن عطية . ومعنى رده : أن الأمر عنده قد تم ، والتكوين حادث ، وقد نسق عليه بالفاء ، فهو معه ، أي يعتقبه ، فلا يصح ذلك ، لأن القديم لا يعتقبه الحادث . وتقرير الطبري له هو ما تقدم في أوائل الكلام على هذه المسألة ، من أن الأمر لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه . وما رده به ابن عطية لا يتم إلا بأن تحمل الآية على أن ثم قولاً وأمراً قديماً . أما إذا كان ذلك على جهة المجاز ، ومن باب التمثيل ، فيجوز أن يعطف على نقول . وقرأ ابن عامر : فيكون بالنصب ، وفي آل عمران : ) كُنْ فَيَكُونُ ( ونعلمه ، وفي النحل ، وفي مريم ، وفي يس ، وفي المؤمن . ووافقه الكسائي في النحل ويس ، ولم يختلف في ) كُنْ فَيَكُونُ ( الحق في آل عمران . ) وَكُنْ فَيَكُونُ ( قوله الحق في الأنعام أنه بالرفع ، ووجه النصب أنه جواب على لفظ كن ، لأنه جاء بلفظ الأمر ، فشبه بالأمر الحقيقي . ولا يصح نصبه على جواب الأمر الحقيقي ، لأن ذلك إنما يكون على فعلين ينتظم منهما شرط وجزاء نحوه : ائتني فأكرمك ، إذ المعنى : إن تأتني أكرمك . وهنا لا ينتظم ذلك ، إذ يصير المعنى : إن يكن يكن ، فلا بد من اختلاف بين الشرط والجزاء ، إما بالنسبة إلى الفاعل ، وإما بالنسبة إلى الفعل في نفسه ، أو في شيء من متعلقاته . وحكى ابن عطية ، عن أحمد بن موسى ، في قراءة ابن عامر : أنها لحن ، وهذا قول خطأ ، لأن هذه القراءة في السبعة ، فهي قراءة متواترة ، ثم هي بعد قراءة ابن عامر ، وهو رجل عربي ، لم يكن ليلحن . وقراءة الكسائي في بعض المواضع ، وهو إمام الكوفيين في علم العربية ، فالقول بأنها لحن ، من أقبح الخطأ المؤثم الذي يجر قائله إلى الكفر ، إذ هو طعن على ما علم نقله بالتواتر من كتاب الله تعالى .
البقرة : ( 118 ) وقال الذين لا . . . . .
( وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا ءايَةٌ ( : قال ابن عباس ، والحسن ، والربيع ، والسدي : نزلت في كفار العرب حين ، طلب عبد الله بن أمية وغيره ذلك . وقال مجاهطد : في النصارى ، ورجحه الطبري ، لأنهم المذكورون في الآية أولاً . وقال ابن عباس أيضاً : اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال رافع بن خزيمة ، من اليهود : إن كنت رسولاً من عند الله ، فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه ، فأنزل الله الآية . وقال قتادة : مشركو مكة . وقيل : الإشارة بقوله : ) الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( إلى جميع هذه الطوائف ، لأنهم كلهم قالوا هذه المقالة ، واختلافهم في الموصول مبني على اختلافهم في السبب . فإن كان الموصول الجهلة من العرب ، فنفى عنهم العلم ، لأنهم لم يكن لهم كتاب ، ولا هم أتباع نبوّة ، وإن كان الموصول اليهود والنصارى ، فنفى عنهم العلم ، لانتفاء ثمرته ، وهو الاتباع له والعمل بمقتضاه . وحذف مفعول العلم هنا اقتصاراً ، لأن المقصود إنما هو نفي نسبة العلم إليهم ، لا نفي علمهم بشيء مخصوص ، فكأنه قيل : وقال الذين ليسوا ممن له سجية في العلم لفرط غباوته ، فهي مقالة صدرت ممن لا يتصف بتمييز ولا إدراك . ومعمول القول ، الجملة التخصيصية وهي : ) لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللَّهُ ( ؛ كما يكلم الملائكة ، وكما كلم موسى

" صفحة رقم 537 "
عليه السلام ، قالوا ذلك على طريقة الاستكبار والعتو ، ( وَقَالَ الَّذِينَ لاَ ( ، أي هلا يكون أحد هذين ، إما التكلم ، وإما إتيان آية ؟ قالوا ذلك جحوداً لأن يكون ما أتاهم آية واستهانة بها . ولما حكى عنهم نسبة الولد إلى الله تعالى ، أعقب ذلك بمقالة أخرى لهم تدل على تعنتهم وجهلهم بما يجب لله تعالى من التعظيم وعدم الاقتراح على أنبيائه .
( كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ( : تقدم الكلام في إعراب كذلك ، وفي تبيين وقوع من قبلهم صلة للذين في قوله : ) وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( والذين من قبلهم . إن فسر الموصول في الذين لا يعلمون بكفار العرب ، أو مشركي مكة ، فالذين من قبلهم هم الأمم المكذبة من أسلافهم وغيرهم . وإن فسر باليهود أو النصارى ، فالذين من قبلهم أسلافهم ، وانتصاب مثل قولهم على البدل من موضع الكاف . ولا تدل المثلية على التماثل في نفس المقول ، يل يحتمل أن من قبلهم اقترحوا غير ذلك ، وأن المثلية وقعت في اقتراح ما لا يليق سؤاله ، وإن لم تكن نفس تلك المقالة ، إذ المثلية تصدق بهذا المعنى . ) تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ( : الضمير عائد على ) الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( ، ( وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ). لما ذكر تماثل المقالات ، وهي صادرة عن الأهواء والقلوب ، ذكر تماثل قلوبهم في العمى والجهل ، كقوله تعالى : ) أَتَوَاصَوْاْ بِهِ ). قيل : تشابهت قلوبهم في الكفر . وقيل : في القسوة . وقيل : في التعنت والاقتراح . وقيل : في المحال . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة : تشابهت ، بتشديد الشين . وقال أبو عمرو الداني : وذلك غير جائز ، لأنه فعل ماض ، يعني أن اجتماع التاءين المزيدتين لا يكون في الماضي ، إنما يكون في المضارع نحو : تتشابه ، وحينئذ يجوز فيه الإدغام . أما الماضي فليس أصله تتشابه . وقد مر نظير هذه القراءة في قوله : ) إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ( ، وخرجنا ذلك على تأويل لا يمكن هنا ، فيتطلب هنا تأويل لهذه القراءة .
( قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( : أي أوضحنا الآيات ، فاقتراح آية مع تقدم مجيء آيات وإيضاحها ، إنما هو على سبيل التعنت . هذا ، وهي آيات مبينات ، لا لبس فيها ، ولا شبهة ، لشدة إيضاحها . لكن لا يظهر كونها آيات إلا لمن كان موقناً ، أما من كان في ارتياب ، أو شك ، أو تغافل ، أو جهل ، فلا ينفع فيه الآيات ، ولو كانت في غاية الوضوح . ألا ترى إلى قولهم : ) إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ( ؟ وقول أبي جهل ، وقد سأل أهل البوادي الوافدين إلى مكة عن انشقاق القمر ، فأخبروه به ، فقال بعد ذلك : هذا سحر مستمر . ولما ذكر أن اقتراح ما تقدم إنما هو من أهواء الذين لا يعلمون ، قال في آخرها : ) لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ). والإيقان : وصف في العلم يبلغ به نهاية الوثاقة في العلم ، أي من كان موقناً ، فقد أوضحنا له الآيات ، فآمن بها ، ووضحت عنده ، وقامت به الحجة على غيره . وفي جميع الآيات رد على من اقتراح آية ، إذ الآيات قد بينت ، فلم يكن آية واحدة ، فيمكن أن يدعي الالتباس فيها ، بل ذلك جمع آيات بينات ، لكن لا ينتفع بها إلا من كان من أهل العلم والتبصر واليقين .
البقرة : ( 119 ) إنا أرسلناك بالحق . . . . .
( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ( : بشيراً لمن آمن ، ونذيراً لمن كفر . وهذه الآية تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإنه كان يضيق صدره لتماديهم على ضلالهم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما ذكر أنه بين الآيات ، ذكر من بينت على يديه ، فأقبل عليه وخاطبه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ليعلم أنه هو صاحب الآيات فقال : ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ ( ، أي بالآيات الواضحة ، وفسر الحق هنا بالصدق وبالقرآن وبالإسلام . وبالحق في موضع الحال ، أي أرسلناك ومعك الحق لا يزايلك . وانتصاب بشيراً ونذيراً على الحال من الكاف ، ويحتمل أن يكون حالاً من الحق ، لأن ما جاء به من الحق يتصف أيضاً بالبشارة والنذارة . والأظهر الأول .

" صفحة رقم 538 "
وعدل إلى فعيل للمبالغة ، لأن فعيلاً من صفات السجايا ، والعدل في بشير للمبالغة ، مقيس عند سيبويه ، إذا جعلناه من بشر لأنهم قالوا بشر مخففاً ، وليس مقيساً في نذير لأنه من أنذر ، ولعل محسن العدل فيه كونه معطوفاً على ما يجوز ذلك فيه ، لأنه قد يسوغ في الكلمة مع الاجتماع مع ما يقابلها ما لا يسوغ فيها لو انفردت ، كما قالوا : أخذه ما قدم وما حدث وشبهة .
( وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ( : قراءة الجمهور : بضم التاء واللام . وقرأ أبي : وما تسأل . وقرأ ابن مسعود : ولن تسأل ، وهذا كله خبر . فالقراءة الأولى ، وقراءة أبي يحتمل أن تكون الجملة مستأنفة ، وهو الأظهر ، ويحتمل أن تكون في موضع الحال . وأما قراءة ابن مسعود فيتعين فيها الاستئناف ، والمعنى على الاستئناف أنك لا تسأل عن الكفار ما لهم لم يؤمنوا ، لأن ذلك ليس إليك ، ( إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( ، ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ( ، ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ ). وفي ذلك تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتخفيف ما كان يجده من عنادهم ، فكأنه قيل : لست مسؤولاً عنهم ، فلا يحزنك كفرهم . وفي ذلك دليل على أن أحداً لا يسأل عن ذنب أحد ، ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ). وأما الحال فعطف على ما قبلها من الحال ، أي وغير مسؤول عن الكفار ما لهم لا يؤمنون ، فيكون قيداً في الإرسال ، بخلاف الاستئناف . وقرأ نافع ويعقوب : ولا تسأل ، بفتح التاء وجزم اللام ، وذلك على النهي ، وظاهره : أنه نهى حقيقة ، نهى ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يسأل عن أحوال الكفار . قال محمد بن كعب القرظي : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ليت شعري ما فعل أبواي ) ، فنزلت ، واستبعد في المنتخب هذا ، لأنه عالم بما آل إليه أمرهما . وقد ذكر عياض أنهما أحييا له فأسلما . وقد صح أن الله أذن له في زيارتهما ، واستبعد أيضاً ذلك ، لأن سياق الكلام يدل على أن ذلك عائد على اليهود والنصارى ومشركي العرب ، الذين جحدوا نبوّته ، وكفروا عناداً ، وأصروا على كفرهم . وكذلك جاء بعده : ) وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى ( إلا إن كان ذلك على سبيل الانقطاع من الكلام الأول ، ويكون من تلوين الخطاب وهو بعيد . وقيل : يحتمل أن لا يكون نهياً حقيقة ، بل جاء ذلك على سبيل تعظيم ما وقع فيه أهل الكفر من العذاب ، كما تقول : كيف حال فلان ، إذا كان قد وقع في بلية ، فيقال لك : لا تسأل عنه . ووجه التعظيم : أن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما ذلك الشخص فيه لفظاعته ، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره ، أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره ، فلا تسأل ، فيكون معنى التعظيم : إما بالنسبة إلى المجيب ، وإما بالنسبة إلى المجاب ، ولا يراد بذلك حقيقة النهي .
البقرة : ( 120 ) ولن ترضى عنك . . . . .
( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ( : روي أن اليهود والنصارى طلبوا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الهدنة ، ووعدوه أن يتبعوه بعد مدة خداعاً منهم ، فأطلعه الله على سر خداعهم ، فنزلت نفي الله رضاهم عنه إلا بمتابعة دينهم ، وذلك بيان أنهم أصحاب الجحيم الذين هم أصحابها ، لا يطمع في إسلامهم . والظاهر أن قوله تعالى : ) وَلَن تَرْضَى ( خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، علق رضاهم عنه بأمر مستحيل الوقوع منه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو اتباع ملتهم . والمعلق بالمستحيل مستحيل ، سواء فسرنا الملة بالشريعة ، أو فسرناها بالقبلة ، أو فسرناها بالقرآن . وقيل : هو خطاب له ، وهو تأديب لأمته ، فإنهم يعلمون قدره عند ربه ، وإنما ذلك ليتأدب به المؤمنون ، فلا يوالون الكافرين ، فإنهم لا يرضيهم منهم إلا اتباع دينهم . وقيل : هو خطاب له ، والمراد أمته ، لأن المخاطب لا يمكن ما خوطب به أن يقع منه ، فيصرف ذلك إلى من يمكن ذلك منه ، مثل قوله : ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( ، ويكون تنبيهاً من الله على أن اليهود والنصارى يخادعونكم بما يظهرون من الميل وطلب المهادنة والوعد بالموافقة ، ولا يقع رضاهم إلا باتباع ملتهم . ووحدت الملة ، وإن كان لهم ملتان ، لأنهما يجمعهما الكفر ، فهي واحدة بهذا الاعتبار ، أو للإيجاز فيكون من باب الجمع في الضمير ، نظير : ) وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( ، لأن المعلوم أن النصارى لن ترضى حتى تتبع ملتهم ، واليهود لن ترضى حتى تتبع ملتهم . وقد اختلف العلماء في الكفر ، أهو ملة واحدة أو ملل ؟ وثمرة الخلاف تظهر في الارتداد من ملة إلى ملة ، وفي

" صفحة رقم 539 "
الميراث ، وذلك مذكور في الفقه .
( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ( : أمره أن يخاطبهم بأن هدى الله ، أي الذي هو مضاف إلى الله ، وهو الإسلام الذي أنت عليه ، هو الهدى ، أي النافع التام الذي لا هدى وراءهم ، وما أمرتم باتباعه هو هوى لا هدى ، ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ ). وأكد الجملة بأن وبالفصل الذي قبل ، فدل على الاختصاص والحصر ، وجاء الهدى معرّفاً بالألف واللام ، وهو مما قيل : إن ذلك يدل على الحصر ، فإذا قلت : زيد العالم ، فكأنه قيل : هو الخصوص بالعلم والمحصور فيه ذلك . ثم ذكر تعالى أن ما هم عليه إنما هي أهواء وضلالات ناشئة عن شهواتهم وميولهم ، فقال : ) وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ ( : وهو خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) على الأقوال التي في قوله : ) وَلَن تَرْضَى ). واللام في لئن تسمى الموطئة والمؤذنة ، وهي تشعر بقسم مقدر قبلها ، ولذلك يبنى ما بعد الشرط على القسم لا على الشرط ، إذ لو بنى على الشرط لدخلت الفاء في قوله : ) مَا لَكَ ). والأهواء : جمع هوى ، وكان الجمع دليلاً على كثرة اختلافهم ، إذ لو كانوا على حق لكان طريقاً واحداً ، ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ). وأضاف الأهواء إليهم لأنها بدعهم وضلالاتهم ، ولذلك سمى أصحاب البدع : أرباب الأهواء . ) مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( : أي من الدين وجعله علماً ، لأنه معلوم بالبراهين الصحيحة ، وتدل هذه الآية على أمور منها : أن من علم الله منه أنه لا يفعل الشيء ، يجوز أن يخاطب بالوعيد لاحتمال أن يكون الصارف له ذلك الوعيد ، أو يكون ذلك الوعيد أحد الصوارف ، ونظيره : لئن أشركت ليحبطن عملك . ومنها ، إن قوله : ) بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( يدل على أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد المعذرة أولاً ، فيبطل بذلك تكليف ما لا يطاق . ومنها : أن اتباع الهوى باطل ، فيدل على بطلان التقليد . وقد فسر العلم هنا بالقرآن ، وبالعلم بضلال القوم ، وبالبيان بأن دين الله هو الإسلام ، وبالتحول إلى الكعبة ، قاله ابن عباس . وفي قوله ؛ ) مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ ( ، قطع لأطماعهم أن تتبع أهواؤهم ، لأن من علم أنه لا ولي له ولا نصير ينفعه إذا ارتكب شيئاً كان أبعد في أن لا يرتكبه ، وذلك إياس لهم في أن يتبع أهواءهم أحد ، وقد تقدّم الكلام في الوليّ والنصير ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
البقرة : ( 121 ) الذين آتيناهم الكتاب . . . . .
( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ( ، قال ابن عباس : نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب ، وكانوا اثنين وثلاثين من أهل الحبشة ، وثمانية من رهبان الشام . وقيل : كان بعضهم من أهل نجران ، وبعضهم من أهل الحبشة ، ومن الروم ، وثمانية ملاحون أصحاب السفينة أقبلوا مع جعفر . وقال الضحاك : هم من آمن من اليهود ، كابن سلام ، وابن صوريا ، وابن يامين ، وغيرهم . وقيل : في علماء اليهود وأحبار النصارى . وقال ابن كيسان : الأنبياء والمرسلون . وقيل : المؤمنون . وقيل : الصحابة ، قاله عكرمة وقتادة . وعلى هذا الاختلاف ، يتنزل الاختلاف في الكتاب ، أهو التوراة أو الإنجيل ؟ أو هما والقرآن ؟ أو الجنس ؟ فيكون يعني به به المكتوب ، فيشمل الكتب المتقدمة . ) يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ( : أي يقرؤونه ويرتلونه بإعرابه . وقال عكرمة : يتبعون أحكامه . وقال الحسن : يعملون بمحكمه ويكلون متشابهه إلى الله . وقال عمر : يسألون من رحمته ويستعيذون من عذابه . وقال الزمخشري : لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والذين : مبتدأ ، فإن أريد به الخصوص في من اهتدى ، صح أن يكون يتلونه خبراً عنه ، وصح أن يكون حالاً مقدرة إما من ضمير المفعول ، وإما من الكتاب ، لأنهم وقت الإيتاء لم يكونوا تالين له ، ولا كان هو متلواً لهم ، ويكون الخبر إذ ذاك في

" صفحة رقم 540 "
الجملة من قوله : ) أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ). وجوز الحوفي أن يكون يتلونه خبراً ، وأولئك وما بعده خبر بعد خبر . قال مثل قولهم : هذا حلو حامض ، وهذا مبني على أنه هل يقتضي المبتدأ الواحد خبرين ؟ ألم لا يقتضي إلا إذا كان في معنى خبر واحد كقولهم : هذا حلو حامض ، أي مز ، وفي ذلك خلاف . وإن أريد بالذين آتيناهم الكتاب العموم ، كان الخبر أولئك يؤمنون به ، قالوا ، ومنهم ابن عطية : ويتلونه حال لا يستغنى عنها ، وفيها الفائدة ، ولا يجوز أن يكون خبراً ، لأنه كان يكون كل مؤمن يتلو الكتاب ، وليس كذلك بأي تفسير فسرت التلاوة . ونقول : ما لزم في الامتناع من جعلها خبراً ، يلزم في الحال ، لأنه ليس كل مؤمن يكون على حالة التلاوة بأي تفسير فسرتها . وانتصب حق تلاوته على المصدر ، كما تقول : ضربت زيداً حق ضربه ، وأصله تلاوة حقاً . ثم قدّم الوصف ، وأضيف إلى المصدر ، وصار نظير : ضربت شديد الضرب ، إذ أصله : ضرباً شديداً . وجوزوا أن يكون وصفاً لمصدر محذوف ، وأن يكون منصوباً على الحال من الفاعل ، أي يتلونه محقين . وقال ابن عطية : وحق مصدر والعامل فيه فعل مضمر ، وهو بمعنى ، ولا يجوز إضافته إلى واحد معرّف ، وإنما جازت عنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرّف محض ، وإنما هو بمنزلة قولهم : رجل واحد أمه ، ونسيج وحده . انتهى كلامه . وأولئك يؤمنون به : ظاهره أن الضمير في به يعود إلى ما يعود عليه الضمير في يتلونه ، وهو الكتاب ، على اختلاف الناس في الكتاب . وقيل : يعود على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قالوا : وإن لم يتقدّم له ذكر ، لكن دلت قوة الكلام عليه ، وليس كذلك ، بل قد تقدم ذكره في قوله : ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ ( ، لكن صار ذلك التفاتاً وخروجاً من خطاب إلى غيبة . وقيل : يعود على الله تعالى ، ويكون التفاتاً أيضاً وخروجاً من ضمير المتكلم المعظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد . قال ابن عطية : ويحتمل عندي أن يعود الضمير على الهدى الذي تقدّم ، وذلك أنه ذكر كفار اليهود والنصارى في الآية ، وحذر رسوله من اتباع أهوائهم ، وأعلمه بأن هدى الله هو الهدى الذي أعطاه وبعثه به . ثم ذكر له أن المؤمنين التالين لكتاب الله هم المؤمنون بذلك الهدى المقتدون بأنواره . انتهى كلامه ، وهو محتمل لما ذكر . لكن الظاهر أن يعود على الكتاب لتتناسب الضمائر ولا تختلف ، فيحصل التعقيد في اللفظ ، والإلباس في المعنى ، لأنه إذا كان جعل الضمائر المتناسبة عائدة على واحد ، والمعنى فيها جيد صحيح الإسناد ، كان أولى من جعلها متنافرة ، ولا نعدل إلى ذلك إلا بصارف عن الوجه الأول ، إمّا لفظي ، وإمّا معنوي ، وإلى عوده على الكتاب ذهب الزمخشري .
( وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( : الضمير في به في هذه الجملة فيه من الخلاف ما فيه من الجملة السابقة ، والظاهر كما قلناه ، إنه عائد على الكتاب ، ولم يعادل بين الجملتين في التركيب الخبري غير الشرطي أو الشرطي . بل قصد في الأولى إلى ذكر الحكم من غير تعليق عليه ، ودل مقابلة الخسران على ربح من آمن به وفوزه ووفور حظه عند الله ، فاكتفى بثبوت السبب عن ذكر المسبب عنه . وقصد في الجملة الثانية إلى ذكر المسبب على تقدير حصول السبب ، فكان في ذلك تنفير عن تعاطي السبب لما يترتب عليه من المسبب الذي هو الخسران ونقص الحظ ، وأخرج ذلك في جملة شرطية حمل فيها الشرط على لفظ من ، والجزاء على معناها . وهم : محتمل أن يكون مبتدأ وأن يكون فصلاً . وعلى كلا التقديرين يكون في ذلك توكيد . وفي المنتخب الذي يليق به هذا الوصف ، هو القرآن . وأولئك : الأولى عائدة على المؤمنين ، والثانية عائدة على الكفار . والدليل عليه ، أن الذين تقدم ذكرهم هم أهل الكتاب ، فلما ذم طريقتهم وحكى سوء أفعالهم ، أتبع ذلك بمدح من ترك طريقتهم ، بأن تأمل التوراة وترك تحريفها ، وعرف منها صحة نبوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . انتهى . والتلاوة لها معنيان : القراءة لفظاً ، والاتباع فعلاً . وقد تقدم ما نقل في تفسير التلاوة هنا ، والأولى أن يحمل على كل تلك الوجوه ، لأنها مشتركة في المفهوم ، وهو أن بينها كلها قدراً مشتركاً ، فينبغي أن يحمل عليه لكثرة الفوائد .

" صفحة رقم 541 "
) الْخَاسِرُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( :
البقرة : ( 122 - 123 ) يا بني إسرائيل . . . . .
كرر نداء بني إسرائيل هنا ، وذكرهم بنعمه على سبيل التوكيد ، إذ أعقب ذلك النداء ذكر نداء ثان يلي ذكر الطائفتين متبعي الهدى والكافرين المكذبين بالآيات . وهذا النداء أعقب ذكر تلك الطائفتين من المؤمنين والكافرين . وكان ما بين النداءين قصص بني إسرائيل ، وما أنعم الله به عليهم ، وما صدر منهم ، من أفعالهم التي لا تليق بمن أنعم الله عليه ، من المخالفات والكذب والتعنتات ، وما جوزوا به في الدنيا على ذلك ، وما أعدّ لهم في الآخرة محشواً بين التذكيرين ومجعولاً بين الوعظين والتخويفين ليوم القيامة . ونظير ذلك في الكلام أن تأمر شخصاً بشيء على جهة الإجمال ، ثم تفصل له ذلك الشيء إلى أشياء كثيرة عديدة ، وأنت تسردها له سرداً ، وكل واحدة منها هي مندرجة تحت ذلك الأمر السابق . ويطول بك الكلام حتى تكاد تتناسى ما سبق من ذلك الأمر ، فتعيده ثانية ، لتتذكر ذلك الأمر ، وتصير تلك التفصيلات محفوفة بالأمرين المذكورين بهما . ولم تختلف هذه الآية مع تلك السابقة إلا في قوله هناك : ) وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ( ، وقال هنا : ) وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ). وقد ذكرنا هناك ما ناسب تقديم الشفاعة هناك على العدل ، وتأخيرها هنا عنه ، ونسبة القبول هناك للشفاعة ، والنفع هنا لها ، فيطالع هناك .
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة الأخبار عن مجاوزة الحد في الظلم ممن عطل بيوت الله من الذكر وسعي في خرابها ، مع أنها من حيث هي منسوبة إلى الله ، وهي محالّ ذكره وإيواء عباده الصالحين ، كان ينبغي أن لا يدخلوها إلا وهم وجلون خائفون ، متذكرون لمن بنيت ، ولما يذكر فيها . ثم أخبر أن لأولئك الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة . ثم ذكر أن له تعالى المشرق والمغرب ، فيندرج في ذلك المساجد ، وأي جهة قصدتموها فالله تعالى حاويها ومالكها ، فليس مختصاً بحيز ولا مكان . وختم هذه الجملة بالوسع المنافي لوسع المقادير ، وبالعلم الذي هو دليل الإحاطة .
ثم أخبر عنهم بأفظع مقالة ، وهي نسبة الولد إلى الله تعالى ، ونزه ذاته المقدسة عن ذلك ، وأخبر أن جميع من في السموات والأرض ملك له ، خاضعون طائعون . ثم ذكر بداعة السموات والأرض ، وأنها مخلوقة على غير مثال ، فكما أنه لا مثال لهما ، فكذلك الفاعل لهما ، لا مثال له . ففي ذلك إشارة إلى أنه يمتنع الولد ، إذ لو كان له ولد لكان من جنسه ، والبارىء لا شيء يشبهه ، فلا ولد له ، ثم ذكر أنه متى تعلقت إرادته بما يريد أن يحدثه ، فلا تأخر له ، وفيه إشارة أيضاً إلى نفي الولد ، لأنه لا يكون إلا عن توالد ، ويقتضي إلى تعاقب أزمان ، تعالى الله عن ذلك ثم ذكر نوعاً من مقالاتهم التي تعنتوا بها أنبياء الله ، من طلب كلامه ومشافهته إياهم ، أو نزول آية . وقد نزلت آيات كثيرة ، فلم يصغوا إليها ، وأن هذه المقالة اقتفوا بها آثار من تقدمهم ، وأن أهواءهم متماثلة في تعنت الأنبياء ، وأنه تعالى قد بين الآيات وأوضحها ، لكن لمن له فكر فهو يوقن بصحتها ويؤمن بها . ثم ذكر تعالى أنه أرسله بشيراً لمن آمن بالنعيم في الآخرة والظفر في الدنيا ، ونذيراً لمن كفر بعكس ذلك ، وأن لا تهتم بمن ختم له بالشقاوة ، فكان من أهل النار ، ولا تغتم بعدم إيمانه ، فقد أبلغت وأعذرت . ثم ذكر ما عليه اليهود والنصارى من شدة تعاميهم عن الحق ، بأنهم لا يرضون عنك حتى تخالف ما جاءك من الهدى الذي هو هدى الله ، إلى ما هم عليه من ملة الكفر واتباع الأهواء . ثم أخبر أن متبع أهوائهم بعد وضوح ما وافاه من الدين والإسلام ، لا أحد ينصره ولا يمنعه من عذاب الله . وأن الذين آتاهم الكتاب واصطفاهم له يتبعون الكتاب ، ويتتبعون معانيه ، فهم مصدقون بما تضمنه مما غاب عنهم علمه ، ولم يحصل لهم استفادته إلا منه ، من خبر ماض أو آت ، ووعد ووعيد ، وثواب وعقاب ، وأن من كفر به حق عليه الخسران .
ثم ختم هذه الآيات بأمر بني إسرائيل بذكر نعمه السابقة ، وتفضيلهم

" صفحة رقم 542 "
على عالمي زمانهم ، وكان ثالث نداء نودي به بنو إسرائيل ، بالإضافة إلى أبيهم الأعلى ، وتشريفهم بولادتهم منه . ثم أعرض في معظم القرآن عن ندائهم بهذا الاسم ، وطمس ما كان لهم من نور هذا الوسم ، والثلاث هي مبدأ الكثرة ، وقد اهتم بك من نبهك وناداك مرة ومرة ومرة : لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
2 ( ) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاٌّ خِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ) ) 2
البقرة : ( 124 ) وإذ ابتلى إبراهيم . . . . .
إبراهيم : اسم علم أعجمي . قيل : ومعناه بالسريانية قبل النقل إلى العلمية : أب رحيم ، وفيه لغى ست : إبراهيم بألف وياء وهي الشهيرة المتداولة ، وبألف مكان الياء ، وبإسقاط الياء مع كسر الهاء ، أو فتحها ، أو ضمها ، وبحذف الألف والياء وفتح الهاء ، قال عبد المطلب : نحن آل الله في كعبته
لم نزل ذاك على عهد إبراهم
وقال زيد بن عمرو بن نفيل : عذت بما عاذ به إبراهم
إذ قال وجهي لك عان راغم
الإتمام : الإكمال ، والهمزة فيه للنقل . ثم الشيء يتم : كمل ، وهو ضد النقص . الإمام : القدوة الذي يؤتم به ، ومنه قيل لخيط البناء : إمام ، وللطريق : إمام ، وهو مفرد على فعال ، كالإزار للذي يؤتزر به ، ويكون جمع آم ، اسم فاعل من أم يؤم ، كجائع وجياع ، وقائم وقيام ، ونائم ونيام . الذرية : النسل ، مشتقة من ذروت ، أو ذريت ، أو ذرأ الله الخلق ، أو

" صفحة رقم 543 "
الذر . ويضم ذالها ، أو يكسر ، أو يفتح . فأما الضم فيجوز أن تكون ذرية ، فعيلة من ذرأ الله الخلق ، وأصله ذريئة ، فخففت الهمزة بإبدالها ياء ، كما خففوا همزة النسيء فقالوا : النسيّ ، ثم أدغموا الياء التي هي لام الفعل التي هي للمد . ويجوز أن تكون فعولة من ذروت ، الأصل ذرووة ، أبدلت لام الفعل ياء . اجتمع لك واو وياء واو المد والياء المنقلبة عن الواو التي هي لام الفعل ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت واو المد ياء ، وأدغمت في الياء ، وكسر ما قبلها ، لأن الياء تطلب الكسر . ويجوز أن تكون فعيلة من ذرت ، أصلها ذريوة ، اجتمعت ياء المد والواو التي هي لام الكلمة وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت ياء المد فيها . ويجوز أن تكون فعولة أو فعيلة من ذريت لغة في ذروت ، فأصلها أن تكون فعولة ذروية ، وإن كان فعيلة ذريية ، ثم أدغم . ويجوز أن تكون فعيلة من الذر منسوبة ، أو فعلية من الذر غير منسوبة ، أو فعيلة ، كمريقة ، أو فعول ، كسبوح وقدوس ، أو فعلولة ، كقردودة الظهر ، فضم أولها إن كان اسماً ، كقمرية ، وإن كانت منسوبة ، كما قالوا في النسب إلى الدهر : دهري ، وإلى السهل ، سهلي . وأصل فعيلة من الذر : ذريرة ، وفعولة من الذر : ذرورة ، وكذلك فعلولة ، أبدلت الراء الآخرة في ذلك ياء كراهة التضعيف ، كما قالوا في تسررت ؛ تسريت . وأما من كسر ذال ذرية ، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ الله الخلق ، كبطيخة ، فأبدلت الهمزة ياء ، وأدغمت في ياء المد ، أو فعلية من الذر منسوبة على غير قياس ، أو فعيلة من الذر أصله ذريرة ، أو فعليل ، كحلتيت . ويحتمل أن تكون ذريوة من ذروت ، أو فعيلة ذريئة من ذريت . وأما من فتح ذال ذرية ، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ ، مثل سكينة ، أو فعولة من هذا أيضاً ، كخروبة . فالأصل ذروءة ، فأبدلت الهمزة ياء بدلاً مسموعاً ، وقلبت الواو ياء وأدغمت . ويحتمل أن تكون فعيلة من الذر غير منسوبة ، كبرنيه ، أو منسوبة إلى الذر ، أو فعولة ، كخروبه من الذر أصلها ذرورة ، ففعل بها ما تقدم ، أو فعلولة ، كبكولة ، فالأصل ذرورة أيضاً ، أو فعيلة ، كسكينة ذريرة ، فقلبت الراء ياء في ذلك كله ، ويحتمل أن يكون من ذروت فعيلة ، كسكينة ، فاوصل ذريوة ، أو من ذريت ذريية ، أو فعولة من ذروت أو ذريت . وأما من بناها على فعلة ، كجفنة ، وقال ذرية ، فإنها من ذريت . النيل : الإدراك . نلت الشيء أناله نيلاً ، والنيل : العطاء . البيت : معروف ، وصار علماً بالغلبة على الكعبة ، كالنجم للثريا . الأمن : مصدر أمن يأمن ، إذا لم يخف واطمأنت نفسه . المقام : مفعل من القيام ، يحتمل المصدر والزمان والمكان . اسماعيل : اسم أعجمي علم ، ويقال إسماعيل باللام وإسماعين بالنون ، قال : قال جواري الحي لماجينا
هذا ورب البيت اسماعينا
ومن غريب ما قيل في التسمية به أن إبراهيم كان يدعو أن يرزقه الله ولداً ويقول : اسمع إيل ، وايل هو الله تعالى . التطهير : مصدر طهر ، والتضعيف فيه للتعدية . يقال : طهر الشيء طهارة : نطف . الطائف : اسم فاعل من طاف به إذا دار به ، ويقال أطاف : بمعنى طاف ، قال :
أطافت به جيلان عند فطامه

" صفحة رقم 544 "
والعاكف : اسم فاعل من عكف بالشيء : أقام به ولازمه ، قال :
عليه الطير ترقبه عكوفا
وقال يعكفون على أصنام لهم : أي يقيمون على عبادتها . البلد : معروف ، والبلد الصدر ، وبه سمي البلد لأنه صدر القرى . يقال : وضعت الناقة بلدتها إذا بركت . وقيل : سمي البلد بمعنى الأثر ، ومنه قيل بليد لتأثير الجهل فيه ، ومنه قيل لبركة البعير بلدة لتأثيرها في الأرض إذ بركت ، قال : أنيخت فألقت بلدة بعد بلدة
قليل بها الأصوات إلا بغامها
والبارك : البارك بالبلد . الاضطرار : هو الإلجاء إلى الشيء والإكراه عليه ، وهو افتعل من الضر ، أصله : اضترار ، أبدلت التاء طاء بدلاً لازماً ، وفعله متعد ، وعلى ذلك استعماله في القرآن ، وفي كلام العرب ، قال :
اضطرك الحرز من سلمى إلى أجأ
المصير : مفعل من صار يصير ، فيكون للزمان والمكان ، وأما المصدر فقياسه مفعل بفتح العين ، لأن ما كسرت عين مضارعة فقياسه ما ذكرناه ، لكنّ النحويين اختلفوا فيما كان عينه ياء من ذلك على ثلاثة مذاهب : أحدها : أنه كالصحيح ، فيفتح في المصدر ويكسر في الزمان والمكان . الثاني : أنه مخير فيه . الثالث : أنه يقتصر على السماع ، فما فتحت فيه العرب فتحنا ، وما كسرت كسرنا . وهذا هو الأولى . القواعد : قال الكسائي والفراء : هي الجدر ، وقال أبو عبيدة : الأساس ، قال : في ذروة من بقاع أولهم
زانت عواليها قواعدها
وبالأساس فسرها ابن عطية أولاً والزمخشري وقال : هي صفة غالبة ، ومعناها الثانية ، ومنه قعدك الله ، أي أسأل الله أن يقعدك ، أي يثبتك . انتهى كلامه . والقواعد من النساء جمع قاعد ، وهي التي قعدت عن الولد ، وسيأتي الكلام على كون قاعد لم تأت بالتاء في مكانه ، إن شاء الله تعالى . الأمة : الجماعة ، وهو لفظ مشترك ينطلق على الجماعة ، والواحد المعظم المتبوع ، والمنفرد في الأمر والدين والحين . والأم : هذه أمة زيد ، أي أمه ، والقامة والشجة التي تبلغ أم الدماغ ، وأتباع الرسل ، والطريقة المستقيمة ، والجيل . المناسك : جمع منسك ومنسك ، والكسر في سين منسك شاذ ، لأن اسم المصدر والزمان والمكان من يفعل بضم العين ، أو فتحها مفعل بفتح العين إلا ما شذ من ذلك ، والناسك : المتعبد . البعث : الإرسال ، والإحياء ، والهبوب من النوم . العزيز ، يقال : عزيعز بضم العين ، أي غلب ، ومنه : وعزني في الخطاب ، وعزيعز بفتحها ، أي اشتد ، ومنه : عز علىَّ هذا الأمر ، أي شق ،

" صفحة رقم 545 "
وتعزز لحم الناقة : اشتد . وعز يعز من النفاسة ، أي لا نظير له ، أو قل نظيره . الرغبة عن الشيء : الزهادة فيه ، والرغبة فيه : الإيثار له والاختيار له ، وأصل الرغبة : الطلب . الاصطفاء : الانتجاب والاختيار ، وهو افتعال من الصفو ، وهو الخالص من الكدر والشوائب ، أبدلت من تائه طاء ، كان ثلاثيه لازماً . صفا الشيء يصفو ، وجاء الافتعال منه متعدياً ، ومعنى الافتعال هنا : التخير ، وهو أحد المعاني التي جاءت لافتعل .
( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى ( : مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة ، وأن اليهود عيروا المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة وترك بيت المقدس ، كما قال : ) مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ( ، ذكر حديث إبراهيم وما ابتلاه به الله ، واستطرد إلى ذكر البيت وكيفية بنائه ، وأنهم لما كانوا من نسل إبراهيم ، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعاً لشرعه ، واقتفاء لآثاره . فكان تعظيم البيت لازماً لهم ، فنبه الله بذلك على سوء اعتمادهم ، وكثرة مخالفتهم ، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم ، وأنهم ، وإن كانوا من نسله ، لا ينالون لظلمهم شيئاً من عهده ، وإذ العامل فيه على ما ذكروا محذوف ، وقدروه اذكر ، أي اذكرا إذ ابتلي إبراهيم ، فيكون مفعولاً به ، أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت . وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى : ) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ ( ، والاختيار أن يكون العامل فيه ملفوظاً به ، وهو ) قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ ). والابتلاء : الاختبار ، ومعناه أنه كلفه بأوامر ونواه . والباري تعالى عالم بما يكون منه . وقيل : معناه أمر . قال الزمخشري : واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اخيتار أحد الأمرين : ما يريد الله ، وما يشتهيه العبد ، كأنه امتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك . انتهى كلامه ، وفيه دسيسة الاعتزال . وفي ري الظمآن الابتلاء : إظهار الفعل ، والاختبار : طلب الخبر ، وهما متلازمان .
وابراهيم هنا ، وفي جميع القرآن هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو خليل الله ، ابن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر ، وهو هود النبي عليه السلام ، ومولده بأرض الأهواز . وقيل : بكوثي ، وقيل : ببابل ، وقيل : بنجران ، ونقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان . وقد تقدّم ذكر اللغات الست في لفظه . وقرأ الجمهور : إبراهيم بالألف والياء . وقرأ ابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان في البقرة بألفين . زاد هشام أنه قرأ كذلك في : إبراهيم ، والنحل ، ومريم ، والشورى ، والذاريات ، والنجم ، والحديد ، وأول الممتحنة ، وثلاث آخر النساء ، وأخرى التوبة ، وآخر الأنعام ، والعنكبوت . وقرأ المفضل : ابراهام بألفين ، إلا في المودة والأعلى . وقرأ ابن الزبير : ابراهام ، وقرأ أبو بكرة : إبراهم بألف وحذف الياء وكسر الهاء . وقرأ الجمهور : بنصب إبراهيم ورفع ربه . وقرأ ابن عباس ، وأبو الشعثاء ، وأبو حنيفة : برفع إبراهيم ونصب ربه . فقراءة الجمهور على أن الفاعل هو الرب ، وتقدم معنى ابتلائه إياه . قال ابن عطية : وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع الابتلاء ، إذ معلوم أن الله تعالى هو المبتلي . وإيصال ضمير المفعول بالفاعل موجب لتقديم المفعول . انتهى كلامه ، وفيه بعض تلخيص . وكونه مما يجب فيه تقديم الفاعل هو قول الجمهور . وقد جاء في كلام العرب مثل : ضرب غلامه زيداً ، وقال : وقاس عليه بعض النحويين ، وتأول بعضه الجمهور ، أو حمله على الشذوذ . وقد طول الزمخشرى في هذه المسألة بما يوقف عليه من كلامه في الكشاف ، وليست من المسائل التي يطوّل فيها لشهرتها في العربية . وقرأ ابن عباس : معناها أنه دعا ربه بكلمات من

" صفحة رقم 546 "
الدعاء بتطلب فيها الإجابة ، فأطلق على ذلك ابتلاء على سبيل المجاز لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير على الإنسان .
والكلمات لم تبين في القرآن ما هي ، ولا في الحديث الصحيح ، وللمفسرين فيها أقوال : الأول : روى طاوس ، عن ابن عباس أنها العشرة التي من الفطرة : المضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والفرق ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والاستطابة ، والختان ، وهذا قول قتادة . الثاني عشر : وهي : حلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، وغسل يوم الجمعة ، والطواف بالبيت ، والسعي ، ورمي الجمار ، والإفاضة . وروي هذا عن ابن عباس أيضاً . الثالث : ثلاثون سهماً في الإسلام ، لم يتم ذلك أحد إلا إبراهيم ، وهي عشر في براءة ) التَّائِبُونَ ( الآية ، وعشر في الأحزاب ) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ( الآية ، وعشر في ) قَدْ أَفْلَحَ ( وفي المعارج . وروي هذا عن ابن عباس أيضاً . الرابع : هي الخصال الست التي امتحن بها الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان . وقيل : بدل الهجرة الذبح لولده ، قاله الحسن . الخامس : مناسك الحج ، رواه قتادة ، عن ابن عباس . السادس : كل مسألة سألها إبراهيم في القرآن مثل : ) رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا ( ، قاله مقاتل . السابع : هي قول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وقوله : ربنا تقبل منا ، قاله ابن جبير . الثامن : هو قوله تعالى : ) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ( ، قاله يمان . التاسع : هي قوله : ) الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الآيات ، قاله أبو روق . العاشر : هي ما ابتلاه به في ماله وولده ونفسه ، فسلم ماله للضيفان ، وولده للقربان ، ونفسه للنيران ، وقلبه للرحمن ، فاتخذه الله خليلاً . الحادي عشر : هو أن الله أوحى إليه أن تطهر فتمضمض ، ثم أن تطهر فاستنشق ، ثم أن تطهر فاستاك ، ثم أن تطهر فأخذ من شاربة ، ثم أن تطهر ففرق شعره ، ثم أن تطهر فاستنجى ، ثم أن تطهر فحلق عانته ، ثم أن تطهر فنتف إبطه ، ثم أن تطهر فقلم أظفاره ، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ماذا يصنع ، فاختتن بعد عشرين ومائة سنة . وفي البخاري ، أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم ، وأوحى الله إليه ) إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( ، يأتمون بك في هذه الخصال ويقتدي بك الصالحون . فإن صحت تلك الرواية ، فالتأويل أنه اختتن بعد عشرين ومائة سنة من ميلاده ، وابن ثمانين سنة من وقت نبوته ، فيتفق التاريخان ، والله أعلم . الثاني عشر : هي عشرة : شهادة أن لا إلاه إلا الله ، وهي الملة والصلاة ، وهي الفطرة والزكاة ، وهي الطهرة والصوم ، وهو الجنة والحج ، وهو الشعيرة والغزو ، وهو النصرة والطاعة ، وهي العصمة والجماعة ، وهي

" صفحة رقم 547 "
الألفة والأمر بالمعروف ، وهو الوفاء والنهي عن المنكر ، وهو الحجة . الثالث عشر : هي : تجعلني إماماً ، وتجعل البيت مثابة وأمناً ، وترينا مناسكنا ، وتتوب علينا ، وهذا البلد آمناً ، وترزق أهله من الثمرات . فأجابه الله في ذلك بما سأله ، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك .
وهذه الأقوال ينبغي أن تحمل على أن كل قائل منها ذكر طائفة مما ابتلى الله به إبراهيم ، إذ كلها ابتلاه بها ، ولا يحمل ذلك على الحصر في العدد ، ولا على التعيين ، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض . وهذه الأشياء التي فسر بها الكلمات ، إن كانت أقوالاً ، فذلك ظاهر في تسميتها كلمات ، وإن كانت أفعالاً ، فيكون إطلاق الكلمات عليها مجازاً ، لأن التكاليف الفعلية صدرت عن الأوامر ، والأوامر كلمات . سميت الذات كلمة لبروزها عن كلمة كن . قال تعالى : ) وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ). وقد تكلم بعض المفسرين في أحكام ما شرحت به الكلمات من : المضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والفرق ، والسدل ، والسواك ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وتقليم الأظفار ، والاستنجاء ، والختان ، والشيب وتغييره ، والثريد ، والضيافة . وهذا يبحث فيه في علم الفقه ، وليس كتابنا موضوعاً لذلك ، فلذلك تركنا الكلام على ذلك .
فأتمهن : الضمير المستكن في فأتمهن يظهر أنه يعود إلى الله تعالى ، لأنه هو المسند إليه الفعل قبله على طريق الفاعلية . فأتمهن معطوف على ابتلى ، فالمناسب التطابق في الضمير . وعلى هذا ، فالمعنى : أي أكملهن له من غير نقص ، أو بينهن ، والبيان به يتم المعنى ويظهر ، أو يسر له العمل بهن وقوّاه على إتمامهن ، أو أتم له أجورهن ، أو أدامهن سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين ، أقوال خمسة . ويحتمل أن يعود الضمير المستكن على إبراهيم . فالمعنى على هذا أدامهن ، أو أقام بهن ، قاله الضحاك ؛ أو عمل بهن ، قاله يمان ؛ أو وفى بهن ، قاله الربيع ، أو أدّاهن ، قاله قتادة . خمسة أقوال تقرب من الترادف ، إذ محصولها أنه أتى بهن على الوجه المأمور به . واختلفوا في هذا الابتلاء ، هل كان قبل نبوته أو بعدها ؟ فقال االقاضي : كان قبل النبوة ، لأنه نبه على أن قيامه بهن كالسبب ، لأنه جعله إماماً ، والسبب مقدم على المسبب ، فوجب كون الابتلاء مقدماً في الوجود على صيرورته إماماً . وقال آخرون : إنه بعد النبوة ، لأنه لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي ، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك . أجاب القاضي : بأنه يحتمل أنه أوحى إليه على لسان جبريل بهذه التكاليف الشاقة ، فلما تمم ذلك ، جعله نبياً مبعوثاً إلى الخلق .
( قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ ( : تقدم أن الاختيار في قال أنها عاملة في إذ ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفاً ، كانت قال استئنافاً ، فكأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات ؟ فقيل : ) قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ). وعلى اختيار أن يكون قال هو العامل في إذ ، يكون قال جملة معطوفة على ما قبلها ، أي وقال إني جاعلك للناس إماماً ، إذ ابتلاه ، ويجوز أن يكون بياناً لقوله : ابتلى ، وتفسيراً له . للناس : يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه ، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم ، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم . وللناس : في موضع الحال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها ، التقدير : إماماً كائناً للناس ، قالوا : ويحتمل أن يكون متعلقاً بجاعلك ، أي لأجل الناس . وجاعل هنا بمعنى مصير ، فيتعدى لاثنين ، الأول : الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل ، والثاني : إماماً . قيل : قال أهل التحقيق : والمراد بالإمام هنا : النبي ، أي صاحب شرع متبع ، لأنه لو كان تبعاً لرسول ، لكان مأموماً لذلك الرسول لا إماماً ماله . ولأن لفظ الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء ، ومن يكون كذلك ، لا يكون إلا نبياً . ولأن الأنبياء من حيث يجب على الخلق اتباعهم هم أئمة ، قال تعالى : ) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ). والخلفاء أيضاً أئمة ، وكذلك القضاة والفقهاء والمصلي بالناس ، ومن يؤتم به في الباطل . قال تعالى : ) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ). فلما تناول الاسم هؤلاء كلهم ، وجب أن يحمل هنا على أشرف المراتب وأعلاها ، لأنه ذكره في معرض الامتنان ، فلا بد أن يكون أعظم نعمة ، ولا شيء أعظم من النبوة .

" صفحة رقم 548 "
قال ومن ذريتي ، قال الزمخشري : عطف على الكاف ، كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي ، كما يقال لك : سأكرمك ، فتقول : وزيداً . انتهى كلامه . ولا يصح العطف على الكاف ، لأنها مجرورة ، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار ، ولم يعدو ، ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافاً إليها ، لأنها حرف ، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى تقدر جاعلاً مضافاً إليها لا يصح ، ولا يصح أن تكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف ، لأنه نصب ، فيجعل من في موضع نصب ، لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع ، على مذهب سيبويه ، لفوات المحرز ، وليس نظير : سأكرمك ، فتقول : وزيداً لأن الكاف هنا في موضع نصب . والذي يقتضيه المعنى أن يكون من ذريتي متعلقاً بمحذوف ، التقدير : واجعل من ذريتي إماماً ، لأن إبراهيم فهم من قوله إني جاعلك للناس إماماً الاختصاص ، فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إماماً . وقرأ زيد بن ثابت : ذريتي بالكسر في الذال . وقرأ أبو جعفر بفتحها . وقرأ الجمهور بالضم ، وذكرنا أنها لغات فيها ، ومن أي شيء اشتقت حين تكلمنا على المفردات .
( قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( : والضمير في قال الثانية ضمير إبراهيم ، وفي قال هذه عائد على الله تعالى . والعهد : الإمامة ، قال مجاهد : أو النبوة ، قاله السدي ؛ أو الأمان ، قاله قتادة . وروي عن السدي ، واختاره الزجاج : أو الثواب قاله قتادة أيضاً ؛ أو الرحمة ، قاله عطاء ؛ أو الدين ، قاله الضحاك والربيع ، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه ، قاله ابن عباس ؛ أو الأمر من قوله : ) إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا ( ، ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ ( ؛ أو إدخاله الجنة من قوله : كان له ) عِندَ اللَّهِ عَهْدًا ( ، أن يدخله الجنة ؛ أو طاعتي ، قاله الضحاك أيضاً ؛ أو الميثاق ؛ أو الأمانة . والظاهر من هذه الأقوال : أن العهد هي الإمامة ، لأنها هي المصدر بها ، فأعلم إبراهيم أن الإمامة لا تنال الظالمين . وذكر بعض أهل العلم أن قوله : ) وَمِن ذُرّيَتِى ( هو استعلام ، كأنه قيل : أتجعل من ذريتي إماماً : وقد قدمنا أن الظاهر أنه على سبيل الطلب ، أي واجعل من ذريتي . وهذا الجواب الذي أجاب الله به إبراهيم هو من الجواب الذي يربو على السؤال ، لأن إبراهيم طلب من الله ، وسأل أن يجعل من ذريته إماماً ، فأجابه إلى أنه لا ينال عهده الظالمين ، ودل بمفهومه لقطه على أنه ينال عهده من ليس بظالم ، وكان ذلك دليلاً على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم ، ويدلك على أن العهد هو الإمامة أن ظاهر قوله : ) لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( أنه جواب لقول إبراهيم : ) وَمِن ذُرّيَتِى ( على سبيل الجعل ، إذ لو كان على سبيل المنع لقال لا ، أو لا ينال عهدي ذريتك ، ولم ينط المنع بالظالمين . وقرأ أبو رجاء وقتادة والأعمش : الظالمون بالرفع ، لأن العهد ينال ، كما ينال أي عهدي لا يصل إلى الظالمين ، أو لا يصل الظالمون إليه ولا يدركونه . وقد فسر الظلم هنا بالكفر ، وهو قول ابن جبير ، وبظلم المعاصي غير الكفر ، وهو قول عطاء والسدي . واستدل بهذا على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده ، قال الحسن : لم يجعل الله لهم عهداً . قال ابن أبي الفضل : ما ذكره المفسرون من أنه سأل الإمامة لذريته ، وأنه أجيب إلى ملتمسه لا يظهر من اللفظ ، لأنه قال : ومن ذريتي ، وهو محتمل ، وجاعل من ذريتي ، أو تجعل من ذريتي ، أو اجعل من ذريتي . وإذا كان هذا كله محتملاً غير منطوق به ، فمن أين لهم أنه سأل ؟ وأما قولهم : أجيب إلى ملتمسه ، فاللفظ لا يدل على ذلك ، بل يدل على ضده ، لأن ظاهره : أن أولادك ظالمون . لكن دل الدليل على خلاف ذلك ، وهو : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ، وغير ذلك من الآي التي تدل على أن في ذريته النبوة . ولو قال : لا ينال عهدي الظالمين منهم ، لدل ذلك على ما يقولون على أن

" صفحة رقم 549 "
اللفظ لا ينزل عليه نزولاً بيناً . انتهى ما ذكره ملخصاً بعضه . وفيما ذكره ابن أبي الفضل نظر ، لأن تلك التقادير التي قدرها ظاهرها السؤال . أما من قدر : واجعل من ذريتي إماماً ، فهو سؤال ؛ وأما من قدر : وتجعل وجاعل ، فهو استفهام على حذف الاستفهام ، إذ معناه : وأجاعل أنت يا رب ، أو أتجعل يا رب من ذريتي . والاستفهام يؤول معناه إلى السؤل ، ولا يجوز أن يكون المقدر من قولهم : وجاعل ، أو تجعل من ذريتي إماماً خبراً ، لأنه خبر من نبي . وإذا كان خبراً من نبي ، كان صدقاً ضرورة . ولم يتقدم من الله إعلام لإبراهيم بذلك ، إنما أعلمه أنه يجعله للناس إماماً . فمن أين يخبر بذلك ؟ ومن يخاطب بذلك ؟ إن كان الله قد أعلمه ذلك . وإنما ذلك التقدير على سبيل الاستفهام والاستعلام . هل تحصل الإمامة لبعض ذريته أم لا تحصل ؟ فأجابه الله : إلى أن من كان ظالماً لا يناله عهده . وأما قوله : إن ظاهر اللفظ أن أولادك ظالمون ، فليس كذلك ، بل ظاهره أنه لا يناله من ظلم من أولاده وغير أولاده ، ودل بمفهوم الصفة على أن غير الظالم ينالها . ولو كان على ما قاله ابن أبي الفضل ، لكان اللفظ لا ينالها ذريتك لظلمهم ، مع أنه يحتمل أن الظالمين تكون الألف واللام فيه معاقبة للضمير ، أي : ظالموهم ، أو الضمير محذوف ، أي منهم . ومن أغرب الانتزاعات في قوله : ) لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( ما ذكر لي بعض الإمامية أنهم انتزعوا من هذا ، كون أبي بكر لا يكون إماماً قالوا : لأن إطلاق اسم الظلم يقع عليه ، لأنه سجد للأصنام ، فقد ظلم . وقد قال تعالى : ) لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( ، وذلك بخلاف عليّ ، فإنه لم يسجد لصنم قط . قلت له : فيلزم أن يسمي كل من أسلم من الصحابة ظالماً ، كسلمان ، وأبي ذر ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وعمار . وهذا ما لا يذهب إليه أحد ، فلم يحر جواباً .
وقال الزمخشري : وقالوا في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة ، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه ولا شهادته ، ولا تجب طاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدم للصلاة ؟ وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن عليّ ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة ، كالدوانيقي وأشباهه . وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ، ابني عبد الله بن الحسين ، حتى قتل فقال : ليتني مكان ابنك . وكان يقول في المتصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد ، وأرادوني على عد آجره لما فعلت . وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماماً قط . وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة ، والإمام إنما هو لكف المظلمة ؟ فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه ، فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب فقد ظلم . انتهى كلامه . وزيد بن عليّ الذي ذكره ، هو زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، كرم الله وجهه ، وهو أخو محمد الباقر بن عليّ ، وإليه تنتسب الزيدية اليوم . وكان من أهل العلم والفقه والفهم في القرآن والشجاعة ، وإنما ذكره الزمخشري ، لأنه كان بمكة مجاوراً للزيدية ومصاحباً لهم ، وصنف كتابه الكشاف لأجلهم . واللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة ، الذي ذكره الزمخشري ، هو هشام بن عبد الملك ، خرج عليه زيد بن عليّ ، وكان قد قال لأخيه الباقر : ما لك لا تقوم وتدعو الناس إلى القيام معك ؟ فأعرض عنه وقال له : لهذا وقت لا يتعداه . فدعا إلى نفسه وقال : إنما الإمام منا من أظهر سيفه وقام بطلب حق آل محمد ، لا من أرخى عليه ستوره وجلس في بيته . فقال له الباقر : يا زيد إن مثل القائم من أهل هذا البيت قبل قيام مهديهم ، مثل فرخ نهض من عشه من قبل أن يستوي جناحاه . فإذا فعل ذلك سقط ، فأخذه الصبيان يتلاعبون به . فاتق الله في نفسك أن لا تكون المصلوب غداً بالكناسة . فلم يلتفت زيد لكلام الباقر ، وخرج على هشام ، فظفر به وصلبه على كناسة الكوفة ، وأحرقه بالنار ، وكان كما حذره الباقر . وأما الدوانيقي ، فهو المنصور أخو السفاح ، سمي بذلك قيل لبخله . وقد ذكر بعض المصنفين أنه لم يكن بخيلاً ، وذكر من عطائه وكرمه أخباراً كثيرة . وأما إبراهيم ومحمد ، اللذان ذكرهما الزمخشري ، فهما ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، كانا قد

" صفحة رقم 550 "
تغيبا أيام السفاح ، وأول أيام المنصور ، ثم ظهر محمد أول يوم من رجب سنة خمس وأربعين ومائة ، ودخل مسجد المدينة قبل الفجر ، فخطب حتى حضرت الصلاة ، فنزل وصلى بالناس ، وبويع بالمدينة طوعاً ، واستعمل العمال ، وغلب على المدينة والبصرة ، وجبى الأموال . وكان إبراهيم أخوه قد صار إلى البصرة يدعو إليه . وآخر أمرهما أن المنصور وجه إليهما العساكر وقتلا .
وقد ذكر بعض المفسرين هنا أحكام الإمامة الكبرى ، وإن كان موضوعها أصول الدين ، فهناك ذكرها ، لكني لا أخلي كتابي عن شيء ملخص فيها دون الاستدلال . فنقول : الذي عليه أصحاب الحديث والسنة ، أن نصب الإمام فرض ، خلافاً لفرقة من الخوارج ، وهم أصحاب نجدة الحروري . زعموا أن الإمامة ليست بفرض ، وإنما على الناس إقامة كتاب الله وسنة رسوله ، ولا يحتاجون إلى إمام ، ولفرقة من الإباضية زعمت أن ذلك تطوع . واستناد فرضية نصب الإمام للشرع لا للعقل ، خلافاً للرافضة ، إذ أوجبت ذلك عقلاً ، ويكون الإمام من صميم قريش ، خلافاً لفرقة من المعتزلة ، إذ قالوا : إذا وجد من يصلح لها قرشي ونبطي ، وجب نصب النبطي دون القرشي ، وسواء في ذلك بطون قريش كلها ، خلافاً لمن خص ذلك بنسل عليّ ، أو العباس ، إما منصوصاً عليه ، وإما اجتهاد ، ويكون أفضل القوم ، فلا ينعقد للمفضول مع وجود الفاضل ، خلافاً لأبي العباس القلانسي ، فإنه يقول : ينعقد للمفضول ، إذا كان بصفة الإمامة ، مع وجود الفاضل ، وشروطه : أن يكون عدلاً مجتهداً في أحكام الشريعة ، شجاعاً ، والشجاعة في القلب بحيث يمكنه ضبط الأمر وحفظ بيضة الإسلام ، ولا يجوز نصب ساقط العدالة ابتداء ، فإن عقد لشخص كامل الشروط ثم طرأ منه فسق ، فقال أبو الحسن : يجوز الخروج عليه إذا أمن الناس . وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم . وقال أبو الحسن أيضاً ، والقاضي أبو بكر بن الطيب : لا يجوز الخروج عليه ، وإن أمن الناس ذلك ، إلا أن يكفر أو يدعو إلى ضلالة وبدعة ، والمرجوع في

" صفحة رقم 551 "
نصبه إلى اختيار أهل الاجتهاد في الدين ، والعامة في ذلك تبع لهم ولا اعتبار بهم في ذلك ، وليس من شرطه اجتماع كل المجتهدين ، ولا اعتبار في ذلك بعدد ، بل إذا عقد واحد من أهل الحل والعقد ، وجبت المبايعة على كلهم ، خلافاً لمن خص أهل البيعة بأربعة . وقال : لا ينعقد بأقل من ذلك ، أو لمن قال : لا ينعقد إلا بأربعين ، أو لمن قال : لا ينعقد إلا بسبعين ، ثم من خالف كان باغياً أو ناظراً أو غالطاً ، ولكل واحد منهم حكم يذكر في علم الفقه . ولا ينعقد لإمامين في عصر واحد ، خلافاً للكرامية ، إذ أجازوا ذلك ، وزعموا أن علياً ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد ، والقول بالتقية باطل ، خلافاً للإمامية ، ومعناها : أنه يكون الشخص الجامع لشروط الإمامة إماماً مستوراً ، لكنه يخفي نفسه مخافة من غلب على الملك ممن لا يصلح للإمامة . وليس من شرط الإمام العصمة ، خلافاً للرّافضة ، فإنهم يقولون بوجوب العصمة للإمام سرًّا وعلناً . وليس من شرطه الإحاطة بالمعلومات كلها ، خلافاً للإمامية ، والإمام مفترض الطاعة فيما يؤدّي إليه اجتهاده . وليس لأحد الخروج عليه بالسيف ، وكذلك لا يجوز الخروج على السلطان الغالب ، خلافاً لمن رأى ذلك من المعتزلة والخوارج والرافضة وغيرهم . وقد تكلم بعض الناس هنا في الإمامة الصغرى وهي : الإمامة في الصلاة ، وموضوعها علم الفقه .
البقرة : ( 125 ) وإذ جعلنا البيت . . . . .
( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْناً ( : لما رد على اليهود في إنكارهم التوجه إلى الكعبة ، وكانت الكعبة بناء إبراهيم أبيهم ، كانوا أحق بتعظيمها ، لأنها من مآثر أبيهم . ولوجه آخر من إظهار فضلها ، وهو كونها مثابة للناس وأمناً ، وأن فيها مقام إبراهيم ، وأنه تعالى أوحى إليه وإلى ولده ببنائها وتطهيرها ، وجعلها محلاً للطائف والعاكف والراكع والساجد ، وأمره بأن ينادي في الناس بحجها . والبيت هنا : الكعبة ، على قول الجمهور . وقيل : المراد البيت الحرام لا نفس الكعبة ، لأنه وصفه بالأمن ، وهذه صفة جميع الحرم ، لا صفة الكعبة فقط . ويجوز إطلاق البيت ، ويراد به كل الحرم . وأما الكعبة فلا تطلق إلا على البناء الذي يطاف به ، ولا تطلق على كل الحرم . والتاء في مثابة للمبالغة ، لكثرة من يثوب إليه ، قاله الأخفش ، أو لتأنيث المصدر ، أو لتأنيث البقعة ، كما يقال مقام ومقامه ، قال الشاعر : ألم تر أن الأرض رحب فسيحة
فهل يعجزني بقعة من بقاعها
ذكر رحباً على مراعاة المكان ، وأنث فسيحة على اللفظ . وقرأ الأعمش وطلحة : مثابات على الجمع ، وقال ورقة بن نوفل : مثاباً لأفناء القبائل كلها
تخب إليها اليعملات الطلائح
ويروى : الذوابل . ووجه قراءة الجميع أنه مثابة لكل من الناس ، لا يختص به واحد منهم ، ( سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ). ومثابة ، قال مجاهد وابن جبير معناه : يثوبون إليه من كل جانب ، أي يحجونه في كل عام ، فهم يتفرّقون ، ثم يثوبون إليه أعيانهم أو أمثالهم ، ولا يقضي أحد منهم وطراً ، وقال الشاعر : جعل البيت مثاباً لهم
ليس منه الدهر يقضون الوطر
وقال ابن عباس : معاذاً وملجأ . وقال قتادة والخليل : مجمعاً . وقال بعض أهل اللغة ، فيما حكاه الماوردي : أي مكان . إثابة : واحدة من الثواب ، وأورد هذا القول ابن عطية احتمالاً منه . والألف واللام في قوله للناس : أما لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أن الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان ، وإما للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك . وجعلنا هنا بمعنى صيرنا ، فمثابة مفعول ثان . وقيل : جعل هنا بمعنى : خلق ، أو وضع ، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره : مثابة كائنه ، إذ هو في موضع الصفة . وقيل : يتعلق بلفظ جعلنا ، أي لأجل الناس . والأمن : مصدر

" صفحة رقم 552 "
جعل البيت إياه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع به من الأمن ، أو على حذف مضاف ، أي ذا أمن ، أو على أنه أطلق على اسم الفاعل مجازاً ، أي آمنا ، كما قال تعالى : ) اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا ( ، وجعله آمناً ، اختلفوا ، هل ذلك في الدنيا أو في الآخرة ؟ فمن قال : إنه في الدنيا ، فقيل معناه : أن الناس كانوا يقتتلون ، ويغير بعضهم على بعض حول مكة ، وهي آمنة من ذلك ، ويلقى الرجل قاتل أبيه فلا يهيجه ، لأنه تعالى جعل لها في النفوس حرمة ، وجعلها أمناً للناس والطير والوحش ، إلا الخمس الفواسق ، فخصصت من ذلك على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وأما من أحدث حدثاً خارج الحرم ، ثم أتى الحرم ، ففي أمنه من أن يهاج فيه خلاف مذكور في الفقه . وقيل معناه : إنه آمن من لأهله ، يسافر أحدهم الأماكن البعيدة ، فلا يروعه أحد . وقيل : معناه : إنه يؤمن من أن يحول الجبابرة بينه وبين من قصده . ومن قال هذا الأمن في الآخرة ، قيل : من المكر عند الموت . وقيل : من عذاب النار . وقيل : من بخس ثواب من قصده ، قال قوم : وهذا الأمن مختص بالبيت . وقيل : يشمل البيت والحرم . وقال في ريّ الظمآن معناه : ذا أمن لقاطنيه من أن يجري عليهم ما يجري على سكان البوادي وسائر بلدان العرب . والظاهر أن قوله : وأمناً ، معطوف على قوله : مثابة ، ويفسر الأمن بما تقدّم ذكره . وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر ، التقدير : واجعلوه آمناً ، أي جعلناه مثابة للناس ، فاجعلوه آمناً لا يتعدّى فيه أحد على أحد . فمعناه أن الله أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمناً من الغارة والقتل ، وكان البيت محرّماً بحكم الله ، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ : واتخذوا على الأمر ، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل ، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية ، وعلى القول الظاهر يون من عطف المفردات .
( وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ( : قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، والجمهور : واتخذوا ، بكسر الخاء على الأمر . وقرأ نافع ، وابن عامر : بفتحها ، جعلوه فعلاً ماضياً . فأما قراءة : واتخذوا على الأمر ، فاختلف من المواجه به ، فقيل : إبراهيم وذريته ، أي وقال الله لإبراهيم وذريته : اتخذوا . وقيل : النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمته ، أي : وقلنا اتخذوا . ويؤيده ما روي عن عمر أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، فذكر منها وقلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه أخذ بيد عمر فقال : ( هذا مقام إبراهيم ) ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى ؟ فقال : ( لم أومر بذلك ) . فلم تغب الشمس حتى نزلت . وعلى هذين القولين يكون اتخذوا معمولاً لقول محذوف . وقيل : المواجه به بنو إسرائيل ، وهو معطوف على قوله : ) اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ). وقيل : هو معطوف على قوله : ) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً ( ، قالوا : لأن المعنى : ثوبوا إلى البيت ، فهو معطوف على المعنى . وهذان القولان بعيدان . وأما قراءة : واتخذوا ، بفتح الخاء ، فمعطوف على ما قبله ، فأما على مجموع ، إذ جعلنا فيحتاج إلى إضمار إذ ، وإما على نفس جعلنا ، فلا يحتاج إلى تقديرها ، بل يكون في صلة إذ . والمعنى : واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به ، وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها ، قاله الزمخشري . من مقام : جوّزوا في من أن تكون تبعيضية ، وبمعنى في ، وزائدة على مذهب الأخفش ، والأظهر الأول . وقال القفال : هي مثل اتخذت من فلان صديقاً ، وأعطاني الله من فلان أخاً صالحاً ، دخلت من لبيان المتخذ الموهوب ، وتميزه في ذلك المعنى والمقام مفعل من القيام ، يراد به المكان ، أي مكان قيامه ، وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت ، وغرقت قدماه فيه ، قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم ، وخرجه البخاري ، وهو الآن موضع ذلك الحجر والمسمى مقام إبراهيم . وعن عمر أنه سأل المطلب بن أبي رفاعة : هل تدري أين كان موضعه الأول ؟ قال نعم ، فأراه موضعه اليوم . قال أنس : رأيت في المقام

" صفحة رقم 553 "
أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه ، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم ، حكاه القشيري . أو حجر جاءت به أم إسماعيل إليه وهو راكب ، فاغتسل عليه ، فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه ، قاله الربيع بن أنس ؛ أو مواقف الحج كلها ، قاله ابن عباس أيضاً وعطاء ومجاهد ، أو عرفة والمزدلفة والجمار ، قاله عطاء والشعبي ، لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها ؛ أو الحرم له ، قاله النخعي ومجاهد ؛ أو المسجد الحرام ، قاله قوم . واتفق المحققون على القول الأول ورجح بحديث عمر : أفلا نتخذه مصلى ؟ الحديث ، وبقراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) د لما فرغ من الطواف وأتى المقام : ) وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ( ، فدل على أن المراد منه ذلك الموضع ، ولأن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع ، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حين غاصت فيه رجلاه ، وفي ذلك معجزة له ، فكان اختصاصه به أقوى من اختصاص غيره . فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى ، ولأن المقام هو موضع القيام ، وثبت قيامه على الحجر ولم يثبت على غيره . مصلى : قبلة ، قاله الحسن . موضع صلاة ، قاله قتادة . موضع دعاء ، قاله مجاهد ، والأولى الحمل على الصلاة الشرعية لا على الصلاة لغة . قال ابن عطية : موضع صلاة على قول من قال المقام : الحجر ، ومن قال غيره قال : مصلى ، مدعى على أصل الصلاة ، يعني في اللغة . انتهى .
( وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ( أي أمرنا أو وصينا ، أو أوحينا ، أو قلنا أقوال متقاربة المعنى . ) أَن طَهّرَا ( : يحتمل أن تكون أن تفسيرية ، أي طهرا ، ففسر بها العهد ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، أي بأن طهرا . فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب ، وعلى الثاني يحتمل الجرّ والنصب على اختلاف النحويين . إذا حذف من أن حرف الجر ، هل المحل نصب أو خفض ؟ وقد تقدّم لنا الكلام مرة في وصل أن بفعل الأمر ، وأنه نص على ذلك سيبويه وغيره ، وفي ذلك نظر ، لأن جميع ما ذكر من ذلك محتمل ، ولا أحفظ من كلامهم : عجبت من أن أضرب زيداً ، ولا يعجبني أن أضرب زيداً ، فتوصل بالأمر ، وون انسباك المصدر يحيل معنى الأمر ويصيره مستنداً إليه وينافي ذلك الأمر . والتطهير : المأمور به هو التنظيف من كل ما لا يليق به . وقد فسروا التطهير بالبناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد ، قاله السدّي ، وهو بعيد ، وبالتطهير من الأوثان . وذكروا أنه كان عامراً على عهد نوح ، وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم ، وأنه طال العهد ، فعبدت من دون الله ، فأمر الله بتطهيره من تلك الأوثان ، قاله جبير ومجاهد وعطاء ومقاتل . والمعنى : أنه لا ينصب فيه وثن ، ولا يعبد فيه غير الله . وقال يمان : معناه بخراه ونظفاه وخلقاه . وقيل : من الآفات والريب . وقيل : من الكفار . وقيل : من الفرث والدم الذي كان يطرح فيه . وقيل : معناه أخلصاه لهؤلاء ، لا يغشاه غيرهم ، والأولى حمله على لتطهير مما لا يناسب بيوت الله ، فيدخل فيه الأوثان والإنجاس ، وجميع الخبائث ، وما يمنع منه شرعاً ، كالحائض .
( بَيْتِىَ ( : هذه إضافة تشريف ، لا أن مكاناً محل لله تعالى ، ولكن لما أمر ببنائه وتطهيره وإيفاد الناس من كل فج إليه ، صار له بذلك اختصاص ، فحسنت إضافته إلى الله بذلك ، وصار نظير قوله : ) نَاقَةُ اللَّهِ ( ) وَرُوحٌ اللَّهِ ( ، من حيث أن في كل منهما خصوصية لا توجد في غيره ، فناسب الإضافة إليه تعالى . والأمر بتطهيره يقتضي سبق وجوده ، إلا إذا حملنا التطهير على البناء والتأسيس على الطهارة والتقوى . وقد تقدّم أنه كان مبنياً على عهد نوح . ) لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ ( : ظاهره أنه كل من يطوف من حاضر أو باد ، قاله عطاء وغيره . وقال ابن جبير : الغرباء الطارئون على مكة حجاجاً وزوّاراً ، فيرحلون عن قريب ، ويؤيده أنه ذكر بعده . والعاكفين ، قال : وهم أهل البلد الحرام المقيمون ، والمقيم مقابل المسافر . وقال عطاء : العاكفون هم الجالسون من غير طواف من بلديّ وغريب . وقال مجاهد : المجاورون له من الغرباء . وقال ابن عباس : المصلون ، لأن الذي يكون يدخل إلى البيت ، إنما يدخل لطواف أو صلاة . وقيل : هم المعتكفون . قال الزمخشري : ويجوز أن

" صفحة رقم 554 "
يراد بالعاكفين : الواقفين ، يعني القائمين ، كما قال للطائفين والقائمين والركع السجود . والمعنى للطائفين والمصلين ، لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي . انتهى . ولو قال : القائم هنا معناه : العاكف ، من قوله : ما دمت عليه قائماً ، لكان حسناً ، ويكون في ذلك جمع بين أحوال من دخل البيت للتعبد ، لأنه لا يخلو إذ ذاك من طواف أو اعتكاف أو صلاة ، فيكون حمله على ذلك أجمع لما هيىء البيت له .
( وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( : هو المصلون عند الكعبة ، قاله عطاء وغيره . وقال الحسن : هم جميع المؤمنين ، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي ، لأنهما أقرب أحواله إلى الله ، وقدّم الركوع على السجود لتقدمه عليه في الزمان ، وجمعا جمع تكسير لمقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة ، فكان ذلك تنويعاً في الفصاحة ، وخالف بين وزني تكسيرهما تنويعاً في الفصاحة أيضاً ، وكان آخرهما على فعول ، لا على فعل ، لأجل كونها فاصلة ، والفواصل قبلها وبعدها آخر ما قبله حرف مدّ ولين ، وعطفت تينك الصفتان لفرط التباين بينهما بأي تفسير فسرتهما مما سبق . ولم يعطف السجود على الركع ، لأن المقصود بهما المصلون . والركع والسجود ، وإن اختلفت هيئاتهما فيشملهما فعل واحد وهو الصلاة . فالمراد بالركع السجود : المصلون ، فناسب أن لا يعطف ، لئلا يتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها ، وليستا مجتمعتين في عبادة واحدة ، وليس كذلك . وفي قوله : ) وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( دلالة على جواز الصلاة في البيت فرضاً ونفلاً ، إذ لم يخصص .
البقرة : ( 126 ) وإذ قال إبراهيم . . . . .
( وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا ( : ذكروا أن العامل في إذا ذكر محذوفة ، ورب : منادى مضاف إلى الياء ، وحذف منه حرف النداء ، والمضاف إلى الياء فيه لغات ، أحسنها : أن تحذف منه ياء الإضافة ، ويدل عليها بالكسرة ، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف . ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه ؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو ، وسيأتي منها في القرآن شيء ، ونتكلم عليه في مكانه ، إن شاء الله تعالى . وناداه بلفظ الرب مضافاً إليه ، لما في ذلك من تلطف السؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل وإجابة ضراعته . واجعل هنا بمعنى : صير ، وصورته أمر ، وهو طلب ورغبة . وهذا إشارة إلى الوادي الذي دعا لأهله حين أسكنهم فيه ، وهو قوله : ) بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ( ، أو إلى المكان الذي صار بلداً ، ولذلك نكره فقال : ) بَلَدًا آمِنًا ). وحين صار بلداً قال : ) رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا وَاجْنُبْنِى ( ، ( وَقَالَ لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ ( ، هذا إن كان الدعاء مرتين في وقتين . وقيل : الآيتان سواء ، فتحتمل آية التنكير أن يكون قبلها معرفة محذوفة ، أي اجعل هذا البلد بلداً آمناً ، ويكون بلداً النكرة ، توطئة لما يجيء بعده ، كما تقول : كان هذا اليوم يوماً حاراً ، فتكون الإشارة إليه في الآيتين بعد كونه بلداً . ويحتمل وجهاً آخر وهو : أنه لا يكون محذوف ولا يكون إذ ذاك بلداً ، بل ادعى له بذلك ، وتكون المعرفة الذي جاء في قوله : ) هَاذَا الْبَلَدَ ( ، باعتبار ما يؤول إليه سماه بلداً . ووصف بلد بآمن ، إما على معنى النسب ، أي ذا أمن ، كقولهم : ) عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ( ، أي ذات رضا ، أو على الاتساع لما كان يقع فيه الأمن جعله آمناً كقولهم : نهارك صائم وليلك قائم . وهل الدعاء بأن يجعله آمناً من الجبابرة والمسلطين ، أو من أن يعود حرمه حلالاً ، أو من أن يخلو من أهله ، أو آمناً من القتل ، أو من الخسف والقذف ، أو من القحط والجدب ، أو من دخول الدجال ، أو من أصحاب الفيل ؟ أقوال . ومن فسر آمنا بكونه آمنا من الجبابرة ، فالواقع يرده ، إذ قد دخل فيه الجبابرة وقتلوا ، كعمرو بن لحي الجرهمي ، والحجاج بن يوسف ، والقرامطة ، وغيرهم . وكذلك من قال آمنا من القحط والجدب ، فهي أكثر بلاد الله قحطاً وجدباً . وقال القفال : معناه مأموناً فيه ، وكانوا قبل أن تغزوهم العرب في غاية الأمن ، حتى أن أحدهم إذا وجد بمفازة أو برّية ، لا يتعرض إليه عندما يعلم أنه من سكان الحرم .
( وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( : لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة ، وكان حال من يتمدّن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة ، دعا الله للبلد بالأمن ، وبأن يجبى له الأرزاق . فإنه إذا كان البلد ذا أمن ، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح . ولما سمع في الإمامة قوله تعالى : ) لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ). قيد هنا من سأل له الرزق فقال : ) مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ ( ، والضمير في منهم عائد على أهله . دعا لمؤمنهم بالأمن والخصب ، لأن

" صفحة رقم 555 "
الكافر لا يدعى له بذلك . ألا ترى أن قريشاً لما طغت ، دعا عليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين ، كسني يوسف ) ، وكانت مكة إذ ذاك قفراً ، لا ماء بها ولا نبات ، كما قال : ) بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ ( فبارك الله فيما حولها ، كالطائف وغيره ، وأنبت الله فيه أنواعاً من الثمر . وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم ، أمر جبريل فاقتلع فلسطين ، وقيل : بقعة من الأردن ، فطاف بها حول البيت سبعاً ، فأنزلها بواد ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف ، وقال بعضهم : كل الأماكن إعظاماً لحرمتها
تسعى لها ولها في سعيها شرف
وذكر متعلق الإيمان ، وهو الله تعالى واليوم الآخر ، لأن في الإيمان بالله إيماناً بالصانع الواجب الوجود ، وبما يليق به تعالى من الصفات ، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبراً صادقاً به ، وهم الأنبياء . فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ، وبما جاؤا به . فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به ، اقتصر على ذلك ، لأن غيره في ضمنه . ودعاء إبراهيم لأهل البيت يعم من يطلق عليه هذا الاسم ، ولا يختص ذلك بذريته ، وإن كان ظاهر قوله : ) وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ ( مختصاً بذريته لقوله : ) إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى ( لعود الضمير في وارزقهم عليه ، فيحتمل أن يكونا سؤالين . ومن : في قوله : من الثمرات للتبعيض ، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات . وقيل : هي لبيان الجنس ، ومن بدل من أهله ، بدل بعض من كل ، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه ، وفائدته أنه يصير مذكوراً مرتين : إحداهما بالعموم السابق في لفظ المبدل منه ، والثانية بالتنصيص عليه ، وتبيين أن المبدل منه إنما عنى به وأريد البدل فصار مجازاً ، إذ أريد بالعام الخاص . هذه فائدة هذين البدلين ، فصار في ذلك تأكيد وتثبيت للمتعلق به الحكم ، وهو البدل ، إذ ذكر مرتين .
( قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( : قرأ الجمهور من السبعة : فأمتعه ، مشدّداً على الخبر . وقرأ ابن عامر : فأمتعه ، مخففاً على الخبر . وقرأ هؤلاء : ثم اضطره خبراً . وقرأ يحيى بن وثاب : فأمتعه مخففاً ، ثم أضطره بكسر الهمزة ، وهما خبران . وقرأ ابن محيصن : ثم أضطره ، بإدغام الضاد في الطاء خبراً . وقرأ يزيد بن أبي حبيب : ثم اضطره بضم الطاء ، خبراً . وقرأ أبي بن كعب : فنمتعه ثم نضطره بالنون فيهما . وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما : ) فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ ( على صيغة الأمر فيهما ، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في : قال ، عائداً على إبراهيم ، لما دعا للمؤمنين بالرزق ، دعا على الكافرين بالأمتاع القليل والإلزازا إلى العذاب . ومن : على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع ، على أن تكون موصولة أو شرطية ، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضاً . وأما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في : قال ، عائداً على الله تعالى ، ومن : يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره : قال الله وارزق من كفر فأمتعه ، ويكون فأمتعه معطوفاً على ذلك الفعل المحذوف الناصب لمن . ويحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء ، إما موصولاً ، وإما شرطاً ، والفاء جواب الشرط ، أو الداخلة في خبر الموصول لشبهة باسم الشرط . ولا يجوز أن تكون من في موضع نصب على الاشتغال إذا كانت شرطاً ، لأنه لا يفسر العامل في من إلا فعل الشرط ، لا الفعل الواقع جزاء ، ولا إذا كانت موصولة ، لأن الخبر مضارع قد دخلته الفاء تشبيهاً ، للموصول باسم الشرط . فكما لا يفسر الجزاء ، كذلك لا يفسر الخبر المشبه بالجزاء . وأما إذا كان أمراً ، أعني الخبر نحو : زيداً فاضربه ، فيجوز أن يفسر ، ولا يجوز أن تقول : زيدا

" صفحة رقم 556 "
ً فتضربه على الاشتغال ، ولجواز : زيداً فاضربه على الأمر ، علة مذكورة في كتب النحو . قال أبو البقاء : لا يجوز أن تكون من مبتدأ ، وفأمتعه الخبر ، لأن الذي لا يدخل الفاء في خبرها ، إلا إذا كان الخبر مستحقاً لصلتها ، كقولك : الذي يأتيني فله درهم . والكفر لا يستحق به التمتع . فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز ، أو الخبر محذوفاً ، وفأمتعه دليل على جاز ، تقديره : ومن كفر أرزقه فأمتعه . ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابها . وقيل : الجواب محذوف تقديره : ومن يكفر ارزق . ومن على هذا رفع بالابتداء ، ولا يجوز أن تكون منصوبة ، لأن أداة الشرط لا يعمل فيها جوابها ، بل الشرط . انتهى كلامه . وقوله أولاً لا يجوز كذا وتعليله ليس بصحيح ، لأن الخبر مستحق بالصلة ، لأن التمتع القليل والصيرورة إلى النار مستحقان بالكفر . ثم إنه قد ناقض أبو البقاء في تجويزه أن تكون من شرطية والفاء جوابها . وهل الجزاء إلا مستحق بالشرط ومترتب عليه ؟ فكذلك الخبر المشبه به أيضاً . فلو كان التمتع قليلاً ليس مستحقاً بالصلة ، وقد عطف عليه ما يستحق بالصلة ، ناسب أن يقع خبراً من حيث وقع جزاء ، وقد جوّز هو ذلك . وأما تقدير زيادة الفاء ، وإضمار الخبر ، وإضمار جواب الشرط ، إذا جعلنا من شرطية ، فلا حاجة إلى ذلك ، لأن الكلام منتظم في غاية الفصاحة دون هذا الإضمار . وإنما جرى أبو البقاء في إعرابه في القرآن على حد ما يجري في شعر الشنفري والشماخ ، من تجويز الأشياء البعيدة والتقادير المستغنى عنها ، ونحن ننزه القرآن عن ذلك . وقال الزمخشري : ومن كفر : عطف على من آمن ، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك . انتهى كلامه . وتقدم لنا الردّ عليه في زعمه أن ومن ذريتي عطف على الكاف في جاعلك . وأما عطف من كفر على من آمن فلا يصح ، لأنه يتنافى في تركيب الكلام ، لأنه يصير المعنى : قال إبراهيم : وارزق من كفر ، لأنه لا يكون معطوفاً عليه حتى يشركه في العامل ، ومن آمن العامل فيه فعل الأمر ، وهو العامل في ومن كفر . وإذا قدرته أمراً ، تنافى مع قوله : فأمتعه ، لأن ظاهر هذا إخبار من الله بنسبه التمتع وإلجائهم إليه تعالى ، وأن كلاً من الفعلين يضمن ضمير الله تعالى ، وذلك لا يجوز إلا على بعد ، بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى ، أي قال إبراهيم : وارزق من كفر ، فقال الله : أمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار . ثم ناقض الزمخشري قوله هذا ، أنه عطف على من ، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك فقال : فإن قلت : لم خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه ؟ قلت : قاس الرزق على الإمامة ، فعرف الفرق بينهما ، لأن الاستخلاف استرعاء مختص بمن ينصح للمرعى . وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ، بخلاف الرزق ، فإنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة له . والمعنى : وارزق من كفر فأمتعه . انتهى كلامه . فظاهر قوله والمعنى : وارزق من كفر فأمتعه يدل على أن الضمير في قال ، ومن كفر عائد على الله ، وأن من كفر منصوب بأسش
رزق الذي هو فعل مضارع مسند إلى الله تعالى ، وهو يناقص ما قدم أولاً من أن من كفر معطوف على من آمن . وفي قوله خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه سوء أدب على الأنبياء ، لأنه لم يرد عليه ، لأنه لا يدعي ، ويرغب في أن يرزق الكافر ، بل قوله تعالى : ) قَالَ وَمَن كَفَرَ ( ، إخبار من الله تعالى بما يكون مآل الكافر إليه من التمتيع القليل والصيرورة إلى النار ، وليس هنا قياس الرزق على الإمامة ، ولا تعريف الفرق بينهما ، كما زعم .
وقد تقدم تفسير المتاع ، وأنه كل ما انتفع به ، وفسر هنا التمتيع والإمتاع بالإبقاء ، أو بتيسير المنافع ، ومنه متاع الحياة الدنيا ، أي منفعتها التي لا تدوم ، أو بالتزويد ، ومنه : فمتعوهن ؛ أي زوّدوهنّ نفقة . والمتعة : ما يتبلغ به من الزاد ، والجمع متع ، ومنه : متاعاً لكم . وللسيارة والهمزة في أمتع يجعل الشيء صاحب ما صيغ منه : أمتعت زيداً ، جعلته صاحب متاع ، كقولهم : أقبرته وأنعلته ، وكذلك التضعيف في متع هو : يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو قولهم : عدلته . وليس التضعيف في متع يقتضي التكثير ، فينافي ظاهر

" صفحة رقم 557 "
ذلك القلة ، فيحتاج إلى تأويل ، كما ظنه بعضهم وتأوّله على أن الكثرة بإضافة بعضها إلى بعض ، والقلة بالإضافة إلى نعيم الآخرة . فقد اختلفت جهتا الكثرة والقلة فلم يتنافينا . وانتصاب قليلاً على أنه صفة لظرف محذوف ، أي زماناً قليلاً ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي تمتيعاً قليلاً ، على تقدير الجمهور ، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف ، الدال عليه الفعل ، وذلك على مذهب سيبويه . والوصف بالقلة لسرعة انقضائه ، إما لحلول الأجل ، وإما بظهور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيقتله ، أو يخرجه عن هذا البلد ، إن أقام على الكفر والإمتاع بالنعيم والزينة ، أو بالإمهال عن تعجيل الانتقام فيها ، أو بالرزق ، أو بالبقاء في الدنيا ، أقوال للمفسرين . وقراءة يحيى بن وثاب : ثم إضطره بكسر الهمزة . قال ابن عطية ، على لغة قريش ، في قولهم : لا إخال ، يعني بكسر الهمزة . وظاهر هذا النقل في أن ذلك ، أعني كسر الهمزة التي للمتكلم في نحو اضطر ، وهو ما أوله همزة وصل . وفي نحو إخال ، وهو افعل المفتوح العين من فعل المكسور العين مخالف لما نقله النحويون . فإنهم نقلوا عن الحجازيين فتح حرف المضارعة مما أوّله همزة وصل ، ومما كان على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها ، أو ذا ياء مزيدة في أوله ، وذلك نحو علم يعلم ، وانطلق ينطلق ، وتعلم يتعلم ، إلا إن كان حرف المضارعة ياء ، فجمهور العرب من غير الحجازيين لا يكسر الياء ، بل يفتحها . وفي مثل يوجل بالياء مضارع وجل ، مذاهب تذكر في علم النحو ، وإنما المقصود هنا : أن كلام ابن عطية مخالف لما حكاه النحاة ، إلا إن كان نقل أن إخال بخصوصيته في لغة قريش مكسور الهمزة دون نظائره ، فيكونون قد تبعوا في ذلك لغة غيرهم من العرب ، فيمكن أن يكون قول ابن عطية صحيحاً .
وقد تقدم لنا في سورة الحمد في قوله : ) نَسْتَعِينُ ( أن الكسرة لغة قيس وتميم وأسد وربيعة . وقد أمعنا الكلام على ذلك في ( كتاب التكميل لشرح كتاب التسهيل ) من تأليفنا . وقراءة ابن محيصن : ثم اطره ، بإدغام الضاد في الطاء . قال الزمخشري : هي لغة مرذولة ، لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها ، ولا تدغم هي فيما يجاورها ، وهي حروف ضم شفر . انتهى كلامه . إذا لقيت الضاد الطاء في كلمة نحو مضطرب ، فالأوجه البيان ، وإن أدغم قلب الثاني للأول فقيل : مضرب ، كما قيل : مصبر في مصطبر . قال سيبويه : وقد قال بعضهم : مطجع ، في مضطجع ومضجع أكثر ، وجاز مطجع ، وإن لم يجز في مصطبر مطبر ، لأن الضاد ليست في السمع كالصاد ، يعني أن الصفير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد . فظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة ، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب مطجع ، وإلى قوله : ومضجع أكثر ، فيدل على أن مطجعا كثير ؟ وألا ترى إلى تعليله ، وكون الضاد قلبت إلى الطاء وأدغمت ، ولم يفعل ذلك بالصاد ، وإبداء الفرق بينهما ؟ وهذا كله من كلام سيبويه ، يدل على الجوار . وقد أدغمت الضاد في الذال في قوله تعالى : ) الاْرْضَ ذَلُولاً ( ، رواه اليزيدي ، عن أبي عمرو ، وهو ضعيف . وفي الشين في قوله تعالى : ) لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ ( ، ( وَالاْرْضِ شَيْئًا ( ، وهو ضعيف أيضاً . وأما الشين فأدغمت في السين . روي عن أبي عمرو ذلك في قوله تعالى : ) إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً ( ، والبصريون لا يجيزون ذلك عن أبي عمرو ، وهو رأس من رؤوس البصريين . وأما الفاء فقد أدغمت في الباء في قراءة الكسائي : ) إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ( ، وهو إمام الكوفيين . وأما الراء ، فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل تكريرها ، ولا في النون . وأجاز ذلك في اللام : يعقوب ، وأبو عمرو ، والكسائي ، والفراء ، وأبو جعفر الرؤاسي ، وهؤلاء الثلاثة رؤوس الكوفيين ، حكوه سماعاً عن العرب . وإنما تعرضت لإدغام هذه الحروف فيما يجاورها ، وذكر الخلاف فيها ، لئلا يتوهم من قول الزمخشري : لا تدغم فيما يجاورها ، أنه لا يجوز ذلك

" صفحة رقم 558 "
بإجماع من النحويين . فأوردت هذا الخلاف فيها ، تنبيهاً على أن ذلك ليس بإجماع ، إذ طلاقه يدل على المنع ألبتة . وقراءة ابن أبي حبيب : بضم الطاء ، توجيهها أنه أتبع حركة الطاء لحركة الراء ، وهو شاذ . وأما قراءة أبي بالنون فيهما ، فهي مخالفة لرسم المصحف ، فهي شاذة . وقراءة ابن عباس بصيغة الأمر يكون تكرير قال على سبيل التوكيد ، أو ليكون ذلك جملتين ، جملة بالدعاء لمن آمن ، وجملة بالدعاء على من كفر ، فلا يندرجان تحت معمول واحد ، بل أفرد كلاً بقول . واضطره على هذه القراءة ، هو بفتح الراء المشدّدة ، كما تقول : عضه بالفتح ، وهذا الإدغام هو على لغة غير الحجازيين ، لأن لغة الحجازيين في مثل هذا الفك . ولو قرأ على لغة قومه ، لكان اضطره إلى عذاب يتعلق بقوله : ثم أضطره . ومعنى الاضطرار هنا هو أنه يلجأ ويلز إلى العذاب ، بحيث لا يجد محيصاً عنه إذا حد ، لا يؤثر دخول النار ولا يختاره . ومفهوم الشرط هنا ملغي ، إذ قد يدخل النار بعض العصاة من المؤمنين . ) وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى ، أي وبئس المصير النار ، إن كان المصير اسم مكان ، وإن كان مصدراً على رأي من أجاز ذلك فالتقدير : وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب .
البقرة : ( 127 ) وإذ يرفع إبراهيم . . . . .
( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ ( : هذه الجملة معطوفة على ما قبلها ، فالعامل في إذ ما ذكر أنه العامل في إذ قبلها . ويرفع في معنى رفع ، وإذ من الأدوات المخلصة للمضارع إلى الماضي ، لأنها ظرف لما مضى من الزمان . والرفع حالة الخطاب قد وقع . وقال الزمخشري : هي حكاية حال ماضية ، وفي ذلك نظر . من البيت : هو الكعبة . ذكر المفسرون في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه ، ومن أي شيء كان باباه ، وكم مرة حجة آدم ، ومن أي شيء بناه إبراهيم ، ومن ساعده على البناء ، قصصاً كثيرة . واستطردوا من ذلك للكلام في البيت المعمور ، وفي طول آدم ، والصلع الذي عرض له ولولده ، وفي الحجر الأسود ، وطولوا في ذلك بأشياء لم يتضمنها القرآن ولا الحديث الصحيح . وبعضها يناقض بعضاً ، وذلك على جري عاداتهم في نقل ما دب وما درج . ولا ينبغي أن يعتمد إلا على ما صح في كتاب الله وسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قال ابن عطية : والذي يصح من هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع القواعد من البيت ونشاحه في قوله : أمر ، إذ لم يأت النص بأن الله أمر بذلك . ) الْقَوَاعِدِ ( : تقدّم تفسيرها في الكلام على المفردات ، وهل هي الأساس أو الجدر ؟ فإن كانت الأساس ، فرفعها بأن يبني عليها ، فتنتقل من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، وتتطاول بعد التقاصر . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المراد بها ساقات البناء ، ويجوز أن يكون المعنى ما قعد من البيت ، أي استوطىء ، يعني جعل هيئة القاعدة المستوطأة مرتفعة عالية بالبناء .
( مِنَ الْبَيْتِ ( : يحتمل أن يكون متعلقاً بيرفع ، ويحتمل أن يكون في موضع الحال من القواعد ، فيتعلق بمحذوف تقديره : كائنة من البيت . ولم تضف القواعد إلى البيت ، فكان يكون الكلام قواعد البيت ، لما في عدم الإضافة من الإيضاح بعد الإبهام وتفخيم شأن المبين . ) وَإِسْمَاعِيلَ ( : معطوف على إبراهيم ، فهما مشتركان في الرفع . قيل : كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة . وقال عبيد بن عمير : رفع إبراهيم وإسماعيل معاً ، وهذا ظاهر القرآن . وروي عن ابن عباس أن إسماعيل طفل صغير إذ ذاك ، كان يناوله الحجارة . وروي عن علي : أن إسماعيل كان إذ ذاك طفلاً صغيراً ، ولا يصح ذلك عن عليّ . ومن جعل الواو في وإسماعيل واو الحال ، أعرب إسماعيل مبتدأ وأضمر الخبر ، التقدير : وإسماعيل يقول

" صفحة رقم 559 "
ربنا تقبل منا ، فيكون إبراهيم مختصاً بالبناء ، وإسماعيل مختصاً بالدعاء . ومن ذهب إلى العطف ، جعل ربنا تقبل منا معمولاً لقول محذوف عائد على إبراهيم وإسماعيل معاً ، في موضع نصب على الحال تقديره : وإذ يرفعان القواعد قائلين ربنا تقبل منا . ويؤيد هذا التأويل أن العطف في وإسماعيل أظهر من أن تكون الواو واو الحال . وقراءة أبي وعبد الله يقولان بإظهار هذه الجملة ، ويجوز أن يكون القول المحذوف هو العامل في إذ ، فلا يكون في موضع الحال ، والمعنى : أنهما دعوا بذلك الدعاء وقت أن شرعا في رفع القواعد ، وفي ندائهما بلفظ ربنا تلطف واستعطاف بذكر هذه الصفة الدالة على التربية والإصلاح بحال الداعي .
( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ( : أي أعمالنا التي قصدنا بها طاعتك ، وتقبل بمعنى : اقبل ، فتفعل هنا بمعنى المجرد كقولهم : تعدّى الشيء وعداه ، وهو أحد المعاني التي جاء لها تفعل . والمراد بالتقبل : الإثابة ، عبر بإحدى المتلازمين عن الآخر ، لأن التقبل هو أن يقبل الرجل من الرجل ما يهدي إليه . فشبه الفعل من العبد بالعطية ، والرضا من الله تعالى بالتقبل توسعاً . وحكى بعض المفسرين عن بعض الناس فرقاً بين القبول والتقبل ، قال : التقبل تكلف القبول ، وذلك حيث يكون العمل ناقصاً لا يستحق أن يقبل ، قال : فهذا اعتراف من إبراهيم وإسماعيل بالتقصير في العمل . ولم يكن المقصود إعطاء الثواب ، لأن كون الفعل واقعاً موقع القبول من المخدوم ، ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه ، وسؤالهما التقبل بذلك ، على أن ترتيب الثواب على العمل ليس واجباً على الله تعالى ، انتهى ملخصاً . ونقول : إن التقبل والقبول سواء بالنسبة إلى الله تعالى ، إذ لا يمكن تعقل التكليف بالنسبة إليه تعالى . وقد قدمنا أن تفعل هنا موافق للفعل المجرد الذي هو قبل .
( إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( : يجوز في أنت الابتداء والفصل والتأكيد . وقد تقدّم الكلام في الفصل وفائدته ، وهو من المسائل التي جمعت فيها الكلام في نحو من سبعة أوراق أحكاماً دون استدلال . وهاتان الصفتان مناسبتان هنا غاية التناسب ، إذ صدر منهما عمل وتضرع سؤال ، فهو السميع لضراعتهما وتسآلهما التقبل ، وهو العليم بنياتهما في إخلاص عملهما . وتقدّمت صفة السمع ، وإن كان سؤال التقبل متأخراً عن العمل للمجاورة نحو قوله : ) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ). فأما الذين اسودت وتأخرت صفة العليم لكونها فاصلة ولعمومها ، إذ يشمل علم المسموعات وغير المسموعات .
البقرة : ( 128 ) ربنا واجعلنا مسلمين . . . . .
( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ( : أي منقادين ، أو مخلصين أوجهنا لك من قوله : من أسلم وجهه ، أي أخلص عمله ، والمعنى : أدم لنا ذلك ، لأنهما كانا مسلمين ، ولك تفيد جهة الإسلام ، أي لك لا لغيرك . وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي : مسلمين على الجمع ، دعاء لهما وللموجود من أهلهما ، كهاجر ، وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مراداً به التثنية ، وقد قيل به هنا .
( وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ( : لما تقدّم الجواب له بقوله : ) لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( ، علم أن من ذريتهما الظالم وغير الظالم ، فدعا هنا بالتبعيض لا بالتعميم فقال : ) وَمِن ذُرّيَّتِنَا ( ، وخصّ ذريته بالدعاء للشفقة والحنوّ عليهم ، ولأن في صلاح نسل الصالحين نفعاً كثيراً لمتبعهم ، إذ يكونون سبباً لصلاح من وراءهم . والذرية هنا ، قيل : أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، بدليل قوله : ) وَابْعَثْ فِيهِمْ ). وقيل : هم العرب ، لأنهم من ذريتهما . قال القفال : لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئاً ، ولم تزل الرسل عليهم الصلاة والسلام من ذريتهما ، وكان في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة الأيادي . ويقال : عبد المطلب بن هاشم ، جدّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعمرو بن الظرب ، كانا على دين الإسلام . وجوّز الزمخشري أن يكون من في قوله : ومن ذريتنا ، للتبيين ، قال كقوله : ) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ ( ، وقد تقدّم لنا أن كون من للتبيين يأباه أصحابنا ويتأولون ما فهم من ظاهره ذلك . وتقدّم شرح الأمة ، والمراد به هنا : الجماعة ، أو الجيل ، والمعنى : على أن من ذريتنا هو في موضع المفعول الأول لقوله : واجعل ، لأن الجعل هنا بمعنى التصيير ، فالمعنى : واجعل ناساً من ذريتنا أمة مسلمة لك ، ويمتنع أن يكون ما قدّر من قوله : واجعل من ذريتنا بمعنى : أوجد واخلق . وإن كان من جهة المعنى صحيحاً ، فكان يكون الجعل هنا يتعدى

" صفحة رقم 560 "
إلى واحد . ومن ذريتنا متعلق بأجعل المقدرة ، لأنه إن كان من باب عطف المفردات ، فهو مشترك في العامل الأول ، والعامل الأول ليس معناه على الخلق والإيجاد . وإن كان من باب عطف الجمل ، فلا يحذف إلا ما دل عليه المنطوق . والمنطوق ليس بمعنى الإيجاد ، فكذلك المحذوف . ألا تراهم قد منعوا في قوله تعالى : ) هُوَ الَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ ( أن يكون التقدير : وملائكته يصلون ، لاختلاف مدلولي الصلاتين لأنهما من الله الرحمة ، ومن الملائكة الدعاء ، وتأولوا ذلك وحملوه على القدر المشترك بين الصلاتين لا على الحذف ؟ وأجاز أبو البقاء أن يكون المفعول الأول أمة ، ومن ذريتنا حال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال ، ومسلمة المفعول الثاني ، وكان الأصل : اجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك ، قال : فالواو داخلة في الأصل على أمة ، وقد فصل بينهما بقوله : من ذريتنا ، وهو جائز ، لأنه من جملة الكلام المعطوف بالظرف ، وجعلوا قوله :
يوماً تراها كشبه أردية ال
عصب ويوماً أديمها نغلا
من الضرورات ، فالفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف ، فصار نظير : ضربت الرجل ، ومتجردة المرأة تريد : والمرأة متجردة ، وينبغي أن يختص جواز هذا بالضرورة . ) وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ( : قال قتادة : معالم الحج . وقال عطاء وابن جريج : مذابحنا ، أي مواضع الذبح . وقيل : كل عبادة يتعبد بها الله تعالى . وقال تاج القراء الكرماني : إن كان المراد أعمال الحج ، وما يفعل في المواقف ، كالطواف ، والسعي ، والوقوف ، والصلاة ، فتكون المناسك جمع منسك : المصدر ، جمع لاختلافها . وإن كان أراد المواقف التي يقام فيها شرائع الحج ، كمنى ، وعرفة ، والمزدلفة ، فيكون جمع منسك وهو موضع العبادة . وروي عن علي أن إبراهيم لما فرغ من بناء البيت ودعا بهذه الدعوة ، بعث الله إليه جبريل عليه السلام ، فحج به . وفي قراءة ابن مسعود : وأرهم مناسكهم ، أعاد الضمير على الذرية ، ومعنى أرنا : أي بصرنا . إن كانت من رأي البصرية . والتعدي هنا إلى اثنين ظاهر ، لأنه منقول بالهمزة من المتعدي إلى واحد ، وإن كانت من رؤية القلب ، فالمنقول أنها تتعدى إلى اثنين ، نحو قوله : وإنا لقوم ما نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر وسلول
وقال الكميت : بأي كتاب أم بأية سنة
ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب
فإذا دخلت عليها همزة النقل ، تعدت إلى ثلاثة ، وليس هنا إلا اثنان ، فوجب أن يعتقد أنها من رؤية العين . وقد جعلها الزمخشري من رؤية القلب ، وشرحها بقوله : عرف ، فهي عنده تأتي بمعنى عرّف ، أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد ، ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين ، ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب . وحكى ابن عطية عن طائفة أنها من رؤية البصر ، وعن طائفة أنها من رؤية القلب . قال ابن عطية : وهو الأصح ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين ، وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب ، كغير المعدى ، قال حطائط بن يعفر أخو الأسود :

" صفحة رقم 561 "
أريني جواداً مات هزلاً لأنني
أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا
انتهى كلام ابن عطية وقوله . ويلزم قائله أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين ، إنما يلزم لما ذكرناه من أن المحفوظ أن رأى . إذا كانت قلبية ، تعدت إلى اثنين ، وبهمزة النقل تصير تتعدى إلى ثلاثة ، وقوله : وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب ، كغير المعدى ، يعني أنه قد استعمل في اللسان العربي متعدياً إلى اثنين ومعه همزة النقل ، كما استعمل متعدياً إلى اثنين بغير الهمزة . وإذا كان كذلك ، ثبت أن لرأي ، إذا كانت قلبية ، استعمالين : أحدهما : أن يكون بمعنى علم المتعدية لواحد بمعنى عرف ، والثاني : أن يكون بمعنى علم المتعدية إلى اثنين . واستدلال ابن عطية ببيت ابن يعفر على أن أرى قلبية ، لا دليل فيه ، بل الظاهر أنها بصرية ، والمعنى على أبصريني جواد . ألا ترى إلى قوله : مات هزلاً ؟ فإن هذا هو من متعلقات البصر ، فيحتاج في إثبات رأي القلبية متعدية لواحد إلى سماع . وقد قال ابن مالك ، وهو حاشد لغة ، وحافظ نوادر : حين عدى ما يتعدى إلى اثنين ، فقال في التسهيل ، ورأى لا لإبصار ، ولا رأي ، ولا ضرب ، فلو كانت رأي بمعنى عرف ، لنفى ذلك ، كما نفى عن رأي المتعدية إلى اثنين ، كونها لا تكون لأبصار ، ولا رأى ، ولا ضرب . وقال بعض الناس : المراد هنا بالرؤية رؤية البصر والقلب معاً ، لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً ، وهذا ضعيف ، لأن فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ، أو حمل اللفظ المشترك على أكثر من موضوع واحد في حالة واحدة ، وهو لا يجوز عندنا . وقرأ ابن كثير : وأرنا ، وأرني خمسة بإسكان الراء . وروي عن أبي عمر : والإسكان والاختلاس . وروي عنه : الإشباع ، كالباقين ، إلا أن أبا عامر ، وأبا بكر أسكنا في أرنا اللذين . فالإشباع هو الأصل ، والاختلاس حسن مشهور في العربية ، والإسكان تشبيه للمنفصل بالمتصل ، كما قالوا : فخذ سهله ، كون الحركة فيه ليست لإعراب . وقد أنكر بعض الناس الإسكان من أجل أن الكسرة تدل على ما حذف ، فيقبح حذفها ، يعني أن الأصل كان أرء ، فنقلت حركة الهمزة إلى الراء ، وحذفت الهمزة ، فكان في إقرارها دلالة على المحذوف . وهذا ليس بشيء ، لأن هذا أصل مرفوض ، وصارت الحركة كأنها حركة للراء . وقال الفارسي : ما قاله هذا القائل ليس بشيء . ألا تراهم أدغموا في لكنا هو الله ربي ، أي الأصل لكن ، ثم نقلوا الحركة وحذفوا ، ثم أدغموا ؟ فذهاب الحركة في أرنا ليس بدون ذهابها في الإدغام . وأيضاً فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصاً عن العرب ، قال الشاعر : أرنا أداوة عبد الله نملؤها
من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
وأيضاً فهي قراءة متواترة ، فإنكارها ليس بشيء . وذكر المفسرون في كيفية تأدية إبراهيم وإسماعيل هذه المناسك ، أقوالاً سبعة مضطربة النقل . وذكروا أيضاً من حج هذا البيت من الأنبياء ، ومن مات بمكة منهم . وذكروا أنه مات بها نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، وغيرهم ، ولم تتعرض الآية الكريمة لشيء من ذلك ، فتركنا نقل ذلك على عادتنا .
( وَتُبْ عَلَيْنَا ( : قالوا التوبة من حيث الشريعة تختلف باختلاف التائبين ،

" صفحة رقم 562 "
فتوبة سائر المسلمين الندم بالقلب ، والرجوع عن الذنب ، والعزم على عدم العود ، ورد المظالم إذا أمكن ، ونية الرد إذا لم يمكن ، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء ، والفتور في الأعمال ، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال ، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات ، والترقي في المقامات ، فإن كان إبراهيم وإسماعيل دعوا لأنفسهما بالتوبة ، وكان الضمير في قوله : ) وَتُبْ عَلَيْنَا ( خاصاً بهما ، فيحتمل أن تكون التوبة هنا من هذا القسم الأخير . قالوا : ويحتمل أن يريد التثبيت على تلك الحالة مثل : ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ). وإن كان الضمير شاملاً لهما وللذرية ، كان الدعاء بالتوبة منصرفاً لمن هو من أهل التوبة . وإن كان الضمير قبله محذوفاً مقدراً ، فالتقدير على عصاتنا ، ويكون دعا بالتوبة للعصاة . ولا تدل هذه الآية على جواز وقوع الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لما ذكرناه من الاحتمال ، خلافاً لمن زعم ذلك وقال : التوبة مشروطة بتقدم الذنب ، إذ لولا ذلك لاستحال طلب التوبة . والذي يقوي أن المراد الذرية العصاة قوله تعالى : ) وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ ( ، إلى قوله : ) وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ، أي فأنت قادر على أن تتوب عليه وتغفر له ، وقراءة عبد الله ، وأرهم مناسكهم ، وتب عليهم ، واحتمال أن يكون : وأرنا مناسكنا على حذف مضاف ، أي وأر ذريتنا مناسكنا ، كقوله : ولقد خلقناكم ، أي خلقنا أباكم . وقال الزمخشري : وتب علينا ما فرط منا من الصغائر ، أو استتاباً لذريتهما . انتهى . فقوله : ما فرط منا من الصغائر هو على مذهب المعتزلة ، إذ يقولون بتجويزها على الأنبياء . قال ابن عطية : وقد ذكر قولي التثبيت ، أو كون ذلك دعاء للذرية ، قال : وقيل وهو الأحسن عندي أنهما لما عرفا المناسك ، وبنيا البيت ، وأطاعا ، أرادا أن يسنا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة . وقال الطبري : ليس أحد من خلق الله إلا وبينه وبين الله تعالى معان يحب أن كون أحسن مما هي . انتهى كلام ابن عطية ، وفيه خروج قوله : وتب علينا عن ظاهره إلى تأويل بعيد ، أي إن الدعاء بقوله : وتب علينا ، ليس معناه أنهما طلبا التوبة ، بل نبها بذلك الطلب على أن غيرهما يطلب في تلك المواضع التوبة ، فيكونان لم يقصدا الطلب حقيقة ، إنما ذكرا ذلك لتشريع غيرهما لطلب ذلك ، وهذا بعيد جداً . قال ابن عطية : وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ، ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة ، واختلف في غير ذلك من الصغائر . انتهى كلامه . قال الإمام فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن الرازي ، في ( كتاب المحصول ) له ما ملخصه : قالت الشيعة ، لا يجوز أن يقع منهم ذنب ، لا صغير ولا كبير ، لا عمداً ولا سهواً ، ولا من جهة التأويل . ثم ذكر الاتفاق على أنه لا يجوز منهم الكفر ، ولا التبديل في التبليغ ، ولا الخطأ في الفتوى . وذكر خلافاً في أشياء ، ثم قال الذي يقول به إنه لا يقع منهم ذنب على سبيل القصد ، لا كبير ولا صغير ، وأما سهواً فقد يقع ، لكن بشرط أن يتذكروه في الحال وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهواً .
( إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( : يجوز في أنت : الفصل والتأكيد والابتداء ، وهاتان الصفتان مناسبتان لأنهما دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة ، وبأن يريهما مناسكهما ، وبأن يتوب عليهما . فناسب ذكر التوبة عليهما ، أو الرحمة لهما . وناسب تقديم ذكر التوبة على الرحمة ، لمجاورة الدعاء الأخير في قوله : ) وَتُبْ عَلَيْنَا ). وتأخرت صفة الرحمة لعمومها ، لأن من الرحمة التوبة ، ولكنها فاصلة . والتواب لا يناسب أن تكون فاصلة هنا ، لأن قبلها ) إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ، وبعدها : ) إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ).

" صفحة رقم 563 "
البقرة : ( 129 ) ربنا وابعث فيهم . . . . .
( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ ( : لما دعا ربه بالأمن لمكة ، وبالرزق لأهلها ، وبأن يجعل من ذريته أمّة مسلمة ، ختم الدعاء لهم بما فيه سعادتهم دنيا وآخرة ، وهو بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيهم ، فشمل دعاؤه لهم الأمن والخصب والهداية . وقد تقدم معنى البعث في قوله : ) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم ( ، والمراد هنا : الإرسال إليهم . والضمير في فيهم يحتمل أن يعود على الذرية ، ويحتمل أن يعود على أمّة مسلمة ، ويحتمل أن يعود على أهل مكة ، وييده قوله : ) هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ ( ، ولا خلاف أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وصح عنه أنه قال : ( أنا دعوة أبي إبراهيم ) . ولم يبعث الله إلى مكة وما حولها إلا هو ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقرأ أبيّ : وابعث فيهم في آخرهم ، قال ابن عباس : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ومنهم في موضع الصفة لرسولا ، أي كائناً منهم لا من غيرهم ، فهم يعرفون وجهه ونسبه ونشأته ، كما قال : ) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ ( ، ودعا بأن يبعث الرسول فيهم منهم ، لأنه يكون أشفق على قومه ، ويكونون هم أعزبه وأشرف وأقرب للإجابة ، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته . قال الربيع : لما دعا إبراهيم قيل له : قد استجيب لك ، وهو في آخر الزمان .
( يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِكَ ( جملة في موضع الصفة لرسولاً . وقيل : في موضع الحال منه ، لأنه قد وصف بقوله منهم ، ووصف إبراهيم الرسول بأنه يكون يتلو عليهم آيات الله ، أي يقرؤها ، فكان كذلك ، وأوتي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) القرآن ، وهو أعظم المعجزات . وقبل الله دعاء إبراهيم ، فأتى بالمدعو له على أكمل الأوصاف التي طلبها إبراهيم ، والآيات هنا آيات القرآن . وقيل : خبر من مضى ، وخبر من يأتي إلى يوم القيامة ، وقال الفضل : معناه يبين لهم دينهم .
( وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ ( : هو القرآن ، والمعنى : أنه يفهمهم ويلقي إليهم معانيه . وكان ترتيب التعليم بعد التلاوة ، لأنه أول ما يقرع السمع هو التلاوة والتلفظ بالقرآن ، ثم بعد ذلك تتعلم معانيه ويتدبر مدلوله . وأسند التعليم للرسول ، لأنه هو الذي يلقي الكلام إلى المتعلم ، وهو الذي يفهمه ويتلطف في إيصال المعاني إلى فهمه ، ويتسبب في ذلك . والتعليم يكون بمعنى التفهيم وحصول العلم للمتعلم ، ويكون بمعنى إلقاء أسباب العلم ، ولا يحصل به العلم ، ولذلك يقبل النقيضين ، تقول : علمته فتعلم ، وعلمته فما تعلم ، وذلك لاختلاف المفهومين من تعلم . قال الزمخشري : يتلو عليهم آياتك : يقرأ عليهم ، ويبلغهم ما يوحي إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك ، ويعلمهم الكتاب القرآن ، ( وَالْحِكْمَةِ ( : الشريعة وبيان الأحكام . وقال قتادة : الحكمة : السنة ، وبيان النبي الشرائع . وقال مالك وأبو رزين : الحكمة ، الفقه في الدين ، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى . وقال مجاهد : الحكمة : فهم القرآن . وقال مقاتل : العلم والعمل به لا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما . وقيل : الحكم والقضاء . وقيل : ما لا يعلم إلا من جهة الرسول . وقال ابن زيد : كل كلمة وعظتك ، أو دعتك إلى مكرمة ، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة . وقال بعضهم : الحكمة هنا الكتاب ، وكررها توكيداً . وقال أبو جعفر محمد بن يعقوب : كل صواب من القول ورّث فعلاً صحيحاً فهو حكمة . وقال يحيى بن معاذ : الحكمة جند من جنود الله ، يرسلها الله إلى قلوب العارفين حتى يروّح عنها وهج الدنيا . وقيل : هي وضع الأشياء مواضعها . وقيل : كل قول وجب فعله . وهذه الأقوال في الحكمة كلها متقاربة ، ويجمع هذه الأقوال

" صفحة رقم 564 "
قولان : أحدهما ، القرآن والآخر السنة ، لأنها المبينة لما أنبهم من الكتاب ، والمظهرة لوجوه الأحكام . ويكون المعنى ، والله أعلم ، في قوله : ) يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِكَ ( ، أي يفصح لهم عن ألفاظه ويوقفهم بقراءته على كيفية تلاوته ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأبي : ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ) ، وذلك لأن يتعلم أبي منه ( صلى الله عليه وسلم ) ) كيفية أداء القرآن ومقاطعه ومواصلة . وفي قوله : ) وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ ( ، أي يبين لهم وجوه أحكامه : حلاله وحرامه ، ومفروضه ، ومسنونه ، ومواعظه ، وأمثاله ، وترغيبه ، وترهيبه ، والحشر ، والنشر ، والعقاب ، والثواب ، والجنة والنار . وفي قوله : والحكمة ، أي السنة تبين ما في الكتاب من المجمل ، وتوضح ما أنبهم من المشكل ، وتفصح عن مقادير ، وعن إعداد مما لم يتعرض الكتاب إليه ، ويثبت أحكاماً لم يتضمنها الكتاب . ) وَيُزَكّيهِمْ ( باطناً من أرجاس الشرك وأنجاس الشك ، وظاهراً بالتكاليف التي تمحص الآثام وتوصل الأنعام . قال ابن عباس : التزكية : الطاعة والإخلاص . وقال ابن جريج : يطهرهم من الشرك . وقيل : يأخذ منهم الزكاة التي تكون سبباً لطهارتهم . وقيل : يدعوا إلى ما يصيرون به أزكياء . وقيل : يشهد لهم بالتزكية من تزكية العدول ، ومعنى الزكاة لا تخرج عن التطهير أو التنمية .
( إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( ، العزيز : الغالب ، أو المنيع الذي لا يرام ، قاله المفضل بن سلمة ، أو الذي لا يعجزه شيء ، قاله ابن كيسان ، أو الذي لا مثل له ، قاله ابن عباس ، أو المنتقم ، قاله الكلبي ، أو القوي ، ومنه فعززنا بثالث ، أو المعز ومنه : ) وَتُعِزُّ مَن تَشَاء ). الحكيم : قد تقدم تفسير الحكيم في قصة الملائكة وآدم في قوله : ) إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ). وأنت : يجوز فيها ما جاز في ) أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( قبل من الأعاريب . وهاتان الصفتان متناسبتان لما قبلهما ، لأن إرسال رسول متصف بالأوصاف التي سألها إبراهيم لا تصدر إلا عمن اتصف بالعزة ، وهي الغلبة أو القوّة ، أو عدم النظير ، وبالحكمة التي هي إصابة مواقع الفعل ، فيضع الرسالة في أشرف خلقه وأكرمهم عليه ، الله أعلم حيث يجعل رسالاته . وتقدّمت صفة العزيز على الحكيم لأنها من صفات الذات ، والحكيم من صفات الأفعال ، ولكون الحكيم فاصلة كالفواصل قبلها . وفي المنتخب : يتلو عليهم آياتك : هي القرآن . وقيل : الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته . ومعنى التلاوة : تذكيرهم بها ودعاؤهم إليها وحملهم على الإيمان بها ، وحكمة التلاوة : بقاء لفظها على الألسنة ، فيبقى مصوناً عن التحريف والتصحيف ، وكون نظمها ولفظها معجزاً ، وكون تلاوتها في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة إلا أن الحكمة العظمى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام . وقال القفال ، عبر بعض الفلاسفة عن الحكمة ، بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية ، وقيل الحكمة المتشابهات . وقيل : الكتاب أحكام الشرائع ، والحكمة وجوه المصالح والمنافع فيها ، وقيل : كلها صفات للقرآن ، هو آيات ، وهو كتاب وهو حكمة . انتهى ما لخص من المنتخب .
البقرة : ( 130 ) ومن يرغب عن . . . . .
( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( : روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما أن الله قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد ، من آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، فأسلم سلمة وأبى مهاجر ، فأنزل الله هذه الآية . ومن : اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء ، وهو استفهام معناه : الإنكار ، ولذلك دخلت إلا بعده . والمعنى : لا أحد يرغب ، فمعناه النفي العام . ومن سفه : في موضع رفع بدل من الضمير المستكن في يرغب ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء ، والرفع أجود على البدل ، لأنه استثناء من غير موجب ، ومن في من سفه

" صفحة رقم 565 "
موصولة ، وقيل : نكرة موصوفة ، وانتصاب نفسه على أنه تمييز ، على قول بعض الكوفيين ، وهو الفراء ، أو مشبه بالمفعول على قول بعضهم ، أو مفعول به ، إمّا لكون سفه يتعدى بنفه كسفه المضعف ، وإما لكونه ضمن معنى ما يتعدّى ، أي جهل ، وهو قول الزجاج وابن جني ، أو أهلك ، وهو قول أبي عبيدة ، أو على إسقاط حرف الجر ، وهو قول بعض البصريين ، أو توكيد لمؤكد محذوف تقديره سفه قوله نفسه ، حكاه مكي . أما التمييزفلا يجيزه البصريون ، لأنه معرفة ، وشرط التمييز عندهم أن يكون نكرة ، وأما كونه مشبهاً بالمفعول ، فذلك عند الجمهور مخصوص بالصفة ، ولا يجوز في الفعل ، تقول : زيد حسن الوجه ، ولا يجوز حسن الوجه ، ولا يحسن الوجه . وأما إسقاط حرف الجر ، وأصله من سفه في نفسه ، فلا ينقاس ، وأما كونه توكيداً وحذف مؤكدة ففيه خلاف . وقد صحح بعضهم أن ذلك لا يجوز أعني : أن يحذف المؤكد ويبقى التوكيد ، وأما التضمين فلا ينقاس ، وأما نصبه على أن يكون مفعولاً به ، ويكون الفعل يتعدّى بنفسه ، فهو الذي نختاره ، لأن ثعلباً والمبرد حكيا أن سفه بكسر الفاء يتعدى ، كسفه بفتح الفاء وشدها . وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة . قال الزمخشري : سفه نفسه : امتهنها واستخف بها ، وأصل السفه ، الخفة ، ومنه زمام سفيه . وقيل : انتصاب النفس على التمييز نحو : غبن رأيه ، وألم رأسه ، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله : ولا بفزارة الشعر الرقابا
أجب الظهر ليس له سنام
وقيل : معناه سفه في نفسه فحذف لجار ، كقولهم : زيد ظني مقيم ، أي في ظني ، والوجه هو الأول ، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث : ( الكبر أن يسفه الحق ويغمص الناس ) . انتهى كلامه . فأجاز نصبه على المفعول به ، إلا أن قوله : ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله : ولا بفزارة الشعر الرقابا
أجب الظهر ليس له سنام
ليس بصحيح ، لأن الرقاب من باب معمول الصفة المشبهة . والشعر جميع أشعر ، وكذلك أجب الظهر هو أيضاً من باب الصفة المشبهة ، وأجب أفعل اسم وليس بفعل . وقبل النصف الأول قوله :
فما قومي بثعلبة بن سعدى
وقبل الآخر قوله :
ونأخذ بعده بذناب عيش
فليس نحوه ، لأن نفسه انتصب بعد فعل ، والرقاب والظهر انتصبا بعد اسم ، وهما من باب الصفة المشبهة . ومعنى الآية : أنه لا يزهد ويرفع نفسه عن طريقة إبراهيم ، وهو النبي المجمع على محبته من سائر الطوائف ، إلا من أذل نفسه وامتهنها . وقال ابن عباس : معنى سفه نفسه : خسر نفسه . وقال أبو روق : عجز رأيه عن نفسه . وقال يمان : حمق رأيه . وقال الكلبي : قتل نفسه . وقال ابن بحر : جهلها ولم يعرف ما فيها من الدلائل . وحكي عن بعضهم أن معناه : سفه حق نفسه ، فأما سفه بضم الفاء فمعناه : صار سفيهاً ، مثل فقه إذا صار فقيهاً ، قال : فلا علم إذا جهل العليم
ولا رشد إذا سفه الحليم

" صفحة رقم 566 "
) وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ( : أي جعلناه صافياً من الأدناس ، واصطفاؤه بالرسالة والخلة والكلمات التي وفى ووصى بها ، وبناء البيت ، والإمامة ، واتخاذ مقامه مصلى ، وتطهير البيت ، والنجاة من نار نمروذ ، والنظر في النجوم ، وأذانه بالحج ، وإراءته مناسكه ، إلى غير ذلك مما ذكر الله في كتابه ، من خصائصه ووجوه اصطفائه . ) وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( : ذكر تعالى كرامة إبراهيم في الدارين ، بأن كان في الدنيا من صفوته ، وفي الآخرة من المشهود له بالاستقامة في الخير ، ومن كان بهذه الصفة فيجب على كل أحد أن لا يعدل عن ملته . وهاتان الجملتان مؤكدتان ، أما الأولى فباللام ، وأما الثانية فبأن وباللام . ولما كان إخباراً عن حالة مغيبة في الآخرة ، احتاجت إلى مزيد تأكيد ، بخلاف حال الدنيا ، فإن أرباب المآل قد علموا اصطفاء الله له في الدنيا بما شاهدوه منه ونقلوه جيلاً بعد جيل . وأما كونه في الآخرة من الصالحين ، فأمر مغيب عنهم يحتاج فيه إلى إخبار من الله تعالى ، فأخبر الله به مبالغاً في التوكيد ، وفي الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده ، أي وأنه لصالح في الآخرة . وقال بعضهم : هو على إضمار ، أعني : فهو للتبيين ، كلك بعد سقيا ، وإنما لم يتعلق بالصالحين ، لأن اسم الفاعل في صلة الألف واللام ، ولا يتقدّم معمول الوصف إذ ذاك . وكان بعض شيوخنا يجوّز ذلك ، إذا كان المعمول ظرفاً أو جاراً ومجروراً ، قال : لأنهما يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما . وجوزوا أن تكون الألف واللام غير موصولة ، بل معرفة ، كهي في الرجل ، وأن يتعلق المجرور باسم الفاعل إذ ذاك . وقيل : في الآخرة ، أي في عمل الآخرة ، فيكون على حذف مضاف ، وقيل : الآخرة هنا البرزخ ، والصلاح ما يتبعه من الثناء الحسن في الدنيا . وقيل : الآخرة يوم القيامة ، وهو الأظهر . قال ابن عباس : لمن الصالحين ، أي الأنبياء . وقيل : من الذين يستوجبون صالح الجزاء ، قال معناه الحسن . وقيل : الوارد بن موارد قدسه ، والحالين مواطن أنسه . وقال الحسن بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير ، ولقد اصطفيناه في الدنيا ، وفي الآخرة ، وأنه لمن الصالحين . وهذا الذي ذهب إليه خطأ ينزه كتاب الله عنه .
( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( :
البقرة : ( 131 ) إذ قال له . . . . .
هذا من الالتفات ، إذ لو جرى على الكلام السابق ، لكان : إذ قلنا له أسلم ، وعكسه في الخروج من الغائب إلى الخطاب قوله : باتت تشكي إليّ النفس مجهشة
وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا
والعامل في إذ : قال أسلمت . وقيل : ولقد اصطفيناه ، أي اخترناه في ذلك الوقت ، وجوّز بعضهم أن يكون بدلاً من قوله : في الدنيا ، وأبعد من جعل إذ قال في موضع الحال من قوله : ولقد اصطفيناه ، وجعل العامل في الحال اصطفيناه ، وقيل : محذوف تقديره أذكر . وعلى تقدير أن العامل اصطفيناه أو اذكر المقدّرة ، يبقى قوله : قال أسلمت ، لا ينتظم مع ما قبله ، إلا إن قدر ، يقال : فحذف حرف العطف ، أو جعل جواباً لكلام مقدّر ، أي ما كان جوابه ؟ قال : أسلمت . وهل القول هنا على بابه ، فيكون ذلك بوحي من الله وطلب ؟ أم هذا كناية عما جعل الله في سجيته من الدلائل المفضية إلى الوحدانية وإلى شريعة الإسلام ؟ فجعلت الدلالة قوماً على سبيل المجاز ، وإذا حمل على القول حقيقة ، فاختلفوا متى قيل له ذلك . فالأكثرون على أنه قيل له ذلك قبل النبوّة ، وقبل البلوغ ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس ، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها ، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية ، وأمارات الحدوث ، فلما عرف ربه ، قال تعالى له أسلم . وقيل : كان بعد النبوّة ، فتؤول الأمر بالإسلام على أنه أمر بالثبات والديمومة ، إذ هو متحل به وقت الأمر ، ويكون الإسلام هنا على بابه ، والمعنى : على شريعة الإسلام . وقيل : الإسلام هنا غير المعروف ، وأول على وجوه ، فقال عطاء : معناه سلم نفسك . وقال الكلبي وابن كيسان : أخلص دينك . وقيل : اخشع واخضع لله . وقيل : اعمل بالجوارح ، لأن الإيمان هو صفة القلب ، والإسلام هو صفة

" صفحة رقم 567 "
الجوارح ، فلما كان مؤمناً بقلبه كلفه بعد عمل الجوارح ، وفي قوله : أسلم ، تقدير محذوف ، أي أسلم لربك . وأجاب بأنه أسلم الرب العالمين ، فتضمن أنه أسلم لربه ، لأنه فرد من أفراد العموم ، وفي العموم من الفخامة ما لا يكون في الخصوص ، لذلك عدل عن أن يقول : أسلمت لربي ، ومن كان رباً للعالمين ينبغي أن يكون جميعهم مسلمين له منقادين .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة ابتداء قصص إبراهيم عليه السلام . فذكر أولاً ابتلاءه بالكلمات ، وإتمامه إياهن ، واستحقاقه الإمامة بذلك على الناس كلهم في زمانه ، وسؤال إبراهيم الإمامة لذريته شفقة عليهم ومحبة منه لهم ، وإيثاراً أن يكون في ذريته من يخلفه في الإمامة ، وإجابة الله له بأن عهده لا يناله ظالم ، وفي طيه أن من كان عادلاً قد ينال ذلك . وكان في ابتداء قصص إبراهيم بنيه وذريته من بني إسرائيل وغيرهم ، على فضيلته وخصوصيته عند الله تعالى ، ليكون ذلك حاملاً لهم على اتباعه ، فإنه إذا كان للشخص والد متصف بصفات الكمال ، أوشك ولده أن يتبعه وأن يسلك منهجه ، لما في الطبع من اتباع الآباء والاقتفاء لآثارهم ، ألا ترى إلى قوله : ) بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا ( ؟ .
ثم ذكر تعالى شرف البيت الحرام ، وجعله مقصداً للناس يؤمون إليه ، وملجأ يأمنون فيه ، وأمره تعالى للناس بالاتخاذ من مقام إبراهيم مصلى ، فحصل لهم الاقتداء بأن جعل مقامه مكان عبادة ومحل إجابة . ثم ذكر عهده لإبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت ، حيث صار محل عبادة لله تعالى ، ومكان عبادة الله تعالى يجب أن يكون مطهراً من الأرجاس والأنجاس . وأشار بتطهير المحل إلى تطهير الحال فيه ظاهراً وباطناً ، وإلى تطهير ما يقع فيه من العبادة ، بالإخلاص لله تعالى ، فلا ينجس بشيء من الرياء ، بل يطهر بإخلاصها لله تعالى . ثم أشار إلى من طهر البيت لأجله ، وهم الطائفون والعاكفون والمصلون ، فنبه على هذه العبادات التي تكون في البيت ، ودل على أن البيت لا يصلح بشيء من أمور الدنيا ، كالبيع والشراء وعمل الصنائع والحرف والخصومات ، وأنه إنما هيىء لوقوع العبادات فيه . ثم ذكر دعاء إبراهيم ربه بجعل هذا البيت محل أمن ، ودعاءه لهم بالخصب والرزق ، وتخصيص ذلك الدعاء بالمؤمنين ، إذ الأمن والخصب هما سببان لعمارة هذا البيت وقصد الناس له .
ثم أخبر الله تعالى أن من كفر فتمتيعه قليل ومآله إلى النار ، ليكون التخويف حاملاً على التقيد بالإيمان والانقياد للطاعات ، وليدل على أن الرزق في الدنيا ليس مختصاً بمن آمن ، بل رزق الله يشترك فيه البر والفاجر . ثم ذكر رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت ، وما دعوا به إذ ذاك من طلب تقبل ما يفعلانه ، والثبات على الإسلام ، والدعاء بأن يكون من ذريتهما مسلمون ، وإراءة المناسك والتوبة ، وبعثة رسول من أمته يهديهم إلى طريق الإسلام بما يوحى إليه من عند الله ، ويطهرهم من الجرائم والآثام . فدل ذلك على مشروعية الأدعية الصالحة عند الالتباس بالعبادات ، وأفعال الطاعات ، وأن ذلك الوقت مظنة إجابة ، وفي ذلك جواز الدعاء للملتبس بالطاعة ، ولمن أحب أن يدعو له . وختم كل دعاء بما يناسبه مما قبله . ولم يكن في هذا الدعاء شيء متعلق بأحوال الدنيا ، إنما كان كله دعاء بما يتعلق بأمور الدين ، فدل ذلك على عدم اكتراث إبراهيم وابنه إسماعيل بأحوال الدنيا حالة بناء هذا البيت ورفع قواعده .
وقد تقدّم دعاؤه بالأمن والخصب ، لكن كان ذلك بعد أن كمل البيت وفرغ من التعبد ببنائه ورفع قواعده . ثم ذكر شرف إبراهيم وطواعيته لربه ، واختصاصه في زمانه بالإمامة ، وصيرورته مقتدى به . ذكر أنه لا يرغب عن طريقته إلا خاسر الصفقة ، لأنه المصطفى في الدنيا ، الصالح في الآخرة . وختم ذلك بانقياده لأمر الله تعالى ، فأول قصته إتمامه ما كلفه الله به ، وآخرها التسليم لله ، والانقياد إليه صلى الله على نبينا وعليه وسلم .
2 ( ) وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى

" صفحة رقم 568 "
قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَاهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُولُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْألُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } )
البقرة : ( 132 ) ووصى بها إبراهيم . . . . .
الوصية : العهد ، وصى بنيه : أي عهد إليهم وتقدم إليهم بما يعمل به مقترناً بوعظ . ووصى وأوصى لغتان ، إلا أنهم قالوا : إن وصى المشدّد يدل على المبالغة والتكثير . يعقوب : اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية ، ويعقوب عربي ، وهو ذكر القبج ، وهو مصروف ، ولو سمي بهذا لكان مصروفاً . ومن زعم أن يعقوب النبي إنما سمي يعقوب لأنه هو وأخوه العيص توأمان ، فخرج العيص أولاً ثم خرج هو يعقبه ، أو سمي بذلك لكثرة عقبه ، فقوله فاسد ، إذ لو كان كذلك لكان له اشتقاق عربي ، فكان يكون مصروفاً . الحضور : الشهود ، تقول منه : حضر بفتح العين ، وفي المضارع : يحضر بضمهما ، ويقال : حضر بكسر العين ، وقياس المضارع أن يفتح فيه فيقال : يحضر ، لكن العرب استغنت فيه بمضارع فعل المفتوح العين فقالت : حضر يحضر بالضم ، وهي ألفاظ شذت فيها العرب ، فجاء مضارع فعل المكسور العين على يفعل بضمها ، قالوا : نعم ينعم ، وفض يفضل ، وحضر يحضر ، ومت تموت ، ودمت تدوم ، وكل هذه جاء فيها فعل بفتح العين ، فلذلك استغنى بمضارعه عن مضارع فعل ، كما استغنت فيه بيفعل بكسر العين عن يفعل بفتحها . قالوا : ضللت بكسر العين ، تضل بالكسر ، لأنه يجوز فيه ضللت بفتح العين .
إسحاق : اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة الشخصية ، وإسحاق : مصدر إسحاق ، ولو سميت به لكان مصروفاً ، وقالوا في الجمع : أساحقة وأساحيق ، وفي جمع يعقوب : يعاقبه ويعاقيب ، وفي جمع إسرائيل : أسار له . وجوز الكوفيون في إبراهيم وإسماعيل : براهمة وسماعلة ، والهاء بدل من الياء كما في زنادقة زناديق . وقال أبو العباس : هذا الجمع خطأ ، لأن الهمزة ليست زائدة ، والجمع : أباره وأسامع ، ويجوز : أباريه وأساميع ، والوجه أن يجمع هذه جمع السلامة فيقال : إبراهيمون ، وإسماعيلون ، وإسحاقون ، ويعقوبون . وحكى الكوفيون أيضاً : براهم ، وسماعل ، وأساحق ، ويعاقب ، بغير ياء ولا هاء . وقال الخليل وسيبويه : براهيم ، وسماعيل . وردّ أبو العباس على من أسقط الهمزة ، لأن هذا ليس موضع زيادتها . وأجاز ثعلب : براه ، كما يقال في التصغير : بريه . وقال أبو جعفر : الصفار : أما إسرائيل ، فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله ، وإنما يقال : أساريل .

" صفحة رقم 569 "
وحكى الكوفيون : أسارلة وأسارل . انتهى . وقد تقدّم لنا الكلام في شيء من نحو جمع هذه الأشياء ، واستوفي النقل هنا . الحنف : لغة الميل ، وبه سمي الأحنف لميل كان في إحدى قدميه عن الأخرى ، قال الشاعر : والله لولا حنف في رجله
ما كان في صبيانكم من مثله
وقال ابن قتيبة : الحنف الاستقامة ، وسمي الأحنف على سبيل التفاؤل ، كما سمي اللديغ سليماً . وقال القفال : الحنف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات . وقال عمر : حمدت الله حين هدى فؤادي
إلى الإسلام والدين الحنيف
وقال الزجاج : الحنيف : المائل عما عليه العامّة إلى ما لزمه ، وأنشد : ولكنا خلقنا إذ خلقنا
حنيفاً ديننا عن كل دين
الأسباط : جمع سبط ، وهم في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل ، وهم ولد يعقوب اثنا عشر ، لكل واحد منهم أمة من الناس ، وسيأتي ذكر أسمائهم . سموا بذلك من السبط : وهو التتابع ، فهم جماعة متتابعون . ويقال : سبط عليه العطاء إذا تابعه . ويقال : هو مقلوب بسط ، ومنه السباطة والساباط . ويقال للحسن والحسين : سبطا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، سموا بذلك لكثرتهم وانبساطهم وانتشارهم ، ثم صار إطلاق السبط على ابن البنت ، فيقال : سبط أبي عمر بن عبد البر ، وسبط حسين بن منده ، وسبط السلفي في أولاد بناتهم . وقيل : أصل الأسباط من السبط ، وهو الشجر الملتف ، والسبط : الجماعة الراجعون إلى أصل واحد . الشقاق : مصدر شاقه ، كما تقول : ضارب ضراباً ، وخالف خلافاً ، ومعناه : المعاداة والمخالفة ، وأصله من الشق ، أي صار هذا في شق ، وهذا في شق . والشق : الجانب ، كما قال الشاعر : إذا ما بكى من خلفها انحرفت له
بشق وشق عندنا لم يحوّل
وقيل : هو من المشقة ، لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه . الكفاية : الأحساب . كفاني كذا : أي أحسبني ، قال الشاعر : فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليل من المال
أي أغناني قليل من المال . الصبغة : فعلة من صبغ ، كالجلسة من جلس ، وأصلها الهيئة التي يقع عليها الصبغ . والصبغ : المصبوغ به ، والصبغ : المصدر ، وهو تغيير الشيء بلون من الألوان ، وفعله على فعل بفتح العين ، ومضارعه المشهور فيه يفعل بضمها ، والقياس الفتح إذ لامه حرف حلق . وذكر لي عن شيخنا أبي العباس أحمد بن

" صفحة رقم 570 "
يوسف بن علي الفهري ، عرف بالليلى ، وهو شارح الفصيح ، أنه ذكر فيه صنم الباء في المضارع والفتح والكسر .
( وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِىَّ بَنِى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ ( : قرأ نافع وابن عامر : وأوصى ، وقرأ الباقون : ووصى . قال ثعلب : أملى عليّ خلف بن هشام البزار ، قال : اختلف مصحف أهل المدينة وأهل العراق في اثنى عشر حرفاً . كتب أهل المدينة : وأوصى ، وسارعوا ، يقول ، الذين آمنوا من يرتدد ، الذين اتخذوا ، مسجداً خيراً منهما ، فتوكل ، وأن يظهر ، بما كسبت أيديكم ، ما تشتهيه الأنفس ، فإن الله الغني ، ولا يخاف عقباها . وكتب أهل العراق : ووصى ، سارعوا ، ويقول ، من يرتد ، والذين اتخذوا ، خيراً منها ، وتوكل ، أن يظهر ، فيما كسبت أيديكم ، ما تشتهي ، فإن الله هو ، فلا يخاف . وبها متعلق بأوصى ، والضمير عائد على الملة في قوله : ) وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْراهِيمَ ( ، وبه ابتدأ الزمخشري ، ولم يذكر المهدوي غيره ، أو على الكلمة التي هي قوله : ) أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( ، ونظيره ، وجعلها كلمة باقية في عقبه ، حيث تقدم ) إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ ). وبهذا القول ابتدأ ابن عطية وقال : هو أصوب ، لأنه أقرب مذكور ، ورجح العود على الملة بأنه يكون المفسر مصرحاً به ، وإذا عاد على الكلمة كان غير مصرح به ، وعوده على المصرح أولى من عوده على المفهوم . وبأن عوده على الملة أجمع من عوده على الكلمة ، إذ الكلمة بعض الملة . ومعلوم أنه لا يوصي إلا بما كان أجمع للفلاح والفوز في الآخرة . وقيل : يعود على الكلمة المتأخرة ، وهو قوله : ) فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ). وقيل : على كلمة الإخلاص وهي : لا إلاه إلا الله ، وإن لم يجر لها ذكر ، فهي مشار إليها من حيث المعنى ، إذ هي أعظم عمد الإسلام . وقيل : يعود على الوصية الدال عليها ووصى . وقيل : يعود على الطاعة .
بنيه : بنو إبراهيم ، إسماعيل وأمه هاجر القبطية ، وإسحاق وأمه سارة ، ومدين : ومديان ، ونقشان ، وزمزان ، ونشق ، ونقش سورج ، ذكرهم الشريف النسابة أبو البركات محمد بن علي بن معمر الحسيني الجواني وغيره ، وأم هؤلاء الستة قطورا بنت يقطن الكنعانية . هؤلاء الثمانية ولده لصلبه ، والعقب الباقي فيهم اثنان إسماعيل وإسحاق لا غير . قرأ الجمهور : ويعقوب بالرفع ، وقرأ إسماعيل بن عبد الله المكي ، والضرير ، وعمرو بن فائد الأسواري : بالنصب . فأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون معطوفاً على إبراهيم ، ويكون داخلاً في حكم توصية بنيه ، أي ووصى يعقوب بنيه . ويحتمل أن يكون مرفوعاً على الابتداء ، وخبره محذوف تقديره : قال يا بني إن الله اصطفى ، والأول أظهر . وأما قراءة النصب فيكون معطوفاً على بنيه ، أي ووصى بها نافلته يعقوب ، وهو ابن ابنه إسحاق . وبنو يعقوب يأتي ذكر أسمائهم عند الكلام على الأسباط . يا بني : من قرأ ويعقوب بالنصب ، كان يا بني من مقولات إبراهيم ، ومن رفع على العطف فكذلك ، أو على الابتداء ، فمن كلام يعقوب . وإذا جعلناه من كلام إبراهيم ، فعند البصريين هو على إضمار القول ، وعند الكوفيين لا يحتاج إلى ذلك ، لأن الوصية في معنى القول ، فكأنه

" صفحة رقم 571 "
قال : قال إبراهيم لبنيه يا بني ، ونحوه قول الراجز : رجلان من ضبة أخبرانا
أنا رأينا رجلاً عريانا
بكسر الهمزة على إضمار القول ، أو معمولاً لأخبرانا على المذهبين ، وفي النداء لمن بحضرة المنادي . وكون النداء بلفظ البنين مضافين إليه تلطف غريب وترجئة للقبول وتحريك وهز ، لما يلقى إليهم من أمر الموافاة على دين الإسلام الذي ينبغي أن يتلطف في تحصيله ، ولذلك صدر كلامه بقوله : ) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ ( ، وما اصطفاه الله لا يعدل عنه العاقل . وقرأ أبيّ وعبد الله والضحاك : أن يا بني ، فيتعين أن تكون أن هنا تفسيرية بمعنى أي ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لأنه لا يمكن انسباك مصدر منها ومما بعدها . ومن لم يثبت معنى التفسير ، لأن جعلها هنا زائدة ، وهم الكوفيون . ) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ ( ، أي استخلصه لكم وتخيره لكم صفوة الأديان . والألف واللام في الدين للعهد ، لأنهم كانوا قد عرفوه ، وهو دين الإسلام .
( فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( : هذا استثناء من الأحوال ، أي إلا على هذه الحالة ، والمعنى : الثبوت على الإسلام ، والنهي في الحقيقة إنما هو عن كونهم على خلاف الإسلام . إلا أن ذلك نهى عن الموت ، ونظير ذلك في الأمر : مت وأنت شهيد ، لا يكون أمراً بالموت ، بل أمر بالشهادة ، فكأنه قال : لتستشهد في سبيل الله ، وذكر الموت على سبيل التوطئة للشهادة . وقد تضمن هذا الكلام إيجازاً بليغاً ووعظاً وتذكيراً ، وذلك أن الإنسان يتيقن بالموت ولا يدري متى يفاجئه . فإذا أمر بالتباس بحالة لا يأتيه الموت إلا عليها ، كان متذكراً للموت دائماً ، إذ هو مأمور بتلك الحالة دائماً ، . وهذا على الحقيقة نهي عن تعاطي الأشياء التي تكون سبباً للموافاة على غير الإسلام ، ونظير ذلك قولهم : لا أرينك هنا ، لا ينهي نفسه عن الرؤية ، ولكن المعنى على النهي عن حضوره في هذا المكان ، فيكون يراه ، فكأنه قال : اذهب عن هذا المكان . ألا ترى أن المخاطب ليس له أن يحجب إدراك الآمر عنه إلا بالذهاب عن ذلك المكان ، فأتى بالمقصود بلفظ يدل على الغضب والكراهة ، لأن الإنسان لا ينهى إلا عن شيء يكره وقوعه .
وقد اشتملت هذه الجملة على لطائف ، منها : الوصية ، ولا تكون إلا عند خوف الموت . ففي ذلك ما كان عليه إبراهيم من الاهتمام بأمر الدين ، حتى وصى به من كان ملتبساً به ، إذ كان بنوه على دين الإسلام . ومنها اختصاصه ببنيه ، ولا يختصهم إلا بما فيه سلامة عاقبتهم . ومنها أنه عمم بنيه ، ولم يخص أحداً منهم ، كما جاء في حديث النعمان بن بشير ، حين نحله أبوه شيئاً ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أتحب أن يكونوا لك في البر سواء ؟ ) ورد نحله إياه وقال : لا أشهد على جور . ومنها إطلاق الوصية ، ولم يقيدها بزمان ولا مكان . ثم ختمها بأبلغ الزجر أن يموتوا غير مسلمين . ثم التوطئة لهذا النهي والزجر بأن الله تعالى هو الذي اختار لكم دين الإسلام ، فلا تخرجوا عما اختاره الله لكم . قال المؤرخون : نقل إبراهيم ولده إسماعيل إلى مكة وهو رضيع ، وقيل : ابن سنتين . وقيل : ابن أربع عشرة سنة ، وولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة ، ومات وله مائة وثلاثون سنة . وكان لإسماعيل ، لما مات أبوه إبراهيم أبوه ، تسع وثمانون سنة . وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة ، ومات بالأرض المقدّسة ، ودفن عند أبيه إبراهيم . وكان بين وفاة أبيه إبراهيم ومولد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) نحو من ألفي سنة وستمائة سنة ، واليهود تنقص من ذلك نحواً من أربعمائة

" صفحة رقم 572 "
سنة .
البقرة : ( 133 ) أم كنتم شهداء . . . . .
( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ( : نزلت في اليهود . قالوا : ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية ؟ قال الكلبي : لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيرين ، فجمع بنيه وخاف عليهم ذلك ، فقال لهم : ما تعبدون من بعدي ؟ فأنزل الله هذه الآية إعلاماً لنبيه بما وصى به يعقوب ، وتكذيباً لليهود . وأم هنا منقطعة ، تتضمن معنى بل وهمزة الاستفهام الدالة على الإنكار ، والتقدير : بل أكنتم شهداء ؟ فمعنى الإضراب : الانتقال من شيء إلى شيء ، لا أن ذلك إبطال لما قبله . ومعنى الاستفهام هنا : التقريع والتوبيخ ، وهو في معنى النفي ، أي ما كنتم شهداء ، فكيف تنسبون إليه ما لا تعلمون ؟ ولا شهدتموه أنتم ولا أسلافكم . وقيل : أم هنا بمعنى : بل ، والمعنى بل كنتم ، أي كان أسلافكم ، أو نزلهم منزلة أسلافهم ، إذ كان أسلافهم قد نقلوا ذلك إليهم ، وفي إثبات ذلك إنكار عليهم ما نسبوه إلى يعقوب من اليهودية . والخطاب في كنتم لمن كان بحضرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أحبار اليهود والنصارى ورؤسائهم . وقال ابن عطية : قال لهم على جهة التقرير والتوبيخ أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى ، فتدّعون عن علم ، أي لم تشهدوا ، بل أنتم تفترون . وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية . انتهى ما ذكره . ولم أقف لأحد من النحويين على أن أم يستفهم بها في صدر الكلام . وأين ذلك ؟ وإذا صح النقل فلا مدفع فيه ولا مطعن . وحكى الطبري أن أم يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره ، وهذا منه . ومنه : ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ). انتهى ، وهذا أيضاً قول غريب . وتلخص أن أم هنا فيها ثلاثة أقوال : المشهور أنها هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة . الثاني : أنها للإضراب فقط ، بمعنى بل . الثالث : بمعنى همزة الاستفهام فقط .
وقال الزمخشري : الخطاب للمؤمنين بمعنى : ما شاهدتم ذلك ، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي . وقيل : الخطاب لليهود ، لأنهم كانوا يقولون : ما مات نبي إلا على اليهودية ، إلا أنهم لو شهدوه ، ولو سمعوا ما قاله لبنيه ، وما قالوه ، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام ، ولما ادعوا عليه اليهودية . فالآية منافية لقولهم ، فكيف يقال لهم : ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء ( ؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة ، على أن يقدر قبلها محذوف ، كأنه قيل : أتدعون على الأنبياء اليهودية ؟ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ( ؟ يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له ، إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام ، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء ؟ انتهى كلامه . وملخصه : أنه جعل أم متصلة ، وأنه حذف قبلها ما يعادلها ، ولا نعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة ، ولا يحفظ ذلك ، لا في شعر ولا غيره ، فلا يجوز : أم زيد ؟ وأنت تريد : أقام عمرو أم زيد ؟ ولا أم قام خالد ؟ وأنت تريد : أخرج زيد ؟ أم قام خالد ؟ والسبب في أنه لا يجوز الحذف . إن الكلام في معنى : أي الأمرين وقع ؟ فهي في الحقيقة جملة واحدة . وإما يحذف المعطوف عليه ويبقى المعطوف مع الواو والفاء ، إذا دل على ذلك دليل نحو قولك : بلى وعمراً ، جواباً لمن . قال : ألم تضرب زيداً ؟ ونحو قوله تعالى : ) أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ ( ، أي فضرب فانفجرت . وندر حذف المعطوف عليه مع أو ، نحو قوله :
فهل لك أو من والد لك قبلنا
أراد : فهل لك من أخ أو من والد ؟ ومع حتى على نظر فيه في قوله :
فيا عجباً حتى كليب تسبني
أي : يسبني الناس حتى كليب ، لكن الذي سمع من كلام العرب حذف أم المتصلة مع المعطوف ، قال

" صفحة رقم 573 "
دعاني إليها القلب إني لأمرها
سميع فما أدرى أرشد طلابها
يريد : أم غير رشد ، فحذف لدلالة الكلام عليه ، وإنما جاز ذلك لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه . فالمعنى : أقام زيد أم لم يقم ، ولذلك صلح الجواب أن يكون بنعم وبلا ، فلذلك جاز ذلك في البيت في قوله : أرشد طلابها ، أي أم غير رشد . ويجوز حذف الثواني المقابلات إذ دل عليها المعنى . ألا ترى إلى قوله : ) تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( ، كيف حذف والبرد ؟ إذ حضر العامل في إذ شهداء ، وذلك على جهة الظرف ، لا على جهة المفعول ، كأنه قيل : حاضري كلامه في وقت حضور الموت ، وكنى بالموت عن مقدّماته لأنه إذا حضر الموت نفسه لا يقول المحتضر شيئاً ، ومنه : ) وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ ( ، أي ويأتيه دواعيه وأسبابه ، وقال الشاعر : وقل لهم بادروا العذر والتمسوا
قولاً يبرئكم إني أنا الموت
وفي قوله : حضر ، كناية غريبة ، إنه غائب لا بد أن يقدم ، ولذلك يقال في الدعاء : واجعل الموت خير غائب ننتظره . وقرىء : حضر بكسر الضاد ، وقد ذكرنا أن ذلك لغة ، وأن مضارعها بضم الضاد شاذ ، وقدم المفعول هنا على الفاعل للاعتناء . ) إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ( ، إذ : بدل من إذ في قوله : إذ حضر ، فالعامل فيه إما شهداء العاملة في إذ الأولى على قول من زعم أن العامل في البدل العامل في المبدل منه ، وإما شهداء مكررة على قول من زعم أن البدل على تكرار العامل . وزعم القفال أن إذا وقت للحضور ، فالعامل فيه حضر ، وهو يؤول إلى اتحاد الظرفين ، وإن اختلف عاملهما . ) مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى ( ما : استفهام عما لا يعقل ، وهو اسم تام منصوب بالفعل بعده . فعلى قول من زعم أن ما مبهمة في كل شيء ، يكون هنا يقع على من يعقل وما لا يعقل ، لأنه قد عبد بنو آدم والملائكة والشمس والقمر وبعض النجوم والأوثان المنحوتة ، وأما من يذهب إلى تخصيص ما بغير العاقل ، فقيل : هو سؤال عن صفة المعبود ، لأن ما يسأل بها عن الصفات تقول : ما زيد ، أفقيه أم شاعر ؟ وقيل : سأل بما لأن المعبودات المتعارة في ذلك الوقت كانت جمادات ، كالأوثان والنار والشمس والحجارة ، فاستفهم بما التي يستفهم بها عما لا يعقل . وفهم عنه بنوه فأجابوه : بأنا لا نعبد شيئاً من هؤلاء . وقيل : استفهم بما عن المعبود تجربة لهم ، ولم يقل من لئلا يطرّق لهم الاهتداء ، وإنما أراد أن يختبرهم وينظر ثبوتهم على ما هم عليه . وظاهر الكلام أنه استفهم عن الذي يعبدون ، أي العبادة المشروعة ؟ وقال القفال : دعاهم إلى أن لا يتحرّوا في أعمالهم غير وجه الله تعالى ، ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام ، وإنما خاف عليهم أن تشغلهم دنياهم . وفي ذلك دليل على أن شفقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على أولادهم كانت في باب الدين ، وهمتهم مصروفة إليهم . من بعدي : يريد من بعد موتي ، وحكى أن يعقوب عليه السلام حين خير ، كما يخير الأنبياء ، اختار الموت وقال : أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي ، فجمعهم وقال لهم هذا القول .
( قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( : هذه قراءة الجمهور . وقرأ أبي : وإله إبراهيم ، بإسقاط آبائك . وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وابن يعمر ، والجحدري ، وأبو رجاء : وإله أبيك . فأما على قراءة الجمهور ، فإبراهيم وما بعده بدل من آبائك ، أو عطف بيان . وإذا كان بدلاً ، فهو من البدل التفصيلي ، ولو قرىء فيه بالقطع ، لكان ذلك جائزاً . وأجاز المهدوي أن يكون إبراهيم وما بعده منصوباً على إضمار ، أعني : وفيه دلالة على أن

" صفحة رقم 574 "
العم يطلق عليه أب . وقد جاء في العباس : هذا بقية آبائي ، وردّوا عليّ أبي ، وأنا ابن الذبيحين ، على القول الشهير : أن الذبيح هو إسحاق ، وفيه دلالة على أن الجدّ يسمى أباً لقوله : ) وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ ( ، وإبراهيم جدّ ليعقوب . وقد استدل ابن عباس بذلك وبقوله : ) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءابَاءي إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ( على توريث الجدّ دون الإخوة ، وإنزاله منزلة الأب في الميراث ، عند فقد الأب ، وأن لا يختلف حكمه وحكم الأب في الميراث ، إذا لم يكن أب ، وهو مذهب الصديق وجماعة من الصحابة ، رضوان الله عليهم أجمعين ، وهو قول أبي حنيفة . وقال زيد بن ثابت : هو بمنزلة الإخوة ، ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث ، فيعطى الثلث ، ولم ينقص منه شيئاً ، وبه قال مالك وأبو يوسف والشافعي . وقال علي : هو بمنزلة أحد الإخوة ، ما لم تنقصه المقاسمة من السدس ، فيعطى السدس ، ولم ينقص منه شيئاً ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه . وأما قراءة أبيّ فظاهرة ، وأما على قراءة ابن عباس ، ومن ذكر معه ، فالظاهر أن لفظ أبيك أريد به الإفراد ويكون إبراهيم بدلاً منه ، أو عطف بيان . وقيل : هو جمع سقطت منه النون للإضافة ، فقد جمع أب على أبين نصباً وجراً ، وأبون رفعاً ، حكى ذلك سيبويه ، وقال الشاعر : فلما تبين أصواتنا
بكين وفدّيننا بالأبينا
وعلى هذا الوجه يكون إعراب إبراهيم مثل إعرابه حين كان جمع تكسير . وفي إجابتهم له بإظهار الفعل تأكيد لما أجابوه به ، إذ كان يجوز أن يقال : قالوا إلهك ، فتصريحهم بالفعل تأكيد في الجواب أنه مطابق للسؤال ، أعني في العامل الملفوظ به في السؤال . وإضافة الإله إلى يعقوب فيه دليل على اتحاد معبود السائل والمجيب لفظاً . وفي قوله : وإله آبائك دليل على اتحاد المعبود أيضاً من حيث اللفظ ، وإنما كرر لفظ وإله ، لأنه لا يصح العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة جاره ، إلا في الشعر ، أو على مذهب من يرى ذلك ، وهو عنده قليل . فلو كان المعطوف عليه ظاهراً ، لكان حذف الجار ، إذا كان اسماً ، أولى من إثباته ، لما يوهم إثباته من المغايرة . فإن حذفه يدل على الاتحاد . وبدأ أولاً بإضافة الإله إلى يعقوب ، لأنه هو السائل ، وقدم إبراهيم ، لأنه الأصل ، وقدم إسماعيل على إسحاق ، لأنه أسنّ أو أفضل ، لكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من ذريته ، وهو في عمود نسبه . واقتصر على هؤلاء ، لأنهم كانوا خير الناس في أزمانهم ، ولم يعم ، لأن الناس كان لهم معبودون كثيرون دون الله .
( إِلَاهاً واحِداً ( : يجوز أن يكون بدلاً ، وهو بدل نكرة موصوفة من معرفة ، ويجوز أن يكون حالاً ، ويكون حالاً موطئة نحو : رأيتك رجلاً صالحاً . فالمقصود إنما هو الوصف ، وجيء باسم الذات توطئة للوصف . وجوّز الزمخشري أن ينتصب على الاختصاص ، أي يريد بإلهك إلهاً واحداً . وقد نص النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً . وفائدة هذه الحال ، أو البدل ، هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد ، إذ قد توهم إضافة الشيء إلى كثيرين تعداد ذلك المضاف ، فنهض بهذه الحال أو البدل على نفي ذلك الإيهام . ) وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( : أي منقادون لما ذكر الجواب بالفعل الذي هو نعبد ، لأن العبادة متجددة دائماً . ذكر هذه الجملة الإسمية المخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الدال على الثبوت ، لأن الانقياد لا ينفكون عنه دائماً ، وعنه تكون العبادة ، فيكون قوله : ) وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( أحد جملتي الجواب . فأجابوه بشيئين : أحدهما : الذي سأل عنه ، والثاني : مؤكد لما أجابوا به ، فيكون من باب الجواب المربي على السؤال . وأجاز بعضهم أن تكون الجملة حالية من الضمير في نعبد ، والأول أبلغ ، وهو أن تكون الجملة معطوفة على قوله

" صفحة رقم 575 "
) نَعْبُدُ ( ، فيكون أحد شقي الجواب . وأجاز الزمخشري أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة ، أي : ومن حالنا أنا نحن له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون . والذي ذكره النحويون أن جملة الاعتراض هي الجملة التي تفيد تقوية بين جزأي موصول وصلة ، نحو قوله : ماذا ولا عتب في المقدور رمت
إما تخطيك بالنجح أم خسر وتضليل
وقال : ذاك الذي وأبيك يعرف مالكا
والحق يدفع ترهات الباطل
أو بين جزأي إسناد ، نحو قوله : وقد أدركتني والحوادث جمة
أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
أو بين فعل شرط وجزائه ، أو بين قسم وجوابه ، أو بين منعوت ونعته ، أو ما أشبه ذلك مما بينهما تلازم مّا . وهذه الجملة التي هي قوله : ) وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( ليست من هذا الباب ، لأن قبلها كلاماً مستقلاً ، وبعدها كلام مستقل ، وهو قوله : ) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ). لا يقال : إن بين المشار إليه وبين الإخبار عنه تلازم يصح به أن تكون الجملة معترضة ، لأن ما قبلها من كلام بني يعقوب ، حكاه الله عنهم ، وما بعدها من كلام الله تعالى ، أخبر عنهم بما أخبر تعالى . والجملة الاعتراضية الواقعة بين متلازمين لا تكون إلا من الناطق بالمتلازمين ، يؤكد بها ويقوي ما تضمن كلامه . فتبين بهذا كله أن قوله : ) وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( ليس جملة اعتراضية . وقال ابن عطية : ) وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( ابتداء وخبر ، أي : كذلك كنا ونحن نكون . ويحتمل أن يكون في موضع الحال . والعامل نعبد والتأويل الأول أمدح . انتهى كلامه . ويظهر منه أنه جعل الجملة معطوفة على جملة محذوفة ، وهي قوله : كذلك كنا ، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار ، لأنه يصح عطفها على نعبد إلهك ، كما ذكرناه وقررناه قبل . ومتى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ، مع صحة المعنى ، كان أولى من حمله الإضمار .
وفي المنتخب ما ملخصه تمسك بهذه الآية المقلدة ، وقالوا : إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد ، ولم ينكره هو عليهم ، فدل على أن التقليد كاف ، واستدل بها التعليمية ، قالوا : لا طريق لمعرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام ، فإنهم لم يقولوا : نعبد الإله الذي دل عليه العقل ، قالوا : لا نعبد إلا الذي أنت تعبده وآباؤك تعبده ، وهذا يدل على أن طرية المعرفة التعلم . وما ذهبوا إليه لا دليل في الآية عليه ، لأن الآية لم تتضمن إلا الإقرار بعبادة الإله . والإقرار بالعبادة لله لا تدل على أن ذلك ناشىء عن تقليد ، ولا تعليم ، ولا أنه أيضاً ناشىء عن استدلال بالعقل ، فبطل تمسكهم بالآية . وإنما لم تتعرض الآية للاستدلال العقلي ، لأنها لم تجيء في معرض ذلك ، لأنه إنما سألهم عما يعبدونه من بعد موته ، فأحالوه على معبوده ومعبود آبائه ، وهو الله تعالى ، وكان ذلك أخصر في القول من شرح صفاته تعالى من الوحدانية والعلم والقدرة وغير ذلك من صفاته ، وأقرب إلى سكون ننفس يعقوب ، فكأنهم قالوا :

" صفحة رقم 576 "
لسنا نجري إلا على طريقتك . وقد يقال : إن في قوله : ) نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ ( إشارة إلى الاستدلال العقلي على وجود الصانع ، لأنه قد تقدّم في أول السورة : ) قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( ، فمرادهم هنا بقولهم : ) نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ ( الإله الذي دل عليه وجود آبائك ، وهذا إشارة إلى الاستدلال .
البقرة : ( 134 ) تلك أمة قد . . . . .
( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ( ، تلك : إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وأبنائهما . ومعنى خلت : ماتت وانقضت وصارت إلى الخلاء ، وهو الأرض الذي لا أنيس به . والمخاطب هم اليهود والنصارى الذين ادّعوا لإبراهيم وبنيه اليهودية والنصرانية . والجملة من قوله : قد خلت ، صفة لأمّة . ) لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم ( : أي تلك الأمّة مختصة بجزاء ما كسبت ، كما أنكم كذلك مختصون بجزاء ما كسبتم من خير وشرّ ، فلا ينفع أحداً كسب غيره . وظاهر ما أنها موصولة وحذف العائد ، أي لها ما كسبته . وجوّزوا أن تكون ما مصدرية ، أي لها كسبها ، وكذلك ما في قوله : ) وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم ). ويجوز أن تكون الجملة من قوله : ) لَهَا مَا كَسَبَتْ ( استئنافاً ، ويجوز أن تكون جملة حالية من الضمير في خلت ، أي انقضت مستقراً ثابتاً ، لها ما كسبت . والأظهر الأول ، لعطف قوله : ) وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم ( على قوله : ) لَهَا مَا كَسَبَتْ ). ولا يصح أن يكون ) وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم ( عطفاً على جملة الحال قبلها ، لاختلاف زمان استقرار كسبها لها . وزمان استقرار كسب المخاطبين ، وعطف الحال على الحال ، يوجب اتحاد الزمان . افتخروا بأسلافهم ، فأخبروا أن أحداً لا ينفع أحداً ، متقدّماً كان أو متأخراً . وروي : يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم يا فاطمة ، لا أغني عنك من الله شيئاً قال ابن عطية : وفي هذا الآية ردّ على الجبرية القائلين : لا اكتساب للعبد . انتهى .
وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الدين ، وهي من المسائل المعضلة ، ومذاهب أهل الإسلام فيها أربعة . أحدها : قول الجبرية ، وهو أن العبد مجبور على فعله ، وأنه لا اختيار له في ذلك ، بل هو ملجأ إليه ، وأن نسبة الفعل إليه كنسبة حركة الغصن إليه ، إذا حركه محرك . والثاني : قول القدرية ، وهو أنهم ليسوا مجبورين على الفعل ، بل لهم قدرة على إيجاد الفعل . والثالث : قول المعتزلة ، أن العبد له قدرة يخلقها الله له قبل الفعل ، وهو متمكن من إيقاعه وعدم إيقاعه . والرابع : مذهب أهل السنة والجماعة : أن الله يخلق للعبد تمكيناً وقدرة مع الفعل يفعل بها الخير والشر ، لا على سبيل الاضطرار والإلجاء ، وهذا التمكين هو مناط التكليف الذي يترتب عليه العقاب والثواب . ثم بعد اتفاقهم على هذا الأصل ، اختلفوا في تفسيره على ثلاثة تفاسير : أحدها : قول أبي الحسن : أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير في المقدور ، بل القدرة والمقدور حصلاً بخلق الله ، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله ، وهو متعلق القدرة الحادثة ، هو الكسب . والثاني : قول الباقلاني : أن ذات الفعل لم تحصل له صفة ، كونه طاعة ومعصية ، بل هذه الصفة حصلت له بالقدرة الحادثة . والثالث : قول أبي إسحاق الإسفرايني : أن القدرتين ، القديمة والحديثة ، إذا تعلقتا بمقدور وقع بهما ، فكان فعل

" صفحة رقم 577 "
العبد يوقع بإعانة ، فهذا هو الكسب .
( وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( : جملة توكيدية لما قبلها ، لأنه قد أخبر بأن كل أحد مختص بكسبه من خير ، وإذا كان كذلك ، فلا يسأل أحد عن عمل أحد . فكما أنه لا ينفعكم حسناتهم ، فكذلك لا تسألون ولا تؤاخذون بسيئات من اكتسبها . ) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( ، كل شاة برجلها تناط . قالوا : وفي هذه الآية ، وما قبلها ، دليل على أن للإنسان أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقضة لقوله ، إفحاماً له ، وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه ، لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج على نبوّته بأمثال هذه الكلمات ، بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة . لكنه لما أقام الحجة بها وأزاح العلة ، وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم . فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس ما كانوا عليه ، فقال : إن كان الدين بالاتباع ، فالمتفق عليه أولى . وفي قوله : ) لَهَا مَا كَسَبَتْ ( إلى آخره ، دلالة على بطلان قول من يقول بجواز تعذيب أولاد المشركين بذنوب آبائهم . وفي الآية قبلها دلالة على أن الأبناء يثابون على طاعة الآباء .
البقرة : ( 135 ) وقالوا كونوا هودا . . . . .
( وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ( : الضمير عائد في قالوا على رؤساء اليهود الذين كانوا بالمدينة ، وعلى نصارى نجران ، وفيهم نزلت . كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب ، وأبيّ بن ياس بن أخطب ، والسيد ، والعاقب وأصحابهما خاصموا المسلمين في الدين ، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها ، فأخبر الله عنهم وردّ عليهم . وأو هنا للتفصيل ، كأو في قوله : ) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ). والمعنى : وقالت اليهود كونوا هوداً ، وقالت النصارى : كونوا نصارى ، فالمجموع قالوا للمجموع ، لا أن كل فرد فرد أمر باتباع أي الملتين . وقد تقدّم إيضاح ذلك وإشباع الكلام فيه في قوله : ) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ). ) قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ( : قرأ الجمهور : بنصب ملة بإضمار فعل . أما على المفعول ، أي بل نتبع ملة ، لأن معنى قوله : ) كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( : اتبعوا اليهودية أو النصرانية . وأما على أنه خبر كان ، أي بل تكون ملة إبراهيم ، أي أهل ملة إبراهيم ، كما قال عدي بن حاتم ، إني من دين ، أي من أهل دين ، قاله الزجاح . وأما على أنه منصوب على الإغراء ، أي الزموا ملة إبراهيم ، قاله أبو عبيد . وأما على أنه منصوب على إسقاط الخافض ، أي نقتدي ملة ، أي بملة ، وهو يحتمل أن يكون خطاباً للكفار ، فيكون المضمر اتبعوا ، أو كونوا . ويحتمل أن يكون من كلام المؤمنين ، فيقدر بنتبع ، أو تكون ، أو نقتدي على ما تقدم تقديره . وقرأ ابن هرمز الأعرج ، وابن أبي عبلة : ) بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ( ، برفع ملة ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، أي بل الهدى ملة ، أو أمرنا ملته ، أو نحن ملته ، أي أهل ملته ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي بل ملة إبراهيم حنيفاً ملتنا .
( حَنِيفاً ( : ذكروا أنه منصوب على الحال من إبراهيم ، أي في حال حنيفيته ، قاله المهدوي وابن عطية والزمخشري وغيرهم . قال الزمخشري : كقولك رأيت وجه هند قائمة ، وأنه منصوب بإضمار فعل ، حكاه ابن عطية . وقال : لأن الحال تعلق من المضاف إليه . انتهى . وتقدير الفعل نتبع حنيفاً ، وأنه منصوب على القطع ، حكاه السجاوندي ، وهو تخريج كوفي ، لأن النصب على لقطع إنما هو مذهب الكوفيين . وقد تقدم لنا الكلام فيه ، واختلاف الفراء والكسائي ، فكان التقدير : بل ملة إبراهيم الحنيف ، فلما نكره ، لم يمكن اتباعه إياه ، فنصبه على القطع . أما الحال من المضاف إليه ، إذا كان المضاف غير عامل في المضاف إليه قبل الإضافة ، فنحن لا نجيز ، سواء كان جزءاً مما أضيف إليه ، أو كالجزء ، أو غير ذلك . وقد أمعنا الكلام على ذلك في ( كتاب منهج المسالك ) من تأليفنا . وأما النصب على القطع ، فقد ردّ هذا الأصل البصريون . وأما إضمار الفعل فهو قريب ، ويمكن أن يكون منصوباً على الحال من المضاف ، وذكر حنيفاً ولم يؤنث لتأنيث ملة ، لأنه حمل على المعنى ، لأن الملة هي الدين ، فكأنه قيل : نتبع دين إبراهيم

" صفحة رقم 578 "
حنيفاً . وعلى هذا خرجه هبة الله بن الشجري في المجلس الثالث من أماليه . قال : قيل إن حنيفاً حال من إبراهيم ، وأوجه من ذلك عندي أن يجعله حالاً من الملة ، وإن خالفها بالتذكير ، لأن الملة في معنى الدين . ألا ترى أنها قد أبدلت من الدين في قوله جل وعز : ) دِينًا قِيَمًا مّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ( ؟ فإذا جعلت حنيفاً حالاً من الملة ، فالناصب له هو الناصب للملة ، وتقديره : بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً ، وإنما ضعف الحال من المضاف إليه ، لأن العامل في الحال ينبغي أن يكون هو العامل في ذي الحال . انتهى كلامه . وتكون حالاً لازمة ، لأن دين إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية ، وكذلك يلزم من جعل حنيفاً حالاً من إبراهيم أن يكون حالاً لازمة ، لأن إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية . والحنيف : هو المائل عن الأديان كلها ، قاله ابن عباس ؛ أو المائل عما عليه العامّة ، قاله الزجاج ، أو المستقيم ، قاله ابن قتيبة ؛ أو الحاج ، قاله ابن عباس أيضاً ؛ وابن الحنيفية ، أو المتبع ، قاله مجاهد ؛ أو المخلص ، قاله السدّي ؛ أو المخالف للكل ، قاله ابن بحر ؛ أو المسلم ، قاله الضحاك ، قال : فإذا جمع الحنيف مع المسلم فهو الحاج ، أو المختتن . أو الحنف : هو الاختتان ، وإقامة المناسك ، وتحريم الأمّهات والبنات والأخوات والعمات والخالات ، عشرة أقوال متقاربة في المعنى . وإنما خص إبراهيم دون غيره من الأنبياء ، وإن كانوا كلهم مائلين إلى الحق ، مستقيمي الطريقة حنفاء ، لأن الله اختص إبراهيم بالإمامة ، لما سنه من مناسك الحج والختان ، وغير ذلك من شرائع الإسلام ، مما يقتدى به إلى قيام الساعة . وصارت الحنيفية علماً مميزاً بين المؤمن والكافر . وسمي بالحنيف : من اتبعه واستقام على هديه ، وسمي المنكث على ملته بسائر أسماء الملل ، فقيل : يهودي ونصراني ومجوسي ، وغير ذلك من ضروب النحل .
( وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( : أخبر الله تعالى أنه لم يكن يعبد وثناً ، ولا شمساً ، ولا قمراً ، ولا كوكباً ، ولا شيئاً غير الله تعالى . وكان في قوله : ) بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ( دليل على أن ملته مخالفة لملة اليهود والنصارى ، ولذلك أضرب ببل عنهما ، فثبت أنه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ). وكانت العرب ممن تدين بأشياء من دين إبراهيم ، ثم كانت تشرك ، فنفى الله عن إبراهيم أن يكون من المشركين . وقيل : في الآية تعريض بأهل الكتاب وغيرهم ، لأن كلاً منهم يدعي اتباع إبراهيم ، وهو على الشرك ، قاله الزمخشري . فإشراك اليهود بقولهم : عزير ابن الله ، وإشراك النصارى بقولهم : ) ). وكانت العرب ممن تدين بأشياء من دين إبراهيم ، ثم كانت تشرك ، فنفى الله عن إبراهيم أن يكون من المشركين . وقيل : في الآية تعريض بأهل الكتاب وغيرهم ، لأن كلاً منهم يدعي اتباع إبراهيم ، وهو على الشرك ، قاله الزمخشري . فإشراك اليهود بقولهم : عزير ابن الله ، وإشراك النصارى بقولهم : ) الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ( ، وإشراك غيرهما

" صفحة رقم 579 "
بعبادة الأوثان وغيرها .
البقرة : ( 136 ) قولوا آمنا بالله . . . . .
( قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ ( الآية ، خرج البخاري ، عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، ولكن قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية ، فإن كان حقاً لم تكذبوه وإن كان كذباً لم تصدّقوه ) . والضمير في قوله : ) قُولُواْ ( عائد على الذين قالوا : ) كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ). أمروا بأن يكونوا على الحق ، ويصرحوا به . ويجوز أن يعود على المؤمنين ، وهو أظهر . وارتبطت هذه الآية بما قبلها ، لأنه لما ذكر في قوله : ) بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ( ، جواباً إلزامياً ، وهو أنهم : وما أمروا باتباع اليهودية والنصرانية ، وإنما كان ذلك منهم على سبيل التقليد . هذا ، وكل طائفة منهما تكفر الأخرى ، أجيبوا بأن الأولى في التقليد اتباع إبراهيم ، لأنهم ، أعني الطائفتين المختلفتين ، قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم . والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، إن كان الدين بالتقليد . فلما ذكر هنا جواباً إلزامياً ، ذكر بعده برهاناً في هذه الآية ، وهو ظهور المعجزة عليهم بإنزال الآيات . وقد ظهرت على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فوجب الإيمان بنبوّته . فإن تخصيص بعض بالقبول وبعض بالرّدّ ، يوجب التناقض في الدليل ، وهو ممتنع عقلاً .
( وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ( : إن كان الضمير في قولوا للمؤمنين ، فالمنزل إليهم هو القرآن ، وصح نسبة إنزاله إليهم ، لأنهم فيه هم المخاطبون بتكاليفه من الأمر والنهي وغير ذلك ، وتعدية أنزل بإلى ، دليل على انتهاء المنزل إليهم . وإن كان الضمير في قولوا عائداً على اليهود والنصارى ، فالمنزل إلى اليهود : التوراة ، والمنزل إلى النصارى : الإنجيل ، ويلزم من الإيمان بهما ، الإيمان برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . ويصح أن يراد بالمنزل إليهم : القرآن ، لأنهم أمروا باتباعه ، وبالإيمان به ، وبمن جاء على يديه .
( وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْراهِيمَ ( : الذي أنزل على إبراهيم عشر صحائف . قال : ) إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى ( ، وكرر الموصول ، لأن المنزل إلينا ، وهو القرآن ، غير تلك الصحائف التي أنزلت على إبراهيم . فلو حذف الموصول ، لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إلى إبراهيم ، قالوا : ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وعطفوا على إبراهيم ، لأنهم كلفوا العمل به والدعاء إليه ، فأضيف الإنزال إليهم ، كما أضيف في قوله : ) وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ). والأسباط هم أولاد يعقوب ، وهم اثنا عشر سبطاً . قال الشريف أبو البركات الجوّاني النسابة : وولد يعقوب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : يوسف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، صاحب مصر وعزيزها ، وهو السبط الأول من أسباط يعقوب عليه السلام الاثني عشر ، والأسباط سوى يوسف : كاذ ، وبنيامين ، ويهوذا ، ويفتالي ، وزبولون ، وشمعون ، وروبين ، ويساخا ، ولاوي ، وذان ، وياشيرخا من يهوذا بن يعقوب ، وسليمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وجاء من سليمان عليه السلام النبي : مريم ابنة عمران ، أمّ المسيح عليهما السلام . وجاء من لاوي بن يعقوب : موسى كليم الله وهارون أخوه عليهما السلام . انتهى كلامه . وقال ابن عطية : والأسباط هم ولد يعقوب . وهم : روبيل ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، ورفالون ، وبشجر ، وذينة بنته ، وأمّهم لياثم . خلف على أختها راحيل ، فولدت له : يوسف ، وبنيامين . وولد له من سريتين : داني ، ونفتالي ، وجاد ، وآشر . انتهى كلامه ، وهو مخالف لكلام الجواني في بعض الأسماء . وقيل : روبيل أكبر ولده . وقال الحسين بن أحمد بن عبد الرحيم البيساني : روبيل أصح وأثبت ، يعني باللام ، قال : وقبره في قرافة مصر ، في لحف الجبل ، في تربة أليسع عليهما السلام .
( وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى ( : أي : وآمنا بالذي أوتي موسى من التوراة والآيات ، وعيسى من الإنجيل والآيات . وموسى هنا : هو موسى بن عمران ، كليم الله . وقال الحسين بن أحمد البيساني : وفي ولد ميشا بن يوسف ، يعني الصديق : موسى بن ميشا بن يوسف . وزعم أهل التوراة أن الله نبأه ، وأنه صاحب الخضر . وذكر المؤرّخون أنه لما مات يعقوب ، فشا في الأسباط الكهانة ، فبعث الله موسى بن ميشا يدعوهم إلى عبادة الله ، وهو قبل موسى بن عمران بمائة سنة ، والله أعلم بصحة ذلك . انتهى كلامه ، ونص

" صفحة رقم 580 "
على موسى وعيسى ، لأنهما متبوعا اليهود والنصارى بزعمهم ، والكلام معهم ، ولم يكرر الموصول في عيسى ، لأن عيسى إنما جاء مصدقاً لما في التوراة ، لم ينسخ منها إلا نزراً يسيراً . فالذي أوتيه عيسى هو ما أوتيه موسى ، وإن كان قد خالف في نزر يسير . وجاء : ) وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ( ، وجاء : ) وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى ( ، تنويعاً في الكلام وتصرفاً في ألفاظه ، وإن كان المعنى واحداً ، هذ لو كان كله بلفظ الإيتاء ، أو بلفظ الإنزال ، لما كان فيه حلاوة التنوع في الألفاظ . ألا تراهم لم يستحسنوا قول أبي الطيب : ونهب نفوس أهل النهب أولى
بأهل النهب من نهب القماش
ولما ذكر في الإنزال أوّلاً خاصاً ، عطف عليه جمعاً . كذلك لما ذكر في الإيتاء خاصاً ، عطف عليه جمعاً . ولما أظهر الموصول في الإنزال في العطف ، أظهره في الإيتاء فقال : ) وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ ( ، وهو تعميم بعد تخصيص . وظاهر قوله : ) وَمَا أُوتِيَ ( يقتضي التعميم في الكتب والشرائع . وفي حديث لأبي سعيد الخدري ، قلت : يا رسول الله ، كم أنزل الله ؟ قال : ( مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة ، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف ، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف ، ثم أنزل التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان . وأما عدد الأنبياء ، فروي عن ابن عباس ووهب بن منبه : أنهم مائة ألف نبي ، ومائة وعشرون ألف نبي ، كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرين ألف نبي . وعدد الرسل : ثلاثمائة وثلاثة عشرة ، كلهم من ولد يعقوب ، إلا عشرين رسولاً ، ذكر منهم في القرآن خمسة وعشرين ، نص على أسمائهم وهم : آدم ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، وأليسع ، وإلياس ، ويونس ، وأيوب ، وداود ، وسليمان ، وزكريا ، وعزير ، ويحيى ، وعيسى ، ومحمد / ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وفي رواية عن ابن عباس : أن الأنبياء كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرة : نوحاً ، وهوداً ، وشعيباً ، وصالحاً ، ولوطاً ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل ، ومحمداً / ( صلى الله عليه وسلم ) ) أجمعين . وابتدىء أولاً بالإيمان بالله ، لأن ذلك أصل الشرائع ، وقدم ) أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْنَا ( ، وإن كان متأخراً في الإنزال عن ما بعده ، لأنه أولى بالذكر ، لأن الناس ، بعد بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، مدعوّون إلى الإيمان بما أنزل إليه جملة وتفصيلاً . وقدم ) مَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ( على ) مَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى ( ، للتقدّم في الزمان ، أو لأن المنزل على موسى ، ومن ذكر معه ، هو المنزل إلى إبراهيم ، إذ هم داخلون تحت شريعته . ) وَمَا أُوتِىَ مُوسَى ( : ظاهره العطف على ما قبله من المجرورات المتعلقة بالإيمان ، وجوّزوا أن يكون : ) وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى ( في موضع رفع بالابتداء ، وما أوتي الثانية عطف على ما أوتي ، فيكون في موضع رفع . والخبر في قوله ) مّن رَّبّهِمُ ( ، أو لا نفرق ، أو يكون : ) وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى ( معطوفاً على المجرور قبله ، ( وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ ( رفع على الابتداء ، ( وَمِنْ رَّبُّهُمْ ( الخبر ، أو لا نفرق هو الخبر . والظاهر أن من ربهم في موضع نصب ، ومن لابتداء الغاية ، فتتعلق بما أوتي الثانية ، أو بما أوتي الأولى ، وتكون الثانية توكيداً . ألا ترى إلى سقوطها في آل عمران في قوله : ) وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ ( ؟ ويجوز أن يكون في موضع حال من الضمير العائد على الموصول ، فتتعلق بمحذوف ، أي وما أوتيه النبيون كائناً من ربهم . .
( لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ ( : ظاهره الاستئناف . والمعنى : أنا نؤمن بالجميع ، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، كما فعلت اليهود والنصارى . فإن اليهود آمنوا بالأنبياء كلهم ، وكفروا بمحمد وعيسى ، صلوات الله على الجميع . والنصارى آمنوا بالأنبياء ، وكفروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) )

" صفحة رقم 581 "
. وقيل : معناه لا نقول إنهم يتفرقون في أصول الديانات . وقيل : معناه لانشق عصاهم ، كما يقال شق عصا المسلمين ، إذا فارق جماعتهم . وأحد هنا ، قيل : هو المستعمل في النفي ، فأصوله : الهمزة والحاء والدال ، وهو للعموم ، فلذلك لم يفتقر بين إلى معطوف عليه ، إذ هو اسم عام تحته أفراد ، فيصح دخول بين عليه ، كما تدخل على المجموع فتقول : المال بين الزيدين ، ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه . وقيل : أحد هنا بمعنى : واحد ، والهمزة بدل من الواو ، إذ أصله : وحد ، وحذف المعطوف لفهم السامع ، والتقدير : بين أحد منهم وبين نظيره ، فاختصر ، أو بين أحد منهم والآخر ، ويكون نظير قول الشاعر : فما كان بين الخير لو جاء سالما
أبو حجر إلا ليال قلائل
يريد : بين الخير وبيني ، فحذف لدلالة لمعنى عليه ، إذ قد علم أن بين لا بد أن تدخل بين شيئين ، كما حذف المعطوف في قوله : ) سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ). ومعلوم أن ما وقي الحر وقي البرد ، فحذف والبرد لفهم المعنى . ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه . وذكر الوجهين غير الزمخشري وابن عطية ، والوجه الأول أرجح ، لأنه لا حذف فيه .
( وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( : هذا كله مندرج تحت قوله : ) قُولُواْ ). ولما ذكر أولاً الإيمان ، وهو التصديق ، وهو متعلق بالقلب ، ختم بذكرالإسلام ، وهو الانقياد الناشىء عن الإيمان الظاهر عن الجوارح . فجمع بين الإيمان والإسلام ، ليجتمع الأصل والناشىء عن الأصل . وقد فسر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الإيمان والإسلام حين سئل عنهما ، وذلك في حديث جبريل عليه السلام . وقد فسروا قوله : ) مُّسْلِمُونَ ( بأقوال متقاربة في المعنى ، فقيل : خاضعون ، وقيل : مطيعون ، وقيل : مذعنون للعبودية ، وقيل : مذعنون لأمره ونهيه عقلاً وفعلاً ، وقيل : داخلون في حكم الإسلام ، وقيل : منقادون ، وقيل : مخلصون . وله متعلق بمسلمون ، وتأخر عنه العامل لأجل الفواصل ، أو تقدّم له للاعتناء بالعائد على الله تعالى لما نزل قوله : ) قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ ( الآية ، قرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على اليهود والنصارى وقال : ( الله أمرني بهذا ) . فلما سمعوا بذكر عيسى أنكروا وكفروا . وقالت النصارى : إن عيسى ليس بمنزلة سائر الأنبياء ، ولكنه ابن الله تعالى ،
البقرة : ( 137 ) فإن آمنوا بمثل . . . . .
فأنزل الله : ) فَإِنْ ءامَنُواْ ( الآية . والضمير في آمنوا عائد على من عاد عليه في قوله : ) وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ). ويجوز أن يكون الخطاب خاصاً ، والمراد به العموم ، ويجوز أن يكون عائداً على كل كافر ، فيفسره المعنى .
وقرأ الجمهور : ) بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ ). وقرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس : بما آمنتم به . وقرأ أبيّ : بالذي آمنتم به ، وقال ابن عباس : ليس لله مثل . وهذا يدل على إقرار الباء على حالها في آمنت بالله ، وإطلاق على ما على الله تعالى . كما ذهب إليه بعضهم في قوله : ) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( ، يريد ومن بناها على قوله . وقراءة أبيّ ظاهرة ، ويشمل جميع ما آمن به المؤمنون . وأما قراءة الجمهور ، فخرجت الباء على لزيادة ، والتقدير : إيماناً مثل إيمانكم ، كما زيدت في قوله : ) وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ).
وسود المحاجر لا يقرأن بالسور
) وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ( ، وتكون ما مصدرية . وقيل : ليست بزائدة ، وهي بمعنى على ، أي فإن آمنوا على مثل ما آمنتم به ، وكون الباء بمعنى على ، قد قيل به ، وممن قال به ابن مالك ، قال ذلك في قوله تعالى : ) مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ( ، أي على قنطار . وقيل : هي للاستعانة ، كقولك : عملت بالقدوم ،

" صفحة رقم 582 "
وكتبت بالقلم ، أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم ، وذلك فرار من زيادة الباء ، لأنه ليس من أماكن زيادة الياء قياساً . والمؤمن به على هذه الأوجه الثلاثة محذوف ، التقدير : فإن آمنوا بالله ، ويكون الضمير في به عائداً على ما عاد عليه قوله : ) وَنَحْنُ لَهُ ( ، وهو الله تعالى . وقيل : يعود على ما ، وتكون إذ ذاك موصولة . وأما مثل ، فقيل : زائدة ، والتقدير : فإن آمنوا بما آمنتم به ، قالوا : كهي في قوله : ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء ( ، أي ليس كهو شيء ، وكقوله : فصيروا مثل كعصف مأكول وكقوله :
يا عاذلي دعني من عذلكا
مثلي لا يقبل من مثلكما
وقيل : ليست بزائدة . والمثلية هنا متعلقة بالاعتقاد ، أي فإن اعتقدوا مثل اعتقادكم ، أو متعلقة بالكتاب ، أي فإن آمنوا بكتاب مثل الكتاب الذي آمنتم به . والمعنى : فإن آمنوا بكتابكم المماثل لكتابهم ، أي فإن آمنوا بالقرآن الذي هو مصدق لما في التوراة والإنجيل ، وعلى هذا التأويل ، لا تكون الباء زائدة ، بل هي مثلها في قوله : آمنت بالكتاب . وقالت فرقة : هذا من مجاز الكلام ، يقول : هذا أمر لا يفعله مثلك ، أي لا تفعله أنت . والمعنى : فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، وهذا يؤول إلى إلغاء مثل ، وزيادتها من حيث المعنى . وقال الزمخشري : بمثل ما آمنتم به من باب التبكيت ، لأن دين الحق واحد ، لا مثل له ، وهو دين الإسلام . ) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ( ، فلا يوجد إذاً دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقاً ، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له ، كانوا مهتدين ، فقيل : فإن آمنوا بكلمة الشك ، على سبيل العرض ، والتقدير : أي فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم ، مساوياً له في الصحة والسداد .
( فَقَدِ اهْتَدَواْ ( : وفيه أن دينهم الذي هم عليه ، وكل دين سواه مغاير له غير مماثل ، لأنه حق وهدى ، وما سواه باطل وضلال ، ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه : هذا هو الرأي الصواب ، فإن كان عندك رأي أصوب منه ، فاعمل به ، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه . انتهى كلامه ، وهو حسن . وجواب الشرط قوله : ) فَقَدِ اهْتَدَواْ ( ، وليس الجواب محذوفاً ، كهو في قوله : ) وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ ( لمعنى تكذيب الرسل قطعاً ، واستقبال الهداية هنا ، لأنها معلقة على مستقبل ، ولم تكن واقعة قبل .
( وَإِن تَوَلَّوْاْ ( : أي إن أعرضوا عن الدخول في الإيمان . ) فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ ( : أكد الجملة الواقعة شرطاً بأن ، وتأكد معنى الخبر بحيث صار ظرفاً لهم ، وهم مظروفون له . فالشقاق مستول عليهم من جميع جوانبهم ، ومحيط بهم إحاطة البيت بمن فيه . وهذه مبالغة في الشقاق الحاصل لهم بالتولي ، وهذا كقوله : ) إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ، ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ ( ، هو أبلغ من قولك : زيد مشاق لعمرو ، وزيد ضال ، وبكر سفيه . والشقاق هنا : الخلاف ، قاله ابن عباس ، أو العداوة ، أو الفراق ، أو المنازعة ، قاله زيد بن أسلم ، أو المجادلة ، أو الضلال والاختلاف ، أو خلع الطاعة ، قاله الكسائي ؛ أو البعاد والفراق إلى يوم القيامة . وهذه تفاسير للشقاق متقاربة المعنى . وقد ذكرنا مدار ذلك في المفردات على عنيين : إما من المشقة ، وإما أن يصير في شق وصاحبه في شق ، أي يقع بينهم خلاف . قال القاضي : ولا يكاد يقال في العداوة على وجه الحق شقاق ، لأن الشقاق في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ، وهذا وعيد لهم . انتهى .
( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ( : لما ذكر أن توليهم يترتب عليه الشقاق ، وهو العداوة العظيمة ، أخبر تعالى أن تلك العداوة لا يصلون

" صفحة رقم 583 "
إليك بشيء منها ، لأنه تعالى قد كفاه شرهم . وهذا الإخبار ضمان من الله لرسوله ، كفايته ومنعه منهم ، ويضمن ذلك إظهاره على أعدائه ، وغلبته إياهم ، لأن من كان مشاقاً لك غاية الشقاق هو مجتهد في أذاك ، إذا لم يتوصل إلى ذلك ، فإنما ذلك لظهورك عليه وقوّة منعتك منه ، وهذا نظير قوله تعالى : ) وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ). وكفاه الله أمرهم بالسبي والقتل في قريظة وبني قينقاع ، والنفي في بني النضير ، والجزية في نصارى نجران . وعطف الجملة بالفاء مشعر بتعقب الكفاية عقيب شقاقهم ، والمجيء بالسين يدل على قرب الاستقبال ، إذ السين في وضعها أقرب في التنفيس من سوف ، والذوات ليست المكفية ، فهو على حذف مضاف ، أي فسيكفيك شقاقهم ، والمكفى به محذوف ، أي بمن يهديه الله من المؤمنين ، أو بتفريق كلمة المشاقين ، أو بإهلاك أعيانهم وإذلال باقيهم بالسبي والنفي والجزية ، كما بيناه .
( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ، مناسبة هاتين الصفتين : أن كلاً من الإيمان وضدّه مشتمل على أقوال وأفعال ، وعلى عقائد ينشأ عنها تلك الأقوال والأفعال ، فناسب أن يختتم ذلك بهما ، أي وهو السميع لأقوالكم ، العليم بنياتكم واعتقادكم . ولما كانت الأقوال هي الظاهرة لنا الدالة على ما في الباطن ، قدّمت صفة السميع على العليم ، ولأن العليم فاصلة أيضاً . وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد ، لأن المعنى ، وهو السميع العليم ، فيجازيكم بما يصدر منكم .
البقرة : ( 138 ) صبغة الله ومن . . . . .
( صِبْغَةَ اللَّهِ ( : أي دين الله ، قاله ابن عباس وسمي صبغة لظهور أثر الدين على صاحبه ، كظهور أثر الصبغ على الثوب ، ولأنه يلزمه ولا يفارقه ، كالصبغ في الثوب ، أو فطرة الله ، قاله مجاهد ومقاتل ؛ أو خلقة الله ، قاله الزجاج وأبو عبيد ؛ أو سنة الله ، قاله أبو عبيدة ؛ أو الإسلام ، قاله مجاهد أيضاً ؛ أو جهة الله يعني القبلة ، قاله ابن كيسان ؛ أو حجة الله على عباده ، قاله الأصم : أو الختان ، لأنه يصبغ صاحبه بالدم . والنصارى إذا ولد لهم مولود غمسوه في السابع في ماء يقال له المعمودية ، فيتطهر عندهم ويصير نصرانياً . استغنوا به عن الختان ، فردّ الله عليهم بقوله : ) صِبْغَةَ اللَّهِ ( ، أو الاغتسال للدّخول في الإسلام عوضاً عن ماء المعمودية ، حكاه الماوردي ؛ أو القربة إلى الله ، حكاه ابن فارس في المجمل ؛ أو التلقين ، يقال : فلان يصبغ فلاناً في الشيء ، أي يدخله فيه ويلزمه إياه ، كما يجعل الصبغ لازماً للثوب . وهذه أقوال متقاربة ، والأقرب منها هو الدين والملة ، لأن قبله : ) قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ( الآية . وقد تضمنت هذه الآية أصل الدين الحنيفي ، فكنى بالصبغة عنه ، ومجازه ظهور الأثر ، أو ملازمته لمن ينتحله . فهو كالصبغ في هذين الوصفين ، كما قال . وكذلك الإيمان ، حين تخالط بشاشة القلوب . والعرب تسمي ديانة الشخص لشيء ، واتصافه به صبغة . قال بعض شعراء ملوكهم : وكل أناس لهم صبغة
وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذاك أبناءنا
فأكرم بصبغتنا في الصبغ
وقد روي عن ابن عباس أن الأصل في تسمية الدين صبغة : أن عيسى حين قصد يحيى بن زكريا فقال : جئت لأصبغ منك ، وأغتسل في نهر الأردن . فلما خرج ، نزل عليه روح القدس ، فصارت النصارى يفعلون ذلك بأولادهم في كنائسهم ، تشبيهاً بعيسى ، ويقولون : الآن صار نصرانياً حقاً . وزعموا أن في الإنجيل ذكر عيسى بأنه الصابغ . ويسمون الماء الذي يغمسون فيه أولادهم : المعمودية ، بالدال ، ويقال : المعمورية بالراء . قال : ويسمون ذلك الفعل التغميس ، ومنهم من يسميه الصبغ ، فردّ الله ذلك بقوله : ) صِبْغَةَ اللَّهِ ). وقال الراغب : الصبغة إشارة إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها عن البهائم ، ورشحنا بها لمعرفته ومعرفة طلب الحق ، وهو المشار إليه بالفطرة .

" صفحة رقم 584 "
وسمي ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الإنسان ، إذا اعتبرت ، جرت مجرى الصبغة في المصبوغ ، ولما كانت النصارى ، إذا لقنوا أولادهم النصرانية يقولون : نصرناه ، فقال : إن الإيمان بمثل ما آمنتم به صبغة الله .
وقرأ الجمهور : صبغة الله بالنصب ، ومن قرأ برفع ملة ، قرأ برفع صبغة ، قاله الطبري . وقد تقدّم أن تلك قراءة الأعرج وابن أبي عبلة . فأما النصب ، فوجه على أوجه ، أظهرها أنه منصوب انتصاب المصدر المؤكد عن قوله : ) قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ ). وقيل : عن قوله : ) وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ). وقيل : عن قوله : ) فَقَدِ اهْتَدَواْ ( وقيل : هو نصب على الإغراء ، أي الزموا صبغة الله . وقيل : بدل من قوله : ) مِلَّةِ إِبْراهِيمَ ( ، أما الإغراء فتنافره آخر الآية وهو قوله : ) وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ( ، إلا إن قدر هناك قول ، وهو إضمار ، لا حاجة تدعو إليه ، ولا دليل من الكلام عليه . وأما البدل ، فهو بعيد ، وقد طال بين المبدل ومنه والبدل بجمل ، ومثل ذلك لا يجوز . والأحسن أن يكون منتصباً انتصاب المصدر المؤكد عن قوله : ) قُولُواْ ءامَنَّا ( ، فإن كان الأمر للمؤمنين ، كان المعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة ، ولم يصبغ صبغتكم . وإن كان الأمر لليهود والنصارى ، فالمعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا ، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيرنا . ونظير نصب هذا المصدر نصب قوله : ) صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء ( ، إذ قبله : ) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ وَيُنْشِىء السَّحَابَ ( ، معناه : صنع الله ذلك صنعه ، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة ، كما تقول لرجل يغرس الأشجار : اغرس كما يغرس فلان ، يريد رجلاً يصطنع الكرم . وأما قراءة الرفع ، فذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك الإيمان صبغة الله .
( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ( : هذا استفهام ومعناه : النفي ، أي ولا أحد أحسن من الله صبغة . وأحسن هنا لا يراد بها حقيقة التفضيل ، إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن ، أو يراد التفضيل ، باعتبار من يظن أن في صبغة غير الله حسناً ، لا أن ذلك بالنسبة إلى حقيقة الشيء . وانتصاب صبغة هنا على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ . وقد ذكرنا أن ذلك غريب ، أعني نص النحويين على أن من التمييز المنقول تمييزاً نقل من المبتدأ ، والتقدير : ومن صبغته أحسن من صبغة الله . فالتفضيل إنما يجري بين الصبغتين ، لا بين الصابغين .
( وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ( : متصل بقوله : ) بِاللَّهِ فَإِذَا ( ، ومعطوف عليه . قال الزمخشري : وهذا العطف يرد قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة ، أو نصب على الإغراء ، بمعنى : عليكم صبغة الله ، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه . وانتصابها يعني : صبغة الله على أنها مصدر مؤكدة ، هو الذي ذكره سيبويه ، والقول ما قالت حذام . انتهى . وتقديره : في الإغراء عليكم صبغة الله ليس بجيد ، لأن الإغراء ، إذ كان بالظرف

" صفحة رقم 585 "
والمجرور ، لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور ، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدرناه بالزموا صبغة الله . وتقدم الكلام على العبادة في قوله : ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( ، وأما هنا فقيل : عابدون موحدون ، ومنه : ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( ، أي ليوحدون . وقيل : مطيعون متبعون ملة إبراهيم وصبغة الله . وقيل : خاضعون مستكينون في اتباع ملة إبراهيم ، غير مستكبرين ، وهذه أقوال متقاربة .
البقرة : ( 139 ) قل أتحاجوننا في . . . . .
( قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ( : سبب النزول ، قيل : إن اليهود والنصارى قالوا : يا محمد إن الأنبياء كانوا منا ، وعلى ديننا ، ولم تكن من العرب ، ولو كنت نبياً ، لكنت منا وعلى ديننا . وقيل : حاجوا المسلمين فقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه وأصحاب الكتاب الأول ، وقبلتنا أقدم ، فنحن أولى بالله منكم ، فأنزلت . قرأ الجمهور : أتحاجوننا بنونين ، إحداهما نون الرفع ، والأخرى الضمير ؟ وقرأ زيد بن ثابت ، والحسن ، والأعمش ، وابن محيصن : بإدغام النون في النون ، وأجاز بعضهم حذف النون . أما قراءة الجمهور فظاهرة ، وأما قراءة زيد ومن ذكر معه ، فوجهها أنه لما التقى مثلان ، وكان قبل الأول حرف مدّ ولين ، جاز الإدغام كقولك : هذه دار راشد ، لأن المد يقوم مقام الحركة في نحو : جعل لك . وأما جواز حذف النون الأولى ، فوجهه من أجاز ذلك على قراءة من قرأ : فبم تبشرون ، بكسر النون ، وأنشدوا : تراه كالثغام يعل مسكا
يسوء الفاليات إذا فليني
يريد : فلينني . والخطاب بقوله : قل للرسول ، أو للسامع ، والهمزة للاستفهام مصحوباً بالإنكار عليهم ، والواو ضمير اليهود والنصارى . وقيل : مشركو العرب ، إذ قالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم . وقيل : ضمير اليهود والنصارى والمشركين . والمحاجة هنا : المجادلة . والمعنى : أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم ، وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا ، وترونكم أحق بالنبوّ منا ؟ ) وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ( : جملة حالية ، يعني أنه مالكهم كلهم ، فهم مشتركون في العبودية ، فله أن يخص من شاء بما شاء من الكرامة . والمعنى : أنه مع اعترافنا كلنا أنا مربوبون لرب واحد ، فلا يناسب الجدال فيما شاء من أفعاله ، وما خص به بعض مربوباته من الشرف والزلفى ، لأنه متصرف في كلهم تصرف المالك . وقيل المعنى : أتجادلوننا في دين الله ، وتقولون إن دينكم أفضل الأديان ، وكتابكم أفضل الكتب ؟ والظاهر إنكار المجادلة في الله ، حيث زعمت النصارى أن الله هو المسيح ، وحيث زعم بعضهم أن الله ثالث ثلاثة ، وحيث زعمت اليهود أن الله له ولد ، وزعموا أنه شيخ أبيض الرأس واللحية ، إلى ما يدعونه فيه من سمات الحدوث والنقص ، تعالى الله عن ذلك ، فأنكر عليهم كيف يدعون ذلك ، والرب واحد لهم ، فوجب أن يكون الإعتقاد فيه واحداً ، وهو أن تثبت صفاته العلا ، وينزه عن الحدوث والنقص .
( وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ( ، المعنى : ولنا جزاء أعمالنا ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . والمعنى : أن الرب واحد ، وهو المجازي على الأعمال ، فلا تنبغي المجادلة فيه ولا المنازعة . ) وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ( : ولما بين القدر المشترك من الربوبية والجزاء ، ذكر ما يميز به المؤمنون من الإخلاص لله تعالى في العمل والاعتقاد ، وعدم الإشراك الذي هو موجود في النصارى وفي اليهود ، لأن من عبد موصوفاً بصفات الحدوث والنقص ، فقد أشرك مع الله إلهاً آخر . والمعنى : أنا لم نشب عقائدنا

" صفحة رقم 586 "
وأفعالنا بشيء من الشرك ، كما ادعت اليهود في العجل ، والنصارى في عيسى . وهذه الجملة من باب التعريض بالذم ، لأن ذكر المختص بعد ذكر المشترك نفي لذلك المختص عمن شارك في المشترك ، ويناسب أن يكون استطراداً ، وهو أن يذكر معنى يقتضي أن يكون مدحاً لفاعله وذماً لتاركه ، نحو قوله : وأنا لقوم ما نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر وسلول
وهي منبهة على أن من أخلص لله ، كان حقيقاً أن يكون منهم الأنبياء وأهل الكرامة ، وقد كثرت أقوال أرباب المعاني في الإخلاص . فروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( سألت جبريل عن الإخلاص ما هو ؟ فقال : سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو ؟ فقال : سر من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي ) . وقال سعيد بن جبير : الإخلاص : أن لا يشرك في دينه ، ولا يرائي في عمله أحداً . وقال الفضيل : ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما . وقال ابن معاذ : تمييز العمل من الذنوب ، كتمييز اللبن من بين الفرث والدم . وقال البوشنجي : هو معنى لا يكتبه الملكان ، ولا يفسده الشيطان ، ولا يطلع عليه الإنسان ، أي لا يطلع عليه إلا الله . وقال رويم : هو ارتفاع عملك عن الرؤية . وقال حذيفة المرعشي : أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن . وقال أبو يعقوب المكفوف : أن يكتم العبد حسناته ، كما يكتم سيئاته . وقال سهل : هو الإفلاس ، ومعناه أن يرجع إلى احتقار العمل . وقال أبو سليمان الداراني : للمرائي ثلاث علامات : يكسل إذا كان وحده ، وينشط إذا كان في الناس ، ويزيد في العمل إذا أثني عليه . وهذا القول الذي أمر به ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يقوله على وجه الشفقة والنصيحة في الدين ، لينبهوا على أن تلك المجادلة منكم ليست واقعة موقع الصحة ، ولا هي مما ينبغي أن تكون . وليس مقصودنا بهذا التنبيه دفع ضرر منكم ، وإنما مقصودنا نصحكم وإرشادكم إلى تخليص اعتقادكم من الشرك ، وأن تخلصوا كما أخلصنا ، فنكون سواء في ذلك .
البقرة : ( 140 ) أم تقولون إن . . . . .
( أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( : قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : أم تقولون بالتاء ، وقرأ الباقون بالياء . فأما قراءة التاء ، فيحتمل أم فيه وجهين . أحدهما : أن تكون فيه أم متصلة ، فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين : المحاجة في الله ، والادعاء على إبراهيم ومن ذكر معه ، أنهم كانوا يهوداً ونصارى ، وهو استفهام صحبه الإنكار والتقريع والتوبيخ ، لأن كلاً من المستفهم عنه ليس بصحيح .

" صفحة رقم 587 "
الوجه الثاني : أن تكون أم فيه منقطعة ، فتقدّر ببل والهمزة ، التقدير : بل أتقولون ، فأضرب عن الجملة السابقة ، وانتقل إلى الاستفهام عن هذه الجملة اللاحقة ، على سبيل الإنكار أيضاً ، أي أن نسبة اليهودية والنصرانية لإبراهيم ومن ذكر معه ، ليست بصحيحة ، بشهادة القول الصدق الذي أتى به الصادق من قوله تعالى : ) مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا ( ، وبشهادة التوراة والإنجيل على أنهم كانوا على التوحيد والحنيفية ، وبشهادة أن اليهودية والنصرانية لمن اقتفى طريقة عيسى ، وبأن ما يدعونه من ذلك قول بلا برهان ، فهو باطل . وأما قراءة الياء ، فالظاهر أن أم فيها منقطعة . وحكى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، عن بعض النحاة : أنها ليست بمنقطعة ، لأنك إذا قلت : أتقوم أم يقوم عمرو ؟ فالمعنى : أيكون هذا أم هذا ؟ وقال ابن عطية : هذا المثال يعني : أتقوم أم يقوم عمرو ؟ غير جيد ، لأن القائل فيه واحد ، والمخاطب واحد ، والقول في الآية من اثنين ، والمخاطب اثنان غيران ، وإنما يتجه معادلة أم للألف على الحكم المعنوي ، كان معنى قل أتحاجوننا ، أيحاجون يا محمد ، أم يقولون ؟ انتهى . ومعنى بقوله : لأن القائل فيه واحد ، يعني في المثال الذي هو : أيقوم أم يقوم عمرو ؟ فالناطق بهاتين الجملتين هو واحد ، وقوله والمخاطب واحد ، يعني الذي خوطب بهذا الكلام ، والمعادلة وقعت بين قيام المواجه بالخطاب وبين قيام عمرو وقوله . والقول في الآية من اثنين ، يعني أن أتحاجوننا من قول الرسول ، إذ أمر أن يخاطبهم بذلك ، وأتقولون بالتاء من قول الله تعالى . وقوله والمخاطب اثنان غيران ، أما الأول فقوله أتحاجوننا ، وأما الثاني فهو للرسول وأمته الذين خوطبوا بقوله : أم يقولون . وقال الزمخشري : وفيمن قرأ بالياء ، لا تكون إلا منقطعة . انتهى . ويمكن الاتصال فيها مع قراءة التاء ، ويكون ذلك من الالتفات ، إذ صار فيه خروج من خطاب إلى غيبة ، والضمير لناس مخصوصين . والأحسن أن تكون أم في القراءتين معاً منقطعة ، وكأنه أنكر على هم محاجتهم في الله ونسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية ، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تُحَاجُّونَ فِى إِبْراهِيمَ ( الآيات . وإذا جعلناها متصلة ، كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين ، بل إحداهما ، وصار السؤال عن تعيين إحداهما ، وليس الأمر كذلك ، إذ وقعا معاً . والقول في أو فيقول : ) هُودًا أَوْ نَصَارَى ( ، قد تقدّم في قوله : ) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ). وقوله : ) كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( ، وأنها للتفضيل ، أي قالت اليهود : هم يهود ، وقالت النصارى : هم نصارى .
( قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ( : القول في القراى اتت في أأنتم ، كهو في قوله : ) أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ ( ، وقد توسط هنا المسؤول عنه ، وهو أحسن من تقدمه وتأخره ، إذ يجوز في العربية أن يقول : أأعلم أنتم أم الله ؟ ويجوز : أأنتم أم الله أعلم ؟ ولا مشاركة بينهم وبين الله في العلم حتى يسأل : أهم أزيد علماً أم الله ؟ ولكن ذلك على سبيل التهكم بهم والاستهزاء ، وعلى تقدير أن يظن بهم علم ، وهذا نظير قول حسان :
فشركما لخيركما الفداء
وقد علم أن الذي هو خير كله ، هو الرسول عليه السلام ، وأن الذي هو شر كله ، هو هاجيه . وفي هذا ردّ على اليهود والنصارى ، لأن الله قد أخبر بقوله : ) مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ، ولأن اليهودية والنصرانية إنما حدثتا بعد إبراهيم ، ولأنه أخبر في التوراة والإنجيل أنهم كانوا مسلمين مميزين عن اليهودية والنصرانية . وخرجت هذه الجملة مخرج ما يتردد فيه ، لأن اتباع أحبارهم ربما توهموا ، أو ظنوا ، أن أولئك كانوا هوداً أو نصارى لسماعهم ذلك منه ، فيكون ذلك ردًّا من الله عليهم ، أو لأن أحبارهم كانوا يعلمون بطلان مقالتهم في إبراهيم ومن ذكر معه ، لكنهم كتموا ذلك ونحلوهم إلى ما ذكروا ، فنزلوا لكتمهم ذلك منزلة من يتردد في الشيء ، وردّ

" صفحة رقم 588 "
عليهم بقوله : أأنتم أعلم أم الله ، لأن من خوطب بهذا الكلام بادر إلى أن يقول : الله أعلم ، فكان ذلك أقطع للنزاع .
( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ( : وهذا يدل على أنهم كانوا عالمين بأن إبراهيم ومن معه كانوا مباينين لليهودية والنصرانية ، لكنهم كتموا ذلك . وقد تقدّم الكلام على هذا الاستفهام ، وأنه يراد به النفي ، فالمعنى : لا أحد أظلم ممن كتم . وتقدّم الكلام في أفعل التفضيل الجائي بعد من الاستفهام في قوله : ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ( ، والمنفي عنهم التفضيل في الكتم اليهود ، وقيل : المنافقون تابعوا اليهود على الكتم . والشهادة هي أن أنبياء الله معصومون من اليهودية والنصرانية الباطلتين ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والربيع ، أو ما في التوراة من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ونبوته ، والأمر بتصديقه ، قاله قتادة ، وابن زيد ؛ أو الإسلام ، وهم يعلمون أنه الحق . والقول الأول أشبه بسياق الآية .
من الله : يحتمل أن تكون من متعلقة بلفظ كتم ، ويكون على حذف مضاف ، أي كتم من عباد الله شهادة عنده ، ومعناه أنه ذمهم على منع أن يصل إلى عباد الله ، وأن يؤدوا إليهم شهادة الحق . ويحتمل أن تكون من متعلقة بالعامل في الظرف ، إذ الظرف في موضع الصفة ، والتقدير : شهادة كائنة عنده من الله ، أي الله تعالى قد أشهده تلك الشهادة ، وحصلت عنده من قبل الله ، واستودعه إياها ، وهو قوله ) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ ( الآية . وقال ابن عطية في هذا الوجه : فمن على هذا متعلقة بعنده ، والتحرير ما ذكرناه أن العامل في الظرف هو الذي يتعلق به الجار والمجرور ، ونسبة التعلق إلى الظرف مجاز . وقال الزمخشري : أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها ، وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية . ومن في قوله : شهادة من الله ، مثلها في قولك : هذه شهادة مني لفلان ، إذا شهدت له ، ومثله : ) عَلِيمٌ بَرَاءةٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ). انتهى . فظاهر كلامه : أن من الله في موضع الصفة لشهادة ، أي كائنة من الله ، وهو وجه ثالث في العامل في من . والفرق بينه وبين ما قبله : أن العامل في الوجه قبله في الظرف والجار والمجرور واحد ، وفي هذا الوجه اثنان ، وكان جعل من معمولاً للعامل في الظرف ، أو في موضع الصفة لشهادة ، أحسن من تعلق من بكتم ، لأنه أبلغ في الأظلمية أن تكون الشهادة قد استودعها الله إياه فكتمها . وعلى التعلق بكتم ، تكون الأظلمية حاصلة لمن كتم من عباد الله شهادة مطلقة وأخفاها عنهم ، ولا يصح إذ ذاك الأظلمية ، لأن فوق هذه الشهادة ما تكون الأظلمية فيه أكثر ، وهو كتم شهادة استودعه الله إياها ، فلذلك اخترنا أن لا تتعلق من بكتم ، قال الزمخشري : ويحتمل معنيين : أحدهما : أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم ، لأنهم كتموا هذه الشهادة ، وهم عالمون بها . والثاني : أنا لو كتمنا هذه الشهادة ، لم يكن أحد أظلم منا ، فلا نكتمها ، وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد بالنبوّة في كتبهم وسائر شهاداته . انتهى كلامه ، والمعنى الأول هو الظاهر ، لأن الآية إنما تقدّمها الإنكار ، لما نسبوه إلى إبراهيم ومن ذكر معه . فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب ، لا مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأتباعه ، لأنهم مقرون بما أخبر الله به ، وعالمون بذلك العلم اليقين ، فلا يفرض في حقهم كتمان ذلك .
وذكر في ( ريّ الظمآن ) : أي في الآية تقديماً وتأخيراً ، والتقدير : ومن أظلم ممن كتم شهادة حصلت له ؟ كقولك : ومن أظلم من زيد ؟ من جملة الكاتمين للشهادة . والمعنى : لو كان إبراهيم وبنوه يهوداً ونصارى . ثم إن الله كتم هذه الشهادة ، لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه ، لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عن الكذب ، علمنا أن الأمر ليس كذلك . انتهى . وهذا الوجه متكلف جدًّا من حيث التركيب ، ومن حيث المدلول . أما من حيث التركيب ، فزعم قائله أن ذلك على التقديم والتأخير ، وهذا لا يكون عندنا إلا في الضرائر . وأيضاً ، فيبقى قوله : ممن كتم ، متعلق : إما بأظلم ، فيكون ذلك على طريقة البدلية ، ويكون إذ ذاك بدل

" صفحة رقم 589 "
عام من خاص ، وليس هذا النوع بثابت من لسان العرب ، على قول الجمهور ، وإن كان بعضهم قد زعم أنه وجد في لسان العرب بدل كل من بعض . وقد تأوّل الجمهور ما أدّى ظاهره إلى ثبوت ذلك ، وجعلوه من وضع العام موضع الخاص ، لندور ما ورد من ذلك ، أو يكون من متعلقه بمحذوف ، فيكون في موضع الحال ، أي كائناً من الكاتمين الشهادة . وأما من حيث المدلول ، فإن ثبوت الأظلمية لمن جرّ بمن يكون على تقدير : أي إن كتمها ، فلا أحد أظلم منه . وهذا كله معنى لا يليق بالله تعالى ، وينزه كتاب الله عن ذلك .
( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( : تقدّم الكلام على تفسير هذه الجملة عند قوله : ) وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أَفَتَطْمَعُونَ وَلاَ يَأْتِينَ إِلا قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَاهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( :
البقرة : ( 141 ) تلك أمة قد . . . . .
تقدّم الكلام على شرح هذه الجمل ، وتضمنت معنى التخويف والتهديد ، وليس ذلك بتكرار ، لأن ذلك ورد إثر شيء مخالف لما وردت الجمل الأولى بإثره . وإذا كان كذلك ، فقد اختلف السياق ، فلا تكرار . بيان ذلك أن الأولى وردت إثر ذكر الأنبياء ، فتلك إشارة إليهم ، وهذه وردت عقب أسلاف اليهود والنصارى ، فالمشار إليه هم . فقد اختلف المخبر عنه والسياق ، والمعنى : أنه إذا كان الأنبياء على فضلهم وتقدّمهم ، يجازون بما كسبوا ، فأنتم أحق بذلك . وقيل : الإشارة بتلك إلى إبراهيم ومن ذكر معه ، واستبعد أن يراد بذلك أسلاف اليهود والنصارى ، لأنه لم يجر لهم ذكر مصرّح بهم ، وإذا كانت الإشارة بتلك إلى إبراهيم ومن معه ، فالتكرار حسن لاختلاف الأقوال والسياق .
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة من كان عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الدعاء إلى الله تعالى ، حتى جعلوا ذلك وصية يوصون بها واحداً بعد واحد . فأخبر تعالى عن إبراهيم أنه أوصى بملته الحنيفية بنيه ، وأن يعقوب أوصى بذلك ، وقدّم بين يدي وصيته اختيار الله لهم هذا الدين ، ليسهل عليهم اتباع ما اختاره الله لهم ، ويحضهم على ذلك ، وأمرهم أنهم لا يموتون إلا عليه ، لأن الأعمال بخواتيمها . ثم ذكر سؤال يعقوب لبنيه عما يعبدون بعد موته ، فأجابوه بما قرّت به عينه من موافقته وموافقة آبائه الأنبياء من عبادة الله تعالى حده ، والانقياد لأحكامه . وحكمة هذا السؤال أنه لما وصاهم بالحنيفية ، استفسرهم عما تكن صدورهم ، وهل يقبلون الوصية ؟ فأجابوه بقبولها وبموافقة ما أحبه منهم ، ليسكن بذلك جأشه ، ويعلم أنه قد خلف من يقوم مقامه في الدعاء إلى الله تعالى . وصدر سؤال يعقوب بتقريع اليهود والنصارى بأنهم ما كانوا شهدوا وصية يعقوب ، إذ فاجأه مقدّمات الموت ، فدعواهم اليهودية والنصرانية على إبراهيم ويعقوب وبنيهم باطلة ، إذ لم يحضروا وقت الوصية ، ولم تنبئهم بذلك توراتهم ولا إنجيلهم ، فبطل قولهم ، إذ لم يتحصل لا عن عيان ولا عن نقل ، ولا ذلك من الأشياء التي يستدل عليها بالعقل .
ثم أخبر تعالى أن تلك الأمة قد مضت لسبيلها ، وأنها رهينة بما كسبت ، كما أنكم مرهونون بأعمالكم ، وأنكم لا تسألون عنهم . ثم ذكر تعالى ما هم عليه من دعوى الباطل . والدعاء إليه ، وزعمهم أن الهداية في اتباع اليهودية والنصرانية . ثم أضرب عن كلامهم ، وأخذ في اتباع ملة إبراهيم الحنيفية المباينة لليهودية والنصرانية والوثنية . ثم أمرهم بأن يفصحوا بأنهم آمنوا بما أنزل إليهم وإلى إبراهيم ومن ذكر معه ، فإن الإيمان بذلك هو الدين الحنيف ، وأنهم منقادون لله اعتقاداً وأفعالاً . ثم أخبر أن اليهود والنصارى ، إن وافقواكم على ذلك الإيمان ، فقد حصلت الهداية لهم ، ورتب الهداية على ذلك الإيمان ، فنبه بذلك على فساد ترتيب الهداية على اليهودية والنصرانية في قوله : ) وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ).
ثم أخبر تعالى أنهم إن تولوا فهم الأعداء المشاقون لك ، وأنك لا تبالي بشقاقهم ، لأن الله تعالى هو كافيك أمرهم ، ومن كان الله كافيه فهو الغالب ، ففي ذلك إشارة إلى ظهوره عليهم . ثم ذكر أن صبغة الملة الحنيفية هي صبغة الله ، وإذا كانت صبغة الله ، فلا صبغة أحسن منها ، وأن تأثير هذه الصبغة هو ظهورها عليهم بعبادة الله ، تعالى ، فقال : ) وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ). ثم استفهمهم أيضاً على

" صفحة رقم 590 "
طريق التوبيخ والتقريع عن مجادلتهم في الله ولا يحسن النزاع فيه ، لأن الله هو ربنا كلنا ، فالذي يقتضيه العقل أنه لا يجادل فيه . ثم ذكر أنه رب الجميع ، وأشار إلى أنه يجازى الجميع بقوله : ) وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ). ثم ذكر ما انفردوا به من الإخلاص له ، لأن اليهود والنصارى غير مخلصين له في العبادة . ثم استفهمهم أيضاً على جهة التوبيخ والتقريع ، عن مقالتهم في إبراهيم ومن ذكر معه ، من أنهم كانوا يهوداً ونصارى ، وأن دأبهم المجادلة بغير حق ، فتارة في الله وتارة في أنبياء الله . ثم بين أنهم لا علم عندهم بل الله هو أعلم به . ثم بين أن تلك المقالة لم تكن عن دليل ولا شبهة ، بل مجرد عناد ، وأنهم كاتمون للحق ، دافعون له ، فقال ما معناه : لا أحد أظلم من كاتم شهادة استودعه الله إياها ، والمعنى : لا أحد أظلم منكم في المجادلة في الله ، وفي نسبة اليهودية والنصرانية لإبراهيم ومن ذكر معه ، إذ عندهم الشهادة من الله بأحوالهم . ثم هدّدهم بأن الله تعالى لا يغفل عما يعملون .
ثم ختم ذلك بأن تلك أمّة قد خلت منفردة بعملها ، كما أنتم كذلك ، وأنكم غير مسؤولين عما عملوه ، وجاءت هذه الجمل من ابتداء ذكر إبراهيم إلى انتهاء الكلام فيه ، على ختلاف معانيه وتعدّد مبانيه ، كأنها جملة واحدة ، في حسن مساقها ونظم اتساقها ، مرتقية في الفصاحة إلى ذروة الإحسان ، مفصحة أن بلاغتها خارجة عن طبع الإنسان ، مذكرة قوله تعالى : ) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ ). جعلنا الله ممن هدى إلى عمل به وفهم ، ووفى من تدبره أوفر سهم ، ووقى في تفكره من خطأ ووهم .
ض 2 ( ) سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَكَذَالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ ءَايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَه

" صفحة رقم 591 "
لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلاٌّ تِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِىأَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الاٌّ مَوَالِ وَالاٌّ نفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } )
7 )
البقرة : ( 142 ) سيقول السفهاء من . . . . .
القبلة : الجهة التي يستقبلها الإنسان ، وهي من المقابلة . وقال قطرب : يقولون في كلامهم ليس له قبلة ، أي جهة يأوي إليها . وقال غيره : إذا تقابل رجلان ، فكل واحد منهما قبلة الآخر . وجاءت القبلة ، وإن أريد بها الجهة ، على وزن الهيئات ، كالقعدة والجلسة . الوسط : اسم لما بين الطرفين وصف به ، فأطلق على الخيار من الشيء ، لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل ، ولكونه اسماً كان للواحد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد . وقال حبيب : كانت هي الوسط المحمّي ، فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفاً . ووسط الوادي : خير موضع فيه ، وأكثره كلأً وماء . ويقال : فلان من أوسط قومه ، وأنه لواسطة قومه ، ووسط قومه : أي من خيارهم ، وأهل الحسب فيهم . وقال زهير : وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وقد وسط سطة ووساطة ، وقال :
وكن من الناس جميعاً وسطاً
وأما وسط ، بسكون السين ، فهو طرف المكان ، وله أحكام مذكورة في النحو . أضاع الرجل الشيء : أهمله ولم يحفظه ، والهمزة فيه للنقل من ضاع يضيع ضياعاً ، وضاع المسك يضوع : فاح . الانقلاب : الانصراف والارتجاع ، وهو للمطاوعة ، قلبته فانقلب . عقب الرجل : معروف ، والعقب : النسل ، ويقال : عقب ، بسكون القاف . الرأفة والرحمة : متقاربان في المعنى . وقيل : الرأفة أشد الرحمة ، واسم الفاعل جاء للمبالغة على فعول ، كضروب ، وجاء على فعل ، كحذر ، وجاء على فعل ، كندس ، وجاء على فعل ، كصعب . التقلب : التردّد ، وهو للمطاوعة ، قلبته فتقلب . الشطر : النصف ، والجزء من الشيء والجهة ، قال الشاعر :

" صفحة رقم 592 "
ألا من مبلغ عني رسولا
وما تغني الرسالة شطر عمرو
أي نحوه ، وقال الشاعر : أقول لأمّ زنباع أقيمي
صدور العيس شطر بني تميم
وقال : وقد أظلكم من شطر ثغركم
هول له ظلم يغشاكم قطعا
وقال ابن أحمر : تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة
قد كارب العقد من إيقاده الحقبا
وقال آخر :
وأظعن بالقوم شطر الملوك
أي نحوهم ، وقال : إن العشير بها داء مخامرها
وشطرها نظر العينين مسجور
ويقال : شطر عنه : بعد ، وشطر إليه : أقبل ، والشاطر من الشباب : البعيد من الجيران ، الغائب عن منزله . يقال : شطر شطوراً ، والشطير : البعيد ، منزل شطير : أي بعيد . الحرام والحرم والحرم : الممتنع ، وقد تقدّم الكلام في ذلك في قوله : ) وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ هُمْ ( الامتراء : افتعال من المرية ، وهي الشك . امترى في الشيء : شك فيه ، ومنه المراء . ماريته أي جادلته وشاككته فيما يدعيه . وافتعل : بمعنى تفاعل . تقول : تمارينا وامترينا فيه ، كقولك : تجاورنا واحتورنا . وجهة ، قال قوم ، منهم المازني والمبرد والفارسي : إن وجهة اسم للمكان المتوجه إليه ، فعلى هذا يكون إثبات الواو أصلاً ، إذ هو اسم غير مصدر . قال سيبويه : ولو بنيت فعلة من الوعد لقلت وعدة ، ولو بنيت مصدراً لقلت عدة . وذهب قوم ، منهم المازني ، فيما نقل المهدوي إلى أنه مصدر ، وهو الذي يظهر من كلام سيبويه . قال ، بعد ما ذكر حذف الواو من المصادر ، وقدأ ثبتوا فقالوا : وجهة في الجهة ، فعلى هذا يكون إثبات الواو شاذاً ، منبهة على الأصل المتروك في المصادر . والذي سوّغ عندي إقرار الواو ، وإن كان مصدراً ، أنه مصدر ليس بجار على فعله ، إذ لا يحفظ وجه يجه ، فيكون المصدر جهة . قالوا : وعد يعد عدة ، إذ الموجب لحذف الواو من عدة هو الحمل على المضارع ، لأن حذفها في المضارع لعلة مفقودة في المصدر . ولما فقد يجه ، ولم يسمع ، لم يحذف من وجهة ، وإن كان مصدراً ، لأنه ليس مصدراً ليجه ، وإنما هو مصدر على حذف الزوائد ، لأن الفعل منه : توجه واتجه . فالمصدر الجاري هو التوجه والاتجاه ، وإطلاقه على المكان المتوجه إليه هو من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول .
الاستباق : افتعال من السبق ، وهو الوصول

" صفحة رقم 593 "
إلى الشيء أولاً ، ويكون افتعل منه ، إما لموافقة المجرد ، فيكون معناه ومعنى سبق واحداً ، أو لموافقة تفاعل ، فيكون استبق وتسابق بمعنى واحد . الخيرات : جمع خيرة ، ويحتمل أن يكون بناء على فعلة ، أو بناء على فيعلة ، فحذف منه ، كالميتة واللينة . وقد تقدّم القول في هذا الحذف ، قالوا : رجل خير ، وامرأة خيرة ، كما قالوا : رجل شر ، وامرأة شرّة ، ولا يكونان إذ ذاك أفعل التفضيل . الجوع : القحط ، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها : الغرث . يقال : غرث يغرث غرثاً ، فهو غرث وغرثان ، قال : مغرّثة زرقاً كأن عيونها
من الذمر والإيحاء نوّار عضرس
وقد استعمل المحدثون في الغرث : الجوع اتساعاً .
( سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( : سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ، عن البراء بن عازب قال : لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) المدينة ، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ، أو سبعة عشر شهراً . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يحب أن يتوجه نحو الكعبة ، فأنزل الله تعالى : ) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ( الآية . فقال : السفهاء من الناس ، وهم اليهود ، ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، فقال الله تعالى : ) قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ( الآية . ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أن اليهود والنصارى قالوا : إن إبراهيم ، ومن ذكر معه ، كانوا يهوداً ونصارى . ذكروا ذلك طعناً في الإسلام ، لأن النسخ عند اليهود باطل ، فقالوا : الانتقال عن قبلتنا باطل وسفه ، فرد الله تعالى ذلك عليهم بقوله : ) قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ( الآية ، فبين ما كان هداية ، وما كان سفهاً . وسيقول ، ظاهر في الاستقبال ، وأنه إخبار من الله تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أنه يصدر منهم هذا القول في المستقبل ، وذلك قبل أن يؤمروا باستقبال الكعبة ، وتكون هذه الآية متقدمة في النزول على الآية المتضمنة الأمر باستقبال الكعبة ، فتكون من باب الإخبار بالشيء قبل وقوعه ، ليكون ذلك معجزاً ، إذ هو إخبار بالغيب . ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء ، وتستعد له ، فيكون أقل تأثيراً منه إذا فاجأ ، ولم يتقدم به علم ، وليكون الجواب مستعداً لمنكر ذلك ، وهو قوله : ) قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ). وإلى هذا القول ذهب الزمخشري وغيره . وذهب قوم إلى أنها متقدمة في التلاوة ، متأخرة في النزول ، وأنه نزل قوله : ) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ( الآية ، ثم نزل : ) سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ ). نص على ذلك ابن عباس وغيره . ويدل على هذا ويصححه حديث البراء المتقدم ، الذي خرجه البخاري . وإذا كان كذلك ، فمعنى قوله : سيقول ، أنهم مستمرون على هذا القول ، وإن كانوا قد قالوه ، فحكمة الاستقبال أنهم ، كما صدر عنهم هذا القول في الماضي ، فهم أيضاً يقولونه في المستقبل . وليس عندنا من وضع المستقبل موضع الماضي . وإن معنى سيقول : قال ، كما زعم بعضهم ، لأن ذلك لا يتأتى مع السين لبعد المجاز فيه . ولو كان عارياً من السين ، لقرب ذلك وكان يكون حكاية حال ماضية . والسفهاء : اليهود ، قاله البراء بن عازب ، ومجاهد ، وابن جبير . وأهل مكة قالوا : اشتاق محمد إلى مولده ، وعن قريب يرجع إلى دينكم ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، واختاره الزجاج . أو المنافقون قالوا : ذلك استهزاء بالمسلمين ، ذكره السدي ، عن ابن مسعود . وقد جرى تسمية المنافقين بالسفهاء في قوله : ) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء ( ، أو الطوائف الثلاث الذين تقدم ذكرهم من الناس . قال ابن عطية وغيره : وخص بقوله من الناس ، لأن السفه أصله الخفة ، يوصف به الجماد . قالوا : ثوب سفيه ، أي خفيف النسج والهلهلة ، ورمح سفيه : أي خفيف سريع النفوذ . ويوصف به الحيوانات غير الناس ، فلو اقتصر ، لاحتمل الناس وغيرهم ، لأن القول ينسب إلى الناس حقيقة ، وإلى

" صفحة رقم 594 "
غيرهم مجازاً ، فارتفع المجاز بقوله : ) مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ ( ، أي ما صرفهم ، والضمير عائد على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمؤمنين عن قبلتهم . أضاف القبلة إليهم لأنهم كانوا استقبلوها زمناً طويلاً ، فصحت الإضافة .
وأجمع المفسرون على أن هذه التولية كانت من بيت المقدس إلى الكعبة . هكذا ذكر بعض المفسرين ، وليس ذلك إجماعاً ، بل قد ذهب قوم إلى أن هذه القبلة ، التي عيب التحول منها إلى غيرها هي الكعبة ، وأنه كان يصلي إليها عندما فرضت الصلاة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم . فلما توجه إلى بيت المقدس ، قال أهل مكة ، زارّين عليه وعائبين ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، هذا على حذف مضاف ، أي على استقبالها . والاستعلاء هنا مجاز ، وحكمته أانهم لمواظبتهم على امتثال أمر الله في المحافظة على الصلوات . صارت القبلة لهم كالشيء المستعلى عليه ، الملازم دائماً . وفي وصف القبلة بقوله : ) الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( ، ما يدل على تمكن استقبالها ، وديمومتهم على ذلك . والضمير في قوله : قبلتهم وكانوا ، ضمير المؤمنين . وقيل : يحتمل أن يكون الضمير عائداً على السفهاء ، فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود ، وهي إلى المغرب ، وقبلة النصارى ، وهي إلى المشرق ، والعرب لم يكن لهم صلاة ، فيتوجهون إلى شيء من الجهات . فلما توجه نحو الكعبة ، استنكروا ذلك فقالوا : كيف يتوجه إلى غير هاتين المعروفتين ؟ واختلفوا في استقبال بيت المقدس ، أكان بوحي متلوّ ؟ أو بأمر من الله غير متلو ؟ أو بتخيير الله رسوله في النواحي ؟ فاختار بيت المقدس ، قاله الربيع ؛ أو باجتهاده بغير وحي ، قاله الحسن وعكرمة وأبو العالية . أقوال : الأول : عن ابن عباس ، روي عنه أنه قال : أول ما نسخ من القرآن القبلة : وكذلك اختلفوا في المدة التي صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيها إلى بيت المقدس ، فقيل : ستة عشر شهراً ، أو سبعة عشر شهراً . وقيل : تسعة ، أو عشرة أشهر . وقيل : ثلاثة عشر شهراً . وقيل : من وقت فرض الخمس وائتمامه بجبريل ، إثر الإسراء ، وكان ليلة سبع عشرة من ربيع الآخر ، قبل الهجرة بسنة ، ثم هاجر في ربيع الأول ، وتمادى يصلي إلى بيت المقدس ، إلى رجب من سنة اثنتين . وقيل : إلى جمادى . وقيل : إلى نصف شعبان . وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) صلى ركعتي الظهر ، فانصرف بالآخرتين إلى الكعبة ، وقد استدل بهذه الآية على جواز نسه السنة بالقرآن ، إذ صلاته إلى بيت المقدس ليس فيها قرآن ، واستدل بها أيضاً على بطلان قول من يزعم أنه النسخ بداء .
( قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ( : الأمر متوجه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفيه تعليم له ( صلى الله عليه وسلم ) ) كيف يبطل مقالتهم ، ورد عليهم إنكارهم . والمعنى : أن الجهات كلها لله تعالى ، يكلف عباده بما شاء أن يستقبل منها ، وأن تجعل قبلة . وقد تقدم الكلام على قوله : ) لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ( ، فأغنى عن الإعادة هنا . وقد شرح المشرق ببيت المقدس ، والمغرب بالكعبة ، لأن الكعبة غربي بيت المقدس ، فيكون بالضرورة بيت المقدس شرقيها . ) يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( : أي من يشاء هدايته . وقد تقدم الكلام على ما يشبه هذه الجملة في قوله : ) اهْدِنَا الصّرَاطَ ( ، فأغنى عن إعادته : وتقدم أن هدى يتعدى باللام وبإلى وبنفسه ، وهنا عدى بإلى . وقد اختلفوا في الصلاة التي حولت القبلة فيها ، فقيل : الصبح ، وقيل : الظهر ، وقيل : العصر . وكذلك أكثروا الكلام في الحكمة التي لأجلها كان تحويل القبلة ، بأشياء لا يقوم على صحتها دليل ، وعللوا ذلك بعلل لم يشر إليها الشرع ، ولا قاد نحوها العقل ، فتركنا نقل ذلك في كتابنا هذا ، على عادتنا في ذلك . ومن طلب للوضعيات تعاليل ، فأحرى بأن يقل صوابه ويكثر خطؤه . وأما ما نص الشرع على حكته ، أو أشار ، أو قاد إليه النظر الصحيح ، فهو الذي لا معدل عنه ، ولا استفادة إلا منه . وقد فسر قوله : ) إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( بأنه القبلة التي هي الكعبة . والظاهر أنه ملة الإسلام وشرائعه ، فالكعبة من بعض مشروعاته .
البقرة : ( 143 ) وكذلك جعلناكم أمة . . . . .
( وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ( : الكاف : للتشبيه ، وذلك : اسم إشارة

" صفحة رقم 595 "
والكاف في موضع نصب ، إما لكونه نعتاً لمصدر محذوف ، وإما لكونه حالاً . والمعنى : وجعلناكم أمة وسطاً جعلاً مثل ذلك ، والإشارة بذلك ليس إلى ملفوظ به متقدم ، إذ لم يتقدم في الجملة السابقة اسم يشار إليه بذلك ، لكن تقدم لفظ يهدي ، وهو دال على المصدر ، وهو الهدى ، وتبين أن معنى ) يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( : يجعله على صراط مستقيم ، كما قال تعالى : ) مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ). قابل تعالى الضلال بالجعل على الصراط المستقيم ، إذ ذلك الجعل هو الهداية ، فكذلك معنى الهدي هنا هو ذلك الجعل . وتبين أيضاً من قوله : ) قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ( إلى آخره ، أن الله جعل قبلتهم خيراً من قبلة اليهود والنصارى ، أو وسطاً . فعلى هذه التقادير اختلفت الأقاويل في المشار إليه بذلك . فقيل : المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطاً بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم ، أي أنعمنا عليكم بجعلكم أمة وسطاً ، مثل ما سبق إنعامنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم ، فتكون الإشارة بذلك إلى المصدر الدال عليه يهدي ، أي جعلناكم أمة خياراً مثل ما هديناكما باتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وما جاء به من الحق . وقيل : المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطاً بجعلهم على الصراط المستقيم ، أي جعلناكم أمة وسطاً مثل ذلك الجعل الغريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية ، لأنه قال : ) يَهْدِى مَن يَشَآء ( ، فلا تقع الهداية إلا لمن شاء الله تعالى . وقيل : المعنى كما جعلنا قبلتكم خير القبل ، جعلناكم خير الأمم . وقيل : المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب ، جعلناكم أمة وسطاً . وقيل : المعنى كما جعلنا الكعبة وسط الأرض ، كذلك جعلناكم أمة وسطاً ، دون الأنبياء ، وفوق الأمم ، وأبعد من ذهب إلى أن ذلك إشارة إلى قوله تعالى : ) وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ( أي مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطاً . ومعنى وسطاً : عدولاً ، روي ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقد تظاهرت به عبارة المفسرين وإذا صح ذلك عن رسل الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وجب المصير في تفسير الوسط إليه . وقيل : خيار ، أو قيل : متوسطين في الدين بين المفرط والمقصر ، لم يتخذوا واحداً من الأنبياء إلهاً ، كما فعلت النصارى ، ولا قتلوه ، كما فعلت اليهود . واحتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا : أخبر الله عن عدالة هذه الأمة عن خيرتهم ، فلو أقدموا على شيء ، وجب أن يكون قولهم حجة .
( لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( : تقدم شرح الشهادة في قوله : ) وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم ( ، وفي شهادتهم هنا أقوال : أحدها : ما عليه الأكثر من أنها في الآخرة ، وهي شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم الذين كذبوهم ، وقد روي ذلك نصاً في الحديث في البخاري وغيره . وقال في المنتخب : وقد طعن القاضي في الحديث من وجوه ، وذكروا وجوهاً ضعيفة ، وأظنه عني بالقاضي هنا القاضي عبد الجبار المعتزلي ، لأن الطعن في الحديث الثابت الصحيح لا يناسب مذاهب أهل السنة . وقيل : الشهادة تكون في الدنيا . واختلف قائلوا ذلك ، فقيل : المعنى يشهد بعضكم على بعض إذا مات ، كما جاء في الحديث من أنه مر بجنازة فأثنى عليها خيراً ، وبأخرى فأثنى عليها شرًّا ، فقال الرسول : ( وجبت ) ، يعني الجنة والنار ، ( أنتم شهداء الله في الأرض ) ثبت ذلك في مسلم . وقيل : الشهادة الاحتجاج ، أي لتكونوا محتجين على الناس ، حكاه الزّجاج . وقيل : معناه لتنقلوا إليهم ما علمتموه من الوحي والدين كما نقله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وتكون على بمعنى اللام ، كقوله : ) وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ( ، أي للنصب . وقيل : معناه ليكون إجماعكم حجة ، ويكون الرسول عليكم شهيداً ، أي محتجاً بالتبليغ . وقيل : لتكونوا شهداء لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) على الأمم ، اليهود والنصارى والمجوس ، قاله مجاهد . وقيل : شهداء على الناس في الدنيا ، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار . وأسباب هذه الشهادة ، أي شهادة هذه العدول أربعة : بمعاينة ، كالشهادة على الزنا ، وبخبر الصادق ، كالشهادة على الشهادة ؛ وبالاستفاضة ، كالشهادة على الأنساب ؛ وبالدلالة ، كالشهادة على الأملاك ، وكتعديل الشاهد وجرحه

" صفحة رقم 596 "
وقال ابن دريد : الإشهاد أربعة : الملائكة بإثبات أعمال العباد ، والأنبياء ، وأمة محمد ، والجوارح . انتهى . ولما كان بين الرؤية بالبصر والإدراك بالبصيرة مناسبة شديدة ، سمي إدراك البصيرة : مشاهدة وشهوداً ، وسمي العارف : شاهداً ومشاهداً ، ثم سميت الدلالة على الشيء : شهادة عليه ، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً . وقد اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات . قالوا : وفي هذه الآية دلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واستدل بقوله : ) أُمَّةً وَسَطًا ( ، أي عدولاً خياراً . وقال بقية العلماء : العدالة وصف عارض لا يثبت إلاببينة ، وقد اختار المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة ما عليه الجمهور ، لتغير أحوال الناس ، ولما غلب عليهم في هذا القوت ، وهذا الخلاف في غير الحدود والقصاص .
( وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( : لا خلاف أن الرسول هنا هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي شهادته أقوال : أحدها : شهادته عليهم أنه قد بلغهم رسالة ربه . الثاني : شهادته عليهم بإيمانهم . الثالث : يكون حجة عليهم . الرابع : تزكيته لهم وتعديله إياهم ، قاله عطاء ، قال : هذه الأمة شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين ، والرسول شهيد معد مرك لهم . وروي في ذلك حديث . وقد تقدم أيضاً ما روى البخاري في ذلك . واللام في قوله : لتكونوا هي ، لام كي ، أو لام الصيروة عند من يرى ذلك ، فمجيء ما بعدها سبباً لجعلهم خياراً ، أو عدولاً ظاهراً . وأما كون شهادة الرسول عليهم سبباً لجعلهم خياراً ، فظاهر أيضاً ، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية ، أو بأي معنى فسرت شهادته ، ففي ذلك الشرف التامّ لهم ، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليه . ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له ، جيء بكلمة على ، وتأخر حرف الجر في قوله : على الناس ، عما يتعلق به . جاء ذلك على الأصل ، إذ العامل أصله أن يتقدّم على المعمول . وأما في قوله : ) عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( فتقدّمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة ، ولأن شهيداً أشبه بالفواصل والمقاطع من قوله : عليكم ، فكان قوله : شهيداً ، تمام الجملة ، ومقطعها دون عليكم . وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أوّلاً ، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم ؛ وتأخير على : لاختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم ، فهو مبني على مذهبه : أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص . وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم ، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان . وتقدّم ذكر تعليل جعلهم وسطاً بكونهم شهداء ، وتأخر التعليل بشهادة الرسول ، لأنه كذلك يقع . ألا ترى أنهم يشهدون على الأمم ، ثم يشهد الرسول عليهم ، على ما نص في الحديث من أنهم إذا ناكرت الأمم رسلهم وشهدت أمّة محمد عليهم بالتبليغ ، يؤتى بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيسأل عن حال أمّته ، فيزكيهم ويشهد بصدقهم ؟ وإن فسرت الشهادتان بغير ذلك مما يمكن أن تكون شهادة الرسول متقدّمة في الزمان ، فيكون التأخير لذكر شهادة الرسول من باب الترقي ، لأن شهادة الرسول عليهم أشرف من شهادتهم على الناس . وأتى بلفظ الرسول ، لما في الدلالة بلفظ الرسول على اتصافه بالرسالة من عند الله إلى أمّته . وأتى بجمع فعلاء ، الذي هو جمع فعيل وبشهيد ، لأن ذلك هو للمبالغة دون قوله : شاهدين ، أو إشهاداً ، أو شاهداً . وقد استدل بقوله : ) وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( على أن التزكية تقتضي قبول الشهادة ، فإن أكثر المفسرين قالوا : معنى شهيداً : مزكياً لكم ، قالوا : وعليكم تكون بمعنى : لكم .
( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ( : جعل هنا : بمعنى صير ، فيتعدى لمفعولين : أحدهما القبلة ، والآخر ) الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا ). والمعنى : وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أوّلاً عليها إلا لنعلم ، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أوّلاً ، لأنه كان يصلي أولاً إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، ثم

" صفحة رقم 597 "
صار يصلي إلى الكعبة . وتكون القبلة : هو المفعول الثاني ، والتي كنت عليها : هو المفعول الأول ، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال . فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول ، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني . ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفاً ، وجعلت الجاهل عالماً ؟ والمعنى هنا على هذا التقدير : وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً ، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس ، قبلتك الآن إلا لنعلم . ووهم الزمخشري في ذلك ، فزعم أن التي كنت عليها : هو المفعول الثاني لجعل ، قال : التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة ، إنما هي ثاني مفعولي جعل . تريد : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة ، لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان يصلي بمكة إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة ، تألفاً لليهود ، ثم حوّل إلى الكعبة ، فيقول : وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة ، يعني : وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاءً ، انتهى ما ذكره .
وقد أوضحنا أن التي كنت عليها : هو المفعول الأول . وقيل : هذا بيان لحكمة جعل بيت المقدس قبلة . والمعنى : وما جعلنا متوجهك بيت المقدس إلا لنعلم ، فيكون ذلك على معنى : أن استقبالك بيت المقدس هو أمر عارض ، ليتميز به الثابت على دينه من المرتدّ . وكل واحد من الكعبة وبيت المقدس صالح بأن يوصف بقوله : التي كنت عليها ، لأنه قد كان متوجهاً إليهما في وقتين . وقيل : التي كنت عليها صفة للقبلة ، وعلى هذا التقدير اختلفوا في المفعول الثاني ، فقيل : تقديره : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لنعلم . وقيل : التقدير : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة إلا لنعم . وقيل : ذلك على حذف مضاف ، أي وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ، ويكون المفعول الثاني على هذا قوله : لنعلم ، كما تقول : ضرب زيد للتأديب ، أي كائن وموجود للتأديب ، أي بسبب التأديب . وعلى كون التي صفة ، يحتمل أن يراد بالقبلة : الكعبة ، ويحتمل أن يراد بيت المقدس ، إذ كل منهما متصف بأنه كان عليه . وقال ابن عباس : القبلة في الآية : الكعبة ، وكنت بمعنى : أنت ، كقوله تعالى : ) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ( بمعنى : أنتم . انتهى . وهذا من ابن عباس ، إن صح تفسير معنى ، لا تفسير إعراب ، لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر ، وهذا لم يذهب إليه أحد . وإنما تفسير الإعراب على هذا التقدير ، ما نقله النحويون ، أن كان تكون بمعنى صار ، ومن صار إلى شيء واتصف به ، صح من حيث المعنى نسبة ذلك الشيء إليه . فإذا قلت : صرت عالماً ، صح أن تقول : أنت عالم ، لأنك تخبر عنه بشيء هو فيه . فتفسير ابن عباس : كنت بأنت ، هو من هذا القبيل ، فهو تفسير معنى ، لا تفسير إعراب . وكذلك من صار خير أمّة ، صح أن يقال فيه : أنتم خير أمّة .
إلا لنعلم : استثناء مفرّغ من المفعول له ، وفيه حصر السبب ، أي ما سبب تحويل القبلة إلا كذا . وظاهر قوله : لنعلم ، ابتداء العلم ، وليس المعنى على الظاهر ، إذ يستحيل حدوث علم الله تعالى . فأول على حذف مضاف ، أي ليعلم رسولنا والمؤمنون ، وأسند علمهم إلى ذاته ، لأنهم خواصه وأهل الزلفى لديه . فيكون هذا من مجاز الحذف ، أو على الحذف ، أو على إطلاق العلم على معنى التمييز ، لأن بالعلم يقع التمييز ، أي لنميز التابع من الناكص ، كما قال تعالى : ) حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ ( ، ويكون هذا من مجاز إطلاق السبب ، ويراد به المسبب . وحكي هذا التأويل عن ابن عباس ، أو على أنه أراد ذكر علمه وقت موافقتهم الطاعة أو المعصية ، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب . فليس المعنى لنحدث العلم ، وإنما المعنى لنعلم ذلك موجوداً ، إذ الله قد علم في القدم من يتبع الرسول . واستمر العلم حتى وقع حدوثهم ، واستمرّ في حين الاتباع والانقلاب ، واستمر بعد ذلك . والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم ، ويكون هذا قد كنى فيه بالعلم عن تعلق العلم ، أي ليتعلق علمنا بذلك في حال وجوده . أو على أنه أراد بالعلم التثبيت ، أي لنثبت التابع ، ويكون من إطلاق السبب ، ويراد به المسبب ، لأن من علم الله أنه متبع للرسول ، فهو ثابت الاتباع . أو على أنه أريد

" صفحة رقم 598 "
بالعلم الجزاء ، أي لنجازي الطائع والعاصي ، وكثيراً ما يقع التهديد في القرآن ، وفي كلام العرب ، بذكرالعلم ، كقولك : زيد عصاك ، والمعنى : أنا أجازيه على ذلك ، أو على أنه أريد بالمستقبل هنا الماضي ، التقدير : لما علمنا ، أو لعلمنا من يتبع الرسول ممن يخالف . فهذه كلها تأويلات في قوله : لنعلم ، فراراً من حدوث العلم وتجدّده ، إذ ذلك على الله مستحيل . وكل ما وقع في القرآن ، مما يدل على ذلك ، أوّل بما يناسبه من هذه التأويلات . ونعلم هنا متعدّ إلى واحد ، وهو الموصول ، فهو في موضع نصب ، والفعل بعده صلته . وقال بعض الناس : نعلم هنا متعلقة ، كما تقول : علمت أزيد في الدر أم عمرو ، حكاه الزمخشري . وعلى هذا القول تكون من استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، ويتبع في موضع الجر ، والجملة في موضع المفعول ب نعلم . وقد ردّ هذا الوجه من الإعراب بأنه إذا علق نعلم ، لم يبق لقوله : ) مِمَّن يَنقَلِبُ ( ، ما يتعلق به ، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله ، ولا يصح تعلقها بقوله : ) يَتَّبِعُ ( ، الذي هو خبر عن من الاستفهامية ، لأن المعنى ليس على ذلك ، وإنما المعنى على أن يتعلق ب نعلم ، كقولك : علمت من أحسن إليك ممن أساء . وهذا يقوى أنه أريد بالعلم الفصل والتمييز ، إذ العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التييز ، لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن . وقرأ الزهري : ليعلم ، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهذا لا يحتاج إلى تأويل ، إذ الفاعل قد يكون غير الله تعالى ، فحذف وبنى الفعل للمفعول ، وعلم غير الله تعالى حادث ، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث ، وكان التقدير : ليعلم الرسول والمؤمنون . وأتى بلفظ الرسول ، ولم يجر على ذلك الخطاب في قوله : ) كُنتَ عَلَيْهَا ( ، فكان يكون الكلام من يتبعك ، لما في لفظه من الدلالة على الرسالة . وجاء الخطاب مكتنفاً ذكر الرسول مرّتين ، لما في ذلك من الفصاحة والتفنن في البلاغة ، وليعلم أن المخاطب هو الموصوف بالرسالة . ولما كانت الشهادة والمتبوعية من الأمور الإلهية خاصة ، أتى بلفظ الرسول ، ليدل على أن ذلك هو مختص بالتبليغ المحض . ولما كان التوجه إلى الكعبة توجهاً إلى المكان الذي ألفه الإنسان ، وله إلى ذلك نزوع ، أتى بالخطاب دون لفظ الرسالة ، فقيل : ) الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا ( ، فهذه ، والله أعلم ، حكمة الالتفات هنا . وقوله : ) يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ ( كناية عن الرجوع عما كان فيه من إيمان أو شغل . والرجوع على العقب أسوأ أحوال الراجع في مشيه على وجهه ، فلذلك شبه المرتدّ في الدين به . والمعنى : أنه كان متلبساً بالإيمان ، فلما حوّلت القبلة ، ارتاب فعاد إلى الكفر ، فهذا انقلاب معنوي ، والانقلاب الحقيقي هو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه . وقوله : ) عَلَى عَقِبَيْهِ ( في موضع الحال ، أي ناكصاً على عقبيه ، ومعناه أنه رجع إلى ما كان عليه ، لم يخلّ في رجوعه بأنه عاد من حيث جاء إلى الجالة الأولى التي كان عليها ، فهو قد ولي عما كان أقبل عليه ، ومشى أدراجه التي تقدّمت له ، وذلك مبالغة في التباسه بالشيء الذي يوصله إلى الأمر الذي كان فيه أوّلاً . قالوا : وقد اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة ، أو بسبب تحويلها . فقيل : بالأول ، لأنه كان يصلي إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ثم صلى إلى الكعبة ، فشق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم . وقال الأكثرون بالقول الثاني ، قالوا : لو كان محمد على يقين من أمره ، لما تغير رأيه . وروي أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا : مرة هنا ومرة هنا ، وهذا أشبه ، لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بتعيين القبلة ، وقد وصفها الله بالكبر في قوله : ) وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ). وقرأ ابن أبي إسحاق : على عقبيه ، بسكون القاف وتسكين عين فعل ، اسماً كان أو فعلاً ، لغة تميمية ، وقد تقدّم ذكر ذلك .
( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ( : اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله : ) وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ ( ، أي وإن كانت الجعلة لكبيرة ، أو يعود على القبلة التي كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يتوجه إليها ، وهي بيت المقدس ، قبل التحويل ، قاله أبو العالية والأخفش . وقيل : يعود على الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس . ومعنى كبيرة : أي شاقة صعبة ، ووجه صعوبتها أن ذلك مخالف

" صفحة رقم 599 "
للعادة ، لأن من ألف شيئاً ، ثم انتقل عنه ، صعب عليه الانتقال ، أو أن ذلك محتاج إلى معرفة النسخ وجوازه ووقوعه . وإن هنا هي المخففة من الثقيلة ، دخلت على الجملة الناسخة . واللام هي لام الفرق بين إن النافية والمخففة من الثقيلة ، وهل هي لام الابتداء ألزمت للفرق ، أم هي لام اجتلبت للفرق ؟ في ذلك خلاف ، هذا مذهب البصريين والكسائي والفراء وقطرب في إن التي يقول البصريون إنها مخففة من الثقيلة ، خلاف مذكور في النحو . وقراءة الجمهور : لكبيرة بالنصب ، على أن تكون خبر كانت . وقرأ اليزيدي : لكبيرة بالرفع ، وخرج ذلك الزمخشري على زيادة كانت ، التقدير : وإن هي لكبيرة ، وهذا ضعيف ، لأن كان الزائدة لا عمل لها ، وهنا قد اتصل بها الضمير فعملت فيه ، ولذلك استكن فيها . وقد خالف أبو سعيد ، فزعم أنها إذا زيدت عملت في الضمير العائد على المصدر المفهوم منها ، أي كان هو ، أي الكون . وقد ردّ ذلك في علم النحو . وكذلك أيضاً نوزع من زعم أن كان زئادة في قوله :
وجيران لنا كانوا كرام
لاتصال الضمير به وعمل الفعل فيه ، والذي ينبغي أن تحمل القراءة عليه أن تكون لكبيرة خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : لهي كبيرة . ويكون لام الفرق دخلت على جملة في التقدير ، تلك الجملة خبر لكانت ، وهذا التوجيه ضعيف أيضاً ، وهو توجيه شذوذ . ) إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ( ، هذا استثناء من المستثنى منه المحذوف ، إذ التقدير : وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الذين هدى الله ، ولا يقال في هذا إنه استثناء مفرغ ، لأنه لم يسبقه نفي أو شبهة ، إنما سبقه إيجاب . ومعنى هدى الله : أي هداهم لاتباع الرسول ، أو عصمهم واهتدوا بهدايته ، أو خلق لهم الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم ، أو وفقهم إلى الحق وثبتهم على الإيمان . وهذه أقوال متقاربة ، وفيه إسناد الهداية إلى الله ، أي أن عدم صعوبة ذلك إنما هو بتوفيق من الله ، لا من ذوات أنفسهم ، فهو الذي وفقهم لهدايته .
( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( : قيل : سبب نزول هذا أن جماعة ماتوا قبل تحويل القبلة ، فسئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عنهم ، فنزلت . وقيل : السائل أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور مع جماعة ، وهذا مشكل ، لأنه قد روي أن أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ماتا قبل تحويل القبلة . وقد فسر الإيمان بالصلاة إلى بيت المقدس ، وكذلك ذكره البخاري والترمذي ، وقال ذلك ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي

" صفحة رقم 600 "
والربيع وغيرهم ، وكنى عن الصلاة بالإيمان لما كانت صادرة عنه ، وهي من شعبه العظيمة . ويحتمل أن يقرّ الإيمان على مدلوله ، إذ هو يشمل التصديق في وقت الصلاة إلى بيت المقدس ، وفي وقت التحويل . وذكر الإيمان ، وإن كان السؤال عن صلاة من صلى إلى بيت المقدس ، لأنه هو العمدة ، والذي تصح به الأعمال . وقد كان لهم ثابتاً في حال توجههم إلى بيت المقدس وغيره ، فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمانكم ، فاندرج تحته متعلقاته التي لاتصح إلا به . وكان ذكر الإيمان أولى من ذكر الصلاة ، لئلا يتوهم اندراج صلاة المنافقين إلى بيت المقدس ، وأتى بلفظ الخطاب ، وإن كان السؤال عمن مات على سبيل التغليب ، لأن المصلين إلى بيت المقدس لم يكونوا كلهم ماتوا . وقرأ الضحاك : ليضيع ، بفتح الضاد وتشديد الياء ، وأضاع وضيع الهمزة ، والتضعيف ، كلاهما للنقل ، إذ أصل الكلمة ضاع . وقال في المنتخب : لولا ذكر سبب نزول هذه الآية : لما اتصل الكلام بعضه ببعض . ووجه تقرير الإشكال ، أن الذين لا يجوّزون النسخ إلا مع البداء يقولون : إنه لما تغير الحكم ، وجب أن يكون الحكم مفسدة ، أو باطلاً ، فوقع في قلوبهم ، بناء على هذا السؤال ، أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة . فأجاب الله تعالى عن هذا الإشكال ، وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ، ومن تكليف إلى تكليف ، والأول كالثاني في أن المتمسك به قائم . انتهى .
وإذا كان الشك إنما تولد ممن يجوّز البداء على الله ، فكيف يليق ذلك بالصحابة ؟ والجواب : أنه لا يقع إلا من منافق ، فأخبر عن جواب سؤال المنافق ، أو جواب على تقدير خطور ذلك ببال صحابي لو خطر ، أو على تقدير اعتقاده أن التوجه إلى الكعبة أفضل . وما ذكره في المنتخب من أنه لولا ذكر سبب نزول هذه الآية ، لما اتصل الكلام بعضه ببعض ، ليس بصحيح ، بل هو كلام متصل ، سواء أصح ذكر السبب أم لم يصح ، وذلك أنه لما ذكر قوله تعالى : ) لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ( ، كان ذلك تقسيماً للناس حالة الجعل إلى قسمين : متبع للرسول ، وناكص . فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمان المتبع ، بل عمله وتصديقه ، قبل أن تحول القبلة ، وبعد أن تحوّل لا يضيعه الله ، إذ هو المكلف بما شاء من التكاليف ، فمن امتثلها ، فهو لا يضيع أجره . ولما كان قد يهجس في النفس الاستطلاع إلى حال إيمان من اتبع الرسول في الحالتين ، أخبر تعال أنه لا يضيعه ، وأتى بكان المنفية بما الجائي بعدها لام الجحود ، لأن ذلك أبلغ من أن لا يأتي بلام الجحود . فقولك : ما كان زيد ليقوم ، أبلغ مما : كان زيد يقوم ، لأن في المثال الأول : هو نفي للتهيئة والإرادة للقيام ، وفي الثاني : هو نفي للقيام . ونفي التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل ، لأن نفي الفعل لا يستلزم نفي إرادته ، ونفي التهيئة والصلاح والإرادة للفعل تستلزم نفي الفعل ، فلذلك كان النفي مع لام الجحود أبلغ . وهكذا القول فيما ورد من هذا النحو في القرآن . وكلام العرب . وهذه الأبلغية إنما هي على تقدير مذهب البصريين ، فإنهم زعموا أن خبر كان التي بعدها لام الجحود محذوف ، وأن اللام بعدها أن مضمرة ينسبك منها مع الفعل بعدها مصدر ، وذلك الحرف متعلق بذلك الحرف المحذوف ، وقد صرّح بذلك الخبر في قول بعضهم :
سموت ولم تكن أهلاً لتسمو
ومذهب الكوفيين : أن اللام هي الناصبة ، وليست أن مضمرة بعده ، وأن اللام بعدها للتأكيد ، وأن نفس الفعل المنصوب بهذه اللام هو خبر كان ، فلا فرق بين : ما كان زيد يقوم ، وما كان زيد ليقوم ، إلا مجرد التأكيد الذي في اللام . والكلام على هذين المذهبين مذكور في علم النحو .
( إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( : ختم هذه الآية بهذه الجملة

" صفحة رقم 601 "
ظاهر ، وهي جارية مجرى التعليل لما قبلها ، أي للطف رأفته وسعة رحمته ، نقلكم من شرع إلى شرع أصلح لكم وأنفع في الدين ، أو لم يجعل لها مشقة على الذين هداهم ، أو لا يضيع إيمان من آمن ، وهذا الأخير أظهر . والألف واللام في بالناس يحتمل الجنس ، كما قال : ) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ( ، ( وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء ( ، ( وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً ( ، ويحتمل العهد ، فيكون المراد بالناس المؤمنين . وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص : لرؤوف ، مهموزاً على وزن فعول حيث وقع ، قال الشاعر : نطيع رسولنا ونطيع ربا
هو الرحمن كان بنا رؤفاً
وقرأ باقي السبعة : لرؤف ، مهموزاً على وزن ندس ، قال الشاعر : يرى للمسلمين عليه حقا
كحق الوالد الرؤف الرحيم
وقال الوليد بن عقبة : وشر الظالمين فلا تكنه
يقابل عمه الرؤوفُ الرحيمُ
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : لروف ، بغير همزٍ ، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله ، ساكنة كانت أو متحركة . ولما كان نفي الجملة السابقة مبالغاً فيها من حيث لام الجحود ، ناسب إثبات الجملة الخاتمة مبالغاً فيها ، فبولغ فيها بأن وباللام وبالوزن على فعول وفعيل ، كل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وكثرة الرأفة . وتأخر الوصف بالرحمة لكونه فاصلة ، وتقدّم المجرور اعتناء بالمرؤوف بهم . وقال القشيري : من نظر الأمر بعين التفرقة ، كبر عليه أمر التحويل ؛ ومن نظر بعين الحقيقة ، ظهر لبصيرته وجه الصواب . ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( : أي من كان مع الله في جميع الأحوال على قلب واحد ، فالمختلفات من الأحوال له واحدة ، فسواء غير ، أو قرّر ، أو أثبت ، أو بدل ، أو حقق ، أو حوّل ، فهم به له في جميع الأحوال . قال قائلهم : حيثما دارت الزجاجة درنا
يحسب الجاهلون أنا جننا
البقرة : ( 144 ) قد نرى تقلب . . . . .
( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ( : تقدّم حديث البراء ، وتقدّم ذكر الخلاف في هذه الآية . وقوله : ) سَيَقُولُ السُّفَهَاء ( : أيهما نزل قبل ؟ ونرى هنا مضارع بمعنى الماضي ، وقد ذكر بعض النحويين أن مما يصرف المضارع إلى الماضي قد ، في بعض المواضع ، ومنه : ) قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ( ، ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ ( ، ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ ). وقال الشاعر :

" صفحة رقم 602 "
لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم
مرابط للأمهار والعكر الدثر
قال الزمخشري : قد نرى : ربما نرى ، ومعناه : كثرة الرؤية ، كقوله :
قد أترك القرن مصفراً أنامله
انتهى . وشرحه هذا على التحقيق متضادّ ، لأنه شرح قد نرى بربما نرى . ورب ، على مذهب المحققين من النحويين ، إنما تكون لتقليل الشيء في نفسه ، أو لتقليل نظيره . ثم قال : ومعناه كثرة الرؤية ، فهو مضادّ لمدلول رب على مذهب الجمهور . ثم هذا المعنى الذي ادّعاه ، وهو كثرة الرؤية ، لا يدل عليه اللفظ ، لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة . هذا التركيب ، أعني تركيب قد مع المضارع المراد منه الماضي ، ولا غير المضي ، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية ، وهو التقلب ، لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة ، لا يقال فيه : قلب بصره في السماء ، وإنما يقال : قلب إذا ردّد . فالتكثير ، إنما فهم من التقلب الذي هو مطاوع التقليب ، نحو : قطعته فتقطع ، وكسرته فتكسر ، وما طاوع التكثير ففيه التكثير . والوجه هنا قيل : أريد به مدلول ظاهره . قال قتادة والسدّي وغيرهما : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبله مكة . وقيل : كان يقلب وجهه ليؤذن له في الدعاء . وقال الزمخشري : كان يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وأدعى للعرب إلى الإيمان ، لأنها مفخرهم ومزارهم ومطافهم ، ولمخالفة اليهود ، فكان يراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل . انتهى كلامه ، وهو كلام الناس قبله . فالأول : قول ابن عباس ، وهو ليصيب قبلة إبراهيم . والثاني : قول السدّي والربيع ، وهو ليتألف العرب لمحبتها في الكعبة . والثالث : قول مجاهد ، وهو قول اليهود : ما علم محمد دينه حتى اتبعنا ، فأراد مخالفتهم . وقيل : كنى بالوجه عن البصر ، لأنه أشرف ، وهو المستعمل في طلب الرغائب . تقول : بذلت وجهي في كذا ، وفعلت لوجه فلان . وقال :
رجعت بما أبغي ووجهي بمائه
وهو من الكناية بالكل عن الجزء ، ولا يحسن أن يقال : إنه على حذف مضاف ، ويكون التقدير بصر وجهك ، لأن هذا لا يكاد يستعمل ، إنما يقال : بصرك وعينك وأنفك ؛ لا يكاد يقال : أنف وجهك ، ولا خد وجهك . في السماء : متعلق بالمصدر ، وهو تقلب ، وهو يتعدى بفي ، فهي على ظاهرها . قال تعالى : ) لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ ( ، أي في نواحي السماء ، في هذه الجهة ، وفي هذه الجهة . وقيل : في بمعنى إلى . وقيل : في السماء متعلق بترى ، وفي : بمعنى من ، أي قد نرى من السماء تقلب وجهك ، وإن كان الله تعالى يرى من كل مكان ، ولا تتحيز رؤيته بمكان دون مكان . وذكرت الرؤية من السماء لإعظام تقلب وجهه ، لأن السماء مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ، ويكون كما جاء : بأن الله يسمع من فوق سبعة أرقعة ، والظاهر الأول ، وهو تعلق المجرور بالمصدر ، وأن في على حقيقتها . واختص التقلب بالسماء ، لأن السماء جهة تعود منها الرحمة ، كالمطر والأنوار والوحي ، فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم ، ولأن السماء قبلة الدعاء ، ولأنه كان ينتظر جبريل ، وكان ينزل من السما .

" صفحة رقم 603 "
) فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ( : هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالاً محذوفة ، التقدير : قد نرى تقلب وجهك في السماء طالباً قبلة غير التي أنت مستقبلها . وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه ، لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها . وجاء الوعد قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ، ثم بإنجاز الوعد ، فيتوالى السرور مرتين ، ولأن بلوغ المطلوب بعد الوعد به أنس في التوصل من مفاجأة وقوع المطلوب . ونكر القبلة ، لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة ، فتعرف بالألف واللام . وليس في اللفظ ما يدل على أنه كان يطلب باللفظ قبلة معينة ، ووصفها بأنها مرضية له لتقربها من التعيين ، لأن متعلق الرضا هو القلب ، وهو كان يؤثر أن تكون الكعبة ، وإن كان لا يصرّح بذلك . قالوا : ورضاه لها ، إما لميل السجية ، أو لاشتمالها على مصالح الدين . والمعنى : لنجعلنك تلي استقبال قبلة مرضية لك ، ولنمكننك من ذلك .
( فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( : أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة . وبهذا الأمر نسخ التوجه إلى بيت المقدس . قالوا : وإنما لم يذكر في الصلاة ، لأن الآية نزلت وهو في الصلاة ، فأغنى التلبس بالصلاة عن ذكرها . ومن قال نزلت في غير الصلاة ، فأغنى عن ذكر الصلاة أن المطلوب لم يكن إلا ذلك ، أعني : التوجه في الصلاة . وأقول : في قوله : ) فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ( ما يدل على أن المقصود هو في الصلاة ، لأن القبلة هي التي يتوجه إليها في الصلاة . وأراد بالوجه : جملة البدن ، لأن الواجب استقبالها بجملة البدن . وكنى بالوجه عن الجملة ، لأنه أشرف الأعضاء ، وبه يتميز بعض الناس عن بعض . وقد يطلق ويراد به نفس الشيء ، ولأن المقابلة تقتضي ذلك ، وهو أنه قابل قوله : ) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ( بقوله : ) فَوَلّ وَجْهَكَ ). وتقدّم أن الشطر يطلق ويراد به النصف ، ويطلق ويراد به النحو . وأكثر المفسرين على أن المراد بالشطر تلقاؤه وجانبه ، وهو اختيار الشافعي . وقال الجبائي ، وهو اختيار القاضي : المراد منه وسط المسجد ومنتصفه ، لأن الشطر هو النصف ، والكعبة بقعة في وسط المسجد . والواجب هو التوجه إلى الكعبة ، وهي كانت في نصف المسجد ، فحسن أن يقال : ) فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ ( ، يعني النصف من كل جهة ، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة . ويدل على صحة ما ذكرناه . أن المصلي خارج المسجد متوجهاً إلى المسجد ، لا إلى منتصف المسجد الذي هو الكعبة ، لم تصح صلاته . وأنه لو فسرنا الشطر بالجانب ، لم يكن لذكره فائدة ، ويكون لا يدل على وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو الكعبة . قال ابن عباس وغيره : وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى البيت كله . وقال ابن عمر : إنما وجه هو وأمّته حيال ميزاب الكعبة ، والميزاب هو قبلة المدينة والشام ، وهناك قبلة أهل الأندلس بتقريب ، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق ، وفي حرف عبد الله ، فول وجهك تلقاء المسجد الحرام . والقائلون بأن معنى الشطر : النحو ، اختلفوا ، فقال ابن عباس ؛ البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول مالك . وقال آخرون : القبلة هي الكعبة ، والظاهر أن المقصود بالشطر : النحو والجهة ، لأن في استقبال عين الكعبة حرجاً عظيماً على من خرج لبعده عن مسامتنها . وفي ذكر المسجد الحرام ، دون ذكر الكعبة ، دلالة على أن الذي يجب هو مراعاة جهة الكعبة ، لا مراعاة عينها . واستدل مالك من قوله : ) فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( ، على أن المصلي ينظر أمامه ، لا إلى موضع سجوده ، خلافاً للثوري والشافعي والحسن بن حيّ ، في أنه يستحب أن ينظر إلى موضع سجوده ، وخلافاً لشريك القاضي ، في أنه ينظر القائم إلى موضع سجوده ، وفي الركوع إلى موضع قدميه ، وفي السجود إلى موضع أنفه ، وفي القعود إلى موضع حجره . قال الحافظ أبو بكر بن العربي : إنما قلنا ينظر أمامه ، لأنه إن حنى رأسه ذهب ببعض القيام المعترض عليه في الرأس ، وهو أشرف الأعضاء ، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج ، ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ).
) إِن كُنتُمْ ( : هذا عموم في الأماكن التي يحلها

" صفحة رقم 604 "
الإنسان ، أي في موضع كنتم ، وهو شرط وجراء ، والفاء جواب الشرط ، وكنتم في موضع جزم . وحيث : هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة ، فهي مقتضية ، الخفض بعدها ، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم ، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال ، والإضافة موضحة لما أضيف ، كما أن الصلة موضحة فينافي اسم الشرط ، لأن الشرط مبهم . فإذا وصلت بما زال منها معنى الإضافة ، وضمنت معنى الشرط ، وجوزي بها ، وصارت إذ ذاك من عوامل الأفعال . وقد تقدم لنا ما شرط في المجازاة بها ، وخلاف الفراء في ذلك . ) فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ( : وهذا أمر لأمّة محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لما تقدّم أمره بذلك ، أراد أن يبين أن حكمه وحكم أمته في ذلك واحد ، مع مزيد عموم في الأماكن ، لئلا يتوهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة ، فبين أنهم في أيما حصلوا من بقاع الأرض ، وجب أن يستقبلوا شطر المسجد . ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو المتشوق لأمر التحويل ، بدأ بأمره أولاً ثم أتبع أمر أمته ثانياً لأنهم تبع له في ذلك ، ولئلا يتوهم أن ذلك مما اختص به ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وفي حرف عبد الله : فولوا وجوهكم قبله . وقرأ ابن أبي عبلة : فولوا وجوهكم تلقاءه ، وهذا كله يدل على أن المراد بالشطر : النحو . .
( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( : أي رؤساء اليهود والنصارى وأحبارهم . وقال السدّي : هم اليهود . ) لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ( : أي التوجه إلى المسجد الحرام ، ( الْحَقّ ( : الذي فرضه الله على إبراهيم وذريته . وقال قتادة والضحاك : إن القبلة هي الكعبة . وقال الكسائي : الضمير يعود على الشطر ، وهو قريب من القول الثاني ، لأن الشطر هو الجهة . وقيل : يعود على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي يعرفون صدقه ونبوّته ، قاله قتادة أيضاً ومجاهد . ومفسر هذه الضمائر متقدم . فمفسر ضمير التحويل والتوجه قوله : ) فَوَلّ وَجْهَكَ ( ، فيعود على المصدر المفهوم من قوله : ) فَوَلُّواْ ( ، ومفسر ضمير القبلة قوله : ) قِبْلَةً تَرْضَاهَا ( ، ومفسر ضمير الشطر قوله : ) شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( ، ومفسر ضمير الرسول ضمير خطابه ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فعلى هذا الوجه يكون التفاتان . والعلم هنا يحتمل أن يكون مما يتعدى إلى اثنين ، ويحتمل أن يكون مما يتعدى إلى واحد ، لأن معموله هو أن وصلتها ، فيحتمل الوجهين ، وعلمهم بذلك ، إما لأن في كتابهم التوجه إلى الكعبة ، قاله أبو العالية ، وإما لأن في كتابهم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) نبي صادق ، فلا يأمر إلا بالحق ، وإما لجواز النسخ ، وإما لأن في بشارة الأنبياء أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يصلي إلى القبلتين . ) مّن رَّبّهِمُ ( : جار ومجرور في موضع الحال ، أي ثابتاً من ربهم . وفي ذلك دليل على أن التحول من بيت المقدس إلى الكعبة لم يكن باجتهاد ، إنما هو بأمر من الله تعالى . وفي إضافة الرب إليهم تنبيه على أنه يجب اتباع الحق الذي هو مستقر ممن هو معتن بإصلاحك ، كما قال تعالى : ) الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ).
) وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( : قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب . فيحتمل أن يراد به المؤمنون لقوله : ) فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ( ، ويحتمل أن يراد به أهل الكتاب ، فتكون من باب الالتفات . ووجهه أن في خطابهم بأن الله لا يغفل عن أعمالهم ، تحريكاً لهم بأن يعملوا بما علموا من الحق ، لأن المواجهة بالشيء تقتضي شدة الإنكار وعظم الشيء الذي ينكر . ومن قرأ بالياء ، فالظاهر أنه عائد على أهل الكتاب لمجيء ذلك في نسق واحد من الغيبة . وعلى كلتا القراءتين ، فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ، ولا يغفل عنها ، وهو متضمن الوعيد .
البقرة : ( 145 ) ولئن أتيت الذين . . . . .
( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ ءايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ( هذه تسلية للرسول عن متابعة أهل الكتاب له . أعلمه أولاً أنهم يعلمون أنه الحق ، وهم يكتمونه ، ولا يرتبون على العلم به مقتضاه . ثم سلاه عن قبولهم الحق ، بأنهم قد انتهوا في العناد وإظهار المعاداة إلى رتبة ، لو جئتهم فيها بجميع المعجزات التي كل معجزة منها تقتضي قبول الحق ، ما تبعوك ولا سلكوا طريقك . وإذا كانوا لا يتبعونك ، مع مجيئك لهم بجميع المعجزات ، فأحرى أن لا يتبعوك إذا جئتهم بمعجزة واحدة . والمعنى : بكل آية يدل على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق . واللام في : ولئن ، هي التي تؤذن بقسم محذوف متقدم . فقد اجتمع القسم المتقدّم المحذوف ، والشرط متأخر عنه ، فالجواب للقسم

" صفحة رقم 605 "
وهو قوله : ) مَّا تَبِعُواْ ( ، ولذلك لم تدخله الفاء . وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، وهو منفي بما ماضي الفعل مستقبل . المعنى : أي ما يتبعون قبلتك ، لأن الشرط قيد في الجملة ، والشرط مستقبل ، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلاً ، ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطاً في الماضي . ونظير هذا التركيب في المثبت قوله تعالى : ) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ( ، التقدير : ليظلنّ أوقع الماضي المقرون باللام جواباً للقسم المحذوف ، ولذلك دخلت عليه اللام موقع المستقبل ، فهو ماضٍ من حيث اللفظ ، مستقبل من حيث المعنى ، لأن الشرط قيد فيه ، كما ذكرنا . وجواب الشرط في الآيتين محذوف ، سد مسده جواب القسم ، ولذلك أتى فعل الشرط ماضياً في اللفظ ، لأنه إذا كان الجواب محذوفاً ، وجب مضي فعل الشرط لفظاً ، إلا في ضرورة الشعر ، فقد يأتي مضارعاً . وذهب الفرّاء إلى أن إن هنا بمعنى لو ، ولذلك كانت ما في الجواب ، فجعل ما تبعوا جواباً لإن ، لأن إن بمعنى لو ، فكما أن لو تجاب بما ، كذلك أجيبت إن التي بمعنى لو ، وإن كان إن إذا لم يكن بمعنى لو ، لم يكن جوابها مصدراً بما ، بل لا بد من الفاء . تقول : إن تزرني فما أزورك ، ولا يجوز : ما أزورك . وعلى هذا يكون جواب القسم محذوفاً لدلالة جواب إن عليه . وهذا الذي قاله الفرّاء هو بناء على مذهبه أن القسم إذا تقدّم على الشرط ، جاز أن يكون الجواب للشرط دون القسم . وليس هذا مذهب البصريين ، بل الجواب يكون للقسم بشرطه المذكور في النحو . واستعمال إن بمعنى لو قليل ، فلا ينبغي أن يحمل على ذلك ، إذا ساغ إقرارها على أصل وضعها . وقال ابن عطية : وجاء جواب لئن كجواب لو ، وهي ضدها في أن لو تطلب المضي والوقوع ، وإن تطلب الاستقبال ، لأنهما جميعاً يترتب قبلهما القسم . فالجواب إنما هو للقسم ، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر ، هذا قول سيبويه . انتهى كلامه .
وهذا الكلام فيه تثبيج وعدم نص على المراد ، لأن أوله يقتضي أن الجوب ل إن ، وقوله بعد : فالجواب إنما هو للقسم ، يدل على أن الجواب ليس ل إن ، والتعليل بعد بقوله ، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر ، لا يصلح أن يعلل به قوله ؛ فالجواب إنما هو للقسم ، بل يصح أن يكون تعليلاً ، لأن الجواب ل إن ، وأجريت في ذلك مجرى لو . وأما قوله : هذا قول سيبويه ، فليس في كتاب سيبويه ، إلا أن ما تبعوا جواب القسم ، ووضع فيه الماضي موضع المستقبل . قال سيبويه : وقالوا لئن فعلت ما فعل ، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل . وقال أيضاً . وقال تعالى : ) وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ ( : أي ما يمسكهما . وقال بعض الناس : كل واحدة من : لئن ولو ، تقوم مقام الأخرى ، ويجاب بما يجاب به ، ومنه : ) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ ( ، لأن معناه : ولو أرسلنا ريحاً . وكذلك لو يجاب جواب لئن ، كقولك : لو أحسنت إليّ أحسن إليك ، هذا قول

" صفحة رقم 606 "
الأخفش والفرّاء والزّجاج . وقال سيبويه : لا يجاب إحداهما بجواب الأخرى ، لأن معناهما مختلف ، وقدر الفعل الماضي الذي وقع بعد لئن بمعنى الاستقبال ، تقدير : لا يتبعون ، وليظلن . انتهى كلامه .
وتلخص من هذا كله أن في قوله : ) مَّا تَبِعُواْ ( قولين : أحدهما : أنها جواب قسم محذوف ، وهو قول سيبويه . والثاني : أن ذلك جواب إن لإجرائها مجرى لو ، وهو قول الأخفش والفراء والزجاج . وظاهر قوله : ) أُوتُواْ الْكِتَابَ ( : العموم ، وقد قال به هنا قوم . وقال الأصم : المراد علماؤهم المخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم الذين أوتوا الكتاب ، وفي الآية المتأخرة . ويدل على خصوص ذلك خصوص ما تقدم ، وخصوص ما تأخر ، فكذلك المتوسط والإخبار بإصرارهم ، وهو شأن المعاند ، وأنه قد آمن به كثير من أهل الكتاب وتبعوا قبلته . واختلفوا في قوله : ) مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ). قال الحسن والجبائي : أراد جميعهم ، كأنه قال : لا يجتمعون على اتباع قبلتك ، على نحو : ) وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ( ، ويكون إذ ذاك إخباراً عن المجموع ، من حيث هو مجموع ، لا حكم على الأفراد . وقال الأصم : بل المراد أن أحداً منهم لا يؤمن . وقد تقدم أن من قول الأصم : أنه أريد بأهل الكتاب الخصوص ، فكأنه قال : كل فرد من أولئك المختصين بالعناد ، المستمرّين على جحود الحق ، لا يؤمن ولا يتبع قبلتك . وقد احتج أبو مسلم بهذه الآية ، على أن علم الله في عباده وفيما يفعلونه ، ليس بحجة لهم فيما يرتكبون ، وأنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به ، ويتركوا ضده الذي نهوا عنه . قيل : واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق ، وهو أنه أخبر عنهم أنهم لا يتبعون قبلته ، فلو اتبعوا قبلته ، لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً ، وعلمه جهلاً ، وهو محال ، وما استلزم المحال فهو محال . وأضاف تعالى القبلة إليه ، لأنه المتعبد بها والمقتدى به في التوجه إليها . أيأس الله نبيه من اتباعهم قبلته ، لأنهم لم يتركوا اتباعه عن دليل لهم وضح ، ولا عن شبهة عرضت ، وإنما ذلك على سبيل العناد ، ومن نازع عناداً فلا يرجى منه انتزاع .
( وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ( : هذه جملة خبرية . قيل : ومعناها النهي ، أي لا تتبع قبلتهم ، ومعناها : الدوام على ما أنت عليه ، وإلا فهو معصوم عن اتباع قبلتهم بعد ورود الأمر . وقيل : هي باقية على معنى الخبر ، وهو أنه بين بهذا الإخبار أن هذه القبلة لا تصير منسوخة ، فجاءت هذه الجملة رفعاً لتجويز النسخ ، أو قطع بذلك رجاء أهل الكتاب ، فإنهم قالوا : يا محمد ، عد إلى قبلتنا ، ونؤمن بك ونتبعك ، مخادعة منهم ، فأيأسهم الله من اتباعه قبلتهم ، أو بين بذلك حصول عصمته ، أو أخبر بذلك على سبيل التعذر لاختلاف قبلتيهم ، أو جاء ذلك على سبيل المقابلة ، أي ما هو بتاركي باطلهم ، وما أنت بتارك حقك . وأفرد القبلة في قوله : قبلتهم ، وإن كانت مثناة ، إذ لليهود قبلة ، وللنصارى قبلة مغايرة لتلك القبلة ، لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين ، فصار الإثنان واحداً من جهة البطلان ، وحسن ذلك المقابلة في اللفظ ، لأن قبله ) مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ). وهذه الجملة أبلغ في النفي من حيث كانت اسمية تكرر فيها الاسم مرتين ، ومن حيث أكد النفي بالباء في قوله : ) بِتَابِعٍ ( ، وهي مستأنفة معطوفة على الكلام قبلها ، لا على الجواب وحده ، إذ لا يحل محله ، لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيداً في نفي تبعيته قبلتهم . وقرأ بعض القراء : بتابع قبلتهم على الإضافة ، وكلاهما فصيح ، أعني إعمال اسم الفاعل هنا وإضافته ، وقد تقدم في أيهما أقيس .
( وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قَبْلِهِ بَعْضُ ( : الضمير في بعضهم عائد على أهل الكتاب . والمعنى : أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى ، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود ، وذلك إشارة إلى أن اليهود لا تنتصر ، وإلى أن النصارى لا تتهود ، وذلك لما بينهما من إفراط العداوة والتباغض . وقد رأينا اليهود والنصارى كثيراً ما يدخلون في ملة الإسلام ، ولم يشاهد يهودياً تنصر ، ولا نصرانياً تهوّد . والمراد بالبعضين : من هو باق على دينه من أهل الكتاب ، هذا قول السدي وابن زيد ، وهو الظاهر . وقيل : أحد البعضين من آمن من أهل الكتاب ، والبعض الثاني من كان على دينه منهم ، لأن كلاً منهما يسفه حلم الآخر ويكفره ، إذ تباينت طريقتهما . ألا ترى إلى مدح اليهود عبد الله بن سلام قبل أن يعلموا بإسلامه وبهتهم له بعد ذلك ؟ وتضمنت هذه الجمل : أن أهل الكتاب ، وإن اتفقوا على خلافك ، فهم مختلفون في القبلة ، وقبلة اليهود بيت المقدس ، وقبلة النصارى مطلع الشمس .
( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ

" صفحة رقم 607 "
أَهْوَاءهُم ( ، اللام أيضاً مؤذنة بقسم محذوف ، ولذلك جاء الجواب بقوله : إنك ، وتعليق وقوع الشيء على شرط لا يقتضي إمكان ذلك الشرط . يقول الرجل لامرأته : إن صعدت إلى السماء فأنت طالق ، ومعلوم امتناع صعودها إلى السماء . وقال تعالى في الملائكة الذين أخبر عنهم : أنهم ) لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( ، قال : ) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ ( ، وإذا اتضح ذلك سهل ما ورد من هذا النوع . وفهم من ذلك الاستحالة ، لأن المعلق على المستحيل مستحيل . ويصير معنى هذه الجملة ، التي ظاهرها الوقوع على تقدير امتناع الوقوع ، ويصير المعنى : لا يعد ظالماً ، ولا تكونه ، لأنك لا تتبع أهواءهم ، وكذلك لا يحبط عملك ، لأن إشراكك ممتنع ، وكذلك لا يجزي أحد من الملائكة جهنم ، لأنه لا يدعي أنه إلاه . وقالوا : ما خوطب به من هو معصوم مما لا يمكن وقوعه منه ، فهو محمول على إرادة أمته ، ومن يمكن وقوع ذلك منه ، وإنما جاء الخطاب له على سبيل التعظيم لذلك الأمر ، والتفخيم لشأنه ، حتى يحصل التباعد منه . ونظير ذلك قولهم : إياك أعني : واسمعي يا جارة .
قال الزمخشري : قوله : ) وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ( ، بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله : ) وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ( ، كلام وارد على سبيل الفرض ، والتقدير بمعنى : ولئن اتبعتهم مثلاً بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر ، إنك إذاً لمن المرتكبين الظلم الفاحش . وفي ذلك لطف للسامعين ، وزيادة تحذير واستفظاع بحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى ، وإلهاب للثبات على الحق . انتهى كلامه . وقال في المنتخب : اختلفوا في هذا الخطاب . قال بعضهم : هو للرسول ، وقال بعضهم : هو للرسول وغيره . وقال بعضهم : هو لغير الرسول ، لأنه علم تعالى أن الرسول لا يفعل ذلك ، فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب . أهواءهم : تقدّم أنه جمع هوى ، ولا يجمع على أهوية ، وأكثر استعمال الهوى فيما لا خير فيه ، وقد يستعمل في الخير ، وأصله الميل والمحبة ، وجمع ، وإن كان أصله المصدر ، لاختلاف أغراضهم ومتعلقاتها وتباينها .
( مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( : أي من الدلائل والآيات التي تفيد لك العلم وتحصله ، فأطلق اسم الأثر على المؤثر . سمى تلك الدلائل علماً ، مبالغة وتعظيماً وتنبيهاً على أن العلم من أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة . ودلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم . وقد فسر العلم هنا بالحق ، يعني أن ما جاءه من تحويل القبلة هو الحق . وقال مقاتل : العلم هنا : البيان ، وجاء في هذا المكان : ) مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ ( ، وقال قبل هذا : ) بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ ( ، وجاء في الرعد : ) بَعْدِ مَا جَاءكَ ( ، فاختص موضعاً بالذي ، وموضعين بما ، وهذا الموضع بمن . والذي نقوله في هذا : أنه من اتساع العبارة وذكر المترادف ، لأن ما والذي موصولان ، فأياً منهما ذكرت ، كان فصيحاً حسناً . وأما المجيء بمن ، منهو دلالة على ابتداء بعدية المجيء ، وأما قوله : بعد ، فهو على معنى من ، والتبعدية مقيدة بها من حيث المعنى ، وإن كان إطلاق بعد لا يقتضيها . وقال بعضهم : في الجواب عن ذلك دخول ما مكان الذي ، لأن الذي أخص ، وما أشد إبهاماً ، فحيث خص بالذي أشير به إلى العلم بصحة الدين ، الذي هو الإسلام ، المانع من ملتي اليهود والنصارى ، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه ، لأنه علم بكل أصول الدين ، وخص بلفظ ما ، ما أشير به إلى العلم بركن من أركان الدين ، أحدهما القبلة ، والآخر الكتاب ، لأنه أشار إلى قوله : ) وَمِنَ الاْحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ( ، قال : وأما دخول من ، ففائدته ظاهرة ، وهي بيان أول الوقت الذي وجب على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يخالف أهل الكتاب في أمر القبلة ، أي ذلك الوقت الذي أمرك الله فيه بالتوجه فيه إلى نحو القبلة ، إن اتبعت أهواءهم ، كنت ظالماً واضعاً الباطل في موضع الحق . انتهى كلامه .
( إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ( : قد ذكرنا أن هذه الجملة هي جواب القسم المحذوف

" صفحة رقم 608 "
الذي أدنت بتقديره اللام في لئن ، ودل على جواب الشرط ، لا يقال : إنه يكون جواباً لهما ، لامتناع ذلك لفظاً ومعنى . أما المعنى ، فلأن الاقتضاء مختلف . فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه ، لأن القسم إنما جيء به توكيداً للجملة المقسم عليها ، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملاً ، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه ، فتكون الجملة في موضع جزم ، وعمل الشرط لقوة طلبه له . وأما اللفظ ، فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم ، لم يحتج إلى مزيد رابط ، وإذا كانت جواب شرط ، احتاجت لمزيد رابط ، وهو الفاء . ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها الفاء ، فلذلك امتنع أن يقال إن الجملة جواب للقسم والشرط معاً . ودخلت إذاً بين اسم إن وخبرها لتقرير النسبة التي بينهما ، وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر . فلم تتقدّم ، لأنه سبق قسم وشرط ، والجواب هو للقسم . فلو تقدمت ، لتوهم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف ، ولم يتأخر ، لئلا تفوت مناسبة الفواصل وآخر الآي : فتوسطت والنية بها التأخير لتقرير النسبة . وتحرير معنى إذن صعب ، وقد اضطرب الناس في معناها ، وقد نص سيبويه على أن معناها الجواب والجزاء . واختلف النحويون في فهم كلام سيبويه ، وقد أمعنا الكلام في ذلك في ( كتاب التكميل ) من تأليفنا ، والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام ، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظاً أو تقديراً ، وما بعدها في اللفظ أو التقدير ، وإن كان مسبباً عما قبلها ، فهي في ذلك على وجهين : أحدهما : أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط ، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها . مثال ذلك أزورك فتقول : إذاً أزورك ، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطاً لفعلك . وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب ، وبالفعلية في زمان مستقبل ، وفي هذا الوجه تكون عاملة ، ولعملها مذكورة في النحو . الوجه الثاني : أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمتقدم ، أو منبهة على مسبب شروط حصل في الحال ، وهي في الحالين غير عاملة ، لأن المؤكدات لا يعتمد عليها ، والعامل يعتمد عليه ، وذلك نحو : إن تأتني إذن آتك ، ووالله إذن لأفعلن . فلو أسقطت إذن ، لفهم الارتباط . ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها ، جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو : أزورك فتقول : إذن أنا أكرمك ، وجاز توسطها نحو : أنا إذاً أكرمك ، وتأخرها . وإذا تقرر هذا ، فجاءت إذاً في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم ، وإنما قررت معناها هنا لأنها كثيرة الدور في القرآن ، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه .
البقرة : ( 146 ) الذين آتيناهم الكتاب . . . . .
( الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ( : هم علماء اليهود والنصارى ، أو من آمن برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من اليهود ، كابن سلام وغيره ، أو من آمن به مطلقاً ، أقوال . والكتاب : التوراة ، أو الإنجيل ، أو مجموعهما ، أو القرآن . أقوال تنبني على من المراد بالذين آتيناهم ، ولفظ آتيناهم أبلغ من أوتوا ، لإسناد الإيتاء إلى الله تعالى ، معبراً عنه بنون العظمة ، وكذا ما يجيء من نحو هذا ، مراداً به الإكرام نحو : هدينا ، واجتبينا ، واصطفينا . قيل : ولأن أوتوا قد يستعمل فيما لم يكن له قبول ، وآتيناهم أكثر ما يستعمل فيما له قبول نحو : ) الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ( ، وإذا أريد بالكتاب أكثر من واحد ، فوحد ، لأنه صرف إلى المكتوب المعبر عنه بالمصدر .
( يَعْرِفُونَهُ ( : جملة في موضع الخبر عن المبتدأ الذي هو الذين آتيناهم ، وجوز أن يكون الذين مجروراً على أنه صفة للظالمين ، أو على أنه بدل من الظالمين ، أو على أنه بدل من ) الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( في الآية التي قبلها ، ومرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هم الذين ، ومنصوباً على إضمار ، أعني : وعلى هذه الأعاريب يكون قوله : ) يَعْرِفُونَهُ ( ، جملة في موضع الحال ، إما من المفعول الأول في آتيناهم ، أو من الثاني الذي هو الكتاب ، لأن في يعرفونه ضميرين يعودان عليهما . والظاهر هو الإعراب الأول ، لاستقلال الكلام جملة منعقدة من مبتدأ وخبر ، ولظاهر انتهاء الكلام عند قوله : ) إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ). والضمير المنصوب في يعرفونه عائد على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما .

" صفحة رقم 609 "
وروي عن ابن عباس ، واختاره الزجاج ، ورجحه التبريزي ، وبدأ به الزمخشري فقال : يعرفونه معرفة جلية ، يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص . قال الزمخشري وغيره : واللفظ للزمخشري ، وجاز الإضمار ، وإن لم يسبق له ذكر ، لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع ، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علماً معلوم بغير إعلام . انتهى . وأقول : ليس كما قالوه من أنه إضمار قبل الذكر : بل هذا من باب الالتفات ، لأنه قال تعالى : ) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ ( ، ثم قال : ) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ ( إلى آخر الآية ، فهذه كلها ضمائر خطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ثم التفت عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة . وحكمة هذا الالتفات أنه لما فرغ من الإقبال عليه بالخطاب ، أقبل على الناس فقال : ) الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ( واخترناهم لتحمل العلم والوحي ، يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآي السابقة وأمرناه ونهيناه ، لا يشكون في معرفته ، ولا في صدق أخباره ، بما كلفناه من التكاليف التي منها نسخ بيت المقدس بالكعبة ، لما في كتابهم من ذكره ونعته ، والنص عليه يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل . فقد اتضح بما ذكرناه أنه ليس من باب الإضمار قبل الذكر ، وأنه من باب الالتفات ، وتبينت حكمة الالتفات . ويؤيد كون الضمير لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما روي أن عمر سأل عبد الله بن سلام ، رضي الله عنهما ، وقال : إن الله قد أنزل على نبيه : ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ ( الآية ، فكيف هذه المعرفة ؟ فقال عبد الله : يا عمر ، لقد عرفته حين رأيته ، كما أعرف ابني ، ومعرفتي بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أشدّ من معرفتي بابني . فقال عمر : وكيف ذلك ؟ فقال : أشهد أنه رسول الله حقاً ، وقد نعته الله في كتابنا ، ولا أدري ما يصنع النساء . فقال عمر : وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت ، وقد روي هذا الأثر مختصراً بما يرادف بعض ألفاظه ويقاربها ، وفيه : فقبل عمر رأسه . وإذا كان الضمير للرسول ، فقيل : المراد معرفة الوجه وتميزه ، لا معرفة حقيقة النسب . وقيل : المعنى يعرفون صدقه ونبوّته . وقيل : الضمير عائد على الحق الذي هو التحوّل إلى الكعبة ، قاله ابن عباس وقتادة أيضاً ، وابن جريج والربيع . وقيل : عائد على القرآن . وقيل : على العلم . وقيل : على كون البيت الحرام قبلة إبراهيم ومن قبله من الأنبياء ، وهذه المعرفة مختصة بالعلماء ، لأنه قال : ) الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ( ، فإن تعلقت المعرفة بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فيكون حصولها بالرؤية والوصف ، أو بالقرآن ، فحصلت من تصديق كتابهم للقرآن ، وبنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وصفته ، أو بالقبلة ، أو التحويل ، فحصلت بخبر القرآن وخبر الرسول المؤيد بالخوارق .
( كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ( ، الكاف : في موضع نصب ، على أنها صفة لمصدر محذوف تقديره عرفاناً مثل عرفانهم . أبناءهم : أو في موضع نصب على الحال من ضمير المعرفة المحذوف ، كان التقدير : يعرفونه معرفة مماثلة لمعرفة أبنائهم . وظاهر هذا التشبيه أن المعرفة أريد بها معرفة الوجه والصورة ، وتشبيهها بمعرفة الأبناء يقوي ذلك ، ويقوي أن الضمير عائد على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حتى تكون المعرفتان تتعلقان بالمحسوس المشاهد ، وهو آكد في التشبيه من أن يكون التشبيه وقع بين معرفة متعلقها المعنى ، ومعرفة متعلقها المحسوس . وظاهر الأبناء الاختصاص بالذكور ، فيكونون قد خصوا بذلك ، لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء ، وألصق وأعلق بقلوب الآباء . ويحتمل أن يراد بالأبناء : الأولاد ، فيكون ذلك من باب التغليب . وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس ، لأن الإنسان قد يمر عليه برهة من الزمان لا يعرف فيها نفسه ، بخلاف الأبناء ، فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه .
( وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ ( : أي من الذين آتيناهم الكتاب ، وهم المصرّون على الكفر والعناد ، من علماء اليهود النصارى ، على أحسن

" صفحة رقم 610 "
التفاسير في الذين آتيناهم الكتاب ، وأبعد من ذهب إلى أنه أريد بهذا الفريق جهال اليهود والنصارى ، الذين قيل فيهم : ) وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِىَّ ( ، للإخبار عن هذا الفريق أنهم يكتمون الحق وهم عالمون به ، ولوصف الأمّيين هناك بأنهم لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ . والحق المكتوم هنا هو نعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قاله قتادة ومجاهد ، والتوجه إلى الكعبة ، أو أن الكعبة هي القبلة ، أو أعم من ذلك ، فيندرج فيه كل حق .
( وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( : جملة حالية ، أي عالمين بأنه حق . ويقرب أن يكون حالاً مؤكدة ، لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه به ، لأن الكتم هو إخفاء لما يعلم . وقيل : متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب ، أي وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق ، فيكون إذ ذاك حالاً مبينة .
البقرة : ( 147 ) الحق من ربك . . . . .
( الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ( : قرأ الجمهور : برفع الحق على أنه مبتدأ ، والخبر هو من ربك ، فيكون المجرور في موضع رفع . أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الحق من ربك ، والضمير عائد على الحق المكتوم ، أي ما كتموه هو الحق من ربك ، ويكون المجرور في موضع الحال ، أو خبراً بعد خبر . وأبعد من ذهب إلى أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره : الحق من ربك يعرفونه . والألف واللام في الحق للعهد ، وهو الحق الذي عليه الرسول ، أو الحق الذي كتموه ، أو للجنس على معنى : أن الحق هو من الله ، لا من غيره ، أي ما ثبت أنه حق فهو من الله ، كالذي عليه الرسول ، وما لم تثبت حقيقته ، فليس من الله ، كالباطل الذي عليه أهل الكتاب . وقرأ علي بن أبي طالب : الحق بالنصب ، وأعرب بأن يكون بدلاً من الحق المكتوم ، فيكون التقدير : يكتمون الحق من ربك ، قاله الزمخشري ؛ أو على أن يكون معمولاً ليعلمون ، قاله ابن عطية ، ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر ، أي وهم يعلمونه كائناً من ربك ، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل ، كقوله :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
أي يسبقه شيء . وجوّز ابن عطية أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره : الزم الحق من ربك ، ويدل عليه الخطاب بعده : ) فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ).
والمراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمّة . ودل الممترين على وجودهم ، ونهى أن يكون منهم ، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل . فقولك : لا تكن ظالماً ، أبلغ من قولك : لا تظلم ، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم . وقولك : لا تكن ظالماً نهي عن الكون بهذه الصفة . والنهي عن الكون على صفة ، أبلغ من النهي عن تلك الصفة ، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة ، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة . والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة . وفرق بين ما يدل على عموم ، ويستلزم عموماً ، وبين ما يدل على عموم فقط ، فلذلك كان أبلغ ، ولذلك كثر النهي عن الكون . قال تعالى : ) فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مِنْهُ ). والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي . والمعنى : لا تظلم في كل أكوانك ، أي في كل فرد من أكوانك ، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم ، فتصير كان فيه نصاً على سائر الأكوان ، بخلاف لا تظلم ، فإنه يستلزم الأكوان . وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي ، وكانت المشدّدة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة . والمعنى : فلا تكونن من الذين يشكون في الحق ، لأن ما جاء من الله تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال ، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك .
البقرة : ( 148 ) ولكل وجهة هو . . . . .
( وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا ( ، لما ذكر القبلة التي

" صفحة رقم 611 "
أمر المسلمون بالتوجه إليها ، وهي الكعبة ، وذكر من تصميم أهل الكتاب على عدم اتباعها ، وأن كلاً من طائفتي اليهود والنصارى مصممة على عدم اتباع صاحبها ، أعلم أن ذلك هو بفعله ، وأنه هو المقدر ذلك ، وأنه هو موجه كل منهم إلى قبلته . ففي ذلك تنبيه على شكر الله ، إذ وفق المسلمين إلى اتباع ما أمر به من التوجه واختارهم لذلك . وقرأ الجمهور : ولكل : منوناً ، وجهة : مرفوعاً ، هو موليها : بكسر اللام اسم فاعل . وقرأ ابن عامر : هو مولاها ، بفتح اللام اسم مفعول وهي ، قراءة ابن عباس . وقرأ قوم شاذاً : ولكل وجهة ، بخفض اللام من كل من غير تنوين ، وجهة : بالخفض منوناً على الإضافة ، والتنوين في كل تنوين عوض من الإضافة ، وذلك المضاف إليه كل المحذوف اختلف في تقديره . فقيل : المعنى : ولكل طائفة من أهل الأديان . وقيل : المعنى : ولكل أهل صقع من المسلمين وجهة من أهل سائر الآفاق ، إلى جهة الكعبة ، وراءها وقدّامها ، ويمينها وشمالها ، ليست جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها . وقيل : المعنى : ولكل نبي قبله ، قاله ابن عباس . وقيل : المعنى : ولكل ملك ورسول صاحب شريعة جهة قبلة ، فقبلة المقربين العرش ، وقبلة الروحانيين الكرسي ، وقبلة الكروبيين البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء قبلك بيت المقدس ، وقبلتك الكعبة ، وقد اندرج في هذا الذي ذكرناه أن المراد بوجهه : قبلة ، وهو قول ابن عباس ، وهي قراءة أبيّ ، قرأ : ولكل قبلة . وقرأ عبد الله : ولكل جعلنا قبلة . وقال الحسن : وجهة : طريقة ، كما قال : ) لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ( ، أي لكل نبي طريقة . وقال قتادة : وجهة : أي صلاة يصلونها ، وهو من قوله : هو موليها عائد على كل على لفظه ، لا على معناه ، أي هو مستقبلها وموجه إليها صلاته التي يتقرب بها ، والمفعول الثاني لموليها محذوف لفهم المعنى ، أي هو موليها وجهه أو نفسه ، قاله ابن عباس وعطاء والربيع ، ويؤيد أن هو عائد على كل قراءة من قرأ : هو مولاها . وقيل : هو عائد على الله تعالى ، قاله الأخفش والزجاج ، أي الله موليها إياه ، اتبعها من اتبعها وتركها من تركها . فمعنى هو موليها على هذا التقدير : شارعها ومكلفهم بها . والجملة من الابتداء والخبر في موضع الصفة لوجهة . وأما قراءة من قرأ : ولكل وجهة على الإضافة ، فقال محمد بن جرير : هي خطأ ، ولا ينبغي أن يقدم على الحكم في ذلك بالخطأ ، لا سيما وهي معزوّة إلى ابن عامر ، أحد القراء السبعة ، وقد وجهت هذه القراءة . قال الزمخشري : المعنى : ولكل وجهة الله موليها ، فزيدت اللام لتقدمّ المفعول ، كقولك : لزيد ضربت ، ولزيد أبوه ضاربه . انتهى كلامه ، وهذا فاسد لأن العامل إذا تعدّى لضمير الاسم لم يتعدّ إلى ظاهره المجرور باللام . لا يجوز أن يقول : لزيد ضربته ، ولا : لزيد أنا ضاربه . وعليه أن الفعل إذا تعدّى للضمير بغير واسطة . كان قوياً ، واللام إنما تدخل على الظاهر إذا تقدّم ليقويه لضعف وصوله إليه متقدماً ، ولا يمكن أن يكون العامل قوياً ضعيفاً في حالة واحدة ، ولأنه يلزم من ذلك أن يكون المتعدي إلى واحد يتعدى إلى اثنين ، ولذلك تأوّل النحويون قوله هذا :
سراقة للقرآن يدرسه
وليس نظير ما مثل به من قوله : لزيد ضربت ، أي زيداً ضربت ، لأن ضربت في هذا المثال لم يعمل في ضمير زيد ، ولا يجوز أن يقدر عامل في لكل وجهة يفسره قوله موليها ، كتقديرنا زيداً أنا ضاربه ، أي اضرب زيداً أنا ضاربه ، فتكون المسألة من باب الاشتغال ، لأن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر . تقول : زيداً مررت به ، أي

" صفحة رقم 612 "
لابست زيداً ، ولا يجوز : بزيد مررت به ، فيكون التقدير : مررت بزيد مررت به ، بل كل فعل يتعدى بحرف الجر ، إذا تسلط على ضمير اسم سابق في باب الاشتغال ، فلا يجوز في ذلك الاسم السابق أن يجر بحرف جر ، ويقدر ذلك الفعل ليتعلق به حرف الجر ، بل إذا أردت الاشتغال نصبته ، هكذا جرى كلام العرب . قال تعالى : ) وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ). وقال الشاعر : أثعلبة الفوارس أم رباحا
عدلت به طهية والخشابا
وأما تمثيله : لزيد أبوه ضاربه ، فتركيب غير عربي . فإن قلت : لم لا تتوجه هذه القراءة على أن لكل وجهة في موضع المفعول الثاني لموليها ، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو مولّ ، وهو الهاء ، وتكون عائدة على أهل القبلات والطوائف ، وأنث على معنى الطوائف ، وقد تقدم ذكرهم ، ويكون التقدير : وكل وجهة الله مولى الطوائف أصحاب القبلات ؟ فالجواب : أنه منع مع هذا التقدير نص النحويين على أن المتعدي إلى واحد هو الذي يجوز أن تدخل اللام على مفعوله ، إذا تقدّم . أما ما يتعدى إلى اثنين ، فلا يجوز أن يدخل على واحد منهما اللام إذا تقدم ، ولا إذا تأخر . وكذلك ما يتعدى إلى ثلاثة . ومول هنا اسم فاعل من فعل يتعدى إلى اثنين ، فلذلك لا يجوز هذا التقدير . وقال ابن عطية ، في توجيه هذه القراءة : أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاّكموها ، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه ، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع . وقدم قوله : لكل وجهة على الأمر في قوله : فاستبقوا الخيرات ، للاهتمام بالوجهة ، كما تقدم المفعول . انتهى كلام ابن عطية ، وهو توجيه لا بأس به .
( فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ( : هذا أمر بالبدار إلى فعل الخير والعمل الصالح . وناسب هذا أن من جعل الله له شريعة ، أو قبلة ، أو صلاة ، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها . قال قتادة : الاستباق في أمر الكعبة رغماً لليهود بالمخالفة . وقال ابن زيد : معناه : سارعوا إلى الأعمال الصالحة من التوجه إلى القبلة وغيره . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : فاستبقوا الفاضلات من الجهات ، وهي الجهات المسامتة للكعبة ، وإن اختلفت . وذكرنا أن استبق بمعنى : تسابق ، فهو يدل على الاشتراك . ) إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ( ، أي نتسابق ، كما تقول . تضاربوا . واستبق لا يتعدى ، لأن تسابق لا يتعدى ، وذلك أن الفعل المتعدي ، إذا بنيت من لفظ ، معناه : تفاعل للاشتراك ، صار لازماً ، تقول : ضربت زيداً ، ثم تقول : تضاربنا ، فلذلك قيل : إن إلى هنا محذوفة ، التقدير : فاستبقوا إلى الخيرات . قال الراعي : ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل
سواكم فإني مهتد غير مائل
يريد ومن يمل سواكم ) أَيْنَمَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ( : هذه جملة تتضمن وعظاً وتحذيراً وإظهاراً لقدرته ، ومعنى : ) يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ( : أي يبعثكم ويحشركم للثواب والعقاب ، فأنتم لا تعجزونه ، وافقتم أم خالفتم ، ولذلك قال ابن عباس : يعني يوم القيامة . وقيل : المعنى : أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعاً ، أي يجمعكم ويجعل صلاتكم كلها إلى جهة واحدة ، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام ، قاله

" صفحة رقم 613 "
الزمخشري . ) إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ( تقدم شرح هذه الجملة ، وسيقت بعد الجملة الشرطية المتضمنة للبعث والجزاء ، أي لا يستبعد إتيان الله تعالى بالأشلاء المتمزقة في الجهات المتعددة المتفرقة ، فإن قدرة الله تتعلق بالممكنات ، وهذا منها . وقد تقدم لنا أن مثل هذه الجملة المصدرة بأن تجيء كالعلة لما قبلها ، فكان المعنى : إتيان الله بكم جميعاً لقدرته على ذلك .
البقرة : ( 149 ) ومن حيث خرجت . . . . .
( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( : لما ذكر تعالى أن لكل وجهة يتولاها ، أمر نبيه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام من أي مكان خرج ، لأن قوله : ) فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ ( ظاهره أنه أمر له باستقبال الكعبة وهو مقيم بالمدينة . فبين بهذا الأمر الثاني تساوي الحالين إقامة وسفراً في أنه مأمور باستقبال البيت الحرام ، ثم عطف عليه : ) وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ( ، ليبين مساواتهم في ذلك ، أي في حالة السفر ، والأولى في حالة الإقامة . وقرأ عبد الله بن عمير : ومن حيث بالفتح ، فتح تخفيفاً . وقد تقدم القول في حيث في قوله : ) حَيْثُ شِئْتُمَا ).
) وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ ( : هذا إخبار من الله تعالى بأن استقبال هذه القبلة هو الحق ، أي الثابت الذي لا يعرض له نسخ ولا تبديل . وفي الأول قال : ) وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ ( ، حيث كان الكلام مع سفهائهم الذين اعترضوا في تحويل القبلة ، فردّ عليهم بأشياء منها : أن علمائهم يعلمون أن تحويل القبلة حق من عند الله ، وختم آخر هذه الآية بما ختم به آخر تلك من قوله : ) وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( في امتثال هذا التكليف العظيم الذي هو التحويل من جهة إلى جهة ، وذلك مهو محض التعبد . فالجهات كلها بالنسبة إلى البارىء تعالى مستوية ، فكونه خص باستقبال هذه زماناً ، ونسخ ذلك باستقبال جهة أخرى متأبدة ، لا يظهر في ذلك في بادي الرأي إلا أنه تعبد محض . فلم يبق في ذلك إلا امتثال ما أمر الله به ، فأخبر تعالى أنه لا يغفل عن أعمالكم ، بل هو المطلع عليها ، المجازي بالثواب من امتثل أمره ، وبالعقاب من خالفه . وجاء في قوله : ) الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ( في المكانين ، وفي قوله : ) وَمَا اللَّهُ ( في المكانين ، فحيث نبه على استدلال حكمته بالنظر إلى أفعاله ، ذكر الرب المقتضي للنعم ، لننظر منها إلى المنعم ، ونستدل بها عليه ، ولما انتهى إلى ذكر الوعيد ، ذكر لفظ الله المقتضي للعبادة التي من أخل بها استحق أليم العذاب .
البقرة : ( 150 ) ومن حيث خرجت . . . . .
( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ( : ظاهر هذه الجملة أنها كررت توكيداً لما قبلها في الآية التي تليها فقط ، لا أن ذلك توكيد للآية الأولى ، لأنا قد بينا أن الأولى في الإقامة ، والثانية في السفر ، وأما الثالثة فهي في السفر ، فهي تأكيد للثانية . وحكمة هذا التأكيد تثبيت هذا الحكم ، وتقرير نسخ استقبال بيت المقدس ، لأن النسخ هو من مظان الفتنة والشبهة وتزيين الشيطان للطعن في تبديل قبلة بقبله ، إذ كان ذلك صعباً عليهم ، فأكد بذلك أمر النسخ وثبت . وكان التأكيد على ما قررناه بتكرير هذه الجمل مرتين ، لأن ذلك هو الأكثر المعهود في لسان العرب ، وهو أن تعاد الجملة مرة واحدة . وقال المهدوي : كررت هذه الأوامر ، لأنه لا يحفظ القرآن كل أحد ، فكان يوجد عند بعض الناس ما ليس عند بعض لو لم يكرر . وهذا المعنى في التكرير يروى عن جعفر الصادق ، ولهذا المعنى رفع التكرير في القصص . وقيل : لما كانت هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا ، كررت للتأكيد والقرير وإزالة الشبهة ، وقد ذكر العلماء في هذه الآيات مخصصات تخرجها بذلك عن التأكيد . فقيل : الأولى من قوله : ) فَوَلّ وَجْهَكَ ( ، نسخ للقبلة الأولى ، والثانية لاستواء الحكم في جميع الأمكنة ، والثالثة للدّوام في جميع الأزمان . وقيل : الأولى في المسجد الحرام ، والثانية خارج المسجد ، والثالثة خارج البلد . وقيل : الخروج الأول إلى مكان ترى فيه الكعبة ، والثاني إلى مكان لا ترى فيه ، فسوى بين الحالتين . وقيل : الخروج الأول متصل بذكر السبب ، وهو : ) وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ ( ، والثاني متصل بانتفاء الحجة ، وهو : ) لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ). وقيل : الأول

" صفحة رقم 614 "
لجميع الأحوال ، والثاني لجميع الأمكنة ، والثالث لجميع الأزمنة . وقيل : الأول أن يكون الإنسان في المسجد الحرام ، والثاني : أن يكون خارجاً عنه وهو في البلد ، والثالث أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض ، فسوى بين هذه الأحوال ، لئلا يتوهم أن للأقرب حرمة لا تثبت للأبعد . وقيل : التخصيص حصل في كل واحد من الثلاثة بأمر ، فالأول بين فيه أن أهل الكتاب يعلمون أمر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأمر هذه القبلة ، حتى أنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل ، والثاني فيه شهادة الله بأن ذلك حق ، والثالث بين فيه أنه فعل ذلك ) لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ( ، فقطع بذلك قول المعاندين . وقيل : الأول مقرون بإكرامه تعالى إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها ، وهي قبلة إبراهيم ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، بقوله : ) وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا ( ، أي لكل صاحب دعوة قبلة يتوجه إليها ، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله أنها الحق ، والثالث مقرون بقطع الله حجة من خاصمه من اليهود . وقيل : ربما خطر في بال جاهل أنه تعالى فعل ذلك لرضا نبيه لقوله : ) فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ( ، فأزال هذا الوهم بقوله : ) وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ ( ، أي ما حولناك لمجرد الرضا ، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق ، فليست كقبلة اليهود التي يتبعونها بمجرد الهوى ، ثم أعاد ثالثاً ، والمراد : دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة . وقيل : كرر ) وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ ( ، فحث بإحداهما على التوجه إلى القبلة بالقلب والبدن ، في أي مكان كان الإنسان ، نائياً كان عنها ، أو دانياً منها ، وذلك في حال التمكن والاختيار ، وحث بالأخرى على التوجه بالقلب نحوه عند اشتباه القبلة في حالة المسابقة ، وفي النافلة في حالة السفر ، وعلى الراحلة في السفر .
( لِئَلاَّ يَكُونَ ( : هذه لام كي ، وأن بعدها لا النافية ، وقد حجز بها بين أن ومعمولها الذي هو يكون ، كما أنهم حجزوا بها بين الجازم والمجزوم في قولهم : أن لا تفعل أفعل . وكتبت في المصحف : لا ما بعدها ياء ، بعدها لام ألف ، فجعلوا صورة للهمزة الياء ، وذلك على حسب التخفيف الذي قرأ به نافع في القرآن من إبدال هذه الهمزة ياء . وقرأ الجمهور بالتحقيق : وهذه أن واجبة الإظهار هنا ، لكراهتهم اجتماع لام الجر مع لا النافية ، لأن في ذلك قلقاً في اللفظ ، وهي جائزة الإظهار في غير هذا الموضع ، فإذا أثبتوها ، فهو الأصل ، وهو الأقل في كلامهم ، وإذا حذفوها ، فلأن المعنى يقتضيها ضرورة أن اللام لا تكون الناصبة ، لأنها قد ثبت لها أن تعمل في الأسماء الجر ، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال .
( لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ( : أي احتجاج . والناس : قيل هو عموم في اليهود والعرب وغيرهم . وقيل : اليهود ، وحجتهم قولهم : يخالفنا محمد في قبلتنا ، وقد كان يتبعها ، أو لم ينصرف عن بيت المقدس ، مع علمه بأنه حق إلا برأيه ، ويزعم أنه أمر به ، أو ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم . وقيل : مشركو العرب ، وحجتهم قولهم : قد رجع محمد إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى ديننا حين صار يستقبل القبلة . وقيل : الناس عام ، والمعنى : أن الله وعدهم بأنه لا يقوم لأحد عليهم حجة إلا حجة باطلة ، وهي قولهم : يوافق اليهود مع قوله : إني حنيف أتبع ملة إبراهيم ، أو لا يقين لكم ولا تثبتون على دين ، أو قالوا : ما لك تركت بيت المقدس ؟ إن كانت ضلالة فقد دنت بها ، وإن كانت هدى فقد نقلت عنه ، أو قولهم : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه ، أو قولهم في التوراة : إنه يتحول إلى قبلة أبيه إبراهيم ، فحوله الله ، لئلا يقولوا : نجده في التوراة يتحول فما تحول ، فيكون لهم ذلك حجة ، فأذهب الله حجتهم بذلك . واللام في لئلا لام الجر ، دخلت على إن وما بعدها فتتقدر بالمصدر ، أي لانتفاء الحجة عليكم . وتتعلق هذه اللام ، قيل : بمحذوف ، أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة في ذلك لئلا يكون . وقيل : تتعلق بولوا ، والقراءة بالياء ، لأن الحجة تأنيثها غير حقيقي ، وقد حسن ذلك الفصل بين الفعل ومرفوعه بمجرورين ، فسهل التذكير جداً ، وخبر كان قوله : للناس ، وعليكم : في موضع نصب على الحال ، وهو في الأصل صفة للحجة ، فلما تقدم عليها انتصب على الحال ، والعامل فيها محذوف ، ولا جائز أن يتعلق بحجة ، لأنه في معنى الاحتجاج ، ومعمول المصدر المنحل لحرف مصدري ، والفعل لا يتقدم على عامله . وأجاز بعضهم أن يتعلق عليكم بحجة ، هكذا نقلوا ، ويحتمل أن

" صفحة رقم 615 "
يكون عليكم الخبر ، وللناس متعلق بلفظ يكون ، لأن كان الناقصة قد تعمل في الظرف والجار والمجرور .
( إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ( ، قرأ الجمهور : إلا جعلوها أداة استثناء ، وقرأ ابن عامر وزيد بن علي وابن زيد : ألا بفتح الهمزة وتخفيف لام ألا ، إذ جعلوها التي للتنبيه والاستفتاح . فعلى قراءة هؤلاء يكون إعراب الذين ظلموا مبتدأ ، والجملة من قوله : ) فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى ( في موضع الخبر ، ودخلت الفاء لأنه سلك بالذين مسلك الشرط ، والفعل الماضي الواقع صلة هو مستقبل . المعنى : كأنه قيل : من يظلم من الناس ، فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم . واخشوني : فلا تخالفوا أمري ، ولولا دخول الفاء لترجح نصب الذين ظلموا ، على أن تكون المسألة من باب الاشتغال ، أي لا تخشوا الذين ظلموا ، لا تخشوهم ، لكن ذلك يجوز على مذهب الأخفش في زيادة الفاء ، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين نصباً بفعل مقدر على الإغراء . ونقل السجاوندي عن أبي بكر بن مجاهد أنه قرأ إلى الذين ، جعلها حرف جر ، وتأوّلها بمعنى مع . وأما على قراءة الجمهور ، فالاستثناء متصل ، قاله ابن عباس وغيره ، واختاره الطبري ، وبدأ به ابن عطية ، ولم يذكر الزمخشري غيره ، وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكاناً حسناً ، كان أولى من غيره . قال الزمخشري : ومعناه لئلا يكون حجة لأحد من اليهود ، إلا للمعاندين منهم القائلين : ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلا دين قومه وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء . فإن قلت : أي حجة كانت تكون للمتصفين منهم لو لم يحوّل حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين ؟ قلت : كانوا يقولون : ما له لا يحوّل إلى قبلة أبيه إبراهيم ، كما هو مذكور في نعته في التوراة ؟ فإن قلت : كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين ؟ قلت : لأنهم يسوقونه سياق الحجة ، انتهى كلامه . وقال ابن عطية : المعنى أنه لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم من كل من تكلم في النازلة في قولهم : ) مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( استهزاء ، وفي قولهم : تحير محمد في دينه ، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن ، أو من يهودي ، أو من منافق . وسماها تعالى : حجة ، وحكم بفسادها حين كانت من ظلمة . انتهى كلامه . وقد اتضح بهذا التقرير اتصال الاستثناء . وذهب قوم إلى أنه استثناء منقطع ، أي لكن الذين ظلموا فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة ، يضعونها موضع الحجة ، وليست بحجة . ومثار الخلاف هو : هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح ؟ أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة ؟ ومثار الخلاف هو : هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح ؟ أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة ؟ فإن كان الأول ، فهو استثناء منقطع ، وإن كان الثاني ، فهو استثناء متصل . قال الزجاج : أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله تعالى : ) وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ مَن ظَلَمَ ( ، باحتجاجه فيما قد وضح له ، كما تقول : ما لك عليّ حجة إلا الظلم ، أو إلا أن تظلمني ، أي ما لك حجة ألبتة ، ولكنك تظلمني . وأجاز قطرب أن يكون الذين في موضع جر بدلاً من ضمير الخطاب في عليكم ، ويكون التقدير : لئلا تثبت حجة للناس على غير الظالمين منهم ، وهم أنتم أيها المخاطبون ، بتولية وجوهكم إلى القبلة . ونقل السجاوندي أن قطرباً قرأ : إلا على الذين ظلموا ، وهو بدل أيضاً على إظهار حرف الجر ، كقوله : ) لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ ( ، وهذا ضعيف ، لأن فيه إبدال الظاهر من ضمير الخطاب ، بدل شيء من شيء ، وهما لعين

" صفحة رقم 616 "
واحدة ، ولا يجوز ذلك إلى على مذهب الأخفش . وزعم أبو عبيد معمر بن المثنى أن في إلا الآية بمعنى الواو ، وجعل من ذلك قوله : ما بالمدينة دار غير واحدة
دار الخليفة إلا دار مروانا
وقوله : وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان
التقدير : عنده والذين ظلموا ، ودار مروان والفرقدان وإثبات إلا بمعنى الواو ، لا يقوم عليه دليل ، والاستثناء سائغ فيما ادّعى فيه أن إلا بمعنى الواو ، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو . وقال الزجاج : هذا خطأ عند حذاق النحويين ، وأضعف من هذا زعم أن إلا بمعنى بعد ، أي بعد الذين ظلموا ، وجعل من ذلك ) إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ( ، أي بعد ما قد سلف ، و ) إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاْولَى ( ، أي بعد الموتة الأولى ، ولولا أن بعض المفسرين ذكر هذين القولين ، ما ذكرتهما لضعفهما . ) فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى ( : هذا فيه تحقير لشأنهم ، وأمر باطراحهم ، ومراعاة لأمره تعالى . وضمير المفعول في فلا تخشوهم يحتمل أن يعود على الناس ، أي فلا تخشوا الناس ، وأن يعود على الذين ظلموا ، أي فلا تخشوا الظالمين . ونهى عن خشيتهم فيما يزخرفونه من الكلام الباطل ، فإنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر . وأمر بخشيته هو في ترك ما أمرهم به من التوجه إلى المسجد الحرام . وقيل : المعنى فلا تخشوهم في المباينة ، واخشوني في المخالفة ، ومعناه قريب من الأول . وقد ذكرنا شرح هاتين الجملتين في ذكر قراءة ابن عباس بقريب من هذا . وقال السدي : معناه لا تخشوا أن أردّكم في دينكم واخشوني ، وهذا الذي قاله لا يساعده قوله : فلا تخشوهم . قال بعضهم : ذكر الخشية هنا ولم يذكر الخوف ، لأن الخشية حذر من أمر قد وقع ، والخوف حذر من أمر لم يقع . والذي تدل عليه اللغة والاستعمال أن الخشية والخوف مترادفان ، وقال تعالى : ) فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ ( ، كما قال هنا : ) فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى ).
) وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ ( : الظاهر أنه معطوف على قوله : ) لِئَلاَّ يَكُونَ ( ، وكان المعنى : عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم ، ولإتمام النعمة ، فيكون التعريف معللاً بهاتين العلتين ، والفصل بالاستثناء وما بعده كلا فصل ، إذ هو من متعلق العلة الأولى . وقيل : هو معطوف على علة محذوفة ، وكلاهما معلولهما الخشية السابقة ، كأنه قيل : واخشوني لأوقفكم ولأتمّ نعمتي عليكم . وقيل : تتعلق اللام بفعل مؤخر ، التقدير : ولأتمّ نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ، ومن زعم أن الواو زائدة ، فقوله ضعيف . وإتمام النعمة بما هداهم إليه من القبلة ، أو بما أعدّه لهم من ثواب الطاعة ، أو بما حصل للعرب من الشرف بتحويل القبلة إلى الكعبة ، أو بإبطال حجج المحتجين عليهم ، أو بإدخالهم الجنة ، أو بالموت على الإسلام ، أو النعمة سنة الإسلام ، والقرآن ، ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والستر ، والعافية ، والغنى عن الناس ؛ أو بشرائع الملة الحنيفية ، أقوال ثمانية صدرت مصدر المثال ، لا مصدر التعيين ، وكل فيها نعمة . ) وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( : تقدم القول في لعل بالنسبة إلى مجيئها من الله تعالى في قوله : ) وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ، في أول البقرة ، وهو أول مواقعها فيه . والمعنى : لتكونوا على رجاء إدامة هدايتي إياكم على استقبال الكعبة ، أو لكي تهتدوا إلى قبلة أبيكم إبراهيم ، والظاهر رجاء الهداية مطلقاً .
البقرة : ( 151 ) كما أرسلنا فيكم . . . . .
( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ ( : الكاف هنا للتشبيه ، وهي في موضع نصب

" صفحة رقم 617 "
على أنها نعت لمصدر محذوف . واختلف في تقديره ، فقيل التقدير : ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام إرسال فيكم . ومتعلق الإتمامين مختلف ، فالإتمام الأول بالثواب في الآخرة ، والإتمام الثاني بإرسال الرسول إلينا في الدنيا . أو الإتمام الأول بإجابة الدعوة الأولى لإبراهيم في قوله : ) وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ( ، والإتمام الثاني بإجابة الدعوة الثانية في قوله : ) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ ( ، وقيل : التقدير : ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولاً ، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت ، أي اهتداء ثابتاً متحققاً ، كتحقق إرسالنا فيكم رسولاً ، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت ، أي اهتداء ثابتاً متحققاً ، كتحقق إرسالنا وثبوته . وقيل : متعلق بقوله : ) وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ( ، أي جعلاً مثل ما أرسلنا ، وهو قول أبي مسلم ، وهذا بعيد جدًّا ، لكثرة الفصل المؤذن بالانقطاع . وقيل : الكاف في موضع نصب على الحال من نعمتي ، أي : ) وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ ( مشبهة إرسالنا فيكم رسولاً ، أي مشبهة نعمة الإرسال ، فيكون على حذف مضاف . وقيل : الكاف منقطعة من الكلام قبلها ، ومتعلقة بالكلام بعدها ، والتقدير : قال الزمخشري : كما ذكرتكم بإرسال الرسول ، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب . انتهى . فيكون على تقدير مصدر محذوف ، وعلى تقدير مضاف ، أي اذكروني ذكراً مثل ذكرنا لكم بالإرسال ، ثم صار مثل ذكر إرسالنا ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وهذا كما تقول : كما أتاك فلان فائته بكرمك ، وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل ، وهو اختيار الأخفش والزجاج وابن كيسان والأصم ، والمعنى : أنكم كنتم على حالة لا تقرؤون كتاباً ، ولا تعرفون رسولاً ، ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) رجل منكم ، أتاكم بأعجب الآيات الدالة على صدقه فقال : ( كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلاً ، فاذكروني بالشكر ، أذكركم برحمتي ) ، ويؤكده : ) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ ). ويحتمل على هذا الوجه ، بل يظهر ، وهو إذا علقت بما بعدها أن ، لا تكون الكاف للتشبيه بل للتعليل ، وهو معنى مقول فيها إنها ترد له وحمل على ذلك قوله تعالى : ) وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ( ، وقول الشاعر :
لا تشتم الناس كما لا تشتم
أي : واذكروه لهدايته إياكم ، ولا تشتم الناس لكونك لا تشتم ، أي امتنع من شتم الناس لامتناع الناس من شتمك . وما : في كما ، مصدرية ، وأبعد من زعم أنها موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، ورسولاً بدل منه ، والتقدير : كالذي أرسلناه رسولاً ، إذ يبعد تقرير هذا التقدير مع الكلام الذي قبله ، ومع الكلام الذي بعده ، وفيه وقوع ما على آحاد من يعقل . وكذلك جعل ما كافة ، لأنه لا يذهب إلى ذلك إلا حيث لا يمكن أن ينسبك منها مع ما بعدها مصدر ، لولايتها الجمل الإسمية ، نحو قول الشاعر : لعمرك إنني وأبا حميد
كما النشوان والرجل الحليم
وقول من قال إن : كما أرسلنا ، متعلق بما بعده ، قد ردّه أبو محمد مكي بن أبي طالب ، قال : لأن الأمر إذا كان له جواب ، لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه ، قال : لو قلت كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك ، لم تتعلق الكاف من كما بأكرمني ، لأن له جواباً ، ولكن تتعلق بشيء آخر ، أو بمضمر ، وكذلك : فاذكروني أذكركم ، هو أمر له جواب ، فلا تتعلق كما به ، ولا يجوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين ، وهو قولك : إذا أتاك فلان فائته ترضه ، فتكون

" صفحة رقم 618 "
كما وفاذكروني جوابين للأمر ، والأول أفصح وأشهر . وتقول : كما أحسنت إليك فأكرمني ، يصح أن يجعل الكاف متعلقة بأكرمني ، إذ لا جواب له . انتهى كلامه . ورجح مكي قول من قال إنها متعلقة بما قبلها ، وهو : ) وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ ( ، لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى : ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم ، كما أجبنا دعوته فيكم ، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم يتلو . وما ذهب إليه مكي من إبطال أن ، تكون كما متعلقة بما بعدها من الوجه الذي ذكر ليس بشيء ، لأن الكاف ، إما أن تكون للتشبيه ، أو للتعليل . فإن كانت للتشبيه ، فتكون نعتاً لمصدر محذوف ، ويجوز تقدّم ذلك المصدر على الفعل ، مثال ذلك : أكرمني إكراماً مثل إكرامي السابق لك أكرمك ، فيجوز تقديم هذا المصدر . وإن كانت للتعليل ، فيجوز أيضاً تقدم ذلك على الفعل ، مثال ذلك : أكرمني لا كرامي لك أكرمك ، لا نعلم خلافاً في جواز تقديم هذا المصدر وهذه العلة على الفعل العامل فيهما ، وتجويز مكي ذلك على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين وتسميته ، كما وفاذكروني جوابين للأمر ، ليس بصحيح لأن كما ليس بجواب ، ولأن ذلك التشبيه فاسد ، لأن المصدر لا يشبه الجواب ، وكذلك التعليل . أما المصدر التشبيهي ، فهو وصف في الفعل المأمور به ، فليس مترتباً على وقوع مطلق الفعل ، بل لا يقع الفعل إلا بذلك الوصف . وعلى هذا لا يشبه الجواب ، لأن الجواب مترتب على نفس وقوع الفعل . وأما التعليل ، فكذلك أيضاً ليس مترتباً على وقوع الفعل ، بل الفعل مترتب على وجود العلة ، فهو نقيض الجواب ، لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل ، والعلة مترتب عليها وجود الفعل ، فلا تشبيه بينهما ، وإنما يخدش عندي في تعلق كما بقوله : فاذكروني ، هو الفاء ، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيها قبلها ، ولولا الفاء لكان التعلق واضحاً ، وتبعد زيادة الفاء . فبهذا يظهر تعلق كما بما قبلها ، ويكون في ذلك تشبيه إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الإسلام .
وأفضل الأعمال وأدل الدلائل على الاستمساك بشريعة الإسلام ، بإتمام النعمة السابقة ، بإرسال الرسول المتصف بكونه منهم إلى سائر الأوصاف التي وصفه تعال بها ، وجعل ذلك إتماماً للنعمة في الحالين ، لأن استقبال الكعبة ثانياً أمر لا يزاد عليه شيء ينسخه ، فهي آخر القبلات المتوجه إليها في الصلاة . كما أن إرسال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) هو آخر إرسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إذ لا نبي بعده ، وهو خاتم النبيين . فشبه إتمام تلك النعمة ، التي هي كمال نعمة استقبال القبل ، بهذا الإتمام الذي هو كمال إرسال الرسل . وفي إتمام هاتين النعمتين عز للعرب ، وشرف واستمالة لقلوبهم ، إذ كان الرسول منهم ، والقبلة التي يستقبلونها في الصلاة بينهم الذي يحجونه قديماً وحديثاً ويعظمونه .
( رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ( : فيه اعتناء بالعرب ، إذ كان الإرسال فيهم ، والرسول منهم ، وإن كانت رسالته عامة . وكذلك جاء ) هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ ( ، ويشعر هذا الامتنان بإنه لم يسبق أن يرسل ولا يبعث في العرب رسول غير نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولذلك أفرده فقال : ) رَسُولاً مّنْهُمْ ( ، ووصفه بأوصاف كلها معجز لهم ، وهي كونه منهم ، وتالياً عليهم آيات الله ، ومزكياً لهم ، ومعلماً لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون . وقدم كونه منهم ، أي يعرفونه شخصاً ونسباً ومولداً ومنشأً ، لأن معرفة ذات الشخص متقدمة على معرفة ما يصدر من أفعاله . وأتى ثانياً بصفة تلاوة الآيات إليه تعالى ، لأنها هي المعجزة الدالة على صدقه ، الباقية إلى الأبد . وأضاف الآيات إليه تعالى ، لأنها كلامه سبحانه وتعالى ، ومن تلاوته تستفاد العبادات ومجامع الأخلاق الشريفة ، وتنبع العلوم . وأتى ثالثاً بصفة التزكية ، وهي التطهير من أنجاس الضلال ، لأن ذلك ناشىء عن إظهار المعجز لمن أراد الله تعالى توفيقه وقبوله للحق . وأتى رابعاً بصفة تعليم الكتاب والحكمة ، لأن ذلك ناشىء عن تطهير الإنسان ، باتباع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فيعلمه إذ ذاك ويفهمه ما انطوى عليه كتاب الله تعالى ، وما اقتضته الحكمة الإلهية . وأتى بهذه الصفات فعلاً مضارعاً ليدل بذلك على التجدد ، لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائماً . وأما الصفة الأولى ، وهي كونه منهم ، فليست بمتجددة ، بل هو وصف ثابت له . وقد تقدم الكلام على هذه الأوصاف في قوله : ) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ ( بأشبع من هذا ، فلينظر هناك .
وختم هذا بقوله : ) وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ( ، وهو ذكر عام بعد خاص ، لأنهم لم يكونوا يعلمون الكتاب ولا الحكمة . وفسر بعضهم

" صفحة رقم 619 "
ذلك بأن الذي لم يكونوا يعلمون : قصص من سلف ، وقصص ما يأتي من الغيوب . وفي هذه الآية قدم التزكية على التعليم ، وفي دعاء إبراهيم قدم التعليم على التزكية ، وذلك لاختلاف المراد بالتزكية . فالظاهر أن المراد هنا هو التطهير من الكفر ، كما شرحناه ، وهناك هو الشهادة بأنهم خيار أزكياء ، وذلك متأخر عن تعليم الشرائع والعمل بها .
البقرة : ( 152 ) فاذكروني أذكركم واشكروا . . . . .
( فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ( : أي اذكروني بالطاعة ، أذكركم بالثواب والمغفرة ، قاله ابن جبير ، أو بالدعاء والتسبيح ونحوه ، قاله الربيع والسدي . وقال عكرمة : يقول الله يا ابن آدم أذكرني بعد صلاة الصبح ساعة ، وبعد صلاة العصر ساعة ، وأنا أكفيك ما بينهما ، أو اثنوا عليّ ، أثن عليكم . وقد جاء هذا المعنى في الحديث الطويل في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر ) . وفيه : ما يقول عبادي ؟ قالوا : ( يسبحونك ويحمدونك ويمجدونك ) . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي اذكروا نعمتي أذكركم بالزيادة . وقد جاء التصريح بالنعمة في قوله : ) اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ). وقيل : الذكر باللسان وبالقلب عند الأوامر والنواهي . وقيل : اذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي . وقيل : بما فرضت عليكم ، أو ندبتكم إليه ، أذكركم ، أي أجازكم على ذلك . وقد تقدم معنى هذا ، وهو قول سعيد ، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب . وقيل : فاذكروني في الرخاء بالطاعة والدعاء ، أذكركم في البلاء بالعطية والنعماء ، قاله ابن بجر . وقيل : اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال ، أو اذكروني بالتوبة أذكركم بالعفو عن الحوبة ، أو اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، أو اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات ، أو اذكروني بمحامدي أذكركم بهدايتي ، أو اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص ، أو اذكروني بالموافقات أذكركم بالكرامات ، أو اذكروني بترك كل حظ أذكركم بأن أقيمكم بحقي بعد فنائكم عنكم ، أو اذكروني بقطع العلائق أذكركم بنعت الحقائق ، أو اذكروني لمن لقيتموه أذكركم لكل من خاطبته ، قال : ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، أو اذكروني أذكركم ، أحبوني أحبكم ، أو اذكروني بالتذلل أذكركم بالتفضل ، أو اذكروني بقلوبكم أذكركم بتحقيق مطلوبكم ، أو اذكروني على الباب من حيث الخدمة أذكركم على بساط القرب بإكمال النعمة ، أو اذكروني بتصفية السرد أذكركم بتوفية البر ، أو اذكروني في حال سروركم أذكركم في قبوركم ، أو اذكروني وأنتم بوصف السلامة أذكركم يوم القيامة يوم لا تنفع الندامة ، أو اذكروني بالرهبة أذكركم بالرغبة . وقال القشيري : فاذكروني أذكركم ، الذكر استغراق الذاكر في شهود المذكور ، ثم استهلاكه في وجود المذكور حتى لا يبقى منه إلا أثر يذكر ، فيقال : قد كان فلان . قال تعالى : ) إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ). وإنما الدنيا حديث حسن فكن حديثاً حسناً لمن وعى ، قال الشاعر : إنما الدنيا محاسنها
طيب ما يبقى من الخبر
وفي المنتخب ما ملخصه : الذكر يكون باللسان ، وهو : الحمد ، والتسبيح ، والتمجيد ، وقراءة كتب الله ؛ وبالقلب ، وهو : الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف ، والأحكام ، والأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد ، والفكر في الصفات الإلاهية ، والفكر في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم التقديس ، فإذا نظر العبد إليها

" صفحة رقم 620 "
انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال ، وبالجوارح ، بأن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها ، خالية عن الأعمال المنهي عنها . وعلى هذا الوجه ، سمى الله الصلاة ذكراً بقوله : ) فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ). انتهى . وقالوا : الذكر هو تنبيه القلب للمذكور والتيقظ له ، وأطلق على اللسان لدلالته على ذلك . ولما كثر إطلاقه عليه ، صار هو السابق إلى الفهم . فالذكر باللسان سريّ وجهريّ ، والذكر بالقلب دائم ومتحلل ، وبهما أيضاً دائم ومتحلل . فباللسان ذكر عامّة المؤمنين ، وهو أدنى مراتب الذكر ، وقد سماه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ( ذكراً ) . خرج ابن ماجة أن أعرابياً قال : يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ ، فأنبئني منها بشيء أتشبث به ، قال : ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) ، وخرج أيضاً قال : ( يقول الله تعالى أنا مع عبدي إذ هو ذكرني وتحركت بي شفتاه ) . وسئل أبو عثمان ، فقيل له : نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة ، فقال : احمدوا الله على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته ، وبالقلب هو ذكر العارفين وخواص المؤمنين ، وقد سماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ذكراً ، ومعناه استقرار الذكر فيه حتى لا يخطر فيه غير المذكور : قال الشاعر : سواك ببالي لا يخطر
إذا ما نسيتك من أذكر
وبهما : هو ذكر خواص المؤمنين ، وهذه ثلاث المقامات ، أدومها أفضلها . انتهى .
وقد طال بنا الكلام في هذه الجملة ، وتركنا أشياء مما ذكره الناس ، وهذه التقييدات والتفسيرات التي فسر بها الذكران ، لا يدل اللفظ على شيء منها ، وينبغي أن يحمل ذلك من المفسرين له على سبيل التمثيل وجواز أن يكون المراد . وأما دلالة اللفظ فهي طلب مطلق الذكر ، والذي يتبادر إليه الذهن هو الذكر اللساني . والذكر اللساني لا يكون ذكر لفظ الجلالة مفرداً من غير إسناد ، بل لا بدّ من إسناد ، وأولاها الأذكار المروية في الآثار ، والمشار إليها في القرآن . وقد جاء الترغيب في ذكر جملة منها ، والوعد على ذكرها بالثواب الجزيل . وتلك الأذكار تتضمن : الثناء على الله ، والحمد له ، والمدح لجلاله ، والتماس الخير من عنده . فعبر عن ذلك بالذكر ، وأمر العبد به ، فكأنه قيل : عظموا الله ، وأثنوا عليه بالألفاظ الدالة على ذلك . وسمى الثواب المترتب على ذلك ذكراً ، فقال : فاذكروني أذكركم على سبيل المقابلة ، لما كان نتيجة الذكر وناشئاً عنه سماه ذكراً . ) وَاشْكُرُواْ لِي ( تقدّم تفسير الشكر ، وعداه هنا باللام ، وكذلك ) أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ ( ، وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدّى بحرف جر ، وتارة تتعدّى بنفسها ، كما قال عمرو بن لجاء التميمي : هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم
فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل
وفي إثبات هذا النوع من الفعل ، وهو أن يكون يتعدّى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جر ، بحق الوضع فيهما خلاف . وقالوا : إذا قلت : شكرت لزيد ، فالتقدير : شكرت لزيد صنيعه ، فجعلوه مما يتعدّى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه . ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله : واشكروا لي ما أنعمت به عليكم . وقال ابن عطية : واشكروا لي ، واشكروني بمعنى واحد ، ولي أفصح وأشهر مع الشكر ومعناه : نعمتي وأيادي ، وكذلك إذا قلت : شكرتك ، فالمعنى :

" صفحة رقم 621 "
شكرت لك صنيعك وذكرته ، فحذف المضاف ، إذ معنى الشكر : ذكر اليد وذكر مسديها معاً ، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف ، انتهى كلامه ، ويحتاج ، كونه يتعدى لواحد بنفسه ، وللآخر بحرف جر ، فتقول : شكرت لزيد صنيعه ، لسماع من العرب ، وحينئذ يصار إليه .
( وَلاَ تَكْفُرُونِ ( : وهو من كفر النعمة ، وهو على حذف مضاف ، أي ولا تكفروا نعمتي . ولو كان من الكفر ضدّ الإيمان ، لكان : ولا تكفروا ، أو ولا تكفروا بي . وهذه النون نون الوقاية ، حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفاً لتناسب الفواصل . قيل : المعنى واشكروا لي بالطاعة ، ولا تكفرون بالمعصية . وقيل : معنى الشكر هنا : الاعتراف بحق المنعم ، والثناء عليه ، ولذلك قابله بقوله : ) وَلاَ تَكْفُرُونِ ). وهنا ثلاث جمل : جملة الأمر بالذكر ، وجملة الأمر بالشكر ، وجملة النهي عن الكفران . فبدىء أولاً بجملة الذكر ، لأنه أريد به الثناء والمدح العام والحمد له تعالى ، وذكر له جواب مترتب عليه . وثنى بجملة الشكر ، لأنه ثناء على شيء خاص ، وقد اندرج تحت الأول ، فهو بمنزلة التوكيد ، فلم يحتج إلى جواب . وختم بجملة النهي ، لأنه لما أمر بالشكر ، لم يكن اللفظ ليدل على عموم الأزمان ، ولا يمكن التكليف باستحضار الشكر في كل زمان ، فقد يذهل الإنسان عن ذلك في كثير من الأوقات . ونهى عن الكفران ، لأن النهي يقتضي الامتناع من المنهي عنه في كل الأزمان ، وذلك ممكن لأنه من باب التروك . وقد تقدم لنا الكلام على أنه إذا كان أمر ونهي ، بدىء بالأمر . وذكرنا الحكمة في ذلك في قوله : ) وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ( ، فأغنى عن إعادته هنا . .
البقرة : ( 153 ) يا أيها الذين . . . . .
( تَكْفُرُونِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ ( ، قيل : سبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا : سيرجع محمد إلى ديننا ، كما رجع إلى قبلتنا . هزهم بهذا النداء المتضمن هذا الوصف الشريف ، وهو الإيمان مجعولاً فعلاً ماضياً في صلة الذين ، دالاً على الثبوت والالتباس به في تقدّم زمانهم ، ليكونوا أدعى لقبول ما يرد عليهم من الأمر والتكليف الشاق ، لأن الصبر والصلاة هما ركنا الإسلام . فالصبر قصر النفس على المكاره والتكاليف الشاقة ، وهو أمر قلبي ؛ والصلاة ثمرته ، وهي من أشق التكاليف لتكررها . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنهم سمعوا من طعن الكفار على التوجه إلى الكعبة والصلاة إليها أذى كثيراً ، فأمروا عند ذلك بالاستعانة بالصبر والصلاة . وقد قيد بعضهم الصبر هنا : بأنه الصبر على أذى الكفار بالطعن على التحول والصلاة إلى الكعبة ، وبعضهم بالصبر على أداء الفرائض . وروي عن ابن عباس وبعضهم قال : هو كناية عن الصوم ، ومنه قيل لرمضان : شهر الصبر ، وبعضهم قال : هو كناية عن الجهاد لقوله : بعد : ) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ ( ، وهو قول أبي مسلم . والأولى ما قدمناه من عموم اللفظ ، فتندرج هذه الأفراد تحته . وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا رأس له . وقد تقدم الكلام على شرح هذه الجملة من قوله : ) اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ ).
) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( : أي بالمعونة والتأييد ، كما قال : اهجهم ، وروح القدس معك . وقال تعالى : ) لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ( ، ومن كان الله معه فهو الغالب ، ولما كانت الصلاة ناشئة عن الصبر ، وصار الصبر أصلاً لجميع التكاليف الشاقة قال : ) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ، فاندرج المصلون تحت الصابرين اندراج الفرع تحت الأصل . وأما قوله هناك : ) وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ عَلَى الْخَاشِعِينَ ( ، فأعاد الضمير عليها على ظاهر الكلام ، لأنها أشرف وأشق نتائج الصبر . .
البقرة : ( 154 ) ولا تقولوا لمن . . . . .
( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ( ، قيل : سبب نزول هذه الآية أنه قيل لمن قتل في سبيل الله : مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها ، فأنزلت . نهوا عن قولهم عن الشهداء أموات ، وأخبر تعالى أنهم أحياء ، وارتفاع أموات وأحياء على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هم أموات ، بل هم أحياء . ويحتمل أن يكون بل أحياء ، مندرجاً تحت قول مضمر ، أي بل قولوا هم أحياء . لكن يرجح الوجه الأول ، وهو أنه إخبار من الله تعالى قوله : ) وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ( ، لأن معناه : أن حياتهم لا شعور لكم بها ، والظاهر أن المراد حقيقة الموت والحياة . وقيل : ذلك مجاز . واختلفوا فقيل : أموات بانقطاع الذكر ، بل أحياء ببقائه وثبوت الأجر . وكانت العرب

" صفحة رقم 622 "
تسمي من لا يبقى له ذكر بعد موته كالولد ، وغيره ميتاً . وقيل : أموات بالضلال ، بل أحياء بالطاعة والهدى ، كما قال : ) أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ). وإذا حمل الموت والحياة على الحقيقة فاختلفوا ، فقال قوم : معناه النهي عن قول الجاهلية أنهم لا يبعثون ، فالمعنى : أنهم سيحيون بالبعث ، فيثابون ثواب الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله . وأكثر أهل العلم على أنهم أحياء في الوقت . ومعنى هذه الحياة : بقاء أرواحهم دون أجسادهم ، إذ أجسادهم نشاهد فسادها وفنائها . واستدلوا على بقاء الأرواح بعذاب القبر ، وبقوله : ) وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ( معناه : لا تشعرون بكيفية حياتهم . ولو كان المعنى بإحياء أنهم سيحيون يوم القيامة ، أو أنهم على هدى ونور ، لم يظهر لنفي الشعور معنى ، إذ هو خطاب للمؤمنين ، وهم قد علموا بالبعث ، وبأنهم كانوا على هدى . فلا يقال فيه : ولكن لا تشعرون ، لأنهم قد شعروا به وبقوله : ) وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ ).
وقد ذهب بعض الناس إلى أن الشهيد حي الجسد والروح ، ولا يقدح في ذلك عدم الشعور به من الحي غيره . فنحن نراهم على صفة الأموات وهم أحياء ، كما قال تعالى : ) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ وَيُنْشِىء السَّحَابَ ( ، وكما ترى النائم على هيئته ، وهو يرى في منامه ما ينعم به أو يتألم به . ونقل السهيلي في كتاب ( دلائل النبوّة ) من تأليفه ، حكاية عن بعض الصحابة ، أنه حفر في مكان ، فانفتحت طاقة ، فإذا شخص جالس على سرير وبين يديه مصحف يقرأ فيه وأمامة روضة خضراء ، وذلك بأحد ، وعلم أنه من الشهداء ، لأنه رأى في صفحة وجهه جرحاً . وإذا ثبت أن الشهداء أحياء ، إما أرواحهم ، وإما أجسادهم وأرواحهم ، فاختلف في مستقرها . فقيل : قبورهم يرزقون فيها . وقيل : في قباب بيض في الجنة يرزقون فيها ، قاله أبو بشار السلمي . وقيل : في طير بيض تأكل من ثمار الجنة ومساكنهم سدرة المنتهى ، قاله قتادة . وقيل : يأكلون من ثمر الجنة ويجدون ريحها ، وليسوا فيها ، قاله مجاهد . وروي عن ابن عباس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء ) . وروي : في روضة خضراء يجري عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا . وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة ، وأنهم في قناديل من ذهب ، وأنهم في قبة خضراء ) . وإذا صح ذلك ، فهي أحوال لطوائف من الشهداء ، أو في أوقات مختلفة . والجمهور : على أنهم في الجنة ، ويؤيده قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأم حارثة : ( إنهم في الفردوس ) . ومذهب أهل السنة : أن الأرواح لا تفنى ، وأنها باقية بعد خروجها من البدن . فأرواح أهل السعادة منعمة إلى يوم الدين ، وأرواح أهل الشقاوة معذبة إلى يوم الدّين .
والفرق بين الشهيد وغيره من المؤمنين إنما هو الرّزق ، فضلهم الله بذلك ، وقال تعالى في حق الكفار : ) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ). وقال الحسن : الشهداء أحياء عند الله ، تعرض أرزاقهم على أرواحهم ، فيصل إليهم الروح والفرح ، كما تعرض النار على آل فرعون غدوة وعشياً ، فيصل إليهم الوجع . وقالوا : يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم ، وإن كانت في حجم الذرة . ولم تتعرض الآية الكريمة لرزق أرواح الشهداء ولا لمستقرّها ، وإنما جرى ذكر ذلك على سبيل الاستطراد ، اتباعاً للمفسرين ، حيث تكلموا في ذلك في هذه الآية ، وإلا فمظنة الكلام على ذلك في قوله : ) بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( ، حيث ذكر العندية والرزق ، وظاهر قوله : ) لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ ( ، العموم . وقيل : نزلت في شهداء بدر ، كانوا أربعة عشر ، ولا يخصص هذا العموم بهذا السبب ، بل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وفي هذه الآية تسلية لأقرباء الشهداء وإخوانهم من المؤمنين بذكر أنهم أحياء ، فهم مغبوطون لا محزونون عليهم .
البقرة : ( 155 ) ولنبلونكم بشيء من . . . . .
( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الاْمَوَالِ وَالاْنفُسِ وَالثَّمَراتِ ( : تقدم أن الابتلاء : هو الاختبار ، ليعلم ما يكون من حال

" صفحة رقم 623 "
المختبر ، وهذا مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى ، وإنما معناه هنا : الإجابة ، والضمير الذي للخطاب . قيل : هو للصحابة فقط ، قاله عطاء . خاطبهم بذلك بعد الهجرة ، وأخبرهم بذلك قبل وقوعه تطميناً لقلوبهم ، لأنه إذا تقدم العلم بالواقع ، كان قد استعد له ، بخلاف الأشياء التي تفاجىء ، فإنها أصعب على النفس ، وزيادة ثواب وأجر على ما يحصل لهم من انتظار المصيبة ، وإخباراً بمغيب يقع وفق ما أخبر ، وتمييزاً لمن أسلم مريداً وجه الله ممن نافق ، وازدياد إخلاص في حال البلاء على إخلاصه في حال العافية ، وحملاً لمن لم يسلم على النظر في دلائل الإسلام ، إذ رأى هؤلاء المبتلين صابرين على دينهم ثابتي الجأش فيه ، ما ابتلوا به . وقيل : هؤلاء أهل مكة ، خاطبهم بذلك إعلاماً أنه أجاب دعوة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيهم ، وليبقوا يتوقعون المصيبة ، فتضاعف عليهم المصيبات . وقيل : هو خطاب للأمة ، ويكون آخر الزمان ، قال كعب : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة ، يكون هذا الإخبار تحذيراً وموعظة على الركون إلى الدنيا وزهرتها ، ويكون إخباراً بالمغيبات . وقيل : الخطاب لا يراد به معين ، بل هو عام ، لا يتقيد بزمان ولا بمخاطب خاص ، فكأنه قيل : ولنصيبن بكذا ، فيكون في ذلك تحذير ، وأنه للصحابة وغيرهم .
وهذه الآية لها تعلق بقوله : ) وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ ( الآية ، وقبلها : ) وَاشْكُرُواْ لِي ( ، والشكر يوجب زيادة النعم ، والابتلاء بما ذكر ينافيه ظاهرا ، وتوجيه أن إتمام الشرائع إتمام للنعمة ولذلك يوجب الشكر والقيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المشاق ، فأمر فيها بالصبر ، وأنه أنعم عليه أولاً فشكر ، وابتلي ثانياً فصبر ، لينال درجتي الشكر والصبر ، فيكمل إيمانه . كما روي عنه عليه السلام : ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ) . بشيء : متعلق بقوله : ) وَلَنَبْلُوَنَّكُم ( ، والباء فيه للإلصاق ، وأفرده ليدل على التقليل ، إذ لو جمعه فقال : بأشياء ، لاحتمل أن تكون ضروباً من كل واحد مما بعده . وقد قرأ الضحاك : بأشياء ، فلا يكون حذف فيما بعدها ، فيكون من في موضع الصفة ، بخلاف قراءة الجمهور : بشيء ، فلا بد من تقدير حذف أي شء من الخوف ، وشيء من الجوع ، وشيء من نقص . والمعنى في هذه القراءة : ولنبلونكم بطرف من كذا وكذا . والخوف : خوف العدو ، قاله ابن عباس ، وقد حصل الخوف الشديد في وقعة الأحزاب . وقال الشافعي : هو خوف الله تعالى . والجوع : القحط ، قاله ابن عباس ، عبر بالمسبب عن السبب . وقيل : الجوع : الفقر ، عبر بالمسبب عن السبب أيضاً . وقال الشافعي : هو صيام شهر رمضان . ونقص من الأموال : بالخسران والهلاك . وقال الشافعي : بالصدقات . والأنفس : بالقتل والموت . وقال الشافعي : بالأمراض ، وقيل : بالشيب . والثمرات : يعني الجوائح في الثمرات ، وقلة النبات ، وانقطاع البركات . وقال القفال : قد يكون نقصها بالجدوب ، وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد ، وقد يكون بالإنفاق على من يرد من الوفود على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقيل : بظهور العدوّ عليهم . وقال الشافعي : والثمرات : موت الأولاد ، لأن ولد الرجل ثمرة قلبه . وفي حديث أبي موسى ، أن الله يقول للملائكة إذا مات ولد العبد : أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ .
وقال بعض العلماء : المراد في هذه الآية : مؤن الجهاد وكلفه ، فالخوف من العدوّ ، والجوع به وبالأسفار إليه ، ونقص الأموال بالنفقات فيه ، والأنفس بالقتل ، والثمرات بإصابة العدوّ لها ، أو الغفلة عنها بسبب الجهاد . انتهى كلامه . وعطف ونقص على قوله : بشيء ، أي : ولنمتحننكم بشيء من الخوف والجوع وبنقص ، ويحسن العطف تنكيرها ، على أنه يحتمل أن يكون معطوفاً على الخوف والجوع فيكون تقديره : وشيء من نقص . ومن الأموال : متعلق بنقص ، لأنه مصدر نقص ، وهو يتعدّى إلى واحد ، وقد حذف ، أي : ونقص شيء . ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنقص . وتكون من لابتداء الغاية . ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لذلك المحذوف ، أي ونقص شيء من الأموال ، وتكون من إذ ذاك للتبعيض . وقالوا : يجوز أن تكون من عند الأخفش زائدة ، أي ونقص الأموال

" صفحة رقم 624 "
والأنفس والثمرات . وأتى بالجملة الخبرية مقسماً عليها ، تأكيداً لوقوع الابتلاء ، وإسناد الفعل إليه صريح في إضافة أسباب البلايا إليه . وأن هذه المحن من الله تعالى ، ووعده بها المؤمنين يدل على أنها ليست عقوبات ، بل إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين . وجاء هذا الترتيب في العطف على سبيل الترقي : فأخبر أولاً بالابتلاء بشيء من الخوف ، وهو توقع ما يرد من المكروه . ثم انتقل منه إلى الابتلاء بشيء من الجوع ، وهو أشد من الخوف بأي تفسير فسر به من القحط ، أو الفقر ، أو الحاجة إلى الأكل ، إلا على تفسير الشافعي ، وهو صوم رمضان . ولا ترقي بين نقص وشيء ، على ما اختاره من عطف نقص على بشيء ، بل الترقي في العطف بعدو نقص ، فبدأ أولاً بالأموال ، ثم ترقي إلى الأنفس . وأما والثمرات ، فجاء كالتخصيص بعد التعميم ، لأنها تندرج تحت الأموال ، فلا ترقي فيها .
( وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ ( : خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو لكل من تتأتى منه البشارة ، أي على الجهاد بالنصر ، أو على الطاعة بالجزاء ، أو على المصائب بالثواب ، أقوال : والأحسن عدم التقييد ، أي كل من صبر صبراً محموداً شرعاً ، فهو مندرج في الصابرين . قالوا : والصبر من خواص الإنسان ، لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة ، وهو بدني . وهو : إما فعلي ، كتعاطي الأعمال الشاقة ، وإما احتمال ، كالصبر على الضرب الشديد ، ونفسي ، وهو قمع النفس عن مشتهيات الطبع . فإن كان من شهوة الفرج والبطن ، سمي عفة . وإن كان من احتمال مكروه ، اختلفت أسامية باختلاف المكروه . ففي المصيبة يقتصر عليه باسم الصبر ، ويضاده الجزع . وإن كان في الغنى ، سمي ضبط النفس ، ويضاده البطر . وإن كان في حرب ، سمي شجاعة ، ويضاده الجبن . وإن كان في نائبة مضجرة ، سمي سعة صدر ، ويضاده الضجر . وإن كان في إخفاء كلام ، سمي كتماناً ، وضاده الإعلان . وإن كان في فضول الدنيا ، سمي زهداً ، ويضاده الحرص . وإن كان على يسير من المال ، سمي قناعة ، ويضاده الشره . وقد جمع الله أقسام ذلك وسمى جميعها صبراً ، فقال : ) وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء ( ، أي المصيبة والضرّاء ، أي الفقر وحين البأس ، أي المحاربة . قال القفال : ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ، ولا أن لا يكره ذلك ، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع ، وإن ظهر دمع عين ، أو تغير لون ، ولو ظهر منه أول ما لا يعد معه صابراً ثم صبر ، لم يعد ذلك إلا سلواناً .
البقرة : ( 156 ) الذين إذا أصابتهم . . . . .
( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ ( : يجوز في الذين أن يكون منصوباً على النعت للصابرين ، وهو ظاهر الإعراب ، أو منصوباً على المدح ، فيكون مقطوعاً ، أو مرفوعاً على إضمارهم على وجهين : إما على القطع ، وإما على الاستئناف ، كأنه جواب لسؤال مقدر ، أي : من الصابرون ؟ قيل : هم الذين الذين إذا . وجوزوا أن يكون الذين مبتدأ ، وأولئك عليهم خبره ، وهو محتمل . مصيبة : اسم فاعل من أصابت ، وصار لها اختصاص بالشيء المكروه ، وصارت كناية عن الداهية ، فجرت مجرى الأسماء ووليت العوامل . وأصابتهم مصيبة : من التجنيس المغاير ، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً ، ومنه : ) أَزِفَتِ الاْزِفَةُ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ). والمصيبة : كل ما أذى المؤمن في نفس أو مال أو أهل ، صغرت أو كبرت ، حتى انطفاء المصباح لمن يحتاجه يسمى : مصيبة . وروي ذلك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أنه استرجع عند انطفاء مصباحه . والمعنى في إذا هنا : على التكرار والعموم . وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في إذا ، أتدل على التكرار ، أم وضعت للمرّة الواحدة ؟ قولان للنحويين .
( قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ ( : قالوا : جواب إذا ، والشرط وجوابه صلة للذين . وإنا : أصله إننا ، لأنها إن دخلت على الضمير المنصوب المتصل ، فحذفت نون من إن . وينبغي أن تكون المحذوفة هي الثانية ، لأنها ظرف ، ولأنها عهد فيها الحذف إذا خففت ، فقالوا : إن زيد لقائم ، وهو حذف هنا لاجتماع الأمثال ، فلذلك عملت ، إذ لو كان من الحذف لا لهذه العلة ، لانفصل الضمير وارتفع ولم تعمل ، لأنها إذا خففت هذا التخفيف لم تعمل في الضمير . ولله : معناه الإقرار بالملك والعبودية لله ، فهو المتصرّف فينا بما يريد من الأمور .
( وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ( : إقرار بالبعث وتنبيه على مصيبة الموت التي هي أعظم المصائب ، وتذكير أن ما أصاب الإنسان دونها فهو قريب ينبغي أن يصير له . وللمفسرين في هاتين الجملتين المقولتين أقوال :

" صفحة رقم 625 "
أحدهما : أن نفوسنا وأموالنا وأهلينا لله لا يظلمنا فيما يصنعه بنا . الثاني : أسلمنا الأمر لله ورضينا بقضائه ، ( وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ( يعني : للبعث لثواب المحسن ومعاقبة المسيء . الثالث : راجعون إليه في جبر المصاب وإجزال الثواب . الرابع : أن معناه إقرار بالمملكة في قوله : ) إِنَّا لِلَّهِ ( ، وإقرار بالهلكة في قوله : ) وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ).
وفي المنتخب ما ملخصه : إن إسناد الإصابة إلى المصيبة ، لا إلى الله تعالى ، ليعم ما كان من الله ، وما كان من غيره . فما كان من الله فهو داخل تحت قوله : ) إِنَّا لِلَّهِ ( ، لأن في الإقرار بالعبودية تفويضاً للأمور إليه ، وما كان من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله في الإنصاف منه ، ولا يتعدى ، كأنه في الأول ) إِنَّا لِلَّهِ ( ، يدبر كيف يشاء ، وفي الثاني : ) أَنَاْ إِلَيْهِ ( ، ينصف لنا كيف يشاء . وقيل : ) إِنَّا لِلَّهِ ( ، دليل على الرضا بما نزل به في الحال ، ( وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ( ، دليل على الرضا في الحال بكل ما سينزل به بعد ذلك . واشتملت الآية على فرض ونفل . فالفرض : التسليم لأمر الله ، والرضا بقدره ، والصبر على أداء فرائضه . والنفل : إظهاراً لقول ) إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ( ، وفي إظهاره فوائد منها : غيظ الكفار لعلمهم بجده في طاعة الله .
البقرة : ( 157 ) أولئك عليهم صلوات . . . . .
( أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ ( ، أولئك مبتدأ ، وصلوات : ارتفاعها على الفاعل بالجار والمجرور ، أي : أولئك مستقرة عليهم صلوات ، فيكون قد أخبر عن المبتدأ بالمفرد ، وهذا أولى من جعل صلوات مبتدأ ، والجار والمجرور في موضع خبره . والجملة في موضع خبر المبتدأ الأول ، لأنه يكون إخباراً عن المبتدأ بالجملة . والصلاة : من الله المغفرة ، قاله ابن عباس ؛ أو الثناء ، قاله ابن كيسان ، أو الغفران والثناء الحسن ، قاله الزجاج . والرحمة : قيل هي الصلوات ، كررت تأكيداً لما اختلف اللفظ ، كقوله ) رَأْفَةً وَرَحْمَةً ). وقيل : الرحمة : كشف الكربة وقضاء الحاجة . وقال عمر : نعم العدلان ونعم العلاوة ، وتلا : ) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم ( الآية ، يعني بالعدلين : الصلوات والرحمة ، وبالعلاوة : الاهتداء . وفي قوله : أولئك ، اسم الإشارة الموضوع للبعد دلالة على بعد هذه الرتبة ، كما جاء : ) أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ ). والكناية عن حصول الغفران والثناء بقوله : ) عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ ( بحرف على ، إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك ، قد غشيتهم وتجللتهم ، وهو أبلغ من قوله لهم . وجمع صلوات ، ليدل على أن ذلك ليس مطلق صلاة ، بل صلاة بعد صلاة ، ونكرت لأنه لا يراد العموم . ووصفها بكونها من ربهم ، ليدل بمن على ابتدائها من الله ، أي تنشأ تلك الصلوات وتبتدىء من الله تعالى . ويحتمل أن تكون من تبعيضية ، فيكون ثم حذف مضاف ، أي صلوات من صلوات ربهم . وأتى بلفظ الرب ، لما فيه من دلالة التربية والنظر للعبد فيما يصلحه ويربه به . وإن كان أريد بالرحمة الصلوات ، فلا يحتاج إلى تقييد بصفة محذوفة ، لأنها قد تقيدت . وإن كان أريد بها ما يغاير الصلوات ، فيقدر : ورحمة منه ، فيكون قد حذفت الصفة لما تقدم . ويحتمل أن يكون : ) مّن رَّبّهِمُ ( ، متعلقاً بقوله : ) عَلَيْهِمْ ( ، فلا يكون صفة ، بل يكون معمولاً للرافع لصلوات ، وترتب على مقام الصبر . ومقال هذه الكلمات الدالة على التفويض لله تعالى ، هذا الجزاء الجزيل والثناء الجميل .
وقد جاء في السنة ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال : ( من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه ) . وفي حديث آخر : ( من تذكر مصيبته ، فأحدث استرجاعاً ، وإن تقادم عهدها ، كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب ) . وحديث أم سلمة مشهور ، حيث أخلفها الله عن أبي سلمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال ابن جبير : ما أعطى أحد في المصيبة ما أعطيت هذه الأمة ، ولو أعطيها أحد قبلها لأعطيها يعقوب . ألا ترى كيف قال حين فقد يوسف ؟ ) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ).
) وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( : إخبار من الله عنهم بالهداية ، ومن أخبر الله عنه بالهداية فلن يضل أبداً . وهذه جملة ثابتة تدل على الاعتناء بأمر المخبر عنه ، إذ كل وصف له يبرز في جملة مستقلة . وبدىء بالجملة

" صفحة رقم 626 "
الأولى لأنها أهم في حصول الثواب المترتب على الوصف الذي قبله ، وأخرت هذه لأنها تنزلت مما قبلها منزلة العلة ، لأن ذلك القول المترتب عليه ذلك الجزاء الجزيل لا يصدر إلا عمن سبقت هدايته . وأكد بقوله : هم . وبالألف واللام ، كأن الهداية انحصرت فيهم وباسم الفاعل ، ليدل على الثبوت ، لأن الهداية ليست من الأفع الالمتجددة وقتاً بعد وقت فيخبر عنها بالفعل ، بل هي وصف ثابت . وقيل : المهتدون في استحقاق الثواب وإجزال الأجر . وقيل : إلى تسهيل المصاب وتخفيف الحزن . وقيل : إلى الاسترجاع . وقيل : إلى الحق والصواب ، وهذه التقييدات لا دلالة عليها في اللفظ ، فالأولى الحمل على الهداية التي هي الإيمان ، ونظير هاتين الجملتين قوله ) أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). والكلام في إعراب : هم المهتدون ، كالكلام على : المفلحون ، وقد تقدم .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة مزيد التوكيد في الأمر بتولية وجهه من حيث خرج ( صلى الله عليه وسلم ) ) شطر المسجد ، وبتوليتهم وجوههم شطره للاعتناء بأمر نسخ القبلة ، حيث كان النسخ صعباً على النفوس ، حيث ألفوا أمراً ، وأمروا بتركه والانتقال إلى غيره ، وخصوصاً عند من لا يرى النسخ . فلذلك كرروا أنه تعالى أمر بذلك وفعله لانتفاء حجج الناس ، لأن ذلك ، إذا كان بأمر منه تعالى ، لم تبق لأحد حجة على ممتثل أمر الله ، لأن أمر الله ثانياً ، كأمره أولاً . وهو قد أمر أولاً باستقبال بيت المقدس ، وأمر آخراً باستقبال الكعبة . فلا فرق بين الأمرين ، ولا حجة لمن خالف . واستثنى من الناس من ظلم ، لأنه لا تنقطع حججه ، وإن كانت باطلة ، ولا تشغيباته وتمويهاته ، لأنه قام به وصف يمنعه من إدراك الحق والبلج به ، ثم أمرهم تعالى بخشيته ، ونهاهم عن خشية الناس ، لأنهم إذا خشوا الله تعالى امتثلوا أوامره واجتنبوا مناهيه . وعطف على تلك العلة علة أخرى ، وهي إتمام النعمة باستقبال الكعبة إذ في ذلك اتباع أبيكم إبراهيم ، والرجوع إلى المألوف ، ولتحصيل الهداية . وشبه هذا الإتمام بإتمام نعمة إرسال الرسول منهم فيهم ، إذ هذه النعمة هي الأصل ، وهي منبع النعم والهداية ، ثم وصف المرسل إليهم بتلك الأوصاف الجليلة التي رزقوا منها الحظ الأكمل ، وهي تلاوة الكتاب عليهم : ) أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ( ؟ فكيف بمزيد التزكية والتعليم اللذين بهما تحصل الطهارة من الأرجاس والحياة السرمدية في الناس ؟ أخو العلم حيّ خالد بعد موته
وأوصاله تحت التراب رميم
وقال آخر : محل العلم لا يأوي ترابا
ولا يبلى على الزمن القديم
ثم أمرهم تعالى بالذكر لهذه النعم لئلا ينسوها ، وبالشكر عليها لأن يزيدهم من النعم . ثم نهاهم عن كفرانها ، لأن كفران النعم يقتضي زوالها واستحقاق العذاب الشديد عليه . ثم نادى من اتصف بالإيمان ، وهو ثاني نداء للمؤمنين في هذه السورة ، ليقبلوا على ما يأمرهم به . فأمرهم بالاستعانة بالصبر والصلاة ، لأن الاستعانة بهما تحصل سعادة الدنيا والآخرة . ثم أخبر تعالى أنه مع من صبر ثم نهاهم عن أن يقولوا للشهداء إنهم أموات ، وأخبر أنهم أحياء ، فوجب تصديق ما أخبر به ، وذكر أنا لا نشعر نحن بحياتهم . ثم أخبر تعالى أنه يبتليهم بما يظهر منهم فيه الصبر ، وهو شيء من البلايا التي ذكرها تعالى . ثم أمر نبيه أن يبشر الصابرين على ما ابتلوا به المسلمين لقضاء الله اعتقاداً وقولاً صريحاً أنهم عبيد الله ومماليكه ، وإليه مآبهم ومرجعهم ، يتصرف فيهم كما أراد . ثم ختم ذلك بأن من اتصف بهذا الوصف ، فعليه من الله الصلاة والرحمة ، وهو المهتدي الذي ثبتت هدايته ورسخت .

" صفحة رقم 627 "
2 ( ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَائِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَائِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَائِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الاٌّ رْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاٌّ سْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( ) ) 2
البقرة : ( 158 ) إن الصفا والمروة . . . . .
الصفا : ألفه منقلبة عن واو لقولهم : صفوان ، ولاشتقاقه من الصفو ، وهو الخالص . وقيل : هو اسم جنس بينه وبين مفرد تاءه التأنيث ، ومفرده صفاة . وقيل : هو اسم مفرد يجمع على فعول وأفعال ، قالوا : صفيّ وأصفاء . مثل : قفيّ وأقفاء . وتضم الصاد في فعول وتكسر ، كعصي ، وهو الحجر الأملس . وقيل : الحجر الذي لا يخالطه غيره من طين ، أو تراب يتصل به ، وهو الذي يدل عليه الاشتقاق . وقيل : هو الصخرة العظيمة . المروة : واحدة المرو ، وهو اسم جنس ، قال : فترى المرو إذا ما هجرت
عن يديها كالفراش المشفتر
وقالوا : مروات في جمع مروة ، وهو القياس في جمع تصحيح مروة ، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين . وقيل : الحجارة الصلبة . وقيل : الصغار المرهفة الأطراف . وقيل : الحجارة السود . وقيل : البيض . وقيل : البيض الصلبة . والصفا والمروة في الآية : علمان لجبلين معروفين ، والألف واللام لزمتا فيهما للغلبة ، كهما في البيت

" صفحة رقم 628 "
للكعبة ، والنجم : للثريا ، الشعائر : جمع شعيرة أو شعارة . قال الهروي : سمعت الأزهري يقول : هي العلائم التي ندب الله إليها ، وأمر بالقيام بها . وقال الزجاج : كل ما كان م موقف ومشهد ومسعى ومذبح . وقد تقدّمت لنا هذه المادة ، أعني مادة شعر ، أي أدرك وعلم . وتقول العرب : بيتنا شعار : أي علامة ، ومنه إشعار الهدي . الحج : القصد مرة بعد أخرى . قال الراجز : لراهب يحج بيت المقدس
في منقل وبرجد وبرنس
والاعتمار : الزيارة . وقيل : القصد ، ثم صار الحج والعمرة علمين لقصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين ، وهما في المعاني : كالبيت والنجم في الأعيان . وقد تقدّمت هاتان المادّتان في يحاجوكم وفي يعمر . الجناح : الميل إلى المأثم ، ثم أطلق على الإثم . يقال : جنح إلى كذا جنوحاً : مال ، ومنه جنح الليل : ميله بظلمته ، وجناح الطائر . تطوّع : تفعل من الطوع ، وهو الانقياد . الليل : قيل هو اسم جنس ، مثل : تمرة وتمر ، والصحيح أنه مفرد ، ولا يحفظ جمعاً لليل ، وأخطأ من ظنّ أن الليالي جمع الليل ، بل الليالي جمع ليلة ، وهو جمع غريب ، ونظيره : كيكه والكياكي ، والكيكة : البيضة ، كأنهم توهموا أنهما ليلاه وكيكاه ، ويدل على هذا التوهم قولهم في تصغير ليلة : لييلية ، وقد صرحوا بليلاه في الشعر ، قال الشاعر :
في كل يوم وبكل ليلاة
على أنه يحتمل أن تكون هذه الألف إشباعاً نحو :
أعوذ باللَّه من العقراب
وقال ابن فارس : بعض الطير يسمى ليلاً ، ويقال : إنه ولد الحبارى . وأما النهار : فجمعه نهر وأنهرة ، كقذل وأقذلة ، وهما جمعان مقيسان فيه . وقيل : النهار مفرد لا يجمع لأنه بمنزلة المصدر ، كقولك : الضياء يقع على القليل والكثير ، وليس بصحيح . قال الشاعر :

" صفحة رقم 629 "
لولا الثريدان هلكنا بالضمر
ثريد ليل وثريد بالنهر
ويقال : رجل نهر ، إذا كان يعمل في النهار ، وفيه معنى النسب . قالوا : والنهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، يدل على ذلك قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لعدي : ( إنما هو بياض النهار وسواد الليل ) ، يعني في قوله تعالى : ) وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ). وظاهر اللغة أنه من وقت الأسفار . وقال النضر بن شميل : ويغلب أول النهار طلوع الشمس . زاد النضر : ولا يعد ما قبل ذلك من النهار . وقال الزجاج ، في ( كتب الأنواء ) : أول النهار ذرور الشمس ، واستدل بقول أمية بن أبي الصلت : والشمس تطلع كل آخر ليلة
حمراء يصبح لونها يتورد
وقال عدي بن زيد : وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به
بين النهار وبين الليل قد فصلا
والمصر : القطع . وأنشد الكسائي : إذا طبعت شمس النهار فإنها
أمارة تسليمي عليك فودّعي
وقال ابن الأنباري : من طلوع الشمس إلى غروبها نهار ، ومن الفجر إلى طلوعها مشترك بين الليل والنهار . وقد تقدمت مادّة نهر في قوله : ) تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ). الفلك : السفن ، ويكون مفرداً وجمعاً . وزعموا أن حركاته في الجمع ليست حركاته في المفرد ، وإذا استعمل مفرد ثني ، قالوا : فلكان . وقيل : إذا أريد به الجمع ، فهو اسم جمع ، والذي نذهب إليه أنه لفظ مشترك بين المفرد والجمع ، وأن حركاته في الجمع حركاته في المفرد ، ولا تقدر بغيرها . وإذا كان مفرداً فهو مذكر ، كما قال : ) فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ). وقالوا : ويؤنث تأنيث المفرد ، قال : ) وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى ( ، ولا حجة في هذا ، إذ يكون هنا استعمل جمعاً ، فهو من تأنيث الجمع ، والجمع بوصف بالتي ، كما توصف به المؤنثة . وقيل : واحد الفلك ، فلك ، كأسُد وأَسَد ، وأصله من الدوران ، ومنه : فلك السماء الذي تدور فيه النجوم ، وفلكة المغزل ، وفلكة الجارية : استدرار نهدها . بث : نشر وفرق وأظهر . قال الشاعر :
وفي الأرض مبثوثاً شجاع وعقرب
ومضارعه : يبث ، على القياس في كل ثلاثي مضعف متعد أنه يفعل إلاّ ما شذ . الدابة : اسم لكل حيوان ، ورد قول من أخرج منه الطير بقول علقمة : كأنهم صابت عليهم سحابة
صواعقها لطيرهنّ دبيب
ويقول الأعشى :
دبيب قطا البطحاء في كل منهل

" صفحة رقم 630 "
وفعله : دب يدب ، وهذا قياسه لأنه لازم ، وسمع فيه يدب بضم عين الكلمة ، والهاء في الدابة للتأنيث ، إما على معنى نفس دابة ، وإما للمبالغة ، لكثرة وقوع هذا الفعل ، وتطلق على الذكر والأنثى . التصريف : مصدر صرف ، ومعناه : راجع للصرف ، وهو الرد . صرفت زيداً عن كذا : رددته . الرياح : جمع ريح ، جمع تكسير ، وياؤه واو لأنها من راح يروح ، وقلبت ياء لكسرة ما قبلها ، وحين زال موجب القلب ، وهو الكسر ، ظهرت الواو ، وقالوا : أرواح ، كجمع الروح . قال الشاعر : أريت بها الأرواح كل عشية
فلم يبق إلا آل نؤي منضد
قال ابن عطية : وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ، فاستعمل الأرياح في شعره ، ولحن في ذلك . وقال أبو حاتم : إن الأرياح لا يجوز ، فقال له عمارة : ألا تسمع قولهم : رياح ؟ فقال له أبو حاتم : هذا خلاف ذلك ، فقال له : صدقت ورجع . انتهى . وفي محفوظي قديماً أن الأرياح جاءت في شعر بعض فصحاء العرب الذين يستشهد بكلامهم ، كأنهم بنوه على المفرد ، وإن كانت علة القلب مفقودة في الجمع ، كما قالوا : عيد وأعياد ، وإنما ذلك من العود ، لكنه لما لزم البدل جعله كالحرف الأصلي . والسحاب : اسم جنس ، المفرد سحابة ، سمي بذلك لأنه ينسحب ، كما يقال له : حبي ، لأنه يحبو ، قاله أبو علي . التسخير : هو التذليل وجعل الشيء داخلاً تحت الطوع . قال الراغب : التسخير : القهر على الفعل ، وهو أبلغ من الإكراه . الحب : مصدر حب يحب ، وقياس مضارعه يحب بالضم ، لأنه من المضاعف المتعدي ، وقياس المصدر الحب بفتح الحاء ، ويقال : أحب ، بمعنى : حب ، وهو أكثر منه ، ومحبوب أكثر من محب ، ومحب أكثر من حاب ، وقد جاء جمع الحب لاختلاف أنواعه ، قال الشاعر : ثلاثة أحباب فحب علاقة
وحب تملاق وحب هو القتل
والحب : إناء يجعل فيه الماء . الجميع : فعيل من الجمع ، وكأنه اسم جمع ، فلذلك يتبع تارة بالمفرد : ) نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ( ، وتارة بالجمع : ) جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( ، وينتصب حالاً : جاء زيد وعمرو جميعاً ، ويؤكد به بمعنى كلهم : جاء القوم جميعهم ، أي كلهم ، ولا يدل على الاجتماع في الزمان ، إنما يدل على الشموال في نسبة الفعل . تبرأ : تفعل ، من قولهم : برئت من الدين . براءة : وهو الخلوص والانفصال والبعد . تقطع : تفعل من القطع ، وهو معروف . الأسباب : جمع سبب ، وهو الوصلة إلى الموضع ، والحاجة من باب ، أو مودة ، أو غير ذلك . قيل : وقد تطلق الأسباب على الحوادث ، قال الشاعر : ومن هاب أسباب المنية يلقها
ولو رام أسباب السماء بسلم
وأصل السبب : الحبل ، وقيل : الذي يصعد به ، وقيل : الرابط الموصل . الكرّة : العودة إلى الحالة التي كان فيها ، والفعل كريكر كراً ، قال الشاعر :

" صفحة رقم 631 "
أكر على الكتيبة لا أبالي
أحتفي كان فيها أم سواها
الحسرة : شدة الندم ، وهو تألم القلب بانحساره عن مأموله . .
( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ( ، سبب النزول : أن الأنصار كانوا يحجون لمناة ، وكانت مناة خزفاً وحديداً ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، فلما جاء الإسلام سألوا ، فأنزلت . وخرّج هذا السبب في الصحيحين وغيرهما . وقد ذكر في التحرّج عن الطواف بينهما أقوال . مناسبة هذه الآية لما قبلها : أن الله تعالى لما أثنى على الصابرين ، وكان الحج من الأعمال الشاقة المفنية للمال والبدن وكان أحد أركان الإسلام ، ناسب ذكره بعد ذلك . والصفا والمروة ، كما ذكرنا ، قيل : علمان لهذين الجبلين ، والأعلام لا يلحظ فيها تذكير اللفظ ولا تأنيثه . ألا ترى إلى قولهم : طلحة وهند ؟ وقد نقلوا أن قوماً قالوا : ذكّر الصفا ، لأن آدم وقف عليه ، وأنثت المروة ، لأن حوّاء وقفت عليها . وقال الشعبي : كان على الصفا صنم يدعى إسافا ، وعلى المروة صنم يدعى نائلة ، فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث ، وقدم المذكر . نقل القولين ابن عطية : ولولا أن ذلك دوّن في كتاب ما ذكرته . ولبعض الصوفية وبعض أهل البيت كلام منقول عنهم في الصفا والمروة ، رغبنا عن ذكره . وليس الجبلان لذاتهما من شعائر الله ، بل ذلك على حذف مضاف ، أي إن طواف الصفا والمروة ، ومعنى من شعائر الله : معالمه . وإذا قلنا : معنى من شعائر الله من مواضع عبادته ، فلا يحتاج إلى حذف مضاف في الأول ، بل يكون ذلك في الجر . ولما كان الطواف بينهما ليس عبادة مستقلة ، إنما يكون عبادة إذا كان بعض حج أو عمرة . بين تعالى ذلك بقوله : ) فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ( ، ومن شرطية . ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ( ، قرأ الجمهور : أن يطوّف . وقرأ أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر : أن لا ، وكذلك هي في مصحف أبي وعبد الله ، وخرج ذلك على زيادة لا ، نحو : ) مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ ( ؟ وقوله : وما ألوم البيض أن لا تسخرا
إذا رأين الشمط القفندرا
فتتحد معنى القراءتين ، ولا يلزم ذلك ، لأن رفع الجناح في فعل الشيء هو رفع في تركه ، إذ هو تخيير بين الفعل والترك ، نحو قوله تعالى : ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ). فعلى هذا تكون لا على بابها للنفي ، وتكون قراءة الجمهور فيها رفع الجناح في فعل الطواف نصاً ، وفي هذه رفع الجناح في الترك نصاً ، وكلتا القراءتين تدل على التخيير بين الفعل والترك ، فليس الطواف بهما واجباً ، وهو مروي عن ابن عباس ، وأنس ، وابن الزبير ، وعطاء ، ومجاهد ، وأحمد بن حنبل ، فيما نقل عنه أبو طالب ، وأنه لا شيء على من تركه ، عمداً كان أو سهواً ، ولا ينبغي أن يتركه . ومن ذهب إلى أنه ركن ، كالشافعي وأحمد ومالك ، في مشهور مذهبه ، أو واجب يجبر بالدم ، كالثوري وأبي حنيفة ، أو إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم ، أو ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين ، كأبي حنيفة في بعض الرّوايات ، يحتاج إلى نص جلي ينسخ هذا النص القرآني . وقول عائشة لعروة حين قال لها : أرأيت قول الله : ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ( ، فما نرى على أحد شيئاً ؟ فقالت : يا عرية ، كلا ، لو كان كذلك لقال : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما . كلام لا يخرج اللفظ عما دل عليه من رفع الإثم عمن طاف بهما ، ولا يدل ذلك على وجوب الطواف ، لأن مدلول اللفظ إباحة الفعل ، وإذا كان مباحاً كنت مخيراً بين فعله وتركه . وظاهر هذا الطواف أن يكون بالصفا والمروة ، فمن سعى بينهما من غير صعود عليهما ، لم يعد طائفاً . ودلت الآية على مطلق الطواف ، لا على كيفية ، ولا عدد . واتفق علماء الأمصار على أن الرّمل في السعي سنة . وروى عطاء ، عن ابن عباس : من شاء سعى بمسيل مكة ، ومن شاء لم يسع ، وإنما يعني الرمل في بطن الوادي . وكان عمر يمشي بين الصفا والمروة وقال : إن مشيت ، فقد رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يمشي ، وإن سعيت ، فقد رأيت

" صفحة رقم 632 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يسعى . وسعى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بينهما ليرى المشركين قوته . فيحتمل أن يزول الحكم بزوال سببه ، ويحتمل مشروعيته دائماً ، وإن زال السبب ، والركوب في السعي بينهما مكروه عند أبي حنيفة وأصحابه ، ولا يجوز عند مالك الركوب في السعي ، ولا في الطواف بالبيت ، إلا من عذر ، وعليه إذ ذاك دم . وإن طاف راكباً بغير عذر ، أعاد إن كان بحضرة البيت ، وإلا أهدى . وشكت أم سلمة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال : ( طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ) . ولم يجىء في هذا الحديث أنه أمرها بدم . وفرق بعض أهل العلم فقال : إن طاف على ظهر بعير أجزاه ، أو على ظهر إنسان لم يجزه . وكون الضمير مثنى في قوله : بهما ، لا يدل على البداءة بالصفا ، بل الظاهر أنه لو بدأ بالمروة في السعي أجزأه ، ومشروعية السعي ، على قول كافة العلماء ، البداءة بالصفا . فإن بدأ بالمروة ، فمذهب مالك ، ومشهور مذهب أبي حنيفة ، أنه يلغي ذلك الشوط ، فإن لم يفعل ، لم يجزه . وروي عن أبي حنيفة أيضاً : إن لم يلغه ، فلا شيء عليه ، نزله بمنزلة الترتيب في أعضاء الوضوء . وقرأ الجمهور : يطوف وأصله يتطوّف ، وفي الماضي كان أصله تطوف ، ثم أدغم التاء في الطاء ، فاحتاج إلى اجتلاب همزة الوصل ، لأن المدغم في الشيء لا بدّ من تسكينه ، فصار أطوف ، وجاء مضارعه يطوف ، فانحذفت همزة الوصل لتحصين الحرف المدغم بحرف المضارعة . وقرأ أبو حمزة : أن يطوف بهما ، من طاف يطوف ، وهي قراءة ظاهرة . وقرى ابن عباس وأبو السمال : يطاف بهما ، وأصله : يطتوف ، يفتعل ، وماضيه : اطتوف افتعل ، تحركت الواو ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفاً ، وأدغمت الطاء في التاء بعد قلب التاء طاء ، كما قلبوا في اطلب ، فهو مطلب ، فصار : أطاف ، وجاء مضارعه : يطاف ، كما جاء يطلب : ومصدر اطوف : اطوّفا ، ومصدر اطاف : اطيافاً ، عادت الواو إلى أصلها ، لأن موجب إعلالها قد زال ، ثم قلبت ياء لكسرة ما قبلها ، كما قالوا : اعتدا اعتياداً ، وأن يطوف أصله ، في أن يطوف ، أي لا إثم عليه في الطواف بهما ، فحذف الحرف مع أن ، وحذفه قياس معها إذا لم يلبس ، وفيه الخلاف السابق ، أموضعها بعد الحذف جر أم نصب ؟ وجوّز بعض من لا يحسن علم النحو أن يكون : أن يطوّف ، في موضع رفع ، على أن يكون خبراً أيضاً ، قال التقدير : فلا جناح الطواف بهما ، وأن يكون في موضع نصب على الحال ، والتقدير : فلا جناح عليه في حال تطوّفه بهما ، قال : والعامل في الحال العامل في الجر ، وهي حال من الهاء في عليه . وهذان القولان ساقطان ، ولولا تسطيرهما في بعض كتب التفسير لما ذكرتهما .
( وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا ( : التطوّع : ما تترغب به من ذات نفسك مما لا يجب عليك . ألا ترى إلى قوله في حديث ضمام : هل عيّ غيرها ؟ قال : لا ، إلا أن تطوّع ، أي تتبرّع . هذا هو الظاهر ، فيكون المراد التبرع بأي فعل طاعة كان ، وهو قول الحسن ؛ أو بالنفل على واجب الطواف ، قاله مجاهد ، أو بالعمرة ، قاله ابن زيد ؛ أو بالحج والعمرة بعد قضاء الواجب عليه ، أو بالسعي بين الصفا والمروة ، وهذا قول من أسقط وجوب السعي ، لما فهم الإباحة في التطوف بهما من قوله : ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ( ، حمل هذا على الطواف بهما ، كأنه قيل : ومن تبرع بالطواف بينهما ، أو بالسعي في الحجة الثانية التي هي غير واجبة ، أقوال ستة . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : تطوّع فعلاً ماضياً هنا ، وفي قوله : ) فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ( ، فيحتمل من أن يكون بمعنى الذي ، ويحتمل أن تكون شرطية . وقرأ حمزة ، والكسائي : يطوّع مضارعاً مجزوماً بمن الشرطية ، وافقهما زيد ورويس في الأول منهما ، وانتصاب خيراً على المفعول بعد إسقاط حرف الجر ، أي بخير ، وهي قراءة ابن مسعود ، قرأ : يتطوّع بخير . ويطوّع أصله : يتطوّع ، كقراءة عبد الله ، فأدغم . وأجازوا جعل خيراً نعتاً لمصدر محذوف ، أي ومن يتطوع تطوعاً خيراً .
( فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ( : هذه الجملة جواب الشرط . وإذا كانت من موصولة

" صفحة رقم 633 "
في احتمال أحد وجهي من في قراءة من قرأ تطوّع فعلاً ماضياً ، فهي جملة في موضع خبر المبتدأ ، لأن تطوّع إذ ذاك تكون صلة . وشكر الله العبد بأحد معنيين : إما بالثواب ، وإما بالثناء . وعلمه هنا هو علمه بقدر الجزاء الذي للعبد على فعل الطاعة ، أو بنيته وإخلاصه في العمل . وقد وقعت الصفتان هنا الموقع الحسن ، لأن التطوّع بالخير يتضمن الفعل والقصد ، فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل ، وذكر العلم باعتبار القصد ، وأخرت صفة العلم ، وإن كانت متقدمة ، على الشكر ، كما أن النية مقدمة على الفعل لتواخي رؤوس الآي .
البقرة : ( 159 ) إن الذين يكتمون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ( : الآية نزلت في أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وذكر ابن عباس : أن معاذاً سأل اليهود عما في التوراة من ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فكتموه إياه ، فأنزل الله هذه الآية . والكاتمون هم أحبار اليهود وعلماء النصارى ، وعليه أكثر المفسرين وأحبار اليهود كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وابن صوريا ، وزيد بن التابوه . ما أنزلنا : فيه خروج من ظاهر إلى ضمير متكلم . والبينات : هي الحجج الدالة على نبوّته ( صلى الله عليه وسلم ) ) . والهدى : الأمر باتباعه ، أو البينات والهدى واحد ، والجمع بينهما توكيد ، وهو ما أبان عن نبوّته وهدى إلى اتباعه . أو البينات : الرجم والحدود وسائر الأحكام ، والهدى : أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ونعته واتباعه . وتتعلق من بمحذوف ، لأنه في موضع الحال أي كائناً من البينات والهدى .
( مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ( : الضمير المنصوب في بيناه عائد على الموصول الذي هو ما أنزلنا ، وضمير الصلة محذوف ، أي ما أنزلناه . وقرأ الجمهور : بيناه مطابقة لقوله : أنزلنا . وقرأ طلحة بن مصرّف : بينه : جعله ضمير مفرد غائب ، وهو التفات من ضمير متكلم إلى ضمير غائب . والناس هنا : أهل الكتاب ، والكتاب التوراة والإِنجيل ، وقيل : الناس أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والكتاب : القرآن . والأولى والأظهر : عموم الآية في الكاتمين ، وفي الناس ، وفي الكتاب ؛ وإن نزلت على سبب خاص ، فهي تتناول كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه ونشره ، وذلك مفسر في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ) ، وذلك إذا كان لا يخاف على نفسه في بثه . وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم ، وهم العرب الفصح المرجوع إليهم في فهم القرآن . كما روي عن عثمان وأبي هريرة وغيرهما : لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم . وقد امتنع أبو هريرة من تحديثه ببعض ما يخاف منه فقال : لو بثثته لقطع هذا البلعوم . وظاهر الآية استحقاق اللعنة على من كتم ما أنزل الله ، وإن لم يسأل عنه ، بل يجب التعليم والتبيين ، وإن لم يسألوا ، ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ). وقال الإمام أبو محمد عليّ بن أحمد بن حزم القرطبي ، فيما سمع منه أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي الحافظ : الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ويقرئه بقدر طاقته ويحققه ما أمكنه ، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طرق المارة ويدعو إليه في شارع السابلة وينادي عليه في مجامع السيارة ، بل لو تيسر له أن يهب المهال لطلابه ويجري الأجور لمقتبسيه ويعظم الأجعال للباحثين عنه ويسني مراتب أهله صابراً في ذلك على المشقة والأذى ، لكان ذلك حظاً جزيلاً وعملاً جيداً وسعداً كريماً وأحياءً للعلم ، وإلا فقد درس وطمس ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام دائرة . انتهى كلامه .
( أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ( : هذه الجملة خبر إن . واستحقوا هذا الأمر الفظيع من لعنة الله ولعنة اللاعنين على هذا الذنب العظيم ، وهو كتمان ما أنزل الله تعالى ، وقد بينه وأوضحه للناس بحيث لا يقع فيه لبس ، فعمدوا إلى هذا الواضح البين فكتموه ، فاستحقوا بذلك هذا العقاب . وجاء بأولئك اسم الإشارة البعيد ، تنبيهاً على ذلك الوصف القبيح ، وأبرز

" صفحة رقم 634 "
الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً ، وأتى بالفعل المضارع المقتضي التجدد لتجدد مقتضيه ، وهو قوله تعالى : ) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ). ولذلك أتى صلة الذين فعلاً مضارعاً ليدل أيضاً على التجدد ، لأن بقاءهم على الكتمان هو تجدد كتمان . وجاء بالجملة المسند فيها الفعل إلى الله ، لأنه هو المجازي على ما اجترحوه من الذنب . وجاءت الجملة الثانية ، لأن لعنة اللاعنين مترتبة على لعنة الله للكاتمين . وأبرز اسم الجلالة بلفظ الله على سبيل الالتفات ، إذ لو جرى على نسق الكلام السابق ، لكان أولئك يلعنهم ، لكن في إظهار هذا الاسم من الفخامة ما لا يكون في الضمير . واللاعنون : كل من يتأتى منهم اللعن ، وهم الملائكة ومؤمنو الثقلين ، قاله الربيع بن أنس ؛ أو كل شيء من حيوان وجماد غير الثقلين ، قاله ابن عباس والبرّاء بن عازب ، إذا وضع في قبره وعذب فصاح ، إذ يسمعه كل شيء إلا الثقلين ؛ أو البهائم والحشرات ، قاله مجاهد وعكرمة ، وذلك لما يصيبهم من الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين ، أو الطاردون لهم إلى النار حين يسوقونهم إليها ، لأن اللعن هو الطرد ؛ أو الملائكة ؛ قاله قتادة ؛ أو المتلاعنون ، إذا لم يستحق أحد منهم اللعن انصرف إلى اليهود ، قاله ابن مسعود ؛ والأظهر القول الأول . ومن أطلق اللاعنون على ما لا يعقل أجراه مجرى ما يعقل ، إذ صدرت منه اللعنة ، وهي من فعل من يعقل ، وذلك لجمعه بالواو والنون . وفي قوله : ) وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ( ، ضرب من البديع ، وهو التجنيس المغاير ، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً .
البقرة : ( 160 ) إلا الذين تابوا . . . . .
( إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ( : هذا استثناء متصل ، ومعنى تابوا عن الكفر إلى الإسلام ، أو عن الكتمان ءلى الإظهار . ) وَأَصْلَحُواْ ( ما أفسدوا من قلوبهم بمخالطة الكفر لها ، أو ما أفسدوا من أحوالهم مع الله ، أو أصلحوا قومهم بالإِرشاد إلى الإِسلام بعد الإضلال . ) وَبَيَّنُواْ ( : أي الحق الذي كتموه ، أو صدق توبتهم بكسر الخمر وإراقتها ، أو ما في التوراة والإِنجيل من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو اعترفوا بتلبيسهم وزورهم ، أو ما أحدثوا من توبتهم ، ليمحوا سيئة الكفر عنهم ويعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به ، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين . ) فَأُوْلَئِكَ ( : إشارة إلى من جمع هذه الأوصاف من التوبة والإصلاح والتبيين . ) أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ( : أي أعطف عليهم ، ومن تاب الله عليه لا تلحقه لعنة . ) وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( : تقدم الكلام في هاتين الصفتين ، وختم بهما ترغيباً في التوبة وإشعاراً بأن هاتين الصفتين هما له ، فمن رجع إليه عطف عليه ورحمه .
وذكروا في هذه الآية من الأحكام جملة ، منها أن كتمان العلم حرام ، يعنون علم الشريعة لقوله : ) مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ( ، وبشرط أن يكون المعلم لا يخشى على نفسه ، وأن يكون تعيناً لذلك . فإن لم يكن من أمور الشرائع ، فلا تحرج في كتمها . روي عن عبد الله أنه قال : ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة . وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( حدث الناس بما يفهمون ) . أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ قلوا : والمنصوص عليه من الشرائع والمستنبط منه في الحكم سواء ، وإن خشي على نفسه فلا يحرج عليه ، كما فعل أبو هريرة ، وإن لم يتعين عليه فكذلك ، ما لم يسأل فيتعين عليه ، ومنها : تحريم الأجرة على تعليم العلم ، وقد أجازه بعض العلماء . ومنها : أن الكافر لا يجوز تعليمه القرآن حتى يسلم ، ولا تعليم الخصم حجة على خصمه ليقطع بها ماله ، ولا السلطان تأويلاً يتطرّف به إلى مكاره الرعية ، ولا تعليم الرخص إذا علم أنها تجعل طريقاً إلى ارتكاب المحظورات وترك الواجبات . ومنها : وجوب قبول خبر الواحد ، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب عليهم قبول قوله ، لأن قوله من البينات والهدى يعم المنصوص والمستنبط وجواز لعن من مات كافراً ، وقال بعض السلف : لا فائدة في لعن من مات أو جنّ من الكفار ، وجمهور العلماء على جواز لعن الكفار جملة من غير تعيين . وقال بعضهم بوجوبها ، وأما الكافر المعين فجمهور العلماء على أنه لا يجوز لعنه . وقد لعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قوماً بأعيانهم . وقال ابن العربي : الصحيح عندي جواز لعنه . وذكر ابن العربي الاتفاق على أنه لا يجوز لعن العاصي والمتجاهر بالكبائر من

" صفحة رقم 635 "
المسلمين . وذكر بعض العلماء فيه خلافاً ، وبعضهم تفصيلاً . فأجازه قبل إقامة الحدّ عليه . ومنها : أن التوبة المعتبرة شرعاً أن يظهر التائب خلاف ما كان عليه في الأول ، فإن كان مرتداً ، فالبرجوع إلى الإسلام وإظهار شرائعه ، أو عاصياً ، فبالرجوع إلى العمل الصالح ومجانبة أهل الفساد . وأما التوبة باللسان فقط ، أو عن ذنب واحد ، فليس ذلك بتوبة . وقد تقدم الكلام في التوبة مشبعاً .
البقرة : ( 161 ) إن الذين كفروا . . . . .
( إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ ( : لما ذكر حال من كتم العلم وحال من تاب ، ذكر حال من مات مصراً على الكفر ، وبالغ في اللعنة ، بأن جعلها مستعلية عليه ، وقد تجللته وغشيته ، فهو تحتها ، وهي عامة في كل من كان كذلك . وقال أبو مسلم : هي مختصة بالذين يكتمون ما أنزل الله في الآية قبل ، وذلك أنه ذكر حال الكاتمين ، ثم ذكر حال التائبين ، ثم ذكر حال من مات من غير توبة منهم . ولأنه لما ذكر أن الكاتمين ملعونون في الدنيا حال الحياة ، ذكر أنهم ملعونون أيضاً بعد الممات . والجملة من قوله : ) وَهُمْ كُفَّارٌ ( ، جملة حالية ، وواو الحال في مثل هذه الجملة إثباتها أفصح من حذفها ، خلافاً لمن جعل حذفها شاذاً ، وهو الفراء ، وتبعه الزمخشري ، وبيان ذلك في علم النحو . والجملة من قوله : ) عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ ( خبر إن ، ولعنة الله مبتدأ ، خبره عليهم . والجملة من قوله : ) عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ ( خبر عن أولئك . والأحسن أن يكون لعنة فاعلاً بالمجرور قبله ، لأنه قد اعتمد بكونه لذي خبر ، فيرع ما بعده على الفاعلية ، فتكون قد أخبرت عن أولئك بمفرد ، بخلاف الإعراب الأول ، فإنك أخبرت عنه بجمل .
وقرأ الجمهور : ) وَالْمَلئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( ، بالجر عطفاً على اسم الله . وقرأ الحسن : والملائكة والناس أجمعون ، بالرفع . وخرج هذه القراءة جميع من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه معطوف على موضع اسم الله ، لأنه عندهم في موضع رفع على المصدر ، وقدروه : أن لعنهم الله ، أو : أن يلعنهم الله . وهذا الذي جوزوه ليس بجائز على ما تقرر في العطف على الموضع ، من أن شرطه أن يكون ثم طالب ومحرز للموضع لا يتغير ، هذا إذا سلمنا أن لعنة هنا من المصادر التي تعمل ، وأنه ينحل لأن والفعل . والذي يظهر أن هذا المصدر لا ينحل لأن والفعل ، لأنه لا يراد به العلاج . وكان المعنى : أن عليهم اللعنة المستقرة من الله على الكفار ، أضيفت إلى الله على سبيل التخصيص ، لا على سبيل الحدوث . ونظير ذلك : ) أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( ، ليس المعنى إلا أن يلعن الله على الظالمين ، وقولهم له ذكاء الحكماء . ليس المعنى هنا على الحدوث وتقدير المصدرين منحلين لأن والفعل ، بل صار ذلك على معنى قولهم : له وجه وجه القمر ، وله شجاعة شجاعة الأسد ، فأضفت الشجاعة للتخصيص والتعريف ، لا على معنى أن يشجع اوسد . ولئن سلمنا أنه يتقدر هذا المصدر ، أعني لعنة الله بأن والفعل ، فهو كما ذكرناه لا محرز للموضع ، لأنه لا طالب له . ألا ترى أنك لو رفعت الفاعل بعد ذكر المصدر لم يجز حتى تنون المصدر ؟ فقد تغير المصدر بتنوينه ، ولذلك حمل سيبويه قولهم : هذا ضارب زيد غداً وعمراً ، على إضمار فعل : أي ويضرب عمراً ، ولم يجز حمله على موضع زيد لأنه لا محرز للموضع . ألا ترى أنك لو نصبت زيداً لقلت : هذا ضارب زيداً وتنون ؟ وهذا أيضاً على تسليم مجيء الفاعل مرفوعاً بعد المصدر المنون ، فهي مسألة خلاف . البصريون يجيزون ذلك فيقولون : عجبت من ضرب زيد عمراً . والفراء يقول : لا يجوز ذلك ، بل إذا نون المصدر لم يجيء بعده فاعل مرفوع . والصحيح مذهب الفراء ، وليس للبصريين حجة على إثبات دعواهم من السماع ، بل أثبتوا ذلك بالقياس على أن والفعل . فمنع هذا التوجيه الذي ذكروه ظاهر ، لأنا نقول : لا نسلم أنه مصدر ينحل ، لأن والفعل ، فيكون عاملاً . سلمنا ، لكن لا نسلم أن للمجرور بعده موضعاً . سلمنا ، لكن لا نسلم أنه يجوز العطف عليه . وتتخرج هذه القراءة على وجوه غير الوجه الذي ذكروه . أولاها : أنه على إضمار فعل لما لم يمكن العطف ، التقدير : وتلعنهم الملائكة ، كما خرج سيبويه في : هذا

" صفحة رقم 636 "
ضارب زيد وعمراً : أنه على إضمار فعل : ويضرب عمراً . الثاني : أنه معطوف على لعنة الله على حذف مضاف ، أي لعنة الله ولعنة الملائكة ، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه نحو : ) وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ ). الثالث : أن يكون مبتدأ حذف خبره لفهم المعنى ، أي والملائكة والناس أجمعون يلعنونهم . وظاهر قوله : والناس أجمعين العموم ، فقيل ذلك يكون في القيامة ، إذ يلعن بعضهم بعضاً ، ويلعنهم الله والملائكة والمؤمنون ، فصار عاماً ، وبه قال أبو العالية . وقيل : أراد بالناس من يعتد بلعنته ، وهم المؤمنون خاصة ، وبه قال ابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، ومقاتل . وقيل : الكافرون يلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون ، فيقولون : في الدنيا لعن الله الكافر ، فيتأتى العموم بهذا الاعتبار ، بدأ تعالى بنفسه ، وناهيك بذلك طرداً وإبعاداً . ) قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ( ؟ من لعنه الله ، فلعنة الله هي التي تجر لعنة الملائكة والناس . ألا ترى إلى قول بعض الصحابة : وما لي لا ألعن من لعنه الله على لسان رسوله ؟ وكما روي عن أحمد ، أن ابنه سأله : هل يلعن ؟ وذكر شخصاً معيناً . فقال لابنه : يا بني ، هل رأيتني ألعن شيئاً قط ؟ ثم قال : وما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه ؟ قال فقلت : يا أبت ، وأين لعنة الله ؟ قال : قال تعالى : ) أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ). ثم ثنى بالملائكة ، لما في النفوس من عظم شأنهم وعلو منزلتهم وطهارتهم . ثم ثلث بالناس ، لأنهم من جنسهم ، فهو شاق عليهم ، لأن مفاجأة المماثل من يدعي المماثلة بالمكروه أشق ، بخلاف صدور ذلك من الأعلى .
البقرة : ( 162 ) خالدين فيها لا . . . . .
( خَالِدِينَ فِيهَا ( : أي في اللعنة ، وهو الظاهر ، إذ لم يتقدم ما يعود عليها في اللفظ إلا اللعنة . وقيل : يعود على النار ، أضمرت لدلالة المعنى عليها ، ولكثرة ما جاء في القرآن من قوله : خالدين فيها ، وهو عائد على النار ، ولدلالة اللعنة على النار ، لأن كل من لعنة الله فهو في النار . ) لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ( : سبق الكلام على مثل هاتين الجملتين تلو قوله ) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا بِالاْخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ ( ، الآية ، فأغنى عن إعادته هنا . إلا أن الجملة من قوله : ) لاَ يُخَفَّفُ ( هي في موضع نصب من الضمير المستكن في خالدين ، أي غير مخفف عنهم العذاب . فهي حال متداخلة ، أي حال من حال ، لأن خالدين حال من الضمير في عليهم . ومن أجاز تعدي العامل إلى حالين لذي حال واحد ، أجاز أن تكون الجملة من قوله : ) لاَ يُخَفَّفُ ( ، حال من الضمير في عليهم ، ويجوز أن تكون : لا يخفف جملة استئنافية ، فلا موضع لها من الإعراب . وفي آخر الجملة الثانية ، هناك : ولا ينصرون ، نفى عنهم النصر ، وهنا : ولا هم ينظرون ، نفي الأنظار ، وهو تأخير العذاب .
البقرة : ( 163 ) وإلهكم إله واحد . . . . .
( وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ( الآية . روي عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش ، قالوا : يا محمد ، صف وانسب لنا ربك ، فنزلت سورة الإخلاص وهذه الآية . وروي عنه أيضاً أنه كان في الكعبة ، وقيل حولها ، ثلاثمائة وستون صنماً يعبدونها من دون الله ، فنزلت . وظاهر الخطاب أنه لجميع المخلوقات المتصور منهم العبادة ، فهو إعلام لهم بوحدانية الله تعالى . ويحتمل أن يكون خطاباً لمن قال : صف لنا ربك وانسبه ، أو خطاباً لمن يعبد مع الله غيره من صنم ووثن ونار . وإله : خبر عن إلهكم ، وواحد : صفته ، وهو الخبر في المعنى لجواز الاستغناء عن إله ، ومنع الاقتصار عليه ، فهو شبيه بالحال الموطئة ، كقولك : مررت بزيد رجلاً صالحاً . والواحد المراد به نفي النظير ، أو القديم الذي لم يكن معه في الأزل

" صفحة رقم 637 "
شيء ، أو الذي لا أبعاض له ولا أجزاء ، أو المتوحد في استحقاق العبادة . أقوال أربعة أظهرها الأول . تقول : فلان واحد في عصره ، أي لا نظير له ولا شبيه ، وليس المعنى هنا بواحد مبدأ العدد .
( لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( : توكيد لمعنى الوحدانية ونفي الإلهية عن غيره . وهي جملة جاءت لنفي كل فرد فرد من الآلهة ، ثم حصر ذلك المعنى فيه تبارك وتعالى ، فدلت الآية الأولى على نسبة الواحدية إليه تعالى ، ودلت الثانية على حصر الإلهية فيه من اللفظ الناص على ذلك ، وإن كانت الآية الأولى تستلزم ذلك ، لأن من ثبتت له الواحدية ثبتت له الإلهية . وتقدم الكلام على إعراب الإسم بعد لا في قوله : ) لاَ رَيْبَ فِيهِ ( ، والخبر محذوف ، وهو بدل من اسم لا على الموضع ، ولا يجوز أن يكون خبراً . كما جاز ذلك في قولك : زيد ما العالم إلا هو ، لأن لا لا تعمل في المعارف ، هذا إذا فرعنا على أن الخبر بعد لا التي يبني الإسم معها هو مرفوع بها ، وأما إذا فرعنا على أن الخبر ليس مرفوعاً بها ، بل هو خبر المبتدأ الذي هو لا مع المبني معها ، وهو مذهب سيبويه ، فلا يجوز أيضاً ، لأنه يلزم من ذلك جعل المبتدأ نكرة ، والخبر معرفة ، وهو عكس ما استقر في اللسان العربي . وتقرير البدل فيه أيضاً مشكل على قولهم : إنه بدل من إله ، لأنه لا يمكن أن يكون على تقدير تكرار العامل ، لا تقول : لا رجل إلا زيد . والذي يظهر لي فيه أنه ليس بدلاً من إله ولا من رجل في قولك : لا رجل إلا زيد ، إنما هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف ، فإذا قلنا : لا رجل إلا زيد ، فالتقدير : لا رجل كائن أو موجود إلا زيد . كما تقول : ما أحد يقوم إلا زيد ، فزيد بدل من الضمير في يقوم لا من أحد ، وعلى هذا يتمشى ما ورد من هذا الباب ، فليس بدلاً على موضع اسم لا ، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع ، ذلك الضمير هو عائد على اسم لا . ولولا تصريح النحويين أنه يدل على الموضع من اسم لا ، لتأوّلنا كلامهم على أنهم يريدون بقولهم بدل من اسم لا ، أي من الضمير العائد على اسم لا . قال بعضهم : وقد ذكر أن هو بدل من إله على المحل ، قال : ولا يجوز فيه النصب هاهنا ، لأن الرفع يدل على الاعتماد على الثاني ، والمعنى في الآية على ذلك ، والنصب على أن الاعتماد على الأول . انتهى كلامه . ولا فرق في المعنى بين : ما قام القوم إلا زيد ، وإلا زيداً ، من حيث أن زيداً مستثنى من جهة المعنى . إلا أنهم فرقوا من حيث الإعراب ، فأعربوا ما كان تابعاً لما قبله بدلاً ، وأعربوا هذا منصوباً على الاستثناء ، غير أن الإتباع أولى للمشاكلة اللفظية ، والنصب جائز ، ولا نعلم في ذلك خلافاً .
وقال في المنتخب : لما قال تعالى : ) وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ( ، أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول : هب أن إلهنا واحد ، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا ، فلا جرم . أزال ذلك الوهم ببيان التوحيد المطلق فقال : لا إلاه إلا هو . فقوله : لا إلاه يقتضي النفي العام الشامل ، فإذا قال بعده : إلا الله ، أفاد التوحيد التامّ المطلق المحقق . ولا يجوز أن يكون في الكلام حذف ، كما يقوله النحويون ، والتقدير : لا إلاه لنا ، أو في الوجود ، إلا الله ، لأن هذا غير مطابق للتوحيد الحق ، لأنه إن كان المحذوف لنا ، كان توحيداً لإلهنا لا توحيداً للإله المطلق ، فحينئذ لا يبقى بين قوله : ) وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ( ، وبين قوله : ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فِرْقٍ ( ، فيكون ذلك تكراراً محضاً ، وأنه غير جائز . وأما إن كان المحذوف في الوجود ، كان هذا نفياً لوجود الإله الثاني . أما لو لم يضمر ، كان نفياً لماهية الإله الثاني ، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود ، فكان إجراء الكلام على ظاهره ، والإعراض عن هذا الإضمار أولى ، وإنما قدم النفي على الإثبات ، لغرض إثبات التوحيد ، ونفي الشركاء والأنداد . انتهى الكلام .
قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ( ريّ الظمآن ) : هذا كلام من لا يعرف لسان العرب . فإن لا إله في موضع المبتدأ ، على قول سيبويه ، وعند غيره اسم لا ، وعلى التقديرين ، لا بد من خبر للمبتدأ ، أو للا ، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد . وأما قوله : إذا لم يضمر كان نفياً للماهية ، قلنا : نفي الماهية هو نفي الوجود ، لأن نفي الماهية لا يتصوّر عندنا إلا مع الوجود ، فلا فرق عنده بين لا ماهية ولا وجود ، وهذا مذهب أهل السنة ، خلافاً للمعتزلة ، فإنهم يثبتون الماهية عرية عن الوجود ، والدليل يأبى ذلك . انتهى كلامه ، وما قاله من تقدير خبر لا بد منه ، لأن قوله : لا إله ، كلام ، فمن حيث هو كلام ، لا بد فيه من مسنده ومسند إله . فالمسند إليه هو إله ، والمسند هو الكون

" صفحة رقم 638 "
المطلق ، ولذلك ساغ حذفه ، كما ساغ بعد قولهم : لولا زيد لأكرمتك ، إذ تقديره : لولا زيد موجود ، لأنها جملة تعليقية ، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك ، فلا بد فيها من مسند ومسند إليه ، ولذلك نقلوا أن الخبر بعد لا ، إذا علم ، كثر حذفه عند الحجازيين ، ووجب حذفه عند التميميين . وإذا كان الخبر . كوناً مطلقاً ، كان معلوماً ، لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم ، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود ، لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها ، بخلاف الكون المقيد ، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه ، فلذلك لا يجوز حذفه نحو : لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد ، إلا أن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم ، فيجوز حذفه .
( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( : ذكر هاتين الصفتين منبهاً بهما على استحقاق العبادة له ، لأن من ابتدأك بالرحمة إنشاء بشراً سوياً عاقلاً وتربية في دار الدنيا موعوداً الوعد الصدق بحسن العاقبة في الآخرة ، جدير بعبادتك له والوقوف عند أمره ونهيه ، وأطمعك بهاتين الصفتين في سعة رحمته . وجاءت هذه الآية عقيب آية مختومة باللعنة والعذاب لمن مات غير موحد له تعالى ، إذ غالب القرآن أنه إذا ذكرت آية عذاب ، ذكرت آية رحمة ، وإذا ذكرت آية رحمة ، ذكرت آية عذاب . وتقدم شرح هاتين الصفتين ، فأغنى عن إعادته . ويجوز ارتفاع الرحمن على البدل من هو ، وعلى إضمار مبتدأ محذوف ، أي هو الرحمن الرحيم ، وعلى أن يكون خبراً بعد خبر لقوله : وإلهكم ، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار : إله واحد خبر ، ولا إله إلا هو خبر ثان ، والرحمن الرحيم خبر ثالث . ولا يجوز أن يكون خبراً لهو هذه المذكورة لأن المستثنى هنا ليس بجملة ، بخلاف قولك : ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد . قالوا : ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو ، لأن المضمر لا يوصف . انتهى . وهو جائز على مذهب الكسائي ، إذا كانت الصفة للمدح ، وكان الضمير الغائب . وأهمل ابن مالك القيد الأول ، فأطلق عن الكسائي أنه يجيز وصف الضمير الغائب . روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( إن هاتين الآيتين اسم الله الأعظم ، وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) .
البقرة : ( 164 ) إن في خلق . . . . .
( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : روي أنه لما نزل ) وَإِلَاهُكُمْ ( الآية ، قالت كفار قريش : كيف يسع الناس إله واحد ؟ فنزل : ) إِنَّ فِي خَلْقِ ). ولما تقدم وصفه تعالى بالوحدانية واختصاصه بالإلهية ، استدل بهذا الخلق الغريب والبناء العجيب استدلالاً بالأثر على المؤثر ، وبالصنعة على الصانع ، وعرفهم طريق النظر ، وفيم ينظرون . فبدأ أولاً بذكر العالم العلوي فقال : ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ ). وخلقها : إيجادها واختراعها ، أو خلقها وتركيب أجرامها وائتلاف أجزائها من قولهم : خلق فلان حسن : أي خلقته وشكله . وقيل : خلق هنا زائدة والتقدير : إن في السموات والأرض ، لأن الخلق إرادة تكوين الشيء . والآيات في المشاهد من السموات والأرض ، لا في الإرادة ، وهذا ضعيف ، لأن زيادة الأسماء لم تثبت في اللسان ، ولأن الخلق ليس هو الإرادة ، بل الخلق ناشىء عن الإرادة . قالوا : وجمع السموات لأنها أجناس ، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى ، ووحد الأرض لأنها كلها من تراب . وبدأ بذكر السماء لشرفها وعظم ما احتوت عليه من الأفلاك والأملاك والعرش والكرسي وغير ذلك ، وآياتها : ارتفاعها من غير عمد تحتها ، ولا علائق من فوقها ، ثم ما فيها من النيرين ، الشمس والقمر والنجوم السيارة والكواكب الزاهرة ، شارقة وغاربة ، نيرة وممحوّة ، وعظم أجرامها وارتفاعها ، حتى قال أرباب الهيئة : إن الشمس قدر الأرض مائة وأربع وستين مرّة ، وإن أصغر نجم في السماء قدر الأرض سبع مرّات ، وإن الأفلاك عظيمة الأجرام ، قد ذكر أرباب علم الهيئة مقاديرها ، وإنها سبعة أفلاك ، يجمعها الفلك المحيط . وقد صح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( أطت السماء وحق لها أن تئط ، ليس فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد ) . وصح أيضاً .
أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً ، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ) . وآية الأرض : بسطها ، لا دعامة من تحتها ولا علائق من فوقها ، وأنهارها ومياهها وجبالها ورواسيها وشجرها وسهلها ووعرها ومعادنها ، واختصاص كل موضع منها بما هيىء له ، ومنافع نباتها ومضارها . وذكر أرباب الهيئة أن الأرض نقطة في وسط الدائرة ليس لها جهة ، وأن البحار محيطة بها ، والهواء محيط بالماء ، والنار محيطة بالهواء ، والأفلاك وراء ذلك . وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه المعروف ( بالدقائق ) خلافاً عن الناس المتقدمين : هل الأرض واقفة أم متحركة ؟ وفي كل قول من

" صفحة رقم 639 "
هذين مذاهب كثيرة في السبب الموجب لوقوفها ، أو لتحركها . وكذلك تكلموا على جرم السموات ولونها وعظمها وأبراجها ، وذكر مذاهب للمنجمين والمانوية ، وتخاليط كثيرة . والذي تكلم عليه أهل الهيئة هو شيء استدلوا عليه بعقولهم ، وليس في الشرع شيء من ذلك . والمعتمد عليه أن هذه الأشياء لا يعلم حقيقة خلقها إلا الله تعالى ، ومن أطلعه الله على شيء منها بالوحي ) أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا ( ، ( وَأَحْصَى كُلَّ شَىْء عَدَداً ).
) وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( : اختلافهما بإقبال هذا وإدبار هذا ، أو اختلافهما بالأوصاف في النور والظلمة ، والطول والقصر ، أو تساويهما ، قاله ابن كيسان . وقدم الليل على النهار لسبقه في الخلق ، قال تعالى : ) وَءايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ). وقال قوم : إن النور سابق على الظلمة ، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في ليلة اليوم . فعلى القول الأول : تكون ليلة اليوم هي التي قبله ، وهو قول الجمهور ؛ وعلى القول الثاني : ليلة اليوم هي الليلة التي تليه ، وكذلك ينبني على اختلافهم في النهار ، اختلافهم في مسألة : لو حلف لا يكلم زيداً نهاراً .
( وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ ( : أول من عمل الفلك نوح ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، وقال له جبريل عليه السلام : ضعها على جؤجؤ الطائر . فالسفينة طائر مقلوب ، والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها ، قاله أبو بكر بن العربي . وآيتها تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ، ووقوفها فوقه مع ثقلها وتبليغها المقاصد . ولو رميت في البحر حصاة لغرقت . ووصفها بهذه الصفة من الجريان ، لأنها آيتها العظمى ، وجعل الصفة موصولاً ، صلته تجري : فعل مضارع يدل على تجدد ذلك الوصف لها في كل وقت يراد منها . وذكر مكان تلك الصفة على سبيل التوكيد ، إذ من المعلوم أنها لا تجري إلا في البحر . والألف واللام فيه للجنس ، وأسند الجريان للفلك على سبيل التوسع ، وكان لها من ذاتها صفة مقتضية للجري . ) بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ( : يحتمل أن تكون ما موصولة ، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس من أنواع المتاجر والبضائع المنقولة من بلد إلى بلد ، فتكون الباء للحال . ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي ينفع الناس في تجاراتهم وأسفارهم للغزو والحج وغيرهما ، فتكون الباء للسبب . واقتصر على ذكر النفع ، وإن كانت تجري بما يضر ، لأنه ذكرها في معرض الامتنان . .
( وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء ( : أي من جهة السماء . من الأولى لابتداء الغاية تتعلق ب أنزل ، وفي أنزل ضمير نصب عائد على ما ، أي والذي أنزله الله من السماء . ومن الثانية مع ما بعدها بدل من قوله : ) مّنَ السَّمَاء ( ، بدل اشتمال ، فهو على نية تكرار العامل ، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى ، أو للتبعيض ، وتتعلق ب إنزل . ولا يقال : كيف تتعلق ب إنزل من الأولى والثانية ، لأن معنييهما مختلفان . ) فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( : عطف على صلة ما ، الذي هو أنزل بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات ، وبه عائد على الموصول . وكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات ، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره . وهما كنايتان غريبتان ، لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذبة والنامية والمحركة ، وما لم يظهر فهو كامن فيها ، كأنه دفين فيها ، وله له قبر .
( وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ ( : إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين ، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول ، لأن الضمير في فيها عائد على الأرض وتقديره : وبث فيها من كل دابة . لكن حذف هذا الضمير ، إذا كان مجروراً بالحرف ، له شرط ، وهو أن يدخل على الموصول ، أو الموصوف بالموصول ، أو المضاف إلى الموصول حرف جر ، مثل ما دخل على الضمير لفظاً ومعنى ، وأن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظاً ومعنى ، وأن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول وجاره في موضع رفع ، وأن لا يكون محصوراً ، ولا في معنى المحصور ، وأن يكون متعيناً للربط . وهذا الشرط مفقود هنا . قال الزمخشري : فإن قلت قوله : ) وَبَثَّ فِيهَا ( ، عطف على أنزل أم أحيا ؟ قلت : الظاهر أنه عطف على أنزل

" صفحة رقم 640 "
داخل تحت حكم الصلة ، لأن قوله : ) فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ ( عطف على أنزل ، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد ، وكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة . ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة ، لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة . انتهى كلامه ، ولا طائل تحته . وكيفما قدّرت من تقدير يلزم أن يكون في قوله : ) وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ ( ضمير يعود على الموصول ، سواءأعطفته على أنزل ، أو على فأحيا ، لأن كلتا الجملتين في صلة الموصول . والذي يتخرّج على الآية ، أنها على حذف موصول لفهم المعنى معطوف على ما من قوله : ) وَمَا أَنَزلَ ( ، التقدير : وما بث فيها من كل دابة ، فيكون ذلك أعظم في الآيات ، لأن ما بث تعالى في الأرض من كل دابة فيه آيات عظيمة في أشكالها وصفاتها وأحوالها وانتقالاتها ومضارها ومنافعها وعجائبها ، وما أودع في كل شكل ، شكل منها من الأسرار العجيبة ولطائف الصنعة الغريبة ، وذلك من الفيل إلى الذرة ، وما وأجد تعالى في البحر من عجائب المخلوقات المباينة لأشكال البر . فمثل هذا ينبغي إفراده بالذكر ، لا أنه يجعل منسوقاً في ضمن شيء آخر وحذف الموصول الاسمي ، غير أن أل عند من يذهب إلى اسميتها لفهم المعنى جائز شائع في كلام العرب ، وإن كان البصريون لا يقيسونه ، فقد قاسه غيرهم ، قال بعض طي : ما الذي دأبه احتياط وحزم
وهواه أطاع مستويان
أي : والذي أطاع ، وقال حسان : أمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
أي : ومن يمدحه ، وقال آخر : فوالله ما نلتم وما نيل منكم
بمعتدل وفق ولا متقارب
يريد : ما الذي نلتم وما نيل منكم ، وقد حمل على حذف الموصول قوله تعالى : ) وَقُولُواْ ءامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ( ، أي والذي أنزل إليكم ليطابق قوله تعالى : ) وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ ). وقد يتمشى التقدير الأول على ارتكاب حذف الضمير لفهم المعنى ، وإن لم يوجد شرط جواز حذفه ، وقد جاء ذلك في أشعارهم ، قال : وإن لساني شهدة يشتفى بها
وهو على من صبه الله علقم

" صفحة رقم 641 "
يريد : من صبه الله عليه ، وقال : لعلّ الذي أصعدتني أن تردني
إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادر
يريد : أصعدتني به . فعلى هذا القول يكون ) مِن كُلّ دَابَّةٍ ( في موضع المفعول ، ومن تبعيضية . وعلى مذهب الأخفش ، يجوز أن تكون زائدة ، وكل دابة هو نفس المفعول ، وعلى حذف الموصول يكون مفعول بث محذوفاً ، أي : وبثه ، وتكون من حالية ، أي : كائناً من كل دابة ، فهي تبعيضية ، أو لبيان الجنس عند من يرى ذلك . ) وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ ( في هبوبها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً ، وفي أوصافها حارة وباردة ولينة وعاصفة وعقيماً ولواقح ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين . وقيل : تارة بالرحمة ، وتارة بالعذاب . وقيل : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما يحملها ، والصغار كذلك ، ويصرف عنها ما يضر بها ، ولا اعتبار بكبر القلوع ولا صغرها ، فإنها لو جاءت جسداً واحداً لصدمت القلوع وأغرقت .
وقد تكلموا في أنواع الريح واشتقاق أسمائها وفي طبائعها ، وفيما جاء فيها من الآثار ، وفيما قيل فيها من الشعر ، وليس ذلك من غرضنا . والريح جسم لطيف شفاف غير مرئي ، ومن آياته ما جعل الله فيه من القوة التي تقلع الأشجار وتعفي الآثار وتهدم الدياروتهلك الكفار ، وتربية الزرع وتنميته واشتداده بها ، وسوق السحاب إلى البلد الماحل . واختلف القراء في إفراد الرّيح وجمعه في أحد عشر موضعاً . هذا ، وفي الشريعة وفي الأعراف : ) يُرْسِلُ الرّيَاحَ ( ، و ) اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ( ، و ) أَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ ( ، و ) تَذْرُوهُ الرّياحُ ( ، وفي الفرقان : ) أَرْسَلَ الرّيَاحَ ( ، ( وَمَن يُرْسِلُ الرّيَاحَ ( ، وفي الروم : ) اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ ( ، وفي فاطر : ) أَرْسَلَ الرّيَاحَ ( ، وفي الشورى : ) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرّيَاحِ ). فأفرد حمزة إلا في الفرقان ، والكسائي إلا في الحجر ، وجمع نافع الجميع والعربيان إلافي إبراهيم والشورى ، وابن كثير في البقرة والحجر والكهف والشريعة فقط . وفي مصحف حفصة هنا وتصريف الأرواح . ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام . وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله : ) وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ ). وفي الحديث : ( اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً ) . قال ابن عطية : لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة منقطعة ، فلذلك هي رياح ، وهو معنى ينشر ، وأفردت مع الفلك ، لأن ريح أجزاء السفن إنما هي واحدة متصلة . ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب ، انتهى . ومن قرأ بالتوحيد ، فإنه يريد الجنس ، فهو كقراءة الجمع . والرياح في موضع رفع ، فيكون تصريف مصدراً مضافاً للفاعل ، أي وتصريف الرياح ، السحاب أو غيره مما لها فيه تأثير بإذن الله . ويحتمل أن يكون في موضع نصب ، فيكون المصدر في المعنى مضافاً إلى الفاعل ، وفي اللفظ مضافاً إلى المفعول ، أي وتصريف الله الرياح .
( وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ ( ، تسخيره : بعثه من مكان إلى مكان . وقيل : تسخيره : ثبوته بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه . ووصف السحاب هنا بالمسخر ، وهو مفرد لأنه اسم جنس ، وفيه لغتان : التذكير : كهذا وكقوله : ) أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ( ، والتأنيث على معنى تأنيث الجمع ، فتارة يوصف بما يوصف به الواحدة المؤنثة ، وتارة يوصف بما يوصف به الجمع كقوله تعالى : ) حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً ). قال كعب الأحبار : السحاب غربال المطر ، ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض . فقيل : السحاب يأخذ المطر من السماء ، وقيل : يغترفه من بحار الأرض ، وقيل : يخلقه الله فيه ، وللفلاسفة فيه أقوال . وجعل مسخراً باعتبار إمساكه الماء ، إذ الماء ثقيل ، فبقاؤه في جوّ الهواء هو على خلاف ما طبع عليه ، وتقديره بالمقدار المعلوم الذي فيه المصلحة ، يأتي به الله في وقت الحاجة ،

" صفحة رقم 642 "
ويرده عند زوال الحاجة ، أو سوقه بواسطة تحريك الريح إلى حيث أراد الله تعالى . وفي كل واحد من هذه الأوجه استدلال على الوحدانية .
( بَيْنَ السَّمَاء وَالارْضِ ( : انتصاب بين على الظرف ، والعامل فيه المسخر ، أي سخر بين كذا وكذا ، أو محذوف تقديره كائناً بين ، فيكون حالاً من الضمير المستكن في المسخر . ) لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( : دخلت اللام على اسم إن لحيلولة الخبر بينه وبينها ، إذ لو كان يليها ، ما جاز دخولها ، وهي لام التوكيد ، فصار في الجملة حرفا تأكيد : إن واللام . ولقوم : في موضع الصفة ، أي كائنة لقوم . والجملة صفة لقوم ، لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلاً ، فإنه يشاهد من هذه الآية ما يستدل به على وحدانية الله تعالى ، وانفراده بالإلهية ، وعظيم قدرته ، وباهر حكمته . وقد أثر في الأثر : ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها ، أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، هو أنه لما ذكر تعالى أنه واحد ، وأنه منفرد بالإلهية ، لم يكتف بالإخبار حتى أورد دلائل الاعتبار . ثم مع كونها دلائل ، بل هي نعم من الله على عباده ، فكانت أوضح لمن يتأمل وأبهر لمن يعقل ، إذ التنبيه على ما فيه النفع باعث على الفكر . لكن لا تنفع هذه الدلائل إلا عند من كان متمكناً من النظر والاستدلال بالعقل الموهوب من عند الملك الوهاب ، وهذه الأشياء التي ذكرها الله ثمانية ، وإن جعلنا : وبث فيها ، على حذف موصول ، كما قدرناه في أحد التخريجين ، كانت تسعة ، وهي باعتبار تصير إلى أربعة : خلق ، واختلاف ، وإنزال ماء ، وتصريف .
فبدأ أولاً بالخلق ، لأنه الآية العظمى والدلالة الكبرى على الإلهية ، إذ ذلك إبراز واختراع لموجود من العدم الصرف . ) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ( ؟ ) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ). ودليل الخلق على جميع الصفات الذاتية ، من واجبية الوجود والوحدة والحياة والعلم والقدرة والإرادة ، وقدّم السموات على الأرض لعظم خلقها ، أو لسبقه على خلق الأرض عند من يرى ذلك .
ثم أعقب ذكر خلق السموات والأرض باختلاف الليل والنهار ، وهو أمر ناشىء عن بعض الجواهر العلوية النيرة التي تضمنتها السموات . ثم أعقب ذلك بذكر الفلك ، وهو معطوف على الليل والنهار ، كأنه قال واختلاف الفلك ، أي ذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية ، وهو أمر ناشىء عن بعض الأجرام السفلية الجامدة التي تضمنتها الأرض .
ثم أعقب ذلك بأمور اشترك فيها العالم العلوي والعالم السفلي ، وهو إنزال الماء من السماء ، ونشر ما كان دفيناً في الأرض بالأحياء . وجاء هذا المشترك مقدماً فيه السبب على المسبب ، فلذلك أعقب بالفاء التي تدل على السبب عند بعضهم .
ثم ختم ذلك بما لا يتم ما تقدمه من ذكر جريان الفلك وإنزال الماء وإحياء الموات إلا به ، وهو تصريف الرياح والسحاب . وقدم الرياح على السحاب ، لتقدم ذكر الفلك ، وتأخر السحاب لتأخر إنزال الماء في الذكر على جريان الفلك .
فانظر إلى هذا الترتيب الغريب في الذكر ، حيث بدأ أولاً باختراع السموات والأرض ، ثم ثنى بذكر ما نشأ عن العالم العلوي ، ثم أتى ثالثاً بذكر ما نشأ عن العالم السفلي ، ثم أتى بالمشترك . ثم ختم ذلك بما لا تتم النعمة للإنسان إلا به ، وهو التصريف المشروح .
وهذه الآيات ذكرها تعالى على قسمين : قسم مدرك بالبصائر ، وقسم مدرك بالأبصار . فخلق السموات والأرض مدرك بالعقول ، وما بعد ذلك مشاهد للأبصار . والمشاهد بالأبصار انتسابه إلى واجب الوجود ، مستدل عليه بالعقول ، فلذلك قال تعالى : ) لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ، ولم يقل : لآيات لقوم يبصرون ، تغليباً لحكم العقل ، إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى .
البقرة : ( 165 ) ومن الناس من . . . . .
( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا ( : لما قرر تعالى التوحيد بالدلائل الباهرة ، أعقب ذلك بذكر من لم يوفق . واتخاذه الأنداد من دون الله ، ليظهر تفاوت ما بين المنهجين . والضد يظهر حسنه الضد ، وأنه مع وضوح هذه الآيات ، لم يشاهد هذا الضال شيئاً منها . ولفظ الناس عام ، والأحسن حمله على الطائفتين من أهل الكتاب وعبدة الأوثان . فالأنداد ، باعتبار أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأحبارهم ، اتبعوا ما رتبوه لهم من أمر ونهي ، وإن خالف أمر الله ونهيه . قال تعالى : ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ ). والأنداد ، باعتبار عبادة الأوثان هي الأصنام ، اتخذوها آلهة وعبدوها من دون الله . وقيل : المراد بالناس الخصوص . فقيل : أهل الكتاب . وقيل :

" صفحة رقم 643 "
عباد الأوثان ، والأولى القول الأول . ورجح كونهم أهل الكتاب بقوله : يحبونهم ، فأتى بضمير العقلاء ، وباستبعاد محبة الأصنام ، وبقوله : ) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ( ، والتبرؤ لا يناسب إلا العقلاء . ومن : مبتدأ موصول ، أو نكرة موصوفة ، وأفرد يتخذ حملاً على لفظ من ، ومن دون الله متعلق بيتخذ ، ودون هنا بمعنى غير ، وأصلها أن يكون ظرف مكان ، وهي نادرة التصرف إذ ذاك . قال ابن عطية : ومن دون : لفظ يعطي غيبة ما يضاف إليه دون عن القضية التي فيها الكلام ، وتفسير دون بسوى ، أو بغير ، لا يطرد . انتهى . تقول : فعلت هذا من دونك ، أي وأنت غائب . وتقول : اتخذت منك صديقاً ، واتخذت من دونك صديقاً . فالذي يفهم من هذا أنه اتخذ من شخص غيره صديقاً . وتقول : قام القوم دون زيد . فالذي يفهم من هذا : أن المعنى أن زيداً لم يقم ، فدلالتها دلالة غير في هذا . والذي ذكر النحويون ، هو ما ذكرت لك من كونها تكون ظرف مكان ، وأنها قليلة التصرف نادرته . وقد حكى سيبويه أيضاً أنها تكون بمعنى رديء ، تقول : هذا ثوب دون أي رديء ، فإذا كانت ظرفاً ، دلت على انحطاط المكان ، فتقول : قعد زيد دونك ، فالمعنى : قعد زيد مكاناً دون مكانك ، أي منحطاً عن مكانك . وكذلك إذا أردت بدون الظرفية المجازية تقول : زيد دون عمرو في الشرف ، تريد المكانة لا المكان . ووجه استعمالها بمعنى غير انتقالها عن الظرفية فيه خفاء ، ونحن نوضحه فنقول : إذا قلت : اتخذت من دونك صديقاً ، فأصله : اتخذت من جهة ومكان دون جهتك ومكانك صديقاً ، فهو ظرف مجازي . وإذا كان المكان المتخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطة عنه وهي دونه ، لزم أن يكون غيراً ، لأنه ليس إياه ، ثم حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه مع كونه غيراً ، فصارت دلالته دلالة غير بهذا الترتيب ، لا أنه موضوع في أصل اللغة لذلك . وانتصب أنداداً هنا على المفعول بيتخذ ، وهي هنا متعدية إلى واحد ، نحو قولك : اتخذت منك صديقاً ، وهي افتعل من الأخذ ، وقد تقدم الكلام على الند وعلى اتخذ ، فأغنى عن إعادته . قال ابن عباس والسّدي : الأنداد : الرؤساء المتبعون ، يطيعونهم في معاصي الله تعالى . وقال مجاهد وقتادة : الأنداد : الأوثان ، وجاء الضمير في يحبونهم ضمير من يعقل . وقد تقدّم لنا أن الأولى أن تكون الأنداد : المجموع من الأوثان والرؤساء ، وتكون الآية عامة . وجاء التغليب لمن يعقل في الضمير في : ) يُحِبُّونَهُمْ ( ، أي يعظمونهم ويخضعون لهم . والجملة من يحبونهم صفة للأنداد ، أو حال من الضمير المستكن في يتخذ ، ويجوز أن تكون صفة لمن ، إذا جعلتها نكرة موصوفة . وجاز ذلك ، لأن في يحبونهم ضمير أنداد ، أو ضمير من ، وأعاد الضمير على من جمعاً على المعنى ، إذ قد تقدم الجمل على اللفظ في يتخذ ، إذ أفرد الضمير ، وقد وقع الفصل بين الجملتين ، وهو شرط على مذهب الكوفيين .
( كَحُبّ اللَّهِ ( ، الكاف في موضع نصب ، إما على الحال من ضمير الحب المحذوف ، على رأي سيبويه ، أو على نه نعت لمصدر محذوف ، على رأي جمهور المعربين ، التقدير : على الأول يحبونهموه ، أي الحب مشبهاً حب الله ، وعلى الثاني تقديره : حباً مثل حب الله ، والمصدر مضاف للمفعول المنصوب ، والفاعل محذوف ، التقدير : كحبهم الله ، أو كحب المؤمنين الله ، والمعنى أنهم سوّوا بين الحبين ، حب الأنداد وحب الله . وقال ابن عطية : حب : مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ ، وهو على التقدير مضاف إلى الفاعل المضمر ، تقديره : كحبكم الله ، أو كحبهم ، حسبما قدر كل وجه منهما فرقة . انتهى كلامه . فقوله : مضاف إلى الفاعل المضمر ، لا يعني أن المصدر أضمر فيه الفاعل ، وإنما سماه مضمراً لما قدره كحبكم أو كحبهم ، فأبرزه مضمراً حين أظهر تقديره ، أو يعني بالمضمر المحذوف ، وهو موجود في اصطلاح النحويين ، أعني أن يسمى الحذف إضماراً . وإنما قلت ذلك ، لأن من النحويين من زعم أن الفاعل مع المصدر لا يحذف ، وإنما يكون مضمراً في المصدر . وردّ ذلك بأن المصدر هو اسم جنس ، كالزيت والقمح ، وأسماء الأجناس لا يضمر فيه . وقال الزمخشري : كحب الله : كتعظيم الله والخضوع له ، أي كما يحب الله ، على أنه مصدر

" صفحة رقم 644 "
من المبني للمفعول ، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه ، لأنه غير ملبس . وقيل : كحبهم الله ، أي يسوون بينه وبينه في محبتهم ، لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه ، ( فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ). انتهى كلامه . واختار كون المصدر مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهي مسألة خلاف . أيجوز أن يعتقد في المصدر أنه مبني للمفعول ؟ فيجوز : عجبت من ضرب زيد ، على أنه مفعول لم يسم فاعله ، ثم يضاف إليه ، أم لا يجوز ذلك ؟ فيه ثلاثة مذاهب ، يفصل في الثالث بين أن يكون المصدر من فعل لم يبن إلا للمفعول نحو : عجبت من جنون بالعلم زيد ، لأنه من جننت التي لم تبن إلا للمفعول الذي لم يسم فاعله ، أو من فعل يجوز أن يبنى للفاعل ، ويجوز أن يبنى للمفعول فيجوز في الأول ، ويمتنع في الثاني ، وأصحها المنع مطلقاً . وتقرير هذا كله في النحو . وقد رد الزجاج قول من قدر فاعل المصدر المؤمنين ، أو ضميرهم ، وهو مروي عن ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي العالية ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفراء ، والمبرد ، وقال : ليس بشيء ، والدليل على نقضه قوله تعالى بعد : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( ، ورجح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتخذين ، أي يحبون الأصنام كما يحبون الله ، لأنهم أشركوها مع الله تعالى ، فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة على كمال قدرته ولطيف فطرته وذلة الأصنام وقلتها . وقرأ أبو رجاء العطاردي : يحبونهم ، بفتح الياء ، وهي لغة ، وفي المثل السائر : من حب طبّ ، وجاء مضارعه على يحب ، بكسر العين شذوذاً ، لأنه مضاعف متعد ، وقياسه أن يكون مضموم العين نحو : مده يمده ، وجر يجره .
( وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( : قال الراغب : الحب أصله من المحبة ، حببته : أصبت حبة قلبه ، وأصبته بحبة القلب ، وهي في اللفظ فعل ، وفي الحقيقة انفعال . وإذا استعمل في الله ، فالمعنى : أصاب حبة قلب عبده ، فجعلها مصونة عن الهوى والشيطان وسائر أعداء الله . انتهى . وقال عبد الجبار : حب العبد لله : تعظيمه والتمسك بطاعته ، وحب الله العبد : إرادة الثناء عليه وإثابته . وأصل الحب في اللغة : اللزوم ، لأن المحب يلزم حبيبه ما أمكن . اه . والمفضل عليه محذوف ، وهم المتخذون الأنداد ، ومتعلق الحب الثاني فيه خلاف . فقيل : معنى أشد حباً لله : أي منهم لله ، لأن حبهم لله بواسطة ، قاله الحسن ؛ أو منهم لأوثانهم ، قاله غيره . ومقتضى التمييز بالأشدية ، إفراد المؤمنين له بالمحبة ، أو لمعرفتهم بموجب الحب ، أو لمحبتهم إياه بالغيب ، أو لشهادته تعالى لهم بالمحبة ، إذ قال تعالى : ) يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( ، أو لإقبال المؤمن على ربه في السراء والضراء والشدة والرخاء ، أو لعدم انتقاله عن مولاه ولا يختار عليه سواه ، أو لعلمه بأن الله خالق الصنم وهو الضارّ النافع ، أو لكون حبه بالعقل والدليل ، أو لامتثاله أمره حتى في القيامة حين يأمرالله تعالى من عبده لا يشرك به شيئاً أن يقتحم النار ، فيبادرون إليه ، فتبرد عليهم النار ، فينادي مناد تحت العرش : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( ، ويأمر من عبد الأصنام أن يدخل معهم النار فيجزعون ، قاله ان جبير . تسعة أقوال ثبتت نقائضها ومقابلاتها لمتخذ الأنداد . وهذه كلها خصائص ميز الله بها المؤمنين في حبه على الكافرين ، فذكر كل واحد من المفسرين خصيصيه . والمجموع هو المقتضى لتمييز الحب ، فلا تباين بين الأقوال على هذا ، لأن كل قول منها ليس على جهة الحصر فيه ، إنما هو مثال من أمثلة مقتضى التمييز .
وقال في المنتخب جمهور المتكلمين : على أن المحبة نوع من أنواع الإرادة ، لا تعلق لها إلا بالجائزات ، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته . فإذا قلنا : يحب الله ، فمعناه : يحبطاعة الله وخدمته وثوابه وإحسانه . وحكى عن قوم سماهم هو بالعارفين أنهم قالوا : نحب الله لذاته ، كما نحت اللذة لذاتها ، لأنه تعالى موصوف بالكمال ، والكمال محبوب لذاته . انتهى كلامه . وعدل في أفعل التفضيل عن أحب إلى أشد حباً ، لما تقرر في علم العربية أن أفعل التفضيل وفعل التعجب من وادٍ واحد . وأنت لو قلت : ما أحب زيداً ، لم يكن ذلك تعجباً من فعل الفاعل ، إنما يكون تعجباً من فعل المفعول ، ولا يجوز أن يتعجب من الفعل الواقع بالمفعول ، فينتصب المفعول به كانتصاب الفاعل . لا تقول : ما أضرب زيداً ، على أن زيداً حل به الضرب . وإذا تقرر هذا ، فلا يجوز

" صفحة رقم 645 "
زيد أحب لمعمرو ، لأنه يكون المعنى : أن زيداً هو المحبوب لعمرو . فلما لم يجز ذلك ، عدل إلى التعجب وأفعل التفضيل بما يسوغ منه ذلك ، فتقول : ما أشد حب زيد لعمرو ، وزيد أشد حباً لعمرو من خالد لجعفر . على أنهم قد شذوا فقالوا : ما أحبه إليّ ، فتعجبوا من فعل المفعول على جهة الشذوذ ، ولم يكن القرآن ليأتي على الشاذ في الاستعمال والقياس ، ويعدل على الصحيح الفصيح . وانتصاب حباً على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ تقديره : حبهم لله أشد من حب أولئك لله ، أو لأندادهم على اختلاف القولين .
( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ( : قرأ نافع وابن عامر : وإذ ترون ، بالتاء من فوق أن القوة ، وأن بفتحهما . وقرأ ابن عامر : إذ يرون ، بضم الياء . وقرأ الباقون : بالفتح . وقرأ الحسن ، وقتادة ، وشيبة ، وأبو جعفر ، ويعقوب : ولو ترى ، بالتاء من فوق إن القوة ، وإن بكسرهما . وقرأ الكوفيون ، وأبو عمرو ، وابن كثير : ولو يرى ، بالياء من أسفل أن القوة ، وأن بفتحهما . وقرأت طائفة : ولو يرى ، بالياء من أسفل إن القوة ، وإن بكسرهما . ولو هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، فلا بد لها من جواب ، واختلف في تقديره . فمنهم من قدره قبل أن القوة ، فيكون أن القوة معمولاً لذلك الجواب ، التقدير : على قراءة من قرأ بالتاء من فوق ، لعلمت أيها السامع أن القوة لله جميعاً ، أو لعلمت يا محمد أن كان المخاطب في ولو ترى له . وقد كان ( صلى الله عليه وسلم ) ) علم ذلك ، ولكن خوطب ، والمراد أمته ، فإن فيهم ن يحتاج لتقوية علمه بمشاهدة مثل هذا . ومن قرأ بالكسر ، قدر الجواب : لقلت إن القوة على اختلاف القولين في المخاطب بقوله : ولو ترى من هو ؟ أهو السامع ؟ أم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؟ أو يكون التقدير : لاستعظمت حالهم . وأن القوة ، وإن كانت مكسورة ، فيها معنى التعليل مثل : لو قدمت على زيد لأحسن إليك ، إنه مكرم للضيفان . وقال ابن عطية : تقدير ذلك : ولو ترى الذين ظلموا ، في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستغطامهم له ، لأقروا أن القوة لله . فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى ، وهو العامل في أن انتهى . وفيه مناقشة ، وهو قوله : في حال رؤيتهم العذاب . وكان ينبغي أن يقدر بمرادف ، إذ وهو قوله : في وقت رؤيتهم العذاب ، وأيضاً فقدر جواب لو ، وهو غير مترتب على ما يلي لو ، لأن رؤية السامع ، أو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) الظالمين في وقت رؤيتهم ، لا يترتب عليها إقرارهم أن القوة لله جميعاً صار نظير قولك : يا زيد لو ترى عمراً في وقت ضربه لأقر أن الله قادر عليه ، وإقراره بقدرة الله ليست مترتبة على رؤية زيد . وعلى من قرأ : ولو يرى ، بالياء من أسفل وفتح ، أن يكون تقدير الجواب : لعلموا أن القوة لله جميعاً ، وإن كان فاعل يرى هو الذين ظلموا ، وإن كان ضميراً يقدر ولو يرى هو ، أي السامع ، كان التقدير : لعلم أن القوة لله جميعاً . ومنهم من قدر الجواب محذوفاً بعد قوله ) وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ( ، وهو قول أبي الحسن الأخفش ، وأبي العباس المبرد ، وتقديره : على قراءة ولو ترى بالخطاب ، لاستعظمت ما حل بهم ، وعلى قراءة ولو يرى للغائب ، فإن كان فيه ضمير السامع كان التقدير : لاستعظم ذلك ، وإن كان الذين ظلموا هو الفاعل ، كان التقدير : لاستعظموا ما حل بهم . وإذا كان الجواب مقدراً آخر الكلام ، وكانت أن مفتوحة ، فتوجيه فتحها على تقديرين : أحدهما أن تكون معمولة ليرى في قراءة من قرأ بالياء ، أي ولو رأى الذين ظلموا أن القوة لله جميعاً . وأما من قرأ بالتاء ، فتكون أن مفعولاً من أجله ، أي لأن القوة لله جميعاً ، ومن كسر إن مع قراءة التاء في ترى ، وقدر الجواب آخر الكلام ، فهي ، وإن كانت مكسورة على معنى المفتوحة ، دالة على التعليل ، تقول : لا تهن زيداً إنه عالم ، ولا تكرم عمراً إنه جاهل ، فهي على معنى المفتوحة من التعليل ، وتكون هذه الجملة كأنها معترضة بين لو وجوابها المحذوف . وأما قراءة بالياء من أسفل وكسر الهمزتين ، فيحتمل أن تكون معمولة لقول محذوف هو جواب لو ، أي لقالوا إن القوة ، أو على سبيل الاستئناف والجواب محذوف ، أي لاستعظموا ذلك ، ومفعول : ترى محذوف ، أي ولو رأى الظالمون حالهم . وترى في قوله : ولو ترى ، يحتمل أن تكون بصرية ، وهو قول أبي علي ، ويحتمل أن تكون عرفانية . وإذا جعلت أن معمولة ليرى ، جاز أن تكون بمعنى علم التعدية إلى اثنين ، سدت أن مسدهما ، على مذهب سيبويه . والذين ظلموا ، إشارة إلى متخذي الأنداد ، ونبه على العلية ، أو يكون عاماً ، فيندرج فيه هؤلاء وغيرهم من

" صفحة رقم 646 "
الكفار . ولكن سياق ما بعده يرشد إلى أنهم متخذو الأنداد . وقراءة ابن عامر : إذ يرون ، مبنياً للمفعول ، هو من أريت المنقولة من رأيت ، بمعنى أبصرت . ودخلت إذ ، وهي للظرف الماضي ، في أثناء هذه المستقبلات ، تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه ، كما يقع الماضي المستقبل في قوله : ) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ ( ، وكما جاء : بقيت وفري وانحرفت عن العلى
ولقيت أضيافي بوجه عبوس
لأنه علق ذلك على مستقبل ، وهو قوله : إن لم أشن على ابن هند غارة
لم تخل يوماً من نهاب نفوس
وحذف جواب لو ، لفهم المعنى ، كثير في القرآن ، وفي لسان العرب . قال تعالى : ) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ( ، ( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ ( ، ( وَلَوْ تَرَى قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( ، وقال امرؤ القيس : وجدك لو شيء أتانا رسوله
سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
هذا ما يقتضيه البحث في هذه الآية من جهة الإعراب ، ونحن نذكر من كلام المفسرين . قال عطاء : المعنى : ولو يرى الذين ظلموا يوم القيامة ، إذ يرون العذاب حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمسمائة عام تلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبة ، لعلموا أن القوة والقدرة لله جميعاً . وقيل : لو يعلمون في الدنيا ما يعلمونه ، إذ يرون العذاب ، لأقروا بأن القوّة لله جميعاً ، أي لتبرؤوا من الأنداد ، والثانية من رؤية العين . وقال التبريزي : لو اعتقدوا أن الله يقدر ويقوى على تعذيبهم يوم القيامة ، لامتنعوا عما يوجب الجزاء بالعذاب . وقال الزمخشري : ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم ، أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم ، ويعلمون شدّة عقابه للظالمين ، إذ عاينوا العذاب يوم القيامة ، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع الظلم بظلمهم وضلالهم . انتهى كلامه . وحكى الراغب : أن بعضهم زعم أن القوة بدل من الذين ، قال : وهو ضعيف . انتهى . ويصير المعنى : ولو ترى قوة الله وقدرته على الذين ظلموا . وقال في المنتخب : قراءة الياء عند بعضهم أولى من قراءة التاء ، لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار ويعاينونه من العذاب يوم القيامة ، أما المتوعدون فإنهم لم يعلموا ذلك ، فوجب إسناد الفعل إليهم . انتهى . ولا فرق عندنا بين القراءتين ، أعني التاء والياء ، لأنهما متواترتان . وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير المستكن في العامل في الجار والمجرور . والقوة هنا مصدر أريد به الجنس ، التقدير : أن القوى مستقرة لله جميعاً ، ولا يجوز أن تكون حالاً من القوة ، لأن العامل في القوة أن ، وأن لا تعمل في الأحوال . وهذا التركيب أبلغ هنا من أن لو قلت : إن الله قوي ، إذ تدل هنا على الإخبار عنه بهذا الوصف . وأن القوة لله تدل على أن جميع أنواع القوى ثابتة مستقرة له تعالى ، وتأخر وصفه تعالى بأنه شديد العذاب عن ذلك ، لأن شدة العذاب هي من آثار القوة .
البقرة : ( 166 ) إذ تبرأ الذين . . . . .
( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاْسْبَابُ ( : لما ذكر متخذي الأنداد ذكر أن عبادتهم لهم وإفناء أعمارهم في طاعتهم ، معتقدين أنهم سبب نجاتهم ، لم تغن شيئاً ، وأنهم حين صاروا أحوج إليهم ، تبرؤوا منهم . وإذ : بدل من : إذ يرون العذاب . وقيل : معمولة لقوله شديد العذاب . وقيل : المحذوف تقديره اذكروا الذين اتبعوا ، هم رؤساؤهم

" صفحة رقم 647 "
وقادتهم الذين اتبعوهم في أقوالهم وأفعالهم ، قاله ابن عباس وعطاء وأبو العالية وقتادة والربيع ومقاتل والزجاج ، أو الشياطين الذين كانوا يوسوسون ويرونهم الحسن قبيحاً والقبيح حسناً ، قاله الحسن وقتادة أيضاً والسدي ؛ أو عام في كل متبوع ، وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ . وقراءة الجمهور : اتبعوا الأول مبنياً للمفعول ، والثاني مبنياً للفاعل . وقراءة مجاهد بالعكس . فعلى قراءة الجمهور : تبرؤ المتبوعون بالندم على الكفر ، أو بالعجز عن الدفع ، أو بالقول : إنا لم نضل هؤلاء ، بل كفروا بإرادتهم وتعلق العقاب عليهم بكفرهم ، ولم يتأت ما حاولوه من تعليق ذنوبهم على من أضلهم . أقوال ثلاثة ، الأخير أظهرها ، وهو أن يكون التبرؤ بالقول . قال تعالى : ) تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ). وتبرؤ التابعين هو انفصالهم عن متبوعيهم والندم على عبادتهم ، إذ لم يجد عنهم يوم القيامة شيئاً ، ولم يدفع عنهم من عذاب الله ، ورأوا العذاب الظاهر . إن هذه الجملة ، هي وما بعدها ، قد عطفتا على تبرأ ، فهما داخلان في حيز الظرف . وقيل : الواو للحال فيهما ، والعامل تبرأ ، أي تبرؤوا في حال رؤيتهم العذاب وتقطع الأسباب بهم ، ولأنها حالة يزداد فيها الخوف والتنصل ممن كان سبباً في العذاب . وقيل : الواو للحال في : ورأوا العذاب ، وللعطف في : وتقطعت على تبرأ ، وهو اختيار الزمخشري .
وتقطعت بهم الأسباب ( : كناية عن أن لا منجى لهم من العذاب ، ولا مخلص ، ولا تعلق بشيء يخلص من عذاب الله ، وهو عام في كل ما يمكن أن يتعلق به . وللمفسرين في الأسباب أقوال : الوصلات عن قتادة ، والأرحام عن ابن عباس وابن جريج ، أو الأعمال المتلزمة عن ابن زيد والسدي ، أو العهود عن مجاهد وأبي روق ، أو وصلات الكفر ، أو منازلهم من الدنيا في الجاه عن ابن عباس ، أو أسباب النجاة ، أو المودّات . والظاهر دخول الجميع في الأسباب ، لأنه لفظ عام . وفي هذه الجمل من أنواع البديع نوع يسمى الترصيع ، وهو أن يكون الكلام مسجوعاً كقوله تعالى : ) ( : كناية عن أن لا منجى لهم من العذاب ، ولا مخلص ، ولا تعلق بشيء يخلص من عذاب الله ، وهو عام في كل ما يمكن أن يتعلق به . وللمفسرين في الأسباب أقوال : الوصلات عن قتادة ، والأرحام عن ابن عباس وابن جريج ، أو الأعمال المتلزمة عن ابن زيد والسدي ، أو العهود عن مجاهد وأبي روق ، أو وصلات الكفر ، أو منازلهم من الدنيا في الجاه عن ابن عباس ، أو أسباب النجاة ، أو المودّات . والظاهر دخول الجميع في الأسباب ، لأنه لفظ عام . وفي هذه الجمل من أنواع البديع نوع يسمى الترصيع ، وهو أن يكون الكلام مسجوعاً كقوله تعالى : ) وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ( ، وهو في القرآن كثير ، وهو في هذه الآية في موضعين . أحدهما : ) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ( ، وهو محسن الحذف لضمير الموصول في قوله : اتبعوا ، إذ لو جاء اتبعوهم ، لفات هذا النوع من البديع . والموضع الثاني : ) وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاْسْبَابُ ( ، ومثال ذلك في الشعر قول أبي الطيب : في تاجه قمر في ثوبه بشر
في درعه أسد تدمي أظافره
وقولنا من قصيد عارضنا به بانت سعاد : فالنحر مرمرة والنشر عنبرة
والثغر جوهرة والريق معسول
البقرة : ( 167 ) وقال الذين اتبعوا . . . . .
( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَنقِمُ مِنَّا ( ، المعنى : أنهم تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله ويتبرؤوا منهم في الآخرة إذا حشروا جميعاً ، مثل ما تبرأ المتبوعون أولاً منهم . ولو : هنا للتمني . قيل : وليست التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، ولذلك جاء جوابها بالفاء في قوله : ) فَنَتَبَرَّأَ ( ، كما جاء جواب ليت في قوله : ) مَوَدَّةٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ ( ، وكما جاء في قول الشاعر : فلو نبش المقابر عن كليب
فتخبر بالذنائب أي زير

" صفحة رقم 648 "
والصحيح أن لو هذه هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأشربت معنى التمني ، ولذلك جاء بعد هذا البيت جوابها ، وهو قوله : بيوم الشعثمين لقر عينا
وكيف لقاء من تحت القبور
وأن مفتوحة بعد لو ، كما فتحت بعد ليت في نحو قوله : يا ليت أنا ضمنا سفينه
حتى يعود البحر كينونه
وينبغي أن يستثنى من المواضع التي تنتصب بإضمار أن بعد الجواب بالفاء ، وأنها إذا سقطت الفاء ، انجزم الفعل هذا الموضع ، لأن النحويين إنما استثنوا جواب النفي فقط ، فينبغي أن يستثنى هذا الموضع أيضاً ، لأنه لم يسمع الجزم في الفعل الواقع جواباً للو التي أشربت معنى التمني إذا حذفت الفاء . والسبب في ذلك أن كونها مشربة معنى التمني ، ليس أصلها ، وإنما ذلك بالجمل على حرف التمني الذي هو ليت . والجزم في جواب ليت بعد حذف الفاء ، إنما هو لتضمنها معنى الشرط ، أو دلالتها على كونه محذوفاً بعدها ، على اختلاف القولين ، فصارت لو فرع فرع ، فضعف ذلك فيها . والكاف في كما : في موضع نصب ، إما نعتاً لمصدر محذوف ، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف على القولين السابقين ، في غير ما موضع من هذا الكتاب . وما في كما : مصدرية ، التقدير : تبرؤوا مثل تبرئهم ، أو فنتبرأه ، أي فنتبرأ التبرؤ مشابهاً لتبرئهم . وقال ابن عطية : الكاف من قوله : كما في موضع نصب على النعت ، إما لمصدر ، أو لحال ، تقديرها : متبرئين . كما انتهى كلامه . أما قوله على النعت ، إما لمصدر ، فهو كلام واضح ، وهو الإعراب المشهور في مثل هذا . وأما قوله : أو لحال ، تقديرها : متبرئين كما ، فغير واضح ، لأنا لو صرحنا بهذه الحال ، لما كان كما منصوباً على النعت لمتبرئين ، لأن الكاف الداخلة على ما المصدرية هي من صفات الفعل ، لا من صفات الفاعل . وإذا كان كذلك ، لم ينتصب على النعت للحال ، لأن الحال هنا من صفات الفاعل ، ولا حاجة لتقدير هذه الحال ، لأنها إذ ذاك تكون حالاً مؤكدة ، ولا نرتكب كون الحال مؤكدة إلا إذا كانت ملفوظاً بها . أما أن تقدر حالاً ونجعلها مؤكدة ، فلا حاجة إلى ذلك . وأيضاً فالتوكيد ينافي الحذف ، لأن ما جيء به لتقوية الشيء لا يجوز حذفه أيضاً . فلو صرح بهذه الحال ، لما ساغ في كما إلا أن تكون نعتاً لمصدر محذوف ، أو حالاً من الضمير المستكن في الحال المصرّح بها ، مثال ذلك : هم محسنون إليّ كما أحسنوا إلى زيد . فكما أحسنوا ليس من صفات محسنين ، إنما هو من صفات الإحسان ، التقدير : على الإعراب المشهور إحساناً مثل إحسانهم إلى زيد .
( كَذالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ( : الكاف عند بعضهم في موضع رفع ، وقدروه الأمر كذلك ، أو حشرهم كذلك ، وهو ضعيف ، لأنه يقتضي زيادة الكاف وحذف مبتدأ ، وكلاهما على خلاف الأصل . والظاهر أن الكاف على بابها من التشبيه ، وأن التقدير مثل إراءتهم تلك الأهوال ، ( يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ( ، فيكون نعتاً لمصدر محذوف ، فيكون في موضع نصب . وجعل صاحب المنتخب ذلك من قوله : كذلك ، إشارة إلى تبرؤ بعضهم من بعض . والأجود تشبيه الآراءة بالآراء ، وجوزوا في يريهم أن تكون بصرية عديت بالهمزة ، فتكون حسرات منصوباً على الحال ، وأن تكون قلبية ، فتكون مفعولاً ثالثاً ، قالوا : ويكون ثم حذف مضاف ، أي على تفريطهم . وتحسر : يتعدى بعلى ، تقول : تحسرت على كذا ، فعلى هنا متعلقة بقوله : حسرات . ويحتمل أن تكون في موضع الصفة ، فالعامل محذوف ، أي حسرات كائنة عليهم ، وعلى تشعر بأن الحسرات مستعلية عليهم . وأعمالهم ، قيل : هي الأعمال التي صنعوها ، وأضيفت إليهم من حيث عملوها ، وأنهم مأخوذون بها . وهذا على قول من يقول : إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وهذا معنى قول الربيع وابن زيد : أنها الأعمال السيئة التي ارتكبوها ، فوجب بهم بها النار . وقال ابن مسعود والسدّي : المعنى أعمالهم الصالحة التي تركوها ،

" صفحة رقم 649 "
ففاتتهم الجنة ، وأضيفت إليهم من حيث كانوا مأمورين بها . قال السدي : ترفع لهم الجنة فينظرون إلى بيوتهم فيها ، لو أطاعوا الله تعالى ، فيقال لهم : تلك مساكنكم لو أطعتم الله تعالى ، ثم تقسم بين المؤمنين فيرثونهم ، فذلك حين يندمون . وهذا معنى قول بعضهم ، إن أعمالهم قد أحبط ثوابها كفرهم ، لأن الكافر لا يثاب مع كفره . ألا ترى إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وقد ذكر له أن ابن جدعان كان يصل الرحم ويطعم المسكين ، وسئل : هل ذلك نافعة ؟ قال : ( لا ينفعه ، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ) ، ومنه قوله تعالى : ) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ). وقيل : المعنى أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم . والظاهر أنها الأعمال التي اتبعوا فيها رؤساءهم وقادتهم ، وهي الكفر والمعاصي . وكانت حسرة عليهم ، لأنهم رأوها مسطورة في صحائفهم ، وتيقنوا الجزاء عليها ، وكان يمكنهم تركها والعدول عنها ، لو شاء الله .
( وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( : هذا يدل على دخول النار ، إذ لا يقال : ما زيد بخارج من كذا إلا بعد الدخول . ولم يتقدم في الآية نص على دخولهم ، إنما تقدم رؤيتهم العذاب ومفاوضة بسبب تبرؤ المتبوعين من الأتباع ، وجاء الخبر مصحوباً بالباء الدالة على التوكيد . وقال الزمخشري : هم بمنزلته في قوله :
هم يفرشون اللبد كل طمرّه
في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم ، لا على الاختصاص . انتهى كلامه ، وفيه دسيسة اعتزال ، لأنه إذا لم يدل على الاختصاص ، لا يكون فيه رد لقول المعتزلة ، إن الفاسق يخلد في النار ولا يخرج منها . وأما قول صاحب المنتخب : إن الأصحاب احتجوا على أن صاحب الكبيرة من أهل القبلة ، إلى آخر كلامه ، فهو غير مسلم ، ولا دلالة في الآية على شيء من المذهبين . لأنك إذا قلت : ما زيد بمنطلق ، وإنما في ذلك دلالة على نفي انطلاق زيد ، وأما أن في ذلك دلالة على اختصاصه بنفي الانطلاق ، أو مشاركة غيره له في نفي الانطلاق ، فلا إنما يفهم ذلك ، أعني الاختصاص ، بنفي الخروج من النار ، إذ المشاركة في ذلك من دليل خارج ، وهل النفي إلا مركب على الإيجاب ؟ فإذا قلت : زيد منطلق ، فليس في هذا دليل على شيء من الاختصاص ، ولا شيء من المشاركة ، فكذلك النفي ، وكونه قابلاً للخصومة والاشتراك ، يدل على ذلك . ألا ترى أنك تقول : زيد منطلق لا غيره ، وزيد منطلق مع غيره ؟ .
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة . إخباره تعالى بأن الصفا والمروة من معالمه التي جعلها محملاً لعبادته ، وإن كان قد سبق غشيان المشركين لها ، وتقربهم بالأصنام عليها . وصرّح برفع الإثم عمن طاف بهما ممن حج أو اعتمر . ثم ذكر أن من تبرع بخير ، فإن الله شاكر لفعله ، عليم بنيته ، لما كان التطوّع يشتمل على فعل ونية ، ختم بهاتين الصفتين المتناسبتين . ثم أخبر تعالى عمن كتم ما أنزل الله من الحكم الإلهي من بعد ما بينه في كتابه ، لعنه الله وملائكته ومن يسوغ منه اللعن من صالحي عباده . ثم استثنى من تاب وأصلح ، وبين ما كتم . ولم يكتف بالتوبة فقط حتى أضاف إليها الإصلاح ، لأن كتم ما أنزل الله من أعظم الإفساد ، إذ فيه حمل الناس على غير المنهج الشرعي . وأضاف التبيين لما كتم حتى يتضح للناس وضوحاً بيناً ما كان عليه من الضلال ، وأنه أقلع عن ذلك ، وسلك نقيض فعله الأول ، فكان ذلك أدعى لزوال ما قرر أولاً من كتمان الحق وبضدها تتبين الأشياء
ثم أخبر تعالى عن هؤلاء المستثنين ، أنه يتوب عليهم ، وأنه تعالى لا يتعاظم عنده ذنب ، وإن كان أعظم الذنوب ، إذا تاب العبد منه . ثم أخبر تعالى أنه التواب الرحيم ، بصفتي المبالغة التي في فعال وفعيل

" صفحة رقم 650 "
ولما ذكر تعالى حال المؤمنين المتسمين بالصبر والصلاة والحج ، وغير ذلك من أعمال البر ، وحال من ارتكب المعاصي ، ثم أقلع عن ذلك وتاب إلى الله . ذكر حال من وافى على الكفر ، وأنه تحت لعنة الله وملائكته والناس ، وأنهم خالدون في اللعنة ، غير مخفف عنهم العذاب ، ولا مرجؤن إلى وقت . ثم لما كان كفر معظم الكفار إنما هو لاتخاذهم مع الله آلهة ) أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلَاهاً واحِداً ( ؟ ) قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( ؟ ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ( ، وفي الحديث : ( أنهم يسألون فيقولون كنا نعبد عزيراً .
أخبر تعالى أن الإله هو واحد لا يتعدد ولا يتجزأ ، ولا له مثيل في صفاته . ثم حصر الإلهية فيه ، فتضمن ذلك أنه هو المثيب المعاقب ، فوصف نفسه بهاتين الصفتين من الرحمانية والرحيمية . ثم أخذ في ذكر ما يدل على الوحدانية والانفراد بالإلهية . فبدأ بذكر اختراع الأفلاك العلوية ، والجرم الكثيف الأرضي ، وما يكون فيهما من اختلاف ما به السكون والحركة ، من الليل والنهار الناشئين عما أودع الله تعالى في العالم العلوي ، واختلاف الفلك ذاهبة وآيبة بما ينفع الناس الناشىء ذلك عما أودع في العالم السفلي ، وما يكون مشتركاً بين العالمين ، من إنزال الماء ، وتشقق الأرض بالنبات ، وانتشار العالم فيها . ولما ذكر أشياء في الأجرام العلوية ، وأشياء في الجرم الأرضي ، ذكر شيئاً مما هو بين الجرمين ، وهو تصريف الرّياح والسحاب ، إذ كان بذلك تتم النعمة المقتضية لصلاح العالم في منافعهم البحرية والبرية . ثم ذكر أن هذا كله هي آيات للعاقل ، تدله على وحدانية الله تعالى واختصاصه بالإلهية ، إذ من عبدوه من دون الله يعلمون قطعاً أنه لا يمكنه اقتدار على شيء مّا تضمنته هذه الآيات ، وأنهم بعض ما حوته الدائرة العلوية والدائرة السفلية ، وأن نسبتهم إلى من لم يعبدوه من سائر المخلوقات نسبة واحدة في الافتقار والتغير ، فلا مزية لهم على غيرهم إلا عند من سلب نور العقل ، وغشبته ظلمات الجهل .
ثم ذكر تعالى ، بعد ذكر هذه البينات الواضحات الدالة على الوحدانية واستحقاق العبادة ، أن من الناس متخذي أنداد ، وأنهم يؤثرونهم ويحبونهم مثل محبة الله ، فهم يسوّون بين الخالق والمخلوق في المحبة ، ( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ). ثم ذكر أن من المؤمنين أشدّ حبًّا لله من هؤلاء لأصناهم . ثم خاطب من خاطب بقوله : ) وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( ، حين عاينوا نتيجة اتخاذهم الأنداد ، وهو العذاب ، الحال بهم ، أي لرأيت أمراً عظيماً . ثم نبه على أن أندادهم لا طاقة لها ولا قوة بدفع العذاب عمن اتخذوهم ، لأن جميع القوى والقدر هي لله تعالى . ثم ذكر تعالى تبرؤ المتبوعين من التابعين وقت رؤية العذاب وزالت المودات التي كانت بينهم ، وأن التابعين تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يؤمنوا ويتبرؤوا من متبوعيهم حيث لا ينفع التمني ولا يمكن أن يقع ، فهو تمني مستحيل ، لأن الله تعالى قد حكم وأمضى أن لا عودة إلى الدنيا . ثم ذكرتعالى أنهم بعد رؤيتهم العذاب وتقطع الأسباب ، أراهم أعمالهم ندامات حيث لا ينفع الندم ، ليتضاعف بذلك الألم . ثم ختم ذلك بما ختم لهم من العذاب السرمدي والشقاء الأبدي . نعوذ بالله من يطا نقماته ، ونستنزل من كرمه العميم نشر رحماته .
2 ( ) ياأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الاٌّ رْضِ حَلَالاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُو

" صفحة رقم 651 "
اْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاإِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا أُولَائِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِى الْكِتَابِ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } )
البقرة : ( 168 ) يا أيها الناس . . . . .
الحلال : مقابل الحرام ومقابل المحرم . يقال شيء حلال : أي سائغ الانتفاع به ، وشيء حرام : ممنوع منه ، ورجل حلال : أي ليس بمحرم . قيل : وسمي حلالاً لانحلال عقد المنع منه ، والفعل منه حتى يحل ، بكسر الحاء في المضارع ، على قياس الفعل المضاعف اللازم . ويقال : هذا حل ، أي حلال ، ويقال : حل بل على سبيل التوكيد ، وحل بالمكان : نزل به ، ومضارعه جاء بضم الحاء وكسرها ، وحل عليه الدين : حان وقت أدائه . الخطوة ، بضم الخاء : ما بين قدمي الماشي من الأرض ، والخطوة ، بفتحها : المرة من المصدر . يقال : خطا يخط خطواً : مشى . ويقال : هو واسع الخطو . فالخطوة بالضم ، عبارة عن المسافة التي يخطو فيها ، كالغرفة والقبضة ، وهما عبارتان عن الشيء المعروف والمقبوض ، وفي جمعها بالألف والياء لغي ثلاث : إسكان الطاء كحالها في المفرد ، وهي لغة تميم وناس من قيس ، وضمة الطاء اتباعاً لضمة الخاء ، وفتح الطاء . ويجمع تكسيراً على خطى ، وهو قياس مطرد في فعلة الاسم . الفحشاء : مصدر كالبأساء ، وهو فعلاء من الفحش ، وهو قبح المنظر ، ومنه قول امرىء القيس : وجيد كجيد الريم ليس بفاحش
إذا هي نصته ولا بمعطل
ثم توسع فيه حتى صار يستعمل فيما يستقبح من المعاني . ألفى : وجد ، وفي تعديها إلى مفعولين خلاف ، ومن منع جعل الثاني حالاً ، والأصح كونه مفعولاً لمجيئه معرفة ، وتأويله على زيادة الألف واللام على خلاف الأصل . النعيق : دعاء الراعي وتصويته بالغنم ، قال الشاعر : فانعق بضأنك يا جرير فإنما
منتك نفسك في الخلاء ضلالا
ويقال : نعق المؤذن ، ويقال : نعق بتعق نعيقاً ونعاقاً ونعقاً ، وأما نغق الغراب ، فبالغين المعجمة . وقيل أيضاً : يقال بالمهملة في الغراب . النداء : مصدر نادى ، كالقتال مصدر قاتل ، وهو بكسر النون ، وقد يضم . قيل : وهو مرادف

" صفحة رقم 652 "
للدعاء ، وقيل : مختص بالجهر ، وقيل : بالبعد ، وقيل : بغير المعين . ويقال : فلان أندى صوتاً من فلان ، أي أقوى وأشد وأبعد مذهباً . اللحم : معروف . يقال : لحم الرجل لحامه ، فهو لحيم : ضخم . ولحم يلحم ، فهو لحم : اشتاق إلى اللحم . ولحم الناس يلحمهم : أطعمهم اللحم ، فهو لاحم . وألحم ، فهو ملحم : كثر عنده اللحم . الخنزير : حيوان معروف ، ونونه أصلية ، فهو فعليل . وزعم بعضهم أن نونه زائدة ، وأنه مشتق من خزر العين ، لأنه كذلك ينظر . يقال : تخازر الرجل : ضيق جفنه ليحدد النظر ، والخزر : ضيق العين وصغرها ، ويقال : رجل أخزر : بين الخزر . وقيل : هو النظر بمؤخر العين ، فيكون كالتشوش . الإهلال : رفع الصوت ، ومنه الإهلال بالتلبية ، ومنه سمي الهلال لارتفاع الصوت عند رؤيته ، ويقال : أهل الهلال واستهل ، ويقال : أهل بكذا : رفع صوته . قال ابن أحمر : يهل بالفدفد ركباننا
كما يهل الراكب المعتمر
وقال النابغة : أو درة صدفية غوّاصها
بهج متى تره يهل ويسجد
ومنه : إهلال الصبي واستهلاله ، وهو صياحه عند ولادته . وقال الشاعر : يضحك الذئب لقتلي هذيل
وترى الذئب لها يستهل
البطن : معروف ، وجمعه على فعول قياس ، ويجمع أيضاً على بطنان ، ويقال : بطن الأمر يبطن ، إذا خفي . وبطن الرجل ، فهو بطين : كبر بطنه . والبطنة : امتلاء البطن بالطعام . ويقال : البطنة تذهب الفطنة .
( النَّارِ يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ حَلَالاً طَيّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( : هذا ثاني نداء وقع في سورة البقرة بقوله : يا أيها الناس ، ولفظه عام . قال الحسن : نزلت في كل من حرم على نفسه شيئاً لم يحرمه الله عليه . وروي الكلبي ومقاتل وغيرهما : أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب ، قاله النقش . وقيل : في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة . قيل : وبني مدلج ، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام ، وحرموا البحيرة والسوائب والوصيلة والحام . فإن صح هذا ، كان السبب خاصاً واللفظ عاماً ، والعبرة بعموم اللفظ لا يخصوص السبب . ومناسبة هذا لما قبله ، أنه لما بين التوحيد ودلائله ، وما للتائبين والعاصين ، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الكافر والمؤمن ، ليدل أن الكفر لار يؤثر في قطع الأنعام . وقال المروزي : لما حذر المؤمنين من حال من يصير عمله عليه حسرة ، أمرهم بأكل الحلال ، لأن مدار الطاعة عليه . كلوا : أمر إباحة وتسويغ ، لأنه تعالى هو الموجد للأشياء ، فهو المتصرف فيها على ما يريد .
مما في الأرض ، من : تبعيضية ، وما : موصولة ، ومن : في موضع المفعول ، نحو : أكلت من الرغيف ، وحلالاً : حال من الضمير المتسقر في الصلة المنتقل من العامل فيها إليه . وقال مكي بن أبي طالب : حلالاً : نعت لمفعول تقديره محذوف تقديره شيئاً

" صفحة رقم 653 "
حلالاً ، قال ابن عطية : وهذا بعيد ولم يبين وجه بعده ، وبعده أنه مما حذف الموصوف ، وصفته غير خاصة ، لأن الحلال يتصف به المأكول وغير المأكول . وإذا كانت الصفة هكذا ، لم يجز حذف الموصوف وإقامتها مقامه . وأجاز قوم أن ينتصب حلالاً على أنه مفعول بكلوا ، وبه ابتدأ الزمخشري . ويكون على هذا الوجه من لابتداء الغاية متعلقة بكلوا ، أو متعلقة بمحذوف ، فيكون حالاً ، والتقدير : كلوا حلالاً مما في الأرض . فلما قدمت الصفة صارت حالاً ، فتعلقت بمحذوف ، كما كانت صفة تتعلق بمحذوف . وقال ابن عطية : مقصد الكلام لا يعطي أن تكون حلالاً مفعولاً بكلوا ، تأمل . انتهى .
طيباً : انتصب صفة لقوله : حلالاً ، إما مؤكدة لأن معناه ومعنى حلالاً واحد ، وهو قول مالك وغيره ، وإما مخصصة لأن معناه مغاير لمعنى الحلال وهو المستلذ ، وهو قول الشافعي وغيره . ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث . وقيل : انتصب طيباً على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي أكلاً طيباً ، وهو خلاف الظاهر . وقال ابن عطية : ويصح أن يكون طيباً حالاً من الضمير في كلوا تقديره : مستطيبين ، وهذا فاسد في اللفظ والمعنى . أما اللفظ فلأن طيباً اسم فاعل وليس بمطابق للضمير ، لأن الضمير جمع ، وطيب مفرد ، وليس طيب بمصدر ، فيقال : لا يلزم المطابقة . وأما المعنى : فلأن طيباً مغاير لمعنى مستطيبين ، لأن الطيب من صفات المأكول ، والمستطيب من صفات الآكل . تقول : طاب لزيد الطعام ، ولا تقول : طاب زيد الطعام ، في معنى استطابة . وقال الزمخشري في قوله طيباً : طاهراً من كل شبهة . وقال السجاوندي : حلالاً مطلق الشرع ، طيباً مستلذ الطبع . وقال في المنتخب ما ملخصه : الحلال : الذي انحلت عنه عقدة الخطر ، إما لكونه حراماً لجنسه كالميتة ، وإما لا لجنسه كملك الغير ، إذ لم يأذن في أكله . والطيب لغة الطاهر ، والحلال يوصف بأنه طيب ، كما أن الحرام يوصف بأنه خبيث ، والأصل في الطيب ما يستلذ ، ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه ، لأن النجس تكرهه النفس ، والحرام لا يستلذ ، لأن الشرع منه . انتهى . والثابت في اللغة : أن الطيب هو الطاهر من الدنس . قال :
والطيبون معاقد الأزر
وقال آخر ولي الأصل الذي في مثله
يصلح الآبر زرع المؤتبر طيبوا الباءة سهل ولهم
سبل إن شئت في وحش وعر
وقال الحسن : الحلال الطيب : هو ما لا يسئل عنه يوم القيامة . وقال ابن عباس : الحلال الذي لا تبعة فيه في الدنيا ولا وبال في الآخرة . وقيل : الحلال ما يجوزه المفتي ، والطيب ما يشهد له القلب بالحل . وقد استدل من قال بأن الأصل في الأشياء الحظر بهذه الآية ، لأن الأشياء ملك الله تعالى ، فلا بد من إذنه فيما يتناول منها ، وما عدا ما لم يأذن فيه يبقى على الحظر . وظاهر الآية أن ما جمع الوصفين الحل والطيب مما في الأرض ، فهو مأذون في أكله . أما تملكه والتصدق به ، أو ادخاره ، أو سائر الانتفاعات به غير الأكل ، فلا تدل عليه الآية . فإما أن يجوز ذلك بنص آخر ، أو إجماع عند من لا يرى القياس ، أو بالقياس على الأكل عند من يقول بالقياس .
( وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ( وقرأ ابن عامر والكسائي وقنبل وحفص وعباس ، عن أبي عمرو والبرجمي ، عن أبي بكر : بضم الخاء والطاء وبالواو . وقرأ باقي السبعة : بضم الخاء وإسكان الطاء وبالواو . وقرأ أبو السمال : خطوات ، بضم الخاء وفتح الطاء وبالواو . وقد تقدم أن هذه لغى ثلاث في جمع خطوة . ونقل ابن عطية والسجاوندي أن أبا السمال قرأ : خطوات ، بفتح الخاء والطاء وبالواو ، جمع خطوة ، وهي المرة من

" صفحة رقم 654 "
الخطو . وقرأ علي وقتادة والأعمش وسلام : خطؤات ، بضم الخاء والطاء والهمزة ، واختلف في توجيه هذه القراءة فقيل : الهمزة أصل ، وهو من الخطأ جمع خطأة ، إن كان سمع ، وإلا فتقديراً . وممن قال إنه من الخطأ أبو الحسن الأخفش ، وفسره مجاهد خطاياه ، وتفسيره يحتمل أن يكون فسر بالمرادف ، أو فسر بالمعنى . وقيل : هو جمع خطوة ، لكنه توهم ضمة الطاء أنها على الواو فهمز ، لأن مثل ذلك قد يهمز . قال معناه الزمخشري : والنهي عن اتباع خطوات الشيطان كناية عن ترك الاقتداء به ، وعن اتباع ما سنّ من المعاصي . يقال : اتبع زيد خطوات عمرو ووطىء على عقبيه ، إذ سلك مسلكه في أحواله . قال ابن عباس : خطواته أعماله . وقال مجاهد : خطاياه . وقال السدي : طاعته . وقال أبو مجلز : النذور في المعاصي . وقيل : ما ينقلهم إليه من معصية إلى معصية ، حتى يستوعبوا جميع المعاصي ، مأخوذ من خطو القدم من مكان إلى مكان . وقال الزجاج وابن قتيبة : طرقه . وقال أبو عبيدة : محقرات الذنوب . وقال المؤرّخ آثاره وقال عطاء : زلاته ، وهذه أقوال متقاربة المعنى صدرت من قائلها على سبيل التمثيل . والمعنى بها كلها النهي عن معصية الله ، وكأنه تعالى لما أباح لهم الأكل من الحلال الطيب ، نهاهم عن معاصي الله وعن التخطي إلى أكل الحرام ، لأن الشيطان يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة ، فيزين بذلك ما لا يحل ، فزجر الله عن ذلك . والشيطان هنا إبليس ، والنهي عنا عن اتباع كل فرد فرد من المعاصي ، لا أن ذلك يفيد الجمع ، فلا يكون نهياً عن المفرد .
( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( : تعليل لسبب هذا التحذير من اتباع الشيطان ، لأن من ظهرت عداوته واستبانت ، فهو جدير بأن لا يتبع في شيء وأن يفرّ منه ، فإنه ليس له فكر إلا في إرداء عدوه .
البقرة : ( 169 ) إنما يأمركم بالسوء . . . . .
( إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوء وَالْفَحْشَاء ( : لما خبرته أنه عدوّ ، أخذ يذكر ثمرة العداوة وما نشأ عنها ، وهو أمره بما ذكر . وقد تقدم الكلام في إنما في قوله : ) إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ). وفي الخلاف فيها ، أتفيد الحصر أم لا ؟ وأمر الشيطان ، إما بقوله في زمن الكهنة وحيث يتصور ، وإما بوسوسته وإغوائه . فإذا أطيع ، نفذ أمره بالسوء ، أي بما يسوء في العقبى . وقال ابن عباس : السوء ما لا حد له . والفحشاء ، قال السدي : هي الزنا . وقال ابن عباس : كل ما بلغ حداً من الحدود لأنه يتفاحش حينئذ . وقيل : ما تفاحش ذكره . وقيل : ما قبح قولاً أو فعلاً . وقال طاوس : ما لا يعرف في شريعتة ولا سنة . وقال عطاء : هي البخل .
( وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( ، قال الطبري : يريد به ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوه ، وجعلوه شرعاً . وقال الزمخشري : هو قولهم هذا حلال وهذا حرام بغير علم ، ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله مما لا يجوز عليه . انتهى . قيل : وظاهر هذا تحريم القول في دين الله بما لا يعلمه القائل من دين الله ، فيدخل في ذلك الرأي والأقيسة والشبهية والاستحسان . قالوا : وفي هذه الآية إشارة إلى ذمّ من قلد الجاهل واتبع حكمه . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف كان الشيطان آمراً مع قوله : ) لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( ؟ قلت : شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر ، كما تقول : أمرتني نفسي بكذا ، وتحته رمز إلى أنكم فيه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه ، ولذلك قال : ) وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الاْنْعَامِ ( ) وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ). وقال الله تعالى : ) إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوء ( لما كان الإنسان يطعمها ويعطيها

" صفحة رقم 655 "
ما اشتهت . انتهى كلامه .
البقرة : ( 170 ) وإذا قيل لهم . . . . .
( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( : الضمير في لهم عائد على كفار العرب ، لأن هذا كان وصفهم ، وهو الاقتداء بآبائهم ، ولذلك قالوا لأبي طالب ، حين احتضر : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ ذكروه بدين أبيه ومذهبه . وقال ابن عباس : نزلت في اليهود ، فعلى هذا يكون الضمير عائداً على غير مذكور ، وهم أشد الناس اتباعاً لأسلافهم . وقيل : هو عائد على من ، من قوله : ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا ( ، وهو بعيد . وقال الطبري : هو عائد على الناس من قوله : ) النَّارِ يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ ( وهذا هو الظاهر ، ويكون ذلك من باب الالتفات ، وحكمته أنهم أبرزوا في صورة الغائب الذي يتعجب من فعله ، حيث دعي إلى اتباع شريعة الله التي هي الهدى والنور . فأجاب باتباع شريعة أبيه ، وكأنه يقال : هل رأيتم أسخف رأياً وأعمى بصيرة ممن دعى إلى اتباع القرآن المنزل من عند الله ، فرد ذلك وأضرب عنه ؟ وأثبت أنه يتبع ما وجد عليه أباه ؟ وفي هذا دلالة على ذم التقليد ، وهو قبول الشيء بلا دليل ولا حجة . وحكى ابن عطية أن الإجماع منعقد على إبطاله في العقائد . وفي الآية دليل على أن ما كان عليه آباؤهم هو مخالف لما أنزل الله ، فاتباع أبنائهم لآبائهم تقليد في ضلال . وفي هذا دليل على أن دين الله هو اتباع ما أنزل الله ، لأنهم لم يؤمروا إلا به . والمراد بقوله : وإذا ، التكرار . وبنى قيل لما لم يسم فاعله ، لأنه أخصر ، لأنه لو ذكر الآمرون لطال الكلام ، لأن الآمر بذلك هو الرسول ومن يتبعه من المؤمنين . وفي قوله : ) أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ ( إعلام بتعظيم ما أمروهم باتباعه أن نسب إنزاله إلى الله الذي هو المشرّع للشرائع ، فكان ينبغي أن يتلقى بالقبول ولا يعارض باتباع آبائهم رؤوس الضلالة . وأدغم الكسائي لام بل في نون نتبع ، وأظهر ذلك غيره . وبل هنا عاطفة جملة على جملة محذوفة ، التقدير : لا نتبع ما أنزل الله ، ( بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ). ولا يجوز أن يعطف على قوله : ) اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ ). وعليه متعلق بقوله : ألفينا ، وليست هنا متعدية إلى اثنين ، لأنها بمعنى وجد ، التي بمعنى أصاب .
( أَوْ لَّوْ كَانَ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ ( : الهمزة للاستفهام المصحوب بالتوبيخ والإنكار والتعجب من حالهم ، وأما الواو بعد الهمزة ، فقال الزمخشري : الواو للحال ، ومعناه : أيتبعونهم ، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب ؟ وقال ابن عطية : الواو لعطف جملة كلام على جملة ، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا : نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون ، فقرروا على التزام هذا ، أي هذه حال آبائهم . انتهى كلامه . وظاهر قول الزمخشري أن الواو للحال ، مخالف لقول ابن عطية إنها للعطف ، لأن واو الحال ليست للعطف . والجمع بينهما أن هذه الجملة المصحوبة بلو في مثل هذا السياق ، هي جملة شرطية . فإذا قال : اضرب زيداً ولو أحسن إليك ، المعنى : وإن أحسن ، وكذلك : اعطوا السائل ولو جاء على فرس ؛ ردّوا السائل ولو بشق تمرة ، المعنى فيها : وإن . وتجيء لو هنا تنبيهاً على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها ، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعل ، ولتدل على أن المراد بذلك وجود الفعل في كل حال ، حتى في هذه الحال التي لا تناسب الفعل . ولذلك لا يجوز : اضرب زيداً ولو أساء إليك ، ولا أعطوا السائل ولو كان محتاجاً ، ولا ردوا السائل ولو بمائة دينار . فإذا تقرر هذا ، قالوا وفي ولو في المثل التي ذكرناها عاطفة على حال مقدرة ، والعطف على الحال حال ، فصح أن يقال : إنها للحال من حيث أنها عطفت جملة حالية على حال مقدرة . والجملة المعطوفة على الحال حال ، وصح أن يقال : إنها للعطف من حيث ذلك العطف ، والمعنى : والله أعلم إنكار اتباع آبائهم في كلّ حال ، حتى في الحالة التي لا تناسب أن يتبعوا فيها ، وهي تلبسهم بعدم العقل وعدم الهداية . ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على لو ، إذا كانت تنبيهاً على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها . وإن كانت الجملة الواقعة حالاً فيها ضمير يعود على ذي الحال ، لأن مجيئها عارية من الواو يؤذن بتقييد

" صفحة رقم 656 "
الجملة السابقة بهذه الحال ، فهو ينافي استغراق الأحوال حتى هذه الحال . فهما معنيان مختلفان ، والفرق ظاهر بين : أكرم زيداً لو جفاك ، أي إن جفاك ، وبين أكرم زيداً ولو جفاك . وانتصاب شيئاً على وجهين : أحدهما : على المفعول به فعم جميع المعقولات ، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم ، ولا يمكن أن يكون المراد نفي الوحدة فيكون المعنى لا يعقلون شيئاً بل أشياء . والثاني : أن يكون منصوباً على المصدر ، أي شيئاً من العقل ، وإذا انتفى ، انتفى سائر العقول ، وقدم نفي العقل ، لأنه الذي تصدر عنه جميع التصرّفات ، وأخر نفي الهداية ، لأن ذلك مترتب على نفي العقل ، لأن الهداية للصواب هي ناشئة عن العقل ، وعدم العقل عدم لها .
البقرة : ( 171 ) ومثل الذين كفروا . . . . .
( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( : لما ذكر تعالى أن هؤلاء الكفار ، إذا أمروا باتباع ما أنزل الله ، أعرضوا عن ذلك ورجعوا إلى ما ألفوه من اتباع الباطل الذي نشؤوا عليه ووجدوا عليه آباءهم ، ولم يتدبروا ما يقال لهم ، وصموا عن سماع الحق ، وخرسوا عن النطق به ، وعموا عن إبصار النور الساطع النبوي . ذكر هذا التشبيه العجيب في هذه الآية منبهاً على حالة الكافر في تقليده أباه ومحقراً نفسه ، إذ صار هو في رتبة البهيمة ، أو في رتبة داعيها ، على الخلاف الذي سيأتي في هذا التشبيه .
وهذه الآية لا بد في فهم معناها من تقدير محذوف . واختلفوا ، فمنهم من قال : المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق . ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به . فعلى أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق ، قيل : يكون التقدير : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم وعقلهم ، كمثل الرّعاة يكلمون البهم ، والبهم لا تعقل شيئاً . وقيل : يكون التقدير : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم ، كمثل الناعق بغنمه ، فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء ونداء ، وكذلك الكافر ليس له من دعائه الآلهة وعبادته الأوثان إلا العناء . قال الزمخشري : وقد ذكر هذا القول ، إلا أن قوله : ) إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء ( لا يساعد عليه ، لأن الأصنام لا تسمع شيئاً . انتهى كلامه . ولحظ الزمخشري في هذا القول تمام التشبيه من كلّ جهة ، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاء ونداء ، فكذلك مدعو الكافر من الصنم ، والصنم لا يسمع ، فضعف عنده هذا القول . ونحن نقول : التشبيه وقع في مطلق الدعاء ، لا في خصوصيات المدعو ، فشبه الكافر في دعائه الصنم بالناعق بالبهيمة ، لا في خصوصيات المنعوق به . وقيل في هذا القول ، أعني قول من قال التقدير : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وأصنامهم أن الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم من الضأن أو غيرها ، وإنما المراد به الصائح في جوف الجبال ، فيجيبه منها صوت يقال له الصدا ، يجيبه ولا ينفعه . فالمعنى : بما لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه ونداءه ، قاله ابن زيد . فعلى القولين السابقين يكون الفاعل بيسمع ضميراً يعود على ما ، وهو المنعوق به . وعلى هذا القول يكون الفاعل ضميراً عائداً على الذي ينعق ، ويكون الضمير العائد على ما الرابط للصلة بالموصول محذوفاً لفهم المعنى تقديره : بما لا يسمع منه ، وليس فيه شروط جواز الحذف ، لأن الضمير مجرور بحرف جر الموصول بغيره . واختلف ما يتعلقان به ، فالحرف الأول باء تعلقت بينعق ، والثاني من تعلق بيسمع . وقد جاء في كلامهم مثل هذا ، قال : وقيل المراد بالذين كفروا : المتبوعون لا التابعون ، ومعناه : مثل الذين كفروا في دعائهم أتباعهم ، وكون أتباعهم لا يحصل لهم منهم إلا الخيبة والخسران ، كمثل الناعق بالغنم .

" صفحة رقم 657 "
وأمّا القول على أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به ، وهو البهائم التي لا تعقل مثل : الإبل ، والبقر ، والغنم ، والحمير ، وهو قول ابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة والحسن والربيع والسدي . وأكثر المفسرين اختلفوا في تقديره مصحح هذا التشبيه ، فقيل التقدير : ومثل الذين كفروا في دعاتهم إلى الله تعالى وعدم سماعهم إياه ، كمثل بهائم الذي ينعق ، فهو على حذف قيد في الأول ، وحذف مضاف من الثاني . وقيل التقدير : ومثل الذين كفروا في عدم فهمهم عن الله وعن رسوله ، كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنهي غير الصوت . فيراد بالذي ينعق ، الذي ينعق به ، فيكون هذا من المقلوب عندهم . قالوا : كما تقول : دخل الخاتم في يدي والخف في رجلي . وكقولهم : عرض الحوض على الناقة ، وأوردوا مما ذكروا أنه مقلوب جملة . وذهب إلى هذا التفسير أبو عبيدة والفراء وجماعة ، وينبغي أن ينزه القرآن عنه ، لأن الصحيح أن القلب لا يكون إلا في الشعر ، أو إن جاء في الكلام ، فهو من القلة بحيث لا يقاس عليه . وأما القول على أن المثل مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق ، فيكون قوله تعالى : ) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( هو على تقدير : ومثل داعي الذين كفروا . فهو على حذف مضاف ، فلا يكون من تشبيه الكافر بالناعق ، ولا بالمنعوق ، وإنما يكون من باب تشبيه داعي الكافر في دعائه إياه بالناعق بالبهائم ، في كون الكافر لا يفهم مما يخاطبه به داعيه إلا دويّ الصوت دون إلقاء ذهن ولا فكر ، فهو شبيه بالناعق بالبهيمة التي لا تسمع من الناعق بها إلا دعاءه ونداءه ، ولا تفهم شيئاً آخر . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بما لا يسمع الأصم الأصلخ ، الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والصوت لا غير ، من غير فهم للحروف . وأما على القول بأن المثل مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به ، فهو الذي اختاره سيبويه في الآية . إن المعنى : مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا ، كمثل الناعق والمنعوق به . وقد اختلف في كلام سيبويه فقيل : هو تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وقيل : هو تفسير إعراب ، وهو أن الكلام حذفين : حذف من الأول ، وهو حذف داعيهم ، وقد أثبت نظيره في الثاني ، وحذف من الثاني ، وهو حذف المنعوق به ، وقد أثبت نظيره في الأول ؛ فشبه داعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه ، وشبه الكفار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه إلا أصواتاً ، ولا يعرفون ما وراءها . وفي هذا الوجه حذف كثير ، إذ فيه حذف معطوفين ، إذ التقدير الصناعي : ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الذي ينعق والمنعوق به . وذهب إلى تقرير هذا الوجه جماعة من أصحابنا ، منهم الأستاذ أبو بكر بن طاهر وتلميذه أبو الحسن بن خروف ، والأستاذ أبو علي الشلوبين وقالوا : إن العرب تستحسنه ، وإنه من بديع كلامها ، ومثاله قوله تعالى : ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء ( التقدير : وأدخل يدك في جيبك تدخل ، وأخرجها تخرج بيضاء ، فحذف تدخل لدلالة تخرج ، وحذف وأخرجها لدلالة وأدخل ، قالوا : ومثل ذلك قول الشاعر : وإني لتعروني لذكراك فترة
كما انتفض العصفور بلله القطر
لم يرد أن يشبه فترته بانتقاض العصفور حين يبله اقطر ، لكونهما حركة وسكوناً ، فهما ضدان ، ولكن تقديره : إني إذا ذكرتك عراني انتفاض ثم أفتر ، كما أن العصفور إذا بلله القطر عراه فترة ثم ينتفض ، غير أن وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة ، وفترة العصفور قبل انتفاضه . وهذه الأقوال كلها في التشبيه ، إنما هي على مراعاة تشبيه مفرد بمفرد ، ومقابلة جزء من الكلام السابق بجزء من الكلام المشبه به . وأمّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه الجملة بالجملة ، فلا يراعى في ذلك مقابلة الألفاظ المفردة ، بل ينظر فيه إلى المعنى . وعلى هذا الضرب من التشبيه حمل الآية أبو القاسم الراغب،قال=

مجلد 4.تفسير البحر المحيط   محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي

" صفحة رقم 658 "
== الراغب : فلما شبه قصة الكافرين في إعراضهم عن الداعي لهم إلى الحق بقصة الناعق ، قدم ذكر الناعق ليبني عليه ما يكون منه ومن المنعوق به . وعلى هذا ) مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( ، وقوله تعالى : ) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هِاذِهِ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ). فهذه تسعة أقوال في تفسير هذه الآية .
وقد بقي شيء من الكلام عليها ، فنقول : ومثل الذين مبتدأ ، خبره كمثل ، والكاف للتشبيه . شبه الصفة بالصفة ، أي صفتهم كصفة الذي ينعق . ومن ذهب إلى أن الكاف زائدة ، فقوله ليس بشيء ، لأن الصفة ليست عين الصفة ، فلا بد من الكاف التي تعطى التشبيه . بل لو جاء دونن الكاف لكنا نعتقد حذفها ، لأن به تصحيح المعنى . والذي ينعق ، لا يراد به مفرد ، بل المراد الجنس . وتقدّم أن المراد : كالناعق بالبهائم ، أو كالمصوت في الجبال الذي لا يجيبه منها إلا الصدا ، أو كالمصوت بالأصم الأصلخ ، أو الكنعوق به ، فيكون من باب القلب . وقيل : كالمصوت بشيء بعيد منه ، فهو لا يسمع من أجل البعد ، فليس للمصوت من ذلك إلا النداء الذي ينصبه ويتعبه . وقيل : وقع التشبيه بالراعي للضأن ، لأنها من أبله الحيوان ، فهي تحمق راعيها . وفي المثل : أحمق من راعي ضأن ثمانين . وقال دريد بن الصمة لمالك بن عوف ، يوم هوازن : راعي ضأن والله ، لأنه لما جاء إلى قتال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أمر هوازن ومن كان معهم أن يحملوا معهم المال والنساء ، فلما لقيه دريد قال : أراك سقت المال والنساء ؟ فقال : يقاتلون عن أموالهم وحريمهم . فقال له دريد : أمنت أن تكون عليك راعي ضان والله لأصحبتك ، وقال الشاعر : أصبحت هزءاً لراعي الضان يهزأ بي
ماذا يريبك مني راعي الضان
إلاّ دعاء ونداء : هذا استثناء مفرّغ ، لأن قبله فعل مبني متعد لم يأخذ مفعوله . وذهب بعضهم إلى أنه ليس استثناء مفرغاً وأن إلاّ زائدة ، والدعاء والنداء منفي سماعهما ، والتقدير : بما لا يسمع دعاء ولا نداء ، وهذا ضعيف ، لأن القول بزيادة إلا ، قول بلا دليل . وقد ذهب الأصمعي ، رحمه الله ، إلى ذلك في قوله : خراجيح ما تنفك إلا مناخة
على الخسف أو نرمي بها بلداً قفرا
وضعف قوله في ذلك ، ولم يثبت زيادة إلا في مكان مقطوع به ، فنثبت لها الزيادة ، وأورد بعضهم هنا سؤالاً فقال : فإن قيل قوله لا يسمع إلا دعاء وندا ، ليس المسموع إلا الدعاء والنداء ، فكيف ذمهم بأنهم لا يسمعون إلا الدعاء ؟ وكأنه قيل : لا يسمعون إلا المسموع ، وهذا لا يجوز . فالجواب : أن في الكلام إيجاراً ، وإنما المعنى : لا يفهمون معاني ما يقال لهم ، كما لا يميز البهائم بين معاني الألفاظ التي لا تصوت بها ، وإنما يفهم شيئاً يسيراً ، وقد أدركته بطول الممارسة وكثرة المعاودة ، فكأنه قيل : ليس لهم إلا سماع النداء دون إدراك المعاني والأعراض . انتهى كلامه . وقال علي بن عيسى : إنما ثنى فقال : إلاّ دعاء ونداء ، لأن الدعاء طلب الفعل ، والنداء إجابة الصوت . ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ ( : تقدم الكلام على هذه الكلم . ) فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( : لما تقرر فقدهم لمعاني هذه الحواس ، قضى بأنهم لا يعقلون . كما قال أبو المعالي وغيره : العقل علوم ضرورية يعطيها هذه الحواس ، إذ لا بد في كسبها من الحواس . انتهى . قيل : والمراد العقل الاكتسابي ، لأن العقل المطبوع كان حاصلاً لهم ، والعقل عقلان : مطبوع ومكسوب . ولما كان الطريق لاكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاث ، كان إعراضهم عنها فقداً للعقل

" صفحة رقم 659 "
المكتسب ، ولهذا قيل : من فقد حساً فقد فَقَد عقلاً .
البقرة : ( 172 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَعْقِلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ( : لما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب ، وكانت وجوه الحلال كثيرة ، بين لهم ما حرم عليهم ، لكونه أقل . فلما بين ما حرم ، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر . وهذا مثل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لما سئل عما يلبس المحرم فقال : ( لا يلبس القميص ولا السراويل ) ، فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور ، لكثرة المباح وقلة المحظور ، وهذا من الإيجاز البليغ . والذين آمنوا : جمع من آمن برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويجوز أن يراد أهل المدينة ، فاللفظ عام والمراد خاص . وقيل : هذا الخطاب مؤكداً لقوله : ) الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالارْضِ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاْسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا كَذالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ حَلَالاً طَيّباً ( ، فصار هذا الأمر الثاني مثل الأول في أن متعلقة المستلذ الحلال . ما رزقناكم : فيه إسناد الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة ، لما في الرزق من الامتنان والإحسان . وإذا فسر الطيبات بالحلال ، كان في ذلك دلالة على أن ما رزقه الله ينفسم إلى حلال وإلى حرام ، بخلاف ماذهبت إليه المعتزلة ، من أن الرزق لا يكون إلا حلالاً . وقد تقدم الكلام على الرزق في أول السورة ، فأغنى عن إعادته هنا . ومن منع أن يكون الرزق حراماً قال : المراد كلوا من مستلذ ما رزقناكم ، وهو الحلال ، أمر بذلك وأباحه تعالى دفعاً لمن يتوهم أن التنوع في المطاعم والتفنن في إطابتها ممنوع منه ، فكان تخصيص المستلذ بالذكر لهذا المعنى .
( وَاشْكُرُواْ للَّهِ ( : هذا من الالتفات ، إذ خرج من ضمير المتكلم إلى اسم الغائب ، وحكمة ذلك ظاهرة ، لأن هذا الاسم الظاهر متضمن لجميع الأوصاف التي منها وصف الأنعام والزرق والشكر ، ليس على هذا الإذن الخاص ، بل يشكر على سائر الإنعامات والامتنانات التي منها هذا الامتنان الخاص . وجاء هنا تعدية الشكر باللام ، وقد تقدم الكلام على ذلك .
وتضمنت هذه الآية أمرين : الأول : ) كُلُواْ ( ، قالوا : وهو عند دفع الضرر واجب ، ومع الضيف مندوب إليه ، وإذا خلا عن العوارض كان مباحاً ، وكذا هو في الآية . والثاني : ) وَاشْكُرُواْ للَّهِ ( ، وهو أمر وليس بإباحة . قيل : ولا يمكن القول بوجوب الشكر ، لأنه إما أن يكون بالقلب ، أو باللسان ، أو بالجوارح . فبالقلب هو العلم بصدور النعمة من المنعم ، أو العزم على تعظيمه باللسان ، أو الجوارح . أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل ، فإن العاقل لا ينسى ذلك . فإذا كان ذلك العلم ضرورياً ، فكيف يمكن إيجابه ؟ وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح ، فذلك العزم القلبي تابع للإقرار اللساني والعمل بالجوارح . فإذا بينا أنهما لا يجبان ، كان العزم بأن لا يجب أولى . وأما الشكر باللسان ، فإما أن يفسر بالاعتراف له بكونه منعماً ، أو بالثناء عليه . فهذا غير واجب بالاتفاق ، بل هو من باب المندوبات . وأما الشكر بالجوارح والأعضاء ، فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه ، وذلك أيضاً غير واجب . وقال غير هذا القائل الذي تلخص أنه يجب اعتقاد كونه مستحقاً للتعظيم ، وإظهارذلك باللسان أو سائر الأفعال إن وجدت هناك . وهذا البحث في وجوب الشكر أو عدم وجوبه ، كان يناسب في أول شكر أمر به وهو قوله : ) وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ).
) إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( : من ذهب إلى أن معناها معنى إذ ، فقوله ضعيف ، وهو قول كوفي ، ولا يراد بالشرط هنا إلا

" صفحة رقم 660 "
التثبت والهز للنفوس ، وكأن المعنى : العبادة له واجبة ، فالشكر له واجب ، وذلك كما تقول لمن هو متحقق العبودية إن كنت عبدي فأطعني ، لا تريد بذلك التعليق المحض ، بل تبرزه في صورة التعليق ، ليكون أدعى للطاعة وأهزلها . وقيل : عبر بالعبادة عن العرفان ، كما قال : ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ). قيل : معناه ليعرفون ، فيكون المعنى : أشكروا الله إن كنتم عارفين به وبنعمه ، وذلك من إطلاق الأثر على المؤثر . وقيل : عبر بالعبادة عن إرادة العبادة ، أي اشكروا الله إن كنتم تريدون عبادته ، لأن الشكر رأس العبادات . وقال الزمخشري : إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) يقول الله تعالى : إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري . انتهى كلامه . وإيا هنا مفعول مقدم ، وقدم لكون العامل فيه وقع رأس آية ، وللاهتمام به والتعظيم لشأنه ، لأنه عائد على الله تعالى ، كما في قولك : ) وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( ، وهذا من الموضع التي يجب فيها انفصال الضمير ، وهو إذا تقدم على العامل أو تأخر ، لم ينفصل إلا في ضرورة ، قال :
إليك حتى بلغت إياكا
البقرة : ( 173 ) إنما حرم عليكم . . . . .
( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ( : تقدم الكلام على إنما في قوله : ) إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ). وقرأ الجمهور : حرم مسنداً إلى ضمير اسم الله ، وما بعده نصب ، فتكون ما مهيئة في إنما هيأت إن لولايتها الجملة الفعلية . وقرأ ابن أبي عبلة : برفع الميتة وما بعدها ، فتكون ما موصولة اسم إن ، والعائد عليها محذوف ، أي إن الذي حرمه الله الميتة ، وما بعدها خبران . وقرأ أبو جعفر : حرم ، مشدداً مبنياً للمفعول ، فاحتملت ما وجهين : أحدهما : أن تكون موصولة اسم إن ، والعائد الضمير المستكن في حرم والميتة خبران . والوجه الثاني : أن تكون ما مهيئة والميتة مرفوع بحرم . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : إنما حرم ، بفتح الحاء وضم الراء مخففة جعله لازماً ، والميتة وما بعدها مرفوع . ويحتمل ما الوجهين من التهيئة والوصل ، والميتة فاعل يحرم ، إن كانت ما مهيئة ، وخبر إن ، إن كانت ما موصولة . وقرأ أبو جعفر : الميتة ، بتشديد الياء في جميع القرآن ، وهو أصل للتخفيف . وقد تقدم الكلام على هذا التخفيف في قوله : ) أَوْ كَصَيّبٍ ( ، وهما لغتان جيدتان ، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله : ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
قيل : وحكى أبو معاذ عن النحويين الأولين ، أن الميت بالتخفيف : الذي فارقته الروح ، والميت بالتشديد : الذي لم يمت ، بل عاين أسباب الموت . وقد تقدم الكلام في الموت . ولما أمر تعالى : بأكل الحلال في الآية السابقة ، فصل هنا أنواع الحرام ، وأسند التحريم إلى الميتة . والظاهر أن المحذوف هو الأكل ، لأن التحريم لا يتعلق بالعين ، ولأن السابق المباح هو الأكل في قوله : ) كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ). فالممنوع هنا هو الأكل ، وهكذا حذف المضاف يقدر بما يناسب . فقوله : ) حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ( ، المحذوف : وطء ، كأنه قيل : وطء أمهاتكم

" صفحة رقم 661 "
) وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ( ، أي وطء ما وراء ذلكم . فسائر وجوه الانتفاعات محرم من هذه الأعيان المذكورة ، إما بالقياس على الأكل عند منيقول بالقياس ، وإما بدليل سمعني عند من لا يقول به .
وقال بعض الناس ما معناه : أنه تعالى لما أسند التحريم إلى الميتة ، وما نسق عليها وعلقه بعينها ، كان ذلك دليلاً على تأكيد حكم التحريم وتناول سائر وجوه المنافع ، فلا يخص شيء منها إلا بدليل يقتضي جواز الانتفاع به ، فاستنبط هذا القول تحريم سائر الانتفاعات من اللفظ . والأظهر ما ذكرناه من تخصص المضاف المحذوف بأنه الأكل . وظاهر لفظ الميتة يتناول العموم ، ولا يخص شيء منها إلا بدليل . قال قوم : خص هذا العموم بقوله تعالى : ) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ( ، وبما روي من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أحلت لنا ميتتان ) . وقال ابن عطية : الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم . انتهى . فإن عنى لم يدخل في دلالة اللفظ ، فلا نسلم له ذلك . وإن عنى لم يدخل ففي الإرادة ، فهو كما قال ، لأن المخصص يدل على أنه لم يرد به الدخول في اللفظ العام الذي خصص به .
قال الزمخشري : فإن قلت في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد . قلت : قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة . ألا ترى أن القائل إذا قال : أكل فلان ميتة ، لم يسبق الفهم إلى السمك والجراد ؟ كما لو قال : أكل دماً ، لم يسبق إلى الكبد والطحال . ولاعتبار العادة والتعارف قالوا : من حلف لا يأكل لحماً ، فأكل سمكاً ، لم يحنث ، وإن أكل لحماً في الحقيقة . وقال الله تعالى : ) لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا ( ، وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة ، فركب كافراً ، لم يحنث وإن سماه الله دابة في قوله : ) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ). انتهى كلامه .
وملخص ما يقوله : إن السمك والجراد لم يندرج في عموم الميتة من حيث الدلالة ، وليس كما قال . وكيف يكون ذلك ، وقد روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( أحلت لنا ميتتان ) ؟ فلو لم يندرج في الدلالة ، لما احتيج إلى تقرير شرعي في حله ، إذ كان يبقى مدلولاً على حله بقوله : ) كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ). وليس من شرط العموم ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه فى العادة ، كما قال الزمخشري ، بل لو لم يكن للمخاطب شعور البتة ، ولا علم ببعض أفراد العام ، وعلق الحكم على العام ، لاندرج فيه ذلك الفرد الذي لا شعور للمخاطب به . مثال ذلك ما جاء في الحديث : ( نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن أكل كل ذي ناب من السباع ) . فهذا علق الحكم فبه بكل ذي ناب . والمخاطب ، الذين هم العرب ، لا علم لهم ببعض أفراد ذي الناب ، وذلك الفرد مندرج في العموم يقضي عليه بالنهي ، كما في بلادنا ، بلاد الأندلس ، حيوان مفترس يسمى عندهم بالدب وبالسمع ، وهو ذو أنياب يفترس الرجل ويأكله ، ولا يشبه الأسد ، ولا الذئب ، ولا النمر ، ولا شيئاً مما يعرفه العرب ، ولا نعلمه خلق بغير بلاد الأندلس . فهذا لا يذهب أحد إلى أنه ليس مندرجاً في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب ، بل شمله النهي ، كما شمل غيره مما تعاهده العرب وعرفوه ، لأن الحكم نيط بالعموم وعلق به ، فهو معلق بكل فرد من أفراده ، حتى بما كان لم يخلق ألبتة وقت الخطاب ، ثم خلق شكلاً مبايناً لسائر الأشكال ذوات الأنياب ، فيندرج فيه ، ويحكم بالنهي عنه . وإنما تمثيل الزمخشري بالإيمان ، فللإيمان أحكام منوطة بها ، ويؤول التحقيق فيها إلى أن ذلك تخصيص للعموم بإرادة خروج بعض الأفراد منه .
والميتة : ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة . واختلف في السمك الطافي ، وهو ما مات في الماء فطفا . فذهب مالك وغيره أنه حلال . ومذهب العراقيين أنه ممنوع من أكله . وفي كلام بعض الحنفيين عن أبي حنيفة أنه مكروه . وأما ما مات من الجراد بغير تسبب ، فهو عند مالك وجمهور أصحابه أنه حرام ، وعند ابن

" صفحة رقم 662 "
عبد الحكم وابن نافع حلال ، وعند ابن القاسم وابن وهب وأشهب وسحنون تقييدات في الجراد ذكرت في كتب المالكية . هذا حكم الميتة بالنسبة إلى الأكل . وأما الانتفاع بشيء منها ، نحو : الجلد ، والشعر ، والريش ، واللبن ، والبيض ، والأنفخة ، والجنين ، والدهن ، والعظم ، والقرن ، والناب ، والغصب ، فذلك مذكور في كتب الفقه ، ولهم في ذلك اختلاف وتقييد كثير يوقف على ذلك في تصانيفهم .
والدم : ظاهره العموم ، ويتخصص بالمسفوح لآية الأنعام . فإذا كان مسفوحاً ، فلا خلاف في نجاسته وتحريمه . وفي دم السمك المزايل له في مذهب مالك قولان : أحدهما : أنه طاهر ، ويقتضي ذلك أنه غير محرم . وأجمعوا على جواز أكل الدم المتحلل بالعروق واللحم الشاق إخراجه ، وكذلك الكبد والطحال . وذكر المفسرون في يسير الدم المسفوح الخلاف في العفو عنه ، وفي مقدار اليسير ، والخلاف في دم البراغيث والبق والذباب ، وهذا كله من علم الفقه ، فيطالع في كتب الفقه . ولم يذكرالله تعالى حكمة في تحريم أكل الميتة والدم ، ولا جاء نص عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في ذلك . ولو تعبدنا تعالى بجواز أكل الميتة والدم ، لكان ذلك شرعاً يجب اتباعه . وقد ذكروا أن الحكمة في تحريم الميتة جمود الدم فيها بالموت ، وأنه يحدث أذى للآكل . وفي تحريم الدم أنه بعد خروجه يجمد ، فهو في الأذى كالجامد في الميتة ، وهذا ليس بشيء ، لأن الحس يكذب ذلك . وجدنا من يأكل الميتة ، ويشرب الدم من الأمم ، صورهم وسحنهم من أحسن ما يرى وأجمله ، ولا يحدث لهم أذى بذلك .
ولحم الخنزير : ظاهره أن المحرم منه هو لحمه فقط . وقد ذهب إلى ذلك داود ، رأس الظاهرية ، فقال : المحرم اللحم دون الشحم . وقال غيره من سائر العلماء : المحرم لحمه وسائر أجزائه . وإنما خص اللحم بالذكر ، والمراد جميع أجزائه ، لكون اللحم هو معظم ما ينتفع به . كما نص على قتل الصيد على المحرم ، والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد . وكما نص على ترك البيع ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ ( ، لأنه كان أعظم ما كانوا يبتغون به منافعهم ، فهو أشغل لهم من غيره ، والمراد جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة . وقال الزمخشري : فإن قلت : فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه ؟ قلت : لأن الشحم داخل في ذكر اللحم بدليل قوله : لحم سمين ، يريدون أنه شحيم . انتهى . وقولهم هذا ليس بدليل على أن الشحم داخل في ذكر اللحم ، لأن وصف الشيء بأنه يمازجه شيء آخر ، لا يدل على أنه مندرج تحت مدلول ذلك الشيء ، ألا ترى أنك تقول مثلاً رجل لابن ، أو رجل عالم ؟ لا يدل ذلك على أن اللبن أو العلم داخل في ذكر الرجل ، ولا أن ذكر الرجل . مجرداً عن الوصفين يدل عليهما . وقال ابن عطية : وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ، ذكي أو لم يذك ، وليعم الشحم وما هناك من الغضاريف وغيرها . وأجمعت الأمة على تحريم شحمه . انتهى كلامه . وليس كما ذكر ، لأن ذكر اللحم لا يعم الشحم وما هناك من الغضاريف ، لأن

" صفحة رقم 663 "
كلاًّ من اللحم والشحم وما هناك من غضروف وغيره ، وليس له اسم يخصه . إذ أطلق ذلك الاسم ، لم يدخل فيه الآخر ، ولا يدل عليه ، لا بمطابقه ، ولا تضمن . فإذن ، تخصيصه بالذكر يدل على تخصيصه بالحكم ، إذ لو أريد المجموع ، لدل بلفظ يدل على المجموع . وقوله : أجمعت الأمة على تحريم شحمه ، ليس كما ذكر . ألا ترى أن داود لا يحرم إلا ما ذكره الله تعالى ، وهو اللحم دون الشحم ؟ إلا أن يذهب ابن عطية إلى ما يذكر عن أبي المعالي عبد الملك الجويني ، من أنه لا يعتد في الإجماع ، بخلاف داود ، فيكون ذلك عنده إجماعاً . وقد اعتد أهل العلم الذين لهم الفهم التام والاجتهاد ، قبل أن يخلق الجويني بأزمان ، بخلاف داود ، ونقلوا أقاويله في كتبهم ، كما نقلوا أقاويل الأئمة ، كالأوزاعي ، وأبي حنيفة ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد . ودان بمذهبه وقوله وطريقته ناس وبلاد وقضاة وملوك الأزمان الطويلة ، ولكنه في عصرنا هذا قد حمل هذا المذهب . ولما كان اللحم يتضمن عند مالك الشحم ، ذهب إلى أنه لو حلف حالف أن لا يأكل لحماً ، فأكل شحماً ، أنه يحنث . وخالفه أبو حنيفة والشافعي فقالا : لا يحنث ، كما لو حلف أنه لا يأكل شحماً ، فأكل لحماً . وقال تعالى : ) حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا ). والإجماع ، أن اللحم ليس بمحرم على اليهود ، فالحق أن كلاًّ منهما لا يندرج تحت لفظ الآخر .
واختلفوا في الانتفاع بشعره ، في خرز وغيره ، فأجاز ذلك مالك وأبو حنيفة والأوزاعي ، ولم يجز ذلك الشافعي . وقال أبو يوسف : أكره الخرز به . وروي عنه الإباحة أيضاً . وهل يتناول لفظ الخنزير خنزير البحر ؟ ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأصحابه ؟ فمنعوا من أكله ؟ وقال ابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي : لا بأس بأكله . وقال الليث : لا يؤكل خنزير الماء ، ولا إنسانه ، ولا كلبه . وسئل مالك عن خنزير الماء ، فتوقف وقال : أنتم تسمونه خنزيراً . وقال ابن القاسم : أنا أتقيه ولا أحرمه . وعلة تحريم لحم الخنزير قالوا : تفرد النصارى بأكله ، فنهى المسلمون عن أكله ، ليكون ذلك ذريعة إلى أن تقاطعوهم ، إذ كان الخنزير من أنفس طعامهم . وقيل : لكونه ممسوخاً ، فغلط تحريم أكله لخبث أصله . وقيل : لأنه يقع الغيرة ويذهب بالأنفة ، فيتساهل الناس في هتك المحرم وإباحة الزنا ، ولم تشر الآية الكريمة إلى شيء من هذه التعليلات التي ذكروها .
وما أهلّ به لغير الله : أي ما ذبح للأصنام والطواغيت ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك ، أو ما ذكر عليه اسم غير الله ، قاله الربيع بن أنس وغيره ، أو ما ذكر اسم المسيح عليه ، قاله الزهري ، أو ما قصد به غير وجه الله تعالى للتفاخر والتباهي ، قاله عليّ والحسن . وروي أن علياً قال في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق : إنها مما أهلّ بها لغير الله ، فتركها الناس ، راعى عليٌّ النية في ذلك . ومنع الحسن من أكل جزور ذبحتها امرأة للعبها وقال : إنها نحرت لصنم . وسئلت عائشة عن أكل ما يذبحه الأعاجم لأعيادهم ويهدون للمسلمين فقالت : لا تأكلوه ، وكلوا من أشجارهم . والذي يظهر من الآية تحريم ما ذبح لغير الله ، فيندرج في لفظ غير الله الصنم والمسيح والفخر واللعب ، وسمي ذلك إهلالاً ، لأنهم يرفعون أصواتهم باسم المذبوح له عند الذبيحة ، ثم توسع فيه وكثر حتى صار اسماً لكل ذبيحة جهر عليها أو لم يجهر ، كالإهلال بالتلبية صار علماً لكل محرم رفع صوته أو لم يرفعه . ومن حمل ذلك على ما ذبح على النصب ، وهي الأوثان ، أجاز ذبيحة النصراني ، إذا سمى عليها باسم المسيح . وإلى هذا ذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وابن المسيب والأوزاعي والليث . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك

" صفحة رقم 664 "
والشافعي : لا تؤكل ذبائحهم إذا سموا عليها اسم المسيح ، وهو ظاهر قوله : ) لِغَيْرِ اللَّهِ ( كما ذكرناه ، لأن الإهلال لغير الله ، هو إظهار غير اسم الله ، ولم يفرق بين اسم المسيح واسم غيره . وروي عن علي أنه قال : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا . وأهلّ : مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله . والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور في قوله : به ، والضمير في به عائد على ما ، إذ هي موصولة بمعنى الذي . ومعنى أهل بكذا ، أي صالح . فالمعنى : وما صيح به ، أي فيه ، أي في ذبحه لغير الله ، ثم صار ذلك كناية عن كل ما ذبح لغير الله ، صيح في ذبحه أو لم يصح ، كما ذكرناه قبل . وفي ذبيحتة المجوسي خلاف . وكذلك فيما حرم على اليهودي والنصراني بالكتاب . أما ما حرموه باجتهادهم ، فذلك لنا حلال . ونقل ابن عطية عن مالك : الكراهة فيما سمي عليه الكتابي اسم المسيح ، أو ذبحه لكنيسة ، ولا يبلغ به التحريم .
( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ( ، وقال : ) فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ). وقال : ) وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ( ، فلم يقيد في هذه الآية الاضطرار ، وقيده فيما قبل . فإن المضطر يكون غير متجانف لإثم . وفي الأولى بقوله : ) غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ). قال مجاهد وابن جبير وغيرهما : غير باغ على المسلمين وعاد عليهم . فيدخل في الباغي والعادي : قطاع السبيل ، والخارج على السلطان ، والمسافر في قطع الرحم ، والغارة على المسلمين وما شاكله ، ولغير هؤلاء هي الرخصة . وإلى هذا ذهب الشافعي ، وهو أنه إذا لم يخرج باغياً على إمام المسلمين ، ولم يكن سفره في معصية ، فله أن يأكل من هذه المحرّمات إذا اضطر إليها . وإن كان سفره في معصية ، أو كان باغياً على الإمام ، لم يجز له أن يأكل . وقال عكرمة وقتادة والربيع وابن زيد وغيرهم : غير قاصد فساد وتعدّ ، بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة . وقال ابن عباس والحسن : غير باغ في الميتة في الأكل ، ولا عاد بأكلها ، وهو يجد غيرها ، وهو يرجع لمعنى القول قبله . وبه قال أبو حنيفة ومالك : وأباح هؤلاء للبغاة الخارجين على المسلمين الأكل من هذه المحرّمات عند الاضطرار ، كما أباحوا لأهل العدل . وقال السدي : غير باغ ، أي متزيد على إمساك رمقه وإبقاء قوّته ، فيجيء أكله شهوة ، ولا عاد ، أي متزوّد . وقيل : غير باغ ، أي مستحل لها ، ولا عاد ، أي متزوّد منها . وقال شهر بن حوشب : غير باغ ، أي مجاوز القدر الذي يحل له ، ولا عاد ، أي لا يقصده فيما لا يحل له .
والظاهر من هذه الأقوال ، على ما يفهم من ظاهر الآية ، أنه لا إثم في تناول شيء من هذه المحرمات للمضطر الذي ليس بباغ ولا عاد . وإن قوله : ) إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ( ، لا بد فيه من التقييد المذكور هنا ، وفي قوله : ) غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ( ، لأن آية الأنعام فيها حوالة على هاتين الآيتين ، لأنه قال : ) وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ). وتفصيل المحرّم هو في هاتين الآيتين ، والاضطرار فيهما مقيد ، فتعين أن يكون مقيداً في الآية التي أحيلت على غيرها . والظاهر في البغي والعدوان ، أن ذلك من قبل المعاصي ، لأنهما متى أطلقتا ، تبادر الذهن إلى ذلك . وفي جواز مقدار ما يأكل من الميتة ، وفي التزوّد منها ، وفي شرب الخمر عند الضرورة قياساً على هذه المحرمات . وفي أكل ابن آدم خلاف مذكور في كتب الفقه ، قالوا : وإن وجد ميتة وخنزيراً ، أكل الميتة ، قالوا : لأنها أبيحت له في حال الاضطرار ، والخنزير لا يحل بحال ، وليس كما قالوا ، لأن قوله : ) فَمَنِ اضْطُرَّ ( جاء بعد ذكر تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير . فالمعنى : فمن اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات ، فرتبتها في الإباحة للأكل منها متساوية ، فليس شيء منها أولى من الآخر بالإباحة ، والمضطر مخير فيما يأكل منها . فقولهم : إن الخنزير لا يحل بحال ليس بصحيح .
وذكر بعض المفسرين أنهم أجمعوا على أن من سافر لغزو ، أو حج ، أو تجارة ، وكان مع ذلك باغياً في أخذ مال ، أو عادياً في ترك صلاة أو زكاة ، لم يكن ما هو عليه من البغي والعدوان مانعاً من استباحة الميتة للضرورة . وأنهم أجمعوا أيضاً على جواز الترخيص للباغي ، أو العادي الحاضر ، وفي نقل هذين الإجماعين نظر .
واختلف القراء في حركة النون من قوله : ) فَمَنِ اضْطُرَّ وَأَنِ احْكُم ( ، ( وَلَاكِن

" صفحة رقم 665 "
ِ انْظُرْ ( ، وشبهه وحركة الدال من : ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىء ( ، والتاء من : ) وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ( ، وحركة التنوين من : ) فَتِيلاً أَنظُرْ ( ، ونحوه ، وحركة اللام من نحو : ) قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ ( ، والواو من نحو : ) أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ ( ، فكسر ذلك عاصم وحمزة ، وحركها أبو عمرو ، إلا في اللام والواو ؛ وعباس ويعقوب ، إلا في الواو ؛ وضم باقي السبعة ، إلا ابن ذكوان ، فإنه كسر التنوين . وعنه في : ) بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ ( ، و ) خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ ( خلاف ، وضابط هذا أنه يكون ضمة هذه الأفعال لازمة ، فإن كانت عارضة ، فالكسر نحو : ) أَنِ امْشُواْ ( ، وتوجيه الكسر أنه حركة التقاء الساكنين ، والضم أنه اتباع . ولم يعتدوا بالساكن ، لأنه حاجز غير حصين ، أو ليدلوا على أن حركة همزة الوصل المحذوفة كانت ضمة . وقرأ أبو جعفر وأبو السمال : فمن اضطر ، بكسر الطاء ، وأصله اضطرر ، فلما أدرغم نقلت حركة الراء إلى الطاء . وقرأ ابن محيصن : فمن اطر ، بإدغام الضاد في الطاء ، وذلك حيث وقع . ومعنى الاضطرار : الالجاء بعدم ، وغرث هذا قول الجمهور . وقيل معناه : أكره وغلب على أكل هذه امحرمات . وانتصاب غير باغ على الحال من الضمير المستكن في اضطر ، وجعله بعضهم حالاً من الضمير المستكن في الفعل المحذوف المعطوف على قوله : اضطر ، وقدره : فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد . قدره كذلك القاضي وأبو بكر الرازي ليجعلا ذلك قيداً في الأكل ، لا في الاضطرار . ولا يتعين ما لاقاه ، إذ يحتمل أن يكون هذا المقدر بعد قوله : غير باغ ولا عاد ، بل هو الظاهر والأولى ، لأن في تقدير قبل غير باغ ولا عاد فصلاً بين ما ظاهره الاتصال بما بعده ، وليس ذلك في تقديره بعد قوله غير باغ ولا عاد . وعاد : اسم فاعل من عدا ، وليس اسم فاعل من عاد ، فيكون مقلوباً ، أو محذوفاً من باب شاك ولاث ، كما ذهب إليه بعضهم ، لأن القلب لا ينقاس ، ولا نصير إليه إلا لموجب ، ولا موجب هنا لادعاء القلب . وأصل البغي ، كما تقدم ، هو طلب الفساد ، وإن كان قد ورد لمطلق الطلب ، فاستعمل في طلب الخير ، كما قال الشاعر : أألخير الذي أنا أبتغيه
أم الشر الذي هو يبتغيني
ويقال :
لا يمنعك من بغاء الخير تعقاد التمائم فلا إثم عليه ، الإثم : تحمل الذنب ، نفى بذلك عنه الحرج . والمحذوف الذي قدرناه من قولنا : فأكل ، لا بد منه ، لأنه لا ينف الإثم عمن لم يوجد منه الاضطرار ، ولا يترتب ذلك على الاضطرار وحده ، بل على الأكل المترتب على الاضطرار ، في حال كون المضطر لا باغياً ولا عادياً . وظاهر هذا التركيب أنه متى كان عاصياً بسفره فأكل ، أنه يكون عله الإثم ، لأنه يطلق أنه باغ ، خلافاً لأبي حنيفة ومن وافقه ، فإنه يبيح له الأكل عند الضرورة . وظاهر بناء اضطر حصول مطلق الضرورة بشغب ، أو إكراه ، سواء حصل الاضطرار في سفر أو حضر . وظاهر قوله : ) فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ( نفي كل فرد من الإثم عنه إذا أكل ، لا وجوب الأكل . وقال الطبري : ليس الأكل عند الضرورة رخصة ، بل ذلك عزيمة واجبة ، ولو امتنع من الأكل كان عاصياً . وقال مسروق : بلغني أنه من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات ، دخل النار ، كأنه أشار إلى أنه قاتل نفسه بتركه ما أباح الله له .
( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( : لما ذكر أشياء محرمة اقتضى المنع منها ، ثم ذكر إباحتها للمضطر في تلك الحال المقيدة له ، أتبع ذلك بالإخبار عن نفسه بأنه تعالى غفور رحيم ، لأن المخاطب بصدد أن يخالف ، فيقع في شيء من أكل هذه المحرمات ، فأخبر بأنه غفور للعصاة إذا تابوا ، رحيم بها . أو لأن المخاطب ، إذا اضطر فأكل ما يزيد على قدر الحاجة ، فهو تعالى غفورله ذلك ، رحيم بأن أباح له قدر الحاجة . أو لأن مقتضى الحرمة قائم في هذه المحرمات ، ثم رخص في تناولها مع قيام المانع ، فعبر عن هذا الترخيص والإباحة بالمغفرة ، ثم ذكر بعد الغفران صفة الرحمة ، أي لأجل رحمتي بكم أبحت لكم ذلك . .
البقرة : ( 174 ) إن الذين يكتمون . . . . .
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ( : روي عن ابن عباس أنها نزلت في علماء اليهود ، كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا ، وكانوا يرجون أن يكون النبي

" صفحة رقم 666 "
المبعوث منهم . فلما بعث من غيرهم ، غيروا صفته وقالوا : هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان ، حتى لا يتبعوه . وروي عنه أنه قال : إن الملوك سألوا علماءهم قبل المبعث : ما الذي تجدون في التوراة ؟ فقالوا : نجد أن الله يبعث نبياً من بعد المسيح يقال له محمد ، بتحريم الربا والخمر والملاهي وسفك الدماء . فلما بعث ، قالت الملوك لليهود : هذا الذي تجدونه في كتابكم ؟ فقالوا ، طمعاً في أموال الملوك : ليس هذا بذلك النبي . فأعطاهم الملوك الأموال ، فأنزلت إكذاباً لهم . وقيل : نزلت في كل كاتم حق ، لأخذ غرض أو إقامة غرض من مؤمن ويهودي ومشرك ومعطل . وإن صح سبب نزول ، فهي عامة ، والحكم للعموم . وإن كان السبب خاصاً ، فيتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختاراً لذلك ، لسبب دنيا يصيبها .
ما أنزل الله من الكتاب : ظاهره أنه أنزل من علو إلى أسفل ، وأنه تعالى أنزل ملكاً به ، أي بالكتاب على رسوله . وقيل : معنى أنزل الله ، أي أظهر ، كقوله : ) سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ ( ، أي أظهر . فكون المعنى : أن الذين يكتمون ما أظهر الله ، فيكون الإظهار في مقابلة الكتمان . وفي المراد بالكتاب هنا أقوال : أحدها : أنه التوراة ، فيكون الكاتمون أحبار اليهود ، كتموا صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وغيروها ، وكتموا آيات في التوراة ، كآية الرجم وشبه ذلك . وقيل : التوراة والإنجيل ، ووحد اللفظ على المكتوب ، ويكون الكاتمون اليهود والنصارى . وصف الله نبيه في الكتابين ، ونعته فيهما وسماه فقال : ) يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ( ، وقال : ) وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ). والطائفتان أنكروا صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقد شهدت التوراة والإنجيل بذلك ، والنصوص موجودة فيهما ، الآن في مواضع منها في التوراة في الفصل التاسع ، وفي الفصل العاشر من السفر الأول ، وفي الفصل العشرين من السفر الخامس . ومنها في الإنجيل مواضع تدلّ على ذلك ، قد ذكر جميعها ، من تعرض للكلام على ذلك . وقيل : الكتاب المكتوب ، وهو أعم من التوراة والإنجيل ، فيتناول كل من كتم ما أنزل الله مما يتعلق بالأحكام قديماً وحديثاً ، وكل كاتم لحق وساتر لأمر مشروع .
( وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا ( : لما تعوضوا عن الكتم شيئاً من سحت الدّنيا ، أشبه ذلك البيع والشراء ، لانطوائهما على عوض ومعوض عنه ، فأطلق عليه اشتراء . وبه : الضمير عائد على الكتمان ، أو الكتاب ، أو على الموصول الذي هو : ما أقوال ثلاثة ، أظهرها الآخر ، ويكون على حذف مضاف ، أي بكتم ما أنزل الله به . والفرق بين هذا القول وقول من جعله عائداً على الكتم ، أنه يكون في ذلك القول عائداً على المصدر المفهوم من قوله : ) يَكْتُمُونَ ( ، وفي هذا عائداً على ما على حذف مضاف ، وتقدم الكلام في تفسير قوله : ) لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ( ، فأغنى عن إعداته ، إلا فعل الاشتراء جعل علة هناك وهنا جعل معطوفاً على قوله ( يكتمون ) ورتب الخبر على مجموع الأمرين من الكتم والاشتراء ، لأن الكتم ليست أسبابه منحصرة في الاشتراء ، بل الاشتراء بعض أسبابه . فكتم ما أنزل الله من الكتاب ، وهو أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وإنكار نبوته وتبديل صفته ، كان لأمور منها البغي ، ( بَغْيًا أَن يُنَزّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ). ومنها الخسارة ، لكونه من العرب لا منهم . ومنها طلب الرياسة ، وأن يستتبعوا أهل ملتهم . ومنها تحصيل أموالهم ورشاء ملوكهم وعوامهم .
( أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ( : أتى بخبر إن جملة ، لأنها أبلغ من المفرد ، وصدر بأولئك ، إذ هو اسم إشارة دال على اتصاف المخبر عنه بالأوصاف السابقة . وقد تقدم لنا الكلام في ذلك في قوله : ) أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ ). ثم أخبر عن أولئك بأخبار أربعة : الأول : ) مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ( ، فمنهم من حمله على ظاهره وقال : إن ذلك يكون في الدنيا ، وإن الرشاء التي هم يأكلونها تصير في أجوافهم ناراً ، فلا يحسون بها إلا بعد الموت . ومنع تعالى أن يدركوا أنها نار ، استدراجاً وإملاء لهم . ويكون في هذا المعنى بعض تجوز ، لأنه حالة الأكل لم يكن ناراً ، إنما بعد

" صفحة رقم 667 "
صارت في بطونهم ناراً . وقيل : إن ذلك يكون في الآخرة ، فهو حقيقة أيضاً . واختلفوا فقيل : جميع ما أكلوه من السحت والرشاء في الدنيا يجعل ناراً في الآخرة ، ثم يطعمهم الله إياه في النار . وقيل : يأمر الزبانية أن تطعمهم النار ليكون عقوبة الأكل من جنسه . وأكثر العلماء على تأويل قوله : ) مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ( ، على معنى : أنهم يجازون على ما اقترفوه من كتم ما أنزل الله ، والاشتراء به الثمن القليل ، بالنار . وإن ما اكتسبوه بهذه الأوصاف الذميمة مآله إلى النار . وعبر بالأكل ، لأنه أعظم منافع ما تصرف فيه الأموال . وذكر في بطونهم ، أما على سبيل التوكيد ، إذ معلوم أن الأكل لا يكون إلا في البطن ، فصار نظير : ) وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ). أو كناية عن ملء البطن ، لأنه يقال : فلان أكل في بطنه ، وفلان أكل في بعض بطنه . أو لرفع توهم المجاز ، إذ يقال : أكل فلان ماله ، إذ بذره ، وإن لم يأكله . وجعل المأكول النار ، تسمية له بما يؤول إليه ، لأنه سبب النار ، وذلك كما يقولون : أكل فلان الدم ، يريدون الدية ، لأنها بدل من الدم ، قال الشاعر : فلو أن حياً يقبل المال فدية
لسقنا إليه المال كالسيل مفعما
ولكن لنا قوم أصيب أخوهم
رضا العار واختاروا على اللبن الدما
وقال آخر : أكلت دماً إن لم أرعك بضربة
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وقال آخر :
تأكل كل ليلة أكافا
أي ثمن أكاف ، ومعنى التلبس موجود في جميع ذلك . وتسمية الشيء بما يؤول إليه كثير ، ومن ذلك : ) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( ، ومن ذلك الذي يشرب في آنية الذهب والفضة ، إنما يجر في بطنه نار جهنم ، وذكر في بطونهم تنبيهاً على شرهم وتقبيحاً لتضييع أعظم النعم لأجل المطعوم الذي هو أحسن متناول ، قاله الراغب . وقال ابن عطية نحوه ، قال : وفي ذكر البطن تنبيه على مذهبهم ، بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له ، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم .
( وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( : هذا الخبر الثاني عن أولئك ، وظاهره نفي الكلام مطلقاً ، أعني مباشرتهم بالكلام ، فيكون ما جاء في القرآن ، أو في السنة ، مما ظاهره أنه تعالى يحاورهم بالكلام ، متأولاً بأنه يأمر من يقول لهم ذلك ، نحو قوله تعالى : ) قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( ، ويكون في نفي كلامه تعالى إياهم ، دلالة على الغضب عليهم ، ألا ترى أن من غضب على شخص صرمه وقطع كلامه ؟ لأن في التكلم ، ولو كان بشر ، تأنيساً مّا والتفاتاً إلى المكلم . وقيل : معنى ولا يكلمهم الله : أي يغضب عليهم . وليس المراد نفي الكلام ، إذ قد جاء في غير موضع ما ظاهره : أنه يكلم الكافرين ، قاله الحسن . وقيل : المعنى ليس على العموم ، إذ قد جاء في القرآن ما ظاهره أنه يكلمهم ، كقوله : ) فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ، والسؤال لا يكون إلا بالتكليم ، وقال : ) قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ). فالمعنى : لا يكلمهم كلام خير وإقبال وتحية ، وإنما يكلمهم كلاماً يشق عليهم . وقيل : المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية . وقيل : ولا يكلمهم الله ، تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة الله إياهم بكلامه . وقيل : المعنى لا يحملهم على الكلام ، لأن من كلمته ، كنت قد استدعيت كلامه ، كأنه قال : لا يستدعي كلامهم فيكون نحو قوله : ) وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( ، فنفى الكلام ، وهو يراد ما يلزم عنه ، وهو استدعاء الكلام .
( وَلاَ يُزَكّيهِمْ ( : هذا هو الخبر الثالث ، والمعنى : لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال

" صفحة رقم 668 "
الأزكياء ، أو لا ينزلهم منزلة الأزكياء . وقيل : المعنى لا يصلح أعمالهم الخبيثة . وقيل : المعنى لا يثني عليهم من قولهم : زكى فلاناً ، إذ أثنى عليه ، قاله الزجاج . وقيل : لا يطهرهم من دنس كفرهم ، وهو معنى قول بعضهم : لا يطهرهم من موجبات العذاب ، قاله ابن جرير . وقيل : المعنى لا يسميهم أزكياء .
( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( : هذا هو الخبر الرابع لأولئك ، وقد تقدم تفسير قوله : ) وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ، في أول السورة . وترتب على الكتمان واشتراء الثمن القليل هذه الأخبار الأربعة ، وانعطفت بالواو الجامعة لها . وعطف الأخبار بالواو ، ولا خلاف في جوازه ، بخلاف أن لا تكون معطوفة ، فإن في ذلك خلافاً وتفصيلاً . وناسب ذكر هذه الأخبار ما قبلها ، ومناسب عطف بعضها على بعض ، لما تذكره فنقول : متى ذكر وصف ورتب عليه أمر ، فللعرب فيه طريقان : أحدهما : أن تكون تلك الأمور المترتبة على الأوصاف مقابلة لها ، الأول منها لأول تلك الأوصاف ، والثاني للثاني ، فتحصل المقابلة من حيث المعنى ومن حيث الترتيب اللفظي ، حيث قوبل الأول بالأول ، والثاني بالثاني . وتارة يكون الأول من تلك الأمور مجاوراً لما يليه من تلك الأوصاف ، فتحصل المقابلة من حيث المعنى ، لا من حيث الترتيب اللفظي ، وهذه الآية جاءت من هذا القبيل .
لما ذكر تعالى اشتراءهم الثمن القليل ، وكان ذلك كناية عن مطاعمهم الخسيسة الفانية ، بدأ أولاً في الخبر بقوله : ) مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ). ثم قابل تعالى كتمانهم الدين والكتمان ، هو أن لا يتكلموا به بل يخفوه بقوله تعالى : ) وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ ( ، فجوزوا على منع التكلم بالدين أن منعوا تكليم الله إياهم ، وابتنى على كتمانهم الدين ، واشترائهم بما أنزل الله ثمناً قليلاً ، أنهم شهود زور وأخبار سوء ، حيث غيروا نعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وادعوا أن النبي المبتعث هو غير هذا ، فقوبل ذلك كله بقوله : ) وَلاَ يُزَكّيهِمْ ). ثم ذكر أخيراً ما أعد لهم من العذاب الأليم ، فرتب على اشتراء الثمن القليل قوله : ) مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ( ، وعلى الكتمان قوله : ) وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ ( ، وعلى مجموع الوصفين قوله : ) وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ). فبدأ أولاً : بما يقابل فرداً فرداً ، وثانياً : بما يقابل المجموع . ولما كانت الجملة الأولى مشتملة على فعل مسند إلى الله ، كان الكلام الذي قابلها فيه فعل مسند إلى الله . ولما كانت الثانية مسندة إليهم ، ليس فيها إسناد إلى الله ، جاءت الجملة المقابلة لها مسندة إليهم ، ولم يأت ما يطعمهم الله في بطونهم إلا النار . وناسب ذكر هذه الآية ما قبلها ، لأنه تعالى ذكر في الآية قبلها إباحة الطيبات ، ثم فصل أشياء من المحرمات ، فناسب أن يذكر جزاء من كتم شيئاً من دين الله ، ومما أنزله على أنبيائه ، فكان ذلك تحذيراً أن يقع المؤمنون فيما وقع فيه أهل الكتاب ، من كتم ما أنزل الله عليهم واشترائهم به ثمناً قليلاً .
البقرة : ( 175 ) أولئك الذين اشتروا . . . . .
( أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ( ، أولئك : اسم إشارة إلى الكاتمين الذين سبق ذكرهم ، وذكر ما أوعدوا به ، وتقدم تفسير : ) أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ( مستوعباً في أول السورة ، فأغنى عن إعادته . ) وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ( : لما قدم حالهم في الدنيا ، بأنهم اعتاضوا من الهدى الضلالة ، ذكر نتيجة ذلك في الآخرة ، وهو أنهم اعتاضوا من المغفرة التي هي نتيجة الهدى . وسبب النعم الأطول السرمدي ، العذاب الأطول السرمدي ، الذي هو نتيجة الضلالة ، لأنهم لما كانوا عالمين بالحق ، وكتموه لغرض خسيس دنياوي . فإن كان ذلك اشتراء للعذاب بالمغفرة . وفي لفظ اشتروا إشعار بإيثارهم الضلالة والعذاب ، لأن الإنسان لا يشتري إلا ما كان له فيه رغبة ومودة . واختيار وذلك يدل على نهاية الخسارة ، وعدم النظر في العواقب .
( فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ( : اختلف في ما ، فالأظهر أنها تعجبية ، وهو قول الجمهور من المفسرين . وقد جاء : ) قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( ، ( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ). وأجمع النحويون على أن ما التعجبية في موضع رفع بالابتداء واختلفوا ، أهي نكرة تامة والفعل بعدها في موضع الخبر ؟ أو استفهامية صحبها معنى التعجب والفعل بعدها في موضع الخبر ؟ أو موصولة والفعل بعدها صلة والخبر محذوف ؟ أو موصوفة والفعل بعدها صفة والخبر محذوف ؟ أقوال أربعة ذكرت في النحو . الأول قول سيبويه والجمهور ، والثاني قول الفراء وابن درستويه ، والثالث

" صفحة رقم 669 "
والرابع للأخفش . وكذلك اختلفوا في أفعل بعد ما التعجبية ، أهو فعل ؟ وهو مذهب البصريين ، أم اسم ؟ وهو مذهب الكوفيين . وينبني عليه الخلاف في المنصوب بعده ، أهو مفعول به أو مشبه بالمفعول به ؟ وإذا قلنا : إن الكلام هو تعجب ، فالتعجب هو استعظام الشيء وخفاء حصول السبب ، وهذا مستحيل في حق الله تعالى ، فهو راجع لمن يصح ذلك منه ، أي هم ممن يقول فيهم من رآهم : ما أصبرهم على النار واختلف قائلو التعجب ، أهو صبر يحصل لهم حقيقة إذا كانوا في النار ؟ فذهب إلى ذلك الأصم وقال : إذا قيل لهم : ) اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( ، سكتوا وانقطع كلامهم ، وصبروا على النار ليأسهم من الخلاص . وضعف قول الأصم ، بأن ظاهر التعجب ، أنه من صبرهم في الحال ، لا أنهم سيصبرون ، وبأن أهل النار قد يقع منهم الجزع . وقيل : الصبر مجاز عن البقاء في النار ، أي ما أبقاهم في النار . أم هو صبر يوصفون به في الدنيا ؟ وهو قول الجمهور . واختلف ، أهو حقيقة أم مجاز ؟ والقائلون بأنه حقيقة ، قالوا : معناه ما أصبرهم على عمل يؤدّيهم إلى النار ، لأنهم كانوا علماء بأن من عاند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) صار إلى النار ، قاله المؤرج . وقيل : التقدير ما أصبرهم على عمل أهل النار ، كما تقول : ما أشبه سخاءك بحاتم ، أي بسخاء حاتم ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، وهو قول الكسائي وقطرب ، وهو قريب من قول المؤرج . وقيل : اصبر هنا بمعنى أجرأ ، وهي لغة يمانية ، فيكون لفظ اصبر إذ ذاك مشتركاً بين معناها المتبادر إلى الذهن من حبس النفس على الشيء المكروه ، ومعنى الجراءة ، أي ما أجرأهم على العمل الذي يقرب إلى النار ، قاله الحسن وقتادة والربيع وابن جبير . قال الفراء : أخبرني الكسائي قال : أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه ، فوجبت اليمين على أحدهما ، فحلف له خصمه ، فقال له : ما أصبرك على الله أي ما أجرأك على الله والقائلون بأنه مجاز . فقيل : هو مجاز أريد به العمل ، أي ما أعملهم بأعمال أهل النار قاله مجاهد . وقيل : هو مجاز أريد به قلة الجزع ، أي ما أقل جزعهم من النار وقيل : هو مجاز أريد به الرضا ، وتقريره أن الراضي بالشيء يكون راضياً بمعلوله ولازمه ، إذا علم ذلك اللزوم . فلما أقدموا على ما يوجب النار ، وهم عالمون بذلك ، صاروا كالراضين بعذاب الله والصابرين عليه ، وهو كما يقول لمن تعرض لغضب السلطان : ما أصبرك على القيد والسجن وقال الزمخشري : فما أصبرهم على النار تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم . انتهى كلامه ، وانتهى القول في أن الكلام تعجب . وذهب معمر بن المثنى والمبرد إلى أن ما استفهامية لا تعجبية ، وهو استفهام على معنى التوبيخ بهم ، أي : أيّ شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل ؟ وهو قول ابن عباس والسدي . يقال : صبره وأصبره بمعنى : أي جعله يصبر ، لا أن أصبر هنا بمعنى : حبس واضطر ، فيكون أفعل بمعنى : فعل ، خلافاً للمبرد ، إذ زعم أن أصبر بمعنى : صبر ، ولا نعرف ذلك في اللغة ، وإنما تكون الهمزة للنقل ، أي يجعل ذا صبر . وذهب قوم إلى أن ما نافية ، والمعنى : أن الله ما أصبرهم على النار ، أي ما يجعلهم يصبرون على العذاب ، فتلخص في معنى قوله : ) مَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ( التعجب والاستفهام والنفي ، وتلخص في التعجب ، أهو حقيقة أم مجاز ؟ وكلاهما : أذلك في الدنيا أو في الآخرة ؟ .
البقرة : ( 176 ) ذلك بأن الله . . . . .
( ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ ( ، ذلك : إشارة إلى ما تقدم من الوعيد ، قاله الزجاج ؛ أو إلى الحكم عليهم بأنهم من أهل الخلود في النار ، قاله الحسن ، أو العذاب ، قاله الزمخشري ؛ أو الاشتراء ، قاله ابن عطية ، تقريعاً على بعض التفاسير في الكتاب من قوله : ) نَزَّلَ الْكِتَابَ ( ، وسيذكر أي ذلك الاشتراء بما سبق لهم في علم الله وورد أخباره به ، أو الكتمان . وأبعدها أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار الله أنه ختم على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم ، وأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون . واختلف في إعراب ذلك فقيل : هو منصوب بفعل محذوف

" صفحة رقم 670 "
تقديره : فعلنا ذلك ، وتكون الباء في بأن الله متعلقة بذلك الفعل المحذوف . وقيل : مرفوع ، واختلفوا ، أهو فاعل ، والتقدير : وجب ذلك لهم ؟ أم خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : الأمر ذلك ؟ أي ما وعدوا به من العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق . فاختلفوا ، أم مبتدأ ، والخبر قوله : ) بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ ( ؟ أي ذلك مستقر ثابت بأن الله نزل الكتاب بالحق ، ويكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور ، وهو العذاب ، ويكون الخبر ليس مجرد تنزيل الله الكتاب بالحق ، بل ما ترتب على تنزيله من مخالفته وكتمانه ، وأقام السبب مقام المسبب . والتفسير المعنوي : ذلك العذاب حاصل لهم بكتمان ما نزل الله من الكتاب المصحوب بالحق ، أو الكتاب الذي نزله بالحق . وقال الأخفش : الخبر محذوف تقديره : ذلك معلوم بأن الله ، فيتعلق الباء بهذا الخبر المقدر ، والكتاب التوراة والإنجيل ، أو القرآن ، أو كتب الله المنزلة على أنبيائه ، أو ما كتب عليهم من الشقاوة بقوله : ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ ( ، فيكون الكتاب بمعنى الحكم والقضاء ، أقوال أربعة . بالحق ، قال ابن عباس : بالعدل . وقال مقاتل : ضد الباطل . وقال مكي : بالواجب ، وحيثما ذكر بالحق فهو الواجب .
( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِى الْكِتَابِ ( ، قيل : هم اليهود ، والكتاب : التوراة ، واختلافهم : كتمانهم بعث عيسى ، ثم بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) . آمنوا ببعض ، وهو ما أظهروه ، وكفروا ببعض ، وهو ما كتموه . وقيل : هم اليهود والنصارى ، قاله السدي ؛ واختلاف كفرهم بما قصه الله تعالى من قصص عيسى وأمه عليهما السلام ، وبإنكار الإنجيل ، ووقع الاختلاف بينهم حتى تلاعنوا وتقاتلوا . وقيل : كفار العرب ، والكتاب : القرآن . قال بعضهم : هو سحر ، وبعضهم : هو أساطير الأولين ، وبعضهم : هو مفترى إلى غير ذلك . وقيل : أهل الكتاب والمشركون . قال أهل الكتاب : إنه من كلام محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وليس هو من كلام الله . وقالوا : إنما يعلمه بشر ، وقالوا : دارست ، وقالوا : إن هذا إلا اختلاق ، إلى غير ذلك . وقال المشركون : بعضهم قال : سحر ، وبعضهم : شعر ، وبعضهم : كهانة ، وبعضهم : أساطير ، وبعضهم : افتراء إلى غير ذلك . والظاهر الإخبار عمن صدر منهم الاختلاف فيما أنزل الله من الكتاب بأنهم في معاداة وتنافر ، لأن الاختلاف مظنة التباغض والتباين ، كما أن الائتلاف مظنة التحاب والاجتماع . وفي المنتخب : الأقرب ، حمل الكتاب على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فيهما ، لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه ، وعرفوا تأويله . فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة به ، فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم ، دون القرآن . انتهى كلامه .
( لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( : تقدم أن ذلك إما مأخوذ من كون هذا يصير في شق وهذا في شق ، أو من كون هذا يشق على صاحبه . وكنى بالشقاق عن العداوة ، ووصف الشقاق بالبعد ، إما لكونه بعيداً عن الحق ، أو لكونه بعيداً عن الألفة . أو كنى به عن الطول ، أي في معاداة طويلة لا تنقطع . وهذا الاختلاف هو سبب اعتقاد كل طائفة أن كتابها هو الحق ، وأن غيره افتراء ، وقد كذبوا في ذلك . كتب الله يشبه بعضها بعضاً ، ويصدق بعضها بعضاً .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء الناس ثانياً ، وأمرهم بالأكل من الحلال الطيب ، ونهيهم عن اتباع الشيطان ، وذكر خطواته ، كأنهم يقتفون آثاره ، ويطؤون عقبه . فكلما خطا خطوة ، وضعوا أقدامهم عليها ، وذلك مبالغة في اتباعه . ثم بين أنه إنما نهاهم عن اتباعه ، لأنه هو العدوّ المظهر لعداوته . ثم لم يكتف بذكر العداوة حتى ذكر أنه يأمرهم بالمعاصي . ولما كان لهم متبوعاً وهم تابعوه ، ناسب ذكر الأمر ، إذ هم ممتثلون ما زين لهم ووسوس . ثم ذكر ما به أمرهم ، وهو أمره إياهم بالافتراء على الله ، والإخبار عن الله بما لا يعلمونه عن الله ، ثم ذكر شدة إعراضهم عما أنزل الله ، واقتفاء اتباع آبائهم ، حتى أنهم لو كان آباؤهم مسلوبي العقل والهداية ، لكانوا متبعيهم ، مبالغة في التقليد البحت والإعراض عن كتاب الله ، وجرياً لخلفهم على سلف سننهم ، من غير نظر ولا استدلال .
ثم ذكر أن مثل الكفار وداعيهم إلى ما أنزل الله ، مثل الناعق بما لا يسمع إلا مجرد ألفاظ . ثم ذكر ما هم عليه من الصمم والبكم والعمي ، التي هي مانعة من وصول العلوم إلى الإنسان ، فلذلك ختم بقوله ) فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( ، لأن

" صفحة رقم 671 "
طرق العقل والعلم منسدة عليهم . ثم نادى المؤمنين نداء خاصاً ، وأمرهم بالأكل من الطيب وبالشكر لله . ثم ذكر أشياء مما حرم ، وأباح الأكل منها حال الاضطرار ، وشرط في تناول ذلك أن لا يكون المضطر باغياً ولا عادياً . ولما أحل أكل الطيبات وحرم ما حرم هنا ، ذكر أحوال من كتم ما أنزل الله واشترى به النزر اليسير ، لتعتبر هذه الأمة بحال من كتم العلم وباعه بأخس ثمن ، إذ أخبر تعالى أنه لا يأكل في بطنه إلا النار ، أي ما يوجب أكله النار . وأن الله لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم حين يكلم المؤمنين تكليم رحمة وإحسان . وذكر أنهم مع انتفاء التعليم الذي هو أعلى الرتب للمرؤوس من الرئيس ، حيث أهله لمناجاته ومحادثته ، وانتفاء الثناء عليهم لهم العذاب المؤلم . ثم بالغ في ذمهم بأن هؤلاء هم الذين آثروا الضلال على الهدى ، والعذاب على النعيم . ثم ذكر أنهم بصدد أن يتعجب من جلدهم على النار ، وأن ما حصل لهم من العذاب هو بسبب ما أنزل الله من الكتاب فخالفوه . ثم ذكر أن الذين اختلفوا فيما أنزل الله هم في معاداة لا تنقطع .

" صفحة رقم 672 "
قتيل ، وهو منقاس في فعيل ، الوصف بمعنى ممات أو موجع . الأنثى : معروف ، وهي فعلى ، الألف فيه للتأنيث ، وهو مقابل الذكر الذي هو مقابل للمرأة . ويقال للخصيتين أنثيان ، وهذا البناء لا تكون ألفه إلا للتأنيث ، ولا تكون للإلحاق ، لفقد فعلل في كلامهم . الأداء : بمعنى التأدية ، أدّيت الدين : قضيته ، وأدّى عنك رسالة : بلغها أنه لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ، أي لا يبلغ . أولوا : من الأسماء التي هي في الرفع بالواو ، وفي الجرّ والنصب بالياء . ومعنى أولوا : أصحاب ، ومفرده من غير لفظه ، وهو ذو بمعنى : صاحب . وأعرب هذا الإعراب على جهة الشذوذ ، ومؤنثه أولات بمعنى : صاحبات ، وإعرابها كإعرابها ، فترفع بالضمة وتجر وتنصب بالكسرة ، وهما لازمان للإضافة إلى اسم جنس ظاهر ، وكتبا في المصحف بواو بعد الألف ، ولو سميت باولوا ، زدت نوناً فقلت : جاء من أولون ، ورأيت أولين ، ومررت بأولين ، نص على ذلك سيبويه ، لأنها حالة إضافتها مقدر سقوط نون منها لأجل لإضافة . كما تقول : ضاربو زيد ، وضاربين زيداً . الألباب : جمع لب ، وهو العقل الخالي من الهوى ، سمى بذلك ، إما لبنائه من قولهم : ألبّ بالمكان ، ولبّ به : أقام ، وإما من اللباب ، وهو الخالص . وهذا الجمع مطرد ، أعني أن يجمع فعل اسم على أفعال ، والفعل منه على فعل بضم العين وكسرها ، قالوا : لببت . ولببت ومجيء المضاعف على فعل بضم العين اذ ، استغنوا عنه بفعل نحو : عزّ يعزّ ، وخفّ يخفّ . فما جاء من ذلك شاذاً : لبيت ، وسررت ، وفللت ، ودممت ، وعززت . وقد سمع الفتح فيها إلا في : لبيت ، فسمع الكسر كما ذكرنا . الجنف : الجور ، جنف ، بكسر النون ، يجنف ، فهو جنف وجانف عن النحاس ، قال الشاعر : إني امرؤ منعت أرومة عامر
ضيمي وقد جنفت عليَّ خصوم
وقيل : الجنف : الميل ، ومنه قول الأعشى : تجانف عن حجر اليمامة ناقتي
وما قصدت من أهلها لسوائكا
وقال آخر : هم المولى وإن جنفوا علينا
وإنا من لقائهم لزور
ويقال : أجنف الرجل ، جاء بالجنف ، كما يقال : ألام الرجل ، أتى بما يلام عليه ، وأخس : أتى بخسيس .

" صفحة رقم 3 "
2 ( ) لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَواةَ وَءَاتَى الزَّكَواةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَائِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاٍّ نثَى بِالاٍّ نْثَى فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذالِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ ياأُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاٌّ قْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( )
البقرة : ( 177 ) ليس البر أن . . . . .
( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ( قال : قتادة ' و ' الربيع ' و ' مقاتل ' و ' عوف الأعرابي نزلت في اليهو والنصارى ، وكانت اليهود تصلي للمغرب والنصارى تصلي للمشرق ويزعم كل فريق أن البر ذلك ، وقال ' ابن عباس ' و ' عطاء ' و ' مجاهد ' و ' الضحاك ' و ' سفيان ' : نزلت في المؤمنين سأل رجل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت فدعاه وتلاها عليه وقال بعض المفسرين : كأن الرجل إذا نطق بالشهادتين وصلى إلى أي ناحية ، ثم مات وجبت له الجنة ، فلما هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونزلت الفرائض وحدت الحدود وصرفت القبلة إلى الكعبة أنزلها الله وقيل : سبب نزولها إنكار الكفار على المؤمنين تحويلهم عن بيت المقدس إلى الكعبة ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأنها إن

" صفحة رقم 4 "
كانت في أهل الكتاب ، فقد جرى ذكرهم بأقبح الذكر من كتمانهم ما أنزل الله واشترائهم به ثمنا قليلاً ، وذكر ما أعد لهم ، ولم يبق لهم مما يظهرون به شعار دينهم إلاَّ صلاتهم ، وزعمهم أن ذلك البر ، فردّ عليهم بهذه الآية . وإن كانت في المؤمنين فهو نهي لهم أن يتعلقوا من شريعتهم بأيسر شيء كما تعلق أهل الكتابين ، ولكن عليهم العمل بجميع ما في طاقتهم من تكاليف الشريعة على ما بينها الله تعالى .
وقرأ حمزة ، وحفص ) لَّيْسَ الْبِرَّ ( بنصب الراء ، وقرأ باقي السبعة برفع الراء .
وقال الأعمش في مصحف عبد الله : لا تحسبن البرَّ ، وفي مصحف أبيّ ، وعبد الله أيضاً : ليس البر بأن تولوا ، فمن قرأ بنصب البر جعله خبر ليس ، وأن تولوا في موضع الاسم ، والوجه أن يلي المرفوع لأنها بمنزلة الفعل المتعدّي ، وهذه القراءة من وجه أولى ، وهو أن جعل فيها اسم ليس : أن تولوا ، وجعل الخبر البر ، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرّف بالألف واللام ، وقراءة الجمهور أولى ، من وجه ، وهو أن توسط خبر ليس بينها وبين اسمها قليل ، وقد ذهب إلى المنع من ذلك ابن درستويه تشبيها لها بما . . أراد الحكم عليها بأنها حرف ، كما لا يجوز توسيط خبر ما ، وهو محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وبورود ذلك في كلام العرب .
قال الشاعر : سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
وليس سواء عالم وجهول
وقال الآخر . أليس عظيماً أن تلمَّ ملمّة
وليس علينا في الخطوب معوَّلُ
وقراءة : بأن تولوا ، على زيادة الباء في الخبر كما زادوها في اسمها إذا كان ان وصلتها . قال الشاعر : أليسَ عجيباً بأن الفتى
يصابُ ببعض الذي في يديه
أدخل الباء على اسم ليس ، وإنما موضعها الخبر ، وحسَّنَ ذلك في البيت ذكرُ العجيب مع التقرير الذي تفيده الهمزة ، وصار معنى الكلام : أعجب بأن الفتى ، ولو قلت أليس قائماً بزيد لم يجز .
والبرّ اسم جامع للخير ، وتقدم الكلام فيه ، وانتصابُ قبل على الظرف وناصبه تولوا ، والمعنى : أنهم لما أكثروا الخوض في أمر القِبلة حتى وقع التحويلُ إلى الكعبة .
وزعم كل من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فردّ الله عليهم ، وقيل : ليس البر فيما أنتم عليه ، فإنه منسوخ خارج من البر .
وقيل : ليس البر العظيم الذي يجب أن يذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة .
وقال قتادة قبلة النصارى مشرق بيت المقدس لأنه ميلاد عيسى على نبينا وعليه السلام لقوله تعالى : ) مَكَاناً شَرْقِياً ( واليهود مغربه والآية ردّ على الفريقين .
( وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ ( البرُّ : معنىً من المعاني ، فلا يكون خبره الذوات إلاَّ مجازاً ، فامّا أن يجعل : البرُّ ، هو نفس من آمن ، على طريق المبالغة ، قاله أبو عبيدة ، والمعنى : ولكنّ البارَّ . وإمّا أن يكون على حذف من الأول ، أي : ولكنّ ذا البر ، قاله الزجاج . أو من الثاني أي : برُّ من آمن ، قاله قطرب ، وعلى هذا خرَّجه سيبويه ، قال في كتابه : وقال جل وعز : ) وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ ( وإنما هو : ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله . انتهى .
وإنما اختار

" صفحة رقم 5 "
هذا سيبويه لأن السابق ، إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قِبلَ المشرقِ والمغرِبِ ، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى ، ونظير ذلك : ليس الكرم أن تبذل درهماً ، ولكنَّ الكرم بذل الآلاف ، فلا يناسب : ولكنّ الكريم من يبذل الآلاف إلاَّ إن كان قبله : ليس الكريم بباذل درهم .
وقال المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن ولكن البر بفتح الباء ، وإنما قال ذلك لأنه يكون اسم فاعل ، تقول : بررت أبرّ ، فأنا برّ وبارّ ، قيل : فبني تارة على فعل ، نحو : كهل ، وصعب ، وتارة على فاعل ، والاولى ادّعاء حذف الألف من البرّ ، ومثله : سرٌّ ، وقرّ ، ورَبٌّ ، أي : سارّ ، وقار ، وبارّ ، ورابُّ .
وقال الفراء : من آمن ، معناه الإيمان لما وقع من موقع المصدر جعل خبراً للأوّل ، كأنه قال : ولكن البر الإيمان بالله ، والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل ، وأنشد الفراء : لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى
ولكنما الفتيان كل فتى ندب
جعل نبات اللحية خبراً للفتى ، والمعنى : لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى ، وقرأ نافع ، وابن عامر : ولكن بسكون النون خفيفة ، ورفع البرّ ، وقرأ الباقون بفتح النون مشدّدة ونصب البرّ ، والإعراب واضح ، وقد تقدّم نظير القراءتين في ) وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ ).
) وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَالْمَلَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيّينَ ( ذكر في هذه الآية إن كان الإيمان مصرحاً بها كما جاء في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال : ( أن تؤمنُ بالله وملائكتهِ وكتبهِ ورُسلهِ واليومِ الآخرِ والقدر خيره وشره ) ولم يصرح في الآية بالإيمان بالقدر ، لأن الإيمان بالكتاب يتضمنه ، ومضمون الآية : ان البرّ لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب بل بمجموع أمور .
أحدها : الإيمان بالله ، وأهل الكتاب أخلوا بذلك ، أمّا اليهود فللتجسيم ولقولهم : ) عَزِيزٌ عَبْدُ اللَّهِ ( وأمّا النصارى فلقولهم : ) الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ).
الثاني : الإيمان بالله واليوم الآخر ، واليهود أخلوا به حيث قالوا : ) لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا ( والنصارى أنكروا المعاد الجسماني .
والثالث : الإيمانُ بالملائكة ، واليهود عادوا جبريل .
والرابع : الإيمان بكتب الله ، والنصارى واليهود أنكروا القرآن .
والخامس : الإيمان بالنبيين ، واليهود قتلوهم ، وكلا الفريقين من أهل الكتاب طعنا في نبوَّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
والسادس : بذل الأموال على وفق أمر الله ، واليهود ألقوا الشبه لأخذ الأموال .
والسابع : إقامة الصلاة والزكاة ، واليهود يمتنعون منها .
والثامن : الوفاء بالعهد ، واليهود نقضوه .
وهذا النفيُ السابق ، والاستدراك ، لا يحمل على ظاهرهما ، لأنه نفي أن يكون التوجه إلى القبلة براً ، ثم حكم بأن البرّ أمورٌ .
أحدها : الصلاة ، ولا بدَّ فيها من استقبال القبلة ، فيحمل النفي للبر على نفي مجموع البرّ ، لا على نفي أصله ، أي : ليس البر كله هو هذا ، ولكن البر هو ما ذكر ، ويحمل على نفي أصل البرّ ، لأن استقبالهم المشرق والمغرب بعد النسخ كان إثماً وفجوراً ، فلا يعدّ في البر ، أو لأن استقبال القبلة لا يكون براً إذا لم تقارنه معرفة الله تعالى ، وإنما يكون براً مع الإيمان .
وقدم الملائكة والكتب على الرسل ، وإن كان الإيمان بوجود الملائكة وصدق الكتب لا يحصل إلاَّ بواسطة الرسل ، لأن ذلك اعتبر فيه الترتيب الوجودي ، لأن الملك يوجد أولاً ثم يحصل بوساطة تبليغه نزول الكتب ، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول ، فروعي الترتيب الوجودي الخارجي ، لا الترتيب الذهني .
وقدّم الإيمان بالله واليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتب والرسل ، لأن المكلف له مبدأ ، ووسط ، ومنتهى ، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات ، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلاَّ بالرسالة ، وهي لا تتم إلاَّ بأمور ثلاثة : الملائكة الآتين بالوحي ، والموحى به : وهو الكتاب ، والموحى إليه : وهو الرسول .
وقدّم الإيمان على أفعال الجوارح ، وهو : إيتاء المال والصلاة والزكاة لأن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح ، ولأن أعمال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان .
وبهذه الخمسة التي هي متعلق الإيمان ، حصلت حقيقة الإيمان ، لأن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بوجوده وقدمه وبقائه وعلمه بكل المعلومات ، وتعلق قدرته بكل الممكنات ، وإرادته وكونه سميعاً وبصيراً متكلماً ، وكونه منزهاً عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية ، والإيمان باليوم الآخر يحصل به العلم بما يلزم ، من

" صفحة رقم 6 "
أحكام : المعاد ، والثواب ، والعقاب ، وما يتصل بذلك . والإيمان بالملائكة يستدعي صحة أدائهم الرسالة إلى الأنبياء وغير ذلك من أحوال الملائكة . والإيمان بالكتاب يقتضي التصديق بكتب الله المنزلة . والإيمان بالنبيين يقتضي التصديق بصحة نبوتهم وشرائعهم .
قال الراغب : فإن قيل لم قدّم هنا ذكر اليوم الآخر وأخره في قوله .
( وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( قيل : يجوز ذلك ، مع أن الواو لا تقتضي ترتيباً من أجل أن الكافر لا يعرف الآخرة ، ولا يعنى بها وهي أبعد الأشياء عن الحقائق عنده ، فأخر ذكره . ولما ذكر حال المؤمنين ، والمؤمن أقرب الأشياء إليه أمر الآخرة ، وكل ما يفعله ويتحراه فإنه يقصد به وجه الله تعالى ، ثم أمر الآخرة ، فقدّم ذكره تنبيهاً على أن البر مراعاة الله ومراعاة الآخرة ثم مراعاة غيرهما . انتهى كلامه . .
( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( ايتاء المال هنا قيل : كان واجباً ، ثم نسخ بالزكاة ، وضعف بأنه جمع هنا بينه وبين الزكاة .
وقيل : هي الزكاة ، وبين بذلك مصارفها ، وضعف بعطف الزكاة عليه ، فدل على أنه غيرها .
قيل : هي نوافل الصدقات والمبار ، وضعف بقوله آخر الآية ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( وقف التقوى عليه ، ولو كان ندباً لما وقف التقوى ، وهذا التضعيف ليس بشيء لأن المشار إليهم بالتقوى من اتصف بمجموع الأوصاف السابقة المشتملة على المفروض والمندوب ، فلم يفرد التقوى ، ثم اتصف بالمندوب فقط ولا وقفها عليه ، بل لو جاء ذكر التقوى لمن فعل المندوب ساغ ذلك ، لأنه إذا أطاع الله في المندوب فلأن يطيعه في المفروض أحرى وأولى .
وقيل : هو حق واجب غير الزكاة .
قال الشعبي : إن في المال حقاً سوى الزكاة وتلا هذه الآية .
وقيل : رفع الحاجات الضرورية مثل إطعام الطعام للمضطر ، فأمَّا ما روي على أن الزكاة تنحت كل حق ، فيحمل على الحقوق المقدرة . أما ما لا يكون مقدراً فغير منسوخ ، بدليل وجوب التصدق عند الضرورة ، ووجوب النفقة على الأقارب وعلى المملوك ، وذلك كله غير مقدّر .
( عَلَى حُبّهِ ( متعلق ) بآتى ( وهو حال ، والمعنى : أنه يعطي المال محباً له ، أي : في حال محبته للمال واختياره وإيثاره ، وهذا وصف عظيم ، أن تكون نفس الإنسان متعلقة بشي تعلق المحب بمحبوبه ، ثم يؤثر به غيره ابتغاء وجه الله ، كما جاء : أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ، والظاهر أن الضمير في ) عَلَى حُبّهِ ( عائد على المال لأنه أقرب مذكور ، ومن قواعد النحويين أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلاَّ بدليل ، والظاهر أن المصدر فاعله المؤتي ، كما فسرناه ، وقيل : الفاعل المؤتون ، أي حبهم له واحتياجهم إليه وفاقتهم ، وإلى الأول ذهب ابن عباس ، أي : أعطى المال في حال صحته ومحبته له فآثر به غيره ، فقول ابن الفضل : إنه أعاده على المصدر المفهوم من آتى ، أي : على حب الإيتاء ، بعيد من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فإنه يعود على غير مصرح به ، وعلى أبعد من المال ، وأما المعنى فلأن من فعل شيئاً وهو يحب أن يفعله لا يكاد يمدح على ذلك ، لأن في فعله ذلك هوى نفسه ومرادها ، وقال زهير : تراه إذا ما جئته متهللا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله

" صفحة رقم 7 "
وقول من أعاده على الله تعالى أبعد ، لأنه أعاده على لفظ بعيد مع حسن عوده على لفظ قريب ، وفي هذه الأوجه الثلاثة يكون المصدر مضافاً للفاعل ، وهو أيضاً بعيد .
قال ابن عطية : ويجيء قوله ) عَلَى حُبّهِ ( اعتراضاً بليغاً أثناء القول انتهى كلامه .
فإن كان أراد بالاعتراض المصطلح عليه في النحو فليس كذلك ، لأن شرط ذلك أن تكون جملة ، وأن لا يكون لها محل من الإعراب ، وهذه ليست بجملة ، ولها محل من الإعراب . وإن أراد بالاعتراض فصلاً بين المفعولين بالحال فيصح ، لكن فيه إلباس ، فكان ينبغي أن يقول فصلاً بليغاً بين أثناء القول .
( ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرّقَابِ ( أما ذوو القربى فالأولى حملها على العموم ، وهو : من تقرب إليك بولادة ، ولا وجه لقصر ذلك على الرحم المحرم ، كما ذهب إليه قوم ، لأن الحرمة حكم شرعي ، وأما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب ، وإن كان من يطلق عليه ذلك يتفاوت في القرب والبعد . وقد رويت أحاديث كثيرة في صلة القرابة ، وقد تقدم لنا الكلام على ذوي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، في قوله ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ( فاغنى عن اعادته .
و ) ذَوِى الْقُرْبَى ( وما بعده من المعطوفات هو المفعول الأول على مذهب الجمهور ، و ) الْمَالَ ( هو المفعول الثاني .
ولما كان المقصود الأعظم هو ايتاء المال على حبه قدّم المفعول الثاني اعتناء به لهذا المعنى .
وأما على مذهب السهيلي فإن ) الْمَالَ ( عنده هو المفعول الأول ، و ) ذَوِى الْقُرْبَى ( وما بعده هو المفعول الثاني ، فأتى التقديم على أصله عنده . و ) الْيَتَامَى ( معطوف على ) ذَوِى الْقُرْبَى ( حمله بعضهم على حذف أي ذوي اليتامى ، قال : لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه ، ومتى فعل ذلك أخطأ ، فإن كان مراهقاً عارفاً بمواقع حقه ، والصدقة تؤكل أو تلبس ، جاز دفعها إليه ، وهذا على قول من خص اليتيم بغير البالغ ، وأما من البالغ والصغير عنده ينطلق عليهما يتيم ، فيدفع للبالغ ولولِيّ الصغير . انتهى .
ولا يحتاج إلى تقدير هذا المضاف لصدق : آتيت زيداً مالاً ، وإن لم يباشر هو الأخذ بنفسه بل بوكيله ) وَابْنِ السَّبِيلِ ( الضعف ، قاله قتادة ، وابن جبير ، والضحاك ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج ؛ أو المسافر يمرّ عليك من بلد إلى بلد ، قاله . مجاهد ، وقتادة أيضاً ، والربيع بن أنس .
وسمي ابن السبيل بملازمته السبيل ، وهو الطريق ، كما قيل لطائر يلازم الماء ابن ماء ، ولمن مرت عليه دهور : ابن الليالي والأيام .
وقيل : سمي ابن سبيل لأن السبيل تبرزه شبه ابرازها له بالولادة ، فأطلقت عليه البنوّة مجازاً والمنقطع في بلد دون بلده ، وبين البلد الذي انقطع فيه وبين بلده مسافة بعيدة ، قاله أبو حنيفة ، وأحمد ، وابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي ، والقاضي أبو يعلى ؛ أو الذي يريد سفراً ولا يجد نفقة ، قاله الماوردي ، وغيره عن الشافعي .
والسائلين : هم المستطعمون ، وهو الذي تدعوه الضرورة إلى السؤال في سدِّ خلته ، إذ لا تباح له المسألة إلاَّ عند ذلك .
ومن جعل إيتاء المال لهؤلاء ليس هو الزكاة ، أجاز ايتاءه للمسلم والكافر ، وقد ورد في الحديث ما يدل على ذم السؤال ويحمل على غير حال الضرورة .
( وَفِي الرّقَابِ ( : هم المكاتبون يعانون في فك رقابهم ، قاله عليّ وابن عباس ، والحسن ، وابن زيد ، والشافعي .
أوعبيد : يشترون ويعتقون ، قاله مجاهد ، ومالك ، وأبو

" صفحة رقم 8 "
عبيد ، وأبو ثور . وروي عن أحمد القولان السابقان .
أو الأسارى يفدون وتفك رقابهم من الأسر ؛ وقيل : هؤلاء الأصناف الثلاثة ، وهو الظاهر . فإن كان هذا الإيتاء هو الزكاة فاختلفوا ، فقيل : لا يجوز إلاَّ في إعانة المكاتبين ، وقيل : يجوز في ذلك ، وفيمن يشتريه فيعتقه . وإن كان غير الزكاة فيجوز الأمران ، وجاء هذا الترتيب فيمن يؤتي المال تقديماً ، أَلاوْلى فأَلاوْلى ، لأن الفقير القريب أولى بالصدقة من غيره للجمع فيها بين الصلة والصدقة ، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليها ، ولذلك يستحق بها الإرث ، فلذلك قدّم ثم أتبع باليتامى لأنه منقطع الحيلة من كل الوجوه لصغره ، ثم أتبع بالمساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم ، ثم بابن السبيل لأنه قد تشتد حاجته في الرجوع إلى أهله ، ثم بالسائلين وفي الرقاب لأن حاجتهما دون حاجة من تقدّم ذكره .
قال الراغب : اختير هذا الترتيب لما كان أَوْلى من يتفقد الإنسان لمعروفه أقاربه ، فكان تقديمه أولى ، ثم عقبه باليتامى ، والناس في المكاسب ثلاثة : معيل غير معول ، ومعول معيل ، ومعول غير معيل . واليتيم : معول غير معيل ، فمواساته بعد الأقارب أولى . ثم ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضراً ولا غائباً ، ثم ذكر ابن السبيل الذي يكون له مال غائب ، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب ، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقراً ممن قدم ذكره عليه . انتهى كلامه .
وأجمع المسلمون على أنه إذا نزل بالمسلمين حاجة وضرورة بعد أداء الزكاة ، فإنه يجب صرف المال إليها .
وقال مالك : يجب على الناس فك أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم ، واختلفوا في اليتيم : هل يعطى من صدقة التطوع بمجرد اليتم على جهة الصلة وإن كان غنياً ؟ أو لا يعطي حتى يكون فقيراً ؟ قولان لأهل العلم .
( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( : تقدّم الكلام على نظير هاتين الجملتين ، فإن كان أريد بالإيتاء السابق الزكاة كان ذكر هذا توكيداً ، وإلاَّ فقد تقدّمت الأقاويل فيه إذا لم يُرَدْ به الزكاة ، هذا هو الظاهر ، لأن مصرف الزكاة فيه أشياء لم تذكر في مصرف هذا الإيتاء ، وقد تقدم القول في تقديم الصلاة على الزكاة ، وهو . أن الصلاة أفضل العبادات البدنية ، وتكرر في كل يوم وليلة ، وتجب على كل عاقل بالشروط المذكورة ، فلذلك قدمت . وعطف قوله : ) لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( على صلة من ، وصلة من ، آمن وآتى ، وتقدمت صلة من التي هي : آمن ، لأن الإيمان أفضل الأشياء المتعبد بها ، وهو رأس الأعمال الدينية ، وهو المطلوب الأول . وثنى بإيتاء المال من ذكر فيه ، لأن ذلك من آثر الأشياء عند العرب ، ومن مناقبها الجلية ، ولهم في ذلك أخبار وأشعار كثيرة ، يفتخرون بذلك حتى هم يحسنون للقرابة وإن كانوا مسئين لهم ، ويحتملون منهم ما لا يحتملون من غير القرابة ، ألا ترى إلى قول طرفة العبدي : فمالى أراني وابن عمي مالكا
متى أدنُ منه ينأ عني ويبعد
ويكفي من ذلك في الإحسان إلى ذوي القربى قصيدة المقنع الكندي التي أولها :
يعاتبني في الدين قومي وإنما
ديوني في أشياء تكسبهم حمداً
ومنها : لهم جل مالي أن تتابع لي غنى
وإن قل مالي لم أكلفهم رِفدا

" صفحة رقم 9 "
ً
وكانوا يحسنون إلى اليتامى ويلطفون بهم ، وفي ذلك يقول بعضهم :
إذا بعض السنين تعرَّقتنا
كفى الأيتام فقد أبي اليتيم
ويفتخرون بالإحسان إلى المساكين وابن السبيل من الاضياف والمسافرين ، كما قال زهير بن أبي سلمى :
على مكثريهم رزق من يعتريهم
وعند المقلين السماحة والبذل
وقال المقنع
وإني لعبد الضعف ما دام نازلاً
وقال آخر
ورب ضيفٍ طرق الحيَّ سُرى
صادف زاداً وحديثاً ما أشتهى
وقال مرة بن محكان :
لا تعذليني على إتيان مكرمة
ناهبتها إذ رأيت الحمد منتهباً في عقر نابٍ ولا مالٌ أجود به والحمد خير لمن ينتابه عقبا
وقال إياس بن الارت :
وإني لقوّال لعافيّ : مرحبا
وللطالب المعروف : إنك واجدْه وإني لما أبسط الكف بالند
إذا شنجت كف البخيل وساعدُه
فلما كان ذلك من شيمهم الكريمة جعل ذلك من البر الذي ينطوي عليه المؤمن ، وجعل ذلك مقدمة لإيتاء الزكاة ، يحرص عليها بذلك ، إذ من كان سبيله إنفاق ماله على القرابة واليتامى والمساكين ، وإبناء السبيل على سبيل المكرمة ، فَلأن ينفق عليه ما أوجب الله عليه إنفاقه من الزكاة التي هي طهرته ويرجو بذلك الثواب الجزيل عنده أوكد وأحب إليه .
( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ( : والموفون معطوف على من آمن ، وقيل : رفعه على إضمار ، وهم الموفون ، والعامل في إذا الموفون ، والمعنى أنه لا يتأخر الإيفاء بالعهد عن وقت المعاهدة ، وقد تقدم الكلام على الإيفاء والعهد في قوله : ) وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( وفي مصحف عبد الله والموفين ، نصباً على المدح .
وقرأ الجحدري ،

" صفحة رقم 10 "
بعهودهم على الجمع .
( وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ ( : انتصب : والصابرين على المدح ، والقطع إلى الرفع أو النصب في صفات المدح والذم والترحم ، وعطف الصفات بعضها على بعض مذكور في علم النحو .
وقرأ الحسن ، والأعمش ، ويعقوب : والصابرون ، عطفاً على : الموفون ، وقال الفارسي : إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم ، والأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها ، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف ، الإبلاغ في القول ، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل ، لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام ، وضروب من البيان ، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً و جملة واحدة . انتهى كلامه .
قال الراغب : وإنما لم يقل : ووفى ، كما قال : وأقام ، لأمرين : أحدهما : اللفظ ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول ويقبح ، والثاني : أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة ، وغير مستفاد إلاَّ منها ، والحكمة العقلية تقضي العدالة دون الجور ، ولما ذكر الوفاء بالعهد ، وهو مما تقضي به العقود المجردة ، صار عطفه على الأول أحسن ، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل ، ومن وجه جامعاً للفضائل ، إذ لا فضيلة إلاَّ وللصبر فيها أثر بليغ ، غيرَّ إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد . انتهى كلامه .
واتفقوا على تفسير قوله ) حِينٍ الْبَأْسَ ( أنه : حالة القتال .
واختلف المفسرون في البأساء والضراء ، فأكثرهم على أن البأساء هو الفقر وان الضراء الزمانة في الجسد ، وإن اختلفت عبارتهم في ذلك ، وهو قول ابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك .
وقيل : البأساء : القتال ، والضراء : الحصار ، ذكره الماوردي . وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى أشد ، فذكر أولاً الصبر على الفقر ، ثم الصبر على المرض وهو أشد من الفقر ، ثم الصبر على القتال وهو أشد من الفقر والمرض .
قال الراغب : استوعب أنواع الصبر لأنه إما أن يكون فيما يحتاج إليه من القوت فلا يناله ، وهو : البأساء ، أو فيما ينال جسمه من ألم وسقم ، وهو : الضراء في مدافعة مؤذية ، وهو : البأساء . انتهى كلامه .
وعدى الصابرين إلى البأساء والضراء بفي لأنه لا يمدح الإنسان على ذلك إلاَّ إذا صار له الفقر والمرض كالظرف ، وأما الفقر وقتاً ما ، أو المرض وقتاً ما ، فلا يكاد يمدح الإنسان بالصبر على ذلك لأن ذلك قلَّ أن يخلو منه أحد . وأما القتال فعدّى الصابرين إلى ظرف زمانه لأنها حالة لا تكاد تدوم ، وفيها الزمان الطويل في أغلب أحوال القتال ، فلم تكن حالة القتال تعدى إليها بفي المقتضية للظرفية الحسية التي نزل المعنى المعقول فيها ، كالجرم المحسوس ، وعطف هذه الصفات في هذه الآية بالواو يدل على أن من شرائط البر استكمالها وجمعها ، فمن قام بواحدة منها لم يوصف بالبر ، ولذلك خص بعض العلماء هذا بالأنبياء عليهم السلام ، قال : لأن غيرهم لا يجتمع فيه هذه الأوصاف كلها ، وقد تقدم الكلام على ذلك .
( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( أشار : بأولئك ، إلى الذين جمعوا تلك الأوصاف الجلية ، من الاتصاف بالإيمان وما بعده ، وقد تقدم لنا أن اسم الإشارة يؤتى به لهذا المعنى ، أي : يشار به إلى من جمع عدة أوصاف سابقة ، كقوله : ) أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ ( والصدق هنا يحتمل أن يراد به الصدق في الأقوال فيكون مقابل الكذب والمعنى : أنهم يطابق أقوالهم ما انطوت عليه قلوبهم من الإيمان والخبر فإذا أخبروا بشيء كان صدقاً لا يتطرق إليه الكذب ، ومنه : ( لا يزال الرجل يصدق ، ويتحرى الصدق ، حتى يكتب عند الله صادقاً ، ولا يزال الرجل يكذب ، ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذاباً ) .
ويحتمل أن يراد بالصدق : الصدق في الأحوال ، وهو مقابل الرياء أي : أخلصوا أعمالهم لله تعالى دون رياء ولا سمعة ، بل قصدوا وجه الله تعالى ، وكانوا عند الظن بهم ، كما تقول صدقني الرمح ، أي : وجدته عند اختباره كما اختار وكما اظن به ، والتقوى هنا اتقاء عذاب الله بتجنب معاصيه ، وامتثال طاعته .
وتنوع هنا

" صفحة رقم 11 "
الخبر عن أولئك ، فأخبر عن أولئك الأول : بالذين صدقوا ، وهو مفصول بالفعل الماضي لتحقق اتصافهم به ، وأن ذلك قد وقع منهم وثبت واستقر ، واخبر عن أولئك الثاني : بموصول صلته اسم الفاعل ليدل على الثبوت ، وأن ذلك وصف لهم لا يتجدد ، بل صار سجية لهم ووصفاً لازماً ، ولكونه أيضاً وقع فاصلة آية ، لأنه لو كان فعلاً ماضياً لما كان يقع فاصلة .
البقرة : ( 178 ) يا أيها الذين . . . . .
( الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( : روى البخاري عن ابن عباس قال : كان في اسرائيل القصاص ، ولم يكن فيهم الدية . فقال الله تعالى هذه الآية .
وقال قتادة والشعبي : نزلت في قوم من العرب أعزة أقوياء لا يقتلون بالعبد منهم إلاَّ سيداً ، ولا بالمرأة إلاَّ رجلاً .
وقال السدي ، وأبو مالك : نزلت في فريقين أحدهما مسلم ، والآخر كافر معاهد ، كان بينهما على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قتال ، فقُتِل من كلا الفريقين جماعة من رجال ونساء وعبيد ، فنزلت ، فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) دية الرجل قصاصاً بدية الرجل ، ودية المرأة قصاصاً بدية المرأة ، ودية العبد قصاصاً بدية العبد . ثم أصلح بينهما .
وقيل : نزلت في حيين من العرب اقتلوا قبل الإسلام ، وكان بينهما قتلى وجراحات لم يأخذ بعضهم من بعض . قال ابن جبير : هما الأوس والخزرج . وقال مقاتل بن حيان : هما قريظة والنضير ، وكان لأحدهما طَوْلٌ على الاخرى في الكثرة والشرف ، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور ، وأقسموا ليقتلن بالعبد الحر ، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك ، وكذلك كانوا يعاملونهم في الجاهلية ، فرفعوا أمرهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فنزلت ، وأمرهم بالمساواة فرضوا ، وفي ذلك قال قائلهم : هم قتلوا فيكم مظنة واحد
ثمانية ثم استمروا فأربعوا
وروي أن بعض غني قتل شأس بن زهير ، فجمع عليهم أبوه زهير بن خزيمة فقالوا له ، وقال له بعض من يذب عنهم : سل في قتل شاس ، فقال : إحدى ثلاث لا يرضيني غيرهنّ ، فقالوا : ما هنّ ؟ فقال : تحيون شاساً ، أو تملؤون داري من نجوم السماء ، أو تدفعون لي غنياً بأسرها فأقتلها ، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها إنه لما حلل ما حلل قبل ، وحرّم ما حرّم ، ثم اتبع بذكر من أخذ مالاً من غير وجهه ، وأنه ما يأكل في بطنه إلاَّ النار ، واقتضى ذلك انتظام جميع المحرمات من الأموال ، ثم أعقب ذلك بذكر من اتصف بالبر ، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها ، أخذ يذكر تحريم الدماء ، ويستدعي حفظها وصونها ، فنبه بمشروعية القصاص على تحريمها ، ونبه على جواز أخذ مال بسببها ، وأنه ليس من المال الذي يؤخذ من غير وجهه ، وكان تقديم تبيين ما أحل الله وما حرم من المأكول على تبيين مشروعية القصاص لعموم البلوى بالمأكول ، لأن به قوام البنية ، وحفظ صورة الإنسان .
ثم ذكر حكم متلف تلك الصورة ، لأن من كان مؤمناً يندر منه وقوع القتل ، فهو بالنسبة لمن اتصف بالأوصاف السابقة بعيد منه وقوع ذلك ، وكان ذكر تقديم ما تعم به البلوى أعم ، ونبه أيضاً على أنه ، وإن عرض مثل هذا الأمر الفظيع لمن اتصف بالبر ، فليس ذلك مخرجاً له عن البر ، ولا عن الإيمان ، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال : ) الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ).
وأصل الكتابة : الخط الذي

" صفحة رقم 12 "
يقرأ ، وعبر به هنا عن معنى الإلزام والإثبات ، أي : فرض وأثبت ، لأن ما كتب جدير بثبوته وبقائه .
وقيل : هو على حقيقته ، وهو إخبار عن ما كتب في اللوح المحفوظ ، وسبق به القضاء .
وقيل : معنى كتب : أمر ، كقوله : ) ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ( أي : التي أمرتم بدخولها .
وقيل : يأتي كتب بمعنى جعل ، ومنه ) أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( ) فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ( وتعدي كتب هنا بعلى يشعر بالفرض والوجوب ، ( وَفِى الْقَتْلَى ( في هنا للسببية ، أي : بسبب القتلى ، مثل : ( دخلت امرأة النار في هرة ) . والمعنى : أنكم أيها المؤمنون وجب عليكم استيفاء القصاص من القاتل بسبب قتل القتلى بغير موجب ، ويكون الوجوب متعلق الإمام أو من يجري مجراه في استيفاء الحقوق إذا أراد ولي الدم استيفاءه ، أو يكون ذلك خطاباً مع القاتل ، والتقدير ، يا أيها القاتلون ، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص ، وذلك أنه يجب على القاتل ، إذا أراد الولي قتله ، أن يستسلم لأمر الله وينقاد لقصاصه المشروع ، وليس له أن يمتنع بخلاف الزاني والسارق ، فإن لهما الهرب من الحدّ ، ولهما أن يستترا بستر الله ، ولهما أن لا يعترفا ويجب على الولي الوقوف عند قاتل وليه ، وأن لا يتعدى على غيره ، كما كانت العرب تفعل بأن تقتل غير قاتل قتيلها من قومه ، وهذا الكتب في القصاص مخصوص بأن لا يرضي الولي بدية أو عفو ، وإنما القصاص هو الغاية عند التشاحن ، وأمّا إذا رضي بدون القصاص من دية أو عفو فلا قصاص .
قال الراغب : فان قيل : على من يتوجه هذا الوجوب ؟ قيل على الناس كافة ، فمنهم من يلزمه تسليم النفس ، وهو القاتل ، ومنهم من يلزمه استيفاؤه ، وهو الإمام إذا طلبه الولي ، ومنهم من يلزمه المعاونة والرضى ، ومنهم من يلزمه أن لا يتعدّى ، بل يقتص أو يأخذ الدية ، والقصد بالآية منع التعدّي ، فإن أهل الجاهلية كانوا يتعدّون في القتل ، وربما لا يرضى أحدهم إذا قتل عبدهم إلاَّ بقتل حر . اه كلامه .
وتلخص في قوله : ) الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم الأئمة ومن يقوم مقامهم . الثاني : أنهم القاتلون . الثالث : أنهم جميع المؤمنين على ما أوضحناه .
وقد اختلف في هذه الآية ، أهي ناسخة أو منسوخة ؟ فقال الحسن : نزلت في نسخ التراجع الذي كانوا يفعلونه ، إذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين قتله مع تأدية نصف الدية ، وبين أخذ نصف دية الرجل وتركه ، . وإن كان قاتل الرجل امرأة ، كان أولياء المقتول بالخيار بين قتل المرأة وأخذ نصف دية الرجل ، وإن شاؤوا أخذوا الدية كاملة ولم يقتلوها . قال : فنسخت هذه الآية ما كانوا يفعلونه . اه . ولا يكون هذا نسخاً ، لأن فعلهم ذلك ليس حكماً من أحكام الله فينسخ بهذه الآية .
وقال ابن عباس : هي منسوخة بآية المائدة ، وسيأتي الكلام في هذا .
ولما ذكر تعالى كتابة القصاص في القتل بين من يقع بينهم القصاص فقال : ) الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاْنثَى بِالاْنْثَى ( ، واختلفوا في دلالة هذه الجمل ، فقيل : يدل على مراعاة المماثلة في الحرية والعبودية والأنوثة ، فلا يكون مشروعاً إلاَّ بين الحرين ، وبين العبدين ، وبين الأنثيين ، فالالف واللام تدل على الحصر ، كأنه

" صفحة رقم 13 "
قيل : لا يؤخذ الحرّ إلاَّ بالحر ، ولا يؤخذ العبد إلاَّ بالعبد ، ولا تؤخذ الأنثى إلاَّ بالأنثى .
روي معنى هذا عن ابن عباس ، وأن ذلك نسخ بآية المائدة ، وروي عنه أيضاً أن الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة .
وممن ذهب إلى أنها منسوخة . ابن المسيب ، والنخعي ، والشعبي ، وقتادة ، والثوري .
وقيل : لا تدل على الحصر ، بل تدل على مشروعية القصاص بين المذكورين ، ألا ترى أن عموم : ) وَالاْنثَى بِالاْنْثَى ( تقتضي قصاص الحرة بالرقيقة فلو كان قوله : ) الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ( مانعاً من ذلك لتصادم العمومان .
وقوله : ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( جملة مستقلة بنفسها ، وقوله : ) الْحُرُّ بِالْحُرّ ( ذكر لبعض جزئياتها فلا يمنع ثبوت الحكم في سائر الجزئيات .
وقال مالك : أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد به الجنس الذكر والأنثى سواء فيه ، وأعيد ذكر الأنثى توكيداً وتهمماً بإذهاب أمر الجاهلية .
وروي عن علي والحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبداً أو عبد حراً ، وذكرٌ أنثى ، أو أنثى ذكراً . وقالا : إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا بها صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية ، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة . وإذا قتلت المرأة رجلاً فإن أراد أولياؤه قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإلاَّ أخذوا دية صاحبهم واستحيوها ، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلاَّ قيمة العبد ، وإن شاء استحيي وأخذ قيمة العبد .
وقد أُنكر هذا عن علي والحسن ، والإجماع على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل ، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء ، وفرقة ترى الإتباع بفضل الديات ، والإجماع على قتل المسلم الحر إذا قتل مسلمٌ حراً بمحدد ، وظاهر عموم الحر بالحر أن الوالد يقتل إذا قتل ابنه ، وهو قول عثمان البتي ، قال : إذا قتل ابنه عمداً قتل به .
وقال مالك : إذا قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه ، وغير ذلك من أنواع القتل التي لا شبهة له فيها في ادعاء الخطأ قتل به ، وإن قتله يرمي بشيء أو يضرب ، ففي مذهب مالك قولان : أحدهما : يقتل ، والآخر : لا يقتل .
وقال عامة العلماء : لا يقتل الوالد بولده ، وعليه الدية فيما له ، قال بذلك : أبو حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي ، وسووا بين الأب والجد ، ورُوي ذلك عن عطاء ومجاهد .
وقال الحسن بن صالح : يقُاد الجدّ بابن الابن ، وكان يجيز شهادة الجد لابن ابنه ، ولا يجيز شهادة الاب لابنه ، وظاهر قوله : ) الْحُرُّ بِالْحُرّ ( قتل الابن بابيه ، والظاهر أيضاً قتل الجماعة بالواحد ، وصح ذلك عن عمر وعلي ، وهو قول أكثر أهل العلم .
وقال أحمد : لا تقتل الجماعة بالواحد ، والظاهر أيضاً قتل من يجب عليه القتل لو انفرد إذا شارك من لا يجب عليه القتل كالمخطىء والصبيّ والمجنون والأب عند من يقول لا يقتل بابنه .
وقال أبو حنيفة : لا قصاص على واحد منهما وعلى الأب القاتل نصف الدية في ماله والصبي والمخطىء والمجنون على عاقلته ، وهو قول الحسن بن صالح .
وقال الأوزاعي : على عاقلة المشتركين ممن ذكر الدية .
وقال الشافعي : على الصبي القاتل المشارك نصف الدية في ماله ، وكذلك دية الحر والعبد إذا قتلاً عبداً ، والمسلم والنصراني إذا قتلا نصرانياً ، وإن

" صفحة رقم 14 "
شاركه قاتل خطاً فعلى العامد نصف الدية ، وجناية المخطىء على عاقلته .
وقال ابن المسيب ، وقتادة ، والنخعي ، والشعبي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد يقتل الحر بالعبد .
وقال مالك ، والليث ، والشافعي ؛ لا يقتل به ، واتفقوا على أن المسلم لا يقتل بالكافر الحربى . وقال أبو حنيفة : يقتل المسلم بالذمي وقال ابن شبرمة ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي : لا يقتل به . قال مالك والليث : إن قتله غيلة قتل به وإلاَّ لم يقتل به وكلهم اتفقوا على قتل العبد بالحر .
والظاهر من الآية الكريمة مشروعية القصاص في القتلى بأي شيء وقع القتل ، من مثقل حجر ، أو خشبة ، أو عصا ، أو شبه ذلك مما يقتل غالباً ، وهو مذهب مالك . والشافعي ، والجمهور .
وقال أبو حنيفة : لا يقتل إذا قتل بمثقل .
والظاهر من الأئمة عدم تعيين الآلة التي يقتل بها من يستحق القتل وقال : أبو حنيفة ، ومحمد ، وأبو يوسف ، وزفر : لا يقتل إلاَّ بالسيف . وقال ابن الغنيم ، عن مالك : إن قتل بحجر ، أو عصا ، أو نار أو تغريق قبل به ، فإن لم يمت بمثله فلا يزال يكرر عليه من جنس ما قتل به حتى يموت ، وإن زاد على فعل القاتل .
وروي ابن منصور عن أحمد أنه : يقتل بمثل الذي قتل به ، ونقل عن الشافعي : أنه إذا قتل بخشب ، أو بخنق قتل بالسيف ، وروي عنه أيضاً أنه : إن ضربه بحجر حتى مات فُعل به مثل ذلك ، وإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى مات فإن لم يمت في مثل تلك المدة .
وقال ابن شبرمة : يضرب مثل ضربه ولا يضرب أكثر من ذلك وقد كانوا يكرهون المثلة ويقولون : يجزي عن ذلك كله السيف . قال : فإن غمسه في الماء حتى مات ، فلا يزال يغمس في الماء حتى يموت .
والظاهر من الآية مشروعية القصاص في الأنفس فقط لقوله : ) فِي الْقَتْلَى ( وبه قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر . وهو : أنه لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في الأنفس وقال ابن المسيب ، والنخعي ، وقتادة ، والحكم وابن أبي ليلى : القصاص واجب بينهم في جميع الجراحات ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، وقال الليث : يقتص للحر من العبد ، ولا يقتص من الحر للعبد في الجنايات . وقال الشافعي : من جرى عليه ، القصاص في النفس جرى عليه في الجراح ، ولا يقتص للحر من العبد فيما دون النفس .
( وَالاْنثَى بِالاْنْثَى ). واتفقوا على ترك ظاهرها ، وأجمعوا ، كما تقدم ذكره ، على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل ، إلاَّ خلافاً شاذاً عن الحسن البصري ، وعطاء ، وعكرمة ، وعمر بن عبد العزيز ، أنه لا يقتل الرجل بالمرأة .
وروي أن عمر قتل نفراً من صنعاء بامرأة ، والمرأة بالرجل وبالعبد ، والعبد بالحر ، وقد وهم الزمخشري في نسبته إلى مذهب مالك والشافعي أن الذكر لا يقتل بالأنثى ، ولا خلاف عنهما في أنه يقتل بها .
وقال عثمان البتي : إذا قتلت امرأة رجلاً قتلت به وأخذ من مالها نصف الدية ، وإن قتلها هو فعليه القود ولا يرد عليه شيء .
واختلفوا في القصاص في الجراحات بين الرجال والنساء ، فذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وابن شبرمة ، إلى أنه لا قصاص بين الرجال والنساء إلاَّ في الأنفس ، وذهب مالك ،

" صفحة رقم 15 "
والأوزاعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والليث ، والشافعي ، وابن شبرمة في رواية إلى أن القصاص واقع فيما بين الرجال والنساء في النفس وما دونها ، إلاَّ أن الليث قال : إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولا يقتص منه .
وإعرب هذه الجمل مبتدأ وخبر ، وهي ذوات ابتدىء بها ، والجار والمجرور أخبار عنها ، ويمتنع أن يكون الباء ظرفية ، فليس ذلك على حدّ قولهم : زيد بالبصرة ، وإنما هي للسبب ، ويتعلق بكون خاص لا بكون مطلق ، وقام الجار مقام الكون الخاص لدلالة المعنى عليه ، إذا لكون الخاص لا يجوز حذفه إلاَّ في مثل هذا ، إذ الدليل على حذفه قوي إذ تقدّم القصاص في القتلى ، فالتقدير : الحر مقتول بالحر ، أي : بقتله الحر ، فالباء للسبب على هذا التقدير ، ولا يصح تقدير العامل كوناً مطلقاً ، ولو قلت : الحر كائن بالحر ، لم يكن كلاماً إلاّ إن كان المبتدأ مضافاً قد حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فيجوز ، والتقدير : قتل الحر كائن بالحر ، أي : بقتله الحر ، ويجوز أن يكون الحر مرفوعاً على إضمار فعل يفسره ما قبله ، التقدير : يقتل الحر بقتله الحر ، إذ في قوله : ) الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( دلالة على هذا الفعل .
( فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ( قال علماء التفسير : معنى ذلك أن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك ، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ، وجعل الله لهذه الأمة لمن شاء القتل ، ولمن شاء أخذ الدية ، ولمن شاء العفو .
وقال قتادة : لم تحل الدية لأحد غير هذه الأمة ، وروي أيضاً عن قتادة : أن الحُكم عند أهل التوراة كان القصاص أو العفو . ولا أرش بينهم ، وعند أهل الإنجيل الدية والعفو لا أرش بينهم ، فخير الله هذه الأمة بين الخصال الثلاث .
وارتفاع : مَنْ ، على الابتداء وهي شرطية أو موصولة ، والظاهر أن : من ، هو القاتل والضمير في ) لَهُ ( و ) مِنْ أَخِيهِ ( عائد عليه ، ( وَشَىْء ( : هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو بمعنى المصدر ، وبني ) عُفِىَ ( ، للمفعول ، وإن كان لازماً ، لأن اللازم يتعدى إلى المصدر كقوله : ) فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ( والأخ هو المقتول ، أي : من دم أخيه أو ولي الدم ، وسماه أخاً للقاتل اعتباراً بأخوة الإسلام ، أو استعطافاً له عليه ، أو لكونه ملابساً له من قبل أنه ولي للدم ومطالب به كما تقول : قل لصاحبك كذا ، لمن بينك وبينه أدنى ملابسة ، وهذا لذي أقيم مقام الفاعل وإن كان مصدراً فهو يراد به الدم المعفو عنه ، والمعنى : أن القاتل إذا عفي عنه رجع إلى أخذ الدية . وهو قول ابن عباس وجماعة من أهل العلم ، واستدل بهذا على أن موجب العهد أحد الأمرين ، إما القصاص ، وإما الدية . لأن الدية تضمنت عافياً ومعفواً عنه ، وليس إلاَّ وليّ الدم والقاتل ، والعفو لا يتأتي إلاَّ من الولي ، فصار تقدير الآية : فاذا عفا وليّ الأمر عن شيء يتعلق بالقاتل فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف . وعفا يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الجناية ، تقول : عفوت عن زيد ، وعفوت عن ذنب زيد ، فإذا عديت إليهما معاً تعدت إلى الجاني باللام ، وإلى الذنب بعن ، تقول : عفوت لزيد عن ذنبه ، وقوله : ) فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ ( من هذا الباب أي : فمن عفي له عن جنايته ، وحذف عن جنايته لفهم المعنى ، ولا يفسر عفي بمعنى ترك ، لأنه لم يثبت ذلك معدّى إلاَّ بالهمزة ، ومنه : ( أعفوا اللحى ) ولا يجوز أن تضمن عف معنى ترك وإن كان العافي عن الذنب تاركاً له لا يؤاخذ به ، لأن التضمين لا ينقاش .
قال الزمخشري . فإن قلت : فقد ثبت قولهم عفا أثره إذا محاه وأزاله ، فهلا جعلت معناه : فمن محى له من أخيه شيء ؟ قلت : عبارة قيلت في مكانها ، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس ، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نائية عن مكانها ، وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم يجترىء إذا عضل عليه تخريج المشكل من كلام الله على اختراع لغة . وادّعاء على العرب ما لا تعرف ، وهذه جرأة يستعاذ بالله منها . انتهى كلامه .
وإذا ثبت أن عفا يكون بمعنى محافلاً يبعد حمل الآية عليه ، ويكون إسناد عفي لمرفوعه إسناداً حقيقاً لأنه إذ ذاك مفعول به صريح ، وإذا كان لا يتعدّى كان إسناده إليه مجازاً وتشبيهاً للمصدر بالمفعول به ، فقد يتعادل الوجهان أعني : كون عفا اللازم لشهرته في الجنايات ، وعفا المتعدي لمعنى محا

" صفحة رقم 16 "
لتعلقه بمرفوعه تعلقاً حقيقياً .
وقول الزمخشري : وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم إلى آخره ، هذا الذي ذكره هو فعل غير المأمونين على دين الله ، ولا الموثوق بهم في نقل الشريعة ، والكذب من أقبح المعاصي وأذهبها الخاصة الإنسان ، وخصوصاً على الله ، وعلى رسوله .
وقال أبو محمد بن حزم ما معناه : إنه قد يصحب الإنسان وإن كان على حالة تكره ، إلاَّ ما كان من الكاذب ، فإنه يكون أول مفارق له ، لكن لا يناسب قول الزمخرشي هنا : وترى كثيراً إلى آخر ، كلامه اثر قوله : فإن قلت إلى آخره ، لأن مثل هذا القول هو حمل العفو على معنى المحو ، وهو حمل صحيح واستعمال في اللغة ، فليس من باب الجرأة ، واختراع اللغة .
وبنى الفعل هنا للمفعول ليعم العافي كان واحداً أو أكثر ، هدا أن أريد بأخيه المقتول . أي : من دم أخيه ، وقيل : شيء لأن معناه : شيء من العفو فسواء في ذلك أن يعفو عن بعض الدم أو عن كله ، أو أن يعفو بعض الورثة أوكلهم ، فإنه يتم العفو ويسقط القصاص ، ولا يجب إلاَّ الدية ، وقيل : من عفي له هو وليّ الدم ، وعفي هنا بمعنى ، يسَّر لا على بابها في العفو ، ومن أخيه : هو القاتل ، وشيء : هو الدية ، والاخوة هي : اخوة الإسلام ، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل : المقتول ، أي : من قبل أخيه المقتول ، وهذا القول قول مالك ، فسر المعفوّ له بوليّ الدم ، والأخ : بالقاتل ، والعفو بالتيسير ، وعلى هذا قال مالك : إذا جنح الوليّ إلى العفو على أخذ الدّية خير القاتل بين أن يعطيها أو يسلم نفسه .
وغير مالك يقول : إذا رضي الوليّ بالدية فلا خيار للقاتل ، ويلزم الدية ، وقد روي هذا عن مالك ، ورجحه كثير من أصحابه ، ويضعف هذا القول أن عفي بمعنى : يسر لم يثبت .
وقيل : هذه ألفاظ في المعنيين الذين نزلت فيهم هذه الآية كلها ، وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة ، فمعنى الآية : فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات ، وتكون : عفا بمعنى : فضل ، من قولهم : عفا الشيء إذا كثر ، أي : أفضلت الحالة له ، أو الحساب ، أو القدر ، وقيل : هي على قول علي والحسن في الفضل من دية الرجل والمرأة والحر والعبد ، أي : من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف ، وعفي هنا بمعنى : أفضل ، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ، ثم بينت الحكم إذا تداخلت ، والقول الأول أظهر كما قلناه ، وقد جوز ابن عطية أن يكون عفي بمعنى : ترك ، فيرتفع شيء على أنه مفعول به قام مقام الفاعل ، قال : والأول أجود بمعنى أن يكون عفي لا يتعدى إلى مفعول به ، وإن ارتفاع شيء ، هو لكونه مصدراً أقيم مقام الفاعل ، وتقدم قول الزمخشري : إن عفي بمعنى : ترك لم يثبت .
( فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ). ارتفاع اتباع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالحكم ، أو الواجب كذا قدره ابن عطية ، وقدره الزمخشري : فالأمر اتباع ، وجوز أيضاً رفعه بإضمار فعل تقديره : فليكن اتباع ، وجوّزوا أيضاً أن يكون مبتدأً محذوف الخبر وتقديره ، فعلى الولي اتباع القاتل بالدية ، وقدروه أيضاً متأخراً تقديره ، فاتباع بالمعروف عليه .
قال ابن عطية بعد تقديره : فالحكم أو الواجب اتباع ، وهذا سبيل الواجبات ، كقوله ) فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ( وأما المندوب إليه فيأتي منصوباً كقوله : ) فَضَرْبَ الرّقَابِ ( انتهى .
ولا أدري هذه التفرقة بين الواجب والمندوب إلاَّ ما ذكروا من أن الجملة الابتدائية أثبت وآكد من الجملة الفعلية في مثل قوله : ) قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ ( فيمكن أن يكون هذا الذي لحظه ابن عطية من هذا . وأما إضمار الفعل الذي قدره الزمخشري : فليكن ، فهو ضعيف إذ : كان ، لا تضمر غالباً إلاَّ بعد إن الشرطية ، أو : حيث يدل على إضمارها الدليل ، و ) بِالْمَعْرُوفِ ( متعلق بقوله : فاتباع ، وارتفاع : ) وَأَدَاء ( لكونه معطوفاً على اتباع ، فيكون فيه من الإعراب ما قدروا في : فاتباع ، ويكون بإحسان متعلقاً بقوله : وأداء ، وجوزوا أن يكون : وأداء ، مبتدأ ، وبإحسان ، هو

" صفحة رقم 17 "
الخبر ، وفيه بعد والفاء في قوله : فاتباع ، جواب الشرط إن كانت مَن شرطاً ، والداخلة في خبر المبتدأ إن كانت مَن موصولة ، فإن كانت مَن : كناية عن القاتل وأخوه : كناية عن الولي ، وهو الظاهر ، فتكون الجملة توصية للمعفو عنه والعافي بحسن القضاء من المؤدي ، وحسن التقاضي من الطالب ، وإن كان الأخ كناية عن المقتول كانت الهاء في قوله : وآداء إليه ، عائدة على ما يفهم من يصاحب بوجه مّا ، لأن في قوله : عفي دلالة على العافي فيكون نظير قوله : ) حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ( إذ في العشي دلالة على مغيب الشمس ، وقول الشاعر : لك الرجل الحادي وقد منع الضحى
وطير المنايا فوقهن أواقع
أي : فوق الإبل ، لأن في قوله : الحادي ، دلالة عليهن ، وإن كانت مَن كناية عن القاتل فيكون أيضاً توصية له وللولي بحسن القضاء والتقاضي ، أي : فاتباع مِنَ الولي بالمعروف ، وأداء من القاتل إليه بإحسان ، والاتباع بالمعروف أن لا يعنف عليه ولا يطالبه إلاَّ مطالبة جميلة ، ولا يستعجله إلى ثلا ث سنين يجعل انتهاء الإستيفاء والأداء بالإحسان ، أن لا يمطله ولا يبخسه شيئاً . وهذا مروي عن ابن عباس في تفسير الإتباع والأداء .
وقيل : اتباع الولي بالمعروف أن لا يطلب من القاتل زيادة على حقه ، وقد روي في الحديث : ( من زاد بعيراً في أبل الدية وفرائضها فمن أمر الجاهلية ) .
وقيل الاتباع والأداء معاً من القاتل ، والاتباع بالمعروف أن لا ينقصه ، والأداء بالإحسان أن لا يؤخره . وقيل : المعروف حفظ الجانب ولين القول ، والإحسان تطييب القول ، وقيل : المعروف ما أوجبه تعالى ، وقيل : المعروف ما يتعاهد العرب بينها من دية القتلى .
وظاهر قوله : ) فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء ( الآية . أنه يمتنع إجابة القاتل إلى القود منه إذا اختار ذلك واختار المستحق الدية ويلزم القاتل الدية إذا اختارها الولي ، وإليه ذهب سعيد ، وعطاء ، والحسن ، والليث ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، ورواه أشهب عن مالك .
وقال أبو حنيفة وأصحابه ، وأحمد ، ومالك في إحدى الروايتين عنه ، والثوري ، وابن شبرمة : ليس للولي إلاَّ القصاص ، ولا يأخذ إلاَّ برضى القاتل ، فعلى قول هؤلاء يقدر بمحذوف ، أي : فمن عفي له من أخيه شيء ورضي المعفو ودفع الدية فاتباع بالمعروف ، وقد تقدّمت لنا الإشارة إلى هذا الخلاف عند تفسيرنا : ) فَمَنْ عُفِىَ ( واختلاف الناس فيه .
( ذالِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ ( أشار بذلك إلى ما شرعه تعالى من العفو والدية إذ أهل التوراة كان مشروعهم القصاص فقط ، وأهل الإنجيل مشروعهم العفو فقط ، وقيل : لم يكن العفو في أمة قبل هذه الأمة ، وقد تقدّم طرق من هذا النقل ، وهذه الأمة خيرت بين القصاص وبين العفو والدية ، وكان العفو والدية تخفيفاً من الله إذ فيه انتفاع الولي بالدّية ، وحصول الأجر بالعفو استبقاء مهجة القاتل ، وبذل ما سوى النفس هين في استبقائها ، وأضاف هذا التخفيف إلى الرب لأنه المصلح لأحوال عبيده ، الناظر لهم في تحصيل ما فيه سعادتهم الدينية والدنيوية ، وعطف ) وَرَحْمَةً ( على ) تَخْفِيفٌ ( لأن من استبقى مهجتك بعد استحقاق إتلافها فقد رحمك . وأي رحمة أعظم من ذلك ؟ ولعل القاتل المعفو عنه يستقل من الأعمال الصالحة في المدة التي عاشها بعد استحقاق قتله ما يمحو به هذه الفعلة الشنعاء ، فمن الرحمة إمهاله لعله يصلح أعماله .
( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ ( أي : من تجاوز شرع الله بعد القود وأخذ الدية بقتل القاتل بعد سقوط الدم ، أو بقتل غير القاتل ، وكانوا في الجاهلية يفعلون ذلك ، ويقتلون بالواحد الاثنين والثلاثة والعشرة ، وقيل : المعنى : من قتل بعد أخذ الدية ، وقيل : بعد العفو ، وقيل : من أخذ الدية بعد العفو عنها . والأظهر القول الأول لتقدم العفو ،

" صفحة رقم 18 "
وأخذ المال ، والاعتداء ، وتجاوز الحد يشمل ذلك كله .
وقال الزمخشري : بعد ذلك التخفيف ، فجعل ذلك إشارة إلى التخفيف ، وليس يظهر أن ذلك إشارة إلى التخفيف ، وإنما الظاهر ما شرحناه به من العفو وأخذ الدية ، وكون ذلك تخفيفاً هو كالعلة لمشروعية العفو وأخذ الدية ، ويحتمل : مَنْ في قوله : ) فَمَنِ اعْتَدَى ( أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة .
( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( جواب الشرط ، أو خبر عن الموصول ، وظاهر هذا العذاب أنه في الأخرة ، لأن معظم ما ورد من هذه التوعدات إنما هي في الآخرة . وقيل : العذاب الأليم هو في الدنيا ، وهو قتله قصاصاً ، قاله عكرمة ، وابن جبير ، والضحاك : وقيل : هو قتله البتة حداً ، ولا يمكن الحاكم الوليّ من العفو قاله عكرمة أيضاً ، وقتادة ، والسدي .
وقيل : عذابه أن يرد الدية ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة ، قاله الحسن .
وقيل : عذابه تمكين الإمام منه يصنع فيه ما يرى ، قاله عمر بن عبد العزيز . ومذهب جماعة من العلماء أنه إذا قتل بعد سقوط الدم هو كمن قتل ابتداء ، إن شاء الولي قتله ، وإن شاء عفا عنه .
البقرة : ( 179 ) ولكم في القصاص . . . . .
( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ يأُولِي أُوْلِى الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( الحياة التي في القصاص هي : أن الإنسان إذا علم أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ ، أمسك عن القتل ، فكان ذلك حياة له ، للذي امتنع من قتله ، فمشروعية القصاص مصلحة عامة ، وإبقاء القاتل والعفو عنه مصلحة خاصة به ، فتقدّم المصلحة العامة لتعذر الجمع بينهما . أو المعنى : ولكم في شرع القصاص حياة ، وكانت العرب إذا قتل الرجل حمى قبيلة أن تقتص منه ، فيقتتلون ، ويقضي ذلك إلى قتل عدد كثير ، فلما شرع القصاص رضوا به وسلموا القاتل للقود ، وصالحوا على الدية وتركوا القتال ، فكان لهم في ذلك حياة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل .
وقيل : حياة لغير القاتل ، لأنه لا يقتل خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية . وقيل : حياة للقاتل . وقيل : حياة لارتداع من يهم به في الآخرة إذ استوفى منه القصاص في الدنيا فإنه في الآخرة لا يقتص منه ، وإن لم يقتص اقتص منه في الآخرة . فلا تحصل له تلك الحياة التي حصلت لمن اقتص منه .
وقرأ أبو الجوزاء ، أوس بن عبد الله الربعي : ولكم في القصص ، أي : فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص ، وقيل : القصص : القرآن ، أي : لكم في القرآن حياة القلوب ، كقوله : ) رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( وكقوله : ) أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ).
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مصدراً كالقصاص ، أي : أنه إذا قص أثر القاتل قصصاً قتل كما قتل .
وقال الزمخشري : ) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ ( كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة ، ومن إصابة مخز البلاغة بتعريف ، القصاص ، وتنكير : الحياة ، لأن المعنى : ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة ، أو نوع من الحياة ، وهو الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل . لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، انتهى كلامه .
وقالت العرب فيما يقرب من هذا المعنى : القتل أوقى للقتل ، وقالوا : أنفي للقتل ، وقالوا : أكف للقتل .
وذكر العلماء تفاوت ما بين الكلامين من البلاغة من وجوه . أحدها : أن ظاهر قول العرب يقتضي كون وجود الشيء سبباً لانتفاء نفسه ، وهو محال . الثاني : تكرير لفظ القتل في جملة واحدة . الثالث : الاقتصار على أن القتل هو أنفي للقتل . الرابع : أن القتل ظلماً هو قتل ، ولا يكون نافياً للقتل . وقد اندرج في قولهم : القتل أنفى للقتل ، والآية المكرمة بخلاف ذلك .
أما في الوجه الأول : ففيه أن نوعاً من القتل وهو القصاص سبب لنوع من أنواع الحياة ، لا لمطلق الحياة ، وإذا كان على حذف مضاف أي : ولكم في شرع القصاص ، اتضح كون شرع القصاص سبباً للحياة .
وأما في الوجه الثاني : فظاهر لعذوبة الألفاظ وحسن التركيب وعدم الاحتياج إلى تقدير الحذف ، لأن في

" صفحة رقم 19 "
كلام العرب كما قلناه تكرار اللفظ ، والحذف إذ أنفي ، أو أكف ، أو أوقى ، هو أفعل تفضيل ، فلا بد من تقدير المفضل عليه أنفي للقتل من ترك القتل .
وأما في الوجه الثالث : فالقصاص أعم من القتل ، لأن القصاص يكون في نفس وفي غير نفس ، والقتل لا يكون إلاَّ في النفس ، فالآية أعم وأنفع في تحصيل الحياة .
وأما في الوجة الرابع : فلأن القصاص مشعر بالاستحقاق ، فترتب على مشروعيته وجود الحياة .
ثم الآية المكرمة فيها مقابلة القصاص بالحياة فهو من مقابلة الشيء بضده ، وهو نوع من البيان يسمى الطباق ، وهو شبه قوله تعالى : ) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ ( وهذه الجملة مبتدأ وخبر ، وفي القصاص : متعلق بما تعلق به قوله : لكم ، وهو في موضع الخبر ، وتقديم هذا الخبر مسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة ، وتفسير المعنى : أنه يكون لكم في القصاص حياة ، ونبه بالنداء نداء ذوي العقول والبصائر على المصلحة العامة ، وهي مشروعية القصاص ، إذ لا يعرف كنه محصولها إلاَّ أولو الألباب القائلون لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، وهم الذين خصهم الله بالخطاب ، ( يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاْلْبَابِ ( ) لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ) لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ ( ) لاَيَاتٍ لاِوْلِى ( ) ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( وذوو الالباب هم الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف ، إذ من لا عقل له لا يحصل له الخوف ، فلهذا خص به ذوي الألباب .
( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( أي : القصاص ، فتكفون عن القتل وتتقون القتل حذراً من القصاص أو الانهماك في القتل ، أو تتقون الله باجتناب معاصيه ، أو تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به ، وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة أقوال خمسة ، أولاها ما سيقت له الآية من مشروعية القصاص .
البقرة : ( 180 ) كتب عليكم إذا . . . . .
( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ( الآية . مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أنه لما ذكر تعالى القتل في القصاص ، والدية ، أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية ، وبيان أنه مما كتبه الله على عباده حتى يتنبه كل أحد فيوصي مفاجأة الموت ، فيموت على غير وصية ، ولا ضرورة تدعو إلى أن : كتب ، أصله : العطف على . ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( ) كُتِبَ عَلَيْكُمْ ( وأن الواو حذفت للطول ، بل هذه جملة مستأنفة ظاهرة الارتباط بما قبلها ، لأن من أشرف على أن يقتص منه فهو بعض من حضره الموت ، ومعنى حضور الموت أي : حضور مقدماته وأسبابه من العلل والأمراض والأعراض المخوفة ، والعرب تطلق على أسباب الموت موتاً على سبيل التجوز . وقال تعالى : ) وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ ( وقال عنترة . وان الموت طوع يدي إذا ما
وصلت بنانها بالهندوان
وقال جرير . انا الموت الذي حدثت عنه
فليس لهارب مني نجاءُ

" صفحة رقم 20 "
وقال غيره . وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا
قولا يبرئكم : إني أنا الموت
والخطاب في : عليكم ، للمؤمنين مقيداً بالإمكان على تقدير التجوز في حضور الموت ، ولو جرى نظم الكلام على خطاب المؤمنين لكان : إذا حضركم الموت ، لكنه روعيت دلالة العموم في : عليكم ، من حيث المعنى ، إذا لمعنى : كتب على كل واحد منكم ، ثم أظهر ذلك المضمر ، إذ كان يكون إذا حضره الموت ، فقيل : إذا حضر أحدكم ، ونظير مراعاة المعنى في العموم قول الشاعر : ولست بسائل جارات بيتي
أغياب رجالك أم شهود
فأفرد الضمير في رجالك لأنه راعى معنى العموم ، إذ المعنى ولست بسائل كل جارة من جارات بيتي ، فجاء قوله : أغياب رجالك ، على مراعاة هذا المعنى . وهذا شيء غريب مستطرف من علم العربية .
وقيل : المراد بالموت هنا حقيقته لا مقدماته ، فيكون الخطاب متوجهاً إلى الأوصياء والورثة ، ويكون على حذف مضاف ، أي : كتب عليكم ، إذا مات أحدكم ، إنفاذ الوصية والعمل بها ، فلا تكون الآية تدل على وجوب الوصية ، بل يستدل على وجوبها بدليل آخر .
( إِن تَرَكَ خَيْرًا ( يعني : مالاً ، في قول الجميع ، وقال مجاهد : الخير في القرآن كله المال ) وَإِنَّهُ لِحُبّ ( ) فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ( ) فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ( ) إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ( وظاهر الآية يدل على مطلق الخير ، وبه قال : الزهري ، وأبو مجلز ، وغيرهما ، قالوا : تجب فيما قلّ وفيما كثر .
وقال أبان : مائتا درهم فضة . وقال النخعي : من ألف درهم إلى خمسمائة ؛ وقال علي : وقتادة : ألف درهم فصاعداً ، وقال الجصاص : أربعة آلاف درهم . هذا قول من قدّر الخير بالمال .
وأما من قدّره بمطلق الكثرة ، فإن ذلك يختلف بحسب اختلاف حال الرجل ، وكثرة عياله ، وقلتهم .
وروي عن عائشة أنها قالت : ما أرى فضلاً في مال هو أربعمائة دينار لرجل أراد أن يوصى وله عيال ، وقالت في آخر : له عيال أربعة وله ثلاثة آلاف ، إنما قال الله ) إِن تَرَكَ خَيْرًا ( وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك .
وعن علي : أن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه ، وقال : قال تعالى : ) إِن تَرَكَ خَيْرًا ( والخير : هو المال ، وليس لك مال . انتهى .
ولا يدل عدم تقدير المال على أن الوصية لم تجب ، إذ الظاهر التعليق بوجود مطلق الخير ، وإن كان المراد غير الظاهر ، فيمكن تعليق الإيجاب بحسب الاجتهاد في الخير ؛ وفي تسميته هنا وجعله خيراً إشارة لطيفة إلى أنه مال طيب لا خبيث ، فإن الخبيث يجب رده إلى أربابه ، ويأثم بالوصية فيه .
واختلفوا ، فقال قوم :

" صفحة رقم 21 "
الآية محكمة ، والوصية للوالدين والأقربين واجبة ، ويجمع للوارث بين الوصية والميراث بحكم الآيتين .
وقال قوم : إنها محكمة في التطوع ، وقال قوم : إنها محكمة وليس معنى الوصية مخالفاً للميراث ، بل المعنى : كتب عليكم ما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين في قوله : ) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ ).
وقال الزمخشري : أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم ولا ينقص من أنصابهم . انتهى كلامه .
وقيل : هي محكمة ، ويخصص الوالدان والأقربون بأن لا يكونوا وارثين بل أرقاء أو كفاراً ، كما خصص في الموصى به بالثلث فما دونه ، قاله الحسن ، وطاووس ، والضحاك .
وقال : ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين والأقرباء الذين لا يرثون جائزة .
وقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : الآية عامة ، وتقرر الحكم بها برهة ، ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض .
وقال ابن عمر ، وابن عباس أيضاً ، وابن زيد : الآية كلها منسوخة . وبقيت الوصية ندباً ، ونحو هذا هو قول الشعبي ، والنخعي ، ومالك .
وقال الربيع بن خيثم وغيره لا وصية ، وقيل : كانت في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث ، وبقوله عليه السلام : ( ان الله أعطى كل ذي حق حقه ، ألاَ لاَ وصية لوارث ) . ولتلقي الأمة إياه بالقبول حتى لحق بالمتواتر . وإن كان من الأحاد ، لأنهم لا يتلقون بالقبول إلاّ المثبت الذي صحت روايته .
وقال قوم : الوصية للقرابة أولاً ، فإن كانت لأجنبي فمعهم ، ولا يجوز لغيرهم مع تركهم . وقال الناس ، حين مات أبو العالية : عجباً له ، أعتقته امرأة من رياح ، وأوصى بما له لبني هاشم . وقال الشعبي : لم يكن ذلك له ولا كرامة ، وقال طاووس : إذا أوصى لغير قرابته ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله ، وقاله جابر ، وابن زيد .
وروي مثله عن الحسن ، وبه قال إسحاق بن راهويه .
وقال الحسن ، وجابر بن زيد ، أيضاً ، وعبد الملك بن يعلى : يبقى ثلث الوصية حيث جعلها الميت . وقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد : إذا أوصى لغير قرابته وترك قرابته جاز ذلك وأمضي ، كان الموصى له غنياً ، أو فقيراً مسلماً أو كافراً . وهو مروي عن عمر ، وابن عباس ، وعائشة رضى الله عنها .
وظاهر : كتب ، وجوب الوصية على من خلف مالاً ، وهو قول الثوري . وقال أبو ثور : لا تجب إلاَّ على من عليه دين أو عنده مال لقوم ، فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه ، وقيل : لا تجب الوصية ، واستدل بقول النخعي : مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولم يوص ، وبقوله في الحديث يريد أن يوصي ، فعلق بإرادة الوصية . ولو كانت واجبة لما علقها بإرادته . والموصى له ، إن كان وارثاً وأجاز ذلك الورثة جاز ، وبه قال أبو حنيفة ، ومالك . أو قاتلاً عمداً وأجاز ذلك الورثة ، جاز في قول أبي حنيفة ومحمد .
وقال أبو يوسف : لا تجوز ولو أوصى لبعض ورثته بمال ، فقال : إن أجاز ذلك الورثة وإلاَّ فهو في سبيل الله فإن أجاز ذلك الورثة وإلاَّ كان ميراثاً . هذا قول مالك .
وقال أبو حنيفة ، ومعمر يمضي في سبيل الله .
ولو أوصى الأجنبي بأكثر من الثلث ، وأجازه الورثة قبل الموت فليس لهم الرجوع فيه بعد الموت ، وهي جائزة عليهم ، قاله ابن أبي ليلى ، وعثمان البتي .
وقال أبو حنيفة

" صفحة رقم 22 "
ومحمد ، وأبو يوسف ، وزفر ، والحسن بن صالح ، وعبيد الله بن الحسن : إن أجازوا ذلك في حياته لم يجز ذلك حتى يجيزوه بعد الموت . وروي ذلك عن عبد الله ، وشريح ، وإبراهيم .
وقال ابن القاسم عن مالك : إن استأذنهم فأذنوا فكل وارث بائن فليس له أن يرجع ، ومن كان في عياله ، أو كان من عم وابن عم ، أن يقطع نفقته عنهم إن صح ، فلهم أن يرجعوا .
وقال ابن وهب عن مالك : إن أذنوا له في الصحة فلهم أن يرجعوا ، أو في المرض فلا . وقول الليث كقول مالك ، ولا خلاف بين الفقهاء أنهم إذا أجازوه بعد الموت فليس لهم أن يرجعوا فيه .
وروي عن طاووس وعطاء ، إن أجازوه في الحياة جاز عليهم ، ولا خلاف في صحة وصية العاقل ، البالغ غير المحجور عليه ؛ واختلف في الصبي ، فقال أبو حنيفة : لا تجوز وصيته . قال المزني : وهو قياس قول الشافعي : وقال مالك وغيره : يجوز ، والقولان عن أصحاب الشافعي . وظاهر قوله تعالى : ) كِتَابَ ( المنع . لأنه ليس من أهل التكليف ، وأجمعوا على أنه للإنسان أن يغير وصيته وأن يرجع فيها .
واختلفوا في المدبر ، فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه ليس له أن يغير ما دبر ، قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق : هو وصيته ، وبه قال الشعبي ، والنخعي ، وابن شبرمة ، والثوري ، وقد ثبت أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) باع مدبراً ، وأن عائشة باعت مدبرة ، وإذا قال لعبده : أنت حرّ بعد موتي ، فله الرجوع عند مالك في ذلك . وإن قال : فلان مدبر بعد موتي لم يكن له الرجوع فيه ، وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضاً عند أكثر أصحاب مالك . وأما الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، فكل هذا عندهم وصيته . .
واختلفوا في الرجوع في التدبير بماذا يكون ؟ .
فقال أبو ثور : إذا قال : رجعت في مدبري بطل التدبير ، وقال الشافعي : لا يكون إلاَّ ببيع أو هبة ، وليس قوله رجعت رجوعاً . ومن قال : عبدي حر بعد موتي ، ولم يرد الوصية ولا التدبير ، فقال ابن القاسم : هو وصية وقال أشهبَّ هو مدبر .
وكيفية الوصية التي كان السلف الصالح يكتبونها : هذا ما أوصي فلان بن فلان ، أنه يشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله . ) وَأَنَّ السَّاعَةَ ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ ( وأوصى من ترك ، من أهله بتقوى الله تبارك وتعالى حق تقاته ، وأن يصلحوا ذات بينهم ، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين ، ويوصيهم بما أوصى به ) إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِىَّ بَنِى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( رواه الدارقطني ، عن أنس بن مالك . وبني كتب للمفعول وحذف الفاعل للعلم به ، وللاختصار ، إذ معلوم أن الله تعالى ، ومرفوعُ : كتب الظاهر أنه الوصية ، ولم يلحق علامة التأنيث للفعل للفصل ، لا سيما هنا ، إذ طال بالمجرور والشرطين ، ولكونه مؤنثاً غير حقيقي ، وبمعنى الإيصاء . وجواب الشرطين محذوف لدلالة المعنى عليه ، ولا يجوز أن يكون من معنى : كتب ، لمضي كتب واستقبال الشرطين . ولكن يكون المعنى : كتب الوصية على أحدكم إذا حضر الموت إن ترك خيراً فليوص . ودل على هذا الجواب سياق الكلام . والمعنى : ويكون الجواب محذوفاً جاء فعل الشرط بصيغة الماضي ، والتحقيق أن كل شرط يقتضي جواباً فيكون ذلك المقدر جواباً للشرط الأول ، ويكون جواب الشرط الثاني محذوفاً يدل عليه جواب الشرط الأول المحذوف ، فيكون المحذوف دل على محذوف ، والشرط الثاني شرط في الأول ، فلذلك يقتضي أن يكون متقدّماً في الوجود ، وإن كان متأخراً لفظاً . واجتماع الشرطين غير مجعول الثاني جواباً للأول بالفاء من أصعب المسائل النحوية ، وقد أوضحنا الكلام على ذلك واستوفيناه فيه في ( كتاب التكميل ) من تأليفنا ، فيؤخذ منه .
وقيل : جواب الشرطين محذوف ويقدر من معنى

" صفحة رقم 23 "
) كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْوَصِيَّةِ ( ويتجوز بلفظ : كتب ، عن لفظ : يتوجه إيجاب الوصية عليكم . حتى يكون مستقبلاً فيفسر الجواب ، لأن مستقبل ، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون إذا ظرفاً محضاً لا شرطاً ، فيكون إذ ذاك العامل فيها : كتب ، على هذا التقدير ، ويكون جواب : ) إِن تَرَكَ خَيْرًا ( محذوفاً يدل عليه : كتب ، على هذا التقدير ، ولا يجوز عند جمهور النجاة أن يكون إذا معمولاً للوصية لأنها مصدر وموصول ، ولا يتقدّم معمول الموصول عليه ، وأجاز ذلك أبو الحسن لأنه يجوز عنده أن يتقدّم المعمول إذا كان ظرفاً على العامل فيه إذا لم يكن موصولاً محضاً ، وهو عنده المصدر ، والألف واللام في نحو : الضارب والمضروب ، وهذا الشرط موجود هنا ، وإلى هذا ذهب في قوله .
أبعلى هذا بالرحى المتقاعس
فعلق : بالرحى ، بلفظ : المتقاعس .
وقال أبو محمد بن عطية : ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون : كتب ، هو العامل في : إذا ، والمعنى : توجه إيجاب الله عليكم مقتضى كتابه إذا حضر ، فعبر عن توجيه الإيجاب : بكتب ، ليتنظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل ، والوصية مفعول لم يسم فاعله بكتب ، وجواب الشرطين : إذا ، وإن مقدر يدل عليه ما تقدّم من قوله : ) كُتِبَ عَلَيْكُمْ ( كما تقول : شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا . انتهى كلامه . وفيه تناقض لأنه قال : العامل في إذا : كتب ، وإذا كان العامل فيها كتب تمحضت للظرفية ولم تكن شرطاً ، ثم قال : وجواب الشرطين : إذا وإن مقدّر يدل عليه ما تقدّم إلى آخر كلامه ، وإذا كانت إذا شرطاً فالعامل فيها إما الجواب ، وإما الفعل بعدها على الخلاف الذي في العامل فيها ، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما قبلها إلاَّ على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط عليه ، ويفرع على أن الجواب هو العامل في إذا .
ولا يجوز تأويل كلام ابن عطية على هذا المذهب لأنه قال : وجواب الشرطين : إذا وإن مقدر يدل عليه ما تقدم ، وما كان مقدراً يدل عليه ما تقدم يستحيل أن يكون هو الملفوظ به المتقدم ، وهذا الإعراب هو على ما يقتضيه الظاهر

" صفحة رقم 24 "
من أن الوصية مفعول لم يسم فاعله مرفوع بكتب .
والزمخشري يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً وهذا اصطلاحه ، قال في تفسيره : والوصية فاعل كتب ، وذكر فعلها للفاصل ، ولأنها بمعنى : أن يوصي ، ولذلك ذكر الراجع في قوله ، فمن بدّ له بعدما سمعه . اه .
ونبهت على اصطلاحه في ذلك لئلا يتوهم أن تسمية هذا المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً سهو من الناسخ ، وأجاز بعض المعربين أن ترتفع الوصية على الابتداء ، على تقدير الفاء ، والخبر إمّا محذوف ، أي : فعليه الوصية . وإمّا منطوق به ، وهو قوله : ) لِلْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ ( أي : فالوصية للوالدين والأقربين ، وتكون هذه الجملة الابتدائية جواباً لما تقدم ، والمفعول الذي لم يسم فاعله : بكتب ، مصمر . أي : الإيصاء يفسره ما بعده .
قال أبو محمد بن عطية في هذا الوجه : ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد ، هو العامل في إذا ، وترتفع الوصية بالابتداء ، وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه رحمه الله :
من يفعل الحسنات الله يحفظه
ويكون رفعها بالابتداء بتقدير . فعليه الوصية ، أو بتقدير الفاء فقط كأنه قال : فالوصية للوالدين . اه . كلامه . وفيه أن إذا معمولة للإيصاء المقدر ، ثم قال : إن الوصية فيه جواب الشرطين ، وقد تقدّم إبداء تناقض ذلك ، لأن إذا من حيث هي معمولة للإيصاء لا تكون شرطاً ، ومن حيث إن الوصية فيه جواب إذا يكون شرطاً فتناقضاً ، لأن الشيء الواحد لا يكون شرطاً وغير شرط في حالة واحدة ، ولا يجوز أن يكون الإيصاء المقدر عاملاً ، في إذا أيضاً لأنك إما أن تقدر هذا العامل لي : إذا ، لفظ الإيصاء بحذف ، أو ضمير الإيصاء : لا ، جائز أن يقدره لفظ الإيصاء بحذف ، لأن المفعول لم يسم فاعله لا يجوز حذفه ، وابن عطية قدر لفظ : الإيصاء ، ولا جائز أن يقدره ضمير الإيصاء ، لأنه لو صرح بضمير المصدر لم يجز له أن يعمل ، لأن المصدر من شرط عمله عند البصريين أن يكون مظهراً ، وإذا كان لا يجوز إعمال لفظ مضمر المصدر فمنويه أحرى أن لا يعمل ، وأما قوله : وفيه جواب الشرطين ، فليس بصحيح ، فإنا قد قررنا أن كل شرط يتقضى جواباً على حذفه ، والشيء الواحد لا يكون جواباً لشرطين ، وأما قوله على نحو ما أيد سيبويه .
من يفعل الحسنات الله يحفظه
وهو تحريف على سيبويه ، وإنما سيبويه أيده في كتابه : من يفعل الحسنات الله يشكرها
والشر بالشر عند الله مثلان

" صفحة رقم 25 "
وأما قوله : بتقدير فعليه الوصية ، أو بتقدير الفاء فقط ، كأنه قال : فالوصية للوالدين ، فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه ، فإن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلاَّ في ضرورة الشعر ، فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه .
قال سيبويه : وسألته ، يعنى الخليل ، عن قوله : إن تأتني أنا كريم ، قال : لا يكون هذا إلاَّ أن يضطر شاعر من قِبَل : إن أنا كريم ، يكون كلاماً مبتداً ، والفاء ، وإذا لا يكونان إلاَّ معلقتين بما قبلهما ، فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء ، وقد قاله الشاعر مضطراً ، وأنشد البيت السابق .
من يفعل الحسنات
وذكر عن الأخفش : أن ذلك على إضمار الفاء ، وهو محجوج بنقل سيبويه أن ذلك لا يكون إلاَّ في اضطرار ، وأجاز بعضهم أن تقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجارّ والمجرور الذي هو : عليكم ، وهو قول لا بأس به على ما تقرره ، فنقول : لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت إن ترك خيراً تشوّف السامع لذكر المكتوب ما هو ، فتكون الوصية مبتدأ ، أو خبر المبتدأ على هذا التقدير ، ويكون جواباً لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيراً ؟ فقيل : الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة ، أو : المكتوب الوصية للوالدين والأقربين ، ونظيره : ضرب بسوط يوم الجمعة زيد المضروب أو المضروب زيد ، فيكون هذا جواباً بالسؤال مقدر ، كأنه قال : من المضروب ؟ وهذا الوجه أحسن ، وأقل تكلفاً من الوجه الذي قبله ، وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله الإيصاء ، وضمير الإيصاء والوالدان معروفان ، وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى : ) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ).
) وَالاْقْرَبِينَ ( جمع الأقرب ، وظاهره أنه أفعل تفضيل ، فكل من كان أقرب إلى الميت دخل في هذا اللفظ ، وأقرب ما إليه الوالدان ، فصار ذلك تعميماً بعد تخصيص ، فكأنهما ذكراً مرتين : توكيداً وتخصيصاً على اتصال الخير إليهما ، هذا مدلول ظاهر هذا اللفظ ، وعند المفسرين : الأقربون الأولاد ، أو من عدا الأولاد ، أو جميع القرابات ، أو من لا يرث من الأقارب . أقوال .
( بِالْمَعْرُوفِ ( أي : لا يوصى بأزيد من الثلث ، ولا للغنيّ دون الفقير ، وقال ابن مسعود : الأخل فالأخل ، أي : الأحوج فالأحوج ، وقيل : الذي لا حيف فيه ، وقيل : كان هذا موكولاً إلى اجتهاد الموصي ، ثم بين ذلك وقدر : ( بالثلث والثلث كثير ) . وقيل : بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ، فإنهم كانوا قد يوصون بالمال كله ، وقيل : بالمعروف من ماله غير المجهول .
وهذه الأقوال ترجع إلى قدر ما يوصي به ، وإلى تمييز من يوصى له ، وقد لخص ذلك الزمخشري وفسره بالعدل ، وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير ، ولا يتجاوز الثلث ، وتعلق بالمعروف بقوله : الوصية ، أو بمحذوف ، أي : كائنة بالمعروف ، فيكون بالمعروف حالاً من الوصية .
( حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( انتصب حقاً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، أي : حق ذلك حقاً ، قاله ابن عطية ، والزمخشري . وهذا تأباه القواعد النحوية لأن ظاهر قوله : ) عَلَى الْمُتَّقِينَ ( إذن يتعلق على بحقاً ، أو يكون في موضع الصفة له ، وكلا التقديرين يخرجه عن التأكيد ، أما تعلقه به فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل بحرف مصدري ، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل وذلك مطرد في الأمر والاستفهام ، على خلاف في هذا الأخير على ما تقرر في علم النحو ، وأما جعله صفة : لحقاً أي : حقاً كائناً على

" صفحة رقم 26 "
المتقين ، فذلك يخرجه عن التأكيد ، لأنه إذا ذاك يتخصص بالصفة ، وجوز المعربون أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، إمّا لمصدر من : كتب عليكم ، أي : كتباً حقاً وإما مصدر من الوصية ، أي أصاء حقاً ، وأبعد من ذهب إلى أنه منصوب : بالمتقين ، وأن التقدير : على المتقين حقاً ، كقوله : ) أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ( لأنه غير المتبادر إلى الذهن ، ولتقدمه على عامله الموصول ، والأولى عندي أن يكون مصدراً من معنى : كتب ، لأن معنى : كتبت الوصية ، أي : وجبت وحقت ، فانتصابه على أنه مصدر على غير الصدر ، كقولهم : قعدت جلوساً ، وظاهر قوله : كتب وحقاً ، الوجوب ، إذ معنى ذلك الإلزام على المتقين ، قيل : معناه : من اتقى في أمور الورثة أن لا يسرف ، وفي الأقربين أن يقدّم الأحوج فالأحوج ، وقيل : من اتبعوا شرائع الإيمان العاملين بالتقوى قولاً وفعلاً ، وخصهم بالذكر تشريفاً لهم وتنبيهاً على علو منزلة المتقين عنده ، وقيل : من اتقى الكفر ومخالفة الأمر .
وقال بعضهم : قوله ) عَلَى الْمُتَّقِينَ ( يدل على ندب الوصية لا على وجوبها ، إذ لو كانت واجبة لقال : على المسلمين ، ولا دلالة على ما قال لأنه يراد بالمتقين : المؤمنون ، وهم الذين اتقوا الكفر ، فيحتمل أن يراد ذلك هنا . .
البقرة : ( 181 ) فمن بدله بعد . . . . .
( فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ ( : الظاهر أن الضمير يعود على الوصية بمعنى الإيصاء ، أي : فمن بدّل الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود بعدما سمعه سماع تحقق وتثبت ، وعوده على الإيصاء أولى من عوده على الوصية ، لأن تأنيث الوصية غير حقيقي ، لأن ذلك لا يراعى في الضمائر المتأخرة عن المؤنث المجازي ، بل يستوي المؤنث الحقيقي والمجازي في ذلك تقول : هند خرجت . والشمس طلعت ، ولا يجوز طلع إلاَّ في الشعر ، والتذكير على مراعاة المعنى وارد في لسانهم ، ومنه .
كخرعوبة البانة المنفطر
ذهب إلى معنى : القضيب ، كأنه قال : كقضيب البانة ، ومنه في العكس : جاءته كتابي ، فاحتقرها على معنى الصحيفة .
والضمير في ) سَمِعَهُ ( عائد على الإيصاء كما شرحناه ، وقيل : يعود على أمر الله تعالى في هذه الآية .
وقيل : الهاء ، في : ) فَمَن بَدَّلَهُ ( عائدة إلى الفرض ، والحكم ، والتقدير : فمن بدل الأمر المقدم ذكره ، ومَنْ : الظاهر أنها شرطية ، والجواب : ) فَإِنَّمَا إِثْمُهُ ( وتكون : مَنْ ، عامة في كل مبدل : مَنْ رضي بغير الوصية في كتابة ، أو قسمة حقوق ، أو شاهد بغير شهادة ، أو يكتمها ، أو غيرهما ممن يمنع حصول المال ووصوله إلى مستحقه ، وقيل : المراد بِمَنْ : متولي الإيصاء دون الموصي والموصى له ، فإنه هو الذي بيده العدل والجنف والتبديل والإمضاء ، وقيل : المراد : بِمَنْ : هو الموصي ، نهي عن تغيير وصيته عن المواضع التي نهى الله عن الوصية إليها ، لأنهم كانوا يصرفونها إلى الأجانب ، فأمروا بصرفها إلى الأقربين .
ويتعين على هذا القول أن يكون الضمير في قوله : ) فَمَن بَدَّلَهُ ( وفي قوله : ) بَعْدَمَا سَمِعَهُ ( عائداً على أمر الله تعالى في الآية ، وفي قوله : ) بَعْدَمَا سَمِعَهُ ( دليل على أن الإثم لا يترتب إلاَّ بشرط أن يكون المبدل قد علم بذلك ، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله . ) فَإِنَّمَا إِثْمُهُ ( : الضمير عائد على الإيصاء المبدل ، أو على المصدر المفهوم من بدله ، أي : فإنما إثم التبديل على المبدل ، وفي هذا دليل على أن من اقترف ذنباً ، فإنما وباله عليه خاصةً ، فإن قصر الوصي في شيء مما أوصى به الميت ، لم يلحق الميت من ذلك شيء ، وراعى المعنى في قوله : ) عَلَى الَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ ( إذ لو جرى على نسق اللفظ الأول لكان : فإنما إثمه ، أو فإنما إثمه عليه على الذي يبدله ، وأتي في جملة الجواب بالظاهر مكان المضمر ليشعر بعلية : الإثم الحاصل ، وهو التبديل ، وأتى بصلة : الذين ، مستقبلة جرياً على الأصل ، إذ هو مستقبل .
( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( في هاتين الصفتين تهديد ووعيد للمبدلين ، فلا يخفي عليه تعالى شيء ، فهو يجازيهم على تبديلهم شر الجزاء ، وقيل : سميع لقول الموصي ، عليم بفعل الموصي ، وقيل : سميع لو صاياه ، عليم بنياته . والظاهر القول الأول المجيئه في أثر ذكر التبديل وما يترتب عليه من الإثم .
البقرة : ( 182 ) فمن خاف من . . . . .
( فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ( الظاهر أن الخوف هو الخشية هنا ، جرياً على أصل اللغة في الخوف ، فيكون المعنى : بتوقع الجنف أو الإثم من الموصي .
قال

" صفحة رقم 27 "
مجاهد : المعنى : من خشي أن يجنف الموصي ، ويقطع ميراث طائفة ، ويتعمد الإذاية أو يأتيها دون تعمد ، وذلك هو الجنف دون إثم ، وإذا تعمد فهو الجنف في إثم ، فوعظه في ذلك ورده ، فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته ، فلا إثم عليه .
( أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ( عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية ) رَّحِيمٌ بِهِ ). وقيل : يراد بالخوف هنا : العلم ، أي : فمن علم ، وخرّج عليه قوله تعالى : ) إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ).
وقول أبي محجن .
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
والعلقة بين الخوف والعلم حتى أطلق على العلم الخوف ، وأن الإنسان لا يخاف شيئاً حتى يعلم أنه مما يخاف منه ، فهو من باب التعبير بالمسبب عن السبب ، وقال في المنتخب : الخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم ، وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظنّ مخصوص ، وبين الظنّ والعلم مشابهة في أمور كثيرة ، فلذلك صح إطلاق كل واحد منهما على الأخر . انتهى كلامه .
وعلى الخوف بمعنى العلم ، قال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وقتادة ، والربيع ، معنى الآية : من خاف أي ، علم بعد موت الموصي أن الموصي حاف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته ، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق ، فلا إثم عليه ، أي : لا يلحقه إثم التبديل المذكور قبل ، وإن كان في فعله تبديلها ، ولكنه تبديل لمصلحة ، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى .
وقال عطاء : المعنى : فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً في عطيته لورثته عند حضور أجله ، فأعطى بعضاً دون بعض ، فلا إثم عليه أن يصلح بين ورثته في ذلك .
وقال طاووس : المعنى : فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً في وصيته لغير ورثته بما يرجع بعضه على ورثته ، فأصلح بين ورثته فلا إثم عليه .
وقال الحسن : هو أن يوصي للأجانب ويترك الأقارب ، فيرّد إلى الأقارب ، قال : وهذا هو الإصلاح .
وقال السدي : المعنى : فمن خاف من موصٍ بآبائه وأقربائه جنفاً على بعضهم لبعض ، فأصلح بين الآباء والأقرباء ، فلا إثم عليه .
وقال علي بن عيسى : هو مشتمل على أمر ماضٍ واقع ، وأمر غير واقع ، فإن كانت الوصية باقية أمر الموصي بإصلاحها ، ورد من الجنف إلى النَّصَف ، وإن كانت ماضية أصلحها الموصى إليه بعد موته .
وقيل : هو أن يوصي لولد ابنته ، يقصد بها نفع ابنته ، وهذا راجع إلى قول طاووس المتقدم .
وإذا فسرنا الخوف بالخشية ، فالخوف إنما يصح في أمر مرتبط والوصية قد وقعت ، فكيف يمكن تعليقها بالخوف ؟ والجواب : أن المصلح إذا شاهد الموصي يوصي ، فظهرت منه أمارات الجنف أو التعدي بزيادة غير مستحق ، أو نقص مستحق ، أو عدل عن مستحق ، فأصلح عند ظهور الأمارات لأنه لم يقطع بالجنف والإثم ، فناسب أن يعلق بالخوف ، لأن الوصية لم تمض بعد ولم تقع ، أو علق بالخوف وإن كانت قد وقعت لأنه له أن ينسخها أو يغيرها بزيادة أو نقصان ، فلم يصر الجنف أو الإثم معلومين ، لأن تجويز الرجوع يمنع من القطع . أو علق بالخوف وإن كانت الوصية استقرت ومات الموصي ، يجوز أن يقع بين الورثة والموصى لهم مصالحة على وجه يزول به الميل والخطأ ، فلم يكن الجنف ولا الإثم مستقراً ، فعلق بالخوف . والجواب الأول أقوى ، ومَنْ : شرطية ، والجواب : فلا إثم عليه :

" صفحة رقم 28 "
و ) مِن مُّوصٍ ( متعلق ، بخاف ، أو بمحذوف تقديره : كائناً من موصٍ ، وتكون حالاً ، إذ لو تأخر لكان صفة ، كقوله : ) جَنَفًا أَوْ إِثْمًا ( فلما تقدم صار حالاً ، ويكون الخائف في هذين التقديرين ، ليس الموصي ، ويجوز أن يكون : مَنْ ، لتبيين جنس الخائف ، فيكون الخائف بعض الموصين على حد ، مَنْ جاءك مِنْ رجل فأكرمه ، أي : مَن جاءك مِن الرجال فالجائي رجل ، والخائف هنا موصٍ .
والمعنى : فمن خاف من الموصي جنفاً أو إثماً من ورثته ومَن يوصي له ، فأصلح بينهم فلا إثم على الموصي المصلح ، وهذا معنى لم يذكره المفسرون ، إنما ذكروا أن الموصي مخوف منه لا خائف ، وأن الجنف أو الإثم من الموصي لا من ورثته ، ولا من يوصي له .
وأمال حمزة ) خَافَ ( وقرأ هو والكسائي وأبو بكر : موص ، من ، وصا والباقون : موص ، من : أوصى ، وتقدم أنهما لغتان .
وقرأ الجمهور : جنفاً ، بالجيم والنون ، وقرأ علي : حيفاً ، بالحاء والياء .
وقال أبو العالية : الجنف الجهالة بموضع الوصية ، والإثم : العدول عن موضعها ، وقال عطاء ، وابن زيد : الجنف : الميل ، والإثم أن يكون قد أثم في ايثاره بعض الورثة على بعض ، وقال السدي : الجنف : الخطأ ، والإثم العمد .
وأما الحيف فمعناه : البخس ، وذلك بأن يريد أن يعطي بعض الورثة دون بعض قال الفراء : تحيف مال أي : نقصه من حافاته ، وروي : من حاف في وصيته ألقى في ألوى ، وألوى وادٍ في جهنم .
( فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ( : الضمير عائد على الموصي والورثة ، أو على الموصى لهم وعلى الورثة والموصى لهم على اختلاف الأقاويل التي سبقت ، والظاهر عوده على الموصى لهم ، إذ يدل على ذلك لفظ : الموصي ، لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له ، كما قيل في قوله : ) وَأَدَاء إِلَيْهِ ( أي : إلى العافي ، لدلالة من عفي له ، ومنه ما أنشده الفراء رحمة الله تعالى : وما أدري إذا يمم ت أرضا
أريد الخير أيهما يليني
فقال : أيهما ، فأعاد الضمير على الخير والشر ، وإن لم يتقدم ذكر الشر ، لكنه تقدم الخير وفيه دلالة على الشر ، والظاهر أن هذا المصلح هو الوصي ، والمشاهد ومن يتولى بعد موته ذلك من والٍ ، أو ولي ، أو مَن يأمر بالمعروف فكل هؤلاء يدخل تحت قوله : ) فَمَنْ خَافَ ( إذا ظهرت لهم أمارات الجنف أو الإثم ، ولا يوجه لتخصيص الخائف بالوصي ، وأما كيفية هذا الإصلاح فبالزيادة أو النقصان ، أو كف للعدوان ) فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ( يعني : في تبديل الوصية إذا فعل ذلك لقصد الإصلاح ، والضمير : عليه ، عائد على من عاد عليه ضمير : فأصلح ، وضمير : خاف ، وهو : مَنْ ، وهو : الخائف المصلح .
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، لما ذكر المبدل في أول الآية : وكان هذا من التبديل بين مخالفته للأول ، وأنه لا إثم عليه ، لأنه رد الوصية إلى العدد ، ولما كان المصلح ينقص الوصايا ، وذلك يصعب على الموصى له ، أزال الشبهة بقوله : ) فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ( وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي ، وصرف ماله عن من أحب إلى من يكره . انتهى . وهذا يرجع معناه إلى قوله الأول . وقال أيضاً : إن الإصلاح يحتاج إلى الإكثار من القول ، وقد يتخلله بعض ما لا ينبغي من قول أو فعل ، فبين أن ذلك لا إثم فيه إذا كان لقصد الإصلاح ، ودلت الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع . انتهى كلامه .
( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ). قيل : غفور لما كان من الخائف ، وقيل : للمصلح رحيم حيث رخص ، وقيل : غفور للموصي فيما حدث به نفسه من الجنف والخطأ والعهد والإثم إذ رجع إلى الحق ، رحيم للمصلح .
وقال الراغب : أي متجاوز عن ما عسى أن يسقط من المصلح ما لم يجر .
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة ، أن البر ليس هو تولية الوجوه قبل ، المشرق والمغرب ، بل البر هو الإتيان بما كلفه الإنسان من تكاليف الشرع ، اعتقاداً وفعلاً وقولاً . فمن الإعتقاد : الإيمان بالله ، وملائكته الذين هم وسائط بينه وبين أنبيائه ، وكتبه التي نزلت على أيدي الملائكة ، وأنبيائه المتلقين . تلك الكتب من ملائكته . ثم ذكر ما جاءت به الأنبياء عن الله في تلك الكتب ، من : إيتاء المال ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ،

" صفحة رقم 29 "
والإيفاء بالعهد ، والصبر في الشدائد . ثم أخبر أن من استوفى ذلك فهو الصابر المتقي ، ولما كان تعالى قد ذكر قبل ما حلل وما حرم ، ثم أتبع ذلك بمن أخذ مالاً من غير حله ، وعده بالنار ، وأشار بذلك إلى جميع المحرمات من الأموال ، ثم ذكر من اتصف بالبر التام وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها ، أخذ تعالى يذكر ما حرم من الدماء ، ويستدعي صونها ، وكان تقديم ذكر المأكول لعموم البلوى بالأكل ، فشرع القصاص ، ولم يخرج من وقع منه القتل واقتص منه عن الإيمان ألا تراه قد ناداه باسم الإيمان وفصل شيئاً المكافأة فقال ) الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاْنثَى بِالاْنْثَى ( ، إلاَّ ثم أخبر بعد ذلك أنه إذا وقع عفو من الولي على دية فليتبع الولي بالمعروف ، وليؤدي الجاني بالإحسان ليزرع بذلك الود بين القاتل والولي ، ويزيل الإحن ، لأن مشروعية العفو تستدعي التحاب وصفاء البواطن .
ثم ذكر أن ذلك تخفيف منه تعالى ، إذ فيه صون نفس القاتل بشيء من عرض الدنيا ، ثم توعد من اعتدى بعد ذلك ، ثم أخبر أن في مشروعية القصاص حياة ، إذ من علم أنه مقتول بمن قتل ، وكان عاقلاً ، منعه ذلك من الإقدام على القتل ، إذ في ذلك إتلاف نفس المقتول وإتلاف نفس قاتله ، فيصير بمعرفته بالقصاص متحرزاً من أن يقتل فيقتل ، فيحيي بذلك من أراد قتله وهو ، فكان ذلك سبباً لحياتيهما .
ثم ذكر تعالى مشروعية الوصية لمن حضره الموت ، وذكر أن الوصية للوالدين والأقربين ، وتوعد من بدل الوصية بعد ما علمها ، ثم ذكر أنه لا إثم على من أصلح بين الموصي إليهم إذا كان جنفاً أو إثماً من الموصي ، وأن ذلك لا يعد من التبديل الذي يترتب عليه الإثم ، فجاءت هذه الآيات حاوية لما يطلب من المكلف من بدء حاله وهو : الإيمان بالله ، وختم حاله وهو : الوصية عند مفارقه هذا الوجود ، وما تخلل بينهما مما يعرض من مبارِّ الطاعات ، وهَنَاتِ المعاصي ، من غير استيعاب لأفراد ذلك ، بل تنبيهاً على أفضل الأعمال بعد الإيمان ، وهو : إقامة الصلاة وما بعدها وعلى أكبر الكبائر بعد الشرك ، وهو : قتل النفس ، فتعالى مَنْ كلامه فصل ، وحكمه عدل .
2 ( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِىأُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُن

" صفحة رقم 30 "
َ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( )
7 )
البقرة : ( 183 ) يا أيها الذين . . . . .
الصيام والصوم مصدران لصامَ ، والعرب تسمي كل ممسك صائماً ، ومنه الصوم في الكلام ) إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً ( أي سكوتاً في الكلام ، وصامت الريح : أمسكت عن الهبوب ، والدابة : أمسكت عن الأكل والجري ، وقال النابغة الذبياني : خيل صيام وخيل غير صائمه
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي : ممسكة عن الجري . وتسمى الدابة التي لا تدور : الصائمة ، قال الراجز .
والبكرات شرهن الصائمة
وقالوا : صام النهار : ثبت حره في وقت الظهيرة واشتد ، وقال .
ذمول إذا صام النهار وهجرا
وقال : حتى إذا صام النهار واعتدل
ومال للشمس لعابٌ فنزل
ومصام النجوم ، إمساكها عن اليسير ومنه .
كأن الثريا علقت في مصامها
فهذا مدلول الصوم من اللغة . وأما الحقيقة الشرعية فهو : إمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص ويبين في الفقه . الطاقة ، والطوق : القدرة والاستطاعة ، ويقال : طاق وأطاق كذا ، أي : استطاعه وقدر عليه ، قال أبو ذئب .

" صفحة رقم 31 "
فقلت له اجمل فوق طوقك إنها
مطبعة من يأتها لا يضيرها
الشهر مصدر : شهر الشيء يشهره ، أظهره ومنه الشهرة ، وبه سمي الشهر ، وهو : المدة الزمانية التي يكون مبدأ الهلال فيها خافياً إلى أن يستسر ، ثم يطلع خافياً . سمي بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه في المعاملات وغيرها من أمورهم وقال الزجاج : الشهر الهلال . قال :
والشهر مثل قلامة الظفر
سمي بذلك لبيانه ، وقيل : سمي الشهر شهراً باسم الهلال إذا أهل سمي شهراً ، وتقول العرب : رأيت الشهر أي : هلاله . قال ذو الرمة ( شعراً ) .
ترى الشهر قبل الناس وهو نحيل
ويقال : أشهرنا ، أي : أتى علينا شهر ، وقال الفراء : لم أسمع منه فعلاً إلاَّ هذا ، وقال الثعلبي : يقال شَهَرَ الهلال إذا طلع ، ويجمع الشهر قلة على : أفعل ، وكثرة على : فعول ، وهما مقيسان فيه .
رمضان علم على شهر الصوم ، وهو علم جنس ، ويجمع على : رمضانات وأرمضة ، وعلقة هذا الاسم من مدة كان فيها في الرمضى ، وهو : شدة الحرة ، كما سمي الشهر ربيعاً من مدّة الربيع ، وجمادى من مدّة الجمود ، ويقال : رمض الصائم يرمض : احترق جوفه من شدة العطش ، ورمضت الفِصال : أحرق الرمضاء أخفافها فبركت من شدّة الحر ، وانزوت إلى ظلّ أمهاتها ، ويقال : أرمضته الرمضاء : أحرقته ، وأرمضني الأمر .
وقيل : سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها بالأعمال الصالحة ، وقيل : لأن القلوب تحترق من الموعظة فيه والفكرة في أمر الآخرة ، وقيل : من رمضت النصل : رققته بين حجرين ليرق ، ومنه : نصل رميض ومرموض ، عن ابن السكيت . وكانوا يرمضون أسلحتهم في هذا الشهر ليحاربوا بها في شوّال قبل دخول الأشهر الحرام ، وكان هذا الشهر في الجاهلية يسمى : ناتقاً أنشد المفضل .

" صفحة رقم 32 "
وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغى
وولت على الأدبار فرسان خثعما
وقال الزمخشري : الرمضان ، مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء . انتهى . ويحتاج في تحقيق أنه مصدر إلى صحة نقل لأن فعلاناً ليس مصدر اللازم بل ، إن جاء فيه ذلك كان شاذاً ، والأولى أن يكون مرتجلاً منقولاً .
وقيل : هو مشتق من الرمض ، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر الأرض من الغبار .
القرآن : مصدر قرأ قرآنا . قال حسان ، رضي الله عنه : محوا باسمك عنوان السجود به
يقطّع الليل تسبيحاً وقرآناً
أي : وقراءة وأطلق على ما بين الدفتين من كلام الله عزّ وجلّ ، وصار علماً على ذلك ، وهو من إطلاق المصدر على اسم المفعول في الأصل ، ومعنى : قرآن ، بالهمز : الجمع لأنه يجمع السور ، كما قيل في القرء ، وهو : إجماع الدّم في الرحم أولاً ، لأن القارىء يلقيه عند القراءة من قول العرب : ما قرأت هذه الناقة سلا قط : أي : ما رمت به ، ومن لم يهمز فالأظهر أن يكون ذلك من باب النقل والحذف ، أو تكون النون أصلية من : قرنت الشيء إلى الشيء : ضممته ، لأن ما فيه من السور والآيات والحروف مقترن بعضها إلى بعض . أو لأن ما فيه من الحكم والشرائع كذلك ، أو ما فيه من الدلائل ومن القرائن ، لأن آياته يصدّق بعضها بعضاً ، ومن زعم من : قريت الماء في الحوض ، أي : جمعته ، فقوله فاسد لاختلاف المادتين .
السفر : مأخوذ من قولهم : سفرت المرأة إذا ألقت خمارها ، والمصدر السفور . قال الشاعر . وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت
فقد رابني منها الغداة سفورها
وتقول : سفر الرجل ألقى عمامته ، وأسفر الوجه ، والصبح أضاء الأزهري سمي مسافراً لكشف قناع الكنّ عن وجهه ، وبروزه للأرض الفضاء ، والسفْر ، بسكون الفاء : المسافرون ، وهو اسم جمع : كالصحْب والركْب ، والسفر من الكتب : واحد الأسفار لأنه يكشف عما تضمنة .
اليسر : السهولة ، يسَّر : سهّل ، ويسُر : سهُل ، وأيسر : استغنى ، ويسر ، من الميسر ، وهو : قمار ، معروف . وقال علقمة : . لا ييسرون بخيل قد يسرت بها
وكل ما يسر الأقوام مغروم
وسميت اليد اليسرى تفاؤلاً ، أو لأنه يسهل بها الأمر لمعاونتها اليمنى .
العسر : الصعوبة والضيق ، ومنه أعسر اعساراً ، وذو عسرة ، أي : ضيق .
الإ كمال : الإتمام .
والإجابة : قد يراد بها السماع ، وفي الحديث أن أعرابياً قال : يا محمد . قال : قد أجبتك . وقالوا :

" صفحة رقم 33 "
دعاء من لا يجيب ، أي : من لا يسمع ، كما أن السماع قد يراد به الإجابة ، ومنه : سمع الله لمن حمده . وأنشد ابن الاعرابي حيث قال : دعوت الله حتى خفت أن لا
يكون الله يسمع ما أقول
وجهة المجاز بينهما ظاهرة لأن الإجابة مترتبة على السماع ، والإجابة حقيقة إبلاغ السائل ما دعا به ، وأجاب واستجاب بمعنى ، وألفه منقلبة عن واو ، يقال : جاب يجوب : قطع ، فكأن المجيب اقتطع للمسائل ما سأل أن يعطاه ، ويقال : أجابت المساء بالمطر ، وأجابت الأرض بالنبات ، كأن كلاَّ منهما سأل صاحبه فأجابه بما سأل .
قال زهير . وغيث من الوسمى حلو بلاغه
أجابت روابيه النجا وهواطل
الرشد . ضد الغي ، يقال : رشد بالفتح ، رشداً ، ورشِد بالكسر رِشداً ، وأرشدت فلاناً : هديته ، وطريق أرشد ، أي : قاصد ، والمراشد : مقاصد الطريق ، وهو لرشده ، أي : هو لحلال ، وهو خلاف هو لزينة ، وأم راشد : المفازة ، وبنو رشدان : بطن من العرب ، وبنو راشد قبيلة كبيرة من البربر .
الرفث : مصدر رفث ، ويقال : أرفث : تكلم بالفحش . قال العجاج : وربّ أسراب حجيج كظم
عن اللغا ورفث التكلم
وقال ابن عباس ، والزجاج ، وغيرهما : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة . وأنشد ابن عباس : وهنّ يمشين بنا هميسا
إن تصدق الطيرننك لميسا
فقيل له : أترفث وأنت محرم ، فقال : إنما الرفث عند النساء ، وفي الحديث : ( من حج هذا البنية فلم يرفث ولم يفسق خرج منها كيوم ولدته أمة ) . وقيل : الرفث : الجماع ، واستدل على ذلك بقول الشاعر : ويرين من أنس الحديث زوانيا
ولهنّ عن رفث الرجال نفار
وبقول الآخر .

" صفحة رقم 34 "
فبأتوا يرفثون وبات منّا
رجال في سلاحهم ركوبا
وبقول الآخر : فظلنا هناك في نعمة
وكل اللذاذة غير الرفث
ولا دلالة في ذلك ، إذ يحتمل أن يكون أراد المقدمات : كالقبلة والنظرة والملاعبة .
أختان : من الخيانة ، يقال : خان خوناً وخيانةً ، إذا لم يف ، وذلك ضد الأمانة ، وتخونت الشيء : نقصته ، ومنه الخيانة ، وهو ينقص المؤتمن . وقال زهير : بآرزة الفقارة لم يخنها
قطاف في الركاب ولا خلاء
وتخوّنه وتخوّله : تعهده .
الخيط . معروف ، ويجمع على فعول وهو فيه مقيس ، أعني في فعل الاسم الياء العين نحو : بيت وبيوت ، وجيب وجيوب ، وغيب وغيوب ، وعين وعيون ، والخيط ، بكسر الخاء : الجماعة من النعام ، قال الشاعر : فقال ألا هذا صوار وعانة
وخِيطُ نعام يرتقي متفرق
البياض والسواد لونان معروفان ، يقال منهما : بيض وسود . فهو أبيض وأسود ، ولم يعل العين بالنقل والقلب لأنها في معنى ما يصح وهما : أبيض وأسود .
العكوف : الإقامة ، عكف بالمكان : أقام به ، قال تعالى : ) يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ ( وقال الفرزدق يصف الجفان : ترى حولهنّ المعتفين كأنهم
على صنم في الجاهلية عكّف
وقال الطرماح : فباتت بنات الليل حولي عكّفا
عكوف البواكي بينهن صريع
وفي الشرع عبارة عن عكوف مخصوف ، وقد بين في كتب الفقه .
الحد ، قال الليث : حدّ الشيء : منتهاه

" صفحة رقم 35 "
ومنقطعه ، والمراد بحدود الله مقدّراته بمقادير مخصوصة وصفات مخصوصة .
الإدلاء : الإرسال للدلو ، اشتق منه فعل ، فقالوا : أدلى دلوه ، أي : أرسلها ليملأها ، وقيل : أدلى فلان بماله إلى الحاكم : رفعه . قال : وقد جعلت إذا ما حاجة عرضت
بباب دارك أدلوها بأقوامِ
ويقال : أدلى فلان بحجته : قام بها ، وتدلى من كذا أي : هبط . قال : كتيس الظباء الأعفر انضرجت له
عقاب تدلت من شماريخ ثهلان
) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أخبر تعالى : أولاً بكتب القصاص وهو : إتلاف النفوس ، وهو من أشق التكاليف ، فيجب على القاتل إسلام نفسه للقتل ، ثم أخبر ثانياً بكتب الوصية وهو : إخراج المال الذي هو عديل الروح ، ثم انتقل ثالثاً إلى كتب الصيام ، وهو : منهك للبدن ، مضعف له ، مانع وقاطع ما ألفه الإنسان من الغذاء بالنهار ، فابتداء بالأشق ثم بالأشق بعده ، ثم بالشاق فبهذا انتقال فيما كتبه الله على عباده في هذه الآية ، وكان فيما قبل ذلك قد ذكر أركان الإسلام ثلاثة : الإيمان ، والصلاة ، والزكاة ، فأتى بهذا الركن الرابع ، وهو : الصوم .
وبناء ) كِتَابَ ( للمفعول في هذه المكتوبات الثلاثة ، وحذف الفاعل للعلم به ، إذ هو : الله تعالى ، لأنها مشاق صعبة على المكلف ، فناسب أن لا تنسب إلى الله تعالى ، وإن كان الله تعالى هو الذي كتبها ، وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يبني الفعل للفاعل ، كما قال تعالى : ) كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ( ) كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( ) أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( وهذا من لطيف علم البيان .
أما بناء الفعل للفاعل في قوله : ) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ( فناسب لاستعصاء اليهود وكثرة مخالفاتهم لأنبيائهم بخلاف هذه الأمة المحمدية ، ففرق بين الخطابين لافتراق المخاطبين ، ونادى المؤمنين عند إعلامهم بهذا المكتوب الثالث الذي هو الصيام لينبههم على استماع ما يلقي إليهم من هذا التكليف ، ولم يحتج إلى نداء في المكتوب الثاني لانسلاكه مع الأول في نظام واحد ، وهو : حضور الموت بقصاص أو غيره ، وتباين هذا التكليف الثالث منها ، وقدم الجار والمجرور على المفعول به الصريح وإن كان أكثر الترتيب العربي بعكس ذلك ، نحو : ضُرب زيد بسوط ، لأن ما أحتيج في تعدي الفعل إليه إلى واسطة دون ما تعدى إليه بغير واسطة ، لأن البداءة بذكر المكتوب عليه أكثر من ذكر المكتوب لتعلق الكتب لمن نودي ، فتعلم نفسه أولاً أن المنادى هو المكلف ، فيرتقب بعد ذلك لما كلف به .
والألف واللام في : الصيام ، للعهد إن كانت قد سبقت تعبداتهم به ، أو للجنس إن كانت لم تسبق .
وجاء هذا المصدر على فعال ، وهو أحد البنائين الكثيرين في مصدر هذا النوع من الفعل ، وهو الفعل الواوي العين ، الصحيح الآخر ، والبناءان هما فعول وفعال ، وعدل عن الفعول وإن كان الأصل لاستثقال الواوين ، وقد جاء منه شيء على الأصل : كالفوور ، ولثقل اجتماع الواوين همز بعضهم فقال : الفؤور .
( كَمَا كُتِبَ ( الظاهر أن هذا المجرور في موضع الصفة لمصدر محذوف ، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه على ما سبق ، أي : كتباً مثل ما كتب أو كتبه ، أي : الكتب منها كتب ، وتكون السببية قد وقع في مطلق الكتب وهو الإيجاب ، وإن كان متعلقه مختلفاً بالعدد أو بغيره ، وروي

" صفحة رقم 36 "
هذا المعنى عن معاذ بن جبل ، وعطاء ، وتكون إذ ذاك ما مصدرية .
وقيل : الكاف في موضع نصب على الحال من الصيام ، أي : مشبها ما كتب على الذين من قبلكم ، وتكون ما موصولة أي : مشبهاً الذي كتب عليكم ، وذو الحال هو : الصيام ، والعامل فيها العامل فيه ، وهو : كتب عليكم .
وأجاز ابن عطية أن تكون الكاف في موضع صفة لصوم محذوف ، التقدير : صوماً كما ، وهذا فيه بُعد ، لأن تشبيه الصوم بالكتابة لا يصح ، هذا إن كانت ما مصدرية ، وأما إن كانت موصولة ففيه أيضاً بُعد ، لأن تشبيه الصوم بالمصوم لا يصح إلاَّ على تأويل بعيد .
وأجاز بعض النحاة أن تكون الكاف في موضع رفع على أنها نعت لقوله : الصيام ، قال : إذ ليس تعريفه بمستحسن لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة ، فلذلك جاز نعته بكما ، إذ لا ينعت بها إلاَّ النكرات ، فهي بمنزلة : ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( انتهى كلامه ، وهو هدم للقاعدة النحوية من وجوب توافق النعت والمنعوت في التعريف والتنكير ، وقد ذهب بعضهم إلى نحو من هذا ، وأن الألف واللام إذا كانت جنسية جاز أن يوصف مصحوبها بالجملة ، وجعل من ذلك قوله تعالى : ) وَءايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ( ولا يقوم دليل على إثبات هدم ما ذهب إليه النحويون ، وتلخص في : ما ، من قوله : كما وجهان أحدهما : أن تكون مصدرية ، وهو الظاهر ، والآخر : أن تكون موصولة ، بمعنى . الذي .
( عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( : ظاهره عموم الذين من قبلنا من الأنبياء وأممهم من آدم إلى زماننا . وقال عليّ : أولهم آدم ، فلم يفترضها عليكم ، يعني : أن الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم ، فلم يفترضها عليكم خاصة ، وقيل : الذين من قبلنا هم النصارى .
قال الشعبي وغيره : والمصوم معين وهو رمضان فرض على الذين من قبلنا وهم النصارى ، احتاطوا له بزيادة يوم قبله ويوم بعده قرناً بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوماً ، فصعب عليهم في الحر ، فنقلوه إلى الفصل الشمسي .
قال النقاش : وفي ذلك حديث عن دغفل ، والحسن ، والسدي .
وقيل : بل مرض ملك من ملوكهم ، فنذر أن برىء أن يزيد فيه عشرة أيام ، ثم آخر سبعة ، ثم آخر ثلاثة ، ورأوا أن الزيادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله .
وقيل : كان النصارى أولاً يصومون ، فإذا أفطروا فلا يأكلون ولا يشربون ولا يطؤون إذا ناموا ، ثم انتبهوا في الليل ، وكان ذلك في أول الإسلام ، ثم نسخ بسبب عمر ، وقيس بن صرمة . قال السدي أيضاً ، والربيع وأبو العالية .
قيل : وكذا كان صوم اليهود ، فيكون المراد : بالذين من قبلنا ، اليهود والنصارى ، وقيل : الذين من قبلنا : هم اليهود خاصة ، فرض علينا كما فرض عليهم ، ثم نسخه الله بصوم رمضان .
قال الراغب : للصوم فائدتان رياضة الإنسان نفسه عن ما تدعوه إليه من الشهوات ، والاقتداء بالملأ الأعلى على قدر الوسع . انتهى . وحكمة التشبيه أن الصوم عبادة شاقة ، فإذا ذكر أنه كان مفروضاً على من تقدّم من الأمم سهلت هذه العبادة .
( تَتَّقُونَ ( الظاهر : تعلق ، لعل بكتب ، أي : سبب فرضية الصوم هو رجاء حصول التقوى لكم ، فقيل : المعنى تدخلون في زمرة المتقين ، لأن الصوم شعارهم ، وقيل : تجعلون بينكم وبين النار وقاية بترك المعاصي ، فإن الصوم لإضعاف الشهوة وردعها ، كما قال عليه السلام ( فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء ) .
وقيل : تتقون الأكل والشرب والجماع في وقت وجوب الصوم ، قاله السدي .
وقيل : تتقون المعاصي ، لأن الصوم يكف عن كثير مما تتشوق إليه النفس ، قاله الزجاج .
وقيل : تتقون محظورات الصوم ، وهذا راجع لقول السدي .
البقرة : ( 184 ) أياما معدودات فمن . . . . .
( أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( إن كان ما فرض صومه هنا هو رمضان ، فيكون قوله أياماً معدودات عني به رمضان ، وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين ، ووصفها بقوله : معدودات ، تسهيلاً على المكلف بأن هذه الأيام يحصرها العد ليست بالكثيرة التي تفوّت العد ، ولهذا وقع الاستعمال بالمعدود كناية على القلائل ، كقوله : ) فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ( ) لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً (

" صفحة رقم 37 "
) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ ).
وإن كان ما فرض صومه هو ثلاثة أيام من كل شهر ، وقيل : هذه الثلاثة ويوم عاشوراء ، كما كان ذلك مفروضاً على الذين من قبلنا ، فيكون قوله : ) أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( عنى بها هذه الأيام ، وإلى هذا ذهب ابن عباس ، وعطاء .
قال ابن عباس ، وعطاء ، وقتادة : هي الأيام البيض ، وقيل : وهي : الثاني عشر ، والثالث عشر ، والرابع عشر ، وقيل : الثالث عشر ويومان بعده ، وروي في ذلك حديث . ( إن البيض هي الثالث عشر ويومان بعده ) فإن صح لم يمكن خلافه .
وروي المفسرون أنه كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجباً ، وصوم يوم عاشوراء ، فصاموا كذلك في سبعة عشر شهراً ، ثم نسخ بصوم رمضان .
قال ابن عباس : أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة ، والصوم ، ويقال : نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام ، وقيل : كان صوم تلك الأيام تطوعاً ، ثم فرض ، ثم نسخ .
قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ( ري الظمآن ) : احتج من قال إنها غير رمضان بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( صوم رمضان نسخ كل صوم ) ، فدل على أن صوماً آخر كان قبله ، ولأنه تعالى ذكر المريض والمسافر في هذه الآية ثم ذكر حكمهما في الآية الآتية بعده ، فإن كان هذا الصوم هو صوم رمضان لكان هذا تكريراً ، ولأن قوله تعالى : ) فِدْيَةٌ ( يدل على التخيير ، وصوم رمضان واجب على التعيين ، فكان غيره ، وأكثر المحققين على أن المراد بالأيام : شهر رمضان ، لأن قوله : ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( يحتمل يوماً ويومين وأكثر ، ثم بينه بقوله : ) شَهْرُ رَمَضَانَ ( وإذا أمكن حمله على رمضان فلا وجه لحمله على غيره ، وإثبات النسخ ؛ وأما الخبر فيمكن أن يحمل على نسخ كل صوم وجب في الشرائع المتقدمة ، أو يكون ناسخاً لصيام وجب لهذه الامة ، وأما ما ذكر من التكرار فيحتمل أن يكون لبيان إفطار المسافر والمريض في رمضان في الحكم ، بخلاف التخيير في المقيم ، فإنه يجب عليهما القضاء ، فلما نسخ عن المقيم الصحيح وألزم الصوم ، كان من الجائز أن نظن أن حكم الصوم ، لما انتقل إلى التخيير عن التضييق ، يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنزلة المقيم من حيث تغير الحكم في الصوم ، لما بين أن حال المريض والمسافر في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالهما أولاً ، فهذه فائدة الإعادة ، وهذا هو الجواب عن الثالث ، وهو قولهم : لأن قوله تعالى : ) فِدْيَةٌ ( يدل على التخيير إلى آخره ، لأن صوم رمضان كان واجباً مخيراً ، ثم صار معيناً . وعلى كلا القولين لا بد من النسخ في الآية ، أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجباً مخيراً ، والآية التي بعد تدل على التضييق ، فكانت ناسخة لها ، والاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول . انتهى كلامه .
وانتصاب قوله : ) أَيَّامًا ( على إضمار فعل يدل عليه ما قبله ، وتقديره : صوموا أياماً معدودات ، وجوزوا أن يكون منصوباً بقوله : الصيام ، وهو اختيار الزمخشري ، إذ لم يذكره غيره ، قال : وانتصاب أياماً بالصيام كقولك : نويت الخروج يوم الجمعة انتهى كلامه وهو خطأ ، لأن معمول المصدر من صلته ، وقد فصل بينهما بأجنبي وهو قوله : ) كَمَا كُتِبَ ( فكما كتب ليس لمعمول المصدر ، وإنما هو معمول لغيره على أي تقدير قدرته من كونه نعتاً لمصدر محذوف ، أو في موضع الحال ، ولو فرعت على أنه صفة للصيام على تقدير : أن تعريف الصيام جنس ، فيوصف بالنكرة ، لم يجز أيضاً ، لأن المصدر إذا وصف قبل ذكر معموله لم يجز إعماله ، فإن قدَّرت الكاف نعتاً لمصدر من الصيام ، كما قد قال به بعضهم ، وضعَّفناه قبل ، فيكون التقدير : صوماً كما كتب ، جاز أن يعمل في أياماً الصيام ، لأنه إذ ذاك العامل في صوماً هو المصدر ، فلا يقع الفصل بينهما بما ليس لمعمول للمصدر ، وأجازوا أيضاً انتصاب أياماً على الظرف ، والعامل فيه كتب ، وأن يكون مفعولاً على السعة ثانياً

" صفحة رقم 38 "
والعامل فيه كتب ، وإلى هذا ذهب الفراء ، والحوفي ، وكلا القولين خطأ .
أما النصب على الظرف فإنه محل للفعل ، والكتابة ليست واقعة في الأيام ، لكن متعلقها هو الواقع في الأيام ، فلو قال الإنسان لولده وكان ولد يوم الجمعة : سرني ولادتك يوم الجمعة ، لم يكن أن يكون يوم الجمعة معمولاً لسرني ، لأن ، السرور يستحيل أن يكون يوم الجمعة ، إذ ليس بمحل للسرور الذي أسنده إلى نفسه ، وأما النصب على المفعول اتساعاً فإن ذلك مبني على جواز وقوعه ظرفاً لكتب ، وقد بينا أن ذلك خطأ .
والصوم : نفل وواجب ، والواجب معين الزمان ، وهو : صوم رمضان والنذر المعين ، وما هو في الذمة ، وهو : قضاء رمضان ، والنذر غير المعين ، وصوم الكفارة . وأجمعوا على اشتراط النية في الصوم ، واختلفوا في زمانها .
فمذهب أبي حنيفة : أن رمضان ، والنذر المعين ، والنفل يصح بنية من الليل ، وبنية إلى الزوال ، وقضاء رمضان ، وصوم الكفارة ، ولا يصح إلاَّ بنية من الليل خاصة .
ومذهب مالك على المشهور : أن الفرض والنفل لا يصح إلاَّ بنية من الليل .
ومذهب الشافعي : أنه لا يصح واجب إلاَّ بنية من الليل .
ومذهب مالك : أن نية واحدة تكفي عن شهر رمضان .
وروي عن زفر أنه إذا كان صحيحاً مقيماً فأمسك فهو صائم ، وإن لم ينو .
ومن صام رمضان بمطلق نية الصوم أو بنية واجب آخر ، فقال أبو حنيفة : ما تعين زمانه يصح بمطلق النية ، وقال مالك ، والشافعي : لا يصح إلاَّ بنية الفرض ، والمسافر إذا نوى واجباً آخر وقع عما نوى ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : يقع عن رمضان ، فلو نوى هو أو المريض التطوع فعن أبي حنيفة : يقع عن الفرض ، وعنه أيضاً : يقع التطوع ، وإذا صام المسافر بنية قبل الزوال جاز ، قال زفر : لا يجوز النفل بنية بعد الزوال ، وقال الشافعي : يجوز ولو أوجب صوم وقت معين فصام عن التطوع ، فقال أبو يوسف : يقع على المنذور ، ولو صام عن واجب آخر في وقت الصوم الذي أوجبه وقع عن ما نوى ، ولو نوى التطوع وقضاء رمضان ، فقال أبو يوسف : يقع عن القضاء ، ومحمد قال : عن التطوع ، ولو نوى قضاء رمضان وكفارة الظهار كان على القضاء في قول أبي يوسف ، وقال محمد : يقع على النفل ، ولو نوى الصائم الفطر فصومه تام ، وقال الشافعي : يبطل صومه .
ودلائل هذه المسائل تذكر في كتب الفقه .
( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( ظاهر اللفظ اعتبار مطلق المرض بحيث يصدق عليه الأسم ، وإلى ذلك ذهب ابن سيرين ، وعطاء ، والبخاري . وقال الجمهور : هو الذي يؤلم ، ويؤذي ، ويخاف تمادية ، وتزيده ؛ وسمع من لفظ مالك : أنه المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به التلف إذا صام ، وقال مرة : شدة المرض والزيادة فيه ؛ وقال الحسن ، والنخعي : إذا لم يقدر من المرض على الصيام أفطر . وقال الشافعي : لا يفطر إلاَّ من دعته ضرورة المرض إليه ، ومتى احتمل الصوم مع المرض لم يفطر . وقال أبو حنيفة : إن خاف أن تزداد عينه وجعاً أو حمى شديدة أفطر .
وظاهر اللفظ اعتبار مطلق السفر زماناً وقصداً .
وقد اختلفوا في المسافة التي تبيح الفطر ، فقال ابن عمر ، وابن عباس ، والثوري وأبو حنيفة : ثلاثة أيام . وروى البخاري أن ابن عمر ، وابن عباس كانا يفطران ويقصران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخاً ، وقد روي عن ابن أبي حنيفة : يومان وأكثر ثلاث ، والمعتبر السير الوسط لا غير من الإسراع والإبطاء .
وقال مالك : مسافة الفطر مسافة القصر ، وهي يوم وليلة ، ثم رجع فقال : ثمانية وأربعون ميلاً ، وقال مرة : اثنان وأربعون ، ومرة ستة وأربعون ؛ وفي

" صفحة رقم 39 "
المذهب : ثلاثون ميلاً ، وفي غير المذهب ثلاثة أميال .
وأجمعوا على أن سفر الطاعة من جهاد وحج وصلة رحم وطلب معاش ضروري مبيح .
فأما سفر التجارة والمباح ففيه خلاف ، وقال ابن عطية : والقول بالإجازة أظهر ، وكذلك سفر المعاصي مختلف فيه أيضاً ، والقول بالمنع أرجح . أنتهى كلامه .
واتفقوا على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر ، قالوا : ولا خلاف أنه لا يجوز لمؤمل السفر أن يفطر قبل أن يخرج ، فان أفطر فقال أشهب : لا يلزمه شيء سافر ، أو لم يسافر . وقال سحنون : عليه الكفارة سافر ، أو لم يسافر ، وقال عيسى ، عن ابن القاسم : لا يلزمه إلاَّ قضاء يومه ، وروي عن أنس أنه أفطر وقد أراد السفر ، ولبس ثياب السفر ، ورجل دابته ، فأكل ثم ركب . وقال الحسن يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج ، وقال أحمد : إذا برز عن البيوت ، وقال إسحاق : لا بل حتى يضع رجله في الرحل .
ومن أصبح صحيحاً ثم اعتل أفطر بقية يومه ، ولو أصبح في الحضر ثم سافر فله أن يفطر ، وهو قول ابن عمر ، والشعبي ، وأحمد ، وإسحاق ، وقيل : لا يفطر يومه ذلك ، وإن نهض في سفره وهو قول الزهري ، ويحيى الأنصاري ، ومالك ، والأوزاعي ، وابن حنيفة ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي .
واختلفوا إن أفطر ، فكل هؤلاء قال : يقضي ولا يكفر . وقال ابن كنانة : يقضي ويكفر ، وحكاه الباجي عن الشافعي ، وقال به ابن العربي واختاره ، وقال أبو عمر بن عبد البر : ليس بشيء ، لأن الله أباح له الفطر في الكتاب والسنة ، ومن أوجب الكفارة فقد أوجب ما لم يوجبه الله .
وظاهر قوله : ) أَوْ عَلَى سَفَرٍ ( إباحة الفطر للمسافر ، ولو كان بيت نية الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر ، ولا كفارة عليه ، قاله الثوري ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي وسائر فقهاء الكوفة .
وقال مالك : عليه القضاء والكفارة ، وروي عنه أيضاً أنه : لا كفارة عليه ، وهو قول أكثر أصحابه .
وموضع أو على السفر ، نصب لأنه معطوف على خبر : كان ، ومعنى : أو هنا التنويع ، وعدل عن اسم الفاعل وهو : أو مسافر إلى ، أو على سفر ، إشعاراً بالاستيلاء على السفر لما فيه من الاختيار للمسافر ، بخلاف المرض ، فإنه يأخذ الإنسان من غير اختيار ، فهو قهري ، بخلاف السفر ؛ فكان السفر مركوب الإنسان يستعلى عليه ، ولذلك يقال : فلان على طريق ، وراكب طريق إشعاراً بالاختيار ، وأن الإنسان مستولٍ على السفر مختارٌ لركوب الطريق فيه .
( فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( قراءة الجمهور برفع عدة على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، وقدر : قبل ، أي : فعليه عدة وبعد أي : أمثل له ، أو خبر مبتداء محذوف ، أي : فالواجب ، أو : فالحكم عدة .
وقرىء : فعدة ، بالنصب على إضمار فعل ، أي : فليصم عدة ، وعدة هنا بمعنى معدود ، كالرعي والطحن ، وهو على حذف مضاف ، أي : فصوم عدة ما أفطر ، وبين الشرط وجوابه محذوف به يصح الكلام ، التقدير : فافطر فعدة ، ونظير في الحذف : ) أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ( أي : فضرب فانفلق . ونكر ) عِدَّةَ ( ولم يقل : فعدتها ، أي : فعدة الأيام التي أفطرت اجتزاءً ، إذ المعلوم أنه لا يجب عليه عدة غير ما أفطر فيه مما صامه ، والعدة المعدود ، فكان التنكير أخصر ) وَمِنْ أَيَّامٍ ( في موضع الصفة لقوله فعدة ، وأخر : صفة لأيام ، وصفة الجمع الذي لا يعقل تارة يعامل معاملة الواحدة المؤنثة وتارة يعامل معاملة جمع الواحدة المؤنثة . فمن الأول : ) إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ( ومن الثاني : ) إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( فمعدودات : جمع لمعدودة . وأنت لا تقول : يوم معدودة ، إنما تقول : معدود ، لأنه مذكر ، لكن جاز ذلك في جمعه ، وعدل عن أن يوصف الأيام بوصف الواحدة المؤنث ، فكان ، يكون : من أيام أخرى ، وإن كان جائزاً فصيحاً كالوصف بأخر لأنه كان يلبس أن يكون صفة لقوله ) فَعِدَّةٌ ( ، فلا يدرى أهو وصف لعدة ، أم لأيام ، وذلك لخفاء الإعراب لكونه مقصوراً ، بخلاف : ) ءاخَرَ ( فإنه نص في أنه صفة لأيام لاختلاف إعرابه مع إعراب فعدة ، أفلا ينصرف للعلة التي ذكرت في النحو ، وهي جمع أخرى مقابلة أخر ؟ وأخر

" صفحة رقم 40 "
مقابل أخر بين ؟ لا جمع أخرى لمعنى أخرة ، مقابلة الأخر المقابل للأول ، فإن أخر تأنيث أخرى لمعنى أخرة مصروفة . وقد اختلفا حكماً ومدلولاً . أما اختلاف الحكم فلأن تلك غير مصروفة ، وأما اختلاف المدلول : فلأن مدلول أخرى ، التي جمعها أخر التي لا تتصرف ، مدلول : غير ومدلول أخرى التي جمعها ينصرف مدلول : متأخرة ، وهي قابلة الأولى . قال تعالى : ) قَالَتْ أُولَاهُمْ لاِخْرَاهُمْ ( فهي بمعنى : الأخرة ، كما قال تعالى : ) وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَالاْولَى ( وأخر الذي مؤنثة : أخرى مفردة آخر التي لا تنصرف بمعنى : غير ، لا يجوز أن يكون ما اتصل به إلاَّ مِن جنس ما قبله ، تقول : مررت بك وبرجل آخر ، ولا يجوز : اشتريت هذا الفرس وحماراً آخر ، لأن الحمار ليس من جنس الفرس ، فأما قوله : صلى على عزة الرحمن وابنتها
ليلى ، وصلى على جاراتها الآخر
فإنه جعل : ابنتها جارة لها ، ولولا ذلك لم يجز ، وقد أمعنا الكلام على مسألة أخرى في كتابتا ( التكميل ) .
قالوا : واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على جواز الصوم للمسافر ، وأنه لا قضاء عليه إذا صام ، لأنهم ، كما ذكرنا ، قدروا حذفاً في الآية ، والأصل : أن لا حذف ، فيكون الظاهر أن الله تعالى أوجب على المريض والمسافر عدة من أيام أخر ، فلو صاما لم يجزهما ، ويجب عليهما صوم عدة ما كانا فيه من الأيام الواجب صومها على غيرهما .
قالوا : وروي عن أبي هريرة أنه قال : من صام في السفر فعليه القضاء وتابعه عليه شواذ من الناس ، ونقل ذلك ابن عطية عن عمر ، وابنه عبد الله ، وعن ابن عباس : أن الفطر في السفر عزيمة ونقل غيره عن عبد الرحمن بن عوف : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ، وقال به قوم من أهل الظاهر ، وفرق أبو محمد بن حزم بين المريض والمسافر فقال ، فيما لخصناه في كتابنا المسمى بالأنور الأجلى في اختصار المحلي ما نصبه : ويجب على من سافر ولو عاصياً ميلاً فصاعداً الفطر إذا فارق البيوت في غير رمضان ، وليفطر المريض ويقضي بعد ، ويكره صومه ويجزى ، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه . وثبت بالخبر المستفيض أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) صام في السفر ، وروي ذلك عنه أبو الدرداء ، وسلمة بن المحنق ، وأبو سعيد ، وجابر ، وأنس ، وابن عباس عنه إباحة الصوم والفطر في السفر ، بقوله لحمزة بن عمر ، والأسلمي وقد قال : أصوم في السفر ؟ قال : ( إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر ) وعلى قول الجمهور : أن محذوفاً ، وتقديره : فأفطر ، وأنه يجوز للمسافر أن يفطر وأن يصوم .
واختلفوا في الأفضل ، فذهب أبو حنيفة ، وأصحابه ، ومالك ، والشافعي في بعض ما روي عنهما : إلى أن الصوم أفضل ، وبه قال من الصحابة : عثمان بن أبي العاص الثقفي ، وأنس بن مالك .
قال ابن عطية : وذهب أنس بن مالك إلى الصوم ، وقال : إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع ، وذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق إلى أن الفطر أفضل ، وبه قال من الصحابة ابن عمر ، وابن عباس . ومن التابعين : ابن المسيب ، والشعبي ، وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهد ، وقتادة .
قال ابن عطية : وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما : أيسرهما أفضلهما .
وكره ابن حنبل الصوم في السفر ، ولو صام في السفر ثم أفطر من غير عذر فعليه القضاء فقط ، قاله الأوزاعي ، وأبو حنيفة ، وزاد الليث ، والكفارة

" صفحة رقم 41 "
وعن مالك القولان .
ولو أفطر مسافر ثم قدم من يومه ، أو حائض ثم طهرت في بعض النهار ، فقال جابر بن يزيد ، والشافعي ، ومالك فيما رواه ابن القاسم : يأكلان ولا يمسكان .
وقال أبو حنيفة ، والأوزاعي والحسن بن صالح ، وعبد الله بن الحسن : يمسكان بقية يومها . عن ما يمسك عنه الصائم .
وقال ابن شبرمة في المسافر : يمسك ويقضي ، وفي الحائض : إن طهرت تأكل . .
والظاهر من قوله : فعدة ، أنه يلزمه عدة ما أفطر فيه ، فلو كان الشهر الذي أفطر فيه تسعة وعشرين يوماً ، قضى تسعة وعشرين يوماً ، وبه قال جمهور العلماء ، وذهب الحسن بن صالح إلى أنه يقضي شهراً بشهر من غير مراعاة عدد الإيام . وروي عن مالك أنه يقضي بالأهلة ، وروي عن الثوري أنه يقضي شهراً تسعة وعشرين يوماً وإن كان رمضان ثلاثين ، وهو خلاف الظاهر ، وخلاف ما أجمعوا عليه من أنه : إذا كان ما أفطر فيه بعض رمضان ، فإنه يجب القضاء بالعدد ، فكذلك يجب أن يكون قضاء جميعه باعتبار العدد .
وظاهر قوله تعالى : ) فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( أنه لا يلزم التتابع ، وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار وروي عن علي ومجاهد وعروة : أنه لا يفرق ، وفي قراءة أبيّ : فعدة من أيام أخر متتابعات ، وظاهر الآية : أنه لا يتعين الزمان ، بل تستحب المبادرة إلى القضاء . وقال داود : يجب عليه القضاء ثاني شوّال ، فلو لم يصمه ثم مات أثِمَ ، وهو محجوج بظاهر الآية ، وبما ثبت في الصحيح عن عائشة قالت : كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه ، إلاَّ في شعبان لشغل من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وظاهر الآية أنه : من أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر ، أنه لا يجب عليه إلاَّ القضاء فقط عن الأول ، ويصوم الثاني . وبه قال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، وداود ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، يجب عليه الفدية مع القضاء .
وقال يحيى بن أكتم القاضي روى وجوب الإطعام عن ستة من الصحابة ، ولم أجد لهم من الصحابة مخالفاً . وروي عن ابن عمر أنه : لا قضاء عليه إذا فرّط في رمضان الأوّل ، ويطعم عن كل يوم منه مدّا من بر ، ويصوم رمضان الثاني .
ومن أخر قضاء رمضان حتى مات فقال مالك ، والثوري ، والشافعي : لا يصوم أحد عن أحد لا في رمضان ولا في غيره . وقال الليث ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيدة ، وأهل الظاهر : يصام عنه ، وخصصوة بالنذر . وقال أحمد ، وإسحاق : يطعم عنه في قضاء رمضان .
( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ( قرأ الجمهور : يطيقونه مضارع أطاق ، وقرأ حميد يطوقونه من أطوق ، كقولهم أطول في أطال ، وهو الأصل . وصحة حرف العلة في هذا النحو شاذة من الواو ومن الياء ، والمسموع منه : أجود ، وأعول ، وأطول . وأغيمت السماء ، وأخيلت ، وأغيلت المرأة وأطيب ، وقد جاء الإعلال في جميعها وهو القياس ، والتصحيح كما ذكرنا شاذ عند النحويين ، إلاَّ أبا زيد الأنصاري فانه يرى التصحيح في ذلك مقيساً إعتباراً بهذه الإلفاظ النزرة المسموع فيها الإعتلال والنقل على القياس .
وقرأ عبد الله بن عباس في المشهور عنه : يطوّقونه ، مبنياً للمفعول من طوّق على وزن قطع .
وقرأت عائشة ، ومجاهد ، وطاووس ، وعمرو بن دينار : يطوّقونه من أطوّق ، وأصله تطوّق على وزن تفعل ، ثم أدغموا التاء في الطاء ، فأجتلبوا في الماضي والأمر همزة الوصل . قال بعض الناس : هو تفسير لا قراءة ، خلافاً لمن أثبتها قراءة ، والذي قاله الناس خلاف مقالة هذا القائل ، وأوردها قرأة .
وقرأت فرقة ، منهم عكرمة : يطيقونه ، وهي مروية عن مجاهد ،

" صفحة رقم 42 "
وابن عباس ، وقرىء أيضاً هكذا لكن بضم ياء المضارع على البناء للمفعول ، ورد بعضهم هذه القراءة ، وقال : هي باطلة لأنه مأخوذ من الطوق . قالوا : ولازمة فيه ، ولا مدخل للياء في هذا المثال .
وقال ابن عطية : تشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف انتهى . وإنما ضعف هذا ، أو امتنع عند هؤلاء ، لأنهم بنوا على أن الفعل على وزن تفعل ، فأشكل ذلك عليهم ، وليس كما ذهبوا إليه ، بل هو على وزن : تفعيل من الطوق ، كقولهم : تدير المكان وما بها دّيار ، فأصله : تطيوقون ، اجتمعت ياء واو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت فيها الياء ، فقيل : تطيق يتطيق ، فهذا توجيه هذه القراءة وهو توجيه نحوي واضح .
( فهذه ست قراءات ) يرجع معناها إلى الاستطاعة والقدرة ، فالمبني منها للفاعل ظاهر ، والمبني منها للمفعول معناه : يجعل مطيقاً لذلك ، ويحتمل قراءة تشديد الواو والياء أن يكون لمعنى التكليف ، أي : يتكلفونه أو يكلفونه ، ومجازه أن يكون من الطوق بمعنى القلادة ، فكأنه قيل : مقلدون ذلك ، أي : يجعل في أعناقهم ، ويكون كناية عن التكليف ، أي : يشق عليهم الصوم . وعلى هذين المعنيين حمل المفسرون قوله تعالى : ) وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ( والضمير عائد على الصوم ، فاختلفوا ، فقال معاذ بن جبل ، وابن عمر ، وسلمة بن الأكوع ، والحسن البصري ، والشعبي ، وعكرمة ، وابن شهاب ، والضحاك : كان الصيام على المقيمين القادرين مخيراً فيه ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم ، ثم نسخ ذلك ) فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ( وهذا قول أكثر المفسرين ، وقيل : ثم محذوف معطوف تقديره : يطيقونه ، أو الصوم ، لكونهم كانوا شباباً ثم عجزوا عنه بالشيخوخة ، قاله سعيد بن المسيب والسدي .
وقيل : المعنى : وعلى الذين يطيقون الصوم ، وهو بصفة المرض الذي يستطيع معه الصوم ، فخير هذا بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي ، ثم نسخ ذلك بقوله : ) فَلْيَصُمْهُ ( فزالت الرخصة إلاَّ لمن عجز منهم ، قاله ابن عباس . وجوّز بعضهم أن تكون : لا ، محذوفة ، فيكون الفعل منفياً ، وقدره : وعلى الذين لا يطيقونه ، قال : حذف : لا ، وهي مرادة . قال ابن أحمد . آليت أمدح مقرفاً أبدا
يبقى المديح ويذهب الرفد
وقال الآخر : فخالف ، فلا والله تهبط تلعة
من الأرض إلاَّ أنت للذل عارف
وقال امرؤ القيس : فقلت يمين الله أبر قاعدا
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

" صفحة رقم 43 "
وتقدير : لا ، خطأ لأنه مكان إلباس . ألا ترى أن الذي يتبادر إليه الفهم ، هو : أن الفعل مثبت ، ولا يجوز حذف : لا ، وإرادتها إلاَّ في القسم ، والأبيات التي استدل بها هي من باب القسم ، وعلة ذلك مذكورة في النحو .
وقيل : ) الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ( المراد : الشيخ الهرم ، والعجوز ، أي : يطيقونه بتكلف شديد ، فأباح الله لهم الفطر والفدية ، والآية على هذا محكمة ، ويؤيده توجيه من وجه : يطوقونه ، على معنى : يتكلفون صومه ويتجشمونه ، وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وأنها نزلت في الشيخ الفاني والعجوز الهرمة . وزيد عن علي : والمريض الذي لا يرجى برؤه ، والآية عند مالك إنما هي في من يدركه رمضان وعليه صوم رمضان المتقدّم ، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم ، فتركه ، فعليه الفدية .
وقال الأصم : يرجع ذلك إلى المريض والمسافر لأن لهما حالين : حال لا يطيقان فيه الصوم ، وقد بين الله حكمها في قوله : ) فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ). وحال يطيقان ، وهي حالة المرض والسفر الذين لا يلحق بهما جهد شديد لو صاما ، فخيرّ بين أن يفطر ويفدي ، فكأنه قيل : وعلى المرضى والمسافرين الذين يطيقونه .
والظاهر من هذه الأقوال القول الأوّل ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر فرض الصيام على المؤمنين قسمهم إلى قسمين : متصف بمظنة المشقة ، وهو المريض والمسافر ، فجعل حكم هذا أنه إذا أفطر لزمه القضاء ومطيق للصوم ، فإن صام قضى ما عليه ، وإن أفطر فدى : ثم نسخ هذا الثاني ، وتقدم أن هذا كان ، ثم نسخ .
والقائلون بأن الذين يطيقونه هم الشيوخ والعجز ، تكون الآية محكمة على قولهم ، واختلفوا ، فقيل : يختص هذا الحكم بهؤلاء ، وقيل : يتناول الحامل والمرضع ، وأجمعوا على أن الشيخ الهرم إذا أفطر عليه الفدية ، هكذا نقل بعضهم ، وليس هذا الإجماع بصحيح ، لأن ابن عطية نقل عن مالك أنه قال : لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة ، ويستحب لمن قوي عليها . وتقدم قول مالك ورأيه في الآية .
وقال الشافعي : على الحامل والمرضع ، إذا خافتا على ولديهما ، الفدية ، لتناول الآية لهما ، وقياساً على الشيخ الهرم ، والقضاء .
وروي في البويطي : لا إطعام عليهما . وقال أبو حنيفة : لا تجب الفدية ، وأبطل القياس على الشيخ الهرم ، لأنه لا يجب عليه القضاء ، ويجب عليهما . قال : فلو أوجبنا الفدية مع القضاء كان جمعاً بين البدلين ، وهو غير جائز ، وبه قال ابن عمر ، والحسن ، وأبو يوسف ومحمد وزفر .
وقال علي : الفدية بلا قضاء ، وذهب ابن عمر ، وابن عباس إلى أن الحامل تفطر وتفدي ولا قضاء عليها ، وذهب الحسن ، وعطاء ، والضحاك ، والزهري ، وربيعة ، ومالك ، والليث إلى أن الحامل إذا أفطرت تقضي ، ولا فدية عليها وذهب مجاهد ، وأحمد إلى أنها تقضي وتفدي . وتقدم أن هذا مذهب الشافعي ، وأما المرضع فتقدّم قول الشافعي ، وأبي حنيفة فيها إذا أفطرت . وقال مالك في المشهور تقضي وتفدي . وقال في مختصر ابن عبد الحكم : لا إطعام على المرضع .
واختلفوا في مقدار ما يطعم من وجب عليه الإطعام ، فقال إبراهيم ، والقاسم بن محمد ، ومالك والشافعي فيما حكاه عنه المزني . يطعم عن كل يوم مدًّ ؛ وقال الثوري : نصف صاع من بر ، وصاع ، من تمر أو زبيب ، وقال قوم : عشاء وسحور ، وقال قوم : قوت يوم ، وقال أبو حنيفة وجماعة ، يطعم عن كل يوم نصف صاع ، من بر ، وروي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وقيس بن الكاتب الذي كان شريك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الجاهلية وعائشة ، وسعيد بن المسيب ، في الشيخ الكبير : أنه يطعم عنه كل يوم نصف صاع .
وظاهر الآية : أنه يجب مطلق طعام ، ويحتاج التقييد إلى دليل .
ولو جنّ في رمضان جميعه أو في شيء منه ، فقال الشافعي : لا قضاء عليه ولو أفاق قبل أن

" صفحة رقم 44 "
تغيب الشمس إذ مناط التكليف العقل ، وقال مالك وعبيد الله العنبري : يقضي الصوم ولا يقضي الصلاة ؛ وقال أبو حنيفة ، والثوري ومحمد ، وأبو يوسف ، وزفر : إذا جنّ في رمضان كله فلا قضاء عليه ، وإن أفاق في شيء منه قضاه كله .
وقرأ الجمهور : فدية طعام مسكين ، بتنوين الفدية ، ورفع طعام ، وإفراد مسكين ، وهشام كذلك إلا أنه قرأ : مساكين بالجمع ، وقرأ نافع ، وابن ذكوان ، بإضافة الفدية والجمع وإفراد الفدية ، لأنها مصدر . ومن نوّن كان طعام بدلاً من فدية ، وكان في ذلك تبيين للفدية ما هي . ومن لم ينوّن فأضاف كان في ذلك تبيين أيضاً وتخصص بالإضافة ، وهي إضافة الشيء إلى جنسه ، لأن الفدية اسم للقدر الواجب ، والطعام يعم الفدية وغيرها ، وفي ( المنتخب ) أنه يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة . قال : لأن الفدية لها ذات ، وصفتها أنها طعام ، وهذا ليس بجيد ، لأن طعاماً ليس بصفة ، وهو هنا إما أن يكون يراد به المصدر كما يراد بعطاء الإعطاء ، أو يكون يراد به المفعول كما يراد بالشراب المشروب ، وعلى كلا التقديرين لا يحسن به الوصف .
أما إذا كان مصدراً فإنه لا يوصف به إلاّ عند إرادة المبالغة ، ولا معنى لها هنا ، وأما إذا أريد به المفعول فلأنه ليس جارياً على فعلٍ ولا منقاساً ، فلا تقول : في مضروب ضراب ، ولا في مقتول قتال ، وإنما هو شبيه الرعي والطحن والدهن ، لا يوصف بشيء منها ، ولا يعمل عمل المفعول ، ألا ترى أنه لا يجوز فيها ، مررت برجل طعام خبزه ولا شراب ماؤه ، فيرفع ما بعدها بها ؟ وإذا تقرر هذا فهو ضعف أن يكون ذلك من إضافة الموصوف إلى صفته ، ومن قرأ مساكين ، قابل الجمع بالجمع ، ومن أفرد فعلى مراعاة أفراد العموم أي : وعلى كل واحد ممن يطيق الصوم لكل يوم يفطره إطعام مسكين ، ونظيره ) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ( أي : فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة . وتبين من أفراد المسكين أن الحكم لكل يوم يفطر فيه مسكين ، ولا يفهم ذلك من الجمع .
( فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ( أي : من زاد على مقدار الفدية في الطعام للمسكين ، قاله مجاهد ، وعلى عدد من يلزمه إطعامه ، فيطعم مسكينين فصاعداً قاله ابن عباس ، وطاووس ، وعطاء ، والسدي . أو جمع بين الإطعام والصوم ، قاله ابن شهاب .
وانتصاب ) خَيْرًا ( على أنه مفعول على إسقاط الحرف ، أي : بخير ، لأنه تطوّع لا يتعدى بنفسه ، ويحتمل أن يكون ضمّن ، تطوّع معنى فعل متعد ، فانتصب خيراً ، على أنه مفعول به ، وتقديره ، ومن فعل متطوعاً خيراً ، ويحتمل أن يكون انتصابه على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : تطوعاً خيراً ، ودل وصف المصدر بالخيرية على خيرية المتطوع به ، وتقدم ذكر قراءة من قرأ يطوع ، فجعله مضارع أطوع ، وأصله تطوع فأدغم ، واجتلبت همزة الوصل . ويلزم في هذه القراءة أن تكون : مَن شرطية ، ويجوز ذلك في قراءة مَن جعله فعلاً ماضياً ، والضمير في فهو ، عائد على المصدر المفهوم من تطوع ، أي : فالتطوع خير له ، نحو قوله : ) اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( أي : العدل ، وخير : خبر : لهو ، وهو ، هنا أفعل التفضيل ، والمعنى : أن الزيادة على الواجب ، إذا كان يقبل الزيادة ، خير من الاقتصار عليه ، وظاهر هذه الآية العموم في كل تطوع بخير ، وإن كانت وردت في أمر الفدية في الصوم ، وظاهر التطوع : التخيير في أمر الجواز بين الفعل والترك ، وأن الفعل أفضل . ولا خلاف في ذلك ، فلو شرع فيه ثم أفسده ، لزمه القضاء عند أبي حنيفة ، ولا قضاء عليه عند الشافعي .
( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ( وقرأ أُبيُّ : والصوم خير لكم . هكذا نقل عن ابن عطية . ونقل الزمخشري : أن قراءته : والصيام خير لكم ، والخطاب

" صفحة رقم 45 "
للمقيمين المطيقين الصوم ، أي : خير لكم من الفطر والفدية ، أو للمريض والمسافر ، أي : خير لكم من الفطر والقضاء ، أو : لمن أبيح له الفطر من الجميع . أقوال ثلاثة .
وأبعد من ذهب إلى أنه متعلق بأول الآية ، وهو ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( أي : وأن تصوموا ذلك المكتوب خير لكم ، والظاهر الأول ، وفيه حض على الصوم .
( إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( من ذوي العلم والتمييز ، ويجوز أن يحذف اختصاراً لدلالة الكلام عليه أي : ما شرعته وبينته لكم من أمردينكم ، أو فضل أعمالكم وثوابها ، أو كنى بالعلم عن الخشية أي : تخشون الله ، لأن العلم يقتضي خشيته ) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ).
البقرة : ( 185 ) شهر رمضان الذي . . . . .
( شَهْرُ رَمَضَانَ ( قرأ الجمهور برفع شهر ، وقرأه بالنصب مجاهد ، وشهر : دين حوشب وهارون الأعور : عن أبي عمرو ، وأبو عمارة : عن حفص عن عاصم . وإعراب شهر يتبين على المراد بقوله : ) أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( فإن كان المراد بها غير أيام رمضان فيكون رفع شهر على أنه مبتدأ ، وخبره قوله : ) الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( ويكون ذكر هذه الجملة تقدمة لفرضية صومه بذكر فضيلته والتنبيه على أن هذا الشهر هو الذي أنزل فيه القرآن هو الذي يفرض عليكم صومه ، وجوزوا أن يكون : الذي أنزل ، صفة . إما للشهر فيكون مرفوعاً ، وإما لرمضان فيكون مجروراً .
وخبر المبتدأ والجملة بعد الصفة من قوله : ) فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ ( وتكون الفاء في : فمن ، زائدة على مذهب أبي الحسن ، ولا تكون هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان منها للشرط ، لأن شهر رمضان لا يشبه الشرط ، قالوا : ويجوز أن لا تكون الفاء زائدة ، بل دخلت هنا كما دخلت في خبر الذي ، ومثله : ) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ( وهذا الذي قالوه ليس بشيء ، لأن الذي ، صفة لعلم ، أو لمضاف لعلم ، فليس يتخيل فيه شيء ما من العموم ، ولمعنى الفعل الذي هو ) أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( لفظاً ومعنى ، فليس كقوله قل : ) إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ ( لأن الموت هنا ليس معيناً ، بل فيه عموم . وصلة الذي مستقبلة ، وهي : تفرون ، وعلى القول ، بأن الجملة من قوله ) فَمَن شَهِدَ ( هي الخبر ، يكون العائد على المبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه ، أي : ) فمن شهده منكم فليصمه ، فأقام لفظ المبتدأ مقام الضمير ، وحصل به الربط كما في قوله :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
وذلك لتفخيمه وتعظيمه وإن كان المراد بقوله : ) أياماً معدودات ( أيام رمضان ، فجوزوا في إعراب شهر وجهين .
أحدهما : أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره هو : شهر رمضان ، أي : المكتوب شهر رمضان ، قاله الأخفش ، وقدره الفراء : ذلكم شهر وهو قريب .
الثاني : أن يكون بدلاً من قوله : الصيام أي : كتب عليكم شهر رمضان ، قاله الكسائي ، وفيه بعد لوجهين : أحدهما : كثرة الفضل بين البدل والمبدل منه ، والثاني : أنه لا يكون إذ ذاك إلاَّ مِن بدل الإشتمال ، لا وهو عكس بدل الاشتمال ، لأن بدل الاشتمال في الغالب يكون بالمصادر كقوله تعالى : ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ( وقول الأعشى :

" صفحة رقم 46 "
لقد كان في حول ثواء ثويته
تقضي لبانات ويسأم سائم
وهذا الذي ذكره الكسائي بالعكس ، فلو كان هذا التركيب : كتب عليكم شهر رمضان صيامه ، لكان البدل إذ ذاك صحيحاً وعكس ، ويمكن توجيه قول الكسائي على أن يكون على حذف مضاف ، فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة تقديره : صيام شهر رمضان ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، لكن في ذلك مجاز الحذف والفصل الكثير بالجمل الكثيرة ، وهو بعيد ، ويجوز على بُعدٍ أن يكون بدلاً من أيام معدودات ، على قراءة عبد الله ، فإنه قرأ : أيامٌ معدودات ، بالرفع على أنها اخبر مبتدأ محذوف ، أي : المكتوب صومه أيام معدودات . ذكر هذه القراءة أبو عبد الله الحسين بن خالويه في كتاب ( البديع ) له في القرآن ؛ وانتصاب شهر رمضان على قراءة من قراء ذلك على إضمار فعل تقديره : صوموا شهر رمضان ، وجوزوا فيه أن يكون بدلاً من قوله : ) أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( قاله الأخفش ، والرماني وفيه بعد لكثرة الفصل ، وأن يكون منصوباً على الإغراء تقديره إلزموا شهر رمضان ، قاله أبو عبيدة والحوفي ، ورد بأنه لم يتقدم للشهر ذكر وإن كان منصوباً بقوله : ) وَأَن تَصُومُواْ ( حكاه ابن عطية وجوزه الزمخشري قال : وقرىء بالنصب على : صوموا شهر رمضان ، أو على الإبدال من : ) أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( ، أو على أنه مفعول ، وأن تصوموا . انتهى . كلامه ؛ وهذا لا يجوز ، لأن تصوموا صلة لأن ، وقد فصلت بين معمول الصلة وبينها بالخبر الذي هو خير ، لأن تصوموا في موضع مبتدأ ، أي : وصيامكم خير لكم ، ولو قلت : أن يضرب زيداً شديد ، وأن تضرب شديد زيداً ، لم يجز .
وأدغمت فرقة شهر رمضان . قال ابن عطية : وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه ، يعني بالأصول أصول ما قرره أكثر البصريين ، لأن ما قبل الراء في شهر حرف صحيح ، فلو كان في حرف علة لجاز بإجماع منهم ، نحو : هذا ثوب بكر ، لأن فيه لكونه حرف علة مدّا أمّا ، ولم تقصر لغة العرب على ما نقله أكثر البصريين ، ولا على ما اختاروه ، بل إذا صح النقل وجب المصير إليه . .
( الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( : تقدّم اعرابه ، وظاهره أنه ظرف لإنزال القرآن ، والقرآن يعم الجميع ظاهراً ، ولم يبين محل الإنزال ، فعن ابن عباس أنه أنزل جميعه إلى سماء الدنيا ليلة أربع وعشرين من رمضان ، ثم أنزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) منجماً .
وقيل : الإنزال هنا هو على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وذلك في الرابع والعشرين من رمضان .
أو تكون الألف واللام فيه لتعريف الماهية ، كما تقول : أكلت اللحم ، لا تريد استغراق الأفراد ، إنما تريد تعريف الماهية . وقيل معنى : ) أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( أن جبريل كان يعارض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في رمضان بما أنزل الله عليه ، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء قاله الشعبي ؛ فيكون الإنزال عبر به عن المعارضة .
وقيل : أنزل في فرضية صومه القرآن ، وفي شأنه القرآن ، كما تقول : أنزل في عائشة قرآن . والقرآن الذي نزل هو قوله : ) رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( قاله مجاهد ، والضحاك . وقال سفيان بن عيينة في فضله وقيل : المعنى . ) أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( أي أنزل من اللوح المحفوظ إلى السفرة في سماء الدنيا في ليلة القدر من عشرين شهر ، أو نزل به جبريل في عشرين سنة

" صفحة رقم 47 "
قاله مقاتل .
وروي واثلة بن الأسقع عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان ، والتوراة لست مضين منه ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين ) . وفي رواية أبي ذر : ( نزلت صحف إبراهيم في ثلاث مضين من رمضان ، وإنجيل عيسى في ثمانية عشر ) ، والجمع بين الروايتين بأن رواية واثلة أخبر فيها عن ابتداء نزول الصحف والإنجيل ، ورواية أبي ذر أخبر فيها عن انتهاء النزول .
وقرأ ابن كثير القرآن بنقل حركة الهمزة ، إلى الراء ، وحذف الهمزة ، وذلك في جميع القرآن سواء نكر أم عرف بالألف واللام ، أو بالإضافة ، وهذا المختار من توجيه قراءته ، وقد تقدّم قول من قال : إن النون فيه مع عدم الهمز أصلية من قرنت الشيء في الشيء ضممته .
( هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ ( انتصاب : هدىً ، على الحال وهو مصدر وضع موضع أسم الفاعل ، أي : هادياً للناس ، فيكون : للناس ، متعلقاً بلفظ . هدىً ، لما وقع موقع هادٍ ، وذو الحال القرآن ، والعامل : أنزل ، وهي حال لازمة ، لأن كون القرآن هدىً هو لازم له ، وعطف قوله : وبينات ، على : هدىً ، فهو حال أيضاً ، وهي لازمة ، لأن كون القرآن آياتٍ جليات واضحات وصف ثابت له ، وهو من عطف الخاص على العام ، لأن الهدى : منه خفي ومنه جلي ، فنص بالبينات على الجلي من الهدى ، لأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، فذكر عليه أشرف أنواعه ، وهو الذي يتبين الحلال والحرام والموعظة .
( مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ( هذا في موضع الصفة لقوله : هدى وبينات ، أي : أن كون القرآن هدى وبينات هو من جملة هدى الله وبيناته ، والهدى والفرقان يشمل الكتب الإلهية ، فهذا القرآن بعضها ، وعبر عن البينات بالفرقان ، ولم يأت من الهدى والبينات فيطابق العجز الصدر لأن فيه مزيد معنى لازم للبينات ، وهو كونه يفرق به بين الحق والباطل ، فمتى كان الشيء جلياً واضحاً حصل به الفرق ، ولأن في لفظ : الفرقان ، مؤاخاة للفاصلة قبله ، وهو قوله : ) شَهْرُ رَمَضَانَ ( ثم قال : ) الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( ، ثم قال : ) هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ( فحصل بذلك تواخي هذه الفواصل ، فصار الفرقان هنا أمكن من البينات من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، كما قررناه .
ولا يظهر هنا ما قاله بعض الناس من أن الهدى والفرقان أريد به القران ، لأن الشيء لا يكون بعض نفسه ، وفي ( المنتخب ) أنه يحتمل أن يحمل : هدىً الأول على أصول الدين ، والثاني على فروعه .
وقال ابن عطية : اللام في الهدى للعهد ، والمراد الأول . انتهى كلامه . يعني : أنه أتى به منكراً أولاً ، ثم أتى به معرفاً ثانياً ، فدل على أنه الأول كقوله تعالى : ) كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ( فمعلوم أن الرسول الذي عصاه فرعون هو الرسول الذي أرسل إليه ، ومن ذلك قولهم : لقيت رجلاً فضربت الرجل ، فالمضروب هو الملقى ؟ ويعتبر ذلك بجعل ضمير النكرة مكان ذلك هذا الثاني ، فيصح المعنى ، لأنه لو أتى فعصاه فرعون ، أو : لقيت رجلاً فضربته لكان كلاماً صحيحاً ، ولا يتأتي هذا الذي قاله ابن عطية هنا ، لأنه ذكر هو والمعربون : أن هدىً منصوب على الحال وصف في ذي الحال ، وعطف عليه وبينات ، فلا يخلو قوله : من الهدى ، المراد به الهدى الأول من أن يكون صفة لقوله : هذى ، أو لقوله : وبينات ، أو لهما ، أو متعلق بلفظ بينات ، لا جائز أن يكون صفة لهدى ، لأنه من حيث هو وصف لزم أن يكون بعضاً ، ومن حيث هو الأول لزم أن يكون هو إياه ، والشيء الواحد لا يكون بعضاً . كلاً بالنسبة لماهيته ، ولا جائز أن يكون صفة لبينات فقط ، لأن وبينات معطوف على هدى ، وهدى حال ، والمعطوف على الحال حال ، والحال وصف في ذي الحال ، فمن حيث كونهما حالين تخصص بهما ذو الحال إذ هما وصفان ، ومن حيث وصفت بينات بقوله : من الهدى ، خصصها به ، فوقف تخصيص القرآن على قوله هدى وبينات معاً ، ومن حيث جعلت من الهدى صفة لبينات توقف تخصيص بينات على هدى ، فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه ، وهو محال ، ولا جائز أن يتعلق بلفظ : وبينات ، لأن المتعلق تقييد للمتعلق به ، فهو كالوصف ، فيمتنع من حيث يمتنع الوصف .
وأيضاً فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً ، فقلت : وبينات منه أي : من ذلك الهدى ، لم يصح ، فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامين حتى يكون هدى وبينات بعضاً منهما . .

" صفحة رقم 48 "
) فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ( الألف واللأم في الشهر للعهد ، ويعني به شهر رمضان ، ولذلك ينوب عنه الضمير ، ولو جاء : فمن شهد منكم فليصمه لكان صحيحاً ، وإنما أبرزه ظاهراً للتنويه به والتعظيم له ، وحسن له أيضاً كونه من جملة ثانية .
ومعنى شهود الشهر الحضور فيه . فانتصاب الشهر على الظرف ، والمعنى : أن المقيم في شهر رمضان إذا كان بصفة التكليف يجب عليه الصوم ، إذ الأمر يقتضي الوجوب ، وهو قوله : فليصمه ، وقالوا على انتصاب الشهر : أنه مفعول به ، وهو على حذف مضاف ، أي : فمن شهد ، حذف مفعوله تقديره المصر أو البلد .
انتصاب الشهر على أنه مفعول به ، وهو على حذف مضاف ، أي : فمن شهد منكم دخول الشهر عليه وهو مقيم لزمه الصوم ، وقالوا : يتم الصوم من دخل عليه رمضان وهو مقيم ، أقام أم سافر ، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر ، وإلى هذا ذهب علي ، وابن عباس ، وعبيدة المسلماني ، والنخعي ، والسدي .
والجمهور على أن من شهد أول الشهر أو آخره فليصم ما دام مقيماً .
وقال الزمخشري : الشهر منصوب على الظرف ، وكذلك الهاء في : فليصمه ، ولا يكون مفعولاً به ، كقولك : شهدت الجمعة ، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر . انتهى كلامه .
وقد تقدم أن ذلك يكون على حذف مضاف تقديره : فمن شهد منكم دخول الشهر ، أي : من حضر . وقيل : التقدير هلال الشهر ، وهذا ضعيف ، لأنك لا تقول : شهدت الهلال ، إنما تقول : شاهدت ، ولأنه كان يلزم الصوم كل من شهد الهلال وليس كذلك .
ومنكم ، في موضع الحال ، ومن الضمير المستكن في شهد ، فيتعلق بمحذوف تقديره كائناً منكم .
وقال أبو البقاء ، حال من الفاعل وهي متعلقة بشهد ، فتناقض ، لأن جعلها حالاً يوجب أن يكون العامل محذوفاً ، وجعلها متعلقة بشهد يوجب أن لا يكون حالاً ، فتناقض . ومَنْ ، من قوله فمن شهد ، الظاهر أنها شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة ، وقد مر نظائره .
وقرأ الجمهور بسكون اللام في : فليصمه ، أجروا ذلك مجرى : فعل ، فخففوا ، وأصلها الكسر ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، والزهري ، وأبو حيوة ، وعيسى الثقفي ، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن نحو : ) فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ( بالكسر ، وكسر لام الأمر ، وهو مشهور لغة العرب ، وعلة ذلك ذكرت في النحو . ونقل صاحب التسهيل أن فتح لام الأمر لغة ، وعن ابنه ان تلك لغة بني سليم . وقال : حكاها الفراء . وظاهر كلامهما الإطلاق في أن فتح اللام لغة ، ونقل صاحب كتاب الإعراب ، وهو : أبو الحكم بن عذرة الخضراوي ، عن الفراء أن من العرب من يفتح هذه اللام لفتحة الياء بعدها ، قال : فلا يكون على هذا الفتح أن الكسر ما بعدها أو ضم . انتهى كلامه . وذلك نحو : لينبذن ، ولتكرم زيداً ، وليكرم عمراً وخالداً ، وقوموا فلأصل لكم .
( وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( تقدّم تفسير هذه الجملة ، وذكر فائدة تكرارها على تقدير : أن شهر رمضان هو قوله : أياماً معدودات ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( تقدّم الكلام في الإرادة في قوله ) مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً ( والإرادة هناغ إما أن تبقى على بابها ، فتحتاج إلى حذف ، ولذلك قدره صاحب ( المنتخب ) : يريد الله أن يأمركم بما فيه يسر ، وأما أن يتجوز بها عن الطلب ، أي : يطلب الله منكم اليسر ، والطلب عندنا غير الإرادة ، وإنما أحتيج إلى هذين التأويلين لأن ما أراده الله كائن لا محالة ، على مذهب أهل السنة ، وعلى ظاهر الكلام لم يكن ليقع عسر وهو واقع ، وأما على مذهب المعتزلة فتكون

" صفحة رقم 49 "
الآية على ظاهرها ، وأراد : يتعدّى إلى الأجرام بالباء ، وإلى المصادر بنفسه ، كالآية . ويأتي أيضاً متعدّياً إلى الإجرام بنفسه وإلى المصادر بالباء . قال : أرادت عرار بالهوان ومن يرد
عراراً ، لعمري بالهوان فقد ظلم
قالوا : يريد هنا بمعنى أراد ، فهو مضارع أريد به الماضي ، والأوْلى أن يراد به الحالة الدائمة هنا ، لأن المضارع هو الموضوع لما هو كائن لم ينقطع ، والإرادة صفة ذات لا صفة فعل ، فهي ثابتة له تعالى دائماً ، وظاهر اليسر والعسر العموم في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية .
وفي الحديث . ( دين الله يُسر يَسِّر ولا تعسر ) . وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وفي القرآن : ) مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( ) وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( فيندرج في العموم في اليسر فطر المريض والمسافر اللذين ذكر حكمهما قبل هذه الآية ، ويندرج في العموم في العسر صومهما لما في حالتي المرض والسفر من المشقة والتعسير .
وروي عن علي ، وابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : أن اليسر الفطر في السفر ، والعسر الصوم فيه ، ويحمل تفسيرهم على التمثيل بفرد من أفراد العموم ، وناسب أن مثلوا بذلك ، لأن الآية جاءت في سياق ما قبلها ، فدخل فيها ما قبلها دخولاً لا يمكن أن يخرج منها ، وفي ( المنتخب ) ) يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ( كاف عن قوله : ) وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( وإنما كرر توكيداً . انتهى .
وقرأ أبو جعفر ، ويحيى بن وثاب ، وابن هرمذ ، وعيسى بن عمر : اليسر والعسر ، بضم السين فيهما ، والباقون بالإسكان .
( وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ ( : قرأ أبو بكر ، وأبو عمر وبخلاف عنهما ، وروي : مشدد الميم مفتوح الكاف ، والباقون بالتخفيف وإسكان الكاف ، وفي اللام أقوال .
الأول : قال ابن عطية : هي اللام الداخلة على المفعول ، كالتي في قولك : ضربت لزيد ، المعنى ، ويريد إكمال العدة ، وهي مع الفعل مقدرة بأن ، كأن الكلام : ويريد لأن تكلموا العدة ، هذا قول البصريين ، ونحوه . قول أبي صخر . أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تخيل لي ليلى بكل طريق
انتهى كلامه . وهو كما جوّزه الزمخشري . قال : كأنه قيل : يريد الله بكم اليسر ، ويريد لتكملوا ، لقوله : ) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ ( وفي كلامه أنه معطوف على اليسر ، وملخص هذا القول : أن اللام جاءت في المفعول المؤخر عن الفعل ، وهو مما نصوا على أنه قليل ، أو ضرورة ، لكن يحسن ذلك هنا ، بعده عن الفعل بالفصل ، فكأنه لما أخذ الفعل مفعوله ، وهو : اليسر ، وفصل بينهما بجملة وهي : ولا يريد بكم العسر ، بعد الفعل عن اقتضائه ، فقوي باللام ، كحاله إذا تقدم فقلت لزيد ضربت ، لأنه بالتقدم وتأخرُ العامل ضعف العامل عن الوصول إليه ، فقوي باللام ، اذ أصل العامل أن يتقدم ، وأصل المعمول أن يتأخر عنه ، لكن في هذا القول إضمار إن بعد اللام الزائدة ، وفيه بعُد وفي كلام ابن عطية تتبع ، وهو في قوله : وهي ، يعني باللام مع الفعل ، يعني تكملوا مقدرة بأن ، وليس كذلك ، بل أن مضمرة بعدها واللام حرف جر ، ويبين ذلك أنه قال : كأن الكلام : ويريد لأن تكملوا العدة ، فأظهر أن بعد اللام ، فتصحيح لفظه أن تقول : وهي مع الفعل مقدران بعدها ، وقوله : هذا قول البصريين ونحوه ، قول أبي صخر .
أريد لانسى ذكرها
ليس كما ذكر ، بل ذلك مذهب الكسائي والفراء ، زعما أن العرب تجعل لام كي في موضع أن في أردت وأمرت . قال تعالى : ) يُرِيدُ اللَّه

" صفحة رقم 50 "
ُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ ( ) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ ( ) وَأَنْ يُطْفِئُواْ ( ) إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ ). وقال الشاعر :
أريد لأنسى ذكرها
وقال تعالى : ) وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ ( ) وَأَنْ أَسْلَمَ ( وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا باقية على حالها وأن مضمرة بعدها ، لكن الفعل قبلها يقدره بمصدر ، كأنه قال : الارداة للتبيين ، وإرادتي لهذا ، وذهب بعض الناس إلى زيادة اللام ، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في كتاب ( التكميل في شرح التسهيل ) فتطالع هناك .
وتلخص مما ذكرناه أن ما قال : من ، أنه قول البصريين ليس كما قال : إنما يتمشى قوله : وهي ، مع الفعل مقدرة بأن على قول الكسائي والفراء ، لا على قول البصريين . وتناقض قول ابن عطية أيضاً لأنه قال : هي اللام الداخلة على المفعول كالتي في قولك : ضربت لزيد ، المعنى ويريد إكمال العدة . ثم قال : وهي ، الفعل مقدرة بأن ، فمن حيث جعلها الداخلة على المفعول لا يكون جزءاً من المفعول ، ومن حيث قدرها بأن كانت جزءاً من المفعول ، لأن المفعول إنما ينسبك منها مع الفعل ، فهي جزء له ، والشيء الواحد لا يكون جزءاً لشيء غير جزءٍ له ، فتناقض .
وأما تجويز الزمخشري أن يكون معطوفاً على : اليسر ، فلا يمكن إلاَّ بزيادة اللام وإضمار : أن بعدها ، أو يجعل اللام لمعنى : أن ، فلا تكون أن مضمرة بعدها ، وكلاهما ضعيف .
القول الثاني : أن تكون اللام في ولتكملوا العدة لام الأمر قال ابن عطية ، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام . انتهى . كلامه . ولم يذكر هذا الوجه فيما وقفنا عليه غير ابن عطية ، ويضعف هذا القول أن النحويين قالوا : أمر الفاعل المخاطب فيه التفات ، قالوا : أحدهما لغة رديئة قليلة ، وهو إقرار تاء الخطاب ولام الأمر قبلها ، واللغة الأخرى هي الجيدة الفصيحة ، وهو ، أن يكون الفعل عارياً من حرف المضارعة ومن اللام ، ويضعف هذا القول أيضاً أنه لم يؤثر على أحد من القراء أنه قرأ بإسكان هذه اللام ، فلو كانت لام الأمر لكتاب كسائر أخواتها من القراءة بالوجهين فيها ، فدل ذلك على أنها لام الجر لا لام الأمر ، وقول ابن عطية : والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، يعني : أنها إذا كانت اللام للأمر كان العطف من قبيل الجمل ، وإذا كانت كاللام في : ضربت لزيد ، كانت من قبل عطف المفردات .
القول الثالث : أن تكون اللام للتعليل ، واختلف قائلو هذا القول على أقوال . أحدها : أن تكون الواو عاطفة على علة محذوفة ، التقدير : لتعملوا ما تعملون ولتكملوا العدة ، قاله الزمخشري . ويكون هذا الفعل المعلل على هذا القول : إرادة اليسر . الثاني : أن يكون بعد الواو وفعل محذوف هو المعلل ، التقدير : وفعل هذا لتكملوا العدة ، قاله الفراء . الثالث : أن يكون معطوفاً على علة محذوفة وقد حذف معلولها ، التقدير : فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا ، قاله الزجاج . الرابع : أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد التعليل ، تقديره : ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة ، قال ابن عطية : وهذا قول بعض الكوفيين . الخامس : أن الواو زائدة ، التقدير : يريد الله بكم اليسر لتكملوا العدة ، وهذا قول ضعيف . السادس : أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد قوله ؛ ) وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( وتقديره : شرع ذلك . قاله الزمخشري ، قال ما نصه : شرع ذلك ، يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص في إباحة الفطر فقوله : لتكملوا ، علة الأمر بمراعاة العدة ، ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر ولعلكم تشكرون ، علة الترخيص والتيسير . وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلاَّ النقاد المحذق من علماء البيان انتهى كلامه .
والألف واللام في قوله : ) وَلِتُكْمِلُواْ

" صفحة رقم 51 "
الْعِدَّةَ ( الظاهر أنها للعهد ، فيكون ذلك راجعاً إلى قوله : ) فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( أي : وليكمل من أفطر في مرضه أو سفره عدة الأيام التي أفطر فيها بأن يصوم مثلها ، وقيل : عدة الهلال سواء كانت تسعة وعشرين يوماً أم كان ثلاثين ، فتكون العدة راجعة إذ ذاك إلى شهر رمضان المأمور بصومه .
( وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ( معطوف على : ولتكملوا العدة ، والكلام في اللام كالكلام في لام : ولتكملوا ومعنى التكبير هنا تعظيم الله والثناء عليه ، فلا يختص ذلك بلفظ التكبير ، بل يعظم الله ويثني عليه بما شاء من ألفاظ الثناء والتعظيم ، وقيل : هو التكبير عند رؤية الهلال في آخر رمضان .
وروي عن ابن عباس أنه قال : حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوّال أن يكبروا ، وقيل : هو التكبير المسنون في العيد ، وقال سفيان : هو التكبير يوم الفطر .
واختلف في مدته وفي كيفيته ، فعن ابن عباس : يكبر من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره ، وقيل : وهو قول الشافعي : من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة . وقال زيد بن أسلم ، ومالك : من حين يخرج من منزله إلى أن يخرج الإمام وروي ابن القاسم ، وعلي بن زياد : إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه ولا في جلوسه حتى تطلع الشمس ، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس حتى يخرج الإمام .
واختلف عن أحمد ، فنقل الأثر عنه أنه إذا جاء إلى المصلى يقطع ؛ قال أبو يعلى : يعني : وخرج الإمام ، ونقل حنبل عنه أن يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة .
واختلفوا في الأضحى ، فقال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو يوسف ، ومحمد : الفطر والأضحى سواء في ذلك ، وبه قال ابن المسيب ، وأبو سلمة ، وعروة ، وقال أبو حنيفة : يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر .
وكيفيته عند الجمهور : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، ثلاثاً ، وهو مروي عن جابر ، وقيل : يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير ، ومنهم من يقول : الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً . وكان ابن المبارك يقول : الله أكبر الله أكبر لا إله إلاّ الله ، والله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا . وقال ابن المنذر : كان مالك لا يجد فيه حدّاً ، وقال ابن العربي : اختار علماؤنا التكبير المطلق وهو ظاهر الكتاب ، وقال أحمد : كل واسع ، وحجج هذه الأقاويل في كتب الفقه .
ورجح في ( المنتخب ) أن إكمال العدة هو في صوم رمضان ، وأن تكبيراً لله هو عند الإنقضاء على ما هدى إلى هذه الطاعة ، وليس بمعنى التعظيم . قال : لأن تكبير الله بمعنى تعظيمه هو واجب في جميع الآوقات وفي كل الطاعات ، فلا معنى للتخصيص انتهى . وعلى ، تتعلق : بتكبروا ، وفيها إشعار بالعلية ، كما تقول أشكرك على ما أسديت إليّ .
قال الزمخشري : وإنما عدى فعل التكبر بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد ، كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم . انتهى كلامه .
وقوله : كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم ، هو تفسير معنى لا تفسير إعراب ، إذ لو كان تفسير إعراب لم تكن : على ، متعلقاً ، بتكبروا المضمنة معنى الحمد ، إنما كانت تكون متعلقة بحامدين التي قدّرها ، والتقدير الإعرابي هو ، أن تقول : كأنه قيل : ولتحمدوا الله بالتكبير على ما هداكم ، كما قدّر الناس في قولهم : قتل الله زياداً عني أي : صرف الله زياداً عني بالقتل ، وفي . قول الشاعر : ويركب يوم الروع فينا فوارس
بصيرون في طعن الأباهر والكلي
أي : تحكمون بالبصيرة في طعن الأباهر ، والظاهر في : ما ، أنها مصدرية أي : على هدايتكم ، وجوّزوا أن تكون : ما ، بمعنى الذي ، وفيه بعد ، لأنه يحتاج إلى حذفين أحدهما : حذف العائد على : ما ، أي : على الذي هداكموه وقدّرناه منصوباً لا مجروراً بإلى ، ولا باللام

" صفحة رقم 52 "
ليكون حذفه أسهل من حذفه مجروراً . والثاني : حذف مضاف به يصح الكلام ، التقدير : على اتباع الذي هداكموه ، وما أشبه هذا التقدير مما يصح به معنى الكلام .
والظاهر أن معنى : هداكم ، حصول الهداية لكم من غير تقييد ، وقيل : المعنى ، هدايتكم لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم ، وإذا كانت بمعنى : الذي ، فالمعنى على ما أرشدكم إليه من شريعة الإسلام .
( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( هو ترج في حق البشر على نعمة الله في الهداية ، قاله ابن عطية : فيكون الشكر على الهداية ، وقيل : المعنى تشكرون على ما أنعم به من ثواب طاعاتكم .
وقال الزمخشري : ومعنى ) وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( وإرادة أن تشكروا ، فتأول الترجي من الله على معنى الإرادة ، وجعل ابن عطية الترجي من المخلوق ، إذ الترجي حقيقة يستحيل على الله ، فلذلك أوَّله الزمخشري بالإرداة ، وجعله ابن عطية من البشر ، والقولان متكافئان ، وإذا كان التكليف شاقاً ناسب أن يعقب بترجي التقوى ، وإذا كان تيسيراً ورخصة ناسب أن يعقب بترجي الشكر ، فلذلك ختمت هذه الآية بقوله : ) لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( لأن قبله ترخيص للمريض والمسافر بالفطر ، وقوله : ) يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ( وجاء عقيب قوله : ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( وقبله ) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ ( ثم قال : ) لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( لأن الصيام والقصاص من أشق التكاليف ، وكذا يجيء أسلوب القرآن فيما هو شاق وفيما فيه ترخيص أو ترقية ، فينبغي أن يلحظ ذلك حيث جاء فإنه من محاسن علم البيان .
البقرة : ( 186 ) وإذا سألك عبادي . . . . .
( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّى فَإِنّي قَرِيبٌ ( سبب النزول فيما قال الحسن : أن قوماً ، قيل : اليهود ، وقيل : المؤمنون ، قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه . وقال عطاء : لما نزل . ) وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( قال قوم : في أي ساعة ندعوا ؟ فنزل ) وَإِذَا سَأَلَكَ ( ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تضمن قوله : ) وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( طلب تكبيره وشكره بيَّن أنه مطلع على ذكر من ذكره وشكر من شكره ، يسمع نداءه ويجيب دعاءه أو رغبة ، تنبيهاً على أن يكون ولا بد مسبوقاً بالثناء الجميل .
والكاف في : سألك ، خطاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فكأنه قيل : ( أنزل عليك فيه القرآن ، فجاء هذا الخطاب مناسباً لهذا المحذوف ) . و : عبادي ، ظاهره العموم ، وقيل : أريد به الخصوص : إما اليهود وإما المؤمنون على الخلاف في السبب ، وأما عبادي . و : عني ، فالضمير فيه لله تعالى ، وهو من باب الالتفات ، لأنه سبق و : التكبروا لله ، فهو خروج من غائب إلى متكلم ، و : عني ، متعلق بسألك ، وليس المقصود هنا عن ذاته لأن الجواب وقع بقوله : فإني قريب ، والقرب المنسوب إلى الله تعالى يستحيل أن يكون قرباً بالمكان ، وإنما القرب هنا عبارة عن كونه تعالى سامعاً لدعائه ، مسرعاً في إنجاح طلبه من سأله ، فمثل حالة تسهيله ذلك بحالة من قرب مكانه ممن يدعوه ، فإنه لقرب المسافة يجيب دعاءه ونظير هذا القرب هنا قوله تعالى : ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( وما روي من قوله عليه السلام : ( هو بينكم وبين أعناق رواحلكم ) .
والفاء في قوله : فإني قريب ، جواب إذا ، وثم قول محذوف تقديره : فقل لهم إني قريب لإنه لا يترتب على الشرط القرب ، إنما يترتب الإخبار عن القرب .

" صفحة رقم 53 "
) أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ( أجيب : إما صفة لقريب ، أو خبر بعد خبر ، وروعي الضمير في : فإني ، فلذلك جاء أجيب ، ولم يراع الخبر فيجيء : يجيب ، على طريقة الإسناد للغائب طريقان للعرب : أشهرهما : مراعاة السابق من تكلم أو خطاب كهذا ، وكقولهم : ) بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ( ) بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ). وكقول الشاعر :
وإنا لقوم ما نرى القتل سبة
والطريق الثاني : مراعاة الخبر كقولك : أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ يريد الخير ، والكلام على هذه المسألة متسع في علم العربية ، وقد تكلمنا عليها في كتابنا الموسوم ب ( منهج السالك والعامل في إذا قوله أجيب ) .
وروي أنه نزل قوله : ) أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ( لما نزل : ) فَإِنّي قَرِيبٌ ( وقال المشركون : كيف يكون قريباً من بيننا وبينه على قولك سبع سموات في غلظ ، سمك كل سماء خمسمائة عام ، وفي ما بين كل سماء وسماء مثل ذلك ، فبين بقوله : ) أُجِيبُ ( : أن ذلك القرب هو الإجابة والقدرة ، وظاهر قوله : ) أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ( عموم الدعوات ، إذ لا يريد دعوة واحدة ، والهاء في : دعوة ، هنّا ليست للمرة ، وإنما المصدر هنا بني على فعلة نحو . رحمة ، والظاهر عموم الداعي لأنه لا يدل على داعٍ مخصوص ، لأن الألف واللام فيه ليست للعهد ، وإنما هي للعموم . والظاهر تقييد الإجابة بوقت الدعاء ، والمعنى على هذا الظاهر أن الله تعالى يعطي من سأله ما سأله .
وذكروا قيوداً في هذا الكلام ، وتخصيصات ، فقيدت الإجابة بمشيئة الله تعالى . التقدير : إن شئت ، ويدل عليه التصريح بهذا القيد في الآية الأخرى ، فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ، وقيل : بوفق القضاء أي : أجيب إن وافق قضائي ، وهو راجع لمعنى المشيئة ، وقيل : يكون المسؤول خير السائل ، أي : إن كان خيراً . وقيل : يكون المسؤول غير محال ، وقد يثبت بصريح العقل وصحيح النقل أن بعض الدعاة لا يجيبه الله إلى ما سأل ، ولا يبلغه المقصود مما طلب ، فخصصوا الداعي بأن يكون : مطيعاً مجتنباً لمعاصيه .
وقد صح أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال في الرجل يطيل السفر : ( أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ، ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، ومشربه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنَّي يستجاب له ) ؟ .
قالوا : ومن شرطه أن لا يمل ، ففي الصحيح : يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : قد دعوت فلم يستجب لي .
وخصص الدعاء بأن يدعوا بما ليس فيه إثم ، ولا قطيعة رحم ، ولا معصية ، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ما من مسلم يدعوه بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخر له ، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها ) . وينبغي أن يكون الدعاء بالمأثور ، وأن لا يقصد فيه السجع ، سجع الجاهلية ، وأن يكون غير ملحون .
وترتجى الإجابة من الأزمان عند السحر ، وفي الثلث الأخير من الليل ، ووقت الفطر ، وما بين الأذان والإقامة ، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء ، وأوقات الاضطرار ، وحالة السفر والمرض ، وعند نزول المطر ، والصف في سبيل الله ، والعيدين ، والساعة التي أخبر عنها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في يوم الجمعة : وهي من الإقامة إلى فراغ الصلاة : كذا ورد مفسراً في الحديث ، وقيل : بعد عصر الجمعة ، وعندما تزول الشمس .
ومن الأماكن : في الكعبة ، وتحت ميزابها ، وفي الحرم ، وفي حجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والجامع الأقصى .
وإذا كان الداعي بالأوصاف التي تقدمت غلب على الظن قبول دعائه ، وأما إن كان على غير تلك الأوصاف فلا ييأس من رحمة الله ، ولا يقطع رجاءه من فضله ، فإن الله تعالى قال : ) قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ( وقال سفيان بن عيينة : لا يمنعن أحد من الدعاء ما يعلم من نفسه ، فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس : ) قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ).
وقالت المعتزلة : الإجابة مختصة بالمؤمنين ) الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ( لأن وصف الإنسان بأن الله أجاب دعوته صفة مدح وتعظيم ، والفاسق لا يستحق التعظيم ، بل الفاسق قد يطلب الشيء فيفعله الله ولا يسمى إجابة .
قيل : والدعاء أعظم مقامات العبودية لأنه إظهار افتقار إلى الله تعالى ، والشرع قد ورد بالأمر به ، وقد دعت الأنبياء والرسل ، ونزلت بالأمر به الكتب الإلهية ، وفي هذا رد على من زعم من الجهال أن الدعاء لا فائدة فيه ، وذكر شبهاً له على ذلك ردها أهل العلم بالشريعة ، وقالوا : أَلاوْلى بالعبد التضرع والسؤال إلى الله تعالى ، وإظهار الحاجة إليه لما روي من النصوص الدالة على الترغيب في الدعاء ، والحث عليه ، وقال قوم ممن يقول فيهم بعض الناس ، إنهم علماء الحقيقة : يستحب الدعاء فيما يتعلق بأمور الآخرة ، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فالله متكفل ، فلا حاجة إليها .
وقال قوم منهم . إن كان في حالة الدعاء أصلح ، وقلبه أطيب ، وسره أصفى ، ونفسه أزكى ، فليدع ؛ وإن كان في الترك أصلح فالإمساك عن الدعاء أولى به .
وقال قوم منهم : ترك الدعاء في كل حال

" صفحة رقم 54 "
أصلح لما فيه من الثقة بالله ، وعدم الاعتراض ، ولأنه اختيار والعارف ليس له اختيار .
وقال قوم منهم : ترك الذنوب هو الدعاء لأنه إذا تركها تولى الله أمره وأصلح شأنه ، قال تعالى : ) وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ).
وقد تؤولت الإجابة والدعاء هنا على وجوه . أحدها : أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله ، لأنك دعوته ووجدته ، والإجابة عبارة عن القبول لما سمي التوحيد دعاءً سمي القبول إجابة ، لتجانس اللفظ .
الوجه الثاني : أن الإجابة هو السماع فكأنه قال : أسمع .
الوجه الثالث : أن الدعاء هو التوبة عن الذنوب لأن التائب يدعو الله عند التوبة ، والإجابة قبول التوبة .
الوجه الرابع : أن يكون الدعاء هو العبادة ، وفي الحديث : ( الدعاء العبادة ) قال تعالى : ) وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( ثم قال : ) إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى ( والإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب .
الوجه الخامس : الإجابة أعم من أن يكون بإعطاء المسؤول وبمنعه ، فالمعنى : إني أختار له خير الأمرين من العطاء والرد .
وكل هذه التفاسير خلاف الظاهر .
( فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى ( أي : فيطليوا ، أي : فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني ، قاله ثعلب ، فيكون : استفعل ، قد جاءت بمعنى الطلب ، كاستغفر ، وهو الكثير فيها : أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة كما أني أجبيبهم إذا دعوني لحوائجهم ، قاله مجاهد ، وأبو عبيدة ، وغيرهما . ويكون : استفعل ، فيه بمعنى أفعل ، وهو كثير في القرآن ) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ ( ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى ( إلا أن تعديته في القرآن باللام ، وقد جاء في كلام العرب معدى بنفسه قال : وداعٍ دعا يا من يجيب إلى النداء
فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي : فلم يجبه ، ومثل ذلك ، أعني كون استفعل موافق أفعل ، قولهم : استبل بمعنى أبل ، واستحصد الزرع واحصد ، واستعجل الشيء وأعجل ، واستثاره وأثاره ، ويكون استفعل موافقة أفعل متعدياً ولازماً ، وهذا المعنى أحد المعاني التي ذكرناها لاستفعل في قوله : ) وإياك نستعين ) .
وقال أبو رجاء الخراساني : معناه فليدعوا لي ، وقال الأخفش : فليذعنوا الإجابة ، وقال مجاهد أيضاً ، والربيع : فليطيعوا ، وقيل : الإستجابة هنا التلبية ، وهو : لبيك اللهم لبيك ، واللام لام الأمر ، وهي ساكنة ، ولا نعلم أحداً قرأها بالكسر .
( وليؤمنوا بي ( معطوف على : فليجيبوا لي ، ومعناه الأمر بالإيمان بالله ، وحمله على الأمر بإنشاء الإيمان فيه بُعدٌ لأن صدر الآية يقتضى أنهم مؤمنون ، فلذلك يؤول على الديمومة ، أو على إخلاص الدين ، والدعوة ، والعمل ، أو في الثواب على الاستجابة لي بالطاعة أو بالإيمان وتوابعه ، أو بالإيمان في : أني أجيب دعاءهم ، خمسة أقوال آخرها لأبي رجاء الخراساني .
( لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ( قراءة الجمهور بفتح الياء وضم الشين ، وقرأ قوم : يرشدون مبنياً للمفعول ، وروي عن أبي حيوة ، وإبراهيم بن أبي عبلة : يرشدون بفتح الياء وكسر الشين ، وذلك باختلاف عنهما ، وقرىء أيضاً يرشدون بفتحهما ، والمعنى : أنهم إذا استجابوا لله وآمنوا به كانوا على رجاء من حصول الرشد لهم ، وهو الاهتداء لمصالح دينهم ودنياهم ، وختم الآية برجاء الرشد من أحسن الأشياء لأنه تعالى لما أمرهم بالاستجابة له ، وبالإيمان ، نبه على أن هذا التكليف ليس القصد منه إلاَّ وصولك بامتثاله إلى رشادك في نفسك ، لا يصل إليه تعالى منه شيء من منافعه ، وإنما ذلك مختص بك .
ولما كان الإيمان شبه بالطريق المسلوك في القرآن ، ناسب ذكر الرشاد وهو : الهداية ، كما قال تعالى : ) اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ) وَهَدَيْنَاهُمَا الصّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ).
البقرة : ( 187 ) أحل لكم ليلة . . . . .
( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ( سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ، عن اليراء : لما نزل صوم رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فنزلت ، وقيل : كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة ، أو يرقد ، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه ما حل

" صفحة رقم 55 "
له قبل إلى القابلة ، وأن عمر ، وكعباً الأنصاري ، وجماعة من الصحابة واقعوا أهلهم بعد العشاء الآخرة ، وأن قيس بن صرمة الأنصاري نام قبل أن يفطر وأصبح صائماً فغشي عليه عند انتصاف النهار ، فذكر ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فنزلت .
وقال بعض العلماء : نزلت الآية في زلة ندرت ، فجعل ذلك سبب رخصة لجميع المسلمين إلى يوم القيامة ، هذا إحكام العناية .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات أنها من تمام الأحوال التي تعرض للصائم ، ولما كان افتتاح آيات الصوم بأنه : كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا ، اقتضى عموم التشبيه في الكتابة ، وفي العدد ، وفي الشرائط ، وسائر تكاليف الصوم . وكان أهل الكتاب قد أمروا بترك الأكل بالحل ، والشرب والجماع في صيامهم بعد أن يناموا ، وقيل : بعد العشاء ، وكان المسلمون كذلك ، فلما جرى لعمر وقيس ما ذكرناه في سبب النزول ، أباح الله لهم ذلك من أول الليل إلى طلوع الفجر ، لطفاً بهم . وناسب أيضاً قوله تعالى : في آخر آية الصوم : ) يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( وهذا من التيسير .
وقوله : أحل ، يقتضي أنه كان حراماً قبل ذلك ، وقد تقدّم نقل ذلك في سبب النزول ، لكنه لم يكن حراماً في جميع الليلة ، ألا ترى أن ذلك كان حلالاً ، لهم إلى وقت النوم أو إلى بعد العشاء ؟ .
وقرأ الجمهور : أحل ، مبنياً للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وقرىء ، أحل مبنياً للفاعل ، ونصب : الرفث به ، فأما أن يكون من باب الإضمار لدلالة المعنى عليه ، إذ معلوم للمؤمنين أن الذي يحل ويحرم هو الله ، وأما أن يكون من باب الالتفات ، وهو الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب ، لأن قبله : ) فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى ( ولكم ، متعلق بأحل ، وهو التفات ، لأن قبله ضمير غائب ، وانتصاب : ليلة ، على الظرف ، ولا يراد بليلة الوحدة بل الجنس ، قالوا : والناصب لهذا الظرف : أحل ، وليس بشيء ، لأن : ليلة ، ليس بظرف لأحل ، إنما هو من حيث المعنى ظرف للرفث ، وإن كانت صناعة النحو تأبى أن تكون انتصاب ليلة بالرفث ، لأن الرفث مصدر وهو موصول هنا ، فلا يتقدّم معموله ، لكن يقدّر له ناصب ، وتقديره : الرفث ليلة الصيام ، فحذف ، وجعل المذكور مبنياً له كما قالوا في قوله :
وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان
أن تقديره : إذعان للذلة إذعان ، وكما خرّجوا قوله : ) إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( ) وَإِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ الْقَالِينَ ( أي ناصح لكما ، وقال : لعملكم ، فما كان من الموصول قدّم ما يتعلق به من حيث المعنى عليه أضمر له عامل يدل عليه ذلك الموصول ، وقد تقدّم أن من النحويين من يجيز تقدّم الظرف على نحو هذا المصدر ، وأضيفت : الليلة ، إلى الصيام على سبيل الاتساع ، لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة ، ولما كان الصيام ينوى في الليلة ولا يتحقق إلاَّ بصوم جزء منها صحت الإضافة .
وقرأ الجمهور : الرفث ، وقرأ عبد الله : الرفث ، وكنى به هنا عن الجماع ، والرفث قالوا : هو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، كلفظ : النيك ، وعبر باللفظ القريب من لفظ النيك تهجيناً لما وجد منهم ، إذ كان ذلك حراماً عليهم ، فوقعوا فيه كما قال فيه : ) تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ( فجعل ذلك خيانة ، وعدى بإلى ، وإن كان أصله التعدية بالباء لتضمينه معنى الإفضاء ، وحسن اللفظ به هذا التضمين ، فصار ذلك قريباً من الكنايات التي جاءت في القرآن من قوله : ) فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ( ) وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ ( ) فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ ( ) فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ ).
والنساء جمع الجمع ، وهو نسوة ، أو جمع امرأة على غير اللفظ ، وأضاف : النساء إلى المخاطبين لأجل الاختصاص ، إذ لا يحل الإفضاء إلاَّ لمن اختصت بالمفضي : أما بتزويج أو ملك .
( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ( اللباس ، أصله في الثوب ، ثم يستعمل في المرأة .
قال أبو عبيدة : يقال للمرأة هي لباسك ، وفراشك ، وإزارك لما بينهما من الممازجة . ولما كان يعتنقان ويشتمل كل منهما صاحبه في العناق ، شُبِّه كل منهما باللباس الذي يشتمل على الإنسان .
قال الربيع : هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهنّ ، وقال مجاهد ، والسدي

" صفحة رقم 56 "
هن سكن لكم ، أي : يسكن بعضكم إلى بعض ، كقوله : ) وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً ( وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، بل هي مستأنفة كالبيان لسبب الإحلال ، وهو عدم الصبر عنهنّ لكونهنّ لكم في المخالطة كاللباس ، وقدّم : هنّ لباس لكم ، على قوله : وأنتم لباس لهنّ ، لظهور احتياج الرجل إلى المرأة وقلة صبره عنها ، والرجل هو البادىء بطلب ذلك الفعل ، ولا تكاذ المرأة تطلب ذلك الفعل ابتداء لغلبة الحياء عليهن حتى إن بعضهن تستر وجهها عند المواقعة حتى لا تنظر إلى زوجها حياء وقت ذلك الفعل .
جمعت الآية ثلاثة أنواع من البيان : الطباق المعنوي ، بقوله : ) أُحِلَّ لَكُمُ ( ، فإنه يقتضي تحريماً سابقاً ، فكأنه أحل لكم ما حرّم عليكم ، أو ما حرّم على من قبلكم ، والكناية بقوله : الرفث ، وهو كناية عن الجماع ، والاستعارة البديعة بقوله : هنّ لباس لكم ، وأفرد اللباس لأنه كالمصدر ، تقول : لابست ملابسةً ولباساً .
( عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ( : إن كانت : عَلِم ، معداة تعدية عرف ، فسدت أن مسد المفعول ، أو التعدية التي هي لها في الأصل ، فسدّت مسدّ المفعولين ، على مذهب سيبويه ، وقد تقدم لنا نظير هذا . وتختاتون : هو من الخيانة ، وافتعل هنا بمعنى فعل ، فاختان . بمعن : خان ، كاقتدر بمعنى : قدر .
قيل وزيادة الحرف تدل على الزيادة في المعنى ، والاختيان هنا معبر به عما وقفوا فيه من المعصية بالجماع ، وبالأكل بعد النوم ، وكان ذلك خيانة لأنفسهم ، لأن وبال المعصية عائد على أنفسهم ، فكأنه قيل : تظلمون أنفسكم وتنقصون حقها من الخير ، وقيل : معناه ، تستأثرون أنفسكم فيما نهيتم عنه ، وقيل : معناه : تتعهدون أنفسكم بإتيان نسائكم .
يقال : تخون ، وتخوّل ، بمعنى : تعهد ، فتكون النون بدلاً من اللام لأنه باللام أشهر . وقال أبو مسلم : هي عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه من حق النفس ، ولذلك قال : أنفسكم ، ولم يقل : الله ، وظاهر الكلام وقوع الخيانة منهم لدلالة كان على ذلك ، وللنقل الصحيح في حديث الجماع وغيره ، وقيل : ذلك على تقدير ولم يقع بعد ، والمعنى : تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة ، وهذا فيه ضعف لوجود : كان ، ولأنه إضمار لا يدل عليه دليل ، ولمنافاة ظاهر قوله : ) فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ).
) فَتَابَ عَلَيْكُمْ ( أي : قَبِل توبتكم حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور ، وقيل : معناه خفف عنكم بالرخصة والإباحة كقوله : ) عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ( ) فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللَّهِ ( ) لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ ( معناه كله التخفيف ، وقيل : معناه أسقط عنكم ما أفترضه من تحريم الأكل والشرب والجماع بعد العشاء ، أو بعد النوم على الخلاف ، وهذا القول راجع لمعنى القول . الثاني : ) وَعَفَا عَنكُمْ ( أي : عن ذنوبكم فلا يؤاخذكم ، وقبول التوبة هو رفع الذنب كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( التوبة تمحو الحوبة والعفو تعفية أثر الذنب ) فهما راجعان إلى معنى واحد ، وعاقب بينهما للمبالغة ، وقيل : المعنى ، سهل عليكم أمر النساء فيما يؤتنف ، أي : ترك لكم التحريم ، كما تقول : هذا شيء معفو عنه ، أي : متروك ، ويقال : أعطاه عفواً أي سهلاً لم يكلفه إلى سؤال ، وجرى الفرس شأوين عفواً ، أي : من ذاته غير إزعاج واستدعاء بضرب بسوط ، أو نخس بمهماز .
( فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ ( تقدم الكلام على ، الآن ، في قوله : ) قَالُواْ الئَانَ جِئْتَ بِالْحَقّ ( أي : فهذا الزمان ، أي : ليلة الصيام باشروهن ، وهذا أمر يراد به الإباحة لكونه ورد بعد النهي ، ولأن الإجماع انعقد عليه ، والمباشرة في قول الجمهور : الجماع ، وقيل : الجماع فما دونه ، وهو مشتق من تلاصق البشرتين ، فيدخل فيه المعانقة والملامسة . وإن قلنا : المراد به هنا الجماع ، لقوله : الرفث ، ولسبب النزول ، فإباحته تتضمن إباحة ما دونه .
( وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ( أي : اطلبوا ، وفي تفسير : ما كتب الله ، أقوال .
أحدهما : أنه الولد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، والحكم بن عتيبة : لما أبيحت لهم المباشرة أمروا بطلب ما قسم الله لهم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد ، وكأنه أبيح لهم ذلك لا لقضاء الشهوة فقط ، لكن لابتغاء ما شرع الله النكاح له

" صفحة رقم 57 "
من التناسل : ( تناكحوا تناسلوا فإني مكاثرٌ بكم الآمم يوم القيامة ) .
الثاني : هو محل الوطء أي : ابتغوا المحل المباح الوطء فيه دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم لقوله : ) فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ).
الثالث : هو ما أباحه بعد الحظر ، أي : ابتغوا الرخصة والإباحة ، قاله قتادة : وابن زيد .
الرابع : وابتغوا ليلة القدر ، قاله معاذ بن جبل ، وروي عن ابن عباس . قال الزمخشري : وهو قريب من بدع التفاسير .
الخامس : هو القرآن ، قاله ابن عباس ، والزجاج . أي : ابتغوا ما أبيح لكم وأمرتم به ، ويرجحه قراءة الحسن ، ومعاوية بن قرة : واتبعوا من الاتباع ، ورويت أيضاً عن ابن عباس .
السادس : هو الأحوال والأوقات التي أبيح لكم المباشرة فيهنّ ، لأن المباشرة تمتنع في زمن الحيض والنفاس والعدة والردّة .
السابع : هو الزوجة والمملوكة كما في قوله تعالى : ) إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ).
الثامن : إن ذاك نهي عن العزل لأنه في الحرائر .
وكتب هنا بمعنى : جعل ، كقوله : ) كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( أو بمعنى : قضى ، أو : بمعنى : أثبت في اللوح المحفوظ ، أو : في القرآن .
والظاهر أن هذه الجملة تأكيد لما قبلها ، والمعنى ، والله أعلم ابتغوا وافعلوا ما أذن الله لكم في فعله من غشيان النساء في جميع ليلة الصيام ، ويرجح هذا قراءة الأعم 5 : وأتوا ما كتب الله لكم . وهي قراءة شاذة لمخالفتها سواد المصحف .
( وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( أمر إباحة أيضاً أبيح لهم ثلاثة ، الأشياء التي كانت محرمة عليهم في بعض ليلة الصيام ) حَتَّى يَتَبَيَّنَ ( غاية الثلاثة الأشياء من : الجماع ، والأكل ، والشرب . وقد تقدم في سبب النزول قصة صرمة بنت قيس ، فإحلال الجماع بسبب عمر وغيره ، وإحلال الأكل بسبب صرمة أو غيره ) لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ ( ظاهره أنه الخيط المعهود ، ولذلك كان جماعة من الصحابة إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله خيطاً أبيض وخيطاً أسود ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له ، إلى أن نزل قوله تعالى : ) مِنَ الْفَجْرِ ( فعلموا أنما عنى بذلك من الليل والنهار .
روي ذلك سهل بن سعد في نزول هذه الآية ، وروي أنه كان بين نزول : ) وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ ( وبين نزول ) مِنَ الْفَجْرِ ( سنة من رمضان إلى رمضان .
قال الزمخشري : ومن لا يجوز تأخير البيان وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم ، فلم يصح عندهم هذا الحديث لمعنى حديث سهل بن سعد وأما من يجوّزه فيقول : ليس بعبث ، لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ، ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به . انتهى كلامه . وليس هذا عندي من تأخير البيان إلى وقت الحاجة ، بل هو من باب النسخ ، ألا ترى أن الصحابة عملت به ، أعنى بإجراء اللفظ على ظاهره إلى أن نزلت : من الفجر ، فنسخ حمل الخيط الأبيض والخيط الأسود على ظاهرهما ، وصارا ذلك مجازين ، شبه بالخيط الأبيض ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق ، وبالأسود ما يمتد معه من غبش الليل ، شبهاً بخيطين أبيض وأسود ، وأخرجه من الاستعارة إلى التشبيه قوله : من الفجر ، كقولك : رأيت أسداً من زيد ، فلو لم يذكر من زيد كان استعارة ، وكان التشبيه هنا أبلغ من الاستعارة ، لأن الاستعارة لا تكون إلاَّ حيث يدل عليها الحال ، أو الكلام وهنا ، لو لم يأت : من الفجر ، لم يعلم الإستعارة ، ولذلك فهم الصحابة الحقيقة من الخيطين قبل نزول من الفجر ، حتى إن بعضهم ، وهو عدي بن حاتم . غفل عن هذا التشبيه وعن بيان قوله : من الفجر ، فحمل الخيطين على الحقيقة . وحكي ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فضحك وقال : ( إن كان وسادك لعريضاً ) وروي : ( إنك لعريض القفاء ) . إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل ، والقفا العريض يستدل

" صفحة رقم 58 "
به على قلة فطنة الرجل ، وقال : عريض القفا ميزانه عن شماله
قد أنحصَّ من حسب القراريط شاربه وكل ما دق واستطال وأشبه الخيط سمته العرب خيطاً .
وقال الزجاج : هما فجران : أحدهما يبدو سواداً معترضاً ، وهو الخيط الأسود ؛ والأخر يطلع ساطعاً يملأ الأفق ، فعنده الخيطان : هما الفجران ، سميا بذلك لامتدادهما تشبيهاً بالخيطين . وقوله : من الفجر ، يدل على أنه أريد بالخيط الأبيض الصبح الصادق ، وهو البياض المستطير في الأفق ، لا الصبح الكاذب ، وهو البياض المستطيل ، لأن الفجر هو انفجار النور ، وهو بالثاني لا بالأوّل ، وشبه بالخيط وذلك بأول حاله ، لأنه يبدو دقيقاً ثم يرتفع مستطيراً ، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك . هذا مذهب الجمهور ، وبه أخذ الناس ومضت عليه الأعصار والأمصار ، وهو مقتضى حديث ابن مسعود ، وسمرة بن جندب .
وقيل : يجب الإمساك بتبين الفجر في الطرق ، وعلى رؤوس الجبال ، وهاذ مروي عن عثمان ، وحذيفة وابن عباس ، وطلق بن علي ، وعطاء ، والأعمش ، وغيرهم .
وروي عن علي أنه صلى الصبح بالناس ثم قال : الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس إلى غروبها ، وقد تقدم ذكر الخلاف في النهار ، وفي تعيينه إباحة المباشرة والأكل والشرب بتبين الفجر للصائم دلالة على أن من شك في التبين وفعل شيئاً من هذه ، ثم انكشف أنه كان الفجر قد طلع وصام ، أنه لا قضاء لأنه غياه بتبين الفجر للصائم لا بالطلوع .
وروي عن ابن عباس أنه بعث رجلين ينظران له الفجر ، فقال أحدهما : طلع الفجر ، وقال الآخر : لم يطلع . فقال اختلفتما ، فأكل وبان لا قضاء عليه .
قال الثوري ، وعبيد الله بن الحسن ، والشافعي ، وقال مالك : إن أكل شاكّاً في الفجر لزمه القضاء ، والقولان عن أبي حنيفة .
وفي هذه التغيئة أيضاً دلالة على جواز المباشرة إلى التبين ، فلا يجب عليه الاغتسال قبل الفجر لأنه إذا كانت المباشرة مأذوناً فيها إلى الفجر لم يمكنه الاغتسال إلا بعد الفجر ، وبهذا يبطل مذهب أبي هريرة . والحسن يرى : أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال إلا بعد الفجر ، وبهذا يبطل مذهب أبي هريرة . والحسن يرى : أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال بطل صومه ، وقد روت عائشة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) كان يصبح جنباً من جماع وهو صائم ، وهذه التغيئة إنما هي حيث يمكن التبين من طريق المشاهدة ، فلو كانت مقمرة أو مغيمة ، أو كان في موضع لا يشاهد مطلع الفجر ، فإنه مأمور بالاحتياط في دخول الفجر ، إذ لا سبيل له إلى العلم بحال الطلوع ، فيجب عليه الإمساك إلى التيقن بدخول وقت الطلوع استبراءً لدينه .
وذهب أبو مسلم أنه لا فطر إلا بهذه الثلاثة : المباشرة ، والأكل ، والشرب . وأما ما عداها من القيء ، والحقنة ، وغير ذلك ، فإنه كان على الإباحة ، فبقي عليهم .
وأما الفقهاء فقالوا : خصت هذه الثلاثة بالذكر لميل النفس إليها ، وأما القيء ، والحقنة ، فالنفس تكرههما ، والسعوط نادر ، فلهذا لم يذكرها .
ومن الأولى ، هي لابتداء الغاية ، قيل : وهي مع ما بعدها في موضع نصب ، لأن المعنى : حتى يباين الخيط الأبيض الخيط الأسود ، كما يقال : بانت اليد من زندها ، أي فارقته ، ومن ، الثانية للتبعيض ، لأن الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأوله ، ويتعلق أيضاً يتبين ، وجاز تعلق الحرفين بفعل واحد ، وقد اتحد اللفظ لاختلاف المعنى ، فَمِنْ الأولى هي لابتداء الغاية ، ومِنْ الثانية هي للتبعيض . ويجوز أن يكون للتبعيض للخيطين معاً ، على قول الزجاج ، لأن الفجر عنده فجران ، فيكون الفجر هنا لا يراد به الإفراد ، بل يكون جنساً

" صفحة رقم 59 "
قيل : ويجوز أن يكون من الفجر حالاً من الضمير في الأبيض ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف ، أي : كائناً من الفجر ، ومن أجاز أن تكون من للبيان أجاز ذلك هنا ، فكأنه قيل : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض الذي هو الفجر ، من الخيط الأسود ، واكتفى ببيان الخيط الأبيض عن بيان الخيط الأسود ، لأن بيان أحديهما بيان للثاني ، وكان الاكتفاء به أولى ، لأن المقصود بالتبين ، والمنوط بتبيينه : الحكم من إباحة المباشرة ، والأكل ، والشرب . ولقلق اللفظ لو صرح به ، إذ كان : يكون حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر من الليل ، فيكون من الفجر بياناً للخيط الأبيض ، ومن الليل بياناً للخيط الأسود . ولكون : من الخيط الأسود ، جاء فضلة فناسب حذف بيانه .
( ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ( : تقدم ذكر وجوب الصوم ، فلذلك ، لم يؤمر به هنا ، ولم يتقدّم ذكر غايته ، فذكرت هنا الغاية ، وهو قوله : ) أُحِلَّ لَكُمْ ( والغاية تأتي إذا كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها ، لم يدخل في حكم ما قبلها ، و : الليل ، ليس من جنس النهار ، فلا يدخل في حكمه ، لكن من ضرورة تحقق علم انقضاء النهار دخول جزء ما من الليل .
قال ابن عباس : أهل الكتاب يفطرون من العشاء إلى العشاء ، فأمر الله تعالى بالخلاف لهم ، وبالإفطار عند غروب الشمس .
والأمر بالإتمام هنا للوجوب ، لأن الصوم واجب ، فإتمامه واجب ، بخلاف : المباشرة ، والأكل ، والشرب ، فإن ذلك مباح في الأصل ، فكان الأمر بها الإباحة .
وقال الراغب : فيه دليل على جواز النية بالنهار ، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر ، وعلى نفي صوم الوصال . انتهى .
أما كون الآية تدل على جواز النية بالنهار فليس بظاهر ، لأن المأمور به إتمام الصوم لا إنشاء الصوم ، بل في ذلك إشعار بصوم سابق أمرنا بإتمامه ، فلا تعرض في الآية للنية بالنهار .
وأما جواز تأخير الغسل إلى الفجر فليس بظاهر من هذه الآية أيضاً ، بل من الكلام الذي قبلها .
وأما الدلالة على نفي صوم الوصال ، فليس بظاهر ، لأنه غياً وجوب إتمام الصوم بدخول الليل فقط ، ولا منافاة بين هذا وبين الوصال ، وصح في الحديث النهي عن الوصال ، فحمل بعضهم النهي فيه على التحريم ، وبعضهم على الكراهة . وقد روي الوصال عن جماعة من الصحابة والتعابعين ، كعبد الله بن الزبير ، وإبراهيم التيمي ، وأبي الحوراء ، ورخص بعضهم فيه إلى السحر ، منهم : أحمد ، وإسحاق ، وابن وهب .
وظاهر الآية وجوب الإتمام إلى الليل فلو ظن أن الشمس غربت فأفطر ثم طلعت الشمس فهذا ما أتم إلى الليل فيلزمه القضاء ولا كفارة عليه ، وهو قول الجمهور ، وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم ؛ وقال إسحاق وأهل الظاهر : لا قضاء عليه كالناسي ؛ وروي ذلك عن عمر ، وقال مالك : من أفطر شاكاً في الغروب قضى وكفر ؛ وفي ثمانية أبي زيد : عليه القضاء فقط قياساً على الشاك في الفجر ، فلو قطع الإتمام متعمد الجماع ، فالإجماع على وجوب القضاء ، أو بأكل وشرب وما يجرى مجراهما فعليه القضاء عند الشافعي ، والقضاء والكفارة عند بقية العلماء ، أو ناسياً بجماع فكالمتعمد عند الجمهور وفي الكفارة خلاف عن الشافعي أو بأكل وشرب فهو على صومه عند أبي حنيفة والشافعي ، وعند مالك يلزمه القضاء ، ولو نوى الفطر بالنهار ولم يفعل ، بل رفع نية الصوم ، فهو على صومه عند الجمهور ، ولا يلزمه قضاء ، قال ابن حبيب ؛ وعند مالك في المدوّنة : أنه يفطر وعليه القضاء .
وظاهر الآية يقتضي أن الإتمام لا يجب إلاَّ على من تقدّم له الصوم ، فلو أصبح مفطراً من غير عذر لم يجب عليه الإمساك ، لأنه لم يسبق له صوم فيتمه ، قالوا : لكن السنة أوجبت عليه الإمساك ، وظاهر الآية يقتضي وجوب إتمام الصوم النفل على ما ذهبت إليه الحنيفة لأندراجه تحت عموم : وأتموا الصيام .
وقالت الشافعية : المراد منه صوم الفرض ، لأن ذلك إنما ورد لبيان أحكام الفرض . قال بعض أرباب الحقائق : لما علم تعالى أنه لا بد للعبد من الحظوظ ، قسم الليل والنهار في هذا الشهر بين حقه وحظك ، فقال في حقه ) وَأَتِمُّواْ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى ). وحظك : ) وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ).
) وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ( لما أباح لهم المباشرة في ليلة الصيام ، كانوا إذا كانوا معتكفين ودعت ضرورة أحدهم إلى الجماع خرج إلى امرأته فقضى ما في نفسه ثم اغتسل وأتى المسجد ، فنهوا عن ذلك في حال اعتكافهم داخل المسجد وخارجه وظاهر الآية وسياق المباشرة المذكورة قبل .
وسبب النزول أن المباشرة هي الجماع فقط ، وقال

" صفحة رقم 60 "
بذلك فرقة ، فالمنهي عنه الجماع ، وقال الجمهور : يقع هنا على الجماع وما يتلذذ به ، وانعقد الإجماع على أن هذا النهي نهي تحريم ، وأن الاعتكاف يبطل بالجماع . وأما دواعي النكاح : كالنظرة واللمس والقبلة بشهوة فيفسد به الاعتكاف عند مالك ، وقال أبو حنيفة : إن فعل فأنزل فسد ، وقال المزني عن الشافعي : إن فعل فسد ، وقال الشافعي ، أيضاً : لا يفسد من الوطء إلاَّ بما مثله من الأجنبية يوجب ، وصح في الحديث أن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو معتكف في المسجد ، ولا شك أنها كانت تمسه . قالوا : فدل على أن اللمس بغير شهوة غير محظور ، وإذا كانت المباشرة معنياً بها اللمس ، وكان قد نهى عنه فالجماع أحرى وأولى ، لأن فيه اللمس وزيادة ، وكانت المباشرة المعني بها اللمس مقيدة بالشهوة .
والعكوف في الشرع عبارة عن حبس النفس في مكان للعبادة والتقرب إلى الله ، وهو من الشرائع القديمة .
وقرأ قتادة : وأنتم عكفون ، بغير ألف ، والجملة في موضع الحال أي : لا تباشروهن في هذه الحالة ، وظاهر الآية يقتضي جواز الإعتكاف ، والإجماع على أنه ليس بواجب ، وثبت أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) اعتكف ، فهو سنة ، ولم تتعرض الآية لمطلوبيته ، فنذكر شرائطه ، وشرطه الصوم ، وهو مروي عن علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، ومالك ، والثوري والحسن بن صالح ؛ وروي عن عائشة أن الصوم من سنة المعتكف . وقال جماعة من التابعين ، منهم سعيد ، وإبراهيم : ليس الصوم شرطاً . وروي طاووس عن ابن عباس مثله ، وبه قال الشافعي .
وظاهر الآية أنه لا يشترط تحديد في الزمان ، بل كل ما يسمى لبثاً في زمن ما ، يسمى عكوفاً . وهو مذهب الشافعي . وقال مالك : لا يعتكف أقل من عشرة أيام ، هذا مشهور مذهبه ، وروي عنه : أن أقلّة يوم وليلة .
وظاهر إطلاق العكوف أيضاً يقتضي جواز اعتكاف الليل والنهار ، وأحدهما ، فعلى هذا ، لو نذر اعتكاف ليلة فقط صَحَّ ، أو يوم فقط صَحَّ ، وهو مذهب الشافعي وقال سحنون : لو نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه . وقال أبو حنيفة : لو نذر اعتكاف أيام لزمته بلياليها .
وفي الخروج من المعتكف ، والاشتغال فيه بغير العبادة المقصودة ، والدخول إليه ، وفي مبطلاته أحكام كثيرة ذكرت في كتب الفقة .
وظاهر قوله : عاكفون في المساجد ، أنه ليس من شرط الاعتكاف كونه في المساجد ، لأن النهي عن الشيء مقيد بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال ، إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطاً في وقوعها ، ونظير ذلك : لا تضرب زيداً وأنت راكب فرساً ولا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلاَّ فرساً ، فتبين من هذا أن الاستدلال بهذه الآية على اشتراط المسجد في الاعتكاف ضعيف ، فذكر : المساجد ، إنما هو لأن الاعتكاف غالباً لا يكون إلاَّ فيها ، لا أن ذلك شرط في الاعتكاف .
والظاهر من قوله : في المساجد ، أنه لا يختص الاعتكاف بمسجد ، بل كل مسجد هو محل للاعتكاف ، وبه قال أبو قلابة ، وابن عيينة ، والشافعي ، وداود الطبري ، وابن المنذر ، وهو أحد قولي مالك ، والقول الآخر : أنه لا اعتكاف إلاَّ في مسجد يجمع فيه ، وبه قال عبد الله ، وعائشة ، وإبراهيم ، وابن جبير ، وعروة وأبو جعفر .
وقال قوم : إنه لا اعتكاف إلاَّ في أحد المساجد الثلاثة وهو مروي عن عبد الله وحذيفة .
وقال قوم : لا اعتكاف إلاَّ في مسجد نبي ، وبه قال ابن المسيب ، وهو موافق لما قبله ، لأنها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
وروى الحارث عن عليّ : أنه لا اعتكاف إلاَّ في المسجد الحرام ، وفي مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وظاهر الآية يدل على جواز الاعتكاف للرجال ، وأما النساء فسكوت عنهن . وقال أبو حنيفة : تعتكف في مسجد بيتها لا في غيره ، وقال مالك : تعتكف في مسجد جماعة ولا يعجبه في بيتها . وقال الشافعي : حيث شاءت .
وقرأ مجاهد ، والأعمش : في المسجد ، على الإفراد ، وقال الأعمش : هو المسجد الحرام ، والظاهر أنه للجنس . ويرجع هذا

" صفحة رقم 61 "
قراءة من جمع فقرأ في المساجد .
وقال بعض الصوفية في قوله : ) وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ ( الآية . أخبر الله أن محل القربة مقدّس عن اجتلاب الحظوظ . انتهى .
( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ( تلك مبتدأ مخبر عنه بجمع فلا يجوز أن يكون إشارة إلى ما نهى عنه في الاعتكاف ، لأنه شيء واحد ، بل هو إشارة إلى ما تضمنته آية الصيام من أوّلها إلى هنا . وكانت آية الصيام قد تضمنت عدّة أوامر ، والأمر بالشيء نهي عن ضده ، فبهذا الاعتبار كانت عدة مناهي ، ثم جاء أخرها النهي عن المباشرة في حالة الاعتكاف ، فأطلق على الكل : حدود ، تغليباً للمنطوق به ، واعتباراً بتلك المناهي التي تضمنتها الأوامر . فقيل : حدود الله ، واحتيج إلى هذا التأويل ، لأن المأمور بفعله لا يقال فيه : فلا تقربوها ، وحدود الله : شروطه ، قاله السدّي . أو : فرائضه ، قاله شهر بن حوشب . أو : معاصيه ، قاله الضحاك . وقال معناه الزمخشري ، قال : محارمه ومناهيه ، أو الحواجز هي الإباحة والحظر قاله ابن عطية .
وإضافة الحدود إلى الله تعالى هنا ، وحيث ذكرت ، تدل على المبالغة في عدم الالتباس بها ، ولم تأت منكرة ولا معرّفة بالالف واللام لهذا المعنى .
( فَلاَ تَقْرَبُوهَا ( النهي عن القربان للحدود أبلغ من النهي عن الالتباس بها ، وهذا كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إن لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) . والرتع حول الحمى وقربانه واحد ، وجاء هنا : فلا تقربوها ، وفي مكان آخر : ) فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ ( وقوله : ) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ( ، لأنه غلب هنا جهة النهي ، اذ هو المعقب بقوله : تلك حدود الله ، وما كان منهياً عن فعله كان النهي عن قربانه أبلغ ، وأما حيث جاء : فلا تعتدوها ، فجاء عقب بيان عدد الطلاق ، وذكر أحكام العدة والإيلاء والحيض ، فناسب أن ينهي عن التعدي فيها ، وهو مجاوزة الحد الذي حده الله فيها ، وكذلك قوله تعالى : ) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ( جاء بعد أحكام المواريث ، وذكر أنصباء الوارث ، والنظر في أموال الأيتام ، وبيان عدد ما يحل من الزوجات ، فناسب أن يذكر عقيب هذا كله التعدي الذي هو مجاوزة ما شرعه الله من هذه الأحكام إلى ما لم يشرعه . وجاء قوله : تلك حدود الله ، عقيب قوله : ) وَصِيَّةً مّنَ اللَّهِ ( ثم وعد من أطاع بالجنة ، وأوعد من عصا وتعدى حدوده بالنار ، فكل نهي من القربان والتعدي واقع في مكان مناسبته .
وقال أبو مسلم معنى : لا تقربوها : لا تتعرّضوا لها بالتغيير ، كقوله : ) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ).
) كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ ( أي : مثل ذلك البيان الذي سبق ذكره في ذكر أحكام الصوم وما يتعلق به في الألفاظ اليسيرة البليغة يبين آياته الدالة على بقية مشروعاته ، وقال أبو مسلم : المراد بالآيات : الفرائض التي بينها ، كأنه قال كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما أنزل . إنتهى كلامه . وهذا لا يتأتى إلاّ على اعتقاد أن تكون الكاف زائدة وأما إن كانت للتشبيه فلا بد من مشبه ومشبه به .
( لِلنَّاسِ ( : ظاهره العموم وقال ابن عطية : معناه خصوص فيمن يسره الله للهدى ، بدلالة الآيات التي يتضمن ) إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء ( انتهى كلامه ولا حاجة إلى دعوى الخصوص ، بل الله تعالى يبين آياته للناس ويوضحها لهم ، ويكسيها لهم حتى تصير جلية واضحة ، ولا يلزم من تبينها تبين الناس لها ، لأنك تقول : بينت له فما بين ، كما تقول : علمته فما تعلم .
ونظر ابن عطية إلى أن معنى يبين ، يجعل فيهم البيان ، فلذلك ادّعى أن المعنى على الخصوص ، لأن الله تعالى كما جعل في قوم الهدى ، جعل في قوم الضلال ، فعلى هذا المفهوم يلزم أن يرد الخصوص على ما قررناه يبقى على دلالته الوضعية من العموم ، وعلى تفسيرنا التبيين يكون ذلك إجماعاً منا ومن المعتزلة ، وعلى تفسيره ينازع فيه المعتزلين .
( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( قد تقدم أنه حيث ذكر التقوى فإنه يكون عقب أمر فيه مشقة ، وكذلك جاء هنا لأن منع الإنسان من أمر

" صفحة رقم 62 "
مشتهى بالطبع اشتهاءً عظيماً بحيث هو ألذ ما للإنسان من الملاذ الجسمانية شاق عليه ذلك ولا يحجزه عن معاطاته إلاّ التقوى ، فلذلك ختمت هذه الآية بها أي : هم على رجاء من حصول التقوى لهم بالبيان الذي بين الله لهم .
البقرة : ( 188 ) ولا تأكلوا أموالكم . . . . .
( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( قال مقاتل : نزلت في امرىء القيس بن عابس الكندي ، وفي عدان بن أشوع الحضرمي اختصما إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في أرض ، وكان امرؤ القيس المطلوب ، وعد أن الطالب ، فأراد امرؤ القيس أن يحلف ، فنزلت ، فحكم عدان في أرضه ولم يخاصمه .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام فحبس نفسه عما تعوّده من الأكل والشرب والمباشرة بالنهار ، ثم حبس نفسه بالتقييد في مكان تعبد الله تعالى صائماً له ، ممنوعاً من اللذة الكبرى بالليل والنهار جدير أن لا يكون مطعمه ومشربه إلاّ من الحلال الخالص الذي ينور القلب ، ويزيده بصيرة ، ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة ، فلذلك نهى عن أكل الحرام المفضي به إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه ، وتخلل أيضاً بين آيات الصيام آية إجابة سؤال الداعي ، وسؤال العباد الله تعالى ، وقد جاء في الحديث : ( إن من كان مطعمه حراماً ، وملبسه حراماً ، ومشربه حراماً ، ثم سأل الله أنَّى يستجاب له . فناسب أيضاً النهي عن أكل المال الحرام .
ويجوز أن تكون المناسبة : أنه لما أوجب عليهم الصوم ، كما أوجبه على من كان من قبلهم ، ثم خالف بين أهل الكتاب وبينهم ، فأحل لهم الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم ، أمرهم أن لا يوافقوهم في أكل الرشاء من ملوكهم وسفلتهم وما يتعاطونه من الربا ، وما يستبيحونه من الأموال بالباطل ، كما قال تعالى : ) وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا ( ) لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( ) أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ( وأن يكونوا مخالفيهم قولاً ، وفعلاً ، وصوماً ، وفطراً ، وكسباً ، واعتقاداً ، ولذلك ورد لما ندب إلى السحور : ( خالفوا اليهود ) وكذلك أمرهم في الحيض مخالفتهم إذ عزم الصحابة على اعتزال الحيض ، إذ نزل ) فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ( لاعتزال اليهود ، بأن لا يؤاكلوهنّ ، ولا يناموا معهنّ في بيت . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( افعلوا كل شيء إلا النكاح ) . فقالت اليهود : ما يريد هذا الرجل أن يترك من أمرنا شيئاً إلاّ خالفنا فيه .
والمفهوم من قوله تعالى : ولا تأكلوا ، الأكل المعروف ، لأنه الحقيقة . وذكره دون سائر وجوه الإعتداء والإستيلاء ، لأنه أهم الحوائج ، وبه يقع إتلاف أكثر الأموال . ويجوز أن يكون الأكل هنا مجازاً عبر به عن الأخذ والإستيلاء ، وهذا الخطاب والنهي للمؤمنين ، وإضافة الأموال إلى المخاطبين . والمعنى : ولا يأكل بعضكم مال بعض ، كقوله : ) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( أي : لا يقتل بعضكم بعضاً ، فالضمير الذي للخطاب يصح لكل واحد ممن تحتمه أن يكون منهياً ومنهياً عنه ، وآكلاً ومأكولاً منه ، فخلط الضمير لهذه الصلاحية ، وكما يحرم أن يأكل يحرم أن يؤكل غيره ، فليست الإضافة إذ ذاك للمالكين حقيقة ، بل هي من باب الإضافة بالملابسة . وأجاز قوم الإضافة للمالكين ، وفسروا الباطل بالملاهي والقيان والشرب ، والبطالة بينكم معناه في معاملاتكم وأماناتكم ، لقوله : تريدونها بينكم بالباطل : وقال الزجاج بالظلم ، وقال غيره بالجهة التي لا تكون مشروعة فيدخل في ذلك الغضب ، والنهب ، والقمار ، وحلوان الكاهن ، والخيانة ، والرشاء ، وما يأخذه المنجمون ، وكل ما لم يأذن في أخذه الشرع .
وقال ابن عباس : هذا في

" صفحة رقم 63 "
الرجل يكون عليه مال ولا بينة عليه ، فيجحد المال ويخاصم صاحبه . وهو يعلم أنه آثم ؛ وقال عكرمة : هو الرجل يشتري السلعة فيردّها ويردّ معها دراهم ، وقال ابن عباس ، أيضاً : هو أخذ المال بشهادة الزور ، قال ابن عطية : ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع ، لأن الغبن كأنه وهبة . انتهى . وهو صحيح .
والناصب للظرف : تأكلوا ، والبينية مجاز إذ موضوعها أنها ظرف مكان ، ثم تجوز فيها فاستعملت في أشخاص ، ثم بين المعاني . وفي قوله : بينكم ، يقع لما هم يتعاطونه من ذلك ، لأن ما كان يطلع فيه بعضهم على بعض من المنكر أشنع مما لا يطلع فيه بعضهم على بعض ، وهذا يرجح القول الأول بأن الإضافة ليست للمالكين إذ لو كانت كذلك لما احتيج هذا الظرف الدال على التخلل والاطلاع على ما يتعاطى من ذلك ، وقيل : انتصاب : بينكم ، على الحال من : أموالكم ، فيتعلق بمحذوف أي : كائنة بينكم ، وهو ضعيف ، والباء في : بالباطل ، للسبب وهي تتعلق : بتأكلوا ، وجوزوا أن تكون بالباطل ، حالاً من الأموال ، وأن تكون حالاً من الفاعل .
( وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ( هو مجزوم بالعطف على النهي ، أي ولا تدلوا بها إلى الحكام ، وكذا هي في مصحف أبيّ ، ولا تدلوا بإظهار لا الناهية . والظاهر ، أن الضمير في : بها ، عائد على الأموال ، فنهوا عن أمرين : أحدهما : أخذ المال بالباطل ، والثاني : صرفه لأخذه بالباطل ، وأجاز الأخفش وغيره أن يكون منصوباً على جواز النهي بإضمار إن وجوزه الزمخشري ، وحكى ابن عطية أنه قيل : تدلوا ، في موضع نصب على الظرف ، قال : وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب ، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه أن مضمرة انتهى .
ولم يقم دليل قاطع من لسان العرب على أن الظرف ينصب فتقول به ، وأما إعراب الأخفش هنا أن هذا منصوب على جواب النهي ، وتجويز الزمخشري ذلك هنا ، فتلك مسألة : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، بالنصب .
قال النحويون : إذا نصبت كان الكلام نهياً عن الجمع بينهما ، وهذا المعنى لا يصح في الآية لوجهين :
أحدهما : أن النهي عن الجمع لا يستلزم النهي عن كل واحد منهما على انفراده ، والنهي عن كل واحد منهما يستلزم النهي عن الجمع بينهما ، لأن في الجمع بينهما حصول كل واحد منهما عنه ضرورة ، ألا ترى أن أكل المال بالباطل حرام سواء أفرد أم جمع مع غيره من المحرمات ؟ .
والثاني : وهو أقوى ، إن قوله لتأكلوا علة لما قبلها ، فلو كان النهي عن الجمع لم تصلح العلة له ، لأنه مركب من شيئين لا تصلح العلة أن يترتب على وجودهما ، بل إنما يترتب على وجود أحدهما ، وهو : الإدلاء بالأموال إلى الحكام . والإدلاء هنا قيل : معناه الإسراع بالخصومة في الأموال إلى الحكام ، إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم . إما بأن لا يكون على الجاحد بينة أو يكونن المال أمانة : كمال اليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قول المدّعي عليه ، والباء على هذا القول للسبب ، وقيل : معناه لا ترشوا بالأموال الحكام ليقضوا لكم بأكثر منها . قال ابن عطية : وهذا القول يترجح ، لأن الحاكم مظنة الرشاء إلا من عصم ، وهو الأقل ، وأيضاً : فإن اللفظتين متناسبتان تدلوا ، من إرسال الدلو ، والرشوة من الرشاء ، كأنها يمدّ بها لتقضي الحاجة . انتهى كلامه . وهو حسن .
وقيل : المعنى لا تجنحوا بها إلى الحكام من قولهم : أدلى فلان بحجته ، قام بها ، وهو راجع لمعنى القول الأوّل ، والضمير في : عائد على الأموال ، كما قررناه ، وأبعد من ذهب إلى أنه يعود على شهادة الزور ، أي : لا تدلوا بشهادة الزور إلى الحكام ، فيحتمل على هذا القول : أن

" صفحة رقم 64 "
يكون الذين نهوا عن الإدلاء هم الشهود ، ويكون الفريق من المال ما أخذوه على شهادة الزور ، ويحتمل أن يكون الذين نهوا هم المشهود لهم ، ويكون الفريق من المال هو الذي يأخذونه من أموال الناس ، بسبب شهادة أولئك الشهور .
( لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا ( أي : قطعة وطائفة ) مّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ ( قيل . هي أموال الأيتام ، وقيل : هي الودائع . والأوْلى العموم ، وأن ذلك عبارة عن أخذ كل مال يتوصل إليه في الحكومة بغير حق ، و : من أموال الناس ، في موضع الصفة أي : فريقاً كائناً من أموال الناس . ) بِالإثْمِ ( متعلق بقوله : لتأكلوا ، وفسر بالحكم بشهادة الزور ، وقيل : بالرشوة ، وقيل : بالحلف الكاذب ، وقيل : بالصلح ، مع العلم بأن المقضي له ظالم ، والأحسن العموم ، فكل ما أخذ به المال وماله إلى الإثم فهو إثم ، والاصل في الإثم التقصير في الأمر قال الشاعر : جمالية تعتلى بالرداف
إذا كذب الآثمات الهجيرا
أي : المقصرات ، ثم جعل التقصير في أمر الله تعالى والذنب إثماً .
والباء في : بالإثم للسبب ، ويحتمل أن تكون للحال أي : متلبسين بالإثم ، وهو الذنب ، ( وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( جملة حالية أي : أنكم مبطلون آثمون ، وما أعدّ لكم من الجزاء على ذلك ، وهذه مبالغة في الإقدام على المعصية مع العلم بها ، وخصوصاً حقوق العباد . وفي الحديث : ( فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئاً ، فإن ما أقضي له قطعة من نار ) .
وظاهر الحديث والآية تحريم ما أخذ من مال الناس بالإثم ، وأن حكم الحاكم لا يبيح للخصم ما يعلم أنه حرام عليه ، وهذا في الأموال باتفاق ، وأما في العقود والفسوخ فاختلفوا في قضاء القاضي في الظاهر ، ويكون الباطن خلافه بعقد أو فسخ عقد بشهادة زور ، والمحكوم له يعلم بذلك .
فقال أبو حنيفة : هو نافذ ، وهو كالإنشاء وإن كانوا شهود زور .
وقال الجمهور : ينفذ ظاهراً ولا ينفذ باطناً .
وفي قوله : ) وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( دلالة على أن من لم يعلم أنه آثم ، وحكم له الحاكم بأخذ مال ، فإنه يجوز له أخذه ، كأن يلقى لأبيه ديناً وأقام البينة على ذلك الدين ، فحكم له به الحاكم ، فيجوز له أخذه وإن كان لا يعلم صحة ذلك ، إذ من الجائز أن أباه وهبه ، أو أن المدين قضاه ، أو أنه مكره في الإقرار ، لكنه غير عالم به بأنه مبطل فيما يأخذه . والأصل عدم براءة المقرّ ، وعدم إكراهه ، فيجوز له أن يأخذه .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء المؤمنين تقريباً لهم ، وتحريكاً لما يلقيه إليهم من وجوب الصيام ، وأنه كتبه علينا كما كتب على من قبلنا تأسياً في هذا التكليف الشاقّ بمن قبلنا ، فليس مخصوصاً بنا ، وأن ذلك كان لرجاء تقوانا له تعالى ، ثم إنه قلل هذا التكليف بأن جعله : أيّاماً معدودات أول يحصرها العدّ من قلتها ، ثم خفف عن المريض والمسافر بجواز الفطر في أيام مرضه وسفره ، وأوجب عليه قضاء عدتهاغ إذا صح وأقام ، ثم ذكر أن من أطلق الصوم وأراد الفطر فأفطر فإنه يفدى باطعام مساكين ، ثم ذكر أن التطوّع بالخير ، هو خير ، وإن الصوم أفضل من الفطر ، والفداء ، ثم نسخ ذلك الحكم من صيام الأيام القلائل بوجوب صوم رمضان ، وهكذا جرت العادة في التكاليف الشرعية يبتدأ فيها أولاً بالأخف فالأخف ، . ينتهي إلى الحدّ الذي هو الغاية المطلوبة في الشريعة ، فيستقرّ الحكم .
ونبه على فضيلة هذا الشهر المفروض بأنه الشهر الذي أنزل فيه الوحي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأمر تعالى من كان شهده أن يصومه ، وعذر من كان مريضاً أو مسافراً ، فذكر أن عليه صوم عدة ما أفطر إذا صح وأقامه كحاله حين كلفه صوم تلك الأيام ، ثم نبه تعالى على أن التخفيف عن المريض والمسافر هو لإرادته تعالى بالمكلفين التسير .
ثم ذكر أن مشروعية صوم الشهر ، وإباحة الفطر للمريض والمسافر وإرادة اليسر بنا هو لتكميل العدة ، ولتعظيم الله ، ولرجاء الشكر ، فقابل كل مشروع بما يناسبه ، ثم لما ذكر تعالى تعظيم العباد لربهم والثناء عليه منهم ، ذكر قربه بالمكانة ، فإذا سألوه أجابهم ، ولا تتأخر إجابته تعالى عنده عن وقت دعائه ، ثم طلب منهم الإستجابة له إذا دعاهم كما هو يجيبهم إذا

" صفحة رقم 65 "
دعوه ، ثم أمرهم بالديمومة على الإيمان ، لأنه أصل العبادات وبصحته تصح ، ثم ذكر رجاء حصول الرشاد لهم إذا استجابوا له وآمنوا به ، ثم امتنّ عليهم تعالى بإحلال ما كانوا ممنوعين منه ، وهو النكاح في سائر الليالي المصوم أيامها ، ثم نبه على العلة في ذلك بأنهن مثل اللباس لكم فأنتم لا تستغنون عنهن ، ثم لما وقع بعضهم في شيء من المخالفة تاب الله عليهم وعفا عنهم ، ثم إنه تعالى ما اكتفى بذكر الإخبار بالتحليل حتى أباح ذلك بصيغة الأمر فقال : ) فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ ( ، وكذلك الأكل والشرب ، وغيا ثلاثتهن بتبيين الفجر ، ثم أمرهم أمر وجوب بإتمام الصيام إلى الليل . ولما كان إحلال النكاح في سائر ليالي الصوم ، وكان من أحوال الصائم الاعتكاف ، وكانت مباشرة النساء في الاعتكاف حراماً نبه على ذلك بقوله : ) وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ).
ثم أشار إلى الحواجز وهي : الحدود ، وأضافها إليه ليعلم أن الذي حدّها هو الله تعالى ، فنهاهم عن قربانها ، فضلاً عن الوقوع فيها مبالغة في التباعد عنها ، ثم أخبر أنه يبين الآيات ويوضحها وهي سائر الأدلة والعلامات الدالة على شرائع الله تعالى مثل هذا البيان الواضح في الأحكام السابقة ليكونوا على رجاء من تقوى الله المفضية بصاحبها إلى طاعة الله تعالى ، ثم نهاهم عن أن يأكل بعضهم مال بعض بالباطل ، وهي الطريق التي لم يبح الله الاكتساب بها ، ونهاكم أيضاً عن رشاء حكام السوء ليأخذوا بذلك شيئاً من الأموال التي لا يستحقونها ، وقيد النهي والأخذ بقيد العلم بما يرتكبونه تقبيحاً لهم ، وتوبيخاً لهم ، لأن من فعل المعصية وهو عالم بها وبما يترتب عليها من الجزاء السيء كان أقبح في حقه وأشنع ممن يأتي في المعصية وهو جاهل فيها . وبما يترتب عليها .
ولما كان افتتاح هذه الآية الكريمة بالأمر المحتم بالصيام وكان من العبادات الجليلة التي أمر فيها باجتناب المحرمات ، حتى إنه جاء في الحديث : ( فإن امرؤ سبه ، فليقل : إني صائم ) . وجاء عن الله تعالى : ( الصوم لي وأنا أجزى به ) ، وكان من أعظم ممنوعاته وأكبرها الأكل فيه ، اختتم هذه الآيات بالنهي عن أكل الأموال بالباطل ، ليكون ما يفطر عليه الصائم من الحلال الذي لا شبهة فيه ، فيرجى أن يتقبل عمله وأن لا يكون من ( الصائمين الذين ليس لهم من صومهم إلا الجوع والعطش ) . فافتتحت هذه الآيات بواجب مأمور به ، واختتمت بمحرم منهي عنه ، وتخلل بين الابتداء والانتهاء أيضاً أمر ونهي ، وكل ذلك تكاليف من الله تعالى بامتثال ما أمر به ، واجتناب ما نهى تعالى عنه ، أعاننا الله عليها .
2 ( ) يَسْألُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَالِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن

" صفحة رقم 66 "
الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( )
البقرة : ( 189 ) يسألونك عن الأهلة . . . . .
الاهِلَّةِ ( : جمع هلال ، وهو مقيس في فعال المضعف ، نحو : عنان وأعنة ، وشذ فيه فعل قالوا : عنن في : عنان ، وحجج في حجاج .
والهلال ، ذكر صاحب ( كتاب شجر الدر ) في اللغة : أنه مشترك بين هلال السماء وحديدة كالهلال بيد الصائد يعرقب بها الحمار الوحشي ، وذؤابة النعل ، وقطعة من الغبار ، وما أطاق من اللحم بظفر الأصبع ، وقطعة من رحى ، وسلخ الحية ، ومقاولة الأجير على الشهور ، والمباراة في رقة النسج ، والمباراة في التهليل . وجمع هلة وهي المفرجة ، والثعبان ، وبقية الماء في الحوض . انتهى ما ذكره ملخصاً .
ويسمي الذي في السماء هلالاً لليلتين ، وقيل : لثلاث . وقال أبو الهيثم : لليلتين من أوله وليلتين من آخره . وما بين ذلك يسمى قمراً . وقال الأصمعي : يسمي هلال إلى أن يحجر ، وتحجيره أن يستدير له كالخيط الرقيق ، وقيل : يسمى بذلك إلى أن يبهر ضوءه سواد الليل ، وذلك إنما يكون في سبع . قالوا : وسمي هلالاً لارتفاع الأصوات عند رؤيته من قولهم : استهل الصبي ، والإهلال بالحج ، وهو رفع الصوت بالتلبية ، أو من رفع الصوت بالتهليل عند رؤيته .
وقد يطلق الهلال على الشهر كما يطلق الشهر على الهلال ، ويقال : أهل الهلال ، واستهل وأهللنا واستهللناه ، هذا قول عامة أهل اللغة . وقال شمر : يقال استهل الهلال أيضاً يعني مبنياً للفاعل وهو الهلال ، وشهر مستهل وأنشد : وشهر مستهل بعد شهر
وحول بعده حول جديد
ويقال أيضاً : استهل : بمعنى تبين ، ولا يقال أهلّ ، ويقال أهللنا عن ليلة كذا ، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره : يقال أهل الهلال واستهل ، وأهللنا الهلال واستهللناه ، انتهى . وقد تقدّم لنا الكلام في مادة هلل ، ولكن أعدنا ذلك بخصوصية لفظ الهلال بالأشياء التي ذكرناها هنا .
( مَوَاقِيتُ ( : جمع ميقات بمعنى الوقت كالميعاد بمعنى الوعد ، وقال بعضهم : الميقات منتهى الوقت ، قال تعالى : ) فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ).
ثقف الشيء : إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة ، ومنه : رجل ثقف سريع الأخذ لأقرانه ، ومنه : فأما تثقفهم في الحرب وقول الشاعر : فأما تثقفوني فاقتلوني
فمن أثقف فليس إلى خلود

" صفحة رقم 67 "
وقال ابن عطية : ) ثَقِفْتُمُوهُمْ ( أحكمتم غلبتهم ، يقال : رجل ثقف لقف إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور . انتهى . ويقال : ثقف الشيء ثقافة إذا حذقه ، ومنه أخذت الثقافة بالسيف ، والثقافة أيضاً حديدة تكون للقوَّاس والرمَّاح يقوم بها المعوج ، وثقف الشيء : لزمه ، وهو ثقف إذا كان سريع العلم ، وثقفته : قوّمته ، ومنه الرماح المثقفة ، أي : المقومة وقال الشاعر : ذكرتك والخطِّيُّ يخطر بيننا
وقد نهلت منا المثقَّفَةُ السمرُ
يعنى الرماح المقومة .
( التَّهْلُكَةِ ). على وزن تفعلة ، مصدر لهلك ، وتفعلة مصدراً قليلٌ ، حكى سيبويه منه : التضرة والتسرة ، ومثله من الأعيان : التنصبة ، والنفلة ، يقال : هلك هلكاً وهلاكاً وتهلكةً وهلكاءً على وزن فعلاء ، ومفعل من هلك جاء بالضم والفتح والكسر ، وكذلك بالتاء ، هو مثلث حركات العين ، والضم في مهلك نادر ، والهلاك في ذي الروح : الموت ، وفي غيره : الفناء والنفاد .
وكون التهلكة مصدراً حكاه أبو علي عن أبي عبيدة ، وقلة غيره من النحويين قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما على أنها مصدر من هلك ، يعني المشدّد اللام ، فأبدلت من الكسرة ضمة ، كما جاء الجوار . انتهى كلامه .
وما ذهب إليه ليس بجيد ، لأن فيها حملاً على شاذ ، ودعوى إبدال لا دليل عليه ، أما الحمل على الشاذ فحمله على أن أصل تفعله ذات الضم ، على تفعله ذات الكسر ، وجعل تهلكة مصدراً لهلك المشدّد اللام ، وفعل الصحيح اللام غير المهموز قياس مصدره أن يأتي على تفعيل ، نحو : كسر تكسيراً ، ولا يأتي على تفعله ، إلا شاذاً ، فأَلاوْلى جعل تهلكة مصدراً ، إذ قد جاء ذلك نحو : التضرة . وأما تهلكة فالأحسن أيضاً أن يكون مصدراً لهلك المخفف اللام ، لأن بمعنى تهلكة بضم الللام ، وقد جاء في مصادر فعل : تفعلة قالوا : جل الرجل تجله ، أي جلالاً ، فلا يكون تهلكة إذ ذاك مصدراً لهلك المشدّد اللام ، وأما إبدال الضمة من الكسرة لغير علة ففي غاية الشذوذ ، وأما تمثيله بالجوار والجوار فلا يدعى فيه الإبدال ، بل يبني المصدر فيه على فعال بضم الفاء شذوذاً .
وزعم ثعلب أن التهلكة مصدر لا نظير له ، إذ ليس في المصادر غيره ، وليس قوله بصحيح ، إذ قد حكينا عن سيبويه أنه حكى التضرة والتسرّة مصدرين .
وقيل : التهلكة ما أمكن التحرز منه ، والهلاك ما لا يمكن التحرز منه ، وقيل التهلكة : الشيء المهلك ، والهلاك حدوث التلف ، وقيل : التهلكة كل ما تصير غايته إلى الهلاك .
( أُحْصِرْتُمْ ( قال يونس بن حبيب : أحصر الرجل رد عن وجه يريده ، قيل : حصر وأحصر لمعنى واح ، قاله الشيباني ، والزجاج ، وقاله ابن عطية عن الفراء ، وقال ابن ميادة : وما هجر ليلى أن يكون تباعدت
عليك ولا أن أحصرتك شغول

" صفحة رقم 68 "
وقيل : أحصر بالمرض ، وحصره العدوّ ، قاله يعقوب . وقال الزجاج أيضاً : الرواية عن أهل العلم في العلم الذي يمنعه الخوف والمرض : أحصر ، والمحبوس : حصر ، وقال أبو عبيدة والفراء أيضاً أحصر فهو محصَر ، فإن حبس في سجن أو دار قيل حُصِر فهو : محصور ، وقال ثعلب : أصل الحصر والإحصار : الحبس ، وحصر في الحبس أقوى من أحصر ، وقال ابن فارس في ( المجمل ) : حصر بالمرض ، وأحصر بالعدوّ . ويقال : حصره صدره أي : ضاق ، ورجل حصر : وهو الذي لا يبوح بسره ، قال جرير : ولقد تكنفني الوشاة فصادفوا
حَصِراً بسرِّك يا تميم ضنينا
والحصر : احتباس الغائط ، والحصير : الملك ، لأنه كالمحبوس بالحجاب . قال لبيد :
حتى لدى باب الحصير قيام
والحصير معروف : وهو سقيف من بردى سمي بذلك لانضمام بعضه إلى بعض ، كحبس الشيء مع غيره .
( الْهَدْىِ ( الهدي ما يهدي إلى بيت الله تعالى تقرباً إليه ، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره . يقال : أهديت إلى البيت الحرام هدياً وهديّاً بالتشديد ، والتخفيف ، فالتشديد جمع هديَّة ، كمطية ومطيّ ، والتخفيف جمع هديَة كجذية السرج ، وجذي . قال الفراء : لا واحد للهدي ، وقيل : التشديد لغة تميم ، ومنه قول زهير : فلم أر معشراً أسروا هديّا
ولم أر جار بيت يستباء
وقيل : الهديّ ، بالتشديد فعيل بمعنى مفعول ، وقيل : الهدي بالتخفيف مصدر في الأصل ، وهو بمعنى الهدي كالرهن ونحوه ، فيقع للأفراد والجمع . وفي اللغة ما أهدي من دراهم أو متاع أو نعم أو غير ذلك يسمى هدياً ، لكن الحقيقة الشرعية خصت الهدي بالنعم .
وقد وقع الخلاف فيما يسمى من النعم هدياً على ما سيأتي ذكره إن شاء الله .
الحلق : مصدر حلق يحلق إذا أزال الشعر بموسى أو غيره من محدّد ونورة ، والحلق مجرى الطعام بعد الفم .
الأذى : مصدر ، وهو بمعنى الألم ، تقول : آذاني زيد إيذاءً آلمني .
الصدقة : ما أعطى من مال بلا عوض تقرباً إلى الله تعالى .
النسك : قال ابن الأعرابي : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، ثم قيل للمتعبد : ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها ، كالنسيكة المخلصة من الدنس ، ثم قيل للذبيحة : نسك ، لأنها من أشرف العبادات التي تتقرب بها إلى الله تعالى ، وقيل : النسك مصدر نسك ينسك نَسكاً ونُسكاً ، كما تقول حلم الرجل ، حُلماً وحِلماً .
الأمن : زوال ما يحذر ، يقال : أمن يأمن أمناً وأمنة .
الثلاثة : عدد معروف ، ويقال منه : ثلثت القوم أثلثهم ، أي صيرتهم ثلاثة بي .
والثلاثون عدد معروف ، والثلث بضم اللام وتسكينها أحد أجزاء المنقسم إلى ثلاثة ، وثلث ممنوعاً من الصرف ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله .
العقاب : مصدر عاقب أي جازى المسيء على

" صفحة رقم 69 "
إساءته ، وهو مشتق من العاقبة ، كأنه يراد عاقبة فعله المسيء .
( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن الهلال ، وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والربيع ، وغيرهم . وروي أن من سأل هو معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنم الأنصاري ، قالا : يا رسول الله . ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ لا يكون على حالة واحدة ؟ فنزلت .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وهو أن ما قبلها من الآيات نزلت في الصيام ، وأن صيام رمضان مقرون برؤية الهلال ، وكذلك الإفطار في شهر شوال ، ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) .
أيضاً قد تقدّم كلام في شيء من أعمال الحج ، وهو : الطواف ، والحج أحد الأركان التي بني الإسلام عليها .
وكان قد مضى الكلام في توحيد الله تعالى ، وفي الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، فأتى بالكلام على الركن الخامس وهو : الحج ، ليكون قد كملت الأركان التي بني الإسلام عليها . وروي عن ابن عباس أنه قال : ما كان أمة أقل سؤالاً من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) سألوا عن أربعة عشر حرفاً فأجيبوا منها في سورة البقرة أولها ) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( والثاني : هذا ، وستة بعدها ، وفي غيرها : ) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ( ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ ( ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ( ) وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ ( ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ( ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةَ ( قيل : اثنان من هذه الأسئلة في الأول في شرح المبدأ ، واثنان في الآخر في شرح المعاد ، ونظيره أنه افتتحت سورتان ب ) يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ( الأولى وهي الرابعة من السور في النصف الأول ، تشتمل على شرح المبدأ ، والثانية وهي الرابعة أيضاً من السور في النصف الآخر تشتمل على شرح المعاد .
والضمير في يسألونك ضمير جمع على أن السائلين جماعة ، وإن كان من سأل اثنين ، كما روي ، فيحتمل أن يكون من نسبة الشيء إلى جمع وإن كان ما صدر إلاَّ من واحد منهم أو اثنين ، وهذا كثير في كلامهم ، قيل : أو لكون الإثنين جمعاً على سبيل الاتساع والمجاز .
والكاف : خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، و : يسألونك ، خبر ، فإن كانت الآية نزلت قبل السؤال كان ذلك من الاخبار بالمغيب : وإن كانت نزلت بعد السؤال ، وهو المنقول في أسباب النزول ، فيكون ذلك حكاية عن حال مضت .
و : عن ، متعلقة بقوله : يسألونك ، يقال : سأل به وعنه ، بمعنى واحد ، ولا يراد بذلك السؤال عن ذات الأهلة ، بل عن حكمة اختلاف أحوالها ، وفائدة ذلك ، ولذلك أجاب بقوله : ) قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ( فلو كانت على حالة واحدة ما حصل التوقيت بها .
والهلال هو مفرد وجمع باختلاف أزمانه ، قالوا : من حيث كونه هلالاً في شهر ، غير كونه هلالاً في آخر .
وقرأ الجمهور : عن الأهلة ، بكسر النون وإسكان لام الأهلة بعدها همزة ، وورش على أصله من نقل حركة الهمزة وحذف الهمزة ، وقرأ شاذاً بادغام نون : عن في لام الأهلة بعد النقل والحذف .
( قُلْ هِى ( أي : الأهلة ) مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ( هذه : الحكمة في زيادة القمر ونقصانه إذ هي كونها مواقيت في الآجال ، والمعاملات ، والإيمان ، والعدد ، والصوم ، والفطر ، ومدة الحمل والرضاع ، والنذور المعلقة بالأوقات ، وفضائل الصوم في الأيام التي لا تعرف إلاَّ بالأهلة . وقد ذكر تعالى هذا المعنى في قوله : ) وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ ( وفي قوله : ) فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ).
وقال الراغب : الوقت الزمان المفروض للعمل ، ومعنى : مواقيت للناس أي ما يتعلق بهم من أمور معاملاتهم ومصالحهم . انتهى .
وقال الرماني : الوقت مقدار من الزمان محدّد في ذاته ، والتوقيت تقدير حدّه ، وكلما قدّرت له غاية فهو موقت ، والميقات منتهى الوقت ، والآخرة منتهى الخلق ، والإهلال ميقات الشهر ، ومواضع

" صفحة رقم 70 "
الإحرام مواقيت الحج ، لأنها مقادير ينتهي إليها ، والميقات مقدار جعل علماً لما يقدّر من العمل . انتهى كلامه .
وفي تغيير الهلال بالنقص والنماء ردّ على الفلاسفة في قولهم : إن الأجرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها ، فأظهر تعالى الاختلاف في القمر ولم يظهره في الشمس ليعلم أن ذلك بقدرة منه تعالى .
والحج : معطوف على قوله : للناس ، قالوا : التقدير ومواقيت للحج ، فحذف الثاني اكتفاءً بالأوّل ، والمعنى : لتعرفوا بها أشهر الحج ومواقيته . ولما كان الحج من أعظم ما يطلب ميقاته وأشهره بالأهلة ، أفرد بالذكر ، وكأنه تخصيص بعد تعمم ، إذ قوله : مواقيت للناس ، ليس المعنى مواقيت لذوات الناس ، وإنما المعنى : مواقيت لمقاصد الناس المحتاج فيها للتأقيت ديناً ودنيا . فجاء قوله : والحج ، بعد ذلك تخصيصاً بعد تعميم . ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناس ، بل على المضاف المحذوف الذي ناب الناس منابه في الإعراب . ولما كانت تلك المقاصد يفضي تعدادها إلى الإطناب ، اقتصر على قوله : مواقيت للناس .
وقال القفال : إفراد الحج بالذكر لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرض الحج ، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر لأشهر أخر ، إنما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء . انتهى كلامه .
وقرأ الجمهور : والحج ، بفتح الحاء . وقرأ الحسن وابن أبي الحاق : والحِج بكسرها في جميع القرآن في قوله : ) حَجَّ الْبَيْتَ ( فقيل بالفتح المصدر وبالكسر الاسم . وقال سيبويه : الحَج ، كالردّ والسدّ ، والحِج ، كالذِكر ، فهما مصدران . والظاهر من قوله : مواقيت للناس ، والحِج ، ما ذهب إليه أبو حنيفة ، ومالك من جواز الإحرام بالحج في جميع السنة لعموم الأهلة ، خلافاً لمن قال : لا يصح إلاَّ في أشهر الحج . قيل : وفيها دليل على أن من وجب عليها عدتان من رجل واحد اكتفت بمضي عدة واحدة للعدتين ، ولا تستأنف لكل واحدة منهما حيضاً ، ولا شهوراً ، لعموم قوله : مواقيت للناس . ودليل على أن العدة إذا كان ابتداؤها بالهلال ، وكانت بالشهور ، وجب استيفاؤها بالأهلة لا بعدد الأيام ، ودليل على أن من آلى من امرأته من أول الشهر إلى أن مضى الأربعة الأشهر معتبر في اتباع الطلاق بالأهلة دون اعتبار الثلاثين ، وكذلك فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين آلى من نسائه شهراً ، وكذلك الإجارات ، والأيمان ، والديون ، متى كان ابتداؤها بالهلال كان جميعها كذلك ، وسقط اعتبار العدد ، وبذلك حكم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الصوم ، وفيها ردّ على أهل الظاهر . ومن قال بقولهم : إن المساقات تجوز على الأجل المجهول سنين غير معلومة ، ودليل على من أجاز البيع إلى الحصاد أو الدراس أو للغطاس وشبهه وهو : مالك ، وأبو ثور ، وأحمد ؛ وكذلك إلى قدوم الغزاة وروي عن ابن عباس منعه ، وبه قال الشافعي ، ودليل على عدم اعتبار وصف الهلال بالكبر أو الصغر لأنه يقال : ما فصل ، فسواء رئي كبيراً أو صغيراً ، فإنه لليلة التي رئي فيها .
( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ). قال البراء بن عازب ، والزهري ، وقتادة ، سبب نزولها أن الأنصار كانوا إذا حجوا واعتمروا يلتزمون شرعاً أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فكانوا يتسمون ظهور بيوتهم على الجدران ، وقيل : كانوا في الجاهلية وفي بدء الإسلام إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة لم يأت حائطاً ، ولا بيتاً ، ولا داراً من بابه ، فإن كان من أهل المدينة نقب في ظهر بيته نقباً يدخل منه ويخرج ، أو ينصب سلماً ، يصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل إحرامه ، ويرون ذلك براً إلاَّ أن يكون ذلك من الحمس ، وهم : قريش ، وكنانة ، وخزاعة ، وثقيف ، وخثعم ، وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو نصر بن معاوية .

" صفحة رقم 71 "
فدخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومعه رجل منهم ، فوقف ذلك الرجل وقال : إني أحمس ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( وأنا أحمس ) . فنزلت . ذكر هذا مختصراً السدي .
وروى الربيع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) دخل وخلفه رجل من الأنصار ، فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( لم دخلت وأنت قد أحرمت ) ؟ قال : دخلت أنت فدخلت بدخولك . فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( إني أحمس ، إني من قوم لا يدينون بذلك ) . فقال الرجل : وأنا ديني دينك فنزلت .
وقال إبراهيم : كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز ، وقيل : كان الخارج لحاجة لا يعود من بابه مخافة التطير بالخيبة ، ويبقى كذلك حولاً كاملاً .
وملخص هذه الأسباب أن الله تعالى أنزل هذه الآية راداً على من جعل إتيان البيوت من ظهورها براً ، آمراً بإتيان البيوت من أبوابها ، وهذه أسباب تظافرت على أن البيوت أريد بها الحقيقة ، وأن الإتيان هو المجيء إليها ، والحمل على الحقيقة أولى من ادعاء المجاز مع مخالفة ما تظافرت من هذه الآسباب .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن الأهلة مواقيت للحج استطرد إلى ذكر شيء كانوا يفعلونه في الحج زاعمين أنه من البر ، فبين لهم أن ذلك ليس من البر ، وإنما جرت العادة به قبل الحج أن يفعلوه ، في الحج ، ولما ذكر سؤالهم عن الأهلة بسبب النقصان والزيادة ، وما حكمة ذلك ، وكان من المعلوم أنه تعالى حكيم ، فأفعاله جارية على الحكمة ، ردّ عليهم بأن ما يفعلونه من إتيان البيوت من ظهورها ، إذا أحرموا ، ليس من الحكمة في شيء ، ولا من البر ، ولما وقعت القصتان في وقت واحد نزلت الآية فيهما معاً ، ووصل إحداهما بالأخرى .
وأما حمل الإتيان والبيوت على المجاز ففيه أقوال .
أحدهما : أن ذلك ضرب ، مثل : المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ، ولكن اتقوا واسألوا العلماء . فهذا كما يقال : أتيت الأمر من بابه ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : أنه ذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلاً لمخالفة الواجب في الحج ، وذلك ما كانوا يعملونه في النسيء ، فانهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله تعالى ، فيحرمون الحلال ويحلون الحرام ، فضرب مثلاً للمخالفة ، وقيل : واتقوا الله تحت إتيان كل واجب في اجتناب كل محرم . قاله أبو مسلم .
الثالث : أن أتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح ، وإتيانها كناية عن التمسك بالطريق الصحيح ، وذلك أن الطريق المستقيم أن يستدل بالمعلوم على المظنون ، وقد ثبت أن الصانع حكيم لا يفعل إلاَّ الصواب ، وقد عرفنا أن اختلاف أحوال القمر في نوره من فعله ، فيعلم أن فيه مصلحة وحكمة ، فهذا استدلال بالمعلوم على المجهول . أما أن نستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بحكيم فهذا استدلال بالمجهول على المعلوم ، فالمعنى : أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف العمر ، صرتم شاكين في حكمة الخالق ، فقد أتيتم ما تظنونه براً ، إنما البرّ أن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم ، وهو حكمة الخالق على المجهول ، فتقطعوا أن فيه حكمة بالغة ، وإن كنتم لا تعلمون ، قاله في ( ريّ الظمآن ) وهو قول ملفق من كلام الزمخشري .
قال الزمخشري : ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم ، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره ، والمعنى

" صفحة رقم 72 "
ليس البرّ ، وما ينبغي أن يكونوا عليه ، بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ، ولم يجسر على مثله .
ثم قال : ) وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا ( أي : وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن يباشر عليها ، ولا تعكسوا ، والمراد وجوب توطيء النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة ، ولا اعتراض شك في ذلك ، حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الاتهام بمفارقة الشك ) لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ). انتهى كلامه .
وحكى هذا القول مختصراً ابن عطية ، فقال : وقال غير أبي عبيدة : ليس البرّ أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلة وغيرها ، فتأتون الأمور على غير ما تحب الشرائع ، أنه كنى بالبيوت عن النساء الإيواء اليهنّ كالإيواء إلى البيوت ، ومعناه : لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهنّ ، وآتوهنّ من حيث يحل من قَبُلهنّ . قاله ابن زيد ، وحكاه مكي ، والمهدوي عن ابن الأنباري .
وقال ابن عطية : كونه في جماع النساء بعيد مغير نمط الكلام ، انتهى .
والباء في : بان تأتوا زائدة في خبر ليس ، وبأن تأتوا ، خبر ليس ، ويتقدّر بمصدر ، وهو من الإخبار بالمعنى عن المعنى ، وبالأعرف عما دونه في التعريف ، لأن : أن وصلتها ، عندهم بمنزلة الضمير .
وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائي ، وقالون ، وعباس ، عن أبي عمرو ؛ والعجلي عن حمزة ؛ والشموني عن الأعشى ، عن أبي بكر : البيوتِ ، بالكسر حيث وقع ذلك لمناسبة الياء ، والأصل هو الضم لأنه على وزن فعول ، وبه قرأ باقي السبعة و : مِنْ ، متعلقة : بتأتوا ، وهي لابتداء الغاية ، والضمير في : أبوابها ، عائد على البيوت . وعاد كضمير المؤنث الواحدة ، لأن البيوت جمع كثرة ، وجمع المؤنث الذي لا يعقل فرق فيه بين قليله وكثيره ، فالأفصح في قليله أن يجمع الضمير ، والأفصح في كثيره أن يفرد . كهو في ضمير المؤنث الواحدة ، ويجوز العكس . وأما جمع المؤنث الذي يعقل فلم تفرق العرب بين قليله وكثيره ، والأفصح أن يجمع الضمير . ولذلك جاء في القرآن : ) هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ( ونحوه ، ويجوز أن يعود كما يعود على المؤنث الواحد وهو فصيح .
( وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ( التأويلات التي في قوله : ) وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ ( سائغة هنا ، من أنه أطلق البر ، وهو المصدر ، على من وقع منه على سبيل المبالغة ، أو فيه حذف من الأوّل ، أي : ذا البرّ ، ومن الثاني أي : بر من آمن . وتقدّم الترجيح في ذلك .
وهذه الآية كأنها مختصرة من تلك لأن هناك عدّ أوصافاً كثيرة من الإيمان بالله إلى سائر تلك الأوصاف ، وقال في آخرها : ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( وقال هنا : ) وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ( والتقوى لا تحصل إلاَّ بحصول تلك الأوصاف ، فأحال هنا على تلك الأوصاف ضمناً إذ جاء معها : هو المتقي .
وقرأ نافع ، وابن عامر بتخفيف : ولكنّ ، ورفع : البرّ ، والباقون بالتشديد والنصب .
( وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا ( تفسيرها : يتفرّغ على الأقوال التي تقدّمت في قوله : ) وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ).
) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( : أمر باتقاء الله ، وتقدمت جملتان خبريتان وهما ) وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ( فعطف عليهما جملتان أمريتان الأولى راجعة للأول ، والثانية راجعة للثانية ، وهذا من بديع الكلام .
ولما كان ظاهر قوله : من اتقى ، محذوف المفعول ، نص في قوله : واتقوا الله ، على من يتقى ، فاتضح في الأول أن المعنى من اتقى الله .
( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ظاهره التعلق بالجملة الأخيرة ، وهي قوله ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( لأن تقوى الله هو إجماع الخير من امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، فعلق التقوى برجاء الفلاح ، وهو الظفر بالبغية .
البقرة : ( 190 ) وقاتلوا في سبيل . . . . .
( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( الآية . قال ابن عباس : نزلت لما صدّ المشركون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيحلوا له مكة ثلاثة أيام ، فرجع لعمرة القضاء ، وخاف المسلمون أن لا تفي لهم قريش ، ويصدوهم ، ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام ، وكرهوا ذلك ، فنزلت . وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم وفي الشهر الحرام ، ورفع عنهم الجناح في ذلك ، وبذكر هذا السبب ظهرت مناسبة هذه الآية لما قبلها ، لأن ما قبلها متضمن شيئاً من متعلقات الحج ، ويظهر أيضاً أن المناسب هو : أنه لما أمر تعالى بالتقوى ، وكان أشدّ أقسام التقوى وأشقها على النفس قتال أعداء الله ، فأمر به فقال تعالى : ) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( والظاهر أن المقاتلة في سبيل الله هي الجهاد

" صفحة رقم 73 "
في الكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته ، وأكثر علماء التفسير على أنها أول آية نزلت في الأمر بالقتال ، أمر فيها بقتال من قاتل ، والكف عن من كف ، فهي ناسخة لآيات الموادعة .
وروي عن أبي بكر أن أول آية نزلت في القتال ) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ( قال الراغب : أمر أولاً بالرفق والاقتصار على الوعظ والمجادلة الحسنة ، ثم أذن له في القتال ، ثم أمر بقتال من يأبى الحق بالحرب ، وذلك كان أمراً بعد أمر على حسب مقتضى السياسة انتهى .
وقيل : إن هذه الآية منسوخة بالأمر بقتال المشركين ، وقيل : هي محكمة ، وفي ( ريّ الظمآن ) هي منسوخة بقوله : ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فَتَنَّاهُ ( وضعف نسخها بقوله : ) وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( لانه من باب التخصيص لا من باب النسخ ، ونسخ : ) وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ ( بقوله : ) وَقَاتِلُوهُمْ ( بأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ، وهذا الحكم لم ينسخ ، بل هو باق ، وبأنه يبعد أن يجمع بين آيات متوالية يكون كل واحدة منها ناسخة للاخرى ، وأبعد من ذهب إلى أن قوله : وقاتلوا ، ليس أمراً بقتال ، وإنما أراد بالمقاتلة المخاصمة والمجادلة والتشدّد في الدين ، وجعل ذلك قتالاً ، لأنه يؤول إلى القتال غالباً ، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه . والآية على هذا محكمة .
هذا القول خلاف الظاهر ، والعدول عن الظاهر لغير مانع لا يناسب : في سبيل الله ، السبيل هو الطريق ، واستعير لدين الله وشرائعه ، فإن المتبع ذلك يصل به إلى بغيته الدينية والدنيوية ، فشبه بالطريق الموصل الإنسان إلى ما يقصده ، وهذا من استعارة الإجرام للمعاني ، ويتعلق : في سبيل الله ، بقوله : وقاتلوا ، وهو ظرف مجازي ، لأنه لما وقع القتال بسببب نصرة الدين صار كأنه وقع فيه ، وهو على حذف مضاف التقدير : في نصرة دين الله ، ويحتمل أن يكون من باب التضمين كأنه قيل : وبالغوا بالقتال في نصرة سبيل الله ، فضمن : قاتلوا ، معنى المبالعة في القتال .
( الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ( ظاهره : من يناجزكم القتال ابتداءً ، أو دفعاً عن الحق ، وقيل : من له أهلية القتال سوى من جنح للسلم فيخرج من هذا : النسوان ، والصبيان ، والرهبان . وقيل : من له قدرة على القتال ، وتسمية من له الأهلية والقدرة مقاتلاً مجاز ، وأبعد منه مجازاً من ذهب إلى أن المعنى : الذين يخالفونكم ، فجعل المخالفة قتالاً ، لأنه يؤول إلى القتال ، فيكون أمراً بقتال من خالف ، سواء قاتل أم لم يقاتل ، وقدّم المجرور على المفعول الصريح لأنه الأهم ، وهو أن يكون القتال بسبب إظهار شريعة الإسلام ، ألا ترى الاقتصار عليه في نحو قوله : ) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ) وَلاَ تَعْتَدُواْ ( نهي عام في جميع مجاوزة كل حدّ ، حدّة الله تعالى ، فدخل فيه الإعتداء في القتال بما لا يجوز ، وقيل : المعنى : ولا تعتدوا في قتل النساء ، والصبيان ، والرهبان ، والأطفال ، ومن يجري مجراهم . قاله ابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهد . ورجحه جماعة من المفسرين : كالنحاس وغيره ، لأن المفاعلة غالباً لا تكون إلاَّ من اثنين ، والقتال لا يكون من هؤلاء . ولأن النهي ورد في ذلك نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن قتل النساء ، والصبيان ، وعن المثلة ، وفي وصاية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان النهي عن قتل هؤلاء ، والشيخ الفاني ، وعن تخريب العامر ، وذبح البقرة والشاة لغير مأكل ، وإفساد شجرة مثمرة بحرق أو غيره .
وقيل : ولا تعتدوا في قتال من بذل الجزية . قاله ابن بحر ، وقيل : في ترك القتال ، وقيل : بالبداءة والمفاجأة قبل بلوغ الدعوة . وقيل : بالمثلة ، وقيل : بابتدائهم في الحرم في الشهر الحرام ، وقيل : في القتال لغير وجه الله ، كالحمية وكسب الذكر .
( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ). هذا كالتعليل لما قبله كقوله : أكرم زيداً إن عمراً يكرمه . وحقيقة المحبة : وهي ميل النفس إلى ما تؤثره مستحيلة في حق الله تعالى ، ولا واسطة بين المحبة والبغضاء بالنسبة إلى الله تعالى ، لأنهما مجازان عن إرادة ثوابه ، وإرادة عقابه ، أو عن متعلق الإرادة من الثواب والعقاب . وذلك بخلاف محبة الانسان وبغضه ، فإن بينهما واسطة ، وهي عدمهما ، فلذلك لا يرد على نفي محبة الله تعالى أن يقال : لا يلزم من نفي المحبة وجود البغض ، بل ذلك لازم لما بيناه من عدم الواسطة بينهما في حقه تعالى .
البقرة : ( 191 ) واقتلوهم حيث ثقفتموهم . . . . .
( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( ضمير المفعول عائد على : الذين يقاتلونكم ، وهذا أمر بقتلهم ، و : حيث ثقفتموهم ، عام في كل مكان حل أو حرم ، ويلزم منه عموم الأزمان ، في شهر الحرام وفي غيره ، وفي ( المنتخب ) أمر في

" صفحة رقم 74 "
الآية : الأولى بالجهاد بشرط إقدام الكفار على المقاتلة ، وفي هذه الآية زاد في التكليف . فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا ، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام . انتهى . وليس كما قال : إنه زاد في التكليف فأمر بالجهاد سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا ، لأن الضمير عائد على : الذين يقاتلونكم ، فالوصف باقٍ إذْ المعنى : واقتلوا الذين يقاتلونكم حيث ثقفتموهم ، فليس أمراً بالجهاد سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا .
قال ابن إسحاق : نزلت هذه الآية في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله وافد بن عبد الله التميمي ، وذلك في سرية عبد الله بن جحش .
( وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ( أي : من المكان الذي أخرجوكم منه ، يعني مكة ، وهو أمر بالإخراج أمر تمكين ، فكأنه وعد من الله بفتح مكة ، وقد أنجز ما وعد ، وقد فعل ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يوم فتح مكة بمن لم يسلم معهم ، و : مِنْ حيثُ ، متعلق بقوله : وأخرجوهم ، وقد تصرف في : حيث ، بدخول حرف الجر عليها : كمن ، والباء ، وفي ، وبإضافة لدى إليها .
وضمير النصب في : أخرجوكم ، عائد على المأمورين بالقتل ، والإخراج ، وهو في الحقيقة عائد على بعضهم ، جعل إخراج بعضهم ، وهو أجلهم قدراً رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمهاجرون ، إخراجاً لكلهم .
( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ( في الفتنة هنا أقوال .
أحدها : الرجوع إلى الكفر أشدّ من أن يقتل المؤمن ، قاله مجاهد . وكانوا قد عذبوا نفراً من المؤمنين ليرجعوا إلى الكفر ، فعصمهم الله . والكفر بالله يقتضي العذاب دائماً ، والقتل ليس كذلك ، وكان بعض الصحابة قتل في الشهر الحرام ، فاستعظم المسلمون ذلك .
الثاني : الشرك ، أيّ : شركهم بالله أشدّ حرماً من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي .
الثالث : هتك حرمات الله منهم أشدّ من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم .
الرابع : عذاب الآخرة لهم أشدّ من قتلهم المسلمين في الحرم ومنه : ) ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ ( ) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( أي : عذبوهم .
الخامس : الإخراج من الوطن لما فيه من مفارقة المألوف والأحباب ، وتنغيص العيش دائماً ، ومنه قول الشاعر : لموت بحدّ السيف أهون موقعا
على النفس من قتل بحدِّ فراقِ
السادس : أن يراد فتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام ، أشدّ من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم ، إن قتلوكم ، فلا تبالوا بقتالهم ، قاله الزمخشري ، وهو راجع لمعنى القول الثالث .
السابع : تعذيبهم المسلمين ليرتدوا ، قاله الكسائي .
وأصل الفتنة عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ، ثم صار يستعمل في الامتحان ، وإطلاقه على ما فسر به في هذه الاقوال شائع ، والفتنة والقتل مصدران لم يذكر فاعلهما ، ولا مفعولهما ، وإنما أقرَّ أن ماهية الفتنة أشدّ من القتل ، فكل مكان تتحقق فيه هذه النسبة كان داخلاً في عموم ، هذه الأخبار سوآء كان المصدر فاعله أو مفعوله : المؤمنون أم الكافرون ، وتعيين نوع مّا من أفراد العموم يحتاج إلى دليل .
( وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ( هو أن يبدأهم بالقتال في هذا الموطن حتى يقع ذلك منهم فيه ، قال مجاهد : وهذه الآية محكمة لا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلاَّ بعد أن يقاتل . وبه قال طاووس ، وأبو حنيفة ؛ وقال الربيع : منسوخة بقوله : ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فَتَنَّاهُ ( وقال قتادة بقوله : ) فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ( والنسخ قول الجمهور ، وقد تقدم طرف من الكلام في هذا النسخ ، في هذه الآية . وقرأ حمزة ، والكسائي والأعمش : ولا تقتلوهم ، وكذلك حتى يقتلوكم فإن قتلوكم ، من القتل ، فيحتمل المجاز في الفعل ، أي : ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قتلكم ، ويحتمل المجاز في المفعول ، أي : ولا تقتلوا بعضهم حتى يقتلوا بعضكم ، فإن قتلوا بعضكم ، يقال : قتلنا بنو فلان ، يريد قتل بعضنا وقال :

" صفحة رقم 75 "
فإن تقتلونا نقتلكم
وان تقصدوا الذم نقصد
ونظيره : قتل ) مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ ( فأوهنوا أي : قتل معهم أناس من الربيين ، فاوهن الباقون ، والعامل في عند : ولا تقاتلوهم ، و : حتى ، هنا للغاية ، وفيه متعلق بيقاتلوكم ، والضمير عائد على عند ، تعدى الفعل إلى ضمير الظرف فاحتيج في الوصول إيليه إلى : في ، هذا ، ولم يتسع فتعدى ، الفعل إلى ضمير الظرف تعديته للمفعول به الصريح ، لا يقال : إن الظرف إذا كان غير متصرف لا يجوز أن يتعدى الفعل إلى ضميره بالاتساع ، لان ظاهره لا يجوز فيه ذلك ، بل الاتساع جائز إذ ذاك . ألا ترى أنه يخالفه في جره بغي وإن كان الظاهر لا يجوز فيه ذلك ؟ فكذلك يخالفه في الاتساع . فحكم الضمير إذ ذاك ليس كحكم الظاهر .
( فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ( هذا تصريح بمفهوم الغاية ، وفيه محذوف . أي : فإن قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه ، ودل على إرادته سياق الكلام . ولم يختلف في قوله : فاقتلوهم ، أنه أمر بقتلهم على ذلك التقدير ، وفيه بشارة عظيمة بالغلبة عليهم ، أي : هم من الخذلان وعدم النصرة بحيث أمرتم بقتلهم لا بقتالهم ، فأنتم متمكنون منهم بحيث لا يحتاجون إلاّ إلى إيقاع القتل بهم ، إذا ناشبوكم القتال لا إلى قتالهم .
( كَذالِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ( الكاف في موضع رفع لأنها خبر عن المبتدأ الذي هو خبر الكافرين .
المعنى : جزاء الكافرين مثل ذلك الجزاء ، وهو القتل ، أي : من كفر بالله تعالى فجزاؤه القتل ، وفي إضافة الجزاء إلى الكافرين إشعار بعلية القتل .
البقرة : ( 192 ) فإن انتهوا فإن . . . . .
( فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( أي : عن الكفر ، ودخلوا في الاسلام ، ولذلك علق عليه الغفران والرحمة وهما لا يكونان مع الكفر ) قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( وتقدم ما يدل عليه من اللفظ وهو جزاء الكافرين ، وسياق الكلام إنما هو مع الكفار ، وقيل : فإن انتهوا عن المقاتلة والشرك ، لتقدمهما في الكلام ، وهو حسن ، وقيل : عن القتال دون الكفر ، وليس الغفران لهم على هذا القول ، بل المعنى : فإن الله غفور لكم رحيم بكم حيث اسقط عنكم تكليف قتالهم ، وقيل : الجواب محذوف ، أي : فاغفروا لهم فإن الله غفور رحيم لكم ، وعلى قول : إن الانتهاء عن القتال فقط تكون الآية منسوخة ، وعلى القولين قبله تكون محكمة ، ومعنى : انتهى : كف ، وهو افتعل من النهي ، ومعناه فعل الفاعل بنفسه ، وهو نحو قولهم : اضطرب ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها : افتعل .
قالوا : وفي قوله : ) فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( دلالة على قبول توبة قاتل العمد ، إذ كان الكفر أعظم مأثماً من القتل ، وقد أخبر تعالى أنه يقبل التوبة من الكفر .
البقرة : ( 193 ) وقاتلوهم حتى لا . . . . .
( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ( ضمير المفعول عائد على من قاتله وهم كفار مكة ، والفتنة هنا الشرك في قبول الجزية ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والربيع ، والسدي . أعني : أن الفتنة هنا والشرك وما تابعه من الأذى ، وقيل : الضمير لجميع الكفار أمروا بقتالهم وقتلهم في كل مكان ، فالآية عامة تتناول كل كافر من مشرك وغيره ، ويخص منهم بالجزية من دل الدليل عليه ، وقد تقدّم قول من قال : إنها ناسخة ، لقوله : ولا تقاتلوهم .
قال في ( المنتخب ) : و الصحيح ، أنه ليس كذلك ، بل هذه الصيغة عامة وما قبله خاص ، وهو : ) وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( ومذهب الشافعي تخصيص العام سواء تقدّم على المخصص أم تأخر عنه .
وقال أو مسلم : الفتنة هنا : القتال في الحرم ، قال أمرهم الله بقتالهم حتى لا يكون

" صفحة رقم 76 "
منهم القتال الذي إذا بدؤوا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون من أنواع المضار .
و : حتى ، هنا للغاية ، أو للتعليل ، وإذا فسرت الفتنة بالكفر ، والكفر لا يلزم زواله بالقتال ، فكيف غيي الأمر بالقتال بزواله ؟ .
والجواب : أن ذلك على حكم الغالب ، والواقع ، وذلك أن من قتل فلقد انقطع كفره وزال ، ومن عاش خاف من الثبات على كفره ، فأسلم ، أو يكون المعنى : وقاتلوهم قصداً منكم إلى زوال الكفر ، لأن الواجب في قتال الكفار أن يكون القصد زوال الكفر ، ولذلك إذا ظن أنه يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه .
( وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ ( الدين هنا : الطاعة ، أي : يكون الانقياد خالصاً لله ، وقيل : الدين هنا السجود والخضوع لله وحده ، فلا يسجد لغيره ، وغيي هنا الأمر بالقتال بشيئين : أحدهما : انتفاء الفتنة ، والثاني : ثبوت الدين لله ، وهو عطف مثبت على منفي ، وهما في معنى واحدة ومتلازمان ، لأنه إذا انتفى الشرك بالله كان تعالى هو المعبود المطاع ، وعلى تفسير أبي مسلم في الفتنة يكون قد غيي بأمرين مختلفين : أحدهما : انتفاء القتال في الحرم ، والثاني : خلوص الدين لله تعالى .
قيل وجاء في الأنفال : ) وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ ( ولم يجىء هنا : كله ، لأن آية الأنفال في الكفار عموماً ، وهنا في مشركي مكة ، فناسب هناك التعميم ، ولم يحتج هنا إليه .
قيل : وهذا لا يتوجه إلاَّ على قول من جعل الضمير في : وقاتلوهم ، عائداً على أهل مكة على أحد القولين ، وراجع رجل ابن عمر في الخروج في فتنة ابن الزبير مستدلاً عليه بقوله : ) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( فعارضه بقوله : ) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً ( فقال : ألم يقل : ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ( ؟ فأجابه ابن عمر بأنا فعلنا ذلك على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ كان الإسلام قليلاً ، وكان الرجل يفتن عن دينه بقتله أو تعذيبه ، وكثر الإسلام فلم تكن فتنة ، وكان الدين لله ، وأنتم تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله .
( فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ). متعلق الانتهاء محذوف ، التقدير : عن الشرك بالدخول في الاسلام ، أو عن القتال . وأذعنوا إلى أداء الجزية فيمن يشرع ذلك فيهم ، أو : عن الشرك وتعذيب المسلمين وفتنتهم ليرجعوا عن دينهم ، وذلك على الاختلاف في الضمير ، إذ هو عام في الكفار ، أو خاص بكفار مكة .
والعدوان مصدر عدا ، بمعنى : اعتدى ، وهو نفي عام ، أي : لا يؤخذ فرد فرد من أنواعه البتة إلاَّ على من ظلم ، ويراد بالعدوان الذي هو الظلم الجزاء . سماه عدواناً من حيث هو جزاء عدوان ، والعقوبة تسمى باسم الذنب ، وذلك على المقابلة ، كقوله : ) وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ( ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ ( ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( وقال الشاعر : جزينا ذوي العدوان بالأمس فرضهم
قصاصاً سواء حذوك النعل بالنعل
وقال الرماني ، إنما استعمل لفظ العدوان في الجزاء من غير مزاوجة اللفظ ، لأن مزاوجة اللفظ مزاوجة المعنى ، كأنه يقول : انتهوا عن العدوان فلا عدوان إلاَّ على الظالمين إنتهى كلامه . وهذا النفي العام يراد به النهي ، أي : فلا تعتدوا ، ذلك على سبيل المبالغة إذا أرادوا المبالغة في ترك الشيء عدلوا فيه عن النهي إلى النفي المحض العام ، وصار ألزم في المنع ، إذ صار من الأشياء التي لا تقع أصلاً ، ولا يصح حمل ذلك على النفي الصحيح أصلاً لوجود العدوان على غير الظالم . فكأنه يكون إخباراً غير مطابق ، وهو لا يجوز على الله تعالى .
وفسر الظالمون هنا بمن بدأ بالقتال ، وقيل : من بقي على كفر وفتنة ، قال عكرمة ، وقتادة : الظالم هنا من أبى أن يقول لا إله إلاَّ الله .
وقال الأخفش المعنى : فإن انتهى بعضهم

" صفحة رقم 77 "
فلا عدوان إلاَّ على من لم ينته ، وهو الظالم .
قال الزمخشري : فلا تعتدوا على المنتهين لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ، فوضع قوله : إلاَّ على الظالمين ، موضع : على المنتهين إنتهى كلامه . وهذا الذي قاله لا يصح إلاَّ على تفسير المعنى ، وأما على تفسير الإعراب فلا يصح ، لأن : على المنتهين ، ليس مرادفاً لقوله : إلاَّ على الظالمين ، لأن نفي العدوان عن المنتهين لا يدل على إثباته على الظالمين إلاَّ بالمفهوم مفهوم الصفة . وفي التركيب القرآني يدل على إثباته على الظالمين بالمنطوق المحصور بالنفي ، وإلاَّ وفرق بين الدلالتين ، ويظهر من كلامه أنه أراد تفسير الإعراب .
ألا ترى قوله : فوضع قوله : إلاَّ على الظالمين ، موضع : على المنتهين ؟ وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الإعراب ، وليس كذلك لما بيناه من الفرق بين الدلالتين ، ألا ترى فرق ما بين قولك : ما أكرم الجاهل وما أكرم إلاَّ العالم ؟ وإلاَّ على الظالمين ، استثناء مفرغ من الأخبار على الظالمين في موضع رفع على أنه خبر لا على مذهب الأخفش ، أو على أنه خبر للمبتدأ الذي هو مجموع لا عدوان ، على مذهب سيبويه . وقد تقدّم التنبيه على ذلك ، وجاء : بعلى ، تنبيها على استيلاء الجزاء عليهم واستعلائه .
وقيل : معنى لا عدوان ، لا سبيل ، كقوله : ) أَيَّمَا الاْجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ ( أي لا سبيل عليّ ، وهو مجاز عن التسليط والتعرض ، وهو راجع لمعنى جزاء الظالم الذي شرحنا به العدوان .
ورابط الجزاء بالشرط إما بتقدير حذف أي : إلاَّ على الظالمين منهم ، أو بالاندراج في عموم الظالمين ، فكان الربط بالعموم .
البقرة : ( 194 ) الشهر الحرام بالشهر . . . . .
( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحُرُمُ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ( قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقسم ، والسدي ، والربيع ، والضحاك ، وغيرهم : نزلت في عمرة القضاء عام الحديبية ، وكان المشركون قاتلوهم ذلك العام في الشهر الحرام ، وهو ذو القعدة ، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال ، وذلك في ذي القعدة : ) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ( أي : هتكه بهتكه ، تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم .
وقال الحسن : سأل الكفار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : هل تقاتل في الشهر الحرام ؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه ، فهموا بالهجوم عليه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يقاتل ، فنزلت .
والشهرُ ، مبتدأ وخبره الجار والمجرور وبعده ، ولا يصح من حيث اللفظ أن يكون خبراً ، فلا بد من حذف التقدير : انتهاك حرمة الشهر الحرام ، كائن بانتهاك حرمة الشهر الحرام ؛ والألف واللام في الشهر ، في اللفظ هي للعهد ، فالشهر الأول هو ذو القعدة من سنة سبع في عمرة القضاء ، والشهر الثاني هو من سنة ست عام الحديبية ) وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ( والالف واللام للعهد في الحرمات ، أي : حرمة الشهر وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد ، والشهر ، والقطان ، حين دخلتم . وهذا التفسير على السبب المنقول عن ابن عباس ومن معه ، وأما على السبب المنقول عن الحسن فتكون الألف واللام للعموم في النفس والمال والعرض ، أي : وكل حرمة يجري فيها القصاص ، فيدخل في ذلك تلك الحرمات السابقة وغيرها ، وقيل : ) وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ( جملة مقطوعة مما قبلها ليست في أمر الحج والعمرة ، بل هو ابتداء أمر كان في أول الإسلام ، أي : من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك به ، ثم نسخ ذلك بالقتال .
وقالت طائفة : ما كان من تعدَ في مال أو جرح لم ينسخ ، وله أن يتعدى عليه من ذلك بمثل ما تعدى عليه ، ويخفى ذلك إذا أمكنه دون الحاكم ولا يأثم بذلك ، وبه قال الشافعي ، وهي رواية في مذهب مالك .
وقالت طائفة ، منهم مالك : القصاص وقف على الحكام فلا يستوفيه إلاَّهم .
وقرأ الحسن ) وَالْحُرُمَاتُ ( باسكان الراء على الأصل ، إذ هو جمع حرمة ، والضم في

" صفحة رقم 78 "
الجمع اتباع .
( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( هذا مؤكد لما قبله من قوله ) وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ( وقد اختلف فيها : أهي منسوخة أم لا ؟ على ما تقدم من مذهب الشافعي ومذهب مالك .
وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية وما بمعناها بمكة ، والاسلام لم يعز ، فلما هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعز دينه ، أُمرالمسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم ، وأُمروا بقتال الكفار .
وقال مجاهد : بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء ، وهو من التدريج في الأمر بالقتال .
وقوله : ) فَاعْتَدُواْ ( ليس أمراً على التحتم إذ يجوز العفو ، وسمي ذلك اعتداءً على سبيل المقابلة ، والباء في : بمثل ، متعلقة بقوله : فاعتدوا عليه ، والمعنى : بعقوبة مثل جناية اعتدائه ، وقيل : الباء زائدة ، أي : مثل اعتدائه ، وهو نعت لمصدر محذوف ، أي : اعتداءً مماثلاً لاعتدائه .
( وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( أمر بتقوى الله فيدخل فيه اتقاؤه بأن لا يتعدّى الإنسان في القصاص من إلى ما لا يحل له .
( وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( بالنصرة والتمكين والتأييد ، وجاء بلفظ : مع ، الدالة على الصحبة والملازمة حضاً على الناس بالتقوى دائماً إذ من كان الله معه فهو الغالب المنتصر ، أَلا ترى إلى ما جاء في الحديث ( أرموا وأنا مع بني فلان ) ؛ فأمسكوا ، فقال : ( إرموا وأنا معكم كلكم ؛ ) أو : كلاماً هذا معناه ، وكذلك قوله لحسان : ( إهجم وروح القدس معك ) ؛
البقرة : ( 195 ) وأنفقوا في سبيل . . . . .
( وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( هذا أمر بالإنفاق في طريق الإسلام ، فلكل ما كان سبيلاً لله وشرعا له كان مأموراً بالاتفاق فيه ؛ وقيل : معناه الأمر بالانفاق في أثمان آلة الحرب ، وقيل : على المقلين من المجاهدين ، قاله ابن عباس ، قال : نزلت في أناس من الأعراب سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فقالوا : بماذا نتجهز ؟ فوالله ما لنا زاد وقيل : في الجهاد على نفسه وعلى غيره ، وقيل : المعنى : إبذلوا أنفسكم في المجاهدة في سبيل الله .
وسمي بذل النفس في سبيل الله إنفاقاً مجازاً وأتساعاً كقول الشاعر : وأنفقت عمري في البطالة والصبا
فلم يبق لي عمر ولم يبق لي أجر
والأظهر القول الأول ، وهو : الأمر بصرف المال في وجوه البرّ من حج ، أو عمرة ، أو جهاد بالنفس ، أو بتجهيز غيره ، أو صلة رحم ، أو صدقة ، أو على عيال ، أو في زكاة ، أو كفارة ، أو عمارة سبيل ، أو غير ذلك . ولما اعتقبت هذه الآية لما قبلها مما يدل على القتال والأمر به ، تبادر إلى الذهن النفقة في الجهاد للمناسبة .
( وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ( قال عكرمة : نزلت في الأنصار ، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله ، وقال النعمان بن بشير : كان الرجل يذنب الذنب فيقول : لا يغفر الله لي ، فنزلت .
وفي حديث طويل تضمن أن رجلاً من المسلمين حمل على صف الروم ، ودخل فيهم وخرج ، فقال الناس : ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب الانصاري : تأوّلتم الآية على غير تأويلها ، وما أنزلت هذه الآية إلاَّ فينا معشر الأنصار ، لما أعز الله دينه قلنا : لو أقمنا نصلح ما ضاع من أموالنا ، فنزلت .
وفي تفسير التهلكة أقوال .
أحدها : ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال ، قاله أبو أيوب .
الثاني : ترك النفقة في سبيل الله خوف العيلة ، قاله حذيفة ، وأبن عباس ، والحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وابن جبير .
الثالث : التقحم في العدّو بلا نكاية ، قاله أبو القاسم البلخي .
الرابع : التصدّق بالخبيث ، قاله عكرمة .
الخامس : الإسراف بإنفاق كل المال ، قال تعالى ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ( ) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( قاله أبو علي .
السادس : الانهماك في المعاصي ليأسه من قبول توبته ، قاله البراء ، وعبيدة السلماني .
السابع : القنوط من التوبة ، قاله قوم .
الثامن : السفر للجهاد بغير زاد ، قاله زيد بن أسلم ، وقد كان فعل ذلك قوم فأدّاهم إلى الإنقطاع في الطريق ، أو إلى كونهم عالة على الناس .
التاسع : إحباط الثواب أمّا بالمنّ أو الرياء والسمعة ، كقوله : ) وَلاَ

" صفحة رقم 79 "
تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ ).
وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية . والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله تعالى ، فإن الجهاد في سبيل الله مفض إلى الهلاك ، وهو القتل ، ولم ينه عنه ، بل هو أمر مطلوب موعود عليه بالجنة ، وهو من أفضل الأعمال المتقرب بها إلى الله تعالى ، وقد ردّ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو : أن يقتل في سبيل الله ثم يحيا ، فيقاتل فيقتل ، أو كما جاء في الحديث ؛ ويقال : ألقى بيده في كذا ، وإلى كذا ، إذا استسلم ، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه ، وكذا على كل عاجز في أي فعل كان ، ومنه قول عبد المطلب : والله إن القاءنا بأيدينا للموت لعجز .
وألقى يتعدى بنفسه ، كما قال تعالى : ) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ ( وقال الشاعر : حتى إذا ألقت يداً في كافر
وأجنّ عورات الثغور ظلامُها وجاء مستعملاً بالباء لهذه الآية ، وكقول الشاعر :
وألقى بكفيه الفتى إستكانة من الجوع
وهناً ما يمرّ وما يحلى
وإذا كان ألقى على هذين الاستعمالين ، فقال أبو عبيدة وقوم : الباء زائدة ، التقدير : ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة ، ويكون عبّر باليد عن النفس ، كأنه قيل : ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة . وقد زيدت الباء في المفعول كقوله .
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
أي : لا يقرأن السور ، إلاَّ أن زيادة الباء في المفعول لا ينقاس ، وقيل : مفعول ألقى محذوف ، التقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة ، وتتعلق الباء بتلقوا ، أو تكون الباء لسبب ، كما تقول : لا تفسد حالك برأيك .
والذي تختاره في هذا أن المفعول في المعنى هو : بأيديكم ، لكنه ضمن : ألقى ، معنى ما يتعدى بالباء ، فعداه بها ، كأنه قيل : ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة . كقوله : أفضيت بجنبي إلى الأرض أي : طرحت جنبي على الأرض ، ويكون إذ ذاك قد عبّر عن الأنفس بالأيدي ، لأن بها الحركة والبطش والامتناع ، فكأنه يقول : إن الشيء الذي من شأنه أن يمتنع به من الهلاك ، ولا يهمل ما وضع له ، ويفضي به إلى الهلاك . وتقدّمت معاني : أفعل ، في أول البقرة ، وهي أربعة وعشرون معنى ، وعرضتها على لفظ : ألقى ، فوجدت أقرب ما يقال فيه : أن : أفعل ، للجعل على ما استقرأه التصريفيون تنقسم إلى ثلاثة أقسام .
القسم الأول : أن تجعله كقولك : أخرجته ، أي : جعلته يخرج ، فتكون الهمزة في هذا النوع للتعدية .
القسم الثاني : أن تجعله على صفة ، كقوله : أطردته ، فالهمزة فيه ليست للتعدية ، لأن الفعل كان متعدّياً دونها ، وإنما المعنى : جعلته طريداً .
والقسم الثالث : أن تجعله صاحب شيء بوجه مّا ، فمن ذلك : أشفيت فلاناً ، جعلت له دواء يستشفى به ، وأسقيته : جعلته ذا ماء يسقى به ما يحتاج إلى السقي . ومن هذا النوع : أقبرته ، وأنعلته ، وأركبته ، وأخدمته ، وأعبدته : جعلت له قبراً ، ونعلاً ، ومركوباً ، وخادماً ، وعبداً .
فأما : ألقى ، فإنها من القسم الثاني ، فمعنى : ألقيت الشيء : جعلته لقي ، واللقي فعل بمعنى مفعول ، كمان أن الطريد فعيل بمعنى مفعول ، فكأنه قيل : لا تجعلوا أنفسكم لقى إلى التهلكة فتهلك .
وقد حام الزمخشري

" صفحة رقم 80 "
نحو هذا المعنى الذي أيدناه فلم ينهض بتخليصه ، فقال : الباء في : بأيديكم ، مثلها في أعطى بيده للمنقاد ، والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم ، أي : لا تجعلوها آخذة بأيديكم ، مالكة لكم ، انتهى كلامه . وفي كلامه أن الباء مزيدة ، وقد ذكرنا أن ذلك لا ينقاس .
( وَأَحْسِنُواْ ( هذا أمر بالإحسان ، والأولى حمله على طلب الإحسان من غير تقييد بمفعول معين .
وقال عكرمة : المعنى : وأحسنوا الظنّ بالله ، وقال زيد بن أسلم : وأحسنوا بالإنفاق في سبيل الله ، وفي الصدقات . وقيل : وأحسنوا والمجاهد محسن .
( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( هذا تحريض على الإحسان لأن فيه إعلاماً بأن الله يحب من الإحسان صفة له ، ومن أحبه الله لهذا الوصف فينبغي أن يقوم وصف الإحسان به دائماً بحيث لا يخلو منه محبة الله دائماً .
البقرة : ( 196 ) وأتموا الحج والعمرة . . . . .
( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ( الإتمام كما تقدّم ضد النقص ، والمعنى : إفعلوهما كاملين ولا تأتوا بهما ناقصين شيئاً من شروطهما ، وأفعالهما التي تتوقف وجود ماهيتهما عليهما ، كما قال غيلان : تمام الحج أن تقف المطايا
على خرقاء واضعة اللثام
جعل : وقوف المطايا على محبوبته ، وهي : مي ، كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلاَّ به . هذا ظاهر اللفظ ، وقد فسر : الإتمام ، بغير ما يقتضيه الظاهر . قال الشعبي ، وابن زيد : إتمامهما أن لا ينفسخ ، وأن تتمهما إذا بدأت بهما .
وقال علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد ، وطاووس : إتمامهما أن تحرم بهما مفردين من دويرة أهلك ، وفعله عمران بن حصين . وقال الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصداً لا لتجارة ولا لغير ذلك ، ويؤيد هذا قوله : لله .
وقال القاسم بن محمد وقتادة : إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج ، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم ، وقالت فرقة : إتمامهما أن تفرد كل واحد من حج أو عمرة ولا تقرن ، والإفراد عند هؤلاء أفضل .
وقال قوم : إتمامهما : أن تقرن بينهما ، والقران عند هؤلاء أفضل . وقال ابن عباس ، وعلقمة ، وإبراهيم ، وغيرهم : إتمامها أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء ، وهذا يقرب من القول الأول ، وقال قوم : أن يفرد لكل واحد منهما سفراً . وقيل : أن تكون النفقة حلالاً وقال مقاتل : إتمامهما أن لا تستحلٍ فيهما ما لا يجوز ، وكانوا يشركون في إحرامهم ، يقولون : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك إلاَّ شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك . فقال : أتموهما ولا تخلطوا بهما شيئاً .
وقال الماتريدي : إنما قال ) وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ( لأن الكفرة كانوا يفعلون الحج لله والعمرة للصنم ، وقال المروزي : كان الكفار يحجون للأصنام .
وقرأ علقمة : وأقيموا الحج وقرأ طلحة بن مصرف : الحج ، بالكسر هنا ، وفي آل عمران ، وبالفتح في سائر القرآن وتقدّم قراءة ابن إسحاق : الحج بالكسر في جميع القرآن ، وسيأتي ذكر الخلاف في قوله : ) حَجَّ الْبَيْتَ ( في موضعه .
وقرأ ابن مسعود : واتموا الحج والعمرة إلى البيت لله وقرأ علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، وابن عمر والشعبي ، وأبو حيوة ، والعمرة ، لله بالرفع على الإبتداء والخبر ، فيخرج العمرة عن الأمر ، وينفرد به الحج وروي أيضاً : وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ، وينبغي أن يحمل هذا كله على التفسير ، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون . والله متعلق بأتمو وهو مفعول لأجله ويجوز أن يكون في موضع الحال ، ويكون العامل محذوفاً تقديره : كائنين لله ، ولا خلاف

" صفحة رقم 81 "
في أن الحج فرض ، وأنه أحد الأركان التي بني الإسلام عليها ، وفروضه : النية ، والإحرام ، والطواف المتصل بالسعي بين الصفا والمروة ، خلافاً لأبي حنيفة ، والوقوف بعرفة ، والجمرة ، على قول ابن الماجشون ، والوقوف بمزدلفة على قول الأوزاعي .
وأما أعمال العمرة : فنية ، وإحرام ، وطواف ، وسعي . ولا يدل الأمر بإتمام الحج والعمرة على فرضية العمرة ، ولا على ، أنها سنة ، فقد يصح صوم رمضان وشيء من شوال بجامع ما اشتركا فيه من المطلوبية ، وإن اختلفت جهتا الطلب ، ولذلك ضعف قول من استدل على أن العمرة فرض بقوله : وأتموا . وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومسروق ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وابن سيرين ، والشعبي ، وابن جبير ، وأبي بردة ، وعبد الله بن شدّاد ؛ ومن علماء الأمصار : الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيدة ، وابن حميم ، من المالكيين .
وذهب جماعة من الصحابة إلى أن العمرة سنة ، منهم : ابن مسعود ، وجابر ، ومن التابعين : النخعي ، ومن علماء الأمصار : مالك ، وأبو حنيفة ، إلاَّ أنه إذا شرع فيها عندهما وجب إتمامها . وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة القولين ، والحجج منقولة في كتب الفقه .
( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ( ظاهره ثبوت هذا الحكم للأمة ، وأنه يتحلل بالإحصار . وروى عن عائشة وابن عباس : أنه لا يتحلل من إحرامه إلاَّ بأداء نسكه ، والمقام على إحرامه إلى زوال إحصاره . وليس لمحرم أن يتحلل بالإحصار بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فإن كان إحرامه بعمرة لم يفت ، وإن كان بحج ففاته قضاه بالفوات بعد إحلاله منه وتقدم الكلام في الإحصار .
وثبت بنقل من نقل من أهل اللغة : أن الإحصار والحصر سواء ، وأنهما يقالان في المنع بالعدوّ ، وبالمرض ، وبغير ذلك من الموانع ، فتحمل الآية على ذلك ، ويكون سبب النزول ورد على أحد مطلقات الإحصار .
وليس في الآية تقييد ، وبهذا قال قتادة ، والحسن ، وعطاء ، والنخعي ، ومجاهد ، وأبو حنيفة ، وقال علقمة ، وعروة : الآية نزلت فيمن أحصر بالمرض لا بالعدوّ ، وقال ابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومالك ، والشافعي . لا يكون الإحصار إلاَّ بالعدوّ فقط .
قال ابن عباس : والآية نزلت فيمن أحصر بالعدوّ لا بالمرض . وقال مالك ، والشافعي : ولو أحصر بمرض فلا يحله إلاَّ البيت ، ويقيم حتى يفيق ، ولو أقام سنين .
وظاهر قوله : ) فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ( استواء المكي والآفاقي في ذلك ، وقال عروة ، والزهري ، وأبو حنيفة : ليس على أهل مكة إحصار .
وظاهر لفظ : أحصرتم ، مطلق الإحصار ، وسواء علم بقاء العدوّ استيطانه لقوته وكثرته ، فيحل المحصر مكانه من ساعته على قول الجمهور ، أو رجي زواله ، وقيل : لا يباح له التحلل إلاَّ بعد أن يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه لو زال العدوّ لم يدرك الحج ، فيحل حينئذ ، وبه قال ابن القاسم ، وابن الماجشون .
وقيل : من حصر عن الحج بعذر حتى يوم النحر فلا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة ، ومطلق الإحصار يشمل قبل عرفة وبعدها خلافاً لأبي حنيفة ، فإن من أحصر بمكة أو بعد الوقوف فلا يكون محصراً ؛ وبناء الفعل للمفعول يدل على أن المحصر بمسلم أو كافر سواء .
( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ( هو شاة ، قاله علي ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن جبير ، وقتادة ، وإبراهيم ، والضحاك ، ومغيرة . وقد سميت هدياً في قوله : ) هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ ( وقال الحسن ، وقتادة : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأدناه شاة . وبه قال مالك ، وأبو يوسف ، وزفر ، يكون من الثلاثة ، يكون المستيسر على حكم حال المهدي ، وعلى حكم الموجود .
وروى طاووس عن ابن عباس : أنه على قدر الميسرة ، وقال ابن عمر ، وعائشة ، والقاسم ، وعروة : هو جمل دون جمل ، وبقرة دون بقرة ، ولا يكون الهدي إلاَّ من هذين ، ولا يكون الشاة من الهدي ، وبه قال أبو حينفة .
قال ابن شبرمة : من الإبل خاصة ، وقال الأوزاعي يهدي

" صفحة رقم 82 "
الذكور من الإبل والبقر .
ولو عدم المحصر الهدي فهل له بدل ينتقل إليه ؟ قال أبو حنيفة : تكون في ذمته أبداً ولا يحل حتى يجد هدياً فيذبح عنه ، وقال أحمد : له بدل ، والقولان عن الشافعي ، فعلى القول الأول : يقيم على إحرامه أو يتحلل ، قولان . وعلى الثاني : يقوم الهدي بالدراهم ، ويشترى بها الطعام ، والكل أنه لا بدل للهدي ، والظاهر أن العمرة كالحج في حكم الإحصار ، وبه قال أكثر الفقهاء .
وقال ابن سيرين لا إحصار في العمرة لأنها غير مؤقتة .
والظاهر أنه لا يشترط سن في الهدي ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يجزي إلاَّ الثني فصاعداً ، وقال مالك : لا يجزي من الإبل إلاَّ الثني فصاعداً ، ويجوز اشتراك سبعة في بقرة أو بدنة ، وهو قول أبي حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي . وقال مالك : يجوز ذلك في التطوع لا في الواجب ، والظاهر وجوب ) مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ( وقال ابن القاسم : لا يهدي شيئاً إلاَّ إن كان معه هدي ، والجمهور على أنه يحل حيث أحصر وينجز هديه إن كان ثم هدي ، ويحلق رأسه .
وقال قتادة ، وإبراهيم : يبعث هديه إن أمكنه ، فإذا بلغ محله صار حلالاً . وقال أبو حنيفة : إن كان حاجاً فبالحرم متى شاء ، وقال أبو يوسف ، ومحمد في أيام النحر : وإن كان معتمراً فبالحرم في كل وقت عندهم جميعاً ، ونحر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) هديه حيث أحصر ، وكان طرف الحديبية الربى التي أسفل مكة ، وهو من الحرم ، وعن الزهري : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) نحر هديه في الحرم .
وقال الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة .
واختلفوا في الاشتراط في الحج إذا خاف أن يحصر بعدوِّ أو مرض ، وصيغة الاشتراط أن يقول إذا أهل : لبيك اللهم لبيك ، محلي حيث حبستني . فذهب الثوري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، وأصحابهم إلى أنه لا ينفعه الاشتراط . وقال أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، والشافعي : في القديم لا بأس أن يشترط ، وله شروط ، فيه حديث خرج في الصحيح : ولا قضاء عليه عند الجميع إلاَّ من كان لم يحج ، فعليه حجة الإسلام ، وشذ بن الماجشون فقال : ليس عليه حجة الإسلام ، وقد قضاها حين أحصر .
وما ، من قوله : ) فَمَا اسْتَيْسَرَ ( موصولة ، وهي مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : فعليه ما استيسر ، قاله الأخفش ، أو : في موضع نصب : فليهدِ قاله أحمد ابن يحيى ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالواجب له استيسر ، واستيسر هو بمعنى الفعل المجرد ، أي : يسر ، بمعنى : استغنى وغني ، واستصعب وصعب ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل .
ومن ، هنا تبعيضية ، وهي في موضع الحال من الضمير المستكن في استيسر العائد على ما ، فيتعلق بمحذوف التقدير : كائناً من الهدي ، ومن أجاز أن يكون : من ، لبيان الجنس ، أجاز ذلك هنا . والألف واللام في : الهدي ، للعموم .
وقرأ مجاهد ، والزهري ، وابن هرمز ، وأبو حيوة : الهدي ، بكسر الدال وتشديد الياء في الموضعين ، يعني هنا في الجر والرفع ، وروي ذلك عصمة عن عاصم .
( وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ ( هذا نهي عن حلق الرأس مغيّاً ببلوغ الهدي محله ، ومفهومه : إذا بلغ الهدي محله فاحلقوا روؤسكم . والضمير في . تحلقوا ، يحتمل أن يعود على المخاطبين بالإتمام ، فيشمل المحصر وغيره ، ويحتمل أن يعود على المحصرين ، وكلا الإحتمالين قال به قوم ، وأن يكون خطاباً للمحصرين هو قول الزمخشري ، قال : أي : لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله ، أي : مكانه الذي يجب نحره فيه ، ومحل الدين وقت وجوب قضائه ، وهو على ظاهر مذهب أبي حنيفة . انتهى كلامه .
وكأنه رجح كونه للمحصرين ، لأنه أقرب مذكور ، وظاهر قول ابن عطية أنه يختار أن يكون الخطاب لجميع الأمة محصراً كان المحرم أو مخلىًّ ، لأنه قدم هذا القول ، ثم حكى القول الآخر ، قال : ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة في قوله : ) وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ ( مجاز في الفاعل وفي المفعول ، أما في الفاعل ففي إسناد الحلق إلى الجميع ، وإنما يحلق بعضهم رأس بعض ، وهو مجاز شائع كثير ، تقول : حلقت : رأسي ، والمعنى أن غيره حلقه له : وأما المجاز ففي المفعول ، فالتقدير : شعر رؤوسكم ، فهو على حذف مضاف ، والخطاب يخص الذكور ، والحلق للنساء مثله في

" صفحة رقم 83 "
الحج وغيره ، وإنما التقصير سنتهنّ في الحج .
وخرّج أبو داود ، عن ابن عباس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( ليس على النساء حلق إنما عليهنّ التقصير ) . وأجمع أهل العلم على القول به ، واختلفوا في مقدار ما يقصر من شعرها على تقادير كثيرة ذكرت في الفقه ، ولم تتعرّض هذه الآية للتقصير فنتعرّض نحن له هنا ، وإنما استطردنا له من قوله : ) وَلاَ تَحْلِقُواْ ).
وظاهر النهي : الحظر ولتحريم حتى يبلغ الهدي محله ، فلو نسي فحلق قبل النحر ، فقال أبو حنيفة ، وابن الماجشون : هو كالعامد وقال ابن القاسم : لا شيء عليه أو تعمد ، فقال أبو حنيفة ، ومالك : لا يجوز . وقال الشافعي : يجوز . قالوا : وهو مخالف لظاهر الآية .
ودلت الآية على أن من النسك في الحج حلق الرأس ، فيدل ذلك على جوازه في غير الحج ، خلافاً المن قال : إن حلق الرأس في غير الحج مثلة ، لأنه لو كان مثلة لما جاز ، لا في الحج ولا غيره .
وقد روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حلق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه خبر قتله بثلاثة أيام ، وكان علي يحلق ، وقال أبو عمرو بن عبد البر ، أجمع العلماء على إباحة الحلق ، وظاهر عموم : ) وَلاَ تَحْلِقُواْ ( ، أو خصوصه بالمحصرين أن الحلق في حقهم نسك ، وهو قول مالك ، وأبو يوسف .
وقال أبو حنيفة ، ومحمد : لا حلق على المحصر والقولان عن الشافعي .
( حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ ( حيث أحصر من حل أو حرم ، قاله عمر ، والمسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، أو : المحرم ، قاله علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وتفسيرهم يدل على أن المحل هنا المكان ، ولم يقرأ إلاَّ بكسر الحاء . فيما علمنا ، ويجوز الفتح : أعني إذا كان يراد به المكان ، وفرق الكسائي هنا ، فقال : الكسر هو الإحلال من الإحرام ، والفتح هو موضع الحلول من الإحصار ، وقد تقدّم طرف من القول في محل الهدي ، ولم تتعرّض الآية لما على المحصر في الحج إذا تحلل بالهدي ، فعن النسيء عليه حجة ، وقال الحسن ، وابن سيرين ، وإبراهيم ، وعلقمة ، والقاسم ، وابن مسعود فيما روى عنه ، مجاهد ، وابن عباس ، فيما روى عنه ابن جبير : عليه حجة وعمرة ، فإن جمع بينهما ما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع ، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه ، فإن كان المحصر بمرض أو عدوّ ، محرماً بحج تطوّع ، أو بعمرة تطوّع ، وحل بالهدي فعليه القضاء عند أبي حنيفة ، وقال مالك ، والشافعي : لا قضاء على من أحصر بعدوَ لا في حج ولا في عمرة .
( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ ( سبب النزول حديث كعب بن عجرة المشهور ، وهو أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، رآه والقمل يتناثر من رأسه ، وقيل : رآه وقد قرح رأسه ، ولما تقدّم النهي عن الحلق إلى الغاية التي هي بلوغ الهدي كان ذلك النهي شاملاً ، فخص بمن ليس مريضاً ولا به أذى من رأسه ، أما هذان فأبيح لهما الحلق ، وثم محذوف يصح به الكلام ، التقدير : فمن كان منكم مريضاً ففعل ما بينا في المحرم من حلق أو غيره ، أو به أذى من رأسه فحلق ، وظاهر النهي العموم .
وقال بعض أهل العلم : هو مختص بالمحصر ، لأن جواز الحلق قبل بلوغ الهدي محله لا يجوز ، فربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر ، فأذن له في زوال ذلك بشرط الفدية ، وأكثر العلماء على أنه على العموم ، ويدل عليه قصة ابن عجرة .
ومنكم ، متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال ، لأنه قبل تقدّمه كان صفة : لمريضاً ، فلما تقدّم انتصب على الحال . ومِنْ ، هنا للتبعيض . وأجاز أبو البقاء أن يكون متعلقاً : بمريضاً ، وهو لا يكاد يعقل ، وأو به أذى من رأسه ، يجوز أن يكون من باب عطف المفردات ، فيكون معطوفاً على قوله : مريضاً ، ويرتفع : أذى ، على الفاعلية بالمجرور الذي هو به ، التقدير : أو كائناً به أذىً من رأسه ، ومن باب عطف الجملة على المفرد لكون تلك الجملة في موضع المفرد ، فتكون تلك الجملة معطوفة على قوله : مريضاً ، وهي في

" صفحة رقم 84 "
موضع مفرد ، لأن المعطوف على المفرد مفرد ، في التقدير : إذا كان جملة ، ويرتفع ، أذى ، إذ ذاك على الابتداء به في موضع الخبر ، فهو : في موضع رفع ، وعلى الإعراب السابق في موضع نصب ، وأجازوا أن يكون معطوفاً على إضمار : كان ، لدلالة : كان ، الأولى ، عليها . التقدير : أو كان به أذى من رأسه ، فاسم كان على هذا إمّا ضمير يعود على : من ؛ وبه أذى ، مبتدأ وخبر في موضع خبر كان ، وإما : أذى وبه ، في موضع خبر كان ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ، أو به أذى من رأسه ، معطوفاً علي كان ، وأذى ، رفع بالابتداء ، وبه ، الخبر متعلق بالاستقرار ، والهاء في . به ، عائدة على : من ، وكان قد قدم أبو البقاء أن : من ، شرطية ، وعلى هذا التقدير يكون ما قاله خطأ ، لأن المعطوف على جملة الشرط يجب أن يكون جملة فعلية ، لأن جملة الشرط يجب أن تكون فعلية ، والمعطوف على الشرط شرط ، فيجب فيه ما يجب في الشرط ، ولا يجوز ما قاله أبو البقاء على تقدير أن تكون : من ، موصولة . لأنها إذ ذاك مضمنة معنى إسم الشرط ، فلا يجوز أن توصل على المشهور بالجملة الاسمية ، والباء في : به ، للإلصاق ، ويجوز أن تكون ظرفية ، ومن رأسه ، يجوز أن يكون متعلقاً بما يتعلق به : به ، وأن يكون في موضع الصفة ل : أذىً ، وعلى التقديرين يكون : مِنْ ، لابتداء الغاية .
( فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ( ارتفاع : فدية ، على الابتداء ، التقدير : فعليه فدية ، أو على الخبر ، أي : فالواجب فدية . وذكر بعض المفسرين أنه قرىء بالنصب على إضمار فعل التقدير : فليفد فدية .
ومن صيام ، في موضع الصفة ، وأو ، هنا للتخيير ، فالفادي مخير في أيّ الثلاثة شاء .
وقرأ الحسن ، والزهري : أو نسك ، بإسكان السين ؛ والظاهر إطلاق الصيام والصدقة والنسك ، لكن بين تقييد ذلك السنة الثابتة في حديث ابن عجرة من أن : الصيام صيام ثلاثة أيام ، والصدقة إطعام ستة مساكين ، والنسك شاة . وإلى أن الصيام ثلاثة أيام ذهب عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وعلقمة ، والربيع ، وغيرهم . وبه قال مالك ، والجمهور ؛ وروي عن الحسن ، وعكرمة ، ونافع : عشرة أيام . ومحله زماناً متى اختار ، ومكاناً حيث اختار .
وأما الإطعام ، فذكر بعضهم انعقاد الإجماع على ستة مساكين ، وليس كما ذكر ، بل قال الحسن ، وعكرمة : يطعم عشرة مساكين ، واختلف في قدر الطعام ، ومحل الإطعام ، أما القدر فاضطربت الرواية في حديث عجرة ، واختلف الفقهاء فيه ، فقال أبو حنيفة : لكل مسكين من التمر صاع ، ومن الحنطة نصف صاع . وقال مالك ، والشافعي : الطعام في ذلك مدّان مدّان ، بالمدّ النبوي ، وهو قول أبي ثور ، وداود . وروي عن الثوري : نصف صاع من البر ، وصاع من التمر ، والشعير ، والزبيب .
وقال أحمد مرة بقول كقول مالك ، ومرة قال : مدّين من بر لكل مسكين ، ونصف صاع من تمر ؛
وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : يجزيه أن يغديهم ويعشيهم . وقال مالك ، والثوري ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي : لا يجزيه ذلك حتى يعطي لكل مسكين مدّين مدّين ، بمدّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وأما المحل فقال علي ، وإبراهيم ، وعطاء في بعض ما روي عنه ، ومالك وأصحابه إلاَّ ابن الجهم ، وأصحاب الرأي : حيث شاء وقال الحسن ، وطاووس ، ومجاهد ، وعطاء أيضاً ، والشافعي : الإطعام بمكة ، وأما النسك فشاة . قالوا بالإجماع ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل ، وأما محلها فحيث شاء ، قاله علي ، وإبراهيم ، ومالك ، وأصحابه إلاَّ ابن الجهم ، فقال : النسك لا يكون إلاَّ بمكة ، وبه قال عطاء في بعض ما روي عنه ، والحسن ، وطاووس ، ومجاهد ، وأبو حنيفة ، والشافعي .
وظاهر الفدية أنها لا تكون إلاَّ بعد الحلق ، إذ التقدير : فحلق ففدية ، وقال الأوزاعي : يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق ، فيكون المعنى : ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك إن أراد الحلق .
وظاهر الشرط أن الفدية لا تتعلق إلاَّ بمن به مرض أو أذى فيحلق ، فلو حلق ، أو جزّ ، أو أزال بنوره شعره من غير ضرورة ، أو لبس المخيط ، أو تطيب من غير عذر عالماً ، فقال أبو حنيفة ، والشافعي وأصحابهما ، وأبو ثور : لا يخير في غير الضرورة ، وعليه دم لا غير وقال مالك : يخير ، والعمد والخطأ بضرورة ، وغيرها سواء عنده .
فلو فعله ناسياً ، فقال إسحاق ، وداود : لا شيء عليه . وقال أبو حنيفة ، والثوري ، ومالك ، والليث : الناسي كالعامد في وجوب ذلك

" صفحة رقم 85 "
القدر ، وعن الشافعي القولان ، وأكثر العلماء يوجبون الفدية بلبس المخيط وتغطية الرأس ، أو بعضه ولبس الخفين ، وتقليم الأظفار ، ومس الطيب ، وإماطة الأذى ، وحلق شعر الجسد ، أو مواضع الحجامة ، الرجل والمرأة في ذلك سواء ، وبعضهم يجعل عليهما دماً في كل شيء من ذلك . وقال داود : لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد .
( فَإِذَا أَمِنتُمْ ( يعني : من الإحصار ، هذا الأمنُ مرتب تفسيره على تفسير الإحصار ، فمن فسره هناك بالإحصار بالمرض لا بالعدو ، وجعل الأمن هنا من المرض لا من العدو ، وهو قول علقمة ، وعروة . والمعنى : فإذا برئتم من مرضكم .
ومن فسره بالإحصار بالعدو لا بالمرض قال : هنا الأمن من العدو لا من المرض ، والمعنى : فإذا أمنتم من خوفكم من العدو .
ومن فسر الإحصار بأنه من العدو والمرض ونحوه ، فالأمن عنده هنا من جميع ذلك ، والأمن سكون يحصل في القلب بعد اضطرابه . وقد جاء في الحديث : ( الزكام أمان من الجذام ) خرّجه ابن ماجة ، وجاء : من سبق العاطس بالحمد ، أمن من الشوص واللوص والعلوص . أي : من وجع السنّ ، ووجع الأذن ، ووجع البطن .
والخطاب ظاهره أنه عام في المحصر وغيره ، أي : فاذا كنتم في حال أمن وسعة ، وهو قول ابن عباس وجماعة ، وقال عبد الله بن الزبير ، وعلقمة ، وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلَّى سبيلهم .
( فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ ( تقدّم الكلام في المتاع في قوله : ) وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( وفسر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين ، لأن حق العمرة أن تفرد بسفر غير سفر الحج ، وقيل : لتمتعه بكل ما لا يجوز فعله ، من وقت حله من العمرة إلى وقت انشاء الحج .
واختلف في صورة هذا التمتع الذي في الآية ، فقال عبد الله بن الزبير : هو فيمن أحصر حتى فاته الحج ثم قدم مكة فخرج من إحرامه بعمل عمرة ، واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم يحج ويهدي .
وقال ابن جبير ، وعلقمة ، وإبراهيم ، معناه : فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ، ولم تقضوا عمرة ، تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ، ولكن حللتم حيث أحصرتم بالهدي ، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة ، واعتمرتم في أشهر الحج ، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي .
وقال علي : أي : فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدي .
وقال السدي : فمن نسخ حجه بعمرة فجعله عمرة ، واستمتع بعمرته إلى حجه .
وقال ابن عباس ، وعطاء ، وجماعة : هو الرجل تقدّم معتمراً من أفق في أشهر الحج ، فإذا قضى عمرته أقام حلالاً بمكة حتى ينشىء منها الحج من عامة ذلك ، فيكون مستمتعاً بالإحلال إلى إحرامه بالحج ، فمعنى التمتع : الإهلال بالعمرة ، فيقيم حلالاً يفعل ما يفعل الحلال بالحج ، ثم يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات .
والآية محتملة لهذه الأقوال كلها ، ولا خلاف بين العلماء في وقع الحج على ثلاثة انحاء . تمتع ، وافراد ، وقران . وقد بين ذلك في كتب الفقه .
ونهى عمر عن التمتع لعله لا يصح ، وقد تأوله قوم على أنه فسخ الحج في العمرة ، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا .
( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ( تقدّم الكلام على هذه الجملة تفسيراً وإعراباً في قوله : ) فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ( فأغنى عن إعادته .
والفاء في : فإذا أمنتم ، للعطف وفي : فمن تمتع ، جواب الشرط ، وفي : فما ، جواب للشرط الثاني . ويقع الشرط وجوابه جواباً للشرط بالفاء ، لا نعلم في ذلك خلافاً لجواب نحو : إن دخلتِ الدار فإن كلمتِ زيداً فأنت طالق .
وهدي التمتع نسك عند أبي حنيفة لتوفيق الجمع بين العبادتين في سفره ، ويأكل منه ، وعند الشافعي : يجرى مجرى الجنايات لترك إحدى السفرتين ، ولا يأكل منه ، ويذبحه يوم

" صفحة رقم 86 "
النحر عند أبي حنيفة ، ويجوز عند الشافعي ذبحه إذا أحرم بحجته ، والظاهر وجوب الذبح عند حصول التمتع عقيبه .
وصورة التمتع على من جعل قوله : فإذا أمنتم فمن تمتع ، خاصة بالمحصرين ، تقدّمت في قول ابن الزبير ، وقول ابن جبير ومن معه ، وأما على قول من جعلها عامة في المحصر وغيره فالتمتع كيفيات .
إحداها : أن يحرم غير المكي بعمرة أولاً في أشهر الحج في سفر واحد في عام ، فيقدم مكة . فيفرع من العمرة ثم يقيم حلالاً إلى أن ينشىء الحج من مكة في عام العمرة قبل أن يرجع إلى بلده ، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته ، ويكون الحج والعمرة عن شخص واحد .
الثانية : أن يجمع بين الحج والعمرة في الإحرام ، وهو المسمى : قراناً ، فيقول : لبيك بحجة وعمرة معاً ، فإذا قدم مكة طاف بحجه وعمرته وسعى . فروي عن علي وابن مسعود : يطوف طوافين ويسعى سعيين ، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد ، وابن أبي ليلى ؛ وروي عن عبد الله بن عمر : طواف واحد وسعي واحد لهما ، وبه قال عطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وطاووس ، ومالك ، والشافعي وأصحابهما ، وإسحاق ، وأبو ثور .
وجعل القران من باب التمتع لترك النصب في السفر إلى العمرة مرة ، وإلى الحج أخرى ، ولجمعهما ، ولم يحرم بكل واحد من ميقاته ، فهذا وجه من التمتع لا خلاف في جوازه ، قيل : وأهل مكة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلاَّ بسياق الهدي ، وهو عندكم : بدنة لا يجوز دونها .
وقال مالك : ما سمعت أن مكياً قرن ، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام ، وعلى هذا جمهور الفقهاء ؛ وقال ابن الماجشون . إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران ، وقال عبد الله بن عمر : المكي إذا تمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع .
الثانية : أن يحرم بالحج ، فإذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة ، ثم حل وأقام حلالاً حتى يهل بالحج يوم الترويه ، وجمهور العلماء على ترك العمل بها . وروي عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي جوازها ، وبه قال أحمد .
وظاهر الآية يدل على وجوب الهدي للواحد . أو الصوم لمن لم يجد إذا تمتع بالعمرة في أشهر الحج ، ثم رجع إلى بلده ، ثم حج من عامه . وهو مروي عن سعيد بن المسيب ، والحسن .
وقد روي عن الحسن أنه لا يكون متمتعاً فلا هدي ولا صوم ، وبه قال الجمهور ، وظاهر الآية أنه لو اعتمر بعد يوم النحر فليس متمتعاً ، وعلى هذا قالوا : الإجماع لأن التمتع مغياً إلى الحج ولم يقع المغيا .
وشذ الحسن فقال : هي متعة ، والظاهر أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج ، ثم أقام إلى أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع ، وبه قال طاووس ، وقال الجمهور : لا يكون متمتعاً .
( فَمَن لَّمْ يَجِدْ ( مفعول : يجد ، محذوف لفهم المعنى ، التقدير : فمن لم يجد ما استيسر من الهدي ، ونفي الوجدان إما لعدمه أو عدم ثمنه . ) فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ( : ارتفع صيام على الإبتداء ، أي : فعليه ، أو على الخبر ، أي : فواجب . وقرىء : فصيامَ ، بالنصب أي : فليصم صيام ثلاثة أيام ، والمصدر مضاف للثلاثة بعد الاتساع ، لأنه لو بقي على الظرفية لم تجز الإضافة . ) فِي الْحَجّ ( أي : في أشهر الحج فله أن يصومها فيها ما بين الإحرامين ، إحرام العمرة ، وإحرام الحج ، قاله عكرمة ، وعطاء ، وأبو حنيفة ، قال : والأفضل أن يصوم يوم الترويه وعرفة ويوماً قبلهما ، وإذ مضى هذا الوقت لم يجزه إلاَّ الدم ، وقال عطاء أيضاً ، ومجاهد : لا يصومها إلاَّ في عشر ذي الحجة ، وبه قال الثوري ، والأوزاعي . وقال ابن عمر ، والحسن ، والحكم : يصوم يوماً قبل الترويه ، ويوم الترويه ، ويوم عرفة ، وكل هؤلاء يقولون : لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة ، لأنه بانقضائه ينقضي الحج . وقال علي ، وابن عمر : لو فاته صومها قبل يوم النحر صامها في أيام التشريق ، لأنها من أيام الحج . وعن عائشة ، وعروة ، وابن عمر . في رواية ابنه سالم عنه : أنها أيام التشريق . وقيل : زمانها بعد إحرامه ، وقيل : يوم النحر ، قاله علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، وطاووس ، وعطاء ، والسدي ؛ وبه قال مالك ؛ وقال الشافعي ، وأحمد : يصومهن ما بين أن يحرم بالحج إلى ى يوم عرفة ، وهو قول ابن عمر ، وعائشة .
وروي هذا عن مالك ، وهو قوله في ( الموطأ ) ليكون يوم عرفة مفطراً . وعن أحمد : يجوز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم ، وقال قوم : له أن يؤخرها ابتداءً إلى يوم التشريق ، لأنه لا يجب عليه الصوم إلاَّ بأن لا يجد الهدي يوم النحر .
وقال عروة : يصومها ما دام بمكة ، وقاله أيضاً مالك ، وجماعة من أهل المدينة ،

" صفحة رقم 87 "
وهذه الأقوال كلها تحتاج إلى دلائل عليها .
وظاهر قوله : في الحج ، أن يكون المحذوف : زماناً ، لأنه المقابل في قوله : ) وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ( إذ معناه في وقت الرجوع ، ووقت الحج هو أشهره ، فنحر الهدي للمتمتع لم يشرط فيه زمان ، بل ينبغي أن يتعقب التمتع لوقوعه جواباً للشرط ، فإذا لم يجده فيجب عليه صوم ثلاثة أيام في الحج ، أي : في وقته ، فمن لحظ مجرد هذا المحذوف أجاز الصيام قبل أن يحرم بالحج ، وبعده ، وجوز ذلك إلى آخر أيام التشريق ، لأنها من وقت الحج ؛ ومن قدر محذوفاً آخر ، أي : في وقت أفعال الحج ، لم يجز الصيام إلاَّ بعد الإحرام بالحج ، والقول الأول أظهر لقلة الحذف ، ومن لم يلحظ أشهر الحج ، وجوز أن يكون ما دام بمكة ، فإذا اعتقد أن المحذوف ظرف مكان ، أي : فصيام ثلاثة أيام في أماكن الحج . والظاهر : وجوب انتقاله إلى الصوم عند عدم الوجدان للهدي ، فلو ابتدأ في الصوم ، ثم وجد الهدي مضى في الصوم وهو فرضه ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، والشافعي ، وأبو ثور ، واختاره ابن المنذر .
وقال مالك : أحب أن يهدي ، فإن صام أجزأه ، وقال أبو حنيفة : إن أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدي ، ولو أيسر بعد تمامها كان له أن يصوم السبعة الأيام ، وبه قال الثوري ، وابن أبي نجيح ، وحماد .
( وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ( قرأ زيد بن علي ، وابن أبي عبدة : وسبعة ، بالنصب . قال الزمخشري : عطفاً على محل ثلاثة أيام ، كأنه قيل : فصيام ثلاثة أيام كقولك : ) أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ( انتهى . وخرجه الحوفي ، وابن عطية على إضمار فعل ، أي : فليصوموا ، أو : فصوموا سبعة ، وهو التخريج الذي لا ينبغي أن يعدل عنه ، لأنا قد قررنا أن العطف على الموضع لا بد فيه من المحرز ، ومجيء : وسبعة بالتاء هو الفصيح إجراء للمحذوف مجرى المنطوق به ، كما قيل : وسبعة أيام ، فحذف لدلالة ما قبله عليه ، وللعلم بأن الصوم إنما هو الأيام ، ويجوز في الكلام حذف التاء إذا كان المميز محذوفاً ، وعليه جاء : ثم اتبعه بست من شوال ، وحكى الكسائي : صمنا من الشهر خمساً ، والعامل في : إذا ، هو صيام ثلاثة أيام ، وبه متعلق في الحج لا يقال ذا عمل فيهما ، فقد تعدى العامل إلى ظرفي زمان ، لأن ذلك يجوز مع العطف والبدل ، وهنا عطف بالواو شيئين على شيئين ، كما تقول : أكرمت زيداً يوم الخميس وعمراً يوم الجمعة .
وإذا ، هنا محض ظرف ، ولا شرط فيها ، وفي : رجعتم ، التفات ، وحمل على معنى : من ، أما الالتفات . فإن قوله : ) فَمَن تَمَتَّعَ ( ) فَمَن لَّمْ يَجِدْ ( اسم غائب ، ولذلك استتر في الفعلين ضمير الغائب ، فلو جاء على هذا النظم لكان الكلام إذا رفع ، وأما الحمل على المعنى فإنه أتى بضمير الجمع ، ولو راعى اللفظ لأفرد ، ولفظ الرجوع مبهم ، وقد جاء تبيينه في السنة .
ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر ، في آخر : وليهد فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس : وسبعة إذا رجع إلى أهله إلى أمصاركم ، وبه قال قتادة ، وعطاء ، وابن جبير ، ومجاهد ، والربيع ، وقالوا : هذه رخصة من الله تعالى والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه ، إلاّ أن يتشدد أحد ، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان ؛ وقال أحمد ، وإسحاق : يجزئه الصوم في الطريق ؛ وقال مجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم : المعنى إذا رجعتم نفرتم وفرغتم من أعمال الحج ، وهذا مذهب أبي حنيفة . فمن بقي بمكة صامها ، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق ؛ قال مالك في ( الكتاب ) : إذا رجع من منىً فلا بأس أن يصوم .
( تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ( تلك إشارة إلى مجموع الأيام المأمور بصومها قبل ، ومعلوم أن ثلاثة وسبعة عشرة ، فقال الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد الباذش ما معناه : أتى بعشرة توطئة للخبر بعدها ، لا أنها هي الخبر المستقبل به فائدة الإسناد ، فجيء بها للتوكيد ، كما تقول : زيد رجل صالح .
وقال ابن عرفة : مذهب العرب إذا ذكروا عددين أن يجملوهما .
وحسّن هذا القول الزمخشري بأن قال : فائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة ، كما علم تفصيلاً ليحاط به من جهتين ، فيتأكد العلم ، وفي أمثال العرب : علمان خير من علم ؛ قال ابن عرفة : وإنما تفعل ذلك العرب لقلة معرفتهم بالحساب ، وقد جاء : لا نحسب ولا نكتب ، وورد

" صفحة رقم 88 "
ذلك في كثير من أشعارهم ؛ قال النابغة : توهمت آيات لها فعرفتها
لست أعوامٍ وذا العام سابع
وقال الأعشى : ثلاث بالغداة فهي حسبي
وست حين يدركني العشاءُ
فذلك تسعة في اليوم ربي
وشرب المرء فوق الري داءُ
وقال الفرزدق : ثلاث واثنتان وهن خمس
وسادسة تميل إلى شمام
وقال آخر : فسرت إليهم عشرين شهرا
وأربعة فذلك حجتان
وقال المفضل : لما فصل بينهما بإفطار قيدها بالعشرة ليعلم أنها كالمتصلة في الأجر ، وقال الزجاج : جمع العددين لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة ، لأن الواو قد تقوم مقام : أو ، ومنه ) مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( فأزال احتمال التخيير ، وهو الذي لم يذكر ابن عطية إلا إياه ، وهو قول جار على مذهب أهل الكوفة لا على مذهب البصريين ، لأن الواو لا تكون بمعنى : أو .
وقال الزمخشري : الواو ، قد تجيء للإباحة في نحو قولك : جالس الحسن ، وابن سيرين . ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً ، أو واحداً منهما كان ممتثلاً ؟ ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة . انتهى كلامه . وفيه نظر ، لأن لا تتوهم الإباحة هنا ، لأن السياق إنما هو سياق إيجاب ، وهو ينافي الإباحة ولا ينافي التخيير ، لأن التخيير قد يكون في الواجبات .
وقد ذكر النحويون الفرق بين التخيير والإباحة ، وقيل : هو تقديم وتأخير تقديره : فتلك عشرة : ثلاثة في الحج وسبعة إذا جعتم ، وعزي هذا القول إلى أبي العباس المبرد ، ولا يصح مثل هذا القول عنه ، وننزه القرآن عن مثله ، وقيل : ذكر

" صفحة رقم 89 "
العشرة لئلا يتوهم أن السبعة مع الثلاثة كقوله تعالى : ) وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ( أي مع اليومين اللذين بعدها في قوله : ) خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ ).
وقيل : ذكر العشرة لزوال توهم أن السبعة لا يراد بها العدد ، بل الكثرة ، روى أبو عمرو بن العلاء ، وابن الأعرابي عن العرب : سبع الله لك الأجر ، أي : أكثر ، أرادوا التضعيف وهذا جاء في الأخبار ، فله سبع ، وله سبعون ، وله سبعمائة ، وقال الأزهري في قوله تعالى : ) سَبْعِينَ مَرَّةً ( هو جمع السبع الذي يستعمل للكثرة ، ونقل أيضاً عن المبرد أنه قال : تلك عشرة ، لأنه يجوز أن يظنّ السامع أن ثم شيئاً آخر بعد السبع ، فأزال الظنّ . وقيل : أتى بعشرة لإزالة الإبهام المتولد من تصحيف الخط ، لاشتباه سبعة وتسعة ، وقيل : أتى بعشر لئلا يتوهم أن الكمال مختص بالثلاثة المضمومة في الحج ، أو بالسبعة التي يصومها إذا رجع ، والعشرة هي الموصوفة بالكمال ، والأحسن من هذه الأقاويل القول الأول .
قال الحسن : كاملة في الثواب في سدّها مسدّ الهدي في المعنى لذي جعلت بدلاً عنه ، وقيل : كاملة في الغرض والترتيب ، ولو صامها على غير هذا الترتيب لم تكن كاملة ، وقيل : كاملة في الثواب لمن لم يتمتع .
وقيل : كاملة ، توكيد كما تقول : كتبته بيدي ، ( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ). قال الزمخشري : وفيه ، يعني : في التأكيد زيادة توصية بصيامها ، وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها ، كما تقول للرجل : إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به ، وكان منك بمنزلة : الله الله لا تقصر ، وقيل : الصيغة خبر ومعناها الأمر ، أي : اكملوا صومها ، فذلك فرضها . وعدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكداً خلافاً لظاهر دخول المكلف به في الوجود ، فعبر عنه بالخبر الذي وقع واستقر .
وبهذه الفوائد التي ذكرناها ردّ على الملحدين في طعنهم بأن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة ، فهو إيضاح للواضحات ، وبأن وصف العشرة بالكمال يوهم وجود عشرة ناقصة ، وذلك محال .
والكمال وصف نسبيّ لا يختص بالعددية . كما زعموا لعنهم الله : وكم من عائب قولاً صحيحا
وآفته من الفهم السقيم
) ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( تقدّم ذكر التمتع ، وذكر ما يلزمه ، وهو : الهدي ، وذكر بدله : وهو الصوم ، واختلفوا في المشار إليه بذلك ، فقيل : المتمتع وما يلزمه ، وهو مذهب أبي حنيفة ، فلا متعة ، ولا قران لحاضري المسجد الحرام ، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم جناية لا يأكل منه ، والقارن والمتمع من أهل الأفاق دمهما دم نسك يأكلان منه ، وقيل : ما يلزم المتمتع وهو : الهدي ، وهو مذهب الشافعي لا يوجب على حاضري المسجد الحرام شيئاً ، وإنما الهدي ، وبدله على الأفقي .
وقد تقدّم الخلاف في المكي هل يجوز له المتعة في أشهر الحج أم لا ، والأظهر في سياق الكلام أن الإشارة إلى جواز التمتع وما يترتب عليه ، لأن المناسب في الترخص : اللام ، والمناسب في الواجبات على .
وإذا جاء ذلك : لمن ، ولم يجىء : على من ، وزعم بعضهم أن : اللام ، هنا بمعنى : علي ، كقوله : ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ).
وحاضروا المسجد الحرام . قال ابن عباس ، ومجاهد : أهل الحرم كله ، وقال مكحول ، وعطاء : من كان دون المواقيت من كل جهة ، وقال الزهري : من كان على يوم أو يومين ، وقال عطاء بن أبي رباح : أهل مكة ، وضجنان ، وذي طوى ، وما أشبهها . وقال قوم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة ، وهو مذهب أبي حنيفة . وقال قوم : أهل الحرم ، ومن كان من أهل الحرم على مسافة تقصر فيها الصلاة ، وهو مذهب الشافعي . وقال قوم : أهل مكة ، وأهل ذي طوى ، وهو مذهب مالك . وقال بعض العلماء : من

" صفحة رقم 90 "
كان بحيث تجب عليه الجمعة بمكة فهو حضري ، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي ، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة .
والظاهر أن حاضري المسجد الحرام سكان مكة فقط ، لأنهم هم الذين يشاهدون المسجد الحرام ، وسائر الأقوال لا بد فيها من ارتكاب مجاز ، فيه بعد ، وبعضه أبعد من بعض ، وذكر حضور الأهل ولامراد حضوره هو ، لأن الغالب أن يسكن حيث أهله ساكنون .
( وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( لما تقدم : أمر ، ونهي ، وواجب ، ناسب أن يختم ذلك بالأمر بالتقوى في أن لا يتعدى ما حدّه الله تعالى ، ثم أكد الأمر بتحصيل التقوى بقوله : ) وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ، لأن من علم شدة العقاب على المخالفة كان حريصاً على تحصيل التقوى ، إذ بها يأمن من العقاب ، وشديد العقاب من باب إضافة الصفة للموصوف للشبهة ، والإضافة والنصب أبلغ من الرفع ، لأن فيها إسناد الصفة للموصوف ، ثم ذكر ، من هي له حقيقة ، والرفع إنما فيه إسنادها لمن هي له حقيقة فقط دون أسناد للموصوف .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنهم يسألون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن حال الأهلة ، وفائدتها في تنقلها من الصغر إلى الكبر ، وكان من الإخبار بالمغيب ، فوقع السؤال عن ذلك ، وأجيبوا بأن حكمة ذلك كونها جعلت مواقيت لمصالح العباد ومعاملاتهم ودياناتهم ، ومن أعظم فائدتها كونها مواقيت للحج ، ثم ذكر شيئاً مما كان يفعله من أحرم بالحج ، وكانوا يرون ذلك براً ، فرد عليهم فيه ، وأمروا بأن يأتوا البيوت من أبوابها ، وأخبروا أن البر هو في تقوى الله ، ثم أمروا بالتقوى راجين للفلاح عند حصولها ، ثم أمروا بالقتال في نصرة الدين من قاتلهم ، ونهوا عن الاعتداء ، وأخبر أن الله تعالى لا يحب من اعتدى ، ثم أمروا بقتل من ظفروا به ، وبإخراج من أخرجهم من المكان الذي أخرجوه منه ، ثم أخبر أن الفتنة في الدين أو بالإخراج من الوطن ، أو بالتعذيب أشد من القتل ، لأن في القتل راحة من هذا كله ، ثم لما تضمن الأمر بالإخراج أن يخرجوا من المكان الذي أخرجوا منه ، وكان ذلك من جملته المسجد الحرام نهوا عن مقاتلتهم فيه إلاَّ إن قاتلوكم ، وذلك لحرمة المسجد الحرام جاهلية واسلاماً ، ثم أمر تعالى بقتلهم إذا ناشبوا القتال ، وكان فيه بشارة بأنا نقتلهم ، إذ أمرنا بقتلهم لا بقتالهم ، ولا يقتل الإنسان إلاَّ من كان متمكناً من قتله ، ثم ذكر أن من كفر بالله فمثل هذا الجزاء جزاؤه من مقاتلته وإخراجه من وطنه وقتله ، ثم أخبر تعالى أنه غفور رحيم لمن انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام ، فإن الإسلام يجبُّ ما قبله ، ولما كان الأمر بالقتال ، فيما سبق ، مقيداً مرة بمن قاتل ، ومرة بمكان حتى يبدأ بالقتال فيه ، أمرهم بالقتال على كل حال من ، قاتل ومن لم يقاتل ، وعند المسجد الحرام وغيره ، فنسخ هذا الأمر تلك القيود ، وصار مغياً أو معللاً بانتفاء الفتنة وخلوص الدين لله ، وختم هذا الأمر بأن من انتهى ودخل في الإسلام فلا اعتداء عليه ، وإنما الاعتداء على الظالمين ، وهم الكافرون ، كما ختم الأمر السابق بأن انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام غفر الله له ورحمه ، ثم أخبر تعالى أن هتك حرمة الشهر الحرام بسبب القتال فيه ، وهو شهر ذي القعدة ، وكانوا يكرهون القتال فيه حين خرجوا العمرة القضاء جائز لكم بسبب هتكهم حرمته فيه حين قاتلوكم فيه عام الحديبية ، وصدوكم عن البيت ، ثم أكد ذلك بقوله : ) وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ( فاقتضى أن كل من هتك أي حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة ، فكما هتكوا حرمة شهر كم لا تبالوا بهتك حرمته لهم ، ثم أمر بالمجازاة لمن اعتدى علينا بعقوبة مثل عقوبته ، تأكيداً لما سبق ، وأمر بالتقوى ، فلا يوقع في المجازاة غير ما سؤغه له ، ثم قال إنه تعالى مع من اتقى ، ومن كان الله معه فهو المنصور على عدوه ، ثم أمر تعالى بإنفاق المال في سبيله ونصرة دينه ، وأن لا يخلد إلى الدعة والرغبة في إصلاح هذه الدنيا والإخلاد إليها ، ونهانها عن الالتباس بالدعة والهوينا فنضعف عن أعدائنا ، ويقوون هم علينا ، فيؤول أمرنا معهم لضعفنا وقوتهم إلى هلاكنا ، وفي هذا الأمر وهذا النهي من الحض على الجهاد ما لا يخفى ، ثم أمرهم تعالى بالإحسان ، وأنه تعالى يحب من أحسن ، ثم أمر تعالى بإتمام الحج والعمرة بأن يأتوا بهما تأمين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ، وإن يكون فعل ذلك لوجه الله تعالى لا يشوب فعلها رياء ولا سمعة ، وكانوا في الجاهلية قد يحجون لبعض أصنامهم ، فأمروا بإخلاص العمل في ذلك لله تعالى .
ثم ذكر أن من أحصر وحبس عن إتمام الحج أو العمرة فيجب عليه ما

" صفحة رقم 91 "
يسر من الهدي ، والهدي يشمل : البعير ، والبقرة ، والشاة ، ثم نهى عن حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله ، والذي جرت العادة به في الهدى أنه محله هو الحرم ، فخوطبوا بما كان سابقاً لهم علمه به ، ولما غيا الحلق بوقوع هذه الغاية من بلوغ الهدي محله ، وكان قد يعرض للإنسان ما يقتضى حلق رأسه لمرض أو أذى برأسه من قمل أو قرح أو غير ذلك ، فأوجب تعالى عليه بسبب ذلك فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك . وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما انبهم من هذا الإطلاق في هذه الثلاثة في حديث كعب بن عجرة على ما مر تفسيره ، واقتضى هذا التركيب التخيير بين هذه الثلاثة ، ثم ذكر تعالى أنهم إذا كانوا آمنين ، وتمتع أحدهم بالعمرة إلى وقت الإحرام بالحج فإنه يلزمه ما استيسر من الهدي ، وقد فسرنا ما استيسر من الهدي ، وأنه إذا لم يجد ذلك بتعذر ثمن الهدي ، أو فقدان الهدي ، فيلزمه صيام ثلاثة أيام في الحج ، أي : في زمن وقوع الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله ووطنه .
ثم أخبر أن هذه الأيام ، وإن اختلف زمان صيامها ، فمنها ما يصومه وهو ملتبس بهذه الطاعة الشريفة ، ومنها ما يصومه غير ملتبس بها ، لكن الجميع كامل في الثواب والأجر ، إذ هو ممثل ما أمر الله تعالى به ، فلا فرق في الثواب بين ما أمر بإيقاعه في الحج ، وما أمر بإيقاعه في غير الحج .
ثم ذكر أن هذا التمتع ، ولازمه من الهدي أو الصوم ، هو مشروع لغير المكي ، ثم لما تقدّم منه تعالى في هذه الآيات أوامر ونواهي ، كرر الأمر بالتقوى ، وأعلم أنه تعالى شديد العقاب لمن خالف ما شرع تعالى .
وجاءت هذه الآية شديدة الالتئام ، مستحكمة النظام ، منسوقاً بعضها على بعض ، ولا كنسق اللآلىء مشرقة الدلالة ولا كإشراق الشمس في برجها العالي . سامية في الفصاحة إلى أعالي الذرى ، معجزة أن يأتى بمثلها أحد من الوري .
( ) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الاٌّ خِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاٌّ خِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَائِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( )
البقرة : ( 197 ) الحج أشهر معلومات . . . . .
( الجدال ( : فعال مصدر : جادل ، وهي المخاصمة الشديدة ، مشتق ذلك من الجدالة ، وهي الأرض . كان كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه ، فيكون كمن ضرب منه الجدالة ، ومنه قول الشاعر :

" صفحة رقم 92 "
قد أنزل الآلة بعد الآلة
وأنزل العاجز بالجدالة
أي : بالأرض ، وقيل : اشتق ذلك من الجدل وهو القتل ، ومنه قيل : زمام مجدول ، وقيل : له جديل ، لقتله وقيل : للصقر : الأجدل لشدّته واجتماع حلقه ، كأن بعضه قتل في بعض فقوي .
( خَيْرَ الزَّادِ ( : معروف ، وهو ما يستصحبه الإنسان للسفر من مأكول ، ومشروب ، ومركوب ، وملبوس ، إن احتاج إلى ذلك ، وألفه منقلبة عن واو ، يدل على ذلك قولهم : تزوّد ، تفعَّل من الزاد .
( الإفاضة ( : الانخراط والاندفاع والخروج من المكان بكثرة شبه بفيض الماء والدمع ، فأفاض من الفيض لا من فوض ، وهو اختلاط الناس بلا سايس يسوسهم ، وأفعل هذا بمعنى المجرد ، وليست الهمزة للتعدية ، لأنه لا يحفظ : أفضت زيد ، بهذا المعنى الذي شرحناه ، وإن كان يجوز في فاض الدمع أن يعدي بالهمزة ، فتقول : أفاض الحزن ، أي : جعله يفيض .
وزعم الزجاج ، وتبعه الزمخشري ، وصاحب ( المنتخب ) أن الهمزة في أفاض الناس للتعدية ، قال : وأصله : أفضتم أنفسكم ، وشرحه صاحب ( المنتخب ) بالاندفاع في السير بكثرة ، وكان ينبغي أن يشرحه بلفظ متعدد .
قال معناه : دفع بعضكم بعضاً ، قال : لأن الناس إذا انصرفوا مزدحمين دفع بعضهم بعضاً ، وقيل : الإفاضة الرجوع من حيث بدأتم ، وقيل : السير السريع ، وقيل : التفرق بكثرة ، وقيل : الدفع بكثرة ، ويقال : رجل فياض أي مندفق بالعطاء ، وقيل : الانصراف ، من قولهم : أفاض بالقداح ، وعلى القداح ، وهي سهام الميسر ، وأفاض البعير بجرانه .
( مّنْ عَرَفَاتٍ ( علم على الجبل الذي يقفون عليه في الحج ، فقيل : ليس بمشتق ، وقيل : هو مشتق من المعرفة ، وذلك سبب تسميته بهذا الاسم .
وفي تعيين المعرفة أقاويل : فقيل : لمعرفة إبراهيم بهذه البقعة إذ كانت قد نعتت له قبل ذلك وقيل : لمعرفته بهاجر وإسماعيل بهذه البقعة ، وكانت سارة قد أخرجت إسماعيل في غيبة إبراهيم ، فانطلق في طلبه حين فقده ، فوجده وأمّه بعرفات ، وقيل : لمعرفته في ليلة عرفة أن الرؤيا التي رآها ليلة يوم التروية بذبح ولده كانت من الله ، وقيل : لما أتى جبريل على آخر المشاعر في توقيفه لابراهيم عليها ، قال له : أعرفت ؟ قال : عرفت ، فسميت عرفة ، وقيل : لأن الناس يتعارفون بها ، وقيل : لتعارف آدم وحوّاء بها ، لأن هبوطه كان بوادي سرنديب ، وهبوطها كان بجدّة ، وأمره الله ببناء الكعبة ، فجاء ممتثلاً ، فتعارفا بهذه البقعة .
وقيل : من العرف ، وهو الرائحة الطيبة ، وقيل : من العرف ، وهو : الصبر ، وقيل : العرب تسمي ما علا عرفات وعرفة ، ومنه : عرف الديك لعلوه ، وعرفات مرتفع على جميع جبال الحجاز ، وعرفات وإن كان اسم جبل فهو مؤنث ، حكى سيبويه : هذه عرفات مباركاً فيها ، وهي مرادفة لعرفة ، وقيل : إنها جمع ، فإن عنى في الأصل فصحيح وإن عنى حالة كونها علماً فليس بصحيح ، لأن الجمعية تنافي العلمية .
وقال قوم : عرفه اسم اليوم ، وعرفات اسم البقعة .
والتنوين في عرفات ونحوه تنوين مقابلة ، وقيل : تنوين صرف ، واعتذر عن كونه

" صفحة رقم 93 "
منصرفاً مع التأنيث والعلمية ، بأن التأنيث إنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ، وإن كان بالتقدير : كسعاد ، فلا يصح تقديرها في عرفات ، لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما تقدر تاء التأنيث في بنت ، لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث ، فأنث تقديرها . انتهى هذا التعليل وأكثره للزمخشري ، وأجراه في القرآن مجرى ما لم يسم فاعله من إبقاء التنوين في الجر ، ويجوز حذفه حالة التسمية ، وحكى الكوفيون ، والأخفش إجراء ذلك وما أشبهه مجرى فاطمة ، وأنشدوا بيت امرىء القيس : تنوّرتها من أذرعات وأهلها
بيثرب أدنى دارها نظر عالي
بالفتح .
( النصيب ( : الحظ وجمعه على أفعلا شاذ ، لأنه اسم ، قالوا : نصباء ، وقياسه : فعل نحو : كثيب وكثب .
( وَاللَّهُ سَرِيعُ ( : اسم فاعل من : سرع يسرع سرعة فهو سريع ، ويقال : أسرع وكلاهما لازم .
( الْحِسَابِ ( : مصدر حاسب ، وقال أحمد بن يحيى : حسبت الحساب أحسبه حسباً وحسباناً ، والحساب الاسم ، وقيل : الحساب مصدر حسب الشيء ، والحساب في اللغة هو العدوّ ؛ وقال الليث بن المظفر ، ويعقوب : حسب يحسب حسباناً وحسابة وحسبة وحسباً ( ، وأنشد :
وأسرعت حسبة في ذلك العدد
ومنه : حسب الرجل ، وهو ما عدّه من مآثره ومفاخره ، والأحساب : الاعتداد بالشيء . وقال الزجاج : الحساب : في اللغة مأخوذ من قولك : حسبك كذا ، أي : كفاك ، فسمي الحساب من المعاملات حساباً لأنه يعلم ما فيه كفاية ، وليس فيه زيادة ولا نقصان .
( ( ، وأنشد :
وأسرعت حسبة في ذلك العدد
ومنه : حسب الرجل ، وهو ما عدّه من مآثره ومفاخره ، والأحساب : الاعتداد بالشيء . وقال الزجاج : الحساب : في اللغة مأخوذ من قولك : حسبك كذا ، أي : كفاك ، فسمي الحساب من المعاملات حساباً لأنه يعلم ما فيه كفاية ، وليس فيه زيادة ولا نقصان .
( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ( لما أمر الله تعالى بإتمام الحج والعمرة ، وكانت العمرة لا وقت لها معلوماً . بين أن الحج له وقت معلوم ، فهذه مناسبة هذه الآية لما قبلها .
والحج أشهر ، مبتدأ وخبر ولا بد من حذف ، إذ الأشهر ليست الحج ، وذلك الحذف أما في المبتدأ ، فالتقدير : أشهر الحج ، أو وقت الحج ، أو : في الخبر ، أي : الحج حج أشهر ، أو يكون : الأصل في أشهر ، فاتسع فيه ، وأخبر بالظرف عن الحج لما كان يقع فيه ، وجعل إياه على سبيل التوسع والمجاز ، وعلى هذا التقدير كان يجوز النصب ، ولا يمتنع في العربية .
قال ابن عطية : ومن قدر الكلام : في أشهر ، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر ، ولم يقرأ بنصبها أحد . انتهى كلامه . ولا يلزم نصب الأشهر مع سقوط حرف الجر ، كما ذكر ابن عطية : لأنا قد ذكرنا أنه يرفع على الاتساع ، وهذا لا خلاف فيه عند البصريين ، أعني أنه إذا كان ظرف الزمان نكرة خبراً عن المصادر ، فإنه يجوز عندهم في ذلك تفصيل ، وهو : أن الحدث إما أن يكون مستغرقاً للزمان ، فيرفع ، ولا يجوز فيه النصب ، أو غير مستغرق فذهب

" صفحة رقم 94 "
هشام أنه يجب في الرفع ، فيقول : ميعادك يوم ، وثلاثة أيام ، وذهب الفرآء إلى جواز النصب والرفع كالبصريين ، ونقل عن الفرآء في هذا الموضع أنه لا يجوز نصب الأشهر ، لأن : أشهراً ، نكرة غير محصورة .
وهذا النقل مخالف لما نقلنا نحن عنه ، فيمكن أن يكون له القولان ، قول البصريين ، وقول هشام ، وجمع شهر على أفعل لأنه جمع قلة بخلاف قوله ) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ ( فإنه جاء على : فعول ، وهو جمع الكثرة .
وظاهر لفظا أشهر الجمع ، وهو : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، كله ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عمر ، وعطآء ، وطاووس ، ومجاهد ، والزهري ، والربيع ، ومالك .
وقال ابن عباس ، وابن الزبير ، وابن سيرين ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وطاووس ، والنخعي ، وقتادة ، ومكحول ، والسدي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وابن حبيب ، عن مالك ، هي : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة .
وروي هذا عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وحكى الزمخشري ، وصاحب ( المنتخب ) عن الشافعي : أن الثالث التسعة من ذي الحجة مع ليلة النحر ، لأن الحج يفوت بطلوع الفجر .
وهذان القولان فيهما مجاز ، إذ أطلق على بعض الشهر ، شهر .
وقال الفراء : تقول العرب : له اليوم يومان لم أره ، وإنما هو وبعض يوم آخر ، وإنما قالوا ذلك تغليباً لا كثر الزمان على أقله ، وهو كما نقل في الحديث : أيام منى ثلاثة أيام وإنما هي يومان وبعض الثالث ، وهو من باب إطلاق بعض على كل ، وكما . قال الشاعر :
ثلاثون شهراً في ثلاثة أحوال
على أحد التأويلين ، قيل : ولأن العرب توقع الجمع على التثنية إذا كانت التثنية أقل الجمع ، وقال الزمخشري . فإن قلت : فكيف كان الشهران . وبعض الشهر أشهراً ؟ قلت : اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، بدليل قوله تعالى ) فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( فلا سؤال فيه إذن ، وإنما يكون موضعاً للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات . انتهى كلامه .
وما ذكره الدعوى فيه عامة ، وهو أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، وهذا فيه النزاع . والدليل الذي ذكره خاص ، وهو : ) فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( وهذا لا خلاف فيه ، ولإطلاق الجمع في مثل هذا على التثنية شروط ذكرت في النحو و : أشهر ، ليس من باب ) فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( فلا يمكن أن يستدل به عليه .
وقوله : فلا سؤال فيه ، إذن ليس بجيد ، لأنه فرض السؤال بقوله : فإن قلت ؟ وقوله فإنما كان يكون موضعاً للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات ، ولا فرق عندنا بين شهر وبين قوله ثلاثة أشهر ، لأنه كما يدخل المجاز في لفظ أشهر ، كذلك قد يدخل المجاز في العدد ، ألا ترى إلى ما حكاه الفراء : له اليوم يومان لم أره ؟ قال : وإنما هو يوم وبعض يوم آخر ، وإلى قول امرىءالقيس :
ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال
على ما قدّمنا ذكره ، وإلى ما حكي عن العرب ، ما رأيته مذ خمسة أيام وإن كنت قد رأيته في اليوم الأول والخامس فلم يشمل الإنتفاء خمسة أيام جميعها بل تجعل ما رأيته في بعضه ، وانتفت الرؤية في بعضه ، كان يوم كامل لم تره فيه ، فإذا كان هذا موجوداً في كلامهم فلا فرق بين أشهر ، وبين ثلاثة أشهر ، لكن مجاز الجمع أقرب من مجاز العدد .
قالوا : وثمرة

" صفحة رقم 95 "
الخلاف بين قول من جعل الأشهر هي الثلاثة بكمالها ، وبين من جعلها شهرين وبعض الثالث ، يظهر في تعلق الدم فيما يقع من الأعمال يوم النحر ، فعلى القول الأول لا يلزمه دم لأنها وقعت في أشهر الحج ، وعلى الثاني يلزمه ، لأنه قد انقضى الحج بيوم النحر ، وأخرَّ عمل ذلك عن وقته .
وفائدة التوقيت بالأشهر أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلاَّ فيها ، ويكره الإحرام بالحج في غيرها عند أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، وبه قال النخعي . قال : ولا يحل حتى يقضي حجه .
وقال عطآء ، ومجاهد ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو الثور : لا يصح ، وينقلب عمرة ويحل لها . وقال ابن عباس : من سنة الحج الإحرام به .
وسبب الخلاف اختلافهم في المحذوف في قوله : ) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ( هل التقدير : الإحرام بالحج أو أفعال الحج ؟ وذكر الحج في هذه الأشهر لا يدل على أن العمرة لا تقع ، وما روي عن عمر وابنه عبد الله أن العمرة لا تستحب فيها ، فكأن هذه الإشهر مخلصة للحج .
وروي أن عمر كان يخفق الناس بالدرّة ، وينهاهم عن الاعتمار فيهن ، وعن ابن عمر أنه قال لرجل : إن أطلقني انتظرت ، حتى إذا أهللت المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة .
ومعنى : معلومات ، معروفات عند الناس ، وأن مشروعية الحج فيها إنما جاءت على ما عرفوه وكان مقرراً عندهم .
( فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ( أي : من ألزم نفسه الحج فيهن ، وأصل الفرض الحز الذي يكون في السهام والقسي وغيرها ، ومنه فرضة النهر والجبل ، والمراد بهذا الفرض ما يصير به المحرم محرماً ، قال ابن مسعود : وهو الإهلال بالحج والإحرام ، وقال عطآء ، وطاووس : هو أن يلبي ، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين رحمهم الله ، وهي رواية شريك عن ابن عباس : إن فرض الحج بالتلبية .
وروي عن عائشة : لا إحرام إلاَّ لمن أهلَّ ولبىَّ ، وأخذ به أبو حنيفة وأصحابه ، وابن حبيب ، وقالوا ، هم وأهل الظاهر : إنها ركن من أركان الحج .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قلد بدنته وساقها يريد الإحرام . فقد أحرم ، قول هذا على أن مذهبه وجوب التلبية ، أو ما قام مقامها من الدم ، وروي عن ابن عمر : إذا قلد بدنته وساقها فقد أحرم ، وروي عن علي ، وقيس بن سعد ، وابن عباس ، وطاووس ، وعطاء ، ومجاهد ، والشعبي ، وابن سيرين ، وجابر بن زيد ، وابن جبير : أنه لا يكون محرماً بذلك ، وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحسن : فرض الحج الإحرام به ، وبه قال الشافعي .
وهذه الأقوال كلها مع اشتراط النية . وملخص ذلك أنه يكون محرماً بالنية ، والإحرام عند مالك ، والشافعي ، وبالنية والتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة ، أو النية وإشعار الهدي أو تقليده عند جماعة من العلماء .
و : مَنْ ، شرطية أو موصولة ، و : فيهن ، متعلق بفرض ، والضمير عائد على : أشهر ، ولم يقل : فيها ، لأن أشهراً جمع قلة ، وهو جار على الكثير المستعمل من أن جمع القلة لما لا يعقل يجرى مجرى الجمع مطلقاً للعاقلات على الكثير المستعمل أيضاً ، وقال قوم : هما سواء في الاستعمال .
( فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ ( الرفث هنا قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، والزهري ، والسدي : هو الجماع ؛ وقال ابن عمر ، وطاووس ، وعطاء ، وغيرهم : هو الإفحاش للمرأة بالكلام ، كقوله : إذا أحللنا فعلنا بك كذا ، الايكني ، وقال قوم : الإفحاش بذكر النساء ، كان ذلك بحضرتهن أم لا ؛ وقال قوم : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من أهله ، وقال أبو عبيدة : هو اللغو من الكلام ، وقال ابن الزبير : هو التعرض بمعانقة ومواعدة أو مداعبة أو غمز .
وملخص هذه الأقوال أنها دائرة بين شيء يفسده وهو الجماع ، أو شيء لا يليق لمن كان ملتبساً بالحج لحرمة الحج .
والفسوق : فسر هذا بفعل ما نهى عنه في الإحرام من قتل صيد ، وحلق شعر ، والمعاصي كلها لا يختص منها شيء

" صفحة رقم 96 "
دون شيء قاله ابن عباس ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وطاووس . أو الذبح للأصنام ومنه : ) أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ( قاله ابن زيد ، ومالك ، أو التنابذ بالألقاب قال : ) بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ ( قاله الضحاك ، أو السباب منه : ( سباب المسلم فسوق ) . قاله ابن عمر أيضاً ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم ، والسدي ، ورجح محمد بن جرير أنه ما نهي عنه الحاج في إحرامه لقوله : ) فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ).
وقد علم أن جميع المعاصي محرم على كل أحد من محرم وغيره ، وكذلك التنابذ ، ورجح ابن عطية ، والقرطبي المفسر وغيرهما قول من قال : إنه جميع المعاصي لعمومه جميع الأقوال والأفعال ، ولأنه قول الأكثر من الصحابة والتابعين ، ولأنه روي : ( والذي نفسي بيده ، ما بين السماء والأرض عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله ، أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال ) .
وقال العلماء : الحج المبرور هو الذي لم يعص الله في أثناء أدائه ؛ وقال الفراء : هو الذي لم يعص الله بعده .
والجدال : هنا مماراة المسلم حتى يغضب ، فأما في مذاكرة العلم فلا نهي عنها ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد . أو السباب ، قاله ابن عمر ، وقتادة . أو : الاختلاف : أيهم صادف موقف أبيهم ؟ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، تقف قريش في غير موقف العرب ، ثم يتجادلون بعد ذلك ، قاله ابن زيد ، ومالك . أو يقول قوم : الحج اليوم ، وقوم الحج غداً ، قاله القاسم . أو المماراة في الشهور حسبما كانت العرب عليه من الذي كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة ، ويقف بعضهم بجمع ، وبعضهم بعرفة ، ويتمارون في الصواب من ذلك ، قاله مجاهد .
قال ابن عطية : وهذا أصح الأقوال ، وأظهرها قرر الشرع وقت الحج وإحرامه حتم لا جدال فيه .
أو قول طائفة : حجنا أبر من حجكم ، وتقول الأخرى مثل ذلك ، قاله محمد بن كعب القرطبي ، أو الفخر بالآباء ، قاله بعضهم ، أو قول الصحابة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إنا أهللنا بالحج ، حين قال في حجة الوداع : ( من لم يكن معه هدي فليحلل من إحرامه وليجعلها عمرة ) قاله مقاتل . أو المراء مع الرفقاء والخدام والمكارين ، قاله الزمخشري . أو كلَّ ما يسمى جدالاً لا للتغالب ، وحظ النفس ، فتدخل فيه الأقوال التسعة السابقة .
و : الفاء ، في : فلا رفث ، هي الداخلة في جواب الشرط ، إن قدر : من ، شرطاً ، وهو الأظهر ، أو في الخبر إن قدر : من ، موصولاً .
وقرأ ابن مسعود والأعمش : رفوث ، وقد تقدّم أن الرفث والرفوث مصدران . وقرأ أبو جعفر بالرفع والتنوين في الثلاثة ، ورويت عن عاصم في بعض الطرق ، وهو طريق المفضل عن عاصم ، وقرأ أبو رجاء العطاردي بالنصب والتنوين في الثلاثة . وقرأ الكوفيون ، ونافع بفتح الثلاثة من غير تنوين ؛ وقرأ ابن كثير ، وأبو عمر برفع : فلا رفث ولا فسوق ، والتنوين ، وفتح : ولا جدال ، من غير تنوين .
فأمّا من رفع الثلاثة فإنه جعل : لا ، غير عاملة ورفع ما بعدها بالابتداء ، والخبر عن الجميع هو قوله : في الحج ، ويجوز أن يكون خبراً عن المبتدأ الأول ، وحذف خبر الثاني . والثالث للدّلالة ، ويجوز أن يكون خبراً عن الثالث وحذف خبر الأول والثاني لدّلالة ، ولا يجوز أن يكون خبراً عن الثاني ويكون قد حذف خبر الأول والثالث لقبح هذا التركيب والفصل .
قيل : ويجوز أن تكون : لا ، عاملة عمل ليس فيكون : في الحج ، في موضع نصب ، وهذا الوجه جزم به ابن عطية ، فقال : و : لا ، في معنى ليس في قراءة الرفع ، وهذا الذي جوّزه وجزم به ابن عطية ضعيف ، لأن إعمال : لا ، إعمال : ليس ، قليل جداً ، لم يجىء منه في لسان العرب إلاَّ ما لا بال له ، والذي يحفظ من ذلك قوله : تعزّ فلا شيء على الأرض باقيا
ولا وزرٌ مما قضى الله واقياً
أنشده ابن مالك ، ولا أعرف هذا البيت إلاَّ من جهته ، وقال النابغة الجعدي :

" صفحة رقم 97 "
وحلت سواد القلب لا أنا باغيا
سواها ولا في حبها متراخياً
وقال آخر : أنكرتها بعد أعوام مضين لها
لا الدار دار ولا الجيرانُ جيرانا
وخرج على ذلك سيبويه قول الشاعر : من صدّ عن نيرانها
فأنا ابن قيس لا براح
وهذا كله يحتمل التأويل ، وعلى أن يحمل على ظاهره لا ينتهى من الكثرة بحيث تبنى عليه القواعد ، فلا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله الذي هو أفصح الكلام وأجله ، ويعدل عن الوجه الكثير الفصيح .
وأما قراءة النصب والتنوين فإنها منصوبة على المصادر ، والعامل فيها أفعال من لفظها ، التقدير : فلا يرفث رفثاً ، ولا يفسق فسوقاً ، ولا يجادل جدالاً . و : في الحج ، متعلق بما شئت من هذه الأفعال على طريقة الإعمال والتنازع .
وأما قراءة الفتح في الثلاثة من غير تنوين ، فالخلاف في الحركة ، أهي حركة إعراب أو حركة بناء ؟ الثاني قول الجمهور ، والدلائل مذكورة في النحو ، وإذا بنى معها على الفتح فهل المجموع من لا والمبنى معها في موضع رفع على الابتداء ؟ وإن كانت : لا ، عاملة في الاسم النصب على الموضع ، ولا خبر لها ، أو ليس المجموع في موضع مبتدأ ؟ بل . لا ، عاملة في ذلك الاسم النصب على الموضع ، وما بعدها خبر : لا ، إذا أجريت مجرى . إن ، في نصب الاسم ورفع الخبر ، قولان للنحويين ، الأول : قول سيبويه ، والثاني : الأخفش ، فعلى هذين القولين يتفرّع إعراب : في الحج ، فيكون في موضع خبر المبتدأ على مذهب سيبويه ، وفي موضع خبر : لا ، على مذهب الأخفش .
وأما قراءة من رفع ونون : فلا رفث ولا فسوق ، وفتح من غير تنوين : ولا جدال ، فعلى ما اخترناه من الرفع على الابتداء ، وعلى مذهب سيبويه : إن المفتوح مع : لا ، في موضع رفع على الابتداء ، يكون : في الحج ، خبراً عن الجميع ، لأنه ليس فيه ، إلاَّ العطف ، عطف مبتدأ على مبتدأ .
وأمّا قول الأخفش فلا يصح أن يكون : في الحج ، إلاَّ خبراً للمبتدأين ، أو : لا ، أو خبر للا ، لاختلاف المعرب في الحج ، يطلبه المبتدأ أو تطلبه فقد اختلف المعرب فلا يجوز أن يكون خبراً عنهما .
وقال ابن عطية في هذه القراءة ما نصه : و : لا ، بمعنى ليس في قراءة الرفع ، وخبرها

" صفحة رقم 98 "
محذوف على قراءة أبي عمرو ، و : في الحج ، خبر : لا جدال ، وحذف الخبر هنا هو على مذهب أبي علي ، وقد خولف في ذلك بل : في الحج ، هو خبر الكل ، إذ هو في موضع رفع في الوجهين ، لأن : لا ، إنما تعمل على بابها فيما يليها ، وخبرها مرفوع بأن على حاله من خبر الابتداء ، وظنّ أبو علي أنها بمنزلة : ليس ، في نصب الخبر ، وليس كذلك ، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر ، و : في الحج ، هو الخبر انتهى كلامه . وفيه مناقشات .
الأولى : قوله و : لا ، بمعنى : ليس ، وقد قدّمنا أن كون : لا ، بمعنى ليس هو من القلة في كلامهم بحيث لا تبنى عليه القواعد ، وبينا أن ارتفاع مثل هذا إنما هو على الإبتداء .
الثانية : قوله : وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو ، وقد نص الناس على أن خبر كان وأخواتها ومنها : ليس ، لا يجوز حذفه لا اختصاراً ، ولا اقتصاراً ، ثم ذكروا أنه قد حذف خبر ليس في الشعر في قوله :
يرجو جوارك حين ليس مجير
على طريق الضرورة أو الندور ، وما كان هكذا فلا يحمل القرآن عليه .
الثالثة : قوله بل : في الحج ، هو خبر الكل إذ هو في موضع رفع على الوجهين ، يعني بالوجهين : كونها بمعنى : ليس ، وكونها مبنية مع : لا ، وهذا لا يصح ، لأنها إذا كانت بمعنى ليس احتاجت إلى خبر منصوب ، وإذا كانت مبنية مع لا احتاجت إلى أن يرتفع الخبر إما لكونها هي العاملة فيه الرفع على مذهب الأخفش ، وإما لكونها مع معمولها في موضع رفع على الإبتداء فيقتضي أن يكون خبراً للمبتدأ على مذهب سيبويه ، على ما قدمناه من الخلاف ، وإذا تقرر هذا امتنع أن يكون : في الحج ، في موضع رفع على ما ذكر ابن عطية من الوجهين .
الرابعة : قوله : لأن : لا ، إنما تعمل على بابها فيما تليها ، وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء هذا تعليل لكون : في الحج ، خبراً للكل ، إذ هي في موضع رفع في الوجهين على ما ذهب وقد بينا أن ذلك لا يجوز ، لأنها إذا كانت بمعنى : ليس ، كان خبرها في موضع نصب ، ولا يناسب هذا التعليل إلاَّ كونها تعمل عمل إن فقط ، على مذهب سيبويه لا على مذهب الأخف 5 ، لأنه على مذهب الأخفش يكون : في الحج ، في موضع رفع بلا ، و : لا ، هي العاملة الرفع ، فاختلف المعرب على مذهبه ، لأن قراءة الرفع هي على الابتداء ، وقراءة الفتح في : ولا جدال ، هي على عمل : لا ، عمل إن .
الخامسة : قوله : وظنّ أبو علي أنها بمنزلة : ليس ، في نصب الخبر وليس كذلك ، هذا الظنّ صحيح ، وهو كما ظنّ ، ويدل عليه أن العرب حين صرحت بالخبر على أن : لا ، بمعنى ليس أتت به منصوباً في شعرها ، فدل على أن ما ظنه أبو علي من نصب الخبر صحيح ، لكنه من الندور بحيث لا تبنى عليه القواعد كما ذكرنا ، فأجازه أبو علي ، مثل هذا في القرآن لا ينبغي .
السادسة : قوله : بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر ، و : في الحج ، هو الخبر ، هذا الذي ذكره توكيد لما تقرر قبل من أنها إذا كانت بمعنى : ليس ، إنما تعمل في الاسم الرفع فقط ، وهي والاسم في موضع رفع بالابتداء ، وأن الخبر يكون مرفوعاً لذلك المبتدأ ، وقد بينا أن ذلك ليس بصحيح لنصب العرب الخبر إذا كانت بمعنى : ليس ، وعلى تقدير ما قاله لا يمكننا العلم بأنها تعمل عمل ليس في الاسم فقط إذا كان الخبر مرفوعاً ، لأنه ليس لنا إلاَّ صورة : لا رجل قائم ، ولا امرأة . فرجل هنا مبتدأ ، وقائم خبر عنه ، وهي غير عاملة ، وإنما يمتاز كونها بمعنى ليس ، وارتفاع الأسم بها من كونه مبتدأ بنصب الخبر إذا كانت بمعنى ليس ، ورفع الخبر إذا كان ما بعدها مرفوعاً بالابتداء ، وإلاَّ فلا يمكن العلم بذلك أصلاً لرجحان أن يكون ذلك الاسم مبتدأ ، والمرفوع بعده خبره .
وقال الزمخشري : وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب لأنهما حملا الأولين على معنى النهي ، كأنه قيل : فلا يكونن رفث ولا فسوق ، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال ، كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ؛ وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائر العرب ، فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة ، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة ، وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ، ورد الوقوف إلى عرفة ، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج .
واستدل على أن المنهي

" صفحة رقم 99 "
عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال ، بقوله عليه السلام : ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمّه ) ، وأنه لم يذكر الجدال . انتهى كلامه . وفيه تعقبات .
الأول : تأويله على أبي عمرو ، وابن كثير أنهما حملا الأولين على معنى النهي بسبب الرفع والثالث على الإخبار بسبب البناء ، والرفع والبناء لا يقتضيان شيئاً من ذلك ، بل لا فرق بين الرفع والبناء في أن ما كانا فيه كان مبنياً ، وأما أن الرفع يقتضي النهي ، والبناء يقتضي الخبر فلا ، ثم قراءة الثلاثة بالرفع وقراءتها كلها بالبناء يدل على ذلك ، غاية ما فرق بينهما أن قراءة البناء نص على العموم ، وقراءة الرفع مرجحة له ، فقراءتهما الأوّلين بالرفع والثالث بالبناء على الفتح إنما ذلك سنة متبعة إذا لم يتأد ذلك إليهما إلاَّ على هذا الوجه من الوجوه الجائزة في العربية في مثل هذا التركيب .
الثاني : قوله : كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ، وترشيح ذلك بالتاريخ الذي ذكره بهذا التفسير مناقض لما شرح هو به الجدال ، لأنه قال قبل : ولا جدال ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين . وهذا التفسير في الجدال مخالف لذلك التفسير .
الثالث : أن التاريخ الذي ذكره هو قولان في تفسير : ولا جدال ، للمتقدمين اختلافهم : في الموقف : لابن زيد ، ومالك ، والنسيء : لمجاهد ، فجعلهما هو شيئاً واحداً سبباً للإخبار أن لا جدال في الحج .
الرابع : قوله واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال إلى آخر كلامه ، ولا دليل في ذلك ، لأن الجدال إن كان من باب المحظور فقد اندرج في قوله : ) وَلاَ فُسُوقَ ( لعمومه ، وإن كان من باب المكروه وترك الأولى ، فلا يجعل ذلك شرطاً في غفران الذنوب ، فلذلك رتب ( صلى الله عليه وسلم ) ) غفران الذنوب على النهي عن ما يفسد الحج من المحظور فيه ، الجائز في غير الحج ، وهو الجماع المكني عنه بالرفث ؛ ومن المحظور الممنوع منه مطلقاً في الحج وفي غيره ، وهو معصية الله المعبر عنها بالفسوق ، وجاء قوله : ولا جدال ، من باب التتميم لما ينبغي أن يكون عليه الحاج ، من : إفراغ أعماله للحج ، وعدم المخاصمة والمجادلة . فمقصد الآية غير مقصد الحديث ، فلذلك جمع في الآية بين الثلاثة ، وفي الحديث اقتصر على الاثنين .
وقد بقي الكلام على هذه الجملة : أهي مراد بها النفي حقيقة فيكون إخباراً ؟ أو صورتها صورة النفي ؟ والمراد به النهي ؟ اختلفوا في ذلك فقال في ( المنتخب ) قال ، أهل المعاني : ظاهر الآية نفي ، ومعناها نهي . أي : فلا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ، كقوله تعالى : ) لاَ رَيْبَ فِيهِ ( أي : لا ترتابوا فيه ، وذكر القاضي أن ظاهره الخبر ، ويحتمل النهي ، فإذا حمل على الخبر فمعناه : أن حجه لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال ، بل يفسد ، فهو كالضد لها وهي مانعة من صحته ، ولا يستقيم هذا المعنى ، إلاَّ إن أريد بالرفث : الجماع ، والفسوق : الزنا ، وبالجدال : الشك في الحج وفي وجوبه ، لأن الشك في ذلك كفر ولا يصح معه الحج ، وحملت هذه الألفاظ على هذه المعاني حتى يصح خبر الله ، لأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، وإذا حمل على النهي ، وهو خلاف الظاهر ، صلح أن يراد بالرفث : الجماع ، ومقدماته ، وقول الفحش والفسوق والجدال جميع أنواعها لإطلاق اللفظ ، فيتناول جميع أقسامه ، لأن النهي عن الشيء نهي عن جميع أقسامه .
وتكون الآية جلية على الأخلاق الجميلة ، ومشيرة إلى قهر القوة الشهوانية ، بقوله : ) فَلاَ رَفَثَ ( وإلى قهر القوة النفسانية بقوله : ) وَلاَ فُسُوقَ ( وإلى قهر القوة الوهمية بقول : ) وَلاَ جِدَالَ ( فذكر هذه الثلاثة لأن منشأ الشر محصور فيها ، وحيث نهى عن الجدال حمل الجدال على تقرير الباطل وطلب المال والجاه ، لا على تقرير الحق ودعاء الخلق إلى الله والذب عن دينه . انتهى ما لخصناه من كلامه .
والذي نختاره أنها جملة ، صورتها صورة الخبر ، والمعنى على النهي ، لأنه لو أريد حقيقة الخبر لكان المؤدّي لهذا المعنى تركيب غير هذا التركيب ، ألا ترى أنه لو قال : إنسان مثلاً : من دخل في الصلاة فلا جماع لامرأته ، ولا زنا بغيرها ، ولا كفر في الصلاة ، يريد الخبر ، وأن هذه الأشياء مفسدة لها لم يكن هذا الكلام من الفصاحة في رتبة قوله : من دخل في الصلاة فلا صلاة له مع جماع امرأته وزناه وكفره ؟ فالذي يناسب المعنى الخبري نفي صحة الحج مع وجود الرفث والفسوق والجدال لا نفيهنّ فيه ، هكذا الترتيب

" صفحة رقم 100 "
العربي الفصيح ، وإنما أتى في النهي بصورة النفي إيذانا بأن المنهي عنه يستبعد الوقوع في الحج ، حتى كأنه مما لا يوجد ، ومما لا يصح الإخبار عنه بأنه لا يوجد .
وقال في ( المنتخب ) أيضاً : إن كان المراد بالرفث الجماع فيكون نهياً عن ما يقتضى فساد الحج ، والإجماع منعقد على ذلك ، ويكون نفياً للصحة مع وجوده ، وإن كان المراد به التحدث مع النساء في أمر الجماع ، أو الفحش من الكلام ، فيكون نهياً لكمال الفضيلة .
وقال ابن العربي ليس نفياً لوجود الرفث ، بل نفي لمشروعيته ، فإن الرفث يوجد من بعض الناس فيه ، وإخبار الله تعالى لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعاً ، لا إلى وجوده محسوساً ، كقوله : ) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوء ( ومعناه مشروعاً لا محسوساً ، فإنا نجد المطلقات لا يتربصنّ ، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي ، وهذا كقوله : ) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ( إذا قلنا إنه وارد في الآدميين ، وهو الصحيح ، لأن معناه لا يمسه أحد منهم شرعاً ، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع ، وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء ، فقالوا : إن الخبر يكون بمعنى النهي ، وما وجد ذلك قط ، ولا يصح أن يوجد ، فإنهما يختلفان حقيقة ، ويتباينان وصفاً انتهى كلام ابن العربي .
وتلخص في هذه الجملة أربعة أقوال :
أحدهما : أنها إخبار بنفي أشياء مخصوصة وهي : الجماع ، والزنا ، والكفر .
الثاني : أنها إخبار بنفي المشروعية لا بنفي الوجود .
الثالث : أنها إخبار صورة ، والمراد بها النهي .
الرابع : التفرقة في قراءة ابن كثير ، وابن عمر ، وبأن الأوّلين في معنى النهي ، والثالث خبر ، وهذه الجملة في موضع جواب الشرط إن كانت : مَنْ ، شرطية ، وفي موضع الخبر ، إن كانت : مَنْ ، موصولة . وعلى كلا التقديرين لا بد فيها من رابط يربط جملة الجزآء بالشرط ، إذا كان الشرط بالإسم ، والجملة الخبرية بالمبتدأ الموصول إذا لم يكن إياه في المعنى ، ولا رابط هنا ملفوظ به ، فوجب أن يكون مقدراً . ويحتمل وجهين .
أحدهما : أن يقدر منه بعد : ولا جدال ، ويكون منه في موضع الصفة ، ويحصل به الربط كما حصل في قولهم : السمن منوان بدرهم أي : منوان منه ، ومنه صفة للمنوين .
والثاني : أن يقدر بعد الحج ، وتقديره : في الحج منه أوله ، أو ما أشبهه مما يحصل به الربط .
وللكوفيين تخريج في مثل هذا ، وهو أن تكون الألف واللام عوضاً من الضمير ، فعلى مذهبهم يكون التقدير في قوله : في الحج ، في حجه ، فنابت الألف واللام عن الضمير ، وحصل بها الربط .
قال بعضهم : وكرر في الحج ، فقال : في الحج ، ولم يقل : فيه ، جرياً على عادة العرب في التأكيد في إقامة المظهر مقام المضمر ، كقول الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
انتهى كلامه ، وهو في الآية أحسن لبعده من الأول ، ولمجيئه في جمله غير الجمله الأولى ، ولإزالة توهم أن يكون الضمير عائداً على : من ، لا على : الحج ، أي : في فارض الحج .
وعلى ما اخترناه من أن المراد بهذه الإخبار النهي ، يكون هذه الأشياء الثلاثة منهياً عنها في الحج . أما الرفث فأكثر أهل العلم ، خلفاً وسلفاً ، أنه يراد به هنا الجماع ، وأنه منهي عنه بالآية ، وأجمع العلماء على أن الجماع يفسد الحج ، وأن مقدماته توجب الدم ، إلاَّ ما رواه بعض المجهولين عن أبي هريره ، أنه سمع يقول : ( للمحرم من إمرأته كل شيء إلاَّ الجماع ) . وقد اتفقت الأمة على خلافه ، وعلى أن من قبّل إمرأته بشهوة فعليه دم ، وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وابراهيم ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وهو قول فقهاء الأمصار .
وذهب أبو محمد بن حزم إلى حل تقبيل إمرأته ومباشرتها ، ويتجنب الوطىء .
وأما الفسوق والجدال ، وإن كان منهياً عنهما في غير الحج ، فإنما خص بالذكر في الحج تعظيماً لحرمة الحج ، ولأن التلبس بالمعاصي في مثل هذه الحال من التشهير ، لفعل هذه العبادة ، أفحش وأعظم منه في غيرها ألا ترى إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في حق الصائم : ( فلا يرفث ولا يجهل ، فإن جهل عليه فليقل إني

" صفحة رقم 101 "
صائم ؟ ) وإلى قوله وقد صرف وجه الفضل بن العباس عن ملاحظة النساء في الحج : ( إن هذا يوم ، من ملك فيه سمعه وبصره غفر له ؟ )
ومعلوم خطر ذلك في غير ذلك اليوم ، ولكنه خصه بالذكر تعظيماً لحرمته .
وفي قوله : ولا فسوق ، إشارة إلى أنه يحدث للحج توبة من المعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه .
( وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ( هذه جملة شرطية ، وتقدّم الكلام على إعراب نظيرها في قوله : ) وَمَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ ( وخص الخير ، وإن كان تعالى عالماً بالخير والشر ، حثاً على فعل الخير ، ولأن ما سبق من ذكر فرض الحج ، وهو خير ، ولأن نستبدل بتلك المنهيات أضدادها ، فنستبدل بالرفث الكلام الحسن والفعل الجميل ، والفسوق الطاعة ، والجدال الوفاق ، ولأن يكثر رجاء وجه الله تعالى ، ولأن يكون وعداً بالثواب .
وجواب الشرط وهو : يعلمه الله ، فإما أن يكون عبّر عن المجازاة عن فعل الخير بالعلم ، كأنه قيل : يجازكم الله به ، أو يكون ذكر المجازاة بعد ذكر العلم ، أي : يعلمه الله فيثيب عليه ، وفي قوله : وما تفعلوا ، التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، وحمل على معنى : مِنْ ، إذ هو خروج من إفراد إلى جمع ، وعبر بقوله : تفعلوا ، عن ما يصدر عن الإنسان من فعل وقول ونية ، إما تغليباً للفعل ، وإما إطلاقاً على القول ، والإعتقاد لفظ الفعل ، فإنه يقال : أفعال الجوارح ، وأفعال اللسان ، وأفعال القلب ، والضمير في : يعلمه ، عائد على : ما ، من قوله : وما تفعلوا ، و : من ، في موضع نصب ، ويتعلق بمحذوف .
وقد خبط بعض المعربين فقال : إن : من خير ، متعلق : بتفعلوا ، وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره : وما تفعلوه فعلاً من خير يعلمه الله ، جزم بجواب الشرط ، والهاء في : يعلمه الله ، يعود إلى خير انتهى قوله .
ولولا أنه مسطر في التفسير لما حكيته ، وجهة التخبيط فيه أنه زعم أن : من خير ، متعلق : بتفعلوا ، ثم قال : وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر . فإذا كان كذلك كان العامل فيه محذوفاً ، فيناقض هذا القول كون : من ، يتعلق : بتفعلوا ، لأن : من ، حيث تعلقت بتفعلوا كان العامل غير محذوف وقوله والهاء تعود إلى خير خطأ فاحش لأن الجملة جواب لجملة شرطية بالاسم ، فالهاء عائدة على الاسم ، أعني : اسم الشرط ، واذا جعلتها عائدة على الخير عري الجواب عن ضمير يعود على أسم الشرط ، وذلك لا يجوز ، لو قلت : من يأتني يخرج خالد ، ولا يقدر ضميراً يعود على أسم الشرط ، لم يجز بخلاف الشرط إذا كان بالحرف ، فإنه يجوز خلوّ الجملة من الضمير نحو : إن تأتني يخرج خالد .
( وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( روي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من اليمن يحجون بغير زاد ، ويقولون : نحن متوكلون بحج بيت الله أفلا يطعمنا ؟ فيتوصلون بالناس ، وربما ظلموا وغصبوا ، فأمروا بالتزود ، وأن لا يظلموا أو يكونوا كُلاًّ على الناس . وروي عن ابن عمر قال : إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها ، واستأنفوا زاداً آخر ، فنهوا عن ذلك ، وأمر بالتحفظ بالزاد والتزود .
فعلى ما روي من سبب نزول هذه الآية يكون أمراً بالتزود في الأسفار الدنيوية ، والذي يدل عليه سياق ما قبل هذا الأمر ، وما بعده أن يكون الأمر بالتزود هنا بالنسبة إلى تحصيل الأعمال الصالحة التي تكون له كالزاد إلى سفره للآخرة ، ألا ترى أن قبله : ) وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ( ومعناه الحث والتحريض على فعل الخير الذي يترتب عليه الجزآء في الآخرة ؟ وبعده ) فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن ما يتقى به النار ؟ ويكون مفعول : تزودوا ، محذوفاً تقديره ، وتزودوا التقوى ، أو : من التقوى ، ولما حذف المفعول أتى بخبر إن ظاهراً ليدل على أن المحذوف هو هذا الظاهر ، ولو لم يحذف المفعول لأتي به مضمراً عائداً على المفعول ، أو كان يأتي ظاهراً تفخيماً لذكر التقوى ، وتعظيماً لشأنها . وقد قال بعضهم في التزود للاخرة :

" صفحة رقم 102 "
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وقال بعض عرب الجاهلية : فلو كان حمد يخلد الناس لم يمت
ولكن حمد الناس ليس بمخلد
ولكن منه باقيات وراثة
فأورث بنيك بعضها وتزود
تزود إلى يوم الممات فإنه
وإن كرهته النفس آخر موعد
وصعد سعدون المجنون تلاَّفي مقبرة ، وقد انصرف ناس من جنازة فناداهم :
ألاَ يا عسكر الأحياء
هذا عسكر الموتى
أجابوا الدعوة الصغرى
وهم منتظروا الكبرى
يحثون على الزاد
ولا زاد سوى التقوى
يقولون لكم جدوا
فهذا غاية الدنيا
وقيل : أمر بالتزود لسفر العبادة والمعاش ، وزاده الطعام والشراب والمركب والمال ، وبالتزود لسفر المعاد ، وزاده تقوى الله تعالى ؛ وهذا الزاد خير من الزاد الأول لقوله : ) فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ).
فتلخص من هذا كله ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه أمر بالتزود في أسفار الدنيا ، فيكون مفعول : تزودوا ، ما ينتفعون به ، فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم من السؤال ، وأنفسكم من الظلم ، وقال البغوي : قال المفسرون : التقوى هنا : الكعك والزيت والسويق والتمر والزبيب وما يشاكل ذلك من المطعومات .
والثاني : أنه أمر بالتزود لسفر الأخرة ، وهو الذي نختاره .
والثالث : أنه أمر بالتزود في السفرين ، كأن التقدير : وتزودوا ما تنتفعون به لعاجل سفركم وآجله .
وأبعد من ذهب إلى أن المعنى : وتزودوا الرفيق الصالح ، إلاّ أن عنى به العمل الصالح ، فلا يبعد ، لأنه هو القول الثاني الذي اخترناه .
وقال أبو بكر الرازي : احتمل قوله : وتزودوا ، الأمرين من زاد الطعام وزاد التقوى ، فوجب الحمل عليهما ، إذ لم تقم دلالة على تخصيص أحد الأمرين ، وذكر التزود من الأعمال الصالحة في الحج ، لأنه أحق شيء بالإستكثار من أعمال البر فيه لمضاعفة الثواب عليه ، كما نص على خطر الفسوق ، وإن كان محظوراً في غيره ، تعظيماً لحرمة الإحرام ، وإخباراً أنه فيه أعظم مأثماً .
ثم أخبر أن زاد التقوى خيرهما لبقاء نفعه ، ودوام ثوابه ، وهذا يدل على بطلان مذهب أهل التصوف ، والذين يسافرون بغير زاد ولا راحلة ، لأنه تعالى خاطب بذلك من خاطبه بالحج ، وعلى هذا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حين سئل عن الاستطاعة ، فقال : ( هي الزاد

" صفحة رقم 103 "
والراحلة ) . انتهى كلامه .
ورد عليه بأن الكاملين في باب التوكل لا يطعن عليهم إن سافروا بغير زاد ، لأنه صح : لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدوا خِماصاً ، وتروح بطاناً . وقال تعالى : ) وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ( وقد طوى قوم الأيام بلا غذاء ، وبعضهم اكتفى باليسير من القوت في الأيام ذوات الأعداد ، وبعضهم بالجرع من الماء .
وصح من حديث أبي ذر اكتفاؤه بماء زمزم شهراً ، وخرج منها وله عكن ، وأن جماعة من الصحابة اكتفوا أياماً كثيرة ، كل واحد منهم بتمرة في اليوم .
فأما خرق العادات من دوران الرحى بالطحين ، وامتلاء الفرن بالعجين ، وإن لم يكن هناك طعام ، ونحو ذلك ، فحكوا وقوع ذلك . وقد شرب سفيان بن عيينة فضلة سفيان الثوري من ماء زمزم فوجدها سويقاً ، وقد صح وثبت خرق العوائد لغير الأنبياء عليهم السلام ، فلا يتكرر ذلك إلاَّ مِنْ مدَّعِ ذلك ، وليس هو على طريق الاستقامة ككثير ممن شاهدناهم يدعون ، ويدعى ذلك لهم .
( وَاتَّقُونِ ( هذا أمر بخوف الله تعالى ، ولما تقدم ما يدل على اجتناب أشياء في الحج ، وأمروا بالتزود للمعاد ، وأخبر بالتقوى عن خير الزاد ، ناسب ذلك كله الأمر بالتقوى ، والتحذير من ارتكاب ما تحل به عقوبته ، ثم قال ) وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَابِ ( تحريكاً لامتثال الأمر بالتقوى ، لأنه لا يحذر العواقب ، إلاَّ مَن كان ذا لبٍّ ، فهو الذي تقوم عليه حجة الله ، وهو القابل للأمر والنهي ، وإذا كان ذو اللب لا يتقي الله ، فكأنه لا لب له ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا النداء في قوله : ) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ يأُولِي أُوْلِى الالْبَابِ ( فأغنى عن إعادته .
والظاهر من اللب أنه لب مناط التكليف ، فيكون عاماً ، لا اللب الذي هو مكتسب بالتجارب ، فيكون خاصاً ، لأن المأمور باتقاء الله هم جميع المكلفين .
البقرة : ( 198 ) ليس عليكم جناح . . . . .
( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ( سبب نزولها أن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية . كعكاظ ، وذي المجاز ، ومجنة ، فأباح الله لهم ذلك ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ؛ وقال مجاهد أيضاً : كان بعض العرب لا ينحرون مذ يحرون ، فنزلت في إباحة ذلك ، وروي عن ابن عمر أنها نزلت فيمن يكري في الحج ، وأن حجة تام .
وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الزبير : فضلاً من ربكم في مواسم الحج ، والأَوْلى جعل هذا تفسيراً ، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمعت عليه الأمة .
والجناح معناه : الدرك ، وهو أعم من الإِثم ، لأنه فيما يقتضي العقاب ، وفيما يقتضي الزجر والعقاب ، وعنى بالفضل هنا الأرباح التي تكون سبب التجارة ، وكذلك ما تحصل عن الأجر بالكراء في الحج ، وقد انعقد الإجماع على جواز التجارة والاكتساب بالكل ، والإتجار إذا أتى بالحج على وجهه إلاَّ ما نقل شاذاً عن سعيد بن جبير ، وأنه سأله أعرابي أن أكري إبلي ، وأنا أريد الحج أفيجزيني ؟ قال : ( لا ، ولا كرامة ) . وهذا مخالف لظاهر الكتاب والإجماع فلا يعول عليه .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما نهى عن الجدال ، والتجارة قد تفضي إلى المنازعة ، ناسب أن يتوقف فيها لأن ما أفضى إلى المنهي عنه منهي عنه ، أو لأن التجارة كانت محرمة عند أهل الجاهلية وقت الحج ، إذ من يشتغل بالعبادة يناسبه أن لا يشغل نفسه بالأكساب الدنيوية ، أو لأنا لمسلمين لما صار كثير من المباحات محرماً عليهم في الحج ، كانوا بصدد أن تكون التجارة من هذا القبيل عندهم ، فأباح الله ذلك ، وأخبرهم أنه لا درك عليهم فيه في أيام الحج . ويؤيد ذلك قراءة من قرأ : في مواسم الحج .
وحمل أبو مسلم الآية على أنه : فيما بعد الحج ، ونظيره : ) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ( فقاس : الحج ، على : الصلاة ، وضعف قوله بدخول الفاء في : فإذا قضيتم ، وهذا فصل بعد ابتغاء الفضل ، فدل على أن ما قبل الإِفاضة ، وقع في زمان الحج . ولأن محل شبهة الامتناع هو التجارة في زمان الحج ، لا بعد الفراغ منه ، لأن كل أحد يعلم جلّ التجارة إذ ذاك ، فحمْله على محل الشبهة أولى ،

" صفحة رقم 104 "
ولأن قياس الحج على الصلاة ، قياس فاسد ، لاتصال أعمال الصلاة بعضها ببعض ، وافتراق أعمال الحج بعضها من بعض ، ففي خلالها يبقى الحج على الحكم الأول ، حيث لم يكن حاجاً ، لا يقال : حكم الحج مستحب عليه في تلك الأوقات ، بدليل حرمة الطيب واللبس ونحوهما ، لأنه قياس في مقابلة النص ، فهو ساقط . ونسب للياه فزان .
الفضل هنا هو ما يعمل الإنسان مما يرجو به فضل الله ورحمته ، من إعانة ضعيف ، وإغاثة ملهوف ، وإطعام جائع ؛ واعترضه القاضي بأن هذه الأشياء واجبة أو مندوب إليها ، فلا يقال فيها : لا جناح عليكم ، إنما يقال : في المباحات والتجارة إن أوقعت نقصاً في الطاعة : لم تكن مباحة ، وإن لم توقع نقصاً فالأولى تركها ، فهي إذاً جارية مجرى الرخص .
وتقدم إعراب مثل : أن تبتغوا ، في قوله : ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ فِيهِمَا ( و : من وبكم ، متعلق : بتبتغوا ، و : من ، لابتداء الغاية ، أو بمحذوف ، وتكون صفة لفضل . فتكون : من ، لابتداء الغاية أيضاً ، أو للتبعيض ، فيحتاج إلى تقدير مضاف محذوف أي : من فضول .
( فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ ( قيل : فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة ، لأن الإفاضة لا تكون إلاَّ بعده . انتهى هذا القول ، ولا يظهر من هذا الشرط الوجوب ، إنما يعلم منه الحصول في عرفة ، والوقوف بها ، فهل ذلك على سبيل الوجوب أوا لندب ؟ لا دليل في الآية على ذلك ، لكن السنة الثابتة والإجماع يدلان على ذلك .
وقال في ( المنتخب ) : الإِفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، وما لا يتم الواجب إلاَّ به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب ، فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، فإذا لم يأت به لم يكن إيتاء بالحج المأمور به ، فوجب أن لا يخرج عن العهدة ، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً . انتهى كلامه .
فقوله : الإِفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، كلام مبهم ، فإن عنى مشروط وجودها ، أي : وجود الإِفاضة بالحصول في عرفات ، فصحيح ، والوجود لا يدل على الوجوب ، وإن عنى مشروط وجوبها بالحصول في عرفات فلا نسلم ذلك ، بل نقول : لو وقف بعرف واتخذها مسكناً إلى أن مات لم تجب عليه الإِفاضة منها ، ولم يكن مفرطاً في واجب إذا مات بها ، وحجة تام إذا كان قد أتى بالأركان كلها .
وقوله : وما لا يتم الواجب ، إلى آخر الجملة ، مرتبة على أن الإِفاضة واجبة ، وقد منعنا ذلك وقوله : فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، مبني على ما قبله ، وقد بينا أنه لا يلزم ذلك ، و : إذا ، لا تدل على تعين زمان ، بل تدل على تيقن الوجود أو رجحانه ، فظاهره يقتضي أنه : متى أفاض من عرفات جاز له ذلك ، واقتضى ذلك أن الوقوف بعرفة الذي تعتقبه الإِفاضة كان مجزياً .
ووقت الوقوف من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر بلا خلاف ، وأجمعوا على أن من وقف بالليل فحجه تام ، ولو أفاض قبل الغروب ، وكان وقف بعد الزوال ، فأجمعوا على أن حجة تام ، إلاَّ مالكاً فقال : يبطل حجه .
وروي نحوه عن الزبير ، وقال مالك : ويحج من قابل وعليه هدي ينحره في حجه القابل .
ومن قال : حجه تام ، فقال الحسن : عليه هدي ، وقال ابن جريج : بدنة ، وقال عطاء ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : عليه دم .
ولو أفاضل قبل الغروب ثم عاد إلى عرفة ، فدفع بعد الغروب ، فذهب أبو حنيفة ، والثوري ، وأبو ثور ، إلى أنه لا يسقط الدم . وذهب الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود الطبري إلى أنه لا شيء عليه . وحديث عروة بن مضرس : وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه ، وقضى تفثه ، موافق لظاهر الآية في عدم اشتراط جزء منالليل إلاَّ ما صدّ عنه الإجماع من أن الوقوف قبل الزوال لا يجزىء ، وأن من أفاض نهاراً لا شيء عليه .
ومن ، في قوله : من عرفات ، لابتداء الغاية ، وهي تتعلق : بأفضتم ، وظاهر هذا اللفظ يقتضي عموم عرفات ، فمن أي نواحيها أفاض أجزأه ، ويقتضي ذلك جواز الوقوف ، بأي نواحيها وقف ، والجمهور على أن عرنة من عرفات . وحكى الباجي ، عن ابن حبيب : أن عرنة في الحل ، وعرنة في الحرم ، وقيل : الجدار الغربي من مسجد عرنة لو سقط سقط في بطن عرنة ، ومن قال : بطن عرنة من عرفات ، فلو

" صفحة رقم 105 "
وقف بها فروي عن ابن عباس ، والقاسم ، وسالم أنه : من أفاض من عرنة لا حج له ، وذكره ابن المنذر عن الشافعي ، وأبو المصعب عن مالك ، وروى خالد بن نوار عن مالك أن حجه تام . ويهريق دماً ، وذكره ابن المنذر عن مالك أيضاً .
وروي : عرفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة ؛ وأكثر الآثار ليس فيها هذا الاستثناء ، فهي كظاهر الآية .
وكيفية الإفاضة أن يسيروا سيراً جميلاً ، ولا يطؤا ضعيفاً ، ولا يؤذوا ماشياً ، إذ كان ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا دفع من عرفات أعنق ، وإذا وجد فرجة نص . والعنق : سير سريع مع رفق ، والنص : سير شديد فوق العتق ، قاله الأصمعي ، والنضر بن شميل . ولو تأخر الإمام من غير عذر دفع الناس .
والتعريف الذي يصنعه الناس في المساجد ، تشبيهاً بأهل عرفة ، غير مشروع ، فقال بعض أهل العلم : هو ليس بشيء ، وأول من عرّف ابن عباس بالبصر ، وعرف أيضاً عمرو بن حريث ، وقال أحمد : أرجو أن لا يكون به بأس ، وقد فعله غير واحد : الحسن ، وبكر ، وثابت ، ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة .
وأما الصوم يوم عرفة للواقفين بها ، فقال يحيى بن سعيد الأنصاري : يجب ليهم الفطر ، وأجازه بعضهم ، وصامه عثمان بن القاضي ، وابن الزبير ، وعائشة . وقال عطاء : أصومه في الشتاء ولا أصومه في الصيف ، والجمهور على أن ترك الصوم أولى ، اتباعاً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
( فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ( الفاء جواب إذا ، والذكر هنا الدعاء والتضرع والثناء ، أو صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة ، أو الدعاء . وهذه الصلاة أقوال ثلاثة يبني عليها أهل الأمر : أمر ندب ، أم أمر وجوب ؟ وإذا كان الذكر هو الصلاة فلا دلالة فيه على الجمع بين الصلاتين ، فيصير الأمر بالذكر بالنسبة إلى الجمع بين الصلاتين مجملاً ببينة فعله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهو سنّة بالمزدلفة . ولو صلى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة ، فقال أبو حنيفة ، ومحمد : لا يجزئه ، وقال عطاء ، وعروة ، والقاسم ، وابن جبير ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : ليس الجمع شرطاً للصحة .
ومن له عذر عن الإِفاضة ممن وقف مع الإِمام صلى كل صلاة لوقتها ، قاله ابن المواز .
وقال مالك : يجمع بينهما إذا غاب الشفق ، وقال ابن القاسم : إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل ، فليؤخر الصلاتين حتى يأتيها ، وإلاَّ صلى كل صلاة لوقتها .
وهل يصليهما بإقامتين دون أذان ؟ أو بأذان واحد للمغرب وإقامتين ؟ أو بأذانين وإقامتين ؟ أو بأذان وإقامة للأولى ، وبلا أذان ولا إقامة للثانية ؟ أقوال أربعة .
الأول : قول سالم ، والقاسم ، والشافعي ، وإسحاق ، وأحمد في أحد قوليه .
والثاني : قول زفر ، والطحاوي ، وابن حزم ، وروي عن أبي حنيفة .
والثالث : قول مالك .
والرابع : قول أبي حنيفة ، والسنّة أن لا يتطوع الجامع بينهما .
والمشعر مفعل من شعر ، أي : المعلم : والحرام لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما نهي عنه من محظورات الإحرام . وهذا المشعر يسمى : جمعاً ، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى عرفة إلى بطن محسر ، قاله ابن عباس ، وابن عمر ، وابن جبير ، ومجاهد ؛ وتسمي العرب وادي محسر : وادي النار ، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام ، والمأزم . المضيق ، وهو مضيق واحد بين جبلين ، ثنوه لمكان الجبلين . وقيل : المشعر الحرام هو قزح ، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام ، وعليه الميقدة . قيل : وهو الصحيح لحديث جابر : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، لما صلى الفجر ، يعني بالمزدلفة ، بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام ، فدعا وكبر وهلل ، ولم يزل واقفاً حتى أسفر ، فعلى هذا لم تتعرض الآية المذكور للذكر بالمزدلفة ، لا على أنه الدعاء ولا الصلاة بها ، وإنما هذا أمر بالذكر عند هذا الجبل ، وهو قزح الذي ركب إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فدعا عنده وكبر وهلل ، ووقف بعد صلاته الصبح بالمزدلفة بغلس حتى أسفر ، ويكون ثم جملة محذوفة التقدير : فإذا أفضتم من عرفات ، ونمتم بالمزدلفة ، فاذكروا الله عند المشعر الحرام . ومعنى العندية هنا القرب منه ، وكونه يليه

" صفحة رقم 106 "
ومزدلفة كلها موقف ، إلاّ وادي محسر ، وجعلت كلها موقفاً لكونها في حكم المشعر ، ومتصلة به ، وقيل : سميت المزدلفة وما تضمنه الحد الذي ذكر مشعراً ، ووحد لاستوائه في الحكم ، فكان كالمكان الواحد .
وقال في ( المنتخب ) : هذا الأمر يدل على أن الحصول عند المشعر الحرام واجب ، ويكفي فيه المرور كما في عرفة ، فأما الوقوف هناك فمسنون . انتهى كلامه .
وكون الوقوف مسنوناً هو قول جمهور العلماء ، وقال أبو حنيفة : هو واجب ، فمن تركه من غير عذر فعليه دم ، فإن كان له عذر أو خاف الزحام فلا بأس أن يعجل بليل . ولا شيء عليه .
وقال ابن الزبير ، والحسن ، وعلقمة ، والشعبي ، والنخعي ، والأوزاعي . الوقوف بمزدلفة فرض ، ومن فاته فقد فاته الحج ، ويجعل إحرامه عمرة .
والآية لا تدل إلاّ على مطلوبية الذكر عند المشعر الحرام ، لا على الوقوف ، ولا على المبيت بمزدلفة ، وأجمعوا على أن المبيت ليس بركن . وقال مالك : من لم يبت بها فعليه دم ، وإن أقام بها أكثر ليلة فلا شيء عليه ، لأن المبيت بها سنة مؤكدة ، عند مالك . وهو مذهب عطاء ، وقتادة ، والزهري ، والثوري ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور .
وقال الشافعي : إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه ، أو قبله افتدى ، والفدية شاة .
ومطلق الأمر بالذكر لا يدل على ذكر مخصوص . قال بعضهم : وأولى الذكر أن يقول : اللهم كما وفقتنا فيه فوفقنا لذكرك كما هديتنا ، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق ) فَإِذَا أَفَضْتُم ( ويتلو إلى قوله : ) إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ثم بعد ذلك يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة .
والذي يظهر أن ذكر الله هنا هو الثناء عليه ، والحمد له ، ولا يراد بذكر الله هنا ذكر لفظة الله ، وإنما المعنى : اذكروا الله بالألفاظ الدالة على تعظيمه ، والثناء عليه ، والمحمدة له . وعند منصوب باذكروا ، وهذا مما يدل على أن جواب : إذا ، لا يكون عاملاً فيها ، لأن مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر ، لأن ذلك عرفات ، وهذا المشعر الحرام ، وإذا اختلف المكانان لزم من ذلك ضرورة اختلاف الزمانين ، فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعاً وقت إنشاء الإفاضة .
( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ( هذا الأمر الثاني هو الأول ، وكرر على سبيل التوكيد والمبالغة في الأمر بالذكر ، لأن الذكر من أفضل العبادات ، أو غير الأول ، فيراد به تعلقه بتوحيد الله ، أي : واذكروه بتوحيده كما هداكم بهدايته ، أو اتصال الذكر لمعنى : اذكروه ذكراً بعد ذكر ، قال هذا القول محمد بن قاسم النحوي : أو الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع ، ويراد بالأول صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة ، حكاه القاضي أبو يعلى .
والكاف في : كما ، للتشبيه ، وهي في موضع نصب إما على النعت لمصدر محذوف ، وإما على الحال . وقد تقدّم هذا البحث في غير موضع .
والمعنى : أوجدوا الذكر على أحسن أحواله من مماثلته لهداية الله لكم ، هذه هدايته إياكم أحسن ما أسدي إليكم من النعم ، فليكن الذكر من الحضور والديمومة في الغاية حتى تماثل إحسان الهداية ، ولهذا المعنى قال الزمخشري : أذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هدية حسنة . انتهى .
ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل على مذهب من أثبت هذا المعنى للكاف ، فيكون التقدير : كما هداكم ، أي : أذكروه وعظموه للهداية السابقة منه تعالى لكم ، وحكى سيبويه : كما أنه لا يعلم ، فتجاوز الله عنه ، أي : لأنه لا يعلم ، وثبت لها هذا المعنى الأخف 5 ، وابن برهان . وما ، في : كما ، مصدرية أي : كهدايته إياكم ، وجوّز الزمخشري ، وابن عطية أن تكون : ما ، كافة للكاف عن العمل ، والفرق بينهما أن : ما ، المصدرية تكون هي وما بعدها في موضع جر ، إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر ، والكاف لا يكون ذلك فيها إذ لا عمل لها البتة ، والأوْلى حملها على أن : ما ، مصدرية لإقرار الكاف على ما استقر لها من عمل الجر ، وقد منع أن تكون الكاف مكفوفة بما عن العمل أبو سعد ، وعلي بن مسعود بن الفرُّ خالٍ صاحب ( المستوفي ) واحتج من أثبت ذلك بقول الشاعر :

" صفحة رقم 107 "
لعمرك إنني وأبا حميد
كما النشوان والرجل الحليم
أريد هجاءه وأخاف ربي
وأعلم أنه عبد لئيم
والهداية هنا خاصة ، أي : بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه ، فما عامة تتناول أنواع الهدايات من معرفة الله ، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه .
( وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالّينَ ( إن هنا عند البصريين هي التي للتوكيد المخففة من الثقيلة ، ودخلت على الفعل الناسخ كما دخلت على الجملة الابتدائية واللام في : لمن ، وما أشبهه فيها خلاف : أهي لام الابتداء لزمت للفرق ؟ أم هي لام أخرى اجتلبت للفرق ؟ ومذهب الفراء . في نحو هذا هي النافية بمعنى ما ، واللام بمعنى إلاّ ، وذهب الكسائي إلى أنّ : بمعنى : قد ، إذ دخل على الجملة الفعلية ، وتكون اللام زائدة ، وبمعنى : ما ، النافية إذا دخل على الجملة الإسمية ، واللام بمعنى إلاّ ، ودلال هذه المسألة تذكر في علم النحو .
فعلى قول البصريين : تكون هذه الجملة مثبتة مؤكدة لا حصر فيها ، وعلى مذهب الفراء : مثبتة إثباتاً محصوراً ، وعلى مذهب الكسائي : مثبتة مؤكدة من جهة غير جهة قول البصريين .
ومن قبله ، يتعلق بمحذوف ، ويبينه قوله : لمن الضالن ، التقدير : وإن كنتم ضالين من قبله لمن الضالين ، ومن تسمح من النحويين في تقديم الظرف والمجرور على العامل الواقع صلة للألف واللام ، فيتعلق على مذهبه من قبله بقوله : من الضالين ، وقد تقدّم نظير هذا .
والهاء في قبله ، عائدة على الهدى المفهوم من قوله : هداكم ، أي : وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين ، ذكرهم تعالى بنعمة الهداية التي هي أتم النعم ليوالوا ذكره والثناء عليه تعالى ، والشكر الذي هو سبب لمزيد الإنعام ، وقيل : تعود الهاء على القرآن ، وقيل : على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
والظاهر في الضلال أنه ضلال الكفر ، كما أن الظاهر في الهداية هداية الإيمان ، وقيل : من الضالين عن مناسك الحج ، أو عن تفصيل شعائره .
البقرة : ( 199 ) ثم أفيضوا من . . . . .
( ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ( صح عن عائشة قالت : كان الحمس هم الذين أنزل الله تعالى فيهم : ) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ( رجعوا إلى عرفات ، وفي ( الجامع ) للترمذي عن عائشة قالت : كانت قريش ومن على دينها ، وهم الحمس ، يقفون بالمزدلفة ، يقولون : نحن قطان الله ، وكان من سواهم يقفون بعرفة ، فأنزل الله : ) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ( قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
وروى محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : خرجت في طلب بعير بعرفة ، فرأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قائماً بعرفة مع الناس قبل أن يبعث ، فقلت : والله إن هذا من الحمس ، فما شأنه واقفاً هاهنا مع الناس ؟ وكان وقوف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بعرفة إلهاماً من الله تعالى وتوفيقاً إلى ما هو شرع الله ومراده ، وكانت قريش قد ابتدعت أشياء : لا يأقطون الأقط ، ولا يسلون السمن وهم محرمون ، ولا يدخلون بيتاً من شعر ، ولا يستظلون إلاّ في بيوت الأدم ، ولا يأكلون حتى يخرجوا إلى الحل ، وهم حرم ، ولا يطوف القادم إلى البيت إلاّ في ثياب الحمس ، ومن لم يجد ذلك طاف عرياناً ، فإن طاف بثيابه ألقاها فلا يأخذها أبداً ، لا هو ولا غيره ، وتسمي العرب تلك الثياب : اللقي ، وسمحوا للمرأة أن تطوف وعليها درعها ، وكانت قبل تطوف عريانة ، وعلى فرجها نسعة ، حتى قالت امرأة منهم : اليوم يبدو بعضه أو كله
وما بدا منه فلا أحله
فلما أنزل الله ) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ( وأنزل : ) خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ( أباح لهم ما حرموا على أنفسهم من الوقوف بعرفة ، ومن الأكل والشرب واللباس ، فعلى هذا الذي نقل من سبب

" صفحة رقم 108 "
النزول ، فيكون المخاطبون بالإفاضة هنا قريشاً وحلفاءها ، ومن دان بدينها ، وهم الحمس . وهذا قول الجمهور . وقيل : الخطاب عام لقريش وغيرها .
والإفاضة المأمور بها هي من عرفات ، إلاَّ أن : ثم ، على هذا ، تخرج عن أصل موضوعها العربي من أنها تقتضي التراخي في زمان الفعل السابق ، وقد قال : ) فَإِذْ أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ثُمَّ أَفِيضُواْ ( الإفاضة قد تقدمّت ، وأمروا بالذكر إذا أفاضوا ، فكيف يؤمر بها بعد ذلك بثم التي تقتضي التراخي في الزمان ؟ وأجيب عن هذا بوجوه .
أحدهما : أن ذلك من الترتيب الذي في الذكر ، لا من الترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال ، وحسن هذا أن الإفاضة السابقة لم يكن مأموراً بها ، إنما كان المأمور به ذكر الله إذا فعلت ، والأمر بالذكر عند فعلها لا يدل على الأمر بها ، ألا ترى أنك تقول : إذ ضربك زيد فاضربه ؟ فلا يكون زيد مأموراً بالضرب ، فكأنه قيل : ثم لتكن تلك الإفاضة من عرفات لا من المزدلفة كما تفعله الحمس ، وزعم بعضهم أن : ثم ، هنا بمعنى الواو ، لا تدل على ترتيب ، كأنه قال : وأفيضوا من حيث أفاض الناس ، فهي لعطف كلام على كلام مقتطع من الأول ، وقد جوّز بعض النحويين أن : ثم ، تأتي بمعنى الواو ، فلا ترتيب . وقد حمل بعض الناس : ثم ، هنا على أصلها من الترتيب بأن جعل في الكلام تقديماً وتأخيراً ، فجعل : ) ثُمَّ أَفِيضُواْ ( معطوفاً على قوله : ) وَاتَّقُونِ يأُوْلِي أُوْلِى الالْبَابِ ( كأنه قيل : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ، فإذا أفضتم من عرفات ، وعلى هذا تكون هذه الإفاضة المشروط بها ، تلك الإفاضة المأمور بها ، لكن التقديم والتأخير هو مما يختص بالضرورة ، وننزه القرآن عن حمله عليه ، وقد أمكن ذلك بجعل : ثم ، للترتيب في الذكر لا في الفعل الواقع بالنسبة للزمان ، أو بجعل الإفاضة المأمور بها هنا غير الإفاضة المشروط بها ، وتكون هذه الإفاضة من جمع إلى منى ، والمخاطبون بقوله ) ثُمَّ أَفِيضُواْ ( جميع المسلمين ، وقد قال بهذا : الضحاك ، وقوم معه ، ورجحه الطبري ، وهو يقتضيه ظاهر القرآن . وقال الزمخشري فإن قلت : فكيف موقع : ثم ؟ قلت : نحو موقعها في قولك : أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم ، يأتي : ثم ، لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم ، والإحسان إلى غيره وبعد ما بينهما ، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات ، قال : ثم أفيضوا ، التفاوت ما بين الإفاضتين ، وأن احدهما صواب والثانية خطأ . انتهى كلامه .
وليست الآية كالمثال الذي مثله ، وحاصل ما ذكر أن : ثم ، تسلب الترتيب ، وأنها لها معنى غيره سماه بالتفاوت والبعد لما بعدها مما قبلها ، ولم يجز في الآية أيضاً ذكر الإفاضة الخطأ فيكون : ثم ، في قوله : ثم أفيضوا ، جاءت لبعد ما بين الإفاضتين وتفاوتهما ، ولا نعلم أحداً سبقه إلى اثبات هذا المعنى لثم .
و : مِنْ حيث ، متعلق : بأفيضوا ، و : مِنْ ، لابتداء الغاية ، و : حيث ، هنا على أصلها من كونها ظرف مكان ، وقال القفال : من حيث أفاض الناس ، عبارة عن زمان الإفاضة من عرفة ، ولا حاجة إلى إخراج حيث عن موضوعها الأصلي ، وكأنه رام أن يغاير بذلك بين الإفاضتين ، لأن الأولى في المكان ، والثانية في الزمان ، ولا تغاير ، لأن كلاًّ منهما يقتضي الآخر ويدل عليه ، فهما متلازمان . أعني : مكان الإفاضة من عرفات ، وزمانها . فلا يحصل بذلك جواب عن مجيء بثم .
و : الناس ، ظاهره العموم في المفيضين ، ومعناه أنه الأمر القديم الذي عليه الناس ، كما تقول : هذا مما يفعله الناس ، أي عادتهم ذلك ، وقيل : الناس أهل اليمن وربيعة ، وقيل : جميع العرب دون الحمس ، وقيل : الناس إبراهيم ومن أفاض معه من أبنائه والمؤمنين به ، وقيل : إبراهيم وحده ، وقيل : آدم وحده ، وهو قول الزهري لأنه أبو الناس وهم أولاده وأتباعه ، والعرب تخاطب الرجل العظيم الذي له أتباع مخاطبة الجمع ، وكذلك من له صفات كثيرة ، ومنه قوله :

" صفحة رقم 109 "
فأنت الناس إذ فيك الذي قد
حواه الناس من وصف جميل
ويؤيده قراءة ابن جبير : من حيث أفاض الناس ، بالياء من قوله : ) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى مِن رَّبِّهِ قَبْلُ فَنَسِىَ ( وإطلاق الناس على : واحد من الناس هو خلاف الأصل ، وقد رجح هذا بأن قوله : ) مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ( هو فعل ماض يدل على فاعل متقدم ، والإفاضة إنما صدرت من آدم وإبراهيم ، ولا يلزم هذا الترجيح ، لأن : حيث ، إذا أضيفت إلى جملة مصدرة بماض جاز أن يراد بالماضي حقيقته ، كقوله تعالى : ) فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ). وتارة يراد به المستقبل ، كقوله تعالى ) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ ( وهذا معروف في حيث ، فلا يلزم ما ذكره .
وعلى تسليم أنه فعل ماض ، وأنه يدل على فاعل متقدم لا يلزم من ذلك أن يكون فاعله واحداً لأنه قبل صدور هذا الأمر بالإضافة كان إما جميع من أفاض قبل تغيير قريش ذلك ، وإما غير قريش ذلك ، وإما غير قريش بعد تغييرهم من سائر من حج من العرب ، فالأولى حمل الناس على جنس المفيضين العام ، أو على جنسهم الخاص .
وقد رجح قول من قال بأنهم أهل اليمن وربيعة بحج أبي بكر بالناس ، حين أمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأمره أن يخرج بالناس إلى عرفات فيقف بها ، فإذا غربت الشمس أفاض بالناس حتى يأتى بهم جميعاً ، فيبيت بها ، فتوجه أبو بكر إلى عرفات ، فمر بالحمس وهم وقوف بجمع ، فلما ذهب ليجاوزهم قالت له الحمس : يا أبا بكر : أين تجاوزنا إلى غيرنا ؟ هذا موقف آبائك فمضى أبو بكر كما أمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) حتى أتى عرفات ، وبها أهل اليمن وربيعة . وهذا تأويل قوله : ) مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ( فوقف بها حتى غربت الشمس ، ثم أفاض بالناس إلى المشعر الحرام ، فوقف بها ، فلما كان عند طلوع الشمس أفاض منه .
وقراءة ابن جبير : من حيث أفاض الناسي ، بالياء ، قراءة شاذة ، وفيها تنبيه على أن الإفاضة من عرفات شرع قديم ، وفيها تذكير يذكر عهد الله وأن لا ينسى ، وقد ذكرنا أنه يؤول على أن المراد بالناسي آدم عليه السلام ، ويحتمل أن يكون الناسي في قراءة سعيد معناه التارك ، أي : للوقوف بمزدلفة ، أو لا ، ويكون يراد به الجنس ، إذ الناسي يراد به التارك للشيء ، فكأن المعنى ، والله أعلم : أنهم أمروا بأن يفيضوا من الجهة التي يفيض منها من ترك الإفاضة من الزدلفة ، وأفاض من عرفات ، ويكون الناسي يراد به الجنس ، فيكون موافقاً من حيث المعنى لقراءة الجمهور ، لأن الناس الذين أمرنا بالإفاضة من حيث أفاضوا ، هم التاركون للوقوف بمزدلفة ، والجاعلون الإفاضة من عرفات على سنن من سن الحج ، وهو إبراهيم عليه السلام ، بخلاف قريش ، فإنهم جعلوا الإفاضة من المزدلفة ، ولم يكونوا ليقفوا بعرفات فيفيضوا منها .
قال ابن عطية : ويجوز عند بعضهم حذف الياء ، فيقول : الناسِ ، كالقاضِ والهادِ ، قال : أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ، وأما كون جوازه مقروءاً به فلا أحفظه . انتهى كلامه .
فقوله : أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ، ظاهر كلام ابن عطية أن ذلك جائز مطلقاً ، ولم يجزه سيبويه إلاّ في الشعر ، وأجازه الفرّاء في الكلام . وأما قوله : وأما جوازه مقروءاً به فلا أحفظه ، فكونه لا يحفظه قد حفظه غيره .
قال أبو العباس المهدوي : أفاض الناسي بسعيد بن جبير ، وعنه أيضاً : الناسِ بالكسر من غير ياء . انتهى قول أبي العباس المهدوي .
( وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ ( أمرهم بالاستغفار في مواطن مظنة القبول ، وأماكن الرحمة ، وهو طلب الغفران من الله باللسان مع التوبة بالقلب ، إذ الاستغفار باللسان دون التوبة بالقلب غير نافع ، وأمروا بالاستغفار ، وإن كان فيهم من لم يذنب ، كمن بلغ قبيل الإحرام ولم يقارف ذنباً وأحرم ، فيكون الاستغفار من مثل هذا لأجل أنه ربما صدر منه تقصير في أداء الواجبات والاحتراز من المحظورات ، وظاهر هذا الأمر أنه ليس طلب غفران من ذنب خاص ، بل طلب غفران الذنوب ، وقيل : إنه أمر بطلب غفران خاص ، والتقدير : واستغفروا الله مما كان من مخالفتكم في الوقوف والإفاضة ، فإنه غفور لكم ، رحيم فيما فرطتم فيه في حلكم وإحرامكم ، وفي سفركم ومقامكم . وفي الأمر بالاستغفار عقب الإفاضة ، أو معها ، دليل على أن ذلك الوقت ، وذلك المكان المفاض منه ، والمذهوب إليه من أزمان الإجابة وأماكنها ، والرحمة والمغفرة .
وقد روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) خطب عشية عرفة فقال : ( أيها الناس إن الله تعالى تطاول

" صفحة رقم 110 "
عليكم في مقامكم ، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم ، إلاَّ التبعات فيما بينكم ، فامضوا على اسم الله ) فلما كان غداة جمع خطب فقال : ( أيها الناس إن الله قد تطاول عليكم ، فعوّض التبعات من عنده ) .
وأخرج أبو عمرو بن عبد البر في ( التمهيد ) ثلاثة أحاديث تدل على أن الله تعالى يباهي بحجاج بيته ملائكته ، وأنه يغفر لهم ما سلف من ذنوبهم ، وأنه ضمن عنهم التبعات .
و : استغفر ، يتعدى لاثنين ، الثاني منهما بحرف الجر ، وهو من : فعول ، استغفرت الله من الذنب ، وهو الأصل ، ويجوز أن تحذف : من ، كما قال الشاعر : أستغفر الله ذنباً لست محصيه
رب العباد إليه الوجه والعمل
تقديره : من ذنب ، وذهب أبو الحسن بن الطراوة إلى أن : استغفر ، يتعدى بنفسها إلى مفعولين صريحين ، وأن قولهم : استغفر الله من الذنب ، إنما جاء على سبيل التضمين ، كأنه قال : تبت إلى الله من الذنب ، وهو محجوج بقول سيبويه ، ونقله عن العرب وذلك مذكور في علم النحو ، وحذف هنا المفعول الثاني للعلم به ، ولم يجىء في القرآن مثبتاً ، لا مجروراً بمن ، ولا منصوباً ، بخلاف : غفر ، فإنه تارة جاء في القرآن مذكوراً مفعوله ، كقوله : ) وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ( وتارة محذوفاً . كقوله تعالى : ) يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء ( وجاء : استغفر ، أيضاً معدّى باللام ، كما قال تعالى : ) فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ( ) وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( وكأن هذه اللام ، والله أعلم ، لام العلة ، وأن ما دخلت عليه مفعول من أجله ، واستفعل هنا للطلب ، كاستوهب واستطعم واستعان ، وهو أحد المعاني التي جاء لها استفعل ، وقد ذكرنا ذلك في قوله : ) وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ).
) إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( هذا كالسبب في الأمر بالاستغفار ، وهو أنه تعالى كثير الغفران ، كثير الرحمة ، وهاتان الصفتان للمبالغة ، وأكثر بناء : فعول ، من : فَعَلَ ، نحو : غفور ، وصفوح ، وصبور ، وشكور ، وضروب ، وقتول ، وتروك ، وهجوم ، وعلوك ، وأكثر بناء : فعيل ، من فَفِعلَ بكسر العين نحو : رحيم ، وعليم ، وحفيظ ، وسميع ، وقد يتعارضان . قالوا : رقب فهو رقيب ، وقدر فهو قدير ، وجهل فهو جهول ؛ وقد تقدم الكلام على نحو هذه الجمل ، أعني : أن يكون آخر الكلام ذكر اسم الله ، ثم يعاد بلفظه بعد : إن ، والأولى أن يطلق الغفران والرحمة ، وإن ذلك من شأنه تعالى .
وقيل : إن المغفرة الموعودة في الآية هي عند الدفع من عرفات ، وقيل : إنها عند الدفع من جمع إلى منى ، والأولى ما قدمناه .
البقرة : ( 200 ) فإذا قضيتم مناسككم . . . . .
( فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ( وسبب نزولها أنهم كانوا إذا اجتمعوا في الموسم تفاخروا بآبائهم ، فيقول أحدهم : كان يقرى الضيف ، ويضرب بالسيف ، ويطعم الطعام ، وينحر الجزور ، ويفك العانى ، ويجر النواصي ، ويفعل كذا وكذا . فنزلت .
وقال الحسن : كانوا إذا حدثوا

" صفحة رقم 111 "
أقسموا بالآباء ، فيقولون . وأبيك ، فنزلت .
وقال السدي : كانوا إذا قضوا المناسك وأقاموا بمنى يقوم الرجل ويسأل الله فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة ، كثير المال فأعطني بمثل ذلك ليس يذكر الله ، إنما يذكر أباه ويسأل الله أن يعطيه في دنياه ، وقال : معناه أبو وائل ، وابن زيد ، فنزلت : فإذا قضيتم ، أي أديتم وفرغتم . كقوله : ) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ ( أي : أديت ، وقد يعبر بالقضاء عن ما يفعل من العبادات خارج الوقت المحدود ، والقضاء إذا علق على فعل النفس فالمراد منه الإتمام والفراغ ، كقوله : وما فاتكم فاقضوا وإذا علق على فعل غيره ، فالمراد منه الإلزام ، كقوله : قضى الحاكم بينهما ، والمراد من الآية الفراغ .
وقال بعض المفسرين : يحتمل أن يكون هذا الشرط والجزاء ، كقولك : إذا حججت فطف وقف بعرفة ، فلا نعني بالقضاء الفراغ من الحج ، بل الدخول فيه ، ونعني بالذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات ، والمشعر الحرام ، والطواف والسعي ، فيكون المعنى : فاذا شرعتم في قضاء المناسك ، أي : في أدائها فاذكروا . وهذا خلاف الظاهر ، لأن الظاهر الفراغ . من المناسك لا الشروع فيها ، ويؤيد ذلك مجيء الفاء في : فإذا ، بعد الجمل السابقة .
والمناسك هي مواضع العبادة ، فيكون هذا على حذف مضاف ، أي : أعمال مناسككم ، أو العبادات نفسها المأمور بها في الحج ، قاله الحسن ، أو الذبائح وإراقة الدماء ، قاله مجاهد .
فاذكروا الله : هذا جواب : إذ ، والمعنى : إذا فرغتم من الوقوف بعرفة ، ونفرتم من منى ، فعظموا الله وأثنوا عليه إذ هداكم لهذه الطاعة ، وسهلها ويسرها عليكم ، حتى أديتم فرض ربكم وتخلصتم من عهدة هذا الأمر الشاق الصعب الذي لا يبلغ إلا بالتعب الكثير ، وانهماك النفس والمال ، وقيل : الذكر هنا هو ذكر الله على الذبيحة ، وقيل : هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشريق ، وقيل : بل المقصود تحويلهم عن ذكر آبائهم إلى ذكره تعالى كذكركم آباءكم تقدم . هذا هو ذكر مفاخرهم ، أو السؤال من الله أن يعطيهم مثل ما أعطى آباءهم ، أو القسم بآبائهم ، وقيل : ذكر آبائهم في حال الصغر ، ولهجه بأبيه يقول : أبه أبه ، أول ما يتكلم . وقيل : معنى الذكر هنا الغضب لله كما تغضب لوالديك إذا سُبَّا ، قاله أبو الجوزاء ، عن ابن عباس . ونقل ابن عطية أن محمد بن كعب القرظي قرأ : كذكركم آباؤكم ، برفع الأباء ، ونقل غيره عن محمد بن كعب أنه قرأ : أباكم ، على الإفراد ، ووجه الرفع أنه فاعل بالمصدر ، والمصدر مضاف إلى المفعول ، التقدير : كما يذكركم آباؤكم . والمعنى : ابتهلوا بذكر الله والهجوا به كما يلهج المرء بذكر ابنه . ووجه الإفراد أنه استغنى به عن الجمع ، لأنه يفهم الجمع من الإضافة إلى الجمع ، لأنه معلوم أن المخاطبين ليس لهم أب واحد ، بل آباء .
و : أو ، هنا قيل : للتخيير ، وقيل : للاباحة ، وقيل : بمعنى بل أشدّ ، جوزوا في إعرابه وجوهاً إضطروا إليها لاعتقادهم أن ذكراً بعد أشدّ تمييزاً بعد أفعل التفضيل ، فلا يمكن إقراره تميزاً إلاَّ بهذه التقادير التي قدورها ، ووجه إشكال كونه تمييزاً أن أفعل التفضيل إذا انتصب ما بعده فإنه يكون غير الذي قبله ، تقول : زيد أحسن وجهاً ، لأن الوجه ليس زيداً فإذا كان من جنس ما قبله انخفض نحو زيد أفضل رجلٍ . فعلى هذا يكون التركيب في مثل : أضرب زيداً كضرب عمر وخالداً أو أشدّ ضرب ، بالجر لا بالنصب ، لأن المعنى أن أفعل التفضيل جنس ما قبله ، فجوزوا إذ ذاك النصب على وجوه .
أحدها : أن يكون معطوفاً على موضع الكاف في : ذكركم ، لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف ، أي : ذكراً كذكركم آباءكم أو أشد ، وجعلوا الذكر ذكراً على جهة المجاز ، كما قالوا : شاعر شعر ، قاله أبو علي وابن جني .
الثاني : أن يكون معطوفاً على آبائكم ، قاله الزمخشري ، قال : بمعنى أو أشد ذكراً من آبائكم ، على أن ذكراً من فعل المذكور انتهى . وهو كلام قلق ، ومعناه : أنك إذا عطفت أشد على آبائكم كان التقدير : أو قوماً أشد ذكراً من آبائكم ، فكان القوم

" صفحة رقم 112 "
مذكورين ، والذكر الذي هو تمييز بعد أشدّ هو من فعلهم ، أي من فعل القوم المذكورين ، لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم ، ومعنى قوله : من آبائكم أي : من ذكركم لآبائكم .
الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل الكون . والكلام محمول على المعنى . التقدير : أو كونوا أشد ذكراً له منكم لأبائكم . ودل عليه أن معنى : فاذكروا الله ؛ كونوا ذاكريه .
قال أبو البقاء : قال : وهذا أسهل من حمله على المجاز ، يعنى في أن يجعل للذكر ذكر في قول أبي علي وابن جني .
وجوزوا الجر في أشد على وجهين . أحدهما : ان يكون معطوفاً على : ذكركم ، قاله الزجاج ، وابن عطية ، وغيرهما . فيكون التقدير : أو كذكر أشدّ ذكراً ، فيكون إذ ذاك قد جُعل للذكر ذكر .
الثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير المجرور بالمصدر في : كذكركم ، قاله الزمخشري . قال ما نصه : أو أشدّ ذكراً في موضع جر ، عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله : كذكركم ، كما تقول : كذكر قريش آباءهم أو قوم أشدّ منهم ذكراً ، وفي قول الزمخشري : العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، فهي خمسة وجوه من الإعراب كلها ضعيف ، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكراً يماثل آبائهم أو أشدّ ، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه ، وهو أن يكون : أشدّ ، منصوباً على الحال ، وهو نعت لقوله : ذكراً لو تأخر ، فلما تقدّم انتصب على الحال ، كقولهم .
لمية موحشاً طلل
فلو تأخر لكان : لمية طلل موحش ، وكذلك لو تأخر هذا لكان : أو ذكراً أشدّ ، يعنى : من ذكركم آباءكم ، ويكون إذ ذاك : أو ذكراً أشدّ ، معطوفاً على محل الكاف من : كذكركم ، ويجوز أن يكون ذكراً مصدراً ، لقوله : فاذكروا كذكركم ، في موضع الحال ، لأنه في التقدير : نعت نكرة تقدّم عليهما فانتصب على الحال ، ويكون : أو أشدّ ، معطوفاً على محل الكاف حالاً معطوفة على حال ، ويصير كقوله : أضرب مثل ضرب فلان ضرباً ، التقدير ضرباً مثل ضرب فلان ، فلما تقدّم انتصب على الحال ، وحسن تأخره أنه كالفاصلة في جنس المقطع . ولو تقدّم لكان : فاذكروا ذكراً كذكركم ، فكان اللفظ يتكرر ، وهم مما يجتنبون كثرة التكرار للفظ ، فلهذا المعنى ، ولحسن القطع ، تأخر .
لا يقال في الوجه الأول : إنه يلزم فيه الفصل بين حرف العطف وهو : أو ، وبين المعطوف الذي هو : ذكراً ، بالحال الذي هو : أشدّ ، وقد نصوا على أنه إذا جاز ذلك فشرطه أن يكون المفصول به قسماً أو ظرفاً أو مجروراً ، وإن يكون حرف العطف على أزيد من حرف ، وقد وجد هذا الشرط الآخر ، وهو كون الحرف على أزيد من حرف ، وفقد الشرط الأول ، لأن المفصول به ليس بقسم ولا ظرف ولا مجرور ، بل هو حال ، لأن الحال هي مفعول فيها في المعنى ، فهي شبيهة بالحرف ، فيجوز فيها ما جاز في الظرف . وهذا أولى من جعل : ذكراً ، تمييزاً لأفعل التفضيل الذي هو وصف في المعنى ، فيكون : للذكر ذكر بأن ينصبه على محل الكاف ، أو يجره عطفاً على ذكر المجرور بالكاف ، أو الذي هو وصف في المعنى للذكر بأن ينصبه بإضمار فعل أي : كونوا أشدّ ، أو للذاكر الذكر ، وبأن ينصبه عطفاً على : أباءكم ، أو للذكر الفاعل بأن يجره عطفاً على المضاف إليه الذكر ، ولا يخفى ما في هذه الأوجه من الضعف ، فينبغي أن ينزه القرآن عنها .
( فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا ( قالوا : بين تعالى حال الذاكرين له قبل مبعثه ، وحال المؤمنين بعد مبعثه ، وعلمهم بالثواب والعقاب . والذي يظهر أن هذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك ، وأنهم ينقسمون في السؤال إلى من يغلب عليه حب الدنيا ، فلا يدع إلاَّ بها ، ومنهم من يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة ، وأن هذا من الالتفات . ولو جاء على الخطاب لكان : فمنكم من يقول : ومنكم . وحكمة هذا الالتفات أنهم ما وجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسلكه عاقل ، وهو الاقتصار على الدنيا ، فأبرزوا في صورة أنهم غير المخاطبين بذكر الله بأن جعلوا في صورة الغائبين ، وهذا من التقسيم

" صفحة رقم 113 "
الذي هو من جملة ضروب البيان ، وهو تقسيم بديع يحصره المقسم إلى هذين النوعين ، لا على ما يذهب إليه الصوفية من أن ثَمَّ قِسماً ثالثاً لم يذكر لهم تعالى ، قالوا : وهم الراضون بقضائه ، المستسلمون لامره ، الساكتون عن كل دعآء ، وافتشآء ، ومفعول آتنا الثاني محذوف ، تقديره : ما تريد ، أو : مطلوبنا ، أو ما أشبه .
هذا وجعل في زائدة ، وتكون الدنيا المفعول الثاني قول ساقط ، وكذلك جعل في بمعنى : من ، حتى يكون في موضع المفعول ، وحذف مفعولي آتي ، وأحدهما جائز اختصاراً واقتصاراً ، لأن هذا باب : أعطى ، وذلك جائز فيه .
( لَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ( تقدّم تفسير هذا في قوله : ) وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَالَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ( واحتملت هذه الجملة هنا معنيين : أحدهما : الأخبار بأنه لا نصيب له في الآخرة لاقتصاره على الدنيا . والثاني : أن يكون المعنى إخباراً عن الداعي بأنه ما له في الآخرة من طلب نصيب ، فيكون هذا كالتوكيد لاقتصاره على طلب الدنيا ، وجمع في قوله : ) رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا ( ولو جرى على لفظٍ من ، لكان : ربّ آتني . وروعي الجمع هنا لكثرة من يرغب في الاقتصار على مطالب الدنيا ونيلها ، ولو أفرد لتوهم أن ذلك قليل .
البقرة : ( 201 ) ومنهم من يقول . . . . .
( وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً ( الحسنة : مطلقة ، والمعنى : أنهم سألوا الله في الدنيا الحالة الحسنة ، وقد مثل المفسرون ذلك بأنها المرأة الصالحة ، قاله علي . أو : العافية في الصحة وكفاف المال ، قاله قتادة . أو : العلم ، أو العبادة ، قاله الحسن . أو : المال ، قاله السدي ، وأبو وائل ، وابن زيد . أو : الرزق الواسع ، قاله مقاتل . أو : النعمة في الدنيا ، قاله : ابن قتيبة ، أو القناعة بالرزق ، أو : التوفيق والعصمة ، أو : الأولاد الأبرار ، أو : الثبات على الإيمان ، أو : حلاوة الطاعة ، أو : اتباع السنة ، أو : ثناء الخلق ، أو : الصحة والأمن والكفاءة والنصرة على الأعداء ، أو : الفهم في كتاب الله تعالى . أو : صحبة الصالحين ، قاله جعفر . وعن الصوفية في ذلك مثل كثيرة .
( وَفِي الاْخِرَةِ حَسَنَةً ( مثلوا حسنة الآخرة بأنها الجنة ، أو العفو والمغفرة والسلامة من هول الموقف وسوء الحساب ، أو النعمة ، أو الحور العين ، أو تيسير الحساب ، أو مرافقة الأنبياء ، أو لذة الرؤية ، أو الرضا ، أو اللقاء .
وقال ابن عطية : هي الحسنة بإجماع . قيل : وينبغي أن تكون الحسنتان هما العافية في الدنيا والآخرة لثبوت ذلك في حديث الذي زاره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقد صار مثل الفرخ ، وإنه سأله عما كان يدعو به ، فأخبره أنه سأل الله في الدنيا تعجيل ما يعاقبه به في الآخرة ، وأنه قال له : ( لا تستطيعه ) وقال : ( هلا قلت اللهم آتنا في الدنيا . . . ) إلى آخره . فدعا بهما الله تعالى فشفاه .
وصح أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أكثر ما كان يدعو به ، وكان يقول ذلك فيما بين الركن والحجر الأسود ، وكان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقوف .
وأبو بكر أول من قالها في الموسم عام الفتح ، ثم اتبعه علي ، والناس أجمعون ؛ وأنس سئل الدعاء فدعا بها ، ثم سئل الزيادة فأعادها ، ثم سئل الزيادة فقال : ما تريدون ؟ قد سألت الله خير الدنيا والآخرة .
وفي الآخرة حسنة : الواو فيها لعطف شيئين على شيئين ، فعطفت : في الأخرة حسنة ، على : الدنيا حسنة ، والحرف قد يعطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر ، تقول : أعلمت زيداً أخاك منطلقاً وعمراً أباه مقيماً ، إلاَّ إن ناب عن عاملين ففيه خلاف ، وفي الجواز تفصيل . وليس هذا من الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والمجرور كما ظن بعضهم ، فأجاز ذلك مستدلاً به على ضعف مذهب الفارسي في أن ذلك مخصوص بالشعر ، لأن الآية ليست من هذا الباب ، بل من عطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر ، وإنما الذي وقع فيه خلاف أبي علي هو : ضربت زيداً وفي الدار عمراً ، وإنما يستدل على ضعف مذهب أبي علي بقوله : ) اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الاْرْضِ مِثْلَهُنَّ ( وبقوله : ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ( وتمام الكلام على هذه المسألة مذكور في علم النحو .
( وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( هو سؤال بالوقاية من النار ، وهو : أن لا يدخلوها ، وهي نار جهنم ، وقيل : المرأة السوء الكثيرة الشر .
وقال القيثري : واللام في النار لام الجنس ، فتحصل الاستعاذة عن نيران الحرقة ونيران الفرقة انتهى .
وظاهر هذا الدعاء أنه لما كان قولهم : وفي الآخرة حسنة ،

" صفحة رقم 114 "
يقتضي أن من دخل الجنة ، ولو آخر الناس ، صدق عليه أنه : أوتي في الآخرة حسنة ، قد دعوا الله تعالى أن يكونوا مع دخول الجنة يقيهم عذاب النار ، فكأنه دعاء بدخول الجنة أولاً دون عذاب ، وأنهم لا يكونون ممن يدخل النار بمعاصيهم ويخرجون منا بالشفاعة . ويحتمل أن يكون مؤكداً لطلب دخول الجنة ، كما قال بعض الصحابة .
إنما أقول في دعائي : اللهم أدخلني الجنة ، وعافني من النار ، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( حولها ندندن ) .
البقرة : ( 202 ) أولئك لهم نصيب . . . . .
( أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ ( تقدّم انقسام الناس إلى فريقين : فريق اقتصر في سؤآله على دنياه ، وفريق أشرك في دنياه أخراه ، فالظاهر أن : أولئك ، إشارة إلى الفريقين ، إذ المحكوم به ، وهو كون : نصيب لهم مما كسبوا ، مشترك بينهما ، والمعنى : أن كل فريق له نصيب مما كسب ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . ولا يكون الكسب هنا الدعاء ، بل هذا مجرد إخبار من الله بما يؤول إليه أمر كل واحد من الفريقين ، وأن انصباءهم من الخير والشر تابعة لاكسابهم .
وقيل : المراد بالكسب هنا الدعاء ، أي : لكل واحد منهم نصيب مما دعا به . وسمي الدعاء كسباً لأنه عمل ، فيكون ذلك ضماناً للإجابة وعداً منه تعالى أنه يعطي كّلاً منه نصيباً مما اقتضاه دعاؤه ، إما الدنيا فقط ، وإما الدنيا والآخرة ، فيكون كقوله : ) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَةِ ( ) وَمَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ ( و ) مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ( الآيات .
وكما جاء في الصحيح : وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله بها ، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها . وفي المعنى الأول لا يكون فيه وعد بالإجابة .
و : من ، في قوله : مما كسبوا ، يحتمل أن تكون للتبعيض ، أي : نصيب من جنس ما كسبوا ، ويحتمل أن يكون للسبب ، و : ما ، يحتمل أن تكون موصولة لمعنى الذي أو موصولة مصدرية أي : من كسبهم ، وقيل : أولئك ، مختص بالإشارة إلى طالبي الحسنتين فقط ، ولم يذكر ابن عطية غيره . وذكره الزمخشري بإزائه .
قال ابن عطية : وعد على كسب الأعمال الصالحة في صيغة الإخبار المجرد ، وقال الزمخشري : أولئك الداعون بالحسنتين لهم نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الصالحة ، وهو الثواب الذي هو منافع الحسنة ، أو من أجل ما كسبوا ، كقوله : مما خطاياهم اغرقوا ، ثم قال بعد كلام : ويجوز أن يكون أولئك الفريقين جميعاً ، وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا . انتهى كلامه .
والأظهر ما قدمناه من أن : أولئك ، إشارة إلى الفريقين ، ويؤيده قوله : ) وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( وهذا ليس مما يختص به فريق دون فريق ، بل هذا بالنسبة لجميع الخلق ، والحساب يعم محاسبة العالم كلهم ، لا محاسبة هذا الفريق الطالب الحسنتين .
وروي عن ابن عباس : أن النصيب هنا مخصوص بمن حج عن ميت ، يكون الثواب بينه وبين الميت ، وروي عنه أيضاً ، في حديث الذي سأل هل يحج عن أبيه . وكان مات ؟ وفي آخره ، قال : فهل لي من أجر ؟ فنزلت هذه الآية ، قيل : وإذا صح هذا فتكون الآية منفصلة عن التي قبلها ، معلقة بما قبله من ذكر الحج ومناسكه وأحكامه . انتهى . وليست كما ذكر منفصلة ، بل هي متصلة بما قبلها ، لأن ما قبلها هو في الحج ، وأن انقسام الفريقين هو في الحج ، فمنهم من كان يسأل الله الدنيا فقط ، ومنهم من يسأل الدنيا والآخرة . وحصل الجواب للسائل عن حجه عن أبيه : أله فيه أجر ؟ لعموم قوله : ) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ ( وقد أجاب ابن عباس بهذه الآية من سأله أن يكرى دابته ويشرط عليهم أن يحج ، فهل يجزى عنه ؟ وذلك لعموم قوله : ) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ ).
) وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ظاهره الإخبار عنه تعالى بسرعة حسابه ، وسرعته بانقضائه عجلاً كقصد مدته ، فروى : بقدر حلب شاة ، وروي بمقدار فواق ناق ، وروي بمقدار لمحة البصر . أو لكونه لا يحتاج إلى فكر ، ولا رؤية كالمعاجز ، قاله أبو سليمان . أو : لما علم ما

" صفحة رقم 115 "
للمحاسب وما عليه قبل حسابه ، قاله الزجاج . أو : لكون حساب العالم كحساب رجل واحداً ، و : لقرب مجيء الحساب ، قاله مقاتل .
قيل : كنى بالحساب عن المجازاة على الأعمال إذا كانت ناشئة عنها كقوله : ) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ( يعنى ما جزائي ، وقيل : كنى بالحساب عن العلم بمجاري الأمور ، لأن الحساب يفضي إلى العلم ، قاله الزجاج أيضاً .
وقيل : عبر بالحساب عن القبول لدعاء عباده ، وقيل : عبر به عن القدرة والوفاء ، أي : لا يؤخر ثواب محسن ولا عقاب مسيء . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : سريع مجيء يوم الحساب . فالمقصود بالآية الإنذار بسرعة يوم القيامة . وقيل : سرعة الحساب تعالى رحمته وكثرتها ، فهي لا تغب ولا تنقطع . وروي ما يقاربه عن ابن عباس .
وظاهر سياق هذا الكلام عموم الحساب للكافر والمؤمن إذ جاء بعد ما ظاهره أنه للطائعين ، ويكون حساب الكفار تقريعاً وتوبيخاً ، لأنه ليس له حسنة في الآخرة يجزىء بها ، وهو ظاهر قوله : ) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ( وقال الجمهور : الكفار لا يحاسبون ، قال تعالى : ) فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ( ) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( وظاهر ثقل الموازين وخفتها ، وما ترتب عليهاف ي الآيات الواردة في القرآن شمول الحسنات للبر والفاجر ، والمؤمن والكافر .
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة : أن الحج له أشهر معلومات ، وجمعها على أشهر لقلتها ، وهي : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة . بكمالها ، على ما يقتضيه ظاهر الجمع ، ووصفها : بمعلومات ، لعلمهم بها . وأخبر تعالى أن من ألزم نفسه الحج فيها فلا يرفت ولا يفسق ولا يجادل ، فنهاه عن مفسد الحج مما كان جائزاً قبله ، وما كان غير جائز مطلقاً ليسوي بين التحريمين ، وإن كان أحدهما مؤقتاً ، والآخر ليس بمؤقت . ثم لما نهى عن هذه المفسدات ، أخبر تعالى أن ما يفعله الإنسان من الخير الذي فرض الحج منه يعلمه الله ، فهو تعالى يثيب عليه . ثم أمر تعالى بالتزوّد للدّار الآخرة بأعمال الطاعات ، ودخل فيها ما هم ملتبسون به من الحج ، وأخبر أن خير الزاد هو ما كان وقاية بينك وبين النار ، ثم نادى ذوي العقول ، الذين هم أهل الخطاب ، وأمرهم باتقاء عقابه ، لأنه قد تقدّم ذكر المناهي ، فناسب أن ينتهوا على اتقاء عذاب الله بالمخالفة فيما نهى عنه ، ثم أنه لما كان الحاج مشغولاً بهذه العبادة الشاقة ، ملتبساً بأقوالها وأفعالها ، كان مما يتوهم أنها لا يمزج وقتها بشيء غير أفعالها ، فبين تعالى أنه لا حرج على من ابتغى فيها فضلاً بتجارة ، أو إجارة ، أو غير ذلك من الأعمال المعينة على كلف الدنيا ، ثم أمرهم تعالى بذكره عند المشعر الحرام إذا أفاضوا من عرفات ، ليرجعهم بذكره إلى الاشتغال بأفعال الحج ، لئلا يستغرقهم التعلق بالتجارات والمكاسب ، ثم أمرهم بالذكر على هدايته التي منحها إياهم ، وقد كانوا قبل في ضلال ، فاصطفاهم للهداية ، ثم أمرهم بأن يفيضوا من حيث أفاض الناس ، وهي التي جرت عادة الناس بأن يفيضوا منها ، وذلك المكان هو عرفة ، والمعنى أنهم أمروا أن يكونوا تلك الإِفاضة السابقة من عرفة لا من غيرها ، كما ذكر في سبب النزول . وأتى بثم لا لترتيب في الزمان ، بل للترتيب في الذكر ، لا في الوقوع .
ثم أمر بالاستغفار ، ثم أمر بعد أداء المناسك يذكر الله تعالى ، ولما كان الإِنسان كثيراً ما يذكر أباه ويثني عليه بما أسلفه من كريم المآثر ، وكان ذلك عندهم الغاية في الذكر ، مثل ذكر الله بذلك الذكر ، ثم أكد مطلوبية المبالغة في الذكر بقوله : أو أشدّ ، ليفهم أن ما مثل به أولاً ليس إلاّ على طريق ضرب المثل لهم ؛ والمقصود أن لا يغفلوا عن ذكر الله تعالى طرفة عين .
ثم قسم مقصد الحاج إلى دنيويّ صرف ، وإلى دنيويّ وأخروي ، وبيّن ذلك في سؤاله ، إياه وذكر أن من اقتصر على دنياه فإنه لا حظ له في الآخرة ، ثم أشار إلى مجموع الصنفين بأن كلا منهما له مما كسب من أعمال حظ ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، وأنه تعالى حسابه سريع ، فيجازي العبد بما كسب .
2 ( ) وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّر

" صفحة رقم 116 "
َ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاٌّ رْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِىَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ سَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } )
البقرة : ( 203 ) واذكروا الله في . . . . .
العجلة : الإِسراع في شيء والمبادرة ، وتعجل تفعل منه وهو إما بمعنى استفعل ، وهو أحد المعاني التي يجيء لها تفعل فيكون بمعنى استعجل ، كقولهم : تكبر واستكبر ، وتيقن واستيقن ، وتقضى واستقضى ، وتعجل واستعجل ، يأتي لازماً ومتعدياً ، تقول : تعجلت في الشيء وتعجلته ، واستعجلت في الشيء واستعجلت زيداً ، وإمّا بمعنى الفعل المجرّد فيكون بمعنى : عجل ، كقولهم : تلبث بمعنى لبث ، وتعجب وعجب ، وتبرّ أو برىء ، وهو أحد المعاني التي جاء لها تفعل .
الحشر : جمع القوم من كل ناحية ، والمحشر مجتمعهم ، يقال منه : حشر يحشر ، وحشرات الأرض دوابها الصغار ، وقال الراغب : الحشر : ضم المفترق وسوقه ، وهو بمعنى الجمع الذي قلناه .
الإِعجاب : أفعال من العجب وأصله ، لما لم يكن مثله قاله المفضل ، وهو الاستحسان للشيء والميل إليه والتعظيم ، تقول أعجبني زيد . والهمزة فيه للتعدّي ، وقال الراغب : العجب حيرة تعرض للإِنسان بسبب الشيء وليس هو شيئاً له في ذاته حالة ، بل هو بحسب الإِضافات إلى من يعرف السبب ، ومن لا يعرفه . وحقيقة أعجبني كذا أي : ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه . انتهى كلامه . وقد يقال عجبت من كذا في الإِنكار ، كما قال زياد الأعجم :

" صفحة رقم 117 "
عجبت والدهر كثير عجبه
من عنزي سبني لم أضربه
اللدد : شدّة الخصومة ، يقال : لددت تلد لدداً ولدادة ، ورجل ألدّ وامرأة لدّاء ، ورجال ونساء لدّ ، ورجل التدد ويلتدد أيضاً شديد الخصومة ، وإذا غلب خصمه قيل : لدّه يلدّه ، متعدياً ، وقال الراجز :
يلدّ أقران الرجال اللدد
واشتقاقه من لديدي العنق ، وهما : صفحتاه ، قاله الزجاج ، وقيل : من لديدي الوادي وهما جانباه ، سميا بذلك لإعوجاجهما ، وقيل : هو من لدّه : حبسه ، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته ومقاومته .
الخصام : مصدر خاصم ، وجمع خصم يقال : خصم وخصوم وخصام ، كبحر وبحور بحار ، والأصل في الخصومة التعميق في البحث عن الشيء ، ولذلك قيل : في زوايا الأوعية : خصوم ، الواحد . خصم .
النسل : مصدر : نسل ينسل ، وأصله الخروج بسرعة ومن قولهم : نسل وبر البعير ، وشعر الحمار ، وريش الطائر : خرج فسقط منه ، وقيل : النسل الخروج متتابعاً ، ومنه : نسال الطائر ما تتابع سقوطه من ريشه ، وقال :
فسلِّي ثيابي من ثيابك تنسل
والإِطلاق على الولد نسلاً من إطلاق المصدر على المفعول ، يسمى بذلك لخروجه من ظهر الأب ، وسقوطه من بطن الأمّ بسرعة .
جهنم : علم للنار وقيل : إسم الدرك الأسفل فيها ، وهي عربية مشتقة من قولهم : ركية جهنام إذا كانت بعيدة القعر ، وقد سمي الرجل بجهنام أيضاً فهو علم ، وكلاهما من الجهم وهو الكراهة والغلظة ، فالنون على هذا زائدة ، فوزنه : فعنل ، وقد نصوا على أن جهناماً وزنه فعنال .
وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن فعنلاً بناء مفقود في كلامهم ، وجعل دونكاً : فعللا ، كعدبس . والواو أصل في بنات الأربعة كهي في : ورنتل ، والصحيح إثبات هذا البناء . وجاءت منه ألفاظ ، قالوا : ضغنط من الضغاطة ، وهي الضخامة ، وسفنج ، وهجنف : للظليم والزونك : القصير سمي بذلك لأنه يزوك في مشيته . أي : يتبختر ، قال حسان : أجمعت أنك أنت ألأم من مشى
في فحش زانيةٍ وزوكِ غراب
وقال بعضهم في معناه : زونكي .
وهذا كله يدل على زيادة النون في : جهنم وامتنعت الصرف للعلمية والتأنيث ، وقيل : هي أعجمية وأصلها كهنام ، فعربت بإبدال من الكاف جيماً . وبإسقاط الألف ، ومنعت الصرف على هذا للعجمة والعلمية .
حسب : بمعنى : كافٍ ، تقول أحسبني الشيء : كفاني ، فوقع حسب موقع : محسب ، ويستعمل مبتدأ فيجر خبره بباء

" صفحة رقم 118 "
زائدة ، وإذا استعمل خبراً لا يزاد فيه الباء وصفة فيضاف ، ولا يتعرف إذا أضيف إلى معرفة ، تقول : مررت برجل حسبك ، ويجيء معه التمييز نحو : برجل حسبك من رجل ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، وإن كان صفة لمثنى أو مجموع أو مؤنث لأنه مصدر .
المهاد : الفراش وهو ما وطىء للنوم ، وقيل : هو جمع مهد ، وهو الموضع المهيأ للنوم .
السلم : بكسر السين وفتحها : الصلح ، ويذكر ويؤنث ، وأصله من الاستسلام ، وهو الانقياد . وحكى البصريون عن العرب : بنو فلان سِلم وسَلم بمعنى واحد ، ويطلق بالفتح والكسر على الإسلام ، قاله الكسائي وجماعة من أهل اللغة ، وأنشدوا بعض قول كندة : دعوت عشيرتي للسلم لما
رأيتهم تولوا مدبرينا
أي : للإِسلام ، قال ذلك لما ارتدت كندة مع الأشعث بن قيس بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقال آخر في الفتح : شرائعُ السِّلم قد بانت معالمها
فما يرى الكُفْرَ إلاَّ من به خبلُ
يريد : الإِسلام ، لأنه قابله بالكفر ، وقيل بالكسر : الإِسلام وبالفتح : الصلح .
كافة : هو اسم فاعل استعمل بمعنى : جميعاً ، وأصل اشتقاقه من كف الشيء : منع من أخذه ، والكف المنع ، ومنه كفة القميص حاشيته ، ومنه الكف وهو طرف اليد لأنه يكف بها عن سائر البدن ، ورجل مكفوف منع بصره أن ينظر ، ومنه كفة الميزان لأنها تمنع الموزون أن ينتشر ، وقال بعض اللغويين : كفة بالضم لكل مستطيل ، وبالكسر لكل مستدير ، وكافة : ممها لزم انتصابه على الحال نحو : قاطبة ، فإخراجها عن النصب حالاً لحن .
التزيين : التحسين ، والزينة مما يتحسن به ويتجمل ، وفعل من الزين بمعنى الفعل المجرد ، والتضعيف فيه ليس للتعدية ، وكونه بمعنى المجرد وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل كقولهم : قدّر الله ، وقَدَرَ . وميز وماز ، وبشر وبشر ، ويبنى من الزين افتعل افتعال : ازدان بإبدال التاء دالاً ، وهو لازم .
( وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ( هذا رابع أمر بالذكر في هذه الآية ، والذكر هنا التكبير عند الجمرات وإدبار الصلاة وغير ذلك من أوقات الحج ، أو التكبير عقيب الصلوات المفروضة ، قولان . وعن عمر أنه كان يكبر بفسطاطه بمنًى فيكبر من حوله حتى يكبر الناس في الطريق ، وفي الطواف ، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، وليس يوم النحر من المعدودات ، هذا مذهب الشافعي ، وأحمد ، ومالك وأبي حنيفة ، قاله : ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وقتادة ، والسدّي ، والربيع ، والضحاك . أو يوم النحر ويومان بعده ، قاله : ابن عمر ، وعلي ، وقال : إذبح في أيها شئت ، أو يوم النحر وثلاثة أيام التشريق ، قاله : المروزي . أو أيام العشر ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، قيل : وقولهم أيام العشر ، غلط من الرواة ، وقال ابن عطية : إما أن يكون من تصحيف النسخة ، وإما أن يريد العشر الذي بعد يوم النحر ، وفي ذلك بُعْدُ .
وتكلم المفسرون هنا على قوله : ) فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الاْنْعَامِ ( ونحن نؤخر الكلام على ذلك إلى مكانه إن شاء الله .
واستدل ابن عطية للقول الأول وهو : أن الأيام المعدودات : أيام التشريق وهي الثلاثة بعد يوم النحر ، وليس يوم النحر منها . بأن قال : ودل على ذلك إجماع الناس على أنه لا ينفر أحد يوم القر . وهو ثاني يوم النحر ، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلاً يوم القر ، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات انتهى كلامه .
ولا يلزم ما قاله : فمن تعجل في يومين ، لا يمكن حمله على ظاهره ، لأن الظرف المبني إذا عمل فيه الفعل فلا بدّ من وقوعه في كل واحد من اليومين ، لو قلت : ضربت زيداً يومين ، فلا بدّ من وقوع الضرب

" صفحة رقم 119 "
به في كل واحد من اليومين ، وهنا لا يمكن ذلك ، لأن التعجيل بالنفر لم يقع في كل واحد من اليومين ، فلا بدّ من ارتكاب مجاز ، إما بأن يجعل وقوعه في أحدهما كأنه وقوع فيهما ، ويصير نظير : ) نَسِيَا حُوتَهُمَا ( ) وَيُخْرِجْ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( وإنما الناسي أحدهما ، وكذلك ، إنما يخرجان من أحدهما . أو بأن يجعل ذلك على حذف مضاف ، التقدير : فمن تعجل في ثاني يومين بعد يوم النحر ، فيكون اليوم الذي بعد يوم القر المتعجل فيه ، ويحتمل أن يكون المحذوف في : تمام يومين أو إكمال يومين ، فلا يلزم أن يقع التعجل في شيء من اليومين ، بل بعدهما . وعلى هذا يصح أن يعد يوم النحر من الأيام المعدودات ، ولا يلزم أن يكون النفر يوم القر ، كما ذكره ابن عطية .
وظاهر قوله ) وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ( الأمر بمطلق ذكر الله في أيام معدودات ، ولم يبين ما هذه الأيام ، لكن قوله : ) فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ ( يشعر أن تلك الأيام هي التي ينفر فيها ، وهي أيام التشريق ، وقد قال في ( ريّ الظمآن ) : أجمع المفسرون على أن الأيام المعدودات أيام التشريق . انتهى .
وجعل الأيام ظرفاً للذكر يدل على أنه متى ذكر الله في تلك الأيام فهو المطلوب ، ويشعر أنه عند رمي الجمار كون الرمي غير محصور بوقت ، فناسب وقوعه في أي وقت من الأيام ذكر الله فيه ، ويؤيده قوله : ) فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ ( وأن الخطاب بقوله : واذكروا ، ظاهر أنه للحجاج ، إذ الكلام معهم ، والخطاب قبلُ لهم ، والإخبار بعدُ عنهم ، فلا يدخل غيرهم معهم في هذا الذكر المأمور به .
ومن حمل الذكر هنا على أنه الذكر المشروع عقب الصلاة فهو منهم في الوقت وفي الكيفية .
أما وقته : فمن صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ، قاله عمر ، وعليّ ، وابن عباس ، أو : من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر ، قاله ابن مسعود ، وعلقمة ، وأبو حنيفة . أو : من صلاة الصبح يوم عرفة إلى أن يصلي الصبح آخر أيام التشريق ، وروي عن مالك هذا . أو : من صلاة الظهر يوم النحر إلى الظهر من آخر أيام التشريق ، قاله يحيى بن سعيد . أو : من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، قاله مالك ، والشافعي . أو : من ظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق ، قاله ابن شهاب . أو : من ظهر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ، قاله سعيد بن جبير . أو : من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من يوم النفر الأول ، قاله الحسن . أو : من صلاة الظهر يوم عرف إلى صلاة الظهر يوم النحر ، قاله أبو وائل . أو : من ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق ، قاله زيد بن ثابت ، وبه أخذ أبو يوسف في أحد قوليه .
وأما الكيفية : فمشهور مذهب مالك ثلاث تكبيرات وفي مذهبه أيضاً رواية أنه يزيد بعدها : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولله الحمد . ومذهب أبي حنيفه ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر . ومذهب الشافعي : الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
وقال أبو حنيفة : يختص التكبير بأدبار الصلوات المكتوبة في جماعة ، وقال مالك : مفرداً كان أو في جماعة عقب كل فريضة ، وبه قال الشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ؛ وعن أحمد : القولان ، والمسافر كالمقيم في التكبير عند علماء الأمصار ، ومشاهير الصحابة ، والتابعين . وعن أبي حنيفة : أن المسافرين إذا صلوا جماعة لا تكبير عليهم ، فلو اقتدى مسافر بمقيم كبَّر ، وينبغي أن يكبر عقب السلام ، والجمهور يعمل شيئاً يقطع به الصلاة من الكلام وغيره ، وقيل استدبار القبلة ، والجمهور على ذلك ، فإن نسي التكبير حين فرغ وذكر قبل أن يخرج من المجلس فينبغي أن يكبر .
وقال مالك في ( المختصر ) : يكبر ما دام في مجلسه ، فإذا قام منه فلا شيء عليه وقال في ( المدوّنة ) : إن نسيه وكان قريباً قعد فكبر ، وتباعد فلا شيء عليه ، وإن ذهب الامام والقوم جلوس فليكبروا ، وكذلك قال أبو حنيفة ، ومن نسي صلاة في أيام التشريق من تلك السنة قضاها وكبر ، وإن قضى بعدها لم يكبر ، ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب الفقة .
والذي يظهر ما قدمناه من أن هذا الخطاب هو للحجاج ، وأن هذا الذكر هو ما يختص به الحاج من أفعال الحج ، سواء كان الذكر عند الرمي أم عند أعقاب الصلوات ، وأنه لا يشركهم غيرهم في الذكر المأمور به إلاَّ بدليل ، وأن الذكر في أيام منى ، وفي يوم النحر عقب الصلوات لغير الحجاج ، وتعيين كيفية الذكر وابتدائه وانتهائه يحتاج إلى دليل سمعي .
( فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ( الظاهر أن : تعجل ، هنا لازم لمقابلته

" صفحة رقم 120 "
بلازم في قوله ) مِنْ تَأَخَّرَ ( فيكون مطاوعاً لعجل ، فتعجل ، نحو كسره فتكسر ، ومتعلق التعجل محذوف ، التقدير : بالنفس ، ويجوز أن يكون تعجل متعدياً ومفعوله محذوف أي : فمن تعجل النفر ، ومعنى : في يومين من الأيام المعدودات . وقالوا : المراد أنه ينفر في اليوم الثاني من أيام التشريق ، وسبق كلامنا على تعليق في يومين بلفظ تعجل ، وظاهر قوله : فمن تعجل ، العموم ، فسواء في ذلك الآفاقي والمكي ، لكل منهما أن ينفر في اليوم الثاني ، وبهذا قال عطاء . قال ابن المنذر : وهو يشبه مذهب الشافعي ، وبه نقول ، انتهى كلامه . فتكون الرخصة لجميع الناس من أهل مكة وغيرهم .
وقال مالك وغيره : ولم يبح التعجيل إلاَّ لمن بُعدَ قطره لا للمكي ولا للقريب إلاَّ أن يكون له عذر .
وروي عن عمر أنه قال : من شاء من الناس كلهم فلينفر في النفر الأول ، إلاَّ آل خزيمة . فإنهم لا ينفرون إلاَّ في النفر الآخر ، وجعل أحمد ، واسحاق قول عمر : إلاَّ آل خزيمة ، أي : أنهم أهل حرم ، وكان أحمد يقول : لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة .
وظاهر قوله : في يومين ، أن التعجل لا يكون بالليل بل في شيء من النهار ، ينفر إذا فرغ من رمي الجمار ، وهو مذهب الشافعي ، وهو مروي عن قتادة . وقال أبو حنيفة : قبل طلوع الفجر ، ويعني من اليوم الثالث ، وروي عن عمر ، وابن عامر ، وجابر بن زيد ، والحسن ، والنخعي . أنهم قالوا : من أدركه العصر وهو بمنى في اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغدو ، وهذا مخالف لظاهر القرآن لأنه قال : في يومين ، وما بقي من اليومين شيء فسائغ له النفر فيه ، قال ابن المنذر : ويمكن أن يقولوا ذلك استحباباً .
وظاهر قوله : ومن تعجل ، سقوطه الرمي عنه في اليوم الثالث ، فلا يرمي جمرات اليوم الثالث في يوم نفره .
وقال ابن أبي زمنين : يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجل . قال ابن المواز : يرمي المتعجل في يومين إحدى وعشرين حصاة كل جمرة بسبع حصات فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة ، يعنى : لأنه قد رمى جمرة العقبة بسبع يوم النحر . قال ابن المواز : ويسقط رمي اليوم الثالث .
وظاهر قوله ) وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ فَمَن تَعَجَّلَ ( إلى آخره . مشروعية المبيت بمنى أيام التشريق . لأن التعجل والتأخر إنما هو في النفر من منى ، وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد من الحجاج أن يبيت إلاَّ بها إلاَّ للرعاء ، ومن ولي السقاية من آل العباس ، فمن ترك المبيت من غيرهما ليلة من ليالي منى ، فقال مالك ، وأبو حنيفة : عليه دم ، وقال الشافعي : من ترك المبيت في الثلاث الليالي ، فإن ترك مبيت ليلة واحدة فيلزمه ثلث دم ، أو مد أو درهم ، ثلاثة أقوال ، ولم تتعرض الآية للرمي ، لا حكماً ، ولا وقتاً ، ولا عدداً ، ولا مكاناً لشهرته عندهم . وتؤخذ أحكامه من السنة .
وقيل : في قوله : واذكروا الله ، تنبيه عليه ، إذ من سنته التكبير على كل حصاة منها ، فلا إثم عليه .
وقرأ سالم بن عبد الله : فلا إثم عليه ، بوصل الألف ، ووجهه أنه سهل الهمزة بين بين ، فقربت بذلك من السكون فحذفها تشبيهاً بالألف ، ثم حذف الألف لسكونها وسكون التاء ، وهذا جواب الشرط إن جعلنا : مِنْ ، شرطية ، وهو الظاهر ، وإن جعلناها موصولة كان ذلك في موضع الخبر ، وظاهره نفي الإثم عنه ، ففسر بأنه مغفور له ، وكذلك من تأخر مغفور له لا ذنب عليه ، روي هذا عن علي ، وأبي ذر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والشعبي ، ومطرف بن الشخير ، وقال معاوية بن قرة : خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وروي عن عمر ما يؤيد هذا القول ، وقال مجاهد : المعنى من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام القابل .
والذي يظهر أن المعنى : فلا إثم عليه في التعجيل ولا إثم عليه في التأخير ، لأن الجزاء مرتب على الشرط ، والمعنى أنه لا حرج على من تعجل ولا على من تأخر ، وقاله عطاء ، وذلك أنه لما أمرهم تعالى بالذكر في أيام معلومات ، وهذه الأيام قد فسرت بما أقله جمع وهي : ثلاثة أيام ، أو بأربعة ، أو بالعشر ، ثم أبيح لهم النفر في ثاني أيام التشريق ، وكان يقتضي الأمر بالذكر في جميع هذه الأيام أن لا تعجيل ، فنفي بقوله : فلا إثم عليه الحرج عن من خفف عنه المقام إلى اليوم الثالث ، فينفر فيه ، سوى بينه في الاباحة وعدم الحرج ، وبين من تأخر فعم الأيام الثلاثة بالذكر ، وهذا التقسيم يدل على التخيير بين التعجيل والتأخر ، والتخيير قد يتبع بين الفاضل والأفضل ، فقيل : جاء ومن تأخر فلا إثم عليه ، لأجل مقابلة : فمن تعجل فلا إثم عليه ، فنفى الإثم عنه وإن كان أفضل لذلك ، وقيل :

" صفحة رقم 121 "
فلا إثم عليه في ترك الرخصة .
وقيل : كان أهل الجاهلية فريقين : منهم من يؤثم المتعجل ، ومنهم من يؤثم المتأخر ، فجاء القرآن برفع الإثم عنهما ، وقيل : إنه عبر بذلك عن المغفرة ، كما روي عن علي ومن معه . وهذا أمر اشترك فيه المتعجل والمتأخر ، وقيل : المعنى : ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع عامة الناس فلا إثم عليه ، فكأنه قيل : أيام منى ثلاثة ، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخر فلا إثم عليه .
وفي هاتين الجملتين الشرطيتين من علم البديع الطباق في قوله : فمن تعجل ، ومن تأخر ، والطباق ذكر الشيء وضده ، كقوله ) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( وهو هنا طباق غريب ، لأنه ذكر تعجل مطابق تأخر ، وفي الحقيقة مطابق تعجل تأنى ، ومطابق تأخر تقدم ، فعبر في تعجل بالملزوم عن اللازم ، وعبر في تأخر باللازم عن الملزوم .
وفيها من علم البيان المقابلة اللفظية ، إذ المتأخر أتى بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر ، وإنما أتى بقوله : فلا إثم عليه ، مقابلاً لقوله : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، كقوله : ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ( وتقدّمت الإشارة إلى هذا ) لِمَنِ اتَّقَى ( قيل : هو متعلق بقوله : واذكروا الله ، أي الذكر لمن اتقى ، وقيل : بانتفاء الإثم أي : يغفر له بشرط اتقائه الله فيما بقي من عمره ، قاله أبو العالية ، وقيل : المعنى ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي ، لئلا يختلج في قلبه شيء منهما ، فيحسب أن أحدهما ترهق صاحبه آثام في الإقدام عليه ، لأن ذا التقوى حذر متحرز من كل ما بريبه ، ولأنه هو الحاج على الحقيقة ، قاله الزمخشري ، وقال أيضاً : لا يجوز أن يراد ذلك الذي مرّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى ، لأنه هو المنتفع به دون من سواه ، كقوله : ذلك خير للذين يريدون وجهه انتهى كلامه .
واتقى : هنا حاصلة لِمَنْ . وهي بلفظ الماضي ، فقيل : هو ماضي المعنى أيضاً ، أي : المغفرة لا تحصل إلا لمن كان متقياً منيباً قبل حجه ، نحو : ) إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( وحقيقته أن المصرّ على الذنب لا ينفعه حجه وإن كان قد أدّى الفرض في الظاهر ، وقيل : اتقى جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج ، قال قتادة ، وأبو صالح . وقال ابن عباس : لمن اتقى في الإحرام الرفث والفسوق والجدال ، وقال الماتر يدي : لمن اتقى قتل الصيد في الإحرام ، وقيل : يراد به المستقبل ، أي : لمن يتقى الله في باقي عمره كما قدمناه .
والظاهر تعلقه بالآخر وهو انتفاء الإثم لقربه منه ، ولصحة المعنى أيضاً ، إذ من لم يكن متقياً لم يرتفع الإثم عنه .
والظاهر أن مفعول اتقي المحذوف هو : الله ، أي : لمن اتقى الله ، وكذا جاء مصرحاً به في مصحف عبد الله .
( وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( لما ذكر تعالى رفع الإثم ، وأن ذلك يكون لمن اتقى الله ، أمر بالتقوى عموماً ، ونبه على ما يحمل على اتقاء الله بالحشر إليه للمجازاة ، فيكون ذلك حاملاً لهم على اتقاء الله ، لأن من علم أنه يحاسب في الآخرة على ما اجترح في الدنيا اجتهد في أن يخلص من العذاب ، وأن يعظم له الثواب ، وإذا كان المأمور بالتقوى موصوفاً بها ، كان ذلك الأمر أمراً بالدوام ، في ذكر الحشر تخويف من المعاصي ، وذكر الأمر بالعلم دليل على أنه لا يكفي في اعتقاد الحشر إلاَّ الجزم الذي لا يجامعه شيء من الظن ، وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ، ولتواخي الفواصل والمعنى إلى جزائه .
وقد تكملت أحكام الحج المذكورة في هذه السورة من ذكر : وقت الحج إلى آخر فعل ، وهو : النفر ، وبدئت أولاً بالأمر بالتقوى ، وختمت به ، وتخلل الأمر بها في غضون الآي ، وذلك ما يدل على تأكيد مطلوبيتها ، ولِمَ لا تكون كذلك وهي اجتناب مناهي الله وإمساك مأموراته ، وهذا غاية الطاعة لله تعالى ، وبها يتميز الطائع من العاصي ؟
البقرة : ( 204 ) ومن الناس من . . . . .
( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( نزلت في الأخنس بن شريق واسمه : أبي ، وكان حلو اللسان والمنظر ، يجالس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ويظهر حبه ، والإسلام ، ويحلف على ذلك ، فكان يدنيه ولا يعلم ما أضمر ، وكان من ثقيف حليفاً لبني زهرة ، فجرى بينه وبين ثقيف شيء ، فبيتهم ليلاً وأحرق زرعهم ، وأهلك مواشيهم ، قاله عطاء

" صفحة رقم 122 "
والكلبي ، ومقاتل وقال السدي : فمر بزرع للمسلمين وحُمْرٍ ، فأحرق الزرع ، وغفر الحمر ، قيل : وفيه نزلت ) وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ( و ) وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ).
وقال ابن عباس : في كفار قريش ، أرسلوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : إنا قد أسلمنا ، فابعث إلينا من يعلمنا دينك ، وكان ذلك مكراً منهم ، فبعث إليهم خبيباً ، ومرشداً ، وعاصم بن ثابت ، وابن الدنية ، وغيرهم ، وتسمى : سرية الرجيع ، والرجيع موضع بين مكة والمدينة ، فقتلوا ، وحديثهم طويل مشهور في الصحاح .
وقال قتادة ، وابن زيد : نزلت في كل منافق أظهر بلسانه ما ليس في قلبه .
وروي عن ابن عباس : أنها في المنافقين ، قالوا عن سرية الرجيع : ويح هؤلاء ما فقدوا في بيوتهم ، ولا أدوا رسالة صاحبهم .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه : لما قسم السائلين الله قبلُ إلى : مقتصد على أمر الدنيا ، وسائل حسنة الدنيا ، والآخرة ، والوقاية من النار ، أتى بذكر النوعين هنا ، فذكر مِن النوع الأول من هو حلو المنطق ، مظهر الود ، وليس ظاهره كباطنه ، وعطف عليه من يقصد رضي الله تعالى ، ويبيع نفسه في طلبه ، وقدم هنا الأول لأنه هناك المقدم في قوله : ) فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا ( وأحال هنا على إعجاب قوله دون غيره ، من الأوصاف ، وأن القول هو الظاهر منه أولاً في قوله تعالى : ) فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ( ، فكان من حيث توجهه إلى الله تعالى في الدعاء ، ينبغي أن يكون لا يقتصر على الدنيا ، وإن سأل منه ما ينجيه من عذابه ، وكذلك هذا الثاني ينبغي أن لا يقتصر على حلاوة منطقه ، بل كان يطابق في سريرته لعلانيته .
و : مَنْ ، من قوله : من يعجبك ، موصولة ، وقيل : نكرة موصوفة ، والكاف في : يعجبك ، خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إن كانت نزلت في معين ، كالأخنس أو غيره ، أو خطاب لمن كان مؤمناً إن كانت نزلت في غير معين ممن ينافق قديماً أو حديثاً .
ومعنى إعجاب قوله استحسانه لمواقفه ما أنت عليه من الإيمان والخبر ، وجاء في الترمذي : ( أن في بعض كتب الله إن من عباد الله قوماً ألسنتهم من العسل ، وقلوبهم أمرّ من الصبر ) ، الحديث .
في الحياة ، متعلق بقوله ، أي يعجبك مقالته في معنى الدنيا ، لأن ادعاءه المحبة والتبعية بالباطل يطلب به حظاً من حظوظ الدنيا . ولا يريد به الآخرة ، إذ لا تراد الآخرة إلاَّ بالإيمان الحقيقي ، والمحبة الصادقة ، وقال الزمخشري ، بعد أن ذكر هذا الوجه : ويجوز أن يتعلق بيعجبك أي : قوله حلو ، فيصح : في الدنيا ، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة ، لما ترهقه في الموقف من الحبسة والكنة ، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام ، فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه . انتهى . وفيه بُعد .
والذي يظهر أنه متعلق بيعجبك لا على المعنى الذي قاله ، والمعنى أنك تستحسن مقالته دائماً في مدة حياته ، إذ لا يصدر منه من القول إلاَّ ما هو معجب رائق لطيف ، فمقالته في الظاهر معجبة دائماً . أَلاَ تراه يعدل على تلك المقالة الحسنة الرائقة ، إلى مقالة خشنة منافية ، ومع ذلك أفعاله منافية لأقواله الظاهرة ، وأقواله الباطلة مخالفة أيضاً لأقواله الظاهرة ؟ إذ لا يحمل قوله : يعجبك قوله ، وقوله : ) وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ( إلاَّ على حالتين : فهو حلو المقالة في الظاهر ، شديد الخصومة في الباطن .
( وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى فِى مَا قَلْبَهُ ( قرأ الجمهور بضم الياء وكسر الهاء . ونصب الجلالة من : أشهد ، وقرأ أبو حيوة ، وابن محيصن بفتح الياء والهاء ورفع الجلالة ، من شهد ، وقرأ أبي ، وابن مسعود : ويستشهد الله ، والمعنى على قراءة الجمهور ، وتفسير الجمهور ، أنه يحلف بالله ويشهده أنه صادق وقائل حقاً ، وأنه محب في الرسول والإسلام ، وقد جاءت الشهادة في معنى القسم في قصة الملاعنة في سورة النور ، قيل : ويكون اسم الله انتصب بسقوط حرف الجر ، والتقدير : ويقسم بالله على ما في قلبه ، وهذا سهو ، لأن الذي يكون يقسم به هو الثلاثي لا الرباعي ، تقول : أشهد بالله لأفعلن ، ولا تقول : أشهد بالله .
والظاهر عندي أن المعنى : أنه يطلع الله على ما في قلبه ، ولا يعلم به أحد لشدة تكتمه وإخفائه الكفر ، وهو ظاهر قوله : ) عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ ( ، لأن الذي في قلبه هو خلاف ما أظهر بقوله .
وعلى تفسير الجمهور يحتاج إلى حذف ما يصح به المعنى ، أي : ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه ، لأن الذي في قلبه هو الكفر ،

" صفحة رقم 123 "
وهو لا يحلف عليه ، إنما يحلف على ضده ، وهو الذي يعجب به . ويقوى هذا التأويل قراءة أبي حيوة ، وابن محيصن ، إذ معناها : ويطلع الله على ما في قلبه من الكفر الذي هو خلاف قوله .
وقراءة : ويستشهد ، بجواز أن تكون فيها : استفعل ، بمعنى : أفعل : نحو أيقن واستيقن ، فيوافق قراءة الجمهور ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون فيها : استفعل ، بمعنى المجرد ، فيكون استشهد بمعنى شهد ، ويظهر إذ ذاك أن لفظ الجلالة منصوب على إسقاط حرف الجر ، أي ويستشهد بالله ، كما تقول : ويشهد بالله ، ولا بد من الحذف حتى يصح المعنى ، أي : ويستشهد بالله على خلاف ما في قلبه ، والظاهر أن قوله : ويشهد الله ، معطوف على قوله : يعجبك ، فهو صلة ، أو صفة . وجوز أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف ، فتكون الجملة حالاً من الفاعل المستكن في : يعجبك ، أو : من الضمير المجرور في قوله . التقدير : وهو يشهد الله ، فيكون ذلك قيداً في الإعجاب ، أو في القول ، والظاهر عدم التقييد ، وأنه صلة ، ولما يلزم في الحال من الإضمار للمبتدأ لأن المضارع المثبت ، ومعه الواو ، يقع حالاً بنفسه ، فأحتيج إلى إضمار كما احتاجوا إليه في قولهم : قمت وأصك ، عينه ، أي وأنا أصك ، والإضمار على خلاف الأصل .
( وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ( أي : أشد المخاصمين ، فالخصام جمع خصم ، قاله الزجاج ، وإن أريد بالخصام المصدر ، كما قاله الخليل ، فلا بد من حذف مصحح لجريان الخبر على المبتدأ ، إما من المبتدأ ، أي : وخصامة ألدّ الخصام ، وإما من متعلق الخبر ، أي : وهو ألدّ ذوي الخصام ، وجوز أن يراد هنا بالخصام المصدر على معنى اسم الفاعل ، كما يوصف بالمصدر في : رجل خصم ، وأن يكون أفعل لا للمفاضلة ، كأنه قيل : وهو شديد الخصومة ، وأن يكون هو ضمير الخصومة ، يفسره سياق الكلام ، أي : وخصامه أشدّ الخصام .
وتقاربت أقاويل المفسرين في : ألدّ الخصام ، قال ابن عباس : معناه ذو الجدال ، وقال الحسن : الكاذب المبطل ، وقال قتادة : شديد القسوة في معصية الله ، وقال السدي : أعوج الخصومة . وقال مجاهد : لا يستقيم على حق في الخصومة .
والظاهر أن هذه الجملة الابتدائية معطوفة على صلة مَنْ ، فهي صلة ، وجوزوا أن تكون حالاً معطوفة على : ويشهد إذا كانت حالاً ، أو حالاً من الضمير المستكن في : ويشهد .
وإذا كان الخصام جمعاً ، كان ألدّ من إضافة بعض إلى كل ، وإذا كان مصدراً فقد ذكرنا تصحيح ذلك بالحذف الذي قررناه ، فإن جعلته بمعنى اسم الفاعل فهو كالجمع في أن أفعل بعض ما أضيف إليه ، وإن تأولت أفعل على غير بابها ، فألدّ من باب إضافة الصفة المشبهة .
وقال الزمخشري : والخصام المخاصمة ، وإضافة الألدّ بمعنى في كقولهم ثبت الغدر . انتهى .
يعنى أن : أفعل ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه ، بل هي إضافة على معنى : في ، وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أن أفعل التفضيل لا يضاف إلاَّ لما هي بعض له ، وفيه إثبات الإضافة بمعنى في ، وهو قول مرجوح في النحو ، قالوا : وفي هذه الآية دليل على الاحتياط بما يتعلق بأمور الدين والدنيا ، واستواء أحوال الشهود والقضاة ، وان الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم ، حتى يبحث عن باطنهم ، لأن الله بين أحوال الناس ، وأن منهم من يظهر جميلاً وينوي قبيحاً .
البقرة : ( 205 ) وإذا تولى سعى . . . . .
( وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ( حقيقة التولي الانصراف بالبدن ، ثم اتسع فيه حتى استعمل فيما يرجع عنه من قول وفعل ،

" صفحة رقم 124 "
ومعناه هنا ، قال ابن عباس : غضب لأنه رجوع عن الرضى الذي كان قبله ، وقال الحسن : انصرف عن القول الذي قاله ، وقال مقاتل ، وابن قتيبة : انصرف ببدنه ، وقال مجاهد : من الولاية ، أي : صار والياً .
والسعي حقيقة المشي بالقدمين بسرعة ، وعلى ذلك حمله هنا أبو سليمان الدمشقي ، وابن عباس ، فيما ذكر ابن عطية عنه ، والمعنى : وإذا نهض عنك يا محمد بعد إلانة القول وحلاوة المنطق ، فسعى بقدميه في الأرض ، فقطع الطريق وأفسد فيها ، كما فعله الأخنس بثقيف .
وقيل : السعي هنا العمل ، وهو مجاز سائغ في استعمال العرب ، ومنه : ) وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( ) وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ( وقال الشاعر : فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني ، ولم أطلب ، قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وقال الأعشى :
وسعى لكندة غير سعي مواكل
قيس فصدّ عدوها ونبالها
وقال آخر :
أسعى على حيي بني مالك
كل امرىء في شأنه ساع
وللمعنى : سعى بخيلة وإرادة الدوائر على الإسلام ، وإلى هذا القول نحا مجاهد ، وابن جريج ، وذكر أيضاً عن ابن عباس : والقائلون بهذا القول : قال قوم منهم : معناه سعى فيها بالكفر ، وقال قوم بالظلم . وقد يقع السعي بالقول ، يقال : سعى بين فلان وفلان نقل إليهما قولا يوجب الفرقة ، ومنه :
ما قلت ما قال وشاة سعوا
سعى عدو بيننا يرجف
في الأرض ، معلوم أن السعي لا يكون إلاَّ في الأرض ، لكن أفاد العموم بمعنى في : أي مكان حل منها سعى للفساد ، ويدل لفظ : في الأرض ، على كثرة سعيه ونقلته في نواحي الأرض ، لأنه يلزم من عموم الأرض تكرار السعي وتقدّم ما يشبهه في قوله : ) لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارْضِ ).
وإذا كان المراد الأخنس فالأرض أرض المدينة ، فالألف واللام للعهد .
ليفسد فيها ، هذا علة سعيه ، والحامل له على السعي في الأرض ، والفساد ضد الصلاح ، وهو معاندة الله في قوله : ) وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ).
والفساد يكون بأنواع من : الجور ، والقتل ، والنهب ، والسبي ، ويكون : بالكفر .
و : يهلك الحرث ، والنسل ، عطف هذه العلة على العلة قبلها ، وهو : ليفسد فيها ، وهو شبيه بقوله : ) وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( وقوله :

" صفحة رقم 125 "
أكرّ عليهم دعلجاً ولبانه .
لأن الإفساد شامل يدخل تحته إهلاك الحرث والنسل ، ولكنه خصهما بالذكر لأنهما أعظم ما يحتاج إليه في عمارة الدنيا ، فكان إفسادهما غاية الإفساد .
من فسر الإفساد بالتخريب ، جعل هذا من باب التفصيل بعد الإجمال .
و : يهلك الحرث والنسل ، تقدم ذكر الحرث في قوله : ) وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ ( وتقدم ذكر النسل في الكلام على المفردات ، وعلى ما تقدم من أن الآية في الأخنس ، يكون الحرث الزرع ، والنسل الحمر التي قتلها ، فيكون النسل المراد به الدواب ذوات النسل . وقيل : المراد هنا بالحرث هنا النساء ، وبالنسل الأولاد ، وقال تعالى : ) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ( وذكره ابن عطية عن الزجاج احتمالاً ، فيكون من الكناية ، وهو من ضروب البيان .
وقرأ الجمهور : ويهلك ، من أهلك . عطفاً على : ليفسد ، وقرأ أبي : وليهلك ، بإظهار لام العلة ، وقرأ قوم : ويهلك ، من أهلك ، وبرفع الكاف . وخرج على أن يكون عطفاً على قوله : يعجبك ، أو على : سعى ، لأنه في معنى : يسعى ، وأما على الاستئناف ، أو على إضمار مبتدأ ، أي : وهو يهلك .
وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ، وابن محيصن : ويهلك من هلك ، وبرفع الكاف ، والحرث والنسل على الفاعلية ، وكذلك رواه حماد بن سملة عن ابن كثير ، وعبد الوراث عن أبي عمرو ، وحكى المهدوي أن الذي رواه حماد عن ابن كثير ، إنما هو : ويهلك من أهلك ، وبضم الكاف ، الحرث بالنصب .
وقرأ قوم : ويهلك من هلك ، وبفتح اللام ، ورفع الكاف ورفع الحرث ، وهي لغة شاذة نحو : ركن يركن ، ونسبت هذه القراءة إلى الحسن الزمخشري .
قال الزمخشري : وروى عنه ، يعنى عن الحسن ، ويهلك مبنياً للمفعول ، فيكون في هذه اللفظة ست قراءآت : ويهلك وليهلك ويهلك ، وما بعد هذه الثلاثة منصوب ، لأن في الفعل ضمير الفاعل ، ويهلك ويهلك ويهلك ، وما بعد هذه الثلاثة مرفوع بالفعل ، وهذه الجملة الشرطية إما مستأنفة ، وتم الكلام عند قوله : وهو ألدّ الخصام ، وإما معطوفة على صلة مَنْ أو صفتها ، من قوله : ويعجبك .
( وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ( تقدمت علتان ، والثانية داخلة تحت الأولى ، فأخبر تعالى أنه لا يحب الفساد ، واكتفى بذكر الأولى لانطوائها على الثانية وإن فسرت المحبة بالإرادة ، وقد جاءت كذلك في مواضع منها : ) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ( فلا بد من التخصيص ، أي : لا يحب من أهل الصلاح الفساد ، ولا يمكن الحمل على العموم إذ ذاك على مذهبنا لوقوع الفساد ، فلو لم يكن مراداً لما كان واقعاً . وقد تعلقت المعتزلة بهذه الآية في أن الله لا يريد الفساد ، فما وقع منه فليس مراد الله تعالى ، ولا مفعولاً له ، لأنه لو فعله لكان مريداً له لاستحالة أن يفعل ما لا يريد ؛ قالوا : ويدل على أن محبته الفعل هي إرادته له ، أنه غير جائز أن يحب كونه ولا يريد أن يكون ، بل يكره أن يكون . وفي هذا ما فيه من التناقض . انتهى ما قالوا : وقيل : المعنى والله لا يحب الفساد ديناً ، وقيل : هو على حذف مضاف أي : أهل الفساد ، وقال ابن عباس : المعنى لا يرضى المعاصي ، وقيل : عبر بالمحبة عن الأمر أي : لا يأمر بالفساد .
وقال الراغب : الإفساد إخراج الشي من حالة محمودة لا لغرض صحيح ، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى ، وهذه التأويلات كلها هو على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة ، قال ابن عطية : والحب له على الإرادة مزية إيثار ، فلو قال أحد : إن الفساد المراد تنقصه مزية الإيثار لصح ذلك إذ الحب من الله تعالى إنما هو لما حسن من جميع جهاته . انتهى كلامه . وإذا صح هذا اتضح الفرق بين الإرادة والمحبة ، وصح أن الله يريد الشيء ولا يحبه .
وقال بعضهم : سوَّى المعتزلة بين المحبة والإرادة واستدلوا بهذه ، وجمهور العلماء على خلاف ذلك ، والفرق بين الإرادة والمحبة بيِّن ، فإن الإنسان

" صفحة رقم 126 "
يريد بطيء الجرح ولا يحبه وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة بطل ادّعاؤهم التساوي بينهما ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : ) وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ( انتهى كلامه .
وجاء في كتاب الله تعالى نفي محبة الله تعالى أشياء ، إذ لا واسطة بين الحب وعدمه بالنسبة إليه تعالى ، بخلاف غيره ، فإنه قد يعر ، وعنهما فالمحبة ومقابلها بالنسبة إلى الله تعالى نقيضان ، وبالنسبة إلى غيره ضدّان ، وظاهر الفساد يعم كل فساد في ارض أو مال أو دين ، وقد استدل عطاء بقوله : ) وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ( على منع شق الإنسان ثوبه . وقال ابن عباس : الفساد هنا الخراب .
البقرة : ( 206 ) وإذا قيل له . . . . .
( وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ ( تحتمل أيضاً هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وتحتمل أن تكون داخلة في الصلة ، تقدم الكلام في نحو هذا في قوله : ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارْضِ ( و : ما ، الذي أقيم مقام الفاعل ، فأغنى عن ذكره هنا ، و : أخذته العزة ، احتوت عليه وأحاطت به ، وصار كالمأخوذ لها كما يأخذ الشيء باليد .
قال الزمخشري : من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه ، وألزمته إياه ، أي : حملته العزة التي فيه ، وحمية الجاهلية ، على الإثم الذي ينهي عنه ، وألزمته ارتكابه ، وأن لا يخلى عنه ضرراً ولجاجاً ، أو على رد قول الواعظ . انتهى كلامه .
فالباء ، على كلامه للتعدية ، كأن المعنى ألزمته العزة الإثم ، والتعدية بالباء بابها الفعل اللازم ، نحو : ) لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ( أي : لأذهب سمعهم ، وندرت التعدية بالباء في المتعدي ، نحو : صككت الحجر بالحجر ، أي أصككت الحجر الحجر ، بمعنى جعلت أحدهما يصك الآخر ، ويحتمل الباء أن تكون للمصاحبة ، أي : أخذته مصحوباً بالإثم ، أو مصحوبة بالإثم ، فيكون للحال من المفعول أو الفاعل ، ويحتمل أن تكون سببية ، والمعنى : أن إثمه السابق كان سبباً لأخذ العزة له ، حتى لا يقبل ممن يأمره بتقوى الله تعالى ، فتكون الباء هنا : كمن ، في قول الشاعر : أخذته عزة من جهله
فتولى مغضباً فعل الضَّجر
وعلى أن تكون : الباء ، سببية فسره الحسن ، قال . أي من أجل الإثم الذي في قلبه ، يعني الكفر .
وقد فسرت العزة بالقوة وبالحمية والمنعة ، وكلها متقاربة .
وفي قوله : ) أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ ( نوع من البديع يسمى التتميم ، وهو إرداف الكلام بكلمة يرفع عنه اللبس ، وتقربه للفهم ، كقوله تعالى : ) وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( وذلك أن العزة محمودة ومذمومة ، فالمحمودة طاعة الله ، كما قال : ) أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( ) فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً ( فلما قال : بالإثم ، اتضح المعنى وتم ، وتبين أنها العزة المذمومة المؤثم صاحبها . قال ابن مسعود : لا ينبغي للرجل أن يغضب إذا قيل له اتق الله ، أو تقول : أو لِمثْلى يقال هذا ؟ وقيل لعمر : اتق الله ، فوضع خدّه على الأرض تواضعاً ، وقيل : سجد ، وقال : هذا مقدرتي . وتردّد يهودي إلى باب هارون الرشيد ، سنة فلم يقض له حاجة ، فتحيل حتى وقف بين يديه ، فقال : اتق الله يا أمير المؤمنين : فنزل هارون عن دابته ، وخر ساجداً ، وقضى حاجته ، فقيل له في ذلك ، فقال : تذكرت قوله تعالى : ) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ ).
) فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ( أي : كافيه جزاءً وإذلالاً جهنم ، وهي جملة مركبة من مبتدأ وخبر ، وذهب بعضهم إلى أن جهنم فاعل : فحسبه ، لأنه جعله اسم فعل ، إما بمعنى الفعل الماضي ، أي : كفاه جهنم ، أو : بمعنى فعل الأمر ، ودخول حرف الجر عليه واستعماله صفة ، وجريان حركات الإعراب عليه يبطل كونه اسم فعل ، وقوبل على اعتزازه بعذاب جهنم ، وهو الغاية في الذل ، ولما كان قوله : اتق الله ، حل به ما أمر أن يتقيه ، وهو : عذاب الله ، وفي قوله : فحسبه جهنم ، استعظام لما حل به من العذاب ، كما تقول للرجل : كفاك ما حل بك إذا استعظمت وعظمت عليه ما حل به .
( وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ( تقدّم الكلام في : بئس ، والخلاف في تركيب مثل هذه الجملة مذكور في علم النحو ، لكن التفريع

" صفحة رقم 127 "
على مذهب البصريين في أن : بئس ونعم ، فعلان جامدان ، وأن المرفوع بعدهما فاعل بهما ، وأن المخصوص بالذّم ، إن تقدم ، فهو مبتدأ ، وإن تأخر فكذلك ، هذا مذهب سيبويه . وحذف هنا المخصوص بالذم للعلم به إذ هو متقدّم ، والتقدير : ولبئس المهاد جهنم . أو : هي ، وبهذا الحذف يبطل مذهب من زعم أن المخصوص بالمدح أو بالذمّ إذا تأخر كان خبر مبتد محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، لأنه يلزم من حذفه حذف الجملة بأسرها من غير أن ينوب عنها شيء ، لأنها تبقى جملة مفلتة من الجملة السابقة قبلها ، إذ ليس لها موضع من الإعراب ، ولا هي اعتراضية ولا تفسيرية ، لأنهما مستغنى عنهما وهذه لا يستغنى عنها ، فصارت مرتبطة غير مرتبطة ، وذلك لا يجوز .
وإذا جعلنا المحذوف من قبيل المفرد . كان فيما قبله ما يدل على حذفه ، وتكون جملة واحدة كحاله إذا تقدّم ، وأنت لا ترى فرقاً بين قولك : زيد نعم الرجل ، ونعم الرجل زيد ، كما لا تجد فرقاً بين : زيد قام أبوه ، وبين : قام أبو زيد ، وحسن حذف المخصوص بالذمّ هنا كون المهاد وقع فاصلة ، وكثيراً ما حذف في القرآن لهذا المعنى نحو قوله : ) فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( ) وَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ ( وجعل ما أعد لهم مهاداً على سبيل الهزء بهم ، إذ المهاد : هو ما يستريح به الإنسان ويوطأ له للنوم ، ومثله قول الشاعر : وخيل قد دلفت لها بخيل
تحية بينهم ضرب وجيع
أي : القائم مقام التحية هو الضرب الوجيع ، وكذلك القائم مقام المهاد لهم هو المستقر في النار .
البقرة : ( 207 ) ومن الناس من . . . . .
( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ ( قيل المراد : بمن ، غير معين ، بل . هي في كل من باع نفسه لله تعالى في جهاد ، أو صبر على دين ، أو كلمة حق عند جائر ، أو حمية لله ، أو ذب عن شرعه ، أو ما أشبه هذا .
وقيل : هي في معين ، فقيل في : الزبير والمقداد بعثهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى مكة ليحطا خبيباً من خشيته ، وقيل : في صهيب الرومي خرج مهاجراً فلحقته قريش ، فنشل كنانته ، وكان جيد الرمي شديد البأس محذوره ، وقالوا : لا نتركل حتى تدلنا على مالك ، فدلهم على موضعه ، فرجعوا عنه ، وقيل : عذب ليترك دينه فافتدي من ماله وخرج مهاجراً ، وقيل : في علي حين خلفه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقال الحسن : نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول : قل : لا إله إلا الله ، فلا يقول ، فيقول : والله لأشرين ، فيقاتل حتى يقتل . وقال ابن عباس : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقيل : في صهيب ، وأبي ذر ، وكان أبو ذر قد أخذه أهله فانقلب ، فخرج مهاجراً . وقيل : في المهاجرين والأنصباء ، وذكر المفسرون غير هذا ، وقصصاً طويلاً في أخبار هؤلاء المعينين الذين قيل نزلت فيهم الآية .
والذي ينبغي أن يقال : إنه تعالى لما ذكر ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ( وكان عاماً في المنافق الذي يبدي خلاف ما أضمر ، ناسب أن يذكر قسيمه عاماً من : يبذل نفسه في طاعة الله تعالى من أي صعب كان ، فكذلك المنافق مدارٍ عن نفسه بالكذب والرياء ، وحلاوة المنطق ، وهذا باذلٌ نفسه لله ولمرضاته .
وتندرج تلك الأقاويل التي في الآيتين تحت عموم هاتين الآيتين ، ويكون

" صفحة رقم 128 "
ذكر ما ذكر من تعيين من عين إنما هو على نحو من ضرب المثال ، ولا يبعد أن يكون السبب خاصاً ، والمراد عموم اللفظ ، ولما طال الفصل هنا بين القسم الأول والقسم الثاني ، أتى في التقسيم الثاني بإظهار المقسم منه ، فقال : ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى ( بخلاف قوله : ) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً ( فانه لما قرب ذكر أحد القسمين من القسم ، أضمر في الثاني المقسم .
ومعنى يشري : يبيع ، وهو سائغ في اللسان ، قال تعالى : ) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ ( قال الشاعر : وشريت بُرداً ليتني
من بعد بُردٍ كنت هامة
ويشري : عبارة عن أن يبذل نفسه في الله ، ومنه تسمى الشراة ، وكأنهم باعوا أنفسهم من الله ، وقال قوم : شرى ، بمعنى : اشترى ، فإن كانت الآية في صهيب فهذا موجود فيه حيث اشترى نفسه بماله ولم يبعها .
وانتصاب : ابتغاء ، على أنه مفعول من أجله ، أي الحامل لهم على بيع أنفسهم ، إنما هو طلب رضى الله تعالى ، وهو مستوفٍ لشروط المفعول من أجله من كونه مصدراً متحد الفاعل والوقت ، وهذه الإضافة ، أعنى : إضافة المفعول من أجله ، هي محضة ، خلافاً للجرمي ، والرياشي ، والمبرّد ، وبعض المتأخرين ، فانهم يزعمون أنها إضافة غير محضة ، وهذا مذكور في كتب النحو .
ومرضاة : مصدر بني على التاء : كمدعاة ، والقياس تجريده عنها ، كما تقول : مرمى ومغزى ، وأمال الكسائي : مرضات ، وعن ورش خلاف في إمالة : مرضات ، وقرأنا له بالوجهين ، ووقف حمزة عليها بالتاء ، ووقف الباقون بالهاء . فأمّا وقف حمزة بالتاء فيحتمل وجهين .
أحدهما : أن يكون على مذهب من يقف من العرب على : طلحة ، وحمزة ، بالتاء ، كالوصل ، وهو كان القياس دون الإبدال . قال : دار السلمى بعد حول قد عفت
بل حوز تيهاء كظهر الحجفت
وقد حكى هذه اللغة سيبويه .
والوجه الآخر : أن تكون على نية الإضافة ، كأنه نوى تقدير المضاف إليه ، فأراد أن يعلم أن الكلمة مضافة ، وأن المضاف إليه مراد : كإشمام من أشم الحرف المضموم في الوقف ليعلم أن الضمة مرادة ، وفي قوله : ) ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ ( إشارة إلى حصول أفضل ما عند الله للشهداء ، وهو رضاه تعالى .
وفي الحديث الصحيح ، في مجاورة أهل الجنة ربهم تعالى ، حين يسألهم : هل رضيتم ؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا ترضى وقد أدخلتنا

" صفحة رقم 129 "
جنتك وباعدتنا من نارك ؟ فيقول : ولكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : يا ربنا ، وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده .
( وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ ( حيث كلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الشهداء ، قاله الزمخشري ؛ وقال ابن عطية : ترجئة تقتضي الحض على إمتثال ما وقع به المدح في الآية ، كما في قوله : ) فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ( تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذمّ ، وتقدّم أن الرأفة أبلغ من الرحمة .
والعباد إن كان عاماً ، فرأفته بالكافرين إمهالهم إلى انقضاء آجالهم ، وتيسير أرزاقهم لهم ، ورأفته بالمؤمنين تهيئته إياهم لطاعته ، ورفع درجاتهم في الجنة . وإن كان خاصاً ، وهو الأظهر ، لأنه لما ختم الآية بالوعيد من قوله : ) فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ( وكان ذلك خاصاً بأولئك الكفار ، ختم هذه بالوعد المبشر لهم بحسن الثواب ، وجزيل المآب ، ودل على ذلك بالرأفة التي هي سبب لذلك ، فصار ذلك كناية عن إحسان الله إليهم ، لأن رأفته بهم تستدعي جميع أنواع الإحسان ، ولو ذكر أي نوع من الإحسان لم يفد ما أفاده لفظ الرأفة ، ولذلك كانت الكناية أبلغ ، ويكون إذ ذاك في لفظ : العباد ، التفاتاً ، إذ هو خروج من ضمير غائب مفرد إلى اسم ظاهر ، فلو جرى على نظم الكلام السابق لكان : والله رؤوف به أو بهم ، وحسن الالتفات هنا بهذا الاسم الظاهر شيئان ، أحدهما : أن لفظ : العباد ، له في استعمال القرآن تشريف واختصاص ، كقوله : ) إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( ) سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( ) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ( ) بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ).
والثاني : مجيء اللفظة فاصلة ، لأن قبله : ) وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ( فناسب : ) وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ ).
وفي هذه الآية ، والتي قبلها من علم البديع : وقد ذكرنا مناسبة هذا التقسيم للتقسيم السابق قبله في قوله : ) فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا ( قال بعض الناس : في هذه الآيات نوع من البديع ، وهو التقديم والتأخير ، وهو من ضروب البيان في النثر والنظم دليل على قوة الملكة في ضروب من الكلام ، وذلك قوله : ) وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ( متقدم على قوله : ) فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ( لأن قوله : ) وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ( معطوف عليه ، قوله : ) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ ( وقوله : ) فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ( معطوف على قوله : ) وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ( وقوله : ) وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ( معطوف على قوله : ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ ( وعلى قوله : ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى ( فيصير الكلام معطوفاً على الذكر لأنه مناسب لما قبله من المعنى ، ويصير التقسيم معطوفاً بعضه على بعض ، لأن التقسيم الأول في معنى الثاني ، فيتحد المعنى ويتسق اللفظ ، ثم قال : ومثل هذا ، قد ذكر قصة البقرة ، وقتل النفس ، وقصة المتوفى عنها زوجها ، في الآيتين ، قال : ومثل هذا في القرآن كثير ، يعني : التقديم والتأخير ، ولا يذهب إلى ما ذكره ، ولا تقديم ولا تأخير في القرآن ، لأن التقديم والتأخير عندنا من باب الضرورات ، وتنزه كتاب الله تعالى عنه .
البقرة : ( 208 ) يا أيها الذين . . . . .
( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّةً ( نزلت في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه ، كانوا يتقون السبت ، ولحم الحمل ، وأشياء تتقيها أهل الكتاب ، قاله عكرمة ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، أو : في أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قاله الضحاك . وروي عن ابن عباس : أو في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام ، قاله مجاهد ، وقتادة . أو : في المنافقين ، واحتج لهذا بورودها

" صفحة رقم 130 "
عقيب صفة المنافقين ، وعلى هذا الاختلاف في سبب النزول اختلفت أقاويل أهل التفسير .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، والكسائي : بفتح السين في السلم ، وكذلك في الأنفال : ) وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ ( وفي القتال : ) وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ ).
واختلف في السلم هنا ، فقيل : هو الإسلام ، لأن الإسلام : قد يسمى : سِلماً بكسر السين ، وقد يروى فيه الفتح ، كما روي في السلم الذي هو الصلح الفتح والكسر ، إلا أن الفتح في السلم الذي هو الإسلام قليل ، وجوّز أبو عليّ الفارسي أن يكون السلم هنا هو الذي بمعنى الصلح ، لأن الإسلام صلح على الحقيقة ، ألا ترى أنه لا قتال بين أهله ، وأنهم يد واحدة على من سواهم ؟ فإن كان الخطاب لابن سلام وأصحابه فقد أمروا بالدخول في شرائع الإسلام ، وأن لا يبقوا على شيء من شرائع أهل الكتاب التي لا توافق شرائع الإسلام ، وإن كان الخطاب لأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بما سبق من أنبيائهم ادخلوا في هذه الشريعة ، وهي لهم ، كأنه قيل : يا من سبق له الإيمان بالتوراة والإنجيل ، وهما دالان على صدق هذه الشريعة ، ادخلوا في هذه الشريعة ، وإن كان الخطاب للمسلمين فالمعنى : يا من آمن بقلبه ، وصدّق ، ادخل في شرائع الإسلام ، واجمع إلى الإيمان الإسلام . وقد فسر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الإيمان والإسلام في حديث سؤال جبريل حين سأله عن حقيقة كل واحد منهما . وإن كان الخطاب للمنافقين ، فالمعنى : يا من آمن بلسانه ، ادخل في الإسلام بالقلب حتى يطابق القول الإعتقاد .
والظاهرمن هذه الأقوال أنه خطاب للمؤمنين ، أمروا بامتثال شرائع الإسلام ، أو بالانقياد ، والرضى وعدم الاضطرار ، أو بترك الانتقام ، وأمروا كلهم بالائتلاف وترك الاختلاف ، ولذلك جاء بقوله ) كَافَّةً ( وانتصاب ) كَافَّةً ( على الحال من الفاعل في : ادخلوا ، والمعنى ادخلوا في السلم جميعاً ، وهي حال تؤكد معنى العموم ، فتفيد معنى : كل ، فإذا قلت : قام الناس كافة ، فالمعنى قاموا كلهم ، وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون حالاً من السلم ، أي في شرائع الإسلام كلها ، أمروا بأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة . قال الزمخشري : ويجوز أن تكون : كافة ، حالاً من السلم ، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ، قال الشاعر : السلم تأخذ منها ما رضيت به
والحرب تكفيك من أنفاسها جُرع
على أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها ، وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة ، أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها ، وأن لا يخلوا بشيء منها .
وعن عبد الله بن سلام أنه استأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يقيم على السبت ، وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل .
و : كافة ، من الكف ، كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم . انتهى كلام الزمخشري . وتعليله جواز أن كون : كافة ، حالاً من السلم بقوله : لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ، ليس بشيء ، لأن التاء في : كافة ، وإن كان أصلها للتأنيث ، ليست فيها إذا كانت حالاً للتأنيث ، بل صار هذا نقلاً محضاً إلى معنى : جميع وكل ، كما صار : قاطبة ، وعامة ، إذا كان حالاً نقلاً محضاً إلى معنى : كل وجميع . فإذا قلت : قام الناس كافة ، أو قاطبة ، أو عامة ، فلا يدل شيء من هذه الألفاظ على التأنيث ، كما لا يدل عليه : كل ، ولا جميع .
وتوكيده بقوله : وفي شعب الإسلام وشرائعه كلها ، هو

" صفحة رقم 131 "
الوجه الأول من قوله : بأن دخلوا في الطاعات . كلها ، فلا حاجة إلى هذا الترديد بأو .
وقال ابن عطية : وقالت فرقة : جميع المؤمنين بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمعنى : أمرهم بالثبوت فيه ، والزيادة من التزام حدوده . وتستغرق : كافة ، حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع ، فيكون الحال من شيئين ، وذلك جائز نحو قوله تعالى : ) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ( إلى غير ذلك من الأمثلة .
ثم قال بعد كلام ذكره : وكافة ، معناه : جميعاً . والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفيها . انتهى كلامه .
وقوله : فيكون الحال من شيئين ، يعني : من الفاعل في ادخلوا ، ومن السلم ، وهذا الذي ذكره محتمل ، ولكن الأظهر أنه حال من ضمير الفاعل ، وذلك جائز ، يعني : مجيء الحال الواحدة من شيئين ، وفي ذلك تفصيل ذكر في النحو .
وقوله : نحو قوله : ) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ( يعني أن تحمله حال من الفاعل المستكن في أتت ، ومن الضمير المجرور بالباء ، هذا المثال ليس بمطابق : للحال من شيئين ، لأن لفظ : تحمله ، لا يحتمل شيئين ، ولا يقع الحال من شيئين إلا إذا كان اللفظ يحتملهما ، واعتبار ذلك بجعل ذوي الحال مبتدأين ، والإخبار بتلك الحال عنهما ، فمتى صح ذلك صحت الحال ، ومتى امتنع امتنعت . مثال ذلك قوله : وعلقت سلمى وهي ذات موصد
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت
أنناإلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
فصغيرين : حال من الضمير في علقت ، ومن سلمى ، لأنه يصلح أن يقول أنا وسلمى صغيران نرعى البهم ، ومثله :
خرجت بها نمشي تجرّ وراءنا
فنمشي حال من التاء في : خرجت ، ومن الضمير المجرور في بها ، ويصلح أن تقول : أنا وهي نمشي ، وهنا لا يصلح أن تكون تحمله خبراً عنهما ، لو قلت : هي وهو تحمله لم يصح أن يكون تحمله خبراً ، نحو قوله : هند وزيد تكرمه ، لأن تحمله وتكرمه لا يصح أنّ يقدر إلاّ بمفرد ، فيمتنع أن يكون حالاً من ذوي حال ، ولذلك أعرب المعربون في :
خرجت بها نمشي تجر وراءنا
نمشي : حالاً منهما ، وتجر حالاً من ضمير المؤنث خاصة ، لأنه لو قيل : أنا وهي تجر وراءنا لم يجز أن يكون تجر خبراً عنها ، لأن تجر وتحمل إنما يتقدران بمفرد ، أي حاملة وجارة ، وإذا صرحت بهذا المفرد لم يمكن أن يكون حالاً منهما .
و ) كَافَّةً ( لدلالته على معنى : جميع ، يصلح أن يكون حالاً من الفاعل في : ادخلوا ، ومن السلم ، بمعنى شرائع الإسلام ، لأنك لو قلت : الرجال والنساء جميع في كذا ، صح أن يكون خبراً .
لا يقال كافة لا يصلح أن يكون خبراً ، لا تقول : الزيدون والعمرون كافة ، في كذا ، فلا يجوز أن يقع حالاً على ما قررت ، لأن امتناع ذلك إنما هو بسبب مادة : كافة ، إذ لم يتصرف فيها ، بل التزم نصبها على الحال ، لكن مرادفها يصح فيه ذلك ، وقوله : والمراد بالكافة الجماعة التي يكف مخالفها ، يعني : أن هذا في أصل الوضع ، ثم صار الاستعمال لها لمعنى : جميعاً ، كما قال هو وغيره ، وكافة : معناه جميعاً .
( وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( قد تقدم تفصيل هاتين الجملتين بعد قوله : ) النَّارِ يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ حَلَالاً طَيّباً ( فأغنى ذلك عن إعادته ، وقال صاحب ( الكتاب الموضح ) أبو عبد الله نصر بن علي بن محمد : عرف بابن مريم ، أن ضم عين الكلمة في مثل هذا ، نحو : عرفة وعرفات ، هو مذهب أهل الحجاز ، وقال فيمن سكن الطاء : إنهم لما جمعوا نووا الضمة في الطاء ، ثم أسكنوها استخفافاً ، وهو في تقدير الثبات يدل على أن الضمة في حكم الثابت ، أن هذه حركة يفصل بها بين الإسم والصفة ، كما هي في جمع : فعلة

" صفحة رقم 132 "
المفتوحة الفاء ، فلا تحذف عين الاسم حذفاً ، إذ هي فارقة بينه وبين الصفة ، فهي منوية لا محالة . انتهى كلامه .
واتضح من هذا أنه في الصفة لا ينقل ، فإذا جمعنا : حلوة وضحكة ، المراد به صفة المؤنث ، فلا تقول : حلوات ، ولا ضحكات ، بضم عين الكلمة ، وعلى هذا قياس : فعلة ، الصفة نحو : جلفة ، لا يقال فيه جلفات .
البقرة : ( 209 ) فإن زللتم من . . . . .
( فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيّنَاتُ ( أي : عصيتم أو كفرتم ، أو أخطأتم ، أو ضللتم ، أقوال ثانيها عن ابن عباس وهو الظاهر لقوله : ادخلوا في السلم ، أي الإسلام ، فإن زللتم عن الدخول فيه ، وأصل الزلل للقدم ، يقال : زلت قدمه ، كما قال .
ولا شامت إن نعل عزة زلت
ثم يستعمل في الرأي والإعتقاد ، وهو الزلق ، وقد تقدم شيء من تفسير في قوله : ) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ).
وقرأ أبو السماك : فإن زللتم ، بكسر اللام ، وهما لغتان : كضللت وضللت .
والبينات : حجج الله ودلائله ، أو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، كما قال : ) حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ رَسُولٌ مّنَ اللَّهِ ( وجمع تعظيماً له ، لأن وإن كان واحداً بالشخص ، فهو كثير بالمعنى : أو القرآن قاله ابن جريج ، أو التوراة والإنجيل قال : ) وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ( وقال ) وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا ( وهذا يتخرج على قول من قال : إن المخاطب أهل الكتاب ، أو الإسلام ، أو ما جاء به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من المعجزات ، أقوال ستة .
وفي ( المتخب ) البينات : تتناول جميع الدلائل العقلية والسمعية من حيث إن عذر المكلف لا يزول إلاَّ عند حصول البينات ، لا حصول التبيين من التكليف . انتهى كلامه .
والدلائل العقلية لا يخبر عنها بالمجيء لأنها مركوزة في العقول ، فلا ينسب إليها المجيء إلاَّ مجازاً ، وفيه بُعد .
( فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( أي : دوموا على العلم ، إن كان الخطاب للمؤمين ، وإن كان للكافرين أو المنافقين فهو أمر لهم بتحصيل العلم بالنظر الصحيح المؤدي إليه ، وفي وصفه هنا بالعزة التي هي تتضمن الغلبة والقدرة اللتين يحصل بهما الانتقام ، وعيد شديد لمن خالفه وزل عن منهج الحق ، وفي وصفه بالحكمة دلالة على إتقان أفعاله : وأن ما يرتبه من الزاوجر لمن خالف هو من مقتضى الحكمة ، وروي أن قارئاً قرأ ، غفور رحيم ، فسمعه أعرابي فأنكره ، ولم يكن يقرأ القرآن ، وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا ، الحكيم ، لا يذكر الغفران عند الزلل ، لأنه إغراء عليه ، وقد روي عن كعب نحو هذا ، وأن الذي كان يتعلم منه أقرأه : فاعلموا أن الله غفور رحيم ، فأنكره حتى سمع : ) عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( فقال : هكذا ينبغي .
البقرة : ( 210 ) هل ينظرون إلا . . . . .
( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ ( ؟ هل : هنا للنفي ، المعنى : ما ينظرون ، ولذلك دخلت إلاَّ ، وكونها بمعنى النفي إذ جاء بعدها : إلاَّ ، كثير الاستعمال في القرآن ، وفي كلام العرب ، قال تعالى : ) وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ ( ) فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ( وقال الشاعر : وهل أنا إلاَّ من غزية إن غوت
غويت ، وإن ترشد غزية أرشد
و : ينظرون ، هنا معناه : ينتظرون ، تقول العرب : نظرت فلاناً انتظره ، وهو لا يتعدى لواحد بنفسه إلاَّ بحرف جر . قال امرؤ القيس :

" صفحة رقم 133 "
فانكما إن تنظراني ساعة
من الدهر تنفعي لدى أم جندب
ومفعول : ينظرون ، هو ما بعد إلاَّ ، أي : ما ينتظرون إلاَّ إتيان الله ، وهو استثناء مفرع ، قيل : وينظرون هنا ليست من النظر الذي هو تردد العين في المنظور إليه ، لأنه لو كان من النظر لعدى بإلى ، وكان مضافاً إلى الوجه ، وإنما هو من الانتظار . انتهى .
وهذا التعليل ليس بشيء لأنه يقال : هو من النظر ، وهو تردد العين . وهو معدى بإلى ، لكنها محذوفة ، والتقدير : هل ينظرون إلاَّ إلى أن يأتيهم الله ؟ وحذف حرف الجر مع أن إذا لم يلبس قياس مطرد ، ولا لبس هنا ، فحذفت إلى ، وقوله : وكان مضافاً إلى الوجه يشير إلى قوله : ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ ( فكذلك ليس بلازم ، قد نسب النظر إلى الذوات كثيراً كقوله : ) أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ ( ) أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ( والضمير في : ينظرون ، عائد على الذالين ، وهو التفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة .
والإتيان : حقيقة في الانتقال من حيز إلى حيز ، وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى ، فروى أبو صالح عن ابن عباس : أن هذا من المكتوم الذي لا يفسر ، ولم يزل السلف في هذا وأمثاله يؤمنون ، ويكلون فهم معناه إلى علم المتكلم به ، وهو الله تعالى .
والمتأخرون تأولوا الإتيان وإسناده على وجوه :
أحدهما : أنه إتيان على ما يليق بالله تعالى من غير انتقال .
الثاني : أنه عبر به عن المجازات لهم ، والانتقام ، كما قال : ) فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ ( ) فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ).
الثالث : أن يكون متعلق الإتيان محذوفاً ، أي : أن يأتيهم الله بما وعدهم من الثواب ، والعقاب ، قاله الزجاج .
الرابع : أنه على حذف مضاف ، التقدير : أمر الله ، بمعنى : ما يفعله الله بهم ، لا الأمر الذي مقابله النهي ، ويبينه قوله ، بعد : ) وَقُضِىَ الاْمْرُ ).
الخامس : قدرته ، ذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد .
السادس : أن في ظلل ، بمعنى بظلل ، فيكون : في ، بمعنى : الباء ، كما قال .
خبيرون في طعن الأباهر والكلى
أي : بطعن ، لأن خبيراً لا يتعدى إلاَّ بالباء ، كما . قال .
خبير بأدواء النساء طبيب
قال الزجاج وغيره .
والأولى أن يكون المعنى : أمر الله ، إذ قد صرح به في قوله : ) أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ ( وتكون عبارة عن بأسه وعذابه ، لأن هذه الآية إنما جاءت مجيء التهديد والوعيد ، وقيل : المحذوف : آيات الله ، فجعل مجيء آياته مجيئاً له على التفخيم لشأنها ، قاله في ( المنتخب ) . ونقل عن ابن جرير أنه قال : يأتيهم بمحاسبتهم على الغمام على عرشه تحمله ثمانية من الملائكة ، وقيل : الخطاب مع اليهود ، وهم مشبهة ، ويدل على أنه مع اليهود قول بعد : ) سَلْ بَنِى إِسْراءيلَ ( ، وإذا كان كذلك فالمعنى : أنهم لا يقبلون ذلك إلاَّ أن يأتيهم الله ، فالآية على ظاهرها ، إذ المعنى : أن قوماً ينتظرون إتيان الله ، ولا يدل ذلك على أنهم محقون ولا مبطلون .
( فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ ( تقدّم الكلام على ذلك في قوله : ) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ( ويستحيل على الذات المقدّسة أن تحل في ظلة ، وقيل : المقصود تصوير عظمة يوم القيامة وحصولها وشدتها ، لأنه لا شيء أشد على المذنبين ، وأهول ، ومن وقت جمعهم وحضور أمهر الحكام وأكثرهم هيبة لفصل الخصومة ، فيكون هذا من باب التمثيل ، وإذا فسر بأن عذاب الله يأتيهم في ظلل من الغمام ، فكان ذلك ، لأنه أعظم ، أو يأتيهم الشر من جهة الخير ، لقوله : ) هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ولأنه إذا كان ذلك يوم القيامة فهو علامة لأشد الأهوال في ذلك اليوم ، قال الله تعالى : ) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ ( ولأن الغمام ينزل قطرات غير محدودة ، فكذلك العذاب غير محصورة ، وقيل : إن العذاب لا يأتي في الظلل ، بل المعنى تشبيه الأهوال بالظلل

" صفحة رقم 134 "
من الغمام ، كما قال : ) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ ( فالمعنى أن عذاب الله يأتيهم في أهوال عظيمة ، كظلل الغمام .
واختلفوا في هذا التوعد ، فقال ابن جريج : هو توعد بما يقع في الدنيا ، وقال قوم : بل توعد بيوم القيامة .
وقرأ أبي ، وعبد الله ، وقتادة ، والضحاك : في ظلال ، وكذلك روي هارون بن حاتم ، عن أبي بكر ، عن عاصم ، هنا وفي الحرفين في الزمر ، وهي : جمع ظلة ، نحو : قلة وقلال ، وهو جمع لا ينقاس ، بخلاف : ظلل ، فإنه جمع منقاس ، أو جمع : ظل نحو ضل وضلال .
و : في ظلل ، متعلق بيأتيهم ، وجوّزوا أن يكون حالاً فيتعلق بمحذوف ، و : من الغمام ، في موضع الصفة لظلل ، وجوّزوا أن يتعلق بيأتيهم ، أي من ناحية الغمام ، فتكون : مِن ، لابتداء الغاية ، وعلى الوجه الأول تكون للتبعيض ، وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وأبو جعفر : والملائكةِ ، بالجر عطفاً على : في ظلل ، أو عطفاً على الغمام ، فيختلف تقدير حرف الجر ، إذ على الأل التقدير : وفي الملائكة ، وعلى الثاني التقدير : ومن الملائكة .
وقرأ الجمهور بالرفع عطفاً على : الله ، وقيل : في هذا الكلام تقديم وتأخير ، فالإتيان في الظل مضاف إلى الملائكة ، والتقدير : إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل ، فالمضاف إلى الله تعالى هو الإيتان فقط ، ويؤيد هذا قراءة عبد الله ، إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل .
( وَقُضِىَ الاْمْرُ ( معناه : وقع الجزاء وعذب أهل العصيان ، وقيل : أتم أمر هلاكهم وفرغ منه ، وقيل : فرغ من وقت الانتظار وجاء وقت المؤاخذة ، وقيل : فرغ لهم مما يوعدون به إلى يوم القيامة ، وقيل : فرغ من الحساب ووجب العذاب . وهذه أقوال متقاربة .
( وَقُضِىَ الاْمْرُ ( معطوف على قوله : يأتيهم ، فهو من وضع الماضي موضع المستقبل ، وعبر بالماضي عن المستقبل لأنه كالمفروغ منه الذي وقع ، والتقدير : ويقضي الأمر ، ويحتمل أن يكون هذا إخباراً من الله تعالى ، أي : فرغ من أمرهم بما سبق في القدر ، فيكون من عطف الجمل لا أنه في حيز ما ينتظر .
وقرأ معاذ بن جبل : وقضاء الأمر ، قال : قال الزمخشري : على المصدر المرفوع عطفاً على الملائكة ، وقال غيره بالمد والخفض عطفاً على الملائكة ، وقيل : ويكون : في ، على هذا بمعنى الباء ، أي : بظلل من الغمام ، وبالملائكة ، وبقضاء الأمر .
وقرأ يحيى بن معمر : وقضي الأمور ، بالجمع ، وبني الفعل للمفعول وحذف الفاعل للعلم به ، ولأنه لو أبرز وبني الفعل للفاعل لتكرر الاسم ثلاث مرات .
( وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ ( قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ترجع ، بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن ، ويعقوب : بالتاء مفتوحة وكسر الجيم في جميع القرآن ، على أن : رجع ، لازم وباقي السبعة : بالياء وفتح الجيم مبيناً للمفعول ، وخارجة عن نافع : يرجع بالياء . وفتح الجيم على أن رجع متعد . وكلا الاستعمالين له في لسان العرب ، ولغة قليلة في المتعدى . أرجع رباعياً ، فمن قرأ بالتاء فلتأنيث الجمع ، ومن قرأ بالياء فلكون التأنيث غير حقيقي .
وصرح باسم الله لأنه أفخم وأعظم وأوضح ، وإن كان قد جرى ذكره في قوله : ) إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ( ولأنه في جملة مستأنفة ليست داخلة في المنتظر ، وإنما هي إعلام بأن الله إليه تصير الأمور كلها . لا إلى غيره ، إذ هو المنفرد بالمجازاة ، ولرفع إ بهام ما كان عليه ملوك الدنيا من دفع أمور الناس إليهم ، فأعلم أن هذا لا يكون لهم في الآخرة منها شيء ، بل ذلك إلى الله وحده ، أو لإعلام أنها رجعت إليه في الآخرة بعد أن كان ملكهم بعضها في الدنيا ، فصارت إليه كلها في الآخرة .
وإذا كان الفعل مبنياً للمفعول فالفاعل المحذوف ، إما الله تعالى ، يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة ، أو ذوو الأمور ، لما كانت ذواتهم وصفاتهم شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محاسبون مجزيون ، كانوا رادّين أمورهم إلى خالقها ، قيل : أو يكون ذلك على مذهب العرب في قولهم : فلان معجب بنفسه ، ويقول الرجل لغيره : إلى أين يُذهب بك ؟ وإن لم يكن أحد يذهب به . انتهى . وملخصه : إنه يبني الفعل للمفعول ولا يكون ثم فاعل ، وهذا خطأ ، إذ لا بد للفعل من تصوّر فاعل ، ولا يلزم أن يكون الفاعل للذهاب أحداً ، ولا الفاعل للإعجاب ، بل الفاعل غيره ، فالذي أعجبه بنفسه هو رأيه ، واعتقاده بجمال نفسه ، فالمعنى أنه أعجبه رأيه ، وذهب به رأيه ، فكأنه قيل : أعجبه رأيه بنفسه ، وإلى أين يذهب بك رأيك أو عقلك ؟ ثم حذف الفاعل ، وبني الفعل للمفعول .
قيل : وفي قوله : ) وَقُضِىَ الاْمْرُ ( ) وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ ( قسمان من أقسام علم البيان :

" صفحة رقم 135 "
أحدهما : الإيجاز في قوله : ) وَقُضِىَ الاْمْرُ ( فإن في هاتين الكلمتين يندرج في ضمنها جميع أحوال العباد مند خلقوا إلى يوم التناد ، ومن هذا اليوم إلى الفصل بين العباد .
والثاني : الاختصاص بقوله : ) وَإِلَى اللَّهِ ( فاختص بذلك اليوم لانفراده فيه بالتصرف والحكم والملك . انتهى .
وقال السلمى : وقضي الأمر وصلوا إلى ما قضي لهم في الأزل من إحدى المنزلتين .
وقال جعفر : كشف عن حقيقة الأمر ونهيه .
وقال القشيري : انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير .
البقرة : ( 211 ) سل بني إسرائيل . . . . .
( سَلْ بَنِى إِسْراءيلَ ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قال الزمخشري : أو لكل أحد .
وقرأ أبو عمرو ، في رواية ابن عباس : أسأل . وقرأ قوم : إسل ، وأصله إسأل ، فنقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة التي هي عين ، ولم تحذف همزة الوصل لأنه لم يعتد بحركة السين لعروضها ، كما قالوا : ألحمر في الأحمر . وقرأ الجمهور : سل ، فيحتمل وجهين : أحدهما : أن أصله إسأل ، فلما نقل وحذف اعتدّ بالحركة ، فحذف الهزة لتحرك ما بعدها ، والوجه الآخر : أنه جاء على لغة من يجعل المادّة منّ : سين ، وواو ، ولام ، فيقول : سأل يسأل ، فقال : سل ، كما قال : خف ، فلا يحتاج في مثل هذا إلى همزة وصل ، وانحذفت عين الكلمة لالتقائها ساكنة مع اللام الساكنة ، ولذلك تعود إذا تحركت الفاء نحو : خافا وخافوا وخافي .
ولما تقدّم : ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ ( وكان المعنى في ذلك استبطاء حق لهم في الإسلام ، وأنهم لا ينظرون إلاَّ آية عظيمة تلجئهم إلى الدخول في الإسلام ، جاء هذا الأمر بسؤالهم عما جاءتهم من الآيات العظيمة ، ولم تنفعهم تلك الآيات ، فعدم إسلامهم مرتب على عنادهم واستصحاب لجاجهم ، وهذا السؤال ليس سؤالاً عما لا يعلم ، إذ هو عالم أن بني إسرائيل آتاهم الله آيات بينات ، وإنما هو سؤال عن معلوم ، فهو تقريع وتوبيخ ، وتقرير لهم على ما آتاهم الله من الآيات البينات ، وأنها ما أجدت عندهم لقوله بعد : ) وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ ).
وفي هذا السؤال أيضاً تثبيت وزيادة ، كما قال تعالى : ) وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ( أو : زيادة يقين المؤمن ، فالخطاب في اللفظ له ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والمراد : أمّته ، أو إعلام أهل الكتاب أن هذا القول من عند الله لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقومه لم يكونوا يعرفون شيئاً من قصص بني إسرائيل ، ولا ما كان فيهم من الآيات قبل أن أنزل الله ذلك في كتابه :
) بَنِى إِسْراءيلَ ( من كان بحضرته منهم / ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو من آمن من به منهم ، أو علماؤهم ، أو أنبياؤهم ، أقوال أربعة .
( وَكَمْ ( في موضع نصب على أنها مفعول ثان ) لاَتَيْنَاهُمْ ( على مذهب الجمهور ، أو على أنها مفعول أول على مذهب السهيلي على ما مر ذكره ، وأجاز ابن عطية أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده ، وجعل ذلك من باب الإشتغال ، قال : وكم ، في موضع نصب إمّا بفعل مضمر بعدها ، لأن لها مصدر الكلام تقديره : كم آتيناهم ، أو باتيانهم . انتهى . وهذا غير جائزاً إن كان قوله : من آية تمييزاً لكم ، لأن الفعل المفسر لهذا الفعل المحذوف لم يعمل في ضمير الاسم الأول المنتصب بالفعل المحذوف ولا في سببيته ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون من باب الإشتغال . ونظير ما أجاز أن يقول : زيداً ضربت ، فتعرب زيداً مفعولاً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، التقدير : زيداً ضربت ضربت ، وكذلك : الدرهم أعطيت زيداً ، ولا نعمل أحداً ذهب إلى ما ذهب إليه ، بل نصوص النحويين ، سيبويه فمن دونه ، على أن مثل هذا هو مفعول مقدم منصوب بالفعل بعده ، وإن كان تمييز : كم ، محذوفاً .
وأطلقت : كم ، على القوم أو الجماعة ، فكان التقدير : كم من جماعة آتيناهم ، فيجوز ذلك ، إذ في الجملة المفسرة لذلك الفعل المحذوف ضمير عائد على : كم ، وأجاز ابن عطية وغيره أن تكون : كم ، في موضع رفع بالابتداء ، والجملة من قوله : آتيناهم ، في موضع الخبر ، والعائد محذوف ، التقدير : آتيناهموه ، أو آتيناهموها ، وهذا لا يجوز عند البصريين إلاَّ في الشعر ، أو في شاذ من القرآن ، كقراءة من قرأ ) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ( برفع الحكم ، وقال ابن مالك : لو كان المبتدأ غير : كل ، والضمير مفعول به ، لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلاَّ في الاضطرار ، والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار ، ويرونه ضعيفاً انتهى . فإذا كان لا يجوز إلاَّ في الاضطرار ،

" صفحة رقم 136 "
أو ضعيفاً ، فأي داعية إلى جواز ذلك في القرآن مع إمكان حمله على غير ذلك ؟ ورجحانه . وهو أن تكون في موضع نصب على ما قررناه . وكم ، هنا إستفهامية ومعناها التقرير لا حقيقة الإستفهام ، وقد يخرج الإستفهام عن حقيقته إذا تقدّمه ما يخرجه ، نحو قولك : سواء عليك أقام زيد أم قعد ، و : ما أبالي أقام زيد أم قعد ، وقد عملت أزيد منطلق أو عمرو وما أدري أقريب أم بعيد ، فكل هذا صورته صورة الاستفهام ، وهو على التركيب الإستفهامي وأحكامه ، وليس على حقيقة الإستفهام .
وهذه الجملة من قوله : ) كَمْ آتَيْنَاهُم ( في موضع المفعول الثاني : لسل ، لأن سأل يتعدى لإثنين ؛ أحدهما : بنفسه ، والآخر : بحرف جر ، إما عن ، وإما الباء . وقد جمع بينهما في الضرورة نحو .
فأصبحن لا يسألنه عن بما به
و : سأل ، هنا معلقة عن الجملة الاستفهامية ، فهي عاملة في المعنى ، غير عاملة في اللفظ ، لأن الإستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلاَّ الجار ، قالوا : وإنما علقت : سل ، وإن لم تكن من أفعال القلوب ، لأن السؤال سبب للعلم ، فأجرى السبب مجرى المسبب في ذلك ، وقال تعالى : ) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذالِكَ زَعِيمٌ ( وقال الشاعر .
سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقال :
واسأل بمصقلة البكري ما فعلا
وأجاز الزمخشري أن تكون : كم ، هنا خبرية ، قال : فإن قلت : كم استفهامية أم خبرية ؟
قلت : يحتمل الأمرين ، ومعنى الإستفهام فيها التقدير . انتهى كلامه . وهو ليس بجيد ، لأن جعلها خبرية هو اقتطاع للجملة التي هي فيها من جملة السؤال ، لأنه يصير المعنى : سل بني اسرائيل ، وما ذكر المسؤول عنه ، ثم قال : كثيراً من الآيات آتيناهم ، فيصير هذا الكلام مفلتاً مما قبله ، لأنه جملة : كم آتيناهم ، صار خبراً صرفاً لا يتعلق به : سل ، وأنت ترى معنى الكلام ، ومصب السؤال على هذه الجملة ، فهذا لا يكون إلاَّ في الإستفهامية ، ويحتاج في تقرير الخبرية إلى تقدير حذف ، وهو المفعول الثاني : لسل ، ويكون المعنى : سل بني اسرائيل عن الآيات التي آتيناهم ، ثم أخبر تعالى أن كثيراً من الآيات آتيناهم .
( مّنْ ءايَةٍ ( تمييز ل : كَمْ ، ويجوز دخول : من ، على تمييز الإستفهامية والخبرية ، سواء وليها أم فصل بينهما ، والفصل بينهما بجملة ، وبظرف ، ومجرور ، جائز على ما قررنا في النحو ، وأجاز ابن عطية أن يكون : من آية ، مفعولاً ثانياً : لآيتناهم ، وذلك على التقدير الذي قدّره قبل من جواز نصب : كم ، بفعل محذوف يفسره : آتيناهم ، وعلى التقدير الذي قررناه من أن : كم ، تكون كناية عن قوم أو جماعة ، وحذف تمييزها لفهم المعنى ، فإذا كان كذلك ، فإن كانت : كم ، خبرية فلا يجوز أن تكون : من آية ، مفعولاً ثانياً ، لأن زيادة : من ، لا تكون في الإيجاب على مذهب البصريين غير الأخفش ، وإن كانت إستفهامية فيمكن أن يقال : يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما قبله ، وفيه بعد ، لأن متعلق الإستفهام هو المفعول الأول لا الثاني ، فلو قلت : كم من درهم أعطيته من رجل ، على زيادة : من ، في قولك : من رجل ، لكان فيه نظر ، وقد أمعنا الكلام على زيادة : من ، في ( منهج السالك ) من تأليفنا .
و : الآيات البينات ما تضمنته التوراة والإنجيل من صفة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وتحقيق نبوته ، وتصديق ما جاء به ، أو معجزات موسى صلى الله على نبينا وعليه : كالعصا ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، أو : القرآن قصّ الله قصص الأمم الخالية

" صفحة رقم 137 "
حسبما وقعت على لسان من لم يدارس الكتب ولا العلماء ، ولا كتب ولا ارتجل ، أو معجزات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) : كتسبيح الحصى ، وتفجير الماء من بين أصابعه ، وانشقاق القمر ، وتسليم الحجر ، أربعة أقوال ، وقدروا بعد قوله : من آية بينة ، محذوفاً ، فقدّره بعضهم : فكذبوا بها ، وبعضهم : فبدلوها .
( وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ ( نعمة الله : الحجج الواضحة الدالة على أمره : ( صلى الله عليه وسلم ) ) يبدل بها التشبيه والتأويلات ، أو ما ورد في كتاب الله من نعته . ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، يبدل به نعت الدجال ، أو الإعتراف بنبوته يبدل لها الحجد لها ، أو كتب الله المنزلة على موسى وعيسى على نبينا وعليهم السلام يبدل بها غير أحكامها كآية الرجم وشبهها ، أو الإسلام . قاله الطبري ؛ أو شكر النعمة يبدل بها الكفر أو آياته وهي أجل نعمة من الله ، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلاله ، وتبديلهم إياها ، أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم ، فجعلوها أسباب ضلالتهم ، كقوله : ) فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( قاله الزمخشري : سبعة أقوال .
ولفظ : من يبدل ، عام وهو شرط ، فيندرج فيه مع بني إسرائيل كل مبدل نعمه : ككفار قريش وغيرهم ، فإن بعثه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) نعمة عليهم ، وقد بدلوا بالشكر عليها وقبولها الكفر .
( مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ ( أي : من بعدما أسديت إليه ، وتمكن من قبولها ، ومن بعدما عرفها كقوله : ) ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدَمَا عَقَلُوهُ ( وأتى بلفظ : من ، إشعاراً بابتداء الغاية ، وأنه يعقب : ما جاءته ، يبدله . وفي قوله : ) مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ ( تأكيد ، لأن إمكانية التبديل منه متوقفة على الوصول إليه .
وقرىء : ومن . يبدل بالتخفيف ، و . يبدلَ ، يحتاج لمفعولين : مبدل ومبدل له ، فالمبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بحرف جر ، والبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه ، ويجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى ، وتقدم الكلام على هذا في قوله : ) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( وإذا تقرر هذا ، فالمفعول الواحد هنا محذوف ، وهو البدل ، والأجود أن يقدر مثل ما لفظ به في قوله : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا ( : فكفراً هو البدل ، ونعمة الله ، هو المبدل ، وهو الذي أصله : أن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر ، فالتقدير إذن : ومن يبدل نعمة الله كفراً ، وجاز حذف المفعول الواحد وحرف الجر لفهم المعنى ، ولترتيب جواب الشرط على ما قبله فإنه يدل على ذلك ، لأنه لا يترتب على تقدير : أن يكون النعمة هي البدل ، والكفر هو المبدل أن يجاب بقوله : ) فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( خبر يتضمن الوعيد ، ومن حذف حرف الجر الدلالة المعنى قوله : ) فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( أي : بسيئاتهم ، ولا يصح أن يكون التقدير : سيئاتهم بحسنات ، فتكون السيئات هي البدل ، والحسنات هي المبدل ، لأن ذلك لا يترتب على قوله : ) إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ( ) فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( خبر يتضمن الوعيد بالعقاب على من بدل نعمة الله ، فإن كان جواب الشرط فلا بد من تقدير عائد في الجملة على اسم الشرط ، تقديره : فان الله شديد العقاب له ، أو تكون الألف واللام معاقبة للضمير على مذهب الكوفيين ، فيغنى عن الربط لقيامها مقام الضمير ، وأَلاوْلى أن يكون الجواب محذوفاً لدلالة ما بعده عليه ، التقدير : يعاقبه .
قال عبد القاهر في كتاب ( دلائل الإعجار ) : ترك هذا الإضمار أَوْلى ، يعنى بالإضمار شديد العقاب له ، لأن المقصود من الآية التخويف لكونه في ذلك موصوفاً بأنه شديد العقاب ، من غير التفات إلى كونه شديد العقاب . لهذا ، ولذلك سمى العذاب عقاباً ، لأنه يعقب الجرم .
وذكر بعض من جمع في التفسير : أن هذه الآية : ) سَلْ بَنِى إِسْراءيلَ ( مؤخرة في التلاوة ، مقدمة في المعنى ، والخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قال : والتقدير : فإن زللتم إلى آخر الآية : سل يا محمد بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة فما اعتبروا ولا أذعنوا إليها ، هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ؟ أي : أنهم لا يؤمنون حتى يأتيهم الله . انتهى .
ولا حاجة إلى ادّعاء التقديم والتأخير ، بل هذه الآية على ترتبها أخذ بعضها بعنق بعض ، متلاحمة

" صفحة رقم 138 "
التركيب ، واقعة مواقعها ، فالمعنى : أنهم أمروا أن يدخلوا في الإسلام ، ثم أخبروا أن من زلّ جازاه الله العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها ، ثم قيل : لا ينتظرون في إيمانهم إلاَّ ظهور آيات بينات ، عناداً منهم ، فقد أتتهم الآيات ، ثم سلَّى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) في استبطاء إيمانهم مع ما أتى به لهم من الآيات ، بقوله : ) سَلْ بَنِى إِسْراءيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ ( فما آمنوا بها بل بدلوا وغيروا ، ثم توعد من بدل نعمة الله بالعقاب الشديد ، فأنت ترى هذه المعاني متناسقة مرتبة الترتيب المعجز ، باللفظ البليغ الموجز ، فدعوى التقديم والتأخير المختص بضرورة الآشعار ، وبنظم ذوي الانحصار ، منزه عنها كلام الواحد القهار .
البقرة : ( 212 ) زين للذين كفروا . . . . .
( زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا ( نزلت في أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط الله لهم ، ويكذبون بالمعاد ، ويسخرون من المؤمنين الفقراء ، كعمار ، وصهيب ، وأبي عبيدة ، وسالم ، وعامر بن فهيرة ، وخباب ، وبلال ، ويقولون : لو كان نبينا لتبعه أشرافنا ، قاله ابن عباس ، في رواية الكلبي عن أبي صالح عنه .
وقال مقاتل : في عبد الله بن أبي ، وأصحابه ، كانوا يتنعمون ويسخرون من ضعفاء المؤمنين ، ويقولون : أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم .
وقال عطاء : في علماء اليهود من بني قريظة ، والنضير ، وقينقاع ، سخروا من فقراء المهاجرين ، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال ، أسهل شيء وأيسره .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن بني اسرائيل أتتهم آيات واضحة من الله تعالى ، وأنهم بدلوا ، أخبر أن سبب ذلك التبديل هو الركون إلى الدنيا ، والاستبشار بها ، وتزيينها لهم ، واستقامتهم للمؤمنين ، فلبني اسرائيل من هذه الآية أكبر حظ لأنهم كانوا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ، ويكذبون على كتاب الله ، فيكتبون ما شاؤا لينالوا حظاً خسيساً من حظوظ الدنيا ، ويقولون : هذا من عند الله .
وقراءة الجمهور : زين ، على بناء الفعل للمفعول ، ولا يحتاج إلى إثبات علامة تأنيث للفصل ، ولكون المؤنث غير حقيقي التأنيث ، وقرأ ابن أبي عبلة : زينت ، بالتاء وتوجيهها ظاهر ، لأن المسند إليه الفعل مؤنث ، وحذف الفاعل لفهم المعنى ، وهو : الله تعالى ، يؤيد ذلك قراءة مجاهد ، وحميد بن قيس ، وأبي حيوة : زين ، على البناء للفاعل ، وفاعله ضمير يعود على الله تعالى ، إذ قبله : ) فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ).
وتزيينه تعالى إياها لهم بما وضع في طباعهم من المحبة لها ، فيصير في نفوسهم ميل ورغبة فيها ، أو بالشهوات التي خلقها فيهم ، وإليه أشار بقوله : ) زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ( الآية ، وإنما أحكمه من مصنوعاته وأتقنه وحسنه ، فأعجبهم بهجتها ، واستمالت قلوبهم فمالوا إليها كلية ، وأعطوها من الرغبة فوق ما تستحقه .
وقال أبو بكر الصدّيق ، رضي الله عنه ، حين قدم عليه بالمال ، قال : اللهم إنا لا نستطيع إلى أن نفرج بما زينت لنا .
قال الزمخشري : ويحتمل أن يكون الله قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها ، أو جعل إمهال المزين تزييناً ، ويدل عليه قراءة من قرأ : ) زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا ( على البناء للفاعل . إنتهى كلامه . وهو جار على مذهب المعتزلة بأن الله تعالى لا يخلق الشر ، وإنما ذلك من خلق العبد ، فلذلك تأول التزيين على الخذلان ، أو على الإمهال ، وقيل : الزين الشيطان ، وتزيينه بتحسين ما قبح شرعاً ، وتقبيح ما حسن شرعاً . والفرق بين التزيينين : أن تزيين الله بما ركبه ووضعه في الجبلة ، وتزيين الشيطان بإذ كار ما وقع غفاله ، وتحسينه بوساوسه إياها لهم ، وقيل : المزين ، نفوسهم كقوله : ) إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوء ( ) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ( ) وَكَذالِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى ( وقيل : شركاؤهم من الجن والإنس ، قال تعالى ) وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ الْمُشْرِكِينَ ( الآية وقال : ) شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ).
وقيل : المزين هذه الحياة الدنيا قال : ) اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ). وقيل : المزين المجموع وفي هذا الكلام تعريف المؤمنين بسخافة عقول الكفار حيث آثروا الفاني على الباقي .
( وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( الضمير عائد على الذين كفروا ، وتقدّم من هم ، وكلك تقدّم القول في : الذين آمنوا ، في سبب النزول ، ومعنى : يسخرون : يستهزئون

" صفحة رقم 139 "
وذلك لفقرهم ، أو : ولا تباعهم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو : لاتهامهم إياهم أنهم مصدّقون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو لضعفهم وقلة عددهم ؛ أقوال أربعة .
وهذه الجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية من قوله : زين ، ولا يلحظ فيها عطف الفعل على الفعل ، لأنه كان يلزم اتحاد الزمان ، وإن لم يلزم اتحاد الصيغة ، وصدرت الأولى بالفعل الماضي لأنه أمر مفروغ منه ، وهو تركيب طباعهم على محبة الدنيا ، فليس أمراً متجدّداً ، وصدرت الثانية بالمضارع ، لأنها حالة تتجدّد كل وقت وقيل : هو على الاستئناف أي : الفعل المضارع ، ومعنى الاستئناف أن يكون على إضمارهم التقدير : وهم يسخرون ، فيكون خبر مبتدأ محذوف ، ويصير من عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية .
( وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( فوق : ظرف مكان ، فقيل : هو على حاله من الظرفية المكانية حقيقة ، لأن المؤمنين في عليين في السماء ، والكفار في سجين في الأرض وقيل : الفوقية ، مجاز إما بالنسبة إلى النعيمين : نعيم المؤمنين في الجنة ، ونعيم الكافرين في الدنيا ، وإما بالنسبة إلى حجج المؤمنين ، وشبه الكفار لثبوت الحجج وتلاشى الشبه ، وإما بالنسبة إلى ما زعم الكفار من قولهم إن كان لنا معاد فلنا فيه الحظ ، وإما بالنسبة إلى سخرية المؤمنين بهم في الآخرة ، وسخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا ، فهم عالون عليهم ، متطاولون ، يضحكون منهم ، كما كان أولئك في الدنيا يتطاولون على المؤمنين ويضحكون منهم ، وإما بالنسبة إلى علوّ حالهم ، لأنهم في كرامة ، والكفار في هوان .
وجاءت هذه الجملة مصدرة بقوله ) وَالَّذِينَ اتَّقَواْ ( ليظهر أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن المتقي ، ولتبعث المؤمن على التقوى ، وليزول قلق التكرار لو كان : والذين آمنوا ، لأن قبله : الذين أمنوا ، وانتصاب : يوم القيامة ، على الظرف ، والعامل فيه هو العامل في الظرف الواقع خبراً ، أي : كائنون هم يوم القيامة ، ولما فهموا من فوق أنها تقتضي التفضيل بين من يخبر بها عنه ، وبين من تضاف هي إليه ، كقولك : زيد فوق عمرو في المنزل ، حتى كأنه قيل : زيد أعلى من عمرو في المنزلة ، احتاجوا إلى تأويل عال وأعلى منه ، قال ابن عطية : وهذا كله من التحميلات ، حفظ لمذهب سيبوية ، والخليل ، في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة ، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك . إنتهى كلامه .
وهذا الذي حكاه عن سيبويه والخليل لا نعلمه ، وإنما الذي وقع فيه الخلاف هو أفعل التفضيل ، فالبصريون يمنعون : زيد أحسن إخوته ، والكوفيون يجيزونه ، وأما أن ذلك في : فوق ، فلا نعلمه ، لكنه لما توهم أنها مرادفة لأعلى ، وأعلى أفعل تفضيل ، نقل الخلاف إليها ، والذي نقوله : إن فوق لا تقتضي التشريك في التفضيل ، وإنما تدل على مطلق العلوّ ، فإذا أضيفت فلا يلزم أن يكون ما أضيفت إليه فيه علوّ ، وكما أن تحت مقابلتها لا تدل على تشريك في السفلية ، وإنما هي تدل على مطلقها ، ولا نقول : إنها مرادفة لأسفل ، لأن أسفل أفعل تفضيل يدلك على ذلك استعمالها بمن ، كقوله : الركب أسفل منكم ، كما أن أعلى كذلك ، فإذا تقررّ هذا كان المعنى ، والله أعلم ، والذين اتقوا عالوهم يوم القيامة ، ولا يدل ذلك على أن الكفار في علوّ ، بل المعنى أن العلوّ يوم القيامة إنما هو للمتقين ، وغيرهم سافلون ، عكس حالهما في الدنيا حيث كانوا يسخرون منهم .
( وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( اتصال هذه الجملة بما قبلها من تفضيل المتقين يوم القيامة يدل على تعلقها بهم ، فقيل : هذا الرزق في الآخرة ، وهو ما يعطى المؤمن فيها من الثواب ، ويكون معنى قوله : بغير حساب ، أي بغير نهاية ، لأن ما لا يتناهى خارج عن الحساب ، أو يكون المعنى : أن بعضها ثواب وبعضها تفضيل محض ، فهو بغير حساب ، وقيل : هذا الرزق في الدنيا ، وهو إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزأ بهم أموال بني قريظة والنضير ، يصير إليهم بلا حساب ، بل ينالونها بأسهل شيء وأيسره ، قاله ابن عباس ، وقال نحوه القفال ، قال : قد فعل ذلك بهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ، ورؤساء اليهود ، وبما فتح بعد وفاته على أيدي أصحابه .
وقالوا ما معناه : إنها متصلة بالكفار ، وقال الزمخشري يعني : أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه ، كما وسع على قارون وغيره ، فهذه

" صفحة رقم 140 "
التوسعة عليكم من جهة الله لما فيها من الحكمة ، وهي استدارجكم بالنعمة ، ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم ، انتهى كلامه .
ولم يذكر غيره في معنى هذه الجمله .
وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون المعنى : والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا ، فلا تستعظموا ذلك ، ولا تقيسوا عليه الآخرة ، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان ، بل يحسب لهذا عمله وهذا عمله ، فيرزقان بحساب ذلك ، بل الرزق بغير حساب الأعمال ، والأعمال مجازاتها محاسبة ومعادة ، إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه ، فالمعنى : إن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا ، فهو فوق الكافر يوم القيامة . إنتهى كلامه . والذي يظهر عدم تخصيص الرزق بإحدى الطائفتين ، بل لما ذكر حاليهما من سخرية الكفار بهم في الدنيا ، بسبب ما رزقوا : من التمكن فيها ، والرياسة ، والبسط ، وتعالي المؤمنين عليهم في الآخرة . بسبب ما رزقوا من : الفوز ، والتفرد بالنعيم السرمدي ، بيَّن أن ما يفعله من ذلك ويرزقه إياه إنما هو راجع لمشيئته السابقة ، وأنه لا يحاسبه أحد ، ولا يحاسب نفسه على ما يعطي ، لأن ذلك لا يكون إلاَّ لمن يخاف نفاذ ما عنده .
وقالوا في الحديث الصحيح : ( يمين الله ملآى لا ينقصها شيء ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإن ذلك لم ينقص شيئاً مما عنده .
ومفعول يشاء محذوف ، التقدير : من يشاء أن يرزقه ، دل عليه ما قبله ، وبغير حساب تقدمه ثلاثة أشياء يصلح تعلقه بها : الفعل ، والفاعل ، والمفعول الأول وهو : من فإن كان للفعل فهو من صفات المصدر ، وإن كان للفاعل فهو من صفاته ، أو للمفعول فهو من صفاته ، فإذا كان للفعل كان المعنى : يرزق من يشاء رزقاً غير حساب ، أي : غير ذى حساب ، ويعني بالحساب : العد ، فهو لا يحصي ولا يحصر من كثرته ، أو يعني به المحاسبة في الآخرة ، أي : رزقاً لا يقع عليه حساب في الآخرة ، وتكون على هذا الباء زائدة .
وإذا كان للفاعل كان في موضع الحال : المعنى يرزق الله غير محاسب عليه ، أي متفضلاٍ في إعطائه لا يحاسب عليه ، أو غير عادٍ عليه ما يعطيه ، ويكون ذلك مجازاً عن التقتير والتضييق ، فيكون : حساب مصدراً عبر به عن اسم الفاعل من : حاسب ، أو عن اسم الفاعل من : حسب ، وتكون الباء زائدة في الحال ، وقد قيل : إن الباء زيدت في الحال المنفية ، وهذه الحال لم يتقدمها نفي ، ومما قيل : إنها زيدت في الحال المنفية قول الشاعر : فما رجعت بخائبة ركاب
أي : فلما رجعت خائبة ، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون حساب مصدراً عبر به عن اسم المفعول ، أي : غير محاسب على ما يعطي تعالى ، أي : لا أحد يحاسب الله تعالى ما منح ، فعطاؤه غمراً لا نهاية له .
وإذا كان : لمن ، وهو المفعول الأول ليرزق ، فالمعنى : إن المرزوق غير محاسب على ما يرزقه الله تعالى ، فيكون أيضاً حالاً منه ، ويقع الحساب الذي هو المصدر على المفعول الذي هو محاسب من حاسب ، أو المفعول من حسب ، أي : غير معدود عليه ما رزق ، أو على حذف مضاف أي : غير ذي حساب ، ويعني بالحساب : المحاسبة أو العد ، والباء زائدة في هذه الحال أيضاً . ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى : أنه يرزق من حيث لا يحتسب ، أي : من حيث لا يظن ، ولا يقدر أن يأتيه الرزق ، كما قال : ) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( فيكون حالاً أيضاً أي : غير محتسب ، وهذه الأوجه كلها متكلفة ، وفيها زيادة الباء .
والأولى أن تكون الباء للمصاحبة ، وهي التي يعبر عنها بباء الحال ، وعلى هذا يصلح أن تكون : للمصدر ، وللفاعل ، وللمفعول ، ويكون الحساب مراداً به المحاسبة ، أو العد ، أي : يرزق من يشاء ولا حساب على الرزق ، أو : ولا حساب للرازق ، أو ولا حساب على المرزوق .
وكون الباء لها معنى أَوْلى من كونها زائدة ، وكون المصدر باقياً على المصدرية أولى من كونه مجازاً عن اسم فاعل أو أسم مفعول وكونه مضافاً لغير أولى من جعله مضافاً لذي محذوفة ، ولا تعارض بين قوله : ) جَزَاء مّن رَّبّكَ عَطَاء حِسَاباً ( أي : محسباً أي : كافياً من : أحسبني كذا ، إذا كفاك ، وبغير حساب معناه العد ، أو المحاسبة ، أو لاختلاف

" صفحة رقم 141 "
متعلقيهما إن كانا بمعنى واحد ، فالاختلاف بالنسبة إلى صفتي الرزق والعطاء في الآخرة ، فبغير حساب في التفضل المحض ، وعطاءً حساباً في الجزاء المقابل للعمل ، أو بالنسبة إلى اختلاف طرفيهما : فبغير حساب في الدنيا إذ يرزق الكافر والمؤمن ولا يحاسب المرزوقين عليه ، وفي الآخره يحاسب ، أو بالنسبة إلى اختلاف من قاما به ، فبغير حساب الله تعالى وهو حال منه ، أي : يرزق ولا يحاسب عليه ، أو ولا يعد عليه ، وحساباً صفة للعطاء ، فقد اختلف من جهة من قاما به ، وزال بذلك التعارض .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من أواخر أقوال الحج وأفعاله الأمر بذكر الله في أيام معدودات ، أي : قلائل ، ودل الذكر على الرمي وإن لم يصرح به ، لأن الذكر المأمور به في تلك الأيام هو عند الرمي ، ودل الأمر على مشروعية في أيام ، وهو : جمع ، ثم رخص في التعجيل عند انقضاء يومين منها ، فسقط الذكر المختص به اليوم الثالث ، وأخبر أن حال المتعجل والمتأخر سواء في عدم الإثم ، وإن كان حال من تأخر أفضل ، وكان بعض الجاهلية يعتقد أن من تعجل أثم ، وبعضهم يعتقد أن من تأخر أثم ، فلذلك أخبر أن الله رفع الإثم عنهما ، إذ كان التعجل والتأخر مما شرعه الله تعالى ، ثم أخبر أن ارتفاع الإثم لا يكون إلا لمن اتقى الله تعالى .
ثم أمر بالتقوى ، وتكرار الأمر بها في الحج ، ثم ذكر الحامل على التلبس بالتقوى ، وهو كونه تعالى شديد العقاب لمن لم يتقه ، ثم لما كانت التقوى تنقسم إلى من يظهرها بلسانه وقلبه منطو على خلافها ، وإلى من تساوى سريرته وعلانيته في التقوى ، قسم الله تعالى ذلك إلى قسمين ، فقال : ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( أي : يؤنقك ويروق لفظه ، يحسن ما يأتي به من الموافقة والطواعية ظاهراً ، ثم لا يكتفي بما زوّر ونمق من كلامه اللطيف حتى يشهد الله على ما في قلبه من ذلك ، فيحلف بالله أن سريرته مثل علانيته ، وهو إذا خاصم كان شديد الخصومة ، وإذا خرج من عندك تقلب في نواحي الأرض ، ثم ذكر تعالى سبب سعيه وأنه للإفساد مطلقاً ، وليهلك الحرث والنسل اللذين هما قوام الوجود ، ثم أخبر تعالى أنه لا يحب الفساد ، فهذا المتولي الساعي في الأرض يفعل ما لا يحبه الله ولا يرضاه ، ثم ذكر أنه من شدّة الشكيمة في النفاق إذا أمر بتقوى الله تعالى استولت عليه الأنفة والغضب بالإثم . أي : مصحوباً بالإثم فليس غضبه لله . إنما هو لغير الله ، فلذلك استصحبه الإثم .
ثم ذكر تعالى ما يؤول إليه حال هذا الآنف المغترّ بغير الله ، وهو جهنم ، فهي كافية له ، ومبدلته بعد عزه ذلاً ، ثم ذمّ تعالى ما مهد لنفسه من جهنم ، وبئس الغاية الذم ، ثم ذكر تعالى القسم المقابل لهذا القسم ، وهو : من باع نفسه في طلاب رضى الله تعالى ، واكتفى بهذا الوصف الشريف ، إذ دل على انطوائه على جميع الطاعات والانقيادات ، إذ صار عبد الله يوجد حيث رضي الله تعالى ، ثم ذكر تعالى أن من كان بهذه المثابة رأف الله به ورحمه ، ورأفة الله به تتضمن اللطف به والإحسان إليه بجميع أنواع الإحسان ، وذكر الرأفة التي هي ، قيل : أرق من الرحمة .
ثم نادى المؤمنين بقوله : ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( وأمرهم بالدخول في الإسلام ، وثنى بالنهي ، لأن الأمر أشق من النهي ، لأن الأمر فعل والنهي ترك ، ولمجاورته قوله : ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ( فصار نظير : ) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ فِى وُجُوهِ ( فأما الذين اسودّت وجوهم ( ولما نهاهم تعالى عن اتباع خطوات الشيطان ، وهي : سلوك معاصي الله ، أخبر أنه إن زلوا من بعد ما أتتهم البينات الواضحة النيرة التي لا ينبغي أن يقع الزلل معها ، لأن في ايضاحها ما يزيل اللبس ، فاعلموا أن الله عزيز لا يغالب ، حكيم يضع الأشياء مواضعها ، فيجازي على الزلل بعد وضوح الآيات التي تقتضي الثبوت في الطاعة بما يناسب ذلك الزلل ، فدل بعزته على القدرة ، وبحكمته على جزاء العاصي والطائع : ) ( ولما نهاهم تعالى عن اتباع خطوات الشيطان ، وهي : سلوك معاصي الله ، أخبر أنه إن زلوا من بعد ما أتتهم البينات الواضحة النيرة التي لا ينبغي أن يقع الزلل معها ، لأن في ايضاحها ما يزيل اللبس ، فاعلموا أن الله عزيز لا يغالب ، حكيم يضع الأشياء مواضعها ، فيجازي على الزلل بعد وضوح الآيات التي تقتضي الثبوت في الطاعة بما يناسب ذلك الزلل ، فدل بعزته على القدرة ، وبحكمته على جزاء العاصي والطائع : ) لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ).
ثم أعرض تعالى عن خطابهم ، وأخبر عنهم إخبار الغائبين ، مسلياً لرسوله عن تباطئهم في الدخول في الإسلام ، فقال : ما ينتظرون إلاَّ قيام الساعة يوم فصل الله بين العباد ، وقضاء الأمر ، ورجوع جميع الأمور إليه ، فهناك تظهر ثمرة ما جنوا على أنفسهم ، كما جاء في الحديث : ( إن يوم القيامة يأتيهم الله في صورة ) كذا ، على ما يليق بتقديسه عن جميع ما يشبه المخلوقين ، وننزهه عما يستحيل عليه من سمات الحدوث وصفات النقص .
ثم قال تعالى : ) سَلْ بَنِى إِسْراءيلَ ( منبهاً على أن من أرسل إليهم الأنبياء ، وظهرت لهم المعجزات الإعراض

" صفحة رقم 142 "
عن ذلك ، وعدم قبول الإيمان ، وأنهم يرتبون على الشيء غير مقتضاه ، فيكذبون بالآيات التي جاءت دالة على الصدق .
ثم أخبر تعالى : أن من بدل نعمة الله عاقبه أشدّ العقاب ، قابل نعمة الله التي هي مظنة الشكر بالكفر ، ثم ذكر تعالى الحامل لهم على تبديل نعم الله ، وهو : تزيين الحياة الدنيا ، فرغبوا في الفاني وزهدو ا في الباقي إيثاراً للعاجل على الآجل ، ثم ذكر مع ذلك استهزاءهم بالمؤمنين ، حيث ما يتوهم في وصف الإيمان ، والرغبة فيما عند الله تعالى ، وذكر أنهم هم العالون يوم القيامة ، ودل بذلك على أن أولئك هم السافلون ، ثم ذكر أنه يرزق المؤمنين ، وهم الذين يحبهم ، بغير حساب ، إشارة إلى سعة الرزق وعدم التقتير ، والتقدير : وأعاد ذكرهم بلفظ : من يشاء ، تنبيهاً على إرادته لهم ، ومحبته إياهم ، واختصاصهم به ، إذ لو قال : والله يرزقهم بغير حساب ، لفات هذا المعنى ذكر المشيئة التي هي الإرادة .
2 ( ) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاإِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالاٌّ قْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ وَأُوْلائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلائِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ) ) 2
البقرة : ( 213 ) كان الناس أمة . . . . .
حسب : بكسر السين : يحسب ، بفتحها في المضارع وكسرها ، من أخوات : ظن ، في طلبها إسمين : هما في مشهور قول النحاة : مبتدأ وخبر ، ومعناها نسبة الخبر عن المتيقن إلى المسند إليه ، وقد يأتي في المتيقن قليلا ، نحو قوله : حسبت التقى والجود خير تجارة
رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلاً

" صفحة رقم 143 "
ومصدرها : الحسبان ، ويأتي : حسب أيضاً بمعنى : احمرّ تقول : حسب الرجل يحسب ، وهو أحسب ، كما تقول : شقر فهو أشقر ، ولحسب أحكام ذكرت في النحو .
لما : الجازمة حرف ، زعموا أنه مركب من : لم وما ، ولها أحكام تخالف فيها : لم ، منها : أنه يجوز حذف الفعل بعدها إذا دل على حذفه المعنى ، وذلك في فصيح الكلام ، ومنها : أنه يجب اتصال نفيها بالحال ، ومنها : أنها لا تدخل على فعل شرط ولا فعل جزاء .
زلزل : قلقل وحرّك ، وهو رباعي عند البصريين : كدحرج ، هذا النوع من الرباعي فيه خلاف للكوفيين والزجاج مذكور في النحو .
ماذا : اذا أفردت كل واحدة منهما على حالها كانت : ما يراد بها الإستفهام ، وذا : للإشارة ، وإن دخل التجوّز فتكون : ذا ، موصولة ، لمعنى : الذي ، والتي ، وفروعها ، وتبقى ما على أصلها من الاستفهام ، فتفتقر : ذا ، إذ ذاك إلى صلة ، وتكون مركبة مع : ما ، الاستفهامية ، فيصير دلالة مجموعهما دلالة : ما ، الاستفهامية لو انفردت ، ولهذا قالت العرب : عن ماذا تسأل ؟ باثبات ألف : ما ، وقد دخل عليها حرف الجر وتكون مركبة مع : ما ، الموصولة ، أو : ما ، النكرة الموصوفة ، فتكون دلالة مجموعها دلالة : ما الموصولة ، أو الموصوفة ، لو انفردت دون : ذا ، والوجه الأخر هو عن الفارسي .
الكره : بضم الكاف وفتحها ، والكراهية والكراهة مصادر لكره ، قاله الزجاج ، بمعنى : أبغض ، وقيل : الكُره بالضم ما كرهه الإنسان ، والكَره ، بالفتح ما أكره عليه ، وقيل : الكُره بالضم اسم المفعول ، كالخبر ، والنقض ، بمعنى : المخبور والمنقوص ، والكَره بالفتح . المصدر .
عسى : من أفعال المقاربة ، وهي فعل ، خلافاً لمن قال : هي حرف ولا تتصرف ، ووزنها : فعل ، فإذا أسندت إلى ضمير متكلم أو مخاطب مرفوع ، أو نون أناث ، جاز كسر سينها ويضمر فيها للغيبة نحو : عسيا وعسوا ، خلافاً للرماني ، ذكر الخلاف عنه ابن زياد البغدادي ، ولا يخص حذف : إن ، من المضارع بالشعر خلافاً لزاعم ذلك ، ولها أحكام كثيرة ذكرت في علم النحو ، وهي : في الرجاء تقع كثيراً ، وفي الإشفاق قليلاً قال الراغب .
الصدّ : ناحية الشعب والوادي المانع السالك ، وصدّه عن كذا كأنما جعل بينه وبين ما يريده صدّاً يمنعه . إنتهى . ويقال : صدّ يصدّ صدوداً : أعرض ، وكان قياسه للزومه : يصدّ بالكسر ، وقد سمع فيه ، وصدّه يصده صدّاً منعه ، وتصدّى للشيء تعرض له ، وأصله تصدّد ، نحو : تظنى بمعنى تظنن ، فوزنه تفعل ، ويجوز أن تكون تفعلى نحو : يعلني ، فتكون الألف واللام للإلحاق ، وتكون من مضاعف اللام .
زال : من أخوات كان ، وهي التي مضارعها : يزال ، وهي من ذوات الياء ، ووزنها فعل بكسر العين ، ويدل على أن عينها ياء ما حكاه الكسائي في مضارعها ، وهو : يزيل ، ولا تستعمل إلاَّ منفية بحرف نفي ، أو بليس ، أو بغير أو : لا ، لنهي أو دعاء .
الحبوط : أصله الفساد ، وحبوط العمل بطله ، وحبط بطنه انتفخ ، والحبطات قبيلة من بني تميم ، والحنبطي : المنتفخ البطن .
المهاجرة : انتقال من أرض إلى أرض ، مفاعلة من الهجر ، والمجاهد مفاعلة من جهد ، استخرج الجهد والإجتهاد ، والتجاهد بذل الوسع ، والمجهود والجهاد بالفتح : الأرض الصلبة .
( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ( مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن إصرار هؤلاء على كفرهم هو حب الدنيا ، وأن ذلك ليس مختصاً بهذا الزمان الذي بعثت فيه ، بل هذا أمر كان في الأزمنة المتقادمة ، إذ كانوا على حق ثم اختلفوا بغياً وحسداً وتنازعاً في طلب الدنيا .
والناس : القرون بين آدم ونوح وهي عشرة ، كانوا على الحق حتى اختلفوا ، فبعث الله نوحاً فمن بعده ، قاله ابن عباس ، وقتادة . أو : قوم نوح ومن في سفينته كانوا مسلمين ، أو : آدم وحده ، عن مجاهد ، أو : هو وحواء ، أو : بنو آدم حين أخرجهم من ظهره نسماً كانوا على الفطرة ، قاله أبي وابن زيد ، أو :

" صفحة رقم 144 "
آدم وبنوه كانوا على دين حق فاختلفوا من حين قتل قابيل هابيل ، أو : بنو آدم من وقت موته إلى مبعث نوح كانوا كفاراً أمثال البهائم ، قاله عكرمة ، وقتادة . أو : قوم إبراهيم كانوا على دينه إلى أن غيره عمرو بن يحيى ؛ أو : أهل الكتاب ممن آمن بموسى على نبينا وعليه السلام ، أو : قوم نوح حين بعث إليهم كانوا كفاراً قاله ابن عباس ، أو : الجنس كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع لا أمر عليهم ولا نهى . أو : صنفاً واحداً ، فكان المراد : أن الكل من جوهر واحد ، وأب واحد ، ثم خصّ صنفاً من الناس ببعث الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم تكريماً لهم ، قاله الماتريدي فهذه إثنا عشر قولاً في الناس .
وأما في التوحيد فخمسة أقوال : أما في الإيمان ، وأما في الكفر ، وأما في الخلقة على الفطرة ، وأما في الخلو عن الشرائع ، وأما في كونهم من جوهر واحد . وهو الأب .
وقد رجح كونهم أمة واحدة في الإيمان بقوله : ) فَبَعَثَ اللَّهُ ( وإنما بعثوا حين الاختلاف ، ويؤكده قراءة عبد الله ) أُمَّةً وَاحِدَةً ( فاختلفوا ، وبقوله : ) لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ( فهذا يدل على أن الاتفاق كان حصل قبل البعث والإنزال ، وبدلالة العقول ، إذ النظر المستقيم يؤدي إلى الحق ، ويكون آدم بعث إلى أولاده ، وكانوا مسلمين ، وبالولادة على الفطرة ، وبأن أهل السفينة كانوا على الحق ، وبإقرارهم في يوم الذر .
ويظهر أن هذا القول هو الأرجح لقراءة عبد الله وللتصريح بهذا المحذوف في آية أخرى ، وهو قوله تعالى : ) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ ( والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، وتقدّم شرح : أمة في قوله : ) وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ).
وفي قراءة أبي : كان البشر ، إشارة إلى أنه لا يراد بالناس معهودون ، ومن جعل الإتحاد في الإيمان قدر ، فاختلفوا فبعث الله ، ومن جعل ذلك في الكفر لا يحتاج إلى هذا التقدير ، إذ كانت بعثة النبيين إليهم ، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة : نوح على نبينا وعليه السلام ، يقول الناس له : أنت أول الرسل ، المعني : إلى قوم كفار ، لأن آدم قبله ، وهو مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان . ) فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ ( أي : أرسل النبيين مبشرين بثواب من أطاع ، ومنذرين بعقاب من عصى ، وقدّم البشارة لأنها أبهج للنفس ، وأقبل لما يلقى النبي ، وفيها اطمئنان المكلف ، والوعد بثواب ما يفعله من الطاعة ، ومنه . ) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ( وانتصاب : مبشرين ومنذرين ، على الحال المقارنة .
( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِ ( معهم حال من الكتاب : وليس تعمل فيه أنزل ، إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال ، وليسوا متصفين ، وهي حال مقدرة أي : وأنزل الكتاب مصاحباً لهم وقت الإنزال لم يكن مصاحباً لهم ، لكنه انتهى إليهم .
والكتاب : إما أن تكون أل فيه للجنس ، وإما أن تكون للعهد على تأويل : معهم ، بمعنى مع كل واحد منهم ، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب ، وهو التوراة . قاله الطبري ، أنزلت على موسى وحكم بها النبيون بعده ، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم ، ويضعف أن يكون مفرداً وضع موضع الجمع ، وقد قيل به .
ويحتمل : بالحق ، أن يكون متعلقاً : بأنزل ، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل ، لأنه يراد به المكتوب ، أو بمحذوف ، فيكون في موضع الحال من الكتاب ، أي مصحوباً بالحق ، وتكون حالاً مؤكدة لأن كتب الله المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها ، وهذه الجملة معطوفة على قوله : ) فَبَعَثَ اللَّهُ ).
ولا يقال : إن البشارة والنذارة إنما يكونان بالأمر والنهي ، وهما إنما يستفادان من إنزال الكتب فلم قدما على الإنزال مع أنهما ناشئان عنه ؟ لأنه ذلك لا يلزم ، لأن البشارة والنذارة قد يكونان ناشئين عن غير الكتب من وحي الله لنبيه دون أن يكون ذلك كتاباً يتلى ويكتب ، ولو سلم ذلك لكان تقديمهما هو الأولى لأنهما حالان من النبيين . فناسب اتصالهما بهم ، وإن كانا ناشئين عن إنزال الكتب .
وقال القاضي : الوعد والوعيد من الأنبياء عليهم السلام قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من معرفة الله تعالى ، وترك الظلم وغيرهما ، انتهى كلامه .
وما ذكر لا يظهر ، لأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ليسا مما يقضي بهما العقل وحده على جهة الوجوب ، وإنما ذلك على سبيل الجواز ، ثم أتى الشرع بهما ، فصار ذلك الجائز في العقل واجباً بالشرع ، وما كان بجهة الإمكان العقلي لا يتصف به النبي على سبيل الوجوب إلاَّ بعد الوحي قطعاً ، فإذن يتقدّم الوحي بالوعد والوعيد على ظهور البشارة والنذارة ممن أوحى إليه قطعاً .
قال القاضي : وظاهر

" صفحة رقم 145 "
الآية يدل على أنه لا نبي إلاَّ ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق ، طال ذلك الكتاب أو قصر ، دوّن أو لم يدوّن ، كان معجزاً أو لم يكن ، لأن كون الكتاب منزلاً معهم لا يقضي شيئاً من ذلك . انتهى كلامه .
ويحتمل أن يكون التجّوز في : أنزل ، فيكون بمعنى : جعل ، كقوله : ) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ). ولما كان الإنزال الكثير منهم نسب إلى الجميع ، ويحتمل أن يكون التجوّز في الكتاب ، فيكون بمعنى الموحى به ، ولما كان كثيراً مما أوحى به بكتب ، أطلق على الجميع الكتاب تسمية للمجموع باسم كثير من أجزائه .
( لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ( الللام لام العلة ، ويتعلق بأنزل ، والضمير في : ليحكم ، عائد على الله في قوله : فبعث الله ، وهو المضمر في : أنزل ، وهذا هو الظاهر ، والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس ، وقيل : عائد على الكتاب أي : ليحكم الكتاب بين الناس ، ونسبة الحكم إليه مجاز ، كما أسند النطق إليه في قوله : ) هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ ( وكما قال : ضربت عليك العنكبوت نسيجها
وقضى عليك به الكتاب المنزل
ولأن الكتاب هو أصل الحكم ، فأسند إليه رداً للأصل ، وهذا قول الجمهور ، وأجاز الزمخشري أن يكون الفاعل : النبي ، قال : ليحكم الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه ، وإفراد الضمير يضعف ذلك على أن يحتمل ما قاله ، فيعود على أفراد الجمع ، أي : ليحكم كل نبي بكتابة ، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع ظهور عود الضمير على الله تعالى ، ويبين عوده على الله تعالى قراءة الجحدري فيما ذكر مكي لنحكم ، بالنون ، وهو متعين عوده على الله تعالى ، ويكون ذلك التفاتاً إذ خرج من ضمير الغائب في : أنزل ، إلى ضمير المتكلم ، وظن ابن عطية هذه القراءة تصحيفاً قال : ما معناه لأن مكياً لم يحكِ عن الجحدري قراءته التي نقل الناس عنه ، وهي : ليحكم ، على بناء الفعل للمفعول ، ونقل مكي لنحكم بالنون .
وفي القراءة التي نقل الناس من قوله : وليحكم ، حذف الفاعل للعلم به ، والأولى أن يكون الله تعالى :
قالوا : ويحتمل أن يكون الكتاب أو النبيون . وهي ظرف مكان ، وهو هنا مجاز ، وانتصابه بقوله : ليحكم ، وفيما ، متعلق به أيضاً ، و : فيه ، الدين الذي اختلفوا فيه بعد الإتفاق . .
قيل ويحتمل أن يكون الذي اختلفوا فيه محمد / ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أو دينه ، أو : هما ، أو : كتابه .
( وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ( الضمير من قوله : وما اختلف فيه ، يعود على ، ما عاد عليه في : فيه ، الأولى ، وقد تقدّم أنها عائدة على : ما ، وشرح ما المعنى : بما ، أهو الدين ، أو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ؟ أم دينه ؟ أم هما ؟ أم كتابه ؟
والضمير في : أوتوه ، عائد إذ ذاك على ما عاد عليه الضمير في : فيه ، وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على الكتاب ، وأتوه عائد أيضاً على الكتاب ، التقدير : وما اختلف في الكتاب إلاَّ الذين أوتوه ، أي : أوتوا الكتاب .
وقال الزجاج : الضمير في : فيه ، الثانية يجوز أن يعود على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، أي : وما اختلف في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلاَّ الذين أوتوه ، أي : أوتوا علم نبوّته ، فعلوا ذلك للبغي ، وعلى هذا يكون الكتاب : التوراة ، والذين أوتوه اليهود .
وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على ما اختلفوا فيه من حكم التوراة والقبلة وغيرهما ، وقيل : يعود الضمير في : فيه ، على عيسى صلى الله على نبينا وعليه .
وقال مقاتل : الضمير عائد على الدين ، أي : وما اختلف في الدين . انتهى .
والذي يظهر من سياق الكلام وحسن التركيب أن الضمائر كلها في : أوتوه وفيه الأولى والثانية ، يعود على : ما ، الموصولة في قوله : فيما اختلفوا فيه ، وأن الذين اختلفوا فيه مفهومه كل شيء اختلفوا فيه فمرجعه إلى الله ، بينه بما نزل في الكتاب ، أو إلى الكتاب إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلف ، أو إلى النبي يوضحه بالكتاب على الأقوال التي سبقت في الفاعل في قوله : ) لِيَحْكُمَ ).
والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له ، وخصهم بالذكر تنبيهاً منه على شناعة فعلهم ،

" صفحة رقم 146 "
وقبيح ما فعلوه من الاختلاف ، ولأن غيرهم تبع لهم في الاختلاف فهم أصل الشر ، وأتى بلفظ : من ، الدالة على ابتداء الغاية منبهاً على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات ، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء ، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا ، لم يتخلل بينهما فترة .
والبينات : التوراة والإنجيل ، فالذين أوتوه هم اليهود والنصارى ، أو جميع الكتب المنزلة ، فالذين أوتوه علماء كل ملة ، أو ما في التوراة من صفة هم اليهود والنصارى ، أو جميع الكتب المنزلة ، فالذين أوتوه علماء كل ملة ، أو ما في التوراة من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والذين أوتوه اليهود ، أو معجزات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والذين أوتوه جميع الأمم ، أو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والذين أوتوه من بعث إليهم .
والذي يظهر أن البينات هي ما أوضحته الكتب المنزلة على أنبياء الأمم الموجبة الاتفاق وعدم الاختلاف ، فجعلوا مجيء الآيات البينات سبباً لاختلافهم ، وذلك أشنع عليهم ، حيث رتبوا على الشيء خلاف مقتضاه .
ثم بين أن ذلك الاختلاف الذي كان لا ينبغي أن يكون ليس لموجوب ولا داع إلاَّ مجرد البغي والظلم والتعدّي .
وانتصاب : بغياً ، على أنه مفعول من أجله ، و : بينهم ، في موضع الصفة له ، فتعلق بمحذوف ، أي : كائناً بينهم ، وأبعد من قال : إنه مصدر في موضع الحال ، أي : باغين ، والمعنى : أن الحامل على الاختلاف هو البغي ، وسبب هذا البغي حسدهم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على النبوّة ، أو كتمهم صفته التي في التوراة ، أو طلبهم الدنيا والرئاسة فيها أقوال :
فالأولان : يختصان بمن يحضره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) . من أهل الكتاب وغيرهم ، والثالث : يكون لسائر الأمم المختلفين ، وإنزال الكتب كان بعد وجود الاختلاف الأول ، ولذلك قال : ) لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ( والاختلاف الثاني المعنيّ به ازدياد الإختلاف ، أو ديمومة الاختلاف إذا فسرنا : أوتوه : بأوتوا الكتاب ، فهذا الاختلاف يكون بعد إيتاء الكتاب ، وقيل : بجحود ما فيه ، وقيل : بتحريفه .
وفي قوله : بغياً ، إشارة إلى حصر العلة ، فيبطل قول من قال : إن الاختلاف بعد إنزال الكتاب كان ليزول به الاختلاف الذي كان قبله .
وفي قوله : البينات : دلالة على أن الدلائل العقلية المركبة في الطباع السليمة ، والدلائل السمعية التي جاءت في الكتاب قد حصلا ، ولا عذر في العدول والإعراض عن الحق لكن عارض هذا الدليل القطعي ما ركب فيهم من البغي والحسد والحرص على الاستيثار بالدنيا .
إلاَّ الذين أوتوه ، استثناء مفرغ ، وهو فاعل إختلف ، و : من بعد ما جاءهم ، متعلق باختلف ، وبغياً منصوب باختلف ، هذا قول بعضهم ، قال : ولا يمنع إلاَّ من ذلك ، كما تقول : ما قام زيد إلاَّ يوم الجمعة . انتهى كلامه . وهذا فيه نظر ، وذلك أن المعنى على الاستثناء ، والمفرغ في الفاعل ، وفي المجرور ، وفي المفعول من أجله ، إذ المعنى : وما اختلف فيه إلاَّ الذين أوتوه إلاَّ من بعد ما جاءتهم البينات إلاَّ بغياً بينهم . فكل واحد من الثلاثة محصور .
وإذا كان كذلك فقد صارت أداة الاستفهام مستثنى بها ، شيئان دون الأول من غير عطف ، وهو لا يجوز ، وإنما جاز مع العطف لأن حرف العطف ينوى بعدها إلاَّ ، فصارت كالملفوظ بها ، فإن جاء ما يوهم ذلك جعل على إضمار عامل ، ولذلك تأولوا قوله تعالى : ) وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ ( على إضمار فعل التقدير : أرسلناهم بالبينات والزبر ، ولم يجعلوا بالبينات متعلقاً بقوله : وما أرسلنا ، لئلا يكون : إلاَّ ، قد استثنى بها شيئان : أحدهما رجالاً ، والأخر : بالبينات ، من غير عطف .
وقد منع أبو الحسن وأبو علي : ما أخذ أحد إلاَّ زيد درهماً ، وما : ضرب القوم إلاَّ بعضهم بعضاً . واختلفا في تصحيحها ، فصححها أبو الحسن بأن يقدّم على المرفوع الذي بعدها ، فيقول : ما أخذ أحد زيد إلاَّ درهماً ، فيكون : زيد ، بدلاً من أحد ، ويكون : إلاَّ ، قد استثنى بها شيء واحد ، وهو الدرهم . ويكون إلاَّ درهماً إستثناء مفرغاً من المفعول الذي حذف ، ويصير المعنى : ما أخذ زيد شيئاً إلاَّ درهماً . وتصحيحها عند أبي علي بان يزيد فيها منصوباً قبل إلاَّ فيقول : ما أخذ أحد شيئاً إلاَّ زيد درهما . و : ما ضرب القوم أحداً إلاَّ بعضهم بعضاً ، فيكون المرفوع بدلاً من المرفوع ، والمنصوب بدلاً من المنصوب ، هكذا خرجبه بعضهم .
قال ابن السراح : أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمراً جائز ، ولا يجوز أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمر الدنانير ، لأن الحرف لا يستثنى به إلاَّ واحد ، فإن قلت : ما أعطيت الناس درهماً إلاّ

" صفحة رقم 147 "
عمراً دانقاً ، على الاستثناء ، لم يجز ، أو على البدل جاز ، فتبدل عمراً من الناس ، ودانقاً من درهم ، كأنك قلت ما أعطيت إلاَّ عمراً دانقاً . ويعني : أن يكون المعنى على الحصر في المفعولين .
قال بعض أصحابنا : ما قاله ابن السراح فيه ضعف ، لأن البدل في الاستثناء لا بد من اقترانه بإلاَّ ، فأشبه المعطوف بحرف ، فكما لا يقع بعده معطوفان لا يقع بعد إلاَّ بدلان . انتهى كلامه .
وأجاز قوم أن يقع بعد إلاَّ مستثنيان دون عطف ، والصحيح أنه لا يجوز ، لأن إلاَّ هي من حيث المعنى معدية ، ولولا إلاَّ لما جاز للاسم بعدها أن يتعلق بما قبلها ، فهي : كواو مع وكالهمزة : التي جعلت للتعدية في بنية الفعل ، فكما أنه لا تعدّى : واو مع ولا الهمزة لغير مطلوبها الأول إلاَّ بحرف عطف ، فكذلك إلاَّ ، وعلى هذا الذي مهدناه يتعلق : من بعد ما جاءهم البينات ، وينتصب : بغياً ، بعامل مضمر يدل عليه ما قبله ، وتقديره : اختلفوا فيه من بعد ما جاءهم البينات بغياً بينهم .
( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ ( الذين آمنوا : هم من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، والضمير : فيما اختلفوا ، عائد على الذين أوتوه ، أي لما اختلف فيه من اختلف ، ومن الحق تبيين المختلف فيه ، و : من ، تتعلق بمحذوف لأنها في موضع الحال من : ما ، فتكون للتبعيض ، ويجوز أن تكون لبيان الجنس على قول من يرى ذلك ، التقدير : لما اختلفوا فيه الذي هو الحق . والأحسن أن يحمل المختلف فيه هنا على الدين والإسلام ، ويدل عليه قراءة عبد الله : لما اختلفوا فيه من الإسلام .
وقد حمل هذا المختلف فيه على غير هذا ، وفي تعيينه خلاف : أهو الجمعة ؟ جعلها اليهود السبت ، والنصارى الأحد ، وكانت فرضت عليهم كما فرضت علينا ؟ وفي الصحيحين : ( نحن الأوّلون والآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ) . فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له قال يوم الجمعة ، فاليوم لنا وغداً لليهود ، وبعد غد للنصارى .
أو الصلاة ؟ فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى المغرب ، فهدى الله تعالى المؤمنين إلى القبلة . قاله زيد بن أسلم .
أو إبراهيم على نبينا وعليه السلام ؟ قالت النصارى : كان نصرانياً ، وقالت اليهود : كان يهودياً ، فهدى الله المؤمنين لدينه بقوله : ) مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا ( أو عيسى ؟ على نبينا وعليه السلام ، جعلته اليهود لعنة ، وجعلته النصارى إلهاً فهدانا الله تعالى لقول الحق فيه ، قاله ابن زيد . أو الكتب التي آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها ؟ أو الصيام ؟ اختلفوا فيه ، فهدانا الله لشهر رمضان .
فهذه ستة أقوال غير الأول .
وقال الفراء : في الكلام قلب ، وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه ، واختاره الطبري .
قال ابن عطية : ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق ، فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه ، وعساه غير الحق في نفسه ، قال : وادّعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر ، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه لأن قوله : فهدى ، يقتضي أنهم أصابوا الحق ، وتم المعنى في قوله : فيه ، وتبين بقوله : من الحق ، جنس ما وقع الخلاف فيه .
قال المهدوي : وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماماً ، إذ العناية إنما هي بذكر الخلاف . انتهى كلام ابن عطية ، وهو حسن .
والقلب عند أصحابنا يختص بضرورة الشعر فلا نخرج كلام الله عليه .
وبإذنه : معناه بعلمه ، قاله الزجاج أو : بأمره ، وتوفيقه ، أو بتمكينه ، أقوال مرت مشبعاً الكلام عليها ، في قوله : ) فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( ويتعلق بإذنه بقوله : فهدى الله ، وأبعد من أضمر له فعلاً مطاوعاً تقديره : فاهتدوا بإذنه ، وهو قول أبي علي ، إذ لا حاجة لهذا الإضمار .
( وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( في هذه الجملة وما قبلها دليل على أن هدى العبد إنما يكون من الله لمن يشاء له الهداية ، ورد على المعتزلة في زعمهم أنه يستقل بهدى نفسه ، وتكرّر اسم الله في قوله : والله ، جاء على الطريقة الفصحى التي هي استقلال كل جملة ، وذلك أولى من أن يفتقر بإضمار إلى ما قبلها من مفسر ذلك المضمر ، وقد تقدّم لذلك نظائر .
وفي قوله : من يشاء ، إشعار ، بل دلالة ، على أن هدايته تعالى منشأها الإرادة فقط ، لا وصف ذاتي في الذي يهديه يستحق به الهداية ، بل ذلك مغدوق بإرادته تعالى فقط ) لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ (

" صفحة رقم 148 "
البقرة : ( 214 ) أم حسبتم أن . . . . .
( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ( نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصاب من الجهد وشدّة الخوف والبرد وأنواع الأذى ، كما قال تعالى : ) وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ( قاله قتادة ، والسدي .
أو في حرب أحد ، قتل فيها جماعة من المسلمين ، وجرت شدائد حتى قال عبد الله بن أبي وأصحابه : إلى متى تقتلون أنفسكم ، وتهلكون أموالكم ؟ لو كان محمد نبياً لما سلط عليكم القتل والأسر ، فقالوا : لا جرم من قتل منا دخل الجنة . فقال : إلى متى تسألون أنفسكم بالباطل ؟
أو : في أوّل ما هاجروا إلى المدينة ، دخلوها بلا مال ، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين ، رضي الله تعالى عنهم ، فأظهرت اليهود العداوة ، وأسرّ قوم النفاق . قاله عطاء .
قيل : ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قال : يهدي من يشاء ، والمراد إلى الحق الذي يفضي اتباعه إلى الجنة ، فبين أن ذلك لا يتم إلاَّ باحتمال الشدائد والتكليف ، أو : لما بين أنه هداهم ، بين أنه بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق ، فكذا أنتم ، أصحاب محمد ، لا تستحقون الفضيلة في الدين إلاَّ بتحمل هذه المحن .
و : أم ، هنا منقطعة مقدرة بل والهمزة فتتضمن إضراباً ، وهو انتقال من كلام إلى كلام ، ويدل على استفهام لكنه استفهام تقرير ، وهي التي عبر عنها أبو محمد بن عطية : بأن أم قد تجيء ابتداء كلام ، وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة ، ألف استفهام .
فقوله : قد تجيء ابتداء كلام ليس كما ذكر ، لأنها تتقدّر ، ببل والهمزة ، فكما أن : بل ، لا بد أن يتقدّمها كلام حتى يصير في حيز عطف الجمل ، فكذلك ما تضمن معناه .
وزعم بعض اللغويين أنها تأتي بمنزلة همزة الإستفهام ، ويبتدأ بها ، فهذا يقتضي أن يكون التقدير : أحسبتم ؟ وقال الزجاج : بمعنى بل ، قال : بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
وصورتها ، أم أنت في العين أملح ؟
ورام بعض المفسرين أن يجعلها متصلة ، ويجعل قبلها جملة مقدرة تصير بتقديرها أم متصلة ، فتقدير الآية : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق ، فصبروا على استهزاء قومهم بهم ، أفتسلكون سبيلهم ؟ أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم ؟
فتلخص في أم هنا أربعة أقوال : الانقطاع على انها بمعنى بل والهمزة ، والاتصال : على إضمار جملة قبلها ، والاستفهام بمعنى الهمزة ، والإضراب بمعنى بل ؛ والصحيح هو القول الأوّل .
ومفعولاً : حسبتم ، سدّت أن مسدّهما على مذهب سيبويه ، وأما أبو الحسن فسدت عنده مسد المفعول الأوّل ، والمفعول الثاني محذوف ، وقد تقدم هذا المعنى في قوله : ) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ).
) وَلَمَّا يَأْتِيَكُمُ مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ( الجملة حال ، التقدير : غير آتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، أي : إن دخول الجنة لا بد أن يكون على ابتلاء شدائد ، وصبر على ما ينال من أذى الكفار ، والفقر والمجاهد في سبيل الله ، وليس ذلك على مجرد الإيمان فقط بل ، سبيلكم في ذلك سبيل من تقدمكم من اتباع الرسل . خاطب بذلك الله تعالى عباده المؤمنين ، ملتفعاً إليهم على سبيل التشجيع والثبيت لهم ، وإعلام لهم أنه لا يضركون أعدائكم لا يوافقون ، فقد اختلفت الأمم على أنبيائها ، وصبروا ، حتى آتاهم النصر .
و : لما ، أبلغ في النفي من : لم ، لأنها تدل على نفي الفعل متصلاً بزمان الحال ، فهي لنفي التوقع .
والمثل : الشبه ، إلاَّ أنه مستعار لحال غريبة ، أو قضية عجيبة لها شأن ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : مثل محنة الذين خلوا من قبلكم وعلى حذف موصوف تقديره : المؤمنين .
والذين خلوا من قبلكم ، متعلق بخلوا ، وهو كأنه توكيد ، لأن الذين خلوا يقتضي التقدم .
( مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ( هذه الجملة تفسير للمثل وتبيين له ، فليس لها موضع من الإعراب ، وكأن قائلاً قال : ما ذلك المثل ؟ فقيل : مستهم البأساء والضراء .

" صفحة رقم 149 "
والمسّ هنا معناه : الإصابة ، وهو حقيقة في المسّ باليد ، فهو هنا مجاز .
وأجاز أبو البقاء أن تكون الجملة من قولهم : مستهم ، في موضع الحال على إضمار قد ، وفيه بعد ، وتكون الحال إذ ذاك من ضمير الفاعل في : خلوا .
وتقدّم شرح : البأساء والضراء ، في قوله تعالى : ) وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء والضَّرَّاء ( ) وَزُلْزِلُواْ ( أي أزعجوا إعاجاً شديداً بالزلزلة ، وبني الفعل للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، أي : وزلزلهم أعداؤهم .
( حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ( قرأ الأعمش : وزلوا ، و : يقول الرسول ، بالواو بدل : حتى ، وفي مصحف عبد الله : وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول .
وقرأ الجمهور : حتى ، والفعل بعدها منصوب إما على الغاية ، وأما على التعليل ، أي : وزلزلوا إلى أن يقول الرسول ، أو : وزلزلوا كي يقول الرسول ، والمعنى الأول أظهر ، لأن المس والزلزال ليسا معلولين لقول الرسول والمؤمنين .
وقرأ نافع برفع ، يقول : بعد حتى ، وإذا كان المضارع بعد حتى فعل حال فلا يخلو أن يكون حالاً في حين الإخبار ، نحو : مرض حتى لا يرجونه ، وإما أن يكون حالاً قد مضت ، فيحكيها على ما وقعت ، فيرفع الفعل على أحد هذين الوجهين ، والمراد به هنا المضي ، فيكون حالاً محكية ، إذ المعنى : وزلزلوا فقال الرسول ، وقد تكلمنا على مسائل : حتى ، في كتاب ( التكميل ) وأشبعنا الكلام عليها هناك ، وتقدّم الكلام عليها في هذا الكتاب .
( وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ ( يحتمل معه أن يكون منصوباً بيقول ، ويحتمل أن يكون منصوباً بآمنوا .
( مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( متى : سؤال عن الوقت ، فقيل : ذلك على سبيل الدعاء لله تعالى ، والاستعلام لوقت النصر ، فأجابهم الله تعالى فقال : ألا إن نصر الله قريب ، وقيل : ذلك على سبيل الاستبطاء ، إذ ما حصل لهم من الشدّة والابتلاء والزلزال هو الغاية القصوى ، وتناهى ذلك وتمادى بالمؤمنين إلى أن نطقوا بهذا الكلام ، فقيل : ذلك لهم إجابة لهم إلى طلبهم من تعجيل النصر ، والذي يقتضيه النظر أن تكون الجملتان داخلتين تحت القول ، وأن الجملة الأولى من قول المؤمنين ، قالوا ذلك استبطاءً للنصر وضجراً مما نالهم من الشدّة ، والجملة الثانية من قول رسولهم إجابة لهم وإعلاماً بقرب النصر ، فتعود كل جملة لمن يناسبها ، وصح نسبة المجموع للمجموع لا نسبة المجموع لكل نوع من القائلين .
وتقدّم نظير هذا في بعض التخاريج لقوله تعالى : ) قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( وإن قوله : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من قول إبليس ، وإن قوله : ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك من قول الملائكة عن إبليس ، وكان الجواب ذلك لما انتظم إبليس في الخطاب مع الملائكة في قوله : ) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً ).
وقالت طائفة : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير : حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله ؟ فيقول الرسول : ألا إن نصر الله قريب ، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته ، وقدم قول المؤمنين لتقدمه في الزمان .
قال ابن عطية وهذا تحكم وحمل الكلام على وجهه غير متعذر . انتهى . وقوله حسن ، إذ التقديم والتأخير مما يختصان بالضرورة .
وفي قوله : والذين آمنوا ، تفخيم لشأنهم حيث صرح بهم ظاهراً بهذا الوصف الشريف الذي هو الإيمان ، ولم يأت ، حتى يقول الرسول وهم ، وهذا يدل على حذف ذلك الموصوف الذي قدرناه قبل مثل محنة المؤمنين الذين خلوا .
قال ابن عطية : وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول ، والمؤمنين ، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر ، لا على شك ولا ارتياب ، والرسول اسم الجنس ، وذكره الله تعظيماً للنازلة التي دعت الرسول إلى هذا القول . انتهى كلامه .
واللائق بأحوال الرسل هو القول الذي ذكرنا أنه يقتضيه النظر ، والرسول كما ذكر ابن عطية اسم الجنس لا واحد بعينه ، وقيل : هو اليسع ، وقيل : هو شعيب ، وعلى هذا يكون الذين خلوا قوماً بأعيانهم ، وهم أتباع هؤلاء الرسل .
وحكى بعض المفسرين أن الرسول هنا هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأنزلة ، هنا مضافة لأمته ، ولا يدل على ما ذكر سياق الكلام ، وعلى هذا القول قال بعضهم ، وفي هذا الكلام إجمال ، وتفصيله أن أتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) قالوا : متى نصر الله ؟ فقال الرسول : ألا إن نصر الله قريب .
فتلخص من هذه النقول أن مجموع الجملتين من كلام الرسول والمؤمنين على سبيل التفصيل ، أو على سبيل أن الرسول والمؤمنين قال كل منهما الجملتين ، فكأنهم قالوا : قد صبرنا ثقة بوعدك ، أو : على أن

" صفحة رقم 150 "
الجملة الأولى من كلام الرسول والمؤمنين ، والثانية من كلام الله تعالى .
ولما كان السؤال بمتى يشير إلى استعلام القرب ، تضمن الجواب القرب ، وظاهر هذا الإخبار أن قرب النصر هو : ينصرون في الدنيا على أعدائهم ويظفرون بهم ، كقوله تعالى : ) جَاءهُمْ نَصْرُنَا ( و ) إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ).
وقال ابن عباس : النصر في الآخرة لأن المؤمن لا ينفك عن الابتلاء ، ومتى انقضى حرب جاءه آخر ، فلا يزال في جهاد العدو ، والأمر بالمعروف ، وجهاد النفس إلى الموت .
وفي وصف أحوال هؤلاء الذين خلوا ما يدل على أنا يجري لنا ما جرى لهم ، فنتأسى بهم ، وننتظر الفرج من الله والنصر ، فإنهم أجيبوا لذلك قريباً .
البقرة : ( 215 ) يسألونك ماذا ينفقون . . . . .
( يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ( نزلت في عمرو بن الجموح ، كان شيخاً كبيراً ذا مال كثير ، سأل بماذا أتصدق ؟ وعلى من أنفق ؟ قاله أبو صالح عن ابن عباس . وفي رواية عطاء نزلت في رجل قال ؛ إن لي ديناراً . قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( أنفقه على نفسك ، فقال إن لي دينارين : فقال : ( أنفقهما على أهلك ) فقال : إن لي ثلاثة . فقال : ( أنفقهما على خادمك ) فقال : إن لي أربعة . فقال : ( أنفقهما على والديك ) . فقال إن لي خمسة . فقال : ( انفقهما على قرابتك ) . فقال : إن لي ستة . فقال : ( انفقهما في سبيل الله ، وهو أحسنها ) .
وينبغي أن يفهم من هذا الترقي على معنى أن ما أخبر به فاضل عما قبله ، وقال الحسن : هي في التطوع ، وقال السدي : هي منسوخة بفرض الزكاة .
قال ابن عطية : وَهَمَ المهدوي على السدي في هذا ، فنسب إليه أنه قال : إن الآية في الزكاة المفروضة . ثم نسخ منها الوالدان انتهى ؛ وقد قال : قدم بهذا القول ، وهي أنها في الزكاة المفروضة ، وعلى هذا نسخ منها الوالدن ومن جرى مجراهما من الأقربين ، وقال ابن جريج : هي ندب ، والزكاة غير هذا الإنفاق ، فعلى هذا لا نسخ فيها .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الصبر على النفقة وبذل المال هو من أعظم ما تحلى به المؤمن ، وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة ، حتى لقد ورد : الصدقة تطفىء غضب الرب .
والضمير المرفوع في : يسألونك ، للمؤمنين ، والكاف لخطاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، و : ماذا ، يحتمل هنا النصب والرفع ، فالنصب على أن : ماذا ، كلها استفهام ، كأنه قال : أي شيء ينفقون ؟ فماذا منصوب بينفقون ، والرفع على أن : ما . وحدها هي الاستفهام ، وذا موصولة بمعنى الذي ، وينفقون صلة لذا ، والعائد محذوف ، التقدير : ما الذي ينفقون به ؟ فتكون : ما ، مرفوعة بالابتداء ، وذا بمعنى الذي خبره ، وعلى كلا الإعرابين فيسألونك معلق ، فهو عامل في المعنى دون اللفظ ، وهو في موضع المفعول الثاني ليسألونك ، ونظيره ما تقدم من قوله : ) سَلْ بَنِى إِسْراءيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيْنَهُ ( على ما شرحناه هناك .
و : ماذا ، سؤال عن المنفق ، لا عن المصرف وكأن في الكلام حذفاً تقديره : ولمن يعطونه ؟ ونظير الآية في السؤال والتعليق . قول الشاعر :
ألا تسألان المرء ماذا يحاول
إلاَّ أن : ماذا ، هنا مبتدأ ، وخبر ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً بيحاول ، لأن بعده :
أنحبُ فيُقضى ، أم ضلال وباطل
ويضعف أن يكون : ماذا كله مبتدأ ، و : يحاول ، الخبر لضعف حذف العائد المنصوب من خبر المبتدأ دون الصلة ، فإن حذفه منها فصيح ، وذكر ابن عطية : أن : ماذا ، إذا كانت اسماً مركباً فهي في موضع نصب ، إلاَّ ما جاء من قول الشاعر : وماذا عسى الواشون أن يتحدَّثوا
سوى أن يقولوا : إنني لك عاشق

" صفحة رقم 151 "
فإن عسى لا تعمل في : ماذا ، في موضع رفع ، وهو مركب إذ لا صلة لذا . انتهى .
وإنما لم يكن : لذا ، في البيت صلة لأن عسى لا تقع صلة للموصول الإسمي ، فلا يجوز لذا أن تكون بمعنى الذي ، وما ذكره ابن عطية من أنه إذا كانت اسماً مركبة فهي في موضع نصب ، إلاَّ ، في ذلك البيت لا نعرفه ، بل يجوز أن نقول : ماذا محبوب لك ؟ و : من ذا ، قائم ؟ على تقدير التركيب ، فكأنك قلت : ما محبوب ؟ ومن قائم ؟ ولا فرق بين هذا وبين من ذا تضربه ؟ على تقديره : من تضربه ؟ وجعل : من ، مبتدأ .
( قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ ( هذا بيان لمصرف ما ينفقونه ، وقد تضمن المسؤول عنه ، وهو المنفق بقوله : من خير ، ويحتمل أن يكون ماذا سؤالاً عن المصرف على حذف مضاف ، التقدير مصرف ماذا ينفقون ؟ أي : يجعلون إنفاقهم فيكون الجواب إذ ذاك مطابقاً ، ويحتمل أن يكون حذف من الأول الذي هو السؤال المصرف ، ومن الثاني الذي هو الجواب ذكر المنفق ، وكلاهما مراد ، وإن كان محذوفاً ، وهو نوع من البلاغة تقدّم نظيره في قوله : ) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ ).
وقال الزمخشري : قد تضمن قوله تعالى : ) مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ ( بيان ما ينفقونه ، وهو كل خير ، وبني الكلام على هواهم ، وهو بيان المصرف ، لأن النفقة لا يعتدّ بها إلاَّ أن تقع موقعها ، كقول الشاعر :
ان الصنيعة لا تكون صنيعة
حتى يصاب بها طريق المصنع
انتهى كلامه ، وهو لا بأس به و ) مّنْ خَيْرٍ ( يتناول القليل والكثير .
وبدأ في المصرف بالأقرب فالأقرب ، ثم بالأحوج فالأحوج ، وقد مرّ الكلام في شيء من هذا الترتيب وشبهه ، وقد استدل بهذه الآية على وجوب نفقة الوالدين والأقربين على الواجد ، وحمل بعضهم الآية على أنها في الوالدين إذا كانا فقيرين ، وهو غني .
( وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ما : في الموضعين شرطية منصوبة بالفعل بعدها ، ويجوز أن تكون : ما ، من قوله : ) قُلْ مَا أَنفَقْتُم ( موصولاً ، وأنفقتم ، صلة ، و : للوالدين ، خبر ، فالجار والمجرور في موضع المفرد ، أو في موضع الجملة على الخلاف الذي في الجار والمجرور الواقع خبراً ، أو هو معمول لمفرد ، أو الجملة .
وإذا كانت : ما ، في : ما أنفقتم ، شرطية ، فهذا الجار والمجرور في موضع خبر لمبتدأ محذوف ، التقدير : فهو أو فمصرفه للوالدين .
وقرأ عليّ بن أبي طالب : وما يفعلوا ، بالياء ، فيكون ذلك من باب الالتفات ، أو من باب ما أضمر لدلالة المعنى عليه ، أي : وما يفعل الناس ، فيكون أعم من المخاطبين قبل إذ يشملهم وغيرهم ، وفي قوله : من خير ، في الإنفاق يدل على طيب المنفق ، وكونه حلالاً ، لأن الخبيث منهي عنه بقوله : ) وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ( وما ورد من أن الله طيب لا يقبل إلاَّ الطيب ، ولأن الحرام لا يقال فيه خير . وقوله : من خير في قوله : وما تفعلوا ، هو أعم : من ، خير ، المراد به المال ، لأنه ما يتعلق به هو الفعل ، والفعل أعم من الإنفاق ، فيدخل الإنفاق في الفعل ، فخير ، هنا هو الذي يقابل الشر ، والمعنى : وما تفعلوا من شيء من وجوه البر والطاعات وجعل بعضهم هنا : وما تفعلوا ، راجعاً إلى معنى الإنفاق ، أي : وما تفعلوا من إنفاق خير ، فيكون الأول بياناً للمصرف ، وهذا بيان للمجازاة ، والأوْلى العموم ، لأنه يشمل إنفاق المال وغيره ، ويترجح بحمل اللفظ على ظاهره من العموم .
ولما كان أولاً السؤال عن خاص ، أجيبوا بخاص ، ثم أتى بعد ذلك الخاص التعميم في أفعال الخير ، وذكر المجازاة على فعلها ، وفي قوله : ) فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( دلالة على المجازاة ، لأنه إذا كان عالماً به جازى عليه ، فهي جملة خبرية ، وتتضمن الوعد بالمجازاة .
البقرة : ( 216 ) كتب عليكم القتال . . . . .
( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ( قال ابن عباس : لما فرض الله الجهاد على المسلمين ، شق عليهم ،

" صفحة رقم 152 "
وكرهوا ، فنزلت هذه الآية . وظاهر قوله : كتب ، أنه فرض على الأعيان ، كقوله : ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( ) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً ( وبه قال عطاء ، قال : فرض القتال على أعيان أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فلما استقرّ الشرع ، وقيم به ، صار على الكفاية .
وقال الجمهور : أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين ، ثم استمرّ الإجماع على أنه فرض كفاية إلى أن نزل بساحة الإسلام ، فيكون فرض عين .
وحكى المهدوي ، وغيره عن الثوري أنه قال : الجهاد تطوّع ، ويحمل على سؤال سائل ، وقد قيم بالجهاد ، فأجيب بأنه في حقه تطوّع .
وقرأ الجمهور : كتب ، مبنياً للمفعول على النمط الذي تقدّم قبل هذا من لفظ : كتب وقرأ قوم : كتب مبنياً للفاعل ، وينصب القتال ، والفاعل ضمير في كتب يعود على اسم الله تعالى .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه : لما ذكر ما مس من تقدمنا من اتباع الرسل من البلايا ، وأن دخول الجنة معروف بالصبر على ما يبتلى به المكلف ، ثم ذكر الإنفاق على من ذكر ، فهو جهاد النفس بالمال ، انتقل إلى أعلا منه وهو الجهاد الذي يستقيم به الدين ، وفيه الصبر على بذل المال والنفس .
( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ( أي مكروه ، فهو من باب النقض بمنى المنقوض ، أو ذوكره إذا أريد به المصدر ، فهو على حذف مضاف ، أو لمبالغة الناس في كراهة القتال ، جعل نفس الكراهة .
والظاهر عود : هو ، على القتال ، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من : كتب ، أي : وكتبه وفرضه شاق عليكم ، والجملة حال ، أي : وهو مكروه لكم بالطبيعة ، أو مكروه قبل ورود الأمر .
وقرأ السلمي : كره بفتح الكاف ، وقد تقدّم ذكر مدلول الكره في الكلام على المفردات .
وقال الزمخشري في توجيه قراءة السلمي : يجوز أن يكون بمعنى المضموم : كالضعف والضعف ، تريد المصدر ، قال : ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز ، كأنهم أكرهوا عليه لشدّة كراهته له ومشقته عليهم ، ومنه قوله تعالى : ) حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ). انتهى كلامه .
وكون كره بمعنى الإكراه ، وهو أن يكون الثلاثي مصدراً للرباعي هو لا ينقاس ، فإن روي استعمال ذلك عن العرب استعملناه .
( وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ). عسى هنا للاشفاق لا للترجي ، ومجيئها للإشفاق قليل ، وهي هنا تامة لا تحتاج إلى خبر ، ولو كانت ناقصة لكانت مثل قوله تعالى : ) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ ( فقوله : أن تكرهوا ، في موضع رفع بعسى ، وزعم الحوفي في أنه في موضع نصب ، ولا يمكن إلاَّ بتكلف بعيد ، واندرج في قوله : شيئاً القتال ، لأنه مكروه بالطبع لما فيه من التعرض للأسر والقتل ، وإفناء الأبدان ، وإتلاف الأموال . والخير الذي فيه هو الظفر . والغنيمة بالاستيلاء على النفوس ، والأموال أسراً وقتلاً ونهباً وفتحاً ، وأعظمها الشهادة وهي الحالة التي تمناها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) مراراً .
والجملة من قوله : وهو خير لكم ، حال من قوله : شيئاً ، وهو نكرة ، والحال من النكرة أقل من الحال من المعرفة ، وجوّزوا أن تكون الجملة في موضع الصفة ، قالوا : وساغ دخول الواو لما كانت صورة الجملة هنا كصورتها ، إذ كانت حالاً . انتهى . وهو ضعيف ، لأن الواو في النعوت إنما تكون للعطف في نحو : مررت برجل عالم وكريم ، وهنا لم يتقدم ما يعطف عليه ، ودعوى زيادة الواو بعيدة ، فلا يجوز أن تقع الجملة صفة .
( وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ (

" صفحة رقم 153 "
عسى هنا للترجي ، ومجيئها له هو الكثير في لسان العرب ، وقالوا : كل عسى في القرآن للتحقيق ، يعنون به الوقوع إلاَّ قوله تعالى : ) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْواجاً ( اندرج في قوله : شيئاً ، الخلود إلى الراحة وترك القتال ، لأن ذلك محبوب بالطبع لما في ذلك من ضد ما قد يتوقع من الشر في القتال ، والشر الذي فيه هو ذلهم ، وضعف أمرهم ، واستئصال شأفتهم ، وسبى ذراريهم ، ونهب أموالهم ، وملك بلادهم .
والكلام على هذه إعراباً ، كالكلام على التي قبلها .
( وَاللَّهُ يَعْلَمُ ( ما فيه المصلحة حيث كلفكم القتال ) وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( ما يعلمه الله تعالى ، لأن عواقب الأمور مغيبة عن عملكم ، وفي هذا الكلام تنبيه على الرضى بما جرت به المقادير ، قال الحسن : لا تكرهوا الملمات الواقعة ، فلرب أمر تكرهه فيه أربك ، ولرب أمر تحبه فيه عطبك . وقال أبو سعيد الضرير : رب أمر تتقيه
جر أمراً ترتضيه
خفى المحبوب منه
وبدا المكروه فيه
وقال الوضاحي : ربما خير الفتى
وهو للخير كاره
وقال ابن السرحان : كم فرحة مطوية
لك بين أثناء المصائب
ومسرة قد أقبلت
من حيث تنتظر النوائب
وقال آخر : كم مرة حفت بك المكاره
خار لك الله وأنت كاره
البقرة : ( 217 ) يسألونك عن الشهر . . . . .
( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ( ؟ طوّل المفسرون في ذكر سبب نزول هذه الآية في عدّة أوراق ، وملخصها وأشهرها : أنها نزلت في قصة عبد الله بن جحش الأسدي حين بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في ثمانية معه : سعد بن أبي وقاص ، وعكاشه بن محيصن ، وعقبة بن غزوان ، وأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل بن بيضاء ، ووافد بن عبد الله ، وخال بن بكير ، وأميرهم عبد الله يترصدون عير قريش ببطن نخلة ، فوصلوها ، ومرت العير فيها عمرو بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، ونوفل بن عبد الله ، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى على ظنهم ، وهو أوّل يوم من رجب ، فرمى وافد عمراً بسهم فقتله ، وكان أول قتيل من المشركين ، وأسروا الحكم ، وعثمان ، وكانا أوّل أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل ، وقدموا بالعير المدينة ، فقالت قريش : استحل محمد الشهر الحرام ، وأكثر الناس في ذلك ، فوقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) العير ، وقال أصحاب السرية : ما نبرج حتى تنزل توبتنا ، فنزلت الآية ، فخمَّس العيرَ رسولُ الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، فكان أوّل خمس في الإسلام . ، فوجهت قريش في فداء الأسيرين فقيل : حتى يقدم سعد وعتبة ، وكانا قد أضلا بعيراً لهما قبل لقاء العير فخرجا في طلبه ، فقد ما ، وفودي الأسيران . فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة وقتل شهيداً ببئر معونة ، وأما عثمان فمات بمكة كافراً ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين ، فوقع بالخندق مع فرسه ، فتحطما وقتلهما الله .
وفي هذه القصة اختلاف في مواضع ، وقد لخصّ السخاوندي هذا السبب فقال

" صفحة رقم 154 "
نزلت في أول سرية الإسلام أميرهم عبد الله بن جحش ، أغاروا على عير لقريش قافلة من الطائف وقتلوا عمرو بن الحضرمي آخر يوم من جمادى الآخرة ، فاشتبه بأول رجب ، فعيرهم أهل مكة باستحلاله .
وقيل : نزلت حين عاب المشركون القتال في شهر حرام عام الفتح ، وقيل : نزلت في قتل عمرو بن أمية الضمري رجلين من كلاب كانا عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وعمر ولا يعلم بذلك ، وكان في أول يوم من رجب ، فقالت قريش : قتلهما في الشهر الحرام ، فنزلت .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما فرض القتال لم يخصَّ بزمان دون زمان ، وكان من العوائد السابقة أن الشهر الحرام لا يستباح فيه القتال ، فبين حكم القتال في الشهر الحرام . وسيأتي معنى قوله ) قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ( كما جاء : ) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( وجاء بعده : ) وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( ذلك التخصيص في المكان ، وهذا في الزمان .
وضمير الفاعل في يسألونك ، قيل : يعود على المشركين ، سألوا تعييباً لهتك حرمة الشهداء ، وقصداً للفتك ، وقيل : يعود على المؤمنين ، سألوا استعظاماً لما صدر من ابن جحش واستيضاحاً للحكم .
والشهر الحرام ، هنا هو رجب بلا خلاف ، هكذا قالوا ، وذلك على أن تكون الألف واللام فيه للعهد ، ويحتمل أن تكون للجنس ، فيراد به الأشهر الحرام وهي : ذو القعدة ، ذو الحجة ، والمحرم ورجب . وسميت حرماً لتحريم القتال فيها ، وتقدّم شيء من هذا في قوله : ) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ).
وقرأ الجمهور : قتال فيه ، بالكسر وهو بدل من الشهر ، بدل اشتمال وقال الكسائي : هو مخفوض على التكرير ، وهو معنى قول الفراء ، لأنه قال : مخفوض بعن مضمرة ، ولا يجعل هذا خلافاً كما يجعله بعضهم ، لإن قول البصريين إن البدل على نية تكرار العامل هو قول الكسائي ، والفراء .
لا فرق بين هذه الأقوال ، هي كلها ترجع لمعنى واحد .
وقال أبو عبيدة : قتال فيه ، خفض على الجوار ، قال ابن عطية : هذا خطأ . إنتهى . فإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار الذي اصطلح عليه النحاة ، فهو كما قال ابن عطية : وجه الخطاً فيه هو أن يكون تابعاً لما قبله في رفع أو نصب من حيث اللفظ والمعنى ، فيعدل به عن ذلك الإعراب إلى إعراب الخفض لمجاورته لمخفوض لا يكون له تابعاً من حيث المعنى ، وهنا لم يتقدّم لا مرفوع ، ولا منصوب ، فيكون : قتال ، تابعاً له ، فيعدل به عن إعرابه إلى الخفض على الجوار ، وإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار أنه تابع لمخفوض ، فخفضه بكونه جاور مخفوضاً أي : صار تابعاً له ، ولا نعني به المصطلح عليه ، جاز ذلك ولم يكن خطأ ، وكان موافقاً لقول الجمهور ، إلاَّ أنه أغمض في العبارة ، وألبس في المصطلح .
وقرأ ابن عباس ، والربيع ، والأعمش : عن قتال فيه ، بإظهار : عن ، وهكذا هو في مصحف عبد الله .
وقرىء شاذاً : قتال فيه ، بالرفع ، وقرأ عكرمة : قتل فيه قل قتل فيه ، بغير ألف فيهما .
ووجه الرفع في قراءة : قتال فيه ، أنه على تقدير الهمزة فهو مبتدأ ، وسوغ جواز الإبتداء فيه ، وهو نكرة ، لنية همزة الاستفهام ، وهذه الجملة المستفهم عنها هي في موضع البدل من : الشهر الحرام ، لأن : سأل ، قد أخذ مفعوليه ، فلا يكون في موضع المفعول ، وإن كانت هي محط السؤال ، وزعم بعضهم أنه مرفوع على إضمار اسم فاعل تقديره : أجائز قتال فيه ؟ قيل : ونظير هذا ، لأن السائلين لم يسألوا عن كينونة القتال في الشهر الحرام ، إنما سألوا : أيجوز القتال في الشهر الحرام ؟ فهم سألوا عن مشروعيته لا عن كينونته فيه .
( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ( هذه الجملة مبتدأ وخبر ، و : قتال ، نكرة ، وسوغ الابتداء بها كونها وصفت بالجار والمجرور ، وهكذا قالوا ، ويجوز أن يكون : فيه ، معمولاً لقتال ، فلا يكون في موضع الصفة ، وتقييد النكرة بالمعمول مسوغ أيضاً لجواز الابتدا بالنكرة ، وحدّ الاسم إذا تقدّم نكرة ، وكان إياها ، أن يعود معرفاً بالألف واللام ، تقول : لقيت رجلاً فضربت الرجل ، كما قال تعالى : ) كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ( قيل : وإنما لم يعد بالألف واللام هنا لأنه ليس المراد تعظيم القتال المذكور المسئول عنه . حتى يعاد بالألف واللام ، بل المراد تعظيم : أي قتال كان في الشهر الحرام ، فعلى هذا : قتال الثاني ، غير الأوّل انتهى .
وليست الألف واللام تفيد التعظيم في الاسم ، إذ كانت النكرة السابقة ، بل هي فيه للعهد السابق ، وقيل : في ( المنتخب ) : إنما نكر فيهما لأن النكرة الثانية هي غير الأولى ، وذلك أنهم أرادوا بالأول الذي سألوا عنه ، فقال عبد الله بن جحش ، وكان لنصرة الإسلام وإذلال الكفر ، فلا يكون هذا من الكبائر ، بل الذي يكون كبيراً هو قتال غير هذا ، وهو ما كان الغرض فيه

" صفحة رقم 155 "
هدم الإسلام وتقوية الكفر ، فاختير التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة ، ولو وقع التعبير عنهما ، أو عن أحدهما ، بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة . إنتهى .
واتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ، إذ المعنى : قل قتال فيه لهم كبير ، فقال ابن عباس ، وقتادة ، وابن المسيب ، والضحاك ، والأوزاعي : إنها منسوخة بآية السيف : ) فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( إذ يلزم من عموم المكان عموم الزمان .
وقيل : هي منسوخة بقوله : ) وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ( ، وإلى هذا ذهب الزهري ، ومجاهد ، وغيرهما .
وقيل : نسخهما غزو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثقيفاً في الشهر الحرام ، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام .
وقيل : نسخها بيعة الرضوان والقتال في ذي القعدة ، وضعف هذا القول بأن تلك البيعة كانت على الدفع لا على الإبتداء بالقتال .
وقال عطاء لم تنسخ ، وحلف بالله ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ، ولا في الشهر الحرام إلاّ أن يقاتلوا فيه ، وروي هذا القول عن مجاهد أيضاً ؟ وروى جابر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يكن يغزو في الأشهر الحرم إلاَّ أن يغزى ، وذلك قوله : قل قتال فيه كبير .
ورجح كونها محكمة بهذا الحديث ، وبما رواه ابن وهب ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ودى ابن الحضرمي ، ورد الغنيمة والاسيرين ، وبأن الأيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة وهذا خاص ، والعام لا ينسخ الخاص باتفاق .
( وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ( هذة جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على قوله تعالى : فيه كبير ، وكلا الجملتين مقولة ، أي : قل لهم قتال في الشهر الحرام إثم كبير ، وقل لهم : صدّ عن كذا إلى آخره ، أكبر من القتال ، ويحتمل أن يكون مقطوعاً من القول ، بل إخبار مجرد عن أن الصدّ عن سبيل الله ، وكذا وكذا ، أكبر ، والمعنى : أنكم يا كفار قريس تستعظمون منا القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم : من الصدّ عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ، ومن كفركم بالله ، واخراجكم أهل المسجد منه كما فعلوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه ، أكبر جرماً عند الله مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام ، على سبيل البناء على الظن .
وتقدّم لنا أن هذه الجملة من مبتدأ وخبر ، فالمبتدأ : صدّ ، وهو نكرة مقيدة بالجار والمجرور ، فساغ الإبتداء ، وهو مصدر محذوف فاعله ومفعوله للعلم بهما ، أي : وصدّكم المسلمين عن سبيل الله .
وسبيل الله : الإسلام . قاله مقاتل ، أو : الحج ، لأنهم صدّوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عن مكة قاله ابن عباس ، والسدّي عن أشياخه ، أو : الهجرة ، صدّوا المسلمين عنها .
و : كفر به ، معطوف على : وصدّ ، وهو أيضاً مصدر لازم حذف فاعله ، تقديره : وكفركم به ، والضمير في : به ، يعود على السبيل لأنه هو المحدّث عنه بأنه صدّ عنه ، والمعنى : وكفر بسبيل الله ، وهو دين الله وشريعته ، وقيل : يعود الضمير في : به ، على الله تعالى ، قاله الحوفي .
والمسجد الحرام : هو الكعبة ، وقرىء شاذاً والمسجدُ الحرام بالرفع ، ووجهه أنه عطفه على قوله : وكفر به ، ويكون على حذف مضاف ، أي : وكفر بالمسجد الحرام ، ثم حذف الباء وأضاف الكفر إلى المسجد ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، فيؤول إلى معنى قراءة الجمهور من خفض المسجد الحرام على أحسن التأويلات التي نذكرها ، فنقول : اختلفوا فيماعطف عليه والمسجد ، فقال ابن عطية ، والزمخشري ، وتبعا في ذلك المبرد : هو معطوف على : سبيل الله ، قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح ، ورد هذا القول بأنه إذا كان معطوفاً على : سبيل الله ، كان متعلقاً بقوله : وصدّ إذ التقدير : وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، فهو من تمام عمل المصدر ، وقد فصل بينهما بقوله : وكفر به ، ولا يجوز أن يفصل بين الصلة والموصول ، وقيل : معطوف على الشهر الحرام ، وضعف هذا بأن القوم لم يسألوا عن الشهر الحرام ، إذ لم يشكوا في تعظيمه ، وإنما سألوا عن القتال في الشهر الحرام ، لأنه وقع منهم ولم يشعروا بدخوله ، فخافوا من الإثم . وكان المشركون عيروهم بذلك ، إنتهى ، ما ضعف به هذا القول ، وعلى هذا التخريج يكون السؤال عن شيئين : أحدهما : عن قتال في الشهر الحرام ، والآخر : عن

" صفحة رقم 156 "
المسجد الحرام والمعطوف على الشهر الحرام ، والشهر الحرام لم يسأل عنه لذاته ، إنما سئل عن القتال فيه ، فكذلك المعطوف عليه يكون السؤال عن القتال فيه ، فيصير المعنى : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام . وفي المسجد الحرام ، فأجيبوا : بأن القتال في الشهر الحرام كبير ، وصد عن سبيل الله ، وكفر به ، ويكون : وصد عن سبيل الله ، على هذا ، معطوفاً على قوله : كبير ، أي : القتال في الشهر الحرام أخبر عنه بأنه إثم كبير ، وبأنه صد عن سبيل الله وكفر به .
ويحتمل أن يكون : وصد ، مبتدأ وخبره محذوف لدلالة خبر : قتال ، عليه ، التقدير : وصد عن سبيل الله وكفر به كبير ، كما تقول : زيد قائم وعمرو ، أي : وعمرو قائم ، وأجيبوا بأن : القتال في المسجد الحرام إخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال فيه ، وكونه معطوفاً على الشهر الحرام متكلف جداً ، ويبعد عنه نظم القرآن ، والتركيب الفصيح ، ويتعلق كما قيل بفعل محذوف دل عليه المصدر ، تقديره : ويصدون عن المسجد الحرام ، كما قال تعالى : ) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( قال بعضهم : وهذا هو الجيد ، يعنى من التخاريج التي يخرج عليه ، والمسجد الحرام وما ذهب إليه غير جيد ، لأن فيه الجر بإضمار حرف الجر ، وهو لا يجوز في مثل هذا إلاَّ في الضرورة ، نحو قوله :
أشارت كليب بالأكف الأصابع
أي : إلى كليب ، وقيل : هو معطوف على الضمير في قوله : وكفر به ، أي : وبالمسجد الحرام ، قاله الفراء ، ورد بأن هذا لا يجوز إلاَّ بإعادة الجار ، وذلك على مذهب البصريين .
ونقول : العطف المضمر المجرور فيه مذاهب : .
أحدها : أنه لا يجوز إلاَّ بإعادة الجار إلاَّ في الضرورة ، فإنه يجوز بغير إعادة الجار فيها ، وهذا مذهب جمطهور البصريين .
الثاني : أنه يجوز ذلك في الكلام ، وهو مذهب الكوفيين ، ويونس ، وأبي الحسن ، والأستاذ أبي علي الشلوبين .
الثالث : أنه يجوز ذلك في الكلام إن أكد الضمير ، وإلاَّ لم يجز في الكلام ، نحو : مررت بك نفسك وزيد ، وهذا مذهب الجرمي .
والذي نختاره أن يجوز ذلك في الكلام مطلقاً ، لأن السماع يعضده ، والقياس يقويه . أما السماع فما روي من قول العرب : ما فيها غيره وفرسه ، بجر الفرس عطفاً على الضمير في غيره ، والتقدير : ما فيها غيره وغير فرسه ، والقراءة الثانية في السبعة : ) تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( أي : وبالأرحام وتأويلها على غير العطف على الضمير ، مما يخرج الكلام عن الفصاحة ، فلا يلتفت إلى التأويل . قرأها كذلك ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والنخعي ، ويحي بن وثاب ، والأعمش ، وأبو رزين ، وحمزة .
ومن ادعى اللحن فيها أو الغلط على حمزة فقد كذب ، وقد ورد من ذلك في أشعار العرب كثير يخرج عن أن يجعل ذلك ضرورة ، فمنه قول الشاعر : نعلق في مثل السواري سيوفنا
فما بينها والأرض غوط نفانف
وقال آخر : هلا سألت بذي الجماجم عنهم
وأبي نعيم ذي اللواء المحرق
وقال آخر : بنا أبداً لا غيرنا يدرك المنى
وتكشف غماء الخطوب الفوادح

" صفحة رقم 157 "
وقال آخر : إذا أوقدوا ناراً لحرب عدوهم
فقد خاب من يصلى بها وسعيرها
وقال آخر : لو كان لي وزهير ثالث وردت
من الحمام عدانا شر مورود
وقال رجل من طيء : إذا بنا ، بل أنيسان ، أتَّقت فئة
ظلت مؤمنة ممن تعاديها
وقال العباس بن مرادس : أكر على الكتيبة لا أبالي
أحتفي كان فيها أم سواها
وأنشد سيبويه رحمه الله : فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا
فاذهب فما بك والأيام من عجب
وقال آخر : أبك آية بي أو مصدّر
من حمر الجلة جأب جسور
فأنت ترى هذا السماع وكثرته ، وتصرّف العرب في حرف العطف ، فتارة عطفت بالواو ، وتارة بأو ، وتارة ببل ، وتارة بأم ، وتارة بلا ، وكل هذا التصرف يدل على الجواز ، وإن كان الأكثر أن يعاد الجار كقوله ، تعالى : ) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( ) فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ( ) قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ ( وقد خرج على العطف بغير إعادة الجار قوله : ) وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ( عطفاً على قوله : ) لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ( أي : ولمن . وقوله : ) وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( عطفاً على الضمير في قوله : فيهنّ ، أي : وفيما يتلى عليكم .
وأما القياس فهو أنه كما يجوز أن يبدل منه ويؤكد من غير إعادة من غير إعادة جار ، كذلك يجوز أن يعطف عليه من غير إعادة جار ، ومن احتج للمنع بأن الضمير كالتنوين ، فكان ينبغي أن لا يجوز العطف عليه إلاَّ مع الإعادة لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه ، وإذا تقرّر أن العطف بغير إعادة الجار ثابت من كلام العرب في نثرها ونظمها ، كأن يخرج عطف : والمسجد الحرام ، على الضمير في : به ، أرجح ، بل هو متعين ، لأن وصف الكلام ، وفصاحة التركيب تقتضي ذلك .
وإخراج أهله ، معطوف على المصدر قبله ، وهو مصدر مضاف للمفعول ، التقدير : وإخراجكم أهله ، والضمير في : أهله ، عائد على : المسجد الحرام ، وجعل ، المؤمنين أهله لأنهم القائمون بحقوقه ، أو لأنهم يصيرون أهله في العاقبة ، ولم يجعل المقيمين

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدليل البديل

مجلد1 ومجلد 2. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغز... مجلد3.و 4. إحياء علوم الدين محمد بن محمد الغزالي أ... مجلد 5.و6. إحياء علوم الدين محمد...